تنبيه: النورسي عنده أخطاء في العقيدة فلينتبه لذلك.
أسس الوحدة الفكرية
عند
بديع الزمان سعيد النورسي
الدكتور عبد الكريم عكيوي
جامعة ابن زهر-اغادير المغرب
تقديم
الحمد لله خالق الأنام، يأمر بالحق والعدل ويدعو إلى دار السلام، ويرفع المصلحين من أهل العلم أعلى مقام. والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعلمين، محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه والتابعين وتابعيهم بإيمان وإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد أتى على المسلمين في القرون الأخيرة حين من الدهر، ليسوا فيه شيئا مذكورا. فقد ركنوا -بعد قوة وعزة- إلى العجز والضعف، واستسلموا للغفلة واليأس. وإن من وجوه هذا الضعف والركود، شدة الاختلاف وكثرة التدابر، والتراشق بالتهم بين طوائف المسلمين ومذاهبهم الفكرية، وتبادل التجريح والتقبيح حتى بين الصفوة من أهل الفقه والعلم.
وقد اشتد الخلاف بين طوائف المسلمين ومذاهبهم الفقهية والكلامية حتى أصبح مرضا يعوق سير أحوال الأمة ويشوش على جهود المصلحين، لأنه شق صف الأمة وفرق كلمتها وأضعف قوتها. وزاد الأمر إدبارا وخطورة لما وضع خصوم الأمة أيديهم على هذا الجرح فجعلوا يحركون الخلافات ويثيرون النعرات والقوميات.
وقد تنبه غير واحد من العلماء والمصلحين المعاصرين إلى خطورة هذا الداء فاجتهدوا من أجل إعادة ما تهدم من بناء الأمة، وإصلاح ما فسد من أحوالها، فعملوا على ضبط مسألة الخلاف.(1/1)
وكان الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي أحد من تولى هذا الأمر. فكان من غاياته التي وضعها بين عينيه ووقف عمره عليها، إنقاذ الإيمان في النفوس وتجديد الدين في القلوب، وإصلاح مناهج التفكير وطرق التعليم. ولما رأى أن هذه المهمة تقف دونها عقبات كثيرة، منها فشو الاستبداد الفكري والتعصب المذهبي بين المسلمين، وشدة العدوات بسبب الحسد والجهل وضيق الأفق، وإن ذلك سيحرك العداء والخصومة ضده لا محالة، فقد اختط لنفسه منهجا دقيقا في ما قد يعرض له من الخلاف مع غيره من أهل العصبية من المسلمين أولا، ومع عامة أهل الفكر والثقافة من دعاة العلمانية ثانيا، ثم مع المخالفين في الدين من النصارى وغيرهم. وصاغ رحمة الله عليه منهجه هذا في قواعد عامة وضوابط كلية، مع التأصيل لها،ثم التزم بها في أعماله وتصرفاته. وهذه القواعد ليست مجموعة في موضع واحد من رسائله، وإنما توجد مبثوثة فيها مفرقة في أجزائها. وإن صياغته لهذه القواعد وعمله بها تعد بحق عمليا تجديديا مهما. وخلاصة منهجه هو تقريب شقة الخلاف بين المجتهدين، واعتبار الخلاف علما وصناعة لأنه يحتاج إلى تدبير وضبط وتقعيد، بل أكثر من ذلك يجعل الخلاف المنضبط البناء ضروريا لنشاط الحركة العلمية وازدهار المعرفة. ثم بعد هذا كله فإنه رحمة الله عليه وضع طرقا عملية واضحة للعمل فيما يحصل فيه الخلاف ولا يمكن فيه الاجتماع على رأي واحد.
وقد حاول هذا البحث أن يلم بجوامع ذلك، وأن يجمع ما تفرق منه في رسائل بديع الزمان النورسي، وأن يتتبع أصوله الشرعية، ويضم إلى ذلك عمله به وتطبيقاته العملية في حياة الرجل العلمية والعملية، مع مراعاة حسن التقديم والترتيب.(1/2)
ولابد من الإشارة إلى أن هذا البحث في أصله، عرض تقدم به المؤلف إلى المؤتمر العلمي الذي نظمته كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط بالمغرب، بتعاون مع مركز الثقافة والعلوم باستمبول بتركيا بتاريخ 17 – 18 مارس 1999 ، في موضوع" تجديد الفكر الإسلامي في القرن الرابع عشر الهجري". وبعد نهاية المؤتمر أشار الدكتور إحسان قاسم الصالحي حفظه الله بتفصيل العرض حتى يكون موضوع كتيب تعم الفائدة بنشره.
واستجابة لرغبة هذا الرجل الفاضل، أقدم هذا البحث لعموم الباحثين ولعامة المسلمين لعله يفيد في تقديم علاج ناجع لمعضلة الخلاف الفكري والمذهبي بين المسلمين.
وكان عنوان هذا البحث في أصله لما قدم إلى المؤتمر :"جهود بديع الزمان النورسي في إرساء أسس الوحدة الفكرية وتثبيث الحوار العلمي في عصره" ثم رأيت اختصاره في عنوان: " أسس الوحدة الفكرية عند بديع الزمان النورسي". وقد جاء- بعد المقدمة- في تمهيد وثلاثة مباحث:
أما المبحث الأول فهو خاص ببيان أسباب الاختلاف كما رصدها بديع الزمان النورسي، مع بيان طرق علاجها. وتم تفصيل ذلك في ستة أسباب هي:
أولا:الجهل بحقيقة الإسلام وتوهم التعارض بين القرآن والعلم.
ثانيا:الاستسلام لغرائز النفس والغفلة عن التربية الروحية.
ثالثا: الإفراط في العزة وعلو الهمة والغلو في الشعور بالقوة.
رابعا: غياب ميزان العقل.
خامسا:انعدام التنظيم وقلة الضبط.
سادسا:الاستبداد والتعصب.
وأما المبحث الثاني فهو خاص ببيان الأسس النظرية للوحدة الفكرية من خلال نوعين من الأسس هما: الأسس الشرعية والأسس العقلية.
وأما المبحث الثالث ففيه بيان الأسس العملية للوحدة الفكرية من خلال تسعة أسس هي:
أولا:جعل الاختلاف الفكري ثراء علميا.
ثانيا:العبرة بالأفكار وليس بالأشخاص.
ثالثا: التزام آداب الحوار وطرق المناظرة.
رابعا:النظرة الشاملة المستوعبة في تقويم الأعمال والأشخاص.
خامسا:مراعاة أحوال الزمن المعاصر.(1/3)
سادسا:مراعاة الخلاف عند تعذر الاتفاق.
سابعا:التحلي بضبط النفس والإنصاف مع المخالف.
ثامنا: الحذر والفطنة.
تاسعا:إعمال الشورى في الاجتهاد والحكم، عن طريق "مجلس الشورى العلمي" و" النظام النيابي البرلماني".
وقبل الشروع في تفصيل قضايا هذا البحث أرى من الواجب أن أذكر شيئا عن بديع الزمان النورسي رحمة الله عليه، لأنه يحتاجه من ستكون قراءة هذا البحث أول عهد له بالنورسي، وإن كان هذا التعريف لن يغني أبدا عن مطالعة ترجمة الرجل في الكتب التي فصلت ذلك.(1/4)
ولد بديع الزمان سعيد النورسي عام 1294 للهجرة النبوية، الموافق للعام الميلادي 1877 ، من أسرة كردية في قرية "نورس" التابعة لولاية "بتليس" شرق تركيا. وقد اعتنت به أسرته فنشأ في بيت علم وفضل مما كان له أثر في تكوينه، فظهرت عليه علامات النبوغ والذكاء منذ طفولته. وقد استوعب كل المقررات الدراسية التي كان متداولة في المدارس العلمية في منطقته ثم تجاوز ذلك إلى العلوم المادية الحديثة، حتى صار عالما موسوعيا بشهادة كل من لقيه أو حاوره. وكانت حياته كلها حياة جد واجتهاد من أجل إظهار حقائق الإيمان وإصلاح أحوال المسلمين، وتجديد الفكر الإسلامي. وقد واجه من أجل ذلك أنواعا كثيرة من المعوقات ولحقه أذى كثير من خصومه. فقد أعلن الإلحاد في عصره ونكل بالمصلحين من علماء الإسلام.فقد عانى رحمة الله عليه آلام الغربة في المنافي البعيدة، ونالته وحشة السجون النائية المظلمة. لكنه لم يستسلم لشيء من ذلك لأنه جعل القرآن الكريم أنيسه وجليسه فوجد السلوان في هديه وحقائقه. وقد جعل غايته خدمة القرآن الكريم وإظهار أنواره للعالم، لأنه رأى أن عصره عصر إنقاذ الإيمان. وقد انفرد هذا الرجل بكثير من الفضائل التي تعز في هذا الزمان، منها انقطاعه الكامل للمهمة التي جعلها غاية حياته، فعزف عن كثير من المباحات، فما عرف عنه أنه بنى بيتا أو اقتني سيارة أو تزوج امرأة…أو استقر به المقام في بلدة معينة جعلها محل عيشه وموطن إقامته. ومن مميزاته أيضا قوة أفكاره التي استمدها من القرآن، فقد أقام الحجة على فساد مناهج الفلسفة الوضعية الغربية، وقدم الأدلة القوية التي ترسخ قضايا العقائد والإيمان، وجمع ذلك كله في رسائله المعروفة برسائل النور. وتميز أسلوبه رحمه الله بالمحاكمة العقلية والنفحات الوجدانية، فمن يقرأ رسائله يشعر بالرقي المعنوي والسمو الروحاني، وبالرقي العقلي والسمو الفكري.(1/5)
توفي رحمة الله عليه بعد حياة حافلة بالجد والعمل والجهاد العلمي والفكري والدعوي عام 1379 للهجرة النبوية الموافق للعام الميلادي 1960 . وإن أثره ومسلكه العلمي مازال قائما في تركيا ، ونهجه في التربية والدعوة مازال يؤتي أكله، وإن علمه وأفكاره قد امتد أثرها إلى أجزاء كثيرة من البلاد الإسلامية. فقد اكتسب رحمة الله عليه البقاء المعنوي بعد موته، فتوارى جسده في التراب، لكن ذكره مازال حيا لأن أفكاره ونظراته مازالت حاضرة بين الناس، يتدارسونها ويتقربون بها إلى الله ، ويستفيدون منها الرقي الفكري والمعنوي. وهذه حقيقة من الحقائق التي عبر عنها رحمة الله عليه، فبين أن الوجود المادي ليس شيئا لأنه لا محالة إلى زوال، إنما الوجود الحقيقي هو البقاء المعنوي، وذلك لا يحصل لا لمن غرس شجرة الخير والصلاح. قال رحمة الله عليه:"إن كل موجود بعد ذهابه من الوجود، يذهب إلى العدم والفناء ظاهرا، ولكن تبقى المعاني التي كان قد أفادها وعبر عنها وتحفظ، وتبقى كذلك هويته المثالية…بمعنى أن الموجود يفقد وجودا ظاهريا صوريا، ويكسب مئات من الوجود المعنوي والعلمي"(1) وإن بديع الزمان النورسي قد اختفى جسده، ولا يعلم حتى أقاربه مكانه ولا موضع جثمانه، لأن خصومه أرادوا إعدام ذكره، فغيبوا قبره عن أنظار الناس، ولكن غاب عنهم أن الرجل قد سكن قلوب أتباعه ومحبيه.
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء
ففز بعلم تعش حيا به أبدا الناس موتى وأهل العلم أحياء
__________
(1) المكتوبات ص 378 – 379 ).(1/6)
فخدمة القرآن كما سنها بديع الزمان النورسي مازالت قائمة، وتجديد الإيمان الذي كان غايته مازال ماضيا، يعاين ذلك من عايش الحركة الإسلامية في تركيا، وما يقوم به طلبة النور من خدمة الثقافة الإسلامية الصحيحة، القائمة على تزكية النفس وتربية العقل، وسعة الأفق وبعد النظر، والوسط والاعتدال، والحوار والإنصاف، والجمع بين الاعتقاد والسلوك، والعلم والعمل. وقد كانت هذه غاية النورسي وهدفه الذي كان يستشرف من خلاله مستقبله بع موته، فعبر عن ذلك قائلا:" أما من حيث العمل للقرآن، فلقد وهب لي الله سبحانه وتعالى إخوانا ميامين في العمل للقرآن والإيمان. وستؤدى تلك الخدمة الإيمانية عند مماتي في مراكز كثيرة بدلا من مركز واحد. ولو أسكت الموت لساني فستنطلق ألسنة قوية بالنطق بدلا عني وتديم تلك الخدمة. بل أستطيع القول إن بذرة واحدة تحت التراب تنشئ بموتها حياة سنبلة وتتقلد مائة من الحبات الوظيفة بدلا عن حبة واحدة. فآمل أن يكون موتي كذلك وسيلة لخدمة القرآن أكثر من حياتي"(1) وإنني أرجو أن يكون هذا البحث من حبات البذرة النورسية، وثمرة من ثمار شجرته اليانعة، رحمه الله رحمة واسعة.
"ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب" وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
عبد الكريم عكيوي أبو معاذ.
تمهيد:
__________
(1) المكتوبات ص 549 ).(1/7)
إن اختلاف المدارك والأنظار، وتنوع الأفكار البشرية ، مسألة شغلت اهتمام الباحثين والدارسين في الفكر الإنساني عبر العصور. وكانت أيضا موضع عناية في الفكر الإسلامي، خاصة بعد عصر النبوة. ففي عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان القرآن الكريم والسنة النبوية مرجعا عند الإشكال وموئلا عند الاختلاف، فلم يكن لاختلاف الفهم والنظر أثر كبير في حياة المسلمين، لأن كل اختلاف ينتهي بعد حين إلى ائتلاف واجتماع على رأي واحد، عندما يرفع الأمر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو ينزل الوحي فيحسم الأمر. فقد كان نزول الوحي يساير حركة المجتمع وكان النبي صلى الله عليه وسلم قائما بأمر الإمامة والحكم والقضاء في جميع الحوادث، إما بالقرآن الكريم أو بسنته القولية أو العملية، حتى قال ابْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّه عَنْهمَا :َ كُنَّا نَتَّقِي الْكَلَامَ وَالِانْبِسَاطَ إِلَى نِسَائِنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - هَيْبَةَ أَنْ يَنزلَ فِينَا شَيْءٌ فَلَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - تَكَلَّمْنَا وَانْبَسَطْنَا (1)* حتى إذا اكتمل الدين وتمت النعمة، انتقل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى، فانتقل أمر تدبير شؤون المسلمين والبث في قضاياهم والحكم بينهم والاجتهاد في ما ينزل بهم إلى أهل العلم والخبرة من الصحابة ثم من جاء بعدهم إلى أن تقوم الساعة. ومن المعلوم بالبداهة والضرورة، أن الصحابة ومن بعدهم ليس لهم ما للنبي - صلى الله عليه وسلم - من التأييد بالوحي والعصمة من الغلط والخطأ. فحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسألة ليس كحكم غيره في القوة والحجية، وبيان مراد الله تعالى من كلامه، إذا كان من اجتهاد غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، ليس في القوة مثل ما إذا كان ممن لا ينطق عن الهوى، وذلك لحصول المزية
__________
(1) - البخاري، كتاب النكاح، باب الوصاة بالنساء.(1/8)
والفضل، والشرف والرفعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - على من سواه. ومعنى ذلك بالضرورة أن الاجتهاد من غير النبي - صلى الله عليه وسلم - يحتمل الصواب والخطأ، وإن الناس بعده يحصل منهم- لا محالة- الاختلاف في فهم مراد الله ومراد رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وفي بيان الصواب وتقدير المصالح فيما يعرض للناس في شؤون دينهم وأحوال دنياهم. وإذا حصل الاختلاف، وجد الصواب والخطأ، فيكون الاحتمال قائما أن يذهب الناس مع الخطأ ويعرضوا عن الصواب. وإذا كان هذا الاختلاف في ما تعم به البلوى وما يتصل بالقضايا العامة للأمة في السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية، فلابد من أن يتمحض العمل على رأي واحد، وهذا يفرض أن يتواضع الناس على منهج للاختيار يحسم الخلاف عند إرادة العمل. وإذا تعذر الجمع بين المختلفين ولم يمكن إلزام فريق فريقا آخر برأيه، فكيف يمكن بقاء كل فريق على مذهبه والتمسك بصواب رأيه دون أن يؤثر ذلك في وحدة الصف واجتماع الكلمة؟ ولا يخفى أن هذه الأمور كلها ليست من الأمور اليسيرة ولا القضايا الهينة، وإنما يتم ضبطها باجتهاد المخلصين من الأمة وأهل الخبرة والدراية فيها.(1/9)
وإن الخوف من أن تقف الأمة، بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، دون ذلك كله هو الذي جعل بعض الصحابة يحزنون بعد نزول قول الله عز وجل:‘‘ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا’’(1) روى ابن جرير بسنده أنه لما نزلت، وذلك يوم الحج الأكبر، بكى عمر فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذا أكمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص، فقال - صلى الله عليه وسلم -: صدقت.(2) ووجه ذلك أن أمر الاجتهاد في قضايا الأمة قد انتقل من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل العلم من أمته كما هو مقرر في حديث:‘‘إن العلماء ورثة الأنبياء’’(3) وإن اجتهاد العلماء يحتمل الصواب والخطأ، ومن أخطأ منهم قد يظهر خطؤه وقد لا يظهر، وإذا ظهر قد يرجع عنه وقد لا يرجع. وكيف لعامة الناس أن يعملوا بما اختلف فيه؟ فهذا بداية النقص عن عهد النبوة. وهذا وجه ما ورد عن أَنَسٍ قَالَ لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ وَمَا نَفَضْنَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَيْدِيَ حَتَّى أَنْكَرْنَا
__________
(1) - المائدة: 3 .
(2) - و في إسناد الطبري لهذا الخبر ضعف.
(3) - أبو داود، كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم. الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في فضل العلم على العبادة. وأورده البخاري في التراجم في كتاب العلم من جامعه في باب العلم قبل القول والعمل. قال الحافظ ابن حجر:‘‘له شواهد يتقوى بها، ولم يفصح المصنف بكونه حديثا فلهذا لا يعد في تعاليقه، لكن إيراده له في الترجمة يشعر بأن له أصلا، وشاهده من القرآن قوله تعالى‘‘ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا’’. (فتح الباري. 1 / 160 .(1/10)
قُلُوبَنَا *(1) وفي لفظ عند الدارمي قَال أنس:َ شَهِدْتُهُ يَوْمَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا قَطُّ كَانَ أَحْسَنَ وَلَا أَضْوَأَ مِنْ يَوْمٍ دَخَلَ عَلَيْنَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهِدْتُهُ يَوْمَ مَوْتِهِ فَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا كَانَ أَقْبَحَ وَلَا أَظْلَمَ مِنْ يَوْمٍ مَاتَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2)* وممن أدرك هذا المعنى أيضا أم أيمن رضي الله عنها كما ورد في حديثْ أَنَسٍ قَال:َ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِي اللَّه عَنْه بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ نزورُهَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزُورُهَا فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ فَقَالَا لَهَا: مَا يُبْكِيك،ِ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ مَا أَبْكِي أَنْ لَا أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ مَعَهَا *(3) فكانت أم أيمن رضي الله عنها تبكي لما رأت من انقطاع الوحي ووفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أدى أمانة التبليغ عن الله ، وانتقال أمانة الفهم عن الله وتنزيل أحكام الوحي على
__________
(1) - الترمذي، كتاب المناقب، باب في فضل النبي صلى الله عليه وسلم. ابن ماجه، كتاب ما جاء في الجنائز، باب ذكر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم .
(2) - الدارمي، المقدمة باب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
(3) - مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أم أيمن. ابن ماجه، كتاب ما جاء في الجنائز، باب ذكر وفاة ودفنه صلى الله عليه وسلم.(1/11)
الحياة ووقائعها إلى أولي الأمر من أمته، فأشفقت رضي الله عنها أن لا يفي ألو الأمر بحق هذه الأمانة، وذلك لأن الحاجة تدعو إلى الاجتهاد في الفهم عن الله وتنزيل نصوص الوحي على محالها، وإذا وجد الاجتهاد حصل الاختلاف، وإذا حصل الاختلاف لم يؤمن أن يؤثر في أحوال المجتمع وينال من وحدة الأمة. ولقد حصل شيء من ذلك من أول ما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قالْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا وَجْهُنَا وَاحِد،ٌ فَلَمَّا قُبِضَ نَظَرْنَا هَكَذَا وَهَكَذَا * ٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُسْلِمُون قبل دفن رسول الله َ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يُحْفَرُ لَهُ فَقَالَ قَائِلُونَ يُدْفَنُ فِي مَسْجِدِهِ وَقَالَ قَائِلُونَ يُدْفَنُ مَعَ أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَا قُبِضَ نَبِيٌّ إِلَّا دُفِنَ حَيْثُ يُقْبَضُ قَالَ فَرَفَعُوا فِرَاشَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي تُوُفِّيَ عَلَيْهِ فَحَفَرُوا لَهُ ثُمَّ دُفِنَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1) ثم اختلف المسلمون أولا في أمر الخلافة إلى أن اجتمع الأمر على تولية أبي بكر.
__________
(1) - ابن ماجه، كتاب ما جاء في الجنائز، باب ذكر وفاته ودفنه صلى الله عليه وسلم.(1/12)
فيظهر من هذا أن أول مسألة عرضت للمسلمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي تحقق الاختلاف عند النظر في القضايا العامة للأمة والاجتهاد في أمور الدولة والشؤون العامة السياسية والاقتصادية والإدارية والاجتماعية وغيرها، وظهور الحاجة إلى قانون يضبط هذا الاختلاف ويمكن من الاختيار والترجيح عند العمل، ويحفظ وحدة الأمة وتعاون المختلفين وتواضعهم على قواعد للتعامل فيما يختلفون فيه. ولهذا تنبه الصحابة والمسلمون من بعدهم إلى التغيير الذي حصل في تاريخ الإسلام وأحوال المسلمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأدركوا أن الحياة لا تستقيم إلا بالاجتهاد وإن الاجتهاد يكون منه الخلاف لأنه لا يمكن التسوية بين مدارك المجتهدين وهيهات هيهات أن يجتمع الناس على فهم واحد. وفي تقرير هذه الحقيقة يقول الشاطبي:‘‘وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة، فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف فيها.’’(1) وكان كلما مضى الزمان وبعد العهد عن زمن النبوة، زاد الاختلاف باتساع الاجتهاد. فكان لابد إذن من تحرير مسألة الاجتهاد وضبط الاختلاف، فحرروا هذا الموضوع تحريرا لا مزيد عليه .
وكان فائدة نظر علماء الإسلام في ذلك أن المعرفة والحقائق العلمية في جميع مجالات العلم والفكر لا تزيد على ثلاثة أقسام وهي:
قسم من الحقائق مقطوع بصحته، لا يجوز الاختلاف فيه، وسموه " المعلوم من الدين بالضرورة"، لا يسع العاقل الا التسليم به وعدم المنازعة فيه. وهذا القسم يشمل أصول العقائد والأحكام الشرعية العامة وكليات الشريعة.
قسم مقطوع ببطلانه، وهو مقابل للأول، فمن قطع بصحة القسم الأول قطع بالضرورة ببطلان مقابله. وهذا القسم يشمل ما ثبت بالقطع من المنهيات مثل الكفر والشرك في العقائد، والظلم والفساد في المعاملات، فهذا أيضا لا يصح فيه الاختلاف.
__________
(1) - الاعتصام : 2 / 145 .(1/13)
قسم وسط بين الأمرين، ليس له من القطع في ثبوته أو في دلالة النصوص الشرعية عليه ما يلحقه بأحد القسمين قبله، فيتجاذبه جانب الصحة وجانب البطلان، وهذا هو موضع النظر ومجال الاجتهاد وهو الذي يسع الاختلاف.
وبناء على هذه النظرة الدقيقة كان الاختلاف في النظر والاجتهاد سببا لنشاط الحركة العلمية والفكرية في القرون الأولى من تاريخ الإسلام، فكانت المدارس الاجتهادية ووجد من ذلك توسع كبير في الفكر الإسلامي، وتمحضت علوم كثيرة، وكانت مناهج المناظرة ومجالسها لتحاور المختلفين ولم يكن ذلك سببا للتنازع والشقاق وضعف قوة المسلمين وذهاب سلطانهم، وإنما كان هذا الأساس الذي قامت عليه الحضارة الإسلامية في أزهى عصورها
... ولم يبق الأمر على ذلك وإنما حل الاختلاف المذموم محل الاختلاف المحمود، ورسخ الشقاق بين المسلمين بسبب الاختلاف في الفهم والاجتهاد، وحصل التعصب للآراء واشتهر الانتصار للمذاهب فكان هذا سببا لركود الفكر الإسلامي في العصور الأخيرة ركودا بينا، لأن كل ذي رأي يتعصب لرأيه ويشنع على مخالفه، ومازال أثر ذلك إلي يومنا هذا، وهذا شيء واقع مشاهد وليس متوهما مظنونا. وقد عبر بديع الزمان النورسي عن هذا الركود وعن زمنه بالتحديد فقال: (( إن معاصري - مع الأسف- وإن كانوا أبناء القرن الثالث عشر الهجري إلا أنهم تذكار القرون الوسطى من حيث الفكر والرقي، وكأنهم فهرس ونموذج وأخلاط ممتزجة لعصور خلت من القرن الثالث إلي الثالث عشر الهجري، حتى عدا كثير من بدهيات هذا الزمان مبهمة لديهم))(1)
... ولهذا، وبعد بداية الصحوة الإسلامية في العصر الحديث، وظهور بوادر البعث والنهضة الفكرية في العالم الإسلامي، كانت قضية الاختلاف هذه محل عناية عند المصلحين ورجالات الفكر الإسلامي المعاصر، لأنهم أدركوا أنها من معوقات الفكر الإسلامي.
__________
(1) – (( صيقل الإسلام)) ص: 24.(1/14)
ومع بداية القرن العشرين الميلادي تنبه الشيخ بديع الزمان النورسي رحمه الله لهذه المسألة فوقف عندها ناظرا متأملا فاحصا، على عادته رحمه الله في تأملاته ونظراته العميقة في حقائق الأشياء، فنطق لسانه معبرا عن ذلك التأمل قائلا:" سؤال مهم ومثير للدهشة، لماذا يختلف أصحاب الدين والعلماء وأرباب الطرق الصوفية وهم أهل حق ووفاق ووئام بالتنافس والتزاحم، في حين يتفق أهل الدنيا والغفلة، بل أهل الضلالة والنفاق من دون مزاحمة ولا حسد فيما بينهم، مع أن الاتفاق من شأن أهل الوفاق والوئام، والخلاف ملازم لأهل النفاق والشقاق. فكيف استبدل الحق والباطل مكانهما فأصبح الحق بجانب هؤلاء والباطل بجانب أولئك !))(1) ويقول أيضا: (( إنه لمن العجب وموضع الأسف: إذ بينما يضيع أهل الحق والحقيقة القوة العظمى في الاتفاق بالاختلاف فيما بينهم، يتفق أهل النفاق والضلالة للحصول على القوة المهمة فيه-رغم اختلاف مشاربهم- فيغلبون تسعين بالمائة من أهل الحقيقة مع انهم لا يتجاوزون العشرة بالمائة.))(2) ثم تبين له بعد ذلك أن هذا الاختلاف والشقاق بين أهل الإسلام من أهم أسباب الركود والتخلف في العالم الإسلامي فيقول: (( لقد تعلمت من واقع الحياة الاجتماعية ومن الواقع الذي تعيشه البشرية في يومنا هذا أن هناك ستة أمراض قاتلة جعلتنا نقف على أعتاب القرون، ونتيه في مسالكها المظلمة، في الوقت الذي طار فيه الأجانب-ولاسيما الأوربيين- بخطى سريعة نحو المستقبل، وهم يتسابقون في ميادين الرقي والتقدم العلمي. وهذه الأمراض هي: أولا حياة اليأس… ثانيا: موت الصدق في حياتنا… ثالثا: حب العداوة… رابعا: الجهل بالروابط النورانية التي تربط المؤمنين بعضهم ببعض. خامسا: الاستبداد… سادسا: حصر الهمة في المنفعة الشخصية))(3) وليس حب العداوة والجهل بالروابط النورانية بين المؤمنين الا
__________
(1) –(( اللمعات)) ص: 226.
(2) –(( سيرة ذاتية)) ص 314.
(3) – ((الخطبة الشامية)) ص 30-31.(1/15)
مظهرا للاختلاف والتنازع والشقاق.
وقد اجتهد رحمه الله لمداواة هذا الداء فعمل على استقصاء أسباب الاختلاف وجذور الشقاق وتحريرها، وحصر الروابط الإنسانية التي تجمع البشر كلهم وحرر حقائق الحياة البشرية التي يسلم بها العقل البشري مهما اختلفت العقائد وتنوعت النحل، ثم رصد الروابط التي تجمع بين المسلمين وغيرهم على مراتبها بحسب اختلاف العقائد والمذاهب والنحل، ثم الروابط الروحية والمعنوية والواقعية التي تربط بين جميع المنتسبين إلى الإسلام. وبعد ذلك كله وضع القواعد العملية التي يجب اتباعها فيما لا يمكن الاتفاق عليه، لأنه لا يمكن القطع فيه برأي، وسار هو نفسه على هذه القواعد وأوصى بها طلبته.
فهذه هي جهوده في إرساء الوحدة الفكرية وتثبيت الحوار العلمي على جهة الاختصار والإجمال، أما على جهة البيان والتفصيل فهي على النحو الآتي:
أسباب الاختلاف والتنازع وسبل إزالتها.
الأسس النظرية للوحدة الفكرية.
-الأسس العملية للوحدة الفكرية
المبحث الأول: أسباب الاختلاف والتنازع وسبل إزالتها.
تقدم في التمهيد أن الاختلاف الفكري الناشئ عن الاجتهاد فيما لا يمكن القطع فيه برأي واحد، كان سبب توسع الفكر الإسلامي في زمن السلف الصالح من التابعين وأتباعهم، وسبب ازدهار الحضارة ورقي المعرفة الإسلامية. ووجه ذلك أن غرض الجميع هو الوصول إلى الحق والرجوع إليه عندما يتبين حيث ما كان على لسان كل فريق، فلم يكن هذا الاختلاف سببا في التنازع والشقاق والتراشق بالتعنيف والتقبيح، بل إن علماء الإسلام اشترطوا في المجتهد معرفة مواطن الإجماع ومواطن الخلاف، وقالوا بمراعاة الخلاف واعتبار الرأي المخالف عند الاجتهاد، فليس كل خلاف مذموما الا إذا أدى إلي التنازع والشقاق. وقد استوعب بديع الزمان النورسي هذه الحقيقة وعبر عنها في مكتوباته حيث جعل الخلاف قسمين: هما الاختلاف الإيجابي والاختلاف السلبي.(1/16)
أما الاختلاف الإيجابي فهو الذي يحصل بعد الاتفاق على الأسس الجامعة للمختلفين والاجتماع على غايات واحدة، فيجتهد كل واحد لمعرفة الحق وتحري الصواب، فإذا لم يحصل الاتفاق على رأى واحد لم يحل لأحد القطع بصحة رأيه وخطأ رأي غيره، وإنما يبقي كل واحد الاحتمال لخطأ رأيه ولصواب رأي غيره. يقول رحمه الله: ((إن تصادم الآراء ومناقشة الأفكار لأجل الحق وفي سبيل الوصول إلي الحقيقة إنما يكون عند اختلاف الوسائل مع الاتفاق في الأسس والغايات، فهذا النوع من الاختلاف يستطيع أن يقدم خدمة جليلة في الكشف عن الحقيقة وإظهار زاوية من زواياها بأجلى صور الوضوح))(1). وفي توجيه ما روي في الحديث من أن الاختلاف رحمة(2)، يقول (( إن الاختلاف الوارد في الحديث هو الاختلاف الإيجابي البناء المثبت، ومعناه أن يسعى كل واحد لترويج مسلكه وإظهار صحة وجهته وصواب نظرته، دون أن يحاول هدم مسالك الآخرين أو الطعن في وجهة نظرهم وإبطال مسلكهم، بل يكون سعيه لإكمال النقص ورأب الصدع والإصلاح ما استطاع إليه سبيلا))(3). وأما الاختلاف السلبي، فهو الذي يكون مع الرغبة في الشهوة ونيل حظوة التفرد بالصواب والسداد، وإماتة كل مذهب مخالف. يقول رحمه الله: (( أما الاختلاف السلبي فهو محاولة كل واحد تخريب مسلك الآخرين وهدمه، ومبعثه الحقد والضغينة والعداوة، وهذا النوع من الاختلاف مردود أصلا في نظر الحديث، حيث المتنازعون والمختلفون يعجزون عن القيام بأي عمل إيجابي بناء… إن كانت المناقشة والبحث عن الحقيقة لأجل أغراض شخصية وللتسلط والاستعلاء وإشباع شهوات نفوس فرعونية ونيل الشهوة وحب الظهور، فلا تتلمع بارقة الحقيقة في هذا النوع من بسط الأفكار…))(4) فهذا الجنس من الاختلاف هو المقصود هنا وانه سبب الركود والتخلف، وهو الذي تولى الأستاذ النورسي إصلاحه
__________
(1) –(( المكتوبات)) ص 347.
(2) – حديث (( اختلاف أمتي رحمة)) حديث ضعيف.
(3) –(( المكتوبات)) ص 347.
(4) – فسه.(1/17)
ليتحول من اختلاف سلبي إلي اختلاف إيجابي.
أما أسباب هذا الاختلاف والتنازع فهي:
-1-الجهل بحقيقة الإسلام وتوهم التعارض بين الوحي والعلم، والتنافر بين الدين والدنيا:
تنبه الشيخ بديع الزمان النورسي إلى مسألة طارئة مختلقة، ووضع يده على قضية محدثة متوهمة لم يشهدها تاريخ الإسلام قبل العصر الحديث. وهذه القضية بمنزلة ورم شديد وداء عضال يعوق سير جسد المسلمين سويا، ويمزق وحدتهم ويفرق جماعتهم. فعلى امتداد التاريخ الإسلامي، لم يخطر ببال أحد من علماء الإسلام ولا جرى على لسانه أن الوحي مناقض لحقائق الكون والحياة والإنسان، التي يكشف عنها العقل البشري، ويهتدي إليها الإنسان من خلال العلوم المادية والتجريبة التي تعتمد على تراكم الخبرة وزيادة اللاحق على السابق. حتى إذا جاء العصر الحديث- وبعد عصور الركود التي ركن فيها المسلمون إلى التقليد ومنهج التواكل والفكر الخرافي ، ثم حصول النهضة الأوربية واقتحام الفكر الغربي وحضارة الغرب وثقافته للبلاد الإسلامية وبسط العلم المادي التجريبي سلطانه– نبتت في عقول كثير من أهل الثقافة والفكر المسلمين نبتة غريبة، فصاروا يعتقدون أن الوحي ( القرآن والسنة النبوية الصحيحة ) و العلوم الحديثة ضدان لا يلتقيان حتى يطرد أحدهما الآخر. وسبب ذلك أن طائفة من المسلمين ركنت إلى الورع والغيرة على الوحي، من غير دراية ولا سعة أفق، ومن غير استيعاب لحقائق الوحي ومقاصد الرسالة، فظنت - خطأ- أن العلم الحديث شر كله وأنه طريق إلى الابتداع في الدين أو المروق منه بالمرة، لأنه مناقض كله لأحكام الوحي ومعانيه. ولهذا ناصبت هذه الطائفة العداء لكل من له عناية بهذه العلوم. وهناك طائفة أخرى من المسلمين ظنت خطأ أيضا أن النهضة العلمية والفكرية إنما تلتمس في الحضارة الغربية، لأنها قائمة على قوة العلوم المادية، وأن الوحي حجر عثرة وجملة معترضة أمام هذه النهضة، لأن معانيه معارضة لحقائق العلوم(1/18)
الحديثة مطلقا. ولهذا نفرت هذه الطائفة من كل فكر أو علم له صلة بالوحي، وناصبت العداء لكل من يدعو إلى التمسك بالوحي والعمل به. وبذلك حدث تمزق كبير وافتراق شديد بين المسلمين مازالت آثاره بادية حتى يومنا هذا، وأبرز مظاهره توهم ثنائيات متعارضة، مثل الأصالة والمعاصرة، والتجديد والمحافظة، والعلم والدين، ورجال الدين ورجال الفكر والسياسة، والتعليم العصري والتعليم الأصيل أو التقليدي… وكان هذا أصل الفصام الكبير والتمزق الشديد الذي يشهده العالم الإسلامي حتى اليوم، وسبب الصراع المرير بين دعاة الحداثة والتغريب، وبين دعاة التمسك بمقومات الأمة القائمة على الإسلام عقيدة وشريعة.(1/19)
وقد زاد الاستعمار الغربي للبلاد الإسلامية في رسوخ هذا الوضع واشتداد هذا الفصام وقوة هذا التمزق والافتراق. فمن نتائج الاستعمار الغربي للبلاد العربية والإسلامية، حدوث تحول خطير في نظام التربية والتعليم في العالم الإسلامي. فقد عملت الإدارة الاستعمارية على ربط التعليم في العالم الإسلامي بالمشروع الغربي من أجل تخريج نخبة من المثقفين من أهل البلاد الإسلامية ترتبط مكانتها بالفكر الغربي، وتتولى إدارة بلدانها بعد خروج الجيوش الأجنبية وتصفية الاستعمار العسكري وترسيخ الاستعمار الاقتصادي. يقول سيرج لاتوش: ((مع تصفية الاستعمار، غادر المبشرون المتأهبون للانطلاق من الغرب مقدمة المسرح، لكن الرجل الأبيض يبقى في الكواليس ويجذب الخيوط. وهذا التأليه للغرب لم يعد تأليها لوجود واقعي لسلطة مذلة بوحشيتها وغطرستها، إنه يقوم على قوى رمزية، سيطرتها المعنوية أكثر خبثا، لكن أيضا أقل إثارة للاعتراض. وهذه العناصر الجديدة للسيطرة هي العلم والتقنية والاقتصاد، وعالم الخيال الذي تقوم عليه هذه العناصر: قيم التقدم))(1) وفي هذا المعنى ينقل لاتوش عن موريل C. MAUREL قوله: (( إن أروع ما حققه الاستعمار هو مهزلة تصفية الاستعمار… لقد انتقل البيض إلى الكواليس، لكنهم لا يزالون مخرجي العرض المسرحي.))(2) ومن أهم آثار الاستعمار وأخطرها حال التعليم ومناهج التربية، فقد عمل على إضعاف مكانة علوم الشريعة في التعليم لتحل محلها العلوم الحديثة القائمة على الفلسفة المادية، أو في أحسن الأحوال على نظرية الحقيقتين، أي وجود حقيقة دينية وحقيقة علمية، فكلاهما حقيقة، لكنهما حقيقتان متناقضتان لا صلة للواحدة بالأخرى. وترتب على ذلك الفصل في التعليم بين علوم الوحي وبين علوم الكون والحياة. فوجد نوعان من التعليم: أحدهما سمي بالتعليم
__________
(1) - (( تغريب العالم )) ص 23 .( ترجمة : خليل كلفت. ط : 2 – 1999 – النجاح الجديدة).
(2) - نفسه ص 5 – 6 .(1/20)
الأصيل، محله المعاهد القديمة مثل القرويين بالمغرب الأقصى والأزهر بمصر، وغايته تخريج طائفة لا صلة لها بقضايا الحياة وهموم الناس، وإنما غايتها أن تؤم الناس في الصلوات وتفتيهم في العبادات والشعائر التي هي بين العبد وربه. وقد عمل الاستعمار على تهميش هذه الطائفة وإضعاف مكانتها بين الناس، ووسمها بصفة التقليد والتخلف والتعلق بالماضي. وأما النوع الثاني من التعليم فسمي التعليم العصري، وأحاطه المستعمر بهالة التقديس ورفع من مكانة خريجيه الذين كان يعدهم ليتولوا إدارة البلاد المستعمرة بعد ‘‘تصفية الاستعمار’’. وانحصر هذا التعليم في العلوم المادية والعلوم الإنسانية في معزل عن حقائق الوحي وقواعده، فحصل من ذلك أن المتخرجين من هذا التعليم من أبناء المسلمين لا صلة لهم بدين الأمة وقيمها، ولا معرفة لهم حتى بالمبادئ الأولى للشريعة. وكان نتيجة ذلك أن المتعلم من أبناء المسلمين، إما عارف بعلوم الشريعة – على ما حصل في مناهج هذه العلوم وطرق تدريسها من ركود في العصور المتأخرة – ولا صلة له البتة بعلوم الكون والحياة، وإما متخصص في علم من العلوم المادية أو الإنسانية، ولا صلة له مطلقا بعلوم الوحي والشريعة. فكان كل فريق يزدري الفريق الآخر وينظر إليه نظرة العداء والاحتقار.(1/21)
وزاد الأمر إدبارا وانحرافا لما عمد كثير من الباحثين و الدارسين إلى محاولة إثبات أن القول بحقيقة علمية منفصلة عن الحقيقة الدينية هي الأصل المعتمد عند المسلمين عبر العصور، فذهبوا يلتمسون نماذج من أعلام المسلمين دليلا على انفصال الحقيقة العلمية عن الوحي، فقالوا إن أبا الوليد بن رشد (ت 594) فيلسوف قرطبة وعالم الأندلس ممن قال بحقيقتين: فلسفية ودينية، مختلفتين وصادقتين معا، ويزيدون في تأييد ذلك ببيان أن فكر ابن رشد كان له أثر في الفكر الغربي في عصر التنوير حتى وجد فيه تيار يسمى "الرشديين اللاتين" وان أسقف باريز أصدر قرارا في مارس 1277م بتحريم ثلاث عشرة قضية من قضايا هذا التيار وهي كلها من أفكار ابن رشد، ومنها القول بالحقيقتين. وهذه بعض الأقوال في ذلك. يقول مراد وهبة:" إن ابن رشد يخضع الدين للعقل… وداعية لفصل الدين عن الدولة… ومؤسس للتنوير الغربي والعلمانية الغربية"(1) وقيل في ذلك أيضا :"إن ابن رشد هو أبعد فلاسفة العرب بعد المعري عن الإسلام" وقيل أيضا:" إن فلسفة ابن رشد عبارة عن مذهب مادي قاعدته العلم".(2)2) ومن النماذج المقدمة في ذلك أيضا العلامة ابن خلدون (ت 808) فقد قيل عنه انه يفصل "فصلا منهجيا بين الميدانين (الديني والطبيعي). ولا جدال في أن هذا الفصل خطوة حاسمة نحو العقلانية في عالم يهيمن عليه الغيب"(3)3) وقيل أيضا:" إن ابن خلدون حقق خطوة هامة على مستوى تنظير التاريخ العربي بفصله المنهجي لعلم التاريخ عن العلوم الدينية فصلا على مستوى النظرية"(4)4). فهذه الطائفة عمدت قسرا إلى علماء الإسلام الذين جمعوا بين علوم الشريعة وعلوم الحياة والإنسان والفلسفة
__________
(1) –" مدخل إلى التنوير" ص: 156-259.
(2) – انظر "الموقع الفكر لابن رشد" محمد عمارة، مجلة إسلامية المعرفة عدد 3
(3) – الخطاب التاريخي: دراسة لمنهجية ابن خلدون" علي أمليل، صّ: 41.( معهد الإنماء العربي).
(4) –نفسه ص: 45.(1/22)
والتاريخ، فحملتهم القول بأن حقيقة الوحي منفصلة عن حقيقة العلوم الكونية والإنسانية(1). وقصد هذه الطائفة نسبة النموذج الوضعي العلماني في الفكر والتعليم والحياة إلى علماء الإسلام، وهي مرحلة تمهيدية لإحلال العلمانية الغربية والتنوير الغربي اللاديني محل الوحي والشريعة. فهذه الأفكار كان العمل بها ولايزال هو الغالب في التعليم العالي في العالم الإسلامي، وتتجلى مظاهره في الحياة العامة للمجتمعات الإسلامية.
__________
(1) - إن مذهب ابن رشد في أن الحق واحد لا يتعدد ولا يتناقض واضح لمن تدبر فكره وجمع بين أطرافه وأجزائه، وإن مذهب ابن خلدون في النقد التاريخي والعمران البشري وإنه لا يناقض حقيقة الوحي والشريعة ظاهر لمن أمعن النظر في مقدمته. ينظر عن ابن رشد: ‘‘الموقع الفكري لابن رشد بين الغرب والإسلام’’ لمحمد عمارة، مجلة ‘‘إسلامية المعرفة’’ عدد 3 ص 79 - 111.(1/23)
و أدى هذا الوضع إلي انقسام المسلمين عامة إلي طائفتين لا يجمع بينهما إلا العداء، فكل طائفة تسفه الأخرى وتصفها بأوصاف التعنيف والتقبيح. أما الطائفة الأولى فهم علماء الإسلام والمشايخ المقلدون الذين ينكرون كل جديد مستحدث وينقمون على كل من يتعلم العلوم الحديثة ويصمونه بالمروق عن الدين. وأما الطائفة الثانية فهم المتعلمون الجدد أبناء المدارس الحديثة الذين-إن عرفوا الإسلام- لم يعرفوا فيه إلا الشعائر والعبادات التي بين العبد وربه. فكلاهما توهم وجود التعارض بين القرآن والعلوم الحديثة، فنبذت الطائفة الأولى كل جديد وتوجست خيفة من العلوم المعاصرة وبالغت في الحذر من المناهج الحديثة، ونبذت الثانية الإسلام في شموله وعالميته، فكان التنازع والشقاق بين أهل الإسلام بسبب أمور متوهمة. يقول بديع الزمان النورسي رحمه الله عن هذا التنازع: (( إن طلاب العلوم الدينية يدينون المدرسين الجدد بضعف الإيمان بسبب مسائل خاصة بالمظهر الخارجي. أما المدرسون الجدد فيسمون طلاب العلوم الدينية بالجهل نظرا لأنهم غافلون عن الفنون والعلوم الحديثة، وإن هذا الاختلاف في الفكر والمنهج قد هز الأخلاقيات في المجتمع الإسلامي وخلف هؤلاء عن التقدم المدني))(1). وأشار إلي فئات ثلاث وهي فئة علماء الدين، وفئة المتعلمين الذين لم يفهموا الغرب حق الفهم، وفئة أصحاب التكايا(2). فكل فئة منغلقة على نفسها وتتهم الآخرين بالكفر وبالجهل (3).
__________
(1) –((العثمانيون في التاريخ والحضارة)) لمحمد حرب ص 261.
(2) –جمع ((تكية)) وهي رباط الصوفية. انظر ((المعجم الوسيط)) 1 ص 86.
(3) –انظر (( سعيد النورسي: رجل القدر في حياة أمة)) لأورخان محمد علي ص 37.(1/24)
وبسبب هذا التنازع بين أهل الإسلام تم حجب حقيقة الإسلام وهداية القرآن عن غير المسلمين، وتم حجب محاسن المدنية الحديثة عن المسلمين. يقول رحمه الله في ذلك وهو يذكر الموانع التي حجبت شمس الإسلام: (( أما المانع الثامن، وهو أهم الموانع والبلاء النازل، فهو توهمنا نحن والأجانب بخيال باطل وجود تناقض وتصادم بين بعض ظواهر الإسلام وبعض مسائل العلوم… نعم إن أعظم سبب سلب منا الراحة في الدنيا، وحرم الأجانب من سعادة الآخرة، وحجب شمس الإسلام وكسفها هو سوء الفهم وتوهم مناقضة الإسلام ومخالفته لحقائق العلوم… هذا الفهم الخطأ هذا الفهم الباطل قد أجرى حكمه إلي الوقت الحاضر فألقى بشبهاته في النفوس وأوصد أبواب المدنية والمعرفة في وجه الأكراد وأمثالهم فذعروا من توهم المنافاة بين ظواهر من الدين لمسائل من العلوم))(1). فهذا الداء قد شق صف المسلمين وركب في نفوسهم عداء المدنية الحديثة كلها، وركب في نفوس العقلاء من غير المسلمين-خاصة أصحاب الحضارة المادية- عداء المسلمين والإزراء بالقرآن بدعوى مناقضته للمدنية الحديثة.
__________
(1) –((صيقل الإسلام)) ص 23-24(1/25)
ولإزالة هذا الداء اجتهد رحمه الله لإصلاح نظام التعليم عند المسلمين لتسير فيه العلوم المادية والفلسفة الإنسانية في توافق وائتلاف مع القرآن الكريم والسنة النبوية. تقول ماري ويلد(1):(( يقسم بديع الزمان تاريخ الإنسانية إلي تيارين، أحدهما تيار النبوة والآخر تيار الفلسفة والعلوم، ويربط كل التيارين بذات الإنسان ويصور نتائج كلا التيارين. فالنبوة التي تمثل الوحي الإلهي تخاطب قلب الإنسان أما الفلسفة فتخاطب عقله، والهدف هو اتفاق الاثنين، أي قيام الفلسفة باتباع الدين واتباع النبوة وخدمتها، وكلما تم هذا ذاقت الإنسانية طعم السعادة وعاشت في انسجام وتناغم. وعندما يفترق أحدهما عن الآخر ينسحب الخير والنور إلي جانب النبوة، ويتراكم الشر والضلالة- كما حدث في الغرب- في جانب الفلسفة))(2). فبهذا يؤلف بين الدين وبين العلم والقرآن، فيكون علماء الحياة والكون وعلماء الشريعة بمنزلة الوجهين للعملة الواحدة، لأن كل طائفة ترى الحاجة بها إلي الطائفة الأخرى، فتصلح الواحدة بالأخرى. يقول رحمه الله: ((إن الوسيلة الوحيدة لإصلاح هذا إنما يمكن في وضع العلوم الدينية في المدارس المدنية، وتدرس العلوم العملية بدلا من الفلسفة اليونانية القديمة في المدارس الدينية، ووضع علماء متبحرين في التكايا من أجل تثقيف وتنوير طبقة الدراويش المتصوفة))(3).فتدريس الدين في المدارس العلمية والتقنية الحديثة يعصم الطلبة من الشك
__________
(1) – (( باحثة بريطانية متخصصة في الأدب التركي والفارسي. أسلمت عام 1981م بعدما قرأت الترجمة الإنجليزية لرسائل النور وسمت نفسها (( شكران واحدة)). تقيم الآن في تركيا ، ومن مؤلفاتها ((الاسلام والغرب ونحن))- (( مؤلف رسائل النور بديع الزمان)).
(2) – (( مؤلفات بديع الزمان كنموذج لتقديم الإسلام الى الغرب)) لماري ويلد. مؤتمر بديع الزمان النورسي –استانبول 1992 ص: 222-223.
(3) –(( العثمانيون في التاريخ والحضارة)) ص 261.(1/26)
والإلحاد، وتدريس العلوم الحديثة في مدارس الشريعة يعصم طلبتها من التعصب وضيق النظر، فيلتقي الفريقان على سبيل وسط. وقد بدأ النورسي بنفسه فاطلع على العلوم الحديثة، وكانت له في التدريس طريقة مختلفة عما كانت عليه في عامة المدارس الشرعية، فكان يجمع بين الوحي وبين حقائق الكون والحياة كما عرفها الإنسان من خلال وسائل البحث العلمي المتوفرة عبر العصور. وفي تأليفه لرسائل النور تجده يجمع بين حجة الوحي المقروء وحقيقة الحياة والكون المنظور، فكانت العلوم الحديثة تسير من وراء الوحي وتشهد لحقائقه وتؤيد أحكامه(1) . وعمل طول عمره على أن يسود هذا النظام في التعليم واجتهد وسعه لإنشاء "جامعة الزهراء" يتم فيها الجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا، ويقرأ فيها الوحي المنزل والكون المخلوق(2). وقد بقيت هذه الفكرة تتجدد في عقول غير واحد من رجال الفكر الإسلامي المعاصر، فنجدها عند الأستاذ مالك بن بني وعند الأستاذ علي عزت بيغوفيتش وغيرهما إلي أن ظهرت معالمها في بعض المؤسسات في أيامنا هذه(3). فقد عبر الأستاذ علي عزت بيغوفيتش عن هذه الحقيقة ب:"الوحدة ثنائية القطب"أي أن الإسلام تأتلف فيه حقائق الوحي بحقائق الكون والحياة،. يقول في بيان ذلك –بعد أن أورد آيات من القرآن الكريم في وصف الكون والطبيعة- :" في هذه الآيات التي اتجهت بكليتها إلى الطبيعة نجد فيها تقبلا كاملا للعالم، ولا أثر فيها لأي نوع من الصراع مع الطبيعة. فالإسلام يبرز ما في المادة من جمال ونبل كما هو الحال بالنسبة للجسم في موقف الصلاة، والممتلكات في الزكاة. إن العالم المادي ليس مستودعا للشيطان، وليس الجسم مستودعا للخطيئة. حتى عالم الآخرة، وهو غاية آمال الإنسان وأعظمها، صوره القرآن مغموسا بألوان هذا
__________
(1) – انظر (( سعيد النورسي)) لأورخان محمد علي ص 25.
(2) –نفسه ص 25-26، ص 27، ص 52.
(3) –مثل المعهد العالمي للفكر الاسلامي، والجامعة العالمية الإسلامية للعلوم(1/27)
العالم… الإسلام لا يرى العالم المادي مستغربا في إطاره الروحي…إن احتضان الدين للعلم اتجاه إسلامي، يمكن أن يرى في أحسن صوره في التحام المسجد بالمدرسة… هذا البناء المتميز هو المعادل المادي أو التقني لتلك المسلمة الإسلامية لوحدة الدين والعلم…"(1) فهذه الحقيقة هي التي تنبه إليها بديع الزمان النورسي وتنبه إلى خطرها العظيم على كيان الأمة ووحدتها الفكرية.
ولا أحد يجادل أن الشقاق بين أهل الإسلام بسبب هذه المسألة مازال شديدا، فهناك تصنيف رائج في جميع بلدان الإسلام بين ((الإسلاميين)) و ((العلمانيين)) وهو قائم على أوهام كما سبق، وإنا لنرجو أن يفتح العلمانيون عقولهم لحقائق القرآن العامة والشاملة، وأن يتخلص علماء الشريعة من التقليد وضيق الأفق وتحجير النظر، فيجدون أنفسهم جميعا يقودهم القرآن نحو الحياة الدنيا وعلومها، ونحو الآخرة ونعيمها، والتعليم والتربية هما سبيل ذلك كما قال سعيد النورسي، فدعوته ماتزال قائمة، فما أشبه اليوم بالأمس.
2-الاستسلام لغرائز الإنسان وطبائع البشر وعدم تعهد النفس بالتربية الروحية الإيمانية:
__________
(1) - "الإسلام بين الشرق والغرب " ص 308 –311 – 312 .(1/28)
فقد يغتر العالم بعلمه وصاحب الحق بحقه، فيزين له أنه قد استغنى عن التربية وتهذيب النفس وتعهدها بالرعاية والصيانة والتزكية ، ويزعم أن ذلك إنما هو على من دونه من عامة الناس وأهل الضلالة، فيفتح الباب لغرائز الميل إلي الشر وطبائع النفس لتعمل عملها، وهي مفضية لا محالة إلي العداوة والتنازع. ولهذا تتحرك غريزة حب الظهور والتفوق على سائر الناس، لأن أهل الدين وأصحاب العلم وأرباب الطرق الصوفية وظيفة كل منهم متوجهة إلي الجميع، وإن أجرتهم العاجلة غير متعينة، كما أن حظهم من المقام الاجتماعي-الذي يقوم على حظ الدنيا- وتوجه الناس إليهم والرضى عنهم لم يتخصص أيضا. (( فهناك مرشحون كثيرون لمقام واحد، وقد تمتد أيد كثيرة جدا إلى أية أجرة – مادية كانت أو معنوية- ومن هنا تنشأ المزاحمة والمنافسة والحسد والغيرة، فيتبدل الوفاق نفاقا والاتفاق اختلافا وتفرقا))(1). وينشأ عن ذلك الغرور والاستبداد بالرأي، (( وإذا ما كان ثمة غرور وأنانية في النفس يتوهم المرء نفسه محقا ومخالفيه على باطل فيقع الاختلاف والمنافسة بدل الاتفاق والمحبة وعندها يفوته الإخلاص ويحبط عمله ويكون أثرا بعد عين))(2)
(( ثم يبرز إلي الميدان الاستعجال فيزل قدم الهمة ويقلب على عقبيها بطفراته خطوات ترتب الأسباب والمسببات، فتشوش مراحل العلل التي ووضعها الله سبحانه في سننه الكونية))(3)
__________
(1) – ((اللمعات)) ص 227
(2) – نفسه ص 228.
(3) –((صقيل الإسلام)) ص 433.(1/29)
أما دواء ذلك كله فهو التربية وتزكية النفس طول عمر المرء، وجماع كل هذا تربية النفس وحملها على الإخلاص فترتوي من قوله تعالى: ( إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى اللَّهِ))- يونس 72-. وقوله عز و جل: (( وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلَاغُ الْمُبِين ُ))- النور 54-، وقوله تعالى: ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)) –النساء 135-. ومن دوائه صحبة السالكين ومعاشرة الصالحين(1). يقول رحمه الله: (( إن الإخلاص واسطة الخلاص ووسيلة النجاة من العذاب، فالعداء والعناد يزعزعان حياة المؤمن المعنوية فتتأذى سلامة عبوديته لله إذ يضيع الإخلاص، ذلك لأن المعاند الذي ينحاز إلي رأيه وجماعته يروم التفوق على خصمه حتى في أعمال البر التي يزاولها فلا يوفق توفيقا كاملا إلي عمل خالص لوجه الله، وهكذا يضيع أساسان مهمان لبناء البر- الإخلاص والعدالة- بالخصام والعداء))(2).
وأما إعماله لهذا الدواء في خاصة نفسه فيقول: (( فلئن كان قبول المقامات المعنوية يفيد الشخص والمقام فائدة واحدة، فإنه يلحق ألف ضرر وضرر بالناس عامة وبالحقائق نفسها… إن حقيقة الإخلاص تمنعني من كل ما يمكن أن يكون وسيلة إلى كسب شهرة لبلوغ مراتب مادية ومعنوية… لذلك أرجح الاتصاف بالخدمة على نيل المقامات حتى أنني قلقت ودعوت الله الا يصيب شيء ذلك الشخص الذي أهانني بغير وجه قانوني… حيث أن المسألة انتشرت بين الناس فخشيت أن يمنحوني مقاما، فلربما يعدون حدوث شيء ما نتيجة كرامة خارقة. لذا قلت: يا رب أصلح شأن هذا أو جازه بما يستحق من دون أن يكون عقابا يومئ إلى كرامة معنوية))(3)
__________
(1) – انظر : المصدر السابق – (( اللمعات)) ص 227، ص227، ص232-233.
(2) – (( المكتوبات)) ص 350.
(3) – (( سيرة ذاتي)) ص 372، وانظر (( صقيل الإسلام)) ص 332.(1/30)
3-الإفراط في العزة وعلو الهمة، والغلو في الشعور بالقوة، وتوهم الاستغناء وعدم الحاجة إلي التأييد والمآزرة:
إن اختلاف أهل الحق والهداية قد يكون من سوء استعمال علو الهمة والإفراط فيه، وذلك أن المرء قد يحرص على ثواب الآخرة من أعماله، لكنه قد يتخذ وضعا منافسا لأخيه الذي هو في حاجة إلى محبته والأخذ بيده ((كأن يقول-مثلا- لأغنم أنا بهذا الثواب ولأرشد أنا هؤلاء الناس وليسمعوا مني وحدي الكلام، وأمثالها من طلب المزيد من الثواب لنفسه. أو يقول: لماذا يذهب تلاميذي إلى فلان وفلان؟ ولماذا لا يبلغ تلاميذي عدد تلاميذه وزيادة. فتجد روح الأنانية لديه- بهذا الحوار الداخلي- الفرصة سانحة لترفع رأسها وتبرز… فيفوته الإخلاص وينسد دونه بابه، بينما ينفتح باب الرياء له على مصراعيه… فحصر النظر بأن يؤخذ الدرس والإرشاد مني فقط لأفوز بالثواب الأخروي هو حيلة النفس وخديعة الأنانية))(1). وعدم اتفاق أهل الهداية قد يكون من عدم شعورهم بالحاجة إلي القوة بسبب توكلهم على الله عز وجل والاستسلام اليه، لكن ذلك قد يكون على غير وجهه عندما يفضي بالمرء إلى القعود عن تعاطي الأسباب، ومنها التزام جماعة المسلمين والتعاون معهم والاستزادة بهم من القوة المادية والمعنوية. ولهذا ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة تحث على أخذ جميع أنواع الأسباب والعدة، والتحذير من الركون إلى وعد الله بالنصر من غير أخذ الأسباب التي نيط بها هذا النصر. من ذلك مثلا قوله تعالى :" وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ " (البقرة 195).
__________
(1) –(( اللمعات)) ص 230-231.(1/31)
وهذه الآية جاءت بعد الأمر بالقتال في قوله عز وجل :" وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(190)وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ(191)فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(192)وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ" (البقرة 190-194) ففي هذه الآيات جملة أوامر للمسلمين بقتال المقاتلين لهم وقتل المعتدين وعدم التساهل في ذلك. ولما كان قتالهم هذا يحتاج إلى عدة واستعداد، ولما كان يخشى عليهم أن يقصروا في أخذ الأسباب الكاملة لذلك، اعتمادا على ما وقر في قلوبهم من تأييد الله لهم ووعدهم بالنصر المبين، جاءت هذه الآية لتأمرهم بالاستعداد وأخذ جميع أسباب القوة، وأول هذه الأسباب القوة المادية ، ولذلك أمرهم بالإنفاق، ونهاهم عن التهلكة وهي القعود عن أخذ أسباب القوة وإعداد العدة. يقول الطاهر بن عاشور:" فإنهم لما أمروا بقتال عدوهم، وكان العدو أوفر منهم عدة حرب، أيقظهم إلى الاستعداد بإنفاق الأموال في سبيل الله. فالمخاطبون بالأمر بالإنفاق جميع المسلمين لا خصوص المقاتلين. ووجه الحاجة إلى هذا الأمر - مع أن الاستعداد للحرب مركوز في الطباع – تنبيه المسلمين فإنهم قد يقصرون في الإتيان على منتهى(1/32)
الاستعداد لعدو قوي، لأنهم قد ملئت قلوبهم إيمانا بالله وثقة به، وملئت أسماعهم بوعد الله إياهم النصر، وأخيرا بقوله " واعلموا أن الله مع المتقين " نبهوا على أن تعهد الله لهم بالتأييد والنصر لا يسقط عنهم أخذ العدة المعروفة، فلا يحسبوا أنهم غير مأمورين ببذل الوسع لوسائل النصر – التي هي أسباب ناط الله تعالى بها مسبباتها على حسب الحكمة التي اقتضاها النظام الذي سنه الله في الأسباب ومسبباتها، فتطلب المسببات دون أسبابها غلط وسوء أدب مع خالق الأسباب ومسبباتها ..." (1)
... فمن ركن إلى إيمانه بالله وثقته به وهو يحسب أن ورعه وإيمانه يغنيه عن اجتماعه بغيره وتعاونه معه وطلب نصرته ومؤازرته، فقد أساء فهم الشريعة وغفل عن مقتضى التدين الحق والورع الصحيح، وذهل عن حقيقة الحياة وسنن الاجتماع ونظام الكون وما أودع الله تعالى فيه من أسباب تفضي إلى مسبباتها وشروط تؤدي إلى نتائجها. ومن ذلك أن قوة الإسلام واشتهار الحق لا بد لهما من قوة المسلمين وقوة شوكتهم، وقوتهم لابد لها من تعاون وتآزر. فمن ترك التعاون وهو يظن أنه مستغنى بنفسه بسبب قوة إيمانه، فقد خالف الشريعة من حيث ظن موافقتها وناقض سنة الله عز وجل في خلقه. ولهذا أمر الله تعالى المؤمنين في آيات كثيرة من كتابه العزيز بالتعاون على البر والتقوى والعمل الجماعي الذي يكون فيه الفرد بمنزلة لبنة في بناء، والآيات والأحاديث في هذا الموضوع كثيرة، وذلك لئلا يتوهم المؤمن أنه قد يستغني عن غيره من أهل الإسلام .
__________
(1) - "التحرير والتنوير" 2/12 . ط: الدار التونسية للنشر.(1/33)
ومثل أهل الهداية وأهل الضلالة في هذا كمثل الأسود والوعول، فالأسود لفرط قوتها تعيش فرادى، ولا تشعر بالحاجة إلى الاتفاق والاجتماع، وأما الوعول والظباء فتعيش جماعات خوفا من الذئاب. (( إن الذين ينشدون الحق لا يرون وجه الحاجة إلى معونة الآخرين لما يحملون في قلوبهم من إيمان قوي يمدهم بسند عظيم يبعث فيهم التوكل والتسليم، حتى لو احتاجوا إلى الآخرين فلا يتشبثون بهم بقوة. أما الذين جعلوا الدنيا همهم، فلغفلتهم عن قوة استنادهم ومرتكزهم الحقيقي يجدون في أنفسهم الضعف والعجز في إنجاز أمور الدنيا فيشعرون بحاجة ملحة إلي من يمد لهم يد التعاون فيتفقون معهم اتفاقا جادا لا يخلوا من تضحية وفداء. وهكذا فلأن طلاب الحق لا يقدرون قوة الحق الكامنة في الاتفاق ولا يبالون بها ينساقون إلي نتيجة باطلة وخيمة تلك هي الاختلاف))(1). أما دواء هذا الداء فهو العلم بأن رضى الله لا ينال الا بالإخلاص وليس بكثرة الأتباع، فالتوفيق في العمل وتكثير الأتباع مما يتولاه الله عز و جل. والإخلاص في العمل إنما يتحقق بصدق الرغبة في إفادة المسلمين عامة أيا كان مصدر الاستفادة، من كل شخص صدر وعلى لسان كل فريق. ويوجه الأستاذ سعيد النورسي في هذا الشأن نداء إلى أهل الحق فيقول: (( فيا من يحرص على المزيد من الثواب ولا يقنع بما قام به من أعمال للآخرة، اعلم أن الله سبحانه قد بعث أنبياء كراما وما آمن معهم إلا قليل، ومع ذلك نالوا ثواب النبوة العظيم كاملا غير منقوص. فليس السبق والفضل إذا في كثرة التابعين المؤمنين، وإنما في نيل شرف رضى الله سبحانه. فمن أنت أيها الحريص حتى ترغب أن يسمعك الناس كلهم، وتتغافل عن واجبك وتحاول أن تتدخل في تدبيره وتقديره… إعلم أن تصديق الناس كلاملك وقبولهم دعوتك وتجمعهم حولك إنما هو من فضل الله يؤتيه من يشاء، فلا تشغل نفسك فيما يخصه سبحانه من تقدير وتدبير، بل اجمع همك في القيام بما
__________
(1) – ((اللمعات)) ص 233-234.(1/34)
أنيط بك من واجب))(1)
-4-غياب ميزان العقل وعدم تقدير الأمر حق قدره:
فقد يكون العمل مطلوبا محمودا شرعا، غير أن الحاجة إلي غيره قد يكون أكبر وأعظم، وقد يعطى المرء للعمل من المكانة أكثر مما هو عليه في نفس الأمر. فما أكثر من يصرف الوقت في الأوراد والأذكار والتأمل فينسحب من الميدان ويصبح وسيلة في توهين الاتفاق وسببا في إضعاف الجماعة المسلمة. يقول رحمه الله: (( ذلك لأن المسائل التي تظنونها جزئية وبسيطة ربما هي على جانب عظيم من الأهمية في هذا الجهاد المعنوي. فكما أن مرابطة جندي في ثغر من الثغور الإسلامية- ضمن شرائط خاصة مهمة- لساعة من الوقت قد تكون بمثابة سنة من العبادة، فإن يومك الثمين هذا الذي تصرفه في مسألة جزئية من مسائل الجهاد المعنوي ولا سيما في هذا الوقت العصيب الذي غلب أهل الحق فيه على أمرهم، أقول إن يومك هذا ربما يأخذ حكم ساعة من مرابطة ذلك الجندي، أي يكون ثوابه عظيما، بل يكون يومك هذا كألف يوم))(2). وأشار رحمه الله من ذلك إلي الوعاظ المبالغين في الترغيب والترهيب كجعل الغيبة كالقتل، وإظهار التبول وقوفا بدرجة الزنا… قال : (( إن الوعاظ الذين لا يملكون موازين ويطلقون الكلام جزافا قد سببوا حجب كثير من حقائق الدين النيرة))(3) . وقد غضب رحمه الله لذلك لما رأى أن هذا لا يقتصر ضرره على المسلمين وإنما يتعداهم إلي إبعاد الشقة أكثر بين المتدينين والعلمانيين، وبين الإسلام وغير المسلمين فيقول: (( أيها الظالمون الذين يحاولون جرح الإسلام ونقده من بعيد من الخارج، زنوا الأمور بالمحاكمة العقلية ولا تنخدعوا ولا تكتفوا بالنظر السطحي، فهؤلاء الذي أصبحوا سببا لأعذاركم الواهية في نقد الإسلام يسمون بلسان الشريعة- علماء السوء- فانظروا إلي ما وراء الحجاب الذي ولده عدم موازنتهم للأمور وتعلقهم الشديد بالظاهر، سترون أن كل حقيقة من حقائق
__________
(1) –نفسه ص 231.
(2) –نفسه ص 236.
(3) – (( صيقل الإسلام)) ص 46.(1/35)
الإسلام برهان نير كالنجم الساطع يتلألأ على تفش الأزل والأبد))(1) ومرة أخرى يتألم حسرة من هذا فيقول عن نفسه: (( فإن هذا الفقير الغريب النورسي الذي يستحق أن يطلق عليه بدعة الزمان الا انه اشتهر دون رضاه ببديع الزمان، فهذا المسكين يستغيث ألما من حرقة فؤاده على تدني الأمة ويقول : آه…آه… وأسفي لقد انخدعنا فتركنا جوهر الإسلام ولبابه وحصرناه في قشره وظاهره))(2). ودواء هذا الداء هو الاحتكام إلي ميزان العقل والشرع معا، الذي يزن الأعمال بحسب مقاصدها وحكمها وغايتها، وبحسب مآلاتها في كل زمن بحسبه.
-5-انعدام التنظيم وقلة الضبط في الأعمال:
__________
(1) –نفسه ص 48.
(2) –نفسه ص 22.(1/36)
وقريب من هذا الوصف ما كان عند المحدثين من التفريق بين الدين والأمانة والضبط والإتقان، فتجدهم لا يكتفون بالأول دون الثاني فيقولون مثلا: "فلان ثقة في دينه مغفل في حديثه"، وذلك بسبب عدم ضبطه لحديثه وقلة إتقانه لعلمه فيستحق الترك. فكذلك في هذا العصر تجد المرء قد بلغ الغاية في الورع والدين والأمانة، لكن فيما بينه وبين الناس وفي أمور المعاش والمعاملات لا يتحرى الإتقان والكمال، فإن أتقن عملا ضيع أعمالا، وإن أتى واجبا غفل عن واجبات مثله. وتجد الفرض الواحد من فروض الكفاية يتوارد عليه أكثر من واحد، وتجد فرضا آخر ربما أعظم منه لا يجد من يتولاه. وسبب ذلك في نظر سعيد النورسي هو أن أهل الحق أمامهم جبهات كثيرة متنوعة وعليهم واجبات كثيرة، منها ما هو لله تعالى ومنها ما هو للأقارب والأرحام والأبناء، ومنها ما هو للمجتمع وعامة الناس من جلب الصلاح والنفع لهم، ومنها صد كيد الأعداء ورد الشبه واتقاء الضربات الداخلية والخارجية، مع ما يجب على الفرد أولا في خاصة نفسه من التعلم والتربية الإيمانية وتهذيب النفس، فتجد المرء يحاول ذلك كله، وربما ظن أنه مستغن بنفسه، وهيهات أن يسد كل هذه الثغور. يقول رحمه الله (( إن اختلاف أهل الحق ليس ناشئا من فقدان الشهامة والرجولة ولا من انحطاط الهمة وانعدام الحمية… بل إن أهل الحق وجهوا نظرهم إلي ثواب الآخرة-على الأكثر- فتوزع ما لديهم من حمية وهمة وشهامة إلي تلك المسائل المهمة والكثيرة. ونظرا لكونهم لا يصرفون أكثر وقتهم الذي هو رأسمالهم الحقيقي إلي مسألة معينة واحدة فلا ينعقد اتفاقهم عقدا محكما مع السالكين في نهج الحق، حيث إن المسائل كثيرة والميدان واسع. أما الدنيويون الغافلون فلكونهم يحصرون نظرهم حصرا في الحياة الدنيا- فهي أكبر همهم ومبلغ علمهم- تراهم يرتبطون معها بأوثق رباط وبكل ما لديهم من مشاعر وروح وقلب))(1). ودواء ذلك هو الاجتماع
__________
(1) –((اللمعات)) ص 234-235.(1/37)
والتعاون وتنظيم الأعمال، وصرف الجهد إلي ما هو أولى وما تشتد إليه الحاجة بحسب ظروف الحال والزمان والمكان. ولهذا- إعمالا لهذا الأصل- صرف سعيد النورسي جهده إلي حفظ الإيمان على الأمة فانقطع إليه في مرحلة (( سعيد الجديد)) من حياته لما اعتزل السياسة، لأنه لا سياسة إذا ضاع الإيمان من النفوس، وأوصى طلبته بذلك. يحكي أحدهم عن أول لقاء له معه فيقول (( في أول زيارتي للأستاذ وأنا أحسبه شيخا من شيوخ الصوفية، بادرني بالقول قبل أن أتكلم بشيء: أخي أنا لست شيخا، أنا إمام كالغزالي والإمام الرباني، فأنا مثلهم إمام، فعصرنا عصر حفظ الإيمان لا حفظ الطريقة))(1) ولهذا كانت رسائل النور قد وجهت لحفظ الإيمان في النفوس وتجديده في قلوب أهل عصره، وإظهار حقائق القرآن، وقد استعان في ذلك بطلبته وتعاون مع كل من هو أهل لذلك. يقول رحمه الله: (( إن مهمة إيمانية جليلة بحيث تنور عالم الإسلام من جهة، وناشئة من أنوار دهاء قدسي، لا تحمل هذه المهمة على كاهل شخص واحد ضعيف مغلوب ظاهر، يتربص به أعداء لا يعدون وخصماء الداء يحاولون التنقيص من شأنه بالإهانات. فلو حملت وتزعزع ذلك الشخص العاجز تحت ضربات إهانة أعدائه الشديدة لسقط الحمل وتبعثر))(2). وفي مسألة تعدد الجبهات ووفرة الواجبات يقول: (( والعلاج هو اتخاذ المرء أحد العلوم أساسا وأصلا وجعل سائر معلوماته حوضا تخزن فيه… فقد دخل أسلافنا جنان العلوم بالعمل على وفق تقسيم الأعمال))(3). وفي إشارته في مواضع كثيرة من رسائل النور وحثه على ضرورة ترتيب الجهات التي يتوجه إليها الجهد والعمل بحسب درجاتها ونوع أثرها، يقول كولن تورنر: (( إن من أهم نقاط ضعفنا هي أننا… وجهنا اهتماما أكثر من اللازم إلى الأمور الفرعية الثانوية والى مسائل من الدرجة الثانية من الأهمية بدلا من الأمور الأساسية. ورسائل النور أزالت عدم
__________
(1) –(( سيرة ذاتية)) ص 524.
(2) – نفسه ص 370.
(3) –(( صيقل الإسلام)) ص42-43.(1/38)
التوازن هذا فأعطت الأهمية الأولى لحقائق الإيمان، هذه الحقائق التي – إن توضحت- ظهرت بأن المسائل الفرعية الأخرى بأجمعها لا جدوى منها ولا خطر لها)).(1)
6-فشو الاستبداد وغلبة التقليد والتعصب :
وهذا الداء يجعل المرء لا يراعي حق غيره في النظر والاجتهاد، فلا يلتفت إلي غيره ولا يهتدي الا برأيه ولا يراعي من قد يخالفه، فلعله يكون أمكن منه في النظر والاجتهاد. (( فالرأي الشخصي المستبد والتفكير الانفرادي… يبدد أعمال الإنسان رغم أنه مكلف بفطرته برعاية حقوقه ضمن رعايته لحقوق الآخرين))(2) يقول رحمه الله: "اعلم أن من ظلم البشر إعطاء ثمرات مساعي الجماعة لشخص وتوهم صدورها منه، فيتولد من هذا الظلم شرك خفي، إذ صدور محصل كسب الجماعة… من شخص، لا يمكن إلا بتصور ذلك الشخص ذا قدرة خارقة ترقت إلى درجة الإيجاد…"(3) ومن ذلك التعصب للرجال الناشئ من فرط محبتهم والتعلق بهم بسبب ما هم عليه من الدين والورع والصلاح، مع أن الدين والصلاح لا يغني في مجال العلم والمعرفة عن الإتقان والضبط.
فقد يكون الرجل أورع أهل زمانه وفي الوقت نفسه لا يصلح أن يأخذ عنه علم مخصوص لكونه ليس من أهله، أو لا يصلح للعلم أصلا، فهو بمنزلة الثقة غير الضابط على اصطلاح المحدثين. ومنه أن التعصب للمذاهب الفقهية وعدم استحلال الخروج على المذهب، ومن خرج عنه أو اجتهد خارجه حمل عليه في علمه وربما في دينه. وقد سبق أن سعيد النورسي قد اشتكى كثيرا من علماء عصره وساءه حالهم حتى سماهم (( علماء السوء)).
__________
(1) –(( التجديد وبديع الزمان)) كولن تورنر. المؤتمر العالمي حول بديع الزمان النورسي –استامبول 1992 ص 211.
(2) –((صيقل الإسلام)) 433.
(3) - مرشد أهل القرآن إلى حقائق الإيمان" ص 105 .(1/39)
فهذه خلاصة أسباب الاختلاف والتنازع إلى عددها الأستاذ سعيد النورسي وذكرها في أكثر من موضع من رسائله، فهي التي جعلت أهل الإسلام في عصره وما بعده إلى يومنا هذا طوائف وجماعات متنازعة تتراشق بالطعن والتجريح، فنجد الشيعة وأهل السنة، وتجد العلمانيين والفقهاء المقلدين والطرق الصوفية، وأهل الظاهر. ومازال الوضع على ذلك إلي يومنا هذا وإن كان قد زيد في بعض التسميات والمصطلحات والنعوت، أما الطوائف والتوجهات فهي نفسها. فنجد الصوفية والسلفية ونجد العلمانيين والاسلاميين، ونجد التنظيمات الإسلامية أو الحركات الإسلامية. وليس سرا أفشيه إذا قلت إن النزاع بينها قد يصل أحيانا إلي درجة التكفير، وان كثيرا منها يدعي الحق بجانبه والصواب قاصر عليه ويتخذ غيره موضعا للسخرية وخطل الرأي، ومنها من ليس له من الجهد والعمل الا الرد على غيره وتسفيه رأيه، وقد يكون ذلك في بعض ما يقبل الخلاف والنظر ولا يمكن القطع فيه برأي، فتجد المسلم يحذر المسلم من المسلم، وما ذلك الا لأنه خالفه في الرأي والاجتهاد. وكفى بذلك دليلا على أن هذا الوضع ليس سليما قطعا. وإنما أوردنا ذلك بقصد الإصلاح وتجاوز هذا الوضع الذي أضعف قوة المسلمين وجعلهم لقمة سائغة لخصومهم الذين لا يكفون عن إثارة الإحن وبعث العداوة بين هذه التوجهات فيضربون بعضها ببعض. وهذا أمر واقع مشاهد وليس أمرا مظنونا أو متوهما.(1/40)
وقد اجتهد الأستاذ سعيد النورسي رحمه الله طول عمره لمداواة هذا الداء فكان كلما ذكر علة من العلل اتبعها بدوائها. فداء توهم التعارض بين القرآن والعلم، وبين الإسلام والتحديث جعل له دواء إصلاح التعليم والجمع بين علوم الوحي وعلوم الكون والحياة. وأما داء الاستسلام لطبائع النفس البشرية فجعل له التربية وتعهد النفس بالتزكية وتجديد الإيمان. وجعل لداء توهم الاستغناء وعدم الحاجة إلي المآزرة وعدم تقدير الأمور حق قدرها-جعل له- الاحتكام إلي ميزان العقل المهتدي بالشرع الذي يأخذ في الاعتبار أحوال الزمان والمكان وحكم التصرفات ومقاصدها ومآلات الأعمال وآثارها القريبة والبعيدة. أما انعدام الضبط والتنظيم فجعل له ضرورة التخصص وتقسيم الأعمال وترتيبها بحسب درجة الوجوب ودرجة الحاجة. فهذه الخطوات كلها يجب على كل مسلم القيام بها في خاصة نفسه، وتتأكد خاصة على أهل العلم وكل من يرجع إليه ويهتدى برأيه. ولم يكتف الأستاذ سعيد النورسي بهذا وإنما حرر قواعد شرعية وضوابط واقعية جعلها دستورا يتفق عليه كل من انتسب إلى الإسلام، ولا ينكرها من أنصف ونظر بعين العقل وتجرد عن الهوى ونزعات النفس.
المبحث الثاني: الأسس النظرية للوحدة الفكرية:(1/41)
... وهي قواعد أنزلها الله عز وجل في كتابه وذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته ورسخها في جهاده لتبليغ رسالة ربه، فلا يسع أحدا من أهل الإسلام إلا التسليم بها وحفظها في صدره واستيعابها بعقله وقلبه. ومن حفظ هذه القواعد وعقلها عرف أن الروابط التي تجمع أهل الإسلام أعظم وأكبر من أن تنال منها الخلافات النظرية وأن تؤثر فيها نزعات النفس البشرية. ومن هذه الأسس أيضا قواعد تشهد بصحتها العقول السليمة وترشد إليها حقائق الزمان وتقلبات الحياة الإنسانية كما تبدو للعقل على امتداد الزمان والمكان. فهذه الأسس يقرها الوحي المعصوم وتقبلها العقول السليمة. وان استحضارها والعمل بها لقمن أن يوحد بين عقول المسلمين ويقرب بين أفكارهم ويؤلف بين قلوبهم ويجمع جهدهم واجتهادهم على اختلاف أفكارهم وتنوع أنظارهم، وقمن أن يرسخ روابط الحوار والتعاون النافع المحمود بين المسلمين وغيرهم، خاصة مع عقلاء البشر وذوي الحكمة منهم الذين لا تخلو منهم أمة من أمم البشر. ويمكن تصنيف هذه الأسس إلي أسس شرعية وأسس عقلية، وإنما هو تصنيف منهجي لأن الأسس الشرعية يؤيدها العقل، والأسس العقلية حاضرة في الأسس الشرعية ومعللة بها.
1-الأسس الشرعية:
والمقصود بها ما ثبت على جهة القطع وتواردت عليه آيات الذكر الحكيم وشهدت به السنة القولية والعملية، من وجوب حفظ حرمة كل من صدق فيه وصف الإسلام في دمه وماله وعرضه، ووجوب حفظ أخوة الإسلام، والتعاون بين المسلمين ونبذ النزاع والشقاق. وقد سمى الأستاذ سعيد النورسي هذه الآيات والأحاديث دساتير، للإشارة إلي أنها فوق الجميع وأنها أسمى وأعظم من أن تمتد إليها المراجعة أو التبديل، وأن أعمال جميع المسلمين يجب ألا تخرج عنها، فهي الضابط الأعلى والقانون الأسمى، فليس هناك حالة استثناء يحل فيها الخروج عليها.
وهذه الدساتير هي :(1/42)
- قول الله تعالى : ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)). ( الحجرات: 10)
قوله عز وجل: ((وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)). ( الأنفال: 46 )
قوله تعالى: ((وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )). (المائدة : 2 )
قوله عز وجل : ((وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ)). ( البقرة :238 )
قول الله تبارك وتعالى : ((وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِي)) . (البقرة: 41 )
قوله عز وجل : ((فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى اللَّهِ)). ( يونس: 72 )
قول الله تعالى: ((وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)).( النور: 54 )
قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا))(1) .
__________
(1) – صحيح البخاري ، كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره.(1/43)
ولا يخفى على أحد أن الآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وكلها توجب التعاون وتمنع التنازع والشقاق. والخطاب في ذلك يشمل عامة المسلمين وفيهم أهل المعاصي وكل من لا يصح تجريده من وصف الإسلام. فوجود الفساق وأهل المعاصي لا يحل بحلال أن يكون سببا للشقاق والتنازع، وكذلك وجود الاختلاف في النظر والاجتهاد. وقد عقد سعيد النورسي مبحثا في المكتوب الثاني والعشرين من المكتوبات لهذه المسألة وصدره بهذه الدساتير القرآنية فقال: ((المبحث الثاني يدعو أهل الإيمان إلى الأخوة والمحبة… بسم الله الرحمن الرحيم (( إنما المؤمنون اخوة فأصلحوا بين أخويكم)) الحجرات –10-))(1). ويلاحظ أن هذه الآيات والأحاديث التي جعلها النورسي دساتير لا تخرج عن مسألتين اثنتين، هما وجوب الوحدة والتعاون ووجوب حفظ الإخلاص وصيانته. وما ذلك إلا لأن عمل العقل وعمل النفس لا يستغنى بأحدهما عن الآخر، لأن العقل قد يقر بوجوب التعاون لكن عمل النفس قد يشوش على ذلك. وتربية النفس على الإخلاص هي العاصم من ذلك، يقول رحمه الله: ((فلا مناص لنا الا بذل كل ما في وسعنا من جهد وطاقة كي نظفر بالإخلاص فنحن مضطرون إليه… إذ لو لم نفز به لضاع منا بعض ما كسبناه من الخدمة المقدسة… حيث نكون ممن يشملهم النهي الإلهي وتهديده الشديد في قوله تعالى: (( ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا)) بما أخللنا بالإخلاص فأفسدنا السعادة الأبدية لأجل مطامع دنيوية… إرضاء لمنافع جزئية تافهة أمثال الإعجاب بالنفس والرياء، ونكون أيضا من المتجاوزين حقوق إخواننا في هذه الخدمة…))(2) فإذا تمخض الإخلاص أثمرت دساتير الوحدة والتعاون، فينتبه العقل إليها كما قال الأستاذ النورسي: (( فلأن طلاب الحق لا يقدرون قوة الحق الكامنة في الاتفاق ولا يبالون بها ينساقون إلي نتيجة باطلة وخيمة هي الاختلاف… وطريق النجاة من هذا الواقع
__________
(1) –"المكتوبات " ص 339.
(2) –((اللمعات)) ص 241 .وانظر منه أيضا ص 227.(1/44)
الباطل الأليم والتخلص من هذا المرض الفتاك - مرض الاختلاف الذي ألم بأهل الحق - هو اتخاذ النهي الإلهي في الآية الكريمة((لا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)) –الأنفال: 46- واتخاذ الأمر الرباني في الآية الكريمة ((وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى))- المائدة 2- دستورين للعمل في الحياة الاجتماعية))(1). ويوجه النداء إلي أهل الإيمان: (( أيها المؤمنون إن كنتم تريدون حقا الحياة العزيزة وترفضون الرضوخ لأغلال الذل والهوان، فأفيقوا من رقدتكم وعودوا إلى رشدكم وادخلوا القلعة الحصينة المقدسة ((إنما المؤمنون إخوة)) –الحجرات 10- وحصنوا أنفسكم بها من أيدي أولئك الظلمة الذين يستغلون خلافاتكم الداخلية… فيا معشر أهل الإيمان إن قوتكم تذهب أدراج الرياح من جراء أغراضكم الشخصية وأنانيتكم وتحزبكم، فقوة قليلة جدا تتمكن من أن تذيقكم الذل والهلاك. فإن كنتم حقا مرتبطين بملة الإسلام فاستهدوا بالدستور النبوي العظيم ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)) وعندها فقط تسلمون من ذل الدنيا وتنجحون من شقاء الآخرة))(2) . ولاشك أن استحضار هذه الدساتير يوقظ عقول أهل الإسلام للاجتماع والتآزر ولو اختلفت اجتهاداتهم وأنظارهم. ومن عرف هذه الدساتير من المسلمين فلم يسع لمآزرة أهل الإسلام جميعا- ولو كانوا يخالفونه في بعض الاجتهادات- فإما أنه قد ذهب عقله أو أن شهوات النفس حجبت نور عقله، فلينظر أي الوصفين يصدق عليه.
2-الأسس العقلية:
وهي حقائق كونية واقعية يدل عليها تعاقب الزمان واستقراء أحوال البشر عبر الزمان والمكان وهي:
__________
(1) –(( اللمعات)) ص 234.
(2) –((المكتوبات)) ص: 250(1/45)
1-إن الاجتماع والتعاون في هذا العصر ضرورة حياة للمسلمين، فهم في غاية القلة والضعف والفقر، وأعداؤهم على قوة ومنعة، ويحيطون بهم من كل جانب يسمونهم سوء العذاب ويلقون بالشبهات لصرف قلوب أبنائهم عن الإسلام(1) . فهل يستجيز العاقل منهم أن يصرف جهده لتتبع عثرات إخوانه ويجتهد لحمل الناس على التزام المندوبات والمستحبات أو حتى بعض الواجبات المختلف فيها بين المجتهدين، أو يعلن الحرب على المسلمين لأنهم مبتدعة والعدو يعلن الحرب على الجميع؟ فبداهة العقل تفرض الاجتماع والتعاون وإلا – كما يقول سعيد النورسي – ((تعجزون عن الدفاع عن حقوقهم بل حتى عن الحفاظ على حياتكم إذ لا يخفى أن طفلا صغيرا يستطيع أن يضرب بطلين يتصارعان، وأن حصاة صغيرة تلعب دورا في رفع كفة ميزان وخفض الأخرى ولو كان فيهما جبلان متوازنان…))(2). (( إن هذا الزمان زمن الجماعة، فلو بلغ دهاء الأشخاص فردا فردا حد الخوارق فلربما يغلب تجاه الدهاء الناشئ من شخص الجماعة المعنوي… إن مهمة إيمانية جليلة… لا تحمل هذه المهمة على كاهل شخص واحد ضعيف مغلوب ظاهرا، يتربص به أعداء لا يعدون وخصماء الداء يحاولون التنقيص من شأنه بالإهانات. فلو حملت وتزعزع ذلك الشخص العاجز تحت ضربات وإهانة أعدائه الشديدة لسقط الحمل وتبعثر))(3) . فبداهة العقل تقضي أن الاجتماع والتعاون خير وقوة ومصلحة، وأن الاختلاف والشقاق ضعف وعجز، وان المسلمين (( بحاجة ماسة بل مضطرون إلي الاتحاد والتساند التام والى الفوز بسر الإخلاص الذي يهيئ قوة معنوية بمقدار ألف ومائة وأحد عشر 1111- ناتجة من أربعة أفراد… هناك شواهد ووقائع تاريخية كثيرة جدا أثبتت أن ستة عشر شخصا من المتآخين المتحدين المضحين بسر الإخلاص التام تزيد قوتهم المعنوية وقيمتهم على أربعة آلاف شخص…))(4). ويزيد الأستاذ سعيد
__________
(1) –انظر ((اللمعات)) ص 241.
(2) – ((المكتوبات)) ص 350.
(3) –((سيرة ذاتية)) ص 370.
(4) –((اللمعات)) ص: 243.(1/46)
النورسي هذه الحقيقة بيانا بالوقائع والشواهد والأمثلة من واقع الناس وحياة البشر. ((فأرباب الدنيا قد اتخذوا الاشتراك في الأموال والتعاون في المنافع والمصالح العاجلة رائدا لهم فكسبوا قوة هائلة وانتفعوا منها نفعا عظيما، ذلك لأن ماهية الاشتراك لا تتغير المساوئ والأضرار التي فيها، لأن كل شخص وفق هذه القاعدة يحسب بمثاله المالك لجميع الأموال وذلك من زاوية مشاركته في المال من جهة مراقبته وإشرافه عليه، برغم أنه لا يمكنه أن ينتفع من جميع الأموال. وعلى كل حال فإن هذه القاعدة إذا دخلت في الأعمال الأخروية فستكون محورا لمنافع جليلة بلا مساوئ ولا ضرر))(1). ويستطرد رحمه الله في ضرب الأمثلة الحسية والواقعية التي لا يمكن للعاقل الا التسليم بها وبما سيقت من أجله، منها قوله: ((اشترك خمسة أشخاص في إشعال مصباح زيتي، فوقع على أحدهم إحضار النفط وعلى الآخر الفتيلة وعلى الثالث زجاجة المصباح… فعندما أشعلوا المصباح أصبح كل منهم مالكا لمصباح كامل… وهكذا الأمر في الاشتراك في الأمور الأخروية بسر الإخلاص…))(2) ((إن هذا الزمان –لأهل الحقيقة- زمان الجماعة، وليس زمان الشخصية الفردية وإظهار الفردية والأنانية. فالشخص المعنوي الناشئ من الجماعة ينفذ حكمه ويصمد تجاه الأعاصير))(3).
__________
(1) – ((نفسه ص 248.
(2) –نفسه ص 248-249.
(3) –(( سيرة ذاتية)) ص 313.(1/47)
2-إن قيم الرحمة الإنسانية والرفق التي زكاها الإسلام تحمل المسلمين على مد جسور الحوار والتعاون مع عامة البشر خاصة أهل الحكمة والأبرياء. ولقد استخلصت هذه القاعدة من وقفة للأستاذ سعيد النورسي يتأمل فيها حال البشر وتقلبات الزمان وصروف الدهر وخطوبه. فقد استوقف عقله حال الأبرياء من الكفار الذين لا ناقة لهم ولا جمل فيما يقترف الظالمون، وما مصيرهم في ما يصيبهم من البلايا والمصائب؟ ووقفته هذه قد لا يوافق البعض أو الكثير منا على ما قاله فيها، غير أنه مهما كان الأمر فإنها صالحة لما سقناها من أجله. يقول رحمه الله: (( لقد مس مسا شديدا مشاعري وأحاسيسي المفرطة في الرأفة والعطف ما أصاب الضعفاء المساكين من نكبات وويلات ومجاعات ومهالك من جراء هذه الطامة البشرية التي نزلت بهم… ولكن على حين غرة نبهت إلى أن هذه المصائب وأمثالها ينطوي تحتها نوع من الرحمة والمجازاة-حتى على الكافر- بحيث يهون تلك المصيبة، فتظل هينة بسيطة بالنسبة إليهم، وأصبح هذا التنبيه مرهما شافيا لإشفاقي المؤلم على الأطفال والعوائل في أوربا وروسيا.. نعم إن الذين نزلت بهم هذه الكارثة العظمى-التي ارتكبها الظالمون- إن كانوا صغارا وإلى الخامسة عشرة من العمر فهم في حكم الشهداء من أي دين كانوا، فالجزاء المعنوي العظيم الذي ينتظرهم يهون عليهم تلك المصيبة. أما الذين تجاوزوا الخامسة عشرة من العمر فإن كانوا أبرياء مظلومين فلهم جزاء عظيم ربما ينجيهم، لأن الدين-ولاسيما الإسلام- يستر بستر الا مبالاة في آخر الزمان… وقد بلغني من الحقيقة أن تلك النكبات والويلات كفارة بحقهم من الذنوب المتأتية في سفاهات المدنية وكفرانها بهذه النعم ومن ضلالات الفلسفة، وبهذا وجدت السلوان والعزاء من ذلك الألم النابع من العطف المتزايد فشكرت الله شكرا لا نهاية له))(1). فإذا كان هذا هو ما استقر عليه من حال هؤلاء في الآخرة، فبالأولى أن يستقر
__________
(1) –((سيرة ذاتية )) ص 312.(1/48)
على مآزرتهم والتعاون معهم في القيم الإنسانية، ومنهم ذوو الرأي والحكمة والعقل.(1)
3-إن الإيمان بالله تعالى الذي هو أصل الحقائق وأم الحقيقة يحمل المسلمين على التعاون مع من يشارك في هذه الحقيقة أو يقترب منها. ولهذا فإن الأستاذ سعيد النورسي يدعو إلي إقامة العلاقات بين المسلمين وغيرهم على القيم الإنسانية المشتركة، والإيمان بالله على رأس هذه القيم المشتركة. فعلى هذا الأساس يمكن للمسلمين أن يتعاونوا مع أهل الكتاب لصد خطر الإلحاد وما ينتج عنه من التحلل من الأخلاق والقيم. فأهل الكتاب أقرب إلي المسلمين من أهل الإلحاد، ورأيهم واحد في هذا العدو فما الذي يمنع من اجتماعهما على هذا الأصل، وخاصة مع النصارى لأنه قد ورد في الحديث أن الدين الحقيقي لسيدنا عيسى عليه السلام سيحكم – في آخر الزمان- ويتكاثف مع الإسلام. فيمكن القول بلا شك أن ما يكابده المظلومون النصارى المنتسبين إلي سيدنا عيسى عليه السلام والذين يعيشون الآن في ظلمات –الفترة – وما يقاسونه من الويلات تكون بحقهم نوعا من الشهادة، ولاسيما الكهول وأهل النوائب والفقراء والضعفاء والمساكين الذين يقاسون النكبات والويلات تحت قهر المستبدين والطغاة الظالمين.))(2) يقول في هذا المعنى أيضا :" لقد ثبت في الحديث الصحيح أن المتدينين الحقيقيين من النصارى سيقفون في آخر الزمان مستندين إلى أهل القرآن للوقوف معا تجاه عدوهم المشترك : الزندقة . لذا فأهل الإيمان والحقيقة في زماننا هذا ليسوا بحاجة إلى الاتفاق الخالص فيما بينهم وحده، بل مدعوون أيضا إلى الاتفاق حتى مع الروحانيين المتدينين الحقيقيين من النصارى، فيتركوا مؤقتا كل ما يثير الخلافات والمناقشات ، دفعا لعدوهم المشترك الملحد المتعدي. " (3)
__________
(1) –نفسه 313.
(2) –((سيرة ذاتية)) ص 312.
(3) مرشد أهل القرآن ص 61.(1/49)
فهذه هي نظرة الأستاذ سعيد النورسي إلي علاقة المسلمين بغيرهم، فهي تقوم على تصنيف غير المسلمين على مراتب بحسب القرب، والمعيار هو الإقرار بالدين والتدين أو إنكاره أصلا، والقيم المشتركة: مثل حماية المستضعفين ومعاونة المحتاجين وكف الأذى عن المظلومين. ومن الأصول الشرعية المؤيدة لهذا قوله تعالى: ((الم(1)غُلِبَتْ الرُّومُ(2)فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ(3)فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ(4)بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)) –الروم 1-2-. فسمي نصر الروم نصر الله وأقر المسلمين على فرحهم به، وما ذلك الا لقرب الروم إلي المسلمين من الفرس لأنهم نصارى أهل كتاب والفرس أهل الحاد. ومنه قوله تعالى: ((قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)) –آل عمران 64- وقوله تعالى: ((وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزلَ إِلَيْنَا وَأُنزلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ))- العنكبوت:46 -. وقوله عز وجل : ((لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى))- المائدة:82- ومنه أيضا حضور الرسول صلى الله عليه وسلم حلف الفضول في دار عبد الله بن جذعان وقوله:"ِ شَهِدْتُ حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ مَعَ(1/50)
عُمُومَتِي وَأَنَا غُلَامٌ فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ وَأَنِّي أَنْكُثُهُ قَالَ الزُّهْرِيُّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصِبِ الْإِسْلَامُ حِلْفًا إِلَّا زَادَهُ شِدَّةً …"(1). وذلك لأن فيه تعاونا على حماية المظلومين. يقول صفاء مرسل وهو يحكي آراء الأستاذ النورسي:((فالأمم المنتسبة إلي الدين المسيحي والأمم المنتسبة إلي الدين الإسلامي يجب أن يتعاونا ضد الإلحاد وما ينتج عنه من التردي الأخلاقي والسياسي، ويعد هذا حجر الزاوية في آراء بديع الزمان . فبديع الزمان يقسم العلاقات بين النظم المختلفة والتكتلات السياسية المختلفة إلي قسمين: أحدهما العلاقات الموجودة بين أمم الجامعة الإسلامية نفسها، والآخر هو العلاقات الموجود بين العالم الإسلامي وبين الأمم المنتسبة إلي عقائد أخرى وأفكار أخرى. ويقسم بديع الزمان العلاقات مع الأوساط غير الإسلامية إلي قسمين، ويأخذ أيضا الدين كقسطاس في هذا القسم. فقد ميز بين الأمم المنتسبة إلي أحد الأديان والتي تحترم العقائد من أهل الكتاب، وبين الأمم التي لا تؤمن بأي دين وتعادي الفكرة الدينية))(2).
__________
(1) – مسند أحمد ، من حديث عبد الرحمن بن عوف في مسند العشرة المبشرين بالجنة.
(2) –((سلوك بديع الزمان النورسي في العلاقات بين النظم والكتل السياسية)) لصفاء مرسل. المؤتمر العالمي حول بديع الزمان النورسي. استامبول 1992. ص:278-579.(1/51)
وعلى هذا الأساس أيضا يأتي تقويم الأستاذ سعيد النورسي للفكر الغربي الأوربي، فهو لا يصفه بالخطأ والضعف والاضطراب بإطلاق وإنما يصنفه ويرتبه بحسب القرب من الإسلام ومن القيم الإنسانية التي هي من مقاصد الإسلام فيقول: (( ولئلا يساء الفهم، إن الغرب –أوربا- اثنان وخطابي في هذه المحاورة ليس موجها إلي ذلك الغرب النافع للبشرية بما استفاده من النصرانية والحضارة الإسلامية فانتفعت الحياة الاجتماعية البشرية بصناعته وعلومه، وإنما أخاطب الغرب الثاني وذلك الغرب الذي تعفن فسد بظلمات الفلسفة الطبيعية المادية))(1). فروابط الإيمان بالله وإقرار الدين والتدين والعمل من أجل القيم الإنسانية تكفي لتعاون المسلمين مع غير المسلمين في ما يشترك فيه الفريقان.
فهذه هي الأسس والقواعد النظرية التي حررها بديع الزمان النورسي لبناء الوحدة الفكرية بين أهل الإسلام. فالأسس الشرعية من الكتاب والسنة توجب عليهم التعاون والتآزر، ونوائب هذا الزمان وحالهم في هذا العصر تحملهم بالقوة-إن أرادوا أداء الأمانة التي حملوها- على نبذ أسباب الخلاف والشقاق وتوجيه الجهود إلي القضايا الكبرى للمسلمين في العصر الحاضر، وبداهة العقول تدفعهم إلى ذلك دفعا. أما فيما بين المسلمين وغيرهم من النحل فإن روابط الإقرار بدين سماوي ونبذ الإلحاد، والإيمان بالقيم الخلقية والإنسانية الموجودة في أمم كثيرة تحمل على مد جسور الحوار والتعاون معها.
المبحث الثالث:-الأسس العملية للوحدة الفكرية:
__________
(1) –(( الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا)) لحمد نوري النعيمي. ص: 88 ( دار البشير 1992).(1/52)
لقد سبق أن الأسس النظرية هي قواعد شرعية وعقلية تبين مكانة التآزر وفائدة التعاون وما ينشأ عن الاختلاف والتدابر من العجز والضعف. فإذا استوعب أهل الإسلام هذه القواعد فقد خلصت نياتهم لنبذ الخلاف وتأهبت قلوبهم وعقولهم للتعاون والتآزر، فيتم بذلك الاستعداد النفسي. لكن مع ذلك فإن تدافع الأفكار واختلاف الإفهام لن يتوقف، فكيف السبيل إلي ضبط هذا الخلاف؟ تم إن هذه الأسس النظرية لا يمكن أن يقف عندها جميع أهل الإسلام بلا استثناء وإنما سيوجد –ولابد- من يخرج عنها المرة بعد المرة إما بقصد أو بغير قصد، فكيف العمل مع أمثال هذا؟
تأتي الأسس العملية كما وضعها الأستاذ سعيد النورسي لضبط ذلك ولتبين منهج التعامل مع المخالف في الرأي والنظر، ولتمنع من نشوء الفوضى بسبب اختلاف النظر والاجتهاد، ولتبين منهج التعامل مع من يخالف أسس الوحدة الفكرية ويخرقها. ويمكن جمع هذه الأسس العملية في المسائل الآتية:(1/53)
1-جعل الاختلاف في النظر والاجتهاد سببا لإظهار الحق وازدهار المعرفة وثراء الفكر الإسلامي. ذلك أن جمع المجتهدين على رأي واحد فيما ليس موضعا للقطع لن يتأتى أبدا، ولا يظن ذلك إلا من جهل خصائص الشريعة وموارد أدلتها، وجهل حقيقة الحياة وطبائع البشر. وإنما الواجب على أهل الحق أن يجعلوا اختلافهم اختلافا محمودا وهو الذي سماه سعيد النورسي الاختلاف الإيجابي البناء المثبت، وذلك بأن يسعى كل واحد لترويج مسلكه وإظهار صحة وجهته وصواب نظرته، لكن دون أن يسعى إلي هدم مسالك المخالفين له ولا الطعن في نظرهم، لأنهم وإن خالفوه في النظر والاجتهاد فلعلهم نظروا إلي ما لم ينظر إليه ونظر هو إلي ما لم ينظروا إليه. فليكن إذا غرض كل واحد هو إكمال النقص. ثم إن الفريقين وإن اختلفا هنا فإن ما يجمع بينهما أكبر من ذلك، وهما قبل ذلك وبعده متفقان على الأسس والغايات المقطوع بها. يقول سعيد النورسي : ((إن تصادم الآراء ومناقشة الأفكار لأجل الحق وفي سبيل الوصول إلي الحقيقة إنما يكون عند اختلاف الوسائل مع الاتفاق في الأسس والغايات، فهذا النوع من الاختلاف يستطيع أن يقدم خدمة جليلة في الكشف عن الحقيقة وإظهار كل زاوية من زواياها بأجلى صور الوضوح. ولكن إن كانت المناقشة والبحث عن الحقيقة لأجل أغراض شخصية وللتسلط والاستعلاء واشباع شهوات نفوس فرعونية ونيل الشهرة وحب الظهور، فلا تتلمع بارقة الحقيقة في هذا النوع من بسط الأفكار))(1)
__________
(1) –((المكتوبات)) ص 347.(1/54)
فالواجب إذا هو الحرص على الاتفاق ما أمكن، فإن تعذر ذلك بسبب اختلاف النظر والاجتهاد، فليعرض كل رأيه وما أدى إليه اجتهاده بعد أن تحرى الصواب وزكى نفسه من النوازع والشهوات، ولكن ليس له أن ينال من اجتهاد المخالف له بالتنقيص أو الطعن والتجريح، وإنما يبقي الاحتمال قائما لخطأ رأيه وصواب رأي غيره. يقول الأستاذ سعيد النورسي: ((عندما تعلم أنك على حق في سلوكك وأفكارك يجوز لك أن تقول: مسلكي حق أو هو أفضل، ولكن لا يجوز لك أن تقول: إن الحق هو مسلكي أنا فحسب، لأن نظرك الساخط وفكرك الكليل لن يكون محكا ولا حكما يقضي على بطلان المسالك الأخرى، وقديما قال الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة *** ولكن عين السخط تبدي المساويا))(1)
__________
(1) –نفسه ص 242-243.(1/55)
فتجريح المخالف بسبب المخالفة في الاجتهاد حرام، فقد يكون غيبة وقد يكون بهتانا. وقد عمل النورسي رحمه الله بهذا المنهج، فقد كان كثير من علماء عصره يخالفونه في كثير من القضايا، لكنه ما نطق بتجريح ولا تنقيص لواحد منهم. من ذلك مثلا عدم موافقته لبعضهم في ما ذهبوا إليه من أن السير في بعض أمور الحياة على النمط الغربي لا حرج فيه ولو كان مخالفة صريحة للشرع وذلك تمسكا بقاعدة الضرورات تبيح المحظورات. لكنه ما نطق بتجريح ولا تنقيص، ولما تمت محاجته في ذلك أجاب جواب العالم الورع فأورد أدلته على خطأ هذا المذهب بأدب من غير تعنيف ولا تحقير ولا تهييج للمخالف. قال وهو يحكي ذلك: ((أرسل إلي قائد عام عددا من الضباط وحتى بعض العلماء الأئمة من اجل أن يعيدوني شيئا إلي الأمور الدنيوية، فقالوا نحن الآن مضطرون أي أننا مضطرون في تقليد بعض الأصول الأوربية وموجبات المدنية حسب القاعدة المعروفة-أن الضرورات تبيح المحضورات-، قلت لهم: إنكم منخدعون تماما، لأن الضرورة النابعة من سوء الاختيار لا تبيح المحظورات فلا يجعل الحرام بمثابة الحلال… فمثلا إذا سكر شخص بسوء اختياره بشربه الحرام ثم اقترف جريمة وهو سكران فإن الحكم يجري عليه ولا يكون بريئا بل يعاقب… وهكذا قلت للقواد والأئمة أي الأمور تعد ضرورية مما سوى الأكل والعيش، فالأعمال النابعة من سوء الاختيار والميول غير المشروعة لا تكون عذرا كجعل الحرام حلال… وحتى القانون الإنساني قد أخذ هذه الأمور بنظر الاعتبار وميز بين الضرورة القاطعة غير الداخلة ضمن إطار الاختيار والأحكام الناشئة من سوء الاختيار. الا أن القانون الإلهي قد فرق بينهما بشكل أساسي وثابت راسخ ومحكم))(1). فأقام الحجة لمذهبه على مذهب غيره بأدلة علمية من غير تعرض لشخص المخالف ولا لحاله ولا وصفه بالنعوت المجرحة المثيرة لهوى النفوس وما جبلت عليها من الأنفة وحب الظهور. وزاد على ذلك
__________
(1) –(( سيرة ذاتية)) ص 470-471.(1/56)
فأوصى طلبته بذلك فقال: (( إخواني لا تهاجموا بعض العلماء الذين ظنوا بعض الجاءات العصر ضرورة وركنوا إلى البدع. لا تصادموا هؤلاء المساكين الذين ظنوا الأمر ضرورة بدون علم وعملوا وفقها. ولهذا فنحن لا نستعمل قوتنا في الداخل، فلا تتحرشوا بهم وإن كان المعارضون لنا من العلماء الأئمة))(1)
2-العبرة بالأفكار وليس بالأشخاص:
أي أن الميزان الذي به توزن الأقوال ويعرف الصواب من غيره ليس هو شخص القائل، فنزن الحق والعلم بالرجال فتكون الرجال حجة على الحق، فنقول الحق كذا وكذا لأن فلانا قاله، أو ما دام هذا المذهب مذهب فلان فهو خطأ. فالنظر يكون إلي الأفكار في ذاتها من غير أن يؤثر شخص القائل في التقويم من جهة الصحة والخطأ. ولقد كان سعيد النورسي يحث طلبته على ضرورة النظر إلي ما أودعه من أفكار في (رسائل النور) وألا يلتفتوا إلى شخصه. ولما كان طلبته يعدون إخراج كتاب (تاريخ حياة الأستاذ) صمم أحدهم غلاف الكتاب وجعل فيه صورة الأستاذ سعيد النورسي وهو يضع حجر الأساس لجامع توغاي في إسبارطة فلما عرض الغلاف على الأستاذ غضب وقال: (( ما هذه الصورة؟ أنتم تهتمون بشخصيتي أكثر مما أستحق ، فأنا أعد الاهتمام والاحترام لشخصي إهانة لي، إنكم بذلك تتعلقون بي وليس برسائل النور-المرتبطة بالقرآن- فأنا لا أحب نفسي… إنني لا شيء أنا عدم فلا تنتظروا مني شيئا من الخوارق. وبعد ذلك مزق الصورة المرسومة على الغلاف ورماها في سلة المهملات))(2). وكان كثيرا ما يأمر بالتثبت فيما يلقيه على طلبته، وعرض ما يأخذون من أفكاره على ضوابط البحث العلمي وسبره بميزان منهج المعرفة الإسلامية القائم على قبول الحق حيث ما كان ورد الباطل على صاحبه مهما كان مقامه في العلم والفكر، ومهما علا قدره في الدين والأمانة. يقول في ذلك رحمه الله :" فلا تأخذوا شيئا إلا بعد إمراره على المحك ، لأن أقوالا مغشوشة مزيفة قد كثرت في
__________
(1) –نفسه ص 471.
(2) –سيرة ذاتية)) ص: 539.(1/57)
تجارة الأفكار. حتى كلامي أنا لا تأخذوه على علاته- بحسن ظنكم- منه انه صادر مني، فقد أكون مفسدا أو أفسد من حيث لا أشعر- فعلى هذا تيقظوا، ولا تفتحوا القلب لكل طارق. فليظل ما أقوله لكم في يد خيالكم، واعرضوه على المحك، فإن ظهر أنه ذهب فأرسلوه إلى القلب واحفظوه هناك، وإن ظهر أنه نحاس فاحملوه على عاتق ذلك الكلام المنحوس كثيرا ، من الغيبة وشيعوه بسوء الدعاء علي، وردوه خائبا إلي "(1). "
ومن يتدبر كلامه هذا يلفيه قد جمع فيه قواعد الحياة الإنسانية واختصر فيه حقائق النفس البشرية كما خلقها الله عز وجل، وما أودع فيها من الطباع والغرائز والصفات والأحوال. انظر إلى قوله عن نفسه " فقد أكون مفسدا " مع أنه رحمة الله عليه قد حمل نفسه على الورع وملازمة الصلاح ، واجتهد ما استطاع من أجل الإصلاح ، ووقف عمره كله على محاربة الفساد، وشهد له بذلك الخاص والعام. لكنه مع ذلك فتح باب احتمال صدور الفساد منه. وسبب ذلك انه رحمة الله عليه استحضر حقيقة الحياة والإنسان، وهي أن كل مخلوق تعتريه صفات الضعف والنقص ولابد، وأن الكمال للخالق العظيم عز وجل ، وأنه لابد لكل جواد من كبوة كما يقول المثل. وهذه الحقيقة قد بينها القرآن الكريم والسنة النبوية حتى صارت أصلا مقطوعا به. فكل عالم مهما بلغ من العلم والمعرفة يجوز عليه الخطأ والغلط لأنه " فوق كل ذي علم عليم " وإن كل ولي صالح ورع تجوز منه المعصية وتقع منه السيئة وتبدر منه الهفوة، لأنه " كل ابن آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون " (2).
وفي هذا المعنى يقول الإمام الشافعي رحمه الله :
كلما أدبني الدهر أراني نقص عقلي
وأراني ازددت علما زادني علما بجهلي
__________
(1) - مرشد أهل القرآن إلى حقائق الإيمان" ص 227 .
(2) - جامع الترمذي، كتبا صفة القيامة.(1/58)
واعتمادا على هذه الحقيقة أمر بديع الزمان النورسي بالتثبت من كل ما يصدر من الأفكار عن العلماء مهما بلغ شأنهم، لأن الاحتمال قائم دائما أن يصدر الخطأ والسهو من العالم ، فينظر في الأفكار بحسب منهج المعرفة الإسلامية فيحكم عليها بحسبه، فما ظهر أنه حق أخذ به، وما ظهر أنه باطل ترك ولو كان قائله أعلم أهل زمانه. ولا شك أن من مظاهر الضعف والركود في الفكر الإسلامي المعاصر عدم تحكيم هذا الأصل وإغفال هذه القاعدة، فتجد كثيرا من المسلمين – وخاصة منهم الشباب الذي هو في بداية حياته العلمية- يجعل الرجال حجة على الحق، فتجد طائفة تتمسك بهذا المذهب لأنه قول شيخهم أو أستاذهم أو إمام جماعتهم وهيئتهم. وفي مقابل ذلك يعرضون عن حكم أو مذهب لأنه قول فلان وهو مخالف لشيخهم وإمام جماعتهم .(1/59)
ومما يستلفت النظر أيضا من كلام النورسي المتقدم قوله " ولا تفتحوا القلب لكل طارق. فيظل ما أقوله لكم في يد خيالكم، واعرضوه على المحك، فإن ظهر أنه ذهب فأرسلوه إلى القلب، واحفظوه هناك...." وهو كلام نفيس أوجز فيه رحمه الله حقيقة أخرى من حقائق الإنسان وما أودعه الله تعالى في النفس البشرية من الطباع والخصائص. فقد أمر هنا بتأخير القلب حتى ينتهي العقل من نظره، وتستكمل مناهج البحث العلمي عملها، حتى إذا ظهر أن هذا الكلام سليم موافق للحق، فتح القلب ليستقبله. وإنما نص رحمه الله على هذا لأن من خصائص قلب الإنسان أنه إذا أحب شيئا وغالى في حبه، تعطل العقل في شأنه ، كما ورد " حبك الشيء يعمي ويصم ". فإذا تحركت عواطف القلب قبل بحث العقل ونظره، فإنه لا يؤمن أن يظهر الحق باطلا والباطل حقا. وإن الدراسات النفسية المعاصرة قد أثبتت ذلك بالتجربة المتكررة. فمن المعروف في هذا المجال أن الشخص الذي ينتمي إلى مذهب فكري أو حزب سياسي أو طائفة خاصة لها مذهب تخالف به غيرها، إذا كان ممن يحب مذهبه ويتمسك به إلى حد الغلو، ويتعصب له إلى درجة المغالاة ، فإن هذه الصفة التي تلتبس بقلبه، قد تحمله على الكذب في كلامه من غير أن يقصد ذلك. وهذا وجه ما عرف عند علماء الحديث النبوي برد رواية المبتدع الداعية، وهو الذي يتعصب لمذهبه ويشهره بين الناس ويزينه ويفضله على غيره، ويتفانى في دعوة الناس إليه. فبسبب هذا التعصب تركوا روايته وردوا حديثه، مع أنه قد يكون مستقيما في دينه، لكنه غلوه في حب مذهبه قد ملك عليه عقله وقلبه، ولذلك قد يحرف الرواية لتستقيم مع مذهبه من غير أن يقصد التحريف والتزوير. يقول ابن قتيبة في بيان ذلك :" ومن كان بهذه المنزلة ( أي له مذهب يغالي في حبه ويدعو إليه) فلا بأس بالكتاب عنه ( أي الكتابة) والعمل بروايته، إلا فيما اعتقده من الهوى. فإنه لا يكتب عنه ، ولا يعمل به . كما أن الثقة العدل تقبل شهادته على(1/60)
غيره، ولا تقبل شهادته لنفسه ولا لابنه ولا لأبيه، ولا فيما جر إليه نفعا أو دفع عنه ضرر. وإنما منع من قبول قول الصادق فيما وافق نحلته وشاكل هواه، لأن نفسه تريه أن الحق فيما اعتقده، وأن القربة إلى الله عز وجل في تثبيته بكل وجه، ولا يؤمن مع ذلك ، التحريف والزيادة والنقصان ."(1) فهذا الداعية ثقة لا يستحل الكذب حتى فيما يزين بدعته، لكن المحدثين ردوا روايته باعتبار خصائصه النفسية، لأن دعوته إلى بدعته يدل على أنه محب لمذهبه متعصب لرأيه إلى درجة المغالاة. وهذا الحب الشديد لمذهبه قد يحمله على الغلط في الرواية والتحريف في النقل من غير أن يقصد ذلك.
وقد أشار الأستاذ مالك البدري إلى أن الدراسات في علم النفس المعاصر تثبت ذلك فقال:" لقد أصبح الآن من الثابت علميا أن إدراك الفرد يتأثر كثيرا بالعوامل الانفعالية والوجدانية والفكرية التي تهيمن على سلوكه. فالدراسات التجريبية التي أجريت على المتعصبين لمذاهب متطرفة، أو أولئك الذين تحجرت اتجاهاتهم على احتقار أجناس وطوائف معينة من البشر، أظهرت هذه الدراسات أن هؤلاء الأشخاص يدركون المواقف التي لها صلة باتجاهاتهم المتحاملة إدراكا انتقائيا (SELECTIVE PERCEPTION) لا يتذكرون فيما يسمعون أو يشاهدون إلا الجوانب التي تؤيد اتجاهاتهم. أما النواحي التي تتعارض مع اعتقاداتهم، فهم إما يفشلون عن ملاحظتها أصلا أو ينسونها بسرعة أو يشوهونها بطريقة أو أخرى، حتى تتسق مع أفكارهم. ولا يتعمد مثل هؤلاء الكذب عندما يسردون الوقائع التي شاهدوها أو سمعوها مشوهة ناقصة، فالأمر يتم بطريقة لاشعورية ملتوية تفوت على أكثر المتعصبين المتحاملين صدقا وأمانة.(2)
__________
(1) - "تأويل مختلف الحديث" لابن قتيبة ص 81 – 82 (ط: دار الكتب العلمية).
(2) – ((منهج النقد عند المحدثين )) للأعظمي ص 41 .
2 – نفسه ص 42 .
3 – نفسه .(1/61)
ثم أورد مثالا لإحدى التجارب في هذا الموضوع وهي أن باحثا أمريكيا أحضر صورة لرجل زنجي أمريكي حسن الهندام يقف بجوار رجل أبيض يحمل خنجرا كبيرا. وعرض الباحث هذه الصورة على جماعة من الأمريكيين الذين عرفوا بالتعصب ضدا على الزنوج، ثم بعد مدة عاد فسألهم عن ما شاهدوه في الصورة، فأجاب أكثرهم بأن الخنجر كان بيد الزنجي. أما غيرهم ممن لم تظهر عليه علامات التعصب العنصري فقد ذكر الصورة على أصلها وهي أن الخنجر بيد الرجل الأبيض. يقول الأستاذ مالك البدري:" وكلما ارتبطت هذه الاتجاهات بالجوانب الانفعالية الحماسية وكلما نشط الأفراد في الدعوة لأفكارهم وكلما شعروا بتهديد المجتمع لاتجاهاتهم الشاذة، كلما ازدادت ظاهرة الإدراك الانتقائي هذه"(1)2)
فلهذا كله ندرك قيمة كلام سعيد النورسي وأمره بتقديم العقل أولا وإعمال النظر العلمي المجرد عن عواطف القلب وما يحب وما يكره . فلو أحب القلب عالما وتفاني في حبه، وجاء الحق على خلاف كلامه، فإن نور الحق يجب أن يغلب قوة هذا الحب، بل الحب الحقيقي لا يكون إلا للحق حيث كان . وفي هذا المعنى جاء الحديث النبوي: " الحكمة ضالة المؤمن أنه وجدها فهو أحق الناس بها ." (2) ومنه قول الله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ، إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا . وإن تلووا أو تعرضوا فإن كان بما تعملون خبيرا ". وقوله تعالى :" ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى". فالحق والعدل حجة على الرجال وليس الرجال حجة على الحق، فالعبرة بالحق وليس بالرجال، والنظر المعتبر يكون للأفكار وليس للأشخاص .
__________
(2) - جامع الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة.(1/62)
ويدخل في هذا الأصل أيضا عدم التعيين والكف عن ذكر الأسماء وتسمية الأشخاص عند تصحيح الأفكار ومناقشتها والرد عليها. فإذا تعين الرد والتصحيح، فليكن الرد على الأفكار كما هي من غير نسبتها على التعيين، وذلك لقطع طريق نزعات النفس عند هذا المخالف وليبقى أقرب إلي الإنصاف. وقد كان هذا منهج الأستاذ سعيد النورسي ويظهر ذلك واضحا في (رسائل النور). ففي أحيان كثيرة يناقش الأفكار ويحلل في صيغة سؤال وجواب، كأن يقول مثلا: فإن قيل كذا وكذا، فالجواب كذا وكذا. مثال ذلك قوله: (( لقد ورد في حديث شريف-اختلاف أمتي رحمة- والاختلاف يقتضي التفرق والتحزب والاعتداد بالرأي… الجواب… أن الاختلاف الوارد في الحديث هو الاختلاف الإيجابي البناء المثبت…))(1). وهذه الأسئلة التي يوردها إنما هي أفكار متداولة في عصره، بل إن (رسائل النور) في جملتها رد على معظم المذاهب والأفكار المتداولة في عصره، خاصة أفكار العلمانية والمتصوفة وبعض علماء عصره، ومع ذلك فإنه لا يذكر الأشخاص ولا يعين المقصود بالرد والتصحيح. وعندما يحكي كلاما عن عالم من علماء عصره أو حادثة عنه في سياق الرد والتخطئة، فإنه يأتي به في الغالب مبهما مثل قوله: (( كان أحد أصدقائنا السابقين يحمل في قلبه ضغينة وعداء نحو شخص معين، وعندما أثني على هذا الشخص أمامه في مجلس وقيل في حقه أنه رجل صالح وانه ولي من أولياء الله، رأينا أن هذا الكلام لم يثر فيه شيئا فلم يبد ضيقا من الثناء على عدوه، ولكن عندا قال أحدهم أنه قوي شجاع رأيناه قد انتفض عرق الحسد والغيرة لديه…))(2) .
__________
(1) – ((المكتوبات))ص 347.
(2) –((اللمعات)) ص 238 .(1/63)
يقول أحمد نوري النعيمي وهو يبين المنهج المتبع في رسائل النور: (( فهي تمتاز بالعلمية والوضوح التام لمعانيها واتباع الهجوم الحاد على أفكارهم، ولكن مع ذلك يبتعد في نقده أو هجومه عن ذكر الأشخاص… و أما فيما يتعلق بأسلوبه مع معارضيه من علماء الدين وشيوخ الصوفية، فهو يتميز بالهدوء والأدب الغزير والابتعاد عن الهجوم والتقليل من شخصياتهم))(1). إن هذا المنهج-منهج الرد على الأفكار وتوقي تعيين الأشخاص- إنما كان لسعيد النورسي فضل تجديده وإحيائه وإلا فهو منهج راسخ عند السلف الصالح، خاصة في القرون الثلاثة الأولى، ثم تردد عبر العصور عند المحققين من علماء الإسلام.
__________
(1) –((الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا)) ص 88.(1/64)
والأصل الأول لهذا المنهج هو القرآن الكريم ، فقد نزلت آيات كثيرة في بيان عقيدة التوحيد والإيمان بالله عز وجل ونفي الإشراك به. وفي هذا السياق كان الرد على عقائد الكفار و الملحدين والمشركين، وبيان سفه عقولهم وقلة علمهم، فحكى القرآن الكريم أفكار المخالفين وعقائدهم كما هي من غير تقول عليهم ولا زيادة أو نقصان، ثم تولى الرد عليها وبيان بطلانها من غير ذكر أشخاص ولا تعيين أسماء . وعلى كثرة أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكثرة الوقائع والأحداث التي أوذي فيها صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه، لم يصرح القرآن الكريم باسم واحد منهم إلا أبا لهب في قوله عز وجل :" تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1)مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(2)سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ(3)وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ(4)فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ(5)" .(1) (سورة المسد) وكثيرا ما تبدر من أحد الكفار أو المشركين أو المنافقين مكايد وإيذايات بالقول أو بالفعل لرسول الله صلى
__________
(1) ولعل من حكمة هذا التصريح اثبات ان آصرة العقيدة أوثق من آصرة القرابة. وفيه دليل من أدلة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة . قال الزركشي :" أول ما نزل من القرآن بمكة " اقرأ باسم ربك " " ثم "نون والقلم" ثم " يا أيها المزمل" ثم " يا أيها المدثر" ثم " تبت يدا أبي لهب" ( البرهان في علوم القرآن 1/193 ) فتكون بذلك خامس سورة نزلت – وفيها إخبار جازم صريح أن أبا لهب سيصلى نارا ، ومعنى ذلك أنه سيموت على الكفر لا محالة . وليس بمقدور محمد صلى الله عليه وسلم- وهو بشر – أن يقطع في هذا الحكم لولا أنه مؤيد بالوحي ، فلو لا الوحي والنبوة ما نطق بهذا. وفيما سوى هذا لم يرد في القرآن الكريم التصريح باسم أحد من خصوم الرسالة وأعدائها على كثرتهم فلم يذكر القرآن من الأسماء إلا ما ثبت في علم الله أنه سيموت على الكفر .(1/65)
الله عليه وسلم أو لأصحابه، فينزل القرآن الكريم في الموضوع من غير ذكر اسمه. من ذلك مثلا أن الوليد بن المغيرة وصف القرآن الكريم بالسحر وأمر قومه أن يصفوه كذلك، فنزل قول الله عز وجل:" ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا" إلى قوله تعالى "عليها تسعة عشر" ( المدثر:12 – 30 ). فذكر القول وأبهم القائل. ومن ذلك أيضا قول الله عز وجل: "وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ولا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ" ( التوبة:34) . يقول الطاهر بن عاشور: " فالموصول مراد به قوم معهودون يعرفون أنهم المراد من الوعيد، ويعرفهم المسلمون ، فلذلك لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أنب قوما بأعيانهم." (1)
ومثله كشف القرآن الكريم عن كيد المنافقين ومكرهم في الخفاء، فكان يذكر الأفعال والأوصاف دون تعيين الأسماء والأشخاص. ويكفي مثلا لذلك سورة التوبة فإن قدرا كبيرا منها قد كشف أحوال المنافقين وحكى أفعالهم، حتى سميت هذه السورة بالفاضحة. عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: سُورَةُ التَّوْبَةِ قَال:ََ بَلْ هِيَ الْفَاضِحَةُ مَا زَالَتْ تَنزلُ وَمِنْهُمْ وَمِنْهُمْ حَتَّى ظَنُّوا أَنْ لَا يَبْقَى مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا ذُكِرَ فِيهَا.(2) * وواضح جدا لمن يقرأ هذه السورة أنها تحكي الحوادث وتذكر الوقائع وتبهم الأشخاص، فكثرت فيها صيغ تدل على أقوام معهودين لكن من غير تعيين، من ذلك قوله عز وجل:
- "وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ..." الآية: 58 .
__________
(1) -" التحرير والتنوير " 10/176.
(2) - صحيح مسلم، كتاب التفسير، باب في براءة و الأنفال والحشر.(1/66)
- "وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ" ( الآية: 75 - 76).
- "الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ" ( الآية: 79).
- " وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ" (الآية: 107).
"لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمْ الشُّقَّةُ" (الآية: 42).
"وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ" ( الآية:81).
" يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ" (الآية: 94).
"يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ" ( الآية: 96 ).
- "وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ" ( الآية 61).
- "وَمِنْ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمْ الدَّوَائِرَ" (الآية: 98).
- "وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا" ( الآية:124).(1/67)
وأصل هذا في السنة النبوية أيضا، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم نادرا ما يذكر عيوب رجل أو قوم مصرحا بالاسم ، وإنما يذكر الأفعال والتصرفات ويقومها دون تعيين أصحابها، فكان كثيرا ما يقول " ما بال أقوام " أو " ما بال الرجل يقول كذا وكذا أو يفعل كذا وكذا " من ذلك مثلا ما فعله مع عامل له على الصدقة: عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ عَامِلًا فَجَاءَهُ الْعَامِلُ حِينَ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي فَقَالَ لَهُ أَفَلَا قَعَدْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ فَنَظَرْتَ أَيُهْدَى لَكَ أَمْ لَا. ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشِيَّةً بَعْدَ الصَّلَاة،ِ فَتَشَهَّدَ وَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَمَا بَالُ الْعَامِلِ نَسْتَعْمِلُهُ فَيَأْتِينَا فَيَقُولُ هَذَا مِنْ عَمَلِكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَنَظَرَ هَلْ يُهْدَى لَهُ أَمْ لَا. فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَغُلُّ أَحَدُكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا جَاءَ بِهِ لَهُ رُغَاءٌ وَإِنْ كَانَتْ بَقَرَةً جَاءَ بِهَا لَهَا خُوَارٌ وَإِنْ كَانَتْ شَاةً جَاءَ بِهَا تَيْعَرُ فَقَدْ بَلَّغْتُ فَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ ثُمَّ رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ حَتَّى إِنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى عُفْرَةِ إِبْطَيْهِ(1) *
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم.(1/68)
وكان هذا أيضا منهج الراسخين من علماء الإسلام مثل الشافعي وابن قتيبة ومسلم ابن الحجاج والبخاري ، وغيرهم .
فالإمام الشافعي ( ت 204) في كتابه الرسالة كان يحكي مذاهب وأقوالا ليحللها ويرد عليها من غير نسبتها إلي أحد، وإنما يقتصر على قوله ((قال قائل كذا وكذا)). ومثله فعل ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن وفي مختلف الحديث، حيث يرد على أقوال الطوائف الشاذة من غير تعيين ولا تسمية، وإنما كان لا يزيد في حكاية الأقوال عن أصحابها على قوله :" ذكروا كذا وكذا " أو " قالوا كذا وكذا" فيورد حجج مخالفيه وأدلتهم كما هي ، ثم يعلق عليها ويناقشها. ومثله فعل البخاري لما قصد الرد على بعض المخالفين ممن لا يرى الحجة بخبر الآحاد أو ممن انتحل أقوالا شاذة في العقائد، فأورد في صحيحه كتاب الإيمان وكتاب خبر الآحاد وكتاب التوحيد وكتاب الاعتصام، وكلها رد على مذاهب موجودة في عصر البخاري وقبله. من ذلك مثلا قوله في إحدى تراجم صحيحه:" باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إنك امرؤ فيك جاهلية…" قال الحافظ ابن حجر:" قال ابن طال: غرض البخاري الرد على من يكفر بالذنوب كالخوارج…"(1) ومثله قول البخاري: " باب غسل الرجلين ولا يمسح على القدمين" قال ابن حجر: " أشار بذلك إلى ما في كتب الخلاف عن الشيعة أن الواجب المسح اخذا بظاهر قراءة " وأرجلكم" بالخفض…"(2) وذكر الإمام الشاطبي في الموافقات أن المنهج السليم للرد على المبتدعة هو ذكر أفكارهم و أوصافهم دون تعيينهم، قال رحمه الله: (( ولكن الغالب في هذه الفرق أن يشار إلي أوصافهم ليحذر منها ويبقى الأمر في تعيينهم مرجى كما فهمنا من الشريعة. ولعل عدم تعيينهم هو الأولى الذي ينبغي أن يلتزم ليكون سترا على الأمة كما سترت قبائحهم فلم يفضحوا في الدنيا بهافي الحكم الغالب
__________
(1) - " فتح الباري " 1 / 85 .
(2) - نفسه 1 / 266 .(1/69)
العام))(1). ثم بين وجه ذلك بقوله: (( فإن كان من مقتضى العادة أن التعريف بهم على التعيين يورث العداوة والفرقة وترك الموالفة لزم من ذلك أن يكون منهيا عنه إلا أن تكون البدعة فاحشة جدا… وما سوى ذلك فالسكوت عن تعيينه أولى))(2). (( فالترجيح بما يؤدي إلي افتراق الكلمة وحدوث العداوة والبغضاء ممنوع))(3) وحكى عن أبي حامد الغزالي أن أكثر الأخطاء والجهالات إنما رسخها العلماء من فرط المبالغة في إنكارها وتعيين أصحابها فتثور في نفوسهم نوازع الأنفة فتحصل العداوة بين الفريقين، ويبقى الإصرار على الجهالات، فلا الألفة بقيت ولا الجهالات ذهبت. وهذا ما يشير إليه بقوله: (( أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهال أهل الحق، أظهروا الحق في معرض التحدي والإذلاء، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة.))(4) وفي هذا المعنى أيضا يقول سعيد النورسي :" لو كان البعض يضمر سوءا، فينبغي ألا يهاجم ، لأن كثيرا من السيئات كلما بقيت مستورة تحت ستار الحسنة ولم يمزق عنها حجابها وتغو فل عنها ، انحصرت في نطاق ضيق، وربما يسعى صاحبها لإصلاحها تحت حجاب الحياء، ولكن ما أن يمزق الحجاب ويرفع حتى يرمي بالحياء فيزال، وإذا ما أظهر معه الهجوم تتوسع السيئة توسعا هائلا "(5).
3-التزام آداب الحوار والمناظرة كما عرفها السلف الصالح.
__________
(1) –((الموافقات)) 4/101. (دار إحياء الكتب العربية).
(2) –نفسه 4/102-103
(3) –نفسه 4/154.
(4) –نفسه 4/155.
(5) - "مرشد أهل القرآن " ص 126(1/70)
إن من أسس آداب الحوار ومنهج الاختلاف، أن اختلاف العلماء وتناظرهم لا يكون منه بالضرورة إسقاط عدالة بعضهم والغض من قدره بسبب أنه خالف من نحبه ونجله وناظره، فإنكار العالم على الآخر لا يسقطهما أو أحدهما من مقام العلم والولاية(1). ومن ذلك وجوب الإقرار بالحق إذا ظهر على لسان كل فريق عملا بقوله عز وجل ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)) –المائدة:8 -. وهذا ما سماه سعيد النورسي (( دستور الإنصاف وابتغاء الحق الذي ارتضاه علماء فن الأدب والمناظرة والذي يتضمن: إذا أراد المرء أن يظهر الحق على لسانه دون غيره- في مناظرة معينة- وانسر واطمأن أن يكون خصمه على باطل وخطأ فهو ظالم غير منصف، فضلا عن أنه يتضرر نتيجة ذلك لأنه لم يتعلم شيئا جديدا من تلك المناظرة بظهور الحق على لسانه، بل قد يسوقه ذلك إلي الغرور فيتضرر…إن طالب الحق المنصف يسخط نفسه لأجل الحق، وإذا ما رأى الحق لدى خصمه رضي به وارتاح إليه))(2). فالواجب التزام المنهج الذي عبر عنه أحد السلف بقوله: (( ما ناظرت أحدا إلا وددت أن الله أجرى الحق على لسانه)). والواجب إجلال من يتصف بذلك كما قال الشافعي: ((ما أوردت الحق والحجة على أحد فقبلهما مني الا هبته واعتقدت مودته، ولا كابرني على الحق أحد ودافع الحجة الا سقط من عيني))(3). ومن ذلك أن يفرح العالم إذا كفاه غيره أمانة التبليغ كما كان السلف الصالح، فما من محدث الا ود أن أخاه كفاه الحديث ولا فقيه الا ود أخاه الفتيا. يقول سعيد النورسي: (( عليكم أن تفضلوا إخوانكم في
__________
(1) –انظر (سيرة ذاتية)) ص 317.
(2) –((اللمعات)) ص 239.
(3) –((توالي التأسيس لمعالي محمد بن ادريس)) للحافظ بن حجر ص 137. (دار الكتب العلمية).(1/71)
المرتب والمناصب والتكريم والتوجه… في تلك المنافع التي هي خالصة زكية لتعليم حقائق الإيمان إلي الآخرين، فلا تتطلعوا ما استطعتم أن يتم ذلك بأيدكم، بل ارضوا واطمئنوا أن يتم ذلك بيد غيركم لئلا يتسرب الإعجاب إلي أنفسكم))(1).
4-النظرة الشاملة المستوعبة في تقويم الأعمال والأشخاص:
ومعنى ذلك كما قال المحدثون أن العدل المرضي ليس من تحققت فيه العصمة من جميع الذنوب والمعاصي، وان الضابط ليس هو من لم يكن له غلط قط، إنما العدل من غلبت حسناته سيئاته، والضابط من كان ما يحفظ ويتقن أكثر مما يغلط فيه ويهم. وهذا من مقتضى العدالة الربانية لأن "الله تعالى يظهر عدالته الربانية في الآخرة على وفق موازنة الأعمال وتقويمها، برجحان الحسنات أو السيئات، فمن رجحت حسناته وثقلت فله الثواب الحسن وتقبل أعماله، ومن رجحت سيئاته وخفت حسناته فله العقاب وترد أعماله، علما أنه لا تؤخذ كمية "الأعمال" بنظر الاعتبار في هذه الموازنة مثلما ينظر إلى "النوعية".فرب حسنة واحدة ترجح ألف سيئة بل قد تذهبها وتمحوها وتكون سببا في إنقاذ صاحبها."(2) فلا يهجر العالم أو يحط من قدره لأنه بذرت منه أغلاط وظهرت منه زلات، وإنما ينظر هل له من الحسنات ومن الصواب والحق فيحكم بحسب الغالب عليه، لأنه لا أحد يسلم من العيب ولا أحد يعرى عن الغلط، وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون. وقد اعتبر الأستاذ سعيد النورسي من يهجر العالم أو أخاه المسلم لمجرد خطأ ظهر منه معرضا عن هذا المنهج-اعتبره- ظلما شديدا، ويصوره بقوله: (( هب إنك في سفينة أو في دار ومعك تسعة أشخاص أبرياء ومجرم واحد، ورأيت من يحاول إغراق السفينة أو هدم الدار عليكم، فلا مراء انك –في هذه الحالة- ستصرخ بأعلى صوتك محتجا على ما يرتكبه من ظلم قبيح، إذ ليس هناك قانون يسوغ إغراق سفينة برمتها تضم مجرمين طالما فيها بريء واحد. فكما أن هذا ظلم شنيع
__________
(1) –((اللمعات)) ص 245.
(2) - " المكتوبات" ص 573 .(1/72)
وعذر فاضح، كذلك انطواؤك على عداء وحقد مع المؤمن الذي هو بناء رباني وسفينة إلهية لمجرد صفة مجرمة فيه تستاء منها أو تتضرر، مع أنه يتحلى بتسع صفات بريئة بل عشرين منها كالإيمان والإسلام والجوار…))(1). فلابد من استحضار الحسنات عند بدور السيئات ولابد من اعتبار الروابط الكلية العامة التي تربط أهل الإسلام بعضهم ببعض، ومن لم يعتبر ذلك وهجر المسلم بسبب خطأ بدر منه وظلمه فكما قال سعيد النورسي ((ما اشده من ظلم أن يحمل المرء عداء وحقدا لأخيه. فكما أنك إذا استعظمت حصيات تافهة ووصفتها بأنها أسمى من الكعبة المشرفة وأعظم من جبل أحد، فإنك بلا شك ترتكب حماقة مشينة، كذلك هي حماقة مثلها إن استعظمت زلات صدرت من أخيك المؤمن واستهولت هفواته التي هي تافهة تفاهة الحصيات، و فضلت تلك الأمور التافهة على سمو الإيمان الذي هو بسمو الكعبة، ورجحتها على عظمة الإسلام الذي هو بعظمة جبل أحد، فتفضيلك ما بدر من أخيك من أمور بسيطة على ما يتحلى به من صفات الإسلام الحميدة ظلم و أي ظلم يدركه كل من له مسكة من عقل… فما أظلم من يعرض عنها جميعا ويفضل عليها أسباب واهية أوهن من بيت العنكبوت، تلك التي تولد الشقاق والنفاق والحقد والعداء…أليس هذا إهانة بتلك الروابط التي توحد، واستخفافا بتلك الأسباب التي توجب المحبة، واعتسافا لتلك العلاقات التي تفرض الاخوة؟ فان لم يكن قلبك ميتا ولم تنطفئ جذوة عقلك فستدرك هذا جيدا))(2).
__________
(1) –((المكتوبات)) ص 340.
(2) –((المكتوبات)) ص 341.(1/73)
ومن النظر الشمولي والمنهج المستوعب الذي أدركه بديع الزمان النورسي، الموازنة بين المصالح والمفاسد، وبين المصالح المتفاوتة بعضها ببعض، والمفاسد المتفاوتة بعضها ببعض. فالمصالح ليست كلها على وزان واحد، والمفاسد ليست كلها بدرجة واحدة من الشر، وإنما بعض الشر أهون من بعض. والنظر السليم يقوم على قاعدة تقديم أعظم المصلحتين عند التعارض، وتقديم أهون الشرين، وارتكاب الشر لدفع شر أكبر منه إذا لم يمكن دفعه بالخير. وإن هذا المنهج هو عين الفقه، وهو لب الاجتهاد وصلبه، وقد تولى بيانه المحققون من علماء الإسلام، وصاغوه في قواعد عامة، وخصوه بمباحث في تصنيفاتهم، ومنهم من أفرده بالتأليف مثل عز الدين بن عبد السلام في كتابه القيم " قواعد الأحكام في مصالح الأنام" وكان مما بين من ذلك أن المصالح الخالصة عزيرة الوجود، والمفاسد الخالصة قليلة الوقوع، وإنما الغالب اختلاط المصالح والمفاسد . ونص كذلك على تفاوت المصالح والمفاسد. ومن الوقائع التي تدل على رسوخ هذا الأصل عند النورسي ووضوحه في ذهنه، مشاركته رحمه الله في انتخابات عام 1957 م وتصويته للحزب الديمقراطي. يقول أورخان محمد علي:" ومع أن المسلمين لم يكونوا ينظرون إلى الحزب الديمقراطي كحزب إسلامي(رغم وجود جناح إسلامي فيه) إلا أن توليه الحكم منذ سنة 1950 وما أشاعه من جو الحرية في البلد، وإرجاع الأذان الشرعي، والقيام بتدريس الدين الإسلامي في المدارس( وكان قبل ذلك ممنوعا في عهد حزب الشعب)…إنهاء العداوة الوحشية للإسلام…ومع أن الأستاذ النورسي لم يدخل ساحة السياسة إلا أنه قرر الاشتراك في هذه الانتخابات وإعطاء صوته للحزب الديمقراطي تنفيذا للقاعدة الفقهية " درء مفسدة أولى من جلب المنفعة"…"(1)
5-اعتبار أحوال الزمن المعاصر واستحضار واقع الحال:
__________
(1) - "سعيد النورسي: رجل القدر في حياة أمة" ص 266 – 267 .(1/74)
ومعنى ذلك مراعاة أحوال أهل الإسلام في هذا الزمان الذي لم يعرف المسلمون من قبل زمنا مثله، من جهة قوة الباطل وغلبة الشر والفساد وإغراء الشهوات، وغير ذلك من أحوال هذا العصر التي تجعل التمسك بالدين والتزام التقوى والصلاح كأنما يحاول المرء نقل جبل أو يعاكس تيارا قويا. فليس من العقل أخذ عامة المسلمين بالعزيمة والتشديد عليهم، خاصة فيما هو مختلف فيه، مثل الإنكار الشديد على من يكشف الوجه والكفين من النساء وتفسيق من يجوز ذلك من العلماء، مع أن الغالب على نساء المسلمين التهتك إلي درجة البهيمية، فكيف يشدد في الإنكار على من خالفت هذا التيار القوي الغالب وسارت على مذهب معروف عند العلماء. ومن ذلك أن العصر الحاضر ضاعت فيه القضايا الكبرى والمصالح الضرورية التي جاء الشرع بحفظها، فهل يصح صرف الجهد إلي القضايا الجزئية التحسينية والتكميلية وقد ضاعت الأصول الضرورية. وهذا ما يشير إليه سعيد النورسي بقوله: ((ففي هذا الوقت الذي يتسم بالدمار الأخلاقي والروحي وبإثارة هوى النفس الأمارة وبإطلاق الشهوات من عقالها، تصبح التقوى أساسا عظيما جدا بل ركيزة الأسس، وتكسب أفضلية عظيمة حيث أنها دفع للمفاسد وترك للكبائر، إذ أن درء المفاسد أولى من جلب المنافع قاعدة مطردة في كل وقت. وحيث إن التيارات المدمرة أخذت تتفاقم في هذا الوقت… فالذي يؤدي الفرائض ولا يرتكب الكبائر ينجو بإذن الله، إذ التوفيق إلي عمل صالح مع هذه الكبائر المحيطة أمر نادر جدا. إن عملا صالحا، وإن كان قليلا، يغدو في حكم الكثير ضمن هذه الشرائط الثقيلة والظروف العصيبة))(1).
__________
(1) –((سيرة ذاتية)) ص 314.(1/75)
ومن هذا الأصل أن استحضار حال المسلمين في العصر الحاضر مع عدوهم. فبخلاف العصور الأولى من تاريخ الإسلام فإن شوكة المسلمين في هذا العصر قد ذبلت وقواهم قد هزلت، وأعداؤهم قد قويت وكثرت، وهي تتربص بهم من كل جانب، ومعاول الهدم لا تهدأ. فمن عرف هذا واستحضره علم أن أوجب الواجبات هو حفظ دين الأمة وحماية كيانها ورد شبهات أعدائها والتصدي للطعنات الآتية من كل جهة، وليس تتبع عورات المسلمين والإنكار على المقصرين والمخالفين في الفروع والجزئيات، والحط على من يتساهل منهم في ذلك، فكيف والعدو واقف على الثغور ويغير المرة بعد المرة. ومثل من يصرف جهده لمثل هذا- ولا هم له الا الفروع والجزئيات التي يختلف فيها الناس بين متساهل ومتحر للاحتياط-مثل من كان مع صديق له في بيت يأمره ويعظه، فأغار عليهما عدو لهما يريد اقتحام البيت عليهما، فجعل الصديق يتأهب للدفاع ومكث هو يأمره بوجوب تحسين مظهره وتجميل ثيابه، فشغله حتى اقتحم العدو وأجهز عليهما. وإن الاشتغال بالأمور المختلف فيها بين المسلمين في هذا العصر- مع هذا الخطر الداهم- عده سعيد النورسي مرضا اجتماعيا خطيرا، وحالة اجتماعية مؤسفة يدمى لها القلب فأطلق صيحة في أهل الإسلام قائلا: ((فيا معشر المؤمنين أتدرون كم يبلغ عدد عشائر الأعداء المتأهبين للإغارة على عشيرة الإيمان؟ انهم يزيدون على المائة وهم يحيطون بالإسلام والمسلمين كالحلقات المتداخلة. فبينما ينبغي أن يتكاتف المسلمون لصد عدوان واحد من أولئك، يعاند كل واحد وينحاز جانبا، سائرا وفق أغراضه الشخصية كأنه يمهد السبيل لفتح الأبواب أمام أولئك الأعداء ليدخلوا حرم الإسلام الآمن، فهل يليق هذا بأمة الإسلام… فأفق أيها المسلم واعلم أن زعزعة قلعة الإسلام الحصينة بحجج تافهة و أسباب واهية خلاف للوجدان الحي وأي خلاف، ومناف لمصلحة الإسلام كليا.. فانتبه))(1).
__________
(1) –((المكتوبات)) ص 349.(1/76)
وعلى هذا الأساس فقد كان سعيد النورسي من أوائل الدعاة إلي التقريب بين المذاهب الإسلامية في العصر الحديث، خاصة بين السنة والشيعة(1)، يقول ((فما ينبغي للشيعة أن يجابهوا أهل السنة بالعداء تاركين الخوارج والملحدين الذين هم أعداء الشيعة و أهل السنة معا ( ثم يوجه نداءه إلي الفريقين) ارفعوا هذا النزاع الذي لا معنى له ولا حقيقة فيه، وهو باطل ومضر في الوقت نفسه. وإن لم تزيلوا هذا النزاع فان الزندقة الحاكمة الآن حكما قويا تستغل أحدكما ضد الآخر وتستعمله أداة لإفناء الآخر، وبعد إفنائه تحطم تلك الأداة أيضا. فيلزمكم نبذ المسائل الجزئية التي تثير النزاع، لأنكم أهل التوحيد، بينكم مئات الروابط المقدسة الداعية إلي الأخوة والاتحاد))(2).
__________
(1) – وقد دعا إلى هذا التقريب جماعة من المصلحين في العصر الحديث من السنة والشيعة، وأنشئت من أجل ذلك ((دار التقريب)) بالقاهرة، ثم من بعدها ((المجمع العالمي للتقريب)) بطهران. انظر ((تاريخ التقريب بين المذاهب الإسلامية)) لعبد الكريم عكيوي مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، عدد مزدوج 21-22ص 27-46.
(2) –((اللمعات)) ص 38.(1/77)
فيجب على أهل الإسلام في العصر الحاضر استحضار هذا الوضع واعتبار هذا الحال. وسبيله الاطلاع على الأحداث المعاصرة، السياسية وغيرها، ومعرفة وضع العلاقات الدولية وكل ما يدور في العالم من الحوادث، فمن خلالها يقف المسلمون، وأهل العلم منهم خاصة، على خطورة الوضع، فذلك حري أن يحملهم على جمع كلمة الأمة وتوحيد صفوفها وصرف الجهود لهذه الأخطار التي تهدد المسلمين في وجودهم وحياتهم. ولهذا كان سعيد النورسي يطالع الصحف أو يكلف من طلبته من يطالعها ليقف على حقيقة الأوضاع وما يحيط بالمسلمين، وقد كان هذا السبب الذي جعله يوجه جهوده ويوقف حياته كلها لصيانة الإيمان وحفظه في النفوس، ولم يلتفت إلي الجزئيات والخلافات بين المسلمين. يقول الدكتور أورخان محمد وهو يترجم للنورسي : (( في أثناء إقامته في "وان" كان يتتبع مع طاهر باشا الأخبار التي تنشرها الجرائد، وفي أحد الأيام ناوله طاهر باشا إحدى الجرائد مشيرا إلي خبر مثير هزه من الأعماق هزا عنيفا، إذ نشرت هذه الجريدة ما قاله وزير المستعمرات البريطانية غلادستون في مجلس النواب البريطاني وهو يحمل في يده مصحفا: "مادام هذا القرآن موجودا في يد المسلمين فلن نستطيع أن نحكمهم، فإما أن نأخذه من يد المسلمين أو نقطع صلته بهم". وتجاه هذا التصريح… فقد ثارت ثائرة بديع الزمان و أعطى عهدا بأن يكرس حياته لإظهار إعجاز القران للعالم أجمع وقال: لأبرهنن للعالم بأن القرآن شمس معنوية لا يخبو سناها ولا يمكن إطفاء نورها))(1)
__________
(1) – ((سعيد النورسي رجل القدر في حياة أمة)) ص 26.(1/78)
ومن هذا الأصل أيضا، اعتبار ما حصل للمسلمين في العصر الحاضر من التحول الخطير في أوضاعهم، ذلك إن العلمانية قد ضربت جذورها وأصبح الزعماء والقادة يحمونها، فوجد بسبب ذلك انحراف داخلي هو وجود طائفة العلمانيين داخل بلاد المسلمين من أبناء الإسلام، فكانت هذه جبهة داخلية يجب على أهل الحق التصدي لها بالتصحيح والتقويم، لكنها جبهة ليست كغيرها، لأن أصحابها منتسبون إلي الإسلام ويعدون من أهله ويقيمون في ديار المسلمين وهم من آبائهم وأبنائهم وأقاربهم. ولهذا فإن الجهاد في هذه الجبهة-في وسائله- ليس مثل الجهاد على الجبهة الخارجية، فالأول جهاد معنوي يكون بالتربية والبناء الفكري والروحي، أما إذا استعمل فيه الجهاد المادي بالسلاح فانه يؤدي إلي قتل آباء المسلمين وأبنائهم في بلادهم وديارهم، وفي ذلك من الفتنة ما لا يخفى على العاقل، أضعفها زرع الشقاق بين أهل الإسلام. ويبين النورسي وجه ذلك بقوله: ((أجل يستوجب مجابهة الهجمات الخارجية بالقوة أن أموال العدو وذراريه يكون بمثابة غنيمة للمسلمين، أما في الداخل فالأمر ليس هكذا، ففي الداخل ينبغي الوقوف أمام التخريبات المعنوية بشكل إيجابي بناء، بالإخلاص التام . إن الجهاد في الخارج يختلف عما هو في الداخل… فنحن نقوم بالعمل الإيجابي البناء بكل ما نملك من قوة في سبيل تأمين الأمن الداخلي. فالفرق عظيم بين الجهاد الداخلي والخارجي في العصر الحاضر))(1). ولهذا كان يعارض بعض الجماعات التي أنشئت في عصره للجهاد المادي ضد الدولة التي تبنت العلمانية، وكان يحضها على وحدة الصف وتجنب الفرقة واتقاء الحركات والأعمال التي تكون سببا في شق صف المسلمين واتساع جرحهم(2) . وكان جوابه على إحدى الحركات التي أثارت الأكراد على الدولة : ((نحن الأكراد مسلمون والأتراك إخواننا فلا تجعلوا الأخ يقاتل أخاه، فهذا لا
__________
(1) – ((سيرة ذاتية)) ص 470.
(2) – انظر ((سعيد النورسي)) لأورخان محمد علي. ص 44-45.(1/79)
يجوز شرعا. إن السيف لا يشهر إلا بوجه الأعداء الخارجيين ولا يستعمل السيف في الداخل. إن السبيل الوحيد أمامنا للخلاص في هذا الزمان هو القيام بإرشاد الناس إلي حقائق القرآن وإلى حقائق الإيمان، والقيام بمكافحة الجهل الذي هو أكبر أعدائنا، لذا أرى أن تصرفوا نظركم عن محاولتكم هذه لأنها محكومة بالإخفاق، إذ سيهلك الآلاف من الرجال والنساء بسبب حفنة من القتلة المجرمين))(1).
وقد ذهب سعيد النورسي أبعد من ذلك وأعمق-مراعاة للواقع المعاصر- فدعا إلي العمل بمبدأ الاحترام وحسن الجوار مع العلمانيين داخل بلاد الإسلام حفاظا على الأمن وقطعا للطريق على العدو الخارجي وكل من يورم التشويش على وحدة الصف والأمن. يقول رحمه الله: ((ففي زمن عجيب كزماننا هذا، لابد من تطبيق خمسة أسس ثابتة حتى يمكن إنقاذ البلاد وإنقاذ الحياة الاجتماعية لأبنائنا من الفوضى والانقسام. وهذه المبادئ هي: 1-الاحترام المتبادل. 2-الشفقة والرحمة. 3-الابتعاد عن الحرام .4-الحفاظ على الأمن. 5-نبذ الفوضى والغوغائية والدخول في الطاعة))(2)
واعتبارا لكل هذه الأحوال والظروف التي تحف بالمسلمين في العصر الحديث ، فقد جعل بديع الزمان النورسي غايته الكبرى إنقاذ الإيمان في النفوس، وترسيخ أركانه في القلوب ، بعد الاضطراب الذي امتد إليها من الفكر المادي. ولهذا فقد كانت رسائله كلها من أجل ذلك، فلا تكاد تجد فيها شيئا من القضايا الجزئية أو الأحكام المختلف فيها بين العلماء المجتهدين . وإنما كانت رسائله بيانا لحقائق الإيمان ودلائل على صدق الوحي والنبوة، وإبطالا لشبه الملحدين .
__________
(1) – نفسه ص 114.
(2) –((سيرة ذاتية)) ص 391.(1/80)
... وتحت هذا الأصل أيضا قرر رحمه الله أن العمل على إنقاذ الإيمان في القلوب وتجديده في النفوس، وهداية الضالين والمنحرفين، وإقامة الحجة على الملحدين ، أعظم أثرا وأكبر أجرا من الاجتهاد في نيل مقامات العارفين، والترقي في درجات السالكين، لأن هذا العصر عصر إنقاذ الإيمان، وليس عصر الطريقة والولاية. يقول رحمه الله : " إن خدمة رسائل النور هي إنقاذ الإيمان، أما الطريقة والمشيخة فهي تكسب المرء مراتب الولاية. وإن إنقاذ إيمان شخص من الضلال ، أهم بكثير وأجزل ثوابا من رفع عشرة من المؤمنين إلى مرتبة الولاية، حيث إن الإيمان يكسب الإنسان السعادة الأبدية ويضمن له ملكا أوسع من الأرض كلها. أما الولاية فإنها توسع من جنة المؤمن وتجعلها أسطع وأبهر " (1).
فهذه هي القواعد العملية التي يقتضيها أساس اعتبار أحوال الزمن المعاصر واستحضار واقع الحال.
6-مراعاة الخلاف عند تعذر الاتفاق:
__________
(1) مرشد أهل القرآن ص 73(1/81)
فبعد الاجتهاد لمعرفة الحق والصواب والحرص على الاجتماع، فإن تعذر الاجتماع على رأي واحد وجب على المختلفين إعمال أصل مراعاة الخلاف، وهو يقوم على عدم اعتبار المختلف فيه كالمتفق عليه، وأن العالم إذا تكلم فيما يعلم أن له مخالفا فيه فإنه يجري الحكم على صيغة تراعي الطرف المخالف. أي إن عليه أن يتساهل في ما يعتقد صحته مراعاة للطرف المقابل المخالف. وهذا معنى قول النورسي: ((عليك أن تقول الحق في كل ما تقول، ولكن ليس لك أن تذيع كل الحقائق. وعليك أن تصدق في كل ما تتكلمه، ولكن ليس صوابا أن تقول كل صدق. لأن من كان على نية غير خالصة-مثلك- يحتمل أن يثير المقابل بنصائحه فيحصل عكس المراد))(1). ويدخل في هذا الأصل وجوب حفظ حرمة هذا المخالف في الرأي وعدم تجريحه ووجوب نصرته والتعاون معه فيما يتفق عليه أهل الإسلام. وفي العمل بهذا الأصل كان النورسي يؤازر جميع أهل الإسلام ويتعاون مع من يخالفه في الرأي وفي الوسائل. فقد كان درويش وحدتي من مؤسسي ((الاتحاد المحمدي)) من أجل مواجهة مظاهر العداء للإسلام التي أقحمت في الحياة في تركيا في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي وبداية القرن العشرين. وقد غلب عليه طابع الشدة والعنف وهو ما كان يعارضه النورسي، ومع ذلك فقد حضر الاجتماع الذي أعلن فيه عن إنشاء " الاتحاد المحمدي" وألقى فيه خطبة في نحو ساعتين حث فيها على التمسك بآداب الإسلام وتناول فيها أهم القضايا التي تثير العناية آنذاك. ولما أصدر "درويش وحدتي" جريدة "وولقان" كان بديع الزمان ينشر فيها مقالاته على رغم مخالفته لدرويش وحدتي ومعارضته لمنهجه، وكان يكتب إليه يبين حججه فيما يخالفه فيه بتوقير واحترام، فكان مما كتب إليه يشرح معارضته لأسلوب العنف والشدة في الكتابة :" إلى أخي الدرويش وحدتي، إن الأدباء يجب أن يتحلوا بالأدب، ولا سيما الإسلامي، وليكن الضمير الديني هو الحارس لنظام
__________
(1) –((المكتوبات)) ص 343.(1/82)
المطبوعات"(1).
7- التحلي بضبط النفس وتحري الإنصاف مع المخالف الذي
لا يفتأ يجرح ويخرق ضوابط الخلاف المحمود
إذا تحرى المسلمون-و أهل العلم خاصة- جميع أسس الوحدة وآداب الاختلاف النظر والاجتهاد، ثم وجد-على رغم ذلك- من لا يكف عن الطعن والتجريح والتعصب للرأي، فإن الأستاذ النورسي قد أشار إلى أمثال هذا بقوله: " إن كنت تريد أن تعادي أحدا فعاد ما في قلبك من العدوان واجتهد في إطفاء نارها واستئصال شأفتها، وحاول أن تعادي من هو أعدى عدوك وأشد ضررا عليك، تلك هي نفسك التي بين جنبيك فقاوم هواها و اسع إلى إصلاحها ولا تعاد المؤمنين لأجلها. وإن كنت تريد العداء أيضا فعاد الكفار والزنادقة فهم كثيرون. واعلم أن صفة المحبة محبوبة بذاتها جديرة بالمحبة، كما أن خصلة العداوة تستحق العداء قبل أي شيء آخر"(2). ثم أشار على عامة المسلمين بمنهج التعامل مع أمثال هذا وهو دفع السيئة بالحسنة وعدم الاسترسال في الرد بمثل ما بدأ به من التجريح، وإنما يقابل بالإحسان لعله يندم ويرجع عن ركوب رأسه، وفي هذا إعمال لقوله تعالى: ((وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا)) (الفرقان: 72). أما إذا قوبل بمثل ما بدأ به فإن نار العداوة تزداد وتمتلئ القلوب غيضا فيغيب سلطان العقل ويحتجب الإنصاف، كما قال الشاطبي: "إن الطعن في مساق الترجيح يبين العناد من أهل المذهب المطعون عليه ويزيد في دواعي التمادي والإصرار على ما هم عليه، لأن الذي غض من جانبه مع اعتقاده خلاف ذلك، حقيق لأن يتعصب لما هو عليه ويظهر محاسنه فلا يكون للترجيح المسوق هذا السياق فائدة زائدة على الإغراء بالتزام المذهب، وإن كان مرجوحا فإن الترجيح لم يحصل… فبينا نحن نتتبع المحاسن صرنا نتتبع القبائح… فكان المرجح لمذهبه على هذا الوجه غاض من جانب مذهبه فإنه تسبب في ذلك"(3). فمنهج
__________
(1) –"سعيد النورسي " لأورخان محمد علي، ص:44
(2) – "المكتوبات" ص: 343.
(3) –"الموافقات" 4/153-154.(1/83)
قتل العداوة هو معاشرة الأصدقاء بالمروءة والإنصاف ومعاملة المسيء من أهل الإسلام بالصفح والصفاء. وإذا حصل أن استحكم العداء من قلب المرء فلم يستطع له ردا، فأضعف ما يجب عليه ألا يعمل بمقتضاه فلا يظلم صاحبه " لأن الخلق السيئ إن لم يجر أثره وحكمه، وإن لم يعمل بمقتضاه –كالغيبة مثلا- وعرف صاحبه تقصيره فلا ضير"(1). ثم ليكف لسانه عن ذمه والتهوين من شأنه، ثم ليجتهد في ما يعتقده صوابا من غير تعريض بالمخالف، وهذا كما قال سعيد النورسي هو: " العمل الإيجابي البناء وهو عمل المرء بمقتضى محبته لمسلكه فحسب من دون أن يرد إلى تفكيره أو يتدخل في عمله عداء الآخرين أو التهوين من شأنهم، أي لا ينشغل بهم أصلا"(2) وهذا أضعف المطلوب.
__________
(1) – "اللمعات" ، ص: 228.
(2) –"اللمعات" ، ص:228.(1/84)
ومن إعماله رحمه الله لهذه القاعدة فيما يعرض له من العداء وما يجابه به من الخصومة والإذاية من خصومه، ما حكاه في قوله:" قبل سنتين ذكر مدير مسؤول ( يلاحظ هنا التزامه قاعدة " العبرة بالأفكار وليس بالأشخاص" ولهذا أبهم الشخص وذكره بوصفه دون اسمه ) في غيابي كلمات ملفقة ، فيها إهانة وتحقير لي دون سبب ومبرر. ونقل الكلام إلي، تألمت ما يقرب من ساعة بأحاسيس سعيد القديم، ثم وردت برحمته سبحانه وتعالى إلى القلب حقيقة أزالت ذلك الضيق ودفعتني لأصفح عن ذلك الشخص. والحقيقة هي : قلت لنفسي : إن كان تحقيره وما أورده من نقائص تخص شخصي ونفسي بالذات، فليرض الله عنه إذ أطلعني على عيوب نفسي. فإن كان صادقا فسوف يسوقني اعتراضه إلى تربية نفسي الأمارة وتأديبها، فهو إذا يعاونني في النجاة من الغرور. وان كان كاذبا فهو عون لي أيضا للخلاص من الرياء ومن الشهرة الكاذبة التي هي أساس الرياء . نعم إنني لم أصالح نفسي قط … فإن نبهني أحد على وجود عقرب في أي جزء من جسمي على أن أرضى عنه، لا امتعض منه . أما إذا كانت إهانته تعود لصفتي كوني خادما للإيمان والقرآن ، فتلك لا تعود لي ، فأحيل ذلك الشخص إلى صاحب القرآن .... وإن كان كلامه لأجل تحقيري... فهذا أيضا لا يخصني وأهملت الحادثة واعتبرتها لم تقع ونسيتها " (1)وعبر عن هذا في صيغة قاعدة عامة وسنة مطردة، فذكر أن العداوة والإذاية من الحساد والخصوم ، حاصلة لا محالة لمن يسعى للبناء ويجتهد لإعلاء منارة الخير ورفع راية الفضيلة ، فلا بد له من التحلي بالحكمة واليقظة . يقول رحمه الله :" وما دمنا نعمل من أجل حقيقة هي من أهم الحقائق وأجلها ..... فلا بد إذا من أن نصمد بكمال المتانة والصبر تجاه جميع الويلات والمحن التي قد تنزل بنا وان نواجه بصدر رحب جميع مضايقات الأعداء. إذ من المحتمل جدا أن يحرك ضدنا مشايخ أو علماء متظاهرون بالتقوى مخدوعون
__________
(1) - مرشد أهل القرآن ص 205-206(1/85)
بأنفسهم أو بتحريض غيرهم لهم . وتجاه موقف كهذا لابد لنا من المحافظة على وحدتنا وتساندنا، وعدم تضييع الوقت معهم في الجدل و النقاش الفارغ " (1) .
8- أخذ الحذر وتحري الفطنة واليقظة:
فأهل الباطل يغيضهم اجتماع أهل الحق وتعاونهم، لذلك لن يكفوا عن التشويش عليهم وسيجتهدون في ذلك ما استطاعوا، فعلى أهل الحق التيقظ والتنبه لذلك وأخذ الحيطة من محاولات دس العداوات بين أهل الإسلام خاصة بترويج الشائعات، لأن هذا العصر عصر الشائعات بسبب انتشار وسائل الإعلام وتعددها وتنوعها، فيجب التوقف في كل ما ينشر من ذلك، خاصة ما فيه نسبة جريمة إلى أحد أو جهة من أهل الإسلام أو ما يفيد وجود وقيعة بين المسلمين، وذلك عملا بقوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)). ( الحجرات:6 ) فيجب عدم الالتفات إلى التشويش والاستفزاز. ولقد كان سعيد النورسي يوصي طلبته بالحذر والفطنة والتيقظ لما يعلمه على جهة اليقين من وجود من أقحم بينهم بقصد الإفساد وتثبيط العزائم، بإلقاء اختلاف الأفكار والمشارب(2)، وكان يوصي خاصة بالاحتياط الشديد فيما يتكلم به المرء، لأن هناك الكثير ممن يترصد فيؤول كل كلام محتمل-كما قال- " لأن وضعنا الحاضر كله جد لا هزل فيه"(3).) وكان هو نفسه يحسن الظن فيما لم يتيقن صحته من الأخبار، ولم يكن يقبل أن يغتاب أحد أمامه، وذلك لقطع طريق الشائعات وأصحابها(4). فقد كانت ترد عليه رسائل فيها أسماء علماء وشيوخ الصوفية وانهم يعادون الأستاذ النورسي ويحملون على رسائل النور، فكان لا يلتفت إلى ذلك ويقول: " نحن مكلفون بحسن الظن"(5).
__________
(1) مرشد أهل القرآن ص 125 .
(2) –انظر "سيرة ذاتية"، ص: 424-425.
(3) – نفسه، ص: 419.
(4) – انظر المصدر نفسه، ص: 529-530.
(5) –نفسه، ص: 530.(1/86)
وكان هذا المنهج هو موضع الخلاف بينه وبين "درويش وحدتي" ولذلك كان يقول عنه :"إنه متمسك بالدين إلا أنه يعوزه المنطق العقلاني"(1) أي أنه بأسلوب العنف والغلو والشدة ييسر السبيل للعدو للكيد والاستفزاز وجر أهل الحق إلى ارتكاب أخطاء قاتلة، لأن الغلو والشدة في غير موضعها تظهر الغوغاء فيختلط الحق بالباطل فيسهل اتهام البريء وتبرئة المتهم.
وقد تأسف النورسي كثيرا على اضطراب هذا الأصل عند أهل عصره، وعدم تفطن العلماء والصالحين أنفسهم له ، فغابت عنهم اليقظة والحذر ففسد ما بينهم، وقطعت الروابط النورانية التي تجمع أهل الإيمان، واتجهت جهود علماء الإسلام إلى رد بعضهم على بعض، وانتقاد بعضهم بعضا، فتمهدت السبل أمام الخصوم لتغريب الأمة وتمزيق صفها وقتل وحدتها. يقول رحمه الله :" فأسفا وألف أسف لأهل العلم ولأهل التقوى الضعفاء، الدين يتعرضون في الوقت الحاضر إلى هجوم ثعابين مرعبة، ثم يتحججون بهفوات جزئية شبيهة بلسع البعوض، فيعاونون – بانتقاد بعضهم البعض- تلك الثعابين الماردة، ويمدون المنافقين الزنادقة في تدميرهم وتخريبهم ، بل يساعدونهم في هلاك أنفسهم بأيدي أولئك الخبثاء " (2) ولهذا كان رحمه الله كثيرا ما يوصي طلبته وأصحابه بالفطنة والحذر، كما في قوله:" إن أول ما نوصيكم وآخره، الحفاظ على وشائج تساندكم ، وتجنب الأنانية والغرور والحسد والمزاحمة. عليكم النفور من هذه الأمور، مع التحلي بضبط النفس والأخذ بالحذر. في خضم التيارات الرهيبة والحوادث المزلزلة للحياة والعلم، ينبغي أن يكون الإنسان على ثبات وصلابة لا تحد بحدود، وضبط للنفس لا نهاية له، واستعداد للتضحية لا منتهى لها " (3).
إعمال الشورى في الاجتهاد والحكم عن طريق
"مجلس الشورى العلمي" و "النظام النيابي البرلماني"
__________
(1) –"سعيد النورسي" لأورخان محمد علي، ص: 44
(2) مرشد أهل القرآن ص 116
(3) مرشد أهل القرآن ص 227(1/87)
وهذا الضابط هو تمام هذه الضوابط والأسس، لأن جميع هذه الضوابط المتقدمة إنما تمنع التنازع بسبب الاختلاف في النظر، وتقي من خطر العداوة والشقاق، وتحمل المختلفين من أهل الإسلام، في النظر والاجتهاد، على مراعاة بعضهم بعضا، وتحثهم على ضرورة تقسيم الأعمال وصرف الجهود إلى ما تمس الحاجة إليه، واعتبار اجتهادات جميع أهل الإسلام يكمل بعضها بعضا. فهذه الضوابط لا تمنع الخلاف والاختلاف وإنما تجعل الاختلاف ثراء في التفكير ومظهرا لغلبة روح الاجتهاد ونبذ التقليد. ثم يأتي هذا الضابط ليمنح الحياة لهذا الثراء الفكري، لأنه يعين على تحري الصواب ومعرفة الحق والترجيح بين المذاهب والآراء، ويحسم الفوضى الناشئة من تعدد الآراء عندما يتعين الترجيح للشروع في العمل حيث لا يمكن الجمع بين أكثر من مذهب واحد في العمل. وقد قدم الأستاذ النورسي ضابطا عمليا في العصر الحاضر وهو العمل من خلال هيآت ومؤسسات للتشاور في مجال العلم وفي مجال السياسة وتدبير الأحوال العامة للأمة.(1/88)
وقد عد الاستبداد بالرأي ونبذ الشورى ظلما كبيرا وشركا خفيا فقال رحمة الله عليه :" اعلم أن من ظلم البشر إعطاء ثمرات مساعي الجماعة لشخص وتوهم صدورها منه، فيتولد من هذا الظلم شرك خفي، إذ توهم صدور محصل كسب الجماعة وأثر جزائهم الاختياري من شخص، لا يمكن إلا بتصور ذلك الشخصي ذا قدرة خارقة ترقت إلى درجة الإيجاد. وما آلهة اليونانيين والوثنيين إلا من تولدات أمثال هذه التصورات الظالمة الشيطانية " ومن يتدبر كلامه هذا يلفيه قد وضع رحمه الله يده على موطن الداء من جسد الأمة الإسلامية في العصور المتأخرة، لما فشا الاستبداد السياسي وغلب الحجر الفكري، وساد التقليد والتعصب الفكري، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، واستئثار كل ذي سلطان بنظره، فتعطلت عقول الأمة وشلت قواها، وسكنت حركة الاجتهاد فيها. ولهذا فإن دواء ذلك – كما ذهب إليه بديع الزمان النورسي- هو ترسيخ ثقافة الحوار وتثبيت الشورى في جميع المجالات ، حتى تتلاقح أفهام المتخصصين، وتتعاون أنظار المجتهدين، وتتقابل أفكار أهل العلم والنظر في الأمة، وعند العمل يتم اختيار ما توافقت عليه أكثر الأنظار وأيدته أغلب الآراء والاجتهادات . وقد اهتم بديع الزمان النورسي خاصة بمجالين اثنين، بحكم خطورتهما ولأن غيرها من المجالات يقوم عليها : مجال العلم والفكر، ومجال الحكم والسياسة، فوضع طرقا عملية صالحة للتنفيذ ، يتم من خلالها إعمال أصل الشورى في هذين المجالين.(1/89)
أما في المجال العلمي فهو دعوته إلى إنشاء مجلس للاجتهاد يتم فيه التشاور بين أهل العلم والكفاءة والخبرة. يقول: " إن كل من يجد في نفسه كفاءة واستعدادا للاجتهاد يمكن أن يجتهد، ولكنه لا يكون بهذا الاجتهاد موضع عمل إلا عندما يقترن بتصديق نوع من إجماع الجمهور"(1) فهذا المجلس غرضه قطع دابر الشذوذ في الآراء والعمل بما يتفق مع رأي جمهور الأمة، وجعل ما يصدر عنه له من القوة ما يصح جعله ملزما. وهذا المجلس يمكن أن تتنوع هيئاته وأشخاصه بحسب العلوم، ففي مجال التفسير مثلا يقول سعيد النورسي: "أريد تشكيل مجلس شورى علمي منتخب من العلماء المحققين كل منهم متخصص في علم، ليقوموا بتفسير عظيم ويجمعوا المحاسن المتفرقة في التفاسير ويهذبوها. وهذا الأمر مشروط بأن تكون الشورى مهيمنة في كل شيء، والأفكار العامة مراقبة وحجية الإجماع حجة عليه"(2)
أما في المجال السياسي والشؤون العامة فإن سعيد النورسي يرى أن النظام النيابي البرلماني هو أرقى ما وصل إليه الاجتهاد البشري لضبط مسألة الاختلاف في النظر والاجتهاد، ويرى أيضا أن هذا النظام إذا دخل تحت ضوابط الشريعة فإنه قمن أن يحسم فيما يجب العمل به من أمور الأمة العامة عندما يجتهد فيها أهل الاختصاص فيختلفون. ولهذا فإنه كان دائما يقيد "المشروطية" بصفة الشرع فيقول مثلا " " إن كانت المشروطية والقانون الأساسي هما الموضوع الذي سمعتم عنه فهما عبارة عن المشورة الشرعية، تلقوهما بترحاب وحافظوا عليهما".(3)
خاتمة
__________
(1) – "صيقل الإسلام" ، ص: 353.
(2) –نفسه،ص: 37.
(3) –"مفتاح أهداف الجمهورية في ضوء الأفكار السياسية لبديع الزمان النورسي"، المؤتمر العالمي حول بديع الزمان النورسي استامبول – 1992م.(1/90)
هذه خلاصة نظرات بديع الزمان النورسي في مسألة الاختلاف الفكري والتنوع العلمي، وهذه هي المسالك العملية الواضحة التي اختطها لنفسه وسار عليها، ونصح بالسير عليها من أجل ضمان الوحدة الفكرية بين المسلمين، مع حفظ حقوق كل من كان من أهل النظر والاجتهاد في إعمال جهده ونظره من غير حجر عليه ولا حرج. فهي وحدة فكرية تتحرك داخلها الأفكار وتتنوع فيها الأنظار وتتناظر الأفهام، والقصد هو بلوغ الحق وتحري الصواب. فإن حصل الاتفاق بين المجتهدين فهو الغاية المرجوة، وإلا وجب مراعاة المختلفين بعضهم بعضا، مع التزام الضوابط العملية التي تمنع الخلاف الفكري من أن ينال من وحدة المسلمين، أو يؤثر على اجتماع كلمتهم.(1/91)
وإذا كان هذا المنهج النورسي واضحا في معالمه، سليما في أصوله، قويا في أدلته الشرعية التي يستمد منها، فإن بديع الزمان النورسي لم تكتحل عينه برؤية هذه الوحدة الفكرية على هذا النحو الذي تصوره واجتهد من أجله، ولم تطمئن نفسه بمعاينة هذا المنهج في الاختلاف يتحقق بين أهل العلم في عصره، وإنما رحل رحمة الله عليه إلى الدار الآخرة، وفارق الدنيا والخلاف على أشده بين طوائف المسلمين، والعداء مستحكم حتى بين المنتسبين إلى العلم والفقه. وقد اجتهد وسعه من أجل أن يتحقق ذلك، حتى آخر أيام حياته، ثم رحل وهو يتألم ويتوجع، ولكن ليس من علة في جسده- رغم أن جسده قد تعب وكلّ من شدة ما تحمله رحمة الله عليه- وإنما يتوجع من سوء حال المسلمين وما حل بهم من العجز والضعف، وشدة الاختلاف والتدابر. لكن أمله لم ينقطع حتى وهو يحس بدنو أجله، وإنما جعل يستشرف المستقبل بعد موته، ليلقي العهدة والأمانة على من يأتي بعده. وإذا كان أمله لم يتحقق في حياته ولم يأكل من عمل يده، فإن عزاءه أن يأكل المسلمون بعد موته، ويقطفوا ثمرات يانعة طيبة من الشجرة التي غرس فسيلتها في حياته ورعاها مدة عمره. وقد عرف رحمة الله عليه أن أحوال عصره وأحداث زمانه ستحول بينه وبين غاياته النبيلة التي اجتهد من أجلها، فلئلا ينال ذلك من عزمه أو يضعف من جده وقوته، جعل غايته أن يصله – وهو راقد في قبره- شيء من الجزاء المعنوي، يؤنسه في وحشة قبره، في الوقت الذي ينعم أهل الدنيا من المسلمين بأزهار ربيع الإسلام، وقد حسنت أحوالهم واجتمعت كلمتهم وقويت شوكتهم.فمصائب زمانه وآلام أوانه وخطوب إبانه… كل ذلك يهون عليه رحمة الله عليه إذا كان المسلمون سينعمون بعزة الإسلام بعد موته. فلنستمع إليه وهو يحاور نفسه، بين شدة آلامه وحسرته على أحوال المسلمين في زمانه، وبين أمانيه وعزائه الذي يرجوه في قبره:" ماذا أفعل؟ إن قدري دفعني إلى هذه الدنيا في زمان غير زماني… إنه(1/92)
شتاء الإسلام الكابي الحزين، لا حيلة لي إلا أن أبذر بذور الربيع القادم الذي لا يريد أن يبصره هذا العصر. وحين تنبت هذه الزهور وتتسنبل ويأتي ربيعها أكون قد فارقت الدنيا، لكني سوف أتنسم نسمات ربيع الإسلام وأنا راقد في قبري. فاستشراف مستقبل الإسلام هو عزائي وسلوتي في غربتي". وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
أهم المراجع
"كليات رسائل النور". ترجمة إحسان قاسم الصالحي. (المكتوبات- اللمعات-صيقل الإسلام-سيرة ذاتية- الخطبة الشامية-مرشد أهل القرآن إلى حقائق الإيمان).
"سعيد النورسي:رجل القدر في حياة أمة" أورخان محمد علي.
"المؤتمر العالمي حول بديع الزمان النورسي" إستمبول 1992 .
"الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا" أحمد نوري النعيمي.
"العثمانيون في التاريخ والحضارة" محمد حرب.
-"بديع الزمان سعيد النورسي: نظرة عامة عن حياته وآثاره".
-"النورسي: أنوار لا تغيب" محمد التهامي.
فهرس الموضوعات
تقديم.
تمهيد.
المبحث الأول: أسباب الاختلاف والتنازع وسبل إزالتها.
توهم التعارض بين الوحي والعلم.
الاستسلام لغرائز النفس والغفلة عن التربية الروحية.
الغلو في الشعور بالقوة.
غياب ميزان العقل.
انعدام التنظيم وقلة الضبط.
الاستبداد والتعصب.
المبحث الثاني: الأسس النظرية للوحدة الفكرية:
-الأسس الشرعية.
الأسس العقلية.
المبحث الثالث: الأسس العملية للوحدة الفكرية.
جعل الاختلاف سببا للثراء الفكري.
العبرة بالأفكار وليس بالأشخاص.
التزام آداب الحوار .
النظرة الشاملة المستوعبة.
مراعاة أحوال الزمن المعاصر.
مراعاة الخلاف عند تعذر الاتفاق.
الضبط والإنصاف.
الحذر والفطنة.
الشورى في الاجتهاد والحكم.
خاتمة.
أهم المراجع.(1/93)
دراسات في رسائل النور
أصداءُ النُّور
دُنيا من النُّورِ أجلوها وأَرْشفُهُا
رَشْفَ الضياء دموعَ الورْد والزَهَر
"شاعر مهجري"
اديب إبراهيم الدباغ
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
أعرف صديقاً عزيزاً كان قد عقد مع "النورسي" من خلال رسائله –رسائل النور- صداقة متينة، واتخذه صاحباً ومشيراً، فإذا حَزَبَهُ أَمرٌ من أمور دنياه أو آخرته، هُرِعَ إلى "الرسائل" يُقَلِّبُ نظره في صفحاتها، وهو يهمس في نفسه: ما تقول يا صديقي في هذا الإشكال، وكيف تراه..؟ أَمِنْ حَلٍّ له عندك..؟ ويظلُّ يجري بين الأسطر والصفحات حتى يلتقي الجواب، ويقع على الحَلِّ فيأنس ويطمئن.
ومنذ نيفٍ وربع قرن وأنا أقرأ "النورسي" وأكتب عَمَّا أجده من أصداء فكره في وجداني ومشاعري، فما توقف نبض الأصداء، ولا غاض نبع العطاء، ففكر الرجل دفق نوراني فيَّاض، وبحر روحه خِضَمٌّ متلاطمٌ ثَوَّار، فمهما غرفت منه يزيد ولا ينقص، فلا جيشانه يهدأ، ولا فورانه يبرد، فأنت معه في أمداء من الإيمان والقرآن أبعد مِمَّا كنت تحسب، وأعمق مما كنت تظن.
وغيري جَمٌّ غفيرٌ من أفاضل الكُتَّاب والمفكرين جالت أقلامهم في فكره، وأسهمت في الكشف عن كوامن عقله وروحه، وما زالوا يكتبون، وأغلب الظنّ أَنَّ أقلاماً كثيرة سيصيبها اللهاث، وستنكفئ متعبة، وربما جفَّ مدادها قبل أن تقول كلَّ ما تريد عن فكر الرجل، وسيبقى هذا الرجل لغزاً محيراً من أيّ محراب من محاريب الدين أو الأدب أو الفكر دخلتَ عليه وَجَدْتَ عنده النّور الذي يغشى كُلَّ ديجور وينير كُلَّ مكشوف ومستور.
وهذه الأسطر التي بين يدي القارئ الكريم وإنْ أسميتها "أصداء النور" غير أنها ليستْ خالصَ "الصدى" في صفائه ونقائه، بل هي "رجع الصدى"، بل هي ظِلُّهُ، بل هي بعض ذُبالاتٍ مرتعشات من مشكاته.(2/1)
وهذه الذبالات كانت قد قَيَّدتْ تحت عناوين مختلفة وفي أوقات متباعدة، ومناسبات متغايرة، إلاَّ أنَّ الذي يتحسَّسُهَا لا يخطئه فيها نبض النورسي، والذي يجول في أرجائها لا يخطئه عبق أنفاسه رحمه الله، فالصدى منه، ورجع الصدى إليه يعود.
تقبل اللهم هذا العمل على عيبه ولا تردّه علينا، واشملنا وإياه برحمتك يا أرحم الراحمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أديب الدباغ
هوامش
على فكر بديع الزمان سعيد النورسي
وسيرته الذاتية
قدم هذا البحث إلى المؤتمر العالمي الثاني لبديع الزمان سعيد النورسي"بديع الزمان سعيد النورسي وإعادة بناء العالم الإسلامي في القرن العشرين" في 27 - 29 أيلول 1992 استانبول
لأنّ ما بيننا وبين "النورسي" بعداً مكانياً وزمانياً فلربما نراه - نحن العرب - أفضل مما يراه المقرّبون منه والملتفون حوله، كأي بناءٍ عالٍ لا يَقْدُرُ عُلُوَهُ إلا الناظرون إليه عن بعد، وأما المحيطون به، والمقيمون حوله، فقد يفوتهم تقدير علوه، واستبانة ارتفاعه.
فالعرب اليوم بإزاء واحد من المفكرين الموهوبين الذين لا يحسن بأحد منهم من المعنيين بشؤون الدين والإيمان أن يتجاهله.
وأنا على يقين بأن رسائله المترجمة إلى العربية ستصبح مع الزمن مَنْجَمَ أفكار إيمانية يجود على الطالبين بكل جديد ونفيس منها.
ومنذ اثنتي عشرة سنة وأنا أقرأ "النورسي" وأتعلم منه، واسترشد بآرائه وأفكاره فيما يَعُنُّ لي من قضايا الدين والإيمان، وقد خرجت من قراءاتي بالآتي:(2/2)
إننا بازاء رجل يفور روحه بأسرار الإيمان، ويتفطّر فؤاده بفجر اليقين، ويلتهب رأسه بأفكار العقيدة، وهو قادر على إيقاظ هوامد أفكارنا، وبعث الحياة في مَوَاتِ نفوسنا وشلل أرواحنا، وقد أوتي فضيلة النطق بكل جليل وجميل من الأفكار. وإن شهاباً ثاقباً من سماء روحه كفيل بإشعال هشيم نفوسنا، وجعلها تتلهب شوقاً إلى الله، وتحترق محبةً فيه. ولم يتأتَ له ذلك إلاّ بعد أن خاض تجارب روحية كثيرة، أخصبت كيانَه، وأمرعت فؤادَه، لعلّ من أهمها تلك التجربة الذاتية التي شكلتْ منعطفاً جديداً في مسيرة تاريخه الفكري والروحي، فهو حين أنكر نفسه، ورأى منها ما يريب، استنفر شجاعته، واستجمع كلَّ قوى وجوده لتسعفه في الانسلاخ عنها، والتنكر لها، ولم يتردد لحظةً في نحرها بسكين همته ومواراتها الترابَ والتكبير عليها أربعاً.
لقد فعل "النورسي" هذا حين أَشْكَلَتْ عليه نفسُهُ، وَغُمَّ عليه هدفه، ولم يعد يعرف مَنْ هو..؟ وماذا يريد..؟ وما هي حقيقة رسالته في هذه الحياة..؟ وما السبيل إليها..؟
وعندما وَضُحَ الهدف، واستبان السبيل، وقُذِفَ في رُوْعِهِ أنّ رسالته إنما هي إنقاذ الإيمان في هذا العصر المقفر الجديب، ألقى بسعيد القديم وباستشرافه إلى الدنيا في تابوت الموت، وقذف به إلى يَمِّ الماضي السحيق، وما لبث "سعيد الجديد" أن نهض بدلاً عنه، نافضاً عنه تراب الدنيا، ليبدأ رسالة إنقاذ الإيمان، بنفسٍ قوية لا تُهْزَمُ، وعزمٍ ماضٍ لا يَكِلّ، وفؤادٍ صارمٍ لا يُضَلُّ.(2/3)
لقد رأى الرجل بقلبه البصير الصادق، وبصيرته المتوقدة الحادّة، أن سبب ما يعانيه المسلمون من عوابس الخطوب، وكالحات المحن، يرجع بالأساس إلى غياب الوعي الإيماني العميق، وانطفاء العقل المسلم القادر على صنع الأفكار المستنيرة، وتسطح الفهوم والمدارك، وخدر المسلمين بأفيون الدنيا، وفقدانهم للحس بمخاطر ما يحيط بحياتهم.. لذا لم يَرَ من الرجولة والمروءة بمكان أن يستبق الأحداث، ويزج بطلابه الذين لم يبلغ الوعي الديني عندهم مرحلة النضج والكمال، لينافسوا الدنيويين على دنياهم في معارك السياسة، قبل أن يموت فيهم - مثله - أيّ استشراف إليها، ومحبة بها، لأنه يرى أن الدنيا بأسرها لا تساوي قطرة دم واحدة من مسلم تهدر في سبيلها.. فما يريده سعيد الجديد مرحلياً هو أن ينشئ جيلاً واعياً مشبعاً بحقائق الإيمان، مستقلاً بالحمل الفادح، ثابتَ الوطأة، قائمَ الصُلبِ، أَيّدَ الركن، يملك الدنيا بيده ولا يدعها تلج إلى قلبه، يرى الاستشهاد في سبيل حقيقة من حقائق الإيمان شرفاً لا يعدله شرف.. إلى هذا الهدف كان يرمي في كل ما كتبه في "رسائل النور". غير أنه لم ير مندوحة في مجاهدة الأعداء الآتين من وراء الحدود، لأن الأمر هنا لا يحتاج إلى كبير وعي، ولا إلى مزيد علمٍ وفِقْهٍ، فمعلوم من الدين بالضرورة أنه إذا ديستْ أرض المسلمين من قبل الكفار فالجهاد فرض عين على كل مسلم، فسارعَ إلى تشكيل فرق الأنصار من طلابه ومن المتطوعين، وكان ظهير الجيش النظامي في حربه مع الروس، وقد أبلى البلاء الحسن كما شهد له بذلك الأعداء قبل الأصدقاء، حتى إنه جُرح وأُسر وبقي في الأسر حتى قيام الثورة الشيوعية سنة 1917م.
وفي خطبته الشامية ذائعة الصيت لخص "النورسي" أمراض المسلمين، وذكر اليأس والقنوط والشعور بالإحباط كواحد من هذه الأمراض التي داءت بها عقولهم وأرواحهم، فشلّت جوارحهم عن الحركة، وقرَّحَتْ آمالهم وأحلامهم، وجمّدتْ نبض الحياة في عروقهم.(2/4)
وقد دعا "النورسي" المسلمين لينهضوا ويغالبوا هذا العصر العصي الذي يبدو وكأنه مدسوس على الدنيا في حين غِرَّةٍ من أهلها، ليهدم بمعاوله كُلَّ منارات الهدى، ويطمس على كل ما يمكن للجنس البشري ان يسترشد به من معالم الحق والعدل والخير.
فالتفاؤل والأمل هو ينبوع قوة المسلمين، وسرّ استعصائهم على ضربات الزمن الوجيعة، وهو النور المسكوب من وجدان الغيب ليشرق بسنائه فوق ليالي اليأس والحزن والألم.
ورسائله كلها تنبض بروح الأمل في مستقبل المسلمين الآتي، إنه يخاطب جيل عصره الذي لا يرى المستقبل، لأن عيونه في قفاه، ويطلب منهم إن لم يستجيبوا له فلا أقلَّ من أن يتواروا ويتركوا الطريق فسيحةً لأولئك القادمين الآتين ببيارق الإسلام الخفاقة، إنهم جيل المعجزة الإسلامية التي لا تنقضي عجائبها، وها أنذا أنقل إليكم صوت "النورسي" وهو يخاطب موتى هذا الجيل وينهرهم قائلاً: "أيها الموتى.. أيتها القبور التي تمشي على رجلين.. أيتها الأجداث المتحركة فوق أديم الأرض.. أنتم أيها المنخورون المهزوزون المنهزمون.. ابتعدوا.. تنحّوا عن طريق الأجيال القادمة.. افسحوا الطريق للأحياء الممتلئين حياةً بروح الإسلام.. وامضوا أنتم إلى قبوركم التي تنتظركم.. تواروا واتركوا المكان لجيل البطولة والأبطال القادمين..".
وفي "بارلا" ذلك المنفى القصي، وجد "النورسي" نفسه رهين غربتين، غربته عن عصره وزمانه، وغربته عن موطنه وأهله وصحابه، حيث لا خل ولا صاحب، ولا سلوة ولا عزاء، ولا مأوى له على ظهر الأرض يؤويه ويضمه إلى صدره، فقد صدّت عنه الدنيا، وجفاه زمانها، فجنح بطبعه الفطري إلى الآخرة، وتوجّه إليها، وامتلأ خياله بصورة العالم الأبدي الذي يرجو أن يكون المكان الذي يؤويه يوماً ما، ويضم عليه جناحي حنانه ورحمته. يقول في وصف غربته عن عصره، أنقلها عنه بشيء من التصرف:(2/5)
"ماذا أفعل..؟ إن قدري دفعني إلى هذه الدنيا في زمان غير زماني.. إنه شتاء الإسلام الكابي الحزين.. ولا حيلة لي إلاّ أن أبذر بذور الربيع القادم الذي لا يريد أن يبصره هذا العصر.. وحين تنبت هذه البذور وتتسنبل ويأتي ربيعها أكون أنا قد فارقت الدنيا، لكني سوف، أتنسم نسمات ربيع الإسلام وأنا راقد في قبري.. فاستشراف مستقبل الإسلام الزاهر هو عزائي وسلوتي في غربتي..".
لقد ذاق الرجل ألواناً من الأحزان، وأُلبس أثواباً من الشجى والآلام، إلاّ أنه كان ستّاراً لشجوه، كتوماً لمصيبته، متلفعاً بعظمته، مستغرقاً في سكينته، منطوياً على آلامه، مستغنياً بنفسه، مستقوياً بربه، مستعلياً على الخوف، قاهراً الجبن والمسكنة، لأنه يرى أن ضعف الفريسة ومسكنتها لا تثير، إشفاق المفترس ورحمته، بل تزيد في شراسته، وتقوي شهيته للفتك والقتل والافتراس، لذا لم يسجل عليه طوال حياته أنه ضعف وهان واستكان أمام جبروت أصحاب الحكم والسلطان.
ولكن كيف استطاع أن يجعل من "بارلا" القصية البعيدة مدرسة تشع منها أنوار "رسائل النور"..؟!
لكي نفهم هذا لابدّ أن أحدثكم عن شخصية "النورسي" القوية المشعة.. فالشخصية القوية - شأنها شأن طاقات الطبيعة وقواها - مجموعة قوى وطاقات خفية غامضة، تُكِنُّهَا النفس الإنسانية، نحسُّ أثرها وتأثيرها فينا وفي الآخرين، دون أن نعرف شيئاً عن ماهيتها وكنهها. وقصارى القول فيها: إنها هبة إلهية، ومنحة ربانية، يمنحها الله سبحانه وتعالى للصفوة من الناس ـ ومنهم النورسي ـ مِمَّنْ رسم لهم القدر أن يحتلوا مراكز الإشعاع في المكان الذي يوجدون فيه، وهي تمثل الاستثناء من المكرور والعادي من الشخصيات.(2/6)
فالشخصيات القوية من ذوي البناء المحكم المتين الذين يصعب اختراقهم، يملكون قوى خارقة - تنبعث من ذواتهم، وتقتحم أقفال القلوب والعقول، وهم بكتلهم الثقيلة في موازين الرجولة يشكلون مراكز ثقل يشدون إليهم مَنْ يلتقونهم من الناس، فلا غروَ أن يصبحوا طاقات مشعة في المجتمع، يلتف حولهم الناس، ويخطبون ودَّهم، وينصاعون لأمرهم، ولسان حالهم يقول:
إذا كان قد فاتنا أن نرقى رقيهم، فلا أقلَّ من أن نقبس من عظمتهم، وندين لهم بالمحبة والطاعة والولاء.
وهكذا انجذب إلى الرجل مَنْ يخدمه ويقرأ رسائله، ويتتلمذ عليه، ويستكتب هذه الرسائل ويسيح في طول البلاد وعرضها، فيسقي نورها ظِماء الإيمان وجياع العقيدة والإسلام.
ولكن ما هو هدف "رسائل النور"؟ وما المحور الذي تتمحور حوله، وتتموضع إزاءه..؟ انه باختصار شديد "الإنسان".. هذا الإنسان الذي تريد له أن يدرك أن دنياه لا تقلُّ غرابةً عن آخرته، فكل شئ فيها غريب وعجيب ومعجز، إلا أن مداومة النظر للدنيا، والائتلاف الدائم بينه وبين أشيائها، يجعله يفقد شداهة النظرة البكر، وقوة حدتها ونفاذها، وذكاء لمحاتها، الأمر الذي يدفعه للاستغراق في المألوف من دون إعمال العقل فيه، ظناً منه أن كل مألوف معلوم، وشتان بين أن نألف أو أن نعلم كما ينبه "النورسي".
وكما أن "الدنيا" موجودة يصدمنا وجودها، ونتحسسها بأحاسيسنا وعقولنا، فكذلك "الآخرة" موجودة، وهي ليست بأقلَّ حقاً ووجوداً من الدنيا، ولكن رؤيانا لها، وشعورنا بها - هنا في الدنيا - يكون بالروح الطاهر، والقلب المتبتل الخاشع، وهذا ما تسعى رسائل النور إلى أن تمنحنا إياه.
وإذ كان "الإنسان" هو لبَّ الدنيا الذي تتوجه إليه رسائل النور بمعارفها، فإن الدنيا قشرته، أو بالأحرى إن الدنيا لا شئ، بينما الإنسان كل شئ، ومآله الأخروي هو أعظم الاشياء، وأكثرها أهمية وخطورة.(2/7)
فما يعتلج في نفوسنا من توق إلى الخلود والبقاء، ونفور من الموت والعدم، دليل على وجود البقاء والخلود خارج عالمنا اكبر من كل دليل وأعظمه،كما يقول "النورسي".
لأن "الإنسان" - كما هو معلوم - لا يشتاق إلى عدم لا وجود له، ولا يرتبط معه بسبب من الأسباب؛ إن هذا الشوق هو عذاب الروح المستطاب الذي يجعل الإنسان ينظر إلى بشريته بشيء من الحزن لأنه سجين هذه البشرية التي كان مقدراً لها أن توجد على هذه الأرض لتعاني الاغتراب، وتكابد عذابه، وربما إلى هذا إشارة في قوله - صلى الله عليه وسلم -، وقد سئل عن سنته: "والشوق مركبي.. والحزن رفيقي.. وقرة عيني في الصلاة.." لأنها - أي الصلاة - رسول أشواقه - صلى الله عليه وسلم - إلى الله تعالى ربِّ ذلك العالم الأخروي البعيد، القريب، الذي نحسه في تجليه على أرواحنا بأنواره وأندائه في لحظات صفاء الروح، وفي أوقات استضاءة القلب بنور الله. كما أن لهذا العالم الغيبي امتدادات نسبية في عالم الشهادة - كما يقول النورسي - تظهر أوضح ما تظهر في الإنسان، خلاصة هذا العالم، وأرقى مخلوقاته، فكيانه - باطنه وظاهره - مرآة كبرى تعكس بنسبيتها شؤون الغيب المطلقة.
فوجود الإنسان النسبي يرمز إلى وجود مطلق،
وعلمه النسبي يرمز إلى علم مطلق،
وقدرته النسبية ترمز إلى قدرة مطلقة،
وإرادته النسبية ترمز إلى إرادة مطلقة،
وهكذا، فكل ما هو نسبي من الصفات عند الإنسان، يقابله ما هو مطلق فيما وراء هذا العالم.(2/8)
وحيث إن الموجودات - حتى الجامد منها - مفطورة على حب الكمال، والارتقاء من الأدنى إلى الأعلى، ومن المحدود إلى اللامحدود، ومن النسبي إلى المطلق، ولما كان الإنسان أرقى هذه الموجودات من ذوي العقل والشعور، صار همه الانعتاق من سجن النسبية اكبر همومه، وشوقُهُ إلى المطلق اعظم أشواقه، كما يشير "النورسي" فكيف لا تعاني أشواق المسلم الغربة في هذا العالم الذي تحكمه النسبية، ويهيمن عليه السلب والموت والفناء والعدم..؟.
إذن فكيف الخلاص من براثن عالم السلب هذا..؟ وكيف النجاة من حبوسه الضيقة المحدودة..؟ ولماذا نموت ظامئين ونحن على مقربة من نهر الأبدية العذب..؟ إن الخلاص والنجاة - كما يرى النورسي - إنما يكون بالتعلق بشدة بأمراس الغيب، والاستمساك بقوةٍ بحباله الممدودة إلينا، فباب الغيب العظيم المشرع لكل مشتاق وراغب إنما هو القرآن الكريم الذي يملك المداخل لجميع العقول البشرية على اختلاف نوازعها.
فالوقوف الدائم على مشارف عوالم القرآن سيجعلنا نبصر حبال الإنقاذ النورانية الممدودة إلينا لنتعلق بها بقوة، ونعضَّ عليها بالنواجذ.. انه يخترق بنا أعماق الزمان الأبدي الذي لا نهاية له، ويطلعنا على ما يحتويه من صور الجلال والجمال ليزداد حبنا له، وشوقنا إليه.. فمَنْ يحب الخلود ويسلك إليه سبيل القرآن يخلدْ.. ومَنْ يحبّ البقاء ويتعلق قلبه بالباقي الأبدي الأزلي يذقْ حتماً وقطعاً طعم البقاء، كما يقول "النورسي".(2/9)
كما أن للغيب صوراً جَمَّةً، وتشكلات لا حصر لها في العوالم والأكوان، وفي الأحياء والجمادات.. فالقرآن الكريم يشير إلى هذه الحقيقة، ويعلمنا أنه التجلي الأعظم لصفة الكلام الإلهي المتنزل على قلب سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأن الصفات الإلهية الأخرى: القدرة، الحكمة، الإرادة، العلم، الحياة، لها تنزلاتها وتجلياتها على قلب الكون. فالعوالم والأكوان خاضعة ومستسلمة لهذه الشريعة الكونية التي تعمل بصمتٍ وخفاء في الأشياء. فتقدم الإنسان العلمي يتوقف على فهم دساتيرها ونواميسها، واكتشاف أسرارها كما يقول "النورسي".
لذا غدا، اهتمام المسلم بالكون بديهياً، ورغبته في فهمه والتوغل في أسراره من أوجب واجباته الإيمانية، لأنه بمقدار ما يجهل منه يكون جهله بربه، وبمقدار ما يجهل منه يكون جهله بعقله، وعلى قدر ما يفوته من العلم به يكون مقدار ضعفه وتأخره العلمي.
فالشريعة الكونية ينبغي لها أن تنزل عقل المسلم، وتسري في حسّه جنباً إلى جنب مع شريعة الكلام الإلهي، أي "القرآن الكريم" ومن تداخل الشريعتين ونفاذهما في بعضهما وتفاعلهما داخل عقل المسلم ووجدانه، تولد حضارة الإسلام من جديد كما يرى "النورسي".
غير أنه ومنذ دخول العالم الإسلامي شتاءه الحضاري القاسي، وعقل المسلم لم يعد عقلاً حركياً فاعلاً، إنه في حالة استرخاء دائم، وجمود مستمر، بل هو مريض معتل لم يعد يستجيب للتحدي والاستفزاز، ولم يعد ذلك العقل المشدود دائماً، اليقظ الصاحي أبداً، المتهيئ في كل وقت لالتقاط إيماءات الكون، واستلام إشارات الطبيعة، ولم يعد عقلاً مغامراً يستهويه المجهول، ويفتنه المستور، حتى لكأنه يخاف الحقائق ويستهولها، فيتحاشاها ويهرب منها، وبذا لم تعد حياتنا الإيمانية وحدها مهددة باليبس والنضوب، بل غدا إدراكنا نفسه مهدداً بالشلل والجمود.(2/10)
و "رسائل النور" تسعى لكي تعيد إلى عقل المسلم صحوه الغائب، وتدير في مغاليقه مفاتيح الأفكار، وَتُرجِعَ لخلاياه الكسول الحيوية والنشاط، وتشحذَ قدرته على دقة الملاحظة، وذكاء اللمحة، وسعة النظرة والخيال.
وهذه هي أشراط ولادة الفكر الإيماني الحي الذي بشّر به "النورسي" وتحدث لطلابه عن إرهاصاته وتباشيره.
غير أن المفكر الإسلامي الموعود والمرصود لمواصلة المسيرة التي بدأها "النورسي" لا يمكن أن ينجم من فراغ، أو يسقط من هواء، بل لابد له من أرض صالحة يُسْتَنْبَتُ فيها.. ولا أحسب أرضاً صالحة يمكن أن تنشق عن نبتة هذا المفكر الواعد مثل رسائل النور المفعمة بالمنقول الإلهي، والمؤيد والمعزز بالمعقول الكوني، فطينة أرضها مزيج من الائتلاف الحميم بين الشريعتين الكونية والقرآنية، وحين يأتي هذا المفكر - وهو آتٍ لا محال - فإن إحدى الحوادث الكبرى في تاريخ الإسلام والمسلمين تكون قد ولدت، الأمر الذي يوجب على المسلمين الاحتفاء بمولدهِ كما كانت قبائل العرب تحتفي بمن ينبغ فيها من شعرائها. و "النورسي" لا يرى شيئاً أشدّ سقوطاً، وأشنع انحداراً، من أن يتجرد رأي الإنسان في هذه الخليقة من أي معنىً الهي، لذلك فليس من شأننا نحن المسلمين - أو من شأن مفكرينا - أن نعقل حقائق الأشياء بالعقل المجرد وحده - كما يريدنا الغربيون أن نفعل - بل بالعقل المستضيئ بالإيمان، وبالبصيرة المستنيرة بالقرآن. فحضارة الإسلام - كما بشّر بها النورسى - لا تبنيها اليوم إلاّ عقول موسوعية كبيرة وعميقة، لا يقوى على اختراق حصونها الفكرية خارق أياً كان، ولا تنشؤها إلاّ أرواح جبارة شامخة، تستعصي في سموها وجلالها على عاديات الأيام، وفادحات الدهور، ولا يعلو بناؤها، ويرتفع شأنها، إلاّ بالإنسان المؤمن البصير الواعي الذكي اللّماح الذي ينذر حياته كلها من أجل أن يسهم في إقامة صرح هذه الحضارة ولو بلبنة واحدة.(2/11)
والجمال والجلال هما جوهرا هذه الحضارة التي لها ميزتها وتفردها واختلافها عن سائر حضارات الأرض، فالجمال هو روحها، بينما الجلال هو جسمها.. الجمال هو بستانها، والجلال سياجه.. الجمال هو الحق والعدل والخير، وهو الرحمة والصدق والشرف والكرم والمروءة والبر والمعروف وكل المحامد والمناقب، أما الجلال فهو سيفها البتّار الذي يحميها مِمَّنْ يروم اختراق بستانها، والعبث بزهره وثمره.
وفي رسالته العجيبة "الاسم الأعظمَ" يبين "النورسي" آثار فاعلية أسماء الله الحسنى في الإنسان والكون والحياة، وآيات تجليها بمعانيها وصفاتها على الموجودات.
ويشير إلى أن اسميه تعالى "الجميل والجليل" يؤثران في الكون، فهو جميل تقطر ألوان الجمال من كل جزء من أجزائه، وصورة من صوره، وهو كذلك جليل مهيب يبعث الإحساس بالرهبة والروع والاستهوال إزاء كبره وسعته وامتداده.. وحضارة الإسلام إنما تبنى على مثال الكون في جماله وجلاله.(2/12)
ولأن "رسائل النور" هي فلذة من كبد الكون، وقطعة من فؤاده، ترى بعينه وتسمع بسمعه، وتعقل بعقله لذا فلا غرابة إذا ما رأينا الجمال والجلال يسريان جنباً إلى جنب في كلماتها وسطورها، فبينا تكون مغموراً بفيض من جمال المعاني الإيمانية التي يتفجر عنها وجدان النورسي، حتى لتخال أنك بإزاء أديب كبير ذي روح شاعري، إذا به ينقلك فجأة وربما عبرَ سطر واحد إلى عالم الجلال الإلهي الذي يروعنا ويجعل قلوبنا تبادر إلى السجود خاشعة على أعتابه.. وهكذا مهما قلبت من صفحات هذه الرسائل طالعتك فيها رقة في شدة، ورأفة في قوة، ورحمة في عز، وتواضع في شموخ، ولطف في متانة، وعقل في قلب، وقلب في عقل.. وإنك لتحسُّ بقلب "النورسي" الكبير وهو يترنم شجىً ووجداً، وترى دموعه تفيض حزناً ولوعةً على الإنسانية المعذبة بعذاب البعد عن الله، إنه ليستقطر دموع النوع البشري على النوع البشري نفسه الذي سيواجه عذاب العدم في آخرة الوجود والبقاء، ما لم يتب ويعد إلى الله تعالى. إنه أخو البشر، وشقيق الإنسان، تُبْكيه مأساتُه، أياً كان وفي أي مكان من هذه الأرض.
وهو حين يُذَكِّرُ الإنسان الجحود بمآله المفجع في الآخرة، لا ينسى - في الوقت نفسه - أساس مهمته، ألا وهي تحبيب الله إلى خلقه، قبل تخويفهم منه، اي الجمال ثمّ الجلال.
فالجمال والجلال هما القاعدة الحضارية التي تنطلق منها "رسائل النور" لبناء المسلم الجديد المؤهل للقبول في صف نبلاء الفكر مِمَّنْ تُوْدَعُ بين أيديهم أمانةُ إرساء أسس الحضارة الإسلامية الآتية.(2/13)
فلطف الجمال مما يحول بين "الأنا" في دواخلنا وبين الكبر والعجب والطغيان، وهيبة الجلال تُنْهِضُ "الأنا" من وهاد الضعف والسقوط والذلة والقنوط.. الجمال يغرينا بسمو الفكر، وشرف العدل، وحب الحق، وعشق الفضيلة، وأداء الأمانة، والشغف بالواجب. بينما يفجر الجلال فينا ينبوعاً دَفَّاقاً من القوة، ويهبنا البسالة والشجاعة ويمنحنا الحمية والأنفة والاستعلاء على الجبن والخوف.
وما زال "الأنا" في الإنسان المعاصر، هو المعضلة الكبرى المستعصية على الحل، وهو ما فتئ في طغيانه أو انسحاقه يشكل سوساً ينخر في إنسانية الإنسان، وقد أعيا علاجه الفلاسفة والحكماء، وحار فيه الاخلاقيون والتربويون. لأن الدواء الذي يقدمونه له هو من صنع "الأنا" المريض نفسه، فيأتي معلولاً لا جدوى منه.
أما الدواء الذي تقدمه "رسائل النور" فهو مزيج من الجمال والجلال الإلهيين، وهو موزون بميزان مَنْ رفع السماء ووضع الميزان، وخلق "الأنا" في الإنسان، وجعله مناطاً للتكليف والسؤال، وهو دواء علته، وبلسم مرضه، الذي يفي بحاجته، ويحفظ له دوام الاستقامة والاعتدال، وباعتداله تعتدل الدنيا، أما إذا فرّط أو أفرط فعلى الدنيا العفاء، لأن "الأنا" في الإنسان منبع كل خير في العالم إذا اعتدل واستقام، ومنبع كل شر في الدنيا إذا جنح وانحرف. وإذا كان ما من جميل إلاّ ويمازج جماله مهابة الجلال، ووقار العظمة والكبرياء، وما من جليل إلاّ وله من الجمال نصيب، فكذلك فان كل ذي حياة - ولا سيما الإنسان - تشع من حياته معاني الأسماء الإلهية الحسنى، وصفاتها الجميلة والجليلة ، كما يرى النورسي.(2/14)
وبهذا صار"الإنسان" آية كبرى من آيات الله تعالى، لأنه يعكس أضواء هذه الأسماء على ما يحيط به من الموجودات والأناسي، فيصبح كل إنسان مرآة أخيه، يبصر فيها نفسه، كما ورد في الحديث الشريف: "المؤمن مرآة أخيه" ووجب أن نحصي أسماء الله الحسنى ونستقصي فعلها وتأثيرها في أنفسنا لنتخلق بأخلاقها، ونحيا بصفاتها ومعانيها، ولعل إلى هذا الإشارة في قوله تعالى :( وفي أنفسكم أفلا تبصرون).
وحين نبصر، ونتعمق بأبصارنا في النفس الإنسانية، نكتشف دواعي القلق على الإنسان في تقلب قلبه من النقيض إلى النقيض. فقد يكون على بساط الجمال، وفي حضرة أنسه، فإذا به يتحول بين عشية وضحاها عن ذلك ليقع في قبضة الجلال وتحت هيبته وسطوته. فاستغراق النفس بالجمال لا يعني خلاصها نهائياً من جرثومتها الأمارة بالسوء. كما أن طغيان هذه النفس، وانغمارها بالموبقات لا يعني خلوها من أصل التقوى والصلاح.
فلربما استقام المنحرف، وانحرف المستقيم، والى هذا السر يشير - صلى الله عليه وسلم - بدعائه : "اللّهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي عل دينك".
فالنقائض والأضداد من سنن الله في موجوداته - كما يرى النورسي - فالنهار يخفي في ضميره سواد ليل بهيم، والليل يطوي تحت جناحيه إشراقات الضحى وأضواء الظهيرة، وصقيع الشتاء يحتفظ في جوفه ببذرة الربيع، وكل ضعيف يطوي في أحشائه نطفة قوته، وكل قوي تستتر فيه نبتة ضعفه.
فالنورسي يهيب بالضعفاء ألاّ يستسلموا لضعفهم، ففي دواخل ضعفهم قوة، عليهم أن يكتشفوها وينموها، ويحذر الأقوياء من الغرور بقوتهم، ففي قوتهم عوامل ضعفهم التي ستوردهم موارد الهلاك في يوم ما، وما نظنه شراً بقصر أنظارنا قد ينطوي على خير كثير لا نبصره، وقد تكشف عنه الأيام في قابل الزمان.(2/15)
وعلى ضوء هذه المقدمات يفسر "النورسي" الكثير من وقائع التاريخ الإسلامي، ويكشف عن أسبابها وأسرارها التي أفادت المسلمين رغم ما يبدو في ظاهر أمرها من كونها وقائع مأساوية كان ينبغي لتاريخ المسلمين أن يتنزه عنها، حتى إنه ليرى؛ أن ما نجم من مذاهب الابتداع لا تخلو هي الأخرى - رغم باطلها - من حبة حق أو حبات، أو جزئية منه أو جزئيات، وبهذه الحبة أو الجزئية اعتقدها أصحابها، وها أنذا أنقل إليكم ما يقوله بهذا الصدد مخاطباً طالب الحقيقة والباحث عنها:
"يا طالب الحقيقة:
إن الشريعة تنظر إلى الماضي والى المصيبة غير نظرتها إلى المستقبل والى المعصية.. إذ تنظر إلى الماضي وما وقع فيه من المصائب بنظر القدر الإلهي، فالقول هنا قول الجبرية.
أما المستقبل والمعاصي فتنظر إليهما بنظر التكليف الإلهي، فالقول هنا قول المعتزلة.
وهكذا تتصالح الجبرية والمعتزلة.
ففي هذه المذاهب الباطلة تندرج حبة من حقيقة لها محلها الخاص بها، وينشأ الباطل عن تعميمها..".
والقدر - مهما اختلفت المفاهيم حوله - فهو ملح الحياة، فمن دونه تفقد الحياة طيب مذاقها في أفواه البشر، ومن غير القدر ومفاجآته، تستوي أيام الحياة وتتشابه أزمانها، ما كان منها، وما هو كائن، وما سيكون، ويصبح الماضي والحاضر والمستقبل لوناً حياتياً واحداً مملاً، وصورة للعيش واحدة مضجرة، وبذلك يفقد الإنسان اهتمامه بالزمن، وتضيع منه لذة معاناة التوجس والترقب لما يمكن أن يأتي به المستقبل من أحداث السلب أو الإيجاب.
وهذا "الملح الغيبي" هو الذي يمنع بحر الحياة من أن يتوقف ويأسن ويتعفن، فلولا الأقدار لسكنت الحياة سكون الموت، وهمدت همود القبور، فمن صراع أقدار البشر واحتكاك بعضها ببعض، تتجدد شرارات الحياة، وتتوهج المجتمعات، وتنهض الدول، وتقوم الحضارات، ويجري التاريخ البشري نحو أهدافه وغاياته المرسومة والمقدرة.(2/16)
فالتاريخ في مفهوم "النورسي" يصنعه رجل الساعة، وبطل الموقف الذي يمده القدر بقوة خفية يستطيع بها أن يلوي عنق الأحداث ويسخرها في خدمة هدفه وغايته.
وللنورسي قول في "القوة" قد يبدو غريباً للوهلة الأولى، ولكن عندما نتأمله ونتعمق فيه، ونسبر غوره، نجده من أصدق أقواله، وأكثرها انطباقاً على الحق والحقيقة، وله عليه شواهد من التاريخ الإسلامي خاصة، والتاريخ الإنساني عامة، فهو يرى أن القوى سواء كانت قوىً عقلية أو نفسية أو جسدية أو علمية مادية، حتى لو بدت غير أخلاقية، فأنها تكتسب بعض خواص الحق، فمهما كانت استعمالاتها، وفي أي سبيل كان تسخيرها فهي تنطوي على خاصية من خواص الحق، وبهذه الخاصية تنتصر ولو كانت بيد الباطل الغشوم، والى هذا السر يرجع انتصار الباطل القوي على الحق الضعيف.
ورغم علمنا أن الحق أو الحقيقة - أية حقيقة - قادرة على الدفاع عن نفسها، وشق طريقها إلى الحياة مهما كانت السدود والعوائق، إلاّ أننا للأسف الشديد قد نشكل بعض هذه العوائق دون قصد مِنّا.
فهناك فواصل حادة بين الحق الذي نؤمن به، ونرغب بالانتصار له، وبين قصور الجهد الذي نقدمه في سبيله.. بين القمة الشامخة التي يقف فوقها، وبين ضعف الأفكار التي نحاول أن نقدمها للآخرين من خلالها.. بين أن نعتبره موقفاً سياسياً محلياً نخوض به مضامير السياسة، وبين أن نعتقده موقفاً حضارياً عالمياً نقارع به أفكار العالم وحضاراته التي تغزونا وتريد تجميد حضارتنا وتحجيم أثرها وتأثيرها فينا.
فالنورسي منذ قيامه مرةً أخرى في إهاب "سعيد الجديد" وهو يرى ان قضية الإسلام الملحة ليست قضية صراع سياسي يمكن أن يغلب فيه، أو أن يكون مغلوباً، إنما هو صراع حضاري رهيب لا يمكن أن يُغْلَبَ فيه إذا عرفه العالم على حقيقته واعتقده وآمن به.(2/17)
لذا فهو يرى أن "أوروبة" التي تمثل قمة حضارة اليوم يمكن أن تخفي في رحمها جنين الإسلام إذا هي فهمته واستوعبته وان هذه الرحم ستنشق عن هذا الوليد يوماً ما ليدرج في أحضان الغرب، وينمو ويكبر ويبلغ أشده.
فإذا كانت "أوروبة" - في إبّان حضارتنا - قد آنست في الشرق ناراً عظيمة فقالت لأهلها:
"امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدىً" فلما جاءتها قبست من نورها أقباساً وذهبت بهذه الأقباس فأنارت بها عقول أذكياء أبنائها، فإذا بهذه القبسة الحضارية تنمو وتكبر وتبلغ من النضج ما يشاء الله لها أن تبلغ.. ثم تعود إلينا من أبوابنا المشرعة وتتعرض لنا بسحرها ومفاتنها.. فإذا بنا نعرف منها وننكر، فهي قريبة إلى نفوسنا في بعض جوانبها، وغريبة بعيدة عنا في بعضها الآخر.. نعرف منها روحها المغامر الطلعة، لأنه روحنا المفقود.. ونعرف منها شغفها بالمجهول، وشوقها إلى كشف الأستار عن المعارف والعلوم لأنه شغفنا وشوقنا الموؤد.. ونعرف منها علومها في الحياة والفلك والطب والنبات والحيوان، لأن جذور هذه العلوم ممتدة في عقول الأفذاذ من علماء حضارتنا.. ولكننا ننكر منها عقلها المغرور الجحود، وقلبها المتفسق، وجسدها الذي يغلي بالحسيات، وعقيدتها في التجسيد والتثليث.
تُرَى أيمكن أن يعيد التاريخ نفسه، وتعود "أوروبة" الغارقة في وثنياتها من جديد تبحث في " إسلامنا" عن صفاء العقيدة في التوحيد والتنزيه..؟! هذا ما يؤمله "النورسي"، وهو يرى - أي النورسي - في خبر نزول عيسى عليه السلام إلى الأرض في آخر الزمان، وأنه يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، إشارة إلى عودة المسيحية إلى أصول عقيدتها في التوحيد، جوهر الإسلام، وجوهر كل الأديان التي سبقته، وبذلك تستأنف حضارة التوحيد نهوضها من جديد.(2/18)
فمن المعلوم أن "الدين" هو الذي يقود مسيرة الحضارات في فجر تاريخها الصادق، ويهيمن عليها، ويعمر ضميرها، ويرسي قواعد سلوكياتها وأخلاقياتها، حتى إذا قويت واشتد ساعدها وعلا ضحاها ودلفت إلى ظهيرة عمرها جاء دور العقل لينشر سلطانه فوقها، ويستحكم فيها، ويتحكم بها، وربما صار وثناً يتعبد له الناس من دون الله تعالى.. ثم تمضي في سيرها حتى تميل شمسها نحو الزوال ثم الغروب، فإذا بالعقل يتخلى عن عرشه، ويتركه للحس ليتربع فوقه ويصبح هذا الحسّ سيد العقل وسلطانه بعد أن كان خادماً له.
ولا يعني هذا التقسيم الاعتباري لأدوار الحضارات أن هناك حواجز وفواصل ظاهرة وحادة بين دور ودور. فقد تتداخل الأدوار بعضها ببعض، غير أن طابعاً عاماً يظل يميز الأدوار، ويدمغها بشارته، ويعطي كل جزء زمني منها صفته الغالبة عليه.
والدور الحسي الذي يطغي اليوم على حضارة الغرب، قد فجّر حسيّات الإنسان إلى آخر مداها وطاقاتها، وفجّر مع ذلك حسَّ الأرض والسماء، وأثار خفايا الأرض بترابها ومائها وهوائها، فإذا بها تتزلزل وتلقي بأثقالها وأسرارها بين يديه ليبتني من عناصرها مدنيته الحسيّة الباردة المفتقرة إلى دفءِ الروح وشفافية الدين والإيمان.
وقد واكب هذه الحسية أدبها وفنها اللذان يزينان للإنسان الاستغراق حتى آخر حبّة حسٍِّ فيه في شهواته وملذاته.. ولعلَّ ثمار هذه الحسيّة ترجع في جذورها إلى ذلك التصور الحسّي الشاذ للألوهية والربوبية في العقيدة التي يدين بها أبناؤها.(2/19)
غير أن للنورسي موقفاً من الحسية يخالف به مَنْ يرى أنها انتكاسة في النفس الإنسانية لا ينبغي للإنسان أن يهبط إليها، لأن الحس والشعور مترشحان عن الحياة بل هما خلاصتها، فليس إماتة الحواس وتعطيل وظيفتها هي طريق الإنسان للارتقاء الروحي كما يرى البعض، بل على العكس من ذلك يرى: أن الحسّ الإنساني بأذواقه وألطافه ومسرّاته وآلامه، إذا وعى وأدرك، وذاق وتألق، وتهذب ورهف وَثقُفَ، صار سبيل الإنسان إلى المعارف الإلهية وطريقه إلى الارتقاءات القلبية والروحية، لأن ما من لطيفة من لطائف الإنسان أو جارحة من جوارحه، إلاّ ويمكن أن تصبح طريقه إلى الله تعالى إذا أحسن توظيفها في الغاية المرجوة.
فالسمع والبصر والفؤاد والعقل، كل هؤلاء موضع الخطاب القرآني، وهي مناط التكليف في الدنيا والمسؤولية في الآخرة.
فالإسلام أو بالأحرى حضارة الإسلام إنما هي وحدة واحدة تبدأ بالعقيدة وتنتهي إليها، فالروح والعقل والحس، يتداخل بعضها في بعض وتمشي جميعها جنباً إلى جنب في كافة مراحل تطورها، لذلك كانت الآخرة - بجنتها ونارها - بناء حيّ تتعذب فيها حواس الإنسان أو تتنعم، كما أن غالبية معجزات الأنبياء عليهم السلام معجزات حسيّة تتحدى أسماع الناس وأبصارهم.
لأن النبي أو الرسول إنما يتعامل في إتيانه بالمعجزة مع مادة الكون المشاهدة والمحسوسة ففي خرقه لبعض النواميس والسنن الكونية ساعةَ الحاجة إليها ليس أمراً مستغرباً من إنسان هو جزء مهم من هذه النواميس والسنن ولكنه ليس حبيسها ولا سجينها، غير أن الكون هو سجين نواميسه، وحبيس سننه.
فالنبي أو الرسول عليهما السلام قد يكسر بمعجزاته جانباً من هذه الأغلال والقيود التي تكبل الكون، فيستجيب لهذا الكسر أو الخرق - شأن الإنسان الحبيس - استرواحاً وتخفيفاً من بعض قيوده الثقال ولو للحظة واحدة.(2/20)
وهذه المعجزات وإن كانت قد أعطيت للأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، لتحدي أقوامهم، وتوكيد نبوتهم ورسالتهم، إلاّ أن فيها إلى جانب هذا الهدف الأهم أهدافاً أخرى تنطوي - كما يرى "النورسى" - على إشارات علمية، وبشارات بمستقبل علمي زاهر ستحققه البشرية يوماً ما في تاريخها الطويل، كما أنها - أي المعجزات - ترسل للبشرية من مكانها وزمانها البعيدين حافزات لقواها العقلية كي تطور قدراتها العلمية، وتحاول اللحاق بقدر المستطاع الإنساني بالنهايات التي حققتها المعجزات.
فإذا كان "النورسي" قد ربط هذا الربط الذكي بين المعجزة وبين العلم، إلاّ أنه يرى أن "القدرة" هي روح المعجزة وقوامها، بينما "الحكمة" هي روح العلم وقوامه، فالمعجزة تقع بالأمر الإلهي: "كوني" فتكون، بينما العلم لا يأتي إلاّ بالجهد والصبر والعمل الإنساني الدؤوب.
فالعلم من وجهة نظر "النورسي" يطلعنا على مظهر من مظاهر قوة الله وعظمته الكامنة في لغزه، والجارية في خفاياه، وهو جدير بالمؤمنين قبل غيرهم، لذا يجب أن يكون في كل لبنة من صرحه العظيم قلب مؤمن وحسّ مسلم، وعقل عابد، لا قلب كافر، ونفس ملحد، وقد آن لهم أن يكفوا، أن يكونوا من طالبيه لدى الآخرين، بل من صانعيه لأنفسهم بأنفسهم، فهو الحق القوي الذي يحتاجونه اليوم حاجتهم إلى الماء والهواء.. ولأن العلم هو النَفَسُ المنفوث من وحي الله، والمودع في جوف الكون وضمير الأرض والسماء، صار لزاماً أن يتلقوه باللهفة نفسها التي يتلقون بها وحي الله في قرآنه الكريم، لأن الوحيين كليهما يشيران إلى الله تعالى، ويدلان عليه.
وقلَّ مِمَّنْ كتب في الإيمان مَنْ هداه وجدانه لالتقاط ذلك النغم الجميل في موسيقى الحياة، والمتجاوب صداه بين نبض الكون، ونبض الإنسان.
وقَلَّ منهم مَنْ وفق إلى رصد هذا اللحن الفريد وتسجيله بشكل دقيق ومجسم في كل أعماله الفكرية والوجدانية كما فعل "النورسي" رحمه الله.(2/21)
فقارئ كتبه ورسائله لا يحتاج إلى كبير عناء ليلحظ الربط المحكم والشدّ الوثيق بين قلب الكون وقلب الإنسان، حتى ليكاد يحسّ من خلال أحاديثه عنهما - والاستشهاد بمعلوم صفات أحدهما على مجهول صفات الآخر - وكأن الإنسان هو الكون مصغراً، والكون هو الإنسان مكبراً، وبين وجدانيهما تتصادى لحون المحبة والود والتعاون والتساند، لدفع مسيرة الإيمان الكبرى على هذه الأرض نحو هدفها السامي في تقديم فروض الطاعة والعبودية والولاء - مشحونةً بالمزيد من الفهم والإدراك - للخلاق العظيم الذي يدين له كُلٌّ من الكون والإنسان بالوجود والحياة، فيقول معبراً عن هذه الحقيقة:
"أجل لما كان الإنسان خلاصة جامعة لهذا الكون، فإن قلبه بمثابة خريطة معنوية لآلاف العوالم، إذ:
كما أن دماغ الإنسان - الشبيه بمجمع مركزي للبث والاستقبال السلكي واللاسلكي - هو بمثابة مركز معنوي لهذا الكون، يستقبل ما في الكون من علوم وفنون ويكشف عنها، ويبثها ايضاً، فإن قلب الإنسان كذلك هو محور لما لا يحد من حقائق الكون والمظهر لها، بل هو نواتها".
والنورسي في هذه التجربة الفريدة إنما يفتح الطريق لاحبةً لمنْ يريد سلوكها، ويرسي معالم فكر وجداني كوني النظرة، إيماني الملمح، يمكن لكل أديب أو متأدب أو صاحب قلم أن ينهل منه، ويحذو حذوه، وينسج على منواله، في إثراء "أدب الإيمان" ومنحه الأبعاد الكونية التي تعمق رسوخ قدمه، وترفع من علو صرحه، في هذا العصر الذي غدا الكون فيه موضع نظر الإنسان، ومحل فكره، وحقل علمه، ومسار سفره، وساحة تجاربه؛ في طي الأزمان واختصار المسافات.
وقد استطاع النورسي أن يوظف بمهارة فائقة الملاحم الكونية، ودلالاتها الرمزية في تربية "الوجدان الإيماني" الذي يرى في هذه العلوم وتطبيقاتها بعض ما أومأ إليه الدين وأشار إليه منذ أيامه الأولى.(2/22)
فتربية وجدان المسلم، وتلوينه بلون العصر الذي يعايشه من دون مسخه أو استلاب أصالته، كان وما يزال من أبرز اهتمامات المفكرين والمربين منذ بواكير الإسلام الأولى، وحتى يومنا هذا، وقد سجل التاريخ، أسماء جمهرة كبيرة من هؤلاء المربين في مختلف عصوره وأزمانه، كانوا قد أسهموا بقدر أو بآخر في تشكيل هذا الوجدان وتهيئته لمتطلبات زمانهم.
والنورسي شأنه شأن المربين الآخرين قد كرس معظم جهده لتربية وجدان المسلم في هذا العصر الكوني الذي يظلنا، ويسيطر على اهتمامات العلماء والمفكرين وقادة الرأي على مختلف مناحيهم واتجاهاتهم، فهو يرفض للمسلم أن يحيا على هامش العصر، أو على حافاته البعيدة منزوياً طلباً للسلامة والنجاة من تكاليفه ومسؤولياته، بل يريد له أن يحيا في قلبه، وفي الحشاشة من لبه، يتأثر به، ويؤثر فيه.
ونقطة الانطلاق في منهاج "النورسي" التربوي تبدأ من "الحياة" التي تتلبس الإنسان، وكلَّ شئ حي، مروراً بالكون، ووصولاً في نهاية المطاف إلى خالق الكون والإنسان: وإنّ إلى ربّك المنتهى.
فالحياة في الإنسان شئ جميل ومقدس، تكتسب قدسيتها من قداسة المانح والمعطي خالق الحياة، فإذا اقتنع الإنسان بقداسة الحياة التي بين جنبيه، واعتقد نفاستها وعظمتها، وطهارة منبعها، حرص عليها، ولم يلوثها أو يدنسها، ولم يفرط بها، أو يتهاون في شأن ترقيتها، أو يحقرها ويهبط بها، أو يحسّها عبئاً ثقيلاً يرغب - أحياناً - بالتخلص منها، أو ينزل بها منازل الحيوان، أو يجعلها في خدمة مَنْ يعطي فيها ثمناً أعلى، أو يركسها وينحط بها إلى درك الدنس والخنا والخسة والجريمة.
فالحياة - كما يصورها" النورسي" -: "هي خلاصة مترشحة من هذا الكون.. والشعور والحسّ مترشحان من الحياة، فهما خلاصتها، والعقل مترشح من الشعور والحس فهو خلاصة الشعور".(2/23)
فإذن الجهل بالكون يعني جهلنا بالحياة نفسها، كما أن معرفة أي جزء منه تستلزم معرفة شاملة بأسراره، مما يهيئ للإنسان فرصة التعلم، وهكذا يدخل دائرة التعلم اِنْ لم يكن مؤهلاً ليصبح من مبدعي العلماء، الأمر الذي يدفع به إلى روح عصره غير بعيد ولا منكفئ ولا هامشي على زمانه ووقته. ومع ذلك فإنه لا ينبغي أن يغيب عن بالنا بأن "العلم" إنما يأخذنا إلى ما هو نسبي وتقريبي من الأشياء، فمازال العلم حتى هذه الساعة عاجزاً عن اكتشاف أصول الأشياء وحقائق كنهها وماهياتها، وإن كانت له اليد الطولى في اكتشاف علائقها بعضها مع البعض الآخر، اذ لا يوجد في العلوم ما هو مطلق الصحة، ففي الكثير منها أجزاء افتراضية، حتى أن القوانين العلمية نفسها ليست من الحقائق المطلقة.. غير ان النفس البشرية تسلك بنا سبيل المطلق على الدوام، فهي تبحث وتفتش عن "المطلق" الذي يملؤّها عظمة وخشوعاً وجلالاً..
ولا يتصورنَّ أحد - كما ينبه النورسي - أن البحث عن المطلق وانبعاث الأشواق إليه، والتعلق به، من حيث كونه يشكل عنصراً مهماً من عناصر مكونات "وجدان المسلم" يعني الهروب من العقلي إلى "اللاعقلي"، أو الانسلاخ من المنطقي إلى "اللامنطقي" كما يريد أن يوهمنا بعض المحسوبين على العلم والعقل.
فما من حقيقة دينية - إذا ما فحصت جيداً - إلاّ وتنطوي على عناصر عقلية، كما أن اشد الفلسفات عقلية تشتمل على كثير من العناصر الدينية إذا تعمقنا أصولها وأساسياتها. وفي الغالب ترى أنصار المذهب الوجداني يأتون بأدق البراهين العقلية كما هو مشاهد مثلاً عند "الغزالي" و "النورسي" وغيرهما.(2/24)
فإبعاد الدين عن الدائرة المنطقية والعقلية مسألة فيها نظر، فالدين الحق الذي لم تصبه يد التحريف، أو تدخله عناصر غريبة عنه، هو دين عقلي لا يجافي العقل، أو يناكف المنطق، وما "علم الكلام" الإسلامي في زمانه إلا مرحلة متقدمة من مرحلة "عقلنة الإسلام وصورة من صور هذه "العقلنة" ما قبل عصر العلم الحديث، وقد أمكن تطوير هذا العلم - كما فعل النورسي - ليلائم العصر العلمي والكوني الذي نعيش أيامه.
ونكاد نلمس صدق هذا الكلام فيما نضح عن فكر "النورسي" من "وجدانيات" ارتفع ببراهينها العقلية حدّ اكثر العقول منطقيةً، وسما بها سمواً يكاد يلامس صفاء اعظم الأرواح الشاعرية شاعرية، ففي كلامه عن تدفق الحياة وسريانها الموسيقي المتناغم في أوصال الكون، وما تبثه من عزاء في نفوس المغتربين بإيمانهم وعقيدتهم يقول مخاطباً طلبته:
"لو سكن طنين البعوض، وهدأ دوي النحل، وصمتت كل الأصوات، فلا تأسوا ولا تحزنوا، ولا تخمد أشواقكم، أو تضعف همتكم أبداً.. لأن الموسيقى الإلهية العظيمة التي تجعل بنغماتها الكون في رقص وانتشاء، وتهز بأشجانها أسرار الحقائق، لن تسكن أبداً، ولن تهدأ.. بل تستمر قويةً عاليةً هادرة تعلن عن مبدع الوجود الذي ينتهي إليه كل موجود".
أجل، إنها لن تسكن ولن تهدأ.. وتظلُّ تهتف بكم ومعها صوت النورسي آتياً من وراء الغيب:
"انهض من جديد أيها المسلم العجوز.. شقَّ أكفان عجزك.. وانفض عنك تراب قبرك.. انبعث فتياً ممتلئاًً حياة وقوة وعزماً أيها الشيخ الفاني.. عد أيها الغريب المتواري وراء الزمان فقد طال شوق الدنيا إليك.. توارَ يا شتاء الروح.. وتفتح يا ربيع العقل.. وازدهري بأزهار الإيمان أيتها النفوس المجدبة.. تهللي يا غربة الإسلام.. وابتهجوا وابشروا يا خدام القرآن.. يا غرباء هذا العصر.. فرسولكم - صلى الله عليه وسلم - قد قال فيكم: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء".(2/25)
ايحاءات داغستانية(1)
هتاف الأرواح
مهداة إلى أولئك الفتيان الشجعان الآتين من كل مكان إلى أرض "داغستان" ليقيموا فيها معاهد العلم والعرفان ويُعلوا منارات الهدى والإيمان.
(1)
لو أصغيتم بآذان أرواحكم في سجوّ الليالي وفي هدوات الأسحار، لسمعتم هتاف أربعين صحابيا يرقدون فوق روابي هذه المدينة(2) وهم ينادونكم قائلين :
انتظرناكم طويلا .. سألنا عنكم الغادين والرائحين من ملائكة السماء : أين فتيان الإيمان .. متى يقدم حملة القرآن؟.. الشوق إليكم أضنانا.. والحنين للقياكم عذبنا .. وها أنتم اليوم هنا ..فلأرواحنا أن تسعد، ولوحشتنا أن تأنس، ولغربتنا أن تتأسى بكم في هذا القفر الموحش المجدب من صحاب الإيمان، والممحل من أشقاء الروح والوجدان.
(2)
لا نقول لكم أحرقوا كل شيء يغريكم بالعودة من حيث أتيتم كما فعل طارق بن زياد من قبل ، ولكنا نقول : أحرقوا وجودكم كله ، وأشعلوا النار في أرواحكم ، ثم انثروا حبات هذا الوجود المحترق فوق هذه الأرض، فلا تغادروها - إذا غادرتموها- إلا لتعودوا إليها لأنها صارت جزء ً من وجودكم وقطعة عزيزة من كيانكم .
(3)
__________
(1) كتبت هذه الخواطر سنة 1999-2001 في دربند من مدن داغستان عندما كنت مدرساً في جامعة " دربند" الخاصة.
(2) المقصود "مدينة دربند" وهي إحدى مدن داغستان التي يفخر أبناؤها بأن مدينتهم تضم رفات أربعين صحابيا كانوا قد استشهدوا خلال الفتح الإسلامي لهذه البلاد سنة 32 هـ في خلافة سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه.(2/26)
تتساءلون ما هذه النار التي آنستم وجودها في هذا المكان من بعيد، والتي جذبتكم للمجيء إلى هنا ، ونحن نقول لكم: إنها قبس من نور عظيم كنا قد حملناه في أفئدتنا إلى هذه الأرض، ولكنها اليوم ذبالة مرتعشة وجلة توشك على الانطفاء إلى الأبد، وإننا لنناشدكم -يا أبناءنا البررة- ألا تدعوا هذه الذبالة تخفت وتنطفئ، انفخوا فيها من أرواحكم.. ألقموها قلوبكم وأطعموها عقولكم لتعود تتأجج من جديد وتنير لهذا الشعب مصابيح الهدى والإيمان.
(4)
جئتم إلى هنا مدفوعين بقوة قدرية لا تقاوم.. فأنتم مبعوثو القدر وسفراؤه إلى هذه البلاد، لقد اجتزتم بوابة آسيا الكبرى، وفتحتم الطريق لمواكب الإيمان من بعدكم، ولعل حدس أستاذكم النورسي بنهوض آسيا على صوت الإسلام من جديد يوشك أن يصدق.. فأنتم هنا هذا الصوت العظيم الذي سيتردد صداه قريبا في عمق أعماق آسيا.. فاهتفوا ولا تنوا عن الهتاف ورجّوا الأرض بهتافكم، وهزوا الأبواب الموصدة في وجوهكم، فمن أدام الطرق فُتح له ولو بعد حين.
(5)
لا تقولوا: ما نحن؟ ومن نحن؟ وأنّى لنا أن نعيد لكلمة التوحيد وهجها فوق هذه الأرض؟ وأنى لنا أن نعمر أرضا خرابا عملت فيها معاول الهدم والتخريب خمسة وسبعين عاما؟ وكيف لنا أن نبذر بذرة الإيمان في أرض قاحلة جرداء؟ وبماذا نشق الأرض ولا رفش ولا محراث؟ ونحن نقول لكم: إن عزّ المحراث فلتكن أظافركم هي المحراث الذي به تحرثون.. وإن عز الرفش فلتكن أسنانكم هي الرفش الذي به تحفرون، ولأن صوت الحياة القرآنية هي التي تتكلم في دواخلكم، فسوف تصغي إليها حبات التراب وجلاميد الصخور، بل ستصغي إليها الأرض والسماء، وكل الكائنات ستأتيكم طائعة منقادة.. ها هي فرصتكم -يا أبناءنا- كي تعلّموا البشرية كيف يمكن للإيمان والإخلاص أن يأتي بالمعجزات، وتعلّموا العالم أن وجودكم هنا هو الدليل الأقوى على عالمية الإسلام وعمومية القرآن.
(6)(2/27)
لا تستمعوا إلى أولئك المثبطين والمعوقين الثرثارين، وهم يتخافتون متهامسين: أي خيال ضبابي يتشبث به هؤلاء.. وأي حلم وردي يُغرقون أنفسهم فيه.. وأية آمال بعيدة المنال يركضون وراءها؟
ونحن نقول لكم -يا أبناءنا- ليس الخيال هو ما نخافه عليكم، وإنما نخاف عليكم افتقاركم إلى الخيال.. فما أكثر ما بعثه الخيال من الهمم.. وحفز من الأذهان، ودل وأشار إلى خفايا من الحقائق ما زال العقل يدين بها إليه.. وجودنا هنا بل وجودكم أنتم كان حلما من الأحلام، وهو اليوم حقيقة من الحقائق.. وما هو خيال اليوم يكاد يكون حقيقة غدا.. والأمة التي يعقم خيالها يعقم ذهنها ويتبلد وجدانها.
(7)
أحبوا "داغستان" بكل حبة من قلوبكم.. وليكن همكم بها فوق كل همّ.. ومحبتها فوق كل محبة.. فإذا أحببتموها سهل عليكم ما تلقونه في سبيلها من متاعب ومشقات، وسهلت عليكم التضحيات.
يقال: إن البلبل إذا تعشق وردة وأراد أن يغنّيها حبّه غرز شوكتها في صدره وشرع يغني لها أشجى ألحانه وأعذبها.. وأنتم كذلك -يا أبناءنا الأعزاء- دعوا بلابل الإيمان في صدوركم تغني "داغستان" أعذب الألحان رغم ما يوخز صدوركم من أشواكها.. فهي وردتكم ووردة آسيا الوسطى التي يهون كل شيء من أجل أن تسمع عنكم وتصغي لكم وهي ماسة القفقاس المتلألئة في تاج جمالها، لكنها تتأبّى عمن يرومها إلا المحبين الذين يشفع لهم عندها إخلاصهم في حبها وهداياهم إليها، وهل من هدية هي أثمن من الإيمان الذي تقدمونه إليها وتُحْبُونها به..؟
***
إيحاءات داغستانية :
خبز الخلود !
(1)(2/28)
لو أعطيتني الدنيا كلَّها .. لو توجتني ملكاً عليها .. لو ملَّكتني زمام أمرها.. لو طويتها ووضعتها في جيبي .. لو حملتها على طبق وقدمتها على مائدة روحي ..لو اعتصرتها في كأس وجعلتني أتحسَّاها حتى الثُمالة.. فإنك ـ في الحقيقة ـ لم تفعل شيئا، ولم تعطني سوى قبضة ريح، وحفنة تراب، لا تلبث أن يلفها الزوال ويطويها العدم، بينما يظلُّ لهيب الشوق في أرجاء نفسي مستعراً، وصراخ الجوع إلى خبز الخلود يهزّ أسماع الفضاء، ونازع الفطرة إلى البقاء والأبد يهيج في الروح نواحاً كنواح التكالى.
(2)
أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، صرخ بوجه الكون: (لا أحب الآفلين )(الأنعام:76) إمض عني.. تَنَحَّ عن طريقي ..لا أريدك..ليحترق العالم كله..ليتحول إلى رماد..ليطوه الفناء..فليس هو من همّي..وليس هو مطلبي..مطلبي مكوّن الكون..محبتي لمن لا يزول..قلقي بمَنْ لا يفنى ولا يموت..عبوديتي لأبدي البقاء.
يقذف به النمرود بالمنجنيق، يدركه جبريل عليه السلام وهو يهوي نحو النار المتأججة فيقول له : ألك حاجة ؟
فيردّ أبو الأنبياء : أما إليك فلا !
يقول جبريل : سَلْهُ ..أي سل الله حاجتك .
يقول إبراهيم : عليم بحالي غَنِيُّ عن سؤالي .(1)
وفي الحديث : (لو قال : نعم لي إليك حاجة لمحي اسمه من ديوان الخلّة)
النورسي رحمه الله يلخص لنا هذا الموقف الإبراهيمي بعبارتين فيقول: "تعلق أيها المسلم بالأبدي تتأبد..وصل أسبابك بأسباب الخلود تخلد " .
(3)
في المعراج يقول الله تعالى عن رسوله الكريم (ما زاغ البصر وما طغى) (النجم:17)رغم عظم ما شاهده - صلى الله عليه وسلم - من مظاهر الجلال والجمال في أرجاء الكون، فقلبه الشريف ظل متعلقاً بصاحب الجمال الأقدس والجلال الأعظم، ولم يلتفت طرفة عين إلى الفانيات الكونية، وبهذا حاز مرتبة المحبوبية والأقربية التي لم يحزها نبيُّ ولا رسولٌ قبله .
__________
(1) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 5 /400.(2/29)
الشوق المضطرم في قلبك إلى معالي الأمور هو دليل حياتك، مَنْ يخلُ قلبه من الشوق يَمُتْ وإن بدا للناظرين حياً.. مَنْ لم يتحول الإيمان في قلبه إلى طاقة من الشوق إلى الله والمحبّة لرسوله لا خير في إيمانه لأنه لا يأتي بخير.. لتكن نفوسكم تواقةً إلى الخلود، وتواقةً إلى الجنة .. لترتفع ببصرها عن الفانيات الهالكات ولتستشرف ببصيرتها على الباقيات الخالدات ..
مجدد القرن الثاني الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز يقول بعد أن لم يبق فوق الخلافة والحكم منزلة يتوق إليها: " إنّ لي نفساً تواقة ما تاقت إلى شئ ونالته إلا وتاقت إلى ما هو أعلا منه، وهي اليوم شديدة التوق إلى الجنة "(1) ويتوفاه الله بعد هذا الكلام بأيام.
(4)
لأجل الرسالة العظيمة التي يحملها المؤمن كان أفضل مخلوقات الله. وأنفس كائناته، وأحبهم إلى موجوداته، ففي الأثر: إن الجبل ليقول للجبل : سعدت اليوم بخطا مؤمن مشى فوق ظهري وسار بين شعابي..وإن الأرض لتقول للأرض : شَرُفْتُ اليوم بسجدة مؤمن فوق ترابي.. وإن الشجرة لتقول ليت الذي يستظل بظلي ويأكل من ثمري لا يكون إلاَّ مؤمناً، وتقول حبّة القمح: ليتني لا أغذو إلاّ جسم مؤمن، وتقول قطرة الماء ليتني لا أروي إلاّ عروق مؤمن.(2)
(5)
__________
(1) المناوي، فيض القدير 3 /160.
(2) الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن10 /267.(2/30)
في غسق هذه البلاد سطعت شمس إيمانكم.. فهبّوا أملأوا الأقداح الظامئات من أنوار قلوبكم.. أعطوا ولا تأخذوا.. جودوا ولا تبخلوا.. ارسلوا ولا تمسكوا.. تكاثروا تزاحموا عندما يفزع الإيمان.. وانصرفوا راشدين عن مواطن الأجرة والجزاء.. هكذا كان أجدادكم يكثرون عند الفزع، ويقلون عند الطمع.. كونوا عطاءً خالصاً لتحيوا..الشجرة تموت حين تكف عن العطاء.. إيمانكم يضعف ويهزل إذا هو لم يعط من ذات نفسه.. لمن أنفاس الإيمان في صدوركم..؟ أليست هي هدايا الرحمن إليكم..؟ أليس لكل شئ زكاة..؟ فلتكن زكاة إيمانكم مزيداً من العطاء لفقراء الإيمان.. لتكن ذواتكم النورانية كنزاً مبذورلاً لكل المظلمين في كل مكان..إن الأرض لتهتزّ طرباً لمس أقدامكم وإن السماء لتندى ابتهاجاً بأصوات دعائكم.. والجنة نفسها ترنو إليكم رنو الوامق المشتاق من فوق سبع سماوات.. وملائكة الرحمن تستغفر لكم مادمتم في طاعة الله وفي نصرة دينه.. إياكم والصبوة إلى شهوات الدنيا وملذاتها فإنها تطفئ جذوة الروح.. وتملأ القلب ظلاماً.. والبصيرة عمىً فتحرمون الرؤية إلى حقيقة رسالتكم ومغزى وجودكم..
(6)
الحوار الآتي جرى يوما ما بين أستاذنا " النورسي " وبين رفيقه وتلميذه " الملا رسول ":
قال ملا رسول: على رِسْلِكَ يا أستاذي.. هوّن عليك.. أرحْ نفسك قليلاً.. فنحن كذلك نخاف الله ونخشاه.. أما أنت فتكاد مرارتك تنشقّ من خشية الله.. أنظر إلى إصبع قدمك كيف تقرَّح بسبب جلوسك الدائم وكأنك في صلاة لا تنتهي..
يجيب الأستاذ قائلاً : يا ملا رسول.. لقد جئنا إلى هنا لكي نظفر بحياة أبدية خالدة بهذا العمر القصير والدنيا القصيرة.. أأعيش هنا كيفما أشاء وكما تهوى نفسي وأنا أسعى إلى الجنة وأطلبها..؟! لا أجرؤ على العيش كما أهوى أبداً ..!
***
إيحاءات داغستانية :
العربية لغة الروح والوجدان
(1)(2/31)
يحق للعربية أَن تفخر بكونها المصطفاة من بين لغات العالم لنزول القرآن الكريم بلسانها. والقرآن قمة ما فوقها قمة في إِعجازه البلاغي، أجمع على هذه الحقيقة بلغاء العربية منذ نزوله قبل أربعة عشر قرناً وحتى هذا اليوم، فكان لهذه اللغة شرف حمله إلى العالم، وتبليغه إلى البشرية، فعلا قدرها بعلوه، وخلدت على الزمان بخلوده. وإليه يعود الفضل أولاً وآخراً في حفظها من الزوال والاندثار كما زالت واندثرت كثير من لغات العالم.
والعربية ذات حِسٍّ روحاني، يستمدّ روحانيته من جذورها الغائرة في طبقات التاريخ، ومن عروقها السامّية الضاربة في أصول الديانات والحضارات القديمة، لذا فهي لا تعطي أقصى طاقاتها البيانية إلا إذا كان الموضوع المعالج بلسانها فخماً عالي المعنى، شريف المقصد، ومتصلاً بسبب من أسباب الروح.
ومن هذه الخاصية جاءت قدرتها الفائقة على أن تكون سماءً عاليةً لألمع نجوم القرآن، ولأسمى معانيه فغدا ارتباطها به ارتباطاً ملحمياً متيناً. فلا يُذكر إلاّ وتذكر معه ولا تذكر إلاّ ويذكر معها ، ومن هذا الارتباط الملحمي بينهما أصبحت علوم العربية وآدابها مدخلاً لا بدّ للدارسين والباحثين في علوم القرآن من الولوج منه، فمعرفة نحو العربية وصرفها وبيانها وبديعها وأسرار بلاغتها هي المدخل إلى أي علم من علوم الدين.
(2)
والعربية تنفرد بخصائص جمالية وفنية قلّما نجدها في لغة أخرى، فهي لغة مطواع بين يدي الأديب أو الشاعر، يشكل من طينة كلماتها ما يتسع له خياله من صور وأشكال، ثمّ ينفخ فيها من روحه فإذا المعنى صورة، وإذا الكلمات لوحة، وإذا قلم الأديب قد قام مقام ريشة الرّسّام. فصوّرَ وجسَّم ولوّن، وهذه القدرة العجيبة على التشكيل والتلوين لدى هذه اللغة دفعت ببعض النقاد إلى تسميتها بـ "اللغة الشاعرة".(2/32)
ولا أظننا نجانب الصواب إذا ما نعتناها بنعت آخر إلى نعتها الأول فأسميناها " اللغة الساحرة " لما تتمتع به من قوة استحواذ على النفوس، ونفاذ في العقول. وربما إلى هذا الإشارة في قوله- صلى الله عليه وسلم - : (إِنَّ من البيان لسحراً )(1)
ويجدر أن نشير هنا إلى أن نعتي " الشعر" و " السحر" كانا المفضلين لدى كفار قريش لنعت القرآن والرسول في بدايات الدعوة الإسلامية. حتى أنّ أعرابياً جافياً يسمع قارئاً يقرأ : ( فاصدع بما تؤمر ) (الحجر:94) فلا يملك نفسه فيقع ساجداً، ولما قيل له:ويحك آآمنت ؟! قال : لا، ولكني سجدتُ لبلاغة هذه الكلمة .(2)
(3)
وما من شك في أن ثمة تشابهاً من نوع ما بين السحر والشعر، فكلاهما ينبعثان من قوى خفية غامضة تكمن فيما وراء المعلوم والمحسوس، وكلاهما يستخدمان ما في الكلمات من طاقات بناء أو تدمير. وكلاهما يؤثران في المتلقي سلباً أو إيجاباً، غير أنهما يختلفان بعد ذلك اختلافاً كبيراً فيما يصدران عنه وينبعثان منه، فالسحر يستمد قواه المدمرة من منطقة ظلامية رهيبة تختفي في أغوار بعيدة من النفس، بينما الشعر طاقة شعورية إنسانية تستخدم اللغة للتعبير عن نفسها، وتتلون هذه الطاقة بلون المشاعر المنبعثة عنها كالتعبير عن الخير أو الشر، والحزن أو الفرح، وليس هناك حالة خامسة يمكن أن تتلبس الإنسان وتلون مشاعره، وكل الأغراض الأخرى التي قيل فيها الشعر لا تعدو أن تكون فروعاً من أصول تلك الأحوال الأربع.
(4)
ولغة القرآن تعلو على هذه المشاعر البشرية جميعاً، ولا تلتفت إليها وهو ـ أي القرآن ـ غير معني بأهواء النفس البشرية أو بالتعبير عنها، لأنه ليس شعراً ليفعل ذلك، ولا سحراً أسود ليستثير هذه المشاعر في الهدم والتخريب .
__________
(1) البخاري، كتاب الطب 5767؛ أبو داود، كتاب الأدب 4356.
(2) انظر الكلمات للنورسي ص 346.(2/33)
فالقرآن مهتم بقضايا الإنسان من حيث كونه كائناً كونياً له رسالة هادفة هي إعمار الحياة والارتفاع بها في مراقي الارتقاء حتى تبلغ مستويات عالية من الجمال المادي والمعنوي .
ولما كانت " العربية " روحية المنبت في أصولها التاريخية الأولى فلا جرم أن يغشاها سر من أسرار الروح، ويكتنفها بعضٌ من قواه الآسرة، والنافذة في النفوس، الأمر الذي جعل القريشين يتوهمون أن ما يسمعونه لا يعدو عن كونه شعراً أو سحراً لما كانوا يحسونه عند استماعهم له ـ أي القرآن ـ من تأثير يأخذ بقلوبهم وعقولهم.
(5)
وكثرة الوجدانيات في تراث العربية يرجع في جملته إلى خاصيتها الروحية، فهذه الخاصية تغري المنشئين كتّاباً وشعراء أن يستثيروا الجوانب الروحية والوجدانية. فيما يبدعون من نثر أو شعر. فما تعرفه العربية من الشعر والشعراء يكاد يزيد على ما تعرفه الدنيا منهما، ولهذا نستطيع القول : إن العربية لغة الوجدانيات لا ينازعها في ذلك منازع.
(6)
وحين نقول : إن " العربية " لغة الوجدانيات، فنعني بذلك أنها لغة الحياة فالحياة أخصب وأوسع من أعظم الأفكار والفلسفات ، والوجدان أعلق بالحياة من كل فكر وألصق بها، فالوجدان والحياة صنوان لا يفترقان.
فنحن نعيش الحياة بالوجدان قبل العقل، ونحياها بالشعور والحسّ قبل الفكر، ومن خلال الوجدان نلمس أجمل ما في الحياة من معانٍ، ومن خلاله نستطيب الحياة رغم آلامها وأحزانها ونستزيد منها، كما يقول أبو العلاء المعري :
تعَب كلها الحياة وما عجبي ... إلا من راغبٍ في ازدياد
(7)
وقد قدر للعربية أن تنشأ وتنمو في أحضان الشرق مهبط الديانات ومواطن الأنبياء والرسل، فأخذت وأعطت ، وتأثرت وأثّرت، وكان لها شرف الإسهام في إغناء وجدان الشرق وفي تشكيل نوازعه الروحانية، وبالمقابل فقد تأثرت بما كان يفيض عن هذا الوجدان من أسفار الحكمة والشعر والقصص والأساطير والمراثي والملاحم والبطولات .(2/34)
ومن خلال هذا الشرق الخصب الموار بنوازعه الروحية والدينية مضت العربية تشقّ طريقها عبر هذا الزحام الهائل، فمضت تتصفّى وتعذب وترقّ حتى بلغت قمة نضجها وجمالها على لسان خلّص أبنائها من قريش معدن العرب والعروبة. ثم توّج هذا النضج والجمال نزول القرآن بلسانها، فغدت بذلك صلة الوصل بين وجدان القرآن ووجدان العالم في كل زمان ومكان .
***
إيحاءات داغستانية :
سلاماً ياليل " دربند "
( 1 )
سلاماً ياليل "دربند"..سُقيتَ الرَّوح والريحان..ورويتَ الودَّ والنّحنان..يا ظلَّ الكون على أَكْبُدِنا الحَرَّى ..ويا فَيْءَ الزمن على أفئدتنا العطشى .. طال دربنا ..كلَّتْ أقدامنا ..استوحشت أرواحنا وآدتْ قلوبنا حتّى التقيناك، فإذا بحادي الركب يهتف بنا: هنا نَحُطُّ رِحَالَ العشق، وننصب خيام الهوى..تحت جنح هذا الليل المضمخ بأريج الصحاب (1)، والمعطّر بِمِسْكِ دمائهم، والنّديّ بندى أرواحهم، والمترع بنور إيمانهم ..!
ناغِنَا..سامِرْ قلوبنا..تعطّفْ علينا.. آنِسْ غُرْبَتَنَا.. دَعنا نستظلُّ بظلك.. ونتفيأ بَرْدَ فيئك.. تدّفقْ حناناً علينا.. تساكبْ لطفاً فوقنا.. تَوَاجَدْ عشقاً نحونا.. نحن أحفاد أولئك الراقدين تحت سمائك الناشرين الطّيبَ في أنحائك..!
(2)
يا ليل "دربند" لا تخش ظمأً بعد اليوم..فبدموع الوَجْدِ مِنَّا سنسقي صحاراك الظامئات، ونروي زهراتِكَ المصوحات.. وبأنين التائبين النادمين منا ستظلك سحائب الرحمة وتتنزل عليك لطائف الودّ، وبهتاف المحبين المحترقين بحبهم ستتفتح أبواب السماء وتهبط عليك الرحمات وتغشاك السكينة، أبداً لن تجفُّ مِنَّا العبرات.. لله نحزن..وله نسكب الدمع.. وإليه نجأر بالدعاء.. وعلى أعتابه نمرّغ الوجوه.. ويذوب مِنَّا الوجود.. وعلى "باب الأبواب" نرابط نحمي "كلمة الله" من الضياع ونصونها بالمهج والأرواح..!
(3)
__________
(1) هم شهداء الصحابة الأربعين الراقدين فوق روابي " دربند "( داغستان).(2/35)
يا" باب الأبواب" (1) ما اكثر ما اصطرعت عليك شعوب، والتحمت من أجلك أقوام، وسالت على بابك دماء..والتقت من خلالك أديانٌ وحضارات..كلُّ شئ فيك تاريخ ناطق أو إشارات إلى تاريخ..التراب..الأحجار..الصخور..القبور..القلاع..الحصون..البحر..الجبل..الأرض.. السماء.. بل الإنسان نفسه، إنه تاريخ متحرك من مجموعة أخلاط عجيبة من الأقوام والشعوب واللغات والأوطان انصهرت كلّها في أتون الزمن فَتَخَلّقَ منها إنسان جديد هو خلاصة مصطفاة من هذه الأخلاط والأمشاج !
(4)
على أعتاب " باب الأبواب " تُسْكَبُ العبراتُ.. وتذوب النفس حسرات.. ويتمزق القلب حزناً وأسىً.. على هذا الباب صُلِبَ الإيمان مرةً ولكنه لم يَمُتْ.. تناوشته سهام الكفر فأثخنه الجراحُ ولكنه لم يمتْ.. جرّعوهُ الصّابَ والعَلقَمَ فتهاوى مُدْنفاً ولكنه لم يمت.. حاصروه.. حرَّقوا كتابه.. سجروا به تناينر حقدهم لكنه ظلَّ حياً في القلوب ولم يمت.. لأنه حياة أقوى من كل حياة..وحياة فوق كل حياة..!
(5)
يا ابن " دربند " في أَغوار روحك يسكن تاريخ أرضك.. روحهُ المعذَّبَةُ مسكوبةٌ في روحك.. إنه يغورُ بكل آلامه في أعماقك.. يخصب حياتك لكنه يلونها بالأسى.. يشكل عقلك لكنه يثقله بالهمّ.. لا يَمُدُّكَ إلاَّ بمرارات تجاربه، ولا يمنحك إلاّ دموية حكمته..!
تحرَّرْ من صغوطه عليك.. إنسلخ عنه.. عِشْ خارجه.. ارتفع فوقه.. أُسْمُ عليه.. أسْمُ وارقَ حتى تلامس سماواتِ القرآن.. هناك التمس لك تاريخاً لا يُبْليهِ الزمنُ.. ولا يُعَتّقُه القِدَمُ.. ولا يلتهمه العدم.. هو للروح بهجة لا تنقضي.. وللقلب عيدٌ لا يحولُ ولا يزول..!
***
إيحاءات داغستانية :
على بوّابة " داغستان "
(1)
__________
(1) تسمي كتب التراث مدينة "دربند" بـ " باب الأبواب" وربما لأهميتها وكونها الباب الذي يدلف منه القادمون من أوربا إلى آسيا الوسطى وبالعكس/ انظر معجم البلدان لياقوت الحموي.(2/36)
إفتحي ياسيدة القفقاس..يا أليفة الدُّجى ورفيقة الليالي الطوال.. إفتحي يا معصوبة العينين.. يا مكبّلة الروح..يا مقيدة الفكر..!
يا لَعَيْنَيْكِ الظامئتين إلى ضياء الفجر ما أشدَّ حِلْكَةَ ظلامهما.. ويا لرُوحِكِ المتطلعة إلى الانعتاق ما أثقل ما تَرْسِفُ فيه من قيود.. ويا لَفِكرِكِ الوَثّاب ما أقسى ما يعاني من الأباطيل..!
افتحي.. من مسافات الشوق البعيدة أتيناك.. من آفاق الحنين القُرآني قدمنا إليك..النور ملأ ارواحنا.. والمحبة ملأ قلوبنا..ونداء الإيمان ملأ أصواتنا..
افتحي..هذه سواعدنا تُوالِى الطَّرْق على بوابتكِ.. وأكّفُنا تَدُقُّ بقوةٍ فوقَ جدران ليلكِ..!
افتحي.. فعلى بوابتكِ ـ لو تعلمين ـ قرآن وإيمان وفتيان شجعان، لو وقف هؤلاء الثلاثة على سور الصين لجعلوه دَكاًّ..!
(2)
افتحي يا دُرَّةُ القفقاس.. يا جوهرة التاريخ الدفينة في ذاكرة الإيمان.. لا ترتابى.. ما جئنا لِنَرْزَأكِ بمالٍ أو ولد.. ما أتينا لنأخذ بل لنعطى.. نحن الرِيُّ لظمأ قلبكِ، والقُوْتُ لمجاعاتِ روحكِ.. ونحن الفِدَاءُ "لكلمة الإيمان " إذا تَحَرَّكَتْ بها شفتاكِ.. قوليها أم تُرَى أنَّكِ نسيتها..؟!
إكسرى ما وُضِعَ على فمكِ من أقفال.. اهتفي بها ملأَ فَمِكِ.. فلو هتفتِ بها عادت أرضُكِ ربيعاً، وسماؤكِ عيوناً منهلةً بالبِشْرِ والنور والفرح الإلهى، ليغسل كُلَّ ما عانَتْ منه روحكِ من أوجاع، ويُضَمَّدُ كل ما شكا منه قلبكِ من جراحات..!
(3)
مُدَّ يدَكَ يا بطل" داغستان ".. ضُمُّها إلى أيدينا.. دُقَّ معنا الأبواب..
لِتُعَانِقْ روحكَ أرواحنا.. لتَحْفِزْ هِمَّتُكَ هِمَمَنا.. ولْتُلْهِب إرادَتُكَ الجبارة إراداتنا.. إننا نسمع صوتك القوى يَتَرَدَّدُ صداه في فضاءاتِ أرواحنا.. إنه يحدونا في مسيرتنا الإيمانية.. يا شيخنا الجليل.. نادها.. قل لها من نحن وماذا نريد..؟(2/37)
ها أنت ذا تخاطبها.. إننا نسمعكَ تقول: أَنا الشيخ شامل أناديك فاستمعى إلىَّ.. افتحي لهم كُلَّ الأبواب.. إننى أباركهم من وراء الغيب.. إنهم فتية الإيمان الذى انشق عنهم كهف نور.. على عين القدر صُنِعُوا.. وفي كنفه نشأوا.. ضمائرهم تشع نوراً.. أرواحهم تتألق صفاءً ونقاءً.. أرضهم سماء.. وسماؤهم قرآن.. وليلهم مذاب ضراعة ودعاء.. ونهارهم جدّ وعلم وعمل ضمّيهم إلى أحضانِكِ فهم نِعْمَ الأبناء لِنِعْمَ الأمهات..!
(4)
أنتم أيها الغرباء الحاملون غربتكم فوق كواهلكم.. اغتربوا ففي غربتكم سرُّ قوتكم.. تفرَّدوا..توحدوا.. فتفردكم سؤال ملحّ يوخز أفهام الآخرين.. إنمازوا فتميزكم لغز يحفز العقول لكي تسبر غوره وتفهم سره.. أيها الحاملون غربة الإسلام إلى أرض "داغستان" طوبى لكم وبشراكم قوله- صلى الله عليه وسلم - : ( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء )(1) فطوبى لكم هذه الغربة المحببة.. إنها آية إيمانكم في هذا العصر.. وعلامة الصواب بين أخطاء العالم وخطاياه.. ولكن انتبهوا.. فما لم تكن قلوبكم هي التي تتكلم من خلال شفاهكم فلن تستمع إليكم "داغستان".. وما لم تهبط أرواحكم على أطراف ألسنتكم ساعةَ تخاطبونها فلن تصغي إليكم.. لقد أصغت كثيراً حتى ملّت، واستمعت لآلاف الأصوات وهي تزف إليها الأمل في نعيم الحياة، ورفاه العيش، ثم خرجت من كل هذا الضجيج المصم وهي اكثر هزالاً، وأشد جوعاً، وأعظم بؤساً.. فكفرت بكل الأصوات إلاّ صوتاً واحداً ما زالت تتوق إلى سماعه ألا وهو صوت الله تعالى.. فكونوا جديرين بحمله إليها وتبليغه إياها..!
(5)
__________
(1) مسلم، كتاب الإيمان 208؛ الترمذي، كتاب الإيمان 2553.(2/38)
نعلم أنكِ بكيتِ فُقْدانِ الهوية.. ونعلم أنهم سلبوكِ إياها.. ونعلم أىَّ عذاب مخيف تَحَمَّلْتِ حين لم تعودي تعرفين من أنتِ ومَن تكونين..؟! ونعلم ما قاسيتِ من الآم الانقسام بين أن تكوني "داغستان" الإيمان والإسلام وبين ألاَّ تكوني.. ونعلم غزارة الدموع التي سفحتها فوق ليالي الحيرة الطوال.. ونعلم ما اجْتَرَحَتْ أحزانُكِ في صحراء روحِكِ من حرقةٍ وعذابٍ وجَوَى..!
نعلم كل هذا.. ونأسى لكل هذا.. ومن أجله أتينا.. من أجل الهوية السليبة قَدِمْنا.. من أجل أن تكوني "داغستان" الإسلام والإيمان نحن هنا.. ومن أجل أن تلتقي هويتَكِ السليبةَ وتتوحدي مع شَطْرِكِ المَقْصِىّ جئنا إليكِ وحططنا رحالنا على بابكِ، وأقمنا خيام أشواقنا في رحابكِ.. فأومئ إلينا.. أشيرى نحونا.. تجديننا بين يديكِ.. فلذاتِ مضيئاتٍ من كبد الإسلام، وجذواتٍ متوهجاتٍ من أقباس الإيمان والقرآن..
يا أمنا الحبيبة التي عشقتها أرواحنا لا تبعدينا عنكِ.. خذينا إليك وامنحينا حبَّكِ.. وضُمّي يَدَكِ لنجدد معاً ما اندرس من معالم الإيمان.. ونعيد ما غاب من آيات الهدى والفرقان، في رحابكِ وفوق أرْضكِ..!
(6)
أينما مضيتُ ـ في شعاب هذه المدينة ـ أسمع وقع خطاهم، كيفما أصغيت اسمع نبضات قلوبهم.. وإذا ما تنفست أتنفّس عطر أرواحهم.. وإذا ما هبّت الريح حملتْ إلى أصداء أصواتهم، وصليل سيوفهم، وصهيل خيولهم..!(2/39)
أولئك الحفاة العراة الجائعون الظامئون الذين اتعبوا التاريخ، فظلَّ يركض وراءهم فلا هم يتوقفون ولا هو يلحق بهم.. إنهم هنا فوق روابي هذه المدينة يرقدون..جائعون حقاً ولكنهم كانوا للحق أشدَّ جوعاً وأعظم ظمأً.. حفاة عراة صدقاً ولكنهم أبداً لم ينتعلوا أبشار الشعوب (1)ولم يتسربلوا دماء البشر.. أرضيون طينيون ولكن صحبتهم لنبيهم - صلى الله عليه وسلم - جعلت أرضيتهم سماءً.. وطينيتهم عنصراً نورانياً مشعاً وحولت تمراتٍ في كفِّ واحد منهم إلى جمرات محرقات فيقذف بها ويقذف بنفسه إلى رحى الحرب لينال الجنة التي اشتاق إليها واشتاقت إليه..!
أتدرون ماذا كانت تمثل هذه التّمرات في كف ذلك الصحابي الجليل..؟ هي دنياه.. هي ماله.. هي شهوته ولذته.. هي درهمه وديناره.. فلما ألقاها من يده ألقى بكل ذلك وراء ظهره فصار أهلاً للشهادة والجنة..!
أيها الراقدون فوق روابي هذه المدينة.. يا صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.. أعيرونا قوة أرواحكم.. امنحونا صلابة سواعدكم.. ابتعثوا فينا هممكم.. اقدحوا أزندة إراداتنا.. علّمونا كيف نقتحم الأهوال ونصارع الخطوب ونهزم المستحيل.. أمدّونا بحكمتكم.. أرشدونا.. زهّدونا.. لكي نلقي ما بأكفَّنا من رموز الدنيا إلى هاوية الفناء.. خذوا بأيدينا.. امنحونا بركاتكم لكي نؤدي رسالة الإيمان ونفوز برضى الرحمن..!
داغستان / دربند / في شباط 1999
النُّورسي .. أديباًً
بسم الله الرحمن الرحيم
(الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الإنسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ.) (الرحمن:1-4)
1-الرحلة إلى منابع الجمال
__________
(1) البشر: جلد الإنسان ومنها قوله تعالى في النار: ( لوّاحة للبشر ) والعبارة كناية عن عدم استعباد الناس وامتهان كرامتهم.(2/40)
جئت – أيها الصديق العزيز – تطلب قلب "النورسي" بين قلوب الأدباء .. ؟ حسناً .. أنا أدلك عليه، وآخذ بيدك إليه .. أنظر. . . إنه هناك .. بعيداً .. بعيداً .. وراء تخوم العالم .. وفوق حدود الأكوان. . . سابحا بين عوالم المعاني الفائضة من أسماء الله الحسنى. . . يروح ويغدو متلمسا جمال الوجود، وملتقطا لآلئ الحسن من فوق جيد الأكوان .. هذا العَطِشُ المحترق بعطشه، المتسعر بوجده .. ما ناغى الجمال أحد مثله .. ولا ذاق من رحيقه أحد كما ذاق، ولا شرب كؤوسا مترعة من كوثره كما شرب .. حتى إذا ثمل، وانتشى هوى ساجدا بين يدي الله تعالى سجودا أبديا لم يَقُمْ منه حتى توقف نبضه، وأغمضت أصابع الموت أجفان بصره وبصيرته.
و "النورسي" عقل يفكر، وروح يستعر، وشوق يلتهب، ورغبة تتوجع، وحزن يتفجع .. فأِن لم يخلق هذا أدبا فما الذي يخلقه إذن…؟! وإن لم يصنع هذا أديباً فما الذي يصنعه إذن .. ؟!
ومنذ نعومة أظفاره وهو فتى يدرج في شعاب قريته، شعر بأنامل الجمال وهي تتحسس مساقط الحياة من سويداء الروح، فإذاً قلبه بلبل غريد يغرد بألف لسان ولسان، وإذا روحه نشيد تتردد أصداؤه بين قمم الكلام من جميع اللغات.
2- ( بَلدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ) (سبأ:15)
ومراتع الجمال الأولى لقلبه الفتي كانت قريته "نورس" .. إنها بين قرى الأناضول كشعاع الروح في ظلمة النفس .. في الإصباح تتلفع بأوشحة شفافة من ضباب لؤلؤيّ فاغم العطر .. بينما فؤاد الأرض العطش يستقبل زخات مطر بين آونة وأخرى .. وسنابل القمح الذهبية في باكورة الصيف تظل تستقبل بلهفة دفقات حنان من نور الصباح (بَلدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ).(2/41)
و "النورسي" في هذا المهرجان الجمالي الذي تتناغم فيه الألوان والصور الأصوات يغدو عينا لماحة نَلُمُّ لآلئ الحسن المنتثرة في الحقل والوادي والجبل، وعلى الشجر وفوق الزهر، وروحا شدها بكل شيء فيغدو وترا مشدودا مستوفزا يتحرك للهمسة، ويرن للمحة والخطفة .. لا شيء عتيق في رأي "النورسي" ولو رآه كل يوم، ولو ألفه وسكن معه وساكنه السنين الطوال، لأنه يرى في "المألوفات خوارق العادات، وفي المكرورات لمسات الخلق الدائرات المتجددات مع اللمحات واللحظات".
3- الوجود والعدم
وتصرخ روحه في ظلمة الليل وقد انتابه قلق مريع وأرق وجيع:
يا للهول ..هذا الموت الذي يطال كل شيء حي هل من منقذ منه ؟ وهذا العدم الذي يطوى كل موجود أما من فكاك عنه ؟
إن قضية جديدة بدأت تتشكل ملامحها في ذهنه الفتي، وتستأثر بجل اهتمامه، وهي قضية الصراع الرهيب بين البقاء المتشبث العنيد، والفناء المتشبث العنيد، منذ أن سمع والده وبعض ضيوفه يديرون حوارا بينهم حول الموت والحياة، والوجود والعدم. وفي إحدى الليالي وهو في الفراش حيث يتقلب على إبرٍ محماة من القلق والأرق، يسأل نفسه:
لو خيرت -يا سعيد- بين العدم والوجود حتى في جهنم الحمراء فماذا كنت تختار؟ ويجيب: إني وبلا تردد أختار الوجود حتى في جهنم الحمراء على العدم، ولئن أكون شيئا ما يحترق خير من أن لا أكون على الإطلاق.
وبعد سنين من تلكم الليلة المريعة، وبعد تفكير عميق في ظاهرتي الموت والحياة، والوجود والعدم يخلص إلى أنه لا فناء ما دام خالق الوجود موجودا، ولا موتا ما دام واهب الحياة حيا، فالفناء في الحقيقة هو عين البقاء، والموت هو عين الحياة.(2/42)
ويضرب لذلك مثلا فيقول: "إن هذه الزهرة الجميلة التي تنظر إليك مبتسمة، لا تلبث إلا قليلا حتى تذبل وتموت، إلا أنها تظل حية في بذرتها التي فيها خارطة حياتها، وفهرس وجودها، وهي حية كذلك في ذاكرة المشاهدين. وفي مخلية الكون، وفي علم الله، وكذلك الإنسان فإنه يموت من جهة إلا أنه إذا مات يرجع حيا في علم الله، ثم يعود الى عالم الخلق والتكوين مرة أخرى للحساب والثواب والعقاب" ولعل إلى هذا يشير القرآن الكريم حيث يقول على لسان الكافرين: (ربَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَينِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ) (غافر:11).
4- المواجيد والأشواق
يا وجد القلوب .. يا شوق الأرواح .. يا لهيب الفكر .. تأجّج وتوهج .. وازدَدْ تأجِّجا وتوهجا فقلب بلا وجد .. وروح بلا شوق .. وفكر بلا لهب .. أشلاء نفس ميتة ومساكن ظلام، وأعشاش عفونات، فالإيمان ينأى عن مساكنة الظلام، أو العيش بين الأموات.
ولكي يدخل النفس بدون استئذان، يصوغ "النورسي" المقاصد الإيمانية صياغة فنية وأدبية، حتى إذا ما زجت النفس، وخالطت القلب، أضاء الروح، وتوهج الوجدان، وتألق العقل، واستضاء الفكر، وسمت الحياة وطهرت وعادت كما بدأ الله أول خلقها.
فكل شيء -عند النورسي- من ينبوع الجمال والجلال الإلهيين يأتي واليهما يعود، وإن المحبة أصل الوجود، والجمال جوهر الكون، ومن دونهما فلا كون ولا وجود ولا خلق.
5- الخَلْق والفرح الإلهي
ولأن من صفاته تعالى "الخالق" فهو لا بد أن يخلق فهو "خلاق" إلا أنه يحب ثم يخلق، فهو يحب خلقه قبل أن يخلقهم، ويحبهم بعد أن يخلقهم، فكما أن كل صانع يحب صنعته ويفخر بها، ويباهي بها، ويشعر بالزهو بسببها، فكذلك الخالق -ولا مناقشة في المثال- فأنه يحب خلقه، ويفرح بهم، ويباهي بهم، ويسبغ عليهم وده ولطفه ورحمته.
ويعبر "النورسي" عن قدسية هذه المعاني قائلا:(2/43)
"وله –جل وعلا- ما يشبه المحبة - تليق بذاته سبحانه- بمقدار سعادة مخلوقاته، وبمدى تنعمهم وفرحهم، وله شؤون ربانية مع خلقه يتعذر التعبير عنها، وقصارانا أن نقول: إنها لذة ربانية لائقة بذاته، وعشق رباني غاية في القداسة، وفرح رباني عالي القدسية وسرور للذات الرباني يند عن الفهم والوصف، بحيث إن كلاً منها هي أسمى وأرفع وأنزه بما لا يتناهى من درجات العلو والسمو والقداسة مما يظهر في الكائنات، وما نشعر به من العشق والسرور بيننا وبين الموجودات بعضها مع البعض الآخر"(1)
ثم يزيد في التوضيح فيقول:
"وهكذا فإنْ كان إنسانٌ صغيرٌ عاجزٌ عن الإيجاد والخلق يغمره السرور إلى حد الاختيال بمجرد صنعه صنعة صغيرة، فكيف بالصانع الجليل خالق هذا الكون الموزون المموسق والذي جعل منه حاكيا عظيما يحكي قصة الخلق والخليقة، ويبث أصداء تسبيحات أهل الأرض السماء، والذي خلق رأس الإنسان بعقله وحواسه حاكيا ربانيا آخر يَبُثُّ موسيقى المشاعر والأحاسيس، في الليل والنهار، وفي اليقظة والمنام، وفي جميع الأوقات، ولا تسكن هذه الموسيقى حتى تسكن فيه الحياة"(2)
6- مرآة التجليات الإلهية
هاأنذا أسمع صوت الوجد الشجي يملا قلب "النورسي" وأكاد أبصر مرايا فؤاده وهي تتكسر وتتطاير شظايا في الفضاء شوقا الى جمال المعاني، إنه يستقطر دموع الجمال وهو يخب صعدا نحو رؤى جمالية بعيدة المزار، كلما اقترب منها ازدادت بعدا، واشتطت نأياً، إنه ذلك الجمال الخلاق الساري بين الرؤية والرؤى، بين عين الرأس وعين القلب، بين جمال المحسوسات والمبصرات والمسموعات وجمال المجردات من المعاني المتجليات على الأرواح الطاهرات، إنه جمال مَصُونٌ محاط بسور من نار ونور، لا يَطَالُه إلاّ المنوَّرون الذين يطفئ نورهم النار، ويرقى وجدهم فوق الجدر والأسوار.
__________
(1) ص 744 من الكلمات، مع تصرف بسيط جدا.
(2) ص 745 من الكلمات، مع تصرف بسيط جدا.(2/44)
هذا الجمال الذي هام به "النورسي" والذي يشكل جوهر دعوته، وجده معنى عظيما متجسدا وقائما في الذات المحمدي عليه السلام، في جسمانيته وروحانيته، في خَلقه وخُلقه، إنه كما يصفه "النورسي": "مرآة الجمال الإلهي الأقدس، ومجسم أنوار أسمائه الحسنى، وموضع تجلياته، ومصبُّ محبته وعنوانُ رحمته على الأرض"
ثم يمضي فيقول: "فالله تعالى يحب كماله الذاتي. ويحب جمال صفاته، وجمال أسمائه الحسنى محبة لائقة به جل وعلا، ويحب أيضا محاسن مخلوقاته، وصنعته، ومصنوعاته، وسلطان الأولياء حبيب رب العالمين، أي: لمحبته لجماله يحب أصفى المرايا وأشدها نقاء العاكسة لهذا الجمال من الموجودات ومن بني الإنسان"(1)
7- محمد - صلى الله عليه وسلم - أديب الإنسانية
فأي أديب عظيم كوني الآفاق، إنساني النزعة، أممي النظرة، يمكن أن يكون من كان قلبه الشريف مهابط أنوار القرآن على مدى ثلاث وعشرين سنة. ومن كان روحه السامي مُضَمَّخَ أندائه، وذاتُهُ الشريفة صنيع جماله وجلاله، فأصبح بذلك كوناً إنسانياً شاسع الأرجاء يقطر من جميع أنحائه ماء الجمال والجلال، وتتساكب من سحائب أنواره بارقات العقل، والتماعات الفهم والحكمة والإدراك الأشمل والمعرفة الأعمق لآلام البشرية ولأوجاع قلب الإنسان، وصدق عليه السلام حين قال: ( أدبني ربي فأحسن تأديبي )(2) الأمر الذي حمل "برنارد شو" فيلسوف الإنجليز وأديبهم الكبير على الإعجاب به حيث يقول عنه: "أعطِهِ أية معضلة من معضلات بني الإنسان يجد لها حلاً قبل أن ينتهي من آخر رشفة من فنجان قهوته".
__________
(1) انظر الكلمات ص 740-741 مع شيء بسيط من التصرف الذي لا يخل بالمضمون.
(2) المناوي، فيض القدير 1/ 224..(2/45)
و "النورسي" تلميذ القرآن، وتلميذ رسول القرآن، يرى كتاب الله تعالى، وإن كان هو في الأساس كتاب إيمان وتوحيد وتشريع، إلا أنه كذلك كتاب أدب حي لا يموت، لأن منزل القرآن حي لا يموت، فالذي يأخذ عن القرآن يأخذ من حي عن حي، أما من يأخذ عن كتاب غيره فهو يأخذ من ميت عن ميت، "فمن أين تأتي الحياة من فاقد الحياة" كما يقول.
وما من أديب من أدباء العربية المرموقين في الماضي والحاضر إلا وهو متأثر بالقرآن بقدر أو بآخر، فهو خزين علوم العربية وكنزها الذي لا ينضب، منه تأخذ وإليه تعود فيما يَعُنُّ لها من إشكالات لغوية أو بيانية أو أدائية.
8- أدب الإيمان
والحس الشاعري والأدبي المرهف يطفر عفويا من قلم "النورسي" وهو يعالج قضايا إيمانية غاية في الأهمية، فعقله المجنّحُ يسابق روحه في استشرافاته على الأعالي من شؤون الإيمان، فعقله وقلبه عملا معا على إرساء قواعد معرفة إيمانية أراد "النورسي" أن تكون لها الصدارة بين معارف الإيمان.
وأكثر رسائله التي يبدو فيها حسه الأدبي والشاعريُّ واضحاً، ويفصح عن تلازم أبديٍّ بين عقله وقلبه كتابه الموسوم: "المثنوي العربي النوري" الذي استأنس في تأليفه بـ"المثنوي" لمولانا جلال الدين الرومي، إلا أن الفرق بينهما أن مثنوي الرومي كان بالفارسية، أما مثنوي "النورسي" فهو بالعربية، وهو وإن لم يكن شعرا كمثنوي الرومي إلا أن أنفاسه شاعرية أدبية بإجماع "النقّاد".
وفي منهجه في تأليفه للمثنوي يقول "النورسي":
إنه سلك سبيلا قلَّ سالكوه في تأليفه، إذ حاول السير مع العقل ولكن تحت نظر القلب، ومع القلب ولكن تحت نظر العقل.
ويقول: لو عشت زمن "الرومي" لكتبت "المثنوي" الذي كتبه، ولو عاش هو زماني لاضطر إلى كتابة "رسائل النور" التي كتبتها. وكلامه هذا ينمُّ عن خزين أدبي عظيم لم يستخدم منه إلا القليل الذي يخدم رسالته الإيمانية التي كرس لها حياته.(2/46)
وإن كانت "دولة الأدب" ترحب بقلم "النورسي" كواحد من أبرز أقلامها إلا أن قلمه الأكبر والأعظم كان اكثر انتماء، واشد تعلقا بدولة الإيمان رسالته الأخطر في عصره، فاختلاف العصور يوجب كذلك اختلافات في أنماط التفكير، واختلافات في أساليب تناول الإشكالات الفكرية والإيمانية التي يطرحها عصر دون عصر، فعصر "النورسي" هذا العصر الاكتساحي لكل ما توارثته البشرية من قيم دينية ومثل أخلاقية وفكرية عصر الشك حتى في بديهيات العقل، استدعى أنماطا من التفكير وأساليب من المعالجة لم يكن "الرومي" مُضْطَراً إليها.
والامتزاج والتنافذ بين عقله المجنح وروحه المحلق، هو ميزة "أدب الإيمان" الذي كان "النورسي" واحدا من رواده الكبار في هذا العصر.
9- "النورسي" والفكر الأوروبي
وليس صعبا على "النورسي" ذي الذكاء الخارق والعقل الاستيعابي الشمولي أن يحيط بكليات الفكر الأوروبي الحديث، وَيَلُمَّ بفلسفاته وعلومه، ويطلع على إيجابياته وسلبياته، ويقف على تأثيراته في "الإنسان المعاصر" وفي تكوين أفكاره الجديدة، وتغيير نظرته إلى الوجود و الحياة، وأخيرا كيف دفع هذا الفكر بمعطياته المادية بشرية القرن العشرين، إلى هذا الموقف البارد واللامبالي من الدين والإيمان عند البعض، وإلى العداء الصريح عند البعض الآخر .
و " النورسي " بنزعته الموسوعية، ونظرته الشمولية التي كانت طابع حياته الفكرية والروحية منذ تَفَتُّحِ وعيه على الحياة، شغوف بالقراءة والدرس والتفحص والتأمل، يقرأ في علم النفس، ويدرس الفلسفة، ويهتم بفسلجة الإنسان التشريحية، ويلم إلمام المتخصصين بالرياضيات والفيزياء والكيمياء، وبعلمي الحيوان والنبات، ويتأمل في العلوم الفلكية، ويرصد ويطّلعُ على أحدث نتاجات الفكر الأوربي المترجمة إلى التركية من قبل بعض المرموقين من المثقفين الأتراك ويرصد النجوم من مرصد فلكي في مدينة " وان " كان قد استقدمه من " أوربا" أحد ولاة المدينة .(2/47)
وبعد ذلك كله يستخدم ما أفاده من هذه العلوم والمعارف في خدمة ( الإيمان ) القضية الكبرى التي كرس لها حياته، وأوقف عليها وجوده .
ولما كانت الموجودات في هذه الدنيا- كما ينظر إليها النورسي- "هي أمثلة مصغرة لوجود أخروي كبير . وأطياف خيال لحقيقة أخروية أعظم وأشباحا باهتة لرؤى فكرٍ أخرويّ غاية في السَعَةِ والشمول والدقة والعظمة . . لذا فإن كل موجود " هنا في عالمنا الصغير هذا موصول بما يناظره هناك، وكل معنىً هنا مرتبط بمعنى أسمى وأعظم هناك، فالدنيا مرتبطة بالآخرة، وحبُّ البقاء والكمال عند الإنسان هنا يؤكد معنى الخلود والبقاء والكمال هناك، و " الصُّورُ " الذي ينفخ فيه الربيع ليبعث من الأجداث مئات الألوف من أنواع النبات والحيوان والحشرات كلَّ سنة، إيماءة واضحة لصورٍ أكبر، وحشر أعظم يوم القيامة . والحافظة في مخّ الإنسان وهي بحجم حبَّةِ خردل، والتي تحتفظ بشريطٍ مسجلٍ لماضي الإنسان وما وقع له من أحداث، هي مثال مصغر لحافظة أخروية أوسع وأكبر تحفظ سجلاً كاملاً لتاريخ حياة الإنسان على هذه الأرض، ليعرض عليه في الآخرة عند مناقشته الحساب .
10- فكر " المعاناة "
وكلّ كلمة قالها أو خطّها أو أملاها على تلامذته إنما هي حقيقة بعيدة المنال، خاض إليها الأهوال، وقطع الفيافي والقفار، وعبر إليها بحوراً من حُجُبِ النفس والوجدان، وقاسى من أجل اقتناصها أشدَّ المقاساة، قبل أن تتجلى في سماء ذهنه مجلوة مشرقة مبرأة من ظلال الشكّ وسحائب الوهم كالشمس الطالعة في ضحى يومٍ صائفٍ .
وليس " النورسي " صاحب قلم باردٍ يغمسه في مداد فكر بارد، ليكتب ما يشاء وقتما يشاء، إنما هو المعاناة الجريحة المدّماة التي تنزف فكراً فيه حرارة الروح، ودفء القلب، وإنما هو السحابة المثقلة بماء الحياة والتي لا يدري أحدٌ متى تبرق وترعد وتغيث، وإن شئت فاستمع إليه يقول في وصف حاله عندما كتب " مثنويه "!(2/48)
( .. والكلمات إنما تولّدَت إثر جدال هائل، ونقاش عظيم مع الفكر، وسَطَ إعصار تتصارع فيه الأنوار مع النيران، فإحسُّ برأسي يتدحرج في آن واحد من الأوج إلى الحضيض، ثم يرتفع من الحضيض إلى الأوج، ومن الثرى إلى الثريا ؛ إذ سلكت طريقاً غير مسلوك، في برزخ بين العقل والقلب، ودارَ عقلي من دهشة السقوط والصعود فكلما صادفتُ نوراً نصبتُ عليه علامةً لأتذكره بها، وكثيراً ما أضع كلمةً على ما لا يمكن التعبير عنه للإخطار والتذكير، لا للدلالة، فكثيراً ما نصبت كلمةً واحدةً على نور عظيم )
و " النورسي " نفس شاعرة، وروح لهيف، وقلب مشتاق، ووجدان رقيق مرهف، وبصيرة نفّاذةٌ مذواق، وبصر لمّاح رصّاد لا تفوته بارقة من بوارق الجمال الكوني، ولا تفلت منه سانحة من سوانحه، وطائر عجيب يلقط لآلئ الحسن من فوق جيْدِ الوجود، وظامئ عطش يرتشف زلال الجمال من رضاب ثغور الأكوان .. ومع كونه يملك كلَّ صفات " الشاعر العظيم " إلا أنه لم يقل شعراً، أعني أنه لم ينظم شعراً كما ينظم الشعراء، ولكن ما قاله في المثنوي رغم أنه يحمل ميزات " النثر " ومقوماته شكلاً وقالباً إلا أنّه شاعري الروح والنفس، وجداني الانسياب، رشيق في صوره وأخيلته مع عمق أفكاره ودقيق معانيه .
والشعر - بعد هذا أو ذاك - قد يضطر للمبالغة في كثير من الأحيان حتى يحفز ويثير ويحرك، وهو من أجل تصوير معنىً من المعاني، وتجسيم قيمة من قيم الجمال والحق قد يجنح إلى ما وراء المعقول، ويهبط في خياله على " اللامعقول " من الأخيلة والصور .(2/49)
وكلام " النورسي " في مثنويه - رغم روحه الشاعرية - منزه عن هذا كله، فهو يتفاعل مع صور " الحقيقة " ويتحاور مع آثارها، ويناقش ظلالها على صفحة الوجود، وهو لا يفعل أكثر مما يفعله الرسّام البارع في الصور الباهتة وقد حَالَت خُطُوطها، وانطَمَسَت معالمها، واختلطت ألوانها، فيمرّ عليها بفرشاته المطواع ليبعث الدفء والحرارة فيما بَرُدَ من ألوانها، ويُجسِّم ما غام وشحب من معالمها، ويمنحها أبعادها التشكيلية، ويهب الرائي عمق الرؤية، ونفاذ النظر إلى دواخلها .
ولو أردنا أن نصف كتاب " المثنوي العربي النوري " لقلنا :
( إنه ليس سوى لوحة فنية رائعة الجمال، رسمها فكر ملتهب، وكوَّنها قلبٌ دامٍ، وسكب عليها الظلّ والضياء روحٌ حزينٌ مغترب، فلا عجب إنْ شَدَّت - هذه اللوحة - إليها الانتباه، وقيدت بها الأفكار، وحبست عليها الأرواح، وأوقفت لها القلوب .
وهي بموسيقية ألوانها، وتناغم ظلالها وأضوائها، وإشراق آفاقها، وامتداد أمدائها، وعمق أبعادها، وجمال تعبيرها، تأسر الألباب، وتَشْدَهُ النفوس، وتَهُزُّ رواكد الأشواق في الإنسان إلى " ما وراء " هذا العالم الضيق المحدود، وإلى ما وراء هذه الحياة التي مهما طالت فهي دون ما يرجوه من خلود، ودون ما يراوده من آمالٍ في البقاء والأبد )(1) .
11 - البلبل
__________
(1) انظر كتاب "مختارات من المثنوي العربي النوري " اختيار وتقديم كاتب هذا البحث في الصفحات 12 , 13 , 14 ، 15 ، 16 مطبعة الزهراء الحديثة / 1404 هـ – 1983 م / الموصل – العراق.(2/50)
نعرض هنا إحدى روائع النورسي " الأدبية التي ترقى به إلى مصاف الأدباء الإسلاميين الكبار، فهو في هذه القطعة يرتفع إلى القمة التي ارتفع إليها شاعر الصوفية الأكبر " مولانا جلال الدين الرومي". أيها البلبل الغريد .. يا ملك اللحن والغناء .. يا صناجة الطير وقيثارة الغاب .. تغن يا عاشق الأزهار .. واسكب حنان قلبك وأشواق روحك في أذن الورود وأسماع الأزاهير .. ففي صوتك الشجي ظمأ الطير كلها إلى " الزهرة "، ملكة النبات، وأميرة الحقول والبساتين والغابات لتبثها - باسم كل ذي جناحين - رسائل الود والعشق والمحبة .. وتعلن لها - بلسان الطيور - الشكر والامتنان لمملكة النبات على ما تهديه من أرزاق وأقوات لضيوف الرحمن على هذه الأرض.
تنتقل من فنن إلى فنن، وتطير من زهرة إلى أخرى جذلان منتشيا، وتنظر بعين الشكر إلى هذه الأرزاق المسوقة إلى أبناء جنسك، وهذه الأقوات المهداة من خزائن الرحمة الإلهية إلى الأفواه الجائعة، والمعدات الخاوية، فيستخفك الفرح، ويهزك الكرم الإلهي العميم، فتصفق بجناحيك الصغيرين، وتطلق باسم كل طير وحيوان أصوات الترحيب والتهليل، وترسل ألحان الحمد والشكر والثناء .. وتغمر زهرتك بفيض حبك، ومذاب عشقك، ويتساكب وجدك كأنداء السحر فوق وجه هو ألطف الوجوه وأرقها .. وتنساب قبلات فؤادك على ثغر هو أشهى الثغور وأعذبها .. وتدلف إلى محاريب الطهر والنقاء حيث العذارى من أزاهير الروض وقد غدون شفاها مسبحة، وقلوباً ولهى ذاكرة، فتلملم من فوق الشفاه تسابيحهنَّ وتجمع من بين الضلوع ذكرهُنَّ، ثم تمضي بصوتك العذبِ الحنون تسبّحُ عن كل زهرة، وتذكر بلسان كل وردة على عتبة مقسّمِ الأرزاق، ومالكِ الملكِ .. وعند باب الرحمن الرحيم ذي الجلال والإكرام .(2/51)
هذا بعضُ ما نستشفهُ من ألحانك - أيها البلبل العزيز- وبعض ما نحدسه من تغاريدك .. وربّما أنت تقول أشياءَ أخرى لا نرقى إلى فهمها، وتودعُ أُذُن الكون رسائل لا ندرك كنْهَها . ولا نعلمُ سرَّها .. وربَّما أنت نفسك لا تفهمُ مقاصد ما تؤديه، ولا تدرك مغازي ما تفعله، ولكنك - على رغم ذلك - سعيد بعملك، مبتهج بواجبك .. أما الملائكة والروحانيون المبثوثون في أرجاء الكون، فأنهم أقدر منا ومنك على فهم ما تقول، وعلى إدراك ما تعني، وهم بدورهم يرفعون رسائلك وينقلون أحاديثك إلى أبواب الحضرة الإلهية .
فجهلك - يا بلبلي العزيز - إن كنت جاهلاً حقاً بهذه الغايات والمقاصد لا يعني عدم وجودها، فأنت كالساعة تشير إلى الزمن، وتعلمنا الوقت، ولكنها لا تعلم هي ما تفعل ..
فاعتصرْ لذا ذات عملك من جمال الأزاهير، وتناول أذواق قلبك وروحك من أحاديث الورود، وتمايلهن على الغصون، وابثث ما شئت من أحزان بين أيديهن، فنغماتك مهما بدت حزينةً شجيةً فهي ليست شكاوى وآلاماً بقدر ما هي شكر وثناء وحمد لعطايا الرحمن وآلائه .
* * *
ولا يذهبن بك الوهم أيها الإنسان - فتحسب أن " البلابل "، هي لعالم الطيور وحدها، وأن أنواعاً أخرى من مخلوقات الله لا تعرف من يسبح باسمها، ويرفع آيات شكرها وحمدها لبارئها، فلكلِّ صنف ونوع بلبله الخاص به، وحتى العناكب والنمل والنحل لها بلابلها التي تلحن تسبيحها، وتغرد أشواقها ومواجيدها، وهي بالوقت نفسه لها هداياها التي تحصل عليها من خلال عملها، من متع تغريها بالمزيد من الجد في أداء واجبها في خدمة الصنعة الربانية، مثلها في ذلك مثل القبطان الذي يقود سفينة سلطانية في عرض البحار، فأنه زيادة على المرتب الذي يتقاضاه من خزانة الدولة فهو يستمتع ويلتذ بما يشاهد من مناظر جمالية تعرض له أثناء إبحاره وتطوافه بين الضفاف والشطئان.
* * *(2/52)
هكذا فلكل نوع من أنواع الكائنات بلبله الذي يلتقط من مجاميع النوع الذي يمثله ألطف حسياته، وأرق مشاعره، وأعذب مواجيده ثم يغرد بها ويشدو، ويسجع وينشد، فما من أُذُن في هذا العالم، وما من سمع في هذا الكون إلا ويلتقط ما يناسبه ويلذه من هذه الألحان والتغاريد من أصغر المخلوقات إلى أكبرها، وقسم من هذه " البلابل " ليلية التغريد، فهي تنشد قصائدها في دواوين الليل الساجي، فتحرك بهذا النشيد في هدوات الليالي مكنونات القلوب، ومشاعر الأرواح، تماما كما يفعل الأقطاب والمرشدون في تحريك الذاكرين، وتنشيط المتكاسلين من الدراويش والمريدين في حلقات الذكر وعندئذ يبدأ الجميع- كُلٌّ بلغته الخاصة على قدر حاله - بذكر الله سبحانه وتعالى والتوجه إليه بالشكر والمحبة والتعظيم والخشوع .
* * *
إذن فكل نوع من أنواع الموجودات - وحتى الأفلاك والنجوم - لها رئيسها الذي يقود حلقة الذكر فيها، وبلبلها الذي يلحن في عتمة الفضاء الوسيع أنوارها، ويغرد أضواءها ..
ولكن، أ تدرون من هو بلبل البشرية وعندليبها، وصاحب مواجيدها و أشواقها، وحامل آلامها وآمالها، والهاتف بصوت عقلها وقلبها .. ؟ !
أنه أفضل بلابل الكون وأشرفها .. وأعذبها صوتا وأعلاها نداء وأرقها مشاعر وألطفها حسا .. وهو المع بلابل البشرية من الأنبياء والمرسلين نورا، وأتمهم ذكرا، وأعظمهم شكرا، وأكملهم ماهية، وأجملهم وأبهاهم صورة .. ذلك الذي كل الكون بستانه .. وكل الوجود زهرته .. وكل الموجودات أغصانه، والأرض والسماوات روضه .. باعث الأشواق إلى الله .. وحادي القلوب والأرواح إلى بارئها وكل البشرية أوراده .. المغرد بالقرآن، والصَدّاح بآيات الله، محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - (1)
12- في مراعي " بارلا "
يقول " النورسي " :
__________
(1) : انظر الصفحات 133 ، 134 ، 135 ، 136 من كتابي ( رجل الإيمان في محنة الكفر والطغيان، أنوار نشريات، إستانبول، تركيا.(2/53)
بينما كنت على قمة جبل في "بارلا " أيام منفاي، أسرح النظر في أشجار الصنوبر والقطران والعرعر، التي تغطي الجهات، وأتأمل في هيبة أوضاعها وروعة أشكالها وصورها، إذ هب نسيم رقيق حول ذلك الوضع المهيب الرائع إلى أوضاع تسبيحات وذكر جذابة واهتزازات نشوة شوق وتهليل، وإذا بذلك المشهد البهيج السار يَتَفَطَّرُ عبراً أمام النظر، وينفث الحكمة في السمع، وفجأة خطرت ببالي الفقرة الآتية بالكردية لـ ( أحمد الجزري ) وهي :
( لقد أتى الجميع مسرعين من كل صوب لمشاهدة حسنك إنهم مبهورون بغنج جمالك ودل سلطانك )
ويمضي " النورسي " فيقول :
وتعبيرا عن معاني العبرة بكى قلبي على هذه الصورة :
يارب .. إن كل حي يتطلع من كل مكان، فينظرون معاً إلى حسنك، ويتأملون في روائع الأرض التي هي معرض صنعك .
فهم كالدعاة الأدلاء، ينادون من كل مكان، من الأرض، ومن السماوات العلى إلى جمالك
فترقص تلك الأشجار، الأدلاء الدعاة جذلة من بهجة جمال نقوشك في الوجود . فتصدر أنغاما شدية وأصداء ندية من نشوة رؤيتهم لكمال صنعتك .
فكان حلاوة أصدائها، تزيد نشوتها، وتهزها طربا، فتزداد تغنجا ودلا ودلالا .
ولأجل هذا هبت هذه الأشجار للرقص الجميل منتشية منجذبة . يستلهم كل حي صلاته الخاصة، وتسبيحاته المخصوصة من آثار هذه الرحمة الألهية وبعد التزود بالدرس البليغ، تنتصب كل شجرة قائمة فوق صخرة شماء، فاتحة أيديها متطلعة إلى العرش .
لقد تسربلت كل شجرة بسربال العبودية ، ومدت مئات من الأيدي ضارعة أمام عتبة الحضرة الألهية كأنها ( شهباز قلندر ) (1) .
وتهز أغصانها الرقيقة كانها الظفائر الفاتنة لـ ( شهناز الجميلة ) (2) مثيرة في المشاهد أشواقا لطيفة وأذواقا سامية.
__________
(1) كان خادما لدى الشيخ الكيلاني ، وتربى على يديه ، حتى ترقى في مراتب الولاية – المؤلف .
(2) حسناء شهيرة بجمالها وجمال شعرها وظفائرها – المؤلف .(2/54)
لكأن هذا الجمال يهز طبقات العشق، بل يمس أعمق الأوتار و أشدها حساسية أمام هذا المنظر المعبر يرد على الفكر ما يذكره بأنين حزين، وبكاء مرير، ينبعثان من أعمق الأعماق، المكلوم بألم الزوال الذي يصيب الأحبة المجازية . إنه يسمع أنغام الفراق والألم الشجية على رؤوس أشهاد العاشقين المفارقين أحبتهم، كما فارق ( السلطان محمود ) محبوبه.
وكأنَّ هذه الأشجار بنغماتها الرقيقة الحزينة تؤدي مهمة إسماع أصداء الخلود لأولئك الأموات الذين انقطعوا عن محاورات الدنيا وأصدائها .
أما الروح فقد تعلمت من هذه المشاهد :
إن الأشياء تتوجه إلى تجليات أسماء الصانع الجليل بالتسبيح والتهليل، فهي أصوات وأصداء تضرعاتها وتوسلاتها .
أما القلب فأنه يقرأ من النظم الرفيع لهذا الإعجاز، سر التوحيد في هذه الأشجار كأنها آيات مجسمات.
أي : إن في خلق كل منها من خوارق النظام وإبداع الصنعة، وإعجاز الحكمة، ما لو إتحدت أسباب الكون كلها وأصبحت فاعلة مختارة لعجزت عن تقليدها .
أما النفس، فكلما شاهدت هذا الوضع للأشجار، رأت كأن الوجود يتدحرج في دوامات الزوال والفراق، فتحرت عن ذوق باق، فتلقت هذا المعنى : ( إنكِ ستجدين البقاء بترك عبادة الدنيا ) .
أما العقل فقد وجد انتظام الخلقة، ونقش الحكمة، وخزائن أسرار عظيمة في هذه الأصوات اللطيفة المنبعثة من الأشجار والحيوانات معا، ومن أنداء الشجيرات والنسائم، وسيفهم أن كل شئ يسبح للصانع الجليل بجهات شتى .
أما هوى النفس فأنه يلتذ ويستمتع بحفيف الأشجار، وهبوب النسائم، وينال ذوقا رفيعا بنسيمها ( أي النفس ) الأذواق المجازية كلها، حتى إنها تريد أن تموت و تفنى في ذلك الذوق الحقيقي، واللذة الحقيقية بتركها الأذواق المجازية التي هي جوهر حياتها .(2/55)
أما الخيال فأنه يرى كأن الملائكة الموكلين بهذه الأشجار قد اختاروا جذوعها سكنا لهم وأغصانها أردية لهم . وقصباتها هواتف إشراق ترسلها أجوافها أنين نايات شجية، وكأن السلطان السرمدي قد ألبسهم هذه الأجساد في استعراض مهيب على إيقاع حزين من حفيف الشجر ومما ترسله النايات من شجي الألحان، فتظهر تلك الأشجار أوضاع الشكر والامتنان له بشعور تامّ، لا أجساداً ميتة فاقدة للشعور فتلك النايات الساحرة الأنغام الصافية الصوت، اللطيفة الأصداء، كأنها منبعثة من موسيقى سماوية علوية، فلا يسمع الفكر منها شكاوى آلام الفراق والزوال، كما يسمعها كل العشاق، وفي مقدمتهم ( مولانا جلال الدين الرومي ) بل يسمع أنواع الشكر للمنعم الرحمن، وأنواع الحمد تقدم للحي القيوم .. )(1)
13- الهاوية والسقوط
الانحلال الذي دب في روح الأمة العثمانية، و عاث فسادا في عقلها آخر أيام حياتها قد وأد ذاكرتها الإيمانية، ومسح مرآة وجدانها من كثير من صور الأمجاد التي حفل بها تاريخها الإيماني، بينما توقف زمنها العتيد صامتا حزينا في انتظار عودة الذاكرة الموؤدة إلى سابق عهدها، غير أن معاول الهدم التي كانت تهدم في كيانها منذ أجيال بصمت كتوم كادت تجهز على البقية الباقية من هذه الذاكرة، وأدى ذلك إلى زوال التأثير الإيماني على مجمل حياة الأمة الأدبية و الفكرية مما دفع بحياتها الثقافية إلى تيه من اليباب والخواء، والرأس الذي كان يوما ما يناطح سماء العظمة الإنسانية بدأ يتطامن ويطاطئ حتى لامس غبار الأقدام، وشحنة العظمة التي كان توهجها يضئ الخافقين عادت رمادا، ومن ماضيها السحيق ما قبل الإيمان إنبثقت أفكار تريد إعادة عقارب الساعة إلى الوراء والعودة بها إلى وثنيات ما قبل إسلامها .
14- النجم الهادي
__________
(1) : الكلمات ، الصفحات 242 ، 243 ، 244 ، 245.(2/56)
وعند ما أقفرت سماء تركيا من أي نجم أدبي هاد، يذكرها بإيمانها، ويعيد إلى قلبها ما سلب من نوره، وإلى عقلها ما سلب من رصانته، سطع نجم " النورسي " فجأة، وأضاء الآفاق، وأشعل قناديل الآمال، وأنار طريق الخلاص، فحمل روحه العظيم الآم عصر كامل من الانكسارات، ناذرا قلمه من أجل الخلاص الروحي الذي لا خلاص للأمة مما تردت فيه من خذلان سواه، فبدأ ذهنه الحر الأصيل يتصاعد كاللهب بروعة إلى آفاق عالية من أدب الكلمة المُذَكِّرَةِ بجذور الأمة الإيمانية، والساعية لانتشالها من هاوية الانسحاق الشائن الذي دفع بها خارج تاريخها المؤثل .
وكان لابد لهذا التوجه الأدبي النورسي الجديد أن يجافي التوجه الأدبي الغربي الذي صار له مكان الصدارة في أقلام الأدباء والمفكرين الأتراك الجدد، والذي يعود بجذوره الأولى الموغلة في القدم إلى كل من ( أثينا ) و ( روما ) الوثنيتين، وهو أدب - كما يقول النورسي أسطوري ملحمي روائي تمردي استعلائي إغتصابي، له رأي في الكون والإنسان والحياة على طرفي نقيض مع أدب الإيمان .
وعلى الرغم من أن الإنسان اليوم يكاد ينسى أنه كان في يوم من الأيام - وعبر التطور التاريخي من مرحلة إلى أخرى - يخرج إلى البراري ليصطاد فرائسه، ويغتصبها اغتصابا من يد الطبيعة ليأكل ويحفظ حياته من الهلاك، ألا أن " الغرب " لا ينفك يذكر اليوم بتلك الحقبة المتوحشة من تاريخ الإنسان ويعود ليربي في الإنسان ذلك الشعور الحيواني المتوحش، ويغريه باغتصاب اللقمة من أفواه الجائعين وسرقة ما تحتويه أرضهم من كنوز كما يقول " النورسي ".
ثم يقول : ومع ذلك ( لا ينبغي أن ننكر أن في المدينة محاسن كثيرة إلا أنها ليست من صنع هذا العصر، بل هي نتاج العالم وملك الجميع، إذ نشأت بتلاحق الأفكار وتلاقحها). (1)
15- الأساليب البيانية عند " النورسي "
__________
(1) الكلمات ص858.(2/57)
والنورسي يمتلك قدرة فذة على استحداث أساليب متنوعة في الكتابة بتنوع الموضوعات التي يتناولها من حيث الأهمية والعمق، فهو ذو قلم مطواع يمتاح من خصوبة بيانية متعددة الجوانب والصور والأشكال، فأسلوبه بشكل عام يتراوح بين ( السهل الممتنع ) والقوي الصعب .
والغامض بعض الغموض، والغامض شديد الغموض، وأساليبه جميعها أساليب تحفيزية تحريكية تنشيطية للأذهان والأرواح، وذلك لأن أفكاره بالأساس ليست تقليدية تلقينية نمطية، بل هي استكشافية اختراعية تحتاج من القارئ إلى نوع من أنواع السياحات الفكرية، والكدود الذهنية شأن المستكشفين والمخترعين الرواد .
وبهذا الخصوص يقول الأستاذ محمد عبد الله الحسو في مخطوطه عن الأسلوب الأدبي في رسائل النور الكلام الأدبي:
" الأستاذ سعيد النورسي شخصية عظيمة ذات جوانب متعددة، وآفاق واسعة، وأبعاد مختلفة، وأساليب البيان عنده متعددة، فقد تجد الأسلوب العلمي الدقيق بجانب الأسلوب الأدبي الرقيق الرشيق، وتجد في مؤلفاته القيمة الأسلوب الواضح البسيط السهل الجميل، كما تجد في موضوعات أخرى الأسلوب الغامض الذي يحتاج إلى تفكير وتأمل وكد الذهن لمعرفة ما يقصده الكاتب .
والغموض عند الأستاذ النورسي يتفاوت بين الغموض البسيط والغموض الشديد، وفي جميع أنماط أساليبه يحس القارئ بجذب واشتداد إلى ما يقوله المؤلف، ويحس بجمال وجلال وصدقٍ وإخلاصٍ وحماسةٍ وإيمانٍ عميقٍ من المؤلف بما يقوله ويقدمه من أفكار حول قضية " الحقائق الإيمانية " التي تدور " رسائل النور " العظيمة عليها، وحول الموضوعات الأخرى المختلفة".
جاء في " المثنوي العربي النوري(1) :
__________
(1) ص312(2/58)
(اعلم) أيها الناظر! إني اسمع من الناس شكاية عن الغموض في آثاري فاستمع مني ولا تعجل لعتابي لأجل الإشكالات، إذ مخاطبي نفسي الدساسة، وهي تفهم بسرعة أجوبة أسئلتها المخطئة ولو بالرمز. (1)
لا تطلب في آثاري انتظاماً وانسجاماً ووضوحاً لأنها ( أي تلك الآثار) تقيد وتلخص مشاهداتي في تحولات غريبة ومجريات نفسية مختلفة مع أمور أخرى…".
ثم قال رحمه الله:
"لا تحسبن أن ما أكتبه شيء مضغته الأفكار والعقول، كلا! بل فيض أفيض على روح مجروح وقلب مقروح، بالاستمداد من القرآن الحكيم، ولا تظنه أيضاً سيالاً تذوقه القلوب وهو يزول…كلا بل أنوار عن حقائق ثابتة انعكست على عقل عليل وقلب مريض…إن ما يصادفك في المسائل من صورة البرهان والاستدلال ليس برهاناً حتى يقال فيه نظر! بل مبادئ حدسية قيدت وعقدت واستحفظت بأنوار اليقين المفاضة من القرآن الكريم ".
فهذا الرجل الملهم له أحواله وتجاربه الروحية وأحاسيسه، وله أيضا صراعاته النفسية، فهو في بحر مواج هدار وقد يأتي بآيات ساطعة كالشمس وقد يغطي الغموض-أحيانا- بعض جوانب الشمس - شمس الإيحاءات والأحاسيس الباطنية العقلية والروحية والوجدانية
__________
(1) لعله يقصد انه يوجه كلامه إلى نفسه وهي تفهم مثل هذا الأسلوب ولو بالرمز، فكأنه حديث مع النفس، أو ربما يقصد أن الغموض ناشئ من أنه يتحدث عن تجارب روحية وأحوال نفسية غاية في العمق، فالكلام ليس كلاما اعتياديا بل كلام قلب يحيا في أمواج من الأحاسيس والإشعاعات، وبحر من الأفكار والتصورات والمعاني المختلفة القوية…!(2/59)
"إن قمة الروعة في الأسلوب الأدبي تتمثل في أخصب وأعمق كتب النورسي، وهو "المثنوي العربي النوري" وحقا إن هذا الكتاب تحفة أدبية ودينية رائعة من روائع عبقرية "النورسي" وإن فيه من الصور البيانية والإبداعات الفنية، والذوق الأدبي، وروائع التشبيه والتمثيل والخيال والشاعرية وفنون الاستعارة والكناية والرموز والتلويحات ومشارق نور البلاغة والبيان وجزالة الألفاظ وعمق الفكر وشموخ المقاصد والأهداف…أقول: إن في هذا الكتاب من هذه الأشياء ما يجعله من القمم الأدبية وعلى مستوى واحد من كتاب "المثنوي" لجلال الدين الرومي رحمه الله، وربما رجح عليه من بعض الجوانب". اهـ
* * *
ويمضي الأستاذ الحسو في كلامه مستشهداً بالدكتور "محسن عبد الحميد" حيث يقول في مقدمة كتاب "الآية الكبرى":
"إن الأستاذ "النورسي" وضح مذهبية الإسلام الشاملة في الكون والحياة والإنسان بمنطق صارم وشاعرية فذة وقلم سيال"(1)
ثم قال: "ويتقدم "النورسي" في هدوء ذكي ليأخذ بيد طالب الحقيقة في جولة رائعة…كل ذلك بأسلوب شاعري خصب، ومعرفة تامة بما كان يجري في عصره من تطور في العلوم…ومن خيال خصب ولفتات منطقية بارعة، وألق قلبي يقظ وسريان عجيب في باطن الوجود بل نفوذ إلى أعماق ذلك الباطن"(2)
ونستطيع أن نستنتج من أقوال الدكتور محسن عبد الحميد أنه يعتبره كتابا أدبيا، أو كتابا دينيا بأسلوب أدبي، وشاعرية فذة وقلم سيال، وخيال خصب.
ويمضى الحسو فيقول: "ومن خصائص الأسلوب الأدبي عند "النورسي" أنه اعتمد كثيرا على "ضرب الأمثال " فأجاد وأبدع وأغنى "رسائل النور" حتى يمكننا أن نقول: إن "ضرب الأمثال" هو الطابع المميز لرسائل النور…ولعل النص الآتي الذي نقتبسه من كلام الأستاذ النورسي يغني عن أي تعليق آخر، فاستمع إلى ما يقوله النورسي:
__________
(1) الآية الكبرى من ص 4-6.
(2) نفس المصدر .(2/60)
"انك يا أخي تسأل: لماذا نجد تأثيراً غير اعتيادي فيما كتبته في "الكلمات" المستقاة من فيض القرآن الكريم، قلّما نجده في كتابات العارفين والمفسرين. فما يفعله سطرٌ واحد منها من التأثير يعادل تأثير صحيفة كاملة من غيرها، وما تحمله صحيفة واحدة من قوة التأثير يعادل تأثير كتاب كامل آخر؟
فالجواب: وهو جواب لطيف جميل، إذ لما كان الفضل في هذا التأثير يعود إلى إعجاز القرآن الكريم وليس إلى شخصي أنا، فسأقول الجواب بلا حرج:
نعم! هو كذلك على الأغلب؛ لأن الكلمات:
تصديق وليست تصوراً.(1)
وايمانٌ وليست تسليماً.(2)
وتحقيق وليست تقليداً.(3)
وشهادة وشهود وليست معرفة.(4)
وإذعان وليست التزاماً.(5)
وحقيقة وليست تصوفاً .
وبرهان ضمن الدعوى وليست ادعاءاً
وحكمة هذا السر هي:
أن الأسس الإيمانية كانت رصينة متينة في العصور السابقة، وكان الانقياد تاماً كاملاً، إذ كانت توضيحات العارفين في الأمور الفرعية مقبولة، وبياناتهم كافية حتى لو لم يكن لديهم دليل.
__________
(1) التصديق: هو أن تنسب باختيارك الصدق إلى المخبر. بينما التصور: هو إدراك المعرفة من غير أن يحكم عليها بنفي أو إثبات. وفي المنطق: التصديق هو إدراك النسبة التامة الخبرية على وجه الإذعان. والتصور: إدراك ما عدا ذلك.
(2) مأخوذة من قوله تعالى: (قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) (الحجرات:14).
(3) التحقيق: إثبات المسألة بدليلها بينما التقليد: قبول قول الغير بلا حجة ولا دليل.
(4) الشهادة: هي إخبار عن عيان. والشهود: هو معرفة الحق بالحق. أما المعرفة: فهي إدراك الشيء على ما هو عليه، وهي مسبوقة بجهل بخلاف العلم.
(5) الإذعان: عزم القلب، والعزم جزم الإرادة.(2/61)
أما في الوقت الحاضر فقد مدّت الضلالة باسم العلم يدها إلى أسس الإيمان وأركانه، فوهب لي الحكيم الرحيم - الذي يهب لكل صاحب داء دواءه المناسب - وانعم عليّ سبحانه شعلةً من "ضرب الأمثال" التي هي من اسطع معجزات القرآن وأوضحها، رحمةً منه جلّ وعلا بعجزي وضعفي وفقري واضطراري، لأُنير بها كتاباتي التي تخص خدمة القرآن الكريم. فله الحمد والمنة:
فبمنظار "ضرب الأمثال" قد أُظهرَتْ الحقائق البعيدة جداً أنها قريبة جداً.
وبوحدة الموضوع في "ضرب الأمثال" قد جُمِّعَتْ اكثر المسائل تشتتاً وتفرقاً.
وبسلّم "ضرب الأمثال" قد تُوصِل إلى أسمى الحقائق وأعلاها بسهولة ويُسر.
ومن نافذة "ضرب الأمثال" قد حُصّل اليقين الإيماني بحقائق الغيب وأسس الإسلام مما يقرب من الشهود.
فاضطر الخيال إلى الاستسلام وأُرغم الوهم والعقل إلى الرضوخ، بل النفس والهوى. كما اضطر الشيطان إلى إلقاء السلاح.
حاصل الكلام:
انه مهما يظهر من قوة التأثير، وبهاء الجمال في أسلوب كتاباتي، فإنها ليست مني، ولا مما مضغه فكري، بل هي من لمعات "ضرب الأمثال" التي تتلألأ في سماء القرآن العظيم، وليس حظي فيه الا الطلب والسؤال منه تعالى، مع شدة الحاجة والفاقة، وليس لي إلاّ التضرع والتوسل إليه سبحانه مع منتهى العجز والضعف.
فالداء مني والدواء من القرآن الكريم.(1)
16 - صفات الأديب الكبير
كل الصفات التي يفترض أن تتكامل في شخصية الأديب العظيم متوفرة في شخصية " النورسي " فمن هذه الصفات :
1- أن يكون الأديب الكبير ذا ثقافة واسعة ملمّاً بثقافة لغته وثقافات الأمم الأخرى .
2- أن يكون له نظرة فلسفية شاملة تشمل الحياة والوجود والدين والدنيا، وأن يكون قادراً بأدواته الفنية على إبراز ملامح هذه الفلسفة الشخصية أو هذه الرؤى والقناعات الفكرية إلى عالم الوجود والتأليف والشرح والتوضيح للناس .
3- أن يحمل رسالة سامية شريفة ويقف حياته وقلمه على خدمتها .
__________
(1) المكتوبات/486-487(2/62)
4- أن يملك القدرة العقلية والفكرية العالية إلى جانب خصوبة الروح والوجدان والمشاعر والاحساسات الإنسانية .
5- أن يملك الشخصية المستقلة والعقلية المتميزة وأن يفرض آراءه وأفكاره ومشاعره على القراء بما يملك من ثقة بنفسه، وحماس لمشاعره، وإيمان برؤاه وقيمه السامية ومكتشفاته في الكون والطبيعة والحياة .
6- أن تكون له خصوصيات وأحوال تحدد ملامح شخصيته فلا تختلط بخصوصيات شخصية أخرى.
7- أن تكون لديه موهبة جذب القارئ والتأثير فيه .
إن كل هذه الصفات والملامح الشخصية متوفرة في شخصية " سعيد النورسي " ولنستمع إلى بعض أقواله عن نفسه، أو أقواله العامة لنرى ونحس الطابع الأدبي والشخصية الأدبية المثالية التي وصلت القمة في عالم الأدب والفكر والروح والوجدان والدين .
18 - العزلة والخلوة
يقول " النورسي " عن نفسه :
( ولكن بعد هذه الفترة ولّيتُ وجهي كلياً عن الدنيا وقبرت " سعيد القديم " وأصبحت إنساناً جديداً يعيش للآخرة، فانسللت من حياة المجتمع ونفضت يدي من كل ما يخصهم، فاعتزلت الناس في " تل يوشع " في استانبول، ومن ثم في مغارات في جبل " وان " و " بتليس " بتُّ في مجاهدة مستديمة مع روحي ووجداني وانفردت بعالمي الروحي .. أخذتني الأقدار نفياً من مدينة إلى أخرى .. وفي هذه الأثناء تولدت من صميم قلبي معانٍ جليلة نابعة من فيوضات القرآن الكريم . أمليتها على مَنْ حولي من الأشخاص تلك هي الرسائل التي أطلقت عليها " رسائل النور " إنها انبعثت حقاً من نور القرآن الكريم ) (1) .
19 - التراب الشاعر والصديق
__________
(1) انظر الشعاعات للنورسي ص 541 - ترجمة الصالحي .(2/63)
وبالسياق مع مقولته الشهيرة " في المألوفات خوارق المعجزات " إذا ما دققنا النظر وسَبَرْنَا الغور، يلفت " النورسي " الانتباه إلى تراب الأرض، موطئ الأقدام، فمِنْ كثرة ما صحبناه وشهدناه وألفناه، لم يعد يثير انتباه أحدٍ، أما عند " النورسي " فهو واحدة من خوارق المعجزات الإلهية .. هذا الصامت المتكلم بألف لسان ولسان، كلامه النبت والزهر والشجر، أسير الأشواق، وشاعر اللون والشكل والصورة .. في ألوان الورود والزهر والثمر تتوهج جمرات قلبه، وعلى وجناتها يسطع مذاب فؤاده، ورقة حسه .. صديق الإنسان ورفيقه على مدى حياته وبعد مماته .. وجوده من طينته .. وإليه يعود في خاتمة حياته .. إذا مسه الإنسان فَجَّرَ أريحيته وحرك كوامن عطاياه فوهب له كنوزه، وأعانه على بناء حضارته، وإقامة صروح مدنيته، فيا له من صديق صدوق، ورفيق حنون .. وإليك الآن ما يقوله " النورسي "في التراب :
( اعلم : أن مما أفيض على قلبي من فيض القرآن الكريم ؛ كثرة ذكره " إحياء الأرض " ولفت أنظار البشر إلى " التراب " .. إن الأرض قلب العالم، والتراب قلب الأرض، وإن أقرب " السبل " إلى المقصود يذهب في التراب من باب التواضع والمحوية والفناء، بل هو اقرب من أعلى السماوات إلى خالق السماوات . إذ لا يُرى في الكائنات شيء يساوي التراب في تجلي " الربوبية " عليه، وفعالية القدرة فيه، وظهور الخلاقية منه، والمظهرية لجلوات اسمي " الحي القيوم " .(2/64)
وهكذا .. فكما أن " عرش الرحمن " على الماء، كذلك إن " عرش الحياة والأحياء " على التراب، والتراب أجمع المرايا وأتمها، إذ مرآة الكثيف كلما كانت ألطف وأشف تريك صورة الكثيف أوضح وأظهر وأتم .. لكن مرآة اللطيف النوراني كلما كانت أكثف، كان التجلي عليها بالأسماء أتم، ألا ترى الهواء لا يأخذ من فيض الشمس إلا ضياءً ضعيفاً، والماء وإن أراك الشمس بضيائها لكنه لا يقدر على فصل ألوانه، مع أن التراب يريك بأزاهيره مفصَّل كلّ ما اندمج في ضيائها من الألوان السبعة ومركباتها، مع أن هذه الشمس قطرة ملتمعة كثيفة بالنسبة إلى نور شمس الأزل . وتَزَيُّنُ التراب وَتَبَرُّجُهُ في الربيع بما لا يُحدّ ولا يُعدّ من لطيفات الأزاهير، وجميلات الحيوانات المنادية على كمال ربوبيته شاهد مشهود . فسبحان من يتعرف إلينا بلطيف صنعه، ويعرّف الخلائق قدرته بعجائب تصرفه في التراب ..
ومما يرمز إلى هذا السرّ الحديث الشريف :( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد )(1) فإذا كان هذا هكذا..فلا تتوحش من التراب وذهابك فيه، ولا تندهش من القبر وسكونك فيه) (2).
20 - مشاهد من حديقة الأرض
__________
(1) تكملة الحديث : "فاكثروا الدعاء ": أخرجه مسلم برقم 482 وأبو داود برقم 875 والنسائي 2 / 226 عن أبى هريرة ( وانظر كشف الخفاء للعجلوني 1 / 160)
(2) المثنوي العربي النوري ص 412 وانظر مختارات من المثنوي العربي النوري لكاتب هذه السطور ، ص 32 – 33 / الموصل / مطبعة الزهراء 1404 هـ – 1983 م .(2/65)
وإذا كان " النورسي " يرى في " تراب الأرض " عالماً مَوّاجاً بالحركة، متفجراً بالإمكانات والقدرات، منطوياً على الكثير من أسرار الخلق والخلقة، فهو يرى كذلك أن الأرض نفسها حديقة إلهية شاسعة الأرجاء، ولوحة فنية متناغمة الألوان، من أين نظرت إليها طالعتك بما يَشْدَهُ العين، ويهز أحاسيس الجمال في نفسك، ومن أية زاوية جئتها استقْبَلَتْكَ بدفق هائل من صور الحسن التي تعكسها مرايا الجمال الكوني على صفحة الخيال البشري، طاهرةً طهارة الطفولة العذبة ترفُّ بها أجنحة السماء .
" والنورسي " يعبر عن هذه المعاني في القطعة الآتية التي أشبه ما تكون بالشعر الحر حيث يقول :
( سبحان من جعل حديقة أرضه :
مَشْهَرَ صنعته
محشر فطرته
مظهر قدرته
مدار حكمته
مزهر رحمته
مزرع جنته
ممر مخلوقاته
مسيل موجوداته
معرض مصنوعاته
تَبَسَّمُ الأزهار من زينة الأثمار
تسجُّعُ الأطيار من نسمة الأسحار
تَهَزَّجُ الأمطار على خدود الأزهار
تَرَحُّمُ الوالدات على الأطفال الصغار
تعرُّف ودود
تَودُّدُ رحمن
تَحُنُّنُ مَنَّان
... للجنِّ والإنسان
... والروحِ والحيوان
... والملكِ والجان
البذور والأثمار
والحبوب والأزهار
معجزات الحكمة
... ... خوارق الصنعة
... ... هدايا الرحمة
... ... براهين الوحدة
شواهد لطفه في دار الآخرة
الشمس كالبذرة
... ... ... ... والنجم كالزهرة
... ... ... والأرض كالحبة
لا تثقل عليه بالخلق والتدبير
... ... والصنع والتصوير
فالبذور والأثمار مرايا الوحدة
في أقطار الكثرة
... إشارات القدر
... رموزات القدرة(2/66)
تلك الكثرة من منبع الوحدة
ثم إلى الوحدة تنتهي
والإنسان هو المقصود الأظهر
من خلق هذا الشجر
فالبشر ثمرُ لهذه الكائنات
وهو المقصود الأظهر
... ... ... لخالق الموجودات
فالإنسان الأصغر
هو المدار الأظهر
للنشر والمحشر ) (1).
21- الإنسان الكامل
يعلو الجمال مع علوّ أخيلة الروح، وَيَرِّفُّ مع أشواق القلب، وتسمو الذات البشرية بما تناله من أذواقه، وتحوزه من معانيه، وإذا ما سرى روح الجمال إلى باطن الفكر ارتفع قدره، وتقدَّس سرّه، وَشَرُفَتْ مقاصده، وَسَمَتْ غاياته، وجادتْ قرائحه، وانجذبت إليه الموجودات، وحفلت به الكائنات . واكتسب صفات " الإنسان الكامل " كما هو قائم في خيال الكون، وكما حَلُمَتْ به البشرية، وَبَشَّرَتْ به الأديان، فتنزل عليه - عند ذاك - ألطاف ربه، ورحمات خالقه، ويصير جديراً بأن تُخلق من أجله الأفلاك، وتتزين لناظريه الأرض، وتُزفُّ إليه الطبيعة . ولعظم المهمات الملقاة على عاتقه، زوده خالقه بالقدرات والطاقات، وأطلق لقواه العنان، ولم يحدد لها حداً تقف عنده، ولم يضع من دونها حاجزاً يحجزها عن السريان حيث تشاء، وكأنه - تعالى - يقول له :
أيها الإنسان يا مَنْ خلقته لنفسي، وصنعته مرآة لأنوار تجلياتي، انطلق ولا تقف، امض حيث تمضي بك قواك، وسِرْ حيث تسير بك أفكارك ومشاعرك .. استجمع كل لطائفك، واحشد كل طاقاتك، ولملم ما تشتت من نفسك وعقلك، وافتح منافذ حواسك، لتعرف وتذوق، وتتلهف وتشتاق، ثم لتعكس مرآة روحك لمعات من الجمال الأقدس الذي كل جمال إِنْ هو إلاّ قبسة من قبساته ،وقطرة من بحار أنواره.
وحول هذه المعاني يدور أدب " النورسي " في القطعة الآتية :
__________
(1) المثنوي العربي النوري – النورسي ص 145 وانظر المختارات ص 97 – 99 .(2/67)
(اعلم! انه يلزم لمثل هذه التزيينات والكمالات والمناظر الحسنة وحشمة الربوبية وسلطنة الألوهية، من مشاهد لها، ومتنزه بها، ومتحير فيها، ومتفكر ينظر إلى أطرافها ومحاسنها، فينتقل منها إلى جلالة صانعها ومالكها واقتداره وكماله.
نعم، إن الإنسان مع جهالاته وظلماته له استعداد جامع كأنه أنموذج مجموع العالم، واُودع فيه امانةٌ يفهم بها الكنز المخفي ويفتحه. ولم يُحدد قواه، بل اُرسلت مطلقة فيكون له نوع شعور كلي بشعشعة كمال حشمة جلال سرادق جمال عظمة ألوهية سلطان الأزل. وكما أن الحُسن يستلزم نظر العشق، كذلك ربوبية النقاش الازلي تقتضي وجود نظر الإنسان بالتقدير والحيرة والتحسين والتفكر، وتستلزم ايضاً بقاء ذلك المتفكر المتحير إلى الأبد ورفاقته لما تحير فيه في طريق أبد الآباد.
نعم، إن من زيّن وجوه الازاهير كما أوجد لها عشاقاً مستحسنين من أنواع الذبابات والعصافير، وزيّن خدود الملاح فأوجد لها أنظار المشتاقين الوالهين.. كذلك من زين وجه العالم بهذه الزينة الجاذبة، ونوّر عيونه بهذه المصابيح المتبسّمة وحسّنه بأنواع المحاسن المتلألئة، وادمج في كل نقش بكمال الوضوح تودداً وتعرفاً
وتحبباً، لا يخليه من أنظار مشتاقين متحيرين متفكرين منجذبين عارفين بقيمة كل؛ فلجامعية الإنسان صار الإنسان الكامل سبب خلق الأفلاك علة غائية له وثمرة له.. )(1).
22- " النورسي " ناقداً
إن عظمة الفكرة وصدقها وأصالتها، هي التي تعطي الكلمات والألفاظ التي تحملها شيئاً من خصائص عظمتها وقوتها، فيصبح اللفظ - مطية الفكر - قوياً وعظيماً بعظمة ما يحمل من أفكار يراد منه التعبير عنها مهما كانت درجة هذا اللفظ متواضعة في رأي البلاغة والجزالة . ويبقى الكلام ضعيفاً وهشاً عندما تكون الفكرة بحد ذاتها ضعيفة وهشة، مهما حاول صاحبها أن يزين كلامه ويموهه في عيون قرائه .
__________
(1) المثنوي العربي النوري – النورسي ص 311 وانظر المختارات ص 67 – 68 .(2/68)
والاهتمام باللفظ قبل المعنى، وبالشكل قبل المحتوى، انتكاسة أدبية وحضارية تعتري الأمة في حال ضعفها، وعندما يصاب عقلها بالوهن والهزال، وقد مرت بهذه الأمة هذه الانتكاسة في فترات سود من تاريخها الأدبي والفكري، ومازالت - مع الأسف الشديد- بقايا هذه الظاهرة المرضية تطل برأسها بين الحين والآخر من أقلام البعض من أدباء هذه الأمة على الرغم من الجهود المضنية التي بذلها ويبذلها النقاد لإنقاذ الأقلام من آثار هذا النهج المرضي.
و" النورسي " أديب أفكار ومعان، وصاحب رسالة إيمانية يريد أداءها إلى قرائه من أقصر الطرق، مقتصداً بالكلمات ما وسعه ذلك، فأسلوبه أسلوب برقي تلغرافي- إذا صح التعبير- يعنى بالفكرة ووصولها إلى القارئ بشكل عفوي دون زخارف كلامية، أو طبول لفظية فارغة.
وفي تحليله لأسباب رواج أدب الألفاظ في بعض فترات تاريخ الأمة يقول "النورسي":
"يخبرنا التاريخ بأسف بالغ إنه: لما انجذب الأعاجم بجاذبة سلطنة العرب فسدت بالاختلاط ملكة الكلام المضري، التي هي أساس بلاغة القرآن، إذ لما تعاطى الأعاجم والدخلاء صنعة البلاغة العربية، حولوا الذوق البلاغي من مجراه الطبيعي للفكر، وهو نظم المعاني إلى صنعة اللفظ، وذلك إن المجرى الطبيعي لأنهار الأفكار والمشاعر والأحاسيس إنما هو نظم المعاني، ونظم المعاني: هو الذي يُشَيَّدُ بقوانين المنطق. وأسلوب المنطق: متوجه إلى الحقائق المتسلسلة…والفكر الواصل إلى الحقائق: هو الذي ينفذ في دقائق الماهيات ونسبها…هي الروابط للنظام الأكمل في العالم، والنظام الأكمل: هو المندمج فيه الحسن المجرد الذي هو منبع كل حسن. وتلك الجنة المزهرة ودقائق الماهيات ونسبها: هي التي تجول فيها بلابل عاشقة للأزاهير المسماة بالشعراء والبلغاء وعشاق الفطرة…ونغمات تلك البلابل يمدها صدى روحاني هو نظم المعاني ".
ويمضي قائلا:(2/69)
ولكن لما حاول الدخلاء والأعاجم الدخول في صفوف الأدباء فلت الأمر، لأن مزاج الأمة مثلما أنه منشأ أحاسيسها ومشاعرها، فأن لسانها القومي يعبر عن تلك المشاعر ويعكس تلك الأحاسيس. وحيث أن أمزجة الأمة مختلفة. فاستعداد البلاغة في ألسنتها متفاوت أيضاً. ولا سيما اللغة العربية الفصحى المبنية على قواعد النحو.
وبناءا على هذا فأن نظم اللفظ الذي هو أرض قاحلة لا تصلح لأن تكون مسيلاً لجريان الأفكار، ومنبتاً لأزاهير البلاغة، وقد أعترض مجرى البلاغة الطبيعي وهو نظم المعنى فَشَوَّشَ البلاغة.
ثم يمضى قائلا:
فداروا -أي أولئك الأدباء - حيث دار اللفظ بعد تصور المعاني، بل حتى غلب اللفظ المعنى وسخره لنفسه، فاتسعت المسافة بين طبيعة البلاغة، وهي كون اللفظ خادما للمعنى، وصنعة العاشقين للفظ. فأن شئت فادخل في "مقامات الحريري" فأنه مع جلالة قدرة في الأدب فقد استهواه حب اللفظ وبذلك أخل بأدبه الرفيع، فأصبح قدوة للمغرمين باللفظ، حتى خصص "الجرجاني" -ذلك العملاق- ثلث كتابيه "دلائل الأعجاز" و "أسرار البلاغة" دواءً لعلاج هذا الداء.
نعم إن حب اللفظ داء، ولكن لا يعرف أنه داء!
وينبه فيقول: كما أن حب اللفظ مرض، كذلك حب التصوير "الفني" وحبُّ الأسلوب، وحب التشبيه، وحب الخيال، وحب القافية مرض مثله، بل ستكون هذه الأمراض بالإفراط أمراضاً مزمنة في المستقبل، كما تبدو البوادر من الآن حتى يضحى بالمعنى في سبيل ذلك الحب.(2/70)
ويستطرد فيقول: نعم…! اللفظ يُزَيِّنُ ولكن إذا اقتضته طبيعة المعنى وحاجته…وصورة المعنى تُعَظَّمُ وتُعْطَى لها مهابة ولكن، إذا أَذِنَ المعنى، والأسلوب يُنَوَّرُ ويُلَمَّعُ ولكن إذا ساعده استعداد المقصود…والتشبيهُ يُلَطَّفُ وَيُجَمَّلُ ولكن إذا تأسس على علاقة المقصود وارتضى به المطلوب…والخيال يُنَشَّطُ ويُسَيَّحُ ولكن إذا لم يؤلم الحقيقة. ولم يثقل عليها، وأن يكون مثالا للحقيقة متسنبلاً عليها.(1)
ويقول عن الخيال: "لابد في كل خيال من نواة من حقيقة"
ويقول عن الأسلوب: فالأسلوب بهذا قالب الكلام، كما هو معدن جماله ومصنع حلله الفاخرة.
ويقول كذلك: "فإذا أنعمت النظر في أسلوب الكلام-الكلام الطبيعي الفطري- ترى المتكلم في مرآة الأسلوب، حتى كأن نَفْسَهُ في أنْفَاسِهِ بذاتِه وماهيتُه في نفثاته، وصَنْعَتُهُ ومِزَاجُهُ ممتزجان في كلامه "(2)
ويقول كذلك: " إن قوة الكلام وقدرته: أن تتجاوب قيوده، وتتعاون كيفياتُهُ، وَيَمُدُّ كُلٌّ بِقَدَرِهِ مشيرا إلى الغرض الأصلي، ويضع إصبعه على المقصد، فيكون مثالا ومصدرا لدستور:
عباراتنا شتى وحسنك واحد وكل إلى ذاك الجمال يشير
وكأنَّ القيود مسيلٌ ووديانٌ، والمقاصدُ حوضٌ في وَسَطِها تستمدُّ منه.
حاصل الكلام: يلزم التجاوب والتعاون والاستمداد لئلا تتشوش صورة الغرض المرتسمة على شبكة الذهن والملتقطة بنظر العقل.
ويقول: ينشأ التناسب ويتولد الحسن ويلمع الجمال بنشوء الانتظام من هذه النقطة.
__________
(1) صقيل الإسلام 114،115،116/ترجمة وتحقيق إحسان قاسم الصالحي 1411هـ-1991م.
(2) المصدر نفسه ص 118-119.(2/71)
فتأمل في كلام رب العزة: (وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ)(الأنبياء:46) المسوقة للتهويل، وتخويف الإنسان، وتعريفه بعجزه وضعفه. فبناءً على القاعدة البيانية: "ينعكس الضد من الضد" ترى الآية الكريمة تبين تأثير القليل من العذاب بقصد التهويل والتخويف، فكل طرف من الكلام يمد المقصد -وهو قليل- عن جهته وذلك بـ:
التشكيك والتخفيف في لفظ " إنْ ".
والمس وحده دون الإصابة في " مَسَّتْ " .
والتقليل والتحقير في مادة " نفحةٌ " وصيغتها وتنكيرها.
والتبعيض في " مِنْ ".
والتهوين في " عذاب " بدلاً من " نكال ".
وإيماء الرحمة في "ربك ".
كل ذلك يهول العذاب ويعظمه بإراءة القليل، إذ إن كان قَلِيْلُهُ هكذا فكيف بعظيمه .. نسأل الله العافية!(1)
وفي مكان آخر يقول "أي إن البليغ يتمثل أشعة الحقائق المنعكسة من الخارج كالمرآة وكأنه يقلد الخلقة، ويحاكي الطبيعة بصنعته الخيالية وبنقش كلامه"(2)
ويقول عن فن الكتابة: " وينبغي أيضا مساوقة الطبيعة والتتلمذ عليها بصنعة المتكلم الخيالية، كي تنعكس قوانينها في صنعته "(3)
ويقول عن قلب الأديب ولسانه " وكثيراً ما لا يفهم اللسان فهماً تاماً لغةَ القلب، لا سيما إن كان القلب يئن في غور المسائل وفي أعماق بعيدة كغيابة الجب فلا يسمعه اللسان، وكيف يترجمه؟"(4)
* * *
__________
(1) المصدر نفسه ص 121-122.
(2) المصدر نفسه ص 131.
(3) المصدر نفسه ص 136.
(4) المصدر نفسه ص 141(2/72)
نخلص مما تقدم من آراء "النورسي" النقدية في الأدب والأدباء إلى أن العمل الأدبي هو عمل فكري مُهَنْدَسٌ يستوي على قاعدة، صلبة حجرُ الأساس فيه معرفةُ المقصودِ من العمل كُلِّهِ لتدور عليه وحوله ما يُشيَّدُ من هياكل بنائية تسهم في إقامتها روح الأديب ووجدانيات الكلمات والألفاظ المستخدمة في عملية التشييد بمدلولاتها الوجدانية والروحية والفكرية، مستفيدا مما كان قد تعلّمَهُ من الطبيعة والحياة، ومن ملامسته لروح المنطق في عملهما في الهدم والبناء فيجعله مسطرا يقيس عليه نسب المدلول الكلامي بين الكلمة والكلمة، والفكرة والفكرة، وبذلك يأتي العمل الأدبي متكاملا مقنعا مؤثرا في المتلقي، وهو المطلوب من كل عمل أدبي.
23- العالمية في أدب "النورسي"
أن الأعمال الأدبية الكبرى التي نالت الخلود على مر الدهور والعصور، هي تلك الأعمال التي تعالج قضايا الإنسان ذات المساس الصميمي بقلبه وروحه، وبمصيره ومآله، فهي سرعان ما يعرفها العالم وتتلقفها الشعوب، وتقرأها بشغف، وتجد أصداء لها في روحها وجوهر وجدانها.
فالأعمال الأدبية حتى الأسطورية منها تَحْظَى باهتمام بالغ من مختلف الشعوب إذا كانت تدور حول مكتشفات الإنسان ومغامراته من أجل نيل الخلود، هذا الحلم الذي راود البشرية منذ طفولتها وحتى اليوم.
وعلى الرغم من أن "رسائل النور" النورسية تُرْجِمَتْ إلى بعض لغات العالم واستُقْبِلَتْ هناك بحفاوة وتقدير كبيرين، باعتبارها رسائل "إيمانية" معنية بالدرجة الأولى بالجوانب الإيمانية لدى الإنسان وهي لا تخلو من لمحات أدبية وفنية بين سطورها وأفكارها، إلا أن كتابه الأدبي الأعظم وهو "المثنوي العربي النوري" ما زال مجهولا ككتاب أدبي فريد يمكن أن يشق طريقه بجدارة إلى العالمية التي حازها من قبله "مثنوي الرومي" إذا ما حظي بالترجمة المتقنة إلى إحدى لغات العالم المعتبرة.(2/73)
فهذا الكتاب يعبر عن أحلام القلب البشري في الخلود، ويُرَنِّمُ شجاه، ويُنْشِدُ وَجْدَهُ، ويُفْصِحُ عن آلامِهِ وآماله وحنينه إلى عالم مصنوع من الجمال والحق والعدل، لذا فهو يَمُتَّ بصلةٍ إلى كل قلبٍ، ويضرب بِعِرْقٍ نابضٍ في جذر كل روح.
وحتى الأرواح الحبيسة في سجون سحيقة من التردي يمكنها أن تجد في هذا الكتاب مفاتيح الانطلاق مع أجنحة الخيال إلى حيث تلتقي حقيقتَها السامية الآتية من عالم "الأمر الإلهي" متجاوزة بذلك مفاوز الفناء التي تعم الكرة الأرضية. ومتعاليةً فوق الآفلات الفانيات من رموز الحياة والتي تئن تحت مطارق البلى ومعاول العدم، بينما يَظَلُّ سمع الأرض تَصُكُّهُ هتافاتُ الأرواح في الأعالي مع روح "النورسي" مرددة مع إبراهيم عليه السلام : (لا أحبُ الآفلين) (الأنعام:76).
إن سنا الإشراق، ولمعة الاحتراق المنبعثة من صفحات هذا الكتاب تذيب أية مغاليق وأقفال على القلب والفكر والروح، فكما تجد فيه الأرواح محركات منطلقاتها، فكذلك الأفكار تجد فيه منطلقات مجنَّحة غير نمطية ولا تقليدية بل ابتكاريه إنبعاثية مثيرة للتفكير العميق والأصيل.(2/74)
ولا يعدم القارئ تفسيرا للغز الكون والحياة، ومعرفة الحكمة من خلقهما، والمغزى من وجود الإنسان في هذه الحياة وما ينتظره في الآخرة. وإنه لينشئ في القارئ حسَّاً جمالياً وشعوراً مرهفاً يسمو بأذواقه، ويفتح منافذ الإدراك فيه ليدرك عن كثب أن الجمال هو جوهر الأرض، وأن ما يتفتق عنه التراب من روائع الأزهار والأوراد بألوانها وأشذائها وعجائب حسنها آية ذلك الجمال، وإشارة إليه. وهو لا ينفك يُقَدِّمُ العزاء والمواساة لصاحب الرغبات المحبطة والتي تشكل أكثر أوجاعه آلاماً، وَيُقَدِّم له تفسيراً مقنعاً يَجْعَلُهُ يرى المحنَ منحاً، والإحباطاتِ إرهاصاتٍ لنجاحاتٍ قادمةٍ، وإنه ليغسلُ نفسَ الإنسان من أوجاعِ الألفة والرتابة والملل، ويضعه من دون هذه الحواجز وجهاً لوجه مع الموجودات يحاورها وتحاوره، فتبعث فيه حيوية إيجابية نشيطة تجعله أكثر استمتاعاً بالحياة، وأكثر تفهماً لها وإدراكاً لمعانيها الإلهية.
وتعبيراً عن أشواقه إلى الخلود، وإشفاقه من الزوال يصرخ "النورسي" هاتفاً في حزن أليم:
"لا أريد…مَنْ كان زائلاً لا أريد.
أنا فانٍ…مَنْ كان فانياً لا أريد.
أنا عاجزٌ…مَنْ كانَ عاجزاً لا أريد.
سَلَّمْتُ روحي للرحمن، سواه لا أريد.
بل أُريد.
حبيباً باقياً أريد.
أنا ذَرَّةٌ.
شمساً سرمداً أريد.
أنا لا شيءَ ومِنْ غيرِ شيءٍ، الموجوداتِ كُلَّها أُريد.
* * *
لا تدعوني إلى الدنيا، جئتها وشاهدتُ الفساد.
إذ الغفلةُ حجبتْ أنوارَ الحق.
رأيتٌ الأشياءَ والدنيا أعداء ضارين.
ذُقْتُ اللذائذُ، ولكن.
وَجَدْتُ الألمَ في الزوال.
أما الوجودُ فقد لَبِسْتُهُ.
آه…لا تَسَلْ كَمْ عانيتُ من الألم في العدم.
وإن قلت الحياة.
فقد رأيتها عذاباً في عذاب.
نعم، لما استتر نور الحق عني.
ورأيت البقاء بلاء.
والكمالَ هباء.
والعمر ذهب أدراج الرياح.
نعم!
بدونه، انقلبت العلوم أوهاماً، وأصبحت الحِكَمٌ أسقاماً.
والأنوارُ ظلماتٍ ،(2/75)
والأحياءُ مواتاً .
والأشياءُ أعداءً .
ولمستُ الضُرَّ في كل شيءٍ .
والآمالُ انقلبت آلاماً .
والوجودُ هو العدم بعينه .
والوصالُ زوالاً .
والألم يعصرني مما لا بقاء فيه،
نعم . . ! إن لم تجد الله فالأشياء كلها تعاديك .
أذى في أذى .
بل هو عين الأذى . وإن وجدتَ اللهَ، .
فلا بد أن تجده في ترك الأشياء .
فقد رأيت بذلك النور : الجنة في الدنيا .
والأموات كلهم أصبحوا أحياء .
والأصوات كلها أذكار وتسابيح .
والأشياء كلها مؤنسة .
واللذائذ في الآلام نفسها .
والحياةَ أصبحتْ مرآة تعكسُ أنوارَ الحق .
والبقاءَ رأيتُهُ في الفناء .
والذراتِ ألسنةً ذاكرة .
يقطر من ألسنتها ويتفجر من عيونها شَهْدُ شَهَادَةِ الحق .
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد".(1)
24- الإنسان الخارق
__________
(1) المثنوي العربي النوري – النورسي ص289(2/76)
فكر حيّ لا يموت .. وروح ثاقب متوهج لا ينطفئ .. وقلب بصير صادق الرؤية .. شهد سجود العالم بين يدي الله .. وسمع تسابيح الكائنات والموجودات في الأرض والسماوات .. من كفكف دَمْعَ الإنسانية الباكية على نفسها غيره .. مَنْ مَسحَ قلبَ الإنسانِ من آلام الزيغ والضلال سواه .. مَنْ خاضَ بحارَ الجمالِ الإلهي وأخذ الإنسان إليه معه .. مَنْ وَهَبَتْهُ الكائناتُ نَفْسَها، وَمَنَحَتْهُ حقَّ الكلام عنها وأوكلتهُ برفعِ تسابيحها إلى خالقه .. مَنْ لمس قلبَ الوجودِ بأنامل الودِّ والمحبَّةِ .. مَنْ نَشَرَ في أحشاءِ الكونِ الأمنَ والسلامَ .. مَنْ عَرَّفَ الإنسانَ بنفسهِ، وحل لُغْزَ خلقهِ .. مَنْ رَفَعَ الأرضَ إلى السماءِ وحَمَلَ أمانةَ الارتقاء بالإنسانِ إلى ما فوقَ الكونِ وتحتَ سِدْرَةِ المنتهى .. من صيَّر ليلَ البشرِ نهاراً، وشتاءَهُ ربيعاً .. مَنْ حوّل يُتْمَ الكونِ وبكاءَهُ إلى عيد بهيج .. من أحيا مَوَاتَ الروح، وغرسَ في القلبِ الخلودَ .. من ارتقى فوق الزمانِ والمكانِ، وعلا فوق أطباق العقول حتى وقف في برزخ بين الإمكانِ والوجوب .. من صار شمساً للكون، وعينا ً للوجود، ولساناً للخلائق، ودلالاً لمحاسن سلطنة الربوبية .. من صار مثالاً للرحمة الربانية، وتمثالاً للمحبة الرحمانية، وشرفاً للحقيقة الإنسانية .. ؟ !
مَنْ غيرُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - كانَ كُلُّ ذلكَ وفوقَ ذلك، والآن إليك هذه القطعة الأدبية " النورسية " التي تتناول هذه المعاني :(2/77)
( اعلم . . ! إنّ للمحيط الزماني والمكاني تأثيراً عظيماً في محاكاة العقول. . ! فإن شئت فتعال نخلع هذه الخيالات الزمانية والعصرية والمحيطية، ونتجرد من هذا اللباس الملوث، ثم نخوض في بحر الزمان السيال، ونسبح فيه إلى أن نخرج إلى عصر السعادات التي هي الجزيرة الخضراء فيما بين العصور والدهور، فلننظر إلى جزيرة العرب التي هي المدينة الشهباء في تلك الجزيرة الزمانية . ولنلبس ما نَسَجَ لنا ذلك الزمان، وخاطه لنا ذلك المحيط، حتى نزور ولو بالخيال - قطب مركز دائرة الرسالة، وهو على رأس وظيفته يعمل .
فافتح عينيك وانظره . . ! فأن أول ما يتظاهر لنا من هذه المملكة : شخص خارق له حسن صورة فائقة، في حسن سيرة رائعة، فها هو آخذ بيده كتابا معجزاً كريماً، وبلسانه خطاباً موجزاً حكيماً، يبلغ خطبة أزلية ويتلوها على جميع بني آدم، بل على جميع الجن والأنس، بل على جميع الموجودات .
فيا للعجب ..! ما يقول ..؟ نعم، يقول عن أمر جسيم، ويبحث عن نبأ عظيم، إذ يشرح ويحل المعمى العجيب في سر خِلْقَةِ العالم، ويفتح ويكشف الطلسم المغلق في سر حكمة الكائنات ويوضح ويبحث عن الأسئلة الثلاثة التي أشغلت العقول، وأوقعتها في الحيرة. إذ هي الأسئلة التي يسأل عنها كل موجود وهي: من أنت ؟ومن أين ؟ وإلى أين ؟) (1)
ثم يستطرد قائلاً : ( أنظر إلى هذا الشخص النوراني كيف ينشر من الحقيقة ضياء نواراً ومن الحق نوراً مضيئاً حتى صير ليل البشر نهاراً وشتاءه ربيعاً، فكأن الكائنات تبدل شكلها فصار العَالَمُ ضاحكاً مسروراً بعدما كان عبوساً قمطريراً ) (2)
25- الفناء والأبد
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص69.
(2) المصدر نفسه ص 57.(2/78)
أي أعماق مجهولة غامضة يسبرها قلم هذا الرجل العجيب في أكوان الروح وفي سماوات القلب ؟ ! حتى إذا أوغل صعداً، وعلا مشارفاً، تراءت له " الدنيا " من الأعالي فإذا هي باطل في باطل، وعَرَضٌ زائل، وخيال ذاهب .. وإذا بفضاء الروح يشتعل ببوارق الأبدية الخاطفة، ولوامعها الكاشفة، وإشاراتها الهادية .. حتى إذا عاد من رحلته تلك توجه إلى الإنسان هاتفاً :
أيها الإنسان المقهور الذاهب في حزنه وأساه .. توقف . . .عد .. لا تيأس .. ها هو بسيط الأبدية يَمْتّدُ أمام ناظريك، أمّم نحوه .. سر إليه .. اجتز شعابه ثم الق بنفسك في أحضانها وبين يديها .. ماذا تنتظر أيها الإنسان .. أجزاء من نفسك ذهبت دفينة الماضي .. وها هي أجزاء أخر يضمها رمس يومك .. وبقاياك سيحملها الآتي من الزمان إلى ظلمة قبرك .. فما المنقذ ؟ وكيف ؟ وأنَّى ؟ قلبك زورق نجاتك فدعه يأخذك إلى ضفاف الأبدية .. روحك سفينة خلاصك فدعها تأخذك إلى أبواب الخلود .. عبراتك المرار جمرات نار أحرقت فؤادي .. وويلات الفزع المرعب من أَشداق الفناء ملأتني إشفاقاً عليك .. جئت لأحمل إليك عزاءً مفعماً بالأمل والرجاء في عالم أخروي لا موات فيه ولا فناء لتقر عيناً، وتفرغ روعاً .. إزْجاؤك للأبدية .. أو إزجاء الأبدية إليك صار أكبر همي، وأعظم حملي، ومحور رسالتي .. أنا ما أتيتك بجديد فقلم القدرة قد كتب في فطرتك ميلاً إلى الأبد، وأملاً في الخلود .. أنا جئت أذكرك فقط بفطرتك وبما تنطوي عليه روحك من معاني الأبد والخلود.
والآن اصغ إلى " النورسي " في هذه المناجاة اللهيفة الصادقة المنبثقة من أعماق قلبه حيث يقول : (يا رب . . ! لقد بحثت في الجهات كلها " الجهات الست " فلم أجد دواءً لدائي .
فنظرت إلى اليمين، وإذا بقبر أبي بالأمس .
ورنا بصري نحو اليسار، فإذا قبري في الغد .
وهذا اليوم هو تابوت يحمل جسمي المضطرب .
فجنازتي ماثلة أمامي فوق رأس عمري .(2/79)
وتحت الأقدام ماء خلقتي ونخاع عظامي ممزوجين .
وكلما نظرت إلى الخلف رأيت هذه الدنيا سراباً في سراب .
وإذا ما امتد نظري إلى الأمام، فالقبر فاتح فاه، وطريق الأبد يتراءى من بعيد .
وإني لا أملك سوى " الجزء الاختياري " وهو عاجز، قاصر عديم الجدوى .
إذ لا مجال له للحلول في الماضي، ولا النفوذ إلى المستقبل .
وإنما ميدان تجواله هو : زمان الحال، وآن واحد سيال .
وعلى الرغم من هذا الفقر والضعف فقد كتب قلم قدرتك في الفطرة ميلاً إلى الأبد أملاً في الخلود .
فدائرة الاحتياج واسعة سعة امتداد النظر، فأينما يصل الخيال تصل الحاجة أيضاً .
بينما دائرة اقتداري قاصرة .. كاليد .
ففقري وحاجتي بسعة الدنيا إذن .
ورأس مالي مثل " الجزء الذي لا يتجزأ " فأين هذا الجزء من تلك الحاجات التي تسع الكائنات.. ؟ ولكني أنطلق في سبيلك من هذا الجزء كي أحظى بعنايتك .
إن رحمتك المطلقة ملاذي .
فالذي يجد فيضاً من الرحمات، لا يعتمد على هذا الجزء الاختياري الذي هو قطرة من سراب .
يا رب .. ؟ هذه الدنيا ما هي إلا كالمنام، وهذا العمر يذهب أدراج الرياح .
والإنسان فان بفناء الدنيا، والآمال الفانية آلام في البقاء .
تعالي أيتها النفس التي لا حدود لها ضحي بوجودك الفاني .
فخالقك الذي بيده الوجود .. موجود .
له الملك وهو المعطي، فافنِ نَفْسَكِ كي تجد النفس البقاء .
وذلك بسر : نفي النفي إثبات .
يا إلهي .. يا ذا الجود والكرم هب لي ملكاً من عندك .
وأعطني قيمة لا حدود لها، فأنك أنت الحفيظ ). (1)
26-بين العرش والقلب
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 198 .(2/80)
قَلْبُكَ كُلُّكَ أيها الإنسان .. وكُلُّكَ طَوْعَ قلبك .. وكلك وقلبك يعتصر أحدهما نفسه في الآخر .. إلا أن قلبك يظل العرش الذي يُظِلُّكَ عندما تتخلى عنك ظِلالُ الآفلات الفانيات من الأشياء التي لا جدوى من تعلقك بها .. فإذا ما انْخَلَعتَ عنها، أو انخلعَتْ هي عنك وصلت إلى الكشف الماورائي الذي يحجب عنك عوالم الغيب بعروشها، وعندئذ سترى أن ما بين عرش الرحمن وقلبك نسبة ضئيلة من العرشية تُظِلُّ وجُوْدَكَ الذاتي كما يُظَلُّ عرشُ الرحمن العالمَ .. فإذا ما بارحتْ روحُكَ مسكنَها الطيني، وأشرفَتْ على العالم من فوق فسترى الظاهر مرآةً للباطن، والباطنَ مرآةً للظاهر، والملكَ ظِلَّ الملكوت، والملكوتَ ظِلَّ المُلْكِ، وأن اسميه تعالى ( الظاهر - والباطن ) يعملان في الخلق سوية بلا حدود بينهما، فإذا الظاهر باطن، والباطن ظاهر في علم الله تعالى الكلي.
ويبقى ومض العقل مسباراً ممدوداً يَتَحسَّسُ خبايا البواطن في الأكوان والمكونات، ليزداد معرفة ويَخْصُبُ إدراكاً، وإذا كان لهذا العقل قدرة نسبية على تفسير المجردات إلا أنه أعجز ما يكون عن تفسير نفسه، لأن الومضة و القدحة الآتية من النور الكلي لا يقدر على تفسيرها إلا النور الكلي نفسه، فسبحان من بيده عرش القلوب والعقول، والملك والملكوت. والنورسي يلامس هذه المعاني في القطعة الأدبية الآتية حيث يقول !(2/81)
( اعلم .. أن العرش كالقلب، فقلبك فيك ملك وأنت في قلبك ملكوت، ففي دائرة الاسم الظاهر، العرش العظيم محيط بالكل، و في دائرة الاسم الباطن هو كالقلب للكون . وفي الاسم الأول - الظاهر - يشار إليه بـ (وكان عرشه على الماء ) (هود:7)، وفي الاسم الآخر -الباطن - يرمز إليه بـ ( وسقف الجنة عرش الرحمن )(1)، إذ لعرش من هو الأول والآخر، والظاهر والباطن حصة من الأولية والآخرية والظاهرية والباطنية .. ) (2)
27-الجمال بين الحقيقة والمجاز
إذا رحل الجمال فجأة أورث حسرة وعذاباً .. وإذا غاب الحسن على حين غرة هوى العاشق في أشد أحشاء اليأس حلكة .. وجزيرة الحب في روح المحب الحافلة بالسلام والبهجة سرعان ما تتعرض لأشد الأنواء عصفاً إذا ما جاب قرارة قلبه ولم يجد سوى بقايا جمال محطَّمٍ ابتلعه يَمُّ الزمان وغدا ذكرى من الذكريات الماضيات، والذي يعيش تحت سماء العشق الناعمة الزرقاء الصافية يجن جنونه عندما يرى السنة نار الفراق وهي تأكل ذلك اللطف الوديع من فوقه وتحيله إلى دخان ورماد .
هيا أيها العُشَّاق .. ! يا شعراء الحُبِّ والجمال .. املأوا الدنيا نواحاً، أغرقوها دموعاً على جمال عندما جئتموه لم تجدوه غير سراب .. وعلى عشق تاه وضل طريقه وأخطأ حبيبه، وعلى آمال ضائعات في محبوب مضى وتوارى ولم يخلف وراءه سوى أخاديد عميقة من الألم في الروح والقلب.
__________
(1) الجنة مائة درجة ، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض،والفردوس أعلى الجنة وأوسطها، وفوقه عرش الرحمن.. ) الحديث صحيح : رواه ابن ماجة عن معاذ والحاكم عن عبادة بن الصامت وعن أبي هريرة، وابن عساكر عن أبى عبيدة الجراح ، رضي الله عنهم. ( صحيح الجامع الصغير وزيادته 3116) قال المحقق: صحيح وانظر الأحاديث 3423، 4120 من المصدر نفسه، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة 919 يشير إلى حديث: سقف الجنة عرش الرحمن.
(2) المثنوي العربي النوري – النورسي ص195.(2/82)
لماذا المجاز - يا عشاق -إذا كانت الحقيقة أقرب إلينا منه .. ولماذا نرمز ونُكَنّي إذا كنا قادرين على أن نشير ونصرح .. ولماذا الركض وراء السرابات إذا كانت الينابيع الثرى تجري من تحتنا .. ؟
كل جمال على الأرض هو رمز لجمال في السماء، والحسن في عالم الشهادة خيال لحسنٍ في عالم الغيب .. والمحبوبات والمعشوقات هنا على الأرض إنما هي أطياف وظلال وخيالات وصور عكستها مرايا المغيبات .. وما يظنونه في المعشوق من بقاء فهو وَهْمٌ وإلى زوال سيمضي .. وما يزعمونه من خلود فسيلتهمه الفناء يوماً ما .
فالجمال عند " النورسي " مجازي وحقيقي، فالمجازي وَهْمٌ لا يسعد قلباً ولا يروي روحاً، لأنه زائل حائل لا ثبات له ولا بقاء، أما الحقيقي فهو روح الروح، وحياة القلب، يبقى ببقاء العاشقين، ويبقون هم ببقائه، ويخلدون بخلوده، ويحيون بحياته، فالقلوب له خُلِقَتْ وله رُصدت، وأي انحراف عنه إنما هو انحراف عن جوهره وحقيقة فطرته لابد أن يعاني من جرّائه شتى صنوف الألم والعذاب، وإلى ذلك يشير النورسي قائلاً :
"اعلم! أيها السعيد المجنون المحزون !إن مثلك كمثل صبي أبله قعد على ساحل البحر يبكي دائما لزوال الحبابات المتشمسة. كلما زال واحد بكى عليه ظناً منه انطفاء الشُميسة المتبسمة في الحباب بزوال الحباب وتحوله، وقد يبكي لتكدر ما في الحباب وتشوهه باختلاط مواد كثيفة به، ولا يرفع رأسه حتى يتفطن لتنزه الذات - التي هذه التماثيل جلوات أنوارها المتجددة على وجه البحر وخدود الأمواج وعيون القطرات - عن الزوال بزوال مرايا تجلياته، بل ليس في ما ترى زوال مؤلم ولا فراق أليم.
أما الجمال بمحاسنه وجلواته فثابت بكمال حشمته في تجدد شؤونه وتعدد مراياه.
وأما المرايا والمظاهر فتظهر لوظيفتها وهي راقصة، فإذا تمت الوظيفة استترت وهي ضاحكة.(2/83)
كذلك أنت، قاعد على ساحل بحر الدنيا تتألم باكياً على أفول ذوي الكمال والجمال والحسن، وعلى زوال ثمرات النعم عند انقضاء أوانها، تزعم بالغفلة أن الجمال ملكُ ذي الجمال والثمرات مال الشجرة، وتغتصبهما منهما عاصفات التصادفات فتلقيهما في ظلمات العدمات. أفلا تعقل ان من نوّر ما تحبه بنور الحسن هو الذي نوّر كل ازاهير بستان الكائنات وشوّق عليها قلوب البلابل العاشقين.
إلى كم تبكي أيها المسكين على زوال ما في يدك من الثمرة! فانظر إلى تواتر نِعَم فالق الحب والنوى في إبقاء شجرة تلك الثمرة.. ثم إلى دائرة انعاماته في أقطار الأرض من أمثال تلك الشجرة إن عقمت.. ثم إلى دائرة تجدد احساناته في تجدد الفصول والسنين أن صارت سنتك شهباء.. ثم إلى دائرة إدامة إحسانه حتى في عالم المثال والبرزخ بأمثال ما شاهدت في عالم الشهادة.. ثم إلى دائرة انعاماته الواسعة الأبدية في عالم الآخرة بأشباه ما استأنست به في حديقة الأرض، ثم.. و.. ثم.. وهكذا! فلا تنظر إلى النعمة بالغفلة عن الإنعام حتى تحتاج إلى التشفي بالبكاء، بل انظر من النعمة إلى الإنعام ودوامه، ومن الإنعام إلى المنعم ووسعة فيضه وكمال رحمته، فاضحك شاكراً له، وبفضله فافرح.(2/84)
وحتى متى تدمع عينُك ويجزع قلبُك على فراق جمال زال! فانظر إلى كثرة ووسعة الدوائر المتداخلة المحيطة بما تحبه تنسيك ألم فراقه بإذاقة لذة تجدد أمثاله وترادف أشكاله. وتلك الدوائر المتفاوتة صغراً وكبراً إلى اصغر من خاتمك واكبر من منطقة البروج، وزوالاً وبقاءً إلى آنٍ ودقيقة والى دهر وأبدٍ؛ مظاهر ومرايا ومعاكس ومجاري لجلوات ظلال أنوار جمال ذي الجلال والإكرام الأزلي الأبدي السرمدي القيوم الباقي المقدس عن الحدوث والزوال المنزه عن التغير والتبدل. فلا تظنن أن ما في المرآة ملك للمرآة، كي لا تبكي على ما في المرآة بموتها وانكسارها، فارفع رأسك عن الدنيا بخفضه إلى منظار قلبك لترى شمس الجمال، فتعلم أن كل ما رأيت وأحببت إنما هو من آياته نِعَمٌ.. ومن آيات جماله أنْ زيّن السماء بمصابيحها والأرض بازاهيرها.. ومن آيات حُسنه أن خلق الإنسان في احسن تقويم.. وان كتب العالم في أبدع ترقيم.. ومن آيات بهائه أن اشرق أرواح الأنبياء ونوّر أسرار الأولياء وزيّن قلوب العارفين بأنوار جماله المجرد. جلّ جلاله". (1)
28 – لمعة في تعريف القرآن
في تعريفه للقرآن الكريم يقول النورسي :
( فإن قلت : القرآن ما هو ؟
__________
(1) المثنوي العربي النوري ص 288-289 .(2/85)
قيل لك : هو الترجمة الأزلية لهذه الكائنات، والترجمان الأبدي لألسنتها التالية للآيات التكوينية، ومفسر كتاب العالم .. وكذا هو كشاف لمخفيات كنوز الأسماء المستترة في صحائف السماوات والأرض .. وكذا هو مفتاح لحقائق الشؤون المضمرة في سطور الحادثات .. وكذا هو لسان الغيب في عالم الشهادة .. وكذا هو خزينة المخاطبات الأزلية السبحانية والالتفاتات الأبدية الرحمانية، .. و كذا هو أساس وهندسة وشمس لهذا العالم المعنوي الإسلامي .. وكذا هو خريطةٌ للعالم الأخروي .. وكذا هو القول الشارح والتفسير الواضح، والبرهان القاطع والترجمان الساطع لذات الله وصفاته وأسمائه وشؤونه…وكذا هو مرب للعالم الإنساني، وكالماء والضياء للإنسانية الكبرى التي هي الإسلامية…وكذا هو الحكمة الحقيقية لنوع البشر، وهو المرشد المهدي إلى ما خلق البشر له…وكذا هو للإنسان: كما أنه كتاب شريعة كذلك هو كتاب حكمة، وكما أنه كتاب دعاء وعبودية كذلك هو كتاب أمر ودعوة، وكما أنه كتاب ذكر كذلك هو كتاب فكر، وكما أنه كتاب واحد لكن فيه كتب كثيرة في مقابلة جميع حاجات الإنسان المعنوية، كذلك هو كمنزل مقدس مشحون بالكتب والرسائل. حتى أنه قد أبرز لمشرب كل واحد من أهل المشارب المختلفة، ولمسلك كل واحد من أهل المسالك المتباينة من الأولياء والصديقين ومن العرفاء والمحققين رسالة لائقة لمذاق ذلك المشرب وتنويره، ولمساق ذلك المسلك وتصويره حتى كأنه مجموعة رسائل) (1)
29- الكلمة القرآنية
في "الكلمة القرآنية" تطالعنا ينابيع غزيرة من المعاني، وتبهرنا درر خبيئة من الأفكار والحكم، وتسحرنا رياض خضراء، وحدائق غناء من أزاهير الحياة والوجود.
__________
(1) إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز- النورسي- تحقيق إحسان قاسم الصالحي ص 22 .(2/86)
وحين نضع أناملنا على نبض "الكلمة القرآنية" نلمس في صدى نبضها نبضات الكون، ونحس في توهجها توهج الأرض والسماء ونبصر في ضوئها أضواء الشموس والأقمار، ونشاهد في تألقها تألق النجوم والكواكب، وهي تعطينا من هذا كله على قَدَرِ عقولنا، ورهافة حسنا، وعمق نظرتنا، وشموس معرفتنا.
فكلما كنا أقدر على الغوص، واكثر سبرا للأغوار، و أوسع استشرافاً للآفاق والأمداء زادتنا، -الكلمة القرآنية- عطاء وفتحت أمامنا الكثير من مغاليق أسرارها، ومخابئ كنوزها، وما توحيه كلمة -أية كلمة- من معان وأفكار، ومشاعر وأحاسيس في ديوان شاعر، أو في كتاب ناثر، ليست سواء مع ما توحيه الكلمة نفسها عندما ترد في كتاب الله.
ففي كتاب الله تأخذ "الكلمة" معاني أعماق وأوسع، وتحتل من النفس الإنسانية مساحات أعظم وأشمل، وذلك لكونها تتحول في "كتاب الله" إلى كيان حي يموج بتلك الحياة المرتبطة بالأزل والأبد، هذا الأبد "غير الزماني" الذي تصب فيه أفكار الماضي والحاضر والمستقبل.
"فالكلمة" تحيا في أجواء الآية، وتتفاعل معها أخذا وعطاء، والآية ترتع في ربيع السورة وتستروح في ظلالها، وتنهل من نبعها، وتقبس من نورها، والسورة تتنزل من روح القرآن ومعانية مضمخة بنوره وعطره، والقرآن كلام الله الحي الذي يستمد وجوده وحياته من وجود "واجب الوجود" ومن حياة "الحي" الذي لا يموت، فلا غَرْوَ - وهذا شأن القرآن - أن يقال: أن القرآن يفسر بعضه بعضا، ويضيء بعضه بعضا.
فكلام القرآن يتمخض في حس "النورسي" وفي وجدانه عن عالم غريب جميل من الصور والأخيلة التي تأخذ طرقها إلى قنوات حسه وشعوره، وسرعان ما يتناولها شعوره المرهف، وذوقه المصفى، وفهمه الشمولي، ليشيد منها صروحا شامخة مبتكرة في أدب القرآن، وأسلوب تعامله مع "الكلمة" ومنهج عرضه وطريقة مخاطبته للإنسان.(2/87)
ويسرنا أن نعرض هنا بعضا مما كتبه "النورسي" نصا في "الكلمة القرآنية" فيما تناوله من تفسير لبعض من آيات القرآن الكريم.
يقول "النورسي"
حتى أن "العين" التي معناها الواحد: البصر أو المنهل، يطلق على الشمس أيضا، بالرنو إلى أن العالم العلوي ينظر إلى العالم السفلي بها. أو أن ماء الحياة الذي هو الضياء يسيل من ذلك المنبع في الجبل الأبيض المشرف على الكائنات وقس(1) على ذلك.
* * *
أما (صم بكم عمي فهم لا يرجعون) (البقرة:18)
فاعلم: أن الإنسان إذا وقع في مثل هذا البلاء -قد يتسلى ويأمل- ويرجو النجاة من جهات أربع مترتبة:
فأولا: يرجو أن يسمع أصوات تناجى الناس في القرى المجاورة أو من عابري السبيل حتى إذا طلب العون والمدد أمَدُّوهُ، ولما كانت الليلة ساكنة بكماء استوى هو و "الأصم" فقال: "صم" لقطع هذا الرجاء.
وثانيا: يأمل أنه إن نادى أو استغاث، يُحْتَمَلُ أَنْ يَسْمَعَ أحدٌ فيغيثه، ولما كانت الليلة صماء، كان ذو اللسان والأبكم سواء، فقال: " بُكْمٌ " لإلقامهم الحجر يقطع هذا الرجاء أيضا.
وثالثا: يأمل الخلاص برؤية علامة أو نار أو نير(2)، يشير إلى هدف القصد، ولما كانت الليلة دامسة رمداء عبوسا عمياء، كان ذو البصر والأعمى واحدا فقال "عمي" لإطفاء هذا الأمل أيضاً.
رابعا: لا يبقى له إلا أن يجتهد في الرجوع، ولما أحاطت به الظلمة، كان كمن دخل في وحل باختياره وامتنع عليه الخروج.
نعم وكم من أمر تذهب إليه باختيارك، ثم يسلب عنك الاختيار في الرجوع عنه. تخليه أنت ولا يخليك هو.
فقال تعالى: "فهم لا يرجعون" لسد هذا الباب عليهم وقطع آخر الحبل الذي يستمسكون به، فسقطعوا في ظلمات اليأس، والتوحش، والسكون والخوف.
* * *
وأما آية: (وينزل من السماء من جبال فيها من برد)(النور:43)
__________
(1) الجبل الأبيض يقصد به الشمس التي تبدو كجبل أبيض في وسط السماء.
(2) أي جسم منير أو نير.(2/88)
فاعلم: أن الجمود على الظاهر في هذه الآية مع توقد الاستعارة فيها، جمودُ بارد، وخمود ظاهر إذ كما تتضمن (قوارير من فضة) (الإنسان:16) إستعارة بديعة، كذلك تحتوي: (من جبال فيها من بَرَدٍ) على استعارة بديعة عجيبة مستملحة.
فكما أن كؤوس الجنة لم تكن من الزجاج ولا من الفضة، بل في شفافية الزجاج، وبياض الفضة، ومن حيث أن الزجاجة لا تكون من الفضة لتخالف النوعين، أشار إلى الاستعارة بذكر "من" بالإضافة كذلك (من جبال فيها من برد) متضمنة لاستعارتين مؤسستين على خيال شعري بالنظر إلى السامع:
وذلك الخيال مبني على ملاحظة المشابهة والمماثلة بين " العالم العلوي " وتشكل " العالم السفلي " وتلك الملاحظة مبنية على تصور المسابقة والرقابة بين الأرض والجو في لبس الصور من يد القدرة.
كأن الأرض لما برزت بجبالها اللابسة للبِيْضِ من حُلَلِ الثلج والبرد في الشتاء، ومتعمِّمَة بها في الربيع، ثم تزينت في الصيف ببساتينها المتلونة، فأظهرت في نظر الحكمة - بانقلاباتها، ( معجزة القدرة الإلهية ) قابلها جو السماء محاكيا لها، مسابقاً معها لإظهار( معجزة العظمة الإلهية ) فبرز متبرقعاُ ومتعمماً بالسحاب المتقطع جبالاً، وأوطاداً وأودية، والمتلونة بألوان مختلفة مصورة لبساتين الأرض، ملوحاً ذلك الجو بأجلى دلائل العظمة وأجلها .(2/89)
فبناءً على هذه الرؤية والمشابهة والتوهم الخيالي استحسن تشبيه السحاب- ولا سيما الصيفي منه - بالجبال، والسفن والبساتين والأودية وقوافل الإبل - كما تسمع من العرب في كلامهم - فيخيل إلى نظر البلاغة : أن قطعات السحاب الصيفي سيَّارة وسياحة في الجوِّ، وكأن الرعد راعيها وحاديها، كلما هزّ عصا برقه على رؤوسهم في البحر المحيط الهوائي اهتزت تلك القطعات وارتّجت وتراءت جبالاً صادفت الحشر، أو سفنا تلعب بها يد العاصفة، أو بساتين تُرَجِّحُهَا من تحتها الزلزلة، أو قافلة شردت من هجوم قُطَّاع الطرق، ومع ذلك يسيرون ويبحرون بأمر الخالق .
ولما ناداها الرعد - كالبوق المعروف في المعسكرات - ( حيَّ على الاجتماع والاتحاد ) تسارعوا من منازلهم مهطعين إلى راعيهم فيُحْشرون سحاباً، ثم بعد إيفاء الوظيفة حقها وتلقي الأمر بالاستراحة، يطير كُلٌ إلى وكره .
فبناءً على هذه المناسبة الخيالية، وعلى المجاورة بين السحاب والجبال :
إذ الجبل - بعامل البرودة والرطوبة - يتظاهر ويتشكل السحاب عليه بمقداره، ويلبس لباسه، وعلى وجود الأخوة بينهما ومبادلة الصور واللباس لكليهما، في كثير من مواضع القرآن، ومصافحتهما في منازل التنزيل، كمحاورتهما وتعانقهما في كثير من سطور صحيفة الأرض في كتاب العالم، فترى السحاب متوضعاً على الجبل، ويصير الجبل كأنه مرسى سفن السحاب ترسو عليه أو مجلس تتشاور عليه أو وَكْرُ تطير إليه استحقا بحكم المجاورة - في نظر البلاغة أن يتبادلا ويستعيرا لوازمهما فيعبر عن " السحاب " بـ " الجبل " مع تناسي التشبيه .
فإذا عرفت ما سمعت من المناسبات،
و (ينزل من السماء ) أي من جهة السماء .
( من جبال فيها ) أي من سحاب كالجبال .
( من برد ) أي من مطر كالبَرَد في لونه و رطوبته وبرودته .(1)
__________
(1) أنظر إشارات الأعجاز في مظان الإيجاز ص113 وما بعدها . وانظر كذلك / سعيد النورسي رجل الإيمان ص 143 ، 144 ، 145 ، 146 ، 147.(2/90)
30- فلسفة الصلاة والزمن
الزمن نفسه، أسحاره وأصباحه، وضحاه وظهيرته، وأصائله وأماسيه، عشاؤه وليله، هذه الأوقات رموز ومعان لكل مرحلة من مراحل عمر الإنسان، منذ أن تدب الحياة فيه وهو في رحم الأم وحتى يعود في خاتمة المطاف إلى رحم الأرض أمه الثانية الأخرى .. فهذه الأوقات هي أصداء الزمن الذي يصرخ بالإنسان منبهاً وموقظاً، وهي همساته في أذن الروح كلما انتابها كسل أو فتور، ولذلك فرض الله سبحانه وتعالى الصلوات - التي تمثل قمة الصحو و اليقظة في هذه الأوقات : ( فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشياً وحين تظهرون ) (الروم:17) .
فعالمنا في إطار الأكوان ساعة إلهية كبرى، عقرب ثوانيها الليل والنهار، وضابط دقائقها السنون والأعوام، وحاسب ساعاتها القرون والأزمان، وكل ميل أو عقرب فيها - كساعة الإنسان اليدوية - يناظر الآخر ويرتبط يه، ويتحرك بحركته، ويأخذ حكمه .
والدين لكي يربطنا إلى هذه الساعة الكبرى، ويلفت انتباهنا إليها، ويجعلنا متيقظين لحركتها لا نغفل ولا نسهو، فرض لنا ضمن كُلِّ وقت من أوقاتها، وموسم من مواسمها نوعاً من أنواع العبادات، وشكلاً من أشكال التقرب إلى الله، فالصلاة والصوم والحج والزكاة وغيرها الكثير من فروض الطاعات ومندوبات الأعمال لها- ضمن هذه الساعة الكبرى - وقتها المعلوم وزمنها المخصوص .
يقول " النورسي " في حكمة الصلاة في أوقاتها المعلومة : تسألني - أيها الأخ - عن حكمة تخصيص هذه الأوقات الخمسة المعينة بالصلاة، وسأشير إلى حكمة واحدة فقط من بين حكمها الكثيرة:
وقت الفجر إلى طلوع الشمس :(2/91)
يشبه هذا الوقت في نداوته ورقة أنسامه، وعطر أنفاسه، باكورة الربيع وخضرة أيامه، وتفتح أزاهيره وأوراده، كما أن هطول نور الفجر الهادئ الأنوس على الأرض يشير إلى أول نزول الروح الإنساني في رحم الأم، بداية خلقه، ولأنه الخيط الأول من نهار جديد فهو يثير في النفس معنى اللحظات الأولى من اليوم الأول من الأيام الستة في خلق السماوات والأرض.
كل هذه الخواطر والأفكار ينبغي أن تنبعث في نفس المؤمن مرة واحدة وهو يستقبل فجر يوم جديد، فيقوم إلى الصلاة متضرعاً طارقاً باستحياء باب رحمة القدير ذي الجلال ومتمرغاً على أعتاب الرحيم ذي الجمال، عارضاً افتقاره عليه طالباً العون والتوفيق منه سبحانه، فهذه الصلاة في باكورة يوم المؤمن الجديد هي ركيزة ثابتة يرتكز إليها، وسند يستند إليه، و مشد يشد ظهره ليقوى على تحمل ما يواجهه به يومه من أثقال الحياة، ومتاعب العيش في غضون النهار . أليس - أيها الأخ - في اختيار هذه الوقت للصلاة حكمة عظيمة ما بعدها حكمة .. ؟ !
2-وقت الظهر :
الظهر صيف يومه، وشباب نهاره، وعنفوان استوائه، وهو يومئ بشدة ضيائه، ووضوح أنواره، إلى ما في الروح الإنساني النازل إلى الدنيا من أنوار إلهية بِكْرٍ لم تتلوث بعد بدخان الآثام، ولا ظلمات الذنوب ومع بلوغ النهار ذروته وميلانه قليلاً إلى الزوال، تتكامل أو تكاد أعمال الإنسان اليومية، حيث يشعر بعدها بحاجته إلى فترة استرخاء نفسي، ويحس بحاجة الروح اللاهفة إلى التنفس والاسترواح، وافتقارها بعد هذا الانغمار بالشؤون الدنيوية الفانية و ما تورثه - أحياناً - من غفلة واضطراب وحيرة - إلى الانفلات من هذا كله، والتوجه بإشراقها إلى ينابيع الخلود وعوالم البقاء .(2/92)
فخلاص روح الإنسان من تلك الأثقال، وانسلالها من بين سحب الغفلة والحيرة، وخروجها من تحت زبد التوافه والأباطيل، في هذا الوقت من النهار، لا يتم إلا بالتجاء الإنسان وهروبه إلى باب الحي القيوم الباقي بتضرع الملتاع وتوسل الملهوف، فيقف بين يدي الله سبحانه وتعالى في صلاة الظهر مكتوف اليدين، واجف القلب، شاكراً حامداً لآلائه وأنعمه، متبرئاً من حوله وقوته، مستعيناً به وحده، مُظْهِراً - بركوعه - عجزه إزاء جلاله وكبريائه وعظمته، مُعْلِنَاً - بسجوده ذلّه وخضوعه تجاه كماله الذي لا يزول، ومسبحاً بحمد جماله الذي لا مثيل له ولا شبيه .
فما أشد حاجة الإنسان في هذا الوقت إلى هذه الصلاة التي تنعش روحه، وتذكر قلبه، وتوقظ وجدانه، أفلا ترى معي - يا أخي - أن الصلاة هنا ضرورة من أعظم الضرورات في الإبقاء على يقظة الإيمان وحيويته في النفوس؟
3-وقت العصر :
ويأتي العصر منساباً بهدواته الهادئة، ولحظات سكينته الحالمة، طاوياً أساهُ العِذْبُ سرّ الآلام الإنسانية الكبرى، وماسحاً بيده أوجاع القلب البشري المتعب في حومة الكفاح - من أجل بقائه نقياً طاهراً - ضد قوى الشرّ في خفايا الضمير، وخبايا الوجدان، هذا الكفاح المرير الذي لا يعلم سره إلا الله سبحانه وتعالى .
ووقت العصر هو خريف اليوم المثقل بثمار الأعمال، جيدها ورديئها وكهولة النهار المدلفة بهدوء إلى شتاء العمر، وهو يشير - بانحدار شمسه نحو المغيب - إلى الحزن الوقور الآتي مع شيخوخة الإنسان والقادم في صحبة الجسد المهزوز العاجز الضعيف الذي يقول لسان حاله : انظروا - أيها السادة - كُلَّ شيء يحول ويزول، ويمضي إلى عوالم الغيب، وينحدر إلى ما وراء الشهود . . .(2/93)
وهنا ينتفض الروح الرافض المتمرد على الفناء، الساعي إلى الخلود، التواق إلى الأبدية، ولأنه مخلوق لهما فهو يعشق الثبات والبقاء، ويتألم من الزوال والفناء، فيتحرك في المؤمن مهيباً به أن يقوم إلى ضفاف الأبدية، وبحار السرمدية . ويلتمس البقاء من الباقي، ويحتمي من الفناء بالحي القيوم الذي يقول: ( كل من عليها فانٍ ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) ( الرحمن:27) فيؤدي صلاته مستحضراً في ذهنه هذه المعاني التي تنسج لروحه في كل ركعة وسجدة ثوب بقائه ورداء خلوده . . .
ألا ترى - أيها الأخ الحبيب - بعد هذا الذي ذكرناه، كم هي صلاة العصر مناسبة لوقتها، وكم هي ضرورية في أوانها .. ؟ !
4-وقت المغرب
الشمس الصفراء الشاحبة تنحدر على مهل نحو المغيب، مخلفة وراءها ظلالاً باهتة، وأشباحاً ناحلة من صور الأشياء والمرئيات .
كما تغيب الشمس - هذا الجرم السماوي الكبير الممتلئ بالحيوية والنشاط - يغيب الإنسان- هذا الجرم الأرضي العظيم - كذلك عندما يحين أجله، وتدق ساعة مغيبه، وهو لا يترك وراءه سوى أطياف ذكريات، وبقايا صور في ذاكرة أهله ومعارفه .
ويغرق الليل الدنيا، ويغمرها بالظلام كل مساء وكأنه - وهو الليل الأصغر - يريد أن يذكرها فلا تنسى أبداً ذلك الليل الأكبر القادم في يوم ما ليَلُفَّها في يَمِّهِ ويطويها بما فيها ومن فيها بلجته . . .
ويهمس المساء ناصحاً في أذن الإنسان :
أترى - أيها الإنسان - كيف يغرق غائصاً في ظلمة الليل كل شيء تحبه وتتعلق به، ألا تراه كيف ينفلت من بين يديك، وينسل من بين ناظريك، منطوياً تحت جناحه، وضائعاً في ثنايا موجه .. ؟(2/94)
فلا تغتر بما تجد، ولا تفرح بما تكسب، فلا دوام لمطلوبات الدنيا، ولا بقاء لمحبوبات الحياة، فإياك والتعلق بما يمكن أن تفارقه أو يفارقك، وإياك والتشبث بالزائلات الفانيات من الأشياء .. بل تعلّقْ بالباقي تبقَِ .. وتشبّثْ بالخالد تخلدْ .. وأحبَ الحيَّ القيومَ تحيا .. وتشوقْ إلى الرحمن الرحيم تُرحَمٍْ وفي الظلمات استقبل قبلتك .. وأدِّ صلاتك تتنور وتتضوأ مهما اشتد ظلام الدنيا حولك أو اشتدت عَتَمَةُ قبرك .. هذا هو معنى الصلاة ومغزاها في مستهل هذا الانقلاب الزماني الكبير، وفي أوان هذا الإدلاج من عالم النور إلى عالم الظلام .. فما أعظم - يا أخي حكمة فرض الصلاة في هذا الوقت، وما أجمل ما تؤديه للإنسان في هذا الأوان من أمن وسكينة واطمئنان . . .
5- وقت العشاء :
ويأتي العشاء هذا الشتاء الليلي الذي يتغشى بكفنه الأسود وجه الأرض الميتة معلناً بذلك عن موت يوم آخر من أيام الدنيا، ومضيه مثقلاً بأعمال البشر بكل خيرها شرِّها إلى حافظه الزمن، وعقله الدقيق الذي لا يفوته تسجيل كل صغيرة وكبيرة وحفظها إلى اليوم الموعود .. هكذا تمضي صحيفة النهار البيضاء تجرر بقايا نورها، وتختفي وراء أفق السماء، وتُنْشَرُ صحيفة الليل السوداء مذكرة الإنسان -الذي كثيرا ما تنتابه الغفلة- بقدرة "مقلب الليل والنهار" و"مسخر الشمس والقمر" كما هو شأنه - جل شانه - عندما يطوي بساط الربيع الأخضر من فوق سطح الأرض ويستبدل به ذلك البساط البارد المتثلج الأبيض أيام الشتاء المقرور.
فالجمع - في الخلق - بين المتناقضات، بياض النهار وسواد الليل، حر الصيف وقر الشتاء، حياة المخلوقات وموتها، من عمل واحد أحد، فرد صمد لا حَدَّ لقدرته ولانهاية لإبداعات صنعته.(2/95)
وسجو الليل وصمت سكينته، وهدوات أنفاسه، يقربنا من حافات ذلك العالم الصامت الذي يثوي الأموات في صمته، ويجعلنا نسمع طرقات البلى، ومعاول الفناء على أسوار الدنيا وجدران العالم، حتى ليدوي في أسماعنا طنين الهلاك، ونحس في أرواحنا عويل الدمار وأنين الانهيار، ونُصْغي بقلوب واجفة إلى ذلك النداء الأزلي: (لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار) (غافر:16) المالك الحقيقي المتصرف الحقيقي بهذا الكون، بل المعبود الحقيقي، والمحبوب الحقيقي فيه الذي يقلب الليل والنهار، والشتاء والصيف والدنيا والآخرة، كما يقلب أي إنسان - ولله المثل الأعلى - صفحات كتابه، أو يطوي سجلات كتبه، فيتجلَّى عجزنا، ويبين فقرنا، وتنكشف حاجتنا إلى من بيده إنقاذنا من ظلمات المستقبل، وليل العالم الكبير، القادم قدوم كل ليل في آخِرَةِ النهار، فيفزع المؤمن في هذا الوقت إلى الصلاة ويردد مع سيدنا إبراهيم عليه السلام (لا أحب الآفلين) (الأنعام:76)، ويتقرب بصلاته إلى باب من هو المعبود الذي كان وما يزال، ومن هو المحبوب في كل وقت وأوان، مناجياً الباقي السرمدي بعد خَلْعِهِ للدنيا الفانية، وطرحه لهذا العالم المائل للانهيار في كل لحظة وراء ظهره خارجاً بذلك من ظلمة دنياه، من خلال صحبة خاطفة، ومناجاة موقتة، مقتبسا النور الذي يضئ حياته، وملتمساً المرهم الذي يضمد به جراح قلبه النازفة على من زال من أحبائه وفراق من فارق من إخوانه ومعارفه، ساكبا عبرات قلبه، ولوعات صدره على عتبة باب تلك الرحمة، قائما بوظيفة العبودية في خاتمة يومه قبل أن يخلد إلى النوم، موته الأصغر الذي يجر به كل ليلة، والذي لا يدري ما سيؤول أمره فيه عندما يغمض عينيه، ويعقد الكرى أجفانه .. فتتهاوى عند أبواب النفس كل محبوباته الدنيوية، وتذوب في حرارة صلاته كل أهوائه ورغائبه الزائلة الفانية، ويتلاشى خوفه ويزول ذله، ويتحول الصغار في روحه إزاء السادة الدنيويين إلى عز شامخ، وإباء رفيع،(2/96)
لأنه واقف أمام من هو القديم الكريم، وماثل في حضرة من هو الحفيظ الرحيم.
قيفتتح صلاته بالثناء على رب العالمين الكريم الرحيم، الكامل المطلق الكمال، الغني المطلق الغني، فيرقى إلى مقام الضيف المكرم في هذا الكون، والى مقام الموظف المرموق فيه، رغم ضعفه وفقره وعجزه، لأنه قد سما إلى مرتبة الخطاب: (إياك نعبد) فينتسب بذلك لمالك يوم الدين، ولسلطان الأزل والأبد. فيقدم بين يدي الله بقوله: (إياك نعبد) و (إياك نستعين) عبادات واستعانات الجماعة الكبرى، والمجتمع الأعظم لجميع المخلوقات، طالبا له ولهم الهداية إلى الصراط المستقيم الذي هو طريقه المنور الموصل إلى السعادة الأبدية بقوله: (اهدنا الصراط المستقيم) ويتفكر ويتأمل في كبريائه وعظمته سبحانه وتعالى الذي ما هذه الشموس المستنيرة، وما هذه النجوم الملألئة إلا جنود مجندة لأمره جل وعلا، وإن كل واحد منها ما هو إلا مصباح في دار ضيافته هذه، وخادم له مطيع لأمره، فيكبر عندئذ قائلا: (الله أكبر) ثم يهوى راكعاً.
وإذا كانت الأكوان والعوالم، وإذا كانت السماوات والأرضين، وما فيهن وَمَنْ فيهن ما فتئوا ساجدين سجدتهم الكبرى، مسبحين تسبيحاتهم العظمى، فما أجمل أن يأخذ الإنسان أيضا مكانه في صف الساجدين على سجادة الغروب المبسوطة بين أقطار السماوات والأرض، مكبراً مع تكبيرة الوجود لينال أجر صلاة الجماعة الكونية العظمى، ويحصل على شرف العبودية الممتثلة لأوامر مولاها.
فصلاة "العشاء" بهذا المعنى، وبهذا الفهم الشامل هي معراج المؤمن، والتي يسمو بها، ويشاهد من عليائها آيات الله وأنعمه وآلاءه.(2/97)
تلك - يا أخي - هي حكمة الصلاة في هذه الأوقات التي هي منعطفات يومية، وانقلابات زمانية، لكل وقت وزمان منها نوع من أنواع فيوضات الرحمة الإلهية، ولون من ألوان تجليات الأسماء الحسنى. فيبادر إليها المؤمن بصلاته حتى لا تخطئه بركاتها، ولا تفوته رحماتها.(1)
31- الإنسان ثمرة الأزمان
في البذرة ينطوي ماضي الشجرة ومستقبلها. وعندما تورق شجرة ما وتتفتح أزاهيرها، وتنضج بعد ذلك ثمارها، فأن هذه الثمار ينبغي أن تتقدم بشكرها للبذرة نفسها، وللجذر الممتد عميقا في باطن الأرض، وللجذع الذي حمل الأغصان، ومر من خلاله الماء والغذاء من باطن الأرض لكل ورقة وزهرة وثمرة.
أما إذا ركب هذه الثمار الغرور، وأصابها العجب، وتعالت شامخة على أغصانها وتشبثت بحاضرها، وتنكرت لماضيها، وتناست أصلها، وظنت - في غمرة خيلائها - أنها في غنى عن غذاء جذورها وخمائر جذعها فأنها تكون بذلك قد خانت نفسها، واختَرَمَتْ حياتها، وأوردت ذاتها موارد الموت والهلاك.
الإنسان أيضا هو أنفس ثمار الوجود، وأجمل أزهار الكون، وأكثر أشجار الأرض طيبة، ورسوخا وجمالا وظلا، تخضر الأرض باخضرار نفسه، ويخضل العالم باخضلال روحه، ويندى الوجود بأنداء قلبه، وتتفيأ الشمس نفسها بوارف ظله.
هذا هو الإنسان الكامل العارف الجامع - في لمحة - بين ماضيه وحاضره ومستقبله، والنافذ ببصيرته إلى جذوره وأصوله الموغلة في القدم .. والعالم بأنه بالمشيئة قدم العالم، وبالقدرة نزل الأرض، ومن الحي أستمد الحياة، ومن الخالق أستوهب خلقه، وقام يدب على الأرض بشرا سويا، وهو بالبصيرة نفسها يطل على مشارف الأبد، ويرنو إلى ضفاف الخلود، ويهفو باشتياق إلى عالم البقاء، وهو على ثقة ويقين بأنه بالباقي سيبقى، وبالخالد سيخلد، ومن الأبدي سينال الأبد، ويحصل على الخلود.
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 38- 46 أنظر "رجل الإيمان" الصفحات 106- 113.(2/98)
فهذه النظرة الشمولية الجامعة -عند الإنسان المؤمن- هي التي تعطي سلوكيته في التعامل مع الآخرين روحاً نابضاً بالحياة. وحساً مرهفاً لا تحكمه ضرورات الأزمنة والأمكنة، ولا تفرضه المصالح والمنافع الضيقة المحدودة.
فهو حين يصدق مثلا لا يصدق بدافع الضرورة، ولكنه يصدق لأنه يجد في الصدق جمالا تهفو إليه النفوس، ويسعى إليه الوجدان، ويطلبه الصدق الأعظم الذي به قام الوجود، وعليه رست السماوات والأرض، وهو حين يحب، لا يحب لغرض، ولا يصطفي لمنفعة، ولكنه يحب لأن الحب هو الدم الذي يغذو عروق العوالم والأكوان، ويمد قلب الوجود بدفقات الحياة، ويمنح الزهرة سر الجمال، والفراشة سحر الألوان، والبلبل عذوبة التغريد، ويهدي القمر نوره الأنوس، والشفق الأحمر حمرته، الهادئة، والفجر أنفاسه الندية، والجدول خريره الحزين، والقلب الإنساني جمال الشجن، والروح أسى الحنين إلى عالم الحب والجمال والخلود في رحاب الآخرة ومنازل الجنة. والى أمثال هذه المعاني يشير "النورسي" قائلا:(2/99)
( أما الإنسان المنحصر في حلقة واحدة من حلقات الزمن، وفي دائرة واحدة من دوائره وهي دائرة الحاضر، المنقطع عن الماضي والمبتوت الصلة بالمستقبل، فسوف تضيق نفسه بضيق زمانه، وتتحدد آفاق نظرته، ويدخل مرغما في عنق الزجاجة الزمنية الضيقة الخانقة التي تسد منافذ المروءات في نفسه، وتوصد أبواب المكرمات في وجدانه، وتتحول سجاياه الإنسانية الموروثة والتي لا تعرف الحدود إلى سجايا نفعية، وأخلاق انتهازية متلونة، يعامل من خلالها الناس الذين يعاصرهم ويعايشهم وكأنهم كائنات زمانية محدودة بحدود هذا الحاضر الذي يعايشونه، وكأنه لا يعرف من أي ما ض تليد مفعم بالمكرمات قد أتوا، ولا إلى أي مستقبل سيلتقيهم في رحابه بعد انقضاء هذا الزمن الدنيوي مهما بدا طويلا في ظاهر أمره وعندما ينظر الإنسان المحصور في دائرة الحاضر هذه النظرة الكليلة القاصرة تتحول المحبة لديه والتي هي منبع كل الفضائل البشرية من كونها عنصراً من عناصر امتداد الإنسان في الأشياء من حوله ونفاذه في الكائنات الحية وخلوده في البشرية التي سيلتقيها على أبواب الآخرة إلى مجرد عاطفة ضيقة يابسة توريها المصلحة وتلهبها المنفعة فتفقد بذلك حرارة الروح ونبض الوجدان ودفء القلب الذي يعطي عطاء من لا يريد جزاءً ولا شكوراً .
وحتى محبته لأبيه أو زوجته أو ولده أو أمه، تغدو محبة يكتنفها الجفاف، ويعتورها اليبس، لأنها لا ترتوي من ذلك الحنان الأصيل العميق الذي به ترقى المحبة إلى مرتبة الخلود، وترتفع إلى قمة الأبد، ولا يستطيع الموت نفسه أن ينال منها، لأن المحبَّ قد أعطى من قلبه للخلود، ووهب للبقاء، ولم يعط من أجل لحظة عابرة، أو لمحة خاطفة، لذا كان المتحابون في الله – كما ورد الحديث الشريف – على منابر من نور يغبطهم عليها الأنبياء والصديقون والشهداء .(2/100)
فالماضي والمستقبل هما عَصَوَا الإنسان وعكازتاه اللتان يتوكأ عليهما في مسيره عبر شعاب الزمن ومنعطفات التاريخ، فعلى قدر استيعابه لماضيه وجذوره وأصوله وخلفيات تاريخه المتصلة بما ( قبل الزمن ) والمرتبطة بمشيئة الغيب وإرادة القدر الإلهي .. وعلى قدر وعيه وقدرته على التأمل المستقبلي والاستحضار الدائم للحظات المآل والمصير والنفاذ ما وراء ( الزمن ) إلى حيث (الأبد ) الذي سترسو سفينة الإنسان على ضفافه في خاتمة رحلته .
أقول : على قدر هذا الاستيعاب للماضي، والوعي للمستقبل والمصير، تكتسب مسيرة الإنسان في هذا العالم خَطوَها الرصين، ومسيرها الهادئ الموزون على الصراط الذي يجنب الإنسان الانحراف والضياع والشتات، ويمنحه النور الذي يبدد ضبابية الفهم وعشوائية التصرف والسلوك .
أما الإنسان الذي يحدد نفسه بـ( الحاضر )، وينغمس في لحظاته وساعاته، ويغرق في أمواجه ولججه، قاطعاً بذلك صلته بجذور ماضيه، واضعاً أصابعه في أذنيه حتى لا يسمع نداء المستقبل، وهتاف الآتي، ومستغشياً ثيابه حتى لا يبصر لمعات الخلود، وبوارق الأبد، فهو إنسان يثير الإشفاق لأنه قد اختار – دن مبرر – الكفر، وحكم على نفسه بالعذاب الأبدي في سجن الآخرة الرهيب )(1) .
32 – نماذج أدبية من " النورسي "
لا تُشَتِّتْ جنود صبرك :
__________
(1) المصدر نفسه الصفحات 114 ، 115 ، 116 ، 117 .(2/101)
ااعلم ! أيها المصاب ببليةٍ دامت من مدة!. لا توزّع من جنود صبرك وقوته، في مقابلة ما مضى إلى يومك هذا، بل إلى ساعتك هذه ؛ إذ التحقتْ تلك الأيام الأليمة الخالية إلى صف جنودك بانقلابها لذائذ معنوية وحسنات أخروية. وكذا لا توزع من صبرك في مقابلة ما يأتي بعد يومك هذا، ، بل ساعتك هذه. اذ هو عدم ومعدوم وفي يد المشيئة. فاجمِع جميعَ قوة صبرك وجنودِه على هذا اليوم، وفي هذه الساعة، مع تقوّي قوتك المعنوية بالتحاق جنود البلايا الأعداء إلى جنودك بانقلابها أحباباً ممدةً، ،مع الاستمداد من التوكل على المالك الكريم الرحيم الحكيم في مقابلة ما يأتي. فإذا فعلت هكذا، يكفي اضعفُ صبرك لأعظم مصيبتك .. )(1) .
ب – مَنْ أنتَ ؟ !
"اعلم! انك صنعة شعورية بحكمة، حتى كأنك بوضوح الدلالة على صفات الصانع؛ مُجَسَّم الحكمة النقاشة، ومتجسَّدُ العلم المختار، ومُنجَمَدُ القدرة البصيرة بما يليق بك، وثمرة الرحمة السميعة لنداء حاجاتك، ومتصلّب الفعل المريد لما يريده استعدادك، ومتكاثَف الإنعام العليم بمطالبك، وصورة القدر المرسِّم المهندس الخبير بما يناسب بناءك.."(2).
ج- قيودك :
"اعلم! انك مقيد بالتعين، في مقيد بالبدن، بمقيد بالعمر، محدود الحياة في محدود البقاء بمحدود الاقتدار. فحينئذ لابد أن لا تصرف هذا العمر القصير القليل الفاني للفاني حتى يفنى، بل للباقي ليبقى". (3) .
د – القطرات والبحور :
"اعلم! أيها الإنسان أمامك مسائل عظيمة هائلة، تجُبر كل ذي شعور على الاهتمام بها!..
منها "الموت" الذي هو فراقك عن كل محبوباتك من الدنيا وما فيها.
ومنها "السفر" إلى ابد الآباد في أهوال دهاشة.
ومنها "عجزك" الغير المعدود في "فقرك" الغير المحدود في سفرك الغير المحصور في عمر معدودٍ محدود، وهكذا.
__________
(1) المثنوي العربي النوري – النورسي ص 349 وانظر المختارات ص 82 - 83
(2) المثنوي العربي النوري – النورسي ص299
(3) المصدر نفسه ص 300(2/102)
فما بالك تناسيتَ وتعاميتَ عنها -كطير الإبل - أي "النعامة" يخفي رأسه في الرمل، ويغمض عينه لئلا يراه الصياد.. إلى كم تهتم بالقطرات الزائلة، ولا تبالي بالبحور الدهاشة!!.".(1) .
33 – الخلاصة والخاتمة . . !
كثيرُ هم أولئك الذين يعرفون الاستاذ " النورسي " رائداً كبيراً من روّاد العمل الإسلامي في تركيا الحديثة 1293 – 1379هـ، إلا أن أعماله الأدبية ما زالت مجهولة من قبل أغلب الأدباء والمثقفين والنقَّاد العرب، فشهرته كرائد إسلامي طاغية على شهرته كأديب على الرغم من أن معظم نتاجاته في الحقل الإيماني ذات نَفَسٍ أدبي يبدو واضحاً للقارئ المتمعّن .
والمنطلق الذي ينطلق منه " النورسي " في أعماله الإيمانية والأدبية منطلق واحد، وهو "الإنسان" هذا المخلوق العجيب الذي خلقه الله تعالى لنفسه، وأراده مرآة يشاهد فيها عظمة قدرته، ودقة صنعته، وسخَّر له الكون، ومنَحَهُ من مطلق صفاته وأسمائه الحسنى نسبيات محدودة من الوجود والحياة والقدرة والعلم والإرادة لكي يقيس ما عنده من نسبيات هذه الصفات على ما عند الله تعالى من مطلقاتها. فيعرف ويشكر ويعبد كما يقول " النورسي "
فتعريفه بكرامته ونفاسة وجوده، وعظمة رسالته في الحياة واستثارة قواه الداخلية، وطاقاته الكامنة، وأيقاظ لطائفة ووجدانياته ولَمُّ شَتَاتِهِ، وتجميع ما تفرَّق من قواه النفسية ثم حشدها ورَصُّهَا في صفٍّ واحد قوي متماسك لمواجهة هجمات العدم الذي يسعى لتدمير روحه، وخنق أشواقه وتطلعاته الفطرية إلى البقاء والخلود، هو مجمل أفكار "النورسي" الأدبية والدينية.
ولعل كتابه الأدبي العظيم "المثنوي العري النوري" هو خير ما يفصح عن هذه المقاصد والأهداف التي أعتمدها في كل كتاباته.
__________
(1) المصدر نفسه ص 352(2/103)
فهذا الكتاب دُرَّةٌ من دُرَرِ أدبه، وتحفة فنية من تحف فكره وقلبه، وهو لا يقل بأي حال من الأحوال –إن لم يرجح في جوانب منه على "مثنوي الرومي" ولكن لسوء حظ هذا الكتاب أنه لم يصبح معروفاً لدى قراء العربية إلا قبل سنين عديدة، حيث أهتمَّ به وحققه الأستاذ إحسان قاسم الصالحي، غير أنه لم يزل ينتظر الناقد الذي يقدمه إلى قراء العربية ككتاب فذ في " أدب الإيمان " وبحاجة كذلك إلى المترجم الحاذق الذي ينكب على ترجمته إلى إحدى اللغات العالمية، وهو لو عُرِفَ بشكل جيد من قبل نُقَّاد الغرب لعرَّفوا به، ولأشادوا به، ولشق طريقه ليحتل مكانة مرموقة إلى جانب أعظم الأعمال الأدبية العالمية.
لأن اهتمامات هذا الكتاب منصبة بالأساس على أوجاع القلب البشري، وآلام الروح الإنساني، وإشفاقهما من الفناء والعدم. فهو مكرس لمساعدة الإنسان على خلاصه من براثن العدم والهلاك الأبدي، وإنقاذه من هجمات الفناء، والأخذ بيده إلى أبواب البقاء والخلود، وهذا هو ما يتوق إليه كل إنسان ويتطلع إليه حيثما كان في هذا العالم، وهذا هو ما سيجعله يتبوأ –في المستقبل القريب- مكانة عالية إلى جانب الأعمال الأدبية الخالدة.
و" المثنوي " ليس مجرد جزالة في اللفظ، ولا براعة في الكلام، بل هو جزالة في المعنى يبهر الذهن، وجلال في الفكر تنحنى له الهامات احتراما، وشرف في المقاصد والغايات تنجذب إليه النفوس العفيفة والشريفة، فقد أوتي صاحب " المثنوي " فضيلة الإتيان بكل جليل وجميل من الأفكار، وبكل شريف وطاهر من الأحاسيس والمشاعر، ولم يزل غراسه قادرا على أن يَزْكُو ويَعْلُو ويعطي ثماره في تربة الأذهان المتلقية، بل هو عنصر فكري مُشِعٌّ يؤثر في العقول، ويستولدها في كل مرةٍ أنسالاً جديدة مبتكرة من الأفكار، تزيد العقول اتساعاً، وتشحذ قدراتها على التفكر والتأمل في عوالم الغيب والشهادة، وعوالم النفس الإنسانية والكونية على حد سواء.
* * *(2/104)
والمفكرون من ذوي العقول الخصبة، والأرواح الكبيرة، يَشْكُلُ عليهم أمر أنفسهم أحياناً، فيخالون أنفسهم طوراً في أعلى قمة من قمم العطاء، وآنا في أسفل دركات العجز والقنوط، وهذا الشعور كان ينتاب "النورسي" بين الفينة والفينة وإذ لم يكن لديه ممتلكات دنيوية تشغله عن رسالته، فهو كذلك ليس له ممتلكات فكرية يباهي بها وينسبها لنفسه، لأنه يعزي أعماله الأدبية والإيمانية إلى الهامات القرآن، وأنه ليس أكثر من أداة مسخرة قد سخَّره القدر لخدمة المقاصد الإيمانية والقرآنية، وأنه أعجز من أن يأتي بما أتى به لولا التأييد الرباني، والإلهام القرآني، حتى لكأن حشودا من الإلهامات الربانية تقطن عقله ووجدانه، وتوجُّه رغائبه، وتمْلي عليه خواطره وأفكاره وكثيراً ما ينتابه التوجس والقلق إذا ما اضطره ظرف ما أن يكون خارج عالمه الروحي، فهو لا يستطيع ولا يقوى على مغادرته إلى أي مكان آخر.
ولكي نفهم عظمة " النورسي " مع التواضع الجم، والإحساس بالعجز والافتقار، يحسن أن نقرأ الآتي بأمعان وتأمل حيث يقول :
(يا ناظر! أظنني أحفر بآثاري المشوّشة عن أمرٍ عظيم بنوع اضطرارٍ مني. فيا ليت شعري هل كَشَفتُ.. أو سينكشفُ.. أو أنا وسيلة لتسهيل الطريق لكشّافه الآتي.)(1) ...
فهو يحفر بسنان قلمه في أغوار " النفس" وفي أطباق "ا لأكوان " مفتشاً عن ذلك الأمر الخفي المكنون مدفوعاً إلى ذلك بقوة قدرية قاهرة يجد نفسه ملزما بطاعتها والاستجابة لها.
وهذا الأمر العظيم إنما هو الكشف للأجيال عن السلك النوراني الممتد بين روح الإنسان وروح الله، وبين أشواق القلب البشري والحب الإلهي العظيم للإنسان اعظم مخلوقاته، وأنقاهم مرآة لجلوات أسمائه الحسنى.
__________
(1) المثنوي العري النوري – النورسي ص239 وانظر المختارات ص 110.(2/105)
ولكنه - أي " النورسي " - مشفق من أنه لم يستطع إنجاز هذه المهمة على الوجه المطلوب، غير أنه لا يتوقف لحظة عن البحث والتنقيب لعله إن فاته أن يكون ذلك الكشاف الرائد، فلا أقل من أن يكون بآثاره الفكرية، وسيلة ممهدة في الطريق نفسها التي مضى هو فيها للآتين من بعده، ليحملوا على عواتقهم المهمة نفسها لعلهم ينالون شرف هذا الكشف في الآتي من الأزمان.
* * *
وهذا الكشف العلوي لأعظم حقائق الوجود، والإمساك بطرف السلك النوراني بين الخالق والمخلوق، والعبد والمعبود، احتاج إلى قوى روحية محلقة، وعقل مُجَنَّح قادر على ملاحقة الروح في جولانه بمملكة المعاني المجردة، على الرغم من الانسحاق الذي أراد أعداء "النورسي" إلحاقه بروحه تحت شتى صنوف الاضطهاد والسجن والنفي والتشريد، فباءت محاولاتهم في كسر أجنحة روحه بالفشل، وإرهاق عقله، وإنهاك فكره بالإخفاق، فاستطاع متجاوزا جميع هذه العقبات والمعوقات أن يمنح تلامذته وقراءه بصائر نافذة في ظلمات الطبيعة التي رُشِحَتْ من قبل الكثير من مثقفي عصره كبديل عن ربوبية الرب، وخلاقية الخالق.
فقارئ "النورسي" يجد نفسه بغتة في صميم أحواله الروحية ممسكاً بجوهرة الحياة الأبدية، التواق لبلوغها عند مغادرته لهذه الدنيا.
ولكي نلمس عن كثب ما عاناه " النورسي " من آلام وأوجاع وعذابات لنقرأ ما كتبه هو عن نفسه حيث يقول:(2/106)
( لم أذق طوال عمري البالغ نيفا وثمانين سنة شيئا من لذائذ الدنيا، قضيت حياتي في ميادين الحرب، وزنزانات الأسر، أو سجون الوطن، ومحاكم البلاد، لم يبق صنف من الآلام والمصاعب لم أتجرعه، عوملت معاملة المجرمين في المحاكم العسكرية العرفية، ونفيت وغُرِبْتُ في أرجاء البلاد كالمشردين، وحُرِمْتُ من مخالطة الناس شهوراً في زنزانات البلاد، ودسَّ لي السم مراراً، وتعرَّضت لإهانات متنوعة ومرَّت عليَّ أوقاتٌ رجّحت فيها الموت على الحياة ألف ضعف ولولا أن ديني يمنعني من قتل نفسي فربما كان سعيد اليوم تراباً تحت تراب ) (1)
ويبقى "النورسي" شخصية عالية غير عادية، تند عن الفهم إذا حاولنا فهمه ضمن الموازين التي يوزن بها الرجال ما لم نسبر أغواره التي تعكس نشاطاته الفكرية والدينية، وكما لا تُسْبَر البحار والمحيطات بمسابير الأنهار ولا يُوزَنُ الذهب الخالص بميزان غيره من المعادن، وكذلك ليس من الصواب أن ننظر إلى "النورسي" بالمنظار نفسه الذي ننظر به إلى عظماء رجال الفكر والدعوة، فالنورسي شوق مُذَابٌ، وقلبٌ رغم قوته يسيل حباً، ويقطر لوعة، وروح خافق، ونفس مولَّهَةً، وشفقةً وإشفاقٌ على بني جلدته وأمته، وعلى بني الإنسانية قاطبة، إنه يحتضن الإنسان ويخاف عليه من سجون العذاب الأبدي في الآخرة، كما يحتضن أجزاء من نفسه وقطعة من كيانه، ولنستمع إليه وهو يفصح عن نفسه قائلا:
__________
(1) سيرة ذاتية – النورسي ص 457.(2/107)
( لقد ضحيت حتى بآخرتي في سبيل تحقيق سلامة إيمان المجتمع، فليس في قلبي رَغَبٌ في الجنة، ولا رَهَبٌ من جهنم، فليكن سعيد يعني نفسه - بل ألف سعيد قربانا ليس في سبيل إيمان المجتمع التركي البالغ عشرين مليوناً فقط، بل في سبيل المجتمع الإسلامي البالغ مئات الملايين، ولئن ظل قرآننا دون جماعة تحمل رايته على سطح الأرض فلا أرغب حتى في الجنة، إذ ستكون هي أيضاً سجنا لي، وإن رأيت إيمان أمتنا في خير وسلام فأنني أرضى أن أُحْرَقَ في لهيب جهنم، إذ بينما يُحْرَقُ جسدي يَرْفُلُ قلبي في سعادة وسرور ) (1)
* * *
والجمال في " أدبيات النورسي " ليس صفة سلبية حيادية يمتلكها الجميل بلا فعل ولا إرادة ولا تأثير، بل هو طاقة حيوية إيجابية وقوة خلاقة فاعلة مؤثرة، وقدرة على الخلق والإبداع، فهو يظل يخلق من المرايا ما يشاهد فيها نفسه، ويتأمل محاسنه، فالجمال والخلق متلازمان لا ينفكان، فحيثما نجد جمالا فأننا نجد بإزائه مرآة تعكس محاسن هذا الجمال، وربما افتقدناه - أي الجمال - فلا نلتقيه إلا متجلياً في إحدى المرايا، والى هذا يعزي "النورسي " سر خلق العوالم والأكوان، وسر خلق الإنسان، فلولا الجمال التواق إلى مرايا يشاهد فيها تجلياته لم يكن هناك أكوان ولا عوالم ولا إنسان.
__________
(1) المصدر نفسه ص 457.(2/108)
فالجمال إذن هو جوهر الحقيقة الكونية والحقيقة الإنسانية على حد سواء و الحقيقة الكونية والإنسانية هما المرآة العظمى لتجليات أنوار الحقيقة الإلهية، وما المعاني والأفكار والخواطر والإلهامات إلا مرايا تعكس أقباساً من نور أسماء الله الحسنى على قدر شفافيتها وصفائها وسعتها وأجلُّ هذه المرايا من المعاني المجردة التي تعكس أعظم التجليات إنما هي: الرحمة والصدق والشرف والإشفاق والمحبة وسائر المحامد والمناقب، والحياة نفسها ليست أكثر من عالم نوراني تَفَطَّرَ عنه قلب الجمال فهو لباب الأشياء، وكل شيء من بحره يستقي واليه يعود والجمال بعد ذلك كله هو موسيقى الخلق والإبداع التي تهدهد آلام مخاضات الوجود الكبرى المتعسرة في الفكر والحياة والسارية في مفاصل الأكوان لينشق قلبها عن دفقات متتالية لا تتوقف من العشق والشوق والطرب.
* * *(2/109)
في منافيه القصية، ومنعزلاته في البراري وفوق قمم الجبال كان "الحق والجمال" يشغلان فكره، ويثيران فيه عالما فسيحاً وعميقاً من التأمل والنظر، أما نوازع الدم فقد غادرت حياته منذ أمد بعيد والى الأبد، ولم يكن تقشفاً ذلك الذي يفرضه على نفسه بل هو روح التقشف، وليس عطاء ما يجود به قلمه بل هو قلب العطاء وصميمه، وما يُفَجِّرُهُ بعزمه القوي ليس ينبوعَ أملٍ بعيد المنال بِقَدْرِ ما هو يقينٌ يحيا به ليله ونهاره، ويعيش به ولأجله، وإذا ما صام عن الكلام فأنه يفعل ذلك ليس برغبة في الصمت بل هو استرواحاً للروح واستنباتا لأزاهير الحكمة التي لا تُسْتَنْبَتُ إلا في مشتل الصمت، ونفسه الصافية المستقيمة كان لا بد لها أن تتحد وتتوحد بكل ما هو عادل وصادق في الإنسان والحياة، ولو قيل لمجتمع "الإيمان" أين ضميركم الخافق، وروحكم النابض لأشاروا إليه، وأَوْمَأُوا نحوه، وفي ذاته تقطن مقاومة عنيدة لا تعرف الاستسلام، ومن كان متين البناء، صلب العود كالنورسي فأنَّى تستطيع سهام الأعداء أن تخترقه، إن إيمانه لا يقهر، ومواهبه الفكرية والوجدانية موضع ثقة كل من قرأه. أو عرفه عن كثب. وآلاف الأرواح التي تجوب العالم وهم يتناوحون تناوحاً مخيفاً باحثين عن الحقيقة وجدوا ضالتهم في أفكار هذا الرجل وفي تفسيراته المقنعة للغز الإنسان والكون والحياة، فأعماله الأدبية ذات موضوعات عظيمة تمس روح الإنسان وقلبه، وقد قدم في كتاباته إحساساً مُصَفَّى، وشعوراً مرهفاً حاداً أرهفته التجربة، وشحذته المعاناة، وبمزيد من الشفقة والإشفاق كان يقابل أعداءه، ويعالج كراهيتهم وأحقادهم، وهذا هو انتصاره وانتصار " رسائل النور " التي بات يقرأها اليوم الملايين من الناس، وهو لا يجد سقوطا أشنع للإنسان من أن تتجرد فلسفته في هذه الدنيا من أي معنى الهي، وعلى وفرة رجولته وصلابته لم يستطع أن ينفض عن كبده أحزاناً لازمته حتى موته، أو أن يمنع عينيه من أن تفيض بالدمع(2/110)
في مواقف الذكريات، وفي رحلته إلى " بارلا " بعد عشرين سنة من مغادرته لها نستمع إليه يقول:
(إيه "بارلا" .. يا شقيقة الروح .. ورفيقة الفؤاد .. وبستان الفكر .. وحقل الأشواق .. ومستودع الآلام .. ومزرعة الآمال
هاأنذا أعود إليك بعد عشرين عاما لألتقي في ربوعك بعض نفسي .. ولأعانق في أجوائك مُزَعَ الروح وبقايا الوجدان .. فوق كل سفح وقمة، وعند كل سهل وَحَزَنٍ، وعلى كل شجرة وغصنٍ وزهرةٍ، وفي الشعابِ والمنعطفاتِ، وبين الحقولِ والبساتينِ ).
ويخرج أهل "بارلا" كلهم شبابا وشيبا، رجالا ونساء وأطفالا، يستقبلونك ويرحبون بك وقد هاجت بهم الأشواق، وطفحت بهم المشاعر، فتدمع عيونهم فرحا، وتجيش عواطفهم محبةً وإكراماً وتعظيماً .. وتمضي تشق طريقك بصعوبة بالغة بين جموع الأهالي إلى دارتك الحبيبة التي أمضيتَ فيها ثماني سنوات كاملات، تلك الدار، التي شهدت منابع فكرك الأولى، وحملتْ أثقال أحزانك وآنست لوعة غربتك، وهدهدت أوجاع وحشتك، وضمت حناياها عليك في ظلمات الليالي وهدوات سكينتها وأنت غارق في تأملاتك أو وأنت في صلواتك وذكرك وتهجدك.
وتتثاقل خطاك وأنت تقترب من بيت تلميذك القديم "مصطفى جاويش" وهو النجَّارُ الذي نَجَّدَ لك تلك الغرفة بين أغصان الشجرة التي كنت تقضي فيها ساعات العبادة والتأمل في فصل الصيف، وإذا بالبيت الحزين مقفر موحش بعد أن رحل صاحبه عن الدنيا يومَ كنتَ منفياً في "قسطموني" وقفل كبير معلّقٌ على باب البيت وكأنه يقول:
أيها المارّون .. مُرُّوا بسلام ولا تقتحموا أقفال الأحزان الكبيرة .. اتركوا أشجان هذا البيت المتفرد تنعم بالصمت والسكون ..
وتشعر وأنت تقف أمام البيت بجلال الآلام البشرية، وبجمال الحزن الصامت المهيب .. وتجهش بالبكاء .. وتغرق عيناك بالدموع . . .(2/111)
ثم تمضي قلباً لهيفاً، وروحاً خافقاً، ونفساً مولّهةً نحو تلك "الشجرة" الطيبة المباركة التي آوتك يوم عزَّ المأوى .. وَضَمَّتْكَ حناياها يوم تجنبك الناس، وجافاك البشر، وَظَلَّلتْكَ أغصانها وأوراقها من حرور الأيام وقساوة بني الإنسان، وفرشت لك خضرة قلبها، ومنحتك ربيع نفسها، في وقت كان شتاء بشرياً رهيباً يحيط بك من كل جانب، وصحارى إنسانية قاحلة جرداء تَهُبُّ بسموم أحقادها عليك من كل مكان .
وتقترب لحظة اللقاء .. وتسير حتى إذا أصبحتْ في متناول يديك، إذا بك تميل عليها وتحتضنها احتضانَ من يَضُمَّ إليه جزءاً من نفسه، وقطعةً من كيانه .. وتلتصق بها، التصاق العائد إلى حضن أمه بعد غياب طويل، وتتلمس جذعها وأغصانها وأوراقها بيدك وعينك وبكل جارحة من جوارح كيانك .. وتلصق بها وجهك المبلّلَ بالدموع، وأنت تغالب دمعك فلا تستطيع، وتخنق أزيز الحنين فيأبى عليك ويستعصي على رغبتك، فإذا بنشيجك يتعالى، وببكائك يرتفع .. ويرين على الحاضرين من حولك صمت خاشع وسكون أسيان .. وتصعد إلى غرفتك وحيداً متفرداً كما صَعَدْتَ إليها قبل عشرين عاماً .. ويظل تلامذتك والناس معهم في مكانهم صامتين لا يريمون .. وتدلف إلى معتزلك القديم وتظل فيه مدة ساعتين، ويسمع الناس صوتا حزينا باكيا ينبعث من غرفتك، وأنت تستعيد ذكرياتك وأيامك التي أمضيتها فيها . . .
وتدمع أعينهم في صمت احتراما لآلام النفوس العظيمة التي لا يسعها الكون نفسه، ولا يقدر على استيعابها واحتوائها غير رحمة الله تعالى) (1)
***
__________
(1) أنظر "رجل الإيمان" ص 120-121.(2/112)
الإمام النورسي
والتعامل الدعوي مع القوميات
(دراسة تاريخية)
الدكتور ليث سعود جاسم
أستاذ التاريخ الإسلامي المشارك
كلية معارف الوحي
الجامعة الإسلامية العالمية ماليزيا
بين يدي البحث
أهمية البحث:
... تتجلى أهمية البحث في أنه يتناول بداية نقلة فكرية خطيرة في التاريخ الإسلامي قامت باسم التجديد، نقلة أعقبتها تغييرات خطيرة في بنية المجتمع الإسلامي فكرياً وسياسياً واجتماعياً وجغرافياً، وهذه التغييرات هي:
... أولاً: تغيير في النظام السياسي من نظام الخلافة الإسلامية والدولة الواحدة إلى الدولة العلمانية والتفتيت الجغرافي السياسي ( الجيوبوليتيكي ).
... ثانياً: تغيير في الإطار الفكري من العالمية الإسلامية إلى الدول الإقليمية والقومية العرقية.
... ثالثاً: تغيير في النظام الاجتماعي من النظام الاجتماعي الإسلامي إلى تغييرات في الأخلاق والسلوك على نطاق الفرد والمجتمع متخذة النموذج الغربي مثالا.
... ثم أبرز البحث دور الإمام النورسي في هذه المتغيرات المفصلية والذي استحق عليه لقب المجدد، ومنهجه في التعامل مع الواقع الذي أخذ صوراً عدة، وبحسب المتغيرات ثم فهمه لعملية التجديد على أنها:
ـ إدراك العوامل والتحديات التي تواجه الأمة.
ـ محاولة وضع الحلول لمواجهة كل مرحلة وأطلق عليها مرحلة سعيد القديم وسعيد الجديد التي بدأت سنة 1926.
ووضع لها إطاراً في فلسفة التغيير الذي يشمل:
ـ أهمية التنمية الفكرية الإسلامية في مواجهة التسلل العلماني من خلال العمل المؤسسي ببناء جامعة الزهراء والعمل على إنشاء المدارس التي توازي متطلبات العصر.
ـ وعي المفردات الفكرية الغربية وفحصها واختيار ما يناسب منها وترك ما لا يناسب.
ـ تبني فكرة الجامعة الإسلامية من خلال الاتحاد المحمدي لتحقيق الترابط الإسلامي بين قوميات المجتمع.(3/1)
ـ خطاب الأمة بخطاب موحدٍ موجه إلى قومياتها المتنوعة ليواجه تحدي التفتيت للدولة الواحدة.
ـ بناء الشخصية الإسلامية بمنهجية تتناسب ومتطلبات التحدي الغربي من خلال البناء الإيماني والعلمي والسلوكي.
وقد استخدم البحث المنهج التاريخي القائم على دراسة الوثائق وتحليلها والمنهج الوصفي الذي يصف الظاهرة من خلال مسارها التاريخي وملابساتها. وقد حاول البحث أن يعتمد على المصادر الأصلية وبخاصة كتابات الأستاذ النورسي في رسائله والتي جمعت مؤخراً في أعمال كاملة، مثل: المكتوبات، والشعاعات، والكلمات، والصيقل، والملاحق، وإشارات الإعجاز، وسيرته الذاتية وغير ذلك. وما كتب عنه من مؤلفات وبخاصة ما كتبه الأستاذ إحسان قاسم الصالحي مترجم أعمال الإمام النورسي إلى العربية والذي قام بجهد مشكور في خدمة تراث الإمام النورسي، وكذلك الأستاذ أورخان محمد علي الباحث و الصحفي في كتابه ( سعيد النورسي رجل القدر )، وما نشره الدكتور عثمان علي - الأستاذ في قسم التاريخ بالجامعة الإسلامية ماليزيا سابقا - من وثائق إنجليزية مهمة فيما يتعلق بالأكراد وعلاقتهم بالدولة العثمانية، إضافة إلى الكتب التي رصدت نشأة القوميات بعامة مثل كتاب (اليقظة العربية) لجورج أنطونيوس و(تركيا الفتاة) لرامزور وغيرها من المؤلفات مما سنجده مبثوثاً في هوامش البحث.
ولعل البحث بهذا الجهد المتواضع قد ألقى شعاعاً من الضوء على ظهور القوميات ونشأتها والدوافع وراء ذلك وأثرها في تفتيت الدولة العثمانية ونشوء العلمانية في المجتمع الإسلامي.
ومن ثمّ الكشف عن دور الأستاذ الإمام سعيد النورسي في هذه المرحلة الخطيرة من تاريخ الأمة الإسلامية. وما كان له من دور إحيائي مع غيره من المصلحين والمجددين في تلك الفترة الخطيرة من تاريخ الأمة.
وهذه المرحلة يكتنفها الغموض إلى الآن لقلة الوثائق وبخاصة عصر السلطان عبد الحميد الذي لم يسمح للاطلاع على وثائقه الخاصة إلى الآن.(3/2)
وقد قسّم البحث إلى مدخل وأربعة مباحث وخاتمة:
فالمدخل: يتضمن خلفية تاريخية مختصرة مع تعريف القومية لغة واصطلاحاً وأثر الحركة القومية الأوربية على نشوء الدعوة القومية في البلاد الإسلامية.
المبحث الأول: يتضمن الكلام عن الدعوة القومية الطورانية وأثرها على الدولة العثمانية.
المبحث الثاني: يتكلم عن القومية العربية، نشوؤها وتطورها.
المبحث الثالث: يتحدث عن القومية الكردية نشأتها ومواقفها.
المبحث الرابع: يتضمن الحديث عن الإمام النورسي وثقافة العصر.
ثم الخاتمة.
مدخل(3/3)
... لقد عاصر الإمام النورسي مرحلة أفول الدولة العثمانية وشيخوختها وقد لاقت ما لاقت من أعدائها الخارجين من مؤامرات متنوعة لأجل ابتلاعها وتقسيمها وبخاصة من العدو الروسي من الشرق والعدو الأوربي من الغرب وقد عزز ذلك الدعوة التي أطلقها البابا (بيوس الثاني) إلى تحالف أوربي ضد الدولة العثمانية واتفقت هذه الدول على الرغم من خلافات التي بينها على إعلان الحرب المقدسة(1) وبخاصة عندما وجدت أن السلطان عبد الحميد يناور على خلافاتها ويهيئ الأمة لفكرة الجامعة الإسلامية، وقد زاد الضغط الأوربي بشكل منظم، وبرز المصطلح السياسي الجديد (المسألة الشرقية) لتقسيم الدولة العثمانية بين روسيا والدول الأوربية(2).
__________
(1) باول شمتز، الإسلام قوة الغد العالمية، ترجمة د. محمد شامه، نشر مكتبة وهبة بمصر، (1391هـ – 1971م)، ط1: 106، وانظر د. يوسف على الثقفي، موقف أوربا من الدولة العثمانية مكتبة الملك فهد الوطنية 1417هـ – 1996م ط 1: 51 – 53، وانظر على حسون، العثمانيون والروس، نشر المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1982م: 29 – 30، وانظر محمود الشاذلي، المسألة الشرقية- دراسة وثائقية عن الخلافة العثمانية نشر مكتبة وهبة – مصر 1409هـ – 1989م ط 2: 131 – 132، وانظر Andrew C. Hess، اختراق العالمين الإسلامي والمسيحي في المغرب والأندلس: 52 – 53.
(2) انظر: الموسوعة الثقافية، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، القاهرة – نيويورك (1392هـ – 1972م) إشراف الدكتور حسين سعيد: 614، وانظر محمد محمود الروجي، مصر والمسألة الشرقية، الإسكندرية، مصر، 1966م: 131 – 138.(3/4)
... وتوالت الأحلاف والهجمات الأوربية في جميع الجهات الداخلية والخارجية للدولة العثمانية للقضاء على الدولة العثمانية وقد عبر عن هذا الهدف وزير الخارجية البريطاني بلفور(1) بقوله: "لا شك أن القضاء على الدولة العثمانية قضاءً تاماً هومن أهدافنا التي نريد تحقيقها"(2).
... وقد ألف أحد وزراء رومانيا (Djuvara) كتاباً بعنوان: (Cent Projects de Parage de la turquie) مائة مشروع في تقسيم تركيا، وقال فيه "إن أصل العداوة المزمنة التي يشعر بها الأوروبيون للأتراك ويميلون أبداً من أجلها إلى حصرهم في آسيا هي راجعة إلى العداء الشديد الواقع بين النصرانية والإسلام … وكان الوزراء ورجال السياسة وأصحاب الأقلام يهيئون برامج تقسيم هذه السلطنة كما تقدم وصف كل برنامج بعينة مما يناهز مائة مشروع"(3).
__________
(1) ارثر جيمس بلفور (1848م – 1930م) سياسي بريطاني شغل مناصب متعددة منها وزير الخزانة البريطاني، ورئيس الوزراء، ووزير البحرية والخارجية في الحرب العالمية الأولى، وهو صاحب التصريح المشؤوم في إعطاء وطن قومي لليهود في فلسطين. انظر: الموسوعة الثقافية: 227.
(2) انظر: أنور الجندي، العروبة والإسلام، نشر دار الاعتصام، القاهرة (1394هـ – 1976م): 430. نقلاً عن خطاب بلفور رئيس البعثة البريطانية إلى الولايات المتحدة في 18/4/1917م. وانظر: باول شمتز، مصدر سابق: 32.
(3) انظر حاضر العالم الإسلامي، تأليف Lothrop Stoddard نقله للعربية الأستاذ عجاج نويهض مع تعليقات أمير البيان شكيب أرسلان، نشر دار الفكر، بيروت (1391هـ – 1971م)، ط3: 3/281، 323.(3/5)
... وعلى ضوء ذلك تغلغل الأوربيون عن طريق الامتيازات الأجنبية التي صارت ذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية باسم حماية الأقليات غير المسلمة أي اليهود والنصارى، وإدارة شؤونهم قانونياً، وتجارياً، ودينياً، وسياسياً(1)، واستتبعها إثارة القوميات والأقليات وبخاصة الأرمن ورافق هذا كله نشاط في دوائر عدة مثل نشر المدارس التبشيرية لتكون طريقاً للتغريب من خلال طلابها وخريجيها الذين أصبحوا قادة بعد ذلك(2) ويسند ذلك حركة إعلامية مكثفة عن طريق الصحافة بخاصة، والتي كان أغلبها تحت إدارة نصرانية أو يهودية، فضلاً من المتأثرين بأوربا والسائرين في ركابها من شتى الشعوب الإسلامية مثل الترك والعرب والألبان، والكرد وغيرهم، وقد أحصى (الفيكونت فيليب دي طرازي) ذلك في كتابه الهام (تاريخ الصحافة العربية) حيث بلغ عدد الصحف العربية التي ضمها كتابه (3250) صحيفة من سنة (1858م - 1929م) في جميع أنحاء العالم وقد رتب لها فهارس وافية ألحقها بكتابه(3)
__________
(1) انظر: محمد جميل بيهم، فلسفة التاريخ العلماني، مكتبة صادر، بيروت (1314هـ – 1925م): 292، وانظر: مصطفى طوران، أسرار الانقلاب العثماني ترجمة كمال خوجة- نشر دار الإسلام 1397هـ- 1977م ( بدون مكان ) : 12 – 14، وانظر: صموئيل اتينجر (محرراً ) ، اليهود في البلدان الإسلامية ترجمة الدكتور جمال الرفاعي مراجعة دكتور رشاد الشامي سلسة عالم المعرفة 197 - الكويت 1411 هـ – 1990م : 10-12، 47 – 48.
(2) انظر: نديم هزار، المدارس التنصيرية، نشر مركز البلقان للدراسات والأبحاث العلمية، استانبول (1415هـ – 1994م): 15 – 35. وانظر: جورج أنطونيوس، يقظة العرب، ترجمة د. ناصر الدين الأسد، د. إحسان عباس، نشر مؤسسة فرانكلين نيويورك – بيروت (1992م): 164 – 166.
(3) انظر الفيكونت فيليب دي طرازي : تاريخ الصحافة العربية، نشر المطبعة الأدببية بيروت، الأجزاء (1 – 3)، 1913، ونشر المطبعة الأمريكانية ببيروت، الجزء الرابع (1914م)، وأعادت طبعه بالأوفست مكتبة المثنى ببغداد (بدون تاريخ): 4/هـ، و496، 51. وقد ساعد الفيكونت فيليب دي طرازي في عمله الضخم هذا كونه أميناً لداري الكتب والآثار في بيروت، وعضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق وبذل أربعين سنة من عمره في تأليفه (1893 – 1933م).(3/6)
.
وكان هناك عامل آخر ساعد على ضعف الدولة العثمانية ألا وهو التجاوزات الإدارية لبعض الولاة ووقوع بعض المظالم التي أعطت الفرصة لدعاة الشعارات البراقة في تهيئة الرأي العام لقبول التغيير باسم الحرية والمساواة والإخاء، والخلافة العربية لا الخلافة الأعجمية ..!!! وكان كل ذلك مقدمة لظهور القومية والعلمانية وبخاصة بعد خلع السلطان عبد الحميد الثاني وتولي جمعية الاتحاد والترقي السلطة تحت ستار الخلفاء الضعاف الذين لم يكونوا يملكون أي قرار ..!! أتبعتها سياسة التتريك التي مارستها جمعية الاتحاد والترقي القومية والتي ألصقت ذلك بالخلافة ظلماً، فأعقبت ذلك ردود أفعال قومية لدى القوميات الأخرى وبخاصة العرب ثم الأكراد والأقليات الأخرى، ووظف ذلك كله ضد الخلافة وعلا نجم القومية.
معنى القومية :
والقومية لغة(1): مشتقة من القوم، والقوم عشيرة الرجل وجماعته. واصطلاحاً(2) تعني: "الانتماء إلى أمة معينة والتعلق بها وتقوم على عنصرين: عنصر موضوعي: ويتمثل في الروابط المشتركة التي تجمع بين أفراد شعب هذه الأمة كالاشتراك في الأصل أو اللغة أو العقيدة. وعنصر معنوي أو شعوري: يتمثل في الحالة النفسية التي يولدها الشعور بالانتماء والتعلق بالوحدة"(3).
__________
(1) انظر: ابن منظور، لسان العرب، نشر دار المعارف بمصر.3786
(2) انظر: مجدي عبد المجيد الصافوري – سقوط الدولة العثمانية و أثرة على الدعوة الإسلامية – دار الصحوه للنشر مصر 1410 هـ –1990 م ط1 : 210، 211، 214.
(3) الموسوعة الثقافية، مصدر سابق: 776.(3/7)
... وقد ظهرت هذه الفكرة في أوربا ولاقت منها ما لاقت من صراع القوميات فشاعت روح الاحتقار الشديد بين مختلف القوميات الغربية بعضها تجاه بعض، وقد كان لليهود والماسونية دور رئيس في ذلك لهدم الطابع المسيحي الغربي ثم إنها أرادت نقل المعركة للعالم الإسلامي ولا يسما وأن الدولة العثمانية كان رعاياها من قوميات مختلفة كالعرب، والترك، والأرمن، والألبان، والأكراد، وغيرهم(1) حتى أصبحت فكرة الدولة القومية كلمة سحرية، وشعاراً للكفاح.
ثم نبذت أوربا القومية وبدأت تجمع شملها في تكتلات سياسية واقتصادية وعسكرية وفي نفس الوقت امتدت الحركة القومية خلال أواخر القرن التاسع عشر وبدايات العشرين إلى آسيا وأفريقيا، وظهرت أشهر الحركات القومية في الدولة العثمانية مثل: القومية العربية، والقومية الطورانية التركية، وقد قامت هاتين الحركتين بأخطر دور تغييري في تاريخ الدولة العثمانية في النواحي الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية وأما القومية الكردية فجاء تأثيرها متأخراً عن القوميتين الأخيرتين(2).
... ومن الوسائل التي استخدمها الأوربيون لتفتيت الدولة العثمانية إثارة النعرات القومية واستثارة الأفكار الجاهلية كما وصفها النبي - صلى الله عليه وسلم -(3): « دعوها فإنها منتنة. قالوا: ما هي يا رسول الله؟ قال: العصبية الجاهلية ».
__________
(1) انظر: مجدي عبد المجيد الصافوري، مرجع سابق: 210، 211، 214.
(2) نفس المرجع: 213، وانظر الموسوعة الثقافية: 776.
(3) انظر: جورج أنطوينوس: يقظة العرب: 164 – 168، وانظر مجدي عبد المجيد الصافوري، سقوط الدولة العثمانية وأثره على الدعوة الإسلامية،: 214 – 216.(3/8)
ونتيجة لهذا فقد استطاع الاستعمار ضرب وحدة المسلمين وتمزيق كيان دولتهم العثمانية عن طريق الأحزاب القومية، فتكونت في الشرق الإسلامي دويلات لكل منها كيان منفصل وحدود سياسية مرسومة وانتقل الولاء لله وشريعته إلى الولاء للأرض والقوم، وهلل الأوربيون لذلك حتى قال قائلهم (إمري ريفر) في كتابه (قضية الإسلام)(1): "أن الوحدة التي احتفظ القرآن بها قروناً بين الشعوب الإسلامية المختلفة الأصول قد ذهبت وصار الشعب الإسلامي قوميات شتى".
... واستخدموا الصحافة ونشر الكتب وسيلة لترويج الشعور القومي من ذلك إحياء الكتب التاريخية التي تعظم تاريخ الأجداد من عرب، وترك، وهنود، وفرس، وأكراد، وغيرهم(2).
ومن تلك الكتب التي بدأت بترويج الفكر القومي بأنواعه:
- كتاب (تاريخ الترك والمغول من أقدم الأزمنة إلى سنة 1405م): ألفه الكاتب اليهودي (ليون كاهون) ذكر فيه مآثر جنكيز خان وتيمورلنك وساعدت الأكاديمية الفرنسية على نشره عام (1896م) وجعل هذا الكتاب أساساً للقومية الطورانية(3).
__________
(1) أنور الجندي، معالم تاريخ الإسلام المعاصر، دار الاصلاح للطبع و الهشر مصر 1401هـ- 1981م :235-237.
(2) مثل مجلة (الاستقلال العربي) في فرنسا لنجيب عازوري الماروني اللبناني الذي دعا إلى إحلال رابطة الجنسية بدل الدين، وانظر الموسوعة الصحفية العربية، الجزء السادس، المجلد الأول: 433، نشر المنظمة العربية للتربية والثقافة، تونس (1420هـ – 1997م)، وصحيفة (مشورة) باللغة التركية لمؤسسها أحمد رضا وهو من قادة الاتحاد والترقي وكانت تدعو للطورانية، وغيرها من الصحف التي أحصاها صاحب تاريخ الصحافة العربية فيليب طرازي 2/270-274.
(3) انظر مجدي عبد المجيد الصافوري، المصدر السابق: 218 – 219. وانظر: أنور الجندي، معالم التاريخ الإسلامي المعاصر، : 274.(3/9)
- كتاب (يقظة الأمة العربية) لجورج أنطونيس: صدر في باريس عام (1905م) باللغة الفرنسية ثم ترجم للعربية، طالب فيه باستقلال الوطن العربي، وإعادة الخلافة إلى شخص عربي قريشي بدل الأتراك العثمانيين، ومؤلف الكتاب كان منتمياً إلى المحفل الماسوني الإيطالي ويدعو إلى أن تكون الخلافة في قريش واستدراجاً للعرب للتلبيس عليهم ودفعهم للتمرد على الدولة العثمانية …!!!(1).
... وسنعرض في المباحث القادمة للحديث عن ظهور القوميات وبخاصة القوميات الثلاث المؤثرة بعضها في بعض وهي القومية التركية والعربية والكردية وسنفصل الكلام فيها.
... ومن ثَم نبين موقف الأستاذ بديع الزمان النورسي في نصحه وإرشاده لأتباع هذه القوميات، وبيان الرؤية الإسلامية النابعة من تصور واع واضح ينطلق من المصدرية الشرعية الكتاب والسنة إضافة إلى العلوم المساعدة الأخرى واستخدامه الوسائل المتنوعة لمعالجة هذه الظاهرة الخطيرة، ويرطب هذا المنهج المعرفي نسمات الروح التي تفجر كنوز الحقيقة في قلب العالم العارف فتتناغم في سياق منهجي لتقدم حلاً للمشكلة بحسب الرؤية المتحصلة زماناً ومكاناً، وكما سنرى ذلك في البحث، واللَّه الموفق.
المبحث الأول:
دعوى القومية الطورانية وأثرها على الدولة العثمانية
جذورها:
لقد كان للسلطان عبد الحميد موفقاً عندما بدأ مشروعه الإحيائي (الجامعة الإسلامية) لمواجهة التحدي الأوربي والذي جعل الدعوة إلى الطورانية هو المشروع المطروح الكفيل باستقطاب الأتراك وتفتيت الدولة العثمانية(2)
__________
(1) انظر: د. أحمد فهد الشوابكة، الجامعة الإسلامية، مكتبة المنار الاردن عمان 1984م-1404هـ ط1 : 151 – 152، وانظر: مجموعة مؤلفين أعلام الصحافة في الوطن العربي إصدار المنظمة العربية للتربية و الثقافة و العلوم تونس 1977م المجلد الأول 6/ 434، وانظر: مجدي عبد المجيد الصافوري، المرجع السابق: 225.
(2) انظر:
Nikkie R. Keddie, An Islamic Response to Imperialism, University of California Press, Berkeley, Los Angeles & London, 1983, p. 22, 25, 55-58. وانظر: Hee Soo Lee, Islam Ve Turk Kulturunun, Uzak Doguya Yaylimasi, 1988, p. 185-187.
وانظر: الما ولتن، عبد الحميد ظل اللَّه في الأرض، ترجمة راشد رشيدي، القاهرة (1950): 176 – 178.(3/10)
.
وفكرة الطورانية كانت تطلق على مجموعة اللغات الهندية الأوربية وبخاصة لغات أواسط آسيا(1)، ويرجع بعض المؤرخين أن سبب المناداة بها هو محاولة ضرب الدولة العثمانية بإحياء القوميات المحلية والإقليمية الضيقة وأما إطار الطورانية الفكري فهو تجديد انتساب الشعب التركي إلى أصوله الطورانية والإيمان بأن سبيل بعث الشعب التركي هو اتحاده بهذه الشعوب التي تمت إلية بصلة القربى، وأن حركة الطورانية هي المنقذ للأتراك من الضياع، وأن يسيروا على هدى جنكيز خان، وتيمورلنك من أجدادهم العظام(2) وقد بدأ بعض الكتاب يصدرون الكتب والمنشورات أمثال (أحمد اغاييف) التتاري عام (1312 - 1789م) كردة فعل للثورة الفرنسية، وانتشرت هذه الفكرة حول حوض نهر (الفولغا) أولاً وإلى تركمان أواسط آسيا ووصلت إلى استانبول بعد ذلك وتبناها حزب الاتحاديون وأصبحت شعارهم.
وكان كثير من دعاة القومية الطورانية من غير الأتراك مثل اليهودي الهنغاري (قمري) يدعون الأتراك إلى توثيق الصلة بأتراك وسط آسيا، لأن الأتراك قد ابتعدوا عن أصولهم مدة طويلة. ثم ابتكر نظرية خطيرة تقول: "أن الإسلام يتناقض مع فكرة الجنس وأنه هو الذي حال دون نشوء حضارة الأتراك"(3).
وتم تشكيل الجمعيات القومية في أماكن متعددة داخل الدولة العثمانية وخارجها وشمل تشكيل الجمعيات قطاع المدني والعسكري وكان الطلبة هم طليعة هذه الجمعيات(4).
__________
(1) انظر الموسوعة الثقافية: 643.
(2) انظر: مجدي الصافوري المرجع السابق : 215، 217، وانظر: موفق نبي المرجه: صحوة الرجل المريض، دار البيارق، بيروت، 1996، ط8: 200.
(3) انظر شكيب أرسلان، حاضر العالم الإسلامي: 108 – 119، د. أحمد النعيمي ، اليهود في الدولة العثمانية مؤسسة الرسالة – بيروت 1418 هـ – 1988م ط2 : 162-163 .
(4) انظر: M. Sukru Hani Oglu, Osmanli Ittihad, p. 16-26.(3/11)
وكانت محصلة هذه الجمعيات (جمعية الاتحاد والترقي) والتي كانت(1) تضم في صفوفها المدنيين والعسكريين وجعلت ميدان عملها في سلانيك ولذلك "فإن المحافل الماسونية في تلك المدينة استمرت تعمل دون انقطاع بطريقة سرية طبعاً وضمت إلى عضويتها عدداً ممن كانوا يرحبون بفكرة خلع السلطان عبد الحميد ... ولذلك استخدمت جمعية (الاتحاد والترقي) بعض المحافل أو جميعها لتكون محلات للاجتماع"(2).
__________
(1) وانظر: Osmanli Ittihad ve Terkki Cemiyeti ve Jon Turkluk, (1889-1902), Iletisim Yayinlari, Istanbul- 1985, p. 9-16.. وانظر د. محمد حرب عبد الحميد، السلطان عبد الحميد، نشر دار الفكر نقلاً عن مذكرات إبراهيم تيمو (أحد مؤسسي تركيا الفتاة): 278 – 281، وانظر: أورخان محمد علي، السلطان عبد الحميد، دار الوثائق، الكويت (1407هـ – 1986م): 270 – 275.
(2) ارنست، أ. رامزور، تركيا الفتاة وثورة 1908م، ترجمة الدكتور أحمد صالح العلي منشورات دار مكتبة الحياة بيروت 1960م: 123، 124.(3/12)
هذه التسهيلات التي قدمتها الماسونية في سلانيك وأوربا لجمعية الاتحاد والترقي كان لها غاية استراتيجية وهي تمزيق الدولة العثمانية من خلال قطع الروابط الإسلامية بين شعوب هذه الدولة ولذلك روجت فكرة الطورانية كما ذكرنا سابقاً بادعاء أن الجنس المغولي واحد في الأصل ويلزم الشعوب الطورانية أن تعود لأصلها وتمجد قوميتها التركية وكان شعارهم عدم التدين وإهمال الجامعة الإسلامية(1)، ومع ذلك كله فقد كان السلطان يرصد أعمالهم بدقة وعندما حكمت عليهم لمحكمة العسكرية بالسجن قام السلطان عبد الحميد بالعفو عنهم بل وسمح للطلبة منهم بالعودة إلى إكمال دراستهم، ومع ذلك فإن المصادر العلمانية كانت تتهم السلطان برمي طلاب كلية الطب في بحر مرمرة...!! افتراء عليه(2)، ثم تكرر الأمر وعفى عنهم مما جعل رامزور يتحير ويصعب عليه فهم سياسة عبد الحميد في نفي كاظم باشا بدل إعدامه.
ويقول رامزور "وأما كاظم باشا فقد طرد مهاناً وعين حاكما على شقورده في ألبانيا وهو عقاب خفيف على ضابط انكشفت محاولته لخلع سلطانه..!!؟"(3) بل وعينة السلطان بعد ذلك مديراً لمشروع خط الحجاز وهو مشروع سياسي عسكري مع العلم أن كاظم باشا هذا كان مكلفاً بتنفيذ الانقلاب العسكري...!(4)
__________
(1) انظر شكيب أرسلان (تعليقات)، حاضر العالم الإسلامي: 1/189 وما بعدها، وانظر: د. جميل المصري، حاضر العالم الإسلامي، نشر دار أم القرى، الأردن (1409هـ – 1989م): 121.
(2) انظر: رامزور، تركيا الفتاة: 64، 65، 66، وانظر تعليقات أورخان محمد علي على ذلك السلطان عبد الحميد الثاني: 272 وما بعدها.
(3) رامزور، نفس المصدر: 63 – 64، وانظر أورخان محمد علي: المرجع السابق: 277.
(4) انظر المصدر السابق: 64، 176، وانظر أورخان محمد علي، المرجع السابق: 276.(3/13)
ولكن اتباع جمعية الاتحاد والترقي لم يتوقف نشاطهم بل تسامح السلطان في معاملتهم أطمعهم في استغلال هذه الصفة فيه واستمرت صحفهم تهاجم السلطان وتتخذ شعارات الإصلاح والحرية والإخاء والمساواة لتدغدغ المشاعر ولتؤلب على السلطان، "لذا فقد فقست بيوض الأفاعي تحت جناحي رحمته وكبرت ونمت وانتشرت في كل حجر ثم خرجت إلى الميادين والساحات"(1) كما وصف ذلك نجيب فاضل قيصه كوره ك.
ثم هرب بعض قادة الاتحاد والترقي إلى الخارج وبخاصة باريس التي احتضنتهم منذ بداية تشكيل تركيا الفتاه، ومن باريس أصدرت جريدة (مشورة) و(الميزان) التي استمرت تهاجم السلطان فضلاً عن الرسائل، وكانت الدول الأجنبية تساعدهم في توزيع جرائدهم وإدخالها إلى الدولة العثمانية(2).
__________
(1) انظر أورخان محمد علي: 273 نقلاً عن Ulu Hakan Abdul Hamid Han.
(2) انظر: رامزور، نقلاً عن Paul Fesch: 63، 172، وانظر أورخان محمد علي، المرجع السابق، 278 نقلاً عن مذكرات إبراهيم تيمو، وانظر: محمد حرب عبد الحميد، السلطان عبد الحميد: 276، 279.(3/14)
وقد قام المحفل الماسوني بمساعدتهم وبخاصة (المشرق الأعظم الفرنسي) الذي قرر إزاحة السلطان عبد الحميد ... "ويمكن القول بكل تأكيد أن الثورة التركية كلها تقريباً من عمل مؤامرات يهودية! ماسونية"(1) ويقول سيتون واطسون في كتابه The Rise of Nationality in the Balkan(2): "وأن أعضاء تركيا الفتاة ... والثورة التي أنجزوها كانت نتاج عمل مدينة واحدة وهي سلانيك .. إن العقول الحقيقية للحركة كانت عقولاً يهودية أو يهودية مسلمة وقد جاءت مساعداتها المالية من أغنياء الدونمة أو يهود سلانيك ومن الرأسماليين العالميين (الماسونيين) في فينا وبودابست وبرلين وربما لندن وباريس أيضاً".
وقد كان الإطار الفكري لجمعية الاتحاد والترقي هو الماسونية وهي لا تعترف بالأديان وتنطلق من الفلسفة الوضعية والعلمانية ومع ذلك استخدم الثوار الاتحاديون الدين لمحاربة السلطان عبد الحميد واقترحوا علية باسم الدين"(3).
__________
(1) رامزور المصدر السابق : 126، وانظر لويس شيخو: السر المصون في شيعة الفرمسون، المطبعة الكاثوليكية للآباء الييوعيين ، بيروت (1337هـ – 1910م): الكراس السادس: 31 – 42.
(2) انظر أورخان محمد علي: المصدر السابق: 285 – 286.
(3) انظر محمد حرب عبد الحميد، السلطان عبد الحميد، نقلاً عن M. Sukru: 283، وانظر رامزور: 119، 123، 126. وانظر الوثيقة المتبادلة بين السفير البريطاني في استانبول (جيرالد لارثر) في 29/3/1910م وبين وزير خارجية بريطانيا (شارل هارودينغ) وقد نشر هذه الرسالة وقدم لها (Elie Kidaurie) أستاذ علم السياسة بجامعة لندن في كتابه الصادر بلندن سنة 1974م ورقم الرسالة في الوثائق الخارجية البريطانية (F.O.800/193A) ترجم الوثيقة الدكتور محمد توفيق حسين إلى العربية ونشرت في مجلة آفاق عربية ببغداد العدد 9، لشهر 3، تحت عنوان "دور الماسونية في خلع السلطان عبد الحميد، انظر أورخان محمد علي، المرجع السابق: 293 – 312.(3/15)
الثورة والخلع والإلغاء:
ونتيجة للظروف التي مرت بها الدولة العثمانية وما تعانيه من مشاكل داخلية، وخارجية، وسياسية، واقتصادية، وجد الأعداء فرصتهم السانحة فقرر (محفل الشرق الأعظم) في عام 1900م بالتعاون مع الدول الأوربية خلع السلطان عبد الحميد الثاني، وأدرك السلطان عبد الحميد المؤامرة واستمر يناور ويداور لإفشال هذا المخطط بأقل الخسائر، وبمحاولة احتواء (جمعية الاتحاد والترقي) اليد التي أريد لها أن تخلع السلطان.
وكانت إحدى محاولات للسلطان لدرء المخطط التدميري موافقته على الدستور وإحياء البرلمان وذلك في 24/7/1908م ورضخ لمطالب الاتحاد والترقي مع أنه كان قادراً على قمع هذه الثورة وكانت قواته المسلحة مستعدة لذلك ومع ذلك استسلم للقدر ولم يوافق أن يرق قطرة دم حفاظاً على دولة الخلافة(1).
__________
(1) انظر رامزور المصدر السابق : 126، وانظر د. أحمد النعيمي: اليهود والدولة العثمانية: 211، 212 نقلاً عنKidourie Elie, Young Turkes, Free Masons and Jew: p. 94، وانظر: مصطفى طوران، أسرار الأنقلاب العثماني، : 57 – 65، وانظر باول شمتز، الإسلام قوة الغد العالمية: 104 – 107، وانظر شيخ الإسلام مصطفى صبري، الاسرار الخفية وراء إلغاء الخلافة العثمانية، تحقيق ودراسة د. مصطفى حلمي، دار الدعوة، الإسكندرية (1405هـ – 1985م)، ط1: 100، وانظر عبد العزيز الشناوي، الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها – مكتبة الانجلو مصرية – القاهرة 1982م ط1 ، 1/1803 – 1806، وانظر: Alma Wiltin, Abdul Hamid The Shadow of God, p. 115، وانظر، الأمير عائشة عثمان أوغلو، والدي عبد الحميد، نقله للعربية صالح سعداوي، دار البشر، عمان (1408هـ – 1988م) ط1: 230 – 235.(3/16)
وقد اضطر الاتحاديون "أن يعلنوا بأن مقصدهم هو تحرير الدولة العثمانية من الاستبداد وإقامة حكومة دستورية تجمع المسلمين في بوتقة واحدة"(1).
وانخدعت الأمة بل وكثير من علمائها ومثقفيها وشعرائها في الداخل والخارج وعاشوا الوهم الذي شاركت في تصويره حقيقة صحف ورجالات وعمائم ثم ذاقت بعد ذلك وبال أمرها ولات حين مندم.
واستمرت جمعية الاتحاد والترقي تحكم الدولة العثمانية باسم السلطان، وترتكب الحماقات السياسية والعسكرية والاجتماعية والأخلاقية وختمت ذلك باجتماع لمجلس الأعيان والمبعوثان وقرروا خلع السلطان في 27/4/1909م واستصدروا فتوى مشبوهة من شيخ الإسلام وانتخبت لجنة من يهودي، وأرمني، وغجري، وألباني وقد حز في نفس السلطان أن يرى اليهودي (قره صو) معهم وأبدى استيائه من ذلك(2).
__________
(1) مجموعة من المؤلفين، العلاقات العربية التركية: 536 – 537، وانظر د. محمد حرب عبد الحميد: مرجع سابق: 194 – 195.
(2) انظر مصطفى طوران، مرجع سابق، 97 – 98، وانظر محمد فريد بك المحامي، تاريخ الدولة العلمية العثمانية، تحقيق إحسان حقي نشر دار النفائس، بيروت (1403هـ – 1983م)، ط2: 90 –92، ، وانظر د. محمد حرب عبد الحميد، مذكرات السلطان عبد الحميد دار القلم دمشق 1991 م ط3 : 206 – 208، وانظر أحمد النعيمي، اليهود والدولة العثمانية: 214.(3/17)
ثم نقل وأسرته وبعض حاشيته إلى سلانيك منبع الفتن تجاه دولة الخلافة زيادة في إيذاء السلطان نفسيا. وبقى على ذلك حتى نقل إلى استانبول وكانت وفاته فيها سنة 1918م ورفض مفارقتها وبوفاته ختمت الخلافة حقيقة لأن كل من خلف السلطان عبد الحميد من السلاطين كانوا رموزاً فقط والهيمنة الحقيقية لجمعية الاتحاد والترقي الحاكم الفعلي للدولة العثمانية(1).
وفي 20/10/1927م أعلنت الجمهورية العلمانية وألغيت اللغة العربية وأغلقت المدارس الدينية وغير الأذان إلى التركية ومنع النساء من الحجاب، وأمر الرجال بلبس الملابس الأوربية بدل الملابس العثمانية وطردت أسرة آل عثمان في 2/3/1924م حيث ألغيت الخلافة من قبل مصطفى أتاتورك.
وبدأت رحلة العلمانية التي كشرت عن أنيابها بحملة عملية التتريك، والضغط على الأكراد والعرب القوميين..!! حلفاءهم بالأمس وبدأ الاستبداد الحقيقي الذي انتظره دعاة القومية من دعاة الإصلاح فكان الإصلاح هو الانسلاخ عن الإسلام ليس إلا..!! وبدأت رحلة العذاب للبلاد في ظل دولة الإصلاح والحرية والثورة الأتاتركية.
المبحث الثاني:
القومية العربية نشؤها وتطورها
__________
(1) انظر الدكتور محمد حرب عبد الحميد، مذكرات السلطان عبد الحميد، نقلاً عن فتحي أوقيار، رجل في ثلاثة عهود، استانبول (1400هـ – 1980م)، ط1: 207 – 209، وانظر تفاصيل ذلك عن الأمير عائشة في كتابها: والدي عبد الحميد: 244 – 286، 346 – 351، وانظر أورخان محمد علي، السلطان عبد الحميد حياته و أحداث عصره دار الوثائق الكويت 1407 هـ – 1986م ط1 : 346 – 352.(3/18)
العرب مادة الإسلام، وقد محض الإسلام ولاءهم من أول يوم لله تعالى وللإسلام لا للجنس، ولا القبلية، ولا الأسرة(1). تنزل القرآن يخاطب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {تبت يدا أبي لهب وتب … السورة}(2) ونفّر القرآن من الركون إلى الأسرة والقبيلة والوطن والمال.
{قل إن كان آباؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}(3).
وحقر رسول الله من يتنادى بالعصبية الجاهلية بقولة « من دعا بدعوى الجاهلية فإنه أهون عند اللَّه ... » ثم جعل القرآن التقوى هي الميزان والمعيار للولاء {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}(4). وكلما شحبت المعاني الإسلامية في التقوى كلما دهمت الأفكار الباطلة والبدع المرفوضة والأخلاق المرذولة.
وعندما دب الضعف في الدولة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر وشاعت الأفكار غير الإسلامية، ونشطت الدعوة إلى القومية بتأثير التآمر الغربي الذي رأى في القومية سلاحاً فعالاً في زلزلة الدولة العثمانية.
نشأة القومية العربية:
والمقصود بالقومية العربية هنا هي "الحركة السياسية التي تدعوإلى تمجيد العرب وإقامة دولة لهم على أساس رابطة الدم والقربى واللغة والتاريخ وإحلالها محل رابطة الدين وهي صدى للفكر القومي الذي سبق أن ظهر في أوربا"(5).
__________
(1) انظر محمد ثابت الشاذلي، المسألة الشرقية : 75.
(2) سورة المسد، الآية رقم 1.
(3) سورة التوبة، الآية 24.
(4) سورة الحجرات، الآية 13.
(5) انظر الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الرياض (1409هـ – 1989م)، ط2: 401، والموسوعة الثقافية: 776.(3/19)
وبدأت قصة القومية العربية في بلاد الشام سنة (1847م) بإنشاء جمعية أدبية قليلة الأعضاء في بيروت في ظل رعاية أمريكية(1).
وقد بدأ الترويج للفكرة القومية متزامناً مع دور محمد علي باشا (1832-1848م) الألباني في تشجيع أهل الشام على الثورة على الدولة العثمانية وبدأت في تمجيد العرب ورفّع أبنائهم في اختصاصهم بالوظائف للتشجيع على الثورة ضد الدولة العثمانية .
وقد حشدت الدول الأوربية ومعهم اليهود وسائل متعددة لإحداث التغيير الفكري في بيئة شعوب الدولة العثمانية ومن ثم تفتيت الدولة العثمانية ليسهل بعد ذلك اقتسام تركتها وقيادة العالم. فلم تجد أفضل من إثارة الشعور القومي لكل شعب وبث الكراهية بين شعوب الدولة العثمانية وبالتالي العمل على انفصال تلك الشعوب عن جسم الدولة العثمانية إلى دويلات متفرقة ضعيفة يسهل التعامل معها وبخاصة إذا كانت قيادتها تدور في فلك المخطط المرسوم الذي ناهز مائة محاولة . "وهذه كانت في مدة ستة قرون مساعي المسيحيين ومحاولاتهم لمحو السلطنة العثمانية التي كانت من أعظم الممالك التي عرفها تاريخ البشرية، وإن لم يكن قد تنفذ برنامج واحد من هذه البرامج الكثيرة بحذافيره فما زال تكرار هذه المساعي وتداول هذه الأفكار في كل أوربا خلفاً عن سلف يعمل عملة تدريجياً وينقض من بناء السلطنة التركية التي انهارت جوانبها"(2).
ومن الوسائل التي استعملوها:
__________
(1) وميض جمال عمر نظمي، ثورة العشرين، مركز دراسات الوحدة العربية (1395هـ – 1985م) ط2، بغداد: 75، وانظر جورج أنطونيوس، يقظة العرب، حركة العرب القومية، ترجمة الدكتور ناصر الدين الأسد ود. إحسان عباس، نشر دار العلم للملايين، نشر بالاشتراك مع مؤسسة فرانكلين بيروت – نيويورك (1382هـ – 1962م): 91.
(2) تعليقات شكيب أرسلان على كتاب حاضر العالم الإسلامي: 3/324.(3/20)
أولاً: الترويج لاستقلال الوطن العربي عن دولة الخلافة العثمانية وإسناد الخلافة إلى شخص عربي قرشي..!! فالأئمة من قريش..!! وروج لذلك نجيب عازوري (ت1916م) النصراني من خلال كتابه (اليقظة العربية في آسيا الصغرى) حيث دعا لإحلال رابطة الجنسية والوطنية بدل رابطة الدين. وقد أسس المحفل الماسوني الإيطالي بمصر(1).
وضرب في نفس الوتر إبراهيم اليازجي وناصف اليازجي. من خلال صحفهم والمثقفون الذين نشروا كثيراً من الكتب التي تمجد العرب وإشاعة أفكار الثورة الفرنسية لإعطاء إطار فكري للحركة الجديدة(2).
__________
(1) انظر أحمد الشوابكة، حركة الجامعة الإسلامية: 108 – 110، وانظر مجدي الصافوري، مرجع سابق: 121، 122.
(2) انظر نزيه كباره ، عبد الرحمن الكواكبي مطبعة جروس بروس – طرابلس لبنان 1415هـ – 1994م ط1 : 24 – 25 ومن الشخصيات الأخرى جورج أنطونيوس (ت1942) بطرس البستاني (ت1883م) وكان مترجماً في السفارة الأمريكية مع ابنه سليم البستاني.(3/21)
ثانياً: المدارس التنصيرية: كان لها دور خطير وقد انتشرت في أرجاء الدولة العثمانية مستغلة السماحة المطلقة والمغالية(1) باعتراف النصارى أنفسهم، حيث أسست أول مدرسة أوربية تنصيرية في بيروت سنة (1843م) من قبل الأمريكان البروتستانت وأسسوا المدرسة الأمريكية في استانبول وأُسست (روبورت كولج) سنة (1863م) وكانت كلتا المدرستين محضناً لرجال القومية وقادتها في بلاد العرب والثانية تخرج منها قادة اللجان البلغارية الذين قادوا التمرد ضد الخلافة العثمانية. ثم كانت هاتين المدرستين محلاً لتفريخ كل الأحزاب القومية العلمانية في المناطق بعد ذلك(2).
و كان أول محضن تأسس للقوميين جمعية بيروت السرية (1875م) ومن أعضائها فارس نمر(3)، ثم تأسست جمعيات مختلفة اتخذت الواجهة الأدبية ستاراً لها، مثل الجمعية العلمية السورية (1868م) ومن أعضائها: ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران وبطرس البستاني (1835م) وهم خريجو المدرسة البروتستانتية، وانضم إليهم بعض المسلمين والروس وانضم إليهم المحفل الماسوني في الشام(4).
__________
(1) انظر تعليق شكيب أرسلان، حاضر العالم الإسلامي: 3/211 – 212.
(2) انظر: نديم هزار، المدارس التنصيرية، مركز البلقان للدراسات والأبحاث العلمية، استانبول (1415هـ – 1994م) نقلاً عن د. بيرم كودامان، نظام التعليم في عهد عبد الحميد: 6، 12، وانظر جورج أنطونيوس، يقظة العرب: 97 – 99.
(3) جورج أنطونيوس، نفس المصدر: 149، 152.
(4) نفس المصدر: 120.(3/22)
ومن الجمعيات الأخرى جمعية (جامعة الوطن العربي) مؤسسها نجيب عازوري - وخلال شهر العسل التركي العربي - أسست أول جمعية عربية باسم (الإخاء العربي العثماني) في سبتمبر سنة (1908م) بالقسطنطينية وأسس كذلك جمعية (المنتدى الأدبي) سنة (1909م)(1) وبعد انتهاء شهر العسل مع القوميين الأتراك، كشر القوميون العلمانيون عن أنيابهم فأغلقوا (جمعية الإخاء العربي العثماني) وبدأت الدكتاتورية وهي الخطوة الثانية بعد إسقاط الخليفة لإحداث ردة فعل عربي قومي لتعجيل تفتيت الدولة وتمزيقها، فأسست جمعيتان سريتان هما (الجمعية القحطانية) في سنة (1909م) وجمعية (العربية الفتاة) أسست عام (1911م) في باريس من قِبَل الدارسين هناك وأنشأت في القاهرة سنة (1912م) جمعية (اللامركزية الإدارية العثمانية).
وهكذا بدأ الحصاد المر الذي لبس لبوس الإصلاح ضد الاستبداد وخرج باستبداد مبيت للإجهاز على آخر دولة خلافة إسلامية(2).
__________
(1) انظر: جورج أنطونيوس: 172، 177، 183 – 190.
(2) نفس المصدر: 182، 183.(3/23)
ثالثاً: نشر المؤلفات والكتب المروجة للفكر القومي: فمنها ما يحمل الفكر الغربي وبخاصة أفكار الثورة الفرنسية، ومنها ما يتعلق بإحياء التاريخ العربي الجاهلي، وتفسير التاريخ الإسلامي تفسيراً قومياً، مثل كتب نجيب عازوري وغيره، ومن أكثر الكتب تأثيراً كان كتاب (طبائع الاستبداد) للكواكبي الذي كان له الأثر الكبير في الترويج للفكر القومي الإسلامي ومن ثم إلى الفكر القومي العلماني فالمبدأ الذي نادى به: أن الوطنية فوق أخلاق الأديان ويرى أن الوحدة الوطنية لا تتم إن جعلت المحاكمة للدين الإسلامي في مجتمع فيه أقليات غير مسلمة ... ولذا كان يقول: "دعونا نقدم حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم الآخرة ..." وكان يقول: "التمييز بين الدين والدولة في عصرنا هذا أصبح من أعظم مقتضيات الزمان والمكان...". فضلاً عن مهاجمته للعثمانيين وإنكار فضلهم وكيل التهم لهم وجعلهم مسؤولين عن ضياع الأندلس(1)..!!
ومحصلة هذا التخطيط يمكن تقسيم التيار القومي إلى: ...
__________
(1) انظر نزيه كباره، عبد الرحمن الكواكبي : 24 – 25، وانظر جورج أنطونيوس: 120 – 126، وانظر: وميض جمال عمر نظمي، شيعة العراق وقضية القومية، نشر مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت (1404هـ – 1984م) ط1: 179 – 182، وانظر جان داية، الإمام الكواكبي، فصل الدين عن الدولة، والذي أثبت من خلال المقارنة أن كتاب (طبائع الاستبداد) مترجم عن كتابٍ بنفس العنوان لمستشرق إيطالي تابعه الكواكبي في أغلب فصوله، دار سوراقيا للنشر، المملكة المتحدة (1408هـ – 1988م)، ط1: 43، وانظر الكواكبي، أم القرى دار الرائد العربي –بيروت 1402هـ 1982م ط2 : 168 – 171.(3/24)
أولاً: تيار يسعى أفراده لإقامة خلافة عربية مستقلة تقوم مقام الخلافة العلمانية ويمثل هذا الاتجاه الكواكبي، وشريف مكة، وطالب النقيب نقيب أشراف بغداد(1).
ثانياً: تيار يطالب بالإصلاحات الخاصة بالبلاد العربية ولا يطالب بالانفصال عن الدولة.
ثالثاً: تيار يدعو للاشتراك مع أحرار الأتراك للمطالبة بإصلاحات عامه تشمل الولايات العثمانية وقد مثل هذا التيار بعض السياسيين مثل محمود شوكت (ت1913م) وعزيز علي المصري (ت1959م)(2).
ثم أن الأمور بعد ذلك ساءت بين الطورانيين والجمهوريين وبين والولايات العربية وفقدت تركيا كثيراً من ولاياتها ولم يتبق إلا تركيا بقسميها الأوربي والآسيوي وقيدت بمعاهدات تنازلت فيها عن كثير من ولاياتها. فضلاً عن احتلال أجزاء من الدولة العثمانية من قِبَل الإنجليز والفرنسيين والإيطاليين وبخاصة مصر والشام والعراق وشمال أفريقيا. ووعدت حلفائها الذين أعانوها ببعض الغنائم وبخاصة وعد الخلافة العربية للشريف حسين في سنة (1916م) الذي فجر الثورة ضد العثمانيين في 10/6/1916م ولكن إنجلترا الحرباء كما يسميها السلطان عبد الحميد وفرنسا تآمرتا واقتسمتا العراق والشام ومصر بموجب معاهدة سايكس بيكو، وضاعت آمال القوميين فلا خلافة ولا حرية وإنما استعمار وحماية فرنسية بريطانية(3) وثبت قول لورنس "الثورة العربية هي في الحقيقة تقطيع لأوصال الدولة العثمانية"(4).
المبحث الثالث:
القومية الكردية نشأتها ومواقفها
من هم الأكراد؟
__________
(1) انظر نزيه كباره، مرجع سابق: 87، وانظر ساطع الحصري، محاضرات في نشوء القومية، دار العلم للملايين، بيروت (1375هـ – 1956م)، ط1: 183 – 197.
(2) انظر د. محمد حرب عبد الحميد، السلطان عبد الحميد: 278، 282 – 283.
(3) انظر محمود الشاذلي، المسألة الشرقية: 274 – 280، وانظر مجدي الصافوري: 227 – 229.
(4) امين سعيد، الثورة العربية ومأساة الشريف حسين، دار الكاتب العربي، لبنان (بدون تاريخ): 147.(3/25)
... الأكراد شعب أصيل ذو شكيمة نسبهم علماء الأنساب إلى العرب وأنهم في نسل عمرو بن عامر خرجوا من الجزيرة وسكنوا الجبال وبعض المؤرخين يرون أن الأكراد من الجنس الهندوأوربي ويرى أكراد إيران بأنهم يرجعون إلى أصول آرية(1).
... وهم يتوزعون في المنطقة المحصورة بين إيران والعراق وتركيا وسوريا وروسيا وقد دخلوا الإسلام مبكراً في زمن سيدنا عمر بن الخطاب سنة (18هـ) على يد الصحابي الجليل عياض بن غنم(2).
__________
(1) انظر د. إبراهيم الداقوقي، أكراد الدولة العثمانية وبروز القوميات ودور الأقليات، أعمال المؤتمر العالمي الرابع للدراسات العثمانية حول الحياة الإدارية، مركز الدراسات والبحوث العثمانية المورسييكية، تونس (1412هـ – 1992م): 198، وانظر د. جمال رشيد أحمد ود. فوزي رشيد، تاريخ الكرد القديم جامعة صلاح الدين أربيل – العراق 1990م 1411هـ ط1 :7 ، وانظر منذر الموصلي، الحياة السياسية والحزبية في كوردستان شركة رياض الريس للكتب و النشر العراق 1411هـ – 1990 ط1 : 30 ، وانظر: Cavdet Ergul, Abdul Hamidin Dogu Politikasi Ve Hamidiye Alaylari: Izmir, 1997, p. 3-4، وانظر سعد أبو مصطفى، جعل الأمة الإسلامية بواقع الأكراد، مجلة آلاي إسلام، السنة 2، العدد 1، وانظر د. شاكر خصباك، الكرد والمسألة الكردية المؤسسة العربية للدراسات و النشر بغداد 1409هـ – 1989م ط2 : 22-25 .
(2) انظر د. إبراهيم الداقوقي، نفس المرجع السابق: 194 – 211، انظر زبير بلال إسماعيل، علماء ومدارس في أربيل، مطبعة الزهراء، الموصل، العراق (1404هـ – 1984م): 21 وما بعدها، وانظر د. عثمان علي، الأسس الفكرية للحركة القومية الكردية، مجلة آلاي إسلام، العدد 2، 3، السنة التاسعة (1406هـ – 1995م): 15.(3/26)
... وأسهم هذا الشعب الكريم في بناء الحضارة الإسلامية بعد أن تشبع بروح الإسلام وغدا مسلماً عقيدة وجنسية فبرز منه وفيه القادة والعلماء والأدباء والإداريين ...(1).
... والأكراد قبائل غلب عليهم العمل في الزراعة وكان لشيخ القبيلة الهيمنة الإدارية وشاعت بينهم الطرق الصوفية، فظهر فيهم التدين الفطري لذلك كان ولاؤهم للدولة العثمانية ولاءً نابعاً من هذا التدين، بل كانوا جيشاً غير نظامي إلى آخر رمق في دولة الخلافة العثمانية(2).
__________
(1) انظر زبير بلال، المرجع السابق : 27 و ما بعدها ، ومن أشهر العلماء في القديم والحديث الإمام زين الدين العراقي المحدث، ابن الصلاح الشهرزوري، والشيخ أمجد الزهاوي شيخ علماء العراق وغيرهم ومظفر كوكبفوري الأربلي، والخليفة صلاح الدين الأيوبي والشيخ بديع الزمان النورسي، وابن خلكان (ت1283هـ) وغيرهم.
(2) د. أحمد النعيمي، الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا حاضرها و مستقبلها دار البشير عمان الأردن 1413هـ- 1993م ط1 : 78.(3/27)
... وقد كان للأكراد دور سياسي وعسكري بارز في عموم التاريخ الإسلامي فضلاً عن دورهم العلمي والثقافي، وقد تولى (عماد الدين زنكي) السلطنة وكذلك (صلاح الدين) فكانت الدولة الأيوبية لها بلاؤها الحسن في التاريخ الإسلامي وبخاصة في صد الهجمات الصليبية والتي كانت نهاية الصليبية في الشام على يد صلاح الدين الأيوبي، وانساحت القبائل الكردية المسلمة في العالم الإسلامي مثل مصر والشام واليمن وغيرها واستقر كثير منهم في هذه المناطق، ولا زال الكثير من الذين أصولهم كردية يتلقبون (بالكردي) مع عدم معرفتهم باللغة الكردية(1).
... وقد عاش الأكراد في ظل دولة الخلافة العثمانية شريحة مهمة من شرائح المجتمع المسلم يتنقلون في بقاع الدولة المسلمة وقد قسمت كردستان إلى أقسام إدارية تسمى (بالسنجق) وثبت على كل سنجق أمير المنطقة الكردي أو تأتي بمن تراه مناسباً(2).
__________
(1) انظر د. سوادي عبد محمد، الأحوال الاجتماعية والاقتصادية في بلاد الجزيرة خلال القرن السادس الهجري، دار الشؤون الثقافية، بغداد، العراق (1409هـ – 1988م): 65 – 68، 87 وما بعدها. وانظر منذر الموصلي، الحياة السياسية والحزبية في كردستان: 60، وانظر د. يوسف الصغير، الأكراد في عالم الاضطهاد، مجلة البيان، لندن، العدد 134: 51 – 52، ولا زال لقب (الكردي) شائعاً في الأردن ومصر وأرتيريا واليمن.
(2) انظر د. إبراهيم الداقوقي: مرجع سابق: 190 – 191، وانظر د. عثمان علي: الأسس الفكرية للحركة القومية الكردية، مجلة آلاي إسلام، العدد 2، 3 (1416هـ 1995م) ماليزيا: 15، وانظر شرف خان بوليس، في تاريخ الدول والإمارات الكردية: 136 – 137، وانظر منذر الموصلي، نفس المصدر: 239.(3/28)
... وكان للأكراد دور مهم في خوض الحروب للدفاع عن دار الخلافة فاشتركوا في الحرب الروسية العثمانية (1877م)، ولكن كانت لهم بعض الإشكالات مع الدولة العثمانية وبعض الاحتكاكات المسلحة وهي في حقيقتها لم تكن تمرداً ورفضاً للترك كما حاول بعض المستشرقين تشويه هذه الصورة، وإنما كانت رفضاً لبعض الإجراءات الإدارية والمالية كفرض الضرائب وطلب التجنيد في الجيش، ولم يكن ذلك صراعاً قومياً(1).
__________
(1) انظر منذر الموصلي، نفس المصدر: 67 – 68، وانظر د. شاكر خصباك، الكرد والمسألة الكردية، وانظر تفصيل ذلك في مقالة د. عثمان علي، على تشخيص الحقيقة، بصراع: ألاي إسلام، المرجع أعلاه، وما نسبه البعض إلى أن الشيخ عبيد اللَّه النهري ثار ضد الدولة العثمانية فهذا خطأ تاريخي وتأويل قومي متكلف وقد كشفت رسالة القنصل البريطاني (وليم أز آبوت) في تبريز إيران بأن هذه التحركات كانت ضد الإيرانيين وقد قام الإيرانيون بمساعدة الإنجليز بالقضاء على هذه الثورة ونفي الشيخ عبيد اللَّه النهري إلى الحجاز. انظر الوثيقة رقم 23 سري للغاية، رقم الملف 441/60 من القنصل البريطاني في تبريز إلى وزراء الخارجية البريطانية بتاريخ 1/10/1881م وقد ترجم هذه الوثيقة الدكتور آزاد كرمياني، انظر مجلة آلاي إسلام، العدد 2، 3، السنة التاسعة، جمادى الآخرة (1415هـ) نوفمبر (1995م) ماليزيا: 56 – 59.(3/29)
... وعندما تولى السلطان عبد الحميد الثاني السلطة كان الأكراد لهم خصوصيتهم في طريقة الإدارة ووقف الأكراد مع السلطان عبد الحميد في أحرج الأوقات ولم يشعروا بأن الدولة العثمانية دولة معادية في يوم من الأيام وقد شكل منهم كتائب عسكرية سميت بالكتائب الحميدية (Hamidiye Alaylari) وذلك لمواجهة الأرمن الذين كانوا يثيرون القلاقل للدولة العثمانية، وكانت تعتبر (قوات احتياطية) للجيش العثماني، ثم وضعت لها لائحة خاصة تنظم إدارتها وتحدد واجباتها. في مواد محددة عدد (53) مادة وكان ذلك في سنة (1308هـ – 1891م)(1) وطورت في سنة (1313هـ - 1896م) لائحياً وتشكيلاً لتكون لها القدرة في مواجهة القوات الأرمنية المدعومة من روسيا(2). وقد رد السلطان على الموظفين الكبار الذين اعترضوا على ارتباط السرايا الحميدية بالباب العالي بقوله "فما الذي يضيرنا إذا قرّبنا الأكراد منا وهم إخواننا في الدين"(3).
الأكراد وظهور الفكر القومي:
__________
(1) انظر:
Cevdet Ergul, Abdul Hamidin Dogu Politikasi ve Hamidiye Alaylari, Izmir, (1997-1417), p. 59-66.
وانظر السلطان عبد الحميد، مذكراتي السياسية، مؤسسة الرسالة، بيروت (1406هـ 1986م)، ط5: 33، وانظر: Daid McDowall, A Modern History of the Kurds, p. 62، وانظر: الدكتور عثمان علي، الأسس الفكرية للحركة القومية الكردية، مجلة آلاي إسلام، ماليزيا، العدد 2، 3 (1415هـ – 1996م): 17.
(2) انظر: Cevdet Ergul, p. 67-77.
(3) السلطان عبد الحميد، مذكراتي السياسية مؤسسة الرسالة بيروت 1406هـ – 1986 : 33.(3/30)
... وسارت الدول الأوربية على نفس الطريقة التي سارت بها في الأماكن الأخرى في طريقة زرع الفكر القومي وتنميته لإثارة جميع القوميات ضد الدولة العثمانية وذلك عن طريق إرسال الإرساليات التبشيرية وإنشاء المدارس التي تعمل لهذا الهدف والترويج للفكر الغربي باسم الإصلاح وما سمي (بالتنظيمات) بعد ذلك، ومن طرف آخر كان الروس يعملون على إشاعة أن ما يتم من رفض الأكراد المسلح لبعض التنظيمات بأنه صراع قومي وقد ذكرنا خطأ هذا الرأي سابقاً على لسان الشيخ عبد اللَّه النهري. ولكن روج لهذه المقولة وصارت مفردة في الفكر القومي الكردي بعد ذلك(1).
... "كما لعبت المؤسسات التبشيرية الإنجليزية والأمريكية والفرنسية دوراً ريادياً في إعداد جيل متغرب من أبناء الأقليات غير المسلمة ... ودوره في نشر الأفكار اللادينية بين العرب"(2).
... وامتد هذا النشاط إلى كردستان حيث "زار المنطقة في الفترة ما بين (1830م - 1914م) حوالي (43) باحثاً إنجليزياً، وفرنسياً، وروسياً، وقام الأمريكان بفتح (450) مدرسة في منطقة هيكاري الكردية في تركية، ومنطقة ولاية الموصل في كردستان العراق لتربية جيل من الكرد والأشوريين على الأفكار الغربية"(3)
__________
(1) انظر د. عثمان علي، نفس المرجع: 16 نقلاً عن: Wadi Jwaidda, The Kurdish Nationalist Movement, Syracuse, 1967, p. 95، انظر د. عثمان علي، نفس المرجع والصفحة نقلاً عن خالقين ن. خه بات له رتى كوردستان، الترجمة الكردية من الروسية، 1971م، ونقلاً عن كمال مظهر، كوردستان في سنوات الحرب العالمية الأولى، دكتور كامرس قفتان، جه ندلينه وه يه ك له ميزوى، بابان، سورات، بوتان، بغداد 1982.
(2) انظر: د. عثمان علي، نفس المرجع السابق، نقلاً عن C.J. Edmond, The Kurdish, London, 1968, .
(3) انظر د. عثمان علي، نفس المرجع السابق والصفحة، نقلاً عن:
Kamran Badr Khan, The Kurdish Problem, Royal Central Asian Studies, 36, 1949, p. 250.(3/31)
.
... وثمرة لهذه الجهود الاستشراقية التنصيرية التي عززت بدراسات وكتب في مختلف مجالات الحياة في كردستان تبلورت الأفكار القومية في كردستان، ورافق ذلك ظهور بعض الرموز الكردية القومية والذي انتمى بعضهم إلى جمعية الاتحاد والترقي(1).
... ومن الذين استجابوا للتأثيرات الفكرية الغربية مقداد بدر خان الذي أصدر جريدة (كردستان) في القاهرة سنة (1898م) وكانت تطبع في دارا لهلال الذي يديره (جرجي زيدان) وكان لها نشاطاً محموماً في نشر الأفكار الغربية وتدعو الأكراد إلى تعلم العلوم الغربية في التأريخ والفن والأدب والعلوم الطبيعية، وروجت بين الكرد فكرة ضرورة دراسة تاريخهم والبحث عن هويتهم القومية قبل الإسلام وكانت الجريدة مدعومة من الإنجليز مادياً وموضوعياً. ومن الغرائب أن الأرمن العدو اللدود للأكراد كانوا يقومون بتوزيع المجلة بين أكراد العراق وتركيا(2).
__________
(1) انظر د. عثمان علي، نفس المرجع السابق: 17، وانظر Wadi Jwaidda, p. 298.
(2) انظر د. عثمان علي، نفس المرجع السابق: 16 نقلاً عن Kamran Badr Khan, The Kurdish Problem, p. 250، وانظر رامزور، تركيا الفتاة: 91.(3/32)
... ولقد تأخر ظهور الفكر القومي بين الأكراد بالمقارنة بين العرب والأتراك إلى ما بعد انقلاب القوميين الأتراك على السلطان عبد الحميد وهذا يعود إلى طبيعة سياسة السلطان عبد الحميد تجاه الكرد طوال القرن التاسع عشر لأن الأكراد كانوا الدرع الحديدي في مواجهة أطماع الروس للوصول إلى المياه الدافئة في الخليج وكانوا القبضة الفولاذية التي ضربت عملاء روسيا من الأرمن وكان (للكتائب الحميدية الكردية) الدور الفعال في ذلك كله ويضاف إلى ذلك أن السلطان عبد الحميد كان يقوم بعمل فكري مواز لعمل الحركات القومية ولذلك قام بفتح كلية خاصة لأبناء الشيوخ لتدريس العلوم الإسلامية والعسكرية مما أكسبت هذه السياسة رضا الشعب الكردي المسلم وقياداته القبلية والدينية والشباب المسلم المتعلم وكانت هذه ضمن سياسات الجامعة الإسلامية لمواجهة الغرب(1).
__________
(1) انظر د. عثمان علي، نفس المرجع السابق: 16، 17، نقلاً عن سيامند عثمان، ملاحظات تاريخية حول نشأة الفكر القومي، دراسات كردية، D.I.I، 1414هـ – 1984م، وانظر جليلي، نهضة الأكراد الثقافية، بيروت (1406هـ – 1986م): 82.(3/33)
... وبعد أن زال الوهم الذي بنى عليه القوميون آمالهم بعد إسقاطهم للسلطان عبد الحميد فبدل أن يجدوا الحرية والديمقراطية التي تعاهد عليها قوميو الترك والعرب والأكراد والأرمن واليهود فإذا بهم أمام سراب فاجأهم به الأتراك الاتحاديون وبدأت مرحلة الاضطهاد القومي فأغلقت الجمعيات والمنظمات الكردية، وزجت القيادات القومية الكردية في السجون، فكان لهذا الفعل ردة فعل أدت إلى نمو الحركة القومية الكردية فقد انتهى شهر العسل القومي مبكراً أي بعد خلع السلطان بسنة واحدة وتلك لعنة القومية التي حلّت بأصحابها واتجه الأكراد إلى تشكيل الجمعيات السرية وبدل أن يدعُ قادة القومية إلى الرجوع إلى الإسلام تنادوا بالتخلي عن الإسلام والعودة إلى الجاهلية الكردية التاريخية انتماءً وإلى الأوربية شخصية ودعوا إلى كتابة اللغة الكردية بالحروف اللاتينية.(3/34)
... وهكذا فعل الأتراك القوميون وتداعى بعض العرب لذلك ولم تنجح هذه الدعوى بين العرب والأكراد للأصالة الإسلامية الضاربة في أعماق الشعبين(1).
حقيقة الانتفاضات والثورات الكردية قبل خلع السلطان وبعده:
... شهد القرن التاسع عشر ظهور عدة انتفاضات كردية قادتها شخصيات كردية معروفة منهم العلماء ومنهم شيوخ القبائل ومنهم العلمانيون المتغربون(2).
... ومن أشهر هذه الانتفاضات:
1 - انتفاضة ميركور الراوندوزي في كردستان العراق في (1833م).
2 - انتفاضة الأمير بدر خان في كردستان العراق سنة (1843م).
3 - انتفاضة الشيخ عبد اللَّه النهري في كردستان تركيا عام (1882م).
4 - انتفاضة ملا سعيد البرزنجي في السليمانية بكردستان العراق.
5 - وانتفاضة ملا سليم في كردستان تركيا.
6 - وانتفاضة إبراهيم ملني في كردستان سورية وتركيا.
__________
(1) انظر د. عثمان علي، الأسس الفكرية للحركة القومية الكردية: 17، 18 – 20، نقلاً عن زنار سلوبي، في سبيل كردستان، بيروت (1407هـ – 1987م): 25، 63، 141، وكمال مظهر، مرجع سابق: 98 – 115، وكردة فعل للتيار القومي التركي أنشأ الأكراد جميعات مثل (كرد تعاون وترقي جمعيتي) و(كورد تشكيلات ومعارف جمعيتي) وشكلت منظمة طلابية سرية باسم (هيوا) أي الأمل، وتمايز من خلال هذه الجمعيات صفان الأول يقوده الشيخ عبد القادر الشمزيني نجل الشيخ عبد اللَّه النهري ومنهم الشيخ سعيد النورسي الذي كان يرفض الأفكار العلمانية التغريبية لبعض الأكراد القوميين، والصف الثاني العلماني القومي الذي كان يقوده بدر خان أمين وعبد اللَّه جودت وأنشأوا لهم جمعية جديدة اسمها (الرابطة الاجتماعية) بالاتفاق مع الأرمن!!، انظر د. عثمان علي، نفس المرجع: 19، وأصدرت صحف ومجلات مثل (روزي كورد) بمعنى نهار الكرد.
(2) انظر د. عثمان علي، الأسس الفكرية للحركة القومية الكردية، مجلة آلاي إسلام، العدد 2، 3، السنة التاسعة، (1416هـ – 1995م): 15، 17، 20، 56.(3/35)
7 - انتفاضة ضد عبد الرزاق بدرخان رئيس (الجمعية الكردية الثقافية) العلمانية التوجه في كردستان تركيا.
8 - ثورة قوج كري في كردستان تركية سنة (1920م) للمطالبة بتطبيق معاهدة سيفر التي تنص على إقامة حكم ذاتي في تركيا.
9 - انتفاضة إسماعيل آغا (سمكو) في كردستان إيران (1921م).
10 - ثورة جمعية (خويبون) العلمانية التي ضمت الأكراد والأرمن ضد الحكم التركي الكمالي لتحرير كردستان سنة (1930) وبتأييد من الدول الأوربية.
... من خلال هذا التسلسل التاريخي نستطيع رصد طبيعة الثورات والانتفاضات التي تمت في القرن التاسع عشر والعشرين والتي حاول مؤرخو الحركة القومية الكردية والمستشرقون في دراساتهم للانتفاضات فالمستشرقون وبخاصة الروس منهم فإنهم يصورونها على أنها صراع قومي بين الأكراد والأتراك، وأما القوميون الأكراد فإنهم يصورونها بأنها من ثمرة تخطيط الحركة القومية العلمانية(1).
... ولكن تفصيل ذلك لا يميز إلا من خلال دراسة كل حركة أو انتفاضة على حدة حيث أن الوثائق التي ظهرت في السنين الأخيرة صححت كثير من التصورات بل وكشفت كثير من التزييف للتاريخ الإسلامي الكردي. ولعل في دراسات الدكتور (عثمان علي) قيمة تاريخية مهمة في كشف كثير من هذه الأحداث وإعادة تفسيرها(2) تفسيراً موضوعياً قائماً على دراسات وثائقية وبمنهجية علمية محايدة لعلها تشجع باحثين آخرين يحذون حذوه لكشف الحقائق الناصعة ليتبين ضخامة الكيد الذي مزق جسم الأمة الإسلامية وليس الدولة العثمانية فحسب ولا زلنا نعاني منه في تاريخنا المعاصر.
__________
(1) انظر نفس المرجع أعلاه: 15، وانظر د. عثمان علي، إشكالية في انتفاضة الشيخ سعيد، مجلة آلاي إسلام، العدد 3، السنة 11، (1418هـ – 1997م): 10.
(2) انظر د. عثمان علي، حركة الشيخ سعيد ثورة شريعة أم دولة كردية، مرجع سابق: 10.(3/36)
... وإذا دققنا النظر في طبيعة الانتفاضات التي أوردناها على سبيل التمثيل وليس على الحصر ولم نتوسع لأن ذلك خارج عن حدود موضوع البحث فنقول:
... أولاً: إن انتفاضة ميركور الراوندوزي (1883م) وانتفاضة الأمير بدر خان في كردستان العراق سنة (1843م) كانتا قبل نشوء حركة القومية الكردية وإنما كانت عبارة عن احتكاكات عشائرية ضد إجراءات إدارية خاطئة كان يقوم بها بعض الولاة أو الجباة الرسميين. ويفسر لنا ذلك سياسة عبد الحميد التي استوعبت مطالب القبائل الكردية الذي وضع لهم نظاماً إدارياً خاصاً، فضلاً عن التنظيم العسكري (الكتائب الحميدية)(1).
... ثانياً: أما انتفاضة الشيخ عبد اللَّه النهري (1882م) فكانت زمن السلطان عبد الحميد وهي في الحقيقة التي كشفتها الوثائق لم تكن ضد دولة الخلافة ولم تعبر عن مكنون قومي شوفيني وإنما كانت انتفاضة ضد العشائر الإيرانية التي كانت تعتدي على أراضينا ونفى الشيخ النهري أن تكون ثورته لإقامة حكومة في كردستان يكون هو على رأسها(2) بل قال: "بأنه ليس هناك من يشك في ولائه للسلطان"(3).
__________
(1) انظر دكتور عثمان علي، الأسس الفكرية للحركة القومية الكردية، الحلقة الثانية: 15.
(2) انظر دكتور عثمان علي، اللقاء تاريخي فريد مع الشيخ عبيد اللَّه النهري، وثيقة مترجمة من القنصل الإنجليزي في تبريز بإيران إلى وزارة الخارجية بلندن في 1/10/1881م رقم الوثيقة (23) سري للغاية، وزارة الخارجية رقم الملف (442/60)، مجلة آلاي إسلام، العدد 2، 3، السنة 9، 56 – 59.
(3) انظر نفس المصدر أعلاه: 57.(3/37)
... ثالثاً: وأما الانتفاضات الثلاث ملا سعيد البرزنجي في العراق وملا سليم في تركيا، وإبراهيم ملي في سوريا والانتفاضة الشعبية ضد رئيس الجمعية الكردية الثقافية العلماني كلها تعبر عن رفض للعلمانية وكلها كان بعد خلع السلطان عبد الحميد ومجيء جمعية الاتحاد والترقي للحكم وهي تظهر الروح الإسلامية والولاء للسلطان عبد الحميد(1).
... رابعاً: وأما ثورة (قوجكيري 1920م) في كردستان تركيا فكانت بعد تمكن الحركة الكمالية ومطالبتها بالحكم الذاتي للأكراد الذي ضمنته لهم معاهدة (سيفر) واستمرت هذه الثورة (1923م) مما اضطر مصطفى كمال للاعتراف بالحكم الذاتي في مؤتمر صحفي في مدينة أزمير غير أنه لم يف بذلك وبقيت الوثيقة طي الكتمان حتى كشفتها مجلة (نحو عام 2000) في عددها (42) الصادر بتاريخ 26/11/1988م(2).
__________
(1) انظر نفس المصدر أعلاه، الأسس الفكرية للحركة القومية الكردية، حلقة 2: 17، نقلاً عن وادي جويدة:
The Kurdish Nationalist Movement, Syracuse, 1967, Papulation: 95-7.
(2) انظر دكتور إبراهيم الداقوقي، أكراد الدولة العثمانية، أعمال المؤتمر العالمي الرابع للدراسات العثمانية حول الحياة الإدارية وبروز القوميات، مراجعة وتقديم د. عبد الجليل التميمي، تونس (1412هـ – 1992م)، مركز الدراسات والبحوث العثمانية والموروسيكية والتوثيق والمعلومات، زعفران – تونس: 164، وانظر د. عثمان علي، حركة الشيخ سعيد ثورة شرعية أم دولة كردية، آلاي إسلام، العدد 3، السنة 11، 1418هـ – 1997م: 12.(3/38)
... خامساً: وأما انتفاضة إسماعيل آغا الملقب (بسمكو) في كردستان إيران سنة (1921م) فكانت ضد الحكومة الإيرانية(1) "لأنها كانت تمارس الظلم والعدوان على الكرد" ويستطرد سمكو فيقول: "والآن أنا أبذل قصارى جهدي لتحريرهم من السيطرة الإيرانية"(2) واستمر بعلاقاته الحسنة مع حكومة الاتحاديين لأن الحكم الحقيقي لهم والسلطان كان رمزاً لا أثر له. ولأن الاتحاديين كانوا يزودونه بالسلاح ضد الإيرانيين ومع ذلك فالأكراد كانوا يحترمون السلطان أكثر من الاتحاديين(3).
... سادساً: ثورة الشيخ سعيد بيران وهي من أهم الثورات لأنها جاءت في الوقت الذي قام كمال أتاتورك بإلغاء الخلافة نهائياً في 4/3/1924م ثم أن الشائع عنها بأنها ثورة قومية للحركة الكردية، ولكن الوثائق التي ظهرت في السنين الأخيرة أثبتت إسلاميتها وقيامها لأجل إعادة الخلافة وحكم الشريعة(4).
... وتأتي أهمية هذه الحركة كذلك لاتصالها بالإمام الشيخ بديع الزمان النورسي، ورؤيته المخالفة للثورة وسبب الخطأ التاريخي في تقييم هويتها:
__________
(1) انظر د. عثمان علي، مصطفى باشا يا ملكي في لقاء تاريخي مع سمكو ، وثيقة، رسالة من مصطفى باشا إلى ابنه عبد العزيز بيك بتاريخ 12/12/1921م، ورقم الوثيقة: 7781/5371، مجلة آلاي إسلام، العدد 2، السنة 10: 44 – 51.
(2) انظر نفس المرجع: 45.
(3) انظر نفس المرجع والصفحة.
(4) انظر دكتور عثمان علي، حركة الشيخ سعيد، آلاي إسلام، العدد 3، السنة 11: 10 – 13.(3/39)
... أن القوميين نسبوها إلى حركة (آزادي) و(جمعية تعالي وترقي كردستان) ونحا بعض المستشرقين إلى هذا التفسير كذلك. إضافة إلى ذلك فإن الحكومة التركية لغاية (1977م) كانت تعتبر وثائق حركة الشيخ سعيد بيران وثائق سرية ولكن في الثمانينات والتسعينات ظهرت دراسات ووثائق جديدة(1).
... ولعل دراسة الدكتور (عثمان علي) تعتبر من الدراسات الجديدة في هذا الباب وقد كشف الاختلاط في وصف الحركة بارتباطها بحركة (آزادي)(2).
... وكشفت الوثائق أنه لا علاقة تنظيمية بين الشيخ سعيد بيران وحركة آزادي وإنما قائد حركة آزادي (خالد بيك جيواني) كان أحد قادة الألوية الحميدية وكان من دعاة الجامعة الإسلامية ومن أقرب المقربين إلى السلطان عبد الحميد، وكان عديلاً للشيخ سعيد بيران، ولكن عندما طلب الشيخ سعيد للمثول أمام المحكمة أثناء محاكمة خالد جيواني ورفاقه تبين من أن النظام الكمالي سوف يقوم باتهامه ومحاكمته وأن مسألة اعتقاله أصبحت وشيكة، لذلك قرر المواجهة وإعلان الانتفاضة بعد أن عبأ لها شيوخ القبائل الكردية وأرسل برسائله ورسله إلى الشخصيات المسلمة الكردية المعروفة(3).
__________
(1) انظر دكتور عثمان علي، إشكالية في انتفاضة الشيخ سعيد بيران، مجلة آلاي إسلام، العدد 4، السنة 11: 23 – 27، وانظر دكتور عثمان علي، حركة الشيخ سعيد، مصدر سابق: 10.
(2) انظر آزاد كرمياني، محاكمة الشيخ سعيد بيران، أمام محكمة الاستقلال، مجلة آلاي إسلام، العدد 3، السنة 11، 1418هـ – 1997م): 14-17، 27.
(3) انظر دكتور عثمان علي، الإشكالية في انتفاضة الشيخ سعيد، مجلة آلاي إسلام، العدد 4، السنة 11، (1418هـ – 1998م): 25.(3/40)
... وقد اضطر الشيخ للمواجهة المبكرة قبل الإعداد المطلوب وانتخب رئيساً (لآزادي) بعد اعتقال قادتها وتم تحديد 21/3/1925م موعداً ليوم الانتفاضة ولكنها قدمت (15) يوماً قبل موعدها مما أدى إلى حصول بعض الأخطاء منها اعتقال بعض القادة من أعضاء آزادي السابقين(1).
... وخاضت الطريقة النقشبندية بقيادة سعيد بيران الثورة ضد الحكم الكمالي وكان خطاب الثورة خطاباً إسلامياً وقد نشرت وثيقة لجلسة سرية لمجلس أركان الحرب التركي أقرّ فيها دراسة الحركة من خلال الوثائق وشهادات الشهود بأن ثورة الشيخ سعيد كانت ثورة إسلامية تريد إعادة الخلافة والشريعة وعُمّم ذلك القرار المرقم (1845) على جميع الإدارات الحكومية المعنية(2).
... وحاولت الحكومة تشويه الحركة ووصمها بأنها قومية من خلال محاكمة قادة الحركة القومية مع الشيخ سعيد ورفاقه، وكذلك لإثارة القوميين الأتراك وعزل الثورة عن المسلمين الترك. إضافة إلى اتهامها بالعلاقة بالجهات الأجنبية ويقصد بهم الإنجليز. ولكن رد الشيخ سعيد هو "يشهد اللَّه أن الثورة لم تكن من صنع السياسيين الكرد - يعني القوميين- ولا من تدخل الأجانب"(3).
... وعندما سئل: هل تريد أن تصبح خليفة؟
__________
(1) نفس المرجع : 25.
(2) انظر الدكتور أحمد النعيمي ، الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا حاضرها ومستقبلها، : 78، وانظر Andrew Mango, Turkey, Thames and Huom, 11d, London, 1968, p. 53، وانظر مصطفى محمد، الحركة الإسلامية الحديثة في تركيا، ألمانيا الغربية (1404هـ – 1984م)، وقال إن الشيخ سعيد بيران أعلن حركته باسم اللَّه واتخذ له راية خضراء هي راية النبي - صلى الله عليه وسلم -كما حمل شعاراً لتحيا الخلافة ولتسقط الجمهورية وكان يتلقب بخادم المجاهدين. وانظر الدكتور عثمان علي، الإشكالية في الانتفاضة: 26.
(3) انظر د. عثمان علي، الإشكالية في الانتفاضة: 27.(3/41)
... أجاب: إن وجود الخليفة ضمانة أساسية لتطبيق قواعد الدين وإن المسألة مطلوبة شرعاً.
... وسئل: هل كان إعلانكم للعصيان يعني أنكم وصلتم إلى قناعة تامة بأن الشريعة غير مطبقة في البلد؟
... أجاب: إن الكتاب - القرآن - يؤكد على الخروج على الحاكم في الظروف التي أشرنا إليها أعلاه، وتطبيق الشريعة يعني منع القتل والزنا والمسكرات ... الخ وبحمد اللَّه كلنا مسلمون ولا يجب التمييز بين الكرد والترك وحسب اعتقادنا أن هذه الأمور حالياً متروكة أننا انطلقنا من هذه القناعة وعلى أساس القرآن الكريم(1).
... بهذه الإجابات الشافية والقلب الثابت بين الشيخ سعيد أن ما قام به هو اجتهاد أدى إلى اتخاذ هذا الموقف ودواعيه إلغاء الخلافة وهي واجبة، وإيقاف العمل بالشريعة وهي واجبة أيضاً هذا اعتقاده، وهو ما تدل عليه المصادر الشرعية.
... ولكن عملية تنفيذ التغيير، وهل كان ذلك مناسباً للظروف؟ ومكافئاً للقوى المحيطة؟ فهذا أمر آخر، وأما الذي أقر به الشيخ سعيد هو: "لم يكن في نيتي التمرد في البداية وإنني وقعت تحت وطأة ظروف غلبتني"(2).
... فرحم اللَّه الشيخ سعيد ورحم الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل اللَّه غيرة وحمية لهذا الدين.
... سابعاً: وأما النموذج الأخير فهو النموذج الذي صار محصلة القوى القومية الكردية التي رفعت راية الإصلاح يداً بيد مع القوميين الأتراك والقوميين العرب ومعهم بعض الواهمين ممن وقع تحت تأثير شعاراتهم في محاربة الاستبداد والمطالبة بالحرية والعدالة(3).
__________
(1) المرجع السابق: 28.
(2) انظر د. آزاد كرمياني، محاكمة الشيخ سعيد بيران، مرجع سابق، 14.
(3) انظر د. عثمان علي، الأسس الفكرية للحركة القومية الكردية، الحلقة الثانية: 20.(3/42)
... فقد آل أمر القوميين الأكراد الذي شربوا العلمانية والأفكار الغربية وأصبحوا يروجون لنظرية التطور لداروين للمروق من الإسلام وحتى قال أحد قادتهم وهو جليل جليلي: "إن الحروف العربية سبب تخلف الكرد لأنها أحد الأسباب الرئيسية لعزلة الشعب الكردي عن الحضارة الأوربية وعلمها وعن الأفكار التقدمية"(1).
... بل أوحت فرنسا إلى الأرمن لاحتواء القوميين الأكراد لتأسيس جمعية قومية كردية تسعى لتحرير كردستان من الحكم التركي..!! وسميت الجمعية بـ(خويبون) وكانت تخضع في تمويلها للأرمن والفرنسيين وذلك لتتحول اليد التي كانت الدولة العثمانية تؤدب بها المستعمرين وأتباعهم الأرمن إلى يد تضرب الترك لتنتقم للأرمن من رفاق الطريق القوميين الأتراك والانسلاخ عن الإسلام بدل الرجوع إليه بعد بطلان فكرتهم وفشل حركتهم..!!؟(2)
المبحث الرابع:
النورسي وثقافة العصر
... الإمام النورسي جوهرة منشورية تنعكس فيها ألوان الطيف كلها في تناسق وانسجام وكذلك كانت حياته، فهو الطالب الذكي الوقاد الحافظة، ثم سعيد المشهور بعلمه في وسط أهله وذويه من أهل الأناضول ثم نال لقب بديع الزمان بعد أن أضاف إلى علمه الأصيل علوم العصر بأنواعها فأخذ من كل فن قسطاً وأتقنه فصار مدركاً لمسار الثقافة في عصر لا سيما وأنه قد درس العلوم المعاصرة من مصادرها الغربية في الرياضيات والفلسفة والجيولوجيا والجغرافية والتاريخ والفيزياء .. حتى صار أعجوبة زمانه(3).
إدراكه للخطر الثقافي:
__________
(1) انظر نفس المرجع: 18 نقلاً عن نهضة الأكراد الثقافية: 119.
(2) انظر: نفس المرجع السابق: 20.
(3) د. أحمد نوري النعيمي، الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، مرجع سابق: 57.(3/43)
... ومع شغفه العلمي لم يتحول هذا الشغف والحب إلى ترف فكري وشهوة ذاتية وإنما كان علمه للعمل وكانت الفترة التي يعيشها فترة صراع فكري بين غرب فتي تقني يتطلع إلى قيادة البشرية بعد أن أخذها المسلمون من الدولة القيصرية والكسروية وقادوا العالم برسالة الإسلام.
... ولكن القانون المستمر بين الحق والباطل {ولا يزالون يقاتلونكم ليردوكم عن دينكم إن استطاعوا ... الآية}(1).
... وقانون التدافع سنة كونية لضبط حركة الصراع {ولولا دفع اللَّه الناس بعضهم لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم اللَّه ... الآية}(2).
... لذلك بدأ الغرب يخطط لأخذ قيادة البشرية مرة أخرى لتكون في يده. وكان الإمام النورسي حاضر القلب والذهن لهذه المخططات وقد زادها توقداً عندما قرأ تصريح وليم غلادستون (ت1898م)(3) - وزير المستعمرات البريطاني في ذلك الوقت ورئيس الوزراء بعد ذلك - أمام مجلس النواب البريطاني وهو يحمل المصحف بيده فيقول: "ما دام هذا القرآن موجوداً في يد المسلمين فلن نستطيع أن نحكمهم فإما أن نأخذه من يد المسلمين أو نقطع صلتهم به"(4).
__________
(1) سورة البقرة، رقم الآية 217.
(2) سورة الحج، رقم الآية 40.
(3) وليم إيوارت جلادستون (1809 – 1898م) سياسي بريطاني تولى رئاسة حزب الأحرار (1868م) وصار رئيساً للوزارة فضلاً عن مناصب وزارية أخرى، الموسوعة الثقافية، 252.
(4) انظر، أورخان محمد علي، سعيد النورسي رجل القدر في حياة أمة شركة ( التسل) للطباعة استانبول 1416هـ- 1995م ط1 : 26، وانظر Par Maryam Jamilah, "Bediuzzaman Said Nursi, Le Sauveurde Islam on Turquie, p. 15.(3/44)
... فهم النورسي الرسالة والاستراتيجية الغربية على لسان رئيس وزراء بريطانيا العظمى..!! والتي حددت الطريق العسكري والثقافي سبيلاً للاستيلاء على بلاد المسلمين، وسارت السياسة الغربية بالاتجاهين الهيمنة العسكرية ولكن تسبقها الهجمة الثقافية وذلك بتسريب شتى الأفكار التي يمكن أن تفسد عقائد المسلمين وأفكارهم وتوجهاتهم للإصلاح.
ردّ التحدي:
... وكان رد الفعل الموزون لدى النورسي قولته المشهورة: "لأبرهنن للعالم بأن القرآن شمس معنوية لا يخبو سناها ولا يمكن إطفاء نورها".
وكانت منهجيته لمواجهة التحدي كالآتي:
أولاً - المواجهة بالرجوع إلى القرآن فهو القول الفصل:
فألّف كتاب إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز، في بيان إعجاز القرآن الكريم، لأنه المعجزة التي تواجه الباطل في كل زمان ومكان بما يظهر من جمال إعجازه وقد حدد النورسي ذلك بقوله(1):
... "لقد أحسّ سعيد القديم بفيض من القرآن أنه سيظهر في هذا الزمان المتأخر كفار لا يهتدون بكتاب ومنافقون من الأديان السابقة كما ظهروا في بداية الإسلام فاكتفى ببيان النكات الدقيقة من دون أن يخوض في حقيقة مسلكهم وبيان نقاط ارتكازهم تركها مجملة دون تفصيل"(2).
ثانياً – استيعاب معارف عصر:
__________
(1) نفس المرجع.
(2) الإمام النورسي، إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز، تحقيق إحسان الصالحي، نشر دار الأنباء للطباعة والنشر، الرمادى، العراق (1409هـ – 1989م) ط1: 23.(3/45)
... ومن خلال دراسته لعلوم العصر والاطلاع على نظرياتها في الاجتماع والاقتصاد والسياسة والعلوم البحتة الأخرى كالفيزياء والكيمياء والرياضيات وظف هذه العلوم لمناقشة نظرية دارون في أصل الأنواع والتي أراد المتغربون أن يجعلوها سبباً لإنكار الخالق..!! فتصدى لهم وكذلك في النظريات الأخرى في السياسة والاجتماع(1).
ثالثاً – تفكيره في إنشاء جامعة إسلامية عصرية:
... تجمع بين علوم الشرع والعلوم العصرية للوقوف أمام الغزو الفكري ولتخرج جيلاً جديداً من المثقفين الذين يستطيعون أن يحاوروا أبناء عصرهم ويواجهوا شبهات أعدائهم ويستنبطوا الأحكام المناسبة للحوادث المستجدة. وأن يخرج جيلاً من القادة الفكريين والعلماء المتنورين لقيادة الأمة.
__________
(1) انظر Sukran Vahide, Beduizzaman Said Nursi, Sozler Publications, Istanbul (1412H-1992), p. 33. وانظر أورخان محمد علي، مرجع سابق: 29 – 31، 34، واستمر يحاول إنشاء الجامعة فاستجاب له السلطان وحيد الدين وتبرع له بمبلغ عشرين ألف ليره ولكن ظروف الحرب العالمية الأولى حالت دون إتمام المشروع، وعرض الأمر بعد ذلك سنة 1922م على مجلس النواب فوافق وتبرع بمبلغ (150) ألف ليرة ولكن العلمانيين رفضوا ذلك مدعين عدم الحاجة إلى جامعة إسلامية..!! انظر الدكتور علي القره داغي، مقدمة رسالة الإنسان والإيمان للنورسي، نشر دار الاعتصام، مصر (1403هـ – 1983م)، ط1: 29.(3/46)
... وأن يكون مكانها في شرق الأناضول في كردستان على ضفاف بحيرة وان، وكان ذلك سنة 1907 وعرض المشروع على السلطان عبد الحميد الثاني من غير أنه لم يلتق به ولكنه أوصل إليه مقترحه بالنسبة للجامعة ومطالبه الأخرى الإصلاحية ولكن يبدو أن السلطان أخطأ في فهم مطالبه أو وشى به أحد إلى السلطان فأصابه الضرر، ومع ذلك فإنه كان يكن الاحترام للسلطان عبد الحميد وكان يقول: "السلطان عبد الحميد خليفة لستين مليوناً من المسلمين وأنا أعده ولياً من أولياء اللَّه"(1).
رابعاً – دعوته إلى إنشاء مدراس في جميع أنحاء تركيا:
... تعلم العلوم الإسلامية والعصرية كما طالب بإصلاح طرق التدريس والمناهج. لإحساسه بأهمية ذلك في إعداد أجيال تستطيع الوقوف أمام التحدي الثقافي الذي تمارسه الإرساليات التبشيرية، وما تنشره الكتب والنشريات من الأفكار الهدامة. وقد تنبه السلطان عبد الحميد لهذه الفكرة وقام بإنشاء المدارس في كل مكان في الدولة العثمانية وخارجها وكان ثمرة هذا الاقتراح إنشاء أول مدرسة في الصين بطلب من الداعية عبد الرشيد إبراهيم(2).
... نخلص من هذا أن الإمام النورسي رأى أن الخطوة الأولى لمواجهة التحدي هو العلم الممدوح الذي يتضمن معارف العصر التي تدرس بضوابط الإسلام عقيدة وشريعة.
بديع الزمان النورسي ومواجهته للتيار القومي:
... لقد أدرك الإمام النورسي من خلال الظواهر التي بدأت في الساحة التركية أن التوجه هو التركيز على الطورانية كما أسلفنا وادعاء وأن الجنس والعنصر عندما يحكم نفسه بعيداً عن الأجناس الأخرى فإنه يستطيع أن يطور نفسه وبلده فلذلك نبه على هذه الآفة بقوله:
__________
(1) د. علي القره داغي :29 .
(2) نفس المرجع السابق : 30 .(3/47)
... "وشأن العنصرية هو الاعتداء إذ تكبر بابتلاع غيرها وتتوسع على حساب العناصر الأخرى"(1)، وأنّ هذا أدى إلى حروب سببت مصائب للبشرية، وبيّن أن حضارة القرآن تجعل وحدة الدين والوطن بدل الرابطة العنصرية، ونتيجة لذلك تنمو الأخوة الإسلامية بين الناس، فلذلك كانت أهم رسائله (الأخوة).
... وعلى ضوء الاستعراض الذي أوردناه في المباحث الثلاث السابقة المتعلقة بالاتجاهات القومية الثلاث الكبرى الأتراك - العرب – الأكراد يتبين لنا مدى تعقيد المشكلة التي دفعت إليها هذه القوميات الإسلامية بحيث اتحدت لتحطم كيان الخلافة وتفرقت شر ممزق عندما أرادت أن تطبق برامجها فصارت لقمة سائغة للمخططات الأوربية تلعب بها كأحجار رقعة الشطرنج.
... فلذلك أدرك كثير من المصلحين أن العلاج الناجع يبدأ ببناء الفرد مرة أخرى ولا تنفع المواجهة المجردة وقد حدد شكيب أرسلان ذلك بقوله: "تأتيني كتب كثيرة من الغرب، وجاوا، ومصر، وسورية، والعراق ونفس فلسطين مقترحاً أصحابها عقد مؤتمراً إسلامي أو ... ويكون جوابي دائماً: يجب أن نؤسس من تحت، يجب أن نربي الفرد"(2).
... ولذلك وجد بديع الزمان النورسي ضرورة إلى اقتحام الميدان بعد عزلته في بداية مرحلة سعيد الجديد ثم يعطي تفصيلاً يوضح فيه مفهوم القومية في ميزان الإسلام، لكي يسهل معالجة هذه العنصرية في النفوس ولا تخرج إلى مغالاة.
__________
(1) د. حسين جليك، بديع الزمان سعيد النورسي وفكره، الاتحاد الإسلامي، مجموعة بحوث المؤتمر العالمي لبديع الزمان سعيد النورسي (1416هـ – 1996م، استانبول، ط1: 451، وانظر أحمد النعيمي، المصدر السابق: 81.
(2) انظر إحسان الصالحي، بديع الزمان النورسي نظرة عامة عن حياته وآثاره، استانبول، Sozler Nesriyat، 1407هـ – 1987م: 52.(3/48)
... فيوضح أن الحس القومي "ذوق في النفس، ولذة تغفل، وغفوة مشؤومة" بمعنى آخر أنه إحساس فطري، فلذلك فلا يقال لأهل القومية دعوا القومية، وإنما اضبطوها بضوابط الشرع.
... والأستاذ النورسي قد قسم القومية إلى قسمين:
... 1 – القومية السلبية: فقال عنها: "وهو قسم سلبي مشؤوم مضر يتربى وينمو بابتلاع الآخرين ويدوم بعداوة من سواه ويتصرف بحذر وهذا يولد المخاصمة والنزاع، ولهذا ورد في الحديث الشريف « أن الإسلام يجب ما قبله » ويرفض العصبية الجاهلية، وأمر القرآن الكريم بـ {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل اللَّه سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان اللَّه بكل شيءٍ عليماً} (الفتح: 26) فهذه الآية الكريمة والحديث الشريف يرفضان رفضاً قاطعاً القومية السلبية وفكر العنصرية. لأن الغيرة الإسلامية الإيجابية المقدسة لا تدع حاجة إليها"(1).
... وقد عدد الأستاذ النورسي بعضاً مما سماها بأضرار القومية السلبية في العالم الإسلامي وأوربا.
... 2 – القومية الإيجابية: والتي وصفها بأنها "النابعة من حاجة داخلية للحياة الاجتماعية وهي سبب للتعاون والتساند، وتحقق قوة نافعة للمجتمع وتكون وسيلة لإسناد أكثر للأخوة الإسلامية ... هذا الفكر القومي الإيجابي، ينبغي أن يكون خادماً للإسلام، وأن يكون قلعة حصينة له وسوراً منيعاً، لا أن يحل محل الإسلام، ولا بديلاً عنه، لأن الأخوة التي يمنحها الإسلام تتضمن ألوف أنواع الأخوة ... ولهذا فلا تكون الأخوة القومية مهما كانت إلا ستاراً من أستار الأخوة الإسلامية ..."(2).
__________
(1) المكتوبات: 414.
(2) المكتوبات: 415 – 416.(3/49)
... وبالإضافة إلى محاولته أن يبين سلبيات الأولى وإيجابيات الثانية والتي لا تتنافى وعقيدتنا الإسلامية، فإنه فرّق بين المدنية الحاضرة والمدنية التي تتضمنها الشريعة الأحمدية في خمسة خواص لكل منهما فقال عن جهة الوحدة في الأولى: "الرابطة الدينية والوطنية والصنفية بدلاً من العنصرية والقومية وهذه الرابطة من شأنها الأخوة المخلصة والمسالمة الجادة والدفاع فقط عند الاعتداء الخارجي".
... ووصف رابطة المدنية الحاضرة الثانية بين الكتل البشرية بأنها: "العنصرية والقومية السلبية التي تنمو وتتوسع وشأنها التصادم الرهيب"(1).
... بل إنه اعتبر من يعمل باسم "الأمة وفي سبيل القومية لأجل تقوية العنصرية" من "أهل البدع الهدامين" في إشاراته حول الآية الكريمة: {فآمنوا باللَّه ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن باللَّه وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} (الأعراف: 158)(2).
... وطُرِح تساؤل عليه حول من أقوى وأولى بالالتزام؟ الحمية الدينية أم الملية القومية؟ فقال لمن سأله وكان ممن تعلم العلوم الحديثة:
__________
(1) المكتوبات: 607.
(2) المكتوبات: 566.(3/50)
... "نحن معاشر المسلمين، الدين والملية عندنا متحدان بالذات، والاختلاف اعتباري، أي ظاهري عرضي، بل الدين هو حياة الملية وروحها فإذا ما نظر إليهما بأنهما مختلفان ومتباينان فإن الحمية الدينية تشمل العوام والخواص بينما الحمية الملية تنحصر في واحد بالمائة من الناس ممن يضحي بمنفعته الشخصية لأجل الأمة وعليه فلا بد أن تكون الحمية الدينية أساساً في الحقوق العامة، وتكون الملية خادمة منقادة لها وسائدة حصينة لها ... فنحن الشرقيين لا نشبه الغربيين، إذ المهيمن على قلوبنا الشعور الديني، فإن بعث الأنبياء في الشرق يشير به القدر الإلهي إلى أن الشعور الديني وحده هو الذي يستنهض الشرق ويسوقه إلى الرقي والتقدم ..."(1).
... وهكذا لم يستطع الإمام النورسي أن يقف مكتوف الأيدي فخرج من شخصيته (سعيد الجديد) المعتزل المتأمل إلى شخصية (سعيد القديم) أي الناصح الناقد للأمور السياسية والاجتماعية ليكتب بحثاً مفصلاً عن القومية، فقال: "اضطررت إلى كتابة هذا المبحث بنية خدمة القرآن العظيم وعلى أمل إنشاء سد أمام الهجمات الظالمة"(2).
الإمام النورسي في مواجهة تحديات الاتحاديين:
... جاءت جمعية الاتحاد والترقي إلى سدة الحكم بانقلاب سلمي سنة (1908م) وهو ما سمي بالمشروطية، وكان النورسي في مدينة سلانيك في هذا الوقت والتقى ببعض قادة الاتحاد والترقي ومنهم (قره صو) اليهودي الماسوني المشهور وحاول (قره صو) ضم النورسي إلى جمعية الاتحاد والترقي ولكنه فشل في ذلك بل قال: "كاد أن يجعلني مسلماً..!!"(3).
... وعندما أعلن الدستور (المشروطية) وقف النورسي خطيباً في سلانيك يؤيد ذلك لإيمانه بالحرية والشورى(4).
__________
(1) بديع الزمان سعيد النورسي الخطبة الشامية ترجمة و تحقيق إحسان قاسم الصالحي- سوزلر استانبول 1409هـ – 1989م : 77.
(2) المكتوبات: 413 – 414.
(3) أورخان محمد علي: مرجع سابق: 38.
(4) نفس المرجع: 37.(3/51)
... وبدأت ظواهر الفساد تدب وتبرز إلى السطح بعد أن خدعت كثيراً من المفكرين بكلام معسول عن الاستبداد والحرية والمساواة والإخاء..!! وبدأ سيل الصحف يمارس دوراً جديداً للترويج للعلمانية والأفكار الغربية وتجاوز الأمر إلى ظهور المقالات والكتب الإلحادية لأن الميدان قد خلا بعد السلطان عبد الحميد للمفتونين بالحضارة الغربية ومن الصحف التي شاعت (الفلسفة) (الذكاء) (البيانو)(1).
... ولذلك بادر النورسي إلى الانضمام إلى جمعية (الاتحاد المحمدي) التي أسسها بعض أهل الغيرة من وجوه المجتمع لمواجهة الأفكار الجديدة التي بدأت تدندن حول القومية التركية وتجعلها المنطلق وتروج للطورانية(2) كما بينا في المبحث الخاص بالقومية التركية.
... وحضر الإمام النورسي اجتماع الافتتاح وألقى خطبة حث فيها على التمسك بالإسلام وتكلم بالقضايا المهمة(3)، "وفي هذه الصفحة يبدأ كفاح بديع الزمان في خط الاتحاد الإسلامي"(4).
... وقد حاولت جمعية الاتحاد والترقي أن تغريه لقبول عضويتها وكان مصطفى كمال أتاتورك هو الذي دعاه لذلك ولكنه أجاب بقوله: "إنني أريد أن أجاهد في أخطر الأمكنة وليس من وراء الخنادق وأنا أرى أن مكاني هذا أخطر من الأناضول".
... وأول احتكاك مع الانقلابيين كان عند وصوله إلى مجلس النواب سنة (1922م) فوجد أن معظم النواب لا يؤدون الصلاة فصرخ صرخته:
... "يا أيها المبعوثون إنكم مبعوثون ليوم عظيم" وغضب مصطفى كمال لذلك فقال: إننا بحاجة إلى أستاذ قدير مثلك، لقد دعوناك إلى هنا للاستفادة من آرائك المهمة، ولكن أول عمل قمت به لنا هو الحديث عن الصلاة، لقد كان أول جهدكم هنا هو بث الفرقة بين أهل هذا المجلس..!!
... فأجابه بديع الزمان مشيراً إليه بإصبعه في حدة:
__________
(1) نفس المرجع: 38.
(2) نفس المرجع: 40.
(3) نفس المرجع السابق.
(4) د. حسين جليك، مرجع سابق: 538.(3/52)
... "باشا .. باشا .. إن أعظم حقيقة تتجلى بعد الإيمان هي الصلاة وإن الذي لا يصلي خائن وحكم الخائن مردود"(1).
... وابتدأت بعد ذلك التعويقات والسجون والمحاكمات مما ألجأه ذلك إلى أن يختط منهجية في الدعوة أسماها بمرحلة (سعيد الجديد) وكانت هذه سنة (1926م) حيث أدرك أن أي مواجهة لا تنفع وأن قضاء اللَّه واقع والعاصفة قوية والتحدي هو تحدّ حضاري حضارة فتية علمانية المنهج متنوعة الوسائل متحدة القوى اتبعت خططاً متنوعة للإجهاز على الدولة العثمانية حتى أرهقتها على الرغم من محاولات السلطان عبد الحميد على الوقوف في وجه هذه الحضارة الغازية ولكن الداء قد بلغ منتهاه فالعلمانيون روجوا لأفكارهم ليل نهار وتمدهم قوى الكفر كلها بالمال والأفكار والرجال.
... فالحكمة إذاً أن يبدأ من أول خطوة وهي إصلاح الفرد فبدأ بالخلوة لنفسه للتفكر للوصول إلى الخطة الأوثق والاجتهاد الذي يناسب المرحلة، ووجه الأستاذ النورسي جهده إلى الدعوة إلى الأخوة ونبذ الفرقة فوجه خطابه إلى جميع القوميات.
خطابه إلى القوميين الأتراك:
... وجه خطابه للقوميين الأتراك محذراً من الانحراف في الفهم الذي يؤدي إلى النظر إلى القوميات الأخرى نظر العدو للعدو لا نظر الأخ المسلم لأخيه المسلم.
... فيقول: "يا أبناء الوطن من أهل القرآن" فهو يفجر فيهم حقيقة الانتماء ويحذرهم دسائس الشيطان فيقول:
... إن بعض الملحدين الذين يشغلون مناصب مهمة يشنون هجوماً ... إذ يقولون أنتم أتراك وفي الأتراك أصناف العلماء .. وإنما سعيداً هذا كردي فالتعاون مع من ليس من قوميتكم ينافي القومية"(2).
... وحث على الأخوة الكردية التركية بقوله: "الأتراك هم عقلنا ونحن قوتهم" وأن الحياة الاجتماعية للأكراد مرتبطة بحياة وسعادة الأتراك(3).
__________
(1) إحسان الصالحي، مرجع سابق: 52 – 53.
(2) د. حسين جليك، مرجع سابق: 544.
(3) نفس المرجع: 443.(3/53)
... وقوله: "يا أيها الأخ التركي احذر وانتبه!! أنت بالذات فإن قوميتك امتزجت بالإسلام امتزاجاً لا يمكن فصلها عن الإسلام، ومتى حاولت عزلها عن الإسلام فقد هلكت إذاً وانتهى أمرك ألا ترى أن جميع مفاخرك في الماضي قد سجلت في سجل الإسلام وأن تلك المفاخر لا يمكن أن تمحى من الوجود قطعاً فلا تمحها أنت من قلبك!؟"(1).
... وينقل حسه ككردي بكل إخلاص ليزيل ركام القومية عن قلب أخيه التركي فيقول: "قلت لأحد طلابي الأكراد الغيورين: لقد خدم الأتراك الإسلام كثيراً، فكيف تراهم؟ قال: إني أفضل تركياً مسلماً على شقيقي الفاسق".
... وعندما سألته بعد سنين حين درس في استانبول ولمس العنصرية التركية وسأل نفس السؤال فقال: إنني أفضل الآن كردياً فاسقاً ... على تركي صالح..!!
... ولذلك كان الأستاذ النورسي يكرر كلامه في نصح الأتراك لأنهم أهل الشوكة ولا زالت الدولة العثمانية تحت إدارتهم مع وجود السلطان وإن كان بصورة رمزية ويحذرهم من الملحدين الذين يتحركون باسم القومية من اليهود والماسون فيقول: "أقول لأولئك الملحدين .. المتسترين تحت ستار التركية وهم في الحقيقة أعداء الأمة التركية أقول لهم: إنني على علاقة وثيقة جداً بمؤمني هذا الوطن الذين يسمون بالأتراك المرتبطين ارتباطاً قوياً، وبأخوة صادقة أبدية حقيقية باسم الإسلام لأبناء هذا الوطن الذين رفعوا راية القرآن خفاقة عزيزة في ربوع العالم أجمع زهاء ألف عام، أما أنت أيها المخادع المدعي فليس لك إلا أخوة مجازية غير حقيقية ومؤقتة مبنية على العنصرية والأغراض الشخصية"(2).
... وقد تخلى الأستاذ النورسي عن لقبه (الكردي) الذي كان يستخدمه كي لا يؤدي ذلك إلى الاستغلال العنصري فترك لقب (كردي) واتخذ لقب (نورسي) نسبة إلى قريته ومسقط رأسه.
__________
(1) المكتوبات: 417.
(2) د. حسين جليك، مرجع سابق: 545.(3/54)
... ولذلك عندما جاءه مندوب الشيخ سعيد بيران يدعوه للمشاركة في الثورة ضد سياسة مصطفى كمال أتاتورك العنصرية ولإعادة الخلافة قال له الأستاذ النورسي في حواره:
... قال الأستاذ النورسي: ومن ستحارب؟
... حسين باشا: سنحارب مصطفى كمال.
... سعيد النورسي: ومن هم جنود مصطفى كمال؟
... حسين باشا: إنهم جنود!
... سعيد النورسي: إن جنوده أبناء هذا الوطن، هم أقرباؤك وأقربائي فمن نقتل؟ ومن سيقتلون؟ فكر .. وافهم. إنك تريد أن يقتل الأخ أخاه.
... هكذا يخاطب سعيد النورسي الكردي حسين باشا الكردي عن الأتراك، فأي صفاء هذا(1).
... ثم كان يحاول أن يخرج بهم إلى الأخوة العالمية الفسيحة بقوله "أيها النواب السائلون: إن في الشرق حوالي خمسة ملايين من الأكراد وحوالي مائة مليون من الإيرانيين والهنود وسبعين مليوناً من العرب وأربعين مليوناً من القفقاس فهؤلاء جميعاً تربطهم الأخوة وحسن الجوار وحاجة بعضهم إلى بعض"(2).
... وينحو منحى الموضوعية والنقاش العلمي في عرض قضية القومية، فيقول:
... "لا يقاس الدين الإسلامي بالنصرانية إذ أن تقليد الأوربيين في إهمالهم دينهم تقليداً أعمى خطأ جسيم.
... لأن الأوربيين متمسكون بدينهم أولاً، والشاهد على هذا في المقدمة (ولسن توماس) – رئيس الولايات المتحدة – (ولويد جورج) – سياسي بريطاني كان وزيراً للخارجية -(3) وغيرهم.
... إنه عندما كانت أوربا متمسكة بدينها لم تكن متحضرة وعندما تركت التزام دينها تحضرت!!!
... وعانت أوربا من استغلال الحكام المستبدين للدين وسيلة لسحق العوام والفقراء.
... أما في الإسلام فلم يصبح الدين سبباً للنزاع الداخلي إلا مرة واحدة، وقد ترقى المسلمين – بالنسبة لذلك الوقت – رقياً عظيماً ما ملكوا الدين واعتصموا به.
__________
(1) إحسان الصالحي، مرجع سابق: 571، وأورخان محمد علي، مرجع سابق: 79 – 81.
(2) د. حسين جليك، مرجع سابق: 543.
(3) المكتوبات: 418.(3/55)
... ثم إن الإسلام حامي الفقراء والعوام من الناس.
... وإن الإسلام يحمي أهل العلم ويستشهد العقل والعلم ويوقظهما في النفوس.
... إن أساس الإسلام التوحيد الخالص فلا وسائط. أما في النصرانية فإن فكرة البنوة تعطي أهمية للوسائط"(1).
خطاب الشيخ النورسي للأكراد:
... وكان الشيخ بديع الزمان النورسي الكردي يحس بمشاعر قومه وحاجتهم إلى العناية من ناحية التعليم والثقافة فلذلك قدم مطالبه للسلطان لتطوير شرق الأناضول.
... فضلاً عن تقديمه النصح لقومه وكان يرى ابتداءً أن الحركة القومية عامة من صنع الأوربيين واليهود فكان الأستاذ النورسي حازماً في هذا الأمر لا يساوم فيه حتى مع الأكراد ورد على أحد المشايخ اسمه عمر أفندي حول الحركة الكردية بقوله: "إن مثل هذه الحركة وهذا التصرف مخالف للشريعة، وأغلب الظن أن مصدرها ومثيرها الأصابع الخارجية لا يمكن جعل المطالبة بالشريعة آلة وذريعة لمخالفة الشريعة نفسها"(2).
... وقال لمجموعة من الشيوخ الأكراد من مدينة وان: "هل جئتم بأفكار سلبية مرة أخرى؟ إن الأمة التركية تزعمت الإسلام على أحسن ما يرام وتتزعم هذه الأمة الإسلام بعد الآن فتخلوا عن تلك الحركات السيئة"(3).
... ثم وصلت رسالة من الشيخ سعيد بيران نفسه يدعوه للاشتراك في الثورة فرد عليه في رسالة بقوله:
__________
(1) المكتوبات: 419.
(2) أحمد النعيمي، الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا: 80.
(3) نفس المرجع والصفحة.(3/56)
... "نحن مسلمون والأتراك إخواننا فلا تجعلوا الأخ يقتل أخاه فهذا لا يجوز شرعاً، إن السيف لا يشهر إلا بوجه الأعداء الخارجين فلا يستعمل السيف في الداخل، إن السبيل الوحيد أمامنا للخلاص – فبين له منهجه في التغيير – في هذا الزمان هو القيام بإرشاد الناس إلى حقائق القرآن وإلى حقائق الإيمان والقيام بمكافحة الجهل الذي هو أكبر أعدائنا لذا أرى أن تصرفوا النظر عن محاولتكم هذه لأنها محكومة بالإخفاق إذ سيهلك(1) الآلاف من الرجال والنساء بسبب حفنة من القتلة والمجرمين ..." ويقصد بهم الاتحاديين.
... وكانت هذه نظريته في التغيير كما ذكرنا سابقاً، ولم ينج الأستاذ بديع الزمان مع نصحه لسعيد بيران من المساءلة واستغل الكماليون ذلك وأودعوه السجن بسبب الرسائل المتبادلة بين الشيخين ومع أنه كان ناصحاً للشيخ سعيد بأن لا يستخدم السلاح.
... وحاول أهل مدينة (وان) حمايته ولكن رفض ذلك وقال: "إنني أذهب بكامل رغبتي إلى الأحضان الرحيمة للأمة التركية في الأناضول .. أتمنى لكم السلامة والعافية"(2).
... هكذا كان يربي طلابه ويوجه الأكراد ويحاول أن ينتشل جرثومة القومية التي سرت في نفوس الأتراك .
... ولكن القوميون قد ألحّوا وركبوا سبيل الشيطان كما ذكرنا إذ اتفقوا مع الأرمن ضد الأتراك وكل ذلك بسبب عوج الفهم والخلل في الولاء لهذا الدين.
خطاب الإمام النورسي للعرب:
... وقد كان للعرب حظ ومكان في قلب الأستاذ النورسي(3) وأرضهم مهد الإسلام، ومنها انطلق نوره إلى بقاع الأرض، لذلك قام برحلة خاصة إلى بلاد الشام في شتاء (1327هـ – 1911م)، أحد أبرز منابع القومية العربية، وألقى خطبة باللغة العربية في (الجامع الأموي) في دمشق تحت إلحاح العلماء وإصرارهم واستمع إلى الخطبة جمع غفير من الناس فيهم مئات من العلماء.
__________
(1) أورخان محمد علي، مرجع سابق: 114.
(2) أورخان محمد علي، مرجع سابق: 120.
(3) النورسي، الخطبة الشامية: 29.(3/57)
... وقد قال موجهاً كلامه للعرب:
... "فيا إخواني العرب الذين يستمعون إلى هذا الدرس في هذا الجامع الأموي إنني ما صعدت هذا المنبر ... لأرشدكم فشأننا معكم شأن الصبيان مع الكبار فنحن تلامذة بالنسبة إليكم وأنتم أساتذة لنا ولسائر أمة الإسلام"(1).
... "وإنما حازت جميع قبائل الإسلام وفي مقدمتها طوائف الترك والعرب نوعاً من السعادة الدنيوية بتسليمهم الأمر إلى اللَّه والرضى بقضائه وقدره ورؤية الحكمة وتلقي دروس العبرة من الحوادث بدل الرهبة والهلع لها"(2).
... وقال مذكراً إخوانه العرب بمسؤولياتهم وواجباتهم اتجاه إخوانهم الترك والقوميات الأخرى، قائلاً لهم: "لا يذهب بكم الظن أنني صعدت هذا المنبر لأرشدكم وأنصحكم بل ما صعدته إلا لأذكر حقنا عليكم وأطالبكم به إذ أن مصالح الطوائف الصغيرة(3) وسعادتها الدنيوية والأخروية ترتبط بأمثالكم من الطوائف الكبيرة العظيمة والحكام والأساتذة من العرب والترك فإن تكاسلتم وتخاذلتم يضران بإخوانكم من الطوائف الصغيرة من أمثالنا أيما ضرر"(4).
... "إنني أوجه كلامي هذا بوجه خاص إليكم يا معشر العرب العظماء الأماجد ويا من أخذتم من التيقظ حظاً أو ستستيقظون تيقظاً في المستقبل لأنكم أساتذتنا وأساتذة جميع الطوائف الإسلامية وأئمتها"(5).
... "يا إخواني الذين يضمهم هذا الجامع الأموي ويا إخواني في جامع العالم الإسلامي! اعتبروا أنتم أيضاً وقيموا الأمور في ضوء الأحداث الجسام التي مرت خلال السنوات الخمس والأربعين الماضية، كونوا راشدين يا من يعدّون أنفسهم من أولي الفكر والعلم"(6).
__________
(1) المصدر السابق: 32.
(2) المصدر السابق: 82.
(3) الطوائف الصغيرة: القوميات الصغيرة.
(4) النورسي، الخطبة الشامية: 69.
(5) المصدر السابق نفسه.
(6) المصدر السابق : 38.(3/58)
... وفي ظل ما كان يعانيه العالم الإسلامي من صراعات بما فيهم من الشعوب العربية والتركية انتبه الإمام النورسي إلى خطورة اليأس الذي سرى في نفوس من عايش سياسة الاتحاديين في بلاد الشام، وتدهور الأوضاع في العالم الإسلامي بشكل عام فقال لمن يعد للأمل محلٌ في قلبه: "إن اليأس داء قاتل وقد دب في صميم قلب العالم الإسلامي، فهذا اليأس هو الذي أوقعنا صرعى كالأموات حتى تمكنت دول غربية لا يبلغ تعدادها مليوني نسمة من التحكم في دولة شرقية مسلمة ذات العشرين مليون نسمة فتستعمرها وتسخرها في خدمتها"(1).
... "إن اليأس داء عضال للأمم والشعوب، أشبه ما يكون بالسرطان وهو المانع عن بلوغ الكمالات".
... ثم يدعوهم لمحاربة هذا الداء والقضاء عليه فليس هو من صفاتهم وخصائصهم الحميدة التي اتصفوا بها: "وهو شأن الجبناء والسفلة والعاجزين وذريعتهم وليس هو من شأن الشهامة الإسلامية قط، وليس هو من شأن العرب الممتازين بسجايا حميدة هي مفخرة البشرية، فلقد تعلم العالم الإسلامي من ثبات العرب وصمودهم الدروس والعبر".
... ثم يضع أمل الشعوب الإسلامية في اتحاد العرب والترك من أجل رفع راية الإسلام فيذكرهم: "وأملنا باللَّه عظيم أن يتخلى العرب عن اليأس ويمدوا يد العون والوفاق الصادق إلى الترك الذين هم جيش الإسلام الباسل فيرفعوا معاً راية القرآن عالية خفاقة في أرجاء العالم إن شاء اللّاه".
... وبعد أن نقل شهادات الفلاسفة والمفكرين والسياسيين الغربيين بعظمة هذا الدين وعظمة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والقرآن العظيم باعتبار (الفضل بما شهدت به الأعداء) قال: "أقول وبكل اطمئنان واقتناع إن أوربا وأمريكا حبالى بالإسلام وستلدن يوماً ما دولة إسلامية كما حَبِلت الدولة العثمانية بأوربا وولدت دولة أوربية"(2).
__________
(1) نفس المصدر و الصفحة .
(2) المصدر السابق، : 45.(3/59)
... "أيها الأخوة في الجامع الأموي: إن الإسلام وحده سيكون حاكماً قارات المستقبل حكماً حقيقياً ومعنوياً وإن الذي سيقود البشرية إلى السعادتين الدنيوية والأخروية"(1).
... وكان قد استشرف منذ وقت مبكر في بداية ظهور الصحوة الإسلامية بعد ظهور النزعات القومية والانفصالية وغيرها في الدولة العثمانية فقال مخاطباً العرب وأعلن بيقين أن المستقبل سيكون للإسلام ولن يكون لغيره من دعاة الفكر القومي والعلماني.
... "يسرني أن أزفّ إليكم البشرى يا معشر المسلمين بأنه قد أزف بزوغ أمارات الفجر الصادق ودنا شروق الشمس سعادة عالم الإسلام الدنيوية وبخاصة سعادة العثمانيين ولا سيما سعادة العرب الذين يتوقف تقدم العالم الإسلامي ورقيّه على تيقظهم وانتباههم"(2).
... "فإنني أعلن بقوة وجزم بحيث أسمع الدنيا كلها وأنف اليأس القنوط راغم أن المستقبل سيكون للإسلام وللإسلام وحده وإن الحكم لن يكون إلا لحقائق القرآن والإيمان، لذا فعلينا الرضى بالقدر الإلهي وبما قسمه اللّاه، إذ لنا مستقبل زاهر وللأجانب ماض مشوش مختلط"(3).
... ثم ينبه العرب بقوله : "وها قد أخذت الحجب التي كانت تكسف شمس الإسلام تنزاح وتنقشع، وأخذت تلك المواضع بالانكماش والانسحاب، ولقد بدأت تباشير ذلك الفجر منذ خمس وأربعين سنة"(4).
... "وها قد بزغ فجرها الصادق سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة وألف هجرية أو هو على وشك البزوغ وحتى إن كان هذا الفجر فجراً كاذباً فسيطلع الفجر الصادق بعد ثلاثين أو أربعين عاماً إن شاء اللَّه"(5)
الخاتمة وحصاد البحث
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) المصدر السابق : 31 – 32.
(3) المصدر السابق: 32.
(4) المصدر السابق : 32.
(5) المصدر السابق نفسه.(3/60)
... تبين من خلال البحث أن الدولة العثمانية كانت تواجه تحدٍ خارجي وداخلي في أواخر القرن التاسع عشر، خارجي يتمثل بالمخططات الأوربية التي كانت في أوج فتوتها تحاول إسقاط الخلافة العثمانية، ومن ثمَّ تقسيم تركتها، وأعدّت لذلك عشرات المخططات حتى بلغت مائة مخطط ومن خلال هذه المخططات تسللت إلى مجتمع الدولة العثمانية، وتوسلت بجميع الوسائل التي تكفّل لها تفتيت كيان هذه الدولة العظيمة التي تحكم قلب العالم فضلاً عن ترامي أطرافها.
... ورأى مخططو الدول الأوربية أن أفضل طريقة للتفتيت هي إثارة النعرات القومية، وإشاعة الأفكار العلمانية التي تعمل على إضعاف الوازع الإسلامي، بل التشكك في عقائده ونظمه، ليكون بالإمكان إحلال الأفكار الجديدة محل المفاهيم الإسلامية.
... ودخلت لتنفيذ مخططها هذا مدخلاً في ظاهره الرحمة وفي باطنه من قِبَلِهِ العذاب، فبدأت ترفع شعارات الإصلاح ومحاربة الاستبداد، وتطالب بالتحديث والمناداة بالدستور..!!
... وبعد خلع السلطان عبد الحميد الثاني (1909م) ومجيء الاتحاد والترقي بدأت الدعوة إلى القومية تطفو على السطح وكذلك اشتد نشاط النصارى في الشام وغيرها والشريف حسين في مكة بالمناداة بالقومية والثورة العربية.
... وقد رصد البحث هذه الظاهرة وأسبابها الخارجية والداخلية، وتجلية دور الإمام النورسي في فهم هذه الظاهرة وموقفه منها.
... ومن أهم نتائج البحث:
1 – بيان دور الدول الأوربية في إشاعة الثقافة العلمانية وتشجيع الدعوة إلى القومية.
2 – دور اليهود والماسونيين في إثارة جرثومة القومية السلبية كما يسميها الأستاذ النورسي.
3 – دور أهل الغيرة في مواجهة التحدي القومي بتحدٍ مخالف مبني على الأصالة الإسلامية.
4 – الكشف عن منهجية الإمام بديع الزمان النورسي في مواجهة الانحراف عن الإسلام بالمنهج القرآني وتفنيد الدعوة القومية والتأكيد على الأخوة الإسلامية.(3/61)
... ولعل البحث بهذا العرض قد بين بداية ظهور القوميات ومواجهة الإمام النورسي لذلك بأصالة واجتهاد مكافئ للواقع المحيط به.
وبالله التوفيق
المصادر والمراجع:
إبراهيم الداقوقي، أكراد الدولة العثمانية، أعمال المؤتمر العالمي الرابع للدراسات العثمانية حول الحياة الإدارية وبروز القوميات، مراجعة وتقديم د. عبد الجليل التميمي، تونس (1412هـ – 1992م)، مركز الدراسات والبحوث العثمانية والموروسيكية والتوثيق والمعلومات، زعفران – تونس.
إحسان الصالحي، بديع الزمان النورسي نظرة عامة عن حياته وآثاره، استانبول، Sozler Nesriyat، 1407هـ – 1987م.
أحمد النعيمي ، اليهود في الدولة العثمانية مؤسسة الرسالة – بيروت 1418 هـ – 1988م ط2.
أحمد النعيمي، الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا حاضرها و مستقبلها دار البشير عمان الأردن 1413هـ- 1993م ط1.
أحمد فهد الشوابكة، الجامعة الإسلامية، مكتبة المنار الاردن عمان 1984م-1404هـ ط1.
آزاد كرمياني، محاكمة الشيخ سعيد بيران، أمام محكمة الاستقلال، مجلة آلاي إسلام، العدد 3، السنة 11، 1418هـ – 1997م).
الإمام النورسي، إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز، تحقيق إحسان الصالحي، نشر دار الأنباء للطباعة والنشر، الرمادى، العراق (1409هـ – 1989م) ط1.
الأمير عائشة عثمان أوغلو، والدي عبد الحميد، نقله للعربية صالح سعداوي، دار البشر، عمان (1408هـ – 1988م) ط1.
أنور الجندي، العروبة والإسلام، نشر دار الاعتصام، القاهرة (1394هـ – 1976م)
أنور الجندي، معالم تاريخ الإسلام المعاصر، دار الاصلاح للطبع و الهشر مصر 1401هـ- 1981م.
أورخان محمد علي، السلطان عبد الحميد حياته و أحداث عصره دار الوثائق الكويت 1407 هـ – 1986م ط1.
أورخان محمد علي، سعيد النورسي رجل القدر في حياة أمة شركة ( التسل) للطباعة استانبول 1416هـ- 1995م ط1.
ابن منظور، لسان العرب، نشر دار المعارف بمصر.(3/62)
ارنست، أ. رامزور، تركيا الفتاة وثورة 1908م، ترجمة الدكتور أحمد صالح العلي منشورات دار مكتبة الحياة بيروت 1960م.
أمين سعيد، الثورة العربية ومأساة الشريف حسين، دار الكاتب العربي، لبنان (بدون تاريخ).
باول شمتز، الإسلام قوة الغد العالمية، ترجمة د. محمد شامه، نشر مكتبة وهبة بمصر، (1391هـ – 1971م)، ط1.
بديع الزمان سعيد النورسي الخطبة الشامية ترجمة و تحقيق إحسان قاسم الصالحي- سوزلر استانبول 1409هـ – 1989م.
جان داية، الإمام الكواكبي، فصل الدين عن الدولة، دار سوراقيا للنشر، المملكة المتحدة (1408هـ – 1988م)، ط1.
جليلي، نهضة الأكراد الثقافية، بيروت (1406هـ – 1986م).
جمال رشيد أحمد ود. فوزي رشيد، تاريخ الكرد القديم جامعة صلاح الدين أربيل – العراق 1990م 1411هـ ط1.
جميل المصري، حاضر العالم الإسلامي، نشر دار أم القرى، الأردن (1409هـ – 1989م).
جورج أنطونيوس، يقظة العرب، حركة العرب القومية، ترجمة الدكتور ناصر الدين الأسد ود. إحسان عباس، نشر دار العلم للملايين، نشر بالاشتراك مع مؤسسة فرانكلين بيروت – نيويورك (1382هـ – 1962م).
حسين جليك، بديع الزمان سعيد النورسي وفكره، الاتحاد الإسلامي، مجموعة بحوث المؤتمر العالمي لبديع الزمان سعيد النورسي (1416هـ – 1996م، استانبول، ط1.
خالقين ن. خه بات له رتى كوردستان، الترجمة الكردية من الروسية، 1971م.
زبير بلال إسماعيل، علماء ومدارس في أربيل، مطبعة الزهراء، الموصل، العراق (1404هـ – 1984م).
زنار سلوبي، في سبيل كردستان، بيروت (1407هـ – 1987م).
ساطع الحصري، محاضرات في نشوء القومية، دار العلم للملايين، بيروت (1375هـ – 1956م)، ط1.
سعد أبو مصطفى، جعل الأمة الإسلامية بواقع الأكراد، مجلة آلاي إسلام، السنة 2، العدد 1.
السلطان عبد الحميد، مذكراتي السياسية، مؤسسة الرسالة، بيروت (1406هـ 1986م)، ط5(3/63)
سوادي عبد محمد، الأحوال الاجتماعية والاقتصادية في بلاد الجزيرة خلال القرن السادس الهجري، دار الشؤون الثقافية، بغداد، العراق (1409هـ – 1988م).
سيامند عثمان، ملاحظات تاريخية حول نشأة الفكر القومي، دراسات كردية، D.I.I، 1414هـ – 1984م.
شاكر خصباك، الكرد والمسألة الكردية المؤسسة العربية للدراسات و النشر بغداد 1409هـ – 1989م ط2.
صموئيل اتينجر (محرراً ) ، اليهود في البلدان الإسلامية ترجمة الدكتور جمال الرفاعي مراجعة دكتور رشاد الشامي سلسة عالم المعرفة 197 - الكويت 1411 هـ – 1990م.
عبد العزيز الشناوي، الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها – مكتبة الانجلو مصرية – القاهرة 1982م ط1
عثمان علي، الأسس الفكرية للحركة القومية الكردية، مجلة آلاي إسلام، العدد 2، 3 (1416هـ 1995م) ماليزيا.
عثمان علي، إشكالية في انتفاضة الشيخ سعيد، مجلة آلاي إسلام، العدد 3، السنة 11، (1418هـ – 1997م).
عثمان علي، الأسس الفكرية للحركة القومية الكردية، مجلة آلاي إسلام، العدد 2، 3، السنة التاسعة، (1416هـ – 1995م).
عثمان علي، الإشكالية في انتفاضة الشيخ سعيد، مجلة آلاي إسلام، العدد 4، السنة 11، (1418هـ – 1998م).
عثمان علي، اللقاء تاريخي فريد مع الشيخ عبيد اللَّه النهري، وثيقة مترجمة من القنصل الإنجليزي في تبريز بإيران إلى وزارة الخارجية بلندن في 1/10/1881م رقم الوثيقة (23) سري للغاية، وزارة الخارجية رقم الملف (442/60)، مجلة آلاي إسلام، العدد 2، 3، السنة 9.
عثمان علي، حركة الشيخ سعيد ثورة شرعية أم دولة كردية، آلاي إسلام، العدد 3، السنة 11، 1418هـ – 1997م.
عثمان علي، مصطفى باشا يا ملكي في لقاء تاريخي مع سمكو ، وثيقة، رسالة من مصطفى باشا إلى ابنه عبد العزيز بيك بتاريخ 12/12/1921م، ورقم الوثيقة: 7781/5371، مجلة آلاي إسلام، العدد 2، السنة 10.(3/64)
علي القره داغي، مقدمة رسالة الإنسان والإيمان للنورسي، نشر دار الاعتصام، مصر (1403هـ – 1983م)، ط1.
على حسون، العثمانيون والروس، نشر المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1982م.
الفيكونت فيليب دي طرازي : تاريخ الصحافة العربية، نشر المطبعة الأدببية بيروت، الأجزاء (1 – 3)، 1913، ونشر المطبعة الأمريكانية ببيروت، الجزء الرابع (1914م)، وأعادت طبعه بالأوفست مكتبة المثنى ببغداد (بدون تاريخ): 4/هـ
كمال مظهر، كوردستان في سنوات الحرب العالمية الأولى، دكتور كامرس قفتان، جه ندلينه وه يه ك له ميزوى، بابان، سورات، بوتان، بغداد 1982.
الكواكبي، أم القرى دار الرائد العربي –بيروت 1402هـ 1982م ط2.
لويس شيخو: السر المصون في شيعة الفرمسون، المطبعة الكاثوليكية للآباء الييوعيين ، بيروت (1337هـ – 1910م).
الما ولتن، عبد الحميد ظل اللَّه في الأرض، ترجمة راشد رشيدي، القاهرة (1950).
مجدي عبد المجيد الصافوري – سقوط الدولة العثمانية و أثرة على الدعوة الإسلامية – دار الصحوة للنشر مصر 1410 هـ –1990 م ط1.
مجلة آلاي إسلام، العدد 2، 3، السنة التاسعة، جمادى الآخرة (1415هـ) نوفمبر (1995م) ماليزيا.
مجموعة مؤلفين أعلام الصحافة في الوطن العربي إصدار المنظمة العربية للتربية و الثقافة و العلوم تونس 1977م المجلد الأول.
محمد جميل بيهم، فلسفة التاريخ العلماني، مكتبة صادر، بيروت (1314هـ – 1925م).
محمد حرب عبد الحميد، مذكرات السلطان عبد الحميد دار القلم دمشق 1991 م ط3.
فتحي أوقيار، رجل في ثلاثة عهود، استانبول (1400هـ – 1980م)، ط1.
محمد فريد بك المحامي، تاريخ الدولة العلمية العثمانية، تحقيق إحسان حقي نشر دار النفائس، بيروت (1403هـ – 1983م)، ط2
محمد محمود الروجي، مصر والمسألة الشرقية، الإسكندرية، مصر، 1966م.
محمود الشاذلي، المسألة الشرقية- دراسة وثائقية عن الخلافة العثمانية نشر مكتبة وهبة، مصر 1409هـ – 1989م ط 2.(3/65)
مصطفى صبري، الاسرار الخفية وراء إلغاء الخلافة العثمانية، تحقيق ودراسة د. مصطفى حلمي، دار الدعوة، الإسكندرية (1405هـ – 1985م)، ط1.
مصطفى طوران، أسرار الانقلاب العثماني ترجمة كمال خوجة- نشر دار الإسلام 1397هـ- 1977م (بدون مكان).
مصطفى محمد، الحركة الإسلامية الحديثة في تركيا، ألمانيا الغربية (1404هـ – 1984م).
منذر الموصلي، الحياة السياسية والحزبية في كوردستان شركة رياض الريس للكتب و النشر العراق 1411هـ – 1990 ط1.
الموسوعة الثقافية، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، القاهرة – نيويورك (1392هـ – 1972م) إشراف الدكتور حسين سعيد.
الموسوعة الصحفية العربية، نشر المنظمة العربية للتربية والثقافة، تونس (1420هـ – 1997م).
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الرياض (1409هـ – 1989م)، ط2.
موفق نبي المرجه: صحوة الرجل المريض، دار البيارق، بيروت، 1996، ط8.
نديم هزار، المدارس التنصيرية، مركز البلقان للدراسات والأبحاث العلمية، استانبول (1415هـ – 1994م).
نزيه كباره ، عبد الرحمن الكواكبي مطبعة جروس بروس – طرابلس لبنان 1415هـ – 1994م ط1.
وميض جمال عمر نظمي، ثورة العشرين، مركز دراسات الوحدة العربية (1395هـ – 1985م) ط2، بغداد.
وميض جمال عمر نظمي، شيعة العراق وقضية القومية، نشر مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت (1404هـ – 1984م) ط1.
يوسف الصغير، الأكراد في عالم الاضطهاد، مجلة البيان، لندن، العدد 134.
يوسف على الثقفي، موقف أوربا من الدولة العثمانية مكتبة الملك فهد الوطنية 1417هـ – 1996م ط 1.
Andrew Mango, Turkey, Thames and Huom, 11d, London, 1968, p. 53
Cevdet Ergul, Abdul Hamidin Dogu Politikasi ve Hamidiye Alaylari, Izmir, (1997-1417).
Daid McDowall, A Modern History of the Kurds
Hee Soo Lee, Islam Ve Turk Kulturunun, Uzak Doguya Yaylimasi, 1988.(3/66)
Kamran Badr Khan, The Kurdish Problem, Royal Central Asian Studies, 36.
Kidourie Elie, Young Turkes, Free Masons and Jew
Nikkie R. Keddie, An Islamic Response to Imperialism, University of California Press, Berkeley, Los Angeles & London, 1983.
Osmanli Ittihad ve Terkki Cemiyeti ve Jon Turkluk, (1889-1902), Iletisim Yayinlari, Istanbul- 1985.
Par Maryam Jamilah, “Bediuzzaman Said Nursi, Le Sauveurde Islam on Turquie.
Sukran Vahide, Beduizzaman Said Nursi, Sozler Publications, Istanbul (1412H-1992)
The Kurdish Nationalist Movement, Syracuse, 1967.
Wadi Jwaidda, The Kurdish Nationalist Movement, Syracuse, 1967.(3/67)
الأمثال في رسائل النور
الأمثال
في رسائل النور
د. الشفيع الماحي أحمد
جامعة الملك سعود- الرياض
تمهيد
تخلل تفسير النورسي وشرحه للعديد من الآيات القرآنية التي حملت اسم (رسائل النور) كعنوان رئيسي لها، على الكثير من الأمثال والتشبيهات ليس فقط تجسيداً أو تجسيماً لمعانيها، ولا إبرازها بصورة جلية وواضحة، بل أيضاً لكونها تمثل جزءً لا يتجزأ من رسائل النور نفسها.
غير أن طبيعة الأمثال والتشبيهات العلمية، وقوتها الفريدة على تقريب المعنى فهماً وتصوراً وتعقلاً وحفظاً، وقبول النفس لها، وسرعة انفعالها وتأثرها بها. جعلها تبدو كما لو كانت إضافة لرسائل النور ومتممة لها، ومن ثم نظر إليها كشواهد مستقلة ومنفصلة عن معانيها، مما حدا بالنورسي إلى بيان ما حمله على ذلك بقوله:
"إن سبب إيرادي التشبيه والتمثيل بصورة حكايات في هذه الرسائل هو تقريب المعاني إلى الأذهان من ناحية، وإظهار معقولية الحقائق الإسلامية، ومدى تناسبها ورصانتها من ناحية أخرى، فمغزى الحكايات إنما هو الحقائق التي تنتهي إليها والتي تدل عليها كناية ، فهي إذن ليست حكايات خيالية، وإنما حقائق صادقة".(1)
وبهذا التعليل أعاد النورسي الأمثال إلى رسائل النور، وذلك لتشكل في سياق أحاديثه وكتاباته أداة لا غنى لها لتفسير الآيات القرآنية، وبما يناسب استعداد قراءته ومستمعيه العقلية، وقدراتهم الذهنية على الفهم والاستيعاب، حتى يتحقق لأبسط الناس وأقلهم دراية، اكتشاف المعنى الحقيقي لأقواله اكتشافاً ذاتياً نابتاً من دواخله، بحيث يبقى المعنى والمضمون مقروناً على الدوام بمثاله وصورته، ويحل محله إن غاب أو اختفى من الذهن.
وتهدف الفصول التالية إلى استعراض تلك الأمثال والتشبيهات بالشرح والتحليل بوصفها جزءً لا يتجزأ من رسائل النور.
- تمت - تمت
الفصل الأول
اللّه جَلّ جلاَلهُ
بسم الله
__________
(1) الكلمات – النورسي ، ص 45(4/1)
شُرعت البسملة عند ابتداء الأعمال الصالحة والخيرة بقصد أن تأتي على الدوام مقترنة ببركة اللّه تعالى، واستخدم حرف الباء عند بداية الكلمة ليقوي من ذلك الاقتران وتلك المقارنة، وليفيد في دلالته المجردة على معنى الملابسة والمصاحبة والإلصاق، أي مخالطة اسمه تعالى ومجامعته لجوانب العمل المختلفة، وذلك زيادة من البركة وثبات على صلاح العمل وخيريته، ثم نسبة ذلك كله للّه تعالى.
أما إضافة لفظة اسم إلى اللّه تعالى، فمرجعه إلى أن تلك الأعمال هي للمسلم وحده، ومن ثم فإن اسم اللّه هو الذي يجب مقارنته لها واقترانه بها، لا ذاته العلية، وذلك لأن الأعمال التي يطلب فيها العبدُ التيسير والعون والقوة هي التي يتوجه فيها إلى ذاته مباشرة، باعتبار ما للّه من صفات القدرة والخلق والتكوين وغيرها، في حين أن الأعمال التي يقصد ويراد بها التمييز والانتساب إلى اللّه هي التي يتوجه فيها إلى اسم اللّه تبركاً وتيمناً.
ولأجل هذا عدت البسملة في ظاهرها من السمات الدالة على الإسلام، وشعار ورمز للمسلمين، ومن العلائم المميزة لهم عمن سواهم من الناس، أما في حقيقة أمرها الباطنة فهي وكما يذهب النورسي قوة هائلة لا تنفد، وبركة واسعة لا تنضب أبداً، فمثّل لها بحكاية قصيرة، استهلها بقوله:
"إن البدوي الذي يتنقل في الصحراء، ويسيح فيها، لابد له أن ينتمي إلى رئيس قبيلة ويدخل تحت حمايته، كي ينجو من شر الأشقياء، وينجز أشغاله ويتدارك حاجاته، وإلا فسيبقى وحده حائراً مضطرباً أمام كثير من الأعداء، ولا نهاية لها من الحاجات".(1)
__________
(1) الكلمات – النورسي ، ص 6(4/2)
فحياة الصحراء تفرض على ساكن البادية، حيث لا سلطة يلجأ إليها عند الحاجة، ولا قوة تحميه من الأعداء، أن ينتسب إلى قبيلة لها شيخ، فيحمل شعارها وسماتها الدالة عليها، وبالتالي يمنحه هذا الانتساب قوة واقتدار تمكنه من التنقل من مكان إلى آخر بكامل الثقة والاطمئنان على سلامته الشخصية، وتتيح له قضاء حاجاته ومطلوباته بلا خوف من الأغيار ولا نفور منهم.
أما الحكاية نفسها فرواها قائلاً:
"وهكذا، فقد توافق أن قام اثنان بمثل هذه السياحة، كان أحدهما متواضعاً، والآخر مغروراً، فالمتواضع انتسب إلى رئيس، بينما المغرور رفض الانتساب. فتجولا في الصحراء، فما كان المنتسب يحل في خيمة إلاّ ويقابل بالاحترام والتقدير بفضل ذلك الاسم، وإن لقيه قاطعُ طريق يقول له:
إنني أتجول باسم ذلك الرئيس.
فيتخلى عنه الشقي، أما المغرور فقد لاقى من المصائب والويلات مالا يوصف، إذ كان طوال السفرة في خوف دائم ووجل مستمر، وفي تسول مستديم، فأذل نفسه وأهانها". (1)
فالحكاية إذن تروي اتفاق اثنين على الطواف ببلاد هي كالصحراء القاحلة، لا سلطة ولا قانون، ولكن كل منهما على طرفي نقيض:
فالأول متواضع، بعيد عن التكبر، عارف بحجمه، وفي داخل نفسه يشعر بالفقر والافتقار.
أما الثاني فمغرور، مخدوع النفس، بما وهب له من قوة واقتدار، وبها يتباهى ويتفاخر، مع تكبر وتعظم ظاهرين.
وفي الوقت الذي اتجه فيه المتواضع وكنتاج طبيعي لما يحس به من ضعف في نفسه إلى الانتماء إلى رئيس، فحمل شعار رئاسته ورمز سلطته، طرح المغرور فكرة الانتماء جانباً ولم يقبلها، مؤثراً عليها ما سولت إليه به نفسه من أنه أصيل لا يحتاج إلى غيره في الفعل والحركة، وغنى في ذاته لا يفتقر لسواه.
وأثناء الرحلة أو السياحة برزت أهمية الانتماء وقيمة الانتساب:
__________
(1) الكلمات – النورسي ، ص6(4/3)
فالمتواضع طاف بالبلاد عزيز النفس مطمئن القلب، لا يخشى عدواً ولا يرجو صديقاً. ويقابل في حلّه وترحاله بالودّ والترحاب، لا لذاته، بل لما يحمله من نسبة وانتساب إلى تلك القوة التي يتحرك باسمها.
أما المغرور فعلى العكس منه، لا يخطو خطوة إلاّ بعسر ومشقة، ولا يقابل إلاّ بالجفاء والصدود، وعرضة لخطر اللصوص وغدر الأعداء، وهكذا ظل طوال الوقت يعاني من ويلات القلق والاضطراب والخوف من المستقبل المجهول، فأورثه هذا وذاك صغار النفس وهوانها، وذلتها وانكسارها.
وفسر النورسي الحكاية التمثيلية بمقدمتها الاستهلالية بقوله:
"فيا نفسي المغرورة اعلمي أنك أنت ذلك السائح البدوي، وهذه الدنيا الواسعة هي تلك الصحراء، وأن فقرك وعجزك لا حد لهما، كما أن أعداءك وحاجاتك لا نهاية لهما، فما دام الأمر هكذا. فتقلدي اسم المالك الحقيقي لهذه الصحراء وحاكمها الأبدي لتنجى من ذل التسول أمام الكائنات، ومهانة الخوف أمام الحادثات".(1)
وعلى هذا فالبدوي في المثل مجاز للنفس البشرية المعروفة بداهة بغش صاحبها وخداعه، وتزيين ما يوهم أنه حق وصواب، والصحراء هي الحياة الدنيوية، والنفس لا يمكنها لشدة ضعفها، وذلها ومسكنتها، واختلاف مطالبها الحياتية، وكثرة أعدائها. من أن تحيا بسلام وطمأنينة إلا بالانتساب لمالك الحياة وسيدها، فتحمل اسمه شعاراً ورمزاً لها، عندئذ تتحرر من أمرين:
ذل الحاجة إلى الأغيار.
وذل الخوف مما تخبئه الأيام القادمة.
وأخيراً علق النورسي على المثل وتفسيره مبيناً فيه ما تحمله البسملة من معاني سامية، وما فيها من طاقات قاهرة، وما تدفع به في النفس من نشاط على الحركة وإخلاص في العمل قائلاً:
__________
(1) الكلمات – النورسي ، ص6(4/4)
"نعم إن هذه الكلمة الطيبة بسم اللّه كنز عظيم لا يفنى أبداً، إذ بها يرتبط فقرك برحمة واسعة مطلقة أوسع من الكائنات، ويتعلق عجزك بقدرة عظيمة مطلقة تمسك زمام الوجود من الذرات إلى المجرات، حتى إنه يصبح كل من عجزك وفقرك شفيعين مقبولين لدى القدير ذي الجلال".(1)
وهنا يكشف النورسي عن جانب آخر من جوانب عظمة البسملة، وهو أن عجز المسلم وفقره يتعلق بواحدة من أخص صفات الألوهية والربوبية، فالفقر يرتبط بالرحمة، والضعف بالقدرة، وذلك يعنى أن العبد بقوله بسم اللّه في كل عمل من أعماله يخاطب مباشرة رحمة من اللّه هي له إنعام وأفضال، وقدرة مطلقة تنفى العجز، عندئذ لا يعد الفقر فقراً ولا العجز عجزاً، بل يتحولان إلى شافعين، لا يرفض لهما سؤال ولا يرد لهما طلب.
ولا يقف ذكر اسم اللّه عند حدود الإسلام، ولا يقتصر على المسلمين وحدهم، بل يتعداه ليشمل مخلوقات اللّه غير العاقلة، فتذكر هي الأخرى اسم اللّه تعالى ولكن بلسان حالها، ومهد النورسي لذكرها ذلك بقوله:
"نعم، فكما لو رأيت أحداً يسوق الناس إلى صعيد واحد ويرغمهم على القيام بأعمال مختلفة، فانك تتيقن أن هذا الشخص لا يمثل نفسه، ولا يسوق الناس باسمه وبقوته، وإنما هو جندي يتصرف باسم الدولة، ويستند إلى قوة سلطان".(2)
يعني أن مقدرة ذلك الإنسان وسعة اقتداره على تحريك الجموع الكبيرة وإذلالهم لأداء مختلف الأعمال، ينبئ أن فعله ذلك ليس بقوته الذاتية، ولا يستند فيه على اسمه الشخصي، بل هو باسم جهة ما هي مصدر اقتداره ومنبع قوته.
ثم تناول النورسي بعد هذا نماذج من تلك المخلوقات مبيناً من خلالها كيفية تلفظها باسم اللّه تعالى، قائلاً:
__________
(1) الكلمات – النورسي ص7
(2) الكلمات – النورسي ص 7.(4/5)
"فالموجودات أيضاً تؤدي وظائفها باسم اللّه، فالبذيرات المتناهية في الصغر تحمل فوق رؤوسها باسم اللّه أشجاراً ضخمة وأثقالاً هائلة، أي أن كل شجرة تقول باسم اللّه، وتملأ أيديها بثمرات من خزينة الرحمة الإلهية وتقدمها إلينا.
وكل بستان يقول بسم اللّه فيغدو مطبخاً للقدرة الإلهية تنضج فيه أنواع من الأطعمة اللذيذة.
وكل حيوان من الحيوانات ذات البركة والنفع – كالإبل والمعزى والبقر – يقول بسم اللّه، فيصبح ينبوعاً دفاقاً للبن السائغ، فيقدم إلينا باسم الرزاق ألطف مغذ وأنظفه.
وجذور كل نبات وعشب تقول باسم اللّه وتشق الصخور الصلدة باسم اللّه، وتثقبها بشعيراتها الحريرية الرقيقة فيسخر أمامها باسم اللّه وباسم الرحمن كل أمر صعب وكل شيء صلد".(1)
ومفاد ذلك أن كلمة (بسم اللّه) المنطوقة بلسان حال تلك المخلوقات هي بمثابة نقطة ارتكاز تستند عليها في أداء وظائفها الحياتية، وقوة تنجز بها من الأعمال ما يعد – إذا قورنت بأحجامها – من قبيل المعجزات وخوارق العادات، وهي بهذا تعلن بأنها كغيرها ممن وهبوا العقل، وخصوا بالفهم عنه، تنتسب إلى اللّه بصفة المخلوقية، وتلك النسبة هي سبب لكل ما يصدر عنها من أعمال، وتحمل تبعاً لذلك الاسم كشعار ورمز تظهر به عبوديتها القهرية للّه تعالى.
اسم الله الأعظم
شبّه النورسي مظاهر وتجليات اسم اللّه على الوجود بالسلطان الذي له:
"عناوين مختلفة في دوائر حكومته، وأوصاف متباينة ضمن طبقات رعاياه، وأسماء وعلامات متنوعة في مراتب سلطنته. فمثلاً: له اسم الحاكم العادل في دوائر العدل، وعنوان السلطان في الدوائر المدنية، بينما له اسم القائد العام في الدوائر العسكرية، وعنوان الخليفة في الدوائر الشرعية، وهكذا له سائر الأسماء والعناوين، فله من كل دائرة من دوائر دولته مقام وكرسي بمثابة عرض معنوي له.
__________
(1) نفس المصدر.(4/6)
وعليه يمكن أن يكون ذلك السلطان الفرد مالكاً لألف اسم واسم في دوائر تلك السلطنة، ومن مراتب طبقات الحكومة، أي يمكن أن يكون له ألف عرش وعرش في العروش المتداخل بعضها في بعض، حتى كأن ذلك الحاكم موجود وحاضر في كل دائرة من دوائر دولته، ويعلم ما يجري فيها بشخصيته المعنوية. وهاتفه الخاص، ويشاهد ويشهد في كل طبقة من الطبقات بقانونه ونظامه وبممثليه، ويراقب ويدير من وراء الحجاب كل مرتبة من المراتب بحكمته وبعلمه وبقوته، فلكل دائرة مركز يخصها وموقع خاص بها، أحكامه مختلفة وطبقاته متغايرة". (1)
إن وجود السلطان في قمة الهرم السياسي للدولة والمجتمع يخول له هيمنة مطلقة ونفوذ شامل في كل مناحي الحياة، ويظل اسمه يتردد وبصفة دائمة ومتكررة في كل أنشطة المملكة الإدارية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والقضائية والتربوية وغيرها، وفي صور وأشكال متنوعة وفي منتهى التباعد والاختلاف.
وعلى هذا فالسلطان له ألوف الأسماء والعروش في حدود دولته ومجتمعه. فكأنه موجود به بشخصيته الاعتبارية في كل مكان، وعالم بشخصيته المعنوية بكل شيء. ويُشاهد بشخصيته القانونية في كل مرتبة من مراتب الناس. ويدير بشخصيته القوية كل مناشط الحياة.
فإذا كان هذا هو السلطان الزائل، فإن رب العالمين وهو كما يقول النورسي سلطان الأبد والأزل:
__________
(1) الكلمات – النورسي ، ص375.(4/7)
"له ضمن مراتب ربوبيته شؤون وعناوين مختلفة، لكن يتناظر بعضها مع بعض، وله ضمن دوائر ألوهيته علامات وأسماء متغايرة، لكن يشاهد بعضها في بعض، وله ضمن إجراءاته العظيمة تجليات وجلوات متباينة، لكن يشابه بعضها بعضاً، وله ضمن تصرفات قدرته عناوين متنوعة حتى يشعر بعضها بعضاً، وله ضمن تجليات صفاته مظاهر مقدسة متفاوتة، لكن يُظهر بعضها بعضاً، وله ضمن تجليات أفعاله تصرفات متباينة لكي تكمل الواحدة منها الأخرى، وله ضمن صنعته ومصنوعاته ربوبية مهيبة متغايرة لكي تلحظ إحداها الأخرى".(1)
والمستفاد من العبارة السابقة أن مشيئة اللّه وإرادته نافذة وماضية في خلقه، وضمن مراتب ودوائر وإجراءات وتصرفات وتجليات للأسماء والصفات والأفعال قد تبدو في ظاهرها مختلفة ومتغايرة وفي غاية التباين، ولكن كل منها يكمل الآخر في إطار تلك المشيئة الشاملة.
هذا عن المشيئة بشكل عام، أما على وجه الخصوص فيقول النورسي:
"ومع هذا يتجلى عنوان من عناوين اسم من الأسماء الحسنى، في كل عالم من عوالم الكون، وفي كل طائفة من طوائفه، ويكون ذلك الاسم حاكماً مهيمناً في تلك الدائرة، وبقية الأسماء تابعة له هناك، بل مندرجة فيه.
ثم إن ذلك الاسم له تجل خاص وربوبية خاصة في كل طبقات المخلوقات، صغيرة كانت أو كبيرة، قليلة كانت أو كثيرة، خاصة أو عامة، بمعنى أن ذلك الاسم وإن كان محيطاً بكل شيء وعاماً، إلا أنه متوجه بقصد، وبأهمية بالغة إلى شيء ما، حتى كأن ذلك الاسم متوجه فقط وبالذات إلى ذلك الشيء، وكأنه خاص بذلك الشيء".(2)
__________
(1) الكلمات – النورسي ، ص375، 376.
(2) الكلمات – النورسي ، ص 376.(4/8)
وعلى هذا فإن كل اسم من أسماء اللّه يظهر في كل جانب من جوانب الكون، وفي كل مخلوق من مخلوقاته، وله فيها أثره المباشر، وباقي الأسماء داخلة فيه وتابعة له. بمعنى أن ذلك الاسم وإن اتخذ صفة العمومية، إلا أنه في تعلقه وظهوره وتأثيره يأخذ صفة الخصوصية في توجهه لشيء ما ، أي كأنه يتوجه إلى ذلك الشيء وحده.
وتفسير ذلك ومردّه إلى أن اسم الذات العلية (اللّه)، يشتمل على جميع الأسماء، ويتجلى فيها بحسب ظهورها ومظاهرها في الوجود، ومن ثم فله بالنسبة إلى غيره من الأسماء اعتبارات:
باعتبار ظهور ذاته العلية في كل واحد من الأسماء
وباعتبار اشتماله على الأسماء الإلهية كلها، وذلك من حيث مرتبة الألوهية الجامعة للأسماء والصفات.
وجود الله
لم يجد النورسي في إجابته على سؤال وجّه إليه عن أدلة وبراهين وجود اللّه ووحدانيته إلا أن يمهد له بمثال ، جاء فيه:
"إن الذي يملك قدرة معجزة ومهارة فائقة، إذا ما أراد أن يبنى قصراً عظيماً فلا شك أنه قبل كل شيء يرسى أساسه بنظام متقن، ويضع قواعده بحكمة كاملة وينسقه تنسيقاً يلائم لما يبنى لأجله من غايات وما يرجى منه من نتائج.
ثم يبدأ بتقسيمه وتفصيله بما لديه من مهارة وإبداع إلى أقسام ودوائر وحجرات، ثم نراه ينظم تلك الحجرات ويزينها بروائع النقوش الجميلة. ثم ينور كل ركن من أركان القصر بمصابيح كهربائية عظيمة، ثم لأجل تجديد إحسانه وإظهار مهارته نراه يجدد ما فيه من الأشياء، ويبدلها ويحولها، ثم يربط بكل حجرة من الحجرات هاتفاً خاصاً يتصل بمقامه، ويفتح من كل منها نافذة يُرى منها مقامه الرفيع".(1)
يعنى أن من حظي بالقدرة على الإتيان بأمور خارقة، مع حذق وبراعة في العمل والإنجاز، إذا ما فكر في بناء قصر، فإنه يضع نصب عينيه أولاً كمال البناء، ودقة صنعه وجماله، واستناداً عليها يبدأ في العمل.
__________
(1) الكلمات – النورسي ، ص 782، 783.(4/9)
أولاً: يضع قواعد وأصول للقصر تحقق أهدافه القريبة وغاياته البعيدة.
ثانياً: يقسم القصر إلى حجرات مزينة ومزخرفة بما يسر الناظرين.
ثالثاً: يعمل وبصفة مستمرة على تغييره وتبديله، بحيث يكون كل ما فيه جديد على الدوام.
رابعاً: أن يكون على اتصال مباشر ودائم بكل حجرة من حجراته.
فإذا دل ذلك القصر على بانيه، فإن هذا العالم دال أيضاً وشاهد على وجود اللّه. يقول عنه النورسي بعد ذلك التمهيد:
"وعلى غرار هذا المثال، وللّه المثل الأعلى، فالصانع الجليل الذي له ألف اسم واسم من الأسماء الحسنى، أمثال الحاكم والحكيم والعدل والحكم والفاطر الجليل الذي ليس كمثله شيء، أراد خلق شجرة الكائنات العظيمة وإيجاد قصر الكون البديع، هذا العالم الأكبر.
فوضع أسس ذلك القصر، وأصول تلك الشجرة في ستة أيام، بدساتير حكمته المحيطة، وقوانين علمه الأزلي، ثم صوّره وأحسن صوره بدساتير القضاء والقدر، وفصّله تفصيلاً دقيقاً إلى طبقات وفروع علوية وسفلية، ثم نظّم كل طائفة من المخلوقات، وكل طبقة منها بدساتير العناية والإحسان، ثم زيّن كل شيء وكل عالم، بما يليق به من جمال، فزيّن السماء مثلاً بالنجوم وجمّل الأرض بالأزاهير، ثم نوّر ميادين تلك القوانين الكلية وآفاق تلك الدساتير العامة بتجليات أسمائه الحسنى، ثم أمدّ الذين يستغيثون به مما يلاقونه من مضايقات تلك القوانين الكلية فتوجّه إليهم باسم الرحمن الرحيم، أي أنه وضع في ثنايا قوانينه الكلية ودساتيره العامة من الإحسانات الخاصة والإغاثات الخاصة والتجليات الخاصة ما يمكّن كل شيء أن يتوجه إليه سبحانه في كل حين ويسأله كل ما يحتاجه، وفتح من كل منزل ، ومن كل طبقة، ومن كل عالم، ومن كل طائفة، ومن كل فرد، ومن كل شيء نوافذ تتطلع إليه وتظهره، أي تبين وجودَه الحق ووحدانيته، فأودع في كل قلب هاتفاً يتصل به".(1)
__________
(1) الكلمات – النورسي ، ص 783.(4/10)
وعلى شاكلة المثال السابق فإن اللّه تعالى عندما أراد خلق الوجود كاملاً وجميلاً، ومحققاً للغاية المقصودة من خلقه وإيجاده، أجرى عليه الآتي.
وضع أولاً أصول وأسس الوجود وفقاً لقواعد وسنن مطابقة لعلمه المحيط بكل شيء.
ثم قسمه قسمة متوافقة مع مشيئته الأزلية إلى أنواع عديدة ومختلفة ومتباينة.
ثم سن لكل نوع من الموجودات قانونه الخاص، وبه تميز عن غيره.
ثم أفاض عليه الحسن والجمال.
ثم تجلى عليه بأسمائه الحسنى.
ثم سن سنة التوجه إليه عند جريان المشيئة الإلهية على مخلوقاته من السراء والضراء.
وأخيراً جعل كل مخلوق منهم دالاً على وجود خالقه وشاهداً عليه.
واحدية الله ووحدانيته وأحديته
إن واحدية اللّه تعالى ووحدانيته وأحديته هي من جملة أحكام الألوهية التي ظهر بها الحق عز وجل للمخلوقات باسم اللّه، ومن هذه الألوهية أقر الوجود كله بالعبودية للمعبود الواحد الأحد، وعلى الألوهية مدار الاعتقاد والتكليف.
وعالج النورسي تلك الأحكام الثلاثة ليس من المنظور العرفاني التقليدي من مباحث العقيدة، بل من منظور كشف فيه سر خلق اللّه تعالى للقلة والكثرة في آن واحد، فيقول:
"إن أكبر كلٍّ كأصغر جزء هيّن إزاء قدرة الصانع الذي يهيمن بأفعاله وتصريفه للأمور في الكون وكما هو مشاهد. فإيجاد الكلى بكثرة من حيث الأفراد سهل كإيجاد جزئي واحد، ويمكن إظهار إبداع الصنعة المتقنة في أصغر جزئي اعتيادي". (1)
يعنى أن خلق اللّه تعالى للكبير والكثير هيّن وميسور عليه كخلقه للقليل والصغير، بلا تفاوت ولا اختلاف في قدرة الخلق والإيجاد، أما سر ذلك فنابع وكما يرى النورسي من تدخل كل واحد منها في جانب من جوانب الخلق، وذلك على النحو التالي:
للواحدية الإمداد.
وللوحدة أو الوحدانية اليسر والتيسير.
وللأحدية التجلي والظهور.
أما إمداد الواحدية فمداره:
__________
(1) المكتوبات – النورسي ، ص 319.(4/11)
"إن كان كل شيء وكل الأشياء ملكاً لمالك واحد، فعندئذ يمكن من حيث الواحدية أن يحشد قوة جميع الأشياء وراء كل شيء، ويدير أمور جميع الأشياء بسهولة إدارة الشيء الواحد"(1)
فإذا للموجودات مالك واحد يتصرف فيها منفرداً، فبإمكانه إذن وبحكم واحديته وفرديته، وبقوة إحاطته به علماً واقتداراً يجمعها ويدير شئونها معاً، وبيسر وسهولة وبساطة تيسيره لواحد منها.
ومن أجل إيصال سر إمداد الواحدية إلى الأفهام وبصورة محسوسة، روى النورسي هذا المثل:
"بلد يحكمها سلطان واحد يستطيع أن يحشد قوة معنوية بجيش كامل وراء كل جندي من جنوده، وذلك من حيث قانون السلطنة الواحدة، لذا يستطيع ذلك الجندي الفرد أن يأسر القائد الأعظم للعدو، بل يمكن أن يسيطر باسم سلطانه على من هو فوق ذلك القائد.
ثم إن ذلك السلطان مثلما يستخدم موظفاً أو جندياً، ويدير أمور جميع الموظفين وجميع الجنود أيضاً بسر السلطنة الواحدة، وكأنه يرسل كل شخص وكل شيء بسر سلطنته الواحدة لإمداد أي فرد كان، يمكن أن يستند كل فرد من أفراد رعيته إلى قوة جميع الأفراد، أي يستطيع أن يستمد منها.
ولكن لو حلت حبال تلك الواحدية للسلطنة، وأصبحت السلطنة سائبة وفوضى. فإن كل جندي عندئذ يفقد بالمرة قوة لا تحد، ويهوي من مقام نفوذ رفيع، ويصبح في مستوى إنسان اعتيادي، وعندها تنجم مشاكل للإدارة والاستخدام بعدد الأفراد".(2)
إن القوة المستمدة من واحدية السلطان وهيمنته الشاملة على مملكته، تمنحه سلطة مطلقة يفعل بها ما لا يدخل في الحسبان، كأن يجعل جيشاً مرموقاً تحت إمرة وقيادة وإدارة جندي عادي، ويمكن لذلك الجندي وبحكم السلطنة المخولة له أن يفعل ما هو فوق طاقته، ويفوق قدرته العادية بمراحل كثيرة.
__________
(1) المكتوبات – النورسي ، ص 320.
(2) المكتوبات – النورسي ، ص 320.(4/12)
وقياساً على ذلك فيمكن لذلك السلطان مستنداً على سر واحديته في مملكته، وقوة سلطته فيها، أن يستعين بأي فرد لإعانة ومعونة الآخرين، ويمكن لأي فرد يعوّل على الآخرين في شؤون حياته.. وبطريقة تجعل الجميع يدورون حوله ويستندون عليه استناداً مطلقاً سواء في علاقتهم به، أو في علاقتهم بعضهم ببعض.
أما إذا فقد السلطان قوته المهيمنة، وانفرط عقد الواحدية الرابط بين الجميع، وحلت الفوضى تماماً من أي قوة وسلطة تحكم فيها على من هم فوقه من الرتبة والمنزلة، وينحدر من القمة إلى الحضيض في لمح البصر.
وفيما مضى من مثال وللّه المثل الأعلى هيمنة اللّه تعالى وتحكمه بقوة واحديته في الكون والخلق، يقول النورسي في شرحه للمثل:
"فصانع هذا الكون لكونه واحداً، فإنه يحشد أسمائه المتوجهة إلى جميع الأشياء، تجاه كل شيء، فيوجد المصنوع بإتقان تام وبصورة رائعة، وان لزم الأمر يتوجه بجميع الأشياء إلى الشيء الواحد، ويوجهها إليه ويمدده بها، ويقويه بها، وإنه يخلق جميع الأشياء أيضاً بسر الواحدية، ويتصرف فيها ويدبر أمورها كإيجاد الشيء الواحد".(1)
فاللّه تعالى بسر واحديته ذاتاً وصفاتٍ وأفعالاً ووجوداً، يمكنه بمنتهى اليسر والسهولة أن يتحكم في جميع الموجودات فيديرها ويسيرها إلى أي اتجاه يشاء، وبأي طريقة يريد، وإذا اقتضى الأمر أن يقودها مجتمعة لخدمة موجود واحد، وكذلك إيجاده لها وتصرفه فيها فسهل عليه وميسور له كإيجاده وتصرفه في واحد منها.
أما اليسر أو السهولة في الوحدة والوحدانية، أي انفراده تعالى بذاته واستقلاله بالفعل لا شريك معه فيه، فمبناه وكما يرى النورسي على الآتي:
"إن الأفعال التي تتم بأصول الوحدة، ومن مركز واحد، بتصرف واحد، وبقانون واحد، تورث سهولة مطلقة، بينما إن كانت تدار من مركز متعددة، وبقوانين متعددة، وبأيد متعددة تنجم مشكلات عويصة".(2)
__________
(1) المكتوبات – النورسي ، ص 320.
(2) المكتوبات – النورسي ، ص 321.(4/13)
ومجمل فكرة الوحدانية ينحصر في أن صدور المخلوقات وإيجادها عن واحد لا شريك له شيء هين وسهل وبلا عقبات، ويتم في العادة على نحو تلقائي، وعلى العكس منه إذا تعدد المُوجِدُونَ والمتصرفون في أمر شيء واحد، فإنه يترتب عليه من الإشكال والصعوبات ما لا حصر لها، مثال ذلك.
"إذا جهز جميع أفراد الجيش بالأعتدة والتجهيزات من مركز واحد، وبقانون واحد، وبأمر قائد عظيم، يكون سهلاً سهولة تجهيز جندي واحد، بينما إذا أحيل التجهيز إلى معامل متفرقة، ومراكز متعددة يلزم عندئذ لتجهيز جندي واحد جميع المعامل العسكرية التي تزود الجيش بالتجهيزات اللازمة.
بمعنى أنه إذا أسند الأمر إلى الوحدة، فإن تجهيز الجيش كاملاً يكون كتجهيز جندي واحد، ولكن إن لم يسند إلى الوحدة فإن تزويد جندي واحد بالتجهيزات الأساسية يولد مشاكل بعدد أفراد الجيش.
وكذا إذا زودت ثمرات شجرة ما – من حيث الوحدة – بالمادة الحياتية من مركز واحد، وبقانون واحد، واستناداً إلى جذر واحد. فإن ألوف الثمرات تتزود بها بسهولة كسهولة ثمرة واحدة، بينما إذا ربطت كل ثمرة إلى مراكز متعددة، وأرسلت إلى كل منها موادها الحياتية، عندها تنجم مشكلات بقدر ثمرات الشجرة، لأن المواد الحياتية التي تلزم شجرة كاملة تلزم كل ثمرة من الثمرات أيضاً".(1)
ومراد النورسي أن تموين أي جيش بالعدة والعتاد اللازمين، إذا أسند إلى فرد واحد، ومن مكان واحد، يعادل في يسره وسهولته إعداد جندي واحد بما يلزمه من عدة الحرب، ولكن إذا أسند إلى جهات متعددة، واشتركت فيه وحدات متفرقة، فإن إعداد جندي عادي فيه عدد من الصعوبات بعدد أفراد الجيش.
__________
(1) المكتوبات – النورسي ، ص 321.(4/14)
والشيء نفسه يقال عن ثمرة شجرة مُدت بأسباب الحياة من منبع واحد، وأصل واحد، فإنها تتغذى بيسر وسهولة، وتنمو نمواً طبيعياً لا تصدعات فيه، ولكن إذا تعددت وسائل إمدادها بمقومات وجودها، فإنها تواجه من الصعوبات والعراقيل ما يحد من نموها وازدهارها.
وانطلاقاً من ذلك التفسير انتهى النورسي إلى القول:
"وهكذا، فبمثل هذين التمثيلين – وللّه المثل الأعلى – فإن صانع هذا الكون لكونه واحداً وأحداً، يفعل ما يريد بالوحدة، ولأنه يفعل بالوحدة، تسهل عليه جميع الأشياء كالشيء الواحد، فضلاً عن أنه في قيمة رفيعة، فيظهر جوده المطلق بلسان هذا البذل المشاهد، والرخص غير المتناهي، ويظهر بها سخاءه المطلق وخلاقيته المطلقة".(1)
يعني أن انفراد اللّه تعالى وتفرده يقتضي بالضرورة توحده المطلق بالخلق والإيجاد، وبلا شريك له في الفعل والترك، وذلك شيء لا يفضي إلى اليسر والسهولة وحدها، بل يترتب عليه وصف أفعاله بالجودة وكمال الصنعة وجمالها، إضافة إلى الجودة والكرم وغيرها من المعاني المتعلقة بتفرده، والدالة على أنه هو وحده الفاعل لكل فعل.
وأما تجلى الأحدية فقوامه على :
"أن الصانع الحكيم منزّه عن الجسم والجسمانية، لذا لا يحصره زمان ولا يقيده مكان، ولا يتداخل في حضوره الكون والمكان، ولا تحجب الوسائط والأجرام فعله بالحجب، فلا انقسام ولا تجزؤ في توجهه سبحانه، ولا يمنع شيء شيئاً، يفعل ما لا يحد من الأفعال كالفعل الواحد، ولهذا فانه يدرج معنى شجرة ضخمة جداً من بذرة صغيرة، ويدرج العالم في فرد واحد، ويدير أمور العالم بيد قدرته، كإدارة فرد واحد". (2)
إن تجلى الأحدية ومن منطوق العبارة السابقة على قسمين:
__________
(1) المكتوبات – النورسي ، ص 321.
(2) المكتوبات – النورسي ، ص 321،322.(4/15)
أولهما: عرفاني، وهو ظهوره تعالى باسم الأحد الذي لا شبيه له ولا نظير، ويستحيل عليه الانقسام في ذاته، ولا تعتريه صفات الحوادث كالتغير والتحلل والحلول والمشاركة والاحتياج إلى الأغيار.
وثانيهما: عملي، وهو ظهوره الذاتي الأحدي المحض في كل مخلوقاته، وكل فرد من مخلوقاته صغر أم كبر هو مظهر لأحديته، ومظهره ذلك أتم وأكمل.
ومثال تلك الأحدية:
"إن ضوء الشمس الذي لا قيد له إلى حد ما، يدخل في كل شيء لماع، حيث إنها نورانية، فلو واجهتها ألوف بل ملايين المرايا، فإن صورتها النورانية المثالية تدخل في كل مرآة دون انقسام كما هي في مرآة واحدة، فلو كانت المرآة ذات قابلية، فإن الشمس بعظمتها يمكن أن تظهر فيها آثارها، فلا يمنع شيء شيئاً، إذ يدخل مثال الشمس في المرآة الواحدة كما في الألوف منها بسهولة تامة، وهي توجد في كل مكان واحد بسهولة وجودها في ألوف الأماكن، وتكون كل مرآة وكل مكان مظهراً لجلوة تلك الشمس كما هي لألوف الأماكن".(1)
تنفذ أشعة الشمس وكما هو معروف عنها وتتغلغل في كل شيء، بحيث إن كل شيء يعتبر مظهراً للشمس، وأجلى ظهور لها يتبدى دائماً فيما هو مضيء ومنور كالمرآة مثلاً التي تظهر الشمس بسهولة مطلقة، فتكون كالمظهر لها، هذا مع كبر الشمس وضخامتها، وصغر المرآة وضآلة حجمها وبعدها عنها.
وهكذا تتجلى أحدية اللّه في الوجود، فيقول عنها النورسي:
"إن لصانع هذا الكون ذي الجلال تجلياً بسر توجه الأحدية، بجميع صفاته الجليلة التي هي أنوار، وبجميع أسمائه الحسنى التي هي نورانية، فيكون حاضراً ناظراً في كل مكان، ولا يحده مكان، ولا انقسام في توجهه سبحانه، يفعل ما يريد فيما يشاء في كل مكان، في آن واحد ومن دون تكلف ولا معالجة ولا مزاحمة".(2)
فأحدية اللّه إذن كنور الشمس ظاهر على الوجود، والوجود مظهر لها، وعلى مستويين من مستويات الظهور والتجلي:
__________
(1) المكتوبات – النورسي ، ص 322.
(2) نفس المصدر السابق.(4/16)
أعلاها: ظهور أحدية ذاته المجردة بأسمائها وصفاتها، فيكون موجوداً في كل مكان لا تحجبه الحجب، ولا تحول دون ظهوره الموانع.
وأدناها: يشكل كل مخلوق من مخلوقاته على حدة في ذاته وصفاته المقيدة والمحدودة مظهراً لتلك الأحدية.
غير أن النورسي عاد ومن موضع آخر ليبين أن تجلى الأحدية يندرج ضمن تجلى الواحدية، وذلك لئلا تغرق العقول وتتشتت في تلك الواحدية المتجلية على مخلوقاته، وقدم لبيانه ذلك بهذا المثال:
"الشمس تحيط بضيائها بما لا يحد من الأشياء، فلأجل ملاحظة ذات الشمس في مجموع ضيائها، يلزم أن يكون هناك تصور واسع جداً ونظر شامل، لذا تظهر الشمس ذاتها بواسطة انعكاس ضوئها في كل شيء شفاف، أي يظهر كل لماع حسب قابلية جلوة الشمس الذاتية مع خواصها كالضياء والحرارة، وذلك لئلا تُنسى ذات الشمس، ومثلما يظهر كل لماع الشمس بجميع صفاتها حسب قابليته، تحيط أيضاً كلُّ صفة من صفات الشمس كالحرارة والضياء وألوانها السبعة، بكل ما يقابلها من أشياء".(1)
والمثال شبيه في دلالته العامة بمثل الأحدية السابق ذكره، فنور الشمس يفيض على الكون كله بحيث يحتاج النظر إلى الشمس إلى رؤية ذات أبعاد عامة وشاملة ليست في الوسع، ومن هنا يظهر نور الشمس في كل ما لديه القابلية على إظهاره، أي أن ذات الشمس تنعكس بصفاتها وخواصها المميزة في كل ما ينعكس عليه نورها، إذ ليس هناك من يغفل عنها أو يتجاهلها، فهى موجودة في كل شيء.
وتجلى الأحدية يشبه تجلى الشمس ونورها، فيقول النورسي في شرحه للمثل:
__________
(1) اللمعات – النورسي ، ص 147.(4/17)
"فكما أن للّه سبحانه الأحد الصمد تجلياً في كل شيء بجميع أسمائه الحسنى ولاسيما في الأحياء، وبخاصة في مرآة ماهية الإنسان، كذلك كل اسم من أسمائه الحسنى المتعلقة بالموجودات يحيط بالموجودات جميعاً من حيث الوحدة والواحدية، فيضع سبحانه طابع الأحدية في الواحدية نصب عين الإنسان وأمام نظره كيلا تغرق العقول وتغيب في سعة الواحدية ولئلا تنسى القلوب وتذهل عن الذات الإلهية المقدسة".(1)
ويهدف النورسي من هذا إلى أن الأحدية هي أعلى تجل للّه تعالى باسم اللّه، فعدت الأحدية أخص مظهر من مظاهر الذات الإلهية، تليها مباشرة الواحدية حيث منها تنشأ الكثرة، وفيها أيضاً تنعدم الكثرة. وذلك لأن كل اسم أو صفة من أسمائه ظهر للوجود على أنه هو الآخر من تجلياته وتعلقاته.
وخوفاً من أن يضيع العباد أو يضيقوا من هذا الاتساع الكبير في معنى الواحدية وتجلياتها، أو حتى لا ينشغلوا عن اللّه بغيره أو ينسوه، فإنه عز وجل أحلّ حكم الأحدية في الواحدية، وذلك حتى تظهر الأحدية جامعة لجميع الأسماء والصفات، وعندها يظهر كل اسم وصفة متميزاً عن الآخر تميزاً كلياً، ولكن ضمن حكم الأحدية التي تعطى لكل ذي حق حقه ضمن الإطار الشامل والكبير للألوهية.
تجلى اسم الفرد
إن الحكم على الذات الإلهية بالأحدية والوحدانية هو في نفسه نسبة، ولكنها نسبة تتجلى وتظهر على الوجود والمخلوقات بمقتضى كونه أحداً وواحداً، وحين تنعكس حقائق الألوهية بذلك الحكم الأحدي، وتتجلى على مرآة الوجود الخارجي، تظهر باسم الفرد، وهو الاسم الذي يقول عنه النورسي إنه:
"قد أضاء أرجاء الكون كله، فضم أجزاءها كافة في وحدة واحدة متحدة، وجعل كل جزء منه يعلن تلك الوحدانية".(2)
ولبيان ذلك المعنى الدقيق ساق المثل التالي:
__________
(1) نفس المصدر السابق.
(2) اللمعات – النورسي ، ص 542.(4/18)
"كما أن كون الشمس مصباحاً واحداً لهذه الكائنات، يشير إلى أن الكائنات بأجمعها ملك لواحد، فإن كون الهواء هواءً واحداً يسعى لخدمة الأحياء كافة، وكون النار ناراً واحدة توقد بها الحاجات كلها، وكون السحاب واحداً يسقى الأرض، وكون الأمطار واحدة تأتي لإغاثة الأحياء كافة، وانتشار أغلب الأحياء من نباتات وحيوانات انتشاراً طليقاً في أرجاء الأرض كافة مع وحدة نوعيتها، ووحدة مسكنها، كل ذلك إشارات قاطعة وشهادات صادقة أن: تلك الموجودات ومساكنها ومواضعها، إنما هي لمالك واحد أحد".(1)
إن في واحدية مظاهر الطبيعة، وعدم واحدية نوعها وواحدية وظيفتها دلالة بيّنة على واحدية مالكها ومدبر أمورها. وذلك لأنه لو لم يكن مالكاً حقيقياً لها، لعجز عن التصرف فيها تصرفاً حقيقياً، ناهيك عن التصرف فيها مجتمعة.
وقياساً على ما مضى ذكره، انتهى النورسي إلى:
"أن تداخل الأنواع المختلفة للكائنات واندماجها الشديد ببعضها قد جعل مجموعها بمثابة كلٍّ واحد لا يقبل التجزئة قطعاً من حيث الإيجاد، فالذي لا يستطيع أن ينفذ حكمه على جميع الكون لا يمكنه – من حيث الخلق والربوبية – أن يُخضع لربوبيته أي شيء فيه، حتى لو كان ذلك الشيء ذرة أو أصغر منها".(2)
أكد النورسي في كلامه السابق على حقيقتين متكاملتين:
أولاهما: إن اشتراك كافة الموجودات في منظومة حياتية واحدة، متصلة الحلقات، ومتداخلة مع بعضها البعض. قد أحالها إلى وحدة واحدة لا تفضي في كليتها المجردة إلى التبعيض أو التجزئة.
وثانيتهما: أن من لا تجرى أحكامه وسننه على هذه الكلية الجامعة للموجودات، لا يمكنه السيطرة والتحكم في أي جزء منها مهما بلغ حجمه من الصغر والضآلة.
__________
(1) اللمعات – النورسي ، ص 542.
(2) نفس المصدر السابق.(4/19)
وصفوة القول أن تجلى الفردية هو وحده الذي طبع الوجود كله بطابع الأحدية والوحدانية والواحدية، بدءاً من الكون الكبير إلى أقل وأصغر جزء منه. وظهرت بصمات الفردية على كل نوع فيه، وعلى كل فرد فيه، فتحول الوجود كله بحكم الفرد الذي لا يقبل التجزئة مطلقاً.
التوحيد
يُشْتَرطُ في توحيد اللّه تعالى أمران:
العلم بأنه واحد لا شريك له في ذاته وصفاته وأفعاله.
والإقرار والاعتراف به، بالقلب واللسان، والثبات عليه والاستمرار فيه على حالة واحدة إلى ما لا نهاية.
واستناداً على ذلك عرف التوحيد بأنه الإيمان بأحدية اللّه ووحدانيته بمعنى أنه تعالى لا شبيه له ولا نظير في ذاته من ناحية، ومن ناحية أخرى لا شريك له في ألوهيته.
وبناء على ذلك التعريف قسم النورسي التوحيد إلى نوعين، مهد لهما بالمثل التالي:
"إذا وردت إلى سوق أو مدينة بضائع مختلفة وأموال متنوعة لشخص عظيم، فهذه الأموال تعرف ملكيتها بشكلين اثنين:
الأول: شكل إجمالي عامي (أي لدى العامة من الناس) وهو : أن مثل هذه الأموال الطائلة ليس بمقدور أحد غيره أن يمتلكها. ولكن ضمن نظره الشخصي العامي هذه يمكن أن يحدث اغتصاب، فيدّعى الكثيرون امتلاك قطعها.
الثاني: أن تُقرأ الكتابة الموجودة على كل رزمة من رزم البضاعة، وتعرف الطغراء الموجودة على كل طَول، ويعلم الختم الموجود على كل مَعلَم أي كل شيء في هذه الحالة يدل ضمناً على ذلك المالك".(1)
إن كثرة تلك البضائع والسلع وتعددها، وضخامة الأموال دالة ضمناً على مالكها الحقيقي بطريقتين:
الأولى: فيها تعميم، إذ يعترف من خلالها بالسمات المشتركة بين عدة مالكين لها، ليستقر التعميم في خاتمة أمره على مالكها الحقيقي، ولكن دون تحديد لهويته تحديداً يمنع غيره من ادعاء ملكيته لها.
__________
(1) المكتوبات – النورسي ، ص 326.(4/20)
الثانية: أن ملكيتها لمالكها موثقة كتابة، ومختوم عليها بختمه الخاص إلى غيرها من صور الأحكام والإثبات التي يعتمد عليها في التمليك، وهي بلا شك كفيلة بالتعريف على مالكها، ولكنها في هذه الحالة مضمنة فيما كتب وأعلن، أما هو بذاته فلا يظهر صراحة.
ثم فصل النورسي على هدى ذلك المثل أقسام التوحيد قائلا:
"فكما أن البضاعة يُعرف مالكها بشكلين، كذلك التوحيد فإنه على نوعين:
الأول: التوحيد الظاهري العامي: وهو أن اللّه واحد لا شريك له ولا مثيل، وهذا الكون كله ملكه.
الثاني: التوحيد الحقيقي: وهو الإيمان بيقين أقرب ما يكون إلى الشهود بوحدانية اللّه، وبصدور كل شيء من يد قدرته، وبأنه لا شريك له في ألوهيته، ولا معين له في ربوبيته، ولا ندّ له في ملكه، إيماناً يهب لصاحبه الاطمئنان الدائم، وسكينة القلب، لرؤيته آية قدرته، وختم ربوبيته، ونقش قلمه على كل شيء، فينفتح شباك نافذ من كل شيء إلى نوره سبحانه".(1)
فالنوع الأول من التوحيد عام، أقرب في المعنى إلى الفكرة المجردة الدالة عموماً على أحدية اللّه ووحدانيته، وأنه خالق هذا الكون ومالكه.
والثاني أخص وهو الإيمان به إيماناً تتحول فيه أحدية اللّه ووحدانيته إلى اعتقاد قلبي، وتنتقل فيه من مرتبة اليقين العلمي والمعرفي إلى مرتبة يرى فيها حقائق الأحدية والوحدانية ومظاهرها ماثلة أمامه على صفحة الوجود، بل قد يصبح حتى الغيب في أحيان كثيرة عيناً، فيراه أوضح من رؤية المحسوس والمشاهد.
الربوبية
تعد أسماء وصفات الربوبية ومن حيث مقتضياتها أساساً للتكليف الإلهي، وذلك لما تشتمل عليه من ضروب التمكين اللازمة لكل فعل وترك، وكل الأسماء والصفات التي تحت اسم الرب هي الأسماء والصفات المشتركة بينه وبين خلقه، أو بمعنى آخر هي التي تتعلق بها الموجودات، كالعليم الذي يقتضي معلوماً، والمريد يطلب مراداً، والقادر المقدور والرحمن المرحوم وغيرها.
__________
(1) الكلمات – النورسي ، ص 326.(4/21)
ثم إن الربوبية ومن حيث اشتمالها على أسماء وصفات ذات طابع فعلي وليس طلبياً كأسماء وصفات الألوهية، فإن لها تجليات:
تجلى للرب بأسمائه وصفاته، ووفقاً لمقتضيات التنزيه والكمالات الواجبة له عز وجل.
وتجلى على الموجودات وفقاً لمقتضى ظهورها في الوجود، وما يشتمل عليه الوجود من أنواع النقص والضعف.
وفي رد النورسي على عبارة لأحد إخوانه "كل حقيقة جميلة" كشف سراً من أسرار تلك الربوبية الشاملة، جاء فيه:
"نعم، إن كل شيء جميل، ولكن إما أنه جميل حقيقة، أي بالذات، أو جميل باعتبار نتائجه، وأن هذا الجمال متوجه إلى الربوبية العامة، والرحمة الشاملة والتجلي العام".(1)
يعنى أنه وضمن تلك الربوبية هناك جمال مطلق يعم الموجودات قاطبة، وله آثاره ونتائجه العامة، وذلك لأن الجمال في حقيقته الذاتية ما هو إلا انعكاس طبيعي لتجلى الربوبية بشقيها المعنوي على الأسماء والصفات، والصوري أو النظري الظاهر على الموجودات كلها.
وفي المثال التالي قرّب النورسي ذلك المعنى للأذهان، فقال فيه:
"إن السلطان يشمل برعايته وبرحمته جميع أفراد الأمة، وذلك بقوانينه ودولته، فكل فرد ينال مباشرة لطفه وكرمه، ويستظل بظل دولته، أي هناك علاقات خاصة للأفراد ضمن هذه الصورة العامة.
أما الجهة الثانية من رعايته ورحمته فهي آلاؤه الخصوصية، وأوامره الخاصة التي هي فوق جميع القوانين، ولكل فرد من رعاياه حصة من هذه الآلاء".(2)
فسياسة السلطان، وولايته العامة على الرعية، وعطفه بكل واحد منهم على حدة، ينحو على الدوام منحيين:
- شمول شرائعه ونواميسه النافذة في الجميع، وبضوابطها الدقيقة ينعم كل فرد فيهم بالعدل والنظام والسلام.
نعمه التي ينال كل واحد منهم وعلى وجه الخصوص حظه ونصيبه بالكامل.
وهكذا الربوبية في عموميتها وشمولها، فيقول النورسي في تعليقه على الصورة التمثيلية السابقة:
__________
(1) المكتوبات – النورسي ، ص 490.
(2) المكتوبات – النورسي ، ص 490.(4/22)
"فعلى غرار هذا المثال، فإن لكل شيء حظاً من الربوبية العامة والرحمة الشاملة لواجب الوجود والخالق الحكيم، أي أن كل شيء ذو علاقة معه بصورة خاصة في الجهة التي حظي بها، وأن له تصرفاً في كل شيء بقدرته وإرادته وعلمه المحيط، فربوبيته شاملة كل شيء حتى أصغر الأفعال، وكل شيء محتاج إليه سبحانه في كل شأن من شؤونه، فتقضى أموره، وتنظّم أفعاله بعلمه وحكمته جل وعلا". (1)
والمعنى البسيط المستفاد من تعليق النورسي هو أن مقتضيات الربوبية كثيرة بكثرة مفعولات اللّه، فما من مخلوق إلا ونال نصيبه الكامل منها، أو بمعنى أدق أن اشتمالها على أسماء وصفات لها تعلقها المباشر بالمخلوقات، وتجليها الخاص على كل واحد منها، قد جعل كل موجود يحظى بحقوقه منها، سواء من احتياجاته الخاصة أو العامة.
الحكم العدل
دعا النورسي كل من يريد مشاهدة تجلى حكمة اللّه وعلمه، وهما من أسماء اللّه الرحمن الرحيم الحق، وضمن دائرة واسعة النطاق وبعيدة المدى، إلى إعادة النظر مرة بعد أخرى في هذا المثل:
"جيش يضم أربعمائة طائفة متنوعة من الجنود كل منها تختلف عن الأخرى فيما يعجبها من ملابس، وتتباين فيما تشتهيه من أطعمة، وتتغاير فيما تستعمله بيسر من أسلحة، وتتنوع فيما تتناوله من علاجات تناسبها، فعلى الرغم من هذا التباين والاختلاف في كل شيء، فإن تلك الطوائف الأربعمائة لا تتميز إلى فرق وأفواج، بل يتشابك بعضها في بعض من دون تمييز، فإذا ما وجد سلطان واحد يعطى لكل طائفة ما يليق بها من ملابس، وما يلائمها من أرزاق، وما يناسبها من علاج، وما يوافقها من سلاح، بلا نسيان لأحد، ولا التباس ولا اختلاط، ومن دون أن يكون له مساعد أو معين، بل يوزعها كلها عليهم بذاته، بما يتصف به من رحمة ورأفة وقدرة، وعلم معجز، وإحاطة تامة بالأمور كلها، مع عدالة فائقة وحكمة تامة.
__________
(1) نفس المصدر السابق.(4/23)
نعم إذا ما وجد سلطان كهذا لا نظير له، وشاهدت بنفسك أعماله المعجزة الباهرة، تدرك عندئذ مدى قدرته ورأفته وعدله، ذلك لأن تجهيز كتيبة واحدة نضم عشرة أقوام مختلفين بأعتدة متباينة متنوعة أمر عسير جداً، حتى يلجأ إلى تجهيز الجيش بطراز معين ثابت من الألبسة والأعتدة مهما اختلفت الأجناس والأقوام".(1)
ولا شك أن الجيش الذي يضم ذلك الكم الهائل من مجاميع الجنود المتشابكة فيما بينها، والمتباينة في ملابسها وغذائها وسلاحها وطرق علاجها، هو جيش غاية في التعقيد، فإذا كان هناك من يوفر لكل مجموعة وفرقة من الجند احتياجاتها الكاملة من الثياب والأرزاق والأدوية، عندئذ يعرف كل أحد أن صفتي الحكمة والعدل هما من أجلّ صفاته، وأبرز سماته المميزة له عما سواه.
وفي ضوء ذلك المثل خاطب النورسي محدثه قائلاً:
"فإذا شئت أن ترى تجلى اسم الحق والرحمن الرحيم ضمن نطاق العدل والحكمة، فسرّح نظرك في الربيع إلى الخيام المنصوبة على بساط الأرض لأربعمائة ألف من الأمم المتنوعة، الذين يمثلون جيش النباتات والحيوانات، أنعم النظر فيها تجد أن جميع تلك الأمم والطوائف مع أنها متداخلة، وألبستهم مختلفة وأرزاقهم متفاوتة وأسلحتهم متنوعة وطرق معيشتهم متباينة وتدريبهم وتعليماتهم متغايرة، وتسريحاتهم وإجازاتهم متميزة، وهم لا يملكون ألسنة يطالبون بها تأمين حاجاتهم وتلبية رغباتهم.
__________
(1) الكلمات – النورسي ، ص 769.(4/24)
مع كل هذا، فإن كلا منها تدار وتربى وتراعى باسم الحق والرحمن والرزاق والرحيم والكريم، ودون التباس ولا نسيان ضمن نطاق الحكمة والعدل بميزان دقيق وانتظام فائق، فشاهد هذا التجلى وتأمل فيه، فهل يمكن أن يتدخل أحد غير اللّه تعالى في هذا العمل الذي يدار بمثل هذا النظام البديع والميزان الدقيق، وهل يمكن لأي سبب مهما كان أن يمد يده ليتدخل في هذه الصنعة الباهرة والتدبير الحكيم والربوبية الرحيمة، والإدارة الشاملة غير الواحد الأحد الحكيم القدير على كل شيء". (1)
إن الذي يقابل ذلك الجيش ويماثله من حيث التعقيد والعدد الهائل من الأعمال التي تتم فيه، هو الربيع حيث تحيا في ذروة تألقه وعنفوانه مخلوقات عديدة يحتاج كل واحد منها ما يحتاجه كل حي من لباس وأغذية وأسلحة يدافع بها عن نفسه، وهذه وتلك تختلف عند كل كائن عن الآخر في شكلها ونوعها.
ومع كل هذا الاختلاف والتباين فإن الربيع مثل ذلك الجيش، تحت إمرة ورعاية وعناية الحق الرحمن الرازق الكريم الرحيم، فهو يمده ويمد مخلوقاته بكل أسباب الحياة وضروريات الوجود بلا سهو ولا غفلة، ودون أن يشكل أو يلتبس عليه مخلوق دون الآخر.
فهل من المعقول أن يتصور أحد غير اللّه عز وجل هو الذي يتكفل بهذا العمل الخارق، وفي وقت واحد، ولتلك الألوف المؤلفة من الكائنات الحية، ناهيك من أن تعزى للصدفة العمياء ، أو تنسب للأسباب والمسببات الجاهلة بحقيقة أفعالها.
قدرة الله
اقتضت حكمة اللّه تعالى في خلقه أن يضع على كل مخلوق من مخلوقاته ختماً مميزاً، وآية بيّنة، تدل عليه وتعرّف به، من بينها وعلى سبيل المثال التي على الحياة، وعبر عنها النورسي بقوله:
"إنه يخلق من شيء واحد كلَّ شيء، ويخلق من كل شيء شيئاً واحداً".(2)
ثم أبان مقصوده من العبارة بقوله:
__________
(1) المكتوبات – النورسي ، ص 769.
(2) الكلمات – النورسي ، ص 328.(4/25)
"إن جعل الشيء الواحد كل شيء بسهولة مطلقة وانتظام كامل، وجعل كل شيء شيئاً واحداً بميزان دقيق وانتظام رائع وبمهارة وإبداع، ليس إلا علامة واضحة وآية بينة لخالق كل شيء وصانعه"(1)
وبما أن العبارة على ما هي عليه في منتهى التجريد، وعميقة المعنى، وعصية على الفهم، وتحتاج ككل المعاني المجردة إلى ما يقربها من الذهن في صور وأشكال محسوسة ومشخصة، فقد مثل لها النورسي قائلاً:
"فلو رأيت – مثلاً – أن واحداً يملك أعمالاً خارقة: ينسج من وزن درهم من القطن مائة طول من الصوف الخالص، وأطوالاً من الحرير، وأنواعاً من الأقمشة، ورأيت أنه يخرج علاوة على ذلك من ذلك القطن حلويات لذيذة، وأطعمة متنوعة كثيرة، ثم رأيت أنه يأخذ في قبضته الحديد والحجر والعسل والدهن والماء والتراب، فيصنع منها الذهب الخالص، فستحكم حتماً أنه يملك مهارة معجزة تخصه وقدرة مهيمنة على التصرف في الموجودات، بحيث إن جميع عناصر الأرض مسخرة بأمره، وجميع ما يتولد من التراب منفذ لحكمه".(2)
فكل من تصدر عنه المعجزات الخارقة للعوائد، والتي لا يسلم بها العقل، وتستصعبها النفوس، هو من غير شك من يضع بين يديه كل مقومات الخلق والإيجاد، وكل ما في الكون تحت إرادته وطوع مشيئته.
وهكذا – وللّه المثل الأعلى – يخلق اللّه تعالى. كما يقول النورسي:
"فمن ماء النطفة، بل من ماء الشرب يخلق ما لا يعد من أجهزة الحيوان وأعضائه. فهذا العمل لا شك أنه خاص بقدير مطلق القدرة، ثم إن تحويل الأطعمة المتنوعة – سواء الحيوانية منها أو النباتية – إلى جسم خاص بنظام دقيق، ونسج جلد خاص للكائن، وأجهزة معينة من تلك المواد المتعددة، لا شك أنه من عمل قدير على كل شيء وعليم مطلق العلم".(3)
كما أن قدرة اللّه تعالى تتجلى من ناحية أخرى في علاقات الكائنات بعضها ببعض، فعلى سبيل المثال، فإن الذرة هي:
__________
(1) نفس المصدر.
(2) الكلمات – النورسي ، ص 329.
(3) نفس المصدر.(4/26)
"كالجندي الذي له مع كل دائرة من الدوائر العسكرية، أي مع رهطه وسريته وفوجه ولوائه وفرقته وجيشه، وله حسب تلك العلاقة وظيفة هناك، وله حسب تلك الوظيفة حركة خاصة ضمن نطاق نظامها".(1)
فعلاقة الجندي ليست ضيقة وفي نطاق محدود، ولا تقف عند حد بعينه، بل له علاقات واسعة بكل وحدات الجيش الأخرى، وعمله وإن كان قاصراً ومقصوراً على ناحية واحدة ضمن المنظومة العامة للعمل في الجيش، إلا أن تأثيره يمتد ليشمل الجيش كله.
وكذلك الحال مع الذرة الصغيرة، فيقول النورسي:
"فالذرة الجامدة الصغيرة جداً، التي هي في بؤبؤ عينك لها علاقة معينة ووظيفة خاصة في عينك ورأسك وجسمك، وفي القوة المولدة والجاذبة والدافعة والمصورة وفي الأوردة والشرايين والأعصاب، بل لها علاقة حتى مع نوع الإنسان".(2)
يعنى أن للذرة علاقة أو علاقات قوية ومباشرة ومؤثرة مع باقي أعضاء الجسم، بل إن علاقتها لا تقف عند مثيلاتها من العناصر المادية وحدها، بل تمتد لتقيم علاقة مع العناصر غير المادية، كالنوع البشرى مثلاً.
وما مضى يدل وكما يرى النورسي دلالة قاطعة بأن:
"وجود هذه العلاقات والوظائف للذرة، يدل بداهة على أن الذرة إنما هي من صنع القدير المطلق، وهي مأمورة موظفة تحت تصرفه سبحانه".(3)
التعريف بالله
زار مجموعة من طلاب المدارس الثانوية النورسي في مدينة قسطموني حيث كان يقيم منفياً، وذلك ليس بغرض أن يثبت لهم وجود اللّه تعالى بالحجة القوية والبرهان القاطع، بل ليعرفهم به، وذلك لأن اسمه تعالى لا يأتي على لسان معلميهم، ومناهجهم التعليمية مضربة عن ذكره، فقال لهم:
"إن كل علم من العلوم التي تقرأونها يبحث عن اللّه دوماً، ويعرّف بالخالق الكريم بلغته الخاصة، فاصغوا إلى تلك العلوم دون المدرسين".(4)
__________
(1) نفس المصدر ، ص 331.
(2) نفس المصدر السابق.
(3) نفس المصدر السابق.
(4) نفس المصدر ، ص 175.(4/27)
ثم قص عليهم ستة أمثلة عوّل بها على حصيلتهم العلمية البسيطة، وعلى معرفتهم المستمدة من محيطهم الاجتماعي وبيئتهم الثقافية، فقال لهم:
"لو كانت هناك صيدلية ضخمة، في كل قنينة من قنانيها أدوية ومستحضرات حيوية، وضِعت فيها بموازين حساسة، وبمقادير دقيقة؛ فكما أنها ترينا أن وراءها صيدليا حكيماً، وكيميائياً ماهراً، كذلك صيدلية الكرة الأرضية التي تضم أكثر من أربعمائة ألف نوع من الأحياء نباتاً وحيواناً، وكل واحد منها في الحقيقة بمثابة زجاجة مستحضرات كيمياوية دقيقة، وقنينة مخاليط حيوية عجيبة. فهذه الصيدلية الكبرى تُري حتى للعميان صيدليّها الحكيم ذا الجلال، وتعرّف خالقها الكريم سبحانه بدرجة كمالها وانتظامها وعظمتها، قياساً على تلك الصيدلية التي في السوق، وفق مقاييس علم الطب الذي تقرأونه.
ومثلاً: كما أن مصنعاً خارقاً عجيباً ينسج ألوفاً من أنواع المنسوجات المتنوعة، والأقمشة المختلفة، من مادة بسيطة جداً، يرينا بلا شك أن وراءه مهندساً ميكانيكياً ماهراً، ويعرّفه لنا؛ كذلك هذه الماكنة الربانية السيارة المسماة بالكرة الأرضية، وهذا المصنع الإلهي الذي فيه مئات الآلاف من مصانع رئيسية، وفي كل منها مئات الآلاف من المصانع المتقنة، يعرّف لنا بلا شك صانعَه، ومالكَه، وفق مقاييس علم المكائن الذي تقرأونه، يعرّفه بدرجة كمال هذا المصنع الإلهي، وعظمته قياساً على ذلك المصنع الإنساني.(4/28)
ومثلاً: كما أن حانوتاً أو مخزناً للإعاشة والأرزاق، ومحلاً عظيماً للأغذية والمواد، احضر فيه - من كل جانب - ألف نوع من المواد الغذائية، وميّز كل نوع عن الآخر، وصفف في محله الخاص به، يرينا أن له مالكاً ومدبراً؛ كذلك هذا المخزن الرحماني للإعاشة الذي يسيح في كل سنة مسافة أربعة وعشرين ألف سنة، في نظام دقيق متقن، والذي يضم في ثناياه مئات الآلاف من أصناف المخلوقات التي يحتاج كل منها إلى نوع خاص من الغذاء. والذي يمر على الفصول الأربعة فيأتي بالربيع كشاحنة محمولة بآلاف الأنواع من مختلف الأطعمة، فيأتي بها إلى الخلق المساكين الذين نفد قوتُهم في الشتاء. تلك هي الكرة الأرضية، والسفينة السبحانية التي تضم آلاف الأنواع من البضائع والأجهزة ومعلبات الغذاء. فهذا المخزن والحانوت الرباني، يُري - وفق مقاييس علم الإعاشة والتجارة الذي تقرأونه - صاحبَه ومالكَه ومتصرفَه بدرجة عظمة هذا المخزن، قياساً على ذلك المخزن المصنوع من قبل الإنسان، ويعرّفه لنا، ويحببه إلينا.(4/29)
ومثلاً: لو أن جيشاً عظيماً يضم تحت لوائه أربعمائة ألف نوع من الشعوب والأمم، لكل جنس طعامه المستقل عن الآخر، وما يستعمله من سلاح يغاير سلاح الآخر، وما يرتديه من ملابس تختلف عن ألبسة الآخر، ونمط تدريباته وتعليماته يباين الآخر، ومدة عمله وفترة رخصه هي غير المدة للآخر.. فقائد هذا الجيش الذي يزوّدهم وحده بالأرزاق المختلفة، والأسلحة المتباينة، والألبسة المتغايرة، دون نسيان أي منها ولا التباس ولا حيرة، لهو قائد ذو خوارق بلا ريب، فكما أن هذا المعسكر العجيب يرينا بداهة ذلك القائد الخارق، بل يحببه إلينا بكل تقدير وإعجاب؛ كذلك معسكر الأرض؛ ففي كل ربيع يجنّد مجدداً جيشاً سبحانياً عظيماً مكوناً من أربعمائة ألف نوع من شعوب النباتات وأمم الحيوانات، ويمنح لكل نوع ألبسته وأرزاقه وأسلحته وتدريبه ورخصه الخاصة به، من لدن قائد عظيم واحد أحد جل وعلا، بلا نسيان لأحد ولا اختلاط ولا تحير وفي منتهى الكمال وغاية الانتظام.. فهذا المعسكر الشاسع الواسع للربيع الممتد على سطح الأرض يُري - لأولي الألباب والبصائر - حاكم الأرض حسب العلوم العسكرية وربّها ومدبرها، وقائدها الأقدس الأجلّ، ويعرّفه لهم، بدرجة كمال هذا المعسكر المهيب، ومدى عظمته، قياساً إلى ذلك المعسكر المذكور، بل يحبب مليكه سبحانه بالتحميد والتقديس والتسبيح.(4/30)
ومثلاً: هب أن ملايين المصابيح الكهربائية تتجول في مدينة عجيبة دون نفاد للوقود ولا انطفاء؛ ألا تُري - بإعجاب وتقديرـ أن هناك مهندساً حاذقاً، وكهربائياً بارعاً لمصنع الكهرباء، ولتلك المصابيح؟.. فمصابيح النجوم المتدلية من سقف قصر الأرض وهي اكبر من الكرة الأرضية نفسها بألوف المرات حسب علم الفلك وتسير أسرع من انطلاق القذيفة، من دون أن تخل بنظامها، أو تتصادم مع بعضها مطلقاً ومن دون انطفاء، ولا نفاد وقود وفق ما تقرأونه في علم الفلك.. هذه المصابيح تشير بأصابع من نور إلى قدرة خالقها غير المحدودة . فشمسنا مثلاً وهي اكبر بمليون مرة من كرتنا الأرضية، وأقدم منها بمليون سنة، ما هي إلا مصباح دائم، وموقد مستمر لدار ضيافة الرحمن. فلأجل إدامة اتقادها واشتعالها وتسجيرها كل يوم يلزم وقوداً بقدر بحار الأرض، وفحماً بقدر جبالها، وحطباً بقدر أضعاف أضعاف حجم الأرض، ولكن الذي يشعلها - ويشعل جميع النجوم الأخرى أمثالها - بلا وقود ولا فحم ولا زيت ودون انطفاء ويسيّرها بسرعة عظيمة معاً دون اصطدام، إنما هي قدرة لا نهاية لها وسلطنة عظيمة لا حدود لها.. فهذا الكون العظيم وما فيه من مصابيح مضيئة، وقناديل متدلية يبين بوضوح - وفق مقاييس علم الكهرباء الذي قرأتموه أو ستقرأونه - سلطان هذا المعرض العظيم والمهرجان الكبير، ويعرّف منوّره ومدبّره البديع وصانعه الجليل، بشهادة هذه النجوم المتلألئة، ويحببه إلى الجميع بالتحميد والتسبيح والتقديس بل يسوقهم إلى عبادته سبحانه.(4/31)
ومثلاً: لو كان هناك كتاب، كتب في كل سطر منه كتاب بخط دقيق وكُتب في كل كلمة من كلماته سورة قرآنية، وكانت جميع مسائله ذات مغزى ومعنى عميق، وكلها يؤيد بعضها البعض، فهذا الكتاب العجيب يبين بلا شك مهارة كاتبه الفائقة، وقدرة مؤلفه الكاملة. أي أن مثل هذا الكتاب يعرّف كاتبه ومصنّفه تعريفاً يضاهي وضوح النهار، ويبين كمالَه وقدرتَه، ويثير من الإعجاب والتقدير لدى الناظرين إليه ما لا يملكون معه إلا ترديد: تبارك اللّه، سبحان اللّه، ما شاء اللّه! من كلمات الاستحسان والإعجاب؛ كذلك هذا الكتاب الكبير للكون الذي يُكتب في صحيفة واحدة منه، وهي سطح الأرض، ويُكتب في ملزمة واحدة منه، وهي الربيع، ثلثمائة ألف نوع من الكتب المختلفة، وهي طوائف الحيوانات وأجناس النباتات، كل منها بمثابة كتاب.. يُكتب كل ذلك معاً ومتداخلاً بعضها ببعض بلا اختلاط ولا خطأ ولا نسيان، وفي منتهى الانتظام والكمال بل يُكتب في كل كلمة منه كالشجرة، قصيدة كاملة رائعة، وفي كل نقطة منه كالبذرة، فهرس كتاب كامل. فكما أن هذا مشاهد وماثل أمامنا، ويُرينا بالتأكيد أن وراءه قلماً سيالاً يسطر، فلكم إذن أن تقدروا مدى دلالة كتاب الكون الكبير العظيم الذي في كل كلمة منه معان جمة وحكم شتى، ومدى دلالة هذا القرآن الأكبر المجسم وهو العالم، على بارئه سبحانه وعلى كاتبه جل وعلا، قياساً إلى ذلك الكتاب المذكور في المثال. وذلك بمقتضى ما تقرأونه من علم حكمة الأشياء أو فن القراءة والكتابة، وتناوله بمقياس اكبر، وبالنظرة الواسعة إلى هذا الكون الكبير. بل تفهمون كيف يعرّف الخالقَ العظيم بـ (اللّه اكبر) وكيف يعلّم التقديس بـ (سبحان اللّه) وكيف يحبّب اللّه سبحانه إلينا بثناء (الحمد للّه)". (1)
__________
(1) نفس المصدر ، ص 175- 178.(4/32)
ساق النورسي وكما رأينا أمثلة مشهدية للطلاب منها ما يدرسونه في كتبهم، ومنها ما يعرفونه بخبرتهم اليومية، ثم ضخّم صورتها في أذهانهم وعظّمها أمام أنظارهم في صور وأشكال خارقة للعوائد، ومخالفة للمعهود لديهم، ولكنها مألوفة لديهم، ولا تنبو عنها مداركهم العقلية، ليصل من خلالها إلى أن وجود صانع ومبدع يقف وراءها من المعارف الضرورية، وتقف هي مع هذا وذاك معرفة به، ودالة على علمه الواسع المحيط، ومقدرته العجيبة على الصنع والإيجاد.
وقياساً على ذلك فإن الأرض التي تحتوي على الألوف المؤلفة من الآيات المعجزة، والكائنات الخارقة في خلقها وتكوينها ودقة صنعها للعوائد، تقف هي الأخرى شاهدة على اللّه تعالى، ومعرفة بخالقها، ودالة عليه، وتشير إلى أسمائه وصفاته الجليلة إشارة تصل إلى حد اليقين.
خلق الله
ظلت فكرة خلق الأشياء وإبداعها على غير مثال سابق، وإخراجها من العدم إلى الوجود، غير مسبوقة بمادة ولا زمان، من أكثر الأفكار التي كانت محل جدال وخلاف طويل بين الفلاسفة والمفكرين، أفضى في النهاية إلى حيرتهم وترددهم في الإقرار أو الاعتراف بخالق لها، فأحالوها إلى محض الصدفة، أو إلى الأسباب أسباب ومسببات، متصلة الحلقات بلا توقف أو انقطاع.
وحلاً للمشكلة أو تجاوزاً لها، فرض النورسي الفرضية البسيطة التالية:
"إذا أسند إيجاد الموجودات كلها إلى صانع واحد، يكون الأمر سهلاً هيناً بسهولة إيجاد موجود واحد، وإن أسند إلى الأسباب الكثيرة والطبيعة، فإن خلق ذبابة واحدة يكون صعباً كخلق السماوات، ويكون خلق الزهرة عسيراً بقدر خلق الربيع، وكذا الثمرة بقدر البستان".(1)
يعنى أن مدار الخلق كله على نسبة المخلوق إلى واحد أو أكثر، فعند الواحد نجد الفعل دائماً سهلاً وهيناً ويسيراً، وعند الكثرة نجابه بالصعوبة والعسر، بل الاستحالة وعدم الوجوب في الأحوال كلها.
__________
(1) المكتوبات ، النورسي، ص 330.(4/33)
وقال النورسي عند مقارنته بين منهج القرآن البرهاني في إثبات الخلق للخالق عز وجل، وبين منهج الفلاسفة الجدلي:
" إن القرآن الكريم يفوض أمر المخلوقات غير المحدودة إلى الصانع الواحد ويسند إليه كل شيء مباشرة، فيسلك طريقاً سهلاً بدرجة الوجوب، ويدعو إليها وكذلك يفعل المؤمنون.
أما أهل الشرك والطغيان، فإنهم بإسنادهم المصنوع الواحد إلى أسباب لا حد لها يسلكون طريقاً صعباً إلى درجة الامتناع، بينما المصنوعات التي هي في مسلك القرآن مساوية لمصنوع واحد من هذا المسلك، بل إن صدور جميع الأشياء من الواحد الأحد، أسهل وأهون بكثير من صدور شيء واحد من أشياء لا حد لها، حيث إن ضابطاً واحداً يدبر أمر ألف جندي بسهولة أمر جندي واحد. بينما إذا أُحيل تدبير أمر جندي إلى ألف ضابط، فالأمر يشكل ويصعب بألف ضعف وضعف، وتنشأ عنه الاختلافات والاضطرابات والمماحكات".(1)
إذن فإحالة أمر الخلق والمخلوقات إلى مبدع ومكون ومحدث واحد لا شريك له في الخلق، يريح العقل الإنساني من مشاكل معقدة وعويصة ولا حل لها. فيطمئن القلب وتسكن النفس. أما فكرة إحالتها لغير الواحد الأحد، فليست غير ممكنة فقط، بل ممتنعة القبول عقلاً، كامتناع قيادة ألف ضابط في الجيش لجندي واحد.
ومثّل النورسي لتلك الحقيقية المعلومة بداهة بثلاثة أمثلة، متحدة في مضمونها العلمي، ومختلفة في وقائعها، فقال في الأول منها:
__________
(1) المكتوبات ، النورسي، ص 334.(4/34)
"إن ذرة صغيرة شفافة لماعة لا تسع نور عود ثقاب بالذات ولا تكون مصدراً له. إذ يمكن أن يكون له نور بالأصالة بقدر جرمه وبمقدار ماهيته، كذرة جزئية، ولكن إذا ما انتسبت إلى الشمس وفتحت عينها تجاهها ونظرت إليها فإن تلك الذرة الصغيرة يمكن أن تستوعب تلك الشمس بضيائها وألوانها السبعة وحرارتها حتى بمسافتها. وتنال نوعاً من مظاهر تجليها الأعظم. بمعنى أن تلك الذرة إن بقيت سائبة دون انتساب، مستندة إلى ذاتها، لا تعمل شيئاً إلا بقدر الذرة، ولكن إن عُدت مأمورة لدى الشمس ومنسوبة إليها ومرآة لها، فإنها تستطيع أن تظهر قسماً من نماذج جزئية لإجراءات الشمس".(1)
وقال في الثاني:
" أخوان، أحدهما شجاع يعتمد على نفسه ويعتد بها، والآخر شهم غيور يملك حمية الدفاع عن الوطن، فعند نشوب الحرب، لا ينتسب الأول إلى الدولة لاعتداده بنفسه، بل يرغب أن يؤدي الأعمال بنفسه، مما يضطره هذا إلى حمل منابع قوته على ظهره، ويلجؤه إلى نقل تجهيزاته وعتاده بقدرته المحدودة، ولذا لا يستطيع أن يجابه إلا قوة عريف في الجيش لا أكثر.
أما الأخ الآخر، غير المعتد بنفسه، بل يعد نفسه عاجزاً لا قوة له. فانتسب إلى السلطان، وانخرط في سلك الجندية، فأصبح جيش الدولة العظيم نقطة استناد له بذلك الانتساب، وخاض غمار الحرب بقوة معنوية عظيمة يمدها ذلك الانتساب، تعادل قوة جيش عظيم حيث يمكن للسلطان أن يحشدها له، فحارب العدو حتى جابه مشيراً عظيماً من العدو المغلوب، فامسك به أسيراً، وجلبه إلى معسكره باسم السلطان.
وسر هذه الحالة وحكمتها هي:
__________
(1) المكتوبات ، النورسي، ص 331.(4/35)
أن الشخص الأول السائب لكونه مضطراً إلى منابع قوته وتجهيزاته، لم يقدر إلاّ على عمل جزئي جداً. أما هذا الموظف فليس مضطراً إلى حمل منابع قوته بنفسه، بل يحمل عنه ذلك الجيش بأمر السلطان، فيربط نفسه بتلك القوة العظيمة بالانتساب، كمن يربط جهاز هاتفه بسلك بسيط بأسلاك هواتف الدولة".(1)
وقال في الثالث:
" صديقان يرغبان في كتابة بحث يحوي معلومات إحصائية جغرافية حول بلاد لم يشاهداها أصلاً. فأحدهما ينتسب إلى سلطان تلك البلاد، ويدخل دائرة البريد والبرق، ويتم معاملات ربط خط هاتفه ببدالة الدولة لقاء أجرة زهيدة، ويتمكن بهذه الوسيلة أن يتصل مع الجهات ويتسلم منها المعلومات. وهكذا كتب بحثاً فيما يخص الإحصائيات الجغرافية، في غاية الجودة والإتقان والعلمية.
أما الآخر سيسيح دوماً طوال خمسين سنة ويقتحم المصاعب والمهالك ليشاهد تلك الأماكن بنفسه، وليسمع الأحداث بنفسه. أو ينفق ملايين الليرات ليمد أسلاك الهاتف كما هي للدولة. ويكون مالكاً لأجهزة المخابرة كما هي للسلطان، كي يكون بحثه قيماً كبحث صاحبه".(2)
إن الانتساب في الأمثلة الثلاثة جعل كلاً من الذرة والأخ العاقل والصديق العالم يحظى بتجلٍ خاص من تجليات من استند إلى قوته واقتداره وسلطته. وبقوة ذلك الاستناد، استطاع كل واحد منهم أن يؤدي بسهولة ويسر من الأعمال ما يستحيل عليه أداؤها بقوته الذاتية المحدودة.
أما إذا انقطع ذلك الانتساب، فلن يحظى من آثر الاعتماد على قواه الذاتية بمظهر الانتساب، وبالتالي لن يتمكن من إنجاز شيء يعتد به في مجال الأعمال، وذلك لما يكتنف طريقه من صعوبات وعقبات تصل حد الاستحالة التامة.
وخلاصة الفكرة لخصها النورسي في قوله:
__________
(1) المكتوبات ، النورسي، ص 331/332
(2) المكتوبات ، النورسي، ص 332(4/36)
"إن في طريق الوحدة والإيمان سهولة مطلقة بدرجة الوجوب، بينما في طريق الشرك والأسباب مشكلات وصعوبات بدرجة الامتناع، لأن الواحد يعطي وضعاً معيناً لكثير من الأشياء، ويستحصل منها نتيجة معينة دون عناء، بينما لو أحيل اتخاذ ذلك الوضع واستحصال تلك النتيجة إلى تلك الأشياء الكثيرة لما أمكن من ذلك إلا بتكاليف وصعوبات كثيرة جداً وبحركات كثيرة جداً".(1)
يعني أن الأشياء تمثل أمام الخالق الواحد، متخذة لنفسها موقف المنفصل لإرادته، والمستسلم لقدرته، والمنسجم مع علمه وحكمته، فيوجهها بكل يسر وسهولة وجهه تحقق أهدافه وغاياتها من خلقها وإبداعها. أما في حالة غير الواحد، فإنها تجد أمامها قوى مختلفة ومتباينة الأغراض، ولا تتفق مع طبيعتها السلسة للانقياد، فتتحرك من غير نظام ولا تتحقق لها إلا القدر الضئيل من الإنجازات المرجوة منها.
دقة الصنعة الإلهية
تستند حقائق الموجودات في أصولها إلى أسماء اللّه تعالى، فحقيقة كل واحد منها تستند إلى اسم من الأسماء أو إلى كثير منها، وأن الإتقان الموجود في الأشياء يستند هو الآخر إلى اسم من الأسماء، حتى قال أولياء محققون إن:
"الحقائق الحقيقية للأشياء، إنما هي الأسماء الإلهية الحسنى، أما ماهية الأشياء فهي ظلال تلك الحقائق".(2)
وحاول النورسي انطلاقاً من تلك الفكرة التي تشير إلى تجلي الأسماء الإلهية في كل مخلوق للّه تعالى إلى تقريب حقيقتها بمثال طويل، قال فيه:
__________
(1) المكتوبات ، النورسي، ص 333
(2) الكلمات ، النورسي، ص 749(4/37)
" إذا أراد فنانٌ بارع في التصوير والنحت، رسمَ صورةِ زهرة فائقة الجمال، وعملَ تمثالِ حسناءَ رائعة الحسن، فإنه يبدأ أولَ ما يبدأ بتعيين بعضِ خطوطِ الشكل العام لكل منهما.. فتعيينُه هذا إنما يتم بتنظيم، ويعملُه بتقديرٍ يستند فيه إلى علم الهندسة، فيعيّن الحدودَ وفقَه.. فهذا التنظيمُ والتقدير يدلان على أنهما فُعِلا بعلمٍ وبحكمة. أي أن فعلَي التنظيم والتحديد يتمّان وفق "بركار" العلم والحكمة، لذا تَحكُم معانيَ العلم والحكمة وراءَ التنظيم والتحديد، إذن ستبيّن ضوابطُ العلم والحكمةِ نفسَها.. نعم، وها هي تبيّن نفسَها، إذ نشاهد الفنانَ قد بدأ بتصويرِ العين والأذن والأنف للحسناء وأوراقِ الزهرة وخيوطِها اللطيفة الدقيقة داخل تلك الحدود التي حدّدها.(4/38)
والآن نشاهد أن تلك الأعضاء التي عُيّنت وفق "بركار" العلم والحكمة أخذت صيغةَ الصنعة المتقنة والعناية الدقيقة، لذا تحكمُ معانيَ الصُنع والعناية وراء "بركار" العلم والحكمة.. إذن ستبين نفسَها.. نعم، وها قد بدأت قابليةُ الحسن والزينة في الظهور مما يدل على أن الذي يحرّك الصنعةَ والعناية هو إرادةُ التجميل والتحسين وقصدُ التزيين، لذا يحكمان من وراء الصنعة والعناية؛ وها قد بدأ (الفنانُ) بإضفاء حالة التبسّم لتمثال الحسناء، وشرَع بمنح أوضاعٍ حياتية لصورة الزهرة، أي بدأ بفعلَي التزيين والتنوير. لذا فالذي يحرّك معنى التحسين والتنوير هما معنَيا اللطف والكرم.. نعم! إن هذين المعنيين يحكمان، بل يهيمنان إلى درجة كأن تلك الزهرةَ لطفٌ مجسّم وذلك التمثالَ كرمٌ متجّسد. تُرى ما الذي يحرك معانيَ الكرم واللطف، وما وراءهما غيرُ معاني التودد والتعرف. أي تعريف نفسه بمهارته وفنّه وتحبيبها إلى الآخرين.. وهذا التعريفُ والتحبيب آتيان من الميل إلى الرحمة وإرادة النعمة.. وحيث إن الرحمةَ وإرادةَ النعمة من وراء التودد والتعرّف، فستملآن إذن نواحي التمثال بأنواع الزينة والنعم، وستعلّقان على الصورة، صورة الزهرة الجميلة هديةً ثمينة.. وها نحن نشاهد أن (الفنان) قد بدأ بملء يدي التمثال وصدره بنعمٍ قيّمة ويعلّق على صورة الزهرة درراً ثمينة.. بمعنى أن معاني الترحم والتحنن والإشفاق قد حرّكت الرحمةَ وإرادةَ النعمة.. وما الذي يحرك معاني الترحم والتحنن هذه، وما الذي يسوقهما إلى الظهور لدى ذلك المستغنى عن الناس، غيرُ ما في ذاته من جمال معنوي وكمال معنوي يريدان الظهور. إذ إن أجملَ ما في ذلك الجمال، وهو المحبة، وألذَّ ما فيه وهو الرحمة، كلٌّ منها - أي المحبة والرحمة- يريد إراءة نفسِه بمرآة الصنعة، ويريد رؤية نفسِه بعيون المشتاقين، لأن الجمال -وكذا الكمال- محبوبٌ لذاته، يحب نفسَه أكثر من أي شيء آخر، حيث إنه حُسنٌ وعشقٌ في(4/39)
الوقت نفسه، فاتحاد الحسن والعشق آتٍ من هذه النقطة.. ولما كان الجمال يحب نفسَه، فلابد أنه يريد رؤية نفسه في المرايا، فالنِعم الموضوعة على التمثال، والثمرات اللطيفة المعلقة على الصورة، تحمل لمعةً براقة من ذلك الجمال المعنوي -كلّ حسب قابليته- فتُظهر تلك اللمعات الساطعة نفسَها إلى صاحب الجمال، وإلى الآخرين معاً".(1)
إن الصورة أو التمثال تتطلب من الفنان ليس فقط الآلات المعينة له في عمله، بل تتطلب وبالدرجة الأولى موهبة رفيعة، تساوقها عدة صفات تعمل مجتمعة على إبرازهما إلى حيز الوجود، مثل:
العلم والحكمة، وذلك يكفل للعمل عنصري التنظيم والتقدير، أو بمعنى أشمل الدقة في الصنعة.
اللطف والكرم لتحسين الصورة والتمثال أو تنويرهما.
الرحمة وإرادة النعمة والمحبة، أي ما تحمله نفسه من جمال يسعى للظهور فيما يبدعه من أعمال.
إلى غيرها من الصفات التي تقف شاهدة على أن وراء قيمة العمل الفنية والجمالية، رساماً أو مثّالاً فيه من الجمال والكمال بقدر ما في عمله.
وعلى مثال ذلك – وللّه المثل الأعلى – يأتي عمل الصانع الحكيم في تنظيمه للمخلوقات، تنظيماً تتجلى فيه أسماء اللّه وصفاته، فيقول النورسي في تفسيره التطبيقي على المثل:
__________
(1) الكلمات ، النورسي، ص 749،751(4/40)
" وهكذا بتعيينه سبحانه وتعالى حدودَ الشكل العام لكل شيء تعييناً دقيقاً يُظهر اسمَي "العليم، الحكيم". ثم يرسم بمسطرة العلم والحكمة ذلك الشيء ضمن الحدود المعينة، رسماً متقناً إلى حد يُظهر معاني الصنع والعناية، أي اسمَي: "الصانع، الكريم".. ثم يضفي على تلك الصورة جمالاً وزينة، بفرشاة العناية وباليد الكريمة للصنعة، فإن كانت الصورة أنساناً أضفى على أعضائه كالعين والأنف والأذن ألواناً من الحسن والجمال.. وإن كانت الصورةُ زهرةً أضفى سبحانه إلى أوراقها وأعضائها وخيوطها الرقيقة ألواناً من الجمال والرواء والحسن.. وإن كانت الصورة أرضاً منح معادنَها ونباتاتها وحيواناتها ألواناً من الزينة وضروباً من الجمال والحسن.. وإن كانت الصورة جنة النعيم أسبغ على قصورها ألواناً من الحسن وعلى حورها أنواعاً من الزينة.. وهكذا قس على هذا المنوال.(4/41)
ثم يزّين ذلك الشيءَ وينوره بطرازٍ بديع من الزينة والنور حتى تحكُم عليه معانيَ اللطف والكرم فتجعل ذلك الموجود المزيَّن وذلك المصنوع المنوَّر لطفاً مجسماً وكرماً متجسداً يذكّر باسمَي "اللطيف، الكريم" والذي يسوق ذلك اللطف والكرم إلى هذا التجلي إنما هو التودد والتعرّف، أي شؤون تحبيب ذاته الجليلة إلى ذوي الحياة وتعريفَ ذاته إلى ذوي الشعور حتى يُقرأ على ذلك الشيء اسما "الودود والمعروف" اللذين هما وراء اسمَي "اللطيف، الكريم" بل يُسمعان قراءته لذينك الاسمَين من حال المصنوع نفسه. ثم يجمّل سبحانه ذلك الموجود المزيّن، وذلك المخلوق الجميل، بثمرات لذيذة، بنتائج محبوبة، فيحوّل جل وعلا الزينةَ إلى نعمةٍ، واللطفَ إلى رحمةٍ، حتى يدفع كل مشاهد يقرأ اسمَي "المنعم، الرحيم" حيث تشف تجليات ذينك الاسمَين من وراء الحجب الظاهرية. ثم إن الذي يسوق اسمي "الرحيم والكريم" وهو المستغني المطلق، إلى هذا التجلي إنما هو شؤون "الترحّم والتحنن" مما يجعل المشاهد يقرأ على الشيء اسمَي "الحنان، الرحمن". والذي يسوق معاني الترحم والتحنن إلى التجلي، جمال وكمال ذاتيان، يريدان الظهور، مما يدفع المشاهد إلى قراءة اسم "الجميل"، واسمَي "الودود، الرحيم" المندرجين فيه؛ إذ الجمال محبوبٌ لذاته. والجمال وذو الجمال يحب نفسَه بالذات فهو حُسنٌ وهو محبة. وكذا الكمال محبوب لذاته، أي محبوب بلا داعٍ إلى سبب، فهو مُحبٌّ وهو محبوب.
فما دام جمالٌ في كمال لا نهاية له، وكذا كمالٌ في جمال لا نهاية له، يُحَبُّ كلٌ منهما غايةَ الحب ومنتهاه، وهما يستحقان المحبة والعشق، فلابد أنهما يريدان الظهور في مرايا، ويريدان شهود لمعاتهما وتجلياتهما - حسب قابلية المرايا- وإشهادها الآخرين.(4/42)
وهذا يعني أن الجمال الذاتي والكمال الذاتي للصانع ذي الجلال، والحكيم ذي الجمال، والقدير ذي الكمال، يريدان الترحم والتحنن، فيسوقان اسمَي "الرحمن، الحنان" إلى التجلي. والترحم والتحنن يسوقان اسمَي "الرحيم والمنعم" إلى التجلي، وذلك بإظهار الرحمة والنعمة معاً. والرحمة والنعمة تقتضيان شؤون التودد والتعرف وتسوقان اسمَي "الودود والمعروف" إلى التجلي فيظهران على المصنوع. والتودد والتعرف يحركان معنى اللطف والكرم ويستقرآن اسمَي "اللطيف والكريم"، في بعض نواحي المصنوع. وشؤون اللطف والكرم تحرك فعلَي التزيين والتنوير فتستقرىء اسمَي "المزيّن المنور" بلسان حُسن المصنوع ونورانيته. وشؤون التزيين والتحسين تقتضي معاني الصنع والعناية وتستقرىء اسمَي "الصانع والمحسن" في السيماء الجميل لذلك المصنوع. وذلك الصنع والعناية تقتضيان العلم والحكمة فيستقرئ المصنوعُ اسمَي "العليم والحكيم" في أعضائه المنتظمة الحكيمة. ولاشك أن ذلك العلم والحكمة تقتضيان أفعال التنظيم والتصوير والتشكيل، فيستقرئ المصنوعُ بشكله وبهيئته، اسمَي "المصوّر المقدّر"".(1)
ثم لخص النورسي حديثه السابق في قوله:
" وهكذا خلق الصانع الجليل مصنوعاته كلّها، حتى يستقرئ القسمُ الغالب منها ولا سيما ذوي الحياة، كثيراً جداً من الأسماء الحسنى، وكأنه سبحانه قد ألبس كل مصنوع عشرين حلّة متباينة متراكبة، أو كأنه لف مصنوعَه ذلك بعشرين غطاء وستَره بعشرين ستاراً، وكتب على كل حُلة، وعلى كل ستار أسماءه المختلفة".(2)
ومن هذا وذاك يتضح أن كل مخلوق أياً كانت منزلته ورتبته بين المخلوقات ينال من أسماء اللّه تعالى وصفاته القدر الكافي لإيجاده كائناً متميزاً عن غيره. فتتجلى فيه بصور وأشكال متنوعة بتنوع أعضائه وأجزائه. ويظهر هو من خلالها كشاهد على دقة الصنعة الإلهية وتفردها وجمالها وكمالها.
__________
(1) الكلمات ، النورسي، ص 752،751
(2) الكلمات ، النورسي، ص 753،752(4/43)
الأسماء والصفات
إن أكثر صور وحدة الوجود انتشاراً بين المسلمين تلك التي تؤكد على أن اللّه تعالى وحده هو الموجود الحق، وما سواه من العالم فليس له وجود حقيقي، ومنها انبثقت العبارة (لا موجود إلا هو).
والعبارة عند النورسي ليست صحيحة ولا حقيقية، لأن علاقة اللّه بمخلوقاته ليست أوهاماً، بل هي أثر من آثاره. وبناء عليه فالعبارة الصحيحة هي (لا موجود إلا منه) ثم سعى إلى تقريب تلك الفكرة إلى الأذهان بمثلين. جاء في الأول منهما قوله:
"لنفرض أن هناك سلطاناً، وان لهذا السلطان دائرة عدل، فهذه الدائرة تكون ممثلة لاسم (السلطان العادل) وان هذا السلطان في الوقت نفسه هو خليفة، إذن فإن له دائرة تعكس فيها ذلك الاسم. كما أن هذا السلطان يحمل اسم القائد العام للجيش، لذا ستكون له دائرة عسكرية تظهر ذلك الاسم، فالجيش مظهر لهذا الاسم.
والآن إذا قيل بأن هذا السلطان هو السلطان العادل فقط، وأنه لا توجد سوى دائرة العدل التي تعكس اسم السلطان الأعظم، ففي هذه الحالة تظهر بالضرورة بين موظفي دائرة العدل صفة اعتبارية - غير حقيقية - لأوصاف علماء دائرة الشئون الدينية بين موظفي دائرة العدل، وكذلك الحال بالنسبة للدائرة العسكرية، إذ لابد أن تظهر أحوالها ومعاملتها بشكل ظلي وفرضي وغير حقيقي بين موظفي دائرة العدل وهكذا.
إذن ففي هذه الحالة، فإن اسم السلطان الحقيقي وصفة حاكميته الحقيقية (الحاكم العادل). وحاكميته في دائرة العدل، أما صفاته الأخرى مثل الخليفة والقائد العام للجيش، فتبقى نسبية وغير حقيقية، بينما ماهية السلطان وحقيقة السلطنة تقتضيان هذه الأسماء جميعاً بصورة حقيقية، وأن الأسماء الحقيقية تتطلب هي الأخرى دوائر حقيقية وتقتضيها" .(1)
__________
(1) المكتوبات ، النورسي، ص 107،106(4/44)
فبما أن السلطان بحكم تبوئه مركز الصدارة في سلطنته، ويمثل رمز السلطة والنظام فيها. فإن كل ما فيها يحمل اسمه السلطاني وينسب إليه نسبة حقيقية. وفي كل منها يظهر اسمه ويدل عليه. فلو فرض أن تلك مجتمعة ما هي إلاَّ ترديد لاسمه وانعكاس له. ففي تلك الحالة تبرز صفة غير حقيقية أشبه بالظل في كل واحد منها. ويقفز من فيها من العاملين إلى مركز الصدارة فتكون لهم شخصيتهم الاعتبارية بتلك الصفة وحدها.
أما السلطان فيبقى له من الاسم والصفة الحاكم العادل. أي فقط كرمز لسلطة الحاكم، وتتراجع باقي الأسماء والصفات إلى الظل فتصبح غير حقيقية ولا لازمة، مع أن طبيعة السلطة وأسسها التنظيمية تقضى بفرض أسمه حقيقة على كل دوائر السلطنة.
وانطلاقاً من تلك الحقائق البديهية يقول النورسي:
" وهكذا فإن سلطنة الألوهية تقتضي وجود أسماء حسنى حقيقية متعددة لها، أمثال الرحمن، الرزاق، الخلاق، الفعّال، الكريم، الرحيم، وهذه الأسماء والصفات تقتضي كذلك وجود مرايا حقيقية لها".(1)
يعني لاسم اللّه تعالى أسماء وصفات تتطلب ألوهيته، وتألّه الخلق له يوجب متعلقات حقيقية. ولكن:
__________
(1) المكتوبات ، النورسي، ص 107(4/45)
" ما دام أصحاب وحدة الوجود يقولون (لا موجود إلا اللّه) وينزلون الموجودات منزلة العدم والخيال. فإن أسماء اللّه تعالى أمثال واجب الوجود، الموجود، الأحد الواحد، تجد تجلياتها الحقيقية ودوائرها الحقيقية. وحتى إن لم تكن دوائر هذه الأسماء ومراياها حقيقية – وأصبحت خيالية وعدمية – فلا تضر تلك الأسماء شيئاً، بل ربما يكون الوجود الحقيقي أصفى والمع إن لم يكن في مرآته لون الوجود. ولكن في هذه الحالة لا تجد أسماء اللّه الحسنى الأخرى أمثال الرحمن الرزاق القهار الجبار الخلاق تجلياتها الحقيقية. بل تصبح اعتبارية ونسبية، بينما هذه الأسماء هي حقيقية كاسم الموجود، ولا يمكن أن تكون ظلاً، وهي أصلية لا يمكن أن تكون تابعة".(1)
وعلى رأي النورسي فلا غضاضة من إطلاق تلك الأحكام كواجب الوجود والموجود والأحد وغيرها على اللّه تعالى، وإضافتها إلى اسم اللّه، طالما أن لها مظاهرها الحقيقية وتجلياتها المعتبرة. فتعبر عندئذ تعبيراً حقيقياً عن ذاته تعالى المؤلّهة، ولكنها تأخذ في جميع مستوياتها النظرية طابعاً عرفانياً مجرداً، تتضاءل إلى جانبه سائر أسمائه الحسنى. وتتراجع إلى مرتبة الظل لها، ولا تنسب إليه قياساً عليها.
أما المثل فقد أورده تدعيماً لتلك الفكرة، ونموذجاً تطبيقياً لها. فجاء فيه:
" لنفرض أن في هذه الغرفة أربع مرايا جدارية كبيرة موضوعة على جدرانها الأربعة، فصورة الغرفة ترتسم على كل مرآة من هذه المرايا، ولكن كل مرآة تعكس صورة الأشياء بالشكل الذي يناسب صفتها ولونها، أي أن كل مرآة ستعكس منظراً خاصاً للغرفة.
__________
(1) المكتوبات ، النورسي، ص 107(4/46)
فإذا دخل رجلان إلى الغرفة واطلع أحدهما على إحدى هذه المرايا، فإنه يعتقد بأنه يرى جميع الأشياء مرتسمة فيها، وعندما يسمع بوجود مرايا أخرى وما فيها من صور، فإنه يعتقد بأنها صور المرايا التي تنعكس على مرآته نفسها والتي لا تشغل إلا حيزاً صغيراً منها، بعد أن تضاءلت صورتها مرتين وتغيرت حقيقتها، فيقول:
إنني أرى الصورة هكذا، إذن فهذه هي الحقيقة.
فيقول له الرجل الثاني:
نعم إنك ترى ذلك وما تراه صحيح. ولكن ليس هو في الواقع الصورة نفسها، فهناك مرايا أخرى غير المرآة التي تحدق فيها. وتلك المرايا ليست صغيرة وضئيلة ومنعكسة من الظلال كما تراها في مرآتك".(1)
إذن فإن تغطية جدران الغرفة الأربعة بالمرايا، يجعل جداراً عاكساً لجانب أو لآخر منها. وتتداخل المناظر بعضها في بعض بشكل يوهم الوالج فيها، بأنه يرى كل شيء كما لو كان حقيقياً، ورؤيته تلك صادقة لا ريب في صدقها، ولكنها ليست الحقيقة في ذاتها. ومنها انتهى النورسي للقول:
" وهكذا فإن كل اسم من أسماء اللّه الحسنى يتطلب مرآة خاصة به على حدة، فمثلاً: إن الأسماء الحسنى أمثال الرحمن والرزاق، لما كانت أسماء حقيقية وأصلية، فإنها تقتضي موجودات لائقة بها ومخلوقات محتاجة إلى مثل هذا الرزق، ومثل هذه الرحمة".(2)
وعلى هذا فإن أسماء اللّه الحسنى أصلية وليست تابعة لأحكام ذاتية للّه تعالى، وكل اسم يقتضي ويستلزم أمراً زائداً يصلح له ويليق به، وهو التجلي أو التعلق، أو بمعنى أشمل ظهور وانكشاف مقتضيات الاسم وتحقق معانيه على صفحة الوجود الخارجي، تماماً كما تتراءى حقائق الأشياء على المرآة الصافية، وتتكشف حقائقها فتتبدى مستقلة في وجودها عن الذات الإلهية.
المبارزة
__________
(1) المكتوبات ، النورسي، ص 108،107
(2) المكتوبات ، النورسي، ص 108(4/47)
اقتضت حكمة اللّه تعالى وجود التضاد والتباين بين الكائنات كضرورة لابد منها للحفاظ على بقائها، وتمتحة لازمة لكمال الحياة، وأطلق عليها النورسي اسم المبارزة كَعَلم دال عليها، ثم جعلها جزءً لا يتجزأ من مقتضيات ومتعلقات الأسماء الإلهية، فقال.
" إن لرب العالمين، وخالقها ومدبر أمرها ذي الجلال والإكرام أسماء حسنى كثيرة، متغايرة أحكامها، متفاوتة عناوينها، فالاسم والعنوان والصفة التي تقتضي إرسال الملائكة للقتال في صف الصحابة الكرام مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم لدى محاربة الكفار، هو الاسم نفسه، والعنوان نفسه، والصفة نفسها التي تقتضي أن تكون هناك محاربة بين الملائكة والشياطين، وان تكون هناك مبارزة بين السماويين الأخيار والأرضيين الأشرار".(1)
ثم مثل لتلك المبارزة بقوله:
" نرى أن السلطان له عناوين مختلفة وأسماء متنوعة حسب دوائر حكومته، فالدائرة العدلية تعرفه باسم الحاكم العادل، والدائرة العسكرية تعرفه باسم القائد العام، بينما دائرة المشيخة تذكره باسم الخليفة. والدائرة الرسمية تعرفه باسم السلطان، والأهلون المطيعون للسلطان يذكرونه باسم السلطان الرحيم، بينما العصاة يقولون أنه الحاكم القهار، وقس على هذا، فإن ذلك السلطان الجليل المالك لناصية الأهلين كافة، لا يعدم بأمر منه شخصاً عاجزاً، وعاصياً ذليلاً، بل يسوقه إلى المحكمة باسم الحاكم العادل.
__________
(1) الكلمات ، النورسي، ص 206،205(4/48)
ثم إن ذلك السلطان الجليل لا يلتفت إلتفاتة تكريم إلى أحد موظفيه، الجديرين بها حسب علمه به، ولا يكرمه بهاتفه الخاص، بل يفتح ميدان مسابقة، ويهيئ له استقبالاً رسمياً، يأمر وزيره ويدعو الأهلين إلى مشاهدة المسابقة، ثم يكافئ ذلك الموظف بعنوان هيئة الدولة وإدارة الحكومة، فيعلن مكافاته في ذلك الميدان نظير استقامته، أي يكرمه ويتفضل عليه أمام جموع غفيرة من أشخاص سامين بعد امتحان مهيب، لإثبات جدارته أمامهم".(1)
إن ذلك السلطان له أسماء كثيرة لها آثارها وموجباتها من مملكته، بدءاً من اسمه الأعظم الذي به يفرض حاكميته وحكمه على رعاياه، انتهاءً بالأسماء التي تشيع العدل بينهم.
غير أن هذا السلطان لا يجازي أياً من رعاياه إلا بعد أن يفتح باب المفاضلة أو المقابلة أمام الجميع ليبرز ويظهر على رؤوس الأشهاد من بينهم من هو أفضل وأحسن ويستحق ما هو أهل له.
وهكذا الحال مع أسماء اللّه تعالى، فيقول النورسي:
" فللّه تعالى أسماء حسنى كثيرة، وله شئون وعناوين كثيرة جداً. وله تجليات وظواهر جمالية، فالاسم والعنوان والشأن الذي يقتضي وجود النور والظلام، والصيف والشتاء، والجنة والنار، يقتضي شمول قانون المبارزة نوعاً ما وتعميمه أيضاً كقانون التناسل، وقانون المسابقة، وقانون التعاون كأمثاله من القوانين الشاملة، أي يقتضي شمول قانون المبارزة ابتداءً من المبارزة بين الإلهامات والوساوس الدائرة حول القلب، وانتهاء إلى المبارزة بين الملائكة والشياطين في آفاق السماوات".(2)
__________
(1) الكلمات ، النورسي، ص 206
(2) الكلمات ، النورسي، ص 206(4/49)
يعني أن أسماء اللّه وسماتها تقتضي بالضرورة التضاد والتباين والخلاف، بين كل شيئين، كالسواد والبياض، والحياة والموت، والليل والنهار. على ألا يفهم من مقابلة كل منهما للآخر على ضوء ذلك الاقتضاء، إلا كونهما فكرتين متعاقبتين، تقف كل منها معارضة للأخرى ومناقضة للأخرى، ويزداد ذلك التعارض حتى يصل حد التنافر والمنازعة، أو كما في تعبير النورسي حد المبارزة.
قرب الله وبعده
أشارت كثير من آيات القرآن إلى قرب اللّه تعالى من عباده قرباً فيه من الشدة مالا يشعر به أحد من خلقه، كما دلت آيات أخرى على بعده تعالى بعداً هو أيضاً من الشدة بحيث لا يشعر به أحد. وشبه النورسي كلاهما بالشمس التي يبلغ قربها وبعدها من الناس الحدود القصوى، فقال:
" إن الشمس بنورها غير المقيد، ومن حيث صورتها المنعكسة غير المادية أقرب إليك من بؤبؤ عينك – التي هي مرآة لنافذة روحك – إلا أنك بعيد عنها غاية البعد، لأنك مقيد ومحبوس في المادة، ولا يمكنك أن تمس إلا قسماً من صورها المنعكسة وظلالها، ولا تقابل إلاّ نوعاً من جلواتها الجزئية، ولا تتقرب إلاّ لألوانها التي هي في حكم صفاتها، ولطائفة من أشعتها التي هي بمثابة طائفة من أسمائها".(1)
فالشمس بحكم قوة ظهورها، وسرعة انتشار أشعتها، ونفاذها في كل شيء، أقرب إلى الإنسان من إنسان عينه وسوادها، وفي الوقت نفسه هو بعيد عنها بحكم طبيعته المادية التي لا تتحمل ولا تحتمل إلا جزءاً غاية في الصغر منها، ولكن إذا أراد فعلاً الاقتراب منها. لزمه كما يقول النورسي:
" التجرد عن كثير جداً من القيود، والمضي في مراتب كلية كثيرة جداً، وكأنك تكبر معنى – من حيث التجرد – بقدر الكرة الأرضية، وتنبسط روحاً كالهواء، وترتفع عالياً كالقمر، وتقابل الشمس كالبدر، ومن بعد ذلك يمكنك أن تدعي نوعاً من القرب دون حجاب"(2)
__________
(1) الكلمات ، النورسي، ص 217
(2) الكلمات ، النورسي، ص 217(4/50)
وعليه فإذا أراد الإنسان الاقتراب من الشمس فعلاً، فعليه أن ينزع عنه كل ما يحول بينه وبين الدنو منها، وعلى رأسها كتلته المادية أو جسمه، ثم يتخذ لنفسه مادة شفافة ورقيقة وغاية في اللطف كالنور، وقابلة للتمدد والانتشار كالهواء، عندئذ بإمكانه الزعم ولو فرضاً بأنه اقترب منها قرباً لا ساتر بينه وبينها.
وزيادة في تصوير الفكرة في قالب مألوف، مثل النورسي لها قائلا:
" إن اسم القائد ـ مثلا ـ من بين أسماء السلطان الكثيرة ـ يظهر في دوائر متداخلة في دولته، فابتداءً من الدائرة الكلية للقائد العام العسكري ودائرة المشير والفريق حتى يبلغ دائرة الملازم والعريف. أي أن تجلي ظهوره يكون في دوائر واسعة ودوائر ضيقة وبشكل كلي وجزئي".(1)
ومقصوده أن صفة القيادة واسم القائد هي الغالبة في أنظمة الجيوش، بدءاً من أعلاها مرتبة إلى أدناها، وفي تسلسل طبيعي وفعال، وضمن إطارات قد تتسع وتضيق وفقاً لما يحقق امتداد القيادة وتغلغلها في جميع أفراد الجيش وقياداته العسكرية.
أما مدى قرب وبعد الجندي العادي ممن يحتل مركزاً جزئياً ضمن قيادة الجيش الكلية، فأوضحه النورسي بقوله:
" فالجندي، أثناء خدمته العسكرية، يتخذ من مقام العريف مرجعاً له، لما فيه من ظهور جزئي جداً للقيادة. ويتصل بقائده الأعلى بهذا التجلي الجزئي لاسمه، ويرتبط به بعلاقة، ولكن لو أراد هذا الجندي أن يتصل بالقائد الأعلى باسمه الأصلي، وان يقابله بذلك العنوان ينبغي له الصعود وقطع المراتب كلها من مرتبة العريف إلى المرتبة الكلية للقائد العام.
__________
(1) الكلمات ، النورسي، ص 217(4/51)
أي أن السلطان قريب من ذلك الجندي باسمه وحكمه وقانونه وعلمه وهاتفه وتدبيره، وان كان ذلك السلطان نورانياً ومن الأولياء الأبدال، فانه يكون قريباً إليه بحضوره بالذات، إذ لا يمنع شيء من ذلك ولا يحول دونه شئ. ومع أن ذلك الجندي بعيد عن السلطان، غاية البعد وهناك الألوف من المراتب التي تحول بينه وبين السلطان وهناك الألوف من الحجب تفصله عنه، ولكن السلطان يشفق أحياناً على أحد الجنود فيأخذه الى حضور ديوانه ـ خلاف المعتاد ـ ويسبغ عليه من أفضاله وألطافه".(1)
فالسلطان وضمن منظومة القيادة العامة قريب من الجندي، ولكن الجندي بعيد عنه بعداً كبيراً، بحكم اسمه ومرتبته وصفته، ومع هذا وذاك فليس هناك مانع يحول بين السلطان وبين الاقتراب منه، وهكذا فإن قرب ذلك الجندي وبعده يشبه تماماً قرب اللّه وبعده عن عبده، فاللّه كما يقول النورسي:
" أقرب إلى كل شيء من أي شيء كان، مع أن كل شيء بعيد عنه بعداً لا حدود له".(2)
ومهما يكن من أمر، فإن قرب اللّه من عبده لا يعد مشكلة تؤرقه، وإنما المشكلة في الكيفية التي يقترب بها من اللّه، ذلك القرب الذي تزول فيه الحجب وترتفع الحواجز، وليس هناك إلا طريقة واحدة بيّنها النورسي في قوله:
" إذا أريد الدخول إلى ديوان قربه وحضوره المقدس بلا حجاب، فإنه يستلزم المرور بين سبعين ألف حجاب من الحجب النورانية والمظلمة، أي المادية والكونية والأسمائية والصفاتية، ثم الصعود إلى كل اسم من الأسماء الذي له ألوف من درجات التجليات الخصوصية والكلية، والمرور إلى طبقات صفاته الجليلة والرفيعة، ثم العروج إلى عرشه الأعظم الذي حظي بالاسم الأعظم، فإن لم يكن هناك جذب ولطف إلهي، يلزم ألوفاً من سني العمل والسلوك".(3)
__________
(1) الكلمات ، النورسي، ص 218،217
(2) الكلمات ، النورسي، ص 218
(3) الكلمات ، النورسي، ص 218(4/52)
فالقرب من ذات اللّه تعالى الجامعة للأسماء والصفات، ليس بالأمر الهين اليسير، بل يحتاج العبد إلى مجهودات شاقة ومضنية تصل في بعض الأحيان حد الاستحالة التامة، وقد تستغرق محاولته في الاقتراب من اللّه العمر كله ولا يقترب منه على الإطلاق، أما إذا أراد العبد القرب من أحد أسماء اللّه الحسنى فينصح النورسي قائلا:
"إذا أردت أن تتقرب إليه سبحانه باسم الخالق، فعليك الارتباط وتكوين علاقة أولاً من حيث إنه خالقك الخاص، ثم من حيث إنه خالق جميع الناس، ثم بعنوان أنه خالق جميع الكائنات الحية، ثم باسم خالق الموجودات كلها، لذا فإن لم تتدرج هكذا تبقى في الظل ولا تجد إلاّ جلوة جزئية".(1)
فما يجب عليه إذن هو:
الانتساب أولاً للّه تعالى بصفة الخالقية، أي كونه خالقاً له هو، وعلى مستوى الفردية، ثم ينتقل من النسبة والانتساب إلى أن ينتمي إليه تعالى ضمن النوع البشري، ثم المخلوقات الحية، وأخيراً الموجودات كلها حية وغير حية، وإذا لم يفعل ذلك فربما ظل في مكانه بعيدا عن اللّه بعداً متناهياً.
حركة الذرات
تتكون كل حفنة من تراب على ذرات متماثلة تعمل جميعها كما لو كانت ذرة واحدة لها معامل ومصانع خاصة بها، وبعدد أنواع النباتات والأشجار التي تزرع فيها، فإما أن يسند عملها في دقته وإعجازه إلى علم واسع محيط بكل شيء، وقدرة تبدع كل شيء من العدم، أو تنسب أعمالها إلى اللّه تعالى القدير على كل شيء، والعليم بكل شيء، وللتدليل على ذلك روى النورسي المثلين التاليين:
__________
(1) الكلمات ، النورسي، ص 218(4/53)
" لو سافر شخص إلى أوروبا وهو جاهل بوسائل الحضارة الغربية جهلاً حقيقياً، وعلاوة على ذلك فهو أعمى لا يبصر، ولو دخل هناك إلى جميع المعامل والمصانع، وأنجز أعمالاً بديعة في كل صنوف الصناعة، وفي أنواع الأبنية بانتظام كامل وحكمة فائقة، ومهارة بارعة تحيرت منها العقول، فلا شك أن من له ذرة من الشعور يعرف يقيناً: أن ذلك الرجل لا يعمل من تلقاء نفسه، بل هناك أستاذ عليم يلقنه ويستخدمه.
وأيضاً لو كان هناك عاجز أعمى مقعد قابع في كوخه الصغير، لا يحرك ساكناً ادخل عليه قليل من حصو، وقطع من عظم، وشيء يسير من قطن، وإذا بالكوخ الصغير تصدر منه أطنان من السكر وأطوال من النسيج، وآلاف من قطع الجواهر ومع ملابس في أبهى زينة وأفخر نوع، مع أطعمة طيبة في منتهى اللذة، أفلا يقول من له ذرة من العقل: أن ذلك الأعمى المقعد ما هو إلا حارس ضعيف لمصنع معجز وخادم لدى صاحبه ذي المعجزات".(1)
بلغ الرجلان الجاهل والأعمى من الضعف والعجز في قواهما الحسية والعقلية حد المنتهى، ومع ما أتيا من الأعمال ما هو من قبيل الخوارق والمعجزات التي يستحيل نسبتها أو إسنادها إليهما، بل ينسبها كل عاقل ويسندها إلى من له من كمال العقل والعلم والاقتدار على الصنعة مالا يستبعد منه شيء، وكذلك الحال مع حركة الذرات في حفنة التراب في نسبتها إلى اللّه تعالى من الحقائق التي لا يجادل فيها عاقل. يقول النورسي في مطابقة المثل مع تلك النسبة الربانية:
" إن حركات ذرات الهواء ووظائفها في النباتات والأشجار والأزهار والأثمار، التي كل منها كتابة إلهية صمدانية ورائعة من روائع الصنعة الربانية، ومعجزة من معجزات القدرة الإلهية، وخارقة من خوارق الحكمة الإلهية، لا تتحرك ولا تنتقل من مكان إلى آخر إلا بأمر الصانع الحكيم ذي الجلال، وبإرادة الناظر الكريم ذي الجلال.
__________
(1) الكلمات ، النورسي، ص 654(4/54)
وقس على هذا ذرات التراب الذي هو منبت لسنابل البذور والنوى، التي كل منها في حكم ماكينة عجيبة تختلف عن الأخرى، ومطبعة مغايرة للأخرى، وخزينة متباينة عن الأخرى ولوحة إعلان تعلن أسماء اللّه الحسنى متميزة عن الأخرى، وقصيدة عصماء تثنى على كمالاته جل وعلا. ولا شك أن هذه البذور البديعة ما أصبحت منشأ لتلك الأشجار والنباتات إلا بأمر اللّه المالك لأمر كن فيكون، وكل شيء مسخر لأمره، ولا يعمل إلا بإذنه وإرادته وقوته، وهذا يقين وثابت قطعاً".(1)
ومجمل كلام النورسي ينحصر في أن حركة الذرات سواء كانت في التربة، أو في داخل النباتات، هي فوق كونها معجزة إلهية خارقة للعوائد، لا تتم أو تحدث إلا بمشيئة اللّه تعالى ووفقاً لإرادته في إيجاده للموجودات وخلقه للمخلوقات، ولو لم يكن الأمر كذلك فهي:
" إما أنها في موقع حاكم مسيطر على كل ذرة من الذرات وعلى مجموعها، ومحكومة في الوقت نفسه تحت أمر كل ذرة من الذرات وأمر مجموعها، وأنها تعرف معرفة كاملة، بالصورة البديعة المحيرة للألباب والنقش الرائع المليء بالحكمة، فتوجدها! وهذا محال بألف محال.. أو أنها نقطة مأمورة بالحركة نابعة من قلم قدرة اللّه سبحانه وقانون قَدَره".(2)
يعني أن الذرات إما أن تكون آمرة أو مأمورة، حاكمة أو محكومة، ومثل النورسي لخضوعها لمشيئة اللّه وإرادته بقوله:
" إن الأحجار الموجودة في قبة آيا صوفيا، إن لم تكن مطيعة لأمر بنائها ينبغي أن يكون كل حجر منها ماهراً في صنعة البناء، ويكون حاكماً على الأحجار الأخرى، ومحكوماً بأمرها في الوقت نفسه، أي يمكنه أن يحكم الأحجار فيقول لها:
هيا أيتها الأحجار لنتحد حتى نحول دون سقوطنا".(3)
__________
(1) الكلمات ، النورسي، ص 655،654
(2) الكلمات ، النورسي، ص 659
(3) الكلمات ، النورسي، ص 660،659(4/55)
ومقصوده أن الأحجار لو لم تكن مطيعة منقادة بيسر وسهولة للباني، لاتخذت وضعاً غريباً وشاذا، بحيث يجعل منها تارة حاكمة وأخرى محكومة، وكذلك الحال في الذرات على فرض استقلالها عن اللّه في الحركة والتنقل، وهي كما يؤكد النورسي:
" أكثر إبداعاً، وأكثر إتقاناً، واكثر روعة، وأكثر إثارة للإعجاب، وأكثر حكمة من قبة آيا صوفيا بآلاف المرات".(1)
يعني أن الذرة في أصل تكوينها وَمَنْشَئِهَا بلغت الكمال المطلق الذي لا مجال فيه للمقارنة بينها وبين الصنعة البشرية، وبالتالي:
" إن لم تكن هذه الذرات منقادة لأمر الخالق العظيم، خالق الكون فينبغي إذن أن تعطى لكل منها أوصاف الكمال التي لا تليق إلا باللّه".(2)
يعني لو فرض أن الذرة ليست خاضعة للّه في حركتها، بل لها حركة ذاتية مستقلة تماماً عن اللّه تعالى، فعندئذ تستأهل كل واحدة منها عن جدارة واستحقاق ما للخالق من صفات الكمال والجمال، وأسماء الجلال والعظمة والاقتدار.
- تمت - تمت
الفصل الثاني
القرآن
إعجاز القرآن
إن الضعف الشديد الذي يواجهه قارئ القرآن، وعدم قدرته على مجاراته أو تقليده، يشعره كما لو كان عاجزاً لا يملك إزاءه قوة ولا مقدرة. ومن هنا اختلف الإسلاميون في بيان أوجه إعجازه على مذهبين:
الأول يرى أصحابه أن إعجاز القرآن يتمثل في ارتقائه في البلاغة حداً يفوق طاقة البشر ويعجزهم عن معارضته، أو بمعنى أدق أن معارضته ممكنة، ولكن اللّه تعالى صرفهم أو منعهم من الإتيان بمثله، ولو لم يمنعهم لأمكنهم مجاراته ومقابلته بما عندهم من مقدرة بيانية، إن لم يكن في إعجازه، فعلى الأقل في بلاغته، ليبقى القرآن في كل الأحوال معجزة للرسول صلى اللّه عليه وسلم. ومثل النورسي لذلك المذهب بقوله:
__________
(1) الكلمات ، النورسي، ص 660
(2) الكلمات ، ص660(4/56)
" إن قيام الإنسان وقعوده ضمن قدرته ونطاق استطاعته، فإن قال نبي كريم لشخص ما لا استطعت من القيام إظهاراً للمعجزة، ولم يستطع الشخص من القيام فعلاً، فقد وقعت المعجزة".(1)
فمعلوم بداهة أن حركات الإنسان الاختيارية تصدر عنه بإرادته ومشيئته، وهي مندرجة بالضرورة ضمن استطاعته على الفعل والترك، فلو قال له النبي المرسل: معجزتي أن آمرك بعدم الحركة فلا تقدر عليها، وعجز المخاطب فعلا عن الحركة، فتلك بلا أدنى شك معجزة له.
ثم قال النورسي في شرحه لهذا المذهب:
" وهكذا فالعلماء الذين يقولون وفق هذا المذهب:
لا يمكن معارضة القرآن حتى بكلمة واحدة.
هو كلام حق لا مراء فيه، لأن اللّه سبحانه قد منعهم عن ذلك إظهاراً للإعجاز فلا يستطيعون إذن أن يتفوهوا بشيء للمعارضة، ولو أرادوا قول شيء ما للمعارضة فلا يقدرون عليه من غير إرادة اللّه ومشيئته".(2)
ومرد ذلك إلى أن للإعجاز في هذه الحالة من فعل اللّه، أو ما يقوم مقامه، مما يدخل عادة في عدم فعل المقدور، وليس فعل مالا قدرة فيه. فهم من ناحية لا يقدرون على مضاهاته أو ما يشابهه، ولو اجتهدوا من ناحية أخرى على ذلك لما استطاعوا، فهم في كلتا الحالتين مصروفين أو ممنوعين من مجاراته.
أما المذهب الثاني من إعجاز القرآن فهو الإيجاز في اللفظ وكثرة معانيه مع البلاغة والبيان والفصاحة والنظم، التي هي بدورها مما يخرج عن وسع البشر، وخلاصة المذهب لخصها النورسي في قوله:
" إن كلمات القرآن وجمله ينظر بعضها إلى البعض الآخر، فتتواجه وتتناظر الكلمات والجمل، فقد تكون كلمة واحدة متوجهة إلى عشرة مواضع، وعندها تجد فيها عشر نكات بلاغية، وعشر علاقات تربطها مع الكلمات الأخرى".(3)
ولتوضيح مزايا ذلك المعنى أورد هذين المثلين:
__________
(1) المكتوبات ، النورسي، ص 246
(2) المكتوبات ، النورسي، ص 246
(3) المكتوبات ، النورسي، ص 246(4/57)
" لو تصورنا قصراً عظيماً جدرانه منقشة بنقوش بديعة، ومزينة بزخارف رائعة، فإن وضع حجر يحمل العقدة الأساس لتلك الزخارف والنقوش في موضعه اللائق به - بحيث يرتبط معها جميعاً ويشرف عليها - يحتاج إلى معرفة كاملة بتلك النقوش جميعها، وبتلك الزخارف التي تملأ الجدران.
ومثال آخر نأخذه من جزء الإنسان: إن وضع بؤبؤ عين الإنسان في موضعه اللائق يتوقف على معرفة علاقة العين بالجسم كله، ومعرفة مدى علاقة وارتباط بؤبؤ العين بكل جزء من أجزاء الجسم وبوظيفته".(1)
فالقصر من حيث البناء والتحسين والتلوين بلغ المنتهى في الجمال وإتقان الصنعة، ووضع حجر واحد يتطلب معرفة شاملة وعلم محيط بكل جزئية من جزئيات تلك الزخارف والتزيينات حتى يدخل ذلك الحجر في علاقة وثيقة مع كل ما في القصر، تتميز بالأحكام والتماسك والتناسق، وكذلك الحال مع إنسان العين في جسم الإنسان، فقد وضع في موضع يجعله في علاقة متينة ليست فقط ضمن حدود العين، بل بكل أعضاء الجسم.
وتطبيقاً لما مضى ذكره يقول النورسي في تبيانه لرأى أصحاب
المذهب الأول:
" فقس على هذين المثالين لتعلم كيف بيّن السابقون من أهل الحقيقة ما في كلمات القرآن من الوجوه العديدة والعلاقات والأوامر والارتباطات التي تربطها مع سائر جمله وآياته، ولا سيما علماء حروف القرآن، فقد أوغلوا كثيراً في هذا الموضوع واثبتوا بدلائل أن في كل حرف من القرآن الكريم أسراراً دقيقة تسع صحيفة كاملة من البيان والتوضيح.
نعم إن في كلام البشر ما يشبه كلمات القرآن وجمله وآياته، إلاّ أن تلك الآيات الكريمة أو الكلمة والجملة القرآنية قد وضعت في موضعها الملائم لها بحيث روعي في وضعها كثير جداً من الارتباطات والعلاقات مما يلزم علماً محيطاً كلياً كي يضعها في ذلك الموضع اللائق بها".(2)
__________
(1) المكتوبات ، النورسي، ص 246
(2) المكتوبات ، النورسي، ص 247(4/58)
ومثلما أن القصر والجسم الإنساني بناء متكامل في مجموعه، وكل جزئية فيه لها ارتباطات واسعة وقوية مع باقي الأجزاء، كذلك الكلمة الواحدة في القرآن لها معناها المستقل في الذهن عن باقي الكلمات، إلا أنها تعمل وضمن النسق والنظام العام بطريقة لا يمكن عزلها ولا انفصالها عن المجموع ككل.
أعظم إعجاز القرآن
إن كل جوانب الإعجاز للقرآن عظيمة، ولكن أعظمها منزلة وأعلاها رتبة، هي التي مثّل لها النورسي بقوله:
" لنفرض شجرة عجيبة في منتهى العلو والغرابة، وفي غاية الانتشار والسعة، قد أسدل عليها غطاء الغيب، فاستترت طي طبقات الغيب.
ومن المعلوم أن هناك توازناً وتناسباً وعلاقات ارتباط بين أغصان الشجرة وثمراتها وأوراقها وأزاهيرها – كما هو موجود بين أعضاء الإنسان – فكل جزء من أجزائها يأخذ شكلاً معيناً، وصورة معينة حسب ماهية تلك الشجرة.
فإذا قام أحد - من قبل تلك الشجرة التي لم تشاهد قط ولا تشاهد - ورسم على شاشة صورة لكل عضو من أعضاء تلك الشجرة، وحدّ له، بأن وضع خطوطاً تمثل العلاقات بين أعضائها وثمراتها وأوراقها وملأ ما بين مبدئها ومنتهاها، بصور وخطوط تمثل أشكال أعضائها تماماً وتبرز صورها كاملة، فلا يبقى أدنى شك من أن ذلك الرسام يشاهد تلك الشجرة الغيبية بنظره المطلع على الغيب ويحيط به علماً، ومن بعد ذلك يصورها".(1)
إن كل ما في تلك الشجرة يدعو للعجب والاستغراب، فهي:
عالية علواً بلغ حد النهاية.
وليست مألوفة ولا مأنوسة لأحد من الخلق.
وتمتد هنا وهناك شاغلة نطاقاً واسعاً.
ثم مع هذا فقد سترت أو أخفيت وأُبعدت عن الأنظار، فلا يراها أحد، فعدت من جملة ما غاب أو يغيب عن الأنظار.
وككل الأشجار فهناك ارتباط قوي وتعلق شديد بين جذع تلك الشجرة وبين فروعها وأزهارها وثمراتها، بحيث يشكل وحدة واحدة متكاتفة ومتعاونة فيما بينها، تكاتف وتعاون الأصل مع فروعه.
__________
(1) الكلمات ، النورسي، ص 506(4/59)
فإذا فرض أن رساماً ما رسم صورة لتلك الشجرة المحجوبة بالغيب، بلغت في دقة تفاصيلها حد التطابق والتماثل معها، فليس لهذا إلا معنى واحد وهو مقدرته الفائقة على اختراق حجب الغيب ورؤيته المباشرة لها، وإحاطته بها علماً ومعرفة.
ويرى النورسي أن أعظم درجة لإعجاز القرآن تشبه تلك الشجرة العجيبة، فيقول عنها:
" فالقرآن كهذا المثال أيضاً، فإن بياناته المعجزة التي تخص حقيقة الموجودات، قد حافظت – تلك البيانات الفرقانية – على الموازنة والتناسب، وأعطت لكل عضو من الأعضاء، ولكل ثمرة من الثمرات صورة تليق بها، حيث خلص العلماء المحققون – لدى إجراء تحقيقاتهم وأبحاثهم – إلى الانبهار والإنشداه، قائلين، ما شاء اللّه، بارك اللّه، إن الذي يحل طلسم الكون ويكشف معمى الخلق، إنما هو أنت وحدك أيها القرآن الكريم".(1)
وعلى أي حال فإن أعظم مرتبة لإعجاز القرآن وأعلى درجة، وكما يفهم من العبارة السابقة هي في كلامه المعجز، ودلالاته البينة، وحججه القوية المتعلقة بجوهر الوجود وحقيقة الموجودات، ولا يقف الإعجاز عند هذا، بل يتعداه إلى إفهام وتفهيم تلك الحقائق بيسر وسهولة، وبلا إفراط ولا تفريط.
وعندما وقف العلماء والحكماء على تلك الحقائق بأنفسهم بعد بحوث وتجارب مضنية، لم يملكوا إلا التسليم للقرآن بأنه وحده الذي يكشف حجب الغيب. ويزيل الغموض عن حقائق الكون، وبطريقة تتقاصر عندها همم العلماء والعارفين.
سمو القرآن
أن عظمة القرآن وعلو مكانته وفضله على غيره من الكتب السماوية، من الأمور التي لا خلاف عليها ومعلومة بالبداهة، ولكن عندما يستخدم المثل في تقدير حقيقة كهذه، فإن معناها ينحو منحى محسوساً يجعلها في متناول اليد، وإثباتاً لذلك روى النورسي في بيان سمو القرآن وتفوقه على غيره من الكتب هذين المثلين.
فقال في الأول:
" أن للسلطان نوعين من المكالمة، وطرازين من الخطاب والكلام:
__________
(1) الكلمات ، النورسي، ص 506(4/60)
الأول مكالمة خاصة بواسطة هاتف خاص مع أحد رعاياه من العوام في أمر جزئي يعود إلى حاجة خاصة به.
والآخر مكالمة باسم السلطنة العظمى، وبعنوان الخلافة الكبرى، وبعزة الحاكمية العامة، بقصد نشر أوامره السلطانية في الآفاق، فهي مكالمة يجريها مع أحد مبعوثيه، أو مع أحد كبار موظفيه، فيه مكالمة بأمر عظيم يهم الجميع".(1)
فللسلطان في المثل نوعان من الألفاظ يقصد بها إفهام من هو متهيئ لفهمه من اتباعه.
الأول: له صفة الخصوصية، ومعنى التفرد والانفراد، وفيه يتوجه بالكلام وعن طريق وسيط إلى أحد بعينه، وفي مأرب من مآربه الشخصية.
والثاني: يأخذ صفة العمومية والشمول، ويصدر حاملاً أسماءه وصفاته العامة والخاصة، ولكن عن طريق رسول يمثله هو شخصياً، ويتضمن تكاليفه ومراداته من الرعايا، لأن الكلام يتعلق بأشياء خطيرة وجليلة وتشغل بال الجميع.
أما المثل الثاني فجاء فيه:
" رجل يمسك مرآة تجاه الشمس، فالمرآة تلتقط - حسب سعتها - نوراً وضياء يحمل الألوان السبعة في الشمس، فيكون الرجل ذا علاقة مع الشمس بنسبة تلك المرآة، ويمكنه أن يستفيد منها فيما إذا وجهها إلى غرفته المظلمة، أو إلى مشتله الخاص الصغير المسقف، بيد أن استفادته من الضوء تنحصر بمقدار قابلية المرآة على ما تعكسه من نور الشمس، وليست بمقدار عظم الشمس.
بينما رجل آخر يترك المرآة ويجابه الشمس مباشرة، ويشاهد هيبتها ويدرك عظمتها، ثم يصعد على جبل عال جداً وينظر إلى شعشعة سلطانها الواسع المهيب ويقابلها بالذات دون حجاب، ثم يرجع ويفتح من بيته الصغير ومن مشغله المسقف الخاص نوافذ واسعة نحو الشمس، واجداً سبلاً إلى الشمس التي هي في أعالي السماء، ثم يجري حواراً مع الضياء الدائم للشمس الحقيقية، فيناجي الشمس بلسان حاله، ويحاورها بهذه المحاورة المكللة بالشكر والامتنان فيقول:
__________
(1) الكلمات ، النورسي، ص 146(4/61)
إيه يا شمس يامن تربعت على عرش جمال العالم، يالطيفة السماء وزهراءها، يامن أضفيت على الأرض بهجة ونوراً، ومنحت الأزهار ابتسامة وسروراً، فلقد منحت الدفء والنور معاً لبيتي ومشتلي الصغير كما وهبت للعالم أجمع الدفء والنور.
بينما صاحب المرآة السابق لا يستطيع أن يناجي الشمس ويحاورها بهذا الأسلوب، إذ إن أثار ضوء الشمس محدودة بالمرآة وقيودها وهي محصورة بحسب قابلية تلك المرآة واستيعابها للضوء".(1)
فعلاقة الرجل الأول بالشمس وأنوارها علاقة ليست مباشرة، بل عن طريق أداة ووسيط، وما يعود عليه من منافع وفوائد مرهون بمدى قدرة المرآة واستعدادها للتلقي والقبول، مما يعني أن ارتباطه بها أشد وأقوى من ارتباطه بالشمس.
أما الثاني فعلاقته بالشمس مباشرة، ومن ثم يصل إلى مراده ومبتغاه منها رأساً وبدون عون ولا مساعدة من الآخرين، ومرد ذلك إلى أن علاقته بها حية وموصولة لا حاجب بينهما ولا فاصل، فيمكنه مخاطبتها وجهاً لوجه. في حين أن الأول محروم تماماً من تلك العلاقة الحميمة التي يتبادل فيها كل منهما المحبة مع الآخر.
ويتضح من خلال المثلين أن خطاب اللّه تعالى للناس في القرآن هو خطاب موجه بخصوصية شديدة لأي عبد من عباده، فمن يقرأ القرآن يقرأه وكمن يكلمه اللّه، وفي الوقت نفسه هو خطاب عام باسم اللّه وبصفة المكلّف ويتضمن أوامره ونواهيه.
وقراءة القرآن مباشرة دون وسيط فيها من الحيوية والأهمية قدراً لا يتوفر فيمن يسمعه عن غيره، مثله في ذلك مثل من يكلم اللّه مباشرة، ومن يكلمه عن طريق وسيط.
ويرد النورسي هذا وذاك إلى طبيعة القرآن الخارقة للعوائد، فيقول في تفسيره للمثلين:
__________
(1) المكتوبات ، النورسي، ص 147،146(4/62)
" وهكذا فان منح القرآن الكريم أعلى مقام من بين الكلمات جميعاً، تلك الكلمات التي لا تحدها حدود، مردّه أن القرآن قد نزل من الاسم الأعظم ومن أعظم مرتبة من مراتب كل اسم من الأسماء الحسنى، فهو كلام اللّه، بوصفه رب العالمين، وهو أمره بوصفه إله الموجودات، وهو خطابُه بوصفه خالق السموات والأرض، وهو مكالمةٌ سامية بصفة الربوبية المطلقة، وهو خطابُه الأزلي باسم السلطنة الإلهية العظمى. وهو سجلُ الالتفات والتكريم الرحماني نابع من رحمته الواسعة المحيطة بكل شئ. وهو مجموعة رسائل ربانية تبين عظمة الألوهية، إذ في بدايات بعضها رموز وشفرات. وهو الكتاب المقدس الذي ينثر الحكمة.
ولأجل هذه الأسرار أُطلق على القرآن الكريم ما هو أهله ولائق به اسم (كلام اللّه) ".(1)
أما ما ينسب للّه من كلام، ولا يحمل اسم القرآن كعلم للدلالة عليه:
" فإن قسماً منه كلامه نابع باعتبار خاص، وبعنوان جزئي، وبتجل جزئي لاسم خصوصي، وبربوبية خاصة، وسلطان خاص، ورحمة خصوصية، فدرجات هذا الكلام مختلفة متفاوتة من حيث الخاص والكلى، فاكثر الإلهامات من هذا القسم إلا أن درجاتها متفاوتة جداً".(2)
ويعود الاختلاف وعدم الاتفاق، بل وحتى التباين في أحيان كثيرة فيما نسب للّه تعالى من كلام، إلى أن الخطاب ليس فيه عمومية الخطاب التي في القرآن، وذلك لأنه جاء موجهاً لتحقيق أهداف محددة وجزئية وخاصة، ومثل النورسي للغالب منه بالإلهام أو الكشف أو التعليم ومن غير واسطة، أي إبلاغ ما يريد اللّه مخاطبته، فهو وإن حمل اسم كلام اللّه، إلا أنه لا يطلق عليه اسم القرآن. وذلك لخصوصية خطاب القرآن وعموميته في آن معاً.
بلاغة القرآن
__________
(1) الكلمات ، النورسي، ص 147
(2) الكلمات ، النورسي، ص 147(4/63)
إذا كانت البلاغة عند الأدباء تعني التعبير عن المعنى تعبيراً مطابقاً للألفاظ بلا زيادة ولا نقصان، فإن بلاغة القرآن في حد ذاتها معجزة تحدى اللّه بها المخالفين فعجزوا عن معارضته، ووجدوا فيها من الإعجاز البياني ما لا طاقة لهم به.
وضمن العديد من الشواهد والأدلة التي حاول النورسي من خلالها الكشف عن تلك البلاغة المعجزة، قوله تعالى.
{ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } (1)
وقبل أن يوضح جانب البلاغة فيها، مثل لها بقوله:
" إن قائداً في حرب عالمية شاملة يأمر جيشه بعد إحراز النصر أوقفوا إطلاق النار، ويأمر جيشه الآخر، كفوا عن الهجوم، ففي اللحظة نفسها ينقطع إطلاق النار، ويقف الهجوم، ويتوجه إليهم قائلاً: لقد انتهى كل شيء واستولينا على الأعداء، وقد نصبت راياتنا على قمة قلاعهم، ونال أولئك الظالمون الفاسدون جزاءهم، وولوا إلى أسفل سافلين".(2)
فلا فارق زماني إذن بين إصدار الأمر العسكري بوقف العمليات الحربية، وبين توقف الجنود الفعلي عن القتال على امتداد ساحة المعركة، اللّهم إلا الفرق الضئيل بين الأمر وبين التنفيذ الفوري له، فيتوقف كل شيء وكأنه لم يكن هناك حرب ولا اقتتال، ويأتي كلام الآمر ليقرر إنجازات القتال، ونتائج المعركة، وثمرة الحرب.
وكذلك الحال مع تلك الآية، يقول النورسي.
" فإن السلطان الذي لا ندّ له ولا مثيل، قد أمر السماوات والأرض بإهلاك قوم نوح، وبعد أن امتثلا الأمر توجه إليهما: أيتها الأرض ابلعي ماءك، وأنت أيتها السماء اسكني واهدئي فقد انتهت مهمتك، فانسحب الماء فوراً من دون تريث، واستوت سفينة المأمور الإلهي كخيمة ضربت على قمة جبل، ولقي الظالمون جزاءهم.
__________
(1) هود/ 44
(2) الكلمات- النورسي ص 434(4/64)
فانظر إلى علو هذا الأسلوب، إذ الأرض والسماء كجنديين مطيعين مستعدين للطاعة وتلقي الأوامر، فأنت ترى أن الآية قد جمعت ببيان موجز معجز جميل مجمل في بضع جمل حادثة الطوفان التي هي عامة وشاملة مع جميع نتائجها وحقائقها".(1)
أي يمكن النظر لبلاغة القرآن من جهات البلاغة الأربعة البيان والمعاني والفصاحة اللفظية والفصاحة المعنوية، فاللّه تعالى خاطب الأرض والسماء، وهي جماد بطريقة النداء والأمر خطابه للعقلاء المميزين:
بأن تبلع الأرض ماءها.
وأن تقلع السماء عن المطر.
فالبلع هو اجتياز الطعام والشراب دون استقرار في الفم، وهي هنا استعارة لإدخال الماء في باطن الأرض بسرعة كسرعة ازدراد البالع، وعلى أثره جفت الأرض تماماً، لا بحرارة الشمس، ولا بهبوب الرياح، بل بفعل أرضى محض.
واختار القرآن لاحتباس المطر لفظ "اقلع" بمعنى كف وامتنع، لأنه إذا كف نزول المطر لم يحل ماء آخر محل الذي غار في الأرض، ولذلك أمرها بالبلع، لأنه السبب الرئيسي لفيض الماء، أي أمره بالنضوب وذهابه في الأرض.
وبناء الفعل للمجهول لنائب الفاعل في قوله تعالى (قُضي) لإكمال وإتمام غرق قوم نوح للعلم فقط. بأن فاعل ذلك كله ليس غير اللّه تعالى، أما النائب عن الفاعل في قوله (بعداً) فيجري مجرى الدعاء، وكناية عن التحقير المرادف للكراهية والنفور من القوم.
الحقيقة المطلقة
من الصعب لأصحاب النظر الضيق المحدود أن يحيطوا علما بالحقيقة المطلقة، ومن ثم فهم بأمس الحاجة إلى القرآن للإحاطة بها من جميع جوانبها، وذلك لأن كل ناظر لها:
" لا يرى تماماً بعقله الجزئي المحدود إلاّ طرفاً أو طرفين من الحقيقة الكاملة فينهمك بذلك الجانب ويعكف عليه، وينحصر فيه، فيخل بالموازنة التي بين الحقائق ويزيل تناسقها، إما بالإفراط أو التفريط".(2)
وشبّه النورسي من هذا حاله في إدراكه للحقيقة بقوله:
__________
(1) الكلمات- النورسي ص 434
(2) الكلمات- النورسي ص 512(4/65)
" لنفرض أن كنزاً عظيماً يضم مالا يحد من الجواهر الثمينة في قعر بحر واسع. وقد غاص غواصون مهرة في أعماق ذلك البحر بحثاً عن جواهر ذلك الكنز الثمين، ولكن عيونهم معصوبة فلا يتمكنون من معرفة أنواع تلك الجواهر الثمينة إلا بأيديهم، ولقد لقيت يد بعضهم ألماساً طويلاً نسبياً، فيقضي ذلك الغواص ويحكم: أن الكنز عبارة عن قضبان من الماس، وعندما يسمع من أصدقائه أوصافاً لجواهر غيرها يحسب أن تلك الجواهر التي يذكرونها ما هي إلاَّ توابع ما وجده من قضبان الألماس، وما هي إلا فصوصه ونقوشه.
ولنفرض أن آخرين لقوا شيئاً كروياً من الياقوت وآخرين وجدوا كهرباً مربعاً، وهكذا، فكل واحد من هؤلاء الذين رأوا تلك الجواهر والأحجار الكريمة بأيديهم – دون عيونهم – يعتقد أن ما وجده من جوهر نفيس هو الأصل من ذلك الكنز ومعظمه، ويزعم أن ما يسمعه من أصدقائه زوائده وتفرعاته، وليس أصلاً للكنز".(1)
فالحقيقة في المثل تشبه كنز موجود في الأعماق السحيقة لبحر لا حد لسعته، وزاخر بمختلف الأحجار الكريمة، ومن يغطس في أعماقه من الغواصين بحثاً عنه، لا يرونه ولا يستطيعون التعرف على ما فيه من مجوهرات، مما يضطرهم للاعتماد على حاسة اللمس وحدها، وأثناء طلبهم له، وجد البعض منهم قطعاً طويلة من الألماس ووجد البعض ياقوتاً كروي الشكل، ووجد آخرون كهرباً مربعاً، فاعتقد كل واحد منهم أن الكنز لا يحتوي إلا على ما وقعت عليه يداه، وعند سماعه بجواهر أخرى لا تشبه تلك التي لمسها، يظن أن ما عثر عليه هو الأصل، وما سمعه تابع له وملحق به.
وبناء على ما مضى فإن أي نظرة لحقائق القرآن تقتصر على جانب واحد وتغض الطرف عن الجوانب الأخرى، تفضي بالضرورة إلى اختلال في الموازنة الدقيقة بين حقائقه، فيقول النورسي بعد ذلك التشبيه مباشرة:
__________
(1) الكلمات- النورسي ص 513،512(4/66)
"وهكذا تختل موازنة الحقائق، ويضمحل التناسق أيضاً ويتبدل لون كثير من الحقائق، إذ يضطر من يرى اللون الحقيقي للحقيقة إلى تأويلات وتكلفات، حتى قد يتجرأ بعضهم إلى الإنكار والتعطيل، فمن يتأمل في كتب حكماء الإشراقيين، وكتب المتصوفة الذين اعتمدوا على مشهوداتهم وكشفياتهم، دون أن يزنوها بموازين السنة المطهرة يصدق حكمنا دون تردد".(1)
إذن فالنظرة القاصرة لحقائق القرآن، هي على الدوام نظرة غامضة وغير واضحة، فيضطر صاحبها إلى بذل الجهد في تفسيرها تفسيراً لا يحتمله معناها، ولا ينسجم مع طبيعتها المتميزة، مما قد يدفعه ودون وعي منه إلى رفض الحقيقة أو إلباسها ثوباً مناقضاً لها.
وختم النورسي حديثه ليقرر هذه الحقيقة البديهية.
" إذا فعلى الرغم من أنهم يسترشدون بالقرآن، ويؤلفون في جنس حقائق القرآن، إلا أن النقص يلازم آثارهم، لأنها ليست قراناً".(2)
يعني أن الضعف وعدم الكمال سيظل جزءاً لا يتجزأ في أي مكتوب من تلك المكتوبات، حتى ولو اهتدى بهدى القرآن، ويعود ذلك إلى أنها شيء، والقرآن شيء آخر.
حقائق القرآن
ظلت حقائق القرآن على الرغم من مرور الزمان والتحولات الهائلة في العالم، معيناً لا ينضب للبشرية، فإذا تجرأ أحد ونظم – كما يقول النورسي – قسماً من تلك الحقائق حسب أهوائه وجهله، ثم أراد أن يوازن بينها وبين كلامه وكلام القرآن، بهدف الاعتراض على بعض آياته وقال:
لقد قلت كلاماً شبيهاً بالقرآن.
فمن الطبيعي أن قوله ذلك هو من السخف والحماقة ما يشبه هذا المثال:
" إن بناء شيد قصراً فخماً أحجاره من جواهر مختلفة ووضع تلك الأحجار في أوضاع وزينها بزينة ونقوش موزونة تتعلق بجميع نقوش القصر الرفيعة.
__________
(1) الكلمات- النورسي ص 513
(2) الكلمات- النورسي ص 513(4/67)
ثم دخل ذلك القصر من يقصر فهمه عن تلك النقوش البديعة، ويجهل قيمة جواهره وزينته، وبدأ يبدل نقوش الأحجار وأوضاعها ويجعلها في نظام حسب أهوائه حتى غدا بيتاً اعتيادياً، ثم جمله بما يعجب الصبيان من خرز تافهة ثم بدأ يقول:
انظروا أن لي من المهارة في البناء ما يفوق مهارة باني ذلك القصر الفخم، ولي ثروة اكثر من بناء القصر، فانظروا إلى جواهري الثمينة".(1)
تشيد القصور في الغالب من مادة ومواد زهيدة الثمن، ومن تراب الأرض الرخيص، ولكن باني هذا القصر اختار من أحجار الأرض أغلاها ثمناً وأكثرها قيمة وما توصف في العادة بأجمل الصفات وأكرمها كالجواهر، وهو لم يكتف عند وضعها في القصر بجمالها الذاتي الأخاذ، بل لوّنها بألوان زادتها حسناً وجمالاً.
ثم دخل هذا القصر من لا يقدر الجواهر وقيمتها، ولا يملك من الحس الجمالي ما يشده إليها ويبهره بها. فشرع يعدل ويغير فيه بلا علم ولا إدراك، حتى أحاله من قصر فخم لا مثيل له إلى بيت متواضع لا يختلف عن غيره في شيء. ولا يثير إلا إعجاب الأطفال وأمثالهم ممن لا يعرف حقيقته، وأخيراً يدعى ببجاحة أنه يملك من الحذق والبراعة والمال ما يفوق صاحب ذلك القصر بكثير.
فعلق النورسي على كلامه قائلاً:
" لا شك أن كلامه هذا هذيان، بل هذيان مجنون".(2)
ومقصوده أن من يقدم على معارضة القرآن، ويجترى على تقليده هو من لا ينبغي النظر إلى كلامه إلا بوصفه كلاماً غير معقول. وصادر عن مريض بأحد أمراض الاضطرابات العقلية.
خدمة القرآن
قيل للنورسي:
" - انك تقول لكل من يأتي لزيارتك:
__________
(1) الكلمات- النورسي ص 504
(2) الكلمات- النورسي ص 504(4/68)
لا تنتظروا من شخصي همة ولا مدداً، ولا تعدوني شخصاً مباركاً، فأنا لست صاحب مقام، فكما يبلّغ الجندي الاعتيادي أوامر مقام مشير، فأنا كذلك أبلّغ أوامر مشيرية معنوية رفيعة، وكما يقدم شخص مفلس لا يملك شيئاً بدور الدلال لدكان مجوهرات غالية جداً، فأنا كذلك دلال أمام دكان مقدس وهو القرآن الكريم.
هكذا تقول لكل زائر قادم إليك، ولكن عقولنا تحتاج إلى العلم كما أن قلوبنا تطلب الفيض وأرواحنا تنشد النور، وهكذا أشياء كثيرة بجهات شتى، ونأتي لزيارتك علك تفي بحاجتنا، إذ نحن بحاجة إلى طالب ولاية وصاحب همة وكمالات أكثر من حاجتنا إلى عالم، فإن كان الأمر كما تقول فقد أخطأنا إذن في زيارتك".(1)
فهؤلاء الطلاب في ترددهم على النورسي لا يسعون وراء العلوم الإسلامية التقليدية كالفقه والحديث والعقيدة، بل يبتغون نوعاً خاصاً من العلم يعرفون من خبرتهم أنه لا يوجد إلا عند العارفين باللّه أصحاب الكشوفات والفتوحات الربانية، أي العلم اللدني، فاعتقدوا أنه واحد منهم أو في عدادهم.
ولكنه رد عليهم بأنه ليس كما يحسب الناس ويظنون. فما هو إلا كجندي بسيط في إبلاغه أوامر من هو أعلى رتبة منه، وكشخص فقير معدم وهو ينادي الناس لشراء سلعة لا تقدر بثمن، وما النورسي الذي يضعونه موضع العارفين باللّه، وينزلونه منزلة أولياء اللّه الصالحين إلا كواحد من هذين يقف منادياً على كلام اللّه، ودال الناس على جواهره ودرره القيمة.
ومثل لهم حالته تلك بقوله:
" خادم لسلطان عظيم أو جندي تحت إمرته يسلم إلى القواد العظام والمشيرين الكبار هدايا السلطان وأوسمته الرفيعة، ويجعلهم في امتنان ورضى. فإن قال أولئك القواد والمشيرون لمَ نتنازل بتسلم النعم السلطانية وإكرامه لنا من يد هذا الجندي البسيط. فلا شك أن ذلك يعد غروراً جنونياً.
__________
(1) المكتوبات- النورسي ص 456(4/69)
وكذلك إذا أعجب ذلك الجندي بنفسه ولم يقم احتراماً للمشير خارج وظيفته وعد نفسه أعلى درجة منه، فليس ذلك إلا بلاهة وجنوناً.
ولو تنازل أحد أولئك القواد الممتنين وذهب إلى منزل ذلك الجندي البسيط الذي لا يجد ضيفه الكريم عنده سوى كسرة خبز، فسوف يرسل السلطان الذي يعلم حال خادمه الأمين إلى منزله طبقاً من أطيب طعام وألذه من مطبخه الخاص دفعاً للحرج عنه".(1)
فحالة النورسي إذن تشبه حالة الجندي عند سلطان مهيب، وهو يحمل عطايا سيده وهباته إلى قادة عسكريين كبار، فإذا تجاسر واحد منهم محتجاً، لماذا نهبط إلى مستوى تلقى تلك الهدايا ممن لا يكاد يساوي شيئاً في تسلسل الرتب العسكرية، فلا شك أن في تصرفه هذا من خداع النفس ما يخرجه من زمرة العقلاء.
والشيء نفسه يقال على الجندي إذا شمخ برأسه وتكبر وتعالى. فلم يراع حقهم في التقدير والاحترام، بل حسب بوصفه ممثلاً للسلطان، بأنه أرفع مكانة منهم، فلا شك أن تصرفه هذا دال على ضعف في عقله. وقلة في التمييز بين ما يجب وما لا يجب.
أما إذا تواضع أحد هؤلاء القادة الكبار، وأراد رد جميل السلطان بالإحسان إلى الجندي. وزاره في بيته. فإن السلطان لعلمه بحالة الجندي سيرسل إكراماً له مائدة حافلة بأطايب الأكل اعتزازاً وتكريماً له.
وكذلك الحال مع من يعمل في خدمة القرآن، فيقول عنه النورسي:
" فكما أن الأمر هكذا، في خادم السلطان، كذلك خادم القرآن الصادق، إذ مهما كان من عامة الناس، إلا أنه يبلغ أوامر القرآن الكريم باسم القرآن نفسه إلى أعظم إنسان من دون تردد ولا إحجام، ويبيع جواهر القرآن الثمينة جداً لأغنى إنسان روحاً بافتخار واعتزاز واستغناء، من دون تذلل وتوسل.
فهؤلاء مهما كانوا عظاماً لا يمكنهم أن يتكبروا على ذلك الخادم البسيط في أدائه لوظيفته. وذلك الخادم أيضاً لا يجد في نفسه ما يجعله يفتر أمام مراجعة أولئك الأفذاذ، فلا يتجاوز حده.
__________
(1) المكتوبات- النورسي ص 457،456(4/70)
وإذا ما نظر بعض المعجبين بجواهر خزينة القرآن المقدسة إلى ذلك الخادم نظر الولي الصالح واستعظموه، فخليق بالرحمة المقدسة للحقيقة القرآنية أن تمدهم وتفيض عليهم بهمتها من الخزينة الإلهية الخاصة من دون علم ذلك الخادم ومن دون تدخل منه، لئلا يخجل خادمها ذاك أمام ضيفه الكريم".(1)
فخادم القرآن حتى وإن كان إنساناً بسيطاً ومن عامة الخلق، فبإمكانه إيصال معانيه والإعلان عن تعاليمه وتوجيهاته إلى أكابر الناس ورؤسائهم غير هياب ولا وجل، وبدون تلكوء أو إبطاء، وهو يؤدي تلك المهمة وقلبه عامر بالفخر والاعتزاز، ومن غير إهانة ولا امتهان لنفسه.
وفي مقابل هذا فلا أحد من هؤلاء العظماء يتباهى أو يستغل منصبه للتعالي عليه لكونه إنساناً مغموراً لا شأن له، ولا هو من جانبه لكونه خادماً لكلام اللّه ينخدع بتواضعهم أمامه فينحرف إلى ما لا تحمد عقباه.
أما إذا بلغ بهؤلاء القوم الحال أن أنزلوه في نفوسهم منزلة أثيرة، وتجاوز احترامهم حتى وصل حد التعظيم، فإن هذا حري أن يكون سبباً لفتوحات ربانية خاصة تتنزل عليهم. ودون أن يعرفها ذلك الخادم للقرآن. حتى لا تتكدر نفسه، وتسوء حالته أمامهم.
حكمة القرآن وحكمة الفلسفة
للقرآن حكمة وللفلسفة وغيرها من العلوم حكمة، ولكن حكمة القرآن شيء وحكمة الفلسفة شيء آخر، ولا يتضح الفرق بين الحكمتين من مقاصد الحكمة الكثيرة، إلا بعقد لا أقول مقارنة، بل مقابلة ومعارضة بينهما ليرى كل ذي فهم وبصيرة وجه الشبه والاختلاف بينهما، ولتحقيق هذه الغاية استخدم النورسي حكاية بسيطة بدأها بقوله:
" أراد حاكم عظيم ذو تقوى وصلاح وذو مهارة وإبداع أن يكتب القرآن الحكيم كتابة تيلق بقدسية معانيه الجليلة، وتناسب إعجازه البديع في كلماته، فأراد أن يُلبس القرآن الكريم ما يناسب إعجازه السامي من ثوب قشيب خارق مثله.
__________
(1) المكتوبات- النورسي ص 457(4/71)
فطفق بكتابة القرآن، وهو مصور مبدع، كتابة عجيبة جداً، مستعملاً جميع أنواع الجواهر النفيسة والأحجار الكريمة ليشير بها إلى تنوع حقائقه العظيمة فكتب بعض حروفه المجسمة بالألماس والزمرد، وقسماً منها باللؤلؤ والمرجان. وطائفة منها بالجوهر والعقيق، ونوعاً منها بالذهب والفضة، حتى أضفى جمالاً رائعاً وحسناً جالباً للأنظار يعجب بها كل من يراها، سواء أعلم القراءة أم جهلها.
فالجميع يقفون أمام هذه الكتابة البديعة مبهوتين يغمرهم التبجيل والإعجاب، ولا سيما أهل الحقيقة الذين بدأوا ينظرون إليها نظرة إعجاب وتقدير أشد، لما يعلمون أن الجمال الباهر هذا يشف عما تحته من جمال المعاني، وهو في منتهى السطوع واللمعان، وغاية اللذة والذوق"(1)
أراد هذا الحاكم تعظيماً منه للقرآن، وإكباراً لمعانيه المعجزة أن يكتب كلماته بطريقة يلبسها ثوباً مادياً. بأغلى وأثمن الماديات وأنفسها. فكتبه بالجواهر والأحجار الكريمة والألماس والزمرد واللؤلؤ والمرجان والذهب والفضة. فخرج منه للوجود بنسخة خلبت الألباب بحسنها وجمالها. وشدت الأنظار بألوانها المتلألئة، وعلى وجه الخصوص أولئك العارفين المدركين ببصيرتهم النافذة أن وراء كل جمال مادي يتوارى دائماً الجمال المعنوي الحقيقي.
وحكى النورسي ما فعله الحاكم بعد إكمال النسخة المزخرفة قائلا:
"ثم عرض ذلك الحاكم العظيم هذا القرآن البديع الرائع الجمال على فيلسوف أجنبي وعلى عالم مسلم، وأمرهما:
ليكتب كُلٌّ منكما كتاباً حول حكمة هذا القرآن.
ملمحاً إلى اختبارهما ليكافئهما".(2)
وبالفعل عكف العالمان على كتابة مكتوب عن القرآن مستخدمين في قراءتهما له النسخة المكتوبة بتلك الطريقة ذات التكلفة المادية العالية. فجاء مضمون كتاب الفيلسوف وكما يروي النورسي:
__________
(1) الكلمات- النورسي ص 142،141
(2) الكلمات - النورسي ص 142(4/72)
" يبحث عن نقوش الحروف وجمالها وعلاقة بعضها ببعض، وأوضاع كل منهما، وخواص جواهرها وميزاتها وصفاتها فحسب، ولم يتعرض في كتابه إلى معاني ذلك القرآن العظيم قط. إذ أنه جاهل باللغة العربية جهلاً مطبقاً، بل لم يدرك أن ذلك القرآن البديع هو كتاب عظيم تنم حروفه عن معان جليلة، وإنما حصر نظره في روعة حروفه وجمالها الخارق، ومع هذا فهو مهندس بارع، ومصور فنان، وكيميائي حاذق، وصانع ماهر، لذا فقد كتب كتابه هذا وفق ما يتقنه من مهارات ويجيده من فنون".(1)
يعني أن الفيلسوف أخرج كتابه في أطراف كلمات القرآن، أي الحروف لا من معاني تلك الكلمات ومفاهيمها ودلالاتها العلمية، ومن ثم فقد حصر جهده كله في ظاهر القرآن ومظاهره. ولأنه عالم متعدد المواهب. ويتقن فنوناً شتى فقد جاء كتابه معبراً بالفعل على ما هو ضليع وحاذق فيه.
أما العالم المسلم:
" فما أن نظر إلى تلك الكتابة البديعة حتى علم أنه: كتاب مبين وقرآن حكيم، فلم يصرف اهتمامه إلى زينته الظاهرة، ولا شغل نفسه بزخارف حروفه البديعة، وإنما توجه كلياً – وهو التواق للحق – إلى ما هو أسمى وأثمن وألطف وأشرف وأنفع وأشمل مما انشغل به الفيلسوف الأجنبي بملايين الأضعاف، فبحث عما تحت النقوش الجميلة من حقائق سامية جليلة، وأسرار نيرة بديعة، فكتب كتابه تفسيراً قيماً لهذا القرآن الحكيم، فأجاد وأتقن".(2)
فاهتمام العالم المسلم إذن قد انصب على ما وراء الظاهر، أو ما وراء معاني كلمات القرآن، وذلك لعلمه أن المعنى البسيط للكلمة يحتوي من الحقائق والأسرار ما يتجاوز بكثير المفهوم العادي له، فجاء كتابه في مضمونه العلمي كاشفاً عن مراد المتكلم منه، وبالتالي كان لصيقاً به ومتمماً له.
ثم قدم كل منهما كتابه للحاكم، فتناول أولاً:
__________
(1) الكلمات- النورسي ص 142
(2) الكلمات- النورسي ص 142(4/73)
" مؤلف الفيلسوف ونظر إليه ملياً، فرأى أن ذلك المعجب بنفسه والمقدس للطبيعة، لم يكتب حكمة حقيقية قط، مع أنه بذل كل ما في طوقه، إذ لم يفهم معاني ذلك الكتاب، بل ربما زاغ واختلط عليه الأمر، وأظهر عدم توقير وإجلال لذلك القرآن، حيث إنه لم يكترث بمعانيه، وظن أنه مجرد نقوش جميلة وحروف بديعة، فبخس حق القرآن وازدراه من حيث المعنى، لذا رد الحاكم الحكيم مؤلف ذلك الفيلسوف وضربه على وجهه وطرده من ديوانه".(1)
لم يعط للقرآن حقه كاملاً غير منقوص، مما يفسر ضمناً بأنه قد عابه وجهل منزلته من حيث لا يدري.
أما موقف الحاكم من كتاب المسلم فرواه النورسي بقوله:
" ثم أخذ مؤلف المسلم المحقق المدقق، فرأى أنه تفسير قيم جداً، بالغ النفع، فبارك عمله، وقدر جهده. وهنأه عليه، وقال، هذه هي الحكمة حقاً، وإنما يطلق اسم العالم والحكيم حقاً على صاحب هذا المؤلف، وليس الآخر إلاّ فنان صنّاع قد افرط وتجاوز حده، وعلى أثره كافأ ذلك المسلم واجزل ثوابه. آمراً أن تمنح عشر ليرات ذهبية لكل حرف من حروف كتابه".(2)
يفهم من وصف الحاكم لكتاب المسلم بأنه هو الحكمة حقاً وأن ما فيه ليس علماً مجرداً، بل هو علم مع زيادة مبالغة فيه، أو بمعنى آخر هو علم وعمل معاً، فكأنه قد ارجع ما في كتابه إلى القرآن، وأرجع القرآن إلى كتابه ليتطابق الكتابان معاً في كونهما حكمة ربانية خالصة.
تلك هي الحكاية التمثيلية من جوانبها المتعددة، أما الحقائق التي استندت عليها فبينها النورسي بقوله:
" فذلك القرآن الجميل الزاهي، هو هذا الكون البديع، وذلك الحاكم المهيب هو سلطان الأزل والأبد سبحانه، والرجلان الأول، أي ذلك الأجنبي، هو علم الفلسفة وحكماؤها، والآخر هو القرآن الكريم وتلاميذه".(3)
__________
(1) الكلمات- النورسي ص 143،142
(2) الكلمات- النورسي ص 143
(3) الكلمات- النورسي ص 143(4/74)
فإذا عرفنا من التفسير السابق أن القرآن هو هذا الكون الواسع الجميل، وأن الرجل الأجنبي يمثل الفلسفة وطلابها، ويمثل العالم المسلم القرآن نفسه وطلابه، فإن الفارق الكبير بين الاثنين يتجلى في مقولة النورسي التالية:
" نعم، إن ذلك الفرقان الحكيم هو الذي يرشد الجن والإنس إلى الآيات الكونية التي سطرها قلم القدرة الإلهية على صحائف الكون الواسع ودبجها على أوراق الأزمنة والعصور، وهو الذي ينظر إلى الموجودات – التي كل منها حرف ذو مغزى – بالمعنى الحرفي، أي ينظر إليها من حيث دلالتها على الصانع الجليل، فيقول: ما أحسن خلقه، ما أجمل خلقه، ما أعظم دلالته على جمال المبدع الجليل، وهكذا يكشف أمام الأنظار الجمال الحقيقي للكائنات.
أما ما يسمونه بعلم الحكمة وهي الفلسفة، فقد غرقت في تزيينات حروف الموجودات، وظلت مبهوتة أمام علاقات بعضها ببعض، حتى ضلت عن الحقيقة، فبينما كان عليها أن تنظر إلى كتاب الكون نظرتها إلى الحروف – الدالة على كاتبها – فقد نظرت إليها بالمعنى الاسمي، أي أن الموجودات قائمة بذاتها، وبدأت تتحدث عنها على هذه الصورة فتقول: ما أجمل هذا بدلاً من: ما أجمل خلق هذا، سالبة بهذا القول الجمال الحقيقي للشيء. فأهانت بإسنادها الجمال إلى الشيء نفسه جميع الموجودات حتى جعلت الكائنات شاكية عليها يوم القيامة".(1)
والمعنى الإجمالي أن حكمة القرآن توجه الناس دوماً إلى النظر للمخلوقات بنسبتها للّه، متجاوزة مظاهرها السطحية إلى حقيقة وجودها في دلالتها البينة والصريحة على خالقها ومبدعها، عندئذ يظهر جمالها كما هو عليه، جمالاً حقيقياً وأصيلاً.
__________
(1) الكلمات- النورسي ص 144،143(4/75)
أما الفلسفة فهي في أغلب أحوالها تكتفي من الوجود بظاهره ومن المخلوقات بنسبتها إلى ذاتها، وبأصالة جمالها وحسنها، مجردة إياها من أي علاقة تربطها باللّه تعالى، محدثه بهذا الجهل المطبق بحقيقتها جروحاً غائرة في وجودها وجمالها، تحيل حتى ما هي عليه بالفعل إلى بهرجات زائفة لا قيمة لها.
الفصل الثالث
محمّد - صلى الله عليه وسلم -
نور محمد - صلى الله عليه وسلم -
مثل النورسي لمن يتبع محمداً صلى اللّه عليه وسلم ويهتدي بهديه من أمته وبين من أعرض عنه وترك اتباعه، بقوله:
"إذا كان ثمة قصر فخم فيه مصباح كهربائي عظيم تشعبت منه قوة الكهرباء إلى مصابيح أصغر فأصغر موزعة في منازل صغيرة مرتبطة كلها بالمصباح الرئيس، فلو أطفأ أحدهم المصباح الكهربائي الكبير، فسيعم الظلام المنازل الأخرى كلها وتستولي الوحشة فيها.
ولكن لأن هناك مصابيح في قصور أخرى غير مربوطة بالمصباح الكبير في القصر الفخم، فإن صاحب القصر هذا إن أطفأ المصباح الكهربائي الكبير فإن مصابيح صغيرة تعمل على الإضاءة في القصور الأخرى، ويمكنه أن يؤدي بها عمله فلا يستطيع اللصوص نهب شيء منه".(1)
إن صورة المثل ورموزها في منتهى الوضوح والبساطة، فلهذا القصر مصباح واحد كبير وهائل الحجم، لا ينير هو بذاته جنبات القصر، بل تنبثق منه مصابيح صغيرة وكثيرة تتوزع على القصر لتنيره، أي أن إنارة القصر تتمركز في ذلك المصباح، فإذا أخمد نوره تبعته سائر المصابيح الصغيرة، وعم الظلام جنبات المكان.
وهناك قصور أخرى عديدة لا تستمد نورها من ذلك المصباح الكبير ولا علاقة لها به، ولا تتأثر إذا أخمد نوره، بل تظل المصابيح الصغيرة المنتشرة في أرجائها تنير وتضيء تلك القصور كأن شيئاً لم يكن.
وشرح النورسي صورة المثل بقوله:
__________
(1) الكلمات- النورسي ص 417(4/76)
"القصر الأول هو المسلم، والمصباح الكبير هو سيدنا الرسول صلى اللّه عليه وسلم في قلب ذلك المسلم، فإن نسيه وأخرج الإيمان من قلبه – والعياذ باللّه – فلا يؤمن بعد بأي نبي آخر، بل لا يبقى موضع للكمالات في روحه، بل ينسى ربه الجليل، ويكون ما أدرج في ماهيته من منازل ولطائف طعمة للظلام، ويحدث في قلبه دماراً رهيباً، وتستولي عليه الوحشة. ترى ما الذي يغني عن هذا الدمار الرهيب، وما النفع الذي يكسبه حتى يستطيع أن يعمر ذلك الدمار والوحشة.
أما الأجانب، فهم يشبهون القصر الثاني، بحيث لو أخرجوا نور محمد صلى اللّه عليه وسلم من قلوبهم، تظل لديهم أنوار – بالنسبة لهم – أو يظنون أنها تظل إذ يمكن أن يبقى لديهم شيء من العقيدة باللّه والإيمان بموسى وعيسى عليهما السلام والذي هو محور كمال أخلاقياتهم".(1)
فإذا كان القصر هو المسلم، ومحمد صلى اللّه عليه وسلم هو المصباح الكبير، فإن عدم الإيمان به والاهتداء بهديه، لا يعني انتزاع الإيمان من قلبه فحسب بل يفتقر حتى إلى القابلية والاستعداد للإيمان بغيره من أنبياء اللّه ورسله، ومن ثم يتردى في ظلمات بعضها فوق بعض، تبعث في نفسه الخوف والقلق والوحدة والاضطراب، هذا إذا لم ينحدر في هاوية سحيقة من التحلل الأخلاقي.
أما غير المؤمنين بمحمد صلى اللّه عليه وسلم فهم أحسن حالاً من ذلك المسلم، إذ يبقى عندهم وعلى أقل التقدير النزر اليسير من نور الهداية في البقية الباقية من إيمانهم بأنبيائهم، فهو الذي يحافظ على تماسكهم النفسي، ويحميهم من السقوط في مهاوي اللاَّدينية.
شخصية الرسول المعنوية
اقتصرت معظم كتب السيرة والتاريخ في معالجتها لشخصية المصطفى صلى اللّه عليه وسلم على الجانب البشري وحده متجاهلة شخصيته المعنوية أو الروحية، وهي كما يعتقد النورسي الأولى بالرعاية والاهتمام، فيقول في وصفها:
__________
(1) الكلمات- النورسي ص 417(4/77)
" هذا النبي المبارك صلى اللّه عليه وسلم الذي هو أنبل نتائج الكائنات وأكمل ثمراتها، والمبلغ عن خالق الكون، وحبيب رب العالمين، لا تبلغ أحواله وأطواره البشرية التي ذكرتها كتب السيرة والتاريخ الإحاطة بماهيته الكاملة ولا تصل إلى حقيقة كمالاته، فأنّى لهذه الشخصية المباركة الذي كان كل من جبرائيل وميكائيل مرافقين أمينين له في غزوة بدر أن تنحصر في حالة ظاهرية أو آن تظهرها بجلاء حادثة بشرية كالتي وقعت مع صاحب الفرس الذي ابتاع صلى اللّه عليه وسلم الفرس منه، ولكنه أنكر هذا البيع وطلب من الرسول شاهداً يصدقه فتقدم الصحابي الجليل خزيمة بالشهادة له".(1)
إن جل اهتمام كتاب السيرة وكما يفهم من وصف النورسي تركز على كمال بشريته صلى اللّه عليه وسلم وفي وقائع حياتية كثيرة ومتعددة، مع أن كمال البشرية لا يمثل إلاّ جانباً يسيراً من كماله المطلق الذي لا يمكن لحوادث بشرية قليلة أن تعبر عنه أو تعكسه على صفحة الوجود. ولأجل ذلك ينصح النورسي كل مريد ومطالع لسيرته صلى اللّه عليه وسلم بالآتي:
" فلئلا يقع أحد في غائلة الخطأ يلزم من يسمع أوصافه البشرية الاعتيادية أن يرفع بصره دوماً عالياً لينظر إلى ماهيته الحقيقية، وإلى شخصيته المعنوية النورانية الشامخة في قمة مرتبة الرسالة، وإلاّ أساء الأدب، ووقع في الشبهة والوهم".(2)
والنورسي بنصيحته تلك يريد من كل مؤمن أن يتخذ من أحوال وصفات الرسول صلى اللّه عليه وسلم البشرية أساساً ومدخلاً للتعرف على ذاته الحقيقية وشخصيته الروحية النورانية الصافية، وفي أعلى مراتب النبوة والرسالة، وإلا ظلت معرفته بعيدة عن ماهية ذاته وشخصيته، وفي حدودها الدنيا التي قد توقع في أخطاء كثيرة أجلها إيقاع الأذى بذاته الشريفة.
ولإيضاح ذلك الجانب المهمل من سيرة الرسول صلى اللّه عليه وسلم، روى النورسي هذا المثل:
__________
(1) المكتوبات- النورسي ص 123
(2) المكتوبات- النورسي ص 124،123(4/78)
" نواة للتمر وضعت تحت التراب فانفلقت عن نخلة مثمرة باسقة وهي في توسع ونمو مطرد، أو بيضة للطاووس فقست عن فرخ الطاووس بعدما سلطت عليه الحرارة، وكلما نما وكبر أصبح أجمل وأزهى بما زين قلم القدرة على كل جهاته من نقوش بديعة رائعة.
فهناك صفات وحالات خاصة تعود لكل من تلك النواة ولتلك البيضة، ويحوي كل منها مواد دقيقة لطيفة جداً، والنخلة والطاووس كذلك لهما صفات عالية، وكيفيات وأوضاع راقية بالنسبة لصفات البذرة والبيضة، فعندما تربط أوصاف النواة والبيضة بأوصاف النخل والطير وتذكران معاً، يلزم أن يرفع العقل الإنساني بصره عن النواة إلى النخلة وينظر إليها، وان يتوجه من البيضة إلى الطاووس ويمعن فيه كي يقبل تلك الأوصاف التي يسمعها، وبخلافه ينساق إلى التكذيب حين يسمع أحدهم يقول:
لقد أخذت طناً من التمر من حفنة من النوى، أو هذه البيضة هي سلطان الطير".(1)
فالظاهر من نواة التمر المدفونة في الأرض، أو بيضة الطاووس المعرضة للحرارة، أن كل منهما تأخذ طريقها إلى الوجود بالطرق الاعتيادية للازدهار والنمو، أما في باطن كل منهما فهناك الكثير من الأحوال والصفات والحقائق مالا يسلم به العقل، ولكن إذا انتقل المرء من النواة إلى النخلة ومن البيضة إلى الطاووس، وتأمل فيهما جيداً، عندئذ يصدق بها، وإلا سيجر جراً إلى التكذيب والإنكار عند سماعه من يدعي بأنه تناول الكثير من التمر الناضج من حفنة قليلة من نواة، أو أن بيضة الطاووس هي سلطان الطير.
وقياساً على ما سبق ذكره خلص النورسي إلى القول:
" وهكذا فإن بشرية الرسول الأكرم صلى اللّه عليه وسلم تشبه تلك النواة أو البيضة في المثال، وماهيته المشعة بمهمة الرسالة مثلها كمثل شجرة طوبى الجنة، وطير الجنة في سمو ورقى".(2)
__________
(1) المكتوبات- النورسي ص 124
(2) المكتوبات- النورسي ص 124(4/79)
يعني أن بشرية الرسول صلى اللّه عليه وسلم الظاهرة للعيان هي كالنواة أو البيضة حاملة لجملة من الأحوال والصفات المعبرة عن كماله البشري، أما حقيقة ذاته الحاملة لصفة النبوة والرسالة، وهي أعلى درجات كماله المعنوي والروحي، فتشبه في رقيها وعلوها شجرة طوبى الجنة وطير الجنة.
علاقة محمد - صلى الله عليه وسلم - بالله عزّ وجلّ
كشف النورسي في كتابة تمثيلية طويلة نسبياً جانب من جوانب عظمة المصطفى صلى اللّه عليه وسلم وسر من أسرار خصوصية علاقته باللّه تعالى، فقال:
" كان في زمان ما سلطان له ثروات طائلة، وخزائن هائلة تحوى جميع أنواع الجواهر والألماس والزمرد، مع كنوز أخرى عجيبة جداً، وكان صاحب علم واسع جداً وإحاطة تامة، واطلاع شامل بالعلوم البديعة التي لا تحد، مع مهارات فائقة وبدائع الصنعة".(1)
يعني أن تلك الذات السلطانية التي لا مثيل لها ولا شبيه قد حظيت بكل صفات الجمال ونعوت الكمال، ولكن ذاته وأعماله وكل ما يملك هي في حقيقة أمرها ليست ظاهرة ولا مكشوفة لغيره، أو بمعنى آخر مجهولة وغير معروفة لسواه، ولكي يلفت أنظار رعيته إلى جماله وكماله، قال عنه النورسي:
" وحيث إن كل ذي جمال وكمال يجب أن يشهد ويشاهد جماله وكماله. كذلك هذا السلطان العظيم، أراد أن يفتح معرضاً هائلاً لعرض مصنوعاته الدقيقة كي يلفت أنظار رعيته إلى أبهة سلطنته وعظمة ثروته، ويظهر لهم فوارق صنعته الدقيقة وعجائب معرفته وغرائبها، ليشاهد جماله وكماله المعنويين على وجهين:
الأول: أن يرى بالذات معروضاته بنظره البصير الثاقب الدقيق
الثاني: أن يراها بنظر غيره.
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 129(4/80)
ولأجل هذه الحكمة بدأ هذا السلطان بتشييد قصر فخم شامخ جداً. وقسمه بشكل بارع إلى منازل ودوائر مزيناً كل قسم بمرصعات خزائنه المتنوعة، وجمّله بما عملت يداه من ألطف آثار إبداعه وأجملها، ونظمه ونسقه بأدق دقائق فنون علمه وحكمته، فجهزه وحسنه بالآثار المعجزة لخوارق علمه".(1)
فالسلطان إذن يريد بناء قصر لا شبيه له ولا مثيل ولا نظير. فيه تظهر ذاته وتتجلى بكل ما حظيت به من جمال وكمال، ويرى من خلاله ويعاين مصنوعاته ومخلوقاته من زاويتين متباعدتين:
الأولى: أن يراها هو ظاهرة على صفحة الوجود الخارجي رؤية ذاتية خاصة به وحده.
والثانية: أن يراها هو بنظر غيره رؤية تنسب لغيره ولها صفة الخصوصية نفسها التي لرؤيته الذاتية.
ثم روى النورسي ما فعله السلطان بعد أن اكتمل بناء قصره قائلاَ:
" وبعد أن أتمه وكمّله، أقام في القصر موائد فاخرة بهيجة تضم جميع أنواع أطعمته اللذيذة، وأفضل نعمه الثمينة، مخصصاً لكل طائفة ما يليق بها ويوافقها من الموائد، فأعد بذلك ضيافة فاخرة عامة، مبيناً سخاءاً وإبداعاً وكرماً لم يشهد له مثيل، حتى كان كل مائدة من تلك الموائد قد امتلأت بمئات من لطائف الصنعة الدقيقة وآثارها، بما مد عليها من نعم غالية لا تحصى".(2)
أما دعوة صاحب القصر للمأدبة الحافلة بكل ما لذ وطاب من أصناف الأطعمة والمأكولات. فكانت عامة وشاملة لجميع من هم في مملكته وتحت سلطته، لم يستثن منهم أحد، ثم اصطفى من رعاياه دليلاً وهادياً للمدعوين، وذلك وكما يروى النورسي:
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 129
(2) الكلمات – النورسي ص 130(4/81)
"ليعلم الناس عظمة باني القصر وصانع ما فيه من نقوش بديعة موزونة، ومعرفاً لكل الداخلين رموزه، وما تعنيه هذه المرصعات المنتظمة والإشارات الدقيقة التي فيه. ومدى دلالتها على عظمة صاحب القصر وكماله الفائق ومهارته الدقيقة، مبيناً لهم أيضاً تعليمات مراسيم التشريفات بما في ذلك آداب الدخول والتجول وأصول السير وفق ما يرضي السلطان الذي لا يُرى إلا من وراء حجاب".(1)
يعني أن مهمة ذلك العالم والعارف بالقصر وصاحبه تنحصر في تعريف المدعوين بأحوال وصفات صاحب القصر الذي لا يظهر بذاته لأحد منهم. والكشف عن أسرار صنعته، وكيفية تعلقها العجيب بصانعها، دون أن يغفل عن تذكيرهم وتنبيههم بالواجب عليهم اتباعه داخل القصر وأثناء تجولهم في جنباته أو غيرها من الضوابط الحركية المقبولة عنده، والباعثة على رضائه عنهم، فقال لهم في مجمل تعريفه.
" أيها الناس إن سيدنا مليك هذا القصر الواسع البديع، يريد ببنائه هذا أن يظهر ما ترونه أمام أعينكم من مظاهر، أن يعرف نفسه إليكم، فاعرفوه واسعوا لحسن معرفته، وانه يريد بهذه التزيينات الجمالية أن يحبب نفسه إليكم، فحببوا أنفسكم إليه، باستحسانكم أعماله وتقديركم لصنعته.
وانه يتودد إليكم ويريكم محبته بما يسبغه عليكم من آلائه ونعمه وأفضاله فأحبوه بحسن إصغائكم لأوامره وبطاعتكم إياه.
وانه يظهر لكم شفقته ورحمته بهذا الإكرام والإغداق من النعم فعظموه أنتم بالشكر.
وانه يريد أن يظهر لكم جماله المعنوي بآثار كماله من هذه المصنوعات الجميلة الكاملة فاظهروا أنتم شوقكم ولهفتكم للقائه ورؤيته ونيل رضاه
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 130(4/82)
وانه يريد أن تعرفوا أنه السلطان المتفرد بالحاكمية والاستقلال بما ترون من شعاره الخاص، وخاتمه المخصص، وطرته التي لا تقلد على جميع المصنوعات، فكل شيء له، وخاص به، صدر من يد قدرته، فعليكم أن تدركوا جيداً أن لا سلطان ولا حاكم إلا هو، فهو السلطان الواحد الذي لا نظير له ولا مثيل".(1)
إن صاحب القصر، وكما يفهم من كلام المعلم يريد من رعاياه واتباعه، ممن هم الآن في ضيافته معرفته معرفة ذات شقين:
معرفة مجردة بذاته، وما يجب عليه من تفرد وانفراد بالسلطة والسلطان، والحكم والحاكمية، واستقلال تام بالخلق والخالقية لا يشاركه فيه أحد.
ومعرفة ذات طابع عملي وسلوكي، وهي أن يعرفوه محباً لهم رحيماً بهم، ليظهروا من جانبهم حبهم له، وطاعته والانقياد لأوامره، وشكرهم على نعمه وآلائه الكثيرة، وتعظيمهم وإجلالهم لذاته، وشوقهم للقائه ورؤيته.
وعلى أي حال فإن الذين دخلوا القصر استجابة لدعوة صاحبه ينقسمون إلى قسمين، وصف النورسي القسم الأول منهم بقوله:
" هم ذوو العقول النيرة والقلوب الصافية المطمئنة، المدركون قدر أنفسهم، فحينما يتجولون في آفاق هذا القصر، ويسرحون بنظرهم إلى عجائبه يقولون: لابد أن في هذا شأناً عظيماً، ولابد أن وراءه غاية سامية، فعلموا أن ليس هناك عبث، وليس هو بلعب، ولا بلهو صبياني، ومن حبرتهم بدأوا يقولون: ياترى أين يكمن حل لغز القصر، وما الحكمة فيما شاهدناه ونشاهده؟
وبينما هم يتأملون ويتحاورون في الأمر، إذا بهم يسمعون صوت خطبة الأستاذ العارف وبياناته الرائعة، فعرفوا أن لديه مفاتيح جميع الأسرار وحل جميع الألغاز، فأقبلوا إليه مسرعين:
السلام عليكم أيها الأستاذ، إن مثل هذا القصر الباذخ ينبغي أن يكون له عريفاً صادقاً مدققاً أميناً مثلك، فالرجاء أن تعلمنا مما علمك سيدنا العظيم.
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 131،130(4/83)
فذكرهم الأستاذ بخطبته المذكورة آنفاً، فاستمعوا إليه خاشعين وتقبلوا كلامه بكل رضى واطمئنان، فغنموا أيما غنيمة، إذ عملوا ضمن مرضاة سلطانهم، فرضى عنهم السلطان بما ابدوا من رضى وسرور لأوامره، فدعاهم إلى قصر أعظم وأرقى لا يكاد يوصف، وأكرمهم بسعادة دائمة، بما يليق بالمالك الجواد الكريم، وتلائم هؤلاء الضيوف الكرام المتأدبين، وحري بهؤلاء الطيعين المنقادين للأوامر".(1)
وما انتهى إليه هؤلاء الأخيار ذوو النفوس الطيبة الكريمة والفطر السليمة من تجوالهم وطوافهم باركان القصر المختلفة هو أنه بُني لغاية كبرى، ولهدف سامٍ نبيل، ولما علموا من خطبة الأستاذ الحقيقة كلها، طابت نفوسهم فتقبلوها قبولاً رفع منزلتهم عند صاحب القصر. فاستضافهم في قصر آخر لا يقارن في جماله وبهائه بالقصر الأول، نعموا فيه بسعادة خالدة.
أما القسم الثاني من الداخلين فهم كما وصفهم النورسي:
" الذين قد فسدت عقولهم، وانطفأت جذوة قلوبهم، فما أن دخلوا القصر حتى غلبت عليهم شهواتهم، فلم يعودوا يلتفتون إلا لما تشتهيه أنفسهم من الأطعمة اللذيذة صارفين أبصارهم عن جميع تلك المحاسن، سادين آذانهم عن جميع تلك الإرشادات الصادرة عن ذلك المعلم العظيم، فأقبلوا على المأكولات بشراهة ونهم كالحيوانات، فأطبقت عليهم الغفلة والنوم وغشيهم السكر، حتى فقدوا أنفسهم لكثرة ما أفرطوا في شرب ما لم يؤذن لهم به، فأزعجوا الضيوف الآخرين بجنونهم وعربدتهم، فأساءوا الأدب مع قوانين السلطان المعظم وأنظمته. لذا أخذهم الجنود وساقوهم إلى سجن رهيب لينالوا عقابهم الحق، جزاء وفاقاً على ما عملوا من سوء الخلق".(2)
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 131
(2) الكلمات – النورسي ص 132،131(4/84)
فهؤلاء هم من ذوي النفوس المريضة والعقول السقيمة الذين صرفوا جل وقتهم في الإقبال على الأطعمة والمأكولات بإفراط مقيت، لا فرق عندهم بين الطيب منها أو الخبيث، متجاهلين تعليمات السلطان وتوجيهات معلمه، ومخالفين قواعد القصر وأنظمته بعناد الحمقى، فكان من الطبيعي أن يوقفوا عند حدهم، ويعاقبوا بعقوبات مفصلة عليهم، ولائقة بهم.
وأخيراً علق النورسي على بيت القصيد من الحكاية، فقال مخاطباً من كان يستمع إليه:
" فيا من ينصت معي إلى هذه الحكاية، لابد انك قد فهمت أن ذلك السلطان قد بنى هذا القصر الشامخ لأجل تلك المقاصد المذكورة، فحصول تلك المقاصد يتوقف على أمرين:
أحدهما: وجود ذلك المعلم الأستاذ الذي شاهدنا، وسمعنا خطابه، إذ لولاه لذهبت تلك المقاصد هباءاً منثوراً، كالكتاب المبهم الذي لا يفهم معناه، ولا يبينه أستاذ، فيظل مجرد أوراق لا معنى لها.
ثانيهما: إصغاء الناس إلى كلام ذلك المعلم وتقبلهم له، بمعنى أن وجود الأستاذ مدعاة لوجود القصر، واستماع الناس إليه سبب لبقاء القصر، لذا يصح القول: لم يكن السلطان العظيم ليبنى هذا القصر لولا هذا الأستاذ، وكذا يصح القول: حينما يصيح الناس لا يصغون إليه ولا يلقون بالاً إلى كلامه، فسيغير السلطان هذا القصر ويبدله".(1)
ومقصود النورسي أن السلطان شيد ذلك القصر تحقيقاً للأغراض والأهداف المبسوطة فيما شرحناه من قبل، أما تحققها بالفعل فمرهون بأمرين متلازمين لا فكاك بينهما ولا انفصال:
أولهما: الارتباط الوثيق بين المعلم الأستاذ وبين الأغراض التي بنى لأجلها القصر، إذ لولاه لكانت مثل كتاب مكتوبٍ بلغة لا علم لأحد بها. فتضيع فائدته سدى.
وثانيهما: أن في وجود ذلك المعلم وسماع الناس لكلامه وجود للقصر، ولولاه لما بنى القصر. ولما استنفدت الجهود في المحافظة عليه، أما في انصراف الناس عن المعلم فتحويل للقصر إلى غير ما كان عليه.
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 132(4/85)
فإذا انضمت معالم الحكاية التمثيلية بوقائعها العديدة، فإن تطبيقها على الواقع فصله النورسي في قوله:
" إن ذلك القصر هو هذا العالم (الدنيا) المسقف بهذه السماء المتلألئة بالنجوم المتبسمة، والمفروش بهذه الأرض المزينة من الشرق إلى الغرب بالأزهار المتجددة كل يوم، وذلك السلطان العظيم هو اللّه تعالى سلطان الأزل والأبد الملك القدوس ذو الجلال والإكرام.
أما منازل ذلك القصر فهي ثمانية عشر ألفاً من العوالم التي تزينت كل منها وانتظمت بما يلائمها من مخلوقات، أما الصنائع الغريبة في ذلك القصر فهي معجزات القدرة الإلهية الظاهرة في عالمنا لكل ذي بصر وبصيرة، وما تراه من الأطعمة اللذيذة التي فيه، هي علامات الرحمة الإلهية من الأثمار والفواكه البديعة التي تشاهد لك بوضوح في جميع مواسم السنة وخاصة في الصيف، وبالأخص في البساتين.
ومطبخ هذا القصر هو سطح الأرض وقلبها الذي يتقد ناراً، وما رأيته في الحكاية من الجواهر في تلك الكنوز الخفية، هي في الواقع أمثلة لتجليات الأسماء الحسنى المقدسة. وما رأيناه من النقوش ورموزها هي هذه المخلوقات المزينة للعالم، وهي نقوش موزونة بقلم القدرة الإلهية الدالة على الأسماء الحسنى.
أما جميع من دعوا إلى دار ضيافة الدنيا فهم إشارة إلى الإنس والجن: وما يخدم الإنسان من حيوان وأنعام.
أما ذلك المعلم الأستاذ فهو سيدنا وسيد الكونين محمد صلى اللّه عليه وسلم.
أما الفريقان:
فالأول هم أهل الإيمان الذين يتتلمذون على مائدة القرآن الكريم الذي يفسر آيات كتاب الكون.
والآخر هم أهل الكفر والطغيان الصم البكم الضالون الذين اتبعوا أهواءهم والشيطان، فما عرفوا من الحياة إلا ظاهرها، فهم كالأنعام، بل هم أضل سبيلاً.(4/86)
أما الفريق الأول الذين هم الأبرار السعداء، فلقد انصتوا إلى المعلم العظيم والأستاذ الجليل، إذ هو عبد وهو رسول، فمن حيث العبودية يعرف ربه، ويوصفه بما يليق به من أوصاف الجلال، فهو إذا في حكم ممثل عن أمته لدى الحضرة الإلهية، ومن حيث الرسالة يبلغ أحكام ربه إلى الجن والأنس كافة بالقرآن العظيم".(1)
صفوة القول أن النورسي استخدم تلك الحكاية الرمزية ليكشف من خلالها بعضاً من أسرار خصوصية العلاقة بين اللّه وبين نبيه ورسوله وعبده محمد صلى اللّه عليه وسلم، أو إذا شئنا التوسع عظمة شخصية الرسول الكريم ومكانته الأثيرة عند اللّه. وامتيازه وتميزه على غيره من الأنبياء والرسل.
فمحمد صلى اللّه عليه وسلم هو وحده خلاصة النوع الإنساني، وواسطة عقده، ولأجله خلق اللّه تعالى كل شيء. ولولاه لما ظهر خلق ولا إيجاد، ليس هذا فحسب بل هو الغاية من الوجود كله.
كما أن محمداً من جهة ثانية هو الذي عرَّف بذات اللّه ووجوده وأسمائه وصفاته تعريفاً بلغ من سعته وعمقه ودقته حد التعيين الإشاري ليؤسس كل إنسان على ضوء هذه المعرفة علاقة خاصة باللّه تعالى، بها ينتسب لخالقه، فينتقل دفعة واحدة من عمومية الخلق إلى خصوصية الصلة، حيث يحظى بصفة المكلَّف. وذلك للقيام بوظيفة الخليفة والنائب عن اللّه تعالى في أرضه وبين مخلوقاته كافة.
معجزة محمد - صلى الله عليه وسلم -
إن في معجزة أو معجزات المصطفى صلى اللّه عليه وسلم قوة ذاتية تدفع من هم مخاطبون بها للإقرار والاعتراف بصدق من حدثت على يديه، وذلك لأنها تقوم مقام قوله تعالى: صدق عبدي ورسولي فاتبعوه. وفي المثل الذي رواه النورسي توضيح وبيان لتلك المقولة جاء فيه:
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 134،132(4/87)
" لو كنت في حضرة سلطان أو في ديوانه، وقلت لمن حولك، لقد عينني السلطان عاملاً في الأمر الفلاني، وحينما طلبوا منك دليلاً على ادعائك أومأ السلطان بنفسه: أن نعم، إني جعلته عاملاً، ألا يكون ذلك شهادة صدق لك. فكيف إذا خرق السلطان – لأجلك – عاداته وبدل قوانينه لرجاء منك. أفلا يكون ذلك تصديقاً أقوى لدعواك وأثبت من قول نعم".(1)
يستفاد من المثل أن زعم الرجل بأنه خصص أو أُفرد وحده لوظيفة سلطانية، لا يسلم به أحد حتى ولو كان أمام السلطان، ما لم يؤيد زعمه ببرهان قاطع وحجة فاصلة لأي خلاف، ويكفي في تصديقهم له تصديق السلطان لقوله، أما إذا تجاوز التصديق. فخرق له الأعراف والعادات والتقاليد الجارية في مملكته، فإن ذلك أدعى للقبول والاعتراف من التصديق اللفظي.
وما فعله المصطفى صلى اللّه عليه وسلم عند دعوته لقومه كان من هذا النوع، يقول عنه النورسي:
" وكذلك كانت دعوى الرسول صلى اللّه عليه وسلم، إذ قال: إنني رسول من رب العالمين، وأما دليلي فهو أنه سبحانه يبدل قوانينه المعتادة بالتجائي ودعائي وتوسلي إليه، وهاكم انظروا إلى أصابعي، أنه يفجر منها الماء، كما يتفجر من خمس عيون، وانظروا إلى القمر، إنه يشق لي شقين بإشارة من إصبعي، وانظروا إلى تلك الشجرة كيف تأتي لتصدقني وتشهد لي، وانظروا إلى هذه الحفنة من الطعام كيف أنها تشبع مائتين أو ثلاثمائة رجل. وهكذا أظهر صلى اللّه عليه وسلم مئات المعجزات أمثال هذه".(2)
أي أن المصطفى صلى اللّه عليه وسلم لم يكتف فقط بالإعلان أنه مبعوث من عند اللّه، بل أردفه بإعلامهم أن اللّه سيغير له المألوف من عوائدهم تأييداً وتصديقاً له في دعوته، وبطريقة يذعن لها العقل وتقبلها النفس.
ظهور معجزات محمد - صلى الله عليه وسلم - على الكائنات
__________
(1) المكتوبات – النورسي ص 114
(2) المكتوبات – النورسي ص 115(4/88)
استعرض النورسي في المكتوب التاسع عشر والذي يحمل اسم المعجزات الأحمدية لأكثر من ثلاثمائة معجزة من معجزاته صلى اللّه عليه وسلم، ومنها خلص ليس فقط إلى معرفة كل أنواع الكائنات به، بل أيضاً إلى أن تلك المعجزات تظهر فيها، بحيث تشير في مجملها وتفصيلها إلى أنه رسول من عند اللّه بوصفه رب الكائنات وخالقها، وشبه النورسي تلك المعرفة وذلك الظهور بقوله:
" نعم، كما أن موظفاً مرموقاً ذا منزلة عند السلطان تعرفه كل دائرة من دوائر الدولة، وإذا ما دخل أياً منها سيلقى ترحاباً حاراً، لأنه مأمور من قبل السلطان الأعظم، إذ لو فرضنا أنه كان مفتشاً للعدل فحسب، فسوف ترحب به دوائر العدل فقط. ولا تعرفه جيداً الدوائر الأخرى،
ولو كان مفتشاً عاماً للجيش فلا تعرفه الدوائر الرسمية الأخرى للدولة".(1)
فمعروف بنفسه أن المأمور من قبل أعلى سلطة دستورية في الدولة هو كالممثل الشخصي له، فله حق التنقل بحرية كاملة في البلاد، وتستقبله كل وحدة من وحدات الدولة استقبالها للسلطان. بحرارة وحفاوة بالغة، أما لو كان يشغل وظيفة في أي وحدة من تلك الوحدات، فقد لا تهتم به إلا الوحدات التي هو عامل فيها ومنتسب إليها.
وشبيه بهذه المنزلة المصطفى صلى اللّه عليه وسلم، فيقول عنه النورسي:
" إن جميع دوائر السلطنة الإلهية تعرفه صلى اللّه عليه وسلم معرفة جيدة، أو يعرّفه اللّه لهم ابتداء من الملائكة إلى الذباب والعنكبوت، فهو بلا شك خاتم الأنبياء، وأن رسالته عامة للكائنات قاطبة لا تختص أمة دون أمة كغيره من الأنبياء والمرسلين".(2)
وما مضى ذكره بيّن بنفسه، فليس المصطفى صلى اللّه عليه وسلم مجهولاً لأحد من الخلق، عاقل أو غير عاقل، جماد أو نبات، فالكل على معرفة به معرفة تنهض أصلاً على دعامتين أساسيتين من دعائم نبوته:
أولهما: ختمه للأنبياء والرسل. وثانيها: عموم رسالته.
__________
(1) المكتوبات – النورسي ص 214
(2) المكتوبات – النورسي ص 214(4/89)
فضائل أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -
انتهى النورسي بعد مناقشة مستفيضة في الخلاف القديم الدائر بين أهل السنة والشيعة حول فضائل الصحابيين الجليلين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي اللّه عنهما، وبين فضائل علي ابن أبي طالب رضي اللّه عنه، إلى ما انتهى إليه أهل السنة والجماعة من قبله، فقال:
" إذا ما وضع في كفة ميزان الفضائل الشخصية لسيدنا أبى بكر الصديق رضي اللّه عنه، أو فضائل سيدنا عمر الفاروق رضي اللّه عنه، وما قام كل منهما من خدمات جليلة من حيث وراثة النبوة زمن خلافتهما.
ووضع في الكفة الأخرى المزايا الخارقة لسيدنا علي رضي اللّه عنه ومجاهدات الخلافة في زمانه، وما اضطر إليه من معارك داخلية .... وما تعرض له بهذا من سوء الظن، فلا ريب أن كفة سيدنا الصديق رضي اللّه عنه، أو كفة سيدنا عمر الفاروق هي التي تكون راجحة، وهذا الرجحان هو الذي شاهده أهل السنة والجماعة، وبنوا تفضيلهم عليه".(1)
ثم أضاف إلى ذلك مرجحاً آخر، جاء فيه:
" إن حصة كل من الصديق والفاروق رضي اللّه عنهما من حيث ورثة النبوة وتأسيس أحكام الرسالة قد زيدت في الجانب الإلهي، فالتوفيق الذي حالفهما في زمن خلافتهما قد صار دليلاً لدى أهل السنة والجماعة، وحيث إن فضائل سيدنا على الشخصية لا تسقط من حكم تلك الحصة الزائدة الآتية من ورثة النبوة، فقد أصبح سيدنا علي رضي اللّه عنه شيخ القضاة للشيخين المكرمين زمن خلافتهما، وكان في طاعتهما".(2)
ومفاد ما مضى أن الخلفاء الثلاثة متماثلون في وراثة نور النبوة والإسلام، ولكن كفة المفاضلة في الأعمال تميل لصالح كل من أبى بكر وعمر رضي اللّه عنهما، وذلك من ناحيتين:
الأولى: أن خلافة كل منهما هي امتداد طبيعي لخلافة الرسول، فهما اللذان حملا الإسلام للناس من بعده مباشرة.
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 36
(2) اللمعات – النورسي ص 36(4/90)
والثانية: أُلهم الصحابيان وارشدا للقيام بأعمال دلت فعلاً على توفيق اللّه تعالى لهما. إذ في عهدهما تَمَّ الامتداد السياسي للدولة الإسلامية امتداداً ضم أراضي واسعة من أملاك الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية، وفي فترة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً.
أما المثال الذي وضح به النورسي تلك الحقيقة، فجاء فيه:
" رجل ثرى جداً وزع ميراثه وأمواله الطائلة على أولاده، فأعطى لأحدهم عشرين رطلاً من الفضة، وأربعة أرطال من الذهب، وأعطى لآخر خمسة أرطال من الفضة وخمسة أرطال من الذهب، وأعطى لآخر ثلاثة أرطال من الفضة وخمسة أرطال من الذهب، فلا شك أن الآخرين رغم أنهما قد قبضا اقل من الأول كمية. إلا انهما قبضا أعلى نوعية".(1)
إن التفاوت في قسمة الثري بين أبنائه محصورة فقط بين المقدار الكمي، وبين النوع الكيفي، فالثاني والثالث وإن تسلما مقداراً من المال اقل من الأول، إلا انهما أخذا من حيث النوعية الأفضل كيفاً.
والمثل بصورته تلك هو نموذج للمفاضلة بين الصحابة.
" فإن الزيادة القليلة من حصة الشيخين من ذهب حقيقة الأقربية الإلهية المتجلية من وراثة النبوة، وتأسيس أحكام الرئاسة ترجح على الكثير من الفضائل الشخصية. وجواهر الولاية والقرب الإلهي لسيدنا علي رضي اللّه عنه".(2)
وعلى هذا فإن المقدار القليل في زيادة أفضال وفضائل أبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما والمذكور آنفاً رجح كفتيهما على كفة على رضي اللّه عنه على ما تحلى به على من فضائل وراثة النبوة والقرب من اللّه.
الفصل الرابع
الإيمان
نور الإيمان
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 36
(2) اللمعات – النورسي ص 37،36(4/91)
مثلما يضيء نور الإيمان الإنسان ويظهره على حقيقته الربانية، فإنه أيضاً ينير ما يحيط به من مخلوقات وكائنات تشاركه في الوجود وفي الانتساب إلى اللّه تعالى، ولا يقف نور الإيمان في حدود الحاضر بل يتجاوزه ليضيء غياهب الماضي وحجب المستقبل، ولبيان هذا وذاك روى النورسي في حكاية خيالية ما رآه هو بنفسه. فقال:
" لقد رأيت في واقعة خيالية أن هناك طودين شامخين متقابلين نصب على قمتيهما جسر عظيم مدهش، وتحته واد عميق سحيق، وأنا واقف على ذلك الجسر والدنيا يخيم عليها ظلام كثيف من كل جانب، فلا يكاد يرى منها شيء، فنظرت إلى يميني فوجدت مقبرة ضخمة تحت جنح ظلمات لا نهاية لها، أي هكذا تخيلت، ثم نظرت إلى طرفي الأيسر فكأني وجدت أمواج ظلمات عاتية تتدافع فيها الدواهي المذهلة والفواجع العظيمة وكأنها تتأهب للانقضاض. ونظرت إلى أسفل الجسر فتراءت لعيني هوة عميقة لا قرار لها.
كنت لا أملك سوى مصباح يدوي خافت النور، أمام كل هذا الهدير العظيم من الظلمات، فاستخدمته فبدأ لي وضع رهيب، إذ رأيت أسوداً وضواري ووحوشاً وأشباحاً في كل مكان، حتى في نهايات وأطراف الجسر، فتمنيت أن لم أكن أملك هذا المصباح الذي كشف لي كل هذه المخلوقات المخيفة، إذ أنني أينما وجهت نور المصباح شهدت المخاطر المدهشة نفسها، فتحسرت في ذات نفسي وتأوهت قائلاً:
إن هذا المصباح مصيبة وبلاء عليّ.
فاستشاط غيظي، فألقيت المصباح إلى الأرض وتحطم، وكأن بتحطمه قد أصبحت زراً لمصباح كهربائي هائل، فإذا به ينور الكائنات جميعاً فانقشعت تلك الظلمات، وانكشفت وزالت نهائياً، وامتلأ كل مكان وكل جهة بذلك النور وبدت حقيقة كل شيء ناصعة واضحة.(4/92)
فوجدت أن ذلك الجسر المعلق الرهيب ما هو إلاّ شارع يمر من سهل منبسط، وتبينت أن تلك المقبرة الهائلة التي رأيتها على جهة اليمنى ليست إلا مجالس ذكر وتهليل وندوة كريمة لطيفة وخدمة جليلة وعبادة سامية تحت إمرة رجال نورانيين في جنائن خضر جميلة تشع بهجة ونوراً، وتبعث في القلب سعادة وسروراً.
أما تلك الأودية السحيقة والدواهي المدهشة والحوادث الغامضة التي رأيتها عن يساري، فلم تكن إلا جبالاً مشجرة خضراء تسر الناظرين، ووراءها مضيف عظيم ومروج رائعة ومتنزه رائع، نعم هكذا رأيت بخيالي، أما تلك المخلوقات المخيفة والوحوش الضارية التي شاهدتها فلم تكن إلا حيوانات أليفة أنيسة كالجمل والثور والضأن والماعز".(1)
تتكون الحكاية من ثلاثة أجزاء مترابطة.
ففي الجزء الأول منها صور النورسي الظلمات الحالكة التي رآها تحيط به من كل جانب، والمخاطر المحدقة به أثناء وقوفه على الجسر.
وأراد في الجزء الثاني أن يتحرى عن حقيقة ما يجري أمامه، ويستكشف عما يدور من حوله، مستخدماً في ذلك مصباحاً صغيراً، فإذا به يرى حيوانات شرسة ومخيفة تنتشر في المكان، والمخاطر نفسها تحدق به، مما تسبب في حزنه واساه.
أما في الجزء الثالث والأخير فقد تغيرت الوقائع، وذلك لأنه عندما قذف بالمصباح الصغير أرضاً سقط على زر لمصباح كهربائي ضخم، فغطى نوره المكان. وانقلب ما كان يراه في الظلام من شر وقبح إلى خير وجمال.
ثم فسر وقائع الحكاية بقوله:
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 351،350(4/93)
" فذاكما الجبلان هما: بداية الحياة ومنتهاها، أي هما عالم الأرض وعالم البرزخ، وذلك الجسر هو طريق الحياة، والطريق الأيمن هو الماضي من الزمن، والطريق الأيسر هو المستقبل منه، أما المصباح اليدوي فهو أنانية الإنسان المعتدة بنفسها والمتباهية بما لديها من علم، والتي لا تصغي إلى الوحي السماوي. أما تلك الغيلان والوحوش الكاسرة فهي حوادث العالم العجيبة وموجوداته".(1)
إن أنانية الإنسان وحبه المبالغ فيه لنفسه، هي التي تصور له الأشياء على غير حقيقتها، وتضللّه وتوهمه بما يضره ولا يفيده شيئاً، وهي التي توقف عندها النورسي دون باقي معاني ورموز الحكاية قائلاً:
" فالإنسان الذي يعتمد على أنانيته وغروره ويقع في شراك ظلمات الغفلة ويبتلى بأغلال الضلالة القاتلة، فإنه يشبه حالتي الأولى في تلك الواقعة الخيالية – حيث يرى الزمن الماضي – بنور ذلك المصباح الناقص الذي هو معرفة ناقصة منحرفة للضلالة، كمقبرة عظيمة من ظلمات العدم، ويصور الزمن من المستقبل موحشاً تعيث فيه الدواهي والخطوب محيلاً إياه إلى الصدفة العمياء كما يصور جميع الحوادث والموجودات التي كل منها موظفة مسخرة من لدن رب رحيم حكيم، كأنها وحوش كاسرة وفواتك ضارية".(2)
فإنّية الإنسان وأنانيته إذن تشبه ذلك المصباح الصغير الخافت الضوء والنور، ولا يكشف له الأشياء إلا في صورة مغايرة لحقيقتها، وتجردها على الدوام من نسبتها للّه تعالى وانتسابها إليه، أو على أقل تقدير لا تصور له إلا الجانب الأسود أو المظلم فيها. أما إذا وجد الإيمان طريقه إلى قلبه، وتخلى عن الركون إليها، فانه يرى الأشياء من حوله منورة بالنور الإلهي، عندئذ تنقلب حقائقها وصفاتها وأحولها رأساً على عقب. يقول النورسي في حديثه عنها:
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 351
(2) الكلمات – النورسي ص 351(4/94)
" فليس الزمن الغابر إذ ذاك مقبرة عظمى كما يُتَوَهَمُ بل كل عصر من عصوره كما تشهده بصيرة القلب زاخر بوظائف عبودية تحت قيادة نبي مرسل، أو طائفة من الأولياء الصالحين، يدير تلك الوظيفة السامية ويعمها ويرسخ أركانها في الرعية على أتم وجه وأكمل صورة.
عندما يلتفت إلى يساره يتراءى له من بعيد بمنظار نور الإيمان – أن هناك انقلابات برزخية وأخروية – وهي بفخامة الجبال الشواهق قصور سعادة الجنان، وقد مرت فيها مضايف الرحمن مداً لا أول لها ولا آخر، فيتيقن بأن كل حادثة من حوادث الكون، كالأعاصير والزلازل والطاعون وأمثالها، إنما هي مسخرات موظفات مأمورات، فيرى أن عواصف الربيع والمطر وأمثالها من الحوادث التي تبدو حزينة سمجة ما هي في الحقيقة والمعنى إلا مدار الحكم اللطيفة، حتى إنه يرى الموت مقدمة لحياة أبدية، ويرى القبر باب سعادة خالدة، وقس على المنوال سائر الجهات بتطبيق الحقيقة على المثال".(1)
ومقصوده أن نور الإيمان يتجاوز تلك المعاني الضيقة ليترقى بالمؤمن فيكشف له الأشياء كلها بنسبتها الاستنادية للّه تعالى، فلأجل ذلك عد علماً من نوع خاص يتخطى القشرة السطحية لمعاني الأشياء وينفذ إلى باطنها. فتتجلى له على حقيقتها الإلهية.
وعلى ضوء ذلك فلا الزمان الماضي مقبرة كبيرة واسعة للأموات يسودها الصمت الرهيب، بل تاريخ مفعم بالحيوية والعبادة ونور الإيمان، ولا الموت عدم وفناء، بل بداية لحياة جديدة وعالم آخر، ولا تحمل تغيرات الطبيعة وثوراتها المدمرة الدمار والخراب للبشرية، بل أدوات طيعة بيد القدرة الإلهية يسوقها لحكم ومقاصد خيرة.
أثر الإيمان
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 352(4/95)
مثّل النورسي لواحدة من آثار الإيمان وتأثيره في النفوس برجلين خرج كل واحد منهما إلى جهة معينة، بقصد النزهة والتفرج والاسترواح من ناحية، وللعمل والتجارة من ناحية أخرى، ووصف الأول بأنه أناني مبالغ في حبه وإعجابه بنفسه، ساعياً للتمتع بملذات الدنيا دون سواه، ووصف الثاني بنسبته الصريحة إلى الرب، أي رباني، فهو إذن متألّه، أو بمعنى آخر عابد للّه زاهد في الدنيا.
ثم قص ما حدث للأول عند بلوغه مقصوده من السياحة قائلاً:
" فالأناني المغرور الذي كان متشائماً لقي بلداً في غاية السوء والشؤم في نظره جزاءً وفاقاً على تشاؤمه، حتى إنه كان يرى – أينما اتجه – عجزة مساكين يصرخون ويولولون بأيدي رجال طغاة قساة ومن أعمالهم المدمرة، فرأى هذه الحالة المؤلمة الحزينة في كل ما يزوره من أماكن، حتى اتخذت المملكة كلها في نظره شكل مأتم عام، فلم يجد لنفسه علاجاً لحاله المؤلم المظلم غير السكر، فرمى نفسه في نشوته لكيلا يشعر بحاله، إذ صار كل واحد من أهل هذه المملكة يتراءى له عدواً يتربص به، وأجنبياً يتنكر له، فظل في عذاب وجداني مؤلم، لما يرى فيما حوله من جنائز مرعبة، ويتامى يبكون بكاءاً يائساً مريراً".(1)
إن انطواء ذلك الرجل على ذاته، واستيلاء الفردية على سلوكه وغلبتها على أفعاله أورثه بالضرورة روح الاستياء والكراهية، أي الحالة الأسوأ من بين جميع الحالات النفسية، فاصبح ينظر إلى كل شيء نظرة سوداوية أفسدت عليه جمالها وحسنها وبهاءها ورونقها، وأحالت الموجودات إلى جنائز متحركة مجردة عن بهجة الحياة وأفراحها، حتى غدا العالم في نظره مجتمعاً كبيراً يسوده الحزن وتعمه الكآبة، ويسيطر عليه الغم.
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 9(4/96)
ولم يجد الرجل من وسيلة تخلصه من حالته تلك إلا باللجوء إلى السكر ليضطرب عقله ويفقد إدراكه، فلا يعي بمن حوله، تحرراً من الآلام، وهروباً مما يكابده من مخاوف، وبهذا يكون قد يئس من كل خير، وانقطع أمله وخاب رجاؤه من كل إصلاح، وانصرف بكليته لتدمير نفسه تدميراً بطيئاً.
أما ما حدث للرجل الثاني عند بلوغه مقصده، فيرويه النورسي بقوله:
" أما الآخر الرجل الرباني العابد للّه، والباحث عن الحق، فقد كان ذا أخلاق حسنة، بحيث لقي في رحلته مملكة طيبة هي في نظره في منتهى الروعة والجمال.
فهذا الرجل الصالح يرى في المملكة التي دخلها احتفالات رائعة ومهرجانات بارعة قائمة على قدم وساق، وفي كل طرف سروراً، وفي كل زاوية حبوراً، وفي كل مكان محاريب ذكر، حتى لقد صار يرى كل فرد من أفراد هذه المملكة صديقاً صدوقاً وقريباً حبيباً له، ثم يرى أن المملكة كلها تعلن – في حفل التسريح العام – هتافات الفرح بصيحة مصحوبة بكلمات الشكر والثناء، ويسمع فيها أيضاً أصوات الجوقة الموسيقية وهي تقدم ألحانها الحماسية مقترنة بالتكبيرات العالية والتهليلات الحارة بسعادة واعتزاز سَوقاً إلى الخدمة والجندية".(1)
فالرجل الثاني مخالف للأول في مسلكه، وعلى النقيض منه في نظرته للأشياء، فهو ينظر إليها بنسبتها الاستنادية للّه تعالى، فيرى أن الغالب عليها هو الحسن والجمال والسعادة والأفراح والمسرات، وما يظهر فيها بين الفينة والأخرى من قبح وشر وشقاء وأحزان، هي أعراض طارئة ونسبية، ووجودها على ما فيه من فساد، وما تلحقه من أضرار افضل من عدمها.
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 10،9(4/97)
إن الرجل الرباني تعود مستنداً على خلفيته النفسية المتفائلة النظر إلى الموجودات في جوانبها الجميلة والخيرة. وهو لا يجهل ولا يتجاهل ما فيها من قبح وشر، ولكنه يؤثر ويفضل الالتفات إلى كمال الوجود وجماله، معرضاً عن نقصه وقبحه فمثلاً ينظر إلى الموت وهو أقبح الأشياء وأشدها إيلاماً للنفس بوصفه تسريحاً من الخدمة، وانطلاقاً إلى عالم آخر تصاحبه مظاهر البهجة والسرور لا الحزن والبكاء
وعاد الرجلان من سياحتهما على الحالة التي كانا عليها:
" فبينما كان ذلك الرجل الأول المتشائم منشغلاً بألمه والآم الناس كلها، كان الثاني السعيد المتفائل مسروراً مع سرور الناس كلهم فرحاً مع فرحهم، فضلاً عن أنه غنم لنفسه تجارة حسنة مباركة فشكر ربه وحمده".(1)
ثم دار بين الاثنين حوار قصير عن تجربتهما رواه النورسي بقوله:
" ولدى عودته إلى أهله، يلقى ذلك الرجل فيسأل عنه وعن أخباره فيعلم كل شيء عن حاله فيقول له:
يا هذا هل جننت، فإن ما في داخلك من شؤم انعكس على ظاهرك بحيث تتوهم أن كل ابتسامة صراخ ودموع، وأن كل تسريح وإجازة نهب وسلب عُدْ إلى رشدك وطهر قلبك، لعل هذا الغشاء النكد ينزاح عن عينيك، وعسى أن تبصر الحقيقة على وجهها الأبلج، فإن صاحب هذه المملكة ومالكها وهو في منتهى درجات العدل والرحمة والربوبية والاقتدار والتنظيم المبدع والرفق، وان مملكة في هذه الدرجة من الرقى والسمو بما تريك من آثار بأم عينيك لا يمكن أن تكون بمثل ما تريه أوهامك من صور.
وبعد ذلك بدأ هذا الشقي يراجع نفسه ويرجع إلى صوابه رويداً رويداً، ويفكر بعقله ويقول متندماً:
نعم لقد أصابني جنون لكثرة تعاطى الخمر، ليرض اللّه عنك، فلقد أنقذتني من جحيم الشقاء".(2)
وفسر النورسي المثل أو الحكاية الرمزية، فقال مخاطباً نفسه،
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 10
(2) الكلمات – النورسي ص 10(4/98)
" فيا نفسي، اعلمي أن الرجل الأول هو الكافر أو الفاسق الغافل، فهذه الدنيا في نظره بمثابة مأتم عام، وجميع الأحياء يبكون تألماً من ضربات زوال وصفعات الفراق، أما الإنسان والحيوان فمخلوقات سائبة بلا راع ولا مالك، تتمزق بمخالب الأجل وتعتصر بمعصرته، وأما الموجودات الضخام – كالجبال والبحار – فهي في حكم الجنائز الهامدة والنقوش الرهيبة، وأمثال هذه الأوهام المدهشة المؤلمة الناشئة من كفر الإنسان وضلالته تذيق صاحبها عذاباً معنوياً مريراً".(1)
ومرد ذلك كله وكما يفهم من النص أن الكفر والفسق لا يقطع فقط انتساب الكافر والفاسق باللّه تعالى، بل يقطع سائر أنواع الانتماءات به عز وجل، سواء كانت اختيارية كما هو الحال في المخلوقات العاقلة، أو قهرية كما هو الحال في سائرها، مما يجردها بالكامل من كل المعاني التي اكتسبتها بتلك النسبة وذلك الانتساب، بل قد تكتسب في نظره، وبما تنطوي عليه نفسه من أنانية مفرطة وتشاؤم سوداوي، معاني مناقضة تماماً للمعاني التي خرج بها إلى الوجود، ومغايرة لوظائفها، ومناهضة لطبيعتها الخيرة الجميلة.
وبديهي أن الرجل الثاني يمثل العبد المؤمن، وعنه يقول النورسي:
" وأما الرجل الثاني فهو المؤمن الذي يعرف خالقه حق المعرفة، ويؤمن به، فالدنيا في نظره دار ذكر رحماني، وساحة تعليم وتدريب البشر والحيوان. وميدان ابتلاء واختبار الإنس والجن.
أما الوفيات كافة – من حيوان وإنسان – فهي إعفاء من الوظائف وإنهاء من الخدمات، فالذين أنهوا وظائف حياتهم، يودعون هذه الدار الفانية وهم مسرورون معنوياً، حيث إنهم ينقلون إلى عالم آخر غير ذي قلق، خال من أوضار المادة وأوصاب الزمان والمكان وصروف الدهر وفوارق الحدثان، لينفسح المجال واسعاً لموظفين جدد يأتون للسعي في مهامهم.
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 11،10(4/99)
أما المواليد كافة – من حيوان وإنسان – فهي سَوقة تجنيد عسكرية وتسلم سلاح، وتسنم وظائف وواجبات، فكل كائن إنما هو موظف وجندي مسرور ومأمور مستقيم راض قانع.
وأما الأصوات المنبعثة والأصداء المرتدة من أرجاء الدنيا فهي إما ذكر وتسبيح لتسنم الوظائف والشروع فيها، أو شكر وتهليل إيذاناً بالانتهاء منها، أو أنغام صادرة عن شوق إلى العمل وفرح به.
فالموجودات كلها – في نظر المؤمن – خدام مؤنسون، وموظفون أخلاء، وكتب حلوة لسيده الكريم ومالكه الرحيم، وهكذا يتجلى من إيمانه كثير جدا من أمثال هذه الحقائق التي هي في غاية اللطف والسمو واللذة والذوق".(1)
وهكذا لا يرى المؤمن بإيمانه إلا الجانب المشرق للوجود والموجودات، حيث تستحيل مظاهر الحياة كلها إلى صور وأشكال محببة للقلب، وباعثة على الفرح في النفوس، فلا الدنيا مرذولة، ولا الموت بغيض، ولا من يولد من الأحياء يولد للفناء، بل إن في حركة كل موجود منتهى سعادته وغاية رجائه.
أعلى مراتب الإيمان
إذا كان ابن عربي ومن تبعه يرون أن في الاعتقاد بوحدة الوجود هو أرفع مراتب الإيمان، فإن أهل السنة في المقابل يرون أن التوحيد هو أعلى مرتبة من مراتب الإيمان، ولبيان الفرق بين المذهبين والاعتقادين ضرب النورسي المثل التالي:
" لنفرض أن هناك طاؤوساً خارقاً لا مثيل له، وهو في غاية الكبر ومنتهى الزينة، وأنه يتمكن من الطيران من الشرق إلى الغرب في لمحة وله القدرة على بسط جناحيه الممتدين من الشمال إلى الجنوب، وقبضهما في آن واحد، وعليه مئات ألوف النقوش البديعة حتى إن في كل ريشة من جناحيه إبداعاً واتقاناً في منتهى الجمال والروعة.
ولنفرض الآن أن هناك شخصين يتفرجان على هذا الطاؤوس العجيب، ويريدان التحليق بجناحي العقل إلى المراتب العالية الرفيعة لهذا الطير وبلوغ زينته الخارقة.
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 11(4/100)
فطفق الأول يتأمل في وضع هذا الطاؤوس وهيكله ونقوش خوارق القدرة في كل ريشة منه، فيغمره العشق والشوق والمحبة تجاه هذا الطير، فيترك شيئاً من التفكير العميق إلى جانب مستمسكاً بالعشق ولكنه يرى أن تلك النقوش المحبوبة تتحول وتتبدل يوماً بعد يوم، وأن تلك المحبوبات التي يوليها الحب والعشق تغيب وتزول كل يوم، فكان ينبغي له أن يقول:
إن هذه النقوش المتقنة إنما هي لنقاش مالك للخلاقية الكلية مع أحديته الذاتية، وله الربوبية المطلقة مع وحدانيته الحقيقة، إلا أنه لم يتمكن من أن يستوعب هذا ويدركه، فبدأ يسلى نفسه ويقول بدلاً من ذلك الاعتقاد:
إن روح هذا الطاؤوس روح سامية عالية بحيث إن صانعه فيه، أو قد أصبح هو نفسه، وأن تلك الروح العالية متحدة مع جسد الطاؤوس، ولأن جسده ممتزج مع صورته الظاهرة، فإن كمال تلك الروح، وعلو ذلك الجسد هما اللذان يظهران هذه الجلوات على هذه الصورة البديعة، حتى يظهر في كل دقيقة نقشاً جديداً وحسناً مجدداً، فليس هذا إيجاد باختبار حقيقي، بل هو جلوة وتظاهر.
أما الشخص الأخر، فيقول:
إن هذه النقوش الموزونة المنظمة المتقنة تقتضي يقيناً إرادة واختياراً وقصداً ومشيئة، فلا يمكن أن تكون جلوة بلا إرادة، ولا تظاهراً بلا اختيار".(1)
فالصورة المفترضة هي لطاؤوس مخالف في طبيعته لحجمه التقليدي، فجسمه ضخم وكبير، وجماله وزينته يفوقان الوصف، وله مقدرة هائلة على الطيران من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، وفي سرعة البرق، وقادر على نشر جناحيه شمالاً وجنوباً، وجمعهما في لحظة واحدة، أما ألوانهما ففي منتهى الحسن والجمال.
وإزاء هذا الطائر الرائع وقف رجلان ينظران إليه بدهشة وانبهار، وكل منهما يريد بقوة فكره وخياله الوصول إلى مستواه الرفيع وجماله المعجز الأخاذ.
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 63(4/101)
فالرجل الأول هداه تفكيره الطويل ونظره المتمعن في هيكل الطائر وجماله الفريد على الوقوع في حبه، ولكن جمال الطائر لا ثبات له، فهو عرضة للتبدل والتغيير بصفة مستمرة ودائمة، فبدلاً من توجيه الحب إلى خالقه وصانعه، نراه يتحول إلى اعتقاد غريب، وهو اتحاد الصانع بصنعته، وظهوره في كل ما على الطائر من جمال وألوان ودقة في الصنعة
أما الرجل الثاني فاتجه مباشرة من جمال الطائر ودقة صنعته وكمال خلقه، إلى الاعتقاد بعلم وقدرة وإرادة واختيار وحكمة متجلية وظاهرة عليه، أي الاعتراف بوجود خالق وصانع له، منفك عنه ذاتاً ووجوداً.
فالرجل الأول يمثل أصحاب وحدة الوجود الذين اضطرتهم محبتهم الشديدة للجمال الزائل إلى الاعتقاد بان كل شيء هو اللّه، أو لا شيء موجود، أو أن الوجود خيال، إلى غيرها من المعاني التي تهدف إلى إدامة تلك المحبة إلى مالا نهاية. فقال النورسي معلقاً على حالتهم تلك:
" إن صفة العشق لا تريد الفراق أصلاً، وتفر منه بشدة، وترتعد فرائص العاشق من الافتراق، ويرهب من التنائي رهبته من جهنم، وينفر من الزوال نفرة شديدة، ويحب الوصال حبه لروحه ونفسه، ويرغب بشوق لا حد له – كشوقه للجنة – للقرب الإلهي، لذا يرى أن التشبت بتجلي الأقربية الإلهية في كل شيء يجعل الفراق والتنائي كأنهما معدومان، فيظن اللقاء والوصال دائمين بقوله: لا موجود إلا هو".(1)
يعني أن طبيعة المحبة القوية والولع الشديد بالمخلوقات لا تفترض عندهم الانفصال بين المحبة والمحبوب، بل تشكل فكرة الانفصال في حد ذاتها كارثة يتزلزل لها كيان المحب، وبما أن الانفصال أمر محتم وقضاء لازم فيلجأ مكرهاً إلى وجود فكرة وجود اللّه في كل شيء، كي يقضى بها أو من خلالها على فكرة الفراق. فيتوهم نوعاً من دوام واستمرارية الحب بقوله: لا موجود إلا هو.
أما الرجل الثاني فيمثل أهل السنة الذين يقولون:
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 61(4/102)
" إن اللّه سبحانه بأحديته الذاتية وتنزهه عن المكان قد أحاط – من دون وساطة – بكل شيء علماً وشخّصه بعلمه ورجحه وخصصه بإرادته وأوجده وأبقاه بقدرته، فانه سبحانه يوجد جميع الكون ويخلقه ويدبر أموره كإيجاده لشيء واحد وإرادته إياه، فكما أنه يخلق الزهرة بسهولة فانه يخلق الربيع العظيم بالسهولة نفسها، فلا يمنع شيء شيئاً قط، فلا تجزؤ في توجهه سبحانه، فهو موجود بتصرفه وبقدرته وبعلمه في كل شيء في كل آن، فلا انقسام ولا توزع في تصرفه سبحانه".(1)
وخلاصة المعنى تفيد بأن اللّه تعالى هو وحده المتفرد بالخلق والإيجاد، ولا يتفاوت خلقه بتفاوت أحجامها، وكلها تخرج إلى الوجود بكلمة (كن) الدالة على سرعة الخلق، وعلى انفصالها عنه عز وجل، ومن ثم فلا مجال للمقارنة بين الخالق والمخلوق، فلا اللّه تعالى ينزل إلى مرتبة الموجودات ليتحد معها بأي معنى من معاني الاتحاد، ولا الموجودات ترتفع إلى منزلة الخالق، فتنال من الصفات والأحكام ما ليس لها.
الانتساب
شاء اللّه بمقتضى حكمته الأزلية أن يرتفع بالإنسان من علاقة المخلوقية إلى علاقة أخص، بها يترقى في سلم الحياة بمعنى لا يشاركه فيه غيره، فتفضل عليه بالتكليف لينتسب إليه بصفة أخص، فيها ترقية له من جهة، وتشريف له من جهة أخرى، وهي صفة المُكلَّف، إذ في العلاقة التكليفية، وفي الانتساب إليه تعالى بصفة المكلَّف ما ليس في علاقة المخلوق بالخالق.
وأطلق النورسي على ذلك الانتساب إلى اللّه تعالى اسم الإيمان، مما يعني أن الإيمان في الأصل هو الانتساب للّه، فعد لهذا السبب مناط التكليف الإلهي، منه تحدد العلاقة أو الرابطة بين اللّه تعالى وبين الإنسان، وبه ينال صفة المكلَّف.
ولتقريب ذلك المعنى وتلك الحقيقة إلى الذهن وفي صورة أقرب إلى الحس والوجدان، ساق النورسي المثل التالي:
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 52(4/103)
"إذا انتسب أحد إلى السلطان بالجندية أو بالوظيفة الحكومية، فإنه يتمكن أن ينجز من الأمور والأعمال أضعاف أضعاف ما يمكن إنجازه بقدرته الشخصية، وذلك بقوة ذلك الانتساب السلطاني، فمثلاً يستطيع أن يأسر قائداً كبيراً باسم سلطانه مع أنه جندي، حيث تحمل خزائن السلطان وقطعات الجيش الأجهزة والأعتدة لما يقوم به من أعمال، فلا يحملها وحده، كما أنه ليس مضطراً إلى حملها، كل ذلك بفضل انتسابه إلى السلطان، لذا تظهر منه أعمال خارقة كأنها أعمال سلطان عظيم، وتبدو له آثار – فوق ما تبدو منه عادة – وكأنها آثار جيش كبير رغم أنه فرد.
فالنملة – من حيث تلك الوظيفة – تتمكن من تدمير قصر فرعون طاغ، والبعوضة تستطيع أن تهلك نمروداً جباراً بقوة ذلك الانتساب، والبذرة الصغيرة للصنوبر الشبيهة بحبة الحنطة تنشئ بذلك الانتساب جميع أجهزة شجرة الصنوبر الضخمة.
فلو انقطع ذلك الانتساب، وأُعفى الموجود من تلك الوظيفة فعليه أن يحمل على كتفه قوة ما ينجزه من أعمال وينوء كاهله بلوازمها ومعداتها، وبذلك لا يمكنه القيام بأعمال سوى أعمال تتناسب مع تلك القوة الضئيلة المحدودة المحمولة على ذراعه، بما يناسب كمية المعدات واللوازم البسيطة التي يحملها على ظهره، فلو طلب منه أن يقوم بأعمال كان يقوم بها بسهولة ويسر في الحالة الأولى لأظهر عجزه، إلا إذا استطاع أن يحمّل ذراعه قوة جيش كامل، ويردف على ظهره معامل أعتدة الدولة الحربية".(1)
ويفهم من المثل أن مجرد الاستناد إلى اللّه تعالى يمنح الفرد حقاً في التحرك، وقوة في الأداء ينجز بها من الأعمال ما هو موكول إليه، فكأن هذا الاستناد شهادة موثقة ومعترف بها تعطيه الحرية في التصرف، وفي الوقت نفسه إعلان بأنه منتسب إلى قوة هي سبب كل ما يصدر عنه من أفعال.
__________
(1) اللمعات- النورسي ص 279،278(4/104)
فإذا آمن الإنسان باللّه فإن إيمانه يعطيه وثيقة يستند عليها، فيصبح ذلك الانتساب قوة لا حد لها تمكنه من أن ينجز من الأعمال أضعاف أضعاف ما يمكن إنجازه بقدرته الذاتية.
وقد مثل النورسي لذلك بالجندي الذي بانتسابه إلى جيشه وقائده، يأتي وحد بأعمال مخالفة للمعهود، كأن يسوق قائداً إلى الأسر، وذلك لأنه يرتكز في حركته على الجيش بعدته وعتاده، ويستند في كل ما يقوم به على قائده، وينسب كل فعل صادر منه إليه.
وكذلك الحال مع النملة الصغيرة والبعوضة الضعيفة والبذرة الجامدة، فكل منها تأتي بأعمال ضخمة وكبيرة ولا تقارن أبداً بأحجامها الضئيلة، وكل ذلك بفضل انتسابها إلى اللّه تعالى واستنادها عليه.
فلو حدث وانقطع ذلك الانتساب، وترك كل مخلوق للانطلاق مستنداً على قواه الذاتية المجردة، فإن عليه لإنجاز أي عمل أن يحمل من الآلات والمعدات مالا يتفق مع حجمه، وحتى لو فرض مقدرته على حملها فلا ينجز بها إلا الأعمال التي تتفق مع حجمها ومع ما يحمله من آلات ومعدات.
الحقائق الإيمانية
هناك الكثير من الدسائس الدخيلة التي تسعى لإفساد سلامة تفكير المؤمن، من بينها المحاولات المتكررة للإخلال بصحة نظرته إلى الحقائق الإيمانية، أو بمعنى آخر وكما يقول النورسي:
" إبطال حكم مئات الدلائل الثبوتية – حول حقيقة إيمانية – بشبهة تدل على نفيها، علماً أن القاعدة هي: أن دليلاً واحد ثبوتياً يرجح على كثير من النفي، وان حكماً لشاهد ثبوتي واحد لدعوى، يؤخذ به ويرجح على مائة من المنكرين النافين".(1)
فهناك إذن الكثير من الحجج والأدلة القوية المؤيدة للحقائق الإيمانية، ولكن هؤلاء الدساسين يوردون دوماً شبهة أو شبهتين في سعى منهم لتجريدها من ثباتها العلمي ووضوحها اليقيني، مع أنه من المعروف بداهة أن برهان واحد وشاهد واحد يؤخذ مأخذاً علمياً يزيل ويبطل نفي النافين وإنكار المنكرين.
__________
(1) اللمعات- النورسي ص 135(4/105)
وبيّن النورسي هذه الحقيقة بالمثال التالي:
" بناية عظيمة لها مئات من الأبواب المقفلة، يمكن الدخول فيها بفتح باب واحد منها، وعندها تفتح بقية الأبواب، ولا يمنع بقاء قسم من الأبواب مغلقة من الدخول في البناية".(1)
فمدخل واحد إذاً رغماً عن ذلك العدد الهائل من المنافذ المؤدية إلى داخل المبنى يقود إلى فتح باقي المنافذ، ومع هذا يظل عدد كبير منها مغلقاً أمام الداخلين.
ثم فسر النورسي المثل بقوله:
" فالحقائق الإيمانية هي كتلك البناية العظيمة، وكل دليل ثبوتي هو مفتاح يفتح باباً معيناً، فلا يمكن إنكار الحقيقة الإيمانية أو العدول عنها بمجرد بقاء باب واحد مسدود من بين تلك المئات من الأبواب المفتوحة.
ولكن الشيطان يقنع جماعة من الناس – بناء على أسباب كالجهل أو الغفلة – بقوله لهم: لا يمكن الدخول إلى هذه البناية مشيراً إلى أحد تلك الأبواب المسدودة ليسقط في الاعتبار جميع الأدلة الثبوتية.
فيغريهم بقوله: إن هذا القصر لا يمكن الدخول فيه أبداً، فأنت تحسبه قصراً وهو ليس بقصر، وليس فيه شيء".(2)
والمراد أن كل برهان يقيني أو حجة فاصلة من حقائق الإيمان تكشف عن حقيقة من حقائق الإيمان الكبرى، ومن ثم فمن المستحيل نفي أو إنكار أيٍّ من حقائق الإيمان لمجرد شبهات لا أساس لها من الصدق، من بين الكثير من الحجج القوية والشواهد المدحِضة.
غير أن الشيطان يحاول إيهام ضعاف الإيمان وغير العارفين، أنه يصعب فهم حقائق الإيمان صعوبة تشبه دخول ذلك المبنى من أحد أبوابه المغلقة، وذلك كي يبطل كل أدلة وبراهين الإيمان اليقينية، وهدفه سد كل المنافذ أمام المؤمن، كي لا يؤمن أبداً.
ثمرات المعراج
__________
(1) اللمعات- النورسي ص 135
(2) اللمعات- النورسي ص 135(4/106)
للمعراج النبوي كثير من الثمرات والفوائد، من بينها ثمرة واحدة أتى بها الرسول صلى اللّه عليه وسلم، رفعت الإنسان إلى مرتبة عالية ومقام شريف، ومنحته من الفرح والسعادة مالا يوصف، لأنه إذا قيل لجندي عادي:
" لقد أصبحت مشيراً في الجيش، كم يكون امتنانه وحمده وسروره وفرحه ورضاه؟ لا يقدر حتماً، بينما الإنسان المخلوق الضعيف والحيوان الناطق والعاجز الفاني الذليل أمام ضربات الزوال والفراق، لو قيل له،
ستدخل جنة خالدة، وتتنعم برحمة الرحمن الواسعة الباقية، وتتنزه في ملكه وملكوته الذي يسع السماوات والأرض، وتتمتع بجميع رغبات القلب في سرعة الخيال، وفي سعة الروح وجولان العقل وسريانه، وفوق كل هذه ستحظى برؤية جماله سبحانه في السعادة الأبدية.
فكل إنسان لم تنحط إنسانيته يستطيع أن يدرك مدى الفرح والسرور اللذين يغمران ذلك الذي يقال له مثل هذا الكلام".(1)
أما أولئك الذين انحطت منزلتهم فعلاً، وعجزوا عن التدرج في مدارج الكمال الإنساني ولم يتذوقوا ثمرات المعراج النبوي، فمثل لهم النورسي تلك الثمرات بمثلين، قال في الأول:
" هب أننا معك في مملكة واسعة أينما تتوجه فيها بالنظر فلا ترى إلا العداء، فكل شيء عدو لنا، وكل شيء يضمر عداوة للآخر، وكل ما فيها غريب عنا لا تعرفه، وكل زاوية منها ملآى بجنائز تثير الرعب والدهشة، وتتعالى أصوات نياح واستغاثات اليتامى والمظلومين، فبينما نحن في مثل هذه المآسي والآلام، إذا بأحد يذهب إلى سلطان المملكة ويأتي منه ببشرى سارة للجميع.
__________
(1) الكلمات- النورسي ص 699،698(4/107)
فإذا بدلت تلك البشرى ما كان غريباً عنا أحباباً أودّاء، وإذا ما غيرت شكل ما كنا نراه عدواً إلى صورة أخوان أحباء، وإذا ما أظهرت لنا الجنائز الميتة المخيفة على صورة عباد خاشعين قانتين ذاكرين اللّه مسبحين بحمده. وإذا ما حولت تلك الصياحات والنواحات إلى ما يشبه الحمد والثناء والشكر، وإذا ما بدلت تلك الأموات والغضب والنهب إلى ترخيص وتسريح من أعباء الوظيفة، وإذا كنا نشارك الآخرين في سرورهم فضلاً عن سرورنا، عند ذلك يمكنك أن تقدر مدى السرور الذي يعمنا بتلك البشرى العظيمة".(1)
فمما لا شك فيه أن من يعيش حياة خالية ومجردة من الفرح والسرور وتعمها الأحزان والآلام من جميع مناحيها، يسعى جاهداً للخلاص من هذا الجو الكالح والدنيا الكئيبة، ولكن إذا جاء من يبلغه خبراً بقرب زوال وتبدل تلك الأحزان والآلام. وفعلاً تحول كل من فيها وما فيها إلى نقيض ما كان عليه، عندئذ يظهر الفرح والسرور الذي عم الجميع نتيجة لتلك البشارة السارة.
والإيمان الذي جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم للجن والإنس هو بشارة غيّرت الجوانب المظلمة والمحزنة للحياة، إلى نور وفرح وسرور. يقول النورسي لكل من لا يصدق بالمعراج وثمراته:
" وهكذا فإحدى ثمرات المعراج هي نور الإيمان، فلو خلت الدنيا من هذه الثمرة، أي إذا ما نظر إلى الكائنات بنظر الضلالة، فلا ترى الموجودات إلا غريبة متوحشة مزعجة مضرة، والأجسام الضخمة كالجبال جنائز تثير الدهشة والخوف، والأجل جلاد يضرب أعناق الموجودات ويرميها إلى بئر العدم، وجميع الأصوات والأصداء ما هي إلا صراخ ونعى ناشئان من الفراق والزوال.
__________
(1) الكلمات- النورسي ص 699(4/108)
فبينما تصور لك الضلالة الموجودات هكذا، إذا بثمرة المعراج التي هي حقائق الإيمان تنور الموجودات كلها وتبينها أنها أحياء متآخية، في تسبيح وذكر لربها الجليل، والموت تسريح من الوظيفة، وراحة منها، وتلك الأصوات تسبيحات وتحميدات".(1)
وجاء في المثل الثاني:
" هب أننا معك في صحراء كبرى، تحيط بنا عواصف رملية من كل جانب، وظلمة الليل تحجب عنا كل شيء حتى لا نكاد نرى أيدينا، والجوع يفتك بنا، والعطش يلهب أفئدتنا، ولا معين لنا ولا ملجأ. تصور هذه الحالة التي نضطرب فيها، وإذا بشخص كريم يمزق حجاب الظلام ثم يأتي إلينا، وفي معيته مركبة خارقة فارهة هدية لنا، فيقلنا بها إلى مكان أشبه بالجنة، كل شيء فيه على ما يرام، كل شيء مهيأٌ ومضمون لنا، يتولانا من هو في منتهى الرحمة والشفقة والرأفة، وقد أعد لنا كل ما نحتاجه من وسائل الأكل والشرب.
أظنك تقدر الآن كم نكون شاكرين لفضل ذلك الشخص الكريم الذي أخذنا من موضع اليأس والقنوط إلى مكان كله أمل وسرور".(2)
وفسر النورسي جزء من المثل بقوله:
" فتلك الصحراء الكبرى هي هذه الدنيا، وتلك العواصف الرملية هي حركات الذرات وسيول الزمان التي تضطرب بها الموجودات، وهذا الإنسان المسكين كل إنسان قلق ومضطرب يتوجس خيفة مما يخفيه له مقبل أيامه المظلمة المخيفة، هكذا تريه الضلالة، فلا يعرف بمن يستغيث، وهو يتضور جوعاً وعطشاً".(3)
أما من يأتي في عربة تفتن الأنظار بحسنها وجمالها، ممزقاً حجب الظلام، فهو محمد صلى اللّه عليه وسلم، فيحمل فيها كل من دفع به الضلال إلى هاوية اليأس والقنوط، وانقطع أمله ورجائه في الخلاص، فيحملهم جميعاً إلى جنة أعدت وجهزت بكل الطيبات.
وبما أن الجنة هي ثمرة لما يحبه اللّه ويرضى عنه، كذلك المعراج. فيقول النورسي في خاتمة شرحه للمثل:
__________
(1) الكلمات- النورسي ص 700،699
(2) الكلمات- النورسي ص 700
(3) الكلمات- النورسي ص 700(4/109)
" وهكذا فمعرفة مرضيات اللّه سبحانه، وهي ثمرة من ثمرات المعراج، تجعل هذه الدنيا مضيفاً لمضيّف جواد كريم، وتجعل الأناسي ضيوفه المكرمين، ومأموريه في الوقت نفسه، وضمن له مستقبلاً زاهياً كالجنة، وممتعاً ولذيذاً كالرحمة، وساطعاً باهراً كالسعادة الأبدية".(1)
عدم الإيمان
يشعر الكافر بعدم إيمانه بآلام الفراق وأوجاع الزوال والوحدة والغربة تحدق به من كل ناحية، وتحيل حياته إلى ظلمة حالكة لا يكاد يرى لها سبباً. ومثل النورسي لهذه الحالة قائلاً:
" كما أن لكل ثمرة من ثمار شجرة علاقة مع كل الثمرات التي على تلك الشجرة، وتكون نوعاً من رابطة الأخوة والصداقة والعلاقات المتينة فيما بينها، فلها إذن وجودات عرضية بعدد تلك الثمرات.
ولكن متى ما قطفت تلك الثمرة من الشجرة فإن فراقاً وزوالاً يحصلان تجاه كل ثمرة من الثمرات، وتصبح الثمرات بالنسبة للمقطوفة في حكم المعدوم، فيعمها الظلام، ظلام عدم خارجي".(2)
فالثمرة الواحدة على الشجرة، وان استقلت بنفسها عن باقي الثمار، إلا أن وجودها على شجرة واحدة تمدها بأسباب الحياة. يجعلها على رابطة قوية وصلة وثيقة بباقي أخواتها، مما يضفي على وجودها نوعاً من الإلفة والانسجام والصداقة، وذلك بحكم وحدة المنشأ والأصل والغاية، ولكنها إذا انفصلت عن الشجرة، وانقطع ما بينها وبين أخواتها، فإن ظلاماً قاتماً ومن نوع غريب يغطي ما بينها وبينهن، ومن داخل تلك الظلمة ينبثق العدم كنتاج طبيعي لآلام الفراق والبعد والغربة.
وهكذا الحال في عدم الإيمان وذلك وكما يقول النورسي:
__________
(1) الكلمات- النورسي ص 700
(2) المكتوبات- النورسي ص 374(4/110)
" فإن كل شيء له الأشياء كلها، من نقطة الانتساب إلى قدرة الأحد الصمد، وإن لم يكن هناك انتساب فإن أنواعاً من العدم الخارجي بعدد الأشياء كلها تصيب كل شيء، فانظر من خلال هذا الرمز إلى عظمة أنوار الإيمان، وشاهد الظلمة المخيفة المحيطة بالوجود في الضلال".(1)
فالإيمان إذن يمثل حجر الأساس في بناء العلاقات بين الأشياء جميعها، وفي إطار تلك العلاقات تغدو الأشياء كالشيء الواحد في الوحدة والاتحاد، وبعدم الإيمان تنقطع الروابط ويحل بالضرورة العدم كحكم لازم للفوضى الشاملة وللظلام المحيط بالأشياء.
ثم عقب النورسي على ما مضى وكالدال على الاتجاه الصحيح بقوله:
" فالإيمان إذن هو عنوان الحقيقة السامية التي بُينت في هذا الرمز، ولا يمكن الاستفادة من تلك الحقيقة إلا بالإيمان، إذ كما أن كل شيء معدوم للأعمى والأصم والأبكم والمجنون، كذلك كل شيء معدوم ومظلم بانعدام الإيمان".(2)
فلا معنى للحياة وللإنسان بدون إيمان، والحياة وإن استأهلت صفة الوجود، إلا أنها تستحق الحكم عليها بالعدم، أي اللاوجود، وهو عدم يشبه عدم الأشياء لمن عطلت حواسه الإدراكية، إذ هي غير موجودة بالنسبة إليه من جهة، ولن ينتفع بها من جهة ثانية.
الإيمان والكفر
خلص النورسي بعد مقارنة وافية بين حقيقة كل من الإيمان والكفر إلى الآتي:
إن الإنسان يسمو بنور الإيمان إلى أعلى عليين، فيكتسب بذلك قيمة تجعله لائقا بالجنة. بينما يتردى بظلمة الكفر إلى أسفل سافين فيكون في وضع يؤهله لنار جهنم.
كما أن الإيمان يربط الإنسان بخالقه، ويربطه بوثاق شديد وبنسبة إليه، فالإيمان إنما هو انتساب به يكتسب الإنسان قيمة سامية، أما الكفر فيقطع تلك النسبة وذلك الانتساب، فتنقص قيمة الإنسان حيث تنحصر في مادته فحسب.
__________
(1) المكتوبات- النورسي ص 374
(2) المكتوبات- النورسي ص 375(4/111)
وعلى الرغم من أن الفارق الوحيد بين الإيمان والكفر مردّه إلى تلك الحركة الاختيارية المسماة بالانتساب إلى اللّه بصفة أخص من صفة المخلوق، وهي صفة، إلا أنه يكمن وراءه أمر غير مفهوم، مهد النورسي في الكشف عنه بالمثال التوضيحي التالي:
" إن قيمة المادة تختلف عن قيمة الصنعة ومدى الإجادة فيما يصنعه الإنسان، فنرى أحياناً القيمتين متساويتين، وقد تكون المادة أكثر قيمة من الصنعة، وقد يحدث أن تحتوى مادة حديد على قيمة فنية جمالية عالية جداً، ويحدث أن تحوز صنعة نادرة نفيسة جداً قيمة ملايين الليرات، رغم كونها من مادة بسيطة جداً.
فإذا عرضت مثل هذه التحفة النادرة في سوق الصناعيين والحرفيين المجيدين، وعرفوا صانعها الباهر الماهر الشهير، فإنها تحوز سعر مليون ليرة. أما إذا أخذت التحفة نفسها إلى سوق الحدادين مثلاً، فقد لا يتقدم لشرائها أحد، وربما لا ينفق أحد في شرائها شيئاً".(1)
والمعنى أن ثمن الأشياء وقيمتها بتقدير المقومين لها بالدرهم والدينار يتفاوت تفاوتاً عجيباً، لا في ميزان العرض والطلب، وإنما في مدى ما بذل فيها من جهد، وما تحمله من معانٍ غاية في الروعة والجمال، إلى غيرها مما يزيد أو ينقص في قيمتها، ومع هذا وذاك تظل قيمتها الفعلية متوقفة ومرهونة بتقويم المقدرين لقيمتها من ذوي الخبرة والاختصاص.
وهكذا الحال مع الإنسان وهو الصنعة الربانية للخالق والصانع عز وجل، فإن قيمته الحقيقية تقدر وتقوم بما فيه من إيمان، فيقول النورسي:
__________
(1) الكلمات- النورسي ص 349،348(4/112)
" فإذا استقر نور الإيمان في هذا الإنسان لبين ذلك النور جميع ما على الإنسان من نقوش حكيمة، بل يستقرئها للآخرين، فيقرأها المؤمن بتفكر، ويشعر بها في نفسه شعوراً كاملاً، ويجعل الآخرين يطالعونها ويتملّونها، أي كأنه يقول: ها أناذا مصنوع الصانع الجليل ومخلوقه، انظروا كيف تتجلى فيّ رحمته وكرمه، وبما يشابهها من المعاني الواسعة بتجلي الصنعة الربانية في الإنسان".(1)
فقيمة الإنسان المعنوية إذن لا تقدر أو تقوّم إلا بالإيمان، لأن بنور الإيمان تظهر فعلاً دقة الصانع ومهارته في التشكيل وتتراءى من خلاله بارزة للعيان، ودالة عليه، وذلك لأن الإيمان وكما يقول النورسي:
" الذي هو عبارة عن الانتساب إلى الصانع سبحانه، يقدم بإظهار جميع آثار الصنعة الكامنة في الإنسان، فتتعين بذلك قيمة الإنسان على مدى بروز تلك الصنعة الربانية، ولمعان المرآة الصمدانية، فيتحول هذا الإنسان – الذي لا أهمية له – إلى مرتبة أسمى المخلوقات قاطبة، حيث يصبح أهلاً للخطاب الإلهي، وينال شرفاً يؤهله للضيافة الربانية في الجنة".(2)
ومقصود النورسي بذلك أن حركة الانتساب الاختيارية تنقل الإنسان إلى منزلة جديدة، وتترقى به إلى مقام رفيع لم يكن له بحكم كونه مخلوقاً، فيقفز دفعة واحدة من عمومية الخلق إلى خصوصية الصلة، حيث تتجلى فيه أسماء اللّه وصفاته، وبها تتحقق صفة العبودية، وهي أخص من صفة الخلافة والنيابة عن اللّه.
وعلى النقيض من الإيمان ونوره، الكفر، الذي يقول عنه النورسي:
__________
(1) الكلمات- النورسي ص 349
(2) الكلمات- النورسي ص 349(4/113)
" أما إذا تسلل الكفر – الذي هو عبارة عن قطع الانتساب إلى اللّه – في الإنسان، فعندئذ تسقط جميع معاني نقوش الأسماء الحسنى الإلهية الحكيمة في الظلام وتمحى نهائياً، ويتعذر مطالعتها وقراءتها، أما ما تبقى منها مما يتراءى للعين فسوف يعزى إلى الأسباب التافهة وإلى الطبيعة والمصادفة، فتسقط نهائياً وتزول، حيث تتحول كل جوهرة من تلك الجواهر المتلألئة إلى زجاجة سوداء مظلمة وتقتصر أهميتها على المادة الحيوانية وحدها. وغاية المادة وثمرتها هي قضاء حياة قصيرة جزئية يعيشها صاحبها وهو أعجز المخلوقات وأحوجها وأشقاها، ومن ثم يتفسخ في النهاية ويزول، وهكذا يهدم الكفر الماهية الإنسانية ويحيلها من جوهرة نفيسة إلى فحمة خسيسة".(1)
ولا يفهم للكفر معنى عند النورسي أكثر من أن الإنسان اختار بمحض إرادته الحرة ألاّ يقيم صلة أو علاقة باللّه تمتاز بصفة الخصوصية، وباختياره هذا لا ينفصم ما بينه وبين اللّه من علاقة أو صلة، بل يتجرد تماماً من كل قيمة يمكن أن يكتسبها بالإيمان، وربما انحدر إلى منزلة دون منزلة الحيوان بكثير.
الكافر
يصل الكافر بجحوده للّه تعالى وإنكاره لأسمائه وصفاته إلى درجة ينعدم فيها الشعور بنفسه، عندها يداهمه خوف شديد وحرص مقيت على مقومات وجوده، أما موته فهو عدم وفراق أبدي لا لقاء بعده بمحبوباته وهو مع هذا كله يعيش حياة تبدو في ظاهرها كما لو كانت هي الحياة الكاملة بكل أفراحها وملذاتها ومباهجها، ولكن في باطنها أكذوبة كبرى تظهره في مظهر المخدوع الغافل، والمثل المطابق لحالته هو وكما يرى النورسي المثل المشهور القائل:
__________
(1) الكلمات- النورسي ص 350،349(4/114)
" يحكى أنه قيل للنعامة (إبل الطير) لماذا لا تطيرين، فإنك تملكين الجناح، فقبضت وطوت جناحيها قائلة: أنا لست بطائر بل إبل، فأدخلت رأسها في الرمل تاركة جسدها الضخم للصياد، فاستهدفها. ثم قالوا لها: فاحملي لنا إذن هذا الحمل إن كنت إبلاً كما تدعين، فعندها صفت جناحيها ونشرتهما قائلة: أنا طائر، لتفلت من تعب الحمل، فظلت وحيدة دون غذاء ولا حماية من أحد، وهدفاً للصيادين".(1)
فالنعامة في إنكار كونها طائراً لئلا تعامَل معاملة الطيور، وفي عدم اعترافها بكونها حيواناً حتى لا تجبر على حمل ما تحمله الحيوانات، إنما تغش نفسها غشاً مكشوفاً لا ينطلي على أحد، ولا يبعد عنها الصيادين، ولا يجنبها أذاهم، والكافر حاله حال النعامة، فهو كما يقول عنه النورسي:
" حينما يرى الموت والزوال عدماً، يحاول أن ينقذ نفسه من تلك الآلام بالتمسك والتشبث بما أخبر به القرآن الكريم والكتب السماوية جميعها إِخباراً قاطعاً عن الإيمان بالآخرة، والذي ولد عنده احتمالاً للحياة بعد الموت.
وإذا قيل له: فما دام المصير إلى عالم البقاء، فلمَ إذن لا تؤدي الواجبات التي يفرضها عليك هذا الإيمان كي تسعد في ذلك العالم.
يجيب من زاوية كفره المشكوك، ربما ليس هناك عالم آخر، فلمَ إذن أرهق نفسي؟ بمعنى أنه ينقذ نفسه من آلام الإعدام الأبدي من الموت بما وعد القرآن بالحياة الباقية، فعندما تواجهه مشقة التكاليف الدينية يتراجع وبتشبث باحتمالات كفره المشكوك، ويتخلص من تلك التكاليف.
أي أن الكافر - من هذه الزاوية- يظن أنه يتمتع أكثر من المؤمن في حياته الدنيا، لأنه يفلت من عناء التكاليف الدينية باحتمالات كفره، وفي الوقت نفسه لا يدخل تحت قساوة الآلام الأبدية باحتماله الإيماني.
ولكن هذا في واقع الحال مغالطة شيطانية مؤقتة تافهة بلا فائدة".(2)
__________
(1) اللمعات- النورسي ص 122،121
(2) اللمعات- النورسي ص 122(4/115)
والمستفاد مما مضى ذكره أن الكافر كالنعامة، فهو عندما يجابه بحقيقة الموت المرة، والفراق الأبدي، لا يجد مفراً من التسليم بما جاء به الوحي عن اليوم الآخر والحياة الأخرى، وعندما يجابه باعترافه وتصديقه الضمني، ويطلب انطلاقاً منه بالإيمان، يجنح مخادعاً نفسه بالتقليل من فكرة حياة أخرى، والتهوين من شأنها.
وهكذا يظل متأرجحاً بين محاولته الدؤوب لإنقاذ نفسه من العدم، وبين عدم إيمانه الذي يدفعه للنأي بنفسه عن التكاليف الإلهية الصعبة، فلا هو بتصديقه الإيماني نجا من قوة وقع الموت وقسوة الفراق، ولا هو استراح من صعوبة الالتزام بالتكليف الإلهي وحمل نفسه على مشقاته، وذلك بلا شك قصور في الفهم، وعدم تمييز بين الأشياء.
الفصل الخامس
العبادة
العبادة والسجود
تعبر مخلوقات اللّه تعالى على مختلف أجناسها وأنواعها عن محبتها له عز وجل، بنوع من التذلل والخضوع يبلغ في حركته الداخلية غايته ومنتهاه، وأُطلق على ذلك التذلل والخضوع في العقيدة الإسلامية اسم العبادة تارة واسم السجود تارة أخرى.
غير أن عبادة المخلوقات وسجودها للّه تعالى يختلف ويتنوع باختلاف وتنوع وظائفها وما خلقت لأجله، ومثل النورسي لذلك التنوع والاختلاف قائلاً:
" إن ملكاً عظيماً وسلطاناً ذا شأن يستخدم أربعة أنواع من العمال في بناء قصر أو مدينة:
النوع الأول: هم عبيده، هذا النوع لا مرتّب لهم ولا أجرة، بل ينالون ذوقاً في منتهى اللطف، ويحصلون على غاية الشوق في كل ما يعملونه ويؤدونه بأمر سيدهم، بل يزدادون متعة وشوقاً من أي كلام في مدح سيدهم ووصفه. فحسبهم الشرف العظيم الذي ينالونه بانتسابهم إلى سيدهم. فضلاً عن تلذذهم لذة معنوية أثناء إشرافهم على العمل باسم ذلك المالك. وفي سبيله ونظره إليهم. فلا داعي إلى مرتب ولا رتبة ولا أجرة.(4/116)
النوع الثاني: هم خدام بسطاء لا يعرفون لماذا يعملون، بل ذلك المالك العظيم هو الذي يستخدمهم ويسوقهم إلى العمل بفكره وعلمه، ويعطيهم أجرة جزئية تناسبهم، وهؤلاء الخدام لا يعرفون نوع الغايات الكلية والمصالح العظيمة التي لا تترتب على عملهم، حتى حدا ببعض الناس أن يتوهم أن عمل هؤلاء لا غاية له إلا أجرة جزئية تخصهم بالذات.
النوع الثالث: هم الحيوانات التي يملكها ذلك المالك العظيم ويستخدمها في أعمال بناء القصر والمدينة، ولا يعطيها إلا علفها، فهذه الحيوانات تتمتع بلذة في أثناء قيامها بعمل يوافق استعداداتها، إذ القابلية والاستعداد إن دخلت طور الفعل بعدما كانت في طور القوة الكامنة، تنبسط وتتنفس. فتورث لذة، وما اللذة الموجودة في الغايات الموجودة في الفعاليات كلها إلا نابعة من هذا السر، فأجرة هذا القسم من الخدام ومرتبهم هو العلف مع لذة معنوية، فهم يكتفون بهما.
النوع الرابع: وهم عمال يعرفون ماذا يعملون، ولماذا يعملون ولمن يعملون، فضلاً عن معرفتهم لم يعمل العمال الآخرون، وما الذي يقصده المالك العظيم، ولم يدفع الجميع إلى العمل، فهذا النوع من العمال لهم رئاسة على العمال الآخرين، والإشراف عليهم، ولهم مرتباتهم حسب درجاتهم ورتبهم".(1)
فالنوع الأول من العبيد هم من لا جزاء لهم على عملهم ولا مكافأة عليه. بل هم يجدون في عملهم من المتعة واللذة ما يغنيهم عن المثوبة، إذ يكفيهم فخراً انتسابهم لسيدهم والائتمار بأمره والعمل على طاعته.
والنوع الثاني هم من ينقادون للعمل كرهاً وإجباراً، وذلك لأنهم لا يدركون قيمة عملهم ولا يعرفون مقاصده وأهدافه، ومن هنا كان لهم من الأجرة والجزاء نصيباً يلائمهم، وبالقدر المساوي لجهدهم المبذول فيه.
__________
(1) الكلمات- النورسي ص 404،403(4/117)
أما النوع الثالث فهم الحيوانات التي تساعد في أعمال البناء مساعدة فيها متعة موافقة لاستعدادها الطبيعي في خدمة سيدها. ومن ثم تنال مكافأة مادية هي العلف، ومعنوية هي التلذذ بطاعة سيدها والانقياد لأوامره.
والنوع الرابع والأخير من العمال، فهم على معرفة وعلم ليس فقط بالواجب الملقى على عواتقهم، بل أيضاً مدركين تماماً لماذا خصوا بهذا العمل دون غيره من الأعمال، ومن هو الذي يعملون له، كما أنهم من جهة أخرى على إلمام واسع بأعمال الآخرين في القصر. ومقصود صاحب القصر وغايته من تلك الأعمال التي يسوق إليها الجميع، ونتيجة طبيعية لعلمهم ومعرفتهم تلك تَبَوءُوا مركز القيادة والإشراف على غيرهم، ولهم من الأجر والمكافأة كل على حسب نوعية عمله، ووفقاً لعلمه ومعرفته.
وعلى المنوال السابق بيّن النورسي عبادة كل مخلوق من مخلوقات اللّه تعالى، فقال:
" إن مالك السماوات والأرضين ذا الجلال، وباني الدنيا والآخرة، ذا الجلال وهو رب العالمين، يستخدم الملائكة والحيوانات والجمادات والنباتات والإنسان في قصر هذا الكون ضمن دائرة الأسباب، ويسوقهم إلى العبادة لا لحاجة، فهو الخالق، بل لإظهار العزة والعظمة وشئون الربوبية وأمثالها من الحكم.
وهكذا فقد كلّف هذه الأنواع بأربعة أنماط من العبادة:
القسم الأول: الذين يمثلون العبيد في المثال هم الملائكة فهم لا مراتب لهم في الرقي المجاهدة، إذ لكل منهم مقام ثابت ورتبة معينة، إلا أن لهم ذوقاً خاصاً في عملهم نفسه، وهم يستقبلون الضيوف الربانية – حسب درجاتهم – في عباداتهم نفسها.
بمعنى أن أجرة خدماتهم مندرجة في عين أعمالهم، إذ كما يتلذذ الإنسان من الماء والهواء والضياء والغذاء، كذلك الملائكة يتلذذون ويتغذون ويتنعمون بأنوار الذكر والتسبيح والحمد والعبادة والمعرفة والمحبة، لأنهم مخلوقون من نور، فيكفيهم النور غذاء، بل حتى الروائح الطيبة من النور، هي الأخرى نوع من غذائهم حيث يسرون بها.(4/118)
القسم الثاني من العمال هم النباتات والجمادات، وهؤلاء العمال لا مرتب لهم ولا مكافأة، لأن لا اختيار لهم، فأعمالهم خالصة لوجه اللّه، وحاصلة بمحض إرادته سبحانه وباسمه وفي سبيله، وبحوله وقوته، إلا أنه يستشعر من أحوال النباتات أن لها نوعاً من التلذذ في أدائها وظائفها في التلقيح والتوليد وإنماء الثمار، إلا أنها لا تتألم قط بخلاف الحيوانات التي لها الآم ممزوجة باللذائذ حيث إن لها اختياراً، ولأجل عدم الاختيار في أعمال النباتات والجمادات تكون أثارهما أتقن وأكمل من أعمال الحيوانات التي لها اختيار.
القسم الثالث من العمال في قصر الكون، هو الحيوانات، وحيث إن الحيوانات لها نفس مشتهية، واختيار جزئي، فلا تكون أعمالها خالصة لوجه اللّه، بل تستخرج النفس حظها وشهوتها من عملها، لذا يمنح مالك الملك ذو الجلال والإكرام أجرة ومرتباً ضمن أعمالها، تطمئن نفوسها وتشبعها.
القسم الرابع هو الإنسان، فالإنسان الذي هو من أنواع الخدم العاملين في هذا القصر، قصر الكون، هذا الإنسان شبيه بالملائكة وشبيه بالحيوان من جهة أخرى، إذ يشبه الملائكة في العبادة الكلية، وشمول الإشراف وإحاطة المعرفة، وكونه داعياً إلى الربوبية الجليلة، بل الإنسان هو أكثر جامعية من الملائكة، لأنه يحمل نفساً شريرة شهوية – بخلاف الملائكة – وأمامه نجدان، له أن يختار، إما رقياً عظيماً، أو تدنياً مريعاً، ووجه شبه الإنسان بالحيوان هو أنه يبحث في أعماله عن حظ لنفسه، وحصة لذاته".(1)
ويفهم مما مضى ذكره أن مخلوقات اللّه تعالى وإن اشتركت جميعها في صفة العبودية، إلا أن عبادتهم من حيث هي إظهار للخضوع وأداء للتكاليف تقسم إلى نوعين:
أولهما: عبادة تسخير أو بالتسخير، وذلك للحيوانات والجمادات وما في حكمها، فهي تساق جميعها لتؤدي أعمالاً، لا أقول كرهاً، بل قهراً وبلا إرادة، وبدون عوض ولا تعويض.
__________
(1) الكلمات- النورسي ص 407،406،404(4/119)
أما من حيث الجزاء والمكافأة، فإن تدخل عنصر الاختيار البسيط لدى الحيوانات في عبادتها والمتمثل في سعادتها وأفراحها وآلامها وأحزانها هو الذي كفل لها قدراً ضئيلاً ونصيباً محدوداً من التوبة، يشيع الرضا في نفوسها، في حين أن النباتات والجمادات لا اختيار لها على الإطلاق في عبادتها، فهي طوع إرادة اللّه وتحت مشيئته، وبالتالي لا جزاء لها ولا أجرة، وهو الذي جعل أعمالها من حيث دقة الصنعة والأحكام متفوقة ومتقدمة كثيراً على أعمال الحيوانات.
وثانيها: عبادة بالاختيار، وهي لذوي الإرادة والعقل والفهم عن اللّه، أو بمعنى أدق ذوي العلم، كالملائكة والإنس وما في حكمهم. فللملائكة عبادة محدودة، ومكلفون بأفعال بعينها، ولكن طبيعة النور الذي خلقوا منه تجعلهم في مقام قريب من اللّه، مما أدى إلى أن يكون داعيهم للفعل أجلّ من أن يكون من أجل الشهوة. واجلّ من أن يكون بمشقة أو غير مشقة، مما جعل جزاءهم ومثوبتهم مساوقة لأعمالهم ومنطوية داخلها وفضلاً من اللّه.
أما الإنسان فهو المخلوق الوحيد الذي يشبه الكثير من مخلوقات اللّه، فهو يشبه الملائكة في سهولة طاعته للّه، ويشبه الحيوانات في أنانيتها وحبها لنفسها، ويختلف عن الملائكة في سعة اختياره، المبرأة تماماً عن القهر والإجبار إلى غيرها من الحقائق التي بوأته مكانة الخليفة والنائب عن اللّه، وتلك مجتمعة جعلت من عبادته كما لو كانت ضرباً من الشكر.
النيّة
سئل النورسي كيف للمؤمن أن يقابل نعم اللّه عليه بشكره عليها، مع أن الشكر هو أمر توجبه النعم إيجاب مقابلة بين النعم من جهة وإظهارها من جهة أخرى. وهو رغماً عن هذا سيظل في الحدود الدنيا من التعظيم والإجلال للمنعم.
فردّ عليه النورسي رداً مباشراً وسريعاً قائلاً:
بالنية
ثم أتبع رده عليه بالمثل التالي:(4/120)
" إن رجلاً يدخل إلى ديوان السلطان بهدية زهيدة متواضعة بقيمة خمسة فلوس، ويشاهد هناك هدايا مرصوصة تقدر أثمانها بالملايين أرسلت إلى السلطان من ذوات مرموقين، فعندها يناجي نفسه: ماذا أعمل. إن هديتي زهيدة، لا شيء، إلا أنه يستدرك ويقول:
يا سيدي، إنني أقدم لك جميع هذه الهدايا باسمي، فإنك أهل لها، ويا سيدي العظيم لو كان باستطاعتي أن أقدم لك أمثال أمثال هذه الهدايا الثمينة لما ترددت.
وهكذا فالسلطان الذي لا حاجة له إلى أحد والذي يقبل هدايا رعاياه رمزاً يشير إلى مدى إخلاصهم وتعظيمهم له، يقبل تلك الهدية المتواضعة جداً من ذلك الرجل المسكين، كأعظم هدية، وذلك بسبب تلك النية الخالصة منه، والرغبة الصادقة، واليقين الجازم السامي".(1)
ولا شك أن الرجل العامي البسيط حين يقارن بين هديته التي لا تكاد في قيمتها في المادية تساوي شيئاً، وبين الهدايا الكثيرة التي لا تقدر بثمن، ومن أناس لهم حظوة ومكانة رفيعة عند السلطان، يحتقر هديته ويزدريها، ولكنه سرعان ما عوض شعوره بالنقص، فسعى إلى نوال رضا السلطان بأن بادر نيابة عن الآخرين وباسمه هو شخصياً بتقديم كل ما أهدي إليه. وبهذه النية المجردة من كل شيء إلا رضا السلطان، تقبلها منه راضياً عنه.
وهكذا وكما يرى النورسي، فإن العبد الذي يقول عند التشهد (التحيات للّه) ينوي بها قوله:
" إنني أرفع إليك يا إلهي باسمي هدايا العبودية لجميع المخلوقات – التي هي حياتها – فلو كنت أستطيع أن أقدم التحيات إليك يا ربي بعددهم لما أحجمت ولا ترددت، فإنك أهل لذاك، بل أكثر".(2)
فسلام العبد لربه، وإن كان سلاماً فردياً، إلا أنه يوجهه باسمه ونيابة عن جميع العباد والمخلوقات للّه تعالى، ولو كان يملك من الأهلية والاستعداد ما يقدمه عن كل واحد منهم، فرداً فرداً لما امتنع ولا قصر.
ثم علق النورسي على مقولة ذلك العبد بقوله:
__________
(1) الكلمات- النورسي ص 415
(2) الكلمات- النورسي ص 415(4/121)
" فهذه النية الصادقة، هي الشكر الكلي الواسع".(1)
فإذا كانت نية العبد هي على الدوام قصداً وتوجهاً للّه، وانبعاثاً قلبياً لكل ما يحبه ويرضاه، فهي في كل الحالات عبادة لا تختلف عن سائر العبادات الحركية والفعلية في شيء. والعبادة كما عرفنا هي ضرب من ضروب الشكر. فهو على هذا حركة تعبدية خالصة زائدة عن رضا العبد، وتأتي مساوقة لقواعد الإيمان، وفيها التعبير المباشر عن حب العبد وتعظيمه لربه.
واللّه تعالى وكما يرى النورسي ينزل النية منزلة الحدث، ويعاملها معاملة الحدث في الرضا والقبول، فيقول عنها.
" وحيث إن اللّه تعالى يعلم ما يحدث وكيف يحدث، فإنه يقبل النية الصادقة كأنها عبادة فعلية، أي كأنها حدثت، ومن هنا نعلم كيف أن نية المؤمن خير من عمله".(2)
الدعاء
استفاض النورسي في حديث له عن الدعاء، فتوقع أن يسأله مستمعيه:
إننا كثيراً ما ندعو اللّه فلا يستجاب لنا، رغم أن كثيراً من الآيات تصرح بأن كل دعاء مستجاب.
وكان ردّه المنتظر عليهم هو:
" إن استجابة الدعاء شيء وقبوله شيء آخر، فكل دعاء مستجاب إلاّ أن قبوله وتنفيذ المطلوب نفسه منوط بحكمة اللّه سبحانه".(3)
ثم مثل لمقولته السابقة قائلاً:
" يستصرخ طفل عليل الطبيب قائلاً:
أيها الطبيب انظر واكشف عنى.
فيقول الطبيب:
أمرك يا صغير.
فيقول الطفل:
أعطني هذا الدواء.
فالطبيب حينذاك إما أن يعطيه الدواء نفسه، أو يعطيه دواء أكثر نفعاً وأفضل منه، أو يمنع عنه العلاج نهائياً، وذلك حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة".(4)
إن الطفل وكما هو واضح يطلب الدواء الذي يظن أو يعتقد أو يرى أن فيه شفاءه، دون مراعاة لاعتبارات كثيرة لم يضعها في حسابه، ولكن تقدير الطبيب ومنحه الدواء مبني على ما فيه علاجه وصلاح بدنه.
وكذلك الحال في دعاء العبد لربه، فهو كما يقول النورسي:
__________
(1) الكلمات- النورسي ص 415
(2) الكلمات- النورسي ص 415
(3) الكلمات- النورسي ص 356
(4) الكلمات- النورسي ص 356(4/122)
" إما أنه يقبل مطلب العبد ويستجيب له مباشرة بعد الدعاء نفسه، أو يمنحه أفضل منه، أو يرده، وذلك حسب اقتضاء الحكمة الربانية، لا حسب أهواء العبد المتحكمة وأمانيه الفاسدة".(1)
ومقصوده أن دعاء العبد مقبول عند اللّه في كل الحالات، ولكن الاستجابة له وقضاء حوائجه فمن مقتضيات الحكمة الإلهية، وموجبات المشيئة المطلقة المسيرة لشؤون العباد، وفقاً لتقدير خاص محجوب في مقاصده القريبة والبعيدة عن مداركهم، ومستور عن إفهامهم.
الصلاة
إن أهمية الصلاة من الأمور التي لا تخفى على أحد، وقيمتها الكبيرة والعظيمة لا يجادل فيها أحد، إلا أن النورسي أراد ومن خلال مثال بسيط الوصول بتلك المعرفة إلى حد اليقين، فقال:
" يرسل حاكم عظيم - ذات يوم – اثنين من خدمه إلى مزرعته الجميلة، بعد أن يمنح كل منهما أربعاً وعشرين ليرة ذهبية، ليتمكنا بها من الوصول إلى المزرعة التي هي على بعد شهرين، ويأمرهما:
انفقا من هذا المبلغ لمصاريف التذاكر ومتطلبات السفر، واقتنيا ما يلزمكما هناك من لوازم السكن والإقامة، هناك محطة للمسافرين، على بعد يوم واحد، توجد فيها جميع أنواع وسائط النقل من سيارة وطائرة وسفينة وقطار، ولكل ثمنه.
يخرج الخادمان بعد تسلمهما الأوامر، كان أحدهما سعيداً محظوظاً، إذ صرف شيئاً يسيراً مما لديه لحين وصوله المحطة، صرفه في تجارة رابحة يرضى بها سيده، فارتفع رأسماله من الواحد إلى الألف، أما الخادم الآخر فلسوء حظه وسفاهته صرف ثلاثاً وعشرين مما عنده من الليرات الذهبية في اللّهو والقمار، فأضاعها كلها إلا ليرة واحدة منها لحين بلوغه المحطة.
خاطبه صاحبه.
__________
(1) الكلمات- النورسي ص 356(4/123)
يا هذا، اشتر بهذه الليرة الباقية لديك تذكرة سفر، فلا تضيعها كذلك، فسيدنا كريم رحيم، لعله يشملك برحمته، وينالك عفوه عما بدر منك من تقصير، فيسمحوا لك بركوب الطائرة، ونبلغ معاً محل إقامتنا في يوم واحد، فإن لم تفعل ما أقوله لك فستضطر إلى مواصلة السير شهرين كاملين في هذه المفازة مشياً على الأقدام، والجوع يفتك بك، والغربة تخيم عليك وأنت وحيد شارد في هذه السفرة الطويلة".(1)
إن محور الحكاية يدور حول حاكم ائْتَمَنَ اثنين من خدمه على أداء مهمة محددة، ومنح كلاً منهما عدداً محسوباً من النقود، لتعينه وتساعده على إنجاز ما أُؤتُمِنَ عليه، وتعفيه من ذل التسول، وتغنيه عن السؤال.
وكان أحد هذين الخادمين عاقلاً ومتزن النفس، فانفق القدر اليسير من النقود قبل وصوله إلى نقطة الانطلاق، واستثمر الباقي في أعمال عادت عليه بأضعاف أضعاف المبلغ المعهود به إليه، أما الخادم الآخر فكان ناقص العقل خفيف النفس، فأنفق ما معه فيما لا ينبغي من وجوه التبذير، وبقيت له قطعة نقدية واحدة لدى وصوله إلى محطة الانطلاق.
ولما علم رفيقه بسوء فعلته نصحه بشراء تذكرة سفر، لعل من بيده الأمر يشفق عليه ويتيح له الفرصة لبلوغ مقصده، كما حذره في الوقت نفسه من أنه في حالة تعذر حصوله على التذكرة، فإن عليه مواجهة الكثير من الصعوبات في طريق طويل وهو وحيد لا رفيق له، والأخطار تحدق به من كل ناحية.
عندئذ تساءل النورسي:
" ترى لو عاند هذا الشخص، فصرف حتى تلك الليرة الباقية في سبيل شهوة عابرة، وقضاء لذة زائلة، بدلاً من اقتناء تذكرة سفر هي بمثابة مفتاح كنز له، ألا يعني ذلك أنه شقي خاسر، وأبله بليد حقاً، ألا يدرك هذا أغبى إنسان".(2)
__________
(1) الكلمات- النورسي ص 16،15
(2) الكلمات- النورسي ص 16(4/124)
يعني أن من يرمى بطوق النجاة الوحيد الممتد إليه هو بلا أدنى شك تعس وهالك لا محالة، وأحمق ضعيف العقل، ومحروم من الذكاء، والفهم، وحقيقة مَنْ هذا حاله تتمثل ظاهرة للعيان حتى عند أقل الناس فطنة وأبعدهم عن العلم والمعرفة.
ثم أوضح النورسي عناصر المثل بقوله:
" إن ذلك الحاكم هو ربنا وخالقنا جل وعلا، أما ذلكما الخادمان المسافران، فأحدهما هو المتدين الذي يقيم الصلاة بشوق ويؤديها حق الأداء، والآخر هو الغافل عن التارك الصلاة، وأما تلك الليرات الذهبية (الأربعة والعشرون) فهي الأربع والعشرون ساعة من كل يوم من أيام العمر، وأما ذلك البستان (المزرعة) فهو الجنة، وأما تلك المحطة فهي القبر.
وأما تلك السياحة والسفر الطويل في رحلة البشر نحو القبر والماضية إلى الحشر والمنطلقة إلى دار الخلود، فالسالكون لهذا الطريق الطويل يقطعونه على درجات متفاوتة، كل حسب عمله ومدى تقواه. فقسم من المتقين يقطعون في يوم واحد مسافة ألف سنة كأنهم البرق، وقسم منهم يقطعون في يوم واحد مسافة خمسين ألف سنة كأنهم الخيال، وقد أشار القرآن العظيم إلى هذه الحقيقة في آيتين كريمتين.
وأما التذكرة فهي الصلاة التي لا تستغرق خمس صلوات مع وضوئها أكثر من ساعة".(1)
مقصود النورسي من المثل بعناصره المختلفة يدور حول الصلاة، ويسعى للإعلان عن قيمتها وأهميتها بوصفها أجل العبادات وأيسرها أداء، وأقلها كلفة في الوقت والجهد، ومن لا يصلى لا يعد في نظره متجاوزاً لحد الشرع، ولا ينزل منزلة العاصي الفاسق فقط، بل هو في الواقع فاسد العقل، ضعيف الرأي ويحشر في زمرة من لا فطنة له ولا ذكاء.
ولأجل هذا ختم النورسي تفسيره مذكراً بأنه لا فرق بين مَنْ لا يصلى، وبين من هو مجرد عن الفهم والبصيرة، قائلاً:
__________
(1) الكلمات- النورسي ص 17،16(4/125)
" لئن كان دفع نصف ما يملكه المرء ثمناً لقمار اليانصيب - الذي يشترك فيه أكثر من ألف شخص - يعد أمراً معقولاً، مع أن احتمال الفوز واحد من ألف، فكيف بالذي يحجم عن بذل واحد من أربعة وعشرين مما يملكه في سبيل ربح مضمون، ولأجل نيل خزينة أبدية، باحتمال تسع وتسعين من مائة، ألا يعد هذا العمل خلافاً للعقل ومجانباً للحكمة، ألا يدرك ذلك كله من يعد نفسه عاقلاً".(1)
وفي مثل آخر مطابق للمثل السابق، ومشابه له، ولا يختلف عنه في شيء، سعى النورسي لتصوير أهمية الصلاة وفضلها، ليس فقط كعبادة على رأس العبادات، بل كالثوب المفصل على مقياس العبد، وكوظيفة موافقة له، وملائمة لطبيعته، ومنسجمة مع فطرته وما جبل عليه، فروى قائلاً:
" كان في الحرب العالمية، وفي أحد الأفواج، جنديان اثنان:
أحدهما مدرب على مهمته مجد في واجبه، والآخر جاهل بوظيفته متبع هواه، كان المتقن واجبه يهتم الاهتمام كله بأوامر التدريب وشؤون الجهاد، ولم يكن ليفكر قط بلوازم معاشه وأرزاقه، حيث إنه أدرك يقيناً أن إعاشته ورعاية شؤونه وتزويده بالعتاد، بل حتى مداواته إذا تمرض بل حتى اللقمة – إذا احتاج الأمر – في فمه إنما هو واجب الدولة، وأما واجبه الأساس فهو التدريب على أمور الجهاد ليس إلا، مع علمه أن هذا لا يمنع من أن يقوم بشؤون التجهيز وبعض أعمال الإعاشة كالطهي وغسل المواعين، وحتى في هذه الأثناء لو سئل ماذا تفعل؟ لقال إنما أقوم ببعض واجبات الدولة تطوعاً، ولا يجيب: إنني أسعى لأجل كسب لوازم العيش.
أما الجندي الآخر الجاهل بواجباته فلم يكن يبالي بالتدريب ولا يهتم بالحرب، فكان يقول: ذلك من واجب الدولة، ومالي أنا؟ فيشغل نفسه بأمور معيشته ويلهث وراء الاستزادة منها حتى كان يدع الفوج ليزاول البيع والشراء في الأسواق.
فقال له صديقه المجد ذات يوم:
__________
(1) الكلمات- النورسي ص 17(4/126)
يا أخي إن مهمتك الأصلية هي التدرب والاستعداد للحرب، وقد جيء بك إلى هنا من أجل ذلك، فاعتمد على السلطان واطمئن إليه في أمر معاشك. فلن يدعك جائعاً. فذلك واجبه ووظيفته، ثم إنك عاجز وفقير لن تستطيع أن تدبر أمور معيشتك بنفسك، وفوق هذا فنحن في زمن جهاد وفي ساحة حرب عالمية كبرى، أخشى أنهم يعدونك عاصياً لأوامرهم فينزلون بك عقوبة صارمة".(1)
وما رواه النورسي يعد من بديهيات العمل في الجيوش، فكل جندي قد حدد له وبدقة مهامه ودوره سواء في أوقات السلم أو في الحرب، وأُمر وعلى نحو قاطع ألا يشغل نفسه بأي عمل آخر ولو كان جزئياً يخل بوظيفته، أما احتياجاته وضروريات حياته، وكل ما يساعده على إنجاز المهام الموكلة إليه والمطلوبة منه فقد وفرتها له الدولة التي يحمل اسمها ويقاتل في سبيلها.
فهناك إذن وظيفتان في المثل بينهما النورسي في قوله:
" نعم إن وظيفتين اثنتين تبدوان أمامنا.
إحداهما: وظيفة السلطان، وهي قيامه بإعاشتنا، ونحن قد نستخدم مجاناً في إنجاز تلك الوظيفة.
وأخراهما: هي وظيفتنا نحن، وهي التدريب والاستعداد للحرب، والسلطان يقدم لنا مساعدات وتسهيلات لازمة".(2)
أما عند تفسيره للمثل فقد ركز النورسي على الرزق بوصفه الشاغل الأكبر عن الصلاة، والصارف للعبد عنها، جاء فيه.
" إن تلك الساحة التي تمور موراً بالحرب هي هذه الحياة الدنيا المائجة، وأما ذلك الجيش المقسم إلى الأفواج فهو الأجيال البشرية، وأما ذلك الفوج نفسه، فهو المجتمع المسلم، وأما الجنديان الاثنان، فأحدهما هو العارف باللّه والعامل بالفرائض والمجتنب للكبائر، وهو ذلك المسلم السعيد الذي يجاهد نفسه والشيطان خشية الوقوع في الخطايا والذنوب.
أما الآخر فهو الفاسق الخاسر الذي يلهث وراء هموم العيش لحد اتهام الرازق الحقيقي، ولا يبالي في سبيل الحصول على لقمة أن تفوته الفرائض وتتعرض له المعاصي.
__________
(1) الكلمات- النورسي ص 19،18
(2) الكلمات- النورسي ص 19(4/127)
وأما تلك الحرب فهي مجاهدة الإنسان نفسه وهواه واجتنابه الخطايا ودنايا الأخلاق ومقاومته شياطين الإنس والجن، وإنقاذاً لقلبه وروحه معاً من الهلاك والخسران المبين.
وأما تلك الوظيفتان الاثنتان، فإحداهما منح الحياة ورعايتها، والأخرى عبادة واهب الحياة ومربيها والسؤال منه، والتوكل عليه والاطمئنان إليه". (1)
إن عناصر التفسير تنصب على قضية واحدة تشغل بال الجميع، وتقف وراء معظم فروقات العباد للمنهج الرباني، وهي هم الرزق، وتدبير حاجات الحياة اليومية، وقد تصرف في أحيان كثيرة حتى عن الصلاة، وبطريقة توحي بالشك والارتياب في قدرة اللّه على توفير أسباب الحياة وقوامها، وهو ما نبه إليه النورسي بقوله:
" فالذي يترك صلاته لأجل هموم العيش مثله كمثل ذلك الجندي الذي يترك تدريبه وخندقه ويتسول متسكعاً في الأسواق، بينما الذي يقيم الصلاة دون أن ينسى نصيبه من الرزق يبحث عنه في مطبخ رحمة الرزاق الكريم لئلا يكون عالة على الآخرين فجميل عمله، بل هو رجولة وشهامة ضرب من العبادة".(2)
فمن يقلق ويحزن على رزقه وقوته إلى درجة تتشوش فيها نفسه، ويترك لشدة وقعها عليه الصلاة، يشبه جندياً انصرف عن عمله متسولاً رزقه في اكثر أماكن الحياة ضجة وصخباً، في حين أن من لا يغفل عن الصلاة يشبه الجندي المرابط في ميدان الجهاد، وهو على ثقة ويقين أن اللّه هو كافله وضامن رزقه، فلا يتعب نفسه في البحث عنه، وينصرف بكليته إلى واجبه.
الصارف عن الصلاة
يزعم البعض من قصيري النظر، ومن ذوي الهمم الضعيفة، أن ما يردهم عن الصلاة ويبعدهم عنها ويجعلهم كالمقصرين فيها، ليس أمور الحياة التافهة، بل ما تفرضه عليهم ضروريات كسب العيش ومطالبه الكثيرة. فمثّل لحالتهم تلك بقوله:
__________
(1) الكلمات- النورسي ص 19
(2) الكلمات- النورسي ص 20(4/128)
" إن كانت الأجرة اليومية لشخص مائة قرش، وقال أحدهم تعال واحفر لعشر دقائق في هذا المكان، فإنك ستجد حجراً كريماً كالزمرد قيمته مائة ليرة، كم يكون عذراً تافهاً بل جنوناً إن رفض ذلك بقوله: لا لا أعمل، لان أجرتي اليومية ستنقص". (1)
فالمفروض على ذلك العامل من عمل لا يستغرق سوى فترة قصيرة من الزمن يحصل بها على كنز تزيد قيمته كثيراً عن أجرته اليومية المعتادة، فإن رفض العرض ولم يقبل به متحججاً بأسباب واهية، فمن غير شك أن امتناعه هذا يضعه في منزلة المعتوهين.
" إن جميع ثمار سعيك وعملك في هذا البستان ستنحصر في نفقة دنيوية تافهة، دون أن تجنى فائدتها وبركتها، بينما لو صرفت وقت راحتك بين فترات العمل في أداء الصلاة، لتحصلت على راحة الروح وتنفس القلب إضافة إلى نفقتك الأخروية، وزادت أخرتك مع نفقتك الدنيوية المباركة".(2)
يعني أن نتائج تعبه وشقاءه في هذه الدنيا لأجل الدنيا يستهلك في الدنيا ويزول بزوالها جانبها المعنوي والروحي، أما إذا استنفد طاقاته في الصلاة، فسيحظى بثمرات روحية وقلبية يضاف إليها خيرات الدنيا والآخرة.
الحمد لله
إن الحمد والمدح والشكر والثناء كلها أفعال تنبئ عن تعظيم اللّه المنعم على عباده بنعم تفيض منه وحده، ونعمه تعالى ليست إلا ثمرة من الثمار الطيبة لرحمته تعالى عليهم، ومن هنا فإن فرحتهم بها تتجاوز بكثير لذتها المادية قصيرة الأجل، ومثل لها النورسي بقوله:
" إن ملكاً عظيماً وسلطاناً ذا شأن، إذا أرسل إليك هدية ولتكن تفاحة مثلاً. فإن هذه الهدية تنطوي على لذة تفوق لذة التفاح المادية بأضعاف أضعاف، تلك هي لذة الالتفات الملكي. والتوجه السلطاني المكلل بالتخصيص والإحسان".(3)
__________
(1) الكلمات- النورسي ص 301
(2) الكلمات- النورسي ص 301
(3) المكتوبات- النورسي ص 292(4/129)
إن هدية الملك العظيم على ضآلة حجمها وصغر شأنها، قد حملت لذلك الإنسان البسيط من معاني المودة والرحمة والإكرام والاحترام ما جعلته يفرح فرحاً لا يقارن بفرحته المادية الزائلة عند أكلها، وتبقى هذه المعاني حية في قلبه مدى الحياة.
وكذلك الحال في حمد العباد وشكرهم لربهم على نعمه عليهم، فإنها وكما يعقب النورسي على المثل:
" تفتح أمامك باباً واسعاً تتدفق منه لذة معنوية خالصة هي ألذ من تلك النعم نفسها بألف ضعف وضعف، وذلك بالحمد والشكر، أي بالشعور بالإنعام عن طريق النعمة، أي بمعرفة المنعم بالتفكر في الإنعام نفسه، أي بالتفكر والتبصر في التفات رحمته سبحانه وتوجهه إليك وشفقته عليك ودوام إنعامه عليك"(1)
وعلى هذا فإن العبد عندما يقول من صميم قلبه (الحمد للّه) تعظيماً للّه واعترافاً له على ما أسدى إليه من نعم، فإنه يحس من مجرد تلفظه بها إحساساً عميقاً بقوة توجه اللّه تعالى إليه بالإحسان والإكرام، ويقر معترفاً بعطاياه تعالى له، عندئذ يجتاحه من الفرح والسرور القلبي والنفسي ما يفوق بمراحل كثيرة أفراح ومسرات النعمة نفسها.
التوكل
يذهب النورسي إلى أن مثل التوكل على اللّه وغير المتوكل:
" كمثل رجلين قاما بحمل أعباء ثقيلة حملت على رأسهما وعاتقهما فقطعا التذاكر وصعدا سفينة عظيمة، فوضع أحدهما ما على كاهله حال دخل السفينة وجلس عليه يرقبه، أما الآخر فلم يفعل مثله لحماقته وغروره، فقيل له:
ضع عنك حملك الثقيل لترتاح من عنائك.
فقال:
كلا إني لست فاعلاً ذاك مخافة الضياع، فإن على قوة ولا أعبأ بحملي وسأحتفظ بما املكه فوق رأسي وعلى ظهري.
فقيل له ثانية:
__________
(1) المكتوبات- النورسي ص 293،292(4/130)
- ولكن أيها الأخ إن هذه السفينة السلطانية الأمينة التي تأوينا وتجري بنا هي أقوى واصلب عوداً منا جميعاً، وبإمكانها الحفاظ علينا وعلى أمتعتنا أكثر من أنفسنا، فربما يغمى عليك فتهوى بنفسك وأمتعتك في البحر، فضلاً عن إنك تفقد قوتك رويداً رويداً، فكاهلك الهزيل هذا، وهامتك الخرقاء هذه لن يسعهما بعد حمل هذه الأعباء التي تتزايد، وإذا رآك ربان السفينة على هذه الحالة فسيظنك مصاباً بمس من الجنون، وفاقداً للوعي، فيطردك ويقذف بك خارجاً، أو يأمر بإلقاء القبض عليك ويودعك السجن، قائلاً:
إن هذا خائن يتهم سفينتنا ويستهزئ بنا.
وستصبح أضحوكة الناس، لأنك بإظهارك التكبر الذي يخفى ضعفاً وبغرورك الذي يحمل عجزاً، وبتصنعك الذي يبطن رياء وذلة، قد جعلت من نفسك أضحوكة ومهزلة، ألا ترى أن الكل باتوا يضحكون منك ويستصغرونك.
وبعد ما سمع كل هذا الكلام عاد ذلك المسكين إلى صوابه فوضع حمله على أرض السفينة وجلس عليه وقال:
الحمد للّه، ليرض اللّه عنك كل الرضا، فلقد أنقذتني من التعب والهوان ومن السجن والسخرية".(1)
فالرجل الأول بمجرد جلوسه على السفينة تخلص مما كان يثقل كاهله من أحمال. فوضعها جانباً. في حين أن الثاني وخشية منه على فقدانها من جهة، واستناداً على تمتعه بطاقة هائلة على الحمل، أبقاها على ظهره.
وأشفق عليه كل مَنْ رآه، ورثوا لحالته الباعثة على السخرية والاستهزاء، والدالة على نقيض ما حاول أن يظهر به، ثم لفتوا نظره إلى ثلاثة أمور فاتت عليه:
أولها: أن القوة التي يعتمد عليها قابلة للنفاد تدريجياً مع مضى الزمن، وضغط الحمولة الزائدة عليه
وثانيها: مقدرة السفينة على المحافظة على من فيها من الركاب وأمتعتهم.
وثالثها: ربما فسر قائد السفينة تصرفه هذا على أنه ضرب من الجنون لا يصح ترك صاحبه طليقاً بين الركاب، فيأمر بإبعاده أو حبسه.
__________
(1) الكلمات- النورسي ص 353(4/131)
وعلى أي حال فإن الرجلين – وكما بدأنا الكلام – يمثل أحدهما العبد المؤمن المتوكل على اللّه، ويمثل الثاني المؤمن غير المتوكل، والسفينة هي الحياة الدنيا، فالمتوكل يظهر دوماً في الدنيا عجزه وافتقاره واعتماده المطلق على اللّه، كما أنه يسلم أموره كلها للّه، أما غير المتوكل فهو من يعتمد على نفسه ويعول في حركته على قواه الذاتية. مما يجعله قليل الثقة فيما عند اللّه. فلا يرجو منه ولا يأمل فيه خيراً.
يقول النورسي في مقارنته بينهما.
"فالإنسان الذي يظفر بالإيمان الحقيقي يستطيع أن يتحدى الكائنات، ويتخلص من ضيق الحوادث، مستنداً إلى قوة إيمانه فيبحر متفرجاً على سفينة الحياة من خضم أمواج الأحداث العاتية بكمال الأمان والسلام.
قائلاً: توكلت على اللّه، ويسلم أعباءه الثقيلة أمانة إلى يد القدرة للقدير المطلق، ويقطع بذلك سبيل الدنيا مطمئن البال في سهولة وراحة حتى يصل إلى البرزخ ويستريح، ومن ثم يستطيع أن يرتفع طائراً إلى الجنة للدخول إلى السعادة الأبدية، أما إذا ترك الإنسان التوكل فلا يستطيع التحليق والطيران إلى الجنة فحسب، بل ستجذبه تلك الأثقال إلى اسفل سافلين".(1)
ومن المقارنة بين الاثنين مع اشتراكهما في الإيمان، يتضح أن المؤمن المتوكل يشعر على الدوام لخفة حمله وأعبائه بالأمان والاطمئنان والسكينة والراحة النفسية، في حين أن حياة غير المتوكل تنطوي على مشاكل عديدة، ويعيش في ظل هموم لا حصر لها، وقد ينتهي به الحال إلى التردي إلى هاوية سحيقة لا قرار لها.
صبر النفس على العبادة
إن تعب العبادات والجهد الشاق المبذول في أدائها، ثم التفكير الدائم في عبادات الأيام القادمة، وما فيه هو الآخر من الآلام، قد يدفع بالنفس إلى إظهار حالات متعددة من التذمر، أكثرها شيوعاً بين المؤمنين، قلة الصبر تارة، ونفاده تارة أخرى. ومثل النورسي للنفس في عدم صبرها بـ:
__________
(1) الكلمات- النورسي ص 352(4/132)
" القائد الأحمق الذي وجه قوة عظيمة من جيشه إلى الجناح الأيمن للعدو. في الوقت الذي التحق ذلك الجناح من صفوف العدو إلى صفه فأصبح له ظهيراً، ووجه قوته الباقية إلى الجناح الأيسر للعدو في الوقت الذي لم يكن هناك أحد من الجنود، فأدرك العدو نقطة ضعفه فسدد هجومه إلى القلب فدمره هو وجيشه تدميراً كاملاً".(1)
فقلة عقل القائد وفساد تدبيره تتجلى بوضوح في سوء إدارته للجيش التي أخلّت بميزان القوة في المعركة، إذ دفع بقوته الضاربة إلى موقع ليس فيه خطر عليه فحسب، بل إن جنود ذلك الجناح انقلبوا معينين له وناصرين. ثم دفع بقوته الوحيدة إلى موضع لا جنود فيه ليحاربهم، فكشف بهذا التخبط عن مركز الضعف فيه. فوجه إليه عدوه ضربات في القلب دمرت جيشه ومزقته، وألحقت به هزيمة ساحقة.
والنفس التي لا صبر لها على مشقة العبادات تشبه ذلك القائد. وعلل النورسي عدم صبرها بقوله:
" لأن صعوبات الأيام الماضية وأتعابها قد ولت، فذهبت آلامها وظلت لذتها وانقلبت مشقتها ثواباً، لذا لا تولد مللاً بل شوقاً جديداً وذوقاً ندياً وسعياً جاداً للمضي والإقدام، أما الأيام المقبلة فلأنها لم تأت بعد، فإن صرف التفكير فيها من الآن نوع من الحماقات والبله، إذ يشبه ذلك البكاء والصراخ من الآن، لما قد يحتمل أن يكون عليه من العطش والجوع في المستقبل".(2)
فما مضى حاملاً معه تبعه، وولت آلامه إلى غير رجعة، تاركة وراءها رغبة صادقة وإرادة قوية للمزيد من التعبد، أما المستقبل فإن مجرد التفكير فيه دال على قلة العقل وفساده، ويشبه العويل والصراخ في هذه اللحظة على ما ينتظر وقوعه من جوع وعطش في المستقبل.
وأخيراً ختم النورسي حديثه مرشداً النفس لما فيه صلاحها، قائلاً:
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 299
(2) الكلمات – النورسي ص 299(4/133)
" فما دام الأمر هكذا، فإن كان لك شيء من العقل، ففكري من حيث العبادة في هذا اليوم بالذات، قولي: سأصرف ساعة منه في واجب مهم لذيذ جميل، وفي خدمة سامية رفيعة ذات أجر عظيم وكلفة ضئيلة، وعندها تشعرين أن فتورك المؤلم قد تحول إلى همة حلوة ونشاط لذيذ".(1)
الطاعة والمعصية
اشترط النورسي أنه يحسن للعابدين في عبادتهم للّه تعالى أن ينظروا إليها من زاوية المكسب والخسارة، وذلك لأن في الطاعة أرباحاً عظيمة وبركة في العمر وزيادة في الرزق، وفي المعصية خسارة فادحة ونقصان في الأجل وضيق من الرزق وضياع للجهد، ومثّل لهما بقوله:
" تسلم جنديان اثنان ذات يوم أمراً بالذهاب إلى مدينة بعيدة، فسافرا معاً، إلى أن وصلا مفترق طريقين، فوجدا هناك رجلاً يقول لهما:
أن هذا الطريق الأيمن، مع عدم وجود الضرر فيه، يجد المسافرون الذين يسلكونه الراحة والاطمئنان والربح مضموناً بنسبة تسعة من عشرة. أما الطريق الأيسر فمع كونه عديم النفع يتضرر تسعة من عشرة من عابريه علماً أن كليهما في الطول سواء. مع فرق واحد فقط، هو أن المسافر المتجه نحو الطريق الأيسر غير المرتبط بنظام وحكومة، يمضي بلا حقيبة متاع ولا سلاح. فيجد في نفسه خفة ظاهرة وراحة موهومة، غير أن المسافر المتجه نحو الطريق الأيمن المنتظم تحت شرف الجندية، مضطر لحمل حقيبة كاملة من مستخلصات غذائية تزن أربع أوقيات وسلاحاً حكومياً يزن أوقيتين يستطيع أن يغلب به كل عدو".(2)
فالجنديان تلقيا أمراً واحداً لأداء عمل واحد وهو التوجه إلى موضع بعينه، ولما بلغا مكاناً تتشعب فيه الطرق، لقيا رجلاً صالحاً كشف لهما أن الطريق الأيمن لا يجد فيه السالك أذى ولا مكروهاً، ومن ثم فراحته مضمونة ومكاسبه متحققة، أما الطريق الأيسر فمع كونه عديم الفائدة، لا يسلم سالكه من مكدرات السفر كالضيق والعنت وغيرها من الآلام.
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 299
(2) الكلمات – النورسي ص 12(4/134)
غير أن الفارق الجوهري بين الطريقين ينحصر في أن من يختار الطريق الأيمن عليه أن ينتسب إلى جهة ما، فيحمل اسمها، ليمنح بذلك الانتساب صفة أخص يعرف بانتمائه إليها. ومن ثم يكلف إلزاماً ووجوباً بتكاليف محددة صعبة وشاقة في حملها.
أما من يختار الطريق الأيسر فهو على العكس من الأول لا ينتمي إلى جهة بعينها، ولا يحمل اسماً أو صفة تميزه عن غيره، فلا يكلّف ولا يلزم بشيء محدد يبذل فيه جانباً كبيراً من جهده وطاقته، ومن ثم لا يعاني عسراً في اليسر ولا تعباً في النفس
ثم انتقل النورسي بعد نصح الرجل وإعلامه للجنديين بطبيعة الطريقين إلى رواية ما حدث لكل واحد منهما، فقال:
" وبعد سماع هذين الجنديين كلام ذلك الرجل الدليل، سلك المحظوظ السعيد الطريق الأيمن، ومضى في دربه حاملاً على ظهره وكتفه رطلاً من الأثقال، إلا أن قلبه وروحه قد تخلصا من آلاف الأرطال من ثقل المنة والخوف.
بينما الرجل الشقي المنكود الذي آثر ترك الجندية ولم يرد الانتظام والالتزام، سلك سبيل الشمال، فمع أن جسمه قد تخلص من ثقل رطل فقد ظل قلبه يرزح تحت آلاف الأرطال من المن والأذى، وانسحقت روحه تحت مخاوف لا يحصرها الحد، فمضى في سبيله مستجدياً كل شخص وجلاً مرتعشاً من كل شيء، خائفاً من كل حادثة، إلى أن بلغ المحل المقصود فلاقى هناك جزاء فراره وعصيانه.
أما المسافر المتوجه نحو الطريق الأيمن – ذلك المحب لنظام الجندية والمحافظ على حقيبته وسلاحه – فقد سار منطلقاً مرتاح القلب مطمئن الوجدان من دون أن يلتفت إلى منة أحد أو يطمع فيها أو يخاف من أحد، إلى أن بلغ المدينة المقصودة وهناك وجد ثوابه اللائق به كأي جندي شريف أنجز مهمته بالحسنى".(1)
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 13،12(4/135)
ومفاد الرواية أن التكاليف التي آثر الجندي سالك الطريق الأيمن حملها، تبدو في ظاهرها ثقيلة على النفس ومتعبة للجسم، ولكن فيها خلاصه ونجاته وتحرره من مخاوف الطريق ومفاجئاته غير المتوقعة، في حين أن من يرفض تحمل تبعاتها جرد فوراً من صفة الجندية واسم الجندية، ولكنه غدا وحيداً بلا ناصر ولا معين. فانتابته المخاوف، واجتاحته الهموم، ولما وصل المدينة تعرض للعقوبة الشديدة، ليس لمخافته للتكليف، وإنما لمخالفته لمطلق الأمر بالتكليف.
وعلى العكس منه الجندي الذي آثر طائعاً مختاراً تحمل ما أمر بحمله، فقد انطلق مستريحاً في طريقه بصفة الجندية واسم الجندي، غير هياب ولا وجل، لاطمئنانه ويقينه بسلامة اختياره، وبقوة من يتحرك باسمه إلى أن دخل المدينة، فاستحق الثواب كأي مكلّف أدى ما يجب عليه أداءه.
وفسر النورسي المثل فقال مخاطباً نفسه ونفس كل عابد:
" اعلمي أن ذينك المسافرين أحدهما أولئك المستسلمون المطيعون للقانون الإلهي، والآخر هم العصاة المتبعون للأهواء.
وأما ذلك الطريق فهو طريق الحياة الذي يأتي من عالم الأرواح ويمر من القبر مؤدياً إلى عالم الآخرة.
وأما تلك الحقيبة والسلاح فهما العبادة والتقوى، فمهما يكن للعبادة من حمل ثقيل ظاهراً، إلا أن لها في معناها راحة وخفة عظيمتين لا توصفان، ذلك لأن العابد يقول في صلاته (لا إله إلا اللّه)، أي لا خالق ولا رازق إلا هو، النفع والضرر بيده، وأنه حكيم لا يعمل عبثاً، كما أنه رحيم واسع الرحمة والإحسان".(1)
وكما هو واضح من التفسير، فإن الجندي أو المسافر هو المكلّف بتكاليف شرعية فيها عليه كلفة ومشقة، فمن يأتمر بالأمر ويمتثل له، خاضعاً لإرادة المكلّف فهو الطائع المنقاد للّه تعالى، ومن يعاند ويخالف الأمر التكليفي فهو العاصي الذي لا يرجو ثواباً بفعله.
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 13(4/136)
أما الطريق فمجاز عن الحياة الدنيا التي أعدت خصيصاً كمكان للتكاليف، فسميت بدار التكليف كما سميت الآخرة بدار الجزاء، وجهزت بكل المقومات التي يحتاج إليها المكلَّف في حركته التكليفية.
وأما الحقيبة أو حمل السلاح فهي العبادة التي رغماً عن صعوبتها ومشقتها، ووقعها المؤلم على النفس، ففيها الراحة والطمأنينة في الدنيا، وتعود على العباد بالنفع الجزيل بعد الموت.
فرح الله
إذا كان فرح الكريم بكرمه والشفيق بشفقته أضعاف أضعاف فرحة من يكرم ويشفق عليه. فكيف بفرحة اللّه تعالى بمن نالوا رحمته ورضاه أليست أكثر بكثير من أفراح ومسرات عباده برحمته عليهم ورضاءه عنهم، ومعنى جليل القدر كهذا لا يدرك إلا من خلال ثلاثة أمثلة رواها النورسي على النحو التالي.
" المثل الأول: شخص سخي كريم ذو شفقة ورأفة، أعد ضيافة جميلة للفقراء المحتاجين، فبسط ضيافته الضخمة على إحدى سفنه الجوالة، واطلع عليهم وهم يتنعمون بإنعامه تنعماً ذا امتنان، ترى كم يكون ذلك الشخص الكريم مسروراً فرحاً، وكم يبتهج بتنعم هؤلاء الفقراء، وتلذذ الجياع منهم، ورضى المحتاجين منهم، وثنائهم عليه.
والمثل الثاني: إذا قام صناع ماهر بصنع حاكٍ جميل ينطق من دون حاجة إلى اسطوانة، ووضعه موضع التجربة والعرض للآخرين، فعبر الجهاز عما يريده منه وعمل على أفضل وجه يرغب فيه. فكم يكون مفتخراً برؤية صنعته على هذه الصورة، وكم يكون مسروراً، حتى إنه يردد في نفسه: بارك اللّه.
والمثل الثالث: إن حاكماً عادلاً يجد لذة ومتعة عندما يأخذ حق المظلوم من الظالم، ويجعل الحق يأخذ نصابه. ويفتخر لدى صيانته لحق الضعفاء من شرور الأقوياء لدى منحه كل فرد ما يستحقه من حقوق".(1)
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 745،744(4/137)
فلا يملك كل من الكريم والصانع الماهر والحاكم العادل في الحقيقة إلا القدر اليسير والحظ الضئيل من جهدهم، فالكريم ليس له فضل في إعداد المائدة ودعوة المدعوين، والصانع لم يصنع إلا شيئاً صغيراً محدود القيمة، وكذلك الحاكم العادل، فعدله نابع من تطبيقه للشرع الحكيم.
ومع كل هذا فإن الفرحة تغمر قلوبهم وتنشرح صدورهم طرباً وسروراً لما أدوه من أعمال، فكيف بمن نسبة الفعل إليه نسبة ذاتية، ولا يشاركه فيه أحد، ألا يفرح لفرحة عباده فرحاً هو أسمى وأنزه بما لا يتناهى من درجات العلو والسمو والنزاهة مما يظهر على عباده.
الوعيد
تساءل النورسي قائلاً:
ما أساس الحكمة التي تبنى عليها تلك الزواجر والتهديدات المرعبة والشكاوى القرآنية الصادرة من عظمته الجليلة تجاه هذا الإنسان الذي لا يملك إلا جزءاً من إرادة اختيارية وكسباً فقط، فلا قدرة له على الإيجاد قطعاً، وكيف يتم الانسجام والتوفيق بينهما.
وقبل الإجابة عن مغزى وعيد اللّه وزجره وتهديده لهذا المخلوق الذي لا حول ولا قوة ضرب مثلين متكاملين، جاء في الأول منهما:
" بستان عظيم جداً يحوى ما لا يعد ولا يحصى من الأثمار اليانعة والأزاهير الجميلة، عين عدد كبير من العاملين والموظفين للقيام بخدمات تلك الحديقة الزاهرة، إلا أن المكلَّف بفتح المنفذ الذي يجري منه الماء للشرب وسقي البستان، تكاسل عن أداء مهمته، ولم يفتح المنفذ، فلم يجر الماء، بمعنى أنه أخل بكل ما في البستان أو سبب في جفافه".(1)
يعني أن المكلَّف بأهم وظيفة وأخطر عمل وهو إدارة الممر الوحيد الذي يمد البستان بأسباب بلغ من الإهمال وعدم الإحساس بالمسؤولية الملقاة على عاتقه حد التثاقل، فلم يسمح للماء بسقي أشجاره ونباتاته، مما يعتبر عمله هذا في حكم القاصد والمتعمد إلحاق أفدح الضرر بالبستان وأشجاره وثماره.
أما ردة الفعل إزاء ذلك المهمل لعمله، فرواها النورسي بقوله:
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 191،190(4/138)
" وعندها فإن لجميع العاملين في البستان حق الشكوى من ذلك العامل المتقاعس عن العمل، فضلاً عن شكاوى ما أبدعه الرب الجليل والخالق الكريم، وما هو تحت نظر شهوده العظيم، بل حتى للتراب والهواء والضياء حق الشكوى من ذلك العامل الكسلان، لما سبب من بوار مهماتهم وعقم خدماتهم. أو إخلال بها على الأقل".(1)
أي أن ما فعله ذلك العالم شيء لا يمكن التغاضي عنه ولا السكوت عليه، وذلك لما يترتب عليه من نتائج لا تقف عند حد بعينه، فلا عجب أن أبدى زملاؤه شعورهم بالاستياء، ليس فقط على عمله، بل أيضاً لما سببه لهم من كساد في أعمالهم، وضياع لمجهوداتهم.
أما المثل الثاني فتمم للأول ورواه النورسي قائلاً:
" سفينة عظمية للسلطان، إن ترك فيها عامل بسيط وظيفته الجزئية، فسيؤدي تركه هذا إلى إخلال بنتائج أعمال جميع العاملين في السفينة وإهدارها، لأجل ذلك فإن صاحب السفينة، وهو السلطان العظيم سيهدد ذلك المقصر على القول: من أنا حتى استحق كل هذا التهديد المروّع، وما عملي إلا إهمال تافه جزئي".(2)
فالمثل يؤكد تأكيداً أشبه بالشرط اللازم؛ أن رفض أي عامل في السفينة لواجبه المكلَّف به. حتى لو كان من الأعمال التي لا يؤبه بها في العادة لحقارتها، له نتائج تنعكس على جميع الأعمال في السفينة، بل قد تسبب في إبطال منظومة العمل برمته، ولأجل ذلك حق لمالك السفينة أن يتوعده وينذره بإنزال أقصى العقوبات عليه، وليس من حق ذلك المتوانى والمهمل الاحتجاج على الوعيد بتفاهة عمله واستهانة الناس به.
ومن هنا علق النورسي قائلاً:
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 191
(2) الكلمات – النورسي ص 191(4/139)
" ذلك لأن عدماً واحداً يؤدي إلى مالا يتناهي من أنواع العدم، بينما الوجود يثمر ثمرات حسب نوعه، لأن وجود الشيء يتوقف على وجود جميع الأسباب والشروط، بينما انعدام ذلك الشيء وانتفاؤه من حيث النتيجة إنما هو انتفاء شرط واحد فقط. وبانعدام جزء منه".(1)
ويرى النورسي بما وراء هذا التعليق إلى أن ترك العمل هو في حكم العدم، أو بمعنى أخر هو ضد الوجود، أو هو اللاوجود بعينه. واللاوجود نفي للوجود، والوجود يقتضي دوماً شيئاً متحققاً بالفعل، أو على الأقل وجوداً عينياً في الظاهر، أما عدم الشيء فلا يضاف أو يسند إليه، أي للعدم، إذ لا وجود بعده، وبالتالي لا يتصور له وجود أصلاً.
وتأسيساً على ذلك المعنى وانطلاقاً منه خلص النورسي إلى القول:
" ومن هنا غدا – التخريب أسهل من التعمير – دستوراً متعارفاً لدى الناس، ولما كانت أسس الكفر والضلال والطغيان والمعصية إنكاراً ورفضاً وتركاً للعمل وعدم قبول، فصورتها الظاهرية مهما بدت إيجابية وذات وجود، إلا أنها في حقيقتها انتفاء وعدم، لذا فهي جناية سارية".(2)
والمعنى أنه وعلى الرغم من العنصر الإيجابي والإيجادي في الكفر والضلال، وغيرها من صور الإنكار والرفض للعمل، إلا أنها في حقيقتها الوجودية عدم وانتفاء، ولكن العدم فيها يقيد ولا يطلق ولا يضاف بالضرورة إلى ما يضاده، فيقال مثلاً أنه عدم إيمان وعدم طاعة إلى غيرها من صور الإضافة والإسناد.
وعيد الله على الذنب الصغير
يقف المرء في كثير من الأحيان حائراً ومتردداً من وعيد اللّه المرعب، وتهديده الشديد، وإنذاره المتكرر للفاسدين والمنحرفين عن منهجه، لمجرد ارتكابهم لذنب صغير لا أهمية له. ولاقترافهم خطيئة لا ضرر منها. وبما لا يتناسب أبداً مع حجمها، فما الحكمة وراءه، وما سره.
يقول النورسي في حديثه عن تلك الحكمة وذلك السر:
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 191
(2) الكلمات – النورسي ص 191(4/140)
" إن في وسع الشياطين ومن تبعهم أن يقوموا بتخريب مدمر بحركة بسيطة تصدر منهم، لأنهم يسلكون طريق الضلالة، فيلحقون بفعل جزئي يصدر منهم خسائر جسيمة بحقوق الكثيرين.
مثلهم في هذا كمثل رجل ركب سفينة تجارية عامرة للملك، ثم خرقها خرقاً بسيطاً، أو ترك واجباً كان عليه أن يؤديه، فأهدر بفعله هذا جهد مَن في السفينة، وأفسد عليهم جني ثمار عملهم فيها، وأبطل نتائج أعمال كل من له علاقة بها، لذا سيهدده الملك الذي يملك السفينة تهديدات عنيفة، باسم جميع رعاياه في السفينة، وجميع المتضررين فيها، وسيعاقبه أشد العقاب حتماً، لا لحركته الجزئية أو لتركه الواجب، وإنما للنتائج المترتبة على تلك الحركة، أو الترك البسيط، وليس لتجاوزه حمى الملك. وإنما لتعديه على حقوق الرعية جميعها".(1)
قدم النورسي للمثل بلفت الأنظار إلى مقدرة الشيطان العجيبة على إحداث أضرار هائلة، وفساد رهيب من عمل صغير لا يؤبه له يصدر عنهم، فتنتج عنه آثار تصيب جمعاً غفيراً من الخلق.
ومثل الشياطين في أعمالهم تلك مثل رجل جلس على ظهر سفينة لسلطان فعمل فيها شقاً صغيراً، أو قصّر في عمل واجب عليه، فأعماله تلك على ضآلتها وصغر حجمها لها من التأثير مالا يقف عليه وحده، بل يتخطاه للآخرين فتصيبهم بأضرار بالغة.
فمن البديهي إذن أن ينبه ويحذر من عواقب الإقدام على تلك الأفعال، ويتوعد بأقصى العقوبة وأشدها إيلاماً، ليس لإحداها لها ضمن دائرة ضيقة المساحة، بل لتداعياتها الكثيرة والمتنوعة والتي تصيب الآخرين بأضرار ليست في الحسبان.
والسفينة المذكورة في المثل تشبه وكما يذهب النورسي:
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 112(4/141)
" الأرض، ففيها مع المؤمنين أهل الضلال من حزب الشيطان الذين يستخفون بنتائج الوظائف الحكيمة للموجودات الرائعة، بل يعدونها عبثاً وباطلاً، فيحقرون بذلك جميعها، مما تشكل خطيئاتهم ومعاصيهم الجزئية في الظاهر، تجاوزاً واضحاً وتعدياً صارفاً على حقوق الموجودات كافة، لذا فإن اللّه سبحانه وهو ملك الأزل والأبد، يحشد التهديدات المروعة ضد ذلك التدمير الصادر من أهل الضلالة".(1)
وتعليق النورسي أو تفسيره للمثل لا يزيد عما قيل آنفاً.
فإن الذنوب والخطايا مهما كانت صغيرة وضئيلة في حجمها إلا أن معناها كبير جداً. وخطورتها عظيمة، إذ بها يظهر فاعلها عن استهتار بالغ بحقوق الآخرين. وتدمير هائل لقيمهم الأخلاقية، ناهيك عن آثارها السيئة التي لا يسلم منها أحد، فلا عجب أن يقابلها الحق عز وجل بسلسلة طويلة وعنيفة من الإنذارات والتحذيرات بسوء العاقبة وفداحة المال.
التجارة الرابحة
شبّه النورسي المسلم وماله وجهاده في سبيل اللّه وغيرها من أعماله الصالحة ببضائع يتجر فيها بغرض الربح والفائدة، واللّه تعالى هو من يجعل قيمتها مساوية لها، فيشتريها منه، فقال:
" وضع سلطان – ذات يوم – لدى اثنين من رعاياه وديعة وأمانة لكل منهما مزرعة واسعة، فيها كل ما تتطلبه من مكائن وآلات وأسلحة وحيوانات وغيرها، وتوافق أن كان الوقت آنذاك وقت حرب طاحنة، لا يقر قرار لشيء، فإما أن تبدله الحرب وتغيره، أو تجعله أثراً بعد عين، فأرسل السلطان رحمة منه وفضلاً أحد رجاله المقربين مصحوباً بأمره الكريم ليقول لهما:
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 112(4/142)
بيعوا لي ما لديكم من أمانتي لأحفظها لكم، فلا تذهب هباء في هذا الوقت العصيب، وسأردها لكم حالما تضع الحرب أوزارها، وسأوفي ثمنها لكم غالياً، كأن تلك الأمانة ملككم، وستشغل تلك المكائن والآلات التي في حوزتكم الآن في معاملي وباسمي وعهدتي، وسترتفع أثمانها من الواحد إلى الألف، فضلاً عن أن جميع الأرباح ستعود إليكم أيضاً، وسأتعهد عنكم بجميع تكاليفها ومصاريفها، حيث إنكم عاجزون فقراء لا تتحملون مصاريف تلك المكائن، وسأرد لكم جميع وارداتها ومنافعها، علماً أني سأبقيها عندكم لتستفيدوا منها وتتمتعوا بها إلى أن يحين وقت أخذها، فلكم خمس مراتب من الأرباح في صفقة واحدة.
وإن لم تبيعوها لي فسيزول حتماً كل ما لديكم، حيث ترون أن أحداً لا يستطيع أن يمسك ما عنده، وستحرمون من تلك الأثمان الغالية، وستهمل تلك الآلات الدقيقة النفيسة والموازين الحساسة والمعادن الثمينة، وتفقد قيمتها كلياً، وذلك لعدم استعمالها في أعمال راقية، وستتحملون وحدكم إدارتها وتكاليفها، وسترون جزاء خيانتكم للأمانة، فتلك خمس خسائر في صفقة واحدة، وفوق هذا كله إن هذا البيع يعني أن البائع يصبح جندياً حراً أبياً خاصاً بي، يتصرف باسمي ولا يبقى أسيراً عادياً وشخصاً سائباً".(1)
إن عملية البيع والشراء التي تمت أو سوف تتم بين السلطان وبين اثنين من رعاياه، ارتفعت بالعلاقة بينهما من علاقة الحاكم بالمحكوم، والأعلى بالأدنى، إلى علاقة أخص، وفيها من الملازمة والمصاحبة، أكثر ما فيها من الثبات والديمومة. فالسلطان وهو المشترى سيدفع ثمن المزرعة ومحتوياتها وثمراتها، وتؤول إليه بموجب الثمن المقدر لها، وعلى البائعين بناء على ذلك التنازل عن حقهما، وأخذ ثمنها عداً ونقداً في حاضر الزمان أو مستقبله.
وبما أن البيع والشراء يجري بين الطرفين برغبتهما الحرة، فقد دار بين المشتري والبائعين الحوار الذي رواه النورسي على النحو التالي:
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 22،21(4/143)
" انصت الرجلان ملياً إلى هذا الكلام الجميل والأمر السلطاني فقال العاقل الرزين منهما:
سمعاً وطاعة لأمر السلطان، رضينا بالبيع بكل فخر وشكر.
أما الآخر المغرور المتفرعن فقد ظن أن مزرعته لا تبيد أبداً، ولا تصيبها تقلبات الدهر، واضطرابات الدنيا: فقال.
لا ومَن السلطان؟ لا أبيع ملكي ولا أفسد نشوتي".(1)
ثم يروي النورسي في الخاتمة ما آلت إليه أحوال كل منهما، قائلاً:
" ودارت الأيام، فاصبح الرجل الأول في مقام يغبطه الناس جميعاً، إذ أضحى يعيش في بحبوحة قصر السلطان، يتنعم بألطافه، ويتقلب على أرائك أفضاله، أما الآخر فقد ابتلى شر بلاء حتى يرثى لحاله الناس كلهم، رغم انهم قالوا: إنَّ يستحقها، إذ هو الذي ورط نفسه في مرارة العذاب جزاء ما ارتكب من خطأ، فلا دامت نشوته ولا دام ملكه". (2)
والمعنى أن من باع طائعاً مختاراً للسلطان ما أودع عنده وأؤتمن عليه، حظي وفي فترة قصيرة بقدر من الأرباح، تمنى معها كل من رآه أو سمع به، لو كان في محله، أما الآخر فقد تعرض لجهله وسوء تقديره لشتى أنواع الخسائر والابتلاءات، أنزلته مجتمعة منزلة الميت، فبكاه من عرف حالته وأبَّنوه كما يُؤَبَّنُ الميت، ولا يذكرونه في مصيبته إلا بالصفات الحميدة والخصائص الطيبة.
تلك هي المعالم البارزة لوقائع المثل، أما تفريغ عناصرها على الواقع فيرويه النورسي بقوله:
" فيا نفسي المغرورة انظري من خلال منظار هذه الحكاية إلى وجه الحقيقة الناصعة، فالسلطان هو سلطان الأبد والأزل، وهو ربك وخالقك، وتلك المزرعة والمكائن والموازين هي ما تملكينه في هذه الحياة الدنيا من جسم وروح وقلب. وما فيها من سمع وبصر وعقل وخيال، أي جميع الحواس الظاهرة والباطنة، وأما الأمر السلطاني المحكم فهو القرآن الكريم، الذي يعلن هذا البيع والتجارة الرابحة في هذه الآية الكريمة:
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 22
(2) الكلمات – النورسي ص 22(4/144)
{ إِنَّ اللّه اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ } (1)
وأما الميدان المضطرب والحرب المدمرة فهي أحوال هذه الدنيا، إذ لا قرار فيها ولا ثبات".(2)
وخلاصة ما يستفاد من تفسير النورسي للمثل أن المؤمن العاقل لو نظر إلى أحوال الدنيا وتقلباتها، وتأمل جيداً في عاقبة أمرها، لانقاد طائعاً مختاراً للأمر الإلهي والتكليف السلطاني، وباع نفسه وعقله وقلبه وكل ما يملك للّه تعالى، وهو على ثقة ويقين بأن اللّه هو وحده الضامن لأرباحها.
البدعة
يواجه المسلمون على الدوام بطائفة من العلماء لا يتحرجون من التحدث في الدين بغير علم، ولا يتورعون عن إصدار فتاوى لا أصل لها في الشرع موقعين أفدح الأضرار بالناس، وعن هؤلاء يقول النورسي:
" أية مصلحة يجدونها في فتوى يفتونها يعارضون بها بديهيات الشعائر الإسلامية(3) بما فيه ضرر ومن غير ضرورة، ويرون أن الشعائر قابلة للتبديل، فإن كان ثمة شيء، فلربما انتباه مؤقت ناشئ من سطوع المعنى المؤقت، هو الذي خدعهم".(4)
يعني أن باطلهم قائم على ادعائهم بقابلية الشريعة للتجدد بتجدد الزمان، وظهور مشكلات جديدة تتطلب حلولاً تتفق مع روح الزمان وروح الحياة، فيأتون فعلاً بأفكار جديدة تلفت الانتباه، وتثير الناس بجدتها وطرافتها. ولكنها تشبه البرق الخاطف في سرعة ظهورها وزوالها، وهي التي أوهمتهم بأنهم على حق فيما يدعون.
أما المثل المعبر عن واقع هؤلاء الأدعياء فرواه بقوله:
" لو سلخ جلد حيوان، أو نزع غلاف ثمرة. فإن ظرافة مؤقتة تبدو من اللحم والثمرة، ولكن بعد مدة قليلة يسودّ ذلك اللحم الظريف والثمرة اللطيفة، وذلك بتأثير ما يغلفها من غلاف عرضي غريب كثيف ملوث فيتعفنان".(5)
__________
(1) التوبة/ 111
(2) الكلمات – النورسي ص 23،22
(3) المقصود رفع الأذان بغير العربية
(4) المكتوبات – النورسي ص 510
(5) المكتوبات – النورسي ص 510(4/145)
إن نزع جلد الحيوان وغشاء الثمرة في حينه. وحتى لو أحدث تشوهاً وقبحاً فيهما، إلا أن جدته تظهره على غير حقيقته، وكلما تقادم عليه الزمان تحللت عناصره وتغير شكله ولونه، واتخذ وضعاً لا يطاق، وكذلك الحال مع الشعائر والعبادات الإسلامية، فهي:
" بمثابة جلد حي مثاب عليه، ولدى انتزاعه يظهر شيء من نور المعاني مؤقتاً، وتطير أرواح تلك المعاني المباركة - بمثل لطافة الثمرة المنزوع منها الغلاف - تاركة ألفاظها البشرية في القلوب والعقول المظلمة، ثم تغادر ويذهب النور، ولا يبقى غير الدخان".(1)
فكأن من يتصدى للفتوى بهواه في قضايا الدين، يجردها مما عليه من جمال وبهاء، فتبدو في أول أمرها بديعة وخلابة لذوى الاستعداد الطبيعي للانحراف، فتستقر في عقولهم محدثة جروحاً غائرة في بواطنهم، ثم تزول تدريجياً إلى أن تتلاشى تاركة وراءها اسوداداً في النفس وظلمة في القلب.
الذنوب والآثام
إن أي فعل يصدر عن العبد المؤمن مخالفاً لإرادة اللّه تعالى هو في حقيقته خروج عن طاعته، ويؤدي خروجه عن الطاعة إلى وصفه وتسميته بصفات وأسماء عديدة تبعاً لمدى بعده أو قربه منها، مثل الذنوب والإثم والخطيئة والزلة والفسوق والفاحشة والغش والجناية والباطل والسوء والغلط والظلم والبطلان والاعتداء والعدوان والبغي والمنكر والرذيلة والضلال والفجور.
وعلى الرغم من الاختلاف الواضح في مراتبها الأدائية والفعلية، والتباين الملحوظ في عقوبتها وجزائها، إلا أنها تشترك جميعاً وكما يقول النورسي في قوة كل منها على أن:
" يتوغل في القلب ويمد جذوره في أعماقه، وما ينفك ينكت فيه نكتاً سوداء، حتى يتمكن من إخراج نور الإيمان منه، فيبقى مظلماً مقفراً فيغلظ ويقسو. نعم إن كل إثم وخطيئة يؤدي إلى الكفر، فإن لم يمح ذلك الإثم فوراً بالاستغفار يتحول إلى دودة معنوية. بل إلى حية معنوية تعض القلب وتؤذيه".(2)
__________
(1) المكتوبات – النورسي ص 511،510
(2) اللمعات – النورسي ص 11(4/146)
إذن فالمؤمن إذا لم يتدارك نفسه بالتوبة والإقلاع عن الذنب، والعزم على عدم العودة لارتكاب ما فيه مخالفة لإرادة اللّه، فإن الثمرة المرة الناتجة عنها هي اسوداد القلب وتحجره وظلمته حتى يخلو تماماً من نور الإيمان، فيقع دون وعي منه في دائرة الكفر، وتبياناً لهذه الحقيقة المؤلمة، يقول النورسي:
" فمثلاً: إن الذي يرتكب شراً آثماً يخجل منه، وعندما يستحي كثيراً من اطلاع الآخرين عليه، يثقل عليه وجود الملائكة والروحانيات، ويرغب في إنكارهم بأمارة تافهة.
ومثلاً: إن الذي يقترف كبيرة تفضي إلى عذاب جهنم، إن لم يتحصن تجاهها بالاستغفار، فما أن يسمع نذير جهنم وأهوالها يرغب في أعماقه في عدم وجودها، فيتولد لديه جرأة لإنكار جهنم من أمارة بسيطة أو شبهة تافهة.
ومثلاً: إن الذي لا يقيم الفرائض ولا يؤدي وظيفة العبودية حق الأداء وهو يتألم من توبيخ آمره البسيط لتقاعسه عن واجب بسيط، فإن تكاسله عن أداء الفرائض إزاء الأوامر المكررة الصادرة من اللّه العظيم، يورثه ضيقاً شديداً وظلمة قاتمة في روحه، ويسوقه هذا الضيق إلى الرغبة في أن يتفوه ويقول ضمناً:
ليته لم يأمر بتلك العبادة.
وتثير هذه الرغبة فيه الإنكار الذي يشمّ منه عداء معنوياً تجاه ألوهيته سبحانه فإذا ما وردت شبهة تافهة إلى القلب حول وجوده سبحانه. فانه يميل إليها، كأنها دليل قاطع، فينفتح أمامه باب عظيم للّهلاك والخسران المبين.
ولكن لا يدرك هذا الشقي أنه قد جعل نفسه بهذا الإنكار، هدفاً لضيق معنوي أرهب وأفظع بملايين المرات من ذلك الضيق الجزئي الذي كان يشعر به من تكاسله كمن يفر من لسع البعوض إلى عض الحية".(1)
فهناك إذن ثلاثة أنواع من المعاصي يرتكبها ثلاثة أصناف من المؤمنين لكل منها أثارها المدمرة على المؤمن وعلى إيمانه وهي:
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 12،11(4/147)
الأولى: هي التي ترتكب بعيداً عن أعين الناس، ويحرص المؤمن على كتمانها وعدم التحدث بها إلى أحد، وينتج عن تلك الشرية كراهية مضمرة للعالم الروحاني غير المنظور، وعلى وجه أخص الملائكة المطلعين على سره والعارفين بإثمه وذنبه.
والثاني: من يرتكب كبيرة من الكبائر عقوبتها نار جهنم، فإذا هو أصر عليها، ولم يتب عنها، آل به الأمر هو الآخر إلى الأماني الباطلة، بألاّ يكون للنار وجود، ثم ينتهي به الحال إلى عدم الاعتراف بها أو التسليم بوجودها، بأعذار وحجج واهية ومتهافتة.
والثالثة: من لا يلتزم بأوامر اللّه، ولا يطيعه فيما يجب الطاعة فيه. لا رفضاً ولا إنكاراً، بل تثاقلاً عن أدائها، وتوانياً في القيام بها، ويترتب على ذلك خشونة في النفس، وضيق في الصدر، وظلمة في القلب يتمنى من شدة وقعها عليه، لو لم تشرع عبادة أصلاً، فيتردى بسهولة إلى رفض العبادة وعدم قبولها. ويجره ذلك إلى الشك في وجود اللّه، ولا يحتاج بعدها إلا لدليل عارض للوقوع في الكفر والإلحاد.
التنبيه الرباني
قد يفجع المؤمن بكثير من نوائب الدهر في نفسه وماله وولده وأهله وأحبائه، فتحيل حياته إلى الآم وأحزان موصولة، وهي في غالبها وكما يرى النورسي ليست بذات شأن. أي ليست بمصائب تساوى في ضررها تلك التي تصيب الدين وتقدح في العقيدة، بل هي على حد تعبيره:
" تنبيه رحماني، يبعثه اللّه سبحانه إلى عبده ليوقظه من غفلته"(1)
أي هي إعلام من اللّه لعبده يريد بها أن يطلعه ويوقفه على أمر يعود عليه بالنفع في دنياه وآخرته، بمعنى تحذيره مما أصابه في حياته التعبدية من سهو ونسيان، وتخويفه من إهماله لفروضه وواجباته.
ومثل النورسي لذلك التنبيه الرباني بـ:
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 16(4/148)
" تنبيه الراعي لشياهه عندما تتجاوز مرعاها، فيرميها بحجر، والشياه بدورها تشعر أن راعيها ينبهها بذلك الحجر ويحذرها من أمر خطير مضر، فتعود إلى مرعاها برضى واطمئنان". (1)
يعني أن الراعي عندما يقذف أغنامه بحجر أو يرميها بعصا، لدى خروجها عن مرعاها، فهو لا يقصد بذلك إيذاءها، أو إيقاع الضرر بها، بل يبغي تذكيرها وإعلامها بأنها قد تجاوزت الحدود، وهي بدورها تدرك غرض راعيها وهدفه، فتعود برغبة منها ورضى إلى دائرة مرعاها، فلا تغادره أو تخرج منه.
وهكذا المصائب التي تحل بالمؤمن، فهي في غالبها تحذير من اللّه وإعلام بضرورة تصحيح مساره والعودة إلى الطريق القويم.
إدامة الإخلاص
لا يحتاج العاملون في مجال الدعوة للّه تعالى إلى الإخلاص وحده في عملهم. بل يحتاجون معه أيضاً إلى ما يديم الوفاق الصادق بينهم. لأن في إدامة الوفاق إدامة للإخلاص، وفي دوام الإخلاص واستمراريته ثبات على الوفاق ودوام عليه. وروى النورسي ثلاثة أمثال لبيان التلازم بينهما، بدأ بإخلاص ووفاق أهل الدنيا، فقال:
" لقد اتخذ أرباب الدنيا – الاشتراك في الأموال – قاعدة يسترشدون بها لأجل الحصول على ثروة طائلة أو قوة شديدة، بل اتخذ من لهم التأثير في الحياة الاجتماعية – من أشخاص أو جماعات وبعض الساسة – هذه القاعدة رائداً لهم. ولقد كسبوا نتيجة لاتباعهم هذه القاعدة قوة هائلة وانتفعوا منها نفعاً عظيماً، رغم ما فيها من أضرار واستعمالات سيئة، ذلك لأن ماهية الاشتراك لا تتغير بالمساوي والأضرار التي فيها، لأن كل شخص – وفق هذه القاعدة – يحسب نفسه بمثابة المالك لجميع الأموال، وذلك من زاوية مشاركته في المال ومن جهة مراقبته وإشرافه عليه. برغم انه لا يمكنه أن ينتفع من جميع الأموال". (2)
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 16
(2) اللمعات – النورسي ص 248(4/149)
ومقصوده أن محبي الدنيا والعاملين من اجلها قد وضعوا ومن واقع خبرتهم الطويلة قواعد كثيرة لزيادة ثروتهم وأموالهم، من بينها ضرورة أن يشارك كل منهما الآخر في المال. وبهذا التعاون والاتفاق في الرأي والعمل يمكن لكل واحد منهم من جمع أموال طائلة.
ثم عقب النورسي على هذه القاعدة قائلاً:
" وعلى كل فإن هذه القاعدة إذا دخلت في الأعمال الأخروية تحمل سر الدخول بتمامها في حوزة كل فرد من أولئك الأفراد المشتركين فيها، دون نقصان أو تجزئة".(1)
يعني: لو طبقت هذه القاعدة على الأعمال الأخروية، فلا شك أنها سوف تأتي بنتائج وفوائد جليلة القدر ولا تقارن بالأعمال الدنيوية، ولإفهام هذا المعنى لذوي العقول النيرة ضرب النورسي المثل التالي:
" اشترك خمسة أشخاص في إشعال مصباح زيتي، فوقع على أحدهم إحضار النفط، وعلى الآخر الفتيلة، وعلى الثالث زجاجة المصباح، وعلى الرابع المصباح نفسه، وعلى الأخير علبة الكبريت، فعندما أشعلوا المصباح أصبح كل منهم مالكاً لمصباح كامل. فلو كان لواحد من أولئك المشتركين مرآة كبيرة معلقة بحائط، إذن لأصبح منعكساً في مرآته مصباح كل – ما في الغرفة – من دون تجزؤ أو نقص".(2)
يريد أن تعاون أولئك النفر على إضاءة مصباح واحد، قد جعل كل واحد منهم شريكاً للآخرين فيه. وصاحب ملك له، وتعاون هؤلاء يشبه تعاون الدعاة وإخلاصهم، فيقول النورسي في شرحه للمثل:
" وهكذا الأمر في الاشتراك في الأمور الأخروية بسر الإخلاص، والتساند بسر الأخوة، وضم المساعي بسر الاتحاد، إذ سيدخل مجموع أعمال المشتركين، وجميع النور النابع منها، سيدخل بتمامه في دفتر أعمال كل منهم وهذا أمر مشهود وواقع بين أهل الحقيقة، وهو من مقتضيات سعة رحمة اللّه سبحانه وكرمه".(3)
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 248
(2) اللمعات – النورسي ص 248
(3) اللمعات – النورسي ص 249(4/150)
والمراد أن تعاون المهتمين بالثواب الأخروي، وإخلاصهم العمل لوجه اللّه تعالى، ومساندة كل منهم للآخر، ومؤازرته له في عملهم، سوف يوضع يوم القيامة في ميزان حسناتهم، ولا ينقص أجره من أجور إخوانه شيئاً.
أما المثل الأخير فهو خاص بأصحاب الصناعة والحرفيين الذين هم بدورهم يستندون في عملهم على قاعدة أساسية وهي: المشاركة في الصنعة والمهارة، ونص المثل.
" قام عشرة من صناعي إبر الخياطة بعملهم، كل على انفراد، فكانت النتيجة ثلاث إبر فقط لكل منهم في اليوم الواحد، ثم اتفق هؤلاء الأشخاص حسب قاعدة – توحيد المساعي وتوزيع الأعمال – فأتى أحدهم بالحديد والآخر بالنار وقام الثالث بثقب الإبرة والآخر إدخالها النار. والآخر بدأ بحدها.
وهكذا، فلم يذهب وقت أحد سدى، حيث انصرف كل منهم إلى عمل معين وأنجزه بسرعة، لأنه عمل جزئي بسيط أولاً ولاكتسابه به الخبرة والمهارة فيه ثانياً، وحينما وزعوا حصيلة جهودهم رأوا أن نصيب كل منهم في يوم واحد ثلاثمائة إبرة بدلاً من ثلاث ابر، فذهبت هذه الحادثة أنشودة يترنم بها أهل الصناعة والحرف، الذين يدعون إلى توحيد المساعي وتوزيع الأعمال".(1)
فهؤلاء الصناع الحرفيون عندما خلا كل واحد بعمله، ولم يشرك معه أحداً كانت حصيلة عمله ضئيلة للغاية، ولكن عندما طبقوا على أنفسهم قاعدة توحيد المساعي وتوزيع الأعمال، والقائمة أصلاً على ضرورة مشاركة كل منهم للآخرين، مع اهتمام كل واحد منهم وتركيزه على ما هو متخصص فيه، كان ناتج العمل المشترك خرافياً لا يصدق.
وانطلاقاً من المثل السابق خاطب النورسي المشتغلين بهموم الدعوة قائلاً:
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 249(4/151)
" فيا إخواني ما دامت تحصل مثل هذه الفوائد العظيمة نتيجة الاتحاد والاتفاق في أمور دنيوية، وفي مواد كثيفة، فكم يكون يا ترى ثواب أعمال أخروية ونورانية، وكم يكون الثواب المنعكس من أعمال الجماعة كلها بالفضل الإلهي في مرآة كل فرد منها، تلك الأعمال التي لا تحتاج إلى تجزئة ولا انقسام، فلكم أن تقدروا ذلك الربح العظيم، فإن مثل هذا الربح العظيم لا يُفوّت بالحسد وعدم الإخلاص".(1)
فإذا كان تطبيق تلك القاعدة على أمور دنيوية زائلة بهذا القدر من الكثرة، فما حجم الجزاء على أعمال قصد بها رضى اللّه وأريد بها نوال ثوابه، وهو ليس كالأعمال الدنيوية التي يحتم إنجازها تقسيم العمل وتجزئته على ذوى الاختصاص. فلا مجال أبداً للمقارنة بين العملين، على الرغم من اتفاقهما في المنهج والغاية.
الابتلاء
يرى البعض في ابتلاء اللّه تعالى لمن لم يرتكب إثماً أو يقترف ذنباً، وفيما ينزله اللّه عليه من شدائد ومكروهات، ظلم وجور في حقهم، لا يليق بعدل اللّه ولا يتفق مع كماله، فصحح النورسي اعتقادهم ذلك بمثل خاطب به واحد منهم، قائلاً:
" ترى لو أن صنّاعاً ماهراً، جعلك نموذجاً مقابل أجرة، وألبسك ثوباً زاهياً خاطه بأفضل ما يكون، ثم بدأ يقصره ويطوله ويقصه، ثم يقعدك وينهضك ويثنيك، كل ذلك لكي يبين حذاقته ومهارته، فهل لك أن تقول له،
لقد شوهت جمال ثيابي الذي زادني جمالاً، وقد أرهقتني لكثرة ما تقول لي، اجلس انهض.
فلا ريب انك لا تقدر على هذا القول، بل لو قلته، فهو دليل الجنون ليس إلا" .(2)
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 250،249
(2) المكتوبات – النورسي ص54،53(4/152)
فالمثل يفترض في المخاطب ومن الناحية النظرية انه وُظف من قبل صانع متمكن من صناعته (خياط) للقيام ولفترة محدودة من الزمان بدور النموذج (مثال الشيء)، نظير مكافأة مالية مقدرة، ولما قبل العمل وهو عالم بطبيعته، بدأ الخياط في شغله، فطرح عليه ثوباً غطاه. تلاه بأعمال المقص فيه تطويلا وتقصيراً، هذا في الوقت الذي كان يطلب منه القيام تارة والجلوس تارة أخرى، والتحرك يميناً وشمالاً حسب متطلبات الثوب.
فهل من المقبول والجائز أن يشكو ذلك العامل من إفساد ثيابه وتجريدها من جمالها، أو التذمر بأنه حمّل من العمل مالا يطاق، ألا يدل ذلك على خبل وفساد في التفكير؟
إن ابتلاء اللّه تعالى لعباده واختباره لهم يشبه عمل ذلك الخياط، فيقول النورسي في شرحه له:
" على غرار هذا فإن الصانع الجليل قد ألبسك جسماً بديعاً مزيناً بالعين والأذن والأنف وغيرها من الأعضاء والحواس، ولأجل إظهار آثار أسمائه الحسنى المتنوعة يبتليك بأنواع البلايا، فيمرضك حيناً ويمتعك حيناً بالصحة أحياناً أخرى، ويجيعك مرة أخرى ويشبعك تارة ويظمئك أخرى، وهكذا لتتقوى ماهية الحياة، وتظهر جلوات أسمائه الحسنى.
فإن قلت، لماذا تبلينى بهذه المصائب؟ فإن مئة من الحكم الجليلة تسكتك، إذ من المعلوم أن السكون والهدوء والرتابة والعطالة نوع من العدم والضرر، وبعكسه الحركة والتبدل وجود وخير. فالحياة تتكمل بالحركة، وتترقى بالبلايا، وتنال حركات مختلفة بتجليات الأسماء وتتصفى وتتقوى وتنمو وتتسع حتى تكون متحركاً لكتابة مقدراتها، وتفي بوظائفها وتستحق الأجر الأخروي".(1)
والمعنى أن اللّه تعالى الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم يبتلى مخلوقه الفريد بالخير والشر، وبالمضار والمسار، لا بغرض الوقوف على ما يجهل منه، أو التعرف على حاله، وإنما لتحقيق أمرين متلازمين.
__________
(1) المكتوبات – النورسي ص54(4/153)
أولهما: شكر اللّه على نعمه والصبر على ابتلاءاته القدرية، وذلك لتشدَّ قواه على مواجهة تقلبات الحياة.
وثانيهما: ظهور أسماء اللّه تعالى عليه، مثل الرحمن والرحيم والشافي والرزاق والمعين وغيرها.
فإذا بادر مخلوقه تحت وطأة الآلام وثقل المصائب وتساءل ما المقصود من وراء كل هذه الإبتلاءات، فالرد المباشر عليه هو أن في الجمود والعدم شر، وفي الحركة والوجود خير، والحياة نفسها لا تبلغ كمالها المنشود إلا بهما معاً، وفي هذا وذاك خير كثير، أقله الحصول على المثوبة الأخروية، وأعلاه نوال القرب من اللّه تعالى لكونه مظهراً لأسمائه وصفاته.
شكوى المريض
بإمكان أي مريض وبمنتهى اليسر والسهولة تحويل معاناته ومكابدته للأوجاع إلى عبادة خالصة للّه تعالى، وذلك بدلاً عن الشكوى أو النظر إلى الأصحاء والمتعافين من الأمراض، النظر إلى من هو أشد منه مصيبة، وممن لا شفاء ولا علاج لأمراضهم، فيشكر اللّه قانعاً بما هو فيه، راضياً بقضاء اللّه وقدره.
أما المثال التوضيحي الذي رواه النورسي فنصه:
" شخص يأخذ بيد مسكين ليصعده إلى قمة منارة ويهدي إليه في كل درجة من درجات المنارة هدية، وأخيراً يختم تلك الهدايا بأعظم هدية يهبها له عند قمة المنارة، وإذا كان المفروض على هذا المسكين أن يقدم الشكر والامتنان إزاء الهدايا المتنوعة، تراه يتناسى كل تلك الهدايا التي أخذها على تلك الدرجات أو يعدها غير ذات بال. فلا يشكر، رافعاً ببصره إلى من هو أعلى منه شاكياً قائلاً:
لو كانت هذه المنارة أعلى مما هي عليه، لأبلغ أعلى درجة من هذه الدرجات، لمَ لم تصبح مثل ذلك الجبل الشاهق ارتفاعاً أو المنارة المجاورة".(1)
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 332(4/154)
ظل الرجل على فقره وشدة احتياجه، وطوال المراحل التي مر بها في طريقه إلى رأس المنارة يتسلم هدايا قيمة، وبلا مقابل، وعند وصوله إلى القمة أُهدي إليه أيضاً هدية أخرى أفضل وأعظم، ولكنه بدلاً من تقديم أسمى آيات الشكر والامتنان لذلك الواجب، نراه وبلا سبب معقول يتوجع ويشكو مر الشكوى من قلة طول المنارة وقصرها الذي وقف بها عند حد لا يتفق ورغباته.
فحال المريض الذي لا يكف عن التذمر والتنكر لنعم اللّه عليه يشبه حال ذلك المسكين. فيقول النورسي في شرحه له:
" وهكذا يأتي هذا الإنسان ويظهر الشكوى من عدم تمتعه بالصحة والعافية نتيجة بعض العوارض، أو لإضاعته النعم بسوء اختياره، أو من سوء الاستعمال، أو لعجزه عن الوصول إليها، ثم يقول:
يا ويلتا ماذا جنيت حتى حل بي ما حل.
ناطقاً بما يشي بانتقاد الربوبية الإلهية، فهذه الحالة هي مرض معنوي ومصيبة أكبر من المرض المادي والمصيبة التي هو فيها، فهو يزيد مرضه بالشكوى، كمن يتصارع ويده مرضوضة، لكن العاقل يتمثل قوله تعالى:
{ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للّه وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ } (1)
صابراً حتى ينتهي ذلك المرض من أداء وظيفته ويمضي إلى شأنه"(2) )
والمراد أن من يتذمر أو يتوجع، فكأنما يشكو اللّه لعباده، أو على أقل تقدير يظهر حكمه وقضاءه وقدره فيه كما لو كان أمر لا ينبغي ولا يجوز صدوره منه عز وجل، أو عيباً لا يليق بالذات الإلهية، وذلك التنكر والإنكار هو في حد ذاته مرض أجلّ وأخطر وأشد إيلاماً للنفس والبدن من المرض الذي أودى به إلى هذه الحالة من كفران للنعم، واتهام للّه تعالى في أحكامه.
الفصل السادس
السلوك
الحرص والقناعة
__________
(1) البقرة/ 156
(2) اللمعات – النورسي ص 332(4/155)
إن كل صفة وخصلة من صفات وخصال الإنسان المعلومة لها نهاية محتومة، ما عدا الحرص، لأنه عين الطلب أو هو غاية الطلب، وهو في زيادة مضطرة، ولا يظهر الحرص في أمر من أمور الإنسان الحياتية ظهوره في الرزق، ولا علاج له إلا في القناعة والرضا بالمقسوم.
أما تأثير الحرص السيء على الرزق فيظهر وكما يرى النورسي:
" بدءاً من أوسع دائرة في عالم الأحياء وانتهاء إلى أصغر فرد فيه. بينما السعي وراء الرزق المكلل بالتوكل مدار الراحة والاطمئنان ويبرز أثره النافع في كل مكان".(1)
ومثال ذلك
" إن النباتات والأشجار المثمرة المفتقرة إلى الرزق – وهي التي تعد نوعاً من الأحياء – تهرع إليها أرزاقُها سريعة وهي منتصبة في أماكنها متسمة بالتوكل والقناعة دون أن يبدو منها أثر للحرص. بل تتفوق على الحيوانات في تكاثرها وتربية ما تولد من ثمرات.
أما الحيوانات فلا تحصل على أرزاقها إلا بعد جهد جهيد ومشقة، وبكمية زهيدة ناقصة. وذلك لأنها تلهث وراءها بحرص، وتسعى في البحث عنها حثيثاً، حتى إننا نرى في عالم الحيوان نفسه أن الأرزاق تسبغ على الصغار الذين يعبرون عن توكلهم على اللّه بلسان حالات ضعفهم وعجزهم، فيُرسل إليهم رزقهم المشروع اللطيف الكامل من خزينة الرحمة الإلهية، بينما لا تحصل الحيوانات المفترسة التي تنقض على فرائسها بحرص شديد إلاّ بعد لأي كبير وتحر عظيم.
ونرى الحال في عالم الإنسان، إذ اليهود الذين هم أحرص الناس على حياة، ويستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، بل يعشقونها حب العاشق الولهان حتى سبقوا الأمم في هذا المجال، قد ضربت عليهم الذلة والمهانة، وألحقت بهم حملات القتل بيد الأمم الأخرى، كل ذلك مقابل حصولهم بعد عناء طويل على ثروة ربوية محرمة خبيثة، لا ينفقون منها إلا النزر اليسير، وكأن وظيفتهم كنزها وادخارها فحسب".(2)
__________
(1) المكتوبات – النورسي ص 351
(2) المكتوبات – النورسي ص 352،351(4/156)
إن السهولة والسرعة التي ترزق بها النباتات وهي ثابتة ومستقرة في أماكن وجودها، كامنة من أنها قد عبرت بعجزها المطلق عن الحركة، عن استسلامها ورضاها بواقعها الحياتي، ويشارك النباتات في تلك السهولة والسرعة صغار الحيوانات الضعيفة، أما كبار الحيوانات والمفترسة منها، فلا ترزق إلا بعد جهد ومشقة، وبكميات لا تفي باحتياجاتها الغذائية، وذلك راجع إلى شدة حرصها، وقوة جشعها، وعدم رضاها بالقليل.
ومن عجز النباتات، وعدم قناعة الحيوانات الكبيرة خلص النورسي للقاعدة التالية:
" إن الحرص سبب الحرمان، أما التوكل والقناعة فهما وسيلتا الرحمة والإحسان".(1)
يعني أن ما في الحرص من إفراط في شدة الكدح، والإسراف في الطلب، يقود مباشرة إلى عدم الحصول على الرزق بسهولة، وعكسه تماماً الاستسلام والرضا بما قسم اللّه، فهو مفتاح كل خير وبركة في الرزق.
أما طمع اليهود وشدة حرصهم على الحياة والمال، فقد صار مضرب الأمثال، حتى أورثهم الفقر والذل والمسكنة والنهم الزائد عن الحد والتحقير من قبل الناس. وغيرها من الخصال والصفات المميتة للنفس الكريمة.
ومن حالة اليهود خلص النورسي أيضاً إلى القاعدة التالية:
" إن الحرص معدن الذلة والخسارة في عالم الإنسانية".(2)
ومفاد القاعدة إن الحرص أصل تدور عليه كل الصفات المرذولة في الإنسان، وكل ما يصادفه في حياته من احتقار وامتهان فمرده إليه. ودافع قوي لإهدار كرامته وعزة نفسه.
وشبه النورسي حال الحريص والقانع بقوله:
"ويمكن أن نشبه القانعين من الناس والحريصين منهم بشخصين يدخلان مضيفاً كبيراً أعده شخص عظيم ذو شأن، يتمنى أحدهما في أعماقه قائلاً:
لو أن صاحب الديوان يأويني مجرد إيواء، وأنجو من شدة البرد الذي في الخارج لكفاني، وحسبي ذلك، ولو سمح لي بأي مقعد متيسر في أدنى موقع فهو فضل وكرم.
__________
(1) المكتوبات – النورسي ص 352
(2) المكتوبات – النورسي ص 352(4/157)
أما الآخر فيتصرف كأن له حقاً على الآخرين، وكأنهم مضطرون أن يقدموا له الاحترام والتوقير، لذا يقول في أعماقه بغرور:
على صاحب الديوان أن يوفر لي أرفع مقعد وأحسنه.
وهكذا يدخل الديوان وهو يحمل هذا الحرص، ويرمق المواقع الرفيعة في المجلس، إلا أن صاحب الديوان يرده ويرجعه إلى أدنى موقع في المجلس، وهو بدوره يمتعض ويستاء، ويمتلئ غيظاً على صاحب الديوان.
ففي الوقت الذي كان عليه أن يقدم الشكر الذي يستوجبه، قام بخلاف ما يجب عليه، وأخذ بانتقاد صاحب الديوان، فاستثقله صاحب الديوان. بينما رحب بالشخص الأول الذي دخل الديوان وهو يشع تواضعاً، يلتمس الجلوس في أدنى مقعد متوفر، إذ سرّته هذه القناعة البادية منه التي بعثت في نفسه الانشراح والاستحسان، وأخذ يرقيه إلى أعلى مقام وأرقاه. وهو بدوره يستزيد من شكره ورضاه كلما صعدت به المراتب".(1)
فحال القانع يشبه حال من يدخل مأوى، وهو لا يريد من صاحبه سوى القليل الذي يرد عنه أذى البرد، ولو كان في أضيق مكان وأبعده عن المنزل.
أما الآخر فيدفعه حرصه وشدة رغبته في الأفضل والأحسن على طلب أعلى المواضع المعدة خصيصاً للخاصة من الزوار، مما يتسبب في إحلاله وعلى غير هواه في أحقر المواضع
إن القناعة والتواضع البادية في حركات وأفعال ذلك الشخص هي التي أثارت إعجاب صاحب المأوى، وأدخلت السرور والفرح في نفسه، فأحله على غير رغبة منه في أعلى موضع وأحسنه، أما الحرص والتكبر والتعالي فهو الذي مر عليه غضب وغيظ صاحب المأوى، فوضعه في أخس موضع من المضيف.
وعلى أي حال فإن الأثر السيء للحرص، وعواقبه الوخيمة ملحوظة من كل جانب من جوانب السلوك البشري، ومن أمثلتها التي رواها النورسي قائلاً:
" يمكن أن يشعر كل شخص استياء واستثقالاً في قلبه تجاه متسول يلح بحرص شديد، حتى انه يرده، بينما يشعر إشفاقاً وعطفاً تجاه متسول أخر وقف صامتاً قنوعاً، فيتصدق عليه ما وسعه.
__________
(1) المكتوبات – النورسي ص 353،352(4/158)
ومثلاً، إذا أردت أن تغفو في ليلة أصبتَ فيها بالأرق. فإنك تهجع رويداً رويداً إن أهملته ولم تبال به، ولكن إن حرصت على النوم وقلقت عليه وبدأت تتمتم: ترى متى أنام، أين النوم مني، لتبدد النوم ولفقدته كلياً.
ومثلاً: تنتظر أحدهم بفارغ الصبر، وأنت حريص على لقائه لأمر مهم فتشعر بالقلق قائلاً: لم لم يأت، ما باله تأخر، وفي النهاية يزيح الحرص الصبر من عندك، ويضطرك إلى مغادرة مكان الانتظار يائساً، وإذا بالشخص المنتظر يحضر بعد هنيهة، ولكن النتيجة المرجوة قد ضاعت وتلاشت".(1)
أما السر الكامن خلف تلك الأمثال، والحكمة المتوارية في معانيها فيبينه النورسي قائلاً:
" مثلما يترتب وجود الخبز على أعمال تتم في المزرعة والبيدر والطاحونة والفرن. فإن ترتب الأشياء كذلك يقترن بحكمه التأنّي والتدرج، ولكن الحريص بسبب حرصه لا يتأنّى في حركاته ولا يراعي الدرجات والمراتب المعنوية الموجودة في ترتب الأشياء، فإما أن يقفز ويطفر فيسقط، أو يدع إحدى المراتب ناقصة فلا يرتقي لغايته المقصودة".(2)
إن توزيع الأرزاق – وكما يفهم من العبارة السابقة – يتم وفقاً لتقدير اللّه، وطبقاً لحكمة تراعي ما يصلح عنده الناس ولا يفسدون، وبميزان دقيق يحقق العدل في العطاء، والحريص لا يضع في اعتباره كل هذه المعاني، ولا يرزق مع شدة سعيه وكدحه إلا ما هو مقدر ومقسوم له.
عداء المؤمن لأخيه
إن ما يضمره المؤمن في قلبه من حقد وغضب لأخيه المؤمن هو في الحقيقة ظلم فادح لا يحتمل. ومثل النورسي لهذا العداء الذي قد يصرفه حتى عن نفسه، فقال مخاطباً له:
__________
(1) المكتوبات – النورسي ص 353
(2) المكتوبات – النورسي ص 353(4/159)
" هب أنك في سفينة أو في دار ومعك تسعة أشخاص أبرياء ومجرم واحد، ورأيت من يحاول إغراق السفينة، أو هدم الدار عليكم فلا مراء – في هذه الحالة – ستصرخ بأعلى صوتك محتجاً على ما يرتكبه من ظلم قبيح، إذ ليس هناك قانون يسوغ إغراق سفينة برمتها تضم مجرمين طالما فيها برئ واحد".(1)
فلا شك أن في محاولة إغراق سفينة، أو تدمير بيت، لمعاقبة مجرم واحد، أو الانتقام منه، جريمة وجور لا يقبله عقل ولا تقره شريعة، فوق كونه استهتاراً بالغاً بقيمة الحياة الإنسانية، ومنه خلص النورسي للقول:
" فكما أن هذا ظلم شنيع وغدر فاضح، كذلك انطواؤك على عداء وحقد مع المؤمن الذي هو بناء رباني وسفينة إلهية لمجرد صفة مجرمة فيه، تستاء منها أو تتضرر بها. مع أنه يتحلى بتسع صفات بريئة، بل بعشرين منها كالإيمان والإسلام والجوار الخ، فهذا العداء والحقد يسوقك حتماً إلى الرغبة ضمناً في إغراق سفينة وجوده، أو حرق كيانه، وما هذا إلا ظلم شنيع وغدر فاضح".(2)
فلا يعقل إذن أن يحمل المؤمن لأخيه عداوة وغضب لوجود عيب أو نقص في مسلكه، قد يجره إلى إيذائه وإهلاكه، متجاهلاً وجود حسنات كثيرة فيه، فيكون حاله في الظلم وعدم الوفاء بحقوق أخوة الإيمان كَمَنْ يحاول إغراق السفينة، وتقويض البيت من أركانه لوجود مجرم فيه، دون مراعاة لقيمة الحياة الإنسانية في حد ذاتها.
الصلح
يعتقد النورسي أنه لا حل لمعظم الخلافات والخصومات الناشبة بين الأهل والأقارب والمعارف إلا بالصلح والمصالحة بين الطرفين المتعادين، وهو سلم أمر به القرآن، ودعا إليه الحق، وفيه مصلحة للطرفين، وتقتضيه الإنسانية، ويحث عليه الرسول عليه السلام.
وأوضح النورسي تلك الضرورة الملحة للسلم والمسالمة من خلال المثال التالي:
__________
(1) المكتوبات – النورسي ص 340
(2) المكتوبات – النورسي ص 340(4/160)
" إن أحداً قد قتل شقيق شخص آخر أو أحد أقربائه، فهذا القتل الناجم من لذة غرور الانتقام التي لا تستغرق دقيقة واحدة تورثه مقاساة ملايين الدقائق من ضيق القلب وآلام السجن، وفي الوقت نفسه يظل أقرباء المقتول في قلق دائم وتحيّن الفرص لأخذ الثأر، كلما فكروا بالقاتل ورأوا ذويه، فتضيع منهم لذة العمر ومتعة الحياة، بما يكابدون من عذاب الخوف والقلق والحقد والغضب".(1)
إن الفعل الذي تأثر به في واقع الأمر شخص واحد هو المقتول، تتسع دائرة تأثيره لشناعته، فيتأذى منه أهل القاتل والقتيل على السواء، ولا راحة ولا اطمئنان ولا سلام ولا سكينة، إلا في الصلح الذي تدعو إليه الحقيقة، وتحث عليه مصلحة الجميع، فيقول النورسي في بيانه الأمرين معاً:
" لأن الأجل واحد لا يتغير، فذلك المقتول على كل حال ما كان سيظل على قيد الحياة ما دام أجله قد جاء، أما ذلك القاتل فقد أصبح وسيلة لذلك القضاء الإلهي، فإن لم يحل بينهما الصلح، فسيظلان يعانيان الخوف وعذاب الانتقام مدة مديدة، فإن لم يكن ذلك القتل قد نجم من عداء أصيل ومن حق دفين، وكان أحد المنافقين سبباً في إشعال الفتنة، فيلزم الصلح فوراً، لأنه لولا الصلح لعظمت تلك المصيبة الجزئية ودامت، بينما إذا تصالح الطرفان، وتاب القاتل عن ذنبه، واستمر على الدعاء للمقتول، فإن الطرفين يكسبان الكثير، حيث يدب الحب والتآلف بينهما، فيصفح هذا عن عدوه، ويعفو عنه واجداً أمامه أخوة أتقياء أبراراً بدلاً من شقيق واحد راحل، ويستسلمان معاً لقضاء اللّه وقدره".(2)
فالنورسي يرى أن ضرورة الصلح نابعة من حقيقة إيمانية كبرى وهي أن من قتل إنما قتل بأجله، والتسليم بها كاف لأن يستل من قلوب الجميع كل عداء قد يتولد بينهم. بل قد ينقلبوا أحبة وأخوة يسود بينهم السلام والوئام، بدلاً عن الحقد والكراهية.
أخلاق النورسي
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 169
(2) الكلمات – النورسي ص 170،169(4/161)
لاحظ العديد ممن يتولون خدمة النورسي سواء في أماكن إقامته الجبرية أو أثناء فترات سجنه الطويلة، سلوكه اللافت للنظر في أخلاقياته. وفي مسلكه تجاههم، فوجه إليهم مكتوباً خاصاً لإزالة حيرتهم وللكشف عن الغموض في شخصيته، وأيضاً للتعديل من حسن الظن المفرط الذي يحمله له البعض منهم، جاء فيه.
" إن الإنسان قد يحمل شخصيات عدة، وتلك الشخصيات ذات أخلاق متمايزة متباينة، فمثلاً:
إن الموظف الكبير له شخصية خاصة به أثناء اشغاله مهمته من موقعه الرفيع ومقام وظيفته، هذا المقام يتطلب وقاراً وأطواراً ليصون كرامة موقعه وعزة مقام المسؤولية، فإظهار التواضع لكل زائر فيه تذلل وتهوين من شأن المقام.
ولكن هذا الشخص نفسه يملك شخصية أخرى خاصة به في بيته وبين أهله، وذلك يتطلب منه أخلاقاً مباينة لما في الوظيفة، بحيث كلما تواضع أكثر كان أفضل وأجمل، في الوقت الذي إذا أبدى شيئاً من الوقار يعد ذلك تكبراً منه.
أي أن هناك شخصية خاصة بالإنسان باعتبار وظيفته، هذه الشخصية تخالف شخصيته الحقيقية في نقاط كثيرة، فإن كان ذلك الموظف أهلاً لوظيفته وكفؤاً لها، ويملك استعداداً كاملاً لإدارة عمله، فإن كلتا الشخصيتين متقاربتان بعضهما من بعض، بينما لو لم يكن أهلاً لوظيفته وفقيراً في قابلياته كأن يكون جندياً نصب في مقام مشير، فالشخصيتان تتباعدان بعضهما عن بعض، إذ صفات الجندي الاعتيادية وأحاسيسه البسيطة لا تنسجم مع ما يقتضيه مقام المشير من أخلاق رفيعة".(1)
والمراد أن شخصية المرء تتبدل وتختلف تبعاً للدور المنوط به أداءه في المجتمع، إذ كل دور أو وظيفة تتطلب مسلكاً معيناً وأخلاقاً خاصة، بها ينسجم مع محيطه الاجتماعي، ويستطيع من خلالها القيام بدوره كاملاً.
__________
(1) المكتوبات – النورسي ص 411،410(4/162)
فإذا كان موظفاً وتبوأ مركزاً قيادياً في الدولة، فعندها يظهر بشخصية يغلب عليها الرزانة والحلم، مع حزم وصراحة وصلابة في الرأي، وإظهار نقيض هذه ، يضعف من هيبة وظيفته، ويقلل من شأنه هو في عين أقرانه وفي أعين من هم دونه في المرتبة والوظيفة.
أما في محيط الأسرة فيظهر بشخصية يغلب عليها التواضع والبساطة، ويسودها الشفقة والرحمة والتودد، فإذا ظهر بنقيضها، نفر منه أقرب الناس إليه، وابتعدوا عنه كراهية لتعاليه وتجبره عليهم، ويغدو وجوده بينهم لا يحتمل.
على أن المحك الأساس في سلامة الشخصية متعددة الجوانب هو خلوها من التعقيد، وبعدها عن التكلف، وسهولة التعامل معها، وبذلك يمكنه أداء مختلف الوظائف بسهولة ويسر. تثبت فعلاً مقدرته على العمل، وصلاحيته له، وتهيؤه واستعداده التام للقيام به.
وبناء على ذلك كشف النورسي لمريديه عن شخصياته المتعددة قائلاً:
" وهكذا فإن في أخيكم هذا الفقير ثلاث شخصيات، كل منها بعيدة عن الأخرى كل البعد، بل بعداً شاسعاً جداً.
الأولى: شخصية مؤقتة لخدمة القرآن وحده، بكوني دلالاً لخزينة القرآن الحكيم السامية، فما تقتضيه وظيفة الدعوة إلى القرآن والدلالة عليه من أخلاق رفيعة سامية ليست لي، ولا أنا أملكها، وإنما هي سجايا رفيعة يقتضيها ذلك المقام الرفيع، وتلك الوظيفة الجليلة. فكل ما ترونه من أخلاق وفضائل من هذا النوع فهي ليست لي، وإنما هي خاصة بذلك المقام. فلا تنظروا إلىّ من خلالها.(4/163)
والثانية، حينما أتوجه إلى بابه وأتضرع إليه. ينعم عليّ سبحانه بشخصية خاصة في أوقات العبادة، بحيث إن تلك الشخصية تولد أثاراً ناشئة من أساس معنى العبودية، وذلك الأساس هو معرفة الإنسان تقصيره أمام اللّه، وإدراك فقره نحوه، وعجزه أمامه، والالتجاء إليه بذل وخشوع، فأرى نفسي بتلك الشخصية أشقى وأعجز وأفقر وأكثر تقصيراً أمام اللّه من أي أحد كان من الناس. فلو اجتمعت الدنيا في مدحي والثناء عليّ لا تستطيع أن تقنعني بأنني صالح وفاضل.
والثالث: هي شخصيتي الحقيقية، أي شخصيتي الممسوخة من سعيد القديم، وهي عروق ظلت في ميراث سعيد القديم، فتبدو فيّ أحياناً رغبة في الرياء وحب الجاه، وتبدو فيّ أخلاق وضيعة مع خسة في الاقتصاد، حيث إنني لست سليل عائلة ذات حسب".(1)
فالنورسي إذن يظهر لمحبيه بثلاث شخصيات، وذلك من خلال ثلاثة مواقف:
أولها: كونه خادماً للقرآن ومفسراً له، وذلك يتطلب منه بالضرورة إظهار أخلاق القرآن الرفيعة وصفاته السامية.
وثانيها: قيامه بعبادة اللّه واستغراقه في ذكره، فيهب اللّه له وقت العبادة والذكر شخصية يظهر فيها ذلك العبد العاجز المسكين، المقصر في حقوق نفسه وحقوق ربه، وهي الشخصية التي لا يرى في نفسه فضلاً ولا صلاحاً.
وثالثها: وهي شخصيته الجديدة المنتقلة إليه من شخصية سعيد القديم، ولأجل ذلك فهي ليست ثابتة في أخلاقها، بل متقلبة، فتارة تتقرب من الدنيا، وتارة تبتعد عنها فتظهر شخصية سعيد الجديد خادم القرآن والعامل لأخراه.
التعارف والتعاون
يرى النورسي أن الآية الكريمة:
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا } (2)
وضعت قاعدة جليلة للتعارف والتعاون بين المسلمين، وشبَّه ذلك بتعارف الجند وتعاونهم في الجيش الواحد، فقال:
__________
(1) المكتوبات – النورسي ص 411
(2) الحجر/ 23(4/164)
" يقسم الجيش إلى فيالق وإلى فرق وإلى ألوية وإلى أفواج وإلى سرايا وإلى فصائل وإلى حظائر، وذلك ليعرف كل جندي واجباته حسب تلك العلاقات المختلفة المتعددة، وليؤدي أفراد ذلك الجيش تحت دستور التعاون وظيفة حقيقية عامة لتعاون حياتهم الاجتماعية من هجوم الأعداء، وإلاّ فليس هذا التقسيم والتمييز إلى تلك الأصناف لجعل المنافسة بين فوجين، أو إثارة الخصام بين سريتين، أو وضع التضاد بين فرقتين".(1)
إن الهدف الجوهري من تقسيم الجيش ذلك التقسيم المتناهي في دقته في الرتب والمناصب والوحدات المقاتلة، هو تحقيق أعلى درجات الانضباط بين الجنود، وذلك من خلال معرفة كل جندي بما يجب أداؤه وعمله، وليتعاون الجميع فيما بينهم تعاوناً قوياً، حفاظاً على حياتهم، وتنفيذاً للمهام الملقاة على عواتقهم بكل حزم وشدة، ولا يراد بطبيعة الحال من تلك القسمة ولا ذلك النظام خلق أي شكل من أشكال الشقاق والمنازعات بين الجند أو وحداتهم يؤدي إلى الفوضى وتفكيك الجيش.
والمثل في صورته تلك ينطبق تمام الانطباق على المجتمع المسلم يقول عنه النورسي:
" وكذلك الأمر في المجتمع الإسلامي الشبيه بالجيش العظيم، فقد قسّم إلى قبائل وطوائف، مع أن لهم ألف جهة وجهة من جهات الوحدة، إذ خالقهم واحد، ورازقهم واحد، ورسولهم واحد، وقبلتهم واحدة، وكتابهم واحد، ووطنهم واحد، وهكذا واحد واحد، إلى الألوف من جهات الوحدة التي تقتضي الأخوة والمحبة والوحدة، بمعنى أن الانقسام إلى طوائف وقبائل – وكما تعلنه الآية – ما هو إلا للتعارف والتعاون لا للتناكر والتخاصم".(2)
__________
(1) المكتوبات – النورسي ص 413
(2) المكتوبات – النورسي ص 414،413(4/165)
فعلى الرغم من أن المجتمع المسلم يشكل أمة واحدة متحدة في كل شيء، إلا أن سنة الحياة اقتضت تقسيمها إلى كيانات اجتماعية متفرقة، وجماعات كثيرة مستقلة بنفسها، وذلك بقصد معرفة كل منهم للآخر، لتتقوى بينهم أخوة الإيمان، ووحدة الإسلام، ولإشاعة روح التعاون فيما بينهم. ولتشتد به عرى المحبة، وذلك لأن في جهلهم لبعضهم البعض، وفي عدم تعاونهم، يسود التخاصم والعداء.
كفران النعمة
إذا أنعم اللّه تعالى على عبده بنعمة، وأبدى إزاءها من ضروب التواضع حد الإنكار وعدم الاعتراف، فقد جحدها وكفر بها، كما أن التحدث بها متفاخراً ومتباهياً أمام الناس، هو أيضاً في حكم الجحود والكفران، وكلاهما فيه من الضرر والأذى الشيء الكثير، ولا سبيل إلى الخلاص منهما، إلا باتباع نصيحة النورسي التي جاء فيها،
" الإقرار بالمزايا والفضائل دون ادعاء تملكها، أي إظهارها أنها آثار إنعام المنعم الحقيقي جل وعلا".(1)
أي الاعتراف بالنعمة وإثبات كونها فضلاً وإحساناً من عند اللّه، ولكن دون نسبتها لنفسه على جهة الملك والملكية، ثم مثل لها بقوله:
" إذا ألبسك أحدهم بدلة فاخرة جميلة، وأصبحت بها جميلاً وأنيقاً، فقال لك الناس، ما أجملك، لقد أصبحت رائعاً بها، وأجبتهم متواضعاً: كلا من أنا، أنا لست شيئاً، أين الجمال من هذه البدلة، فإن جوابك هذا كفران بالنعمة بلا شك، وسوء أدب تجاه الصانع الماهر الذي ألبسك البدلة، وكذلك إن قلت لهم مفتخراً: نعم أنني جميل فعلاً، فأين مثلي في الجمال والأناقة، فعندها يكون جوابك فخراً وغروراً".(2)
ومن المثل يتبين أَنَّ خطأَ من يتواضع إلى من أحسن إليه إلى حد الإنكار الصريح وعدم الاعتراف بالجميل، لا يختلف عن خطأ من يتباهى بما أحسن إليه إلى حد التبجح الفارغ والمخرج الوحيد من هذين الضارين هو الذي ارتأه النورسي في قوله:
__________
(1) المكتوبات – النورسي ص 477
(2) المكتوبات – النورسي ص 477(4/166)
" الاستقامة بين كفران النعمة والافتخار هو القول:
" نعم أنني أصبحت جميلاً حقاً، ولكن الجمال لا يعود لي، وإنما إلى البدلة، بل الفضل يخص الذي ألبسنيها".(1)
يعني أن الخلاص والصلاح في الاعتدال والاستواء والتوسط بين الموقفين المتعارفين، الجحود والتبجح، فيقرّ معترفاً بالنعمة والإحسان إليه، على ألاّ يدعي لنفسه حظاً فيها، وألاّ ينسب شيئاً ليس له، بل للواهب المعطى.
حب الجاه
يميل كل إنسان بطبعه إلى احتلال منزلة عالية ورفيعة المستوى، بين أقرانه وفي أعين الناس، وربما انساق بدافع الحرص على الشهرة وذيوع الصيت إلى إصدار كثير من المعاني الخيرة في نفسه، هذا إذا لم تدفعه دفعاً للوقوع في المهالك.
والصورة التالية هي خير مثال لما يفعله حب الجاه في النفوس، قال فيه النورسي:
" هب أن جامع آيا صوفيا، مكتظ بأهل الفضل والكمال من الطيبين الموقرين، وكان في الباب أو في الأروقة صبيان وقحون وسفهاء سفلة، وكان على الشبابيك سياح أجانب مغرمون باللّهو واللعب.
فإذا دخل أحد الجامع وأنضم إلى تلك الجماعة الفاضلة، وتلا آيات من الذكر الحكيم، فعندئذ تتوجه أنظار ألوف من أهل العلم والفضل إليه ويكسبونه ثواباً عظيماً بدعائهم له ورضاهم عنه، إلاّ أن هذا لا يروق لأولئك الصبيان الوقحين والملحدين السفهاء والأجانب المعدودين.
ولكن لو دخل الرجل الجامع والجماعة الفاضلة وبدأ بالغناء الماجن، وشرع بالرقص والصخب، فسيكون موضع إعجاب وسرور أولئك الصبيان السفهاء. ويلاطف عمله أولئك الغواة، ويجلب له ابتسامات ساخرة من الأجانب الذين يسرون برؤية نقائص المسلمين، بينما تنظر إليه تلك الجماعة الغفيرة الفاضلة في الجامع نظرة تحقير وإهانة، ويرونه في أدنى الدركات، وفي اسفل سافلين".(2)
__________
(1) المكتوبات – النورسي ص 477
(2) المكتوبات – النورسي ص 533(4/167)
فالجامع يضم ثلاثة أصناف من الناس، أولهما أهل الخير والصلاح، وهم يحتلون صحنه، ويقف على بابه الصنف الثاني من الشباب الموصوفين بقلة الحياء وسوء الأدب والغوغائية، وعلى النوافذ يجلس الصنف الثالث وهم الأغراب الذين قدموا حباً للعبث وترويحاً عن النفس.
فلو فرض أن دخل رجل واتجه مباشرة للجماعة الخيرة، واشترك معهم فيما يفعلونه، فلا شك أن اجتماعهم به سيكسبه أجراً عظيماً، ولكن عمله هذا لا يعجب الشباب، ولا الأجانب الأغيار.
ولو فرض أيضاً أن الرجل نفسه دخل المسجد، وبدأ يغنى غناءاً فاضحاً، ثم اتبعه بالرقص الخليع والصياح المجنون، فإن عمله بلا شك سيسر له أولئك الشباب العابثون، ويكون مدعاة للاستهزاء من الأجانب الأغيار، في حين يستصغره أهل الخير ويستخفون به.
وفسر النورسي المثل بقوله:
" وعلى غرار هذا: فإن العالم الإسلامي، وقارة آسيا جامع عظيم ومن فيه من المؤمنين وأهل الحقيقة هم الجماعة الفاضلة في ذلك الجامع، وأولئك الصبيان الوقحون هم أولئك المتزلفون ذوو العقول الصبيانية، وأما أولئك المفسدون والسفهاء فهم الملحدون المتفرنجون الذين لا يعرفون ديناً ولا ملة، أما الأجانب المتفرجون، فهم الصحفيون الذين ينشرون أفكار الأجانب.
فكل المسلمين لاسيما من ذوي الفضل والكمال، لهم موقع في هذا الجامع المهيب، كل حسب درجته، وتلفت إليه الأنظار حسب موقعه، فإن صدرت منه أعمال وتصرفات تنم عن الإخلاص – الذي هو أساس الإسلام – وابتغاء رضى اللّه، على وفق ما أمر به القرآن العظيم من أحكام وحقائق، ونطق لسان حاله بالآيات القرآنية معنىً عندئذ يدخل ضمن الدعاء الذي يدعوه كل فرد من أفراد العالم الإسلامي وهو:
- اللّهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات.
ويكسب حظاً منه، ويكون ذا علاقة قوية مع جميع المؤمنين، ولكن لا يبدو موقعه في نظر بعض أهل الضلالة ممن هم كالحيوانات المضرة، ولا تظهر مكانته لدى الحمقى الذين هم كالصبيان الملتحين.(4/168)
ولو أدار ذلك الرجل ظهره عن مجد أجداده ولم يعدهم رمز شرفه، وتناسى تاريخه الذي يعتبره مدار فخره، وترك الجادة النورانية، جادة السلف الصالح الذي يعده مستند روحه، وباشر أعمال وتصرفات ملوثة بالهوى والرياء نيلاً للشهرة وارتكاباً للبدع، فإنه يتردى معنى في نظر أهل الحقيقة والإيمان إلى الدرك الأسفل، إذ المؤمن مهما كان جاهلاً ومن عوام الناس، فإن قلبه يشعر وإن لم يدرك عقلُه، فينفر ويستثقل أعمال أمثال هذا الرجل من المعجبين بأنفسهم.
وهكذا يسقط الأناني المفتون بحب الجاه واللاهث وراء الشهرة (الرجل الثاني)، ويتردى إلى أسفل سافلين في نظر جماعة غفيرة غير محدودة، ويكسب موقعاً مشئوماً مؤقتاً لدى عدد من السفهاء السافرين الطائشين، إذ لا يجد حوله غير أصدقاء مزيفين مضرين له في الدنيا، وسبب عذاب في البرزخ وأعداء في الآخرة.
أما الرجل في الصورة الأولى، فإن لم يُزل حب الجاه من قلبه، يكسب نوعاً من مقام معنوي مشروع يشبع إشباعاً تاماً عرق حب الجاه المغروز فيه، ولكن يشترط اتخاذ الإخلاص ورضا اللّه أساساً له، مع عدم اتخاذ حب الجاه هدفاً له".(1)
ومفاد التفسير أن الجامع الكبير هو مجتمع المسلمين المكون من خيار أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم، ومن بينهم من خرج عن الملة واتبع الغرب في عاداته وتقاليده وثقافته، فمنهم كفر بالإسلام وارتد عنه، ومنهم مَنْ تشبه بهم في الظاهر محتفظاً بثقافة الإسلام وعاداته، أما الأجانب الأغيار فهم من تبنى فكر الغرب، ويعمل على إشاعته بين المسلمين.
ومن يعمل من أبناء المسلمين على إعلاء كلمة اللّه ونشر الإسلام والدعوة إليه، مخلصاً إخلاصاً لا تشوبه شائبة من الرياء، فسوف ترتفع منزلته وتسمو مكانته في الأمة، ويحظى برضا خيارها وأفاضلها، فيدعون له بالتوفيق في كل وقت وحين، بينما يظل مجهولاً من المنحرفين من أبناء الأمة، ولا يلتفت إليه الأغيار.
__________
(1) المكتوبات – النورسي ص 535،534(4/169)
أما إذا أعرض عن ثقافة الأمة وتراثها، وانسلخ عن ماضيها وحاضرها، وأقدم على أعمال بعيدة عن المنهج القويم، قاصداً بذلك الشهرة والجاه العريض، ونيل الحظوظ لدى الأغيار، فإنه حتماً يسقط في أعين المسلمين خواصهم وعوامهم، فيترفعون عن أعماله، ويحتقرون مسلكه الدال على خيانة الأمة وتاريخها.
بيد أنه يتبوأ منزلة رفيعة عند الأغيار، وينال إعجابهم وتقديرهم له ولأعماله، ومن خواصهم على وجه التحديد، ولكن لفترة قصيرة، وبين أناس فاسدين يظهرون أمامه بغير حقيقتهم تملقاً له واحتقاراً لخيانته، وبذلك يخسر دنياه وأخراه.
وكما يرى النورسي فلا مشاحة في أن يعمل المسلم للإسلام والقرآن عملاً لا يخالطه حب الجاه والشهرة والصيت، وكل ما يشبع حبه الجبلي، ويرضى نفسه الميالة لأفراح الدنيا، شريطة اخلاص النية للّه، ولا يكون هدفه وغايته حب الجاه والشهرة.
الخوف
يترجح الخوف كانفعال وشعور نفسي بين أمرين:
إما توقع وانتظار حدوث مكروه للنفس.
أو ضياع أشياء محبوبة وأثيرة عندها.
فهو في كلتا الحالتين تصور لشر وشيك الوقوع، وليس هذا أو ذاك مما يعاب أو يذم عليه، لأن الخوف شعور عميق في النفس البشرية، وعامل فطري في المحافظة على الحياة، ولكنه قد يتحول في بعض الأحيان إلى ظاهرة مرضية أشبه بالقلق تطفح أعراضه في ردود فعل عنيفة ومتباينة، قد تجر صاحبه إلى مواقف مهلكة ومدمرة لكيانه النفسي والبدني.
ونبه النورسي إلى نوعين من هذه المهالك قائلاً:
" شخص حيّال يُظهر لأحدهم ما يخافه – وهو على سطح دار – فيثير أوهامه ويدفعه تدريجياً إلى الوراء حتى يقربه من الحافة فيرديه على عقبه فيهلك.
كذلك يثير أهل الضلالة عرق الخوف لدى الناس فيدفعونهم إلى التخلي عن أمور جسام من جَرَّاء مخاوف تافهة لا قيمة لها، حتى يدخل بعضهم في فم الثعبان لئلا تلسعه بعوضة".(1)
__________
(1) المكتوبات – النورسي ص 535(4/170)
أما المثل الذي ساقه محذراً فيه من مغبة ذلك الخوف المرضي فرواه من واقع تجربة شخصية مرت به، حيث قال:
" جئت ذات مساء إلى جسر استانبول وبصحبتي عالم جليل (رحمه اللّه)، يتهيب ركوب الزورق، ولكننا لم نجد وساطة نقل سوى الزورق، ونحن مضطرون إلى الذهاب إلى جامع أبي أيوب الأنصاري، فألمحت عليه، إذ لا حيلة لنا إلا ركوبه، فقال:
أخاف، ربما نغرق.
قلت له:
كم يقدر عدد الزوارق في هذا الخليج.
قال:
ربما ألف زورق.
قلت:
كم زورقاً يغرق في السنة؟
قال:
زورق أو زورقان، وقد لا يغرق في بعض سنين.
قلت:
كم يوماً في السنة؟
قال:
ثلاثمائة وستون يوماً.
قلت:
إن احتمال الغرق الذي استحوذ على ذهنك، وأثار فيك الخوف هو احتمال واحد من بين ثلاثمائة وستين ألف احتمال، فالذي يخاف من هذا الاحتمال لا يعد إنساناً ولا حيواناً.
ثم قلت له:
ترى كم تقدر أن تعيش بعد الآن؟
قال:
أنا شيخ كبير ربما أعيش عشر سنوات أخرى.
قلت:
إن احتمال الموت واقع في كل يوم، حيث إن الأجل مخفي عنا، لذا فهناك احتمال الموت في كل يوم، أي لك ثلاثة آلاف وستمائة احتمال للموت، فليس أمامك إذن احتمال واحد من بين ثلاثمائة ألف احتمال – كما في الزورق – وإنما احتمال من بين ثلاثة آلاف احتمال، فلربما يقع الاحتمال هذا اليوم. فما عليك إذن إلا الهلع والبكاء وكتابة وصيتك".(1)
إن خوف ذلك الشيخ هو من نوع الخوف من المجهول، أي مما تهدد به العناصر الطبيعية، ولكن حوار النوري الواقعي والمنطقي رده إلى رشده وأعاده إلى صوابه، وبينما هم على سطح الزورق قال له:
__________
(1) المكتوبات – النورسي ص 536(4/171)
" إن اللّه تعالى قد منحنا الشعور بالخوف لنحفظ به الحياة لا لهدم الحياة وتخريبها، ولم يمنحنا هذا الشعور لنجعل الحياة أليمة ومعضلة ومرهقة، فإن كان الخوف ناشئاً من احتمالين أو ثلاثة، بل حتى من خمسة أو ستة احتمالات فلا بأس، فلربما يعد ذلك خوفاً مشروعاً من باب الحيطة والحذر، أما إن كان الخوف ناشئاً من احتمال واحد من بين عشرين أو أربعين احتمالاً، فليس هذا خوفاً، وإنما هو وهم يستولي على الإنسان، ويجعل حياته عذاباً وشقاءً".(1)
فالخوف إذن شعور طبيعي وهبه اللّه كي يتخذه المرء مطية في حياته الدنيوية، وبه يسلك مسلكاً لا تهور فيه ولا اندفاع، ولا تردد أو امتناع عن الحركة، بل يقف به موقفاً لا إفراط فيه ولا تفريط، وفي الحدود المقبولة عقلاً وواقعاً، أما إذا تجاوزها فعندئذ لا يعد الخوف خوفاً طبيعياً، بل في عداد الخواطر المغلوطة الناجمة عن خداع النفس وظنونها الكاذبة، أو تخيلات ذهنية لا أساس لها في الواقع.
المصائب
وضع النورسي قاعدة عامة إزاء المصائب والشدائد التي تنزل بالإنسان، وتحل في جسمه، وفحواها:
" كلما استعظمت المصائب المادية عظمت، وكلما استصغرتها صغرت".(2)
يعني إذا ضخم العبد مصائبه، وأعطاها حجماً أضعاف حجمها الطبيعي، تضخمت وكبرت، وشغلت في نفسه مساحة لا تستحقها، أما إذا قلل من شأنها وصغّر من أهميتها، هانت في نفسه، وسهل عليه تحملها.
ومثل النورسي لتلك القاعدة قائلاً:
" كلما اهتم الإنسان بما يتراءى له من وهم ليلاً يضخم ذلك في نظره، بينما إذا أهمله يتلاشى، وكلما تعرض الإنسان لوكر الزنابير ازداد هجومها. وإذا أهملها تفرقت".(3)
__________
(1) المكتوبات – النورسي ص 537،536
(2) اللمعات – النورسي ص 17
(3) اللمعات – النورسي ص 17(4/172)
فمن غير شك إن من يولى عناية خاصة وتركيز مستمر لكل ما يظهر له ليلاً من تخيلات وتهيؤات ذهنية لا أصل لها، تزيد في نظره وتكبر، أما إذا طرحها جانباً ولم يأبه بها، تلاشت واندثرت وتبددت، وكذلك الحال مع الزنابير، فإذا أقبل عليها تعاظمت شراستها وحدتها في الهجوم عليه. وإذا لم يشغل باله بها أحجمت عن مهاجمته.
والمثل ينطبق تماماً على المصائب الجسمية.
" فالمصائب المادية كذلك، كلما تعاظمها الإنسان واهتم بها وقلق عليها تسربت من الجسد نافذة في القلب واستقرت فيه، وعندها تتنامى مصيبة معنوية في القلب، وتكون ركيزة للمادية منها، فتستمر الأخيرة وتطول، ولكن متى ما أزال الإنسان القلق والوهم من جذوره بالرضا بقضاء اللّه، وبالتوكل على رحمته تضمحل المصيبة المادية تدريجياً وتذهب، كالشجرة التي تموت وتجف أوراقها بانقطاع جذورها".(1)
ومقصوده أن تفخيم المصائب وتكبيرها، لا تقف خطورته على الجسم وحده، بل تمتد لشدة وقعها على الجسم إلى النفس، ومن النفس تنتقل إلى القلب، فتتوطن فيه وتسكن، لتشكل بثباتها ذلك أساساً ومنطلقاً لكل المصائب الجسمية، فتقوى وتزيد ويطول أمدها.
أما إذا فوض أمره للّه، وسلم بحكمه وقضائه فيه عن اعتقاد قلبي جازم، وقناعة عقلية بينة، فإن مصائبه البدنية مهما بلغت من القوة والشدة، فهي في طريقها إلى التلاشي والانحلال شيئاً فشيئاً إلى أن تختفي نهائياً.
اختلاف أهل الحق واتحاد أهل الباطل
من أكثر الأمور مدعاة للحيرة، وأكثرها إثارة للقلق ودافعة إلى الشفقة، اختلاف أهل الحق وعدم اتفاقهم في الكثير مما يجمع بينهم، واتحاد أهل الباطل وتقاربهم على الرغم من الكثير مما يفرق بينهم. ومرجع ذلك كما يفسره النورسي إلى:
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 18،17(4/173)
" أن اختلاف أهل الهداية وعدم اتفاقهم ليس نابعاً من ضعفهم، كما أن الاتفاق الصارم بين أهل الضلالة ليس نابعاً من قوتهم، بل إن عدم اتفاق أهل الهداية ناجم عن عدم شعورهم بالحاجة إلى القوة، لما يمدهم به إيمانهم الكامل من مرتكز قوي، وأن اتفاق أهل الغفلة والضلالة ناجم عن الضعف والعجز، حيث لا يجدون في وجدانهم مرتكزاً يستندون إلى قوته، فلفرط احتياج الضعفاء إلى الاتفاق تجدهم يتفقون اتفاقاً قوياً، ولضعف شعور الأقوياء بالحاجة إلى الاتفاق يكون اتفاقهم ضعيفاً".(1)
فمرد اختلاف هؤلاء واتحاد أولئك إلى شعور وحاجة كل منهم إلى ما يدفعهم للاتفاق والوحدة، فأهل الحق لهم من القوى الذاتية ما يضعف إحساسهم بالحاجة إلى ما يتفقون به أو يزيد في قوتهم، في حين أن الضلال والشرور التي يحملها أهل الباطل في نفوسهم ينشئ فيهم شعور اً بالفقر وإحساساً بالعجز يدفعهم للبحث عن قوة خارجية تشد من أزرهم. وتؤلف بينهم، وتمنحهم القدرة على مواجهة الشدائد.
والفئتان وكما يقول النورسي:
" كمثل الأسود والثعالب التي لا تشعر بالحاجة إلى الاتفاق. فتراها تعيش فرادى، بينما الوعل والماعز الوحشي تعيش قطعاناً خوفاً من الذئاب".(2)
فالأسود والثعالب لامتلاكها القوة للتصدي لأعدائها يجعلها في غير حاجة إلى الاتحاد، فتنتقل فرادى آمنة مطمئنة، أما الوعل والماعز فحيوانات بطبيعتها ضعيفة وهدف سهل لمن هو أقوى منها، فتلجأ للعيش في جماعات لحماية نفسها ودرء خطر الأعداء عنها.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى العميق، إذ أسند:
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 233
(2) اللمعات – النورسي ص 233(4/174)
" الفعل (قال) بصيغة المذكر إلى جماعة الإناث مع كونها مؤنثة مضاعفة، وذلك في قوله تعالى: { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ } (1) بينما جاء الفعل قالت بصيغة المؤنث في قوله تعالى: { قَالَتِ الْأَعْرَابُ } (2) وهم جماعة من الذكور، مما يشير إشارة لطيفة إلى أن جماعة النساء الضعيفات اللطيفات تتخاشن وتتقوى وتكسب نوعاً من الرجولة، فاقتضت الحال صيغة المذكر، فجاء الفعل "قال" مناسباً وفي غاية من الجمال.
أما الرجال الأقوياء فلأنهم يعتمدون على قوتهم، ولا سيما الأعراب البدويون، فتكون جماعتهم ضعيفة كأنها تكسب نوعاً من خاصية الأنوثة من توجس وحذر ولطف ولين، فجاءت صيغة التأنيث ملائمة جداً".(3)
فمع أن القول صادر في كلتا الحالتين عن جماعة تشكل وحدتها الذاتية قوة لها، إلا أن جماعة النساء ضعيفة بحكم تكوينها الخلقي، ولا تملك قدرة ولا قوى ذاتية، فتلجأ هي الأخرى إلى التكاتف والتعاضد، فيتحول ضعفها إلى قوة كالتي للذكور، فناسبها صيغة المذكر في الفعل.
أما الرجال فقوتهم الذاتية الطبيعية تجعلهم في حالة استغناء دائم لغيرهم. مما يتسبب في ضعفهم ضعفاً كالضعف الملازم للنساء. فناسبهم صيغة المؤنث في الفعل.
ثم عاد النورسي مرة أخرى ليلخص مجمل الحقيقة بقوله:
" نعم إن الذين ينشدون الحق لا يرون وجه الحاجة إلى معاونة الآخرين لما يحملون في قلوبهم من إيمان قوي يمدهم بسند عظيم ويبعث فيهم التوكل والتسليم، حتى لو احتاجوا إلى الآخرين فلا يتشبثون بهم بقوة، أما الذين جعلوا الدنيا همهم فلغفلتهم عن قوة استنادهم ومرتكزهم الحقيقي يجدون في أنفسهم الضعف والعجز في إنجاز أمور الدنيا، فيشعرون بحاجة ملحة إلى من يمد لهم يد التعاون، فيتفقون معهم اتفاقاً جاداً لا يخلو من تضحية وفداء".(4)
__________
(1) يوسف/ 30
(2) الحجرات/ 14
(3) اللمعات – النورسي ص 234،233
(4) اللمعات – النورسي ص 234(4/175)
والفرق كما هو واضح بين الاثنين يكمن في أن مصدر تفرق أهل الحق واختلافهم مردّه إلى تعويلهم المطلق على نقطة ارتكاز واستناد تمدهم بأسباب القوة والمقدرة، فلا يشغلون أنفسهم بما ليسوا في حاجة إليه، والعكس منهم أهل الباطل، فإن خلوهم وتجردهم من أي مرتكز أو مستند يعولون عليه في حركتهم يجعلهم في حاجة ملحة وسعى دائم لسد هذا النقص المعيب، فيشكلون حول ذواتهم دائرة تكون مصدراً لقوتهم وسنداً لتعاونهم.
ومثل حالتهم تلك كمثل حالة:
" ذلك الصائغ اليهودي المجنون الذي اشترى قطعاً زجاجية تافهة بأثمان الأحجار الكريمة الباهظة".(1)
فالإنسان لا يتورع أبداً عن الإتيان بأي شيء في سبيل تحقيق غرضه، حتى ولو أدى ذلك إلى شراء أشياء حقيرة بسعر المجوهرات، وبهذه الطريقة ينجح أهل الباطل ويوفقون في مساعيهم، وذلك لإخلاصهم وصدقهم ومثابرتهم على العمل.
وأخيراً خلص النورسي للقول:
" ومن هنا يتغلب أهل الباطل على أهل الحق، فيفقد أهل الحق الإخلاص ويسقطون في مهاوي الذل والتصنع والرياء، ويضطرون إلى التملق والتزلف إلى أرباب الدنيا المحرومين من كل معاني الشهامة والهمة والغيرة".(2)
والمعنى أن مآل أهل الحق إلى الخسران المبين الذي يؤدي بهم إلى التجرد من الإخلاص، وينغمسون كأهل الباطل في الغش والرياء، أي يكتسبون صفات وخصائص ليست لهم ولا تتفق معهم، إلى أن ينتهي بهم سوء الحال إلى الارتماء تحت أقدام أهل الباطل المجردين من أي صفة من صفات المروءة الجامعة لخصال الخير كلها.
احترام الناس للنورسي
وردت على النورسي أثناء إقامته الجبرية في بارلا التابعة لولاية إسبارطة ثلاثة أسئلة تدور حول علاقته بالسلطة السياسية بالبلاد، من أهمها هذا السؤال ، جاء فيه:
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 235
(2) اللمعات – النورسي ص 235(4/176)
" ما دمت قائماً في هذه البلاد، فعليك الانقياد لقوانين الجمهورية الصادرة فيها، فلماذا تنجى نفسك من تلك القوانين تحت ستار العزلة عن الناس.
فمثلاً: أن من يجري نفوذه على الآخرين خارج وظيفة الدولة متقلداً فضيلة ومزية لنفسه ينافي الحكومة الحاضرة ودستور الجمهورية المبنى على المساواة، فلماذا تتقلد صفة من يريد جلب الإعجاب إلى نفسه وكأنَّ على الناس الانقياد له وطاعته. وتجعلهم يقبلون يدك مع إنك لا وظيفة لك في الدولة"(1)
فمن المفترض إذا كان النورسي يعد نفسه فعلاً من مواطني الدولة ورعاياها، أن يخضع أسوة بغيره لسلطتها، ويتبع قوانينها، أو بتحديد أدق لماذا يبتعد في نجوة من الأرض، وبعيداً عن الناس بحجة الاعتزال.
أما المثل المصاحب للسؤال فيفيد:
إن من يملك تأثيراً وسلطة ولو على نطاق محدود، وعلى عدد قليل من الخلق، وله المقدرة على توجيههم وقيادتهم، فهو بلا شك من المخالفين للدولة والخارجين على قوانينها التي تحقق المساواة والعدل بين الجميع، فلماذا إذن يتخذ لنفسه منصباً كي يعامله اتباعه معاملة أصحاب مناصب الدولة من حيث الاحترام والتقدير.
ورد النورسي على سؤالهم رداً مصحوباً هو الآخر بمثال توضيحي.
جاء فيه:
" إن على منفذي القانون تنفيذه على أنفسهم أولاً ثم يمكنهم إجراؤه على الآخرين، فإجراء دستور على الآخرين دون أنفسكم يعني مناقضتكم لدستوركم وقانونكم قبل كل أحد، لأنكم تطلبون إجراء قانون المساواة المطلقة هذا عليّ بينما لم تطبقوه أنتم على أنفسكم.
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 260(4/177)
وأنا أقول: متى ما صعد جندي اعتيادي إلى مقام المشير الاجتماعي، وشارك المشير فيما يوليه الناس من احترام وإجلال، ونال مثله ذلك الإقبال والاحترام، أو متى ما صار المشير جندياً اعتيادياً وتقلد أحواله الخامدة، وفقد أهميته كلها خارج وظيفته، وأيضاً متى ما تساوى رئيس ذكي لأركان الجيش قادهم إلى النصر مع جندي بليد في إقبال الناس عامة والاحترام والمحبة له، فلكم أن تقولوا حينذاك حسب قانونكم، قانون المساواة: لا تسم نفسك عالماً، أرفض احترام الناس لك، أنكر فضيلتك، أخدم خادمك رافق المتسولين".(1)
فرده يعني أن تشدق هؤلاء بدستور الدولة وقوانينها وسلطتها المطلقة، لا قيمة له ولا وزن، طالما أنهم لا يلتزمون بها، ولا يحملون أنفسهم عليها.
أما المثل الذي ساقه تدعيماً لرده فمفاده:
إنه إذا اختلت السنن المسيّرة لشئون الناس والمنظمة لحياتهم، وتغيرت الأسس والقواعد التي يقام عليها بناء اجتماعهم، ووصلت إلى مرتبة تبوأ فيها الجندي العادي مركز القائد، وهبط القائد من مركز القيادة إلى مركز المقود، فلهم الحق عند ذاك وطبقاً لقوانين الدولة المحققة للمساواة أن يطالبوه بتجريد نفسه من الصفات التي اكتسبها بعلمه واجتهاده، وأن يقابل تقدير الناس وتبجيلهم له بالصدود والإنكار، ليس هذا فحسب، بل عليه أن يتنازل حتى يجعل من نفسه خادماً لخادمه.
ولا يقصد بهذا رفضه أو إنكاره لسلطة الدولة وتحقيره لقوانينها. بل سعى إلى توضيح حقيقة بديهية في حقل العمل الإسلامي، وهي أن عمله كداعية للّه تعالى، وعالم من علماء الأمة، لا يتعارض مع الدولة وتشريعاتها، بل هو من جملة العاملين في خدمة. سواء كان له وظيفة أو منصب حكومي أم لم يكن له.
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 260(4/178)
أما احترام الناس وتقديرهم له، فليس لشخصه، وإنما للعلم الذي يحمله، وللنور الذي يسعى لإشاعته بين الناس، وهو فوق ذلك احترام وتقدير نابع من دواخل من يتصلون به أو يتلقون عنه العلم، وليس له فيه حيلة، فكيف يطالبونه أن يتخلص ويتجرد منه، وهو لا يملك منه شيئاً.
الفصل السابع
الإنسان
الإنسان
خاطب النورسي كل من يطلب العون والمدد من الأسباب، وكل من يعتمد على مبدأ السببية في تفسير ظواهر الوجود قائلاً:
" إذا رأيت قصراً عجيباً يبنى من جواهر غريبة، لا يوجد في وقت البناء بعض تلك الجواهر إلا في الصين. وبعضها إلا في الأندلس، وبعضها إلا في اليمن، وبعضها إلا في سيبريا، وإذا شاهدت أن البناء يتم على أحسن ما يكون، وتجلب له تلك الأحجار الكريمة من الشرق والغرب والشمال والجنوب بأسرع وقت وبسهولة وفي اليوم نفسه".(1)
يعنى أن مادة ذلك القصر ومكوناته الأساسية من أثمن وأغلى ما أخرجته الأرض من معادن، والمعادن لا توجد إلا متفرقة في أركان الدنيا الأربعة، ولا يؤتى بها إلا عند التشييد، وفي سرعة متناهيين، بعدها سأل النورسي:
" فهل يبقى لديك ريب في أن بنّاء ذلك القصر باسط هيمنته على الكرة الأرضية".(2)
ولما كانت مقدرة بانى القصر وسيطرته على الموجودات لا يرقى إليها شك، عندئذ رد النورسي قائلاً:
" وهكذا كل كائن بِناءٌ، وقصر، ولا سيما الإنسان، فهو من أجل تلك القصور ومن أعجبها، لأن قسماً من الأحجار الكريمة لهذا القصر البديع من عالم الأرواح، وقسم منها من عالم المثال واللوح المحفوظ، وقسم آخر من عالم الهواء، ومن عالم النور، ومن عالم العناصر، كما امتدت حاجاته إلى الأبد، وانتشرت آماله في أقطار السموات والأرض، وشرّعت روابطه وعلاقاته في طبقات الدنيا والآخرة".(3)
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 205
(2) اللمعات – النورسي ص 205
(3) اللمعات – النورسي ص 205(4/179)
فالإنسان من تكوينه الظاهري والباطني يشبه ذلك القصر، فهو مكون من عناصر روحية المنشأ والمصدر، وفي غاية من السمو والشفافية، ومن عناصر مادية غاية في اللطافة والرقة، جعلته يرتبط بعلاقات واسعة ومتشعبة مع مخلوقات العالم المختلفة، وبعلاقات خاصة مع نفسه جعلت رغباته ومحبوباته وآماله لا حدود لها.
حب البقاء
إن يقين الإنسان المتأصل في نفسه بموته في كل وقت وحين، وحتمية مفارقته لأهله وأحبته، يدفعه للتشبث بأي شكل من أشكال البقاء. وتلك نزعة طبيعية متأصلة هي الأخرى في كيانه، ولكن هناك من لا يعرف كيف يستغلها ويوجهها التوجيه الذي يحقق له فعلاً البقاء. وعن أولئك تحدث النورسي قائلاً:
" هناك بعض الحمقى يتوجه بحبه إلى المرآة إذا ما رأى الشمس فيها. وذلك لعدم معرفته الشمس نفسها، فيحافظ على المرآة بحرص شديد لاستبقاء الشمس. ولكيلا تضيع ولكن إذا تفطن أن الشمس لا تموت بموت المرآة، ولا تفنى بانكسارها توجه بمحبته كله إلى الشمس التي في السماء، وعندئذ يعلم أن الشمس التي تشاهد في المرآة ليست تابعة للمرآة، ولا يتوقف بقاؤها ببقاء المرآة. بل أن بقاء حيوية المرآة وتلألأها إنما هو ببقاء تجليات الشمس ومقابلتها لها فبقاء المرآة تابع لبقاء الشمس".(1)
والمعنى أن من الناس من بلغ به ضعف العقل وفساد الرأي والجهل حداً يدفعه للاعتقاد بأن صورة الشمس المنعكسة على المرآة هي الشمس. ووجودها في المرآة مرهون بوجودها في السماء. فيقصر حبه كله على الصورة في المرآة، لا على الشمس نفسها، وإذا فهم طبيعة العلاقة بينهما، وأياً منهما الأصل وأيهما الفرع، ومن منهما يملك أهلية البقاء، وأيهما الزائل، عندئذ تتغير نظرته، فيتجه مباشرة صوب الباقي الذي لا يزول، ومن ثم يمنحه حبه كله، أما الفاني الزائل فلا محل له في قلبه.
بعد ذلك خاطب النورسي ذلك الإنسان العاشق للبقاء قائلاً:
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 206(4/180)
" فيا أيها الإنسان، إن قلبك وهويتك وماهيتك مرآة، وما في فطرتك من حب البقاء ليس لأجلها، بل لأجل ما فيها من تجل لاسم الباقي ذي الجلال، الذي يتجلى فيها حسب استعداد كل إنسان، ولكن صُرف وجه تلك المحبة إلى جهة أخرى نتيجة البلاهة، فما دام الأمر هكذا فقل: يا باقي أنت الباقي، فإذ أنت موجود وباق فليفعل الفناء بنا ما يشاء فلا نبالي بما نلاقي".(1)
إن المحبة الشديدة التي يكنها الإنسان للبقاء ليست من أجل المحبة نفسها، بل لأن محبة البقاء هي واحدة من مقتضيات وتجليات اسم الباقي على قلب الإنسان، ولكن على قدر قابليته وتهيؤه لاستقبال أنوار الاسم، عندئذ يتيقن ألاّ باقي ولا موجود غير اللّه، أما الفناء والزوال وسائر صور العدم واللاوجود فهي عرض زائل لا بقاء ولا دوام.
فساد الإنسان
خلق اللّه تعالى كل مخلوق لعمل محدد ومهمة معينة، واقترن شرفه وعلو منزلته بين الموجودات باكتمال ذلك المعنى فيه، وخساسته وسقوط مكانته بانعدامه فيه. مثل الحصان الذي خلق للعدو، وكالسيف للقتال، فإذا لم يؤديا وظيفتهما على وجهها الأتم اعتبرا ناقصين، فأما أن يلقى بهما جانباً، أو يردا إلى منزلة هي دونهما في المرتبة والمقام. فالحصان إذا لم يصلح للعدو والسباق اتخذ كالحمار لنقل الأحمال. والسيف إذا لم يصلح للقتال أتخذ كالسكين والمنشار للقطع.
وكذلك الحال مع الإنسان، فإن شرفه وفضله وعلو منزلته بين الخلق تعود إلى اكتمال معنى العبد والخليفة فيه، وخساسته ودناءته في عجزه عن القيام بهما. عندئذ تكون البهيمة خير منه. وبين النورسي أنواع الفساد بقوله:
" من المعلوم أنه إذا فسد الشيء الثمين يكون فساده أشد من فساد الشيء الرخيص، كما هو في فساد اللبن أو الحليب، حيث يمكن أن يؤكلا، أما إذا فسد الدهن فلا يمكن أكله، إذ قد يكون كالسم".(2)
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 206
(2) اللمعات – النورسي ص 126(4/181)
يعني أن عدم صلاح الشيء وخروجه عن حد الانتفاع به يختلف باختلاف نفاسته وقيمته العالية، أو قلة وهبوط قيمته، وزهد الناس فيه، ففساد اللبن لا يخرج عناصره عن حد الاعتدال إلا خروجاً ضئيلاً في نوعيته، فيمكن الانتفاع به. أما إذا بلغ خروجه عن حد الاعتدال، وأقصى درجات الخروج كماً ونوعاً، كالدهن، فلا يمكن الانتفاع به، بل قد يسبب استعماله الأذى والهلاك.
وإذا فسد الإنسان. فإن فساده ينزل منزلة فساد الشيء الثمين والنفيس الذي لا تقدر قيمته ولا فضله. فيقول عنه النورسي:
" وهكذا الإنسان الذي هو أكرم المخلوقات. بل ذروتها وقيمتها، إذا فسد فإنه يكون أفسد وأحط من الحيوان الفاسد نفسه، فيكون كالحشرات التي تأنس بالعفونة وتريحها الروائح الكريهة، وكالحيات التي تلتذ بلدغ الآخرين. بل يتباهى بتلذذه بالأخلاق الدنيئة النابتة في مستنقع الضلالة، ويستمرئ الأضرار والجرائم الناجمة في ظلمات الظلم، فيكون إذن قريناً للشيطان ومتقمصاً لماهيته".(1)
وكما يفهم من عبارة النورسي أن الإنسان هو أكرم مخلوق وأفضل موجود، بشرط أن يراعي ما به صار إنساناً، وأن يجتهد لإكمال المعنى الذي من أجله خلق وأوجد، فمن صرف همته كلها لعبادة اللّه وذكره، فسوف يترقى في مدارج السمو والكمال درجة درجة، حتى يلتحق بعالم الملائكة، ويوصف بالإنسان الرباني.
أما إذا عطل ذلك المعنى فيه، وأعرض عن العبادة وعن ذكر اللّه. واتبع شهواته، فسوف ينحدر هابطاً في دركات سحيقة من الفساد الخلقي وتلحقه بِمَنْ هُمْ دونه في الكرم والفضل والشرف. كالبهائم مثلاً، إلى أن يبلغ أقصى درجات السقوط فيجمع أسوأ ما في عالم الحيوان، فيصبح هو والشيطان صنوان وشقيقان لا يفرق بينهما إلا الهيكل الخارجي.
ارتفاع الإنسان وسقوطه
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 126(4/182)
يعتقد النورسي أن سمو الإنسان الحقيقي وصعوده إلى مرتبة أعلى عليين، يتوقف على توجه قلبه وروحه وعقله وكل القوى الممنوحة له إلى الحياة الأبدية، أما انكبابه على لذات الدنيا وانقطاعه إلى ملاهيها، وتسخير تلك القوى للنفس الأمارة بالسوء، فلا يعني سوى سقوطه في هاوية لا مخرج له منها.
وتمثلت تلك الحقيقة للنورسي في واقعة خيالية رواها قائلاً:
" دخلت مدينة عظيمة وجدت فيها قصوراً فخمة ودوراً ضخمة، كانت تقام أمام القصور والدور حفلات ومهرجانات وأفراح تجلب الأنظار كأنها مسارح وملاه، فلها جاذبية وبهرجة.
ثم أمعنت النظر فإذا صاحب قصر واقف أمام الباب وهو يداعب كلبه ويلاعبه، والنساء يرقصن مع الشباب الغرباء، وكانت الفتيات اليافعات ينظمن العاب الأطفال، وبواب القصر قد أتخذ طور المشرف يقود هذا الحشد، فأدركت أن هذا القصر خال من أهله، وأنه قد عطلت فيه الوظائف والواجبات، فهؤلاء السارحون من ذويه السادرون في غيهم قد سقطت أخلاقهم وماتت ضمائرهم، وفرغت عقولهم وقلوبهم فاصبحوا كالبهائم يهيمون على وجوههم ويلعبون أمام القصر.
ثم مشيت قليلاً ففاجأني قصر أخر، رأيت كلباً نائماً أمام بابه، ومعه بواب شهم وقور هادئ، وليس أمام القصر ما يثير الانتباه، فتعجبت من هذا الهدوء والسكينة واستغربت، واستفسرت عن السبب، فدخلت القصر فوجدته عامراً بأهله، فهناك الوظائف المتباينة والواجبات المهمة الدقيقة ينجزها أهل القصر. كلٌ من طابقه المخصص له، في جو من البهاء والهناء والصفاء، بحيث يبعث في الفؤاد الفرحة والبهجة والسعادة.(4/183)
ففي الطابق الأول هناك رجال يقومون بإدارة القصر وتدبير شئونه، وفي طابق أعلى هناك البنات والأولاد يتعلمون ويتدارسون، وفي الطابق الثالث السيدات يقمن بأعمال الخياطة والتطريز ونسيج الزخارف الملونة والنقوش الجميلة على أنواع الملابس، أما الطابق الأخير، فهناك صاحب القصر يتصل هاتفياً بالملك لتأمين الراحة والسلامة والحياة الحرة العزيزة المرضية لأهل القصر، كل يمارس أعماله حسب اختصاصه، وينجز وظائفه اللائقة بمكانته الملائمة بكماله ومنزلته.
ونظراً لكوني محجوباً عنهم، فلم يمنعني أحد من التجول في أنحاء القصر، لذا استطلعت الأمور بحرية تامة، ثم غادرت القصر وتجولت في المدينة، فرأيت أنها منقسمة إلى هذين النوعين من القصور والبنايات، فسألت عن سبب ذلك أيضاً، فقيل إلى:
" إن النوع الأول من القصور الخالية عن أهلها والمبهرج خارجها والمزينة سطوحها وأفنيتها، ما هي إلا مأوى أئمة الكفر والضلال، أما النوع الثاني من القصور، فهي مساكن أكابر المؤمنين من ذوي الغيرة والشهامة والنخوة".(1)
تكثر في المدينة التي دخلها النورسي القصور، وأمام كل قصر يحتفل الناس فرحين مسرورين بمختلف ضروب اللّهو واللعب، وعند عبوره أمام تلك القصور اللاهية لفت نظره منها قصران:
الأول: وجد صاحبه يقف أمام بوابة القصر الرئيسية يمازح كلباً ويداعبه، ومن حوله يدور الرقص والغناء بين الرجال والنساء، والفتيان والفتيات، بلا تحرج ولا خجل، وبإشراف حارس القصر، فتبين له من هذا ليس فقط خلو القصر من ساكنيه، بل أيضاً ترديهم في مهاوي الرذيلة والانحلال الخلقي، حتى صاروا يشبهون البهائم.
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 363، 364(4/184)
أما القصر الثاني فرأى أمام بوابته كلباً وحارساً ولا شيء سواهما، فدخل، فإذا القصر يموج بالحركة، وكل طابق من طوابقه ينشغل قاطنوه بعمل محدد، بدءاً من إدارة القصر نفسه مررواً بالتعليم انتهاء بالطابق الأخير حيث يعمل صاحب القصر كالعقل المدبر والمحرك لكل عمل ينجز فيه.
ولدى خروجه من القصر وتجواله في المدينة، أدرك أنها هي الأخرى موزعة في اهتماماتها بين هذين القصرين:
فالأول منها لأهل الكفر والفساد.
- والثاني لأهل الإيمان.
وعلى ضوء هذا فسر النورسي وقائع الحكاية قائلاً:
" فتلك المدينة هي الحياة الاجتماعية البشرية ومدينة الحضارة الإنسانية، وكل قصر من تلك القصور عبارة عن إنسان، أما أهل القصر فهم جوارح الإنسان، كالعين والأذن ، ولطائفه كالقلب والروح، ونوازعه كالهوى والقوة الشهوانية والغضبية، وكل لطيفة من تلك اللطائف معدة لأداء وظيفة عبودية معينة ولها لذائذها وآلامها، أما النفس والهوى والقوة الشهوانية والغضبية، فهي بحكم البواب وبمثابة الكلب الحارس، فإخضاع تلك اللطائف السامية إذن لأوامر النفس والهوى وطمس وظائفها الأصلية لا شك يعتبر سقوطاً وانحطاطاً وليس ترقياً وصعوداً".(1)
وملخص ما يفهم من تفسير النورسي أن الإنسان إنما هو بقواه الباطنية كالقلب والروح والعقل، فهي المودعة فيه أصلاً، والمؤهلة فعلاً لعبادة اللّه، وتشغل قواه الظاهرية كقوة الشهوة والغضب وغيرها وظيفة الحارس والحافظ، أي يقتصر دورها وعملها على الحماية من أي عدو يروم تعطيلها عن دورها.
فإذا انعكس الوضع، وانقلبت الأدوار، فانتقلت تلك القوى الظاهرية إلى الباطن، مسيطرة في حركتها الارتدادية ومهيمنة على القوى الباطنية، ومعطلة لوظائفها التعبدية، فإن هذا في حد ذاته تردياً بالإنسان وانحداراً به إلى مهاوي لا نهاية لها، وأي حديث بعدها عن سمو الإنسان أو رفعته يعد عبثاً لا يليق بالعقلاء.
اعتماد النفس على ذاتها
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 364(4/185)
خاطب النورسي ضمن مناجاة حزينة ومؤثرة نفسه، فقال لها ناصحاً ومعلماً:
" تعالى يا نفسي المشتاقة إلى الحياة والطالبة العمر الطويل، والعاشقة للدنيا، والمبتلاة بآلام لا حد لها، وآمال لا نهاية لها، يا نفسي الشقية، انتبهي وعودي إلى رشدك، ألا ترين أن اليراعة التي تعتمد على ضوئها تظل بين ظلمات الليل البهيم بينما النحلة التي لا تعتد بنفسها تجد ضياء النهار. وتشاهد جميع صديقاتها من الأزهار مذهبة بضوء الشمس".(1)
نبّه النورسي نفسه إلى التأمل في حال مخلوقين صغيرين، وذلك في علاقة كل منهما مع نفسه ومع غيره من الكائنات، كاليراعة التي تطير في الليل وكأنها نار، وبين النحلة، فاليراعة تتكل على قوة نورها وتكتفي به مستغنية عما سواه، أما النحلة التي لا تهتم بذاتها، فإنها تنطلق في ضوء النهار لتقيم علاقة مع جميع الكائنات المنورة مثلها بنور النهار.
واستناداً على ذلك أكمل النورسي حديثه مع نفسه قائلاً:
" وكذلك أنت، إن اعتمدت على وجودك وعلى نفسك وعلى أنانيتك، فستكونين كاليراعة، ولكن أن ضحيت بوجودك في سبيل خالقك الكريم الذي وهبه لك، سوف تكونين كالنحلة، وتجدين نور وجود لا حد له، فضحي بنفسك، إذ هذا الوجود وديعة عندك وأمانة".(2)
فنفس النورسي ونفس كل مؤمن، إن هي استندت على قواها الذاتية في الوجود والحركة. فتصبح مثل اليراعة حبيسة الليل والظلام، متوهمة استغناء مطلقاً عما سواها، ولكنها إذا تشبهت بالنحلة، وخرجت من تلك القوقعة، واهبةً ذاتها ووجودها خالصاً للّه تعالى، فستحظى من أنوار الوجود ما لا نهاية لها.
تعبير الرؤيا:
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 234
(2) الكلمات – النورسي ص 234(4/186)
يرى النورسي في محاولات تعبير الرؤى المنامية الشائعة بين الناس عملاً ليس سهلاً ولا مقبولاً، ولا هو متاح إلا لمن أوتى من العلم وصفاء العقل وجودة القريحة ما لم يؤتَ لغيره، وذلك لأن التعبير فيه نفاذ من ظاهر الرؤيا إلى باطنها، والانتقال بها من وجه إلى آخر، فيه من التناقض والتعارض الذي لا يقبله العقل الشيء الكثير، ولتبسيط تلك الحقيقة روى النورسي له المثل التالي:
" اصطحب راعيان من أهل القلب والصلاح، فحلبا من غنمهما اللبن ووضعاه في إناء خشبي، ووضعا الناي القصبي فوق حافتي الصحن، ثم شعر أحدهما بالنعاس، وما فتئ أن غلبه النوم، فنام واستغرق في نومه.
أما الثاني فقد ظل مستيقظاً يرقب صاحبه، وإذا به يرى وكأن شيئاً صغيراً – كالذبابة – يخرج من أنف صاحبه النائم، ثم يمرق سريعاً ويقف وعلى حافة الإناء ناظراً في اللبن، ثم يدخل من فوهة الناي من أحد طرفيه ويخرج من فوهة الطرف الأخر، ثم يمضي ويدخل في ثقب صغير تحت شجيرة مشوكة كانت بالقرب من المكان.
ثم يعود ذلك الشيء بعد مدة ويمضي في الناي أيضاً ويخرج من الطرف الآخر منه، ثم يأتي إلى ذلك النائم، ويدخل في أنفه، وهنا يستيقظ النائم من نومه، ويصحو قائلاً لصديقه:
لقد رأيت يا صديقي في غفوتى هذه رؤيا عجيبة.
فيقول له صديقه.
اللّهم أرنا خيراً واسمعنا خيراً، قل يا صديقي ماذا رأيت؟
فرد عليه:
رأيت – وأنا نائم – بحراً من لبن، وقد مد عليه جسر عجيب، وكان الجسر مسقفاً، ولسقفه نوافذ، مررت من ذلك الجسر، ورأيت في نهاية الطرف الثاني منه غابة كثيفة ذات أشجار مدببة، وبينما أنا أنظر إليها متعجباً رأيت كهفاً تحت الأشجار، فسرعان ما دخلت فيه، رأيت كنزاً عظيماً من ذهب خالص – فقل يا صديقي، ما ترى في رؤياي هذه، وكيف تعبرها لي.
أجابه صديقه الصاحي:(4/187)
أن ما رأيته من بحر اللبن هو هذا اللبن في هذا الإناء، وذلك الجسر الذي فوقه هو الناي الموضوع فوق حافتيه، والغابة هي هذه الشجرة المشوكة، وذلك الكهف الكبير هو هذا الثقب الصغير، تحت هذه النبتة القريبة منا، فهات يا صديقي المعول لأريك الكنز بنفسي.
فيأتي صديقه بالمعول، ويبدأن بالحفر تحت تلك الشجرة، ولم يلبث حتى ينكشف لهما ما يسعدهما في الدنيا من كنز ذهبي".(1)
عوّل الصديق في تعبير رؤيا صديقه على أحداث غريبة ومحيرة للعقل جرت له أثناء نومه، وهو لا يدري عنها شيئاً، كخروج حشرة صغيره من أحد منخريه، ثم وقوفها على طرف وعاء اللبن، ثم دخولها في الناي من جانب وخروجها من الجانب الآخر، ثم ولوجها في حفرة صغيرة تحت شجرة شوكية.
وجاءت رؤيا أو حلم صديقه مطابقة في أحداثها ووقائعها مع ما رآه هو شخصياً عليه. كرؤيته للبن في الإناء، والجسر أو الناي فوق الإناء، ثم مروره على الجسر كما فعلت الحشرة، ثم الغابة أو الشجرة ذات الشوك، والكهف أو الحفرة الصغيرة تحتها، وأخيراً عثوره على الكنز الذهبي.
ولا يختلف تعبيره للرؤيا عما هو عليه من أحداث ووقائع حقيقية، وما رآه صديقه من أحداث ووقائع في حلمه بعيدة عن الواقع والحقيقة، فاللبن هو نفسه اللبن، والجسر هو الناي، والغابة هي الشجرة، والكهف هو الحفرة الصغيرة، والكنز الذهبي هو هو نفسه.
ولا اعتراض للنورسي على تفسير ذلك الصديق للحلم، ولكنه ينكر عليه تفسير الحلم لنفسه، فيقول في تعليقه على الرؤيا:
" هكذا فإن ما رآه النائم في نومه صواب وصحيح، وقد رأى ما رأى حقيقة وصدقاً، ولكن لأنه مستغرق في عالم الرؤيا، وعالم الرؤيا لا ضوابط له ولا حدود، فلا يحق للرائي تعبير رؤياه، فضلاً عن أنه لا يميز بين العالم المادي والعالم المعنوي، لذا يكون قسم من حكمه خطأ حتى إنه يقول لصاحبه صادقاً:
لقد رأيت بنفسي بحراً من لبن.
__________
(1) المكتوبات – النورسي ص 103،102(4/188)
ولكن صديقه الذي ظل صاحياً يستطيع أن يميز بسهولة العالم المثالي ويفرزه عن العالم المادي، فله حق تعبير الرؤيا حيث يخاطب صديقه قائلاً:
إن ما رأيته يا صديقي حق وصدق، ولكن البحر الذي رأيته ليس بحراً حقيقياً، بل قد صار أناء اللبن الخشبي هذا في رؤياك كأنه البحر، وصار الناي كالجسر، وهكذا".(1)
ومقصود النورسي واضح بنفسه، إذ ليس بوسع أي إنسان التعبير عن الرؤى والأحلام، أو تفسيرها تفسيراً حقيقياً، بل ذلك حق لمن أوتى موهبة ربانية خالصة، لأن موهبة التعبير فيها مع الرؤية البصرية الحادة، المقدرة العالية على الإطلاع على الغيبيات والكشف عنها كشفاً حقيقياً ويأتي في الغالب مطابقاً لتفسيره، أما من حرم تلك الموهبة فإن تعبيره وتفسيره يكون في أكثر الأحوال كاذباً وغير صحيح.
ثم عاد النورسي مرة أخرى للتأكيد على أن نقطة الضعف في الرؤى عموماً تنحصر في جمعها بين عالمين، أحدهما حقيقي والآخر مثالي، أو على أقل تقدير لا أصل له من الواقع، ومثل لذلك بقوله:
" هب أن لك غرفة ضيقة، وضعت في جدرانها الأربعة مرايا كبيرة. تغطي كل مرآة الجدار كلها. فعندما تدخل غرفتك ترى أن الغرفة الضيقة قد اتسعت وأصبحت كالساحة الفسيحة، فإذا قلت:
إنني أرى غرفتي كساحة واسعة. فإنك لا شك صادق في قولك. ولكن إذا حكمت وقلت.
غرفتي واسعة سعة الساحة فعلاً، فقد أخطأت في حكمك لأنك قد مزجت عالم المثال – وهو هنا عالم المرايا – بعالم الواقع والحقيقة، وهو هنا عالم غرفتك كما هو فعلاً".(2)
__________
(1) المكتوبات – النورسي ص 103
(2) المكتوبات – النورسي ص 104،103(4/189)
وبطبيعة الحال فإن الداخل لغرفة صغيرة المساحة غطيت جدرانها بالمرايا يحسبها كالميدان الواسع للانعكاسات المتداخلة للمرايا، فلو شبه صاحبها عند رؤيته لها اتساعها وتمددها بالساحة، كان صادقاً، ولكنه لو قرر جازماً بسعتها واقعاً وحقيقة، لكان كاذباً لا محالة، لأنه خلط بين الأصل والصورة خلطاً ضاعت فيه معالم الواقع والحقيقة.
ولأجل هذا دعا النورسي للتفريق في عالم الرؤى والأحلام بين عالمين يضاد كلاهما الآخر، فقال:
" وبناء على هذا المثال ينبغي التفريق بين العالم المادي والعالم الروحاني، فلو مزجا معاً، تأتي أحكامهما خطأ، ولا نصيب لها من الصحة".(1)
ومراده أن الواقع شيء، وصورته ومثاله شيء آخر، فلا يجب الخلط بينهما، وذلك للاختلاف البين في حقيقتهما النوعية. فالأول مادي محسوس ومدرك، والثاني صورة ومعاني ذهنية مجردة، أي هو كالظل للحقيقة.
مصير الحضارة الأوربية
تساءل النورسي كغيره من المتأملين في واقع الحضارة الأوربية المعاصرة، بإيجابياتها وسلبياتها، وبقوتها المادية وضعفها الروحي والمعنوي وبحياة الناس التي شبهها بأنها:
" عذاب الجحيم في نعيم جنة كاذبة".(2)
إلى أين تقود البشرية؟
وقبل الإجابة على ذلك السؤال، مثل لها بالمثال التالي:
" هب أن أمامنا طريقين: فسلكنا أحدهما وإذا بنا نرى في كل خطوة نخطوها في الطريق الأول مساكين عجزة يهجم عليهم الظالمون يغصبون أموالهم ومتاعهم، يخربون بيوتهم وأكواخهم، بل قد يجرحونهم جرحاً بليغاً تكاد السماء تبكي على حالتهم المفجعة، فأينما تمد النظر ترى الحالة نفسها فلا يسمع في هذا الطريق إلا ضوضاء الظالمين وصخبهم، وأنين المظلومين ونواحهم، فكأن مأتماً عاماً قد خيم على الطريق.
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 103
(2) اللمعات – النورسي ص 177(4/190)
ولما كان الإنسان – بمقتضى إنسانيته – يتألم بألم الآخرين، فلا يستطيع أن يتحمل ما يراه في هذا الطريق من ألم غير محدود، إذ الوجدان لا يطيق ألماً إلى هذا الحد، لذا يضطر سالك هذا الطريق إلى أحد أمرين:
إما أن يتجرد من إنسانيته ويحمل قلباً قاسياً غارقاً في منتهى الوحشة لا يتألم بهلاك الجميع طالما هو سالم.
أو يبطل ما يقتضيه القلب والعقل".(1)
فعلى امتداد ذلك الطريق يرى السالك مختلف مظاهر الظلم والفساد، من أذى يلحق بالناس في نفوسهم، واغتصاب وتدمير لممتلكاتهم، إلى غيرها مما يبعث الأسى والحزن في القلوب، ولا يجد الإنسان في هذا الجو العام من الغم والكآبة مفراً من اتخاذ موقفين:
أحدهما ألا يشارك الناس، فيتجاهلهم وكأنهم ليسوا بشراً مثله. يألم كما يألمون، ويفرح كما يفرحون.
وثانيهما: أن يتخذ موقفاً إيجابياً فيعمل على رفع الظلم عنهم، وإيقاف الظالمين عند حدهم.
واستناداً على تلك الصورة التمثيلية خاطب النورسي تلك الحضارة قائلاً:
" فيا أوربا التي نأت عن النصرانية وابتعدت عنها، وانغمست في السفاهة والضلالة. لقد أهديت بدهائك الأعور كالدجال لروح البشر حالة جهنمية، ثم أدركت أن هذه الحالة داء عضال لا دواء له، إذ يهوى بالإنسان من ذروة أعلى عليين إلى درك أسفل سافلين، وإلى أدنى درجات الحيوان وحضيضها، ولا علاج لك أمام هذا الداء الوبيل إلا ملاهيك الجذابة التي تدفع إلى إبطال الحس وتخدير الشعور مؤقتاً، وكمالياتك المزخرفة، وأهواؤك المنومة، فتعساً لك ولدوائك الذي يكون هو القاضي عليك، نعم أن ما فتحتيه أمام البشرية من طريق، يشبه هذا المثال المذكور".(2)
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 178
(2) اللمعات – النورسي ص 178(4/191)
والمعنى أن الحضارة الغربية بفكرها ومذاهبها الفلسفية، وبكل منجزاتها المادية قد أحالت حياة الناس إلى عذاب مقيم، أما إنسانها فقد انحلت أخلاقه، وفقد قيمه الروحية، فانحدر إلى ما دون الحيوان في السلوك، ولما اجتهد علماؤها ومصلحوها باحثين عن حل لتجنب الكارثة المحدقة بالجميع، وجدوه في الفتور والاسترخاء، أي بالتخلص من هموم الدنيا وآلامها بالانهماك في المتع المادية، جاهلين أو متجاهلين أن فيها الموت البطيء.
أما الطريق الثاني الذي فيه هداية للبشرية، وإنقاذ الناس من تلك الحضارة المنحدرة إلى الهاوية، فهو طريق الإسلام والقرآن، وذلك لأن السالك فيه يرى وكما يصفه النورسي:
" في كل منزل من منازل هذا الطريق، وفي كل موضع من مواضعه، وفي كل مدينة تقع عليه، جنود مطيعون أمناء لسلطان عادل، يتجولون في كل جهة ينتشرون في كل ناحية، وبين فينة وأخرى يأتي قسم من مأموري ذلك الملك العادل وموظفيه، فيعفي بعض أولئك الجنود من وظائفهم بأمر السلطان نفسه. ويتسلم منهم أسلحتهم ودوابهم ومعداتهم الخاصة بالدولة ويسلم إليهم بطاقة الإعفاء. وهؤلاء، المعفون يبتهجون ويفرحون – من زاوية الحقيقة – على إعفائهم فرحاً عظيماً لرجوعهم إلى السلطان. وعودتهم إلى دار قرار سلطنته، والمثول بزيارته الكريمة، مع أنهم يحزنون في ظاهر الأمر على ما أُخذ منهم من دابة ومعدات ألغوها.
ونرى أيضاً أنه قد يلتقي أولئك المأمورون من لا يعرفهم من الجنود فعندما يخاطبونه:
- أنْ سلم سلاحك.
يرد عليهم الجندي:
أَنا جندي لدى السلطان، وتحت إمرته وفي خدمته، وإليه مصيري ومرجعي، فمن أنتم حتى تسلبوا مني ما وهبني السلطان العظيم؟ فإن كنتم قد جئتم بإذنه ورضاه، فعلى العين والرأس، فأروني أمره الكريم، وإلا تخلوا عني، فلأقاتلنكم ولو كنت وحدي وأنتم ألوف، إذ لا أقاتل لنفسي لأنها ليست لي، بل أقاتل حفاظاً على أمانة مالكي ومولاي وصيانة لعزته وعظمته، فأنا لا أرضخ لكم(4/192)
وعلى طول الطريق الثاني، وطوال مدة السفرة كلها نرى سَوقاً إلى الجندية، يتم في فرح وابتهاج وسرور، تلك هي التي تسمى بالمواليد، وهناك إعفاءات ورخص من الجندية، تتم في فرح وحبور أيضاً، وسط تهليل وتكبير، تلك التي تسمى بالوفيات"(1)
فإذا كان الطريق الأول مجازاً عن الحياة في الغرب، فإن الطريق الثاني مجاز عن الحياة في ظل الإسلام، حيث إن كل فرد فيها عبد للّه، عامل بأوامره وتجنبه عن نواهيه، وذلك طوال حياته الدنيوية، فإذا آن أوان انتهاء فترة عبوديته، فإنه يغادر هذه الحياة، وكأنه جندي أعفى من الخدمة، فينتقل إلى دار أخرى يحظى فيها بالكرم الإلهي.
على أن أهم ما في هذه الحياة أن المؤمن فيها يدافع عن إيمانه بكل ما أُوتي من قوة، فإذا أراد أحد سلبه منه فإنه يقاتل في سبيله، ولا يسمح له بأن يزعزعه عنه، بل يموت في سبيله ودونه راضياً مرضياً عنه.
وعلى العكس تماماً من الحياة في الغرب، فإن كل مولود يولد في عالم الإسلام هو بمثابة عبد للّه ومكلَّف، فيستقبل بكل سرور، ويودع حين وفاته بمثل ما استقبل به، لأنه في طريقه إلى الجنة وضيافة الرحمن.
الفصل الثامن
الدنيا
حقيقة الدنيا
قسم النورسي حياته الدنيوية إلى مرحلتين:
استمرت الأولى حتى عام 1926، وفيها سمى نفسه بسعيد القديم حيث كان خلالها منغمساً في هموم الدنيا، وغارقاً في مشكلاتها المعقدة، وقضاياها المتجددة.
والثانية بدأت من عام 1926وانتهت بنهاية عمره، وأطلق على نفسه فيها اسم سعيد الجديد، وفيها كرس حياته للدفاع والحفاظ على الإيمان.
وعندما أراد أن يكشف للناس عن حقيقة الدنيا ومآلها، رجع إلى المرحلة الأولى من حياته فمثل لها مستفيداً من تجربته وخبرته المعيشة بالحكاية الخيالية التالية:
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 179،178(4/193)
" رأيت نفسي كأني أسافر في طريق طويل، أي أرسل إلى مكان بعيد، وكان سيدي قد خصص لي مقدار ستين ليرة ذهبية يمنحني منها كل يوم شيئاً، حتى دخلت إلى فندق فيه ملهى، فطفقت أبذر ما أملك – وهي عشر ليرات – في ليلة واحدة على مائدة القمار والسهر في سبيل الشهرة والإعجاب. فأصبحت وأنا صفر اليدين لم أتّجر بشيء، ولم آخذ شيئاً مما سأحتاج إليه في المكان الذي أقصده، فلم أوفّر لنفسي سوى الآلام والخطايا التي ترسبت من لذات غير مشروعة، وسوى الجروح والغصّات والآهات التي ترشحت من تلك السفاهات والسفالات.. وبينما أنا في هذه الحالة الكئيبة الحزينة البائسة إذ تمثّل أمامي رجلٌ. فقال:
أنفقت جميع رأسمالك سدىً، وصرت مستحقاً للعقاب، وستذهب إلى البلد الذي تريده خاوي اليدين، فإن كنتَ فطناً وذا بصيرة فبابُ التوبة مفتوحٌ لم يغلق بعدُ. فبإمكانك أن تدّخر نصف ما تحصل عليه، مما بقي لك من الليرات الخمسة عشرة لتشتري بعضاً مما تحتاج إليه في ذلك المكان..." فاستشرت نفسي فإذا هي غير راضية بذلك. فقال الرجل:
فادّخر إذن ثلثه.
ولكن وجدت نفسي غير راضية بهذا أيضاً، فقال:
فادّخر ربعه.
فرأيت نفسي لا تريد أن تدع العادة التي اُبتليت بها. فأدار الرجل رأسه وأدبر في حدة وغيظ ومضى في طريقه.
ثم رأيت كأن الأمور قد تغيرت، فرأيت نفسي في قطار ينطلق منحدراً بسرعة فائقة في داخل نفق تحت الأرض، فاضطربت من دهشتي، ولكن لا مناص لي حيث لا يمكنني الذهاب يميناً ولا شمالاً، ومن الغريب أنه كانت تبدو على طرفي القطار أزهار جميلة جذابة، وثمار لذيذة متنوعة، فمددت يدي كالأغبياء نحوها أحاول أن أقطف أزهارها وأحصل على ثمراتها، إلا أنها كانت بعيدة المنال، الأشواك فيها انغرزت في يدي بمجرد ملامستها فأدمتها وجرحتها، والقطار كان ماضياً بسرعة فائقة فآذيت نفسي من دون فائدة تعود عليّ. فقال أحد موظفي القطار:(4/194)
أعطني خمسة قروش لأنتقي لك الكمية المناسبة التي تريدها من تلك الأزهار والأثمار، فإنك تخسر بجروحك هذه أضعاف أضعاف ما تحصل عليه بخمسة قروش، فضلاً عن أن هناك عقاباً على صنيعك هذا، حيث إنك تقطفها من غير إذن.
فاشتد عليّ الكرب في تلك الحالة، فنظرت أتطلع من النافذة إلى الأمام لأتعرف نهاية النفق، فرأيت أن هناك نوافذ كثيرة وثغوراً عدة قد أحلت محل نهاية النفق، وأن مسافري القطار يقذفون خارجاً من القطار إلى تلك الثغور والحفر، ورأيت أن ثغراً يقابلني أنا بالذات أُقيم على طرفيه حجر أشبه ما يكون بشواهد القبر، فنظرت إليها بكل دقة وإمعان فرأيت أنه قد كتب عليها بحروف كبيرة اسم سعيد، فصرخت من فرقي وحيرتي:
- يا ويلاه!!
وآنذاك سمعت صوت ذلك الرجل الذي أطال علي النصح في باب الملهى.
وهو يقول:
هل استرجعت عقلك يا بني وأفقت من سكرتك.
فقلت:
نعم ولكن بعد فوات الأوان، بعد أن خارت قواي ولم يبق لي حول ولا قوة.
فقال:
- تُب وتوكل.
فقلت:
- قد فعلت.
ثم أفقتُ، وقد اختفى سعيد القديم ورأيت نفسي سعيداً جديداً".(1)
يمكن تقسيم رؤيا النورسي تلك إلى قسمين أساسين:
ففي القسم الأول رأى وكأنه من المفترض عليه أن يقطع مسافة طويلة إلى بلد بعيد، وعين له من أرسله مبلغ ستين ليرة، يتسلم منها كل يوم المقدار الذي يعينه على سفره، وعند دخوله لأول نُزل تسلم ما انفق عليه من قبل. فأنفقه كله على متعه ولذائذه، ولم يبقَ له سوى الحسرة والندم على ما أقدم عليه.
وبينما هو على هذه الحالة المحزنة والأليمة، ظهر أمامه رجل وبّخه على أفعاله المنكرة وحذره من العقوبات الشديدة، ثم نصحه بضرورة التوبة والرجوع إلى جادة الحق، وأيضاً توفير ولو قليل من المال ليصرفه على احتياجاته في ذلك البلد. فلم يقتنع بنصيحته أو يلتفت إلى تحذيره، وذلك لما ابتلى به من شديد الشهوات، وتعلق زائد عن الحد بها.
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 379،367(4/195)
أما القسم الثاني، فرأى فيه وكأنه راكب في قطار يندفع بسرعة عالية، داخل حفرة عميقة في الأرض، وعلى جانبيها زرعت أزهار غاية في الروعة والجمال، وحاول لجهله بطبيعتها قطف بعضاً منها. فارتدت يده دامية عند لمسها، فجاءه أحد العاملين بالقطار. وطلب منه نظير كمية قليلة من النقود أن يعطيه بعضها، وبذلك يعفيه من تبعات أخذها بنفسه.
عندئذ اشتد غمه وزاد حزنه، فألقى نظرة على نهاية سير القطار فرأى الكثير من الفرجات والحفر تسد نهاية الطريق أمامهم، وإلى هذه الفرجات والحفر يرمى ويقذف بالمسافرين، أما هو فرأى حفرته المفترض رميه فيها مكتوباً عليها سعيد، فجزع وخاف، وفجأة ظهر ذلك الرجل ليسأله هل عاد فعلا إلى رشده، وعرف طريق الاستقامة والصلاح وعرف طريق الاستقامة والصلاح، فلما رد عليه بالإيجاب، إذا به يستيقظ من نومه، ولكن على تغيير هائل في حياته الدنيوية، وهو توارى سعيد القديم عن الأنظار بكل ماضيه ، وظهور سعيد جديد، لا علاقة له بما كان يفعله سعيد القديم.
وأوّل النورسي جانباً من تلك الرؤيا بقوله:
" أن ذلك السفر هو السفر الذي يمر من عالم الأرواح، ومن أطوار عالم الرحم، ومن الشباب، ومن الشيخوخة، ومن القبر، ومن البرزخ إلى الحشر، وإلى الصراط وإلى أبد الآباد.
وتلك الليرات الذهبية البالغة ستين هي العمر البالغ ستين عاماً، وذلك النفق هو الحياة الدنيا، وحيثما رأيت تلك الواقعة الخيالية كنت في الخامسة والأربعين من العمر حسب ظني، ولم يكن لي سند ولا حجة من أن أعيش إلى الستين من العمر، إلا أنه أرشدني أحد تلاميذ القرآن المخلصين أن انفق ما بقي من العمر الغالب – وهو خمسة عشر عاماً – في سبيل الآخرة.
وذلك الفندق هو مدينة استانبول بالنسبة لي.(4/196)
وذلك القطار هو الزمن، وكل عام بمنزلة عربة منه، وذلك النفق هو الحياة الدنيا، وتلك الأزهار والثمار الشائكة هي اللذات غير المشروعة واللّهو المحظور، حيث إن الألم الناشئ من تصور زوالها يدمي القلب ويجرح النفس، فيقاسي الإنسان من توقع فراقها مرارة العذاب، وأن معنى ما قاله الخادم في القطار، أعطني خمسة قروش أعطك أحسن ما تحتاجه هو: أن اللذات والأذواق التي يحصل عليها الإنسان عن طريق السعي الحلال ضمن الدائرة المشروعة كافية لسعادته وهنائه وراحته. فلا يدع مجالاً للدخول في الحرام، ويمكنك أن تفسر ما بقي".(1)
والباقي يمكن تفسيره على النحو الآتي:
فنهاية النفق هي خاتمة الحياة، أي الموت، والنوافذ والثغور الكثيرة هي القبور التي يقذف فيها الناس كرهاً وبلا اختيار منهم، والثغر أو الحفرة التي رآها مواجهة له هي قبره مكتوب عليه اسمه. أما مضمون كلام الرجل فيمثل نهاية لمرحلة طويلة من عمره، وبداية لمرحلة جديدة أخرى من حياته.
ومقصود النورسي من تلك الحكاية هو أن الدنيا قد تتراءى لمحبيها وعشاقها كحقيقة ثابتة وراسخة لا تتغير ولا تقبل التغير، ولكن عوامل زوالها وفنائها كامنة في مكوناتها الوجودية، بل يعد عدمها جزءاً لا يتجزأ من مفهوم وجودها، وعلى رأسها انتقالها الدائم وتبدلها المستمر، وتغيرها من حال إلى حال بلا توقف أو انقطاع.
الدين والدنيا
في مثل يعد الأطول من أمثلة وحكايات رسائل النور الرمزية، تحدث فيه النورسي عن الدين وأثره في حياة الإنسان وأهميته في سلوكه اليومي، وعن طبيعة الدنيا الزائلة، وكيف أن الدنيا بلا دين تتحول إلى سجن كبير يتعذب فيه الناس بلا نهاية منظورة لعذابهم.
بدأ النورسي هذا المثل أو هذه الحكاية الطويلة بمقدمة جاء فيها:
" كان شقيقان في قديم الزمان يذهبان معاً إلى سياحة طويلة فواصلا سيرهما سوية إلى أن وصلا إلى مفرق طريقين، فرأيا رجلاً وقوراً فسألاه:
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 369(4/197)
أي الطريقين أفضل.
فأجابهما:
في الطريق اليمين التزام إجباري للقانون والنظام، إلا أن في ثنايا ذلك التكليف ثمة أمان وسعادة: أما طريق الشمال ففيه الحرية والتحرر، إلا أن في ثنايا تلك الحرية تهلكة وشقاء: والآن لكم الخيار في سلوك أيهما.
وبعد الاستماع إلى هذا الكلام سلك الأخ ذو الطبع الطيب طريق اليمين قائلاً:
توكلت على اللّه.
وانطلق راضياً عن طيب نفس باتباع النظام والانتظام، أما الآخر الغاوي، فقد رجح طريق الشمال لمجرد هوى التحرر الذي فيه".(1)
ثم فصل النورسي بعد ذلك تفصيلاً دقيقاً ووافياً ما حدث لكل منهما، مقدماً في روايته الشقيق الثاني الذي أكثر التحرر من أي قيد يحد من مجال حركته الحيوي، فحكى عنه قائلاً:
" فما أن عبر الوديان العميقة والمرتفعات العالية الوعرة حتى دخل وسط مفازة خالية وصحراء موحشة، فسمع صوتاً مخيفاً، ورأى أن أسداً ضخماً غضوباً قد انطلق من الأحراش نحوه، ففر منه فراراً وهو يرتعد خوفاً وهلعاً، فصادف بئراً معطلة على عمق ستين ذراعاً، فألقى نفسه فيها طلباً للنجاة، وفي أثناء السقوط لقيت يداه شجرة فتشبث بها، وكان لهذه الشجرة جذران نبتا على جدار البئر وقد سلط عليهما فأران، أبيض وأسود، وهما يقضمان ذينك الجذرين بأسنانهما الحادة، فنظر إلى الأعلى فرأى الأسد واقفاً كالحارس على فوهة البئر، ونظر إلى الأسفل فرأى ثعباناً كبيراً جداً قد رفع رأسه يريد الاقتراب منه وهو على مسافة ثلاثين ذراعاً، وله فم واسع سعة البئر نفسها. ورأى ثمة حشرات مؤذية لاسعة تحبط به. نظر إلى أعلى الشجرة، فرأى أنها شجرة تين، إلا أنها تثمر بصورة خارقة أنواعاً مختلفة وكثيرة من فواكه الأشجار ابتداء من الجوز وانتهاء إلى الرمان".(2)
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 31
(2) الكلمات – النورسي ص 32،31(4/198)
وعلى الرغم من غرابة المشاهد التي مرت بالأخ الثاني، وبعدها عن المألوف، بل وشذوذها في أحيان كثيرة، إلا أنه لتبلد عقله وجمود مشاعره وأحاسيسه لم يقف عندها متأملاً ومفكراً. فعلق النورسي على مسلكه قائلاً:
" لم يكن هذا الرجل ليفهم – لسوء إدراكه وحماقته – بأن هذا الأمر ليس اعتيادياً، ولا يمكن أن تأتي كل هذه الأشياء مصادفة، ومن دون قصد، ولم يكن يفهم أن في هذه الشئون العجيبة أسراراً غريبة، وأن هناك وراء كل ذلك من يدبر هذه الأمور ويسيرها".(1)
وختم النورسي روايته عنه بما يؤكد فعلاً قلة عقله وسوء اختياره، قائلاً.
" فبينما يبكي قلب هذا الرجل، وتصرخ روحه، ويحار عقله من أوضاعه الأليمة، إذا بنفسه الأمارة بالسوء أخذت تلتهم فواكه تلك الشجرة، متجاهلة عما حولها، وكأن شيئاً لم يحدث، سادة أذنيها عن صرخات القلب وهواتف الروح، خادعة نفسها بنفسها، رغم أن قسماً من تلك الفواكه كانت مسمومة ومضرة".(2)
بعد ذلك مباشرة قص النورسي الوقائع التي شهدها الأخ الأول، قائلاً:
" فهذا الرجل المبارك ذو العقل الرشيد، ما يزال يقطع الطريق دون أن يعاني الضيق كأخيه، ذلك لأنه لا يفكر إلا في الأشياء الجميلة – لما له من جمال الخلق- ولا يأخذ بعنان الخيال إلا بما هو جميل ولطيف، لذا كان يستأنس بنفسه ولا يلاقي الصعوبة والمشقة كأخيه، ذلك لأنه يعرف النظام، ويعمل بمقتضى الولاء والاتباع، فيرى الأمور تسهل له، ويمضي حراً منطلقاً بالأمان والاستقرار.
وهكذا مضى حتى وجد بستاناً فيه أزهار جميلة وفواكه لطيفة مع ثمة جثث حيوانات وأشياء منتنة ومبعثرة هنا وهناك بسبب إهمال النظافة، كان أخوه الشقي قد دخل – من قبل – في هذا البستان أيضاً، غير أنه انشغل بمشاهدة الجيف الميتة وإنعام النظر فيها مما أشعره بالغثيان والدوار فغادره دون أن يأخذ قسطاً من الراحة لمواصلة السير.
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 32
(2) الكلمات – النورسي ص 32(4/199)
أما هذا الآخر فعملاً بقاعدة: انظر إلى الأحسن في كل شيء، فقد أهمل الجيف ولم يلتفت إليها مطلقاً، بل استفاد مما في البستان من الأشجار والفواكه، وبعدما استراح فيه الراحة التامة مضى إلى سبيله.
ودخل هو أيضاً كأخيه في صحراء عظيمة ومفازة واسعة، وفجأة سمع صوت أسد يهجم عليه، فخاف إلا أنه دون خوف أخيه، حيث فكر بحسن ظنه وجمال تفكيره قائلاً:
لا بد أن لهذه الصحراء حاكماً، فهذا الأسد إذن يحتمل أن يكون خادماً أميناً تحت أمرته.
فوجد في ذلك اطمئناناً، غير أنه فر كذلك حتى وصل وجهاً لوجه إلى بئر معطلة بعمق ستين ذراعاً فألقى نفسه فيها وأمسك كأخيه بشجرة في منتصف الطريق من البئر، وبقى معلقاً بها، فرأى حيوانين أثنين يقطعان جذري تلك الشجرة رويداً رويداً، فنظر إلى الأعلى فرأى الأسد، ونظر إلى الأسفل فرأى ثعباناً ضخماً، ونظر إلى نفسه فوجدها كأخيه تماماً في وضع عجيب غريب، فدهش من الأمر هو كذلك، إلا أنه دون دهشة أخيه بألف مرة، لما منحه اللّه من حسن الخلق وحسن التفكير والفكر الجميل الذي لا يريه إلا الجهة الجميلة من الأشياء، ولهذا السبب فكر هكذا:
إن هذه الأمور العجيبة ذات علاقات مترابطة بعضها ببعض، وأنها لتظهر كأن آمراً واحداً يحركها، فلابد إذن أن يكون في هذه الأعمال المحيرة سر مغلق، وطلسم غير مكشوف. أجل إن كل هذا يرجع إلى أوامر حاكم خاص، فأنا إذن لست وحيداً، بل ذلك الحاكم الخفي ينظر إلىّ ويرعاني ويختبرني، ولحكمة مقصودة يسوقني إلى مكان ويدعونني إليه.
فنشأ لديه من هذا التفكير الجميل والخوف اللذيذ شوق أثار هذا السؤال:
من يكون يا ترى هذا الذي يجرّبني ويريد أن يعرّفني نفسه؟ ومن هذا الذي يسوقني في هذا الطريق العجيب إلى غاية هادفة؟(4/200)
ثم نشأ من الشوق إلى التعرف إلى محبة صاحب الطلسم، وَنمَّتْ تلك المحبةُ رغبةً في حَلِّ الطلسم. ومن تلك الرغبة انبعثت رغبة اتخاذ وضع جميل وحالة مقبولة لدى صاحب الطلسم حسب ما يحبه ويرضاه.
ثم نظر أعلى الشجرة فرأى أنها شجرة تين، غير أن في نهاية أغصانها آلاف الأنواع من الأثمار والفواكه، وعندها ذهب خوفه وزال نهائياً، لأنه علم قطعاً بأن شجرة التين هذه إنما هي فهرس ومعرض، حيث قلد الحاكم الخفي نماذج ما في بستانه وجناته بشكل معجز عليها وزيّنها بها، إشارة لما أعده من أطعمة ولذائذ لضيوفه، وإلا فإن شجرة واحدة لن تعطي أثمار آلاف الأشجار، فلم ير أمامه إلا الدعاء والتضرع، فالح متوسلاً بانكسار إلى أن ألهم مفتاح الطلسم فهتف قائلاً:
يا حاكم هذه الديار والآفاق التجئ إليك وأتوسل وأتضرع، فأنا لك خادم، أريد رضاك وأنا أطلبك وأبحث عنك.
فأنشق جدار البئر فجأة بعد هذا الدعاء عن باب يفتح إلى بستان فاخر طاهر جميل، وربما أنقلب فم ذلك الثعبان إلى ذلك الباب واتخذ كل من الأسد والثعبان صورة الخادم وهيأته، فأخذا يدعوانه إلى البستان، حتى إن ذلك الأسد تقمص شكل حصان مسخر بين يديه".(1)
وبما أن الوقائع على ما بينها من تشابه في منتهى التناقض، فقد عقد النورسي موازنة ومقارنة بين تفكير وتصرف كل من الأخوين قائلاً:
" إن المسافر الشقي إلى جهة الشمال معرّض في كل آن إلى أَنْ يلج في فم الثعبان، فهو يرتجف خوفاً وهلعاً، بينما هذا السعيد يدعى إلى بستان أنيق مثمر بفواكه شتى، وأن قلب ذلك الشقي يتمزق في خوف عظيم ورعب أليم، بينما هذا السعيد يرى غرائب الأشياء وينظر إليها بعبرة حلوة وخوف لذيذ ومعرفة محبوبة.
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 33،34(4/201)
وأن ذلك الشقي المسكين ليعاني من الوحشة واليأس واليتم عذاباً وأي عذاب! بينما هذا السعيد يتلذذ في الأنس ويترفل في الأمل والشوق، ثم إِن ذلك المنكود يرى نفسه محكوماً عليه كالسجين بهجمات الحشرات المؤذية، بينما السعيد المحظوظ يتمتع متعة ضيف عزيز، وكيف لا وهو ضيف عند مضيف كريم، فيستأنس مع عجائب خدمه.
ثم إِن ذلك السيئ الحظ ليعجّل عذابه في النار بأكله من مأكولات لذيذة الطعم ظاهراً ومسمومة حقيقة ومعنى، إذ أن تلك الفواكه ما هي إلا نماذج قد أُذِنَ له تذوقها فحسب ليكون طالباً لحقائقها وأصولها، وشارياً لأصولها، وإلا فلا سماح للتناول منها بشراهة حيوانية، أما هذا السعيد المحمود فإنه يتذوق منها إذ يعي الأمر، مؤخراً أكلها وملتذاً بالانتظار.
ثم إن ذلك الشقي يكون قد ظلم نفسه بنفسه، جاراً عليها وضعاً مظلماً وأوهاماً ذات ظلمات حتى كأنه في جحيم، بانعدام بصيرته عن حقائق ساطعة كالنهار، وأوضاع جميلة باهرة، فلا هو مستحق للشفقة ولا له حق الشكوى، مثله في هذا مثل رجل وسط أحبائه في موسم الصيف، وفي حديقة بهيجة في وليمة طيبة للأفراح، فلعدم قناعته بها راح يرتشف كؤوس الخمر، حتى أصبح سكيراً ثملاً، فشرع بالصراخ والعويل، وبدأ بالبكاء ظاناً نفسه أنه في قلب الشتاء القارس، وأنه جائع وعار وسط وحوش مفترسة، فمثلما أن هذا الرجل لا يستحق الشفقة والرأفة، إذ ظلم نفسه بنفسه متوهماً أصدقاءه وحوشاً، محتقراً لهم.. فكذلك هذا المشؤوم".(1)
أما تفسير النورسي للحكاية التمثيلية الرمزية فجاء مفصلاً لوقائعها وذلك على النحو التالي:
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 34،35(4/202)
" فالأخوان الاثنان، أحدهما روح المؤمن وقلب الصالح، والآخر روح الكافر وقلب الفاسق، أما اليمين من تلكما الطريقين فهي طريق القرآن وطريق الإيمان، وأما الشمال فطريق العصيان والكفران، وأما ذلك البستان في الطريق فهو الحياة الاجتماعية المؤقتة للمجتمع البشري والحضارة الإنسانية التي يوجد فيه الخير والشر والطيب والخبيث والطاهر والقذر، فالعاقل هو من يعمل على قاعدة: خذ ما صفا دع ما كدر، فيسير مع سلامة القلب واطمئنان الوجدان.
وأما تلك الصحراء فهي هذه الدنيا وهذه الأرض، وأما ذلك الأسد فهو الأجل والموت، وأما تلك البئر فهي جسد الإنسان وزمان الحياة، وأما ذلك العمق البالغ ستين ذراعاً فهو إشارة إلى العمر الغالب، ومعدله ستون سنة. وأما تلك الشجرة فهي مدة العمر ومادة الحياة. وأما الحيوانان الاثنان الأسود والأبيض فهما الليل والنهار، وأما ذلك الثعبان فهو فم القبر المفتوح إلى طريق البرزخ ورواق الآخرة، إلا أن ذلك الفم هو للمؤمن باب يفتح من السجن إلى البستان.(4/203)
وأما تلك الحشرات المضرة فهي المصائب الدنيوية، إلا أنها للمؤمن في حكم الإيقاظات الإلهية الحلوة والالتفاتات الرحمانية لئلا يغفل، وأما مطعومات تلك الشجرة فهي النعم الدنيوية التي صنعها رب العزة الكريم لكي تكون فهرساً للنعم الأخروية ومذكرة بها، بمشابهتها لها، وقد خلقها البارئ الحكيم على هيئة نماذج لدعوة الزبائن إلى فواكه الجنة، وأن عطاء تلك الشجرة على وحدتها الفواكه المختلفة المتباينة إشارة إلى آية الصمدانية الإلهية وطغراء سلطنة الألوهية، ذلك لأن صنع كل شيء من شيء واحد، أي صنع جميع النباتات وأثمارها من تراب واحد، وخلق جميع الحيوانات من ماء واحد، وإبداع جميع الأجهزة الحيوانية من طعام بسيط، وكذا صنع الشيء الواحد من كل شيء كبناء لحم معين وجلد بسيط لذي حياة من مطعومات مختلفة الأجناس، إنما هي الآية الخاصة للذات الأحدية الصمدية، والختم المخصوص للسلطان الأزلي الأبدي وطغراؤه التي لا يمكن تقليدها أبداً.
وأما ذلك المفتاح فهو (اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم) ويا اللّه ولا إله إلا اللّه.
وأما انقلاب فم الثعبان إلى باب البستان فهو رمز إلى أن القبر هو سجن الوحشة والنسيان والإهمال والضيق، فهو كبطن الثعبان لأهل الضلالة والطغيان. ولكن لأهل الإيمان والقرآن باب مفتوح على مصراعيه من سجن الدنيا إلى بستان البقاء. ومن ميدان الامتحان إلى روضة الجنان، ومن زحمة الحياة إلى رحمة الرحمن.(4/204)
وأما انقلاب ذلك الأسد إلى حصان مسخر وإلى خادم مؤنس فهو إشارة إلى أن الموت لأهل الضلال فراق أبدي أليم من جميع الأحبة، وخروج من جنة دنيوية كاذبة إلى وحشة سجن انفرادي للقبر. وضياع في تيه سحيق، بينما هو لأهل الهداية والقرآن رحلة إلى العالم الآخر، ووسيلة إلى ملاقاة الأحبة والأصدقاء القدامى، وواسطة إلى دخول الوطن الحقيقي ومنازل السعادة الأبدية، ودعوة كريمة من سجن الدنيا إلى بساتين الجنان، وانتظار لأخذ الأجرة للخدمات تفضلاً من الرحمن الرحيم، وتسريح من تكاليف الحياة وإجازة من وظيفتها، وإعلان وانتهاء من واجبات العبودية وامتحانات التعليم والتعليمات".(1)
وأخيراً انتهى النورسي إلى حصيلة الحكاية التمثيلية، فقال ناصحاً ومحذراً:
" إن كل من يجعل الحياة الفانية مبتغاه فسيكون في جهنم حقيقة ومعنى، حتى لو كان يتقلب ظاهراً في بحبوحة النعيم.
وإن كل من كان متوجهاً إلى الحياة الباقية ويسعى لها بجد وإخلاص، فهو فائز بسعادة الدارين، وأهل لهما معاً حتى لو كانت دنياه سيئة وضيقة، إلا أنه سيراها حلوة طيبة، وسيراها قاعة انتظار لجنته، فيتحملها ويشكر ربه فيها، وهو يخوض غمار الصبر". (2)
حب الدنيا
سئل النورسي:
هل يمكن أن يتحول حب الدنيا الطبيعي والغريزي في نفوس الناس إلى عشق حقيقي، أي إلى الحب في الله، فأجاب بقوله:
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 36،37
(2) الكلمات – النورسي ص 37(4/205)
" نعم إذا شاهد ذلك العاشق المجازي لوجه الدنيا الفاني، قبح الزوال ودمامة الفناء على ذلك الوجه، فأعرض عنه، وبحث وتحرى عن محبوب باق لا يزول، ووفقه اللّه للنظر إلى وجهي الدنيا الجميلين – وهما مرآة الأسماء الحسنى، ومزرعة الآخرة – انقلب حينئذ العشق المجازي غير المشروع إلى عشق حقيقي، ولكن بشرط ألا يلتبس عليه، دنياه غير المستقرة المرتبطة بحياته بالدنيا الخارجية، إذ لو نسى نفسه نسيان أهل الضلالة والغفلة وخاض في غمار آفاق الدنيا وظن دنياه الخاصة كالدنيا العمومية فعشقها، فإنه يقع في مستنقع الطبيعة ويغرق، إلا من أنجته يد العناية نجاة خارقة للعادة".(1)
يعني إذا تبين لذلك المحب عن تجربة حية الوجه الحقيقي للدنيا. أي الوجه القبيح المتمثل في زوالها وسرعة فنائها وفي فراقه هو لها، وانصرف عنها، ثم اتجه بكليته إلى دنيا جميلة ذات بعدين:
الأول حيث تتجلى فيه وعلى صفحته الخارجية أسماء اللّه تعالى وصفاته
الثاني يجعلها موضعاً لأعمال تدخر له يوم القيامة.
عندئذ يتحول حبه لها إلى حب حقيقي ينال به خير الدنيا الزائلة، وخير الآخرة الباقية، شريطة أن يوازن موازنة دقيقة وشاملة بين حياتين ودنيتين الزائلة والباقية حتى لا يختلط عليه أمرهما، فيتحول دون وعي منه ولا إدراك إلى حب الأولى حباً يبلغ حد الإفراط الذي يؤدي به لا محالة إلى الهلاك والبوار.
ثم دعا النورسي سائله إلى النظر في ذلك الحب المفرط على ضوء المثال التالي:
" هب أننا نحن الأربعة دخلنا غرفة، على جدرانها الأربعة مرايا كبيرة كبر الحائط، فعندئذ تصبح تلك الغرفة الجميلة خمس غرف، إحداهما حقيقية وعمومية، والأربعة الأخرى مثالية وخصوصية، وكل منا يستطيع أن يبدل في شكل غرفته الخاصة وهيئتها ولونها بواسطة مرآته. فلو صبغناها باللون الأحمر، فإنها ترى الغرفة حمراء، ولو صبغناها باللون الأخضر فإنها تريها خضراء.
__________
(1) المكتوبات – النورسي ص 12(4/206)
وهكذا يمكننا أن نعطي للغرفة أوضاعاً متنوعة بالتغيير في المرآة والتصرف فيها، بل تستطيع وضعها في أوضاع جميلة أو قبيحة، أو أي شكل نرغب فيه، ولكننا لا نستطيع أن نغير ونبدل الغرفة العمومية الخارجة عن المرآة بسهولة ويسر، فأحكام الغرفتين الخصوصية والعمومية مختلفتان، وإن كانتا واحدة متحدة في الحقيقة، فأنت بتحريك إصبع يمكنك تخريب غرفتك بينما لا يمكنك تحريك حجر من تلك الغرفة العمومية ولو قيد أنملة".(1)
فمضمون المثل يتلخص في أن هؤلاء الأربعة ولجوا إلى غرفة جعلتها أربعة مرايا موضوعة فيها كما لو كانت خمس غرف، وذلك لانعكاس جدرانها الأربعة على المرايا، فواحدة هي الأصل، والأربع الأخريات صور وأشكال لها.
وبما أن عدد الغرف المنعكسة في المرآة بعدد الداخلين، فبإمكان كل منهم التصرف فيما يخصه بالتلوين والتبديل في أوضاعها، وذلك فقط بتحويل المرآة من حالة إلى أخرى، أما الغرفة الأصل فلا يتأتى له ذلك إلا بمشقة وصعوبة.
والمحصلة الأخيرة أن الغرف الخمس مشتركة في الحقيقة والأصل ولكنها متباينة في الصور والأشكال، فمن السهل لأي من أولئك هدم صورة غرفته أما المساس بالأصل فيستحيل عليه.
والدنيا شبيهة بالمثل السابق: يقول النورسي في تفسيره له:
" وهكذا الدنيا فهي منزل جميل مزين، وحياة كل منا مرآة كبيرة واسعة، ولكل منا دنياه الخاصة من هذه الدنيا العمومية، ولكل منا عالمه الخاص به، إلا أن عمود دنياه ومركزها حياتنا، بل أن دنيانا وعالمنا الخاص صحيفة، وحياتنا قلم، يكتب بوساطته كثير من الأشياء التي تنقل إلى صحيفة أعمالنا.
__________
(1) المكتوبات – النورسي ص 13،12(4/207)
فإن أحيينا دنيانا، ثم شاهدنا أنها زائلة فانية لا قرار لها كحياتنا – لأنها مبنية فوقها – وشعرنا بهذا الزوال وأدركناه، عندئذ تتحول محبتنا نحوها إلى محبة نقوش الأسماء الإلهية الحسنى التي تمثلها دنيانا الخاصة، المرآة لها، ومنها تنتقل المحبة إلى محبة تجليات الأسماء الحسنى".(1)
وكما يفهم من تفسير النورسي فهناك دنيا عامة وشاملة، هي الأصل لما سواها من الدنى، ودنيا خاصة بكل إنسان على حدة هي الحياة، وتشبه الصورة في المثال. وتعد لخصوصيتها الشديدة مفتاحها ومدخلها، ليس هذا فحسب، بل أن هذه الدنيا تشبه الورقة البيضاء، والحياة كالقلم الذي تكتب به الأعمال.
فإذا أحب المرء دنياه الخاصة، أي الحياة. ثم تكشفت له عيوبها، عندها يتجه بتلك المحبة بدلاً من دنياه الخاصة إلى حب أسماء اللّه الحسنى المنعكسة عليها. ثم يقفز قفزة كبرى فيحب تجليات تلك الأسماء وظهورها على الوجود الخارجي، أي الدنيا العامة.
فناء الدنيا وبقاء الآخرة
إن نظام الدنيا وعمادها وهلاك أمرها كله يقوم معنى ومبنى على التغير والتبديل، في كل وقت وحين وبلا توقف أو انقطاع، حتى عدت مقولة: دوام الحال من المحال.
غير أن وراء هذا التبدل والتغيير، وخلف ذلك الزوال السريع، عالم آخر، نظامه وعماد أمره يقوم لا أقول على الثبات والسكون بل على الديمومة واللانهائية، مما يؤكد أن تلك الحياة لم تخلق في الأصل للزوال والفناء، وإلا لكان خلقها في حكم العبث الذي لا قصد فيه ولا إرادة، بل أعدت لحياة أخرى أبدية لا نهاية لها، وسرمدية دائمة لا زوال فيها.
وللتدليل على صحة ذلك الاقتران القوى والتلازم البين بين الحياتين، مثل لهما النورسي بهذا المثال:
" هب أنك تسير في طريق، وتشاهد أن عليها فندقاً ضخماً، بناه ملك عظيم لضيوفه، وهو ينفق مبالغ طائلة لتزيينه وتجميله كي يدخل البهجة في قلوب ضيوفه، ويعتبروا بما يرون.
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 13(4/208)
بيد أن أولئك الضيوف لا يتفرجون إلا على أقل القليل من تلك التزيينات، ولا يذوقون إلا أقل القليل من تلك النعم، حيث لا يلبثون إلا قليلاً، ومن ثم يغادرون الفندق دون أن يرتووا ويشبعوا، سوى ما يلتقطون من صور أشياء في الفندق بما يملكون من آلة تصوير، وكذلك يفعل عمال صاحب الفندق وخدامه حيث يلتقطون حركات هؤلاء النزلاء وسكناتهم بكل دقة وأمانة ويسجلونها.
فها أنت ترى أن الملك يهدم يومياً أغلب تلك التزيينات النفيسة مجدداً إياها بأخرى جديدة للضيوف الجدد، أفبعد هذا يبقى لديك شك في أنَّ مَنْ بنى هذا الفندق على قارعة هذا الطريق، يملك قصوراً دائمة عالية، وله خزائن زاخرة ثمينة لا تنفد، وهو ذو سخاء دائم لا ينقطع، وأن ما يبديه من الكرم في هذا الفندق هو لإثارة شهية ضيوفه إلى ما عنده من أشياء ولتنبيه رغباتهم وتحريكها لما أعد لهم من هدايا".(1)
فالملك العظيم صاحب الفندق الكبير مجاز عن اللّه تعالى، والفندق الكبير هو الدنيا التي أعدها اللّه وهيأها بكل ما يدخل البهجة والسرور في نفوس عباده، ولكنهم لا يتمتعون فيها إلا بالقدر اليسير من متعها وأفراحها، ثم يتركونها لغيرهم دون أن يحفظوا في ذاكرتهم منها إلا عدداً محدوداً من الذكريات، أما عمال الفندق وخدامه وهم الملائكة فلا يتركون شاردة ولا واردة مما فعلوه إلا وأحصوها لهم، ودونوها في كتبهم.
وهنا يقفز سؤال: هل هناك شك في أن من خلق هذه الدنيا ألا يخلق عالماً أخر أروع وأبهج وأجمل وأعظم منه:
إن الإجابة البديهية بالإيجاب هي التي أدت بالنورسي إلى تقرير حقيقة واحدة مفادها أن أبسط مقارنة بين الحياتين تقود مباشرة إلى الخروج بتسع قواعد تظهر في مجموعها ذلك الترابط الدقيق بينهما، وهي:
"أن هذه الدنيا الشبيهة بذلك الفندق ليست لذاتها، وإنما هي دار ضيافة تملأ وتفرغ، ومنزل حل وترحال، أنشئت بحكمة لقافلة الموجودات والمخلوقات.
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 78،77(4/209)
أن ساكني هذا الفندق هم ضيوف مسافرون، وأن ربهم الكريم يدعوهم إلى دار السلام.
أن التزيينات في هذه الدنيا ليست لأجل التلذذ والتمتع فحسب، إذ لو أذاقتك اللذة ساعة، أذاقتك الآلام بفراقها ساعات وساعات. فهي تذيقك مثيرة شهيتك دون أن تشبعك لقصر عمرها أو لقصر عمرك. إذن فهذه الزينة الغالية الثمن والقصيرة العمر هي للعبرة وللشكر، وللحض على الوصول إلى تناول أصولها الدائمة، ولغايات أخرى سامية.
إن هذه الزينة في الدنيا بمثابة صور ونماذج للنعم المدخرة لدى الرحمة الإلهية في الجنة للمؤمنين.
إن هذه المصنوعات الفانية ليست للفناء، ولم تخلق لتشاهد حيناً ثم تذهب هباء، وإنما اجتمعت هنا وأخذت مكانها المطلوب لفترة قصيرة كي تلتقط صورها وتفهم معانيها وتدون نتائجها، ولتنسج لأهل الخلود مناظر أبدية دائمة، ولتكون مداراً لغاية أخرى في عالم البقاء.
إن الإنسان لم يترك حبله على غاربه، ولم يترك طليقاً ليرتع أينما يريد، بل تسجل جميع أعماله وتلتقط صورها، وتدون جميع أفعاله ليحاسب عليها.
أن الموت والاندثار الذي يصيب في الخريف مخلوقات الربيع والصيف الجميلة ليس فناء نهائياً، وإنما هو إعفاء من وظائفها بعد إكمالها وإيفائها. وتسريح منها، وهو إفساح مجال وتخلية مكان لما سيأتي في الربيع الجديد.
إن الصانع السرمدي لهذا العالم الفاني له عالم غير هذا، وهو عالم باق خالد، ويشوّق عباده إليه ويسوقهم.
إن الرحمن الرحيم سوف يكرم في ذلك العالم الفسيح عباده المخلصين بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر".(1)
ومن الواضح أن القواعد التسع تنصب مجتمعة في معنى واحد وهو أن الدنيا بما فيها من مخلوقات لم تخلق للعدم أو اللاوجود، بل للوجود واستمرار الوجود إلى ما لا نهاية، والمثل التالي يصور وبتركيز شديد ذلك المعنى، يقول فيه النورسي:
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 81،78(4/210)
" تأمل هذه الزهرة، وهي كلمة من كلمات القدرة الإلهية، أنها تنظر إلينا مبتسمة لنا لفترة قصيرة، ثم تختفي وراء ستار الفناء، فهي كالكلمة التي نتفوه بها، التي تودع آلافاً من مثيلاتها في الأذان وتبقى معانيها بعدد العقول المنصتة لها، وتمضي بعد أن أدت وظيفتها، وهي إفادة المعنى.
فالزهرة أيضاً ترحل بعد أن تودع في ذاكرة كل من شاهدها صورتها الظاهرة، وبعد أن تودع في بذيراتها ماهيتها المعنوية، فكأن كل ذاكرة وكل بذرة بمثابة صور فوتوغرافية لحفظ جمالها وصورتها وزينتها ومحل إدامة بقائها".(1)
وكما يستفاد من المثل، فهناك حقيقة واحدة ذات بعدين متلازمين، ووجهين متشابهين:
أولهما: أن فناء الدنيا بمخلوقاتها هو أشبه بتحريرها من أسر كانت مكبلة فيه.
وثانيهما: أن تلك المخلوقات تحمل في باطنها قدرة عجيبة للمحافظة على نوعها، فتترك وراءها دوماً عناصر وأصول بقائها بصور وأشكال كثيرة ومتنوعة.
الفصل التاسع
الوجود
ظاهر الوجود ومعناه
من خصائص وجود الموجودات الثابتة في عالم الإيمان، أن كل موجود منها بعد اختفائه وزواله من الوجود، يذهب وكما يرى النورسي إلى العدم والفناء ظاهراً، ولكن يبقى المعنى الذي استفاده وعبر عنه بوجوده، وتبقى أيضاً هويته وماهيته محفوظة، بمعنى أن الموجود يفقد وجوداً ظاهرياً صورياً، ويكسب مئات من الوجود المعنوي والعلمي.
ومثل لهذه الحقيقة بقوله:
" تعطى للحروف المطبعية ترتيباً معيناً ووضعاً خاصاً كي تطبع صحيفة معينة، فصورة تلك الصحيفة الواحدة وهويتها تعطى إلى صحائف مطبوعة متعددة، وتنشر معاني ما فيها من عقول كثيرة، وبعد ذلك تتبدل أوضاع تلك الحروف وتغير لانتفاء الحاجة إليها، وللحاجة إلى تنضيد صحائف أخرى بتلك الحروف".(2)
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 80
(2) المكتوبات – النورسي ص 379(4/211)
فكل مكتوب إذن قد يكون من حروف كثيرة جداً ومتفرقة، صفت بنظام خاص وترتيب معين به يخرج إلى الوجود، مكتملاً في شكله المعهود، وكاشفاً عن محتواه العلمي، ويمكن منه استنساخ نماذج عديدة، ثم تتبدل بعد ذلك الحروف لتستغل في مكتوب آخر، وهكذا دواليك.
وهذا ينطبق على كل مخلوقات اللّه. يقول النورسي:
" فإن قلم القدر الإلهي يعطي هذه الموجودات الأرضية ولا سيما النباتية منها. ترتيباً معيناً ووضعاً معيناً، والقدرة الإلهية توجدها في صحيفة موسم الربيع، فتعبر عن معانيها الجميلة، وحيث إن صورها وهوياتها تنقل إلى سجل الغيب، كعالم المثال، فإن الحكمة تقتضي أن يتبدل ذلك الوضع. كي يكتب صحيفة جديدة للربيع المقبل لتعبر عن معانيها كذلك.
والمعنى أن اللّه تعالى قدر أزلاً وأبداً إيجاد الأشياء وفقاً لنظام تناسبي مضطرد، تخرج به من العدم إلى الوجود، بحيث تكشف بوجودها الظاهري عن معناها وحقيقتها وغاية وجودها، ثم تفنى وتزول مادتها أو شكلها الظاهري، ويبقى مطوياً في عالم الغيب، ثم لتخرج من جديد من عالم الغيب إلى عالم الشهادة في صورتها ومعناها الأول، بلا تغيير أو تبديل لا في جوهرها ولا أعراضها.
المقدرة الحياتية
يحمل كل موجود في أصل تكوينه المادي وغير المادي قوة منها يستمد دوام وجوده، وعليها يتوقف استمراريته المتجددة في الوجود، بحيث يبقى بقاء لا فناء فيه. والمثال البارز لهذه الديمومة رواه النورسي بقوله:
" إن زهرة ما تذبل ثم ترحل من الوجود، إلا أنها تترك مئات من البذيرات في الوجود، وتدع ماهيتها في تلك البذيرات، فضلاً عن أنها تترك ألوفاً من صورها في ألواح محفوظة صغيرة، وفي القوى الحافظة التي هي نماذج مصغرة للألواح المحفوظة، فتستقرئ ذوى الشعور التسبيحات الربانية ونقوش الأسماء الحسنى التي أدتها في أطوار حياتها، وبعد ذلك ترحل عن الوجود".(1)
__________
(1) المكتوبات – النورسي ص 379(4/212)
إن الزهرة تحافظ على بقائها المتجدد وثباتها في الوجود، بأمرين:
بالبذور الحاملة لماهية نوعها، والحافظة لجوهر وجودها.
وبالصورة والشكل الدال على نوعها، والمميز لها عما عداها من الكائنات اسماً ومعنى.
فالزهرة إذن متجددة الوجود بلا انقطاع، وباقية بقاءً لا فناء بعده. وهكذا، وكما يقول النورسي:
" فإن موسم الربيع المزدان الجميلة على سطح الأرض الشبيه بمزهرة عظيمة، إنما هو زهرة ناضرة تزول في الظاهر، وتذهب إلى العدم، بيد أنه – أي الربيع – يترك الحقائق الغيبية التي أفادها بعدد بذوره، ويترك الهويات المثالية التي نشرها بعدد الأزاهير، ويدع الحكم الربانية التي أظهرها بعدد الموجودات، فيترك الربيع كل أنواع الوجود هذه، ثم يغيب عن أنظارنا، زد على ذلك فإنه يفرغ المكان لأقرانه من جموع الربيع التي ستأتي إلى الوجود لتؤدي وظائفها"(1)
يعني أن الربيع كله كالزهرة الزائلة عن ظاهر الوجود، ولكنه يترك بعد ذهابه البذور وما تحمله من معانٍ دالة على ماهيتها، ليعود مرة أخرى ربيعاً جديداً حاملاً معه زهوراً جديدة في أشكالها القديمة ومعانيها المألوفة، وكأن شيئاً لم يكن، ليؤكد بهذه الديمومة المتدفقة حياة وحيوية على مقولة:
" إن ذلك الربيع ينزع عنه وجوداً ظاهرياً، ويلبس ألفاً من الوجود معنى".(2)
فالربيع من حيث الظاهر زائل لا محالة، ولكنه في الوقت نفسه له وجود متجدد في المعنى بلا فناء ولا عدم بعده.
وحدة الوجود
وردت على النورسي مجموعة من الأسئلة عن موضوعات شتى، من بينها سؤال عن منهج محي الدين بن عربي في قضية وحدة الوجود، وعباراته الغامضة عن الروح والتي قال فيها:
" إن مخلوقية الروح عبارة عن انكشافها".(3)
فرد عليه النورسي رداً عاماً جاء فيه:
__________
(1) المكتوبات – النورسي ص 380
(2) المكتوبات – النورسي ص 380
(3) اللمعات – النورسي ص 52(4/213)
" اعلم أن محي الدين بن عربي لا يخدع ولكن ينخدع، فهو مهتد، ولكنه لا يكون هادياً لغيره في كل ما كتبه، فما رآه صدق وصواب، ولكن ليس هو الحقيقة".(1)
وقال عن تلك العبارة الغامضة.
" نعم إِن الروح من حيث الماهية قانون أمري، ولكن ليست وجوداً خارجياً، فهي ناموس ذو حياة، وقانون ذو وجود خارجي، فالشيخ محي الدين نظر إلى الروح من حيث ماهيتها فحسب، ويرى الأشياء خيالاً حسب مشرب وحدة الوجود".(2)
فمن المعروف أن الروح جوهر علوي موجود في الخارج بالأمر الإلهي، فيكون وجوده زمانياً لا بالخلق، ويظهر فيما له مادة كالأنس وغيرهم، فيكون وجوده آنياً وظرفياً، واكتفى ابن عربي من حقيقة الروح بجوهريتها مجردة عن وجودها الأمري، وذلك تطبيقاً لمنهجه في وحدة الوجود.
وعلق النورسي على منهجه قائلاً:
" ولما كان الشيخ قد انتهج مسلكاً مستقلاً، وكان صاحب مشرب مهم وله كشفيات ومشاهدات خارقة فانه يلجأ باضطرار إلى تأويلات ضعيفة وتكلف وتمحل ليفسر بعض الآيات الكريمة حسب مشربه ومشهوداته، مما يخدش صراحة الآية الكريمة ويجرحها".(3)
والنتيجة الطبيعية لمنهج ابن عربي وطريقته القائمة أصلاً على الذوقيات والكشفيات هي مخالفته لجمهور أهل السنة في كثير من المسائل، ولما كان الفرق بينه وبينهم شاسعاً، فقد أراد النورسي في رده على المسائل تحقيق أمرين:
بيان خطأ ابن عربي في تلك المسألة.
وتوضيح الفرق بين منهجه ومنهجهم.
وذلك من خلال المثل التالي:
" الشمس تشاهد في مرآة، فهذه المرآة هي مظروف الشمس وموضوعها بمعنى أن الشمس توجد فيها من جهة، ومن جهة أخرى تزين المرآة حتى تكون صفتها اللامعة وصبغتها الساطعة.
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 52
(2) اللمعات – النورسي ص 52
(3) اللمعات – النورسي ص 52(4/214)
فإذا كانت تلك المرآة، مرآة آلة تصوير فإنها ستنقل صورة الشمس على ورقة حساسة بصورة ثابتة، ففي هذه الحالة فالشمس المشهودة في المرآة وماهيتها المرتسمة على الورقة وصفاتها وتزيينها المرآة – حتى غدت كأنها صفتها – غير الشمس الحقيقة، فهي ليست شمساً، بل هي دخول تجلي الشمس في وجود آخر.
أما وجود الشمس المشهودة في المرآة، فهو وإن لم يكن عين وجود الشمس الموجودة في الخارج، إلا أنه ظن أنه عين وجودها لارتباطه بها وإشارته إليها".(1)
والمفهوم من المثل بسيط، فالشمس لها مظهران:
الأول: أن تُرى في مرآة، فتكون المرآة مشتملة عليها، أي أن الشمس موجودة من ناحية في المرآة، وموجودة أيضاً من ناحية أخرى كمصدر جمال وحسن للمرآة، فتكون كالصفة لها.
والثاني: عندما تظهر الشمس كصورة مأخوذة بآلة تصوير، فهي في هذه الحالة ليست الشمس الحقيقية، بل هي تجل للشمس على الورقة المصورة، وبالتالي فهي تخالف الشمس الموجودة على المرآة، لأن الشمس المرئية في المرآة ليست هي بذاتها الشمس المتألقة في السماء، ولكن قد يعتقد أنها هي.
ومن هنا خلص النورسي إلى النتيجة التالية:
" فإن القول بأن ليس في المرآة غير الشمس الحقيقية، يمكن أن يكون صواباً باعتبار المرآة ظرفاً، وأن المقصود من الشمس التي فيها وجودها الخارجي، ولكن إذا قيل أن صورة الشمس المنبسطة على المرآة – التي أخذت حكم المرآة – والصورة التي انتقلت إلى الورقة الحساسة أنها الشمس فهذا خطأ، أي أن عبارة: ليس في المرآة غير الشمس، تكون عبارة خطأ، وذلك لأن هناك صورة الشمس التي تظهر على المرآة، وهناك الصورة المرتسمة خلفها على الورق الحساس، فكل منها لها وجود خاص بها، فمع أن ذينك الوجودين هما تجلي الشمس إلا أنها ليسا الشمس نفسها".(2)
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 53،52
(2) اللمعات – النورسي ص 54(4/215)
فعلاقة المرآة بالشمس هي العلاقة التقليدية بين الأصل والصورة، فمن زعم أنه ليس في المرآة غير الشمس الحقيقية. يكون قد وحد بين الأصل والصورة، وهذا بعيد عن الصواب، وخطأ لا جدال فيه. أما إذا جعل من المرآة وعاءاً للشمس الحقيقية أي المنعكسة عليها. يكون قد أصاب الحق، وذلك لأن لكل من الأصل والصورة وجودهما المستقل.
وعقل الإنسان وخياله شبيه بمثال المرآة، وعنه يقول النورسي:
" إن المعلومات الموجودة في مرآة فكر الإنسان لها وجهان أيضاً: فهي بوجه علم، وبوجه آخر معلوم. فإذا اعتبرنا الذهن ظرفاً لذلك المعلوم، أصبح ذلك المعلوم معلوماً ذهنياً، فوجوده شيء آخر، وأن اعتبرنا الذهن موصوفاً بذلك الشيء الذي حل فيه أصبح صفة للذهن، وذلك الشيء يكون عندئذ علماً وله وجود خارجي، حتى لو كان لذلك المعلوم وجود وجوهر فسيكون وجوداً عرضياً".(1)
أي أن الأفكار الموجودة في العقل يتحد العلم فيها مع المعلوم، فيحصل من هذا للفكرة الواحدة وجودان، وجود ذهني ووجود خارجي، وكل منهما يختلف في حقيقته عن الآخر. فالوجود الذهني هو وجود فكرة ومعنى، والوجود الخارجي وجود مادي محسوس، فالعلم يأخذ على الدوام أحكام الذهن المعرفية، أما وجوده الخارجي فهو صورة له أو عرض ظاهري.
وتأسيساً على معنى ما ذكره انتقل النورسي لبيان تصور ابن عربي، وذلك من خلال استعراضه لرأيين
الأول رأيه الشخصي الذي قال فيه:
" الكون مرآة، وماهية كل موجود أيضاً، هذه المرايا معرضة إلى الإيجاد الإلهي بالقدرة الإلهية، فكل موجود – من جهة – يصبح مرآة لاسم من أسماء اللّه يبين نقشاً من نقوشه.
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 54(4/216)
فالذين هم على مشرب ابن عربي قد كشفوا العالم من حيث المرآتية والظرفية والموجود المثالي في المرآة - من زاوية النفي – ومن حيث منعكس صورة ذلك الشيء في المرآة هو عينه، وقالوا: لا موجود إلا اللّه، دون أن يفكروا بالمراتب الأخرى، فأخطأوا حتى بلغ بهم الأمر أن ينكروا القاعدة الأساسية المعروفة: حقائق الأشياء ثابتة".(1)
فمصدر الغلط عند ابن عربي وغيره من أصحاب الكشف والذوق، ينحصر في أنهم نظروا للموجودات من زاوية وجودها منعكسة أو متجلية على المرآة، أي من زاوية أن ليس لها وجوداً حقيقياً، وإنما هي صورة، فانتهوا إلى مقولتهم المشهورة: لا موجود إلا هو، ويعنون بها أن الوجود الحقيقي هو وجود اللّه، وما عداه فوجوده كوجود الشيء في المرآة، لا حقيقة له ولا ثبات، في حين أن المعلوم بداهة أن كل موجود له حقيقته المتعينة في الظاهر، لا يؤثر فيها إنكار منكر ولا إثبات مثبت.
أما الرأي الثاني فهو رأي أهل السنة، الذي أورده النورسي في العبارة التالية:
"إن النقوش التي توجد في مرايا الموجودات بقدرة اللّه وإرادته إنما هي من آثاره تعالى، وهو الذي يوجده، وليس كل موجود هو، حتى يقال: لا موجود إلا هو، إذ للأشياء وجود، وهو وجود ثابت إلى حد ما، وإن كان هذا الوجود وجوداً ضعيفاً كأنه وهمي وخيالي بالنسبة إلى وجوده تعالى، إلا أنه موجود بإيجاد القدير الأزلي وإرادته وقدرته".(2)
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 55
(2) اللمعات – النورسي ص 55(4/217)
إن رأي أهل السنة في مجمله ما هو إلا تقدير لحقيقة بديهية وهي أن كل الموجودات من خلق اللّه وآثاره وتجليات لأسمائه وصفاته، ويستحيل عقلاً وواقعاً أن يتحد الخالق بالمخلوق والواجد بالموجود، إذ لكل منهما ماهيته المستقلة عن الآخر، وللموجود المخلوق إِنَّية وذاتية متعينة في الخارج بها يعرف وعن طريقها يميز، أما كون وجوده آنياً وزائلاً ويعقبه العدم. فإن كل هذه الأحكام لا تجرده من صفة الوجود، ولا من اسم الموجود.
وجود الروحانيات
إن وجود الملائكة والجن والشياطين وسائر الروحانيات من الأشياء المسلَّم بها من غير إعمال النظر، أما إنكار وجودها وعدم الاعتراف بها، فمن الأمور غير المعقولة، ولإثبات وجودها أورد النورسي المثل التالي:
"يتصادف اثنان أحدهما بدوي وآخر حضري، كانا يسيران معاً إلى مدينة عظيمة كاستانبول، وقبل دخولهما المدينة وفي زاوية من زواياها يصادفان مبنى صغيراً وورشة قذرة، فيبصران أن المبنى مملوء برجال مساكين يعملون منهمكين في المعمل القريب، ويلاحظان حول المعمل حيوانات وأحياء أخرى أيضاً تقتات كلٌ بطريقتها الخاصة حسب شرائط حياتها. فمنها ما يأكل النبات وأخرى تأكل الأسماك فقط وهكذا.
وفيما هما يراقبان أحوال هؤلاء، إذا بهما يريان على بعد منها آلافاً من العمارات المزينة والقصور العالية تفصل بينها ميادين وفسح واسعة، إلا أن سكان تلك العمارات الرائعة لا يظهرون لهما. إما لبعدهما عنهم، أو لضعف نظرهما، أو لاختفاء سكنة تلك القصور أنفسهم. أو لانعدام شرائط الحياة التي في هذه الورشة القذرة في تلك القصور العالية.
فالبدوي الذي لم ير المدينة في حياته، قال:
إن تلك العمارات خالية من أهلها ولا أحد فيها من الأحياء، إذ إنني لا أراهم، وليس هناك ما يشير إلى حياةٍ، كحياتنا أصلاً.
فأظهر بهذيانه هذا حماقته الشديدة.
أجابه صديقه العاقل الرزين:(4/218)
يا هذا أما ترى أن هذا المسكن البسيط الحقير مليء بالأحياء، وليس هناك شبر من فراغ حولنا لم يملأ بالأحياء العاملين، فهناك من يبدلهم ويجددهم دائماً ويستخدمهم أبداً".(1)
فساكن البادية الجاهل، وساكن المدينة العالم، وقفا قبل دخولهما المدينة أمام حقيقتين:
الأولى: مبنى صغير الشأن، ومحل به جماعة من العمال منخرطين في عمل مرهق وشاق، ومن حولهم حيوانات ومخلوقات أخرى. وكل منها يأكل الطعام الذي يحفظ له حياته.
والثانية: مدينة كبيرة بها آلاف المباني والقصور والساحات الواسعة، إلا أنهما لم يشاهدا أحداً من سكانها لاعتبارات كثيرة، بعضها يعود إلى عيوب فيهما، والبعض الآخر يعود للساكنين في تلك المدينة.
وبطبيعة الحال فالبدوي لا يقر لجهله بوجود سكان فيها. وذلك لحجة واهية وهي عدم رؤيته لهم، كاشفاً بذلك عن فساد عقله، فأشار إليه الحضري ملفتاً نظره إلى مقارنة بسيطة بين مبنى صغير الحجم كالذي شاهده بنفسه، كيف ضاق بمن فيه، وبين تلك المباني الكثيرة، متسائلاً، أيعقل أن تكون خالية من السكان، وإن لم يرهم هو.
أما رد النورسي عليه فجاء فيه:
"فانظر الآن هل من الممكن أن تكون تلك العمارات الرائعة المنتظمة والتزيينات الحكيمة والقصور الباذخة على بعدها عنا خالية من أهلها المتلائمين معها؟ إنها لا بد قد ملئت جميعاً بذوي أرواح لهم شرائط حياة أخرى خاصة بهم. فلربما يأكلون بدلاً من الأعشاب والأسماك شيئاً آخر، فإن عدم رؤيتهم لبعدهم أو لقصر النظر أو لاختفائهم، لا يقيم دليلاً أبداً على عدم وجودهم، إذ إن عدم الرؤية لا يدل مطلقاً على عدم الوجود، وليس عدم الظهور بحجة قطعاً على عدم الوجود".(2)
وقياساً على ذلك أكد النورسي على وجود الروحانيات التي لا يجادل فيها عاقل، فقال:
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 599،598
(2) الكلمات – النورسي ص 599(4/219)
" هذا الفناء الواسع والسماوات ذات البروج والأنجم والكواكب كلها مليئة بالأحياء، وبذوي الإدراك والشعور، ويطلق القرآن الكريم والشريعة الغراء على أولئك الأحياء الشاعرين والذين خلقوا من النور والنار ومن الضوء والظلام والهواء ومن الصوت والرائحة، ومن الكلمات والأثير، وحتى من الكهرباء وسائر السيالات الأخرى، بأنهم: ملائكة وجان وروحانيات".(1)
وجود الإنسان
افترض النورسي فرضية بسيطة لبيان الفرق بين خلق اللّه تعالى للإنسان، وبين إحالة خلقه إلى السنن الطبيعية أو الأسباب، فقال:
" إن لم يكن وجودك هذا قد كتب بقلم الواحد الأحد القدير الأزلي، وكان مطبوعاً بمطابع الطبيعة والأسباب، فيلزم عندئذ قوالب طبيعية بعدد ألوف الألوف من المركبات المنتظمة العاملة في جسمك، والتي لا يحصرها العد، ابتداء من أصغر الخلايا العاملة بدقة متناهية، وانتهاء بأوسع الأجهزة العاملة فيه".(2)
والمعنى أن فرضية عدم خلق اللّه تعالى للإنسان، تقود بالضرورة إلى فرضية وجود خالق وصانع لكل عنصر وجزئية فيه. وبعدد العناصر والتركيبات الداخلة في مكوناته المادية.
وبما أن استحالة كهذا بديهية عقّب النورسي على تلك الفرضية قائلاً:
" ولفهم هذا المحال نأخذ الكتاب الذي بين أيدينا مثالاً، فنقول:
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 560،599
(2) اللمعات – النورسي ص 274(4/220)
إن اعتقدت أن هذا الكتاب مستنسخ باليد، فيكفي إذن لاستنساخه قلم واحد، يحركه علم كاتب ليدون به ما يشاء، ولكن إن لم يُعتقد أنه مستنسخ باليد ولم يسند إلى قلم الكاتب، وافترض أنه تشكل بنفسه. أو أسندت كتابته إلى الطبيعة، فيلزم عندئذ أن يكون لكل حرف من حروفه قلم معدني خاص به، ويكون عدد الأقلام بعدد تلك الحروف، أي يلزم وجود أقلام بعدد الحروف بدلاً من قلم واحد للاستنساخ، وقد يكون هناك في تلك الحروف حروف كبيرة مكتوب فيها بخط دقيق ما في صحيفة كاملة، فيلزم إذن لكتابة مثل هذه الحروف ألوف الأقلام".(1)
فإذا صدّق المرء أن هذا المكتوب قد نقلت صورته حرفاً حرفاً باليد، فلا يحتاج في نسخه سوى قلم واحد في كتابته، أما إذا لم يصدق أنه منقول باليد، ووضع نسخه فرضيات عدة، كأن يكون كتب نفسه بنفسه، أو تولت كتابته الطبيعة نتيجة لخارقة من خوارق العادات أو الأسباب المجردة. فعندئذ تحتاج كل كلمة، بل كل حرف إلى قلم خاص. هذا على فرض مشابهة الحروف لبعضها البعض، أما إذا اختلفت أو كانت متداخلة، فيلزم عندها على حد تعبير النورسي:
" أن يكون لكل جزء من أجزاء كل دائرة من دوائره المذكورة قوالب عديدة بعدد تلك المركبات التي لا يحصرها العد".(2)
ومقصوده أنه كلما افترقت الحروف بعضها عن بعض، وتعددتْ أشكالها وأنواعها، استقلت بذاتها، ومن ثم احتاجت إلى موجد يوجدها على ما هي عليه. وليس لهذا أو ذاك إلا معنى واحد، وهو أننا كلما أوغلنا في إسناد الموجودات ونسبتها لغير اللّه، ازدادت الفرضيات وتعقدت بحيث لا تفي كلمة الاستحالة وصفاً لها، بل تعد لكثرتها وبعدها عن الفعل والواقع في حكم العبث لا اللّهو ولا اللعب.
وجود الشياطين
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 274
(2) اللمعات – النورسي ص 274(4/221)
توجد في الإنسان كثير من قوى الخير والحق، كامنة فيه كمون الماء في العود الأخضر، قد لا تظهر في كثير من الأحيان إلا بعد جهد ومشقة، ولكن ظهورها منوط بوجود عوامل تبعث على أثارته وحضه وإغرائه بالحركة، وعلى رأس تلك القوى الشياطين، ولولا تلك المجاهدة لظلت وكما يقول النورسي:
" مرتبة الإنسان ثابتة كالملائكة، وعندها ما كانت لتظهر تلك الأصناف السامية من الناس التي هي بحكم آلاف من الأنواع في النوع الإنساني".(1)
فوجود الشياطين على هذا فيه خير كثير، فهو الذي جعل من الإنسان إنساناً يعبد اللّه بالتكليف، أي بمشقة وجهد، وهو في حركة دائبة ينتقل فيها بين الخير والشر، وليس كالملائكة، كما أن وجودهم أدى إلى بروز صفة من عباد اللّه يتصدون لشرورهم ويصلحون من أمر الناس.
ومثل لهم النورسي بقوله:
" شخص لديه ألف وعشر من البذور، زرعها في التراب، فجعلها تتعرض للتفاعلات الكيماوية، فإذا أنبتت عشر من البذور وأينعت، فإن المنافع الحاصلة منها تفوق بلا شك، خسارة آلاف البذور التي تعرضت للفساد والتلف".(2)
يعني أن الخير القليل الذي يجنيه الزارع من الكم الهائل من الحبوب المزروعة لا يساوي ما ضاع وتلف، بل يزيد عليه كيفاً ونوعاً، بما لا مجال فيه للمقارنة بينهم.
ثم علق على المثل قائلاً:
" وهكذا فإن المنافع والمنزلة والأهمية التي حازتها البشرية من عشرة أشخاص كاملين يتلألئون كالنجوم في سمائها. والذين أخذوا بيد الإنسانية إلى مراقي الفلاح، وأضاءوا السبل أمامهم وأخرجوهم إلى النور بمجاهدتهم للنفس والشيطان، لا شك أنها تزيل ما يلحق بها من الضرر الناجم من كثرة الداخلين في حمأة الكفر من الضالين الذين يعدون من جنس الحشرات لتفاهتهم ودناءتهم. لهذا فقد رضيت العدالة الإلهية وحكمتها وسمحت الرحمة الربانية بوجود الشياطين وتسلطها".(3)
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 111
(2) اللمعات – النورسي ص 111
(3) اللمعات – النورسي ص 111(4/222)
فصحيح إذن أن وجود الشياطين يلحق بالناس الأذى والضرر، ولكن أذاهم وضررهم عامل مهم وفعّال في ظهور عدد من المصلحين يعملون على هدايتهم لما فيه خير لهم في دينهم ودنياهم، وفي الوقت الذي تتلاشى فيه شرور الشياطين ولا يبقى لها أثر، تظل أعمال هؤلاء نبراساً للناس من بعدهم، مما يبرهن على أن شرور الشياطين وإن كانت جزئية التأثير في غالبها، إلا أن وراءها خير كثير يعم البشر جميعاً.
إيجاد الموجودات
خلص الماديون في تفسيرهم للوجود إلى بعض النظريات التي عدوها من جملة الحقائق العلمية، الثابتة بالتجربة، من بينها النظرية القائلة:
- بأن اجتماع أسباب العالم يخلق الموجودات ويوجدها، ويؤدي إلى تشكيل الأشياء.
ويعتقد النورسي أن مثل هذه النظريات فاسدة من كل وجه، وظاهرة البطلان، ولبيان فسادها وبطلانها روى المثل التالي:
" تحوى الصيدلية مئات الدوارق والقناني المملوءة بمواد كيماوية متنوعة، وقد احتجنا – لسبب ما – إلى معجون حيوي من تلك الأدوية والمواد لتركيب مادة حيوية خارقة مضادة للسموم، فلما دخلنا الصيدلية وجدنا فيها أعداداً هائلة من أنواع ذلك المعجون الحيوي، ومن تلك المادة الحيوية المضادة للسموم، وعندما بدأنا بتحليل كل معجون رأيناه مركباً مستحضراً بدقة متناهية من مواد مختلفة طبق موازين محسوبة. فقد أخذ من تلك القناني: درهم (غرام) من هذه، وثلاث غرامات من تلك، وعشرة غرامات من الأخرى: وهكذا، فقد أُخذ من كل منها مقادير مختلفة، بحيث لو كان ما أخذ من هذه المقادير أقل منها بجزء من هذه المقادير بجزء من الغرام، أو أزيد لفقد المعجون خواصه المميزة.
والآن جئنا إلى المادة الحيوية المضادة للسموم، ودققنا فيها نظراً كيمياوياً. فرأيناها قد ركبت بمقادير معينة أخذت من تلك القناني على وفق موازين حساسة، بحيث إنها تفقد خاصيتها لو غلطنا في الحساب فزادت المواد المركبة منها أو نقصت. بمقدار ذرة واحدة.
نخلص من هذا:(4/223)
أن المواد المتنوعة قد استحضرت بمقادير مختلفة على وفق موازين دقيقة، فهل يمكن أو يعقل أن يتكون ذلك المعجون المحسوب كل جزء من أجزائه حساباً دقيقاً من جراء مصادفة غريبة، أو من نتيجة تصادم القناني بحدوث زلزال عاصف في الصيدلية يؤدى إلى سيلان تلك المقادير بموازينها المعينة، أو اتحادها بعضها ببعض الآخر مكوناً معجوناً حيوياً، فهل هناك محال أغرب من هذا وأكثر بعداً عن العقل والمنطق؟ وهل هناك خرافة أخرق منها؟ وهل هناك باطل أوضح بطلاناً من هذا؟ والحمار نفسه لو تضاعفت حماقته ونطق لقال: يا لحماقة من يقول بهذا القول".(1)
حاول النورسي في هذا المثال أن يلفت نظر الماديين إلى حقائق علمية ثابتة بالبرهان والتجربة العملية. وهي أن كل مادة كيماوية تتركب من عناصر مختلفة، وبنسب ثابتة، وحسابات متناهية في دقتها، بحيث إن أي زيادة أو نقصان في أي منها ولو كان ضئيلاً لأدى إلى إفساد كل العناصر ولفقدت التركيبة الكيماوية خواصها المميزة لها، ولم تعد لها أي قيمة علمية.
فهل يمكن بعد هذا كله إحالة تلك التركيبة الكيماوية إلى الصدفة المحضة، أو القول بأنها تشكلت بنفسها، إلى غيرها من العبارات الغريبة والمخالفة للعقل وللحقائق العلمية التجريبية.
وعلى هدى المثال السابق بين النورسي بطلان تلك النظرية واستحالتها العلمية. قائلاً:
" إن كل حي هو مركب حيوي، ومعجون ذو حياة، وإن كل نبات شبيه بترياق حيوي مضاد للسموم، إذ ركب من أجزاء مختلفة ومن مواد متباينة. على وفق موازين دقيقة في منتهى الحساسية، فلا ريب أن إسناد خلق هذا الكائن البديع إلى الأسباب المادية والعناصر، والقول أن الأسباب أوجدته، باطل ومحال وبعيد عن موازين العقل بمثل بطلان وبعد ومحالية تكون المعجون الحيوي بنفسه من سيلان تلك المواد من القناني".(2)
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 269
(2) اللمعات – النورسي ص 270(4/224)
فإذا كان كل مخلوق ومن حيث مكوناته المادية عبارة عن مركب من عناصر شتى، ومن مواد متنافرة في أصولها، وبنسب وحسابات غاية في الدقة والإتقان، فمن العبث إذن إحالة وجودها إلى الأسباب أو الطبيعة، بل إن استحالة فرضية كهذه، ومناهضتها للعقل والواقع ظاهرة لكل ذي بصر سليم وإدراك واع بحقائق الأمور.
وأخيراً انتهى النورسي إلى القول.
" إِن المواد الحيوية المستحضرة بميزان القضاء والقدر للحكيم العليم في هذا العالم الكبير الذي هو صيدلية ضخمة رائعة لا يمكن أن يوجد إلا بحكمة لا حد لها، وبعلم لا غاية له، وبإرادة تشمل كل شيء وتحيط بكل شيء، وإلا فما أشقاه من يتوهم أن هذه الموجودات هي نتاج عناصر الكون الكلية". (1)
والمستفاد أن المكونات المادية لكل مخلوق هي بتقدير اللّه تعالى. أي هي بتحديد وتخصيص كل مخلوق بخواصه وصفاته المميزة له عن باقي الموجودات. وذلك لأن التقدير هو حاصل الإرادة التابعة للعلم. والحكمة التابعة للإدراك والعلم، وَمَنْ يعتقد خالقاً ومكوناً للموجودات غير اللّه، فهو بلا شك من الضالين الكاذبين.
خلق الطبيعة
من العبارات الأثيرة لدى الماديين عبارة (اقتضته الطبيعة) التي يريدون بها أن هذا الموجود أو ذاك هو من مستلزمات وموجبات الطبيعة، أو بمعنى آخر أن الطبيعة هي التي أوجدته، وهو كما يرى النورسي في حكم المستحيلات المفروض منها، ودلل على ذلك بقوله:
" إن الإتقان والإيجاد المتسمين بالبصيرة والحكمة الظاهرين في الموجودات ظهوراً جلياً لا سيما في الأحياء، إن لم يسندا إلى قلم القدر الإلهي، وإلى قدرته المطلقة، وأسندا إلى الطبيعة العمياء الجاهلة، وإلى القوة يلزم أن توجد في كل شيء قدرة قادرة على خلق الكون كله، وحكمة مدبرة لإدارة شئونه كلها".(2)
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 270
(2) اللمعات – النورسي ص 275(4/225)
فعلى فرض أن دقة الصنعة وأحكامها وروعة الإبداع السائدة في الموجودات، لم تنسب إلى اللّه، وإنما نسبت إلى الطبيعة، فعندئذ يتوجب أن يتوفر في الطبيعة، ليس فقط العلم والإرادة والقدرة والحكمة، بل أيضاً من العدة والعتاد المعنوي ما لا حصر له لكل مخلوق على حدة، ومثال ذلك:
" أن تجليات الشمس وانعكاساتها الضوئية، وبريق لمعانها المشاهد على قطرات الماء الرقراقة المتلألئة، أو على القطع الزجاجية المتناثرة هنا وهناك على سطح الأرض. مما يخيل للناظر السطحي النظر أنها صور لشميسات مثالية، فإن لم تنسب هذه الانعكاسات واللمعات إلى الشمس الحقيقية التي تطالعنا بشعاعها الغامر، يلزم الاعتقاد بشمس طبيعية فطرية صغيرة ظاهرية تملك صفات الشمس نفسها وتتصف بخصائصها موجودة وجوداً فعلياً في تلك القطعة الزجاجية الصغيرة – التي لا تسع لأدنى شيء – أي يلزم الاعتقاد بوجود شموس بعدد ذرات القطع الزجاجية".(1)
إن سقوط أشعة الشمس أو نورها على عناصر الطبيعة العاكسة لها كالماء والزجاج وغيرهما، يراها ضعاف العقول كما لو كانت شمساً صغيرة، فيصدق عالماً أو جاهلاً بشمس صغيرة لها صفات وخصائص الشمس الحقيقية، ومن ثم يتوجب عليه التصديق والاعتراف بعدد من الشموس يوازي عدد العناصر المنعكسة فيها.
واستناداً على ذلك المثل خلص النورسي إلى القول:
" إن لم يُسند خلق الموجودات والأحياء إسناداً مباشراً إلى تجليات أسماء اللّه الحسنى الذي هو نور السموات والأرض يلزم الاعتقاد إذن بوجود طبيعة وقوة تملكان قدرة مطلقة وإرادة مطلقة مع علم مطلق وحكمة مطلقة في كل موجود من الموجودات، ولا سيما الأحياء، أي يلزم قبول ألوهية وربوبية في كل موجود".(2)
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 275
(2) اللمعات – النورسي ص 275(4/226)
يعني أن عدم التصديق أو الاعتراف بأن اللّه هو وحده الخالق والموجد لكل شيء في الوجود، يفضي بالضرورة إلى التصديق والاعتراف بقيام كل موجود على إيجاد نفسه بنفسه، أي التصديق والاعتراف بأنه يملك القدرة والإرادة والعلم على خلق نفسه، ومن ثم فهو يستأهل صفة الألوهية، ويستحق اسم الرب الخالق.
أما من يصدق ويعترف بفكرة كهذه، تضع المخلوق في منزلة مساوية للخالق الواحد الأحد في الألوهية والربوبية، فقد وصفه النورسي بقوله:
" فهذا النمط من التفكير المعوج لهو أشد بطلاناً من أي محال آخر، وأكثر خرافة منه، فالذي يسند ما أبدعه الخالق العظيم من صنعة رائعة دقيقة ظاهرة جلية حتى في أصغر مخلوق إلى يد الطبيعة الموهومة التافهة التي لا تملك شعوراً لا شك أنه يتردى بفكره إلى درك أضل من الحيوان"(1)
والمحصلة الأخيرة أن كل من يتبع هذه الطريقة في التفكير وينهج على منوالها، فقد بلغ انحرافه عن الهدى والحق حداً لا يصدقه عقل، وسقط فكرياً إلى أقصى درجة من درجات السقوط وهي ما دون الحيوان الأعجم.
وظل رأي النورسي ثابتاً لا يتغير في أن إسناد إيجاد الخلق إلى الطبيعة هو في حكم المحال. وخارج عن دائرة العقل، أما من يصدق بذلك الإسناد فقد أخرجه من زمرة العقلاء، ومن لا عقل له فهو والبهيمة سواء وتحقيقاً لهذا المعنى فقد أورد مثالين:
قال في الأول منهما:
" يدخل إنسان بدائي ساذج التفكير، لم يكن يملك أي تصور حضاري مسبق، يدخل هذا الشخص قصراً فخماً بديعاً، يزهو بزينته، ويختال بأرقى ما وصلت إليه الحضارة من وسائل الأبهة والراحة، ويتلألأ بأضوائه في عتمة فلاة خالية موحشة، فيدلف إليه ويدور في أرجائه، فتدهشه براعة بنائه، ونقوش جدرانه، وروعة إتقانه.
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 275(4/227)
وبكل سذاجة تصوره وبلاهته يمنح القصر حياة ويعطيه قدرة تشييد نفسه بغرفه وأبهائه وصوره الجميلة، ونقوشه الأخاذة، لا لشيء إلا لكونه قاصراً عن تصور وجود أحد – خارج هذا القصر – وفي هذه الفلاة يمكنه أن ينسب إليه بناء هذا القصر، لذا فقد طفق يتحرى عن الباني داخل لقصر لعله يعثر عليه بين أشياء القصر، فما من شيء وقع عليه بصره إلا وتردد فيه وشك في كونه قادراً على إيجاد مثل هذا القصر الذي يملأ أقطار النفس والعقل بروعة صنعه وجمال بنائه.
وتقوده قدماه إلى زاوية من زوايا القصر ويعثر فيها فجأة على دفتر ملاحظات كان قد دونت فيه خطة مفصلة لعملية بناء القصر، وخط فيه أيضاً فهرس موجوداته وقوانين إدارة ممتلكاته، ورغم أن ذلك الدفتر كمحتويات ليس من شأنه تشييد القصر وتزيينه، إذ لا يملك يداً يعمل بها، ولا بصيرة يبصر بها، إلا أنه تعلق به إذ وجده متطابقاً بمحتوياته، مع مجاميع أشياء القصر، ومنسجماً مع سير العمل فيه - إذ هو عنوان قوانين اللّه – لذا قال مضطراً:
" أن هذا الدفتر هو الذي شيد هذا القصر ونظمه وزينه، وهو الذي أوجد الأشياء ورتبها هذا الترتيب ونسقها هذا التنسيق".(1)
فالقصر كما صوره المثل غاية في الروعة والإتقان، وفي منتهى الجمال والكمال، أما أنواره فتشرق من موضعه ذلك في قلب صحراء مقفرة وتتلألأ فتملأ جنبات المكان نوراً وضياءً، ولما كان الذي دخله إنساناً بسيطاً في عقله وضحلاً في تفكيره، فقد اعتقد مشدوهاً بالجوانب الإعجازية لبناء القصر ومبهوراً بدقة الصدفة بأن باني هذا القصر في هذه البرية القاحلة هو داخل القصر لا خارجه.
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 280،279(4/228)
وأثناء بحثه عن ذلك الباني، وجد دفتراً دون فيه المخطط التفصيلي لبناء القصر، والقوانين المنظمة له، وكيفية إدارته، كما اشتمل أيضاً على ما في القصر من أشياء، فهداه نظره الساذج من شدة تطابق المكتوب مع ما في القصر، إلى أن هذا الدفتر هو الذي بنى القصر على تلك الصورة الكاملة الجميلة.
وعلق النورسي على ما انتهى إليه ذلك الإنسان الساذج قائلاً:
" فكشف بهذا الكلام عن مدى عمق جهله، وتأصل حماقته".(1)
يعني أن كل من هو شاكلته ممن يعتقدون عن يقين جازم أن الطبيعة هي الخالقة لنفسها والموجدة للأشياء، هم بلا أدنى تردد جاهلون ليس جهلاً بسيطاً، بل جهلاً مركباً. وذلك لسهولة تصديقهم بشيء هو على خلاف ما هو عليه فعلاً وواقعاً، أما قلة عقلهم وفساد تفكيرهم فمن الصفات الثابتة فيهم واللازمة لهم، وظهرت في أجلى صورها، وبارزة للعيان في إحلالهم الطبيعة محل اللّه في الخلق والإيجاد.
أما المثال الثاني فتشبيه ويتكون من مقطعين. قال في الأول:
" يدخل إنسان معزول عن عالم المدنية والحضارة، وسط معسكر مهيب، فيبهره ما يشاهد من تدريبات متنوعة يؤديها – بغاية الانتظام والإتقان ومنتهى الطاعة والانقياد – جنود هذا المعسكر، فيلاحظ حركاتهم المنسقة وكأنها حركة واحدة، يتحرك الجميع – فوجاً ولواء وفرقة – بحركة واحدة منهم، ويسكن الجميع بسكونه، يطلق الجميع النار إطلاقاً واحداً، إثر أمر يصدره ذلك الفرد، فحار في أمره، ولم يكن عقله الساذج ليدرك أن قيادة قائد عظيم هو الذي ينفذ أوامره بأنظمة الدولة وأوامر السلطان. فتخيل حبلاً يربط أولئك الجنود بعضهم بالبعض الأخر، ثم بدأ يتأمل خيالاً، مدى أعجوبة هذا الحبل الموهوم، فزادت حيرته وأشتد ارتباكه ثم يمضي إلى شأنه".(2)
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 280
(2) اللمعات – النورسي ص 281(4/229)
فهنا إنسان بعيد عن أنظمة الحضارة ومؤسساتها القائمة على العلم والخبرة والتجارب، رأى ولأول مرة في حياته جيشاً في حالة من حالات الجيش المعروفة، فتحير في حركات الجند المنتظمة، وتقسيماتهم المختلفة وإطاعتهم لفرد واحد إلى غيرها من العلائم المميزة لأنظمة الجيوش، ولكن في حدود فهمه وإدراكه لم يصل عقله إلى افتراض قيادة موحدة وقائد واحد، فانتهى إلى وجود حبل ممتد طويل يربط كل جندي بالآخر وهو سبب لكل ذلك النظام.
وجاء في المقطع الثاني:
" ويدخل جامع آيا صوفيا العظيم بوم الجمعة، ويشاهد جموع المصلين خلف رجل واحد يمتثلون لندائه في قيامهم وقعودهم وسجودهم وركوعهم، ولما لم يكن يعرف شيئاً عن الشريعة الإلهية والدساتير المعنوية لأوامر صاحب الشريعة، فإنه يتصور بأن هذه الجماعة مرتبطة ببعضها البعض بحبال مادية، وأن هذه الحبال قد قيدت حركة الجماعة وأسرتهم، وهي التي تحركهم وتوقفهم عن الحركة".(1)
ورأى الرجل نفسه عند دخوله المسجد يوم الجمعة والإمام يصلى بالناس الانتظام في الحركة واتباع رجل واحد تماماً كالذي رآه من قبل، ولما لم تكن لديه أي معرفة بالإسلام ونظام العبادات فيه، فقفزت إلى ذهنه صورة الحبل المتوهمة أو المتخيلة في ذهنه والتي هي سبب، وأصل لكل ما يصدر عنهم من الحركات.
فعلق عليه النورسي قائلاً:
" وهكذا يمضي إلى سبيله وقد امتلأ بأخطاء تصوراته التي تكاد تثير الهزء والسخرية حتى لدى أكثر الناس وحشية وهمجية".(2)
والمعنى أيضاً مشابه للمعنى السابق، فمن يعتقد أو يصدق بقدرة الطبيعة على الخلق والإيجاد يصبح مبعثاً لاستهزاء واحتقار وانتقاص ليس فقط من قبل عقلاء الناس. بل أيضاً من رعاعهم وأراذلهم، مما يدل على أن الاستخفاف بهم، والاستهانة بآرائهم يستوي فيه العالم والجاهل.
الأحمق الجاهل
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 282،281
(2) اللمعات – النورسي ص 282(4/230)
وصف النورسي من ينسب الخلق والإيجاد والحوادث الطبيعية إلى غير اللّه تعالى، ويسندها إلى الأسباب والمسببات، وإلى السنن الكونية بالجاهل، ليس هذا فحسب:
" بل يظهر أحدهم جهلاً أشد من جهل أبي جهل، إذ يسند حادثة ربوبية مقصودة خاصة يرجعها إلى أحد قوانين الفطرة، وكأن القانون هو الفاعل، فيقطع بهذا الإسناد نسبة تلك الحادثة إلى الإرادة الإلهية الكلية واختياره المطلق، وحاكميته النافذة والتي تمثلها سننه الجارية في الوجود، ثم نراه يحيل تلك الحادثة إلى المصادفة والطبيعة".(1)
وجهل هؤلاء لا يقال له جهلاً باعتبار الاعتقاد، أي اعتقادهم في مشيئة اللّه الشاملة على خلاف ما هي عليه بالفعل، وإنما هو جهل في حكم الغيّ الذي يدخل في صميم الأفعال لا الأقوال، أي هو جهل ذو أهواء. ومن ثم فإن أدق وصف لحالتهم تلك هو أنهم ضالون، ومنقادون لما تحبه وترضاه نفوسهم.
ولأجل هذا شبه النورسي حالة من هذا حاله بقوله:
" فيكون – أي الواحد منهم – كالأبله العنيد الذي يحيل الانتصار الذي يحرزه جندي أو فرقة في الحرب. على نظام الجندية وقانون العسكرية ويقطعه عن قائد الجيش، وسلطان الدولة، والأفعال الجارية المقصودة".(2)
ثم مثل لجهل هؤلاء وحماقتهم بقوله:
" إذا ما صنع صناع ماهر مائة أوقية من مختلف الأطعمة، ومئة ذراع من مختلف الأقمشة من قطعة صغيره من خشب لا يتجاوز حجمها قلامة ظفر، وقال أحدهم: إن هذه الأعمال الخارقة قامت بها تلك القطعة الخشبية التافهة، أَلا يرتكب حماقة عجيبة؟
فهذا أشبه بمن يبذر بذرة صلدة وينكر خوارق صنع الصانع الحكيم في خلق الشجرة، بل يحط من قيمة تلك الأمور المعجزة بإحالتها إلى مصادفة عشواء، أو عوامل طبيعية". (3)
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 200
(2) الكلمات – النورسي ص 200
(3) الكلمات – النورسي ص 200(4/231)
ومعلوم بداهة أن من ينسب تلك الأعمال الخارقة لعوائد الناس، ويسندها إلى شيء صغير تافه لا يؤبه له، قد بلغ بالفعل من ضعف العقل وقلة التمييز حداً يستأهل عليه أسم الأحمق وصفته، لأنه الأحمق الجاهل جهلاً مطبقاً بالأمور الجارية وفقاً للعادة المتكررة والعرف المتبع.
الفصل العاشر
الآخرة
الإيمان باليوم الآخر
قد يبدو زوال الحياة أو إزالتها بالموت والقتل في ظاهره عدماً محضاً وفناء مطلقاً، لا حياة بعده ولا وجود، مما يحيل العالم إلى مشكلة عصيَّة على الفهم ومحيرة للعقول، ويضفي على الحياة معاني غامضة وملتوية تتساوى في قيمتها مع العدم واللاوجود، ولا مفر من مواجهة ما يترتب على ذلك من خوف وقلق إلا في الإيمان بحياة أخرى خالدة لا زوال فيها، ولا يعقبها عدم.
وساق النورسي حكاية قصيرة تقريباً لتلك الحقيقة وتبسيطاً لمعانيها فقال:
" وقع جندي – في الحرب العالمية – في مأزق عصيب ووضع محيّر، إذ أصبح جريحاً بجرحين غائرين في يمينه وفي شماله، وخلفه أسد هصور يوشك أن ينقض عليه، وأمامه مشنقة تبيد أحبته وتنتظره أيضاً، زد على ذلك كانت أمامه رحلة شاقة طويلة، رغم وضعه الفظيع المؤلم".(1)
والمقصود أن الأخطار المهلكة والمميتة قد أحدقت بالجندي من كُلِّ جهة، وهو إزاءها ضعيف وعاجز ووحيد، وبينما هو في حالة من اليأس والقنوط، لا يرجو خلاصاً، ولا يطمع في نجاة، إذا برجل:" خيّر كأنه الخضر عليه السلام، يتلألأ وجهه نوراً يظهر عن يمينه ويخاطبه:
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 26(4/232)
لا تيأس ولا تقنط، سأعلمك طلسمين اثنين – إن أحسنت استعمالهما ينقلب ذلك الأسد فرساً أميناً مسخراً لخدمتك، وتتحول تلك المشنقة أرجوحة مريحة لطيفة تأنس بها، وسأناولك دواءين اثنين، إن أحسنت استعمالهما يصيران جرحيك المنتنين زهرتين شذيتين، وسأزودك بتذكرة سفر تستطيع بها أن تقطع مسافة سنة كاملة في يوم واحد، كأنك تطير، وإن لم تصدق بما أقول فجرّبه مرة، وتيقّن من صحته وصدقه". (1)
فالرجل الصالح سيزود الجندي المشرف على الهلاك بثلاث وسائل تزيل عنه اليأس والقنوط، وتنقذه من الموت المحتم وهي:
طلسمان مما يستعين بها للتأثير في الأشياء، وذلك لتحويل الأسد إلى فرس ذلول، وآلة الشنق إلى أرجوحة يلعب بها الأطفال.
ودواءان لمعالجة جروحه المتقيحة.
وبطاقة تقصر له طول السفر.
وأثناء ذلك حدث ما لم يكن في الحسبان، فيقول عنه النورسي:
" ثم على حين غرة رأى رجلاً لعوباً دساساً – كأنه الشيطان – يأتيه من جهة اليسار مع زينة فاخرة وصور جذابة، ومسكرات مغرية. ووقف قبالته يدعوه:
إليّ إليّ أيها الصديق، أقبل لنلْهوَ معاً ونستمتع بصور الحسناوات هذه، ونطرب بسماع هذه الألوان من الأغاني، ونتلذذ بهذه المأكولات اللذيذة. ولكن يا هذا، ما هذه التمتمة التي ترددها؟
إنه طلسم ولغز.
دع عنك هذا الشيء الغامض، فلا تعكر صفو لذتنا، وأُنس نشوتنا الحاضرة، يا هذا، وما ذلك الذي بيدك؟
إنه دواء، إرمه بعيداً، انك سالم صحيح، ما بك شيء ونحن في ساعة طرب وأنس ومتعة،
وما هذه البطاقة ذات العلامات الخمس؟
إنها تذكرة سفر وأمر إداري للتوظيف، مزقها، فلسنا في حاجة إلى سفر في هذا الربيع الزاهي.
وهكذا، حاول بكل مكر وخديعة أن يقنع الجندي، حتى بدأ ذلك المسكين يركن شيئاً قليلاً إلى كلامه". (2)
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 26
(2) الكلمات – النورسي ص 27(4/233)
ومن الواضح أن هذا الرجل الموصوف بأسوأ ما في المرء من صفات، والشبيه بالحية الكامنة لفريستها تحت الأرض، والمشكوك في إنسانيته، يريد بكل ما أوتي من مكر وخديعة وإغراء، تجريد الجندي من القوة الوحيدة المعينة والمساعدة له في الخروج من تلك الهوة العميقة، وذلك بمسوغات واهية قد لا تنطلي إلاّ على من هو في حالته المتردية، ولكن:
"فجأة دوى صوت كالرعد عن يمينه يحذره:
إياك أن تنخدع، قل لذلك الخبيث: إن كنت تستطيع قتل الأسد الرابض خلفي، وأن ترفع أعواد المشنقة من أمامي، وأن تبرأني من جرحيَّ الغائرين في يميني وشمالي، وأن تحول بيني وبين رحلتي الشاقة الطويلة، نعم، إنْ كنت تقدر على إيجاد سبيل لكل هذا فهيا أرنيه، وهات ما لديك، ولك بعد ذلك أن تدعوني إلى اللّهو والطرب، وإلا فاسكت أيها الأبله، ليتكلم هذا الرجل السامي، الشبيه بالخضر ليقول ما يروم".(1)
أراد صاحب ذلك النداء هو الآخر أن يبين للجندي عجز وضعف ذلك الرجل الشبيه بالشيطان، وتحداه إن كان باستطاعته فعلاً، إنجاز ما وعد به الرجل الصالح أمامه، وعلى مرأى منه، وإن لم يستطع فليدعه هو أن يقدم ما فيه سعادته وهناءُه.
ثم فسر النورسي الحكاية الرمزية فقال مخاطباً نفسه ونفس كل مؤمن:
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 27(4/234)
" فيا نفسي الباكية على ما ضحكت أيام شبابها، اعلمي، أن ذلك الجندي المسكين المتورط هو أنت، وهو الإنسان، وأن ذلك الأسد هو الأجل وأن أعواد المشنقة تلك هو الموت والزوال والفراق الذي تذوقه كل نفس، ألا ترين كيف يفارقنا كل حبيب أثر حبيب ويودعنا ليلاً ونهاراً، أما الجرحان العميقان فأحدهما العجز البشري المزعج الذي لا حد له. والآخر هو الفقر الإنساني المؤلم الذي لا نهاية له. أما ذلك النفي والسفر المديد، فهو رحلة الامتحان والابتلاء الطويلة لهذا الإنسان التي تنطلق من عالم الأرواح مارة من رحم الأم ومن الطفولة والصبا ثم من الشيخوخة، ومن الدنيا ثم من القبر والبرزخ، ومن الحشر والصراط، وأما الطلسمان فهما الإيمان باللّه وباليوم الآخر، أما ذانك العلاجان:
فأحدهما التوكل على اللّه والتحلي بالصبر، أي الاستناد إلى قدرة الخالق الكريم والثقة بحكمته.
وثانيهما: هو الدعاء والسؤال، ثم القناعة بالعطاء والشكر عليه والثقة برحمة الرزاق الحكيم". (1)
زاوج النورسي في تفسيره لوقائع تلك الحكاية بين الحياة والموت كعنصريين متلازمين، وكل منهما يكمل الآخر، ليبرز من خلال تلك المزاوجة الموت ضمن دائرة واسعة تجمع بين المؤمن وحياته الدنيوية بابتلاءتها الكثيرة، وتوجهه بالعبادة للّه، ثم موته ودفنه ونشوره، في صورة جميلة أخاذة، وذلك لأن به وعلى حد تعبير النورسي:
" يخرج الإنسان المؤمن من سجن الدنيا إلى روضة الجنان. إلى روضة الرحمن ذي الجلال، ومن هنا كان الكاملون من الناس يحبون الموت ويطلبونه، حيث رأوا حقيقته".(2)
وحقيقة الموت التي رآها أولئك الكمّل من العباد هي أنه تذكرة سفر تقود المؤمن في رحلة سريعة إلى الدار الآخرة. والمفتاح الوحيد للجنة وأبوابها.
الموت
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 29،28
(2) الكلمات – النورسي ص 28(4/235)
قد يغفل كثير من الشباب وهم في أول عمرهم، وفي عنفوان قوتهم، وفي ذروة أفراحهم بنضارة الحياة وإشراقها عن كثير من حقائق الحياة وسننها الطبيعية، وفي مقدمتها الموت، الذي يشاهد كل حي مظاهر الخوف والرهبة منه في الوفيات الحادثة على مدار الساعة.
وفي زيارة لمجموعة من هؤلاء الشباب للنورسي بيّن لهم حقيقة الموت في مثال، قال فيه:
" تصوروا ههنا – مثلاً – أعواداً نصبت أمامكم للمشنقة، وبجانبها دائرة توزع جوائز سخية كبرى للمحظوظين، ونحن الأشخاص العشرة هنا سنُدعي إلى هناك طوعاً أو كرهاً، ولكن لأن زمان الاستدعاء مخفي عنا، فنحن في كل دقيقة بانتظار من يقول لكل منا: تعال، تسلم قرار إعدامك واصعد المشنقة، أو يقول: تعال خذ بطاقة تربحك ملايين الليرات الذهبية".(1)
إن الصورة الخيالية والمفعمة بالحيوية التي رسمها النورسي في أذهان أولئك الشباب، مفادها أن مصير كل إنسان، ومنتهى أمره لا يخرج عن أحد اثنين، إما إلى سعادة دائمة أو شقاء مقيم، ولا ثالث لهما، أو بمعنى آخر، إما الحصول على مكاسب لا حصر لها، أو خسارة لا عوض لها، ولا تعويض فيها.
ثم روى النورسي بعد ذلك قائلاً:
" وبينا نحن واقفون منتظرون إذا بشخصين حضرا لدى الباب. أحدهما امرأة جميلة لعوب شبه عارية تحمل في يدها قطعة من الحلوى، تقدمها إلينا تبدو شهية، ولكنها مسمومة في حقيقتها.
أما الآخر فهو رجل وقور كيس – ليس خباً ولا غراً – دخل على أثر تلك المرأة، وقال:
لقد أتيتكم بطلسم عجيب، وجئتكم بدرس بليغ، إذا قرأتم الدرس، ولم تأكلوا من تلك الحلوى، تنجون من المشنقة، وتسلمون – بهذا الطلسم – بطاقة تلك الجائزة الثمينة، فها انتم أولاء ترون بأم أعينكم أن من يأكل تلك الحلوى يتلوى من آلام البطن حتى يصعد المشنقة".(2)
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 161
(2) الكلمات – النورسي ص 162،161(4/236)
والمفهوم أنه في أثناء وقوف الجميع في حالة من الترقب والتردد والحيرة والقلق لا يدرون أيساقون إلى الموت شنقاً أم يتسلمون الورقة الرابحة، دخلت عليهم امرأة فاتنة ومثيرة لا يكاد يستر جسدها شيء، وبيدها قطعة حلوى ظاهرها طيب وحلو المذاق، وفي باطنها سم يودي بالحياة.
عندئذ جاء رجل موصوف بمقدرته الفائقة على تمكين الناس من الوصول إلى ما ينفعهم، واستنباط ما يفيدهم، وقدم لهم عجيبة تنقذهم من المشنقة المنصوبة أمامهم، وفي الوقت نفسه تعينهم على استلام تلك الورقة التي تخول لهم جنى المكاسب الوافرة.
وبما أن الموت حق وسنة ماضية في الاثنين، إلا أن هناك فارقاً كبيراً بين موت من استهوته حلاوة المرأة الفاتنة فأكل منها، وبين موت من لم يأكل منها، بينه النورسي بقوله:
" أما الفائزون ببطاقة الجائزة، فمع أنهم محجوبون عنا، ويبدون أنهم يصعدون منصة المشنقة، إلا أن أكثر من ملايين الشهود يخبرون بأنهم لم يشنقوا، وإنما اتخذوا المشنقة سلماً للاجتياز بسهولة ويسر إلى دائرة الجوائز".(1)
يعني أن الموت عند الأخيرين هو أداة تمكنهم من الوصول إلى حيث الأرباح والمكاسب الضخمة، وبالتالي فالموت عندهم ليس موتاً بالمفهوم المادي، بل هو راحة واستراحة، ونهاية لرحلة العمر، وبداية لعمر آخر يمتد إلى ما لا نهاية، وعندها خاطب الراوي الجميع قائلاً:
" فهيا انظروا من النوافذ، لتروا كيف أن كبار المسؤولين المشرفين على توزيع تلك الجوائز ينادون بأعلى صوتهم قائلين.
إِنَّ أصحاب ذلك الطلسم العجيب قد فازوا ببطاقة الجوائز، اعلموا هذا يقيناً كما رأيتم بعين اليقين أولئك الذاهبين إلى المشنقة، فلا يساوركم الشك في هذا، فهو واضح وضوح الشمس في رابعة النهار".(2)
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 162
(2) الكلمات – النورسي ص 162(4/237)
فالعبرة المستفادة من المثل ليست في الموت نفسه، وإنما فيمن يظفر بموته بالبطاقة التي هي مجاز عن الإيمان، وعلى هذا فمن يعرض من الشباب وكما ينصح النورسي:
" عن تلك الملذات المحظورة الشبيهة بالعسل المسموم وضرب عنها صفحاً، وبادر إلى الحصول على ذلك الطلسم القرآني، وهو الإيمان وأداء الفرائض، فإن مائة وأربعة وعشرين ألفاً من الأنبياء عليهم السلام، وما لا يعد ولا يحصى من الأولياء الصالحين والعلماء العاملين يخبرون ويبشرون بالاتفاق مظهرين آثار ما يخبرون عنه بأن المؤمن سيفوز ببطاقة تكسبه كنوز السعادة الأبدية".(1)
أما مَنْ لم يظفر بتلك البطاقة، فإن موته كارثة، وفناء أبدي ولا مطمع بعده في حياة ثانية، وعن هؤلاء يقول النورسي:
" فإن متع الشباب وملذاته المحظورة شرعاً كالعسل المسموم، وغدا الموت لدى الذي فقد بطاقة الإيمان التي تربحه السعادة الأبدية كأنه مشنقة، فينتظر جلاد الأجل الذي يمكن أن يحضر في كل لحظة، ليقطع الأعناق دون تمييز بين شاب وشيخ، فيرديه إلى حفرة القبر الذي هو باب لظلمات أبدية كما هو في ظاهره".(2)
الإحياء والإماتة
تساءل النورسي لا مستخبراً عن مجهول، ولا مستعلماً عن غامض، وإنما متعجباً ومستغرباً، فقال:
" أمن الممكن للذي أظهر قدرته بإحياء الأرض الضخمة بعد موتها وجفافها، وبعث أكثر من ثلاثمائة ألف نوع من أنواع المخلوقات، وأظهر عظمة ربوبيته بجعله الموجودات متكاتفة مترافقة، وأولى البشر الأهمية القصوى، أفمن الممكن لمثل هذا القدير الرحيم، ولمثل هذا العليم الحكيم الذي أعطى هذه الأهمية للإنسان أن لا يأتي بالقيامة ولا يحدث الحشر، ولا يبعث البشر أو يعجز عنه".(3)
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 162
(2) الكلمات – النورسي ص 162
(3) الكلمات – النورسي ص 85(4/238)
وقبل أن يبرهن النورسي على إمكانية البعث، وسهولة ويسر القيامة والنشور، روى ثلاثة أمثلة متتالية لمجرد تنبيه الغافل عن غفلته وإيقافه على تلك الحقيقة البديهية، لا للعلم ولا للمعرفة، فقال متسائلاً:
" فيا ترى إن كان ثمة كاتب ذو خوارق يكتب ثلاثمائة ألف كتاب مسحت حروفها ومسخت، في صحيفة واحدة، دون اختلاط ولا سهو ولا نقص، وفي غاية الجمال، ويكتبها جميعاً معاً خلال ساعة، وقيل لك: إِن هذا الكاتب سيكتب من حفظه في دقيقة واحدة كتابك الذي وقع في الماء وهو تأليفه. فهل يمكنك أن ترد عليه وتقول: لا يستطيع لا أصدق؟
أو أن سلطاناً ذا معجزات يرفع الجبال وينسفها، ويغير المدن بكاملها ويحول البحر براً، بإشارة منه، إظهاراً لقدرته وجعلها آية للناس. فبينما ترى منه هذه الأعمال، إذا بصخرة عظيمة قد تدحرجت وسدت الطريق على ضيوفه، وقيل لك: أن هذا السلطان سيميط حتماً تلك الصخرة من على الطريق ويحطمها مهما كانت كبيرة، حيث لا يمكن أن يدع ضيوفه في الطريق. كم يكون جوابك هذياناً أو جنوناً إذا ما أجبته بقولك: لا، لا يستطيع أن يفعل.
أو أن قائداً يمكنه أن يجمع من جديد أفراد جيشه الذي شكله بنفسه في يوم واحد، وقيل لك، إِن هذا سيجمع أفراد تلك الفرقة وسينضوي تحت لوائه أولئك الذين سرحوا وتفرقوا بنفخة من بوق، فأجبته: لا لا أصدق. عندها تفهم أن جوابك هذا ينبئ عن تصرف جنوني، أي جنون".(1)
ولا شك في أن من تصدر عنه أعمال خارقة للعوائد، ومخالفة لسنن الكون. ومحطمة لنواميس الطبيعة، ومتجاوزة لكل مألوف في الحياة، لا يستبعد منه الإتيان بأي عمل ولو كان من المستحيلات المحيرة للعقول والمزعجة للنفوس، ومن لا يصدق بأعماله، ولا يعترف بأهليته واستعداده لأي فعل، فلا فرق بينه وبين المجنون في شيء.
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 86(4/239)
ومخلوقات اللّه تعالى كلها هي من قبيل المعجزات الباهرة التي يعجز غير اللّه عن الإتيان بمثلها أو ما دونها، فهو عز وجل وكما يخبر النورسي مستشهداً بجزء يسير منها:
" الذي يكتب أمام أنظارنا بأحسن صورة وأتمها بقلم القدر والقدرة أكثر من ثلاثمائة ألف نوع من الأنواع على صحيفة الأرض، مبدلاً صحيفة الشتاء البيضاء إلى الأوراق المتفتحة للربيع والصيف، يكتبها متداخلة دون اختلاط، يكتبها معاً، دون مزاحمة ولا التباس رغم تباين بعضها مع البعض الآخر في التركيب والشكل، فلا يكتب خطأ مطلقاً".(1)
واستناداً على ما مضى فإن من لا يصدق بقدرة اللّه على البعث والنشور، ويستبعد الحشر وقيامة الأموات، مستنداً على استحالة قبول العقل لها، ومحتجاً بمخالفتها لسنن الوجود، فهو ممن بلغ حظهم من العقل والذكاء وسلامة الفطرة درجة من القلة تجعله ممن يفعل فعل المجانين عن قصد وإرادة، ووعي وتمييز.
الحشر
ليس هناك وقت محدد ولا زمان معروض للحشر، وما ورد في القرآن على أن ظهوره سيكون بغتة. ومن حيث لا يحتسب أحد، وشبهت سرعة ذلك المجيء بلمح البصر عند توجهه نحو المرئي، وذلك لأن لمح البصر من أسرع حركات الجسم وأيسرها، ولكن يوجد نوع من البشر وكما يرى النورسي يضيق ذرعاً بالأخبار الغيبية ولا يسلمون إلا بالأدلة المادية المحسوسة والمشاهدة بالعين المجردة، وذلك حتى يقتنعوا بإمكانية هذا الحدث الخارق لسنن الوجود.
وتحقيقاً لمطلب هؤلاء المعاندين أورد النورسي ثلاثة أمثلة عن عودة الأرواح إلى الأجساد، وإحياء الأجساد، وإنشاء الأجساد وبناؤها، وأخيراً موت الدنيا وقيام الساعة.
فمثال مجيء الأرواح وعودتها إلى الأجساد هو:
" اجتماع الجنود المنتشرين في فترة الاستراحة، والمتفرقين في شتى الجهات على الصوت المدوي للبوق العسكري".(2)
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 86
(2) الكلمات – النورسي ص 121(4/240)
فمن المتبع في أنظمة الجيوش أن الجنود، وبعد قضائهم فترة من الأعمال العسكرية، يؤمرون بالتفرق للراحة والاستجمام، وعند انتهاء وقت الاستراحة، لا يُنَادَى عليهم كل واحد على حدة، بل ينطلق صوت البوق العسكري المعلوم لديهم، عالياً مدوياً إيذاناً بضرورة تجمعهم من جديد.
وشبيه بهذا نفخ إسرافيل في الصور أو البوق يوم القيامة، فإن الأرواح وبمجرد سماعها لصوته المعروف، تعود إلى الأبدان وتحل فيها، وذلك من قبيل التمثيل لكيفية نداء الناس ودعوتهم للحشر، ويتفق من حيث الظاهر مع طريقة جمع الجنود المنتشرين للراحة.
ومثال إحياء الأجساد هو:
" مثلما يمكن إنارة مئات آلاف من المصابيح الكهربائية ليلة مهرجان مدينة عظيمة، من مركز واحد في لحظة واحدة، كأنها بلا زمان، كذلك يمكن إنارة مئات الملايين من مصابيح الأحياء وبعثها على سطح الأرض من مركز واحد. فما دامت الكهرباء وهي مخلوقة من مخلوقات اللّه تعالى وخادمه إضاءة في دار ضيافته، لها هذه الخصائص والقدرة على القيام بأعمالها حسب ما تتلقاه من تعليمات وتبليغات ونظام من خالقها، فلا بد أن الحشر الأعظم سيحدث كلمح البصر ضمن القوانين المنظمة الإلهية التي يمثلها آلاف الخدم المنورين كالكهرباء".(1)
فالسرعة التي يحي اللّه بها الأبدان شبيهة بسرعة إضاءة مدينة كاملة بألوف المصابيح الكهربائية، بمفتاح صغير، ومن موقع واحد، وفي وقت قصير يحسب ويقدر بلحظة نظر العين، ووصف اللّه سرعة سريان الحياة في الأبدان بلمعان البرق الخاطف.
ومثل لإنشاء الأجساد بقوله:
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 121(4/241)
" إنشاء جميع الأشجار والأوراق التي يزيد عددها ألف مرة على مجموع البشرية دفعة واحدة في غضون بضعة أيام في الربيع وبشكل كامل. وبالهيئة نفسها التي كانت عليها في الربيع السابق. وكذلك إيجاد جميع أزهار الأشجار وثمارها وأوراقها بسرعة خاطفة، كما كانت في الربيع، وكذلك حشر أمم الحشرات ولا سيما الذباب الذي يفوق عدد ما ينشر منه في سنة واحدة عدد بين آدم جميعهم من لدن آدم عليه السلام.
فحشر هذه الحشرة في كل ربيع مع سائر الحشرات الأخرى وإحياؤها في بضع أيام، لا يعطي مثالاً واحداً، بل آلاف الأمثلة على إنشاء الأجساد البشرية فوراً يوم القيامة".(1)
فإيجاد اللّه تعالى للموجودات، وإحداثه للألوف من المخلوقات مرة أخرى بعد مماتها، وفي جزء لا يتجزأ من الزمان، وبصورها وأشكالها التي كانت عليها من قبل، يعطي مثالاً بسيطاً ونموذجاً فريداً، على إعادة وتكوين الأجساد البشرية، وبالهيئات التي كانت عليها في الحياة، وبسرعة تعادل سرعة أمر اللّه لها بالتكوين كاملة مستوية الوجود، وفي التو واللحظة.
القيامة
ظلت معاني وصور الحشر والنشور وإخراج الموتى من القبور إحياء للحساب، وفي يوم لا يقدر طوله ولا يحد وقته بنور أو ضياء له بداية ونهاية، بل بنور وضياء يمتد بلا حدود ولا نهايات معلومة. من المعاني والصور التي لم تتقبلها العقول بيسر وسهولة، لا لاستحالة معقوليتها، بل لبعدها عن كل مألوف ومأنوس في الحياة.
ولأجل ذلك حاول النورسي في المثل أو الحكاية التالية أن يبرهن ليس فقط على معقوليتها، بل أيضاً للتأكيد على أنها من موجودة متوارية في الحياة الدنيا، وسارية فيها سريان الروح في البدن، وفي صور وأشكال عديدة ومتنوعة، فقال:
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 122(4/242)
" ذهب اثنان إلى مملكة رائعة الجمال كالجنة (التشبيه هنا للدنيا) وإذا بهما يريان أن أهلها قد تركوا بيوتهم وحوانيتهم ومحلاتهم مفتوحة لا يهتمون بحراستها، فالأموال والنقود في متناول الأيدي دون أن يحميها أحد، بدأ أحدهما – بما سولت له نفسه – يسرق حيناً ويغصب حيناً آخر مرتكباً كل أنواع الظلم والسفاهة، والأهلون لا يبالون به كثيراً".(1)
إن تفرد تلك المملكة وفرادتها يتمثل في شيوع الأمن والأمان وانتشاره الواسع بين قاطنيها. فلا خوف ولا قلق على شيء من متاعها، وأيضاً في تداول الأرزاق وتبادلها فيما بينهم بالعدل والإنصاف، وبلا ظلم ولا إجحاف لأحد منهم، ولما بدأ أحد هذين الرجلين بسرقة واغتصاب ما هو مشاع أصلاً، نفر منه صاحبه لخبثه وخساسة نفسه، أما الأهالي فلم يهتموا به أو يكترثوا له، فكأنه لا وجود له، عندها قال له صديقه:
" ويحك ماذا تفعل، إنك ستنال عقابك وستلقى في بلايا ومصائب، فهذه الأموال أموال الدولة، وهؤلاء الأهلون قد أصبحوا – بعوائلهم وأطفالهم – جنود الدولة أو موظفيها، ويستخدمون في هذه ببزّتهم المدنية، ولذلك لم يبالوا بك كثيراً. اعلم أن النظام هنا صارم، فعيون السلطان ورقباؤه وهواتفه في كل مكان، أسرع يا صاحبي بالاعتذار، وبادر إلى التوسل".(2)
تضمنت كلمة ذلك الصديق من معاني التوجع عما فعله أكثر من معاني التعجب والترحم، ودارت حول حقيقة لا يغتر كثيراً بمظاهر الشيوع السائدة في هذه الكلمة، فإن وراءه سلطة ونظاماً وقانوناً ورقابة دقيقة على كل حركة، أما الأهالي فهم العاملون فيها، ويتضح من عدم مبالاتهم به، وتجاهلهم لفعله أنهم لا يظهرون نسبتهم للدولة ولا انتماءهم لها. لاعتبارات في طبيعة أعمالهم، وإِنْ هو لم يبد اعتذاره على ما فعل، فعليه تحمل تبعات جريمته.
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 48
(2) الكلمات – النورسي ص 48(4/243)
وأدرك الرجل وكما يصفه النورسي سلامة قول صاحبه وصوابه، ولكنه حاد عنه لحماقته وقلة تبصره بعواقب الأمور، فرد عليه قائلاً:
" دعني يا صاحبي، فهذه الأموال ليست أموال الدولة، بل هي أموال مشاعة لا مالك لها، يستطيع كل واحد أن يتصرف فيها كما يشاء، فلا أرى ما يمنعني من الاستفادة منها، أو الانتفاع بهذه الأشياء الجميلة المنثورة أمامي، واعلم أني لا أصدق بما لا تراه عيناي".(1)
فالمبررات التي أدلى بها الرجل في رده على صاحبه ومنحته مطلق الحق في الاستيلاء على الأموال تنحصر في أنه لم يشاهد بعينيه سلطة ولا نظاماً ولا قانوناً يحول بينه وبين التمكن منها. ولا حتى مالك يدافع عنها ويمنعه من تناولها والتمتع بها.
عندها تبين له أن الرجل بلا علم يستند عليه في عمله. وبلا حجة تقوى من موقفه، ومع هذا يسلك معه مسلك العلماء وهو بعيد عنهم، فدار بينهما حوار قصير تساءل في مقدمته:
" وما السلطان فأنا لا أعرفه.
فرد عليه صاحبه:
إنك بلا شك تعلم أنه لا قرية بلا مختار، ولا إبرة بلا صانع وبلا مالك، ولا حرف بلا كاتب، فكيف يسوغ لك القول: إِنه لا حاكم ولا سلطان لهذه المملكة الرائعة المنتظمة المنسقة؟ وكيف تكون هذه الأموال الطائلة والثروات النفيسة الثمينة بلا مالك، حتى كأن قطاراً مشحوناً بالأرزاق الثمينة يأتي من الغيب كل ساعة ويفرغ هنا ثم يذهب، أو لا ترى في أرجاء هذه المملكة إعلانات السلطان وبياناته، وأعلامه التي ترفرف في كل مكان، وختمه الخاص، وسكته وطرته على الأموال كلها. فكيف تكون مثل هذه المملكة دون مالك؟
يبدو أنك تعلمت شيئاً من لغة الإفرنج، ولكنك لا تستطيع قراءة هذه الكتابات الإسلامية، ولا ترغب أن تسأل من يقرأها ويفهمها، فتعال إذن لأقرأ لك أهم تلك البلاغات والأوامر الصادرة من السلطان".(2)
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 48
(2) الكلمات – النورسي ص 49(4/244)
إن الأدلة والشواهد التي ساقها ذلك الصديق العاقل قد برهنت بالفعل على وجود مالك عالم وحكيم وقادر لهذه المملكة، لا تراه العيون ومعروف بالعقل. وأن مظاهر وجوده مبثوثة في كل ركن من مملكته، وفي كل حركة ومتحرك، فسلم المعاند بها تسليم المضطر، ولكنه بقي في نفسه شيء يخصه، فقاطعه متسائلاً:
" لنسلم بوجود السلطان، ولكن ماذا يمكن أن تضره وتنقص من خزائنه استفادتي القليلة هذه؟ ثم إني لا أرى هنا عقاباً من سجن أو ما يشبهه.
أجابه صاحبه:
يا هذا، إن هذه المملكة التي تراها ما هي إلا ميدان امتحان واختبار وساحة تدريب ومناورة، وهي معرض صنائع السلطان البديعة، ومضيف مؤقت جداً، ألا ترى قافلة تأتي يومياً وترحل أخرى وتغيب، فهذا شأن هذه المملكة العامرة، أنها تملأ وتخلى باستمرار، وسوف تفرغ نهائياً وتبدل بأخرى باقية دائمة، وينقل إليها الناس جميعاً فيثاب أو يعاقب كل حسب عمله".(1)
ومقصوده أن هذه المملكة ليست محل إقامة دائمة، بل هي ممر ومعبر لدار أخرى، الإقامة فيها دائمة ومستمرة، وبالتالي فإن المقيمين فيها إقامة مؤقتة لا يحصيهم العد، ثم يأتي عليهم زمان ينقلون إلى تلك الدار الباقية ليحاسب كل واحد منهم على أعماله.
وختم النورسي روايته للحوار بينهما بقوله:
" ومرة أخرى تمرد صديقه الخائن الحائر قائلاً:
أنا لا أومن ولا أصدق، فهل يمكن أن تباد هذه المملكة العامرة ويرحل عنها أهلها إلى مملكة أخرى؟
وعندها قال له صديقه الناصح:
يا صاحبي ما دمت تعاند هكذا وتصر، فتعال أبين لك دلائل لا تعد ولا تحصى تؤكد لك أن هناك محكمة كبرى حقاً، وداراً للثواب والإحسان، وأخرى للعقاب والسجن، وإنه كما تفرغ هذه المملكة من أهلها يوماً بعد يوم، فسيأتي يوم تفرغ فيهم منهم نهائياً وتباد كلياً".(2)
أما الأدلة التي استند عليها على القيامة والثواب والعقاب، فأجملها في قوله:
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 49
(2) الكلمات – النورسي ص 49(4/245)
" لا يمكن بوجه من الوجوه أن تكون لسلطان عظيم مملكة مؤقتة –كأنها دار ضيافة- ثم لا تكون له مملكة أخرى دائمة ومستقرة، ولائقة لأبهته وعظمته ومقام سلطنته السامية.
كذلك لا يمكن بوجه من الوجوه ألا ينشئ الخالق سبحانه عالماً باقياً بعد أن أوجد هذا العالم الفاني.
ولا يمكن أيضاً أن يخلق الصانع السرمدي هذه الكائنات البديعة الزائلة، ولا ينشئ كائنات أخرى دائمة ومستقرة.
ولا يمكن أيضاً أن يخلق الفاطر الحكيم القدير الرحيم هذا العالم الذي هو بحكم المعرض العام وميدان الامتحان والمزرعة الوقتية، ثم لا يخلق الدار الآخرة التي تكشف عن غاياته وتظهر أهدافه".(1)
يعني أنه من غير المعقول ولا المقبول، ولا يتفق مع طبيعة الأشياء أن يخلق اللّه حياة دنيوية تضم مخلوقات جميلة الصنعة، وآية في الروعة والنظام، وعوالم غاية في الدقة والإعجاز ودالة على قدرته وعظمته، ومع ذلك فهي زائلة لا محالة، ولا يخلق ما يوازيها ويقابلها من حياة أخرى خالدة باقية، لا انتهاء لها ولا زوال فيها. وفيها يتجلى اللّه بأسمائه وصفاته.
الحياة الآخرة
زود اللّه تعالى الإنسان – كما هو معروف في العقيدة الإسلامية – بأدوات التمكين كالعقل والعلم والإرادة والقدرة وغيرها ليس فقط لنيل مكاسبه الدنيوية، بل لتعينه كي يحظى بحياة أخرى وعالم آخر، ومثل النورسي لهذا المقصد السامي بقوله:
" أعطى سيد خادمه عشرين ليرة ليشترى بها بدلة لنفسه، من قماش معين فراح الخادم واشتراها من أجود أنواع الأقمشة ولبسها، ثم أعطى السيد نفسه خادماً آخر ألف ليرة، ولكن وضع في جيبه ورقة تعليمات وأرسله للتجارة.
فكل من يملك مسكة من العقل يدرك يقيناً أن هذا المبلغ ليس لشراء بدلة، إذ قد اشتراها الخادم الأول بعشرين ليرة.
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 64(4/246)
فلو لم يقرأ هذا الثاني ما كتب له في الورقة، وأعطى كل ما لديه إلى صاحب حانوت، واشترى منه بدلة – تقليداً لصديقه الآخر – ومن أردأ البدلات، ألا يكون قد ارتكب حماقة متناهية، ينبغي تأديبه بعنف وعقابه عقاباً رادعاً".(1)
كلّف السيد الخادمين بأداء عمل حدده لهما بالاسم، وأعطاهما القدرة والاقتدار على أدائه وإنجازه على الوجه الأكمل وبالدقة المطلوبة، فالأول كُلِّف من قبله مباشرة، في حين الثاني قد حدد له نوع العمل، أو تفاصيل الأداء في مكتوب ليطلع عليه فيما بعد ويعمل بناء على ما ورد فيه.
فإذا لم يعرف الثاني ما في المكتوب، ولا كلّف نفسه مئونة قراءته، مكتفياً بمتابعة زميله فيما فعله، وتقليده فيما أتاه، فيكون بهذا قد أخل بأوجب واجبات التكليف، وهو العلم التام والمعرفة الشاملة بطبيعة ما يراد منه فعله وإنجازه، وعلى الوجه المطلوب.
والسيد في المثال هو مجاز للّه تعالى المكلِّف الواحد الأحد، والخادم هو الإنسان المكلَّف الذي لا يكلَّف إلا بعد تزويده بالعدد والآلات التي تعينه على أداء ما كلِّف به وغاية كل تكليف ومقصوده هو الثواب في اليوم الآخر والحياة الثانية، ولأجل هذا نصح النورسي العباد في نهاية المثل قائلاً:
" استجمعوا عقولكم، ولا تهدروا رأس عمركم، ولا تبددوا طاقات حياتكم واستعداداتها لهذه الدنيا الفانية الزائلة، وفي سبيل لذة مادية ومتاع حيواني، فالعاقبة وخيمة، إذ تردون إلى دركة أدنى من أخس حيوان، علماً أن رأس مالكم أثمن من أرقى حيوان".(2)
قصر بلا سقف
إن من ينكر البعث والقيام والنشور والسعادة الأبدية، إنما ينزل اللّه تعالى وكما يصوره النورسي منزلة:
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 137
(2) الكلمات – النورسي ص 137(4/247)
" من يبنى قصراً عظيماً يضع في كل حجر فيه آلاف النقوش والزخاف، وفي كل زاوية فيه آلاف الزينة والتجميل، وفي كل غرفة فيه آلاف الآلات الثمينة والحاجيات الضرورية، ثم لا يبنى له سقفاً ليحفظه".(1)
فعلى الرغم من أن صاحب القصر لم يألوا جهداً في الوصول به إلى حد الكمال، إلا أن القدر القليل الناقص فيه يسمه بسمة القبح، وتظل صفة من أدق الأوصاف المعبرة عن حقيقته الحالية. إن إنجاز جزء كبير من العمل يعد أسوأ من عمل لم يبدأ فيه. أما العمل الناقص فهو في حكم اللعب والهزل. ومعاذ اللّه أن يصدر عنه العبث أو اللعب أو الهزل.
حياة الشهداء في البرزخ
ينعم اللّه على الشهداء الذين جادوا بأنفسهم رخيصة في سبيل اللّه بحياة شبيهة بحياتهم الدنيوية في البرزخ، حياة بلا آلام ولا متاعب ولا هموم، وفيها لا يعلمون أنهم ماتوا أو ارتحلوا عن الدنيا، بل نقلوا إلى عالم يتنعمون فيه بسعادة تامة خالية من الكدورات، ولا يشعرون كغيرهم من الأموات بفراق أهلهم وأحبتهم.
وشبه النورسي سعادتهم تلك بقوله:
" شخصان رأيا في المنام أنهما دخلا قصراً جميلاً كالجنة:
أحدهما يعلم أن ما يراه هو رؤيا، فاللذة التي يحصل عليها ناقصة جداً، إذ يقول في نفسه، ستزول هذه اللذة بمجرد انتباهي من النوم.
أما الآخر فلا يعتقد أنه رؤيا، لذا ينال لذة حقيقية ويسعد سعادة حقيقية.
وهكذا يتميز كسب الشهداء في حياتهم البرزخية عن كسب الأموات منها".(2)
إن الفرق الوحيد بين هذين الداخلين لتلك الجنة الصغيرة يكمن في اعتقادهما بنعيمهما وسعادتهما داخلها:
فالأول على يقين بأن ما فيه من سعادة ناتج عن رؤيا منامية، ومن ثم فإن متعته ولذته وإن كانت تامة وكاملة فهي ليست حقيقية، فسرعان ما تنقشع عندَ استيقاظه، ولا يبقى منها شيء.
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 90
(2) المكتوبات – النورسي ص 7(4/248)
أما الثاني، فعلى العكس منه، يرى وكأنه في يقظة لا في منام، وأن نعيمه حقيقة لا خيال، وسعادته تامة لا نقص فيها، وهو وحده الذي يتمتع بسعادة لا تزول ولا تقبل الزوال.
وحياة الشهداء في البرزخ شبيهة بحياة الرجل الثاني.
العقوبات الكبرى
دارت عدة أسئلة بين الناس حول هزة أرضية شديدة ضربت منطقة ازمير، بلغ بعضها مسامع النورسي، من بينها السؤال التالي:
لماذا لا ينزل هذا العذاب الرباني والتأديب الإلهي ببلاد الكفار والإلحاد وينزل بهؤلاء المساكين المسلمين الضعفاء؟
فرد بقوله:
" مثلما تحال الجرائم الكبيرة إلى محاكم جزاء كبرى وتعهد إليها عقوباتها بالتأخير، بينما تحسم الجنايات الصغيرة والجنح في مراكز الأقضية والنواحي، كذلك فإن القسم الأعظم من عقوبات أهل الكفر وجرائم كفرهم وإلحادهم يؤجل إلى المحكمة الكبرى في الحشر العظيم، بينما يعاقب أهل الإيمان على قسم من خطاياهم في هذه الدنيا، وذلك بمقتضى حكمة ربانية مهمة".(1)
يتضمن رد النورسي على أن الأمر ليس كما يعتقد الناس، فمثلما أن القضاء البشري يقسم الجنايات وفقاً لمقدار الضرر الناتج عنها، إلى جنايات كبرى وصغرى، ولكل منها محاكم خاصة تفصل فيها، فالكبرى إلى المحاكم الكبرى والصغرى المحاكم الصغرى، وفي حين يتم الفصل سريعاً في الجنايات الصغرى، فإن تنفيذ الحكم في الكبرى يؤجل لفترات تطول.
وبما أن جرائم الكفار وجناياتهم كبيرة. فإن جزاءهم لا يتم ولا ينفذ إلا في محكمة كبرى ككبر كفرهم وإلحادهم، وذلك يوم القيامة، أما ما يصيب المؤمنين من عقوبات ربانية في حياتهم الدنيوية، فهو تكفير وتطهير لهم من ذنوبهم وما اقترفوه في حق اللّه وحق أنفسهم.
جهنم
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 196(4/249)
إذا كان الإيمان يحمل في طياته بذرة صغيرة للجنة، فإن الكفر يحمل نواة صغيرة لجهنم، وإذا كانت الجنة ووجودها ثمرة طبيعية للإيمان، فإن جهنم هي أيضاً ثمرة طبيعية للكفر، ليس هذا فحسب، بل إن الكفر سبب في وجود جهنم لخلقها، مثال ذلك:
" لو كان هناك حاكم صغير ذو عزة وغيرة وجلال بسيط، وقال له رجل فاسد الخلق متحدياً: إنك لا تقدر على تأديبي، ولن تقدر عليه، فلا شك أنه سيبنى سجناً لذلك الشقي ويلقيه فيه، ولو لم يكن هناك سجن".(1)
فذلك الرجل سيء الخلق والأخلاق، بلغت به الجرأة وقلة الأدب حد التطاول على ولي نعمته، بأن واجهه بعجزه وقلة حيلته وعدم قدرته على عقابه، وذلك لإساءته له وتطاوله عليه. فمن البديهي أن أقل عقوبة يوقعها هي إيداعه الحبس، ولو لم يكن هناك مكان يحبس فيه لبنى له ذلك المكان.
وعمل الكفار لا يختلف في مجمله وتفصيله عن عمل ذلك الرجل عديم الأخلاق، فالكافر وكما يقول النورسي:
" يكذب مَنْ له العزة المطلقة والغيرة المطلقة، والجلال المطلق، ويسند إلى القدير المطلق العجز، ويتهمه بالكذب والعجز، فهو بكفره يتعرض لعزته بشدة، ويمس غيرته بقوة، ويطعن في جلاله بعصيان، فلا شك لو لم يكن لوجود جهنم أي سبب كان، وهو فرض محال، فإنه سبحانه يخلق جهنم لذلك الكافر، الذي يتضمن كفره هذا الحد من التكذيب وإسناد العجز ويلقيه فيها".(2)
ملك الجنة
ينعم اللّه تعالى على بعض أهل الجنة ملكاً بقدر الدنيا كلها ومئات آلاف من القصور ومئات آلاف من الحور العين، فلو كان الإنسان جماداً أو مخلوقاً نباتياً أو حيوانياً، لما كان يملك تلك الكثرة الكاثرة من القصور والحور ولا كانت تليق ولكن الإنسان معجزة من المعجزات الإلهية الباهرة، بحيث لو أعطيت له الدنيا بثرواتها ولذائذها وفي هذا العمر القصير فلا يشبع.
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 592
(2) الكلمات – النورسي ص 592(4/250)
إن الإنسان في الجنة يملك استعدادات لا نهاية لها، فيطرق باب رحمة غير متناهية، بلسان احتياجات غير متناهية، فلا ريب أن نيله لنعم إلهية غير متناهية معقول وحقيقي، وخير مثال ساقه النورسي لبيان تلك الحقيقة هو:
" إن لكل بستان من البساتين الموجودة في بارلا صاحبه ومالكه، كما هو الحال في بستان هذا الوادي، إلا أن كل نحلة وطير وعصفور في بارلا يستطيع القول: إن جميع بساتين بارلا ورياضها متنزهاتي وميدان جولاني، بالرغم من أَنّهُ تكفيه حفنة من قوت. أي أنه يضم بارلا كلها في ملكه، و لا يجرح حكمه هذا اشتراك الآخرين معه".(1)
والمفهوم واضح وهو أن من حق كل مالك لروضة أو بستان أن يدعى ملكيته له، وله مطلق الحرية ضمن حدود ملكيته التصرف فيه، ولا يتعدى إلى حقوق الآخرين، أما الطيور والعصافير والنحل فهي وحدها التي تتصرف فيها جميعاً كما لو كانت هي المالكة لها، بل بإمكانها الإدعاء بأنها المالكة الحقيقية لها، ولا أحد بقادر على منعها من التمتع بها، مع أن كمية قليلة للغاية من خيراتها تفي باحتياجاتها اليومية.
والإنسان مثله مثل تلك الطيور يمكنه أيضاً القول:
" إن خالقي قد جعل لي هذه الدنيا كلها بيتاً، والشمس سراجاً والنجوم مصابيح، والأرض مهداً مفروشاً بزرابي مبثوثة مزهرة".(2)
أما حاله في الجنة فلا يختلف عن حاله في الدنيا، فيمكنه كما بدأنا القول معاشرة مئة ألف من الحور العين، ويتلذذ بمئة ألف نوع من أنواع اللذائذ في وقت واحد، فكل ذلك يليق بتلك الجنة الأبدية غير مقيدة الملكية، وملائم تماماً مع الرحمة الإلهية المطلقة.
نعيم الجنة
سئل النورسي:
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 590
(2) الكلمات – النورسي ص 590(4/251)
"يحضر أعرابي مجلس الرسول صلى اللّه عليه وسلم لدقيقة واحدة فيكسب محبة اللّه، ويكون معه صلى اللّه عليه وسلم في الجنة، حسب ما ورد في الحديث الشريف ( المرء مع من أحب ) فكيف يعادل فيض غير متناه يناله الرسول مع فيض هذا الأعرابي؟ كيف يتساوى الجميع في التمتع بنعيم الجنة مع تفاوتهم الكبير في العمل والأجر واختلافهم البين في المراتب والمنازل عند اللّه؟".
فأجاب:
" نشير إلى هذه الحقيقة السامية بمثال:
رجل عظيم أعد ضيافة فاخرة جداً في بستان مزهر رائع الجمال، وهيأ موضعاً في منتهى الزينة والإبداع، جامعاً لجميع أنواع المطعومات التي تحس بها حاسة الذوق، شاملاً جميع المحاسن التي ترتاح إليها حاسة البصر، ومشتملاً على جميع الغرائب التي تبتهج قوة الخيال، وهكذا وضع فيه كل ما يرضى ويطمئن كل حاسة من الحواس الظاهرة والباطنة.
والآن يذهب صديقان معاً إلى تلك الضيافة ويجلسان جنباً إلى جنب على مائدة واحدة. في مكان مخصص، ولكن أحدهما يملك حاسة ذوق ضعيفة لا يتذوق إلا شيئاً قليلاً من تلك الضيافة، ولا يرى كثيراً من الأشياء، لأن بصره ضعيف، ولا يشم الروائح الطيبة، لأنه فاقد لحاسة الشم، ولا يفهم خوارق الأشياء لعجزه عن إدراك غرائب الصنعة، أي لا يستفيد من تلك الروضة الرائعة، ولا يذوق من تلك الضيافة العامرة إلا واحداً من ألف، بل من مليون فيها، وذلك حسب قابلياته الضعيفة.
أما الآخر فلأن جميع حواسه الظاهرة والباطنة وجميع لطائفه من عقل وقلب وحس كاملة مكتملة، متفتحة متكشفة بحيث إنَّ جميع دقائق الصنعة من ذلك المعرض البهيج، وجميع ما فيه من جمال ولطائف وغرائب، يتحسَّسُهَا ويتذوقها، مع أنه جالس مع الرجل الأول". (1)
والحكاية الرمزية واضحة، فالرجل ذو العظمة والأبهة أعد مأدبة كبيرة لضيوفه، وفر لهم فيها كل أسباب المتعة والجمال، وعلى هذه المأدبة جلس صديقان:
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 588(4/252)
الأول: حرمته حواسه الضعيفة، وقلة علمه ومعرفته من خيرات المائدة، اللّهم إلا جزءاً يسيراً لا يكاد يساوي شيئاً.
أما الثاني: فقد ساعدته حواسه النشطة وإدراكه الواسع العميق على التمتع بمباهجها بلا حدود، مع أنه جالس إلى جوار صديقه.
ثم علق النورسي على المثل قائلاً:
" فلئن كان هذا حاصلاً في هذه الدنيا المضطربة المؤلمة الضعيفة ويكون الفرق بنيهما كالفرق بين الثرى والثريا، فلا بد أن يأخذ كل أمرئ على وفق استعداده، رغم كونه مع من يحب، فالجنان لا تمنع أن يكونا معاً بالرغم من تفاوتها، لأن طبقات الجنة، كل منها أعلى من الأخرى، إلا أن عرش الرحمن سقف الكل، إذ لو بنيت بيوت متداخلة حول جبل مخروطي، كل منها أعلى من الآخر، كالدوائر المحيطة بالجبل، فإن تلك الدوائر تعلو الواحدة على الأخرى، ولكن لا تمنع الواحدة الأخرى عن رؤية الشمس، فنور الشمس ينفذ في البيوت كلها، كذلك الجنان شبيهة بهذا المثال إلى حد".(1)
والمقصود بيّن بنفسه، فاللّه تعالى لا يحرم أحداً من نعيم الجنة، وكل عبد ينال نصيبه بقدر عمله ورضا اللّه عنه. صحيح أن الجنة على طبقات ومراتب، ولكنها لا تمنع أحداً مما فيها من سعادة وأفراح، مثلها في ذلك مثل الشمس التي يتسلل ضوؤها إلى كل البيوت على الرغم من تداخلها وارتفاع بعضها وانخفاض الآخر.
لقاء الأحبة
يذهب النورسي – وعن تجربة شخصية – إلى ِأَنَّ الاهتمام البالغ الحد بالدنيا، والتعلق الشديد بها، قد يحيل حتى اللحظات البسيطة بالأفراح، إلى آلام موجعة وأحزان دائمة. ومثل لهذه الحقيقة بقوله:
" هب أنه في هذه القرية (بارلا) رجلان اثنان:
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 589،588(4/253)
أحدهما قد رحل تسعة وتسعون بالمائة من أحبته إلى استانبول، وهم يعيشون هناك عيشة طيبة جميلة، ولم يبق منهم هنا سوى شخص واحد وهو أيضاً في طريقه إلى الالتحاق بهم، لذا فإن هذا الرجل مشتاق إلى استانبول أشد الاشتياق بل يفكر بها. ويرغب في أن يلتقي الأحباب دائماً، فلو قيل له في أي وقت من الأوقات، هيا اذهب إلى هناك، فإنه سيذهب فرحاً باسماً.
أما الرجل الثاني فقد رحل من أحبته تسعة وتسعون بالمائة، ويظن أن بعضهم فني، ومنهم من انزوى في أماكن لا ترى فهلكوا وتفرقوا حسب ظنه. فهذا الرجل المسكين ذو داء عضال يبحث عن أنيس وعن سلوان حتى عند سائح واحدٍ بدلاً من أولئك جميعاً، ويريد أن يغطي به على ألم الفراق الشديد".(1)
فالرجل الأول لم يبق له حيث يقيم من أحبته أحد، ومن ثم فهو حريص أشد الحرص على اللحاق بهم، بل هو في حالة نزاع نفسي دائم إلى السفر حيث يقيمون، والالتقاء بهم بأسرع وسيلة ممكنة.
أما الثاني فقد مات من أحبته من مات، وتشتت الباقي في أنحاء الأرض، ولذلك فهو وحيد يعاني من مرض لا شفاء منه، ويسأل على الدوام من يخفف عنه آلام الوحدة والفراغ ويؤنسه في حياته الكئيبة الموحشة، حتى ولو كان من الغرباء.
ثم خاطب النورسي نفسه قائلاً:
" فيا نفسي، إن أحبتك كلهم وعلى رأسهم وفي مقدمتهم حبيب اللّه صلى اللّه عليه وسلم، هم الآن في الطرف الآخر من القبر، فلم يبق هنا إلا واحد أو اثنان، وهم أيضاً متأهبون للرحيل، فلا تديرنّ رأسك جفلة من الموت خائفة من القبر، بل حدّقي في القبر وانظري إلى حفرته بشهامة واستمعي إلى ما يطلب، وابتسمي بوجه الموت برجولة، وانظري ماذا يريد؟ وإياك أن تغفلي فتكوني أشبه بالرجل الثاني".(2)
__________
(1) الكلمات – النورسي ص 192
(2) الكلمات – النورسي ص 192(4/254)
إن فراق الأحبة بالموت، والرغبة الشديدة في اللحاق بهم، والشوق الدائم لرؤيتهم، لا ينبغي أن يخيف أحداً من الموت أو القبر. حتى لا تتحول حياته إلى جحيم لا يطاق، بل يجب عليه مواجهته بحزم وشجاعة، وبفرح وابتهاج، إذ هو الوسيلة الوحيدة إلى لقائهم، وإلا سيكون كالرجل الثاني، فيقع ضحية لمرض لا دواء له، ولا شفاء منه.
مشاهد الأعمال في الجنة
يعتقد النورسي أن أعمال المؤمن الدنيوية هي مبعث لفرحه وسعادته في الآخرة، وستكون من غير شك محل تذكر وتذاكر بين إخوانه، وموضوع تفاكر بينهم. وليس من المستبعد أن يتمنى الواحد منهم رؤية تلك الأعمال ومشاهدتها كما حدثت بالفعل، مثلما كان يشاهد الأفلام السينمائية في دنياه ويستمتع بمناظرها.
ويستند النورسي في إمكانية تلك المشاهدة على أن الحياة هي أصلاً دار متعة ومتاع، فيقول:
" فما دام الأمر هكذا فالجنة التي هي دار اللذة ومنزلة السعادة توجد فيها لا محالة المناظر السرمدية لمحاورات الأحداث الدنيوية ومناظر أحداثها".(1)
وهو يشبه لما مضى على ما هو جار في الدنيوية فيقول:
" إن أهل المدنية يلتقطون صور الأوضاع الغريبة والجميلة ويهدونها إلى أبناء المستقبل، تذكاراً لهم، كما هو على شاشة السينما، فيمنحون نوعاً من البقاء لأوضاع فانية، ويدرجون الزمان الماضي ويظهرونه في الزمان الحالي وفي المستقبل".(2)
يعني أن تصوير أحداث ومناظر بعينها يحفظها من الضياع، فتبقى ذكرى جميلة لأيام ولت ومضت، وكذلك الحال مع الأحداث الدنيوية:
" فبعد قضاء حياة قصيرة، يدون صانعها الحكيم غاياتها التي تخص عالم البقاء في ذلك العالم، كذلك يسجل الوظائف الحياتية والمعجزات السبحانية التي أدوها في أطوار حياتها في مناظر سرمدية".(3)
__________
(1) المكتوبات – النورسي ص 380
(2) المكتوبات – النورسي ص 381
(3) المكتوبات – النورسي ص 381(4/255)
وعلى هذا فمثلما يستعيد أهل الدنيا ذكرياتهم فيما حفظوه من صور ومناظر للحظات قصيرة وقفوها أمام آلات التصوير، كذلك يحفظ اللّه أعمالهم ووقائع حياتهم، تماماً كما تحفظ الأفلام التسجيلية، وتعرض عليهم في الجنة كجزء لا يتجزأ من مباهج الجنة وأفراحها.
مملكة السموات
لو حاولنا تقدير مساحة وحجم مملكة السماوات، ولو بالمقاييس البشرية العادية واستناداً على المعروف والمعلوم منها، لخلصنا إلى نتيجة غاية في البساطة وهي أنها تبلغ المنتهى في البعد مع المنتهى في القرب، فلا بداية للأولى، ولا نهاية للثانية، فيما يفيد أنها جمعت بين طرفين متباعدين وفي تساوق عجيب، تقف عنده مقدرة العقل الادراكية عاجزة على التصور عاجزة.
ولئلا يظن الظان أن هذه المملكة الربانية بعيدة عن فهم العقل وتعقله، فقد حاول النورسي تقريبها للأذهان بمثلين متشابهين، فقال في الأول:
" هب أن الدائرة العسكرية لحكومة تقع في شرقي البلاد، ودائرتها العدلية في الغرب، ودائرة المعارف في الشمال، ودائرة الشؤون الدينية في الجنوب، ودائرة الموظفين الإداريين في الوسط، وهكذا..
فعلى الرغم من البعد بين دوائر هذه الحكومة، فإن كل دائرة لو استخبرت الأوضاع فيما بينها بالتلفون أو التلغراف ارتباطاً تاماً: عندها تكون البلاد كلها كأنها دائرة واحدة هي دائرة العدل، أو الدائرة العسكرية أو الدينية أو الإدارية وهكذا".(1)
يعني أن وسيلة اتصال صغيرة كالهاتف وغيرها من وسائل الاتصال الحديثة تجعل هذه الوحدات الحكومية المتباعدة زماناً ومكاناً متقاربة فيما بينها تقارباً شديداً، فينظر إليها كما لو كانت في متناول اليد، وتحت الرؤية المباشرة للعين.
وجاء في المثل الثاني:
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 451(4/256)
" يحدث أحياناً أن دولاً متعددة ذات عواصم مختلفة، تشترك معاً في مملكة واحدة بسلطات متباينة من حيث مصالحها الاستعمارية فيها أو لوجود امتيازات خاصة بها، أو من حيث المعاملات التجارية وغيرها، فكل حكومة عندئذ ترتبط بعلاقة مع تلك الرعية من حيث امتيازاتها، على الرغم من أنها رعية واحدة وأمة واحدة، فإن معاملات تلك الحكومات المتباينة – والتي هي في غاية البعد – تتماس وتتقارب كل منها مع الأخرى في البيت الواحد، بل تشترك في كل إنسان".(1)
والمعنى مشابه لمعنى المثل الأول، فتلك الدول مختلفة العواصم ومتعددة المراكز الإدارية، ومتباينة الأهداف، ومتباعدة في المساحات، قد قربت بينها المنافع الدنيوية، قرباً ليس فقط زمانياً ومكانياً، بل أيضاً قربة نسب ورعاية، حتى وصلت وكما في تعبير النورسي حدود المشاركة في البيت الواحد. بل المشاركة في كل إنسان، أي أن المصالح جعلت من البعد المتناهي بين تلك الدول داخل منظومة واحدة قريبة من بعضها قرباً يمكن لمسه باليد الواحدة. وعلى ضوء هذين المثلين قال النورسي:
" إن مملكة السماء التي هي في غاية البعد، من حيث العاصمة والمركز، فإن لها هواتف معنوية تمتد منها إلى قلوب الناس في مملكة الأرض، فضلاً عن أن عالم السماوات لا يشرف على العالم الجسماني وحده، بل يتضمن عالم الأرواح وعالم الملكوت، لذا فعالم السماوات يحيط بجهة بعالم الشهادة تحت ستار".(2)
فمملكة السماء التي تتراءى لنا في اتساع مداها وطول مساحتها. أنه لا مجال للوصول إلى قلبها ونقطة ارتكازها، هي في حقيقة أمرها قريبة جداً إلى القلوب والنفوس، وذلك عن طريق وسائل اتصال في منتهى اللطافة والشفافية والسرعة المتناهية، وذلك القرب الشديد ليس مقصوراً على الإنسان وحده، بل يمتد ليشمل كل العوالم التي تشارك الإنسان في الوجود، روحية كانت أم مادية.
__________
(1) اللمعات – النورسي ص 451
(2) اللمعات – النورسي ص 452(4/257)
والسلام
الفهرس
تمهيد ... 3
الفصل الأول ... 7
اللّه جل جلاله ... 7
بسم اللّه ... 7
اسم اللّه الأعظم ... 13
وجود اللّه ... 16
واحدية اللّه ووحدانيته وأحديته ... 19
تجلى اسم الفرد ... 28
التوحيد ... 30
الربوبية ... 33
الحكم العدل ... 35
قدرة اللّه ... 38
التعريف باللّه ... 41
خلق اللّه ... 46
دقة الصنعة الإلهية ... 51
الأسماء والصفات ... 57
المبارزة ... 62
قرب اللّه وبعده ... 64
حركة الذرات ... 69
الفصل الثاني ... 73
القرآن ... 73
إعجاز القرآن ... 73
أعظم إعجاز القرآن ... 77
سمو القرآن ... 79
بلاغة القرآن ... 84
الحقيقة المطلقة ... 86
حقائق القرآن ... 89
خدمة القرآن ... 90
حكمة القرآن وحكمة الفلسفة ... 94
الفصل الثالث ... 101
محمّد - صلى الله عليه وسلم - ... 101
نور محمد - صلى الله عليه وسلم - ... 101
شخصية الرسول المعنوية ... 103
علاقة محمد - صلى الله عليه وسلم - باللّه عز وجل ... 106
معجزة محمد - صلى الله عليه وسلم - ... 115
ظهور معجزات محمد - صلى الله عليه وسلم - على الكائنات ... 117
فضائل أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ... 118
الفصل الرابع ... 121
الإيمان ... 121
نور الإيمان ... 121
أثر الإيمان ... 126
أعلى مراتب الإيمان ... 131
الانتساب ... 135
الحقائق الإيمانية ... 138
ثمرات المعراج ... 140
عدم الإيمان ... 144
الإيمان والكفر ... 146
الكافر ... 149
الفصل الخامس ... 153
العبادة ... 153
العبادة والسجود ... 153
النيّة ... 158
الدعاء ... 161
الصلاة ... 162
الصارف عن الصلاة ... 169
الحمد للّه ... 170
التوكل ... 172
صبر النفس على العبادة ... 175
الطاعة والمعصية ... 177
فرح اللّه ... 181
الوعيد ... 182
وعيد اللّه على الذنب الصغير ... 185
التجارة الرابحة ... 187
البدعة ... 191
الذنوب والآثام ... 192(4/258)
التنبيه الرباني ... 195
إدامة الإخلاص ... 196
الابتلاء ... 200
شكوى المريض ... 203
الفصل السادس ... 205
السلوك ... 205
الحرص والقناعة ... 205
عداء المؤمن لأخيه ... 210
الصلح ... 212
أخلاق النورسي ... 213
التعارف والتعاون ... 217
كفران النعمة ... 218
حب الجاه ... 220
الخوف ... 224
المصائب ... 227
اختلاف أهل الحق واتحاد أهل الباطل ... 229
احترام الناس للنورسي ... 233
الفصل السابع ... 237
الإنسان ... 237
الإنسان ... 237
حب البقاء ... 238
فساد الإنسان ... 240
ارتفاع الإنسان وسقوطه ... 242
اعتماد النفس على ذاتها ... 246
تعبير الرؤيا: ... 247
مصير الحضارة الأوربية ... 251
الفصل الثامن ... 257
الدنيا ... 257
حقيقة الدنيا ... 257
الدين والدنيا ... 263
حب الدنيا ... 272
فناء الدنيا وبقاء الآخرة ... 275
الفصل التاسع ... 281
الوجود ... 281
ظاهر الوجود ومعناه ... 281
المقدرة الحياتية ... 283
وحدة الوجود ... 284
وجود الروحانيات ... 290
وجود الإنسان ... 292
وجود الشياطين ... 294
إيجاد الموجودات ... 296
خلق الطبيعة ... 300
الأحمق الجاهل ... 306
الفصل العاشر ... 309
الآخرة ... 309
الإيمان باليوم الآخر ... 309
الموت ... 313
الإحياء والإماتة ... 317
الحشر ... 319
القيامة ... 322
الحياة الآخرة ... 327
قصر بلا سقف ... 329
حياة الشهداء في البرزخ ... 330
العقوبات الكبرى ... 331
جهنم ... 332
ملك الجنة ... 333
نعيم الجنة ... 335
لقاء الأحبة ... 337
مشاهد الأعمال في الجنة ... 339
مملكة السموات ... 340(4/259)
البُعدُ العَقَدي
في فكر النورسي
الدكتور الشفيع الماحي أحمد
جامعة الملك سعود- الرياض
بسم الله الرحمن الرحيم
مدخل
إن عمومية معنى الإسلام من جهة، وإطلاقه، على أعمال ظاهرة من جهة أخرى، جعله لما مجموعه ثلاث قواعد هي: اعتقاد بالقلب، وإظهار وبيان ذلك الاعتقاد القلبي باللسان، ثم أعمال بأعضاء البدن المختلفة، أما أعمال قلبية كالإيمان، أو قولية باللسان كالذكر، أو فعلية تؤديها جوارح الجسم كالصلاة وغيرها. وباجتماع تلك الثلاثة عد الإسلام ديناً، ونسب بالتسمية نفسها لله تعالى. إذ هو من وضعه، ولم ينسب لسواه. وتضمن معاني متعددة تدور في مجملها حول كلمتي الطاعة والانقياد.
والاعتقاد مثله في ذلك مثل سائر المعارف يتراوح وجوده الحقيقي أو المعرفي ما بين الإثبات والإنكار، ولكن إثباته وثبوته من حيث هو هبة ربانية يختلف عن سائر الحقائق والمعارف. وذلك لأن إثبات الاعتقاد يصدر مباشرة من كونه علماً متحققاً بذاته وكما هو عليه بالفعل، ولا مدخل للعارف أو المعتقد فيه. في حين نجد المنكر لذلك الاعتقاد ينكره بحسب ما يراه هو، وما يؤديه إليه نظره واجتهاده، ومن ثم يتحول إنكاره إلى ضرب من ضروب الجهل علم به المنكر أم لم يعلم.
ولعل السهولة التي وجدها سعيد النورسي في ثبوت العقائد والحقائق الإيمانية، والصعوبة، بل الاستحالة في إنكارها ونفيها، هي التي صرفته عن الاشتغال بإفراد مباحث مستقلة لها. أو معالجتها وشرحها معالجة وشرح يوازي ما هو شائع في مباحث علم الكلام.
لكل هذا فقد شكل العنصر العقدي في فكر النورسي مرتكزاً رئيساً تدور عليه أغلب مباحثه واجتهاداته، وتهدف الصفحات التالية في مجملها إلى إبراز جانب منه في أبعاده المختلفة.
الفصل الأول
الله
وجود الله(5/1)
يتراوح أي وجود حقيقي أو معرفي لشيء من الأشياء في العادة ما بين الإثبات والإنكار، وبين المعرفة والجهل. فأما أن يكون موجوداً يعقل فيعرف، وأما لا يعقل له وجود، فيرادف العدم في المعنى فيُنكر. ولأجل ذلك يحكم على من شأنه الوجود بالثبوت لتحققه معرفياً بعيداً عن ذات العارف. تحققاً لا يحتمل معه العدم بوجه من الوجوه. وإذا أُنكر فيتحول إنكاره على أقل تقدير إلى ضرب من ضروب الجهل علم به المنكر أم لم يعلم.
وبالإثبات كحكم معرفي على الموجود –أي الحكم عليه معرفياً بالوجود- يبلغ الموجود حد التحقيق والتوكيد، عندئذ لا يزول ولا يقبل التشكيك بأي حال من الأحوال، وبالتالي يسقط من الاعتبار كل قيمة معرفية للإنكار والجحود والنفي وعدم الاعتراف، وكلما يعارض أو يناقض الحكم الثبوتي بالوجود.
فالإنكار إذن بحكم طبيعته المعرفية يدخل في مفهومه السلب، بل أن السلب جزء لا يتجزأ منه، بينما الإثبات بحكم طبيعته الإيجابية يرادف في مفهومه الكون والوجود، ولا يدخل السلب في مفهومه على الإطلاق. ومن هنا ذهب النورسي إلى القول بمدى السهولة التي نجدها في الأمر الثبوتي، ومدى الصعوبة والإشكال التي تجابهنا في النفي والإنكار. وأوضح تلك الحقيقة المعرفية بالمثال التالي:
" إذا قال أحدهم: إن هناك على سطح الأرض حديقة خارقة جداً، ثمارها كعلب الحليب. وأنكر عليه الآخر قوله هذا قائلا: لا، لا توجد مثل هذه الحديقة. فالأول يستطيع بكل سهولة أن يثبت دعواه بمجرد إراءة مكان تلك الحديقة. أو بعض ثمارها، أما الثاني، أي المنكر فعليه أن يرى ويُري جميع أنحاء الكرة الأرضية لأجل أن يثبت نفيه. وهو عدم وجود مثل هذه الحديقة". (1)
__________
(1) -اللمعات- النورسي ص 349(5/2)
فيكفي في الإثبات مجرد الإيماءة البسيطة، أو الإشهاد والإراءة إلى المراد إثباته. أو تحديد مكانه، إلى غيرها مما يشير إليه إشارة دلالية أو وضعية. أو بمعنى آخر تعريفه وتعيينه. بينما لا يمكن إثبات النفي والعدم بمجرد التحديد والتعيين، بل لا بد من البحث والتحري والتنقب الدقيق، ليس لإظهار وبيان صدق الدعوى، وإنما للتثبت فقط من عدم وجود ما أُنكر ونفي.
ويقال الشيء نفسه وبالمستوى العرفاني ذاته على الحقائق الإيمانية والمعارف العقدية، فمثلاً:
" إذا نفي أهل استانبول جميعهم رؤيتهم للهلال في بداية رمضان المبارك. فإن إثبات إثنين من الشهود يسقط قيمة اتفاق كل ذلك الجمع الغفير". (1)
ومرد ذلك كله كما يرى النورسي (2) إلى أن المثبت ينظر إلى الأمر في نفسه. أي من حيث واقع الحال، ثم يصدر حكمه، فلا يقول أحدهم: الهلال موجود في نظري أو عندي. بل يقول: الهلال موجود فعلاً، وهو في السماء، والمشاهدون جميعاً يصدقونه في دعواه، ويؤيدونه في الأمر نفسه، مشيرين إليه، فيشترك الجميع في النظر إلى المكان نفسه، فيتساندون ويقوى حكمهم ويرسخ.
أما النافي المنكر فلا ينظر إلى الأمر في ذاته، وإنما ينظر إليه وفق عقله ونظراته، فيصدر حكمه بحسب رغباته وأهوائه فيقول: الهلال في نظري غير موجود. وباعتقادي أنه لا يوجد، وإني لا أراه، ويقول من يشاركه في النفي والإنكار الشيء نفسه، إذ كلاهما ينفي من وجهة نظره وليس من واقع الحال، وهو في كل الأحوال منفرد باعتبار أنه وحده الذي ينفى، ولذلك لا يمكنه القول أبداً: إنه فعلاً لا يوجد.
__________
(1) -اللمعات- النورسي ص 185
(2) -المصدر السابق ص 185،186 وأيضاً الشعاعات- النورسي ص 136(5/3)
ولأجل هذا عدت دعاوى الإنكار والمنكرين دعاوى متعددة ومتباينة ومختلفة. رغم أنها تبدو واحدة في الظاهر، إذ لا يتحد بعضها مع البعض الآخر كي يؤازره ويشد من عضده، فتأتي نتائجها متعددة ومتفرقة. بينما دعاوى المثبتين تتحد وتتساند ويجتمع بعضها مع البعض الآخر، ويدعم أحدهما الآخر، وبمثل هذا التعاون وتلك المؤازرة يقوى الحكم ويرسخ ويغدو صادقاً لا يكابر فيه إلا جاحد.
وعليه فلا قيمة ولا أهمية إلى اتفاق آلاف الكفار والملاحدة في إنكارهم لوجود الله تعالى، أو لسواه من حقائق الإيمان والغيب. وليس في نفيهم أي سند، ولا يعتد بأحكامهم في مجال العلم والمعرفة، إذ لا تعدو في الحقيقة عن كونها جهلاً وعدماً. بينما يكفي حكم اثنين من المؤمنين تساندهما وتعاضدهما الحقائق الإيمانية الثابتة ثبوتاً قطعياً بأدلة وبراهين أظهرتها ظهوراً بلغ حد التعيين الإشاري.
فنحن هنا ومن خلال تلك الرؤية النورسية، لا نثبت إلا ما هو حق وواجب وواقع بالفعل، أي لا نثبت إلا ما هو موجود وجوداً عينياً، فكأن حقيقة الوجود في المثبت صفة كامنة فيه، وخاصية مميزة له. تجعل من الحكم عليه بالثبوت حكماً لازماً له لزوم الصفة لموصوفها.
ومعنى الإثبات في كل الأحوال هو تعيين حقيقة الموجود بحيث لا مسوغ من بعد ذلك لإنكاره، إذ لا نثبت في واقع الأمر إلا ما هذا شأنه، وبالتالي يسقط من الاعتبار كل ما هو منكر. بل إن كل ما يفتقر إلى حقيقة مخصوصة ومفردة في الخارج هو في حكم العدم، ولا مدخل له بأي معنى من المعاني ضمن دائرة العلم والمعرفة(5/4)
والنورسي حين سعى لإثبات وجود الله كحقيقة متعينة في الظاهر، عوّل على ذلك المفهوم العميق لمعنى الإثبات الذي يخرجه عن الإطار السردي المالك للأدلة والبراهين والشواهد. ومما ينصب عادة في الكشف عن الغائب والمجهول والخفي فتحول الإثبات عنده في النهاية ليعنى الوقوف على حقيقة الموجود، أي الوقوف على ما هو أصلاً ثابت وحق وواقع بالفعل. ولا مجال لإنكاره مطلقاً. وحتى في هذا فهو لا يريده وقوفاً مجرداً يصل فيه بالإثبات إلى منتهاه وغايته. بل يريده وقوفاً قلبياً مشعوراً به، بحيث يقول المثبت أتيقن وأعتقد، ولا يقول أعلمه وأعرفه.
بيد أن النورسي في وقوفه متحققاً من وجود الله لم تغب عنه حقيقة بديهية مفادها أن إطلاق لفظ الوجود على الله هو في حد ذاته إثبات، إذ يبلغ وجود الله درجة من القوة والشدة يعجز معها العقل الإنساني عن إدراكه فضلاً عن الإحاطة به إحاطة معرفية. وذلك لقوة ظهوره من جهة، ولمحدودية الأداة التي يُدرك بها من جهة أخرى، ومن ثم استحال إطلاق لفظ الوجود على الله تعالى كما يطلق على سائر الموجودات.
ولأجل ذلك فالنورسي لا ينظر إلى وجود الله كصفة توجب لله حكماً ما، وإنما ينظر إليه من خلال كونه إثباتاً محضاً لذات الله، به يختص الله تعالى بحال تقع عليه فيها ما يتفرد به من أسماء وصفات، وسائر ما يتعلق بذاته العلية من أحكام واجبة له، ولائقة بحقه، فتجاوز معنى الوجود عنده في حقه تعالى يعني أمرين متلازمين:
أولهما: كونه تعالى في نفسه ثابتاً ومتحققاً
وثانيهما: كونه تعالى معلوماً ومشعوراً به.
فلا عجب بعد كل هذا أن سلك النورسي في حديثه عن وجود الله مسلكاً أقرب إلى التحقيق والتحقق منه إلى الإثبات كما هو متعارف عليه في دوائر علم الكلام، معولاً منذ البداية على استناد المخلوقات كافة في وجودها على الله تعالى ذاتاً ووجوداً، ليصل من خلال ذلك الاستناد إلى وجود الله وذاته وما يجب له من أحكام وصفات وأسماء.(5/5)
دلالة المخلوقات على وجود الله
إن الإستناد في مفهومه البسيط قد بنى عند النورسي على ما بين الخالق ومخلوقاته من علاقة بها ينتسب المخلوق إلى خالقه نسبة يعتمد عليه في وجوده وحركته في الوجود، ويتعلق به تعلقاً لا انفكاك له ولا انفصال، تماماً كتعلق العلة بمعلولها والسبب بمسببه، وهو انتساب قهري. وتعلق حتمي، فإذا انقطع ذلك الانتساب وترك المخلوق بلا سند ولا استناد، ترتب عليه من المشكلات ما يصل إلى حد الامتناع العقلي.
وحتى يتجلى هذا المعنى ويبرز للعيان فقد أجرى النورسي فرضية ذهنية، وموازنة دقيقة بين:
- أن تستند المخلوقات إلى موجود يتفرد بالأحدية والواحدية والوحدانية. ويتصرف بالعلم والقدرة.
- وبين أن تستند إلى المادة الجامدة وإلى الأسباب التي لا عقل لها ولا إرادة ولا شعور، وإلى الطبيعة العمياء التي لا تميز بين شيء وآخر.
سعى النورسي على ضوئها للوقوف على وجوده تعالى وذاته المتصفة بصفات هي قوام الوجود والذات معاً، فيقول موضحاً هذا المعنى:(5/6)
"إذا أسندت الأشياء كلها إلى واحد أحد تحصل سهولة ويسر بدرجة الوجوب، وإن أسندت إلى أسباب عدة وصناع كثيرين تظهر مشاكل وعوائق وصعوبات بدرجة الامتناع، لأن شخصاً واحداً وليكن ضابطاً أو بنّاءً يحصل على النتيجة التي يريدها ويعطى الوضع المطلوب لكثرة من الجنود، أو كثرة من الأحجار ولوازم البناء بحركة واحدة وبسهولة تامة، بحيث لو أحيل ذلك الأمر إلى أفراد الجيش، أو أحجار البناء لتعسّر استحصال تلك النتائج، بل لا يمكن قطعاً إلا بصعوبة عظيمة". (1) والصعوبة التي تصل حد الإمتناع تكمن في أن خلق أي مخلوق ما ذو انتظام وتناسق إذا أسند إلى الأسباب أو الطبيعة، فأول ما يفترض فيهما هو استحواذهما على علم محيط بكل شيء، وإرادة مرجحة للأشياء إيجاداً وإعداماً، وقدرة توجد الأشياء كما هي مرادة وحاكمية مهيمنة على كافة أنواع العناصر والذرات التي يتكون منها الموجود، والآلات والأدوات التي لا تعد ولا تحصى، وحكمة دقيقة تخرج الأشياء باتقان ودقة وروعة وجمال. لتتمكن ليس فقط من خلق المخلوق الواحد، بل من خلق الكون كله.
إن كل ذلك يوجب وبلا أدنى شك للأسباب والطبيعة صفات وأسماء لها من الفاعلية كالتي لله تعالى، مما يعني قبول ألوهية مطلقة وربوبية كاملة في الأسباب والطبيعة وفي كل موجود ومخلوق. واستحالة شيء كهذا ظاهر لكل ذي عقل، وامتناعه بيّن بنفسه.
__________
(1) - المكتوبات- النورسي ص 21(5/7)
فالذبابة مثلاً كما يقول النورسي رغم صغرها بديعة الصنعة، تنطوي على أغلب مكونات الكائنات، وكأنها فهرس مختصر لها، فجسمها الصغير ذو علاقة مع أغلب عناصر الكائنات ومع مظاهرها وأسبابها المادية. بل هو خلاصة مستخلصة منها. فإن لم يسند إيجاده إلى القدرة الإلهية المطلقة يلزم أن تكون تلك الأسباب المادية حاضرة ومحتشدة جنب ذلك الجسم مباشرة عند إيجاده، بل يلزم أن تدخل في جسمه الضئيل، بل يجب دخولها في حجيرة منه، وهي تمثل نموذج الجسم، وذلك لأن الأسباب إن كانت مادية يلزم أن تكون قرب المسبب وداخلة فيه، وعندئذ يقتضي قبول دخول جميع العناصر في جميع أركان العالم مع طبائعها المتباينة في ذلك المسبب دخول مادياً. وعملها في تلك الحجيرة المتناهية في الصغر بمهارة وإتقان.(1)
وعلى ذلك فإن لم يسند الخلق إلى الله تعالى، فإن خلق أصغر شيء عندئذ –كالذباب- يستلزم جمع جميع ما له علاقة بالذباب من أكثر أنواع العالم، جمعه بميزان خاص ودقيق جداً، أي جمع كل ذلك في جسم الذباب، بل ينبغي أن تكون كل ذرة عاملة في جسم الذباب عالمة تمام العلم بسر خلق الذباب وحكمة وجوده، بل ينبغي أن تكون متقنة لروعة الصنعة التي فيها بدقائقها وتفاصيلها كافة". (2)
ويقال الشيء نفسه على الهواء. فكل جزء منه من نسيم وريح وظائف لا تعد ولا تحصى. وفي غاية النظام ومن دون اختلاط أو تشابك أو التباس، كنقل المواد اللطيفة مثل الكهرباء والجاذبية والضوء. ويدخل إلى مداخل النباتات والحيوانات بالتنفس مؤدياً هناك مهماته الحياتية بإتقان.
__________
(1) - اللمعات- النورسي ص 271
(2) - المصدر السابق ص 369(5/8)
فلو أسندت هذه الوظائف إلى الطبيعة والمصادفة والأسباب. فإما أنه يحمل بمقياس مصغر مراكز بث واستقبال لجميع ما في العالم من أصوات ومكالمات في التلغراف والتلفون مع مالا يحد من أنواع الأصوات للكلام والمحادثات. وأن يكون له القدرة على القيام بتلك الوظائف جميعها في وقت واحد، أو أن كل جزء من أجزائه. وكل ذرة من ذراته لها شخصيات معنوية وقابليات بعدد كل وظيفة من وظائفه. فإذن ليس هناك محال واحد، بل محالات جلية ومعضلات وإشكالات بعدد ذرات الهواء.
ولكن إذا أسند الأمر إلى الصانع الجليل، فإن الهواء يصبح بجميع ذراته جندياً مستعداً لتلقى الأوامر، فعندئذ تقوم ذراته بأداء وظائفها الكلية المتنوعة والتي لا تحد بإذن خالقها وبقوته وبانتسابها واستناده إليه تعالى. (1)
وإذا انتقلنا من دائرة الأسباب، وأسند الخلق إلى الطبيعة، فيلزم الطبيعة أن تحضر في كل حفنة تراب، وهي منشأ الأزهار والأثمار، معامل ومطابع بعدد معامل أوربا ومطابعها كي تتمكن تلك الحفنة من أن تكون منشأ الأزهار والأثمار، لأن تلك الحفنة من التراب التي تقوم بمهمة مشتل صغير للأزهار تظهر قابلية فعلية لاستنبات ما يلقي فيها بالتناوب من بذور جميع أزهار العالم وثماره. بأشكالها وهيئاتها المتنوعة وألوانها الزاهية.
__________
(1) - الكلمات- النورسي ص 181،182(5/9)
فإذا لم تسند هذه القابلية إلى قدرة الجليل القادر على كل شيء. فلا بد إذن أن توجد في تلك الحفنة ماكنة معنوية طبيعية خاصة لكل زهرة من أزهار العالم، وإلا لا يمكن أن يظهر ما نشاهده من أنواع الأزهار والأثمار إلى الوجود، إذ البذور كالنطف موادها متشابهة، وهذه المواد هي الأوكسجين والكربون والآزوت تشكلت بأشكال متنوعة وأنظمة مختلفة، وركبت تركيباً خاصاً، علماً أن كلا من الهواء والماء والحرارة والضوء، أشياء بسيطة لا تملك عقلاً أو شعوراً، وهي تتدفق كالسيل في كل شيء دونما ضابط. فتشكيل تلك الأزهار التي لا تحد من تلك الحفنة من التراب بصورها المتنوعة وأشكالها المختلفة. وهي في منتهى الانتظام والإتقان تقتضي بالضرورة أن توجد في تلك الحفنة من التراب مصانع ومطابع معنوية بمقاييس صغيرة جداً أكثر مما في أوربا من مصانع ومطابع، كي تتمكن أن تنسج تلك المنسوجات الحية التي لا تعد.
والشي نفسه يقال على الإنسان، فلو لم يكن وجود الإنسان قد كتب بقلم الواحد الأحد القدير. وكان مطبوعا بمطابع الطبيعة والأسباب فيلزم عندئذ وجود قوالب طبيعية بعدد ألوف من المركبات المنتظمة العاملة في جسمك، والتي لا يحصرها العدد، ابتداء من أصغر الخلايا العاملة بدقة، وانتهاء بأوسع الأجهزة العاملة فيه.(1)
ولو افترضنا جدلاً قدرة الأسباب أو الطبيعة على الخلق والإيجاد، مع دقة الصنعة وروعة في الإتقان، فعندها لن نواجه بصعوبة فقط، بل سنجابه بمشكلات تبلغ الغاية في الامتناع والمنتهى في العجز والقصور. فضلاً عن خروجه عن دائرة العقل والإمكان والاحتمال، يقول النورسي:
__________
(1) - اللمعات- النورسي ص 276،278(5/10)
"لو تمكنت تلك الأسباب من الإيجاد فإنها لا تتمكن من ذلك إلا بالجمع. فما دامت ستقوم بالجمع، وستجمع حتماً. وإن الكائن الحي –أيا كان- ينطوي على أغلب ما في العالم من عناصر وأنواع، وكأنه خلاصة الكائنات أو بذرتها، فلا بد والحالة هذه من جمع ذرات البذرة من شجرة كاملة. وجمع عناصر الكائن الحي وذراته من أرجاء العالم أجمع، وذلك بعد تصفيتها وتنظيمها وتقديرها بدقة وإتقان، حسب موازيين خاصة ووفق مصاف حساسة ودقيقة جداً.
ولكون الأسباب المادية الطبيعية جاهلة وجامدة فلا علم لها مطلقاً كي تقدر خطة وتنظم منهجاً، وتنسق فهرساً، وكي تتعامل مع الذرات وفق قوالب معنوية، مصهرة إياها في تلك القوالب لتمنعها من التفرق والتشتت واختلاط النظام. لذا فإن إعطاء شكل معين من بين تلك الأشكال غير المحدودة. وضمن تلك المقادير غير المعدودة. ومن ثم تنظيم ذلك الشكل بمقدار معين دون أن تتبعثر ذرات العناصر الجارية كالسيل وبانتظام كامل، ومن ثم بناؤها وعمارتها بعضها فوق بعض بدون قوالب خاصة وبدون تعيين للمقادير ومن ثم إعطاء الكائن الحي وجوداً منتظماً منسقاً، كل هذا أمر واضح أنه خارج عن حدود الإمكان، بل خارج عن حدود العقل والاحتمال". (1)
إن المحصلة الطبيعية لتلك الصعوبة ولذلك الامتناع تكمن في عدم إمكان الأسباب. وذلك لأن الأسباب المادية كافة لا يمكنها أن تجمع وتنسق جسم –مخلوق- واحد وأجهزته، وفق موازين دقيقة خاصة حتى لو أوتيت تلك الأسباب إرادة واختياراً، بل حتى لو تمكنت من تكوين جسمه وجمعه فإنها لا تستطيع إبقاءه على مقداره المعين له، بل حتى لو تمكنت من إبقائه بالمقدار المعين فلن تستطيع تجديده باستمرار، لذا فمن البداهة أن الأسباب لن تكون مالكة لهذه الأشياء، ولن تكون صاحبتها قطعاً، إنما صاحبها هو غير الأسباب، إن لها مالكاً وصاحباً حقيقياً بحيث إن أمر الخلق عنده سهل ويسير". (2)
__________
(1) - المصدر السابق ص 369،371
(2) - المصدر السابق ص 370(5/11)
فنحن هنا إزاء أمرين:
- سهولة مطلقة في الخلق إذا أُسند المخلوق لله تعالى.
- وصعوبة مطلقة تصل حدّ الامتناع إذا أُسند المخلوق للأسباب.
فالأول ثابت بالضرورة، وواجب وحق، والثاني محال وعدم ومخالف للعقل والواجب. ومجاف للحق والحقيقة، مما يعني أننا نقف في واقع الأمر أمام شيء واحد فقط، وهو سهولة مطلقة يخرج بها المخلوق من العدم إلى الوجود، وبالسهولة نفسها يستند إلى الله خالقه فيشكل مع غيره منظومة وجودية ووحدة خلقية غاية في الروعة والإتقان والجمال والجلال.
وما هذا حاله لا يصدر عن أسباب كثيرة، ولا أيد متنوعة، بل الواقع يحتّم كما يرى النورسي صدوره:
"من يد واحدة لواحد أحد قدير حكيم".(1)
بل ذهب إلى أن إسناد الخلق إلى الأسباب العمياء والطبيعة بماديتها الجامدة الغليظة:
"عمى ما بعده عمى، وصمم ليس وراءه صمم".(2)
شهادة المخلوقات على خالقها
إن النسبة التي بين المخلوقات وخالقها هي في كل الأحوال نسبة خاصة، وسميت لخصوصيتها تلك بالنسبة الإستنادية تمييزاً لها عن نسبة أخرى تنحو غير هذا المنحى. بها يتعلق المخلوق في صميم وجوده بخالقه، وينجذب إليه إنجذاباً شديداً لا انفكاك له، وعندما تنتقل تلك النسبة إلى الواقع الخارجي، وتندرج في عالم الوجود. تتخذ لها مظهراً عيانياً يجعلها كالدالة على وجود خالقها. حينئذ تذوب النسبة وتتحول إلى شهادة. ثم تتجلى الشهادة وحدها في النهاية كمظهر خارجي من مظاهر النسبة الإستنادية.
__________
(1) - المصدر السابق ص 273
(2) - المصدر السابق ص 273(5/12)
وشهادة المخلوقات على خالقها هي في حقيقة الأمر واقع إثبات محض لوجوده ولذاته تعالى، أي هي شهادة على الذات والوجود معاً. وفي إثبات الوجود والذات يقف المخلوق مشيراً إلى خالقه إشارة دلالية إقرارية واعترافية. ولأجل هذا تأخذ منحى علمياً ومعرفياً. وتتميز عن العلم والمعرفة في شهود المخلوق وشاهديته على ذات الله ووجوده. ومن ثم شهادة لا علماً، لأن الشهادة لا تتأتى إلا لمن حصل له من اليقين العلمي ما يتجاوز معه دائرة العلم ليدخل في صميم مفهوم الشهادة ومعناها كعلم ومعرفة لا يطلقان إلا على ما هو موجود وثابت ومتحقق بالفعل تحققاً لا ينكره إلا مكابر وجاحد.
وشهادة المخلوقات على خالقها هي في الأصل والأساس شهادة لله تعالى بما هو خاص به لا يشاركه فيه غيره. أي هي شهادة لله باسمه الكريم (الله). وما يشتمل عليه الاسم من معان وصفات لها مقتضيات كثيرة بكثرة مفعولات الله، وهي التي تظهر اسمه تعالى بشهادتها على أسمائه وصفاته، والاسم في الوقت ذاته جامع لكل الأسماء والصفات، فيظهر هو الآخر ألوهية الله وربوبيته على صفحة الوجود كله بلا كثرة ولا تعدد.
فلو نظرنا مع النورسي إلى هذه المخلوقات كافة من حيث الخلقة، وجمال الصنعة، ونظامها المتقن وتناسقها البديع وأدائها لوظائفها بدقة متناهية، ومنافعها وفوائدها الضخمة إشارات متعددة إلى خالقها الواحد الأحد، إشارة تتجلى فيها أسماء الله وصفاته فتظهر ألوهية الله الجامعة لكل ما عرف به من صفات. وما تفرد به من معان. فيقول النورسي في هذا المعنى:(5/13)
"ما من مخلوق يتم إيجاده إلا ويشهد لله بصنعته العجيبة وبزينته اللطيفة، وبتميزه التام، وإن خلق ما يملأ الأرض بالنباتات والحيوانات من بيوض وبيوضات وقطرات ونطف وحبوب رغم أن مادتها محدودة وواحدة ومتشابهة خلقاً كاملاً سوياً ومتميزاً بعلامات فارقة لهو شهادة أقوى وأسطع من شهادة الضياء على الشمس على وجود صانعها الحكيم، وعلى وحدته وحكمته وقدرته" (1)
أما إعاشة وإدارة وتدبير تلك المخلوقات المعرضة دوماً للموت والحياة والتبدل والتغيير فلا يتم إلا بعلم محيط بكل شيء، وقدرة نافذة وشاملة لكل شيء، وإرادة حكيمة توجد كل شيء بميزان دقيق. فإن:
"أنواع النباتات وطوائف الحيوان المنتشرة على الأرض هي أكثر من أربعمائة ألف نوع وطائفة، وكأنها جيش هائل عظيم. فنرى أن كل نوع من هذا الجيش له رزقه المختلف عن الآخر، وصورته المباينة وأسلحته المتنوعة، وملابسه المتميزة وتدريبه الخاص وتسريحه المتفاوت من الخدمة، وتجري هذه كلها في نظام متقن ووفق تقدير دقيق. فإدارة هذا الجيش العظيم وتربية أفراده دونما نسيان لأحد، ولا التباس لهما آية ساطعة كالشمس للواحد الأحد". (2)
والمخلوقات من جانبها مشدودة إلى خالقها، مفتقرة إليه في ذاتها ووجودها ولها مطالب لا حصر لها، وضروريات لا قوام لوجودها إلاّ به، أي إن في المخلوقات ضعفاً مطلقاً يقابله في الخالق قوة مطلقة، تشهد هي الأخرى على ألوهية الله وربوبيته للخلق كافة. يقول النورسي معبراً عن تلك الشهادة:
__________
(1) - الشعاعات- النورسي ص 52
(2) - الكلمات- النورسي ص 785(5/14)
" نشاهد في الموجودات جميعها ولا سيما الأحياء منها افتقاراً إلى حاجات مختلفة ومطاليب متنوعة لا تحصى، وإن تلك الحاجات تساق إليها من حيث لا تحتسب، وتلك المطاليب تترى عليها كلٌّ في وقته المناسب، علماً بأن أيدي ذوي الحاجة تقصر عن بلوغ أدنى حاجاتها، فضلاً عن أوسع غاياتها ومقاصدها. فكل كائن يشهد بفقره وحاجاته المقضية من غير حول منه ولا قوة على الواجب الوجود، ويشير بهما إلى وحدانيته تعالى. كما يدل عليه بمجموعه كدلالة ضوء الشمس على الشمس نفسها ويبين للعقل المنصف أنه تعالى في منتهى الكرم والربوبية والتدبير." (1)
والمخلوقات في علاقاتها المتشابكة مع بعضها البعض تنهض على أساس راسخ من التعاون والتساند، بحيث تسعى جميعها بتكاتف إلى غاية معينة، وهدف مقصود، فيدحض تعاونها وتساندها تماماً ادعاءات المصادفة وأوهام الاتفاق، مما يدل دلالة أكيدة على وجود خالقها، يقول النورسي:
" إن التعاون الجاري الظاهر ابتداء من جري الشمس والقمر وتعاقب الليل والنهار، وترادف الشتاء والصيف، إلى إمداد النباتات للحيوانات الجائعة، وإلى سعى الحيوانات لمساعدة الإنسان الضعيف المكرم، بل إلى وصول المواد الغذائية على جناح السرعة لإغاثة الأطفال النحاف، وإمداد الفواكه اللطيفة. بل إلى خدمة ذرات الطعام لحاجة حجيرات الجسم، كل هذه الحركات الجارية وفق التعاون يُري لمن يفقد بصيرته كلياً أنها تجري بقوة مربّ واحد كريم مطلق. وبأمر مدبّر واحد حكيم مطلق الحكمة". (2)
ولم يغب عن بال النورسي قط أن تجليات أسماء الله وصفاته، وإن أوصلت المخلوق إلى حد الحضور المستهدي الذي لا يجد معه مفراً من الاعتراف والإقرار بألوهية الحق عز وجل، إلا أنها في كل الأحوال شهادة من الله وذلك تحقيقاً لقوله تعالى.
__________
(1) - المصدرالسابق ص 784
(2) - المصدر السابق ص 338(5/15)
( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). (1)
وشهادة الله تعالى تعنى إعلانه بالبيان والإظهار بأنه لا إله معه، ولا رب سواه، ولا معبود غيره.
ولما شهد الله تعالى لنفسه تلك الشهادة أنطق بها كل المخلوقات، ومن ثم أصبح الشاهد والمشهود هو الله عز وجل، فهو الذي جعل المخلوقات دالة عليه وشاهدة على وجوده وألوهيته. ولولا تلك الدلائل والشواهد لما اهتدى إليه أحد، ولما توصل إلى معرفته مخلوق.
الفصل الثاني
أسماء الله
تجليات الأسماء
يطلق لفظ الذات في العادة ويراد به صلاحية الحكم على شيء ما بالوجود إذا كان موجوداً ، وبالعدم إذا استحال وجوده، وقد يطلق اللفظ نفسه من زاوية أُخرى ويراد به حقيقة الشيء، أو قيامه بذاته، أو ما يخصه وتمييزه عن غيره،(2) ويرد معنى ذات الشيء سابقاً سبقاً ذهنياً على وجوده، فتتقدم الذاتية في الذهن ويتأخر وجودها تأخراً يدفعها لتحتل المقام الثاني في العلم والمعرفة وفي الإخبار عنها، وفي كل الأحوال يطلق لفظ الذات ليعبَّر به عن الشيء مجرداً عمن سواه من الأشياء.
ويطلق لفظ الذات بهذا المفهوم على الله ويراد به الوجود المطلق، وهو إطلاق يكشف عن مرتبة لم يكن الحق عز وجل فيها محل علم ولا معرفة لأحد من العالمين، ثم أعلم تعالى عن ذاته، فَعُرف باسم (الله) فأَصبح الاسم عبارة عن ذاته ونفسه التي هو بها موجود وجوداً لا يعطى من خلال مدلول الذاتية معنى التجسيد ولا التجريد المطلق، ولفظ الذات والنفس يعبران هنا عن حقيقة وجوده تعالى بلا زيادة في المعنى، أما الاسم (الله) فهو اسم عَلَم للذات الإلهية، وهي التي استحقت ما عُرف في مرحلة تالية على اسم العَلَم بالأَسماء الحسنى.
__________
(1) - آل عمران 18
(2) - الكليات- أبو البقاء ص 454(5/16)
والله تعالى قد سمّى نفسه وذاته العلية بأسماء كثيرة، لا لمجرد التعريف والإعلام، بل لما توجبه تلك الأسماء من آثار وما تقتضيه من لوازم ومظاهر في الوجود، مما يعنى أن الأسماء تحتل وعلى المستوى العلمي والمعرفي المرتبة نفسها التي للاسم(1)، وفيها التعبير المباشر عن حقيقة الوجود والذات، ولكنها دالة على نسبة إلى غير الذات، ويتوقف فهم تلك النسبة وإدراكها بل وتعقلها على الوجود والذات معاً.
واصطلح على تلك النسبة وذلك التأثير في علم الكلام والعقيدة الإسلامية اسم التعلق، بمعنى طلب الاسم (2) أَو بتعبير آخر اقتضاؤه واستلزامه أَمراً زائداً على ذاته يصلح له، إذ أن كل اسم مقتضى لأَثره، ولا يحصل بدون لوازمه، فعد التعلق بناء عليه نسبة مخصوصة، وإضافة مخصوصة بين الاسم ومقتضياته، وسماه المتكلمون التعلق بالفعل، والتعلق التنجيزي الحادث، لأَن التعلق ـ كما يرون ـ بحكم طبيعته لا يكون إلا تعلقاً بما هو موجود بالفعل.
وفي مقابل ذلك الإصطلاح استخدم سعيد النورسي صيغة التجلى ليعبر من خلالها عن تلك النسبة المخصوصة بحقائقها المختلفة والمتنوعة، لأَن الكلمة من دلالتها الجامعة ومفهومها المميز تعنى هي الأُخرى ظهور وانكشاف مقتضيات الأَسماء الإلهية، وتحقق معانيها على صفحة الوجود الخارجية، تماماً كما تتراءى حقائق الأشياء وتنعكس على المرآة الصافية، بحيث تتجلى معانيها، وتنكشف حقائقها، فتظهر للعيان مستقلة في وجودها عن الذات الإلهية، ومتميزة بمقاصد وغايات مخصوصة.
__________
(2) - الأربعين في أصول الدين – الرازي ص 155 ، وأيضا شرح أم البراهين – الدسوقي ص 100(5/17)
والنورسي في عرضه وشرحه لما عرض وشرح من أسماء الله الحسنى عوَّل على هذه الصيغة وحدها، فأَعطى للأسماء من المعاني مالا تفهم معه بمعزل عن مقتضياتها وآثارها، إذ لولا ذلك التجلى الفريد لما ظهر على صفحة الوجود اسم لله ولا صفته، ولا تحقق للاسم معنى يشار إليه، ولم يكن هناك علم ولا معرفة، ولاستحال الوجود إلى حالة غير تلك التي هو عليها الآن.
وسنحاول فيما يلي تحليلاً لبعض أسماء الله الحسنى، مركزين على إبراز هذا المعنى وحده دون غيره من المعاني الكثيرة والمتعددة التي تتضمنها أسماء الله الحسنى، وهو ما حرص عليه النورسي وأولاه أهمية خاصة، لدلالته البينة على مقتضى الاسم الإلهي من جهة، ولاستناد حقائق الموجودات والكائنات عليه من جهة أُخرى.
الفرد :
يفيد اسمه تعالى أحداً وواحداً ودون الدخول في تفسيراته المتعددة معنى الذاتية (ذات الله)، وفي تطابق وانسجام يجعل من الذات والاسم في منزلة واحدة حكماً ومعنى، وذلك لأن كلا من الأحدية والواحدية يتحدان مع الوجود المطلق، ويعدان حقيقة من جملة حقائق الوجود الإلهي، وبهذا الاعتبار عدت أحدية الله وواحديته ووحدانيته من جهة الحكم والمعنى إثبات محض لذات الله تعالى، وعندما نبّه الحق عز وجل على ذاته، فعرَّف باسم الله، تقيدت الذاتية في قمة ظهورها المعرفي بالأحدية والواحدية كحكم له خصوصية مطلقة بالله تعالى.(5/18)
والنتيجة المترتبة على هذا الاتحاد الفريد هو تجرد الأحدية والواحدية عن التجلى والظهور بمقتضيات الاسم، فترد دوماً كأخص مظهر من مظاهر الذات الإلهية ومتقدمة في الاعتبار على الاسم، ومرجع ذلك كله إلى أن مدلول الأحدية لم ينفصل عن الذات انفصالاً يحقق لها نسبة بها تظهر على مرآة الوجود، بل اتحدت مع الذات اتحاداً نالت بموجبه ما للذات من أحكام، واكتسبت المعاني نفسها التي للأُلوهية كاستغنائه تعالى عن الكل، واحتياج الكل إليه، وتفرده عن غيره ذاتاً وصفاتٍ وأفعالاً، وانفراده عن المثل والنظير والتشبيه إلى غيرها من المعاني التي عرّف الله تعالى بها ذاته للخلق.
بيد أن الحكم على الذات بالأحدية والواحدية والوحدانية هو في حد ذاته نسبة، ولكنها نسبة تتجلى وتظهر على الوجود والمخلوقات بمقتضى كونه أحداً وواحداً، وحين تنعكس حقائق الأُلوهية بذلك الحكم الأحدي، وتتجلى على مرآة الوجود الخارجي تظهر باسم الفرد، وهو الاسم الذي يرى فيه النورسي أنه "يتضمن اسم الأحد والواحد" (1) وله نسبة ومقتضى كسائر أسماء الله الحسنى.
لأجل ذلك يذهب النورسي (2) إلى أن تجلى الفردية هو وحده الذي طبع الوجود كله بطابع الأحدية والواحدية والوحدانية، بدءاً من الكون الكبير إلى أقل جزء منه، وظهرت بصمات الفردية على كل نوع فيه، وعلى كل فرد فيه، فتحول الكون كله بحكم الكل الذي لا يقبل التجزئة مطلقاً، بحيث إن من لا يقدر على أن يتصرف في الكون كله لا يكون أن يكون مالكاً ملكاً حقيقياً لأي جزء منه، ومن لم يكن مالكاً لجميع ما في الكون لا يمكنه أن يتصرف بنوع منه أو عنصر فيه تصرفاً حقيقياً.
__________
(1) - اللمعات- النورسي ص 537
(2) - المصدر السابق ص 540 و 543.(5/19)
وتجلّى الفردية على الوجود فوق كونه واضحاً وضوحاً مطلقاً هو أيضاً فطرى وبسيط ومقبول إلى حد السهولة المطلقة، ومستساغ عقلاً ومنطقاً إلى حد الوجوب، وعلى النقيض منه تماماً الشرك المنافى لذلك التجلى الفريد، لأن الشرك من الأمور المعقدة إلى أقصى حدود التعقيد، وغير منطقي إطلاقاً، وبعيد جداً عن المعقول إلى حد الامتناع والمحال.
وتتجلى الفردية في أنصع صورها وأشكالها، وتظهر بأسمى معانيها في سهولة خلق الموجودات، واليسر المتناهي في إيجادها، فتخرج إلى الوجود من دون صعوبة، وبلا عناء أو تكلف، وعلى أكمل صورة وأتمها، أمّا إذا فُوّض أمر الخلق والإيجاد إلى غير الفردية والوحدانية، وأسند إلى الأسباب العمياء أو الطبيعة الهوجاء، والصدفة العشوائية، فستتعقد الأمور وتتشابك، وتتكشف على صفحة الوجود أمور ليست معقولة ولا منطقية، وعندئذ كما يقول النورسي:
يلزم لخلق ذبابة واحدة مسح وتفتيش سطح الأرض وغربلة عناصرها وذراتها جميعاً، ثم وزنها بميزان دقيق حساس، لوضع كل ذرة في موضعها المخصص لها، حسب قوالب مادية بعدد أجهزتها وأعضائها المتقنة، وذلك لكي يأخذ كل شيء مكانه اللائق به، فضلاً عن جلب المشاعر والأحاسيس الروحية الدقيقة واللطائف المعنوية والروحية بعد وزنها أيضاً بميزان دقيق حسب حاجة الذبابة،(1)
فمن الأُمور السهلة والهيئة إذن على قدرة الله الواحد الأحد "خلق أعظم جرم، وخلق أصغر شيء على حد سواء، فهو تعالى يخلق الربيع الشاسع بيسر خلق زهرة واحدة، ويحدث في كل ربيع بسهولة بالغة آلافاً من نماذج الحشر والنشور، ويراعى شجرة ضخمة باسقة بيسر مراعاة فاكهة صغيرة" (2)
__________
(1) - المصدر السابق ص 547.
(2) - المصدر السابق ص 544.(5/20)
ويضفي تجلى الفردية على الكون والمخلوقات من النجوم والنباتات والحيوانات والأرض وحتى الجزئيات والذرات نظاماً متقناً وكمالاً فريداً وانسجاماً بديعاً، ولو كان هناك أي تدخل لما سوى الله لفسد هذا النظام الدقيق ولاختل ذلك التوازن المحكم. ولظهرت بادية للعيان. وقوله تعالى (فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ) (1) يكشف بجلاء هذا النظام والتوازن. فيقول النورسي:
"إن الذي يتأمل في هذا الكون في ضوء سر الفردية يرى الكون واحداً يستعصى على التجزئة مطلقاً ، وليس هذا فحسب بل هو كليّ لا يقبل الانقسام والاشتراك والتجزئة وتدخّل الأيدي المتعددة قط، فأي تدخل فيه مما سوى الواحد الأحد محال ممتنع، إذ إن كل جزء فيه بحكم جزئي وفردي، والكون هو بحكم الكلي، فليس فيه موضع للاشتراك في أية جهة كانت" (2)
ويساوق النظام المتقن والانتظام الرائع والموازنة الدقيقة التدبير والإدارة، لأن من لا يدبر المخلوقات كافة، ولا يدير شئونها وأحوالها، لا يمكنه التدخل المباشر في أمر من أُمورها ناهيك عن خلقها وإيجادها، يقول النورسي لافتاً النظر إلى هذا الأمر:
" تأمل في هذه البُسُط المفروشة على الأرض التي لحمتها وسداها مئتا ألف طائفة ونوع من أنواع الحيوانات وطوائف النباتات بأفرادها المتنوعة التي لا يعد ولا تحصى والتي تضفي الزينة وتنشر البهجة على نسيج الحياة على سطح الأرض، تأملها جيداً وأدِم النظر فيها، فإنها مع اختلاف أشكالها. وتباين وظائفها، وتنوع أجهزتها، وامتزاجها بعضها مع البعض الآخر تشاهد:
أَنَّ رزق كل ذي حياة يأتيه رغداً من كل مكان ومن حيث لا يحتسب بلا سهو ولا نسيان. بلا انشغال ولا ارتباك، بلا خطأ ولا التباس ، فيعطى بميزان دقيق حساس كل ما يحتاجه الفرد، في وقته المناسب، من دون تكلّف ولا تكليف، مع تمييز لكل منها" (3)
__________
(1) - الملك : 3.
(2) - اللمعات – النورسي ص 551.
(3) - المصدر السابق ص 540-541.(5/21)
وتجلى الفردية كما يظهر إجمالاً يظهر أيضاً تفصيلياً، لا سيما في السمات والعلامات الفارقة والمرسومة بدقة متناهية على وجوه البشر، صيانة لحقوق الناس، ومنعاً للالتباس فيما بينهم، يقول النورسي موضحاً هذه المعجزة الإلهية:
"…فالذي لا يستطيع أن يضع تلك العلامات في كل وجه، ولا يكون مطلقاً على جميع الوجوه السابقة واللاحقة منذ آدم عليه السلام إلى يوم القيامة، لا يمكنه أن يمد يده من حيث الخلق والإيجاد ليضع تلك الفوارق المميزة الهائلة في ذلك الوجه الصغير.
نعم إن الذي وضع في وجه الإنسان ذلك الطابع المميز وتلك الآية الجلية بتلك العلامات الفارقة، لابد أَنَّ أفراد البشر كافة هم تحت نظره وشهوده، وضمن دائرة علمه حتى يضع ختم الفردية والأَحدية في ذلك الوجه، بحيث إنه مع التشابه الظاهر بين الأَعضاء الأساس كالعيون والأُنوف وغيرها من الأَعضاء ، لا تتشابه تشابهاً تاماً، بسبب علامات فارقة في كل منها" (1)
ومهما يكن من أمر فان الفردية التي تطبع الوجود كله بطابع واحد لو كانت قاصرة على الخلق والإيجاد وما يرتبط بالخلق والإيجاد من أُمور لازمة، لانفكت المخلوقات عن خالقها، ولاستقلت في حركتها عنه، ومن ثم يضمحل دور الفردية وتتلاشى آثارها. ولأجل ذلك يرى النورسي (2) أن أثر الفردية لا ينحصر على هذا الأمر وحده. بل للفردية تأثير آخر وتجلى أكبر بحيث تجعل كل مخلوق يستند إلى خالقه في كل شأن من شؤونه. فيكتسب بهذا الاستناد والانتساب قوة لا حد لها. حتى يمكنه أن ينجز من الأعمال ما يفوق قوته الذاتية بألوف المرات.
__________
(1) - المصدر السابق ص 542.
(2) - المصدر السابق ص 544.(5/22)
ويستدل النورسي على سر ذلك الاستناد والانتساب الذي في الفردية بقوله "فقوة الاستناد هي التي تجعل النملة الصغيرة تقدم على إهلاك فرعون عنيد، وتجعل البعوضة الرقيقة تجهز على نمرود طاغية، وتجعل الميكروب البسيط يدمر باغياً أثيماً. كما تمد البذرة الصغيرة لتحمل على ظهرها شجرة صنوبر باسقة شاهقة، كل ذلك باسم ذلك الانتساب وبسر ذلك الاستناد" (1)
ويشبه النورسي انتساب واستناد الإنسان إلى ربه بانتساب واستناد الجندي إلى قائد عظيم الجندية "فيصبح له هذا الانتساب بمثابة قوة ممدة لا تنفد، فلا يضطر إلى حمل ذخيرته وعتاده معه، لذا قد يقدم على أسر قائد جيش العدو مع آلاف ممن معه، بينما السائب الذي لم ينخرط في الجندية، فإنه مضطر إلى حمل ذخيرته وعتاده معه، ومهما بلغ من الشجاعة فلا يستطيع أن يقاوم إلا بضعة أفراد من العدو، وقد لا يثبت أمامهم إلاّ لفترة قليلة" (2)
وانتساب واستناد الإنسان إلى الله تعالى عند النورسي هو الإيمان (3) به إلهاً ورباً للعالمين. وبإرادة حرة واختيار تام، وبالإيمان يوحَّد الإنسان خالقه، وبهذا التوحيد تتجلَّى على المؤمن أعظم تجليات الفردية، بحيث يطمئن إلى جميع رغباته . ورغبات الإنسان كما يصفها النورسي كثيرة جداً. وكلها ممتدة إلى غير نهاية معلومة، ومتشعبة في ثنايا الكائنات جميعاً، وهذه الرغبات جميعها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحقيقة التوحيد، ومشدودة مع سر الفردية، إذ لا تجد اطمئنانها وسكونها لدى الذي لا يؤمن بالتوحيد وانفراد الله تعالى، لذا تبقى لديه هذه الرغبات عقيمة دون نتائج، قاصرة عن بلوغ مداها، مبتورة منكمشة.(4)
الحي :
__________
(1) - المصدر السابق ص 545.
(2) - المصدر السابق ص 545.
(3) - الكلمات - النورسي ص 348.
(4) - اللمعات – النورسي ص 553.(5/23)
قيل في معنى الحياة إنه ما تصير به جملة الحركة والإدراك والحس كالشيء الواحد من جواز تعلق الصفات به. (1) وذلك في مقابل الموت والذي لا تصير به الجملة كالشيء الواحد، وعلى هذا فالحياة كمال للحي والموت نقض له ، ومن ثم يصبح كل حيّ كاملاً في حدود حياته التي هو بها حياً. وفي حين تختلف كيفيات الحياة بين حيّ وآخر ، يظل معنى الحياة راسخاً لا يتحول ولا يتبدل ولا يطلق إلا على أكمل أحوال الحي .
والكمال الذي أوجبته الحياة للحيَّ هو في حقيقة أمره كمال إضافي، أو بتعبير آخر كمال حياة بالإضافة. تفريقاً بينه وبين كمال حياة الله والذي هو له بالذات، ومن هنا صح قول من قال إن الحياة بالإضافة هي التي يلحق بها العدم والفناء، أَمَّا الحياة التي هي بالذات فهي الحياة التامة لا يعتريها فناء . ولا يلحق بها عدم .
ولا شك في أن تميز الحيَّ بالحركة والحس والإدراك هو الذي منحه حياة حقيقية تختلف عن غيرها من الحيوات . ولكن المعنى نفسه لما فيه من معنى الشعور والانفعال يستحيل على الله تعالى ، لا لانتفاء الحياة بمدلولها المألوف عنه، بل لأَن حياته تعالى هي حياة على التقدير لا على الحقيقة.(2) وهو المعنى الذي أوجب لله تعالى الإدراك المطلق أبداً وأزلاً ، وهو بالضرورة كمال لذاته. وإذا لم يوجب له، عد ناقصاً ، وعلى ضوء ذلك صح وصفه تعالى بالحياة وسمى باعتبار ذلك حياً .
وصفات الإدراك – كما هو معروف – هي الصفات الثبوتية الواجبة لله تعالى . وأبرزها العلم والإرادة والقدرة والكلام ثم السمع والبصر، وصفة الحياة متقدمة عليها جميعاً لامتناع تصور موجود عالم قادر مريد ولا حياة له. وبالحياة كمل الوجود، واكتملت الحياة بالإدراك.
__________
(1) - الفروق في اللغة – أبو هلال العسكري ص 82.
(2) - المصدر السابق ص 82.(5/24)
ومظاهر الحياة الإلهية المختلفة من علم وإرادة وقدرة هي التي اقتضت في الوجود حياة لها نفس المظاهر، حتى يمكن على حد تعبير النورسي (1) مشاهدة نور الحياة على الأَحياء كافة. فالحياة إذن هي نور الوجود وكاشفة للموجودات وسبب لظهورها، وهي التي تجعل كل شيء مالكاً لكل كائن حي، وتجعل الشيء الحيَّ الواحد بحكم المالك لجميع الأشياء، وهي التي تمكنه من القول: إن هذه الأشياء ملكي، والدنيا مسكني، والكائنات كلها ملك أعطانيه له مالكي .
ومعنى جليل كهذا لا تفهم حقيقته ولا يسبر غوره إلا بمقارنة بسيطة بين جسم كبير كالجبل وجسم صغير كالنملة، فيقول النورسي " انظر إلى الجبل وليكن جبلاً شاهقاً ، ترَهُ غريباً يتيماً وحيداً، إذ تنحصر علاقته وصلته بمكانه وما يتصل به من أشياء فقط، وما يوجد من الكائنات الأُخرى معدوم بالنسبة إليه . وذلك لأَنه ليس له حياة حتى يتصل بها. ولا شعور حتى يتعلق به.
ثم انظر إلى جسم صغير حيَّ كالنحل مثلاً: ففي الوقت الذي تدخل فيه الحياة فإنه يقيم عقداً وصلة مع جميع الكائنات والموجودات. وخاصة مع نباتات الأرض وأزهارها بحيث يمكنه القول: إن جميع الأرض هي حديقتي ومتجرى. فالحياة وحدها هي التي أعطت للنحل فرصة التعرف وإمكانية الأُنس والتبادل مع أكثر الموجودات في الدنيا.(2)
ولعل هذا هو ما دفع بالنورسي (3) ليؤكد على أَنَّ الحياة هي أَعظم تجل لاسم الله الحي، وأَروع معجزات القدرة الإلهية، والصنعة الإلهية الخارقة، وأَسطع برهان وأَثبته وأَكمله على وجوب وجوده تعالى، وأعجوبة الخلقة الربانية، وأَلطف تجليات اسم الرحمن والرحيم والرزاق والكريم والحكيم وأَمثالها من الأَسماء الحسنى، ولها من المراتب والوظائف والصفات والمرايا ما يحتاج بيانه وتفصيله إلى أُلوف الصفحات لتفي بكل هذه الخصائص.
__________
(1) - الكلمات – النورسي ص 596-597.
(2) - المصدر السابق ص 597.
(3) - اللمعات – النورسي ص 588و 560.(5/25)
فلو أَخذنا وجهي الحياة الظاهر والباطن لوجدناهما صافيين كاملين مبرأين من النقص والتقصير، وليس فيهما ما يستدعي الشكوى أو الاعتراض، وما ينافي نزاهة القدرة من دنس مستهجن أَو قبح ظاهر، ورغم هذا تضع القدرةُ الإلهيةُ أَسباباً ظاهرة لتصرفاتها فيهما، فما السر في ذلك، يجيبنا النورسي بقوله:
" إِنَّ كل شيء في الكون ينطوي على خير، وفيه جمالٌ وحسن، أَمَّا الشر والقبح فهما جزئيان جداً، وليسا أصيلين، وهما بحكم وحدتين قياسيتين، أَي أَنَّهما وُجِدَا لإظهار ما في الخي وما في الجمال من مراتب كثيرة وحقائق عديدة ؛ لذا يُعدّ الشر خيراً والقبح حُسناً من هذه الزاوية، أَي من زاوية كونهما وسائل لإبراز المراتب والحقائق.
ولكن على الرغم من أَنَّ الخير والجمال أَصيلان في كل شيء في الكون، فان ما يبدو لذوى الشعور من مظاهر القبح والشر والبلاء والمصائب قد تدفعهم إلى السخط والشكوى والامتعاض، فوضعت الأَسباب الظاهرة ستاراً لتصرف القدرة الإلهية، لئلا تتوجه تلك الشكاوى الظالمة والسخط الباطل إلى الحي عز وجل .
زد على ذلك فإِن العقل أيضاً بنظره الظاهر القاصر، قد يرى منافاة بين أَمور يراها خسيسة خبيثة قبيحة، وبين مباشرة يد القدرة المنزهة المقدسة، فوضعت الأَسباب الظاهرية ستاراً لتصرف القدرة الربانية لتُنزه عزة القدرة الإلهية عن تلك المنافاة الظاهرية" (1)
ويقال الشيء نفسه عن خاصية أُخرى تعد بالقياس إلى غيرها النتيجة الطبيعية للحياة، وسبب الخلق ، وعلة الوجود ، وهي العبادة والشكر. فيقول النورسي في شرحه لها:
__________
(1) - المصدر السابق ص 561.(5/26)
" إِنَّ خالق الكون سبحانه وتعالى إذ يعرَّف نفسه لذوى الحياة ويحببها إليهم بنعمه التي لا تعد ولا تحصى يطلب منهم شكرهم تجاه تلك النعم، ومحبتهم إِزاء تلك المحبة، وثناءهم واستحسانهم مقابل بدائع صنعه، وطاعتهم وعبوديتهم تجاه أَوامره الربانية، فيكون الشكر والعبادة أعظم غاية لجميع أنواع الحياة .
إِن العبادة خاصة لله وحده، وإِن الشكر والحمد لا يليقان حقاً إلا به سبحانه، وإِن ما في الحياة من شؤون وأُمور هي في قبضة تصرفه وحده . فينفى بهذا الوسائط والأَسباب مسلماً الحياة بما فيها إلى يد القدرة الإلهية. نعم إن الذي يدعو إلى الشكر والحمد والامتنان، والذي يثير الشعور إلى المحبة والثناء بعد نعمة الحياة، إنما هو الرزق والشفاء والغيث. وأمثالها من دواعي الشكر والحمد ." (1)
فاذا كانت تلك وغيرها من خصائص الحياة ونتائجها. فإن حقيقة الحياة – كما رأى النورسي – مهما علت وعظمت لا تنحصر في هذه الدنيا قصيرة الأجل ، والتي يكتنفها النقص والأَلم من كل ناحية ، بل لابد من حياة أخرى سعيدة لا شقاءَ فيها مطلقاً، ونعيمها دائم لا يزول أَبداً . ولو لم يكن الأَمر هكذا لأصبحت الحياة الدنيا ولا سيما بالنسبة للإنسان دون ثمرة ولا فائدة ولا حقيقة . ولظل الإنسان شقياً وذليلاً ، وأَحط من العصفور بعشرين درجة، مع أنه أسمى مخلوق، وأكرم ذوى الحياة، وأرفع من العصفور بعشرين درجة، من حيث الأجهزة وراس مال الحياة .
ويصبح العقل الذي هو أثمن نعمة بلاء ومصيبة على الإنسان بتفكره في أحزان الزمان الغابر ومخاوف المستقبل فيعذّب قلب الإنسان دائماً معكراً صفو لذة واحدة بتسعة الآم، ولا شك ان هذا باطل، فما دامت في الدنيا حياة، فهناك أيضاً في الآخرة حياة باقية في دار باقية، وفي جنة باقية. (2)
القيوم :
__________
(1) - المصدر السابق ص 562 – 563.
(2) - المصدر السابق ص 564.(5/27)
يفيد قيام الله تعالى بنفسه في المعنى استغناءه وعدم افتقاره لما سواه. وذلك لأن الله لا يحتاج إلى سواه البتة، وكل ما سواه محتاج إليه، ومفتقر إليه في ذاته وصفاته، ومن هنا روعي في قيومية الله تعالى قوامه بذاته وقوام كل شيء به .
ولم يتجاوز النورسي في شرحه لمعنى الاسم ما سقناه آنفاً. فانتهى إلى أَنَّ " الله قائم بذاته، دائم بذاته، باق بذاته، وجميع الأَشياء والموجودات قائمة به، تدوم به، تبقى في الوجود به، وتجد البقاء به، فلو انقطع هذا الانتساب للقيومية من الكون بأقل من طرفة عين يمحى الكون كله" (1)
واسم القيوم يلى في المرتبة اسم الحي، وتجليه عند النورسي يأتى كذلك في المرتبة الثانية، فإذا كان تجلى اسم الحي قد جعل الموجودات كافة منورة بنور الحياة، فإن تجلى اسم القيوم هو الذي تكفل بحفظها ومراعاتها والاعتناء بها ما دامت أَبدانها معمورة بالحياة .
وتأسيساً على ما مضى فإنَّ كل ما في الوجود وعلى حد تعبير النورسي يشير بقوة إلى تجلى اسم الله القيوم . فقيام الأَجرام السماوية في هذا الكون ودوامها وبقاؤها إنما هو مشدود بسر القيومية. فلو صرف نور القيومية وتجليه وجهه، ولو لأقل من دقيقة، لتبعثرت تلك الأَجرام التي تفوق في ضخامتها الكرة الأَرضية بأُلوف المرات. ولانتثرت ملايين الأجرام في فضاء غير متناهٍ ، ولاصطدم بعضها ببعض، ولهوت إلى سحيق العدم .(2)
وأوضح النورسي هذه الآية المتضمنة في حقيقة ذلك التجلى البديع بقوله:
__________
(1) - المصدر السابق ص 575.
(2) - المصدر السابق ص 579 – 580.(5/28)
" إننا مثلما نفهم قدرة قيومية من يُسيّر طائرات ضخمة في السماء بمقدار ثبات تلك الكتل الهائلة التي في السماء ودوامها . وبمدى انتظام دورانها وانقيادها في جريها، نفهم أيضاً تجلى اسم القيوم، من منح القيوم ذي الجلال قياماً وبقاءً ودواماً لأَجرام سماوية لا حد لها في أثير الفضاء الواسع وجريانها في منتهى الانقياد والنظام والتقدير، وإسنادها وإدارتها وإبقائها دون عمد ولا سند.
وكما أن ذلك يمكن أن يكون مثالاً قياسياً للتجلى الأعظم لاسم القيوم، كذلك ذرات كل موجود، فإنها قائمة أيضاً بسر القيومية، وتجد دوامها وبقاءها بذلك السر، فبقاء ذرات جسم كل كائن حي دون أن تتبعثر وتجمّعها على هيئة معينة وتركيب معين حسب ما يناسب كل عضو من أعضائه. علاوة على احتفاظها بكيانها وهيئتها أمام سيل العناصر الجارفة دون أن تتشتت، واستمرارها على نظامها المتقن. كل ذلك لا ينشأ من الذرات نفسها، بل هو من سر القيومية الإلهية التي ينقاد لها كل فرد حي انقياد الطابور في الجيش، ويخضع لها كل نوع من أنواع الأحياء خضوع الجيش المنظم" (1)
ويمتد تجلى القيومية – كما يعقب النورسي إلى أحوال الموجودات وأوضاعها وكيفياتها" إذ لولا استناد كل شيء إلى تلك النقطة النورانية، لنتج ما هو محال من أُلوف الدور والتسلسل، وذلك لأن الحفظ أو الوجود أو الرزق أو ما شابهه من أي شيء كان، إنما يستند – من جهة – إلى شيء آخر، وهذا يستند إلى آخر، وهذا إلى آخر وهكذا، فلا بد من نهاية له، إذ لا يعقل ألا ينتهي بشيء. فمنتهى أمثال هذه السلاسل كلها إنما هو في سر القيومية " (2)
__________
(1) - المصدر السابق ص 580.
(2) - المصدر السابق ص 583.(5/29)
إنَّ تجلى اسم القيومية كما اتضح يكمن في النسبة الاستنادية والتي ترتبط فيها المخلوقات بخالقها ارتباطاً وثيقاً ومباشراً، وتجعل كل مخلوق يفتقر دوماً إلى بارئه تعالى. ومقتضى القيومية يطلب هذه النسبة ويحتمها، ولولاها لتلاشت الحياة والموجودات ولتساوى الكل في المعنى بالعدم.
الباقي :
إذا كان القدم في حقه تعالى يعنى استمرار الوجود في الماضى إلى غير نهاية، فبقاؤه تعالى يعنى استمرار وجوده في المستقبل إلى غير نهاية، وتلك خاصية جعلت معنى البقاء أشمل في المعنى من القدم، بل ويحتوى في داخله معنى القدم، وذلك لأن البقاء يعنى ثبات – الله ثبوتاً أَزلياً وابدياً. في حين ينحصر القدم على ناحية واحدة من الوجود البقاء فيها سابق، وهي عدم الأولية.
ويتميز البقاء فوق ذلك بميزة تعد – بلا أدنى شك – من الخواص الذاتية لله تعالى وهي أن اسم القديم إذا أُطلق على الله فلا يفيد اكثر من التقدم في الوجود وعلى سبيل المبالغة، أَمَّا إِطلاق اسم الباقي فيعنى الموجود لا عن حدوث، (1) وهو معنى يصعب توهمه فضلا عن تخيله.
إِن الثبات المطلق والذي يستحيل عليه الفناء لمعنى البقاء قد نبه النورسي على زمانية خاصة لتجلى اسم الباقي لا يدخل فيها عنصرى التغير والحركة. ولا التجدد والانقسام، ومن ثم نحى بمقتضى الاسم ونسبته منحى ذو وجهين :
الأول تجلى فيه الاسم للمخلوقات كافة بحكم نسبتها الاستنادية لله تعالى فصارت بموجب ذلك التجلى باقية لا يعتريها فناء، ولا يلحقها عدم بدءاً من أَبسط المخلوقات وأَضعفها كالزهرة. انتهاءً بالإنسان والملائكة .
الثاني تجلى يحدث على مقدار توجه المخلوق إلى اسم الباقي، وهو تجلى خاص بالإنسان ، ويشاركه فيه من شاركه في صفة المكلَّف كالجن والملائكة، والتوجه هنا توجه حركي يأخذ الطابع التعبدي.
__________
(1) - الفروق في اللغة – أبو هلال العسكري ص 96.(5/30)
وينفرد الإنسان في توجهه لاسم الباقي بخاصية لا نظير لها عند غيره من المكلفين. وهي أن الإنسان لما يحمله من مركب النقص والضعف أَشدهم حاجة لتجليات اسم الباقي، وفي هذا يقول النورسي :
" إن الإنسان بما أَودع الله فيه من ماهية جامعة يرتبط مع أَغلب الموجودات بأَواصر ووشائج شتى، ففي تلك الماهية الجامعة من الاستعداد غير المحدود للمحبة ما يجعله يكن حباً عميقاً تجاه الموجودات عامة، بينما الموجودات التي وَجَّه الإنسان حبّه نحوها لا تدوم، بل لا تلبث أن تزول لذا يذوق الإنسان دائماً عذاب أَلم الفراق، فتصبح تلك المحبة التي لا منتهى لها. مبعث عذاب معنوي لا منتهى له.
فالآلام التي يتجرعها ناشئة من تقصيره هو. حيث لم يودع فيه ذلك الاستعداد إلا ليوجهه إلى محبة من له جمال خالد مطلق، بينما الإنسان لم يحسن استعمال محبته فوجهها إلى موجودات فانية زائلة، فيذوق وبال أمره بالآم الفراق" (1)
ولكن الإنسان عندما يدعو ربه قائلا يا باقي يعنى كما يذهب النورسي (2) البراءة الكاملة من هذا التقصير، وقطع العلاقات مع تلك المحبوبات الفانية والتخلي عنها كلياً قبل أن تتخلى هي عنه، ثم تسديد النظر في المحبوب الباقي وهو الله تعالى، أي كأنه يقول : لا باقي بقاءً حقيقياً إلا أَنت يا إلهي. فما سواك فانٍ زائل. والزائل غير جدير بالمحبة الباقية ولا العشق الدائم ولا بأن يشد معه أواصر قلب أَحد من الخلق أَصلاً، وحيث إن الموجودات فانية وستتركني ذاهبة إلى شأنها فسأتركها أَنا قبل أن تتركني بترديدي يا باقي أَنت الباقي. أي: أُومن واعتقد يقيناً أَنه لا باقي إلا أَنت يا إلهي، وبقاء الموجودات موكول بإبقائك إياها، فلا يوجه إليها المحبة إذاً إلا من خلال نور محبتك وضمن مرضاتك، لأنها غير جديرة بربط القلب بها.
__________
(1) - اللمعات - النورسي ص 21-22.
(2) - المصدر السابق ص 22.(5/31)
ويرى النورسي من بعد هذا كله أن الإنسان لا يدعو بمثل هذا الدعاء إلا لعشقه الشديد نحو البقاء. حتى إنه يتوهم نوعاً من البقاء في كل ما يحبه، بل لا يجب شيئاً إلا بعد توهمه البقاء فيه، ولكن حالما يتذكر زواله أو يشاهد فناءه يطلق عليه الزفرات والحسرات من الأعماق، نعم إن جميع الآهات الناشئة من أَنواع الفراق، إنما هي تعابير حزينة تنطلق من عشق البقاء ولولا توهم البقاء لما أحب الإنسان شيئاً. (1)
ولأَجل هذا فقد نبه النورسي على أَن أَلزم شيء لهذا الإنسان، وأَجل وظيفة له هي شد الأواصر وربط العلاقات مع ذلك الباقي، وحيث أَن عمر الإنسان الفاني يتضمن حياة قلبية وروحية هي معرفة الله ومحبته وعبادته وفق مرضاته. فإنه يتضمن إذا عمراً باقياً، وثانية واحدة يقضيها الإنسان في سبيل الله الباقي تعد سنة كاملة بل أًكثر ، بل هي باقية دائمة لا ترى الفناء، بينما سنة من العمر إن لم تكن مصروفة في سبيله فهى زائلة حتماً: وهى في حكم لحظة خاطفة. (2)
القدوس :
انتقل اسم القدوس عند النورسي من دلالته البينة على تنزه الله تعالى عن ضروب العيوب والنقائص والأضداد والأنداد والصاحبة والولد، ليتجلى بهذه المعاني مجتمعة على الوجود، فيحظى بالطهر والنقاء والصفاء والبهاء، وقد شوهدت كلها على صفحة الوجود، لتشير في النهاية إلى أن فعل التنظيف والتطهير إنما هي تجل من تجليات اسم الله القدوس
وتطهير العالم ووفقاً لمقتضى الاسم دائم لا ينقطع، يقول النورسي:
__________
(1) - المصدر السابق ص 23.
(2) - المصدر السابق ص 24.(5/32)
" فلولا المراقبة المستديمة للنظافة والعناية المستمرة بالطهر، لكانت تختنق على سطح الأرض مئات الآلاف من الأحياء خلال سنة، ولولا تلك المراقبة الدقيقة والعناية الفائقة في أرجاء الفضاء الزاخرة بالكواكب والنجوم والتوابع المعرّضة للموت والاندثار، لكانت أنقاضها المتطايرة في الفضاء تحطم رؤوسنا ورؤوس الأحياء الأُخرى، بل رأس الدنيا، ولكانت تمطر علينا كتلا هائلة بحجم الجبال.
ولولا التنظيف الدائب والتطهير الدائم في سطح الأرض، لكانت الأنقاض والأوساخ والأشلاء الناتجة من تعاقب الموت والحياة اللذين يصيبان مئات الأُلوف من أمم الأحياء، تملأ البر والبحر معاً، ولكانت القذارة تصل إلى حد ينفر كل من له شعور أن ينظر إلى وجه الأرض الدميم" (1)
فالعالم إذن وكما يؤكد النورسي قد حظي بتجل من تجليات اسم الله القدوس، حتى إنه عندما تصدر الأوامر الإلهية الخاصة بالتطهير والتنظيف لا تصدر للحيوانات البحرية الكبيرة المفترسة، والصقور البرية الجارحة وحدها، بل يستمع لها حتى أنواع الديدان والحشرات والنمل التي يقوم كل منها بمهمة موظفي الصحة العامة والراعين لها في هذا العالم، بل تستمع لهذه الأوامر حتى الكريات الحمراء والبيضاء الجارية في الدم، فتقوم بمهمة التنظيف والتنقية في حجيرات البدن، كما يقوم التنفس بتصفية الدم، بل حتى الأجفان الرقيقة تؤمر بالنظافة فتطهر العين باستمرار، بل حتى الذباب يستمع لها فيقوم بتنظيف أجنحته دائماً. (2)
ومثلما يستمع كل ما ذكر سابقاً لتلك الأوامر الصادرة بالتطهير والتنظيف، تستمع لها أيضاً الرياح الهوج والسحاب الثقال، فتلك تطهر الأرض من النفايات، والأُخرى ترش روضتها بالماء الطاهر، فتسكن الغبار والتراب، ثم تنسحب بسرعة ونظام حاملة أدواتها ليعود الجمال الساطع إلى وجه الأرض والسماء " (3)
__________
(1) - اللمعات - النورسي ص 518.
(2) - المصدر السابق ص 518.
(3) - المصدر السابق ص 522.(5/33)
ومثلما تصدر الأوامر التطهير والتنظيف إلى من نسبتهم إلى الله تعالى قهرية وجبرية، تصدر أيضاً إلى من نسبتهم إلى الله اختيارية كالإنس والجن، وذلك لما يتطلبه اسم القدوس من مقتضيات الطهر والنقاء والصفاء ، لأَجل هذا عد النورسي الآية الكريمة ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (1) من الدلائل المشيرة إلى أن الطهر مدعاة إلى المحبة الإلهية ومدار لها.
العدل :
على الرغم من مظاهر التخريب والتعمير والاضطراب، ومظاهر الإصلاح والفساد التي تسود العالم بأكمله، إلا أن المتأمل الناظر يشهد موازنة عامة وميزاناً حساساً وعملية وزن دقيق تسيطر على أرجاء العالم وتهيمن عليه هيمنة محيرة للعقول، بحيث تدل بداهة: أن ما يحدث ضمن هذه الموجودات التي لا يحصرها العد من تحولات وما يلج فيها وما يخرج منها لا يمكن أن يكون إلا بعملية وزن وكيل، وميزان من يرى أنحاء الوجود كلها في آن واحد، ومن تجرى الموجودان جميعها أمام نظر مراقبته في كل حين.
وإلا فلو فوض أمر الموازنة العامة إلى الأسباب المادية السائبة والساعية إلى اختلال التوازن، أو أُسند إلى المصادفة العشواء أو القوة العمياء أو الطبيعة المظلمة، لكانت بويضات سمكة واحدة والتي تزيد على الألف تخل بتلك الموازنة، بل بذيرات زهرة واحدة والتي تزيد على العشرين ألف تخل بها. ناهيك عن تدفق العناصر الجارية كالسيل والانقلابات الهائلة والتحولات الضخمة التي تحدث في الكون .
فكل واحد منها قمين بأن يخل بتلك الموازنة الدقيقة المنصوبة بين الموجودات، وتفسد التوازن الكامل بين أجزاء الكائنات، ولكنت ترى العالم خلال سنة واحدة، بل خلال يوم واحد قد حل فيه الهرج والمرج، وتعرض للاضطراب والفساد. فالبحار تمتلئ بالأنقاض والجثث، والهواء يتسمم بالغازات المضرة الخانقة ويفسد، والأرض تصبح مزبلة وتغدو مستنقعاً آسناً لا تطاق فيه الحياة.
__________
(1) - البقرة : 222.(5/34)
ولكن الأمر على النقيض من هذا كله، فلا تفاوت ولا اختلال في الموجودات كلها، ابتداء من حجيرات الجسم إلى الكريات الحمراء والبيضاء في الدم، ومن تحولات الذرات إلى التناسب والانسجام بين أجهزة الجسم. ومن واردات البحار ومصاريفها إلى موارد المياه الجوفية، ومن تولدات الحيوانات والنباتات ووفياتها إلى تخريبات الخريف وتعميرات الربيع، ومن وظائف العناصر، وحركات النجوم إلى تبدل الموت والحياة، ومن تصادم النور والظلام، إلى تعارض الحرارة والبرودة وما شابهها من أمور .
وعلى هذا فالكل يوزن ويقدر بميزان خارق الحساسية، وان الجميع يُكتال بمكيال غاية في الدقة، بحيث يعجز عقل الإنسان أن يرى إسرافاً حقيقياً في مكان، وعبثاً في جزء، بل يحس ويشاهد أكمل نظام وأتقنه في كل شئ، ويرى أروع توازن وأبدعه في كل موجود.(1)
إن هذه الموازنة الدقيقة هي عند النورسي التجلى الأعظم لاسم الله تعالى العدل . والمقتضى اللازم من مقتضياته، فتظهر حركة الوجود دائرة على نظام ومساقة بترتيب يدق على الفهم، ومرتبة ترتيباً يضع كل موجود في موقعه اللائق به والمناسب لطبيعته وأحواله على نحو لا يشذ منه شئ، بحيث يمنع منعاً باتاً تصور ما هو نقيض له. وكل تصور عكس ذلك يدحض في العدالة الإلهية ودحضاً لا يبقى معه إمكان لوجود أي علم أو إرادة أو قدرة لله تعالى في العالم.
يقول النورسي شارحاً ذلك التجلي البديع:
" تأمل في الأرض، هذه السفينة الجارية السابحة في الفضاء والتي تجول في سنة واحدة مسافة يقدّر طولها بأربع وعشرين ألف سنة، ومع هذه السرعة المذهلة لا تبعثر المواد المنسقة على سطحها ولا تفرق العناصر المخزونة في باطنها ولا تطلقها إلى الفضاء، فلو زيد شيء قليل في سرعتها أو أنقص منها لكانت تقذف بقاطنيها إلى الفضاء، ولو أخلّت بموازينها لثانية واحدة لتعثرت في سيرها واضطربت، ولربما اصطدمت بغيرها من السيارات ولقامت القيامة .
__________
(1) - اللمعات - النورسي ص 524.(5/35)
ثم تأمل في حجيرات الجسم، وأوعية الدم . وفي الكريات السابحة في الدم. وفي ذرات تلك الكريات. تجد من الموازنة الخارقة البديعة ما يثبت إثباتاً قاطعاً أنه لا تحصل هذه الموازنة الرائعة ولا هذه التربية الحكيمة إلا بميزان حساس ، وبقانون نافذ، وبنظام صارم للخالق الواحد الأحد العدل الحكيم، الذي بيده ناصية كل شئ، وعنده مفاتيح كل شئ، لا يحجب عنه شيء ولا يعزب، يدير كل شيء بسهولة إدارة شيء واحد" (1)
وكما اقتضت عدالة الله تلك الموازنة البديعة في الكون والحياة، فهي كذلك تقتضي إقامة الحياة الأخرى، وتستلزم الحشر، إذ لا يمكن كما يؤكد النورسي أن تنقلب الحقائق المحيطة بالكون إلى اضدادها بعدم مجيء الحشر، وبعدم إقامة الآخرة .(2)
وما أراد النورسي سوقه هنا أن معاني الكمال الإلهي قد تنقلب إلى اضدادها ، فالرحمة تنقلب إلى ضدها وهو الظلم، وتنقلب الحكمة إلى ضدها وهو البعث، وينقلب الطهر إلى ضده وهو العبث والفساد. (3)
الحفيط :
إن وجود الموجودات وحده على ما هي عليه، وثباتها في أداء وظائفها، ليس لها من حيث هي موجودة، فاقتضى الإيجاد ما يديم لها البقاء مدة تطول وتقصر حسب ما تؤديه من وظائف، وفي حدود ما هي مخلوقة له. والمعنى الذي يفيد الثبات وإدامة البقاء هو ما يعرف بالحفظ، وعلى الضد منه الإعدام.
وحفظ الموجودات مدة بقائها في الوجود هو أحد تجليات اسمه الحفيظ ، حيث نشاهد كما يحدثنا النورسي حفيظية مهيبة بادية للعيان تحكم كل شيء حي، وتهيمن على كل حادث، تحفظ صوره الكثيرة ، وتسجل أعمال وظيفته الفطرية. (4)
وكعادة النورسي فالمثل الذي يضربه لتجلى الاسم يعبر عن تلك الحفيظية بدقة متناهية فيقول:
__________
(1) - المصدر السابق ص 524- 525.
(2) - المصدر السابق ص 526- 527.
(3) - المصدر السابق ص 527.
(4) - الشعاعات - النورسي ص 269.(5/36)
" خذ غرفة بقبضتك من أشتات بذور الأزهار والأشجار، تلك البذيرات المختلطة والحبات المختلفة الأجناس والأنواع، وهي المتشابهة في الأشكال والأجرام، ادفن هذه البذيرات في ظلمات تراب بسيط جامد، ثم اسقها بالماء الذي لا ميزان له، ولا يميز بين الأشياء، ثم عد إليها عند الربيع الذي هو ميدان الحشر السنوي وانظر وتأمل ماذا ترى ؟
فأنت ترى أن تلك البذيرات التي هي في منتهى الاختلاط والامتزاج مع غاية التشابه تمتثل تحت أنواع تجلى اسم الحفيظ امتثالاً تاماً بلا خطأ الأوامر الآتية من بارئها الحكيم، فتلائم أعمالها، وتوافق حركاتها مع تلك الأوامر بحيث تستشف منها لمعان كمال الحكمة والعلم والإرادة والقصد والشعور.
ألا ترى أن تلك البذيرات المتماثلة كيف تتمايز ويفترق بعضها عن البعض الآخر، فهذه البذيرة قد صارت شجرة تين تنشر نعم الفاطر الحكيم فوق رؤوسها وتنثرها عليها، وتمدها إلينا بأيدي أغصانها، وهاتان البذيرتان المتشابهتان بها قد صارتا زهرة الشمس وزهرة البنفسج. وأمثالها كثير من الأزهار الجميلة التي تتزين لأجلنا وتواجهنا بوجه طليق مبتسم متوددة إلينا" (1)
ويربط النورسي في ثنايا عرضه بين تلك الحفيظية المشهودة، وبين حقيقة الحشر التي تتضمنها الآية الكريمة ( وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ)(2) فيقول:
" إن ميلاد الزهور والنباتات يعلن الأمثلة والدلائل ما يؤكد على أن الأشياء جميعها ولا سيما الأحياء لم تخلق لتنتهي إلى الفناء، ولا لتهوى إلى العدم، ولا لتمحى إلى غير شئ، بل خلقوا للمضي قدماً إلى البقاء، وللدخول بتزكية أنفسهم إلى عالم الحياة الخالدة " (3)
__________
(1) - اللمعات - النورسي ص 208 –209.
(2) - التكوير :10.
(3) - الشعاعات - النورسي ص 269.(5/37)
والحفيظ الذي يفعل هذا الحفظ المعجز يشير كما يقول النورسي إلى إظهار التجلى الأكبر للحفيظية يوم الحشر الأعظم والقيامة الكبرى، وذلك لأن كمال الحفظ والعناية في مثل هذه الأمور الزائلة التافهة من دون قصور لهو حجة بالغة على محافظة ومحاسبة ماله أهمية عظيمة وتأثير أبدى ، كأفعال خلفاء الله في الأرض، وأعمال حملة الأمانة وأقوالهم، وحسنات عبد الواحد الأحد وسيئاتهم.(1)
تجلى الأسماء الحسنى على الإنسان :
إن النسبة الظاهرة بين اسم الله تعالى ومقتضاه هي التي أخرجت الموجودات إلى الوجود، وحددت لها وظائها. وخصصت كل موجود بما يشار إليه إما إشارة عينية أو معرفية حسب رتبة الموجود ومنزلته وأهميته، وكما جعلت تلك النسبة كل موجود مستقل بذاته في الخلق، جعلته أيضاً يتفاوت من حيث الخلق والخلقة بتفاوت مقتضى الاسم وأثره.
ويتبين هذا الأمر في أرفع صوره وأسماها في أعلى الخلق مرتبة بين المخلوقات ، وهم المكلفون من الملائكة والإنس والجن، ثم هو أوضح ما يكون عند الإنس خاصة، أفضل الخلق قاطبة وأعلاهم منزلة وتكليفاً، ومقارنة بسيطة بين خلق هؤلاء المكلفين وخلق سواهم ممن هم دونهم تكشف لنا عن تلك الحقيقة، وترينا في الوقت نفسه سمو وعلو منزلة الإنس على سائر خلق الله.
فالله تعالى وكما يقول ابن عربي عندما خلق سائر خلقه من غير المكلفين خلقهم بأسماء وصفات الجبروت والكبرياء والعظمة والقهر والعزة، فكان لهذه الأسماء والصفات أثر مشهدي في ذواتهم، فخرجوا أذلاء تحت القهر الإلهي، وتعرف إليهم بهذه الأسماء والصفات، فلم يجد منهم أحد في نفسه طمعاً للكبرياء على أحد من خلق الله، كيف وقد أشهدهم الله أنهم في قبضته وتحت قهره، وشهدوا بأن نواصيهم بيده، فقال تعالى ( مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا)(2) والأخذ بالناصية كناية عن القهر، لأن من أخذ بناصية غيره فقد قهره وأذله .
__________
(1) - اللمعات - النورسي ص 209.
(2) - هود :56.(5/38)
أما الملائكة والجن والإنس فقد خلقوا بأسماء وصفات اللطف والحنان والرأفة والعطف والمنة، وعندما خرجوا للوجود لم يروا عظمة ولا عزاً ولا كبرياء، ورأوا أنفسهم مستندة في وجودها إلى رحمة الله وعطفه، ولم يبد الله لهم من جلاله وكبريائه وعظمته حين تجلى لهم ما يشغلهم عن نفوسهم، فأقروا له بالربوبية ، لأنهم في قبضته ولو شهدوا أن نواصيهم بيد الله شهادة عين ما عصوا الله طرفة عين، وكانوا مثل سائر المخلوقات يسبحون الليل والنهار ولا يفترون. (1)
ومن بين هؤلاء خص الله تعالى الإنسان بخلقة جعلت منه صنعته الخارقة، ومعجزته الرائعة، ثم جعله مظهراً لجميع تجليات أسمائه وصفاته، وصيره مثالاً مصغراً ونموذجاً للمخلوقات بأسرها، كيف لا، وهو كما يقول النورسي أعظم مقصد من المقاصد الإلهية. المؤهل لإدراك الخطاب الإلهي، والمصطفى المختار من جميع خلقه ليخلف الله تعالى في أرضه، وبالخلافة سيّده على العالم سيادة استمد منها الوجود كل ماله من أهمية. وكل ماله من تناسق وجمال.(2)
والنورسي يرد سر امتياز الإنسان وتميزه إلى أنه أكمل مظهر من مظاهر تجليات الأسماء الحسنى، وهي التي جعلت منه عموداً سانداً للكائنات كلها، ومركزاً للكون ومحوراً له، ومسخراً من أجله. فعلى سبيل المثال هو وحده الذي يمكنه إدراك جميع الأسماء الإلهية ويتذوقها بما أودع الله فيه من مزايا وحقائق جامعة، فهو يدرك كثيراً من معاني تلك الأسماء لما يتذوق من لذائذ الأرزاق المنهمرة عليه، بينما لا يبلغ الملائكة إلى إدراك معاني الأسماء بتلك الأذواق الرزقية لافتقارهم إلى مثل ما عند الإنسان من حواس.(3)
أما حكمة تجلى أسماء الله الحسنى على الإنسان فترجع كما يقرر النورسي إلى الوظائف المهمة الثلاث التي أُنيطت بالإنسان وهى:
__________
(1) - الفتوحات المكية – ج(4)- ابن عربي ص 202-203.
(2) - اللمعات - النورسي ص 593-594.
(3) - المصدر السابق ص 596.(5/39)
الأُولى : تنظيم جميع أنواع النعم المبثوثة في الكائنات بالإنسان وربطها بأواصر المنافع التي تخص الإنسان، كما تنظّم خرز المسبحة بالخيط، فيكون الإنسان بما يشبه فهرساً لأنواع ما في خزائن الإلهية ونموذجاً لمحتوياتها.
الثانية : قيام الإنسان بمهمة الداعي إلى الله والدال عليه، بما أودع الله فيه من خصائص جامعة أهلته ليكون موضع وحيه تعالى، ومقدراً لبدائع صنائعه ومعجباً لها، لينهض بتقديم آلاء الشكر والثناء الشعوري التام على ما بسط أمامه من أنواع النعم والآلاء العميمة.
الثالثة : قيام الإنسان بحياته بمهمة مرآة عاكسة لشؤون أسماء الله وصفاته، وذلك بثلاثة وجوه:
الأول : شعور الإنسان بقدرة خالقه المطلقة ودرجاتها غير المحدودة، بما هو عليه من عجز مطلق، فيدرك مراتب القدرة المطلقة بما يحمل من درجات العجز، ويدرك كذلك رحمة خالقه الواسعة ودرجاتها بما لديه من فقر، ويفهم أيضاً قوة خالقه العظيمة بما يكمن فيه من ضعف …وهكذا.
وبذلك يكون الإنسان مؤدياً مهمة مرآة قياسية صغيرة لإدراك صفات خالقه الكاملة، وذلك بما يملك من صفات قاصرة ناقصة إن كما أذ الظلام كلما اشتد يسطع النور اكثر، فيؤدي هذا الظلام مهمة إراءة المصابيح، فالإنسان أيضاً نراه يؤدى مهمة إراءة كمالات صفات بارئه وأسمائه بما لديه من صفات ناقصة مظلمة.
الثاني : إن ما لدى الإنسان من إرادة جزئية وعلم قليل وقدرة ضئيلة وتملك في ظاهر الحال وقابلية على إعمار بيته بنفسه يجعله يدرك بهذه الصفات الجزئية خالق الكون العظيم، ويفهم مدى مالكيته الواسعة وعظيم إتقانه، وسعة إرادته، وهيمنة قدرته وإحاطة علمه. فيدرك أن كلا من تلك الصفات إنما هي صفات مطلقة وعظيمة، لا حد لها ولا نهاية، وبهذا يكون الإنسان مؤدياً مهمة مرآة صغيرة لإظهار تلك الصفات وإدراكها .(5/40)
الثالث : قيام الإنسان بمهمة مرآة عاكسة لكمالات الأسماء الإلهية، من ذلك مثلاً إظهاره بدائع الأسماء الإلهية المتنوعة وتجلياتها المختلفة في ذاته، لأن الإنسان بمثابة فهرس مصغر للكون كله بما يملك من صفات جامعة، فكأنه مثاله المصغر، لذا فتجليات الأسماء الإلهية في الكون نراها تتجلى في الإنسان بمقياس مصغر.
كما يؤدى الإنسان في الوقت نفسه مهمة المرآة العاكسة للأسماء الإلهية، فإنه بوساطة كونه مخلوقاً يبين ويكشف عن اسم الخالق الصانع. ويشير بحياته إلى حياة الحي القيوم . ويظهر بحسن تقويمه وجمال صورته ودقة صنعه اسم الرحمن الرحيم، ويدل بكيفية تربيته ولطف رعايته اسم اللطيف واسم الكريم وهكذا .(1)
ومثلما أن الإنسان وحدة قياس مصغرة لمعرفة أسماء الله تعالى وصفاته . وفهرس لتجلى أسمائه الحسنى، ومرآة ذات شعور بجهات عدة إلى ذات الله، هو أيضاً وحدة قياس لمعرفة حقائق الكون، وفهرس ومقياس وميزان له، والأمثلة التي أوردها النورسي لهذه المقايسة خير شاهد فيقول :
" إن الدليل القاطع على وجود اللوح المحفوظ في الكون يمثل في نموذجه المصغر، وهو القوة الحافظة لدى الإنسان، والدليل القاطع على وجود عالم المثال نلمسه في نموذجه المصغر وهو قوة الخيال لدى الإنسان، والدليل القاطع على وجود الروحانيات في الكون ندركه ضمن نموذجها المصغر وهو لطائف الإنسان وقواه.
وكما تشير تلك إلى ما سلف من حقائق، فإن جوارح الإنسان وأعضاءه وعناصره تشير هي الأخرى إلى حقائق كونية أرضية، فعظامه تنبئ عن أحجار الكون وصخوره، وأشعاره توحي إلى نباتات الأرض وأشجارها، والدم الجاري في جسمه، والسوائل المختلفة المترشحة من عيونه وأنفه تخبر عن عيون الأرض وينابيعها ومياهها المعدنية، وغير ذلك كثير ". (2)
__________
(1) - المصدر السابق ص 593-595.
(2) - المصدر السابق ص 596.(5/41)
تلك هي إذا مقتضيات الأسماء الحسنى وآثارها على الإنسان التي جعلت منه عالماً صغيراً لجمعه أغلب ما في العالم الكبير، ومن حيث المعنى عالم أكبر، ولب الوجود، ونسخة العالم المصغرة، واصل العالم ومبدأه ، وغيرها من الصفات
ونتيجة لهذه المعاني الجليلة شهد الوجود كله للإنسان بخلافته ونيابته عن الله تعالى، وصار بها متصرفاً في سائر ما دونه من المخلوقات، وهو المعنى الذي أحدث اضطراباً في الفكر دفع ببعض الخارجين على أصول الإسلام ومقرراته للارتفاع بالإنسان إلى حد الألوهية ومستواها، وهو اضطراب يعزى بالدرجة الأولى إلى سوء فهم لوظيفة النائب والخليفة، ولحريته المطلقة للتصرف في الوجود .
الفصل الثالث
الإيمان
الإيمان
خلق الله تعالى الخلق بلا علة موجبة، وبلا سبب داع إليه، وبذلك دخل خلقه لهم من باب التفضل لا الإحسان، لأن الإحسان قد يكون واجباً، وله علة وسبب، أما التفضل فلا علة له ولا سبب. وقد قصد الله تعالى بتفضله هذا منفعة مخلوقاته، ومن ثم اعتُبِرَ التفضلُ أساس العلاقة بين الله الخالق وبين مخلوقاته، منها يستمد المخلوق سنده في الوجود، وعليها مرتكز حياته، ولأجل ذلك ارتبطت المخلوقات كافة برابطة الانتساب إليه تعالى، فانتظمت تحت هذه النسبة لتكون أصلاً لسائر المنافع.(5/42)
ثم شاء الله تعالى بمقتضى حكمته الأزلية أن يرتفع بمخلوقاته من علاقة (المخلوقية) إلى علاقة أخص بها، يترقى المخلوق في سلم الحياة بمعنى لا يشاركه فيه غيره، فتفضَّل تعالى على مخلوقاته بالتكليف، لينتسب المخلوق إلى خالقه بصفة أخص، فيها ترقية للمخلوق- من جهة- وتشريف له من جهة أخرى، وهي صفة المكلَّف، إذ في العلاقة التكليفية وفي الانتساب إليه تعالى بصفة المكلَّف، إذ في العلاقة التكليفية وفي الانتساب إليه تعالى بصفة المكلَّف ما ليس في علاقة المخلوق بالخالق، حيث ينفك المخلوق عن خالقه بمعنى جديد، وباستقلال تام في الوجود، ليعود إليه من جديد برابطة وعلاقة تمتاز بصفة الخصوصية.
ولهذا عرض الله تعالى ما تفضل به على مخلوقاته من تكليف بطريقتين:
الأولى فيها تخيير بين قبول التكليف وعدم قبوله.
والثانية فيها إلزام لهم بالقبول.
أما طريقة التخيير فقد خصت بها المخلوقات الحية كالحيوانات وغيرها، وكالجمادات وما في حكمها، فاختارت الانتساب إلى الله تعالى نسبة لا ذاتية لهم فيها. وبالتالي كانت حركتهم في الوجود، بل وتكليفهم- إن جاز أن يقال له تكليف- تحت إرادة الله تعالى وقدرته وقهره.
وبموجب هذا الانتساب يتصرف الله فيهم كيف يشاء، وهم- من جهتهم- قد استندوا على الله في حركتهم، ولذلك عدت علاقتهم بالله وانتسابهم إليه، علاقة وانتساباً استناديين.
وأما الإلزام بقبول التكليف فقد خص به الملائكة والجن والإنس، فألزم الملائكة والجن به، حتى يظهروا ذاتية في القبول وفي الانتساب إليه، ولكنه إلزام لا اختبار فيه ولا امتحان، فانتسبوا إليه على هذا الأساس، وهم بموجب الإلزام التكليفي لهم ذاتية انتساب محدودة تميزوا بها على غيرهم ممن خيروا بين قبول التكليف وعدمه، وبموجب تلك الذاتية في الانتساب إلى الله انحصر تكليفهم في دائرة لا محنة فيها ولا اختبار.(5/43)
أما إلزام الإنس فقد أسس على قاعدة صلبة ومتينة من الانتساب، فهم وإن ألزموا –كالملائكة والجن- بالتكليف، إلا أن الإلزام اتخذ في حقهم معنى جديداً لا نظير له ولا مثيل، ففي الوقت الذي يبقى التكليف ثابتاً ولازماً لهم لا يفارقهم، تنفك عنهم صفة المكلَّف، ومردّ الانفكاك هنا إلى أن الإلزام فيه سعة من الاختيار، لأن الله تعالى عرض عليهم التكليف على سبيل الاختبار والمحنة والامتحان، والعرض بهذه الطريقة فيه ترق بالتكليف إلى مرتبة لا يصح الحكم عليهم فيها بأنهم مختارون أو مضطرون، بل الأليق القول: بأن تكليفهم على فرض الاضطرار.
ويطلق النورسي على ذلك الانتساب إلى الله اسم (الإيمان)(1) مما يعني أن الإيمان في الأصل هو انتساب إلى الله، فعدّ لهذا السبب مناط التكليف الإلهي، منه تحدد أسس العلاقة أو الرابطة بين الله تعالى والإنسان، وبه ينال الإنسان صفة المكلَّف.
إن الانتساب أو الإيمان كما رأينا منه ما هو اضطراري أو فطري –كانتساب وإيمان الملائكة والجن- فامتنع بالتالي أن يكون محوراً للتكليف، ومن ثم أسست العلاقة على النسبة الإلزامية وحدها، فاستحقوا بموجبها صفة المكلفين، بها ترقوا في المرتبة عن مرتبة الحيوانات والجمادات، الأمر الذي جعل لهم في حركتهم نسبة ذاتية تنسب إليهم كما تنسب للإنس، سواء بسواء، لأن الإيمان وإن كان فيهم على نحو جبلِّي وفطري إلا أنه لم يحرمهم أهم ما في العلاقة كلها وهي الانتساب إلى الله تعالى بصفة أخص من صفة المخلوق.
__________
(1) - الكلمات- النورسي ص 349(5/44)
ومن الإيمان ما يكون إيماناً اختيارياً لا اضطرار فيه ولا إكراه، كما هو الحال عند الإنس، فَعُدَّ أصلاً ومناطاً للتكليف، وبالإيمان الاختياري ينتسب الإنسان إلى الله تعالى فيسميه مؤمناً أولاً، ومكلَّفاً ثانياً، لأن التكليف في حقه على فرض الاضطرار، فتلزمه صفة المكلَّف في كل حال، أما اسم المؤمن فلا يطلق عليه إلا في حالة الانتساب، إذ هو رهن اختياره، وطوع إرادته.
غير أن انتساب الإنسان لله تعالى أو إيمانه به، لا بد أن ينهض مع كل الاعتبارات على دعامة راسخة من الاختيار الحر المبرأ من ضروب القهر والاضطرار كافة. وذلك كي يحفظ للصفة التكليفية خصوصيتها، بل إن هذه الصفة هي التي تقتضي الاختيار وتحتمه على نحو يبرهن على جلالها من جهة وعلى قدسية الاختيار من جهة أخرى، ومرجع ذلك –وكما يقول النورسي- إلى أنه بالانتساب الاختياري يتفاضل الناس، وبه يتمايزون، "ولولاه لضاع سر التكليف، وضاعت نتيجة الاختيار، والغاية من الامتحان، ولتساوي الناس جميعاً، سواء من كان استعداده كالفحم في خساسته، مع آخر كالألماس في نفاسته"(1).
ولعل فيما انتهى إليه النورسي إشارة إلى أن المعجزة بطبيعتها القهرية على التصديق والانقياد لا توجب الإيمان ولا تتحقق الانتساب كما هو مراد الله تعالى وذلك لأن المعجزة لا تبقى للإنسان اختيار، بل هي تقهر، والمقهور مسلوب الإرادة مشلول القدرة، لا ذاتية له في حركته، ومن هذا حاله لا ينشرح صدره لتكليف، ولا يقبل بفرح وسرور على مهمة توكل إليه، ومن ثم ينتفي تماماً أساس الانتساب ومحور الصلة بين الله والإنسان.
__________
(1) - المكتوبلت- النورسي ص118.(5/45)
ونظرة متأنية على من انتسبوا إلى الله نسبة أُسقط فيها عنصر الاختيار –كما هو الحال في الجمادات والحيوانات- ترينا جلال الاختيار وعظمته، وتكشف لنا بجلاء عن خطورته كأصل للانتساب والإيمان، فهؤلاء لافتقارهم إلى عنصر الاختيار هبطت علاقتهم بالله وصلتهم به، من علاقة وصلة المنتسب، إلى علاقة وصلة المستند إليه، فعرفت تلك النسبة بالنسبة الاستنادية، حيث ليس لديهم حركة ذاتية، وإنما هم في حركتهم وقدرتهم مستندين إلى قدرة لله تعالى وتحت قهره وجبروته، وطوع إرادته ومشيئته.
والإنسان باختياره الانتساب إلى الله تعالى يكتسب على –حد تعبير النورسي- قيمة سامية، تتمثل في أن الإيمان يقوم – في أول ما يقوم به- بإظهار جميع آثار الصنعة الإلهية الكامنة في الإنسان، وتظهر الأسماء الربانية على صفحة وجوده الحيوي، فتتعين بذلك قيمة الإنسان، فيتحول هذا الإنسان الذي لا أهمية له إلى مرتبة أسمى المخلوقات قاطبة، حيث يصبح أهلاً للخطاب الإلهي، وينال شرفاً يؤهله للضيافة الربانية في الجنة" (1).
ومقصود النورسي بذلك: أن حركة الانتساب الاختيارية تنقل الإنسان إلى منزلة جديدة، وتترقى به إلى مقام رفيع، لم يكن له بحكم كونه مخلوقاً، فيقفز من عمومية الخلق إلى خصوصية الصلة، حيث تتجلى فيه أسماء الله وصفاته، وبها تتحقق صفة العبودية، وهي أخص من صفة الخلافة والنيابة عن الله، إذ أن الأولى له بحكم الانتساب، والثانية له بحكم الخلق والإيجاد، وبموجب الانتساب ترد عليه الأنوار الإلهية فتخرجه من ظلمة الجهل إلى نور الإيمان، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
__________
(1) - الكلمات - النورسي ص 349.(5/46)
ولا يقطع ذلك الانتساب شئ كالكفر، ولا يفهم للكفر من معنى عند النورسي أكثر من أن الإنسان قد اختار بمحض إرادته ألا يقيم صلة أو علاقة بالله. وباختياره هذا تنفصم صلته بالله، فيصبح مخلوقاً لا نسبة له مع الله، اللهم إلا النسبة التي له بحكم كونه مخلوقاً، وتلك نسبة استنادية قهرية.
ومن هنا يرى النورسي أن الكفر على النقيض من الإيمان به "تسقط جميع المعاني التي كان يستأهلها بموجب الانتساب، وأول تلك المعاني: تجليات أو نقوش الأسماء الإلهية الحسنى. تلك الأسماء التي تتراءى نقوشها وتجلياتها في مرايا جميع الكائنات، حتى ما يطلق عليه أسم (الإنسانية)، هذه الإنسانية يقذف بها الكفر من صورتها الحية التي تفوقت بها على الأرض والجبال والسماوات، بما أخذت على عاتقها من الأمانة الكبرى، وفضلت على الملائكة وترجحت عليها، حتى أصبحت صاحبة مرتبة خلافة الأرض، يقذفها الكفر من هذه القمة السامية العالية إلى دركات هي أذل وأدنى من أي مخلوق ذليل، فانٍ، عاجز، ضعيف، فقير. بل يرديها إلى دركة أتفه الصور القبيحة الزائلة سريعاً.
أما ما تبقى من هذه الإنسانية مما يتراءى العين فسوف يعزى للأسباب التافهة، إلى الطبيعة والمصادفة، فتسقط نهائياً وتزول، حيث تتحول كل جوهرة إلى زجاجة سوداء مظلمة، وتقتصر أهميتها على المادة الحيوانية وحدها، وغاية المادة وثمرتها هي قضاء حياة قصيرة جزئية يعيشها صاحبها وهو أعجز المخلوقات وأحوجها وأشقاها، ومن ثم يتفسخ في النهاية ويزول، وهكذا يهدم الكفر الماهية الإنسانية ويحيلها من جوهرة نفيسة إلى فحمة خسيسة" (1)
__________
(1) - المصدر السابق ص 350.(5/47)
ولا تتوقف خطورة الكفر –كما يؤكد النورسي- عند هذا الحد وحده، بل تتعداه إلى كونه إعلاماً من الإنسان، يكشف فيه عن إهانة وتحقير للكائنات بأسرها، حيث يتهمها بكفره بالعبثية وانتفاء النفع، لأن لهذه الموجودات مقاماً عالياً، وطبيعة ذات مغزى، حيث إنها مكتوبات ربانية، أو موظفات مأمورات إلهية، فالكفر فضلاً عن إسقاطه تلك الموجودات من مرتبة التوظيف والتسخير ومهمة العبودية، فإنه كذلك يرديها إلى العبث والصدفة ولا يرى لها قيمة ووزناً.(1)
إن الكفر –بناء على هذا- ليس مجرد عدم انتساب فحسب، بل هو أيضاً إنكار اختياري لأي صلة بالله تعالى، ورفض صريح لإقامة علاقة خاصة تنهض على دعائم سامية من الانسجام والألفة، ومن ثم يشعر الكافر –وبما أودع الله فيه من معنى وصفة الخلافة والنيابة عنه- أنه أصيل في الوجود، فينطلق في الحياة بانتساب كامل إلى ذاته المجردة، وهنا منبع الفساد.
فلا عجب بعد كل هذا أن عدّسعيد النورسي (2) الكفر إساءة وتخريباً، وجريمة كبرى، وجناية لا حدود لها، وإهانة وتحقيراً للكائنات، لأن الكافر بانقطاع نسبته إلى الله يعلن أن الوجود كله عدم وعبث لا قيمة له، وكذب لا حقيقة فيه، فكأنه بهذا يبدي تحدياً صارخاً لله تعالى، وإنكاراً غير معقول لبديهيات الوجود وثوابته، ويكشف عن استهتار بالغ عن ندِّيه قبيحة لله تعالى، وقيام تام بالنفس، وملكية متوهمة للوجود بأجمعه.
والكافر بهذا يعلن ودون وعي منه بانهيار كل مقومات وجوده، ويتحول إلى مخلوق شاذ في الوجود لا يملك أهلية يترقى بها على غيره من المخلوقات، ومن ثم يدور في إطار كونه مخلوقاً، لله تعالى، وتلك صلة تساويه بمن ليس لديه أصلاً استعداد للتلقي عن الله وللترقي في الوجود على حد السواء.
__________
(1) - المصدر السابق ص 351.
(2) - المصدر السابق ص 351.(5/48)
وأياً ما كان اختيار الإنسان إيماناً أو كفراً، فهو في كل الأحوال حركة حرة يحدد عن طريقها الجهة التي يستند إليها في وظيفته ودوره، ويرتكز عليها في وجوده.لأن ذلك الاستناد يمنحه حقاً في التحرك، وقوة في الأداء ينجز بها من الأعمال ما هو موكول إليه، فكأن الاستناد هنا شهادة موثقة ومعترف بها تعطيه الحرية في التصرف، وفي الوقت نفسه إعلان بأنه منتسب إلى قوة هي سبب كل ما يصدر عنه من أفعال.
فإذا آمن الإنسان بالله، فإن إيمانه يعطيه وثيقة يستند بها إليه تعالى، فيصبح ذلك الاستناد قوة لا حد لها، وقد مثل النورسي لمن هذا حاله بانتساب أحد ما إلى السلطان بالجندية أو الوظيفة، فإنه يتمكن بانتسابه من أن ينجز من الأمور أضعاف ما يمكن إنجازه بقدرته الشخصية، وذلك باستناده إلى قوة ذلك الانتساب السلطان، فهو يستطيع أن يأسر قائداً كبيراً باسم سلطانه، حيث تحمل إليه خزائن السلطان وقطعان الجيش أجهزة عتاد ما يقوم به من أعمال، فلا يحملها هو وحده. كما أنه ليس مضطراً إلى حملها،كل ذلك بفضل انتسابه إلى السلطان، لذا تظهر منه أعمال خارقة، كأنها أعمال سلطان عظيم، وتبدو له آثار فوق ما تبدو منه عادة، وكأنها آثار جيش كبير رغم أنه فرد (1).
هذا من حيث الاقتدار على العمل، أما في مجال الحركة، فإن النورسي يشبه حال المؤمن بالبدوي، فالبدوي الذي ينتقل في الصحراء عليه أن ينتمي إلى قبيلة ويتقلد اسمها، وذلك كي ينجو من شر الأشقياء، وينجز أشغاله ويتدارك حاجاته، وإلا فسيبقى منفرداً وحيداً أمام كثرة الأعداء، وبانتمائه هذا ما إن يحل في مكان إلا وقوبل بالاحترام والتقدير، وإن لقيه قاطع طريق كان انتسابه مانعاً من الاعتداء عليه، فيتجول بكل اطمئنان وأمان بفضل ذلك الانتساب (2).
__________
(1) - اللمعات – النورسي ص 278.
(2) - الكلمات- النورسي ص 6.(5/49)
أما إذا اختار الإنسان ألا يستند إلى الله تعالى، فإنه بلا أدنى شك يحرم من الوثيقة التي تعطيه الحق بأن ما يفعله يتم باسم الله، ولا يبقى بعد هذا – وهو على هذه الحالة- إلا النسبة الجزئية الضئيلة والتي نالها بلا اختيار منه، وهي كونه مخلوقاً. وحتى في هذه النسبة إنما يتحرك بحكم الاستناد القهري وحده، وما ينجز من أعمال إنما يتم بالقهر والجبروت، لا بالحرية والاختيار.
وقد شبه النورسي ما هذا حاله بالجندي السائب الذي لم ينخرط في الجندية، فهو مضطر إلى حمل ذخيرته وعتاده على ظهره، وبذلك لا يمكنه القيام بأعمال سوى أعمال تتناسب مع تلك القوة الضئيلة المحمولة على كتفه، وبما يناسب كمية المعدات واللوازم البسيطة التي يحملها على ظهره، ومهما بلغ من الشجاعة فلا يستطيع أن يقهر إلا بضعة أفراد من العدو، وقد لا يثبت أمامهم إلا لفترة قليلة، اللهم إلا إذا استطاع أن يحمل على ذراعه قوة جيش كامل، ويردف على ظهره معامل وأعتدة الدولة الحربية، واستحالة ذلك بينة لكل ذي نظر (1).
وأهمية قوة الاستناد والانتساب بالنسبة للإنسان ملاحظة بوضوح فيمن نسبتهم الاستنادية لله بلا اختيار. كالمخلوقات الحية وغير الحية. فهذه القوة مثلاً (2) هي التي تمكن النملة الصغيرة من تدمير قصر فرعون طاغ، رغم ضآلتها، وتجعل البعوضة الرقيقة تجهز على نمرود طاغية، وتجعل الميكروب البسيط يدمر طاغياً باغياً أثيماً. كما تمد البذرة الصغيرة لتحمل على ظهرها شجرة صنوبر باسقة، كل ذلك باسم ذلك الاستناد، وبسر ذلك الانتساب.
ولو انقطع ذلك الاستناد والانتساب، فإن خلق البذرة يقتضي أجهزة وقدرة ومهارة هي أكثر مما يحتاج إلى خلق شجرة الصنوبر الضخمة، وذلك لأن جميع أعضاء شجرة الصنوبر يلزم أن تكون موجودة في تلك البذرة التي هي بحد ذاتها شجرة معنوية. لأن مصنع تلك الشجرة يكمن في تلك البذرة.
نور الإيمان:
__________
(1) - اللمعات – النورسي ص279.
(2) - المصدر السابق ص 278.(5/50)
إن مجرد دخول الروح على مادة الإنسان الطينية كاف لإعطاء الإنسان صفة الإنسية. وصفة الإنسانية كافية هي الأخرى لإعطائه كماله اللائق به. غير أن الكمال في حد ذاته –وبغض النظر عن كل شئ- ليس كمالاً واحداً، بل هو كمالان: نوعي، ووظيفي، وذلك لأن للروح الإلهي حركتين في البدن:
ـ حركة تحقق فيها الروح للإنسان كماله النوعي؛ وذلك حين تتأصل صلة الروح بالنفس، فتتعلق النفس بالبدن تعلق التدبير والتصرف، والنفس عن طريق الروح تسري في البدن سريان الماء في العود الأخضر، ومنه تنشأ الحياة والحس والحركة والإرادة الذاتية.
ـ حركة ثانية تأصلت فيها صلة الروح بالنفس: لتتأهل النفس لاستقبال الوحي الإلهي. أي أن العنصر الروحي قد أهَّل النفس للتلقي عن الله، مما جعل النفس تتصف بالعلم والمعرفة. وهما أساس الكمال الوظيفي.
بهذين الكمالين تحصَّل الإنسان على منزلة الشرف والفضل، واحتل المنزلة الأولى بين المخلوقات، فهو من ناحية النوع أفضل الخلق، إذ جمع فيه تعالى ما فرقه على الخلق، فسمي العالم الصغر، ومن ناحية الوظيفة شرّفه الله تعالى بالنيابة عنه، تشريفاً له، ليتصرف في كل ما استخلفه فيه تصرف المالك المطاع، وتلك منزلة لم يبلغها مخلوق من خلق الله أبداًز
ومهما يكن من أمر الكمال الإنساني فهو معنى أودعه الله في الإنسان، بلا كسب منهن ولاحظ له فيه، إذ به تحقق معنى الإنسانية الذي تميز به عن غيره من المخلوقات، فهو من هذه الزاوية تساوى مع غيره مساواة الند للند، وحتى يخرج من هذه الدائرة وينكشف له ما كان محجوباً بالقهر الكمالي، أشرق الله عليه بنور الوحي والنبوة، فقال تعالى:
( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيَمانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )(1).
__________
(1) - الشورى 52.(5/51)
فسمى تعالى ما أنزله من وحي روحاً ونوراً، روحاً لتوقف الحياة عليه، ونوراً لتوقف الهداية به، فهو حياة من موت العدم، أو موت الكفر، ونور يستضاء به، وعليه مدار الحركة والحياة معاً.
ومرجع تسمية الوحي بالروح وتعلقه بالحياة، ثم جعله نوراً وهداية إلى اجتماعهما في محل واحد في الإنسان، أي أن محل الحياة هو نفسه محل الإيمان. وهو العلقة السوداء في جوف القلب (1). وتسمى أيضاً المهجة، منبع الروح ومعدنه، وبها تكون الحياة، وهي في الوقت نفسه محل نور الإيمان. وهو المذكور في قوله تعالى: ( أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهمُ الإِيَمانَ ) (2).
وقوله: ( وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيَمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) (3).
إن الذي جعل الحياة تحتل مع الإيمان محلاً واحداً يكمن في أن الحياة بقوة الروح صارت نوراً إليهاً به الحس والإدراك والعلوم والمعارف، فشغلت في القلب محل الإيمان، واشتركت مع الإيمان في صفة النورية، ثم جعلت القلب نفسه محلاً للعقل والتعقل، وموطناً لإدراك حقائق الأمور.
بيد أن تعقل القلب في حالة الحياة لا يقصد به فقط مجرد الإدراك، بل لأن التعقل بمفهومه الجامع يسري في الإنسان، ليعطي له تلك الشحنة النورية المعبر عنها بالشعور تارة والإحساس تارة أخرى، وبالعلم تارة ثالثة، وتبلغ درجة من البساطة والوضوح يستحيل معه البرهنة عليها أو تحديدها لا لخاصية فيها بعينها، وإنما لكونها كاشفة لغيرها، وغنية عن كشف غيرها لها.
__________
(1) - بيان الفرق بين الصدر والقلب والفؤاد واللب، الحكيم الترمذي ص 53.
(2) - المجادلة 22.
(3) - الحجرات 7.(5/52)
ولعل كلمة الوعي هي المعبرة عن تلك المعاني مجتمعة، إذ فيها تتلاشى معاني العقل والنفس والروح، ويتجلى ذلك الانكشاف الفريد للذات والوجود الخارجي. وبه تتضح الأشياء وتتميز الموجودات بعضها عن بعض، وفيه تظهر (إنية) الإنسان كنقطة مركزية، لا تغفل عن نفسها، ولا تغيب عن الوجود الخارجي، فأمتاز الوعي بعمومية ليست للعقل، إذ قد استمد كل ماله من نورية من المعاني الجامعة للإنسان. فاستأهل كونه ينبوع كل علم ومعرفة.
فإذا كان نور الحياة قد أضفى على الإنسان كل علم ومعرفة. نوعاً ووظيفة. فإن نور الإيمان يتجاوز تلك المعاني الضيقة ليترقى فتنكشف فيها الأشياء كلها بنسبتها الاستنادية لله تعالى. فعد ذلك علماً من نوع خاص يتخطى القشرة السطحية لمعاني الأشياء وينفذ إلى باطنها، فتتجلى له على حقيقتها الإلهية.
ولعل فيما ذهبنا إليه تأكيداً على أن نور الإيمان هو للإنسان بصفة العبودية، لا الخلافة والنيابة عن الله. وبصفة المخلوق المكلَّف لا بصفة المخلوق غير المكلَّف، ليرى به الأشياء رؤية تقف عندها سائر الرؤى، وبصورة تتجلى فيها على قلب المؤمن صفات الله بكل جمالها وجلالها. فيتحول قلبه إلى مرآة تنعكس فيه معانيها فتزيده إشراقاً ونوراً على ما فيه من نور وإشراق.
لكل هذا فلا يصح أن يطلق على ما في الحياة من نور نوراً، إلا من قبيل التجاوز، وفي حدود انبثاقه من نور الله تعالى، وذلك لأنه في أصله معرفة وعلم، وهو له بحكم كونه مخلوقاً، لا يريه نور الحياة إلا ما يخدم تلك النسبة القهرية والتي هي بها خليفة ونائب عن الله تعالى في الكون.
وبناء على ما مضى فقد انحصر نور الإيمان في الدائرة التكليفية وحدها، عوناً للمكلَّف من صعوبة الابتلاء، وتخفيفاً عليه من مشقة التكاليف. وإنقاذاً له من وحشة الاستقلال بنفسه. ومن ذل الاستعانة بغيره أو بذاته.(5/53)
وكشف لنا النورسي على نحو فريد أن نور الإيمان يضئ حركة المؤمن التعبدية على تعدد أوجهها واختلاف غاياتها، بدءاً من حركته الذاتية، ووجوده، وانتهاء بمصيره الحتمي في شمولية تستوعب الحركة كلها، وهو كعادته ينطلق من النسبة الاختيارية التي يستند فيها المكلَّف على الله، ليبنى عليها ومن خلالها تأثير نور الإيمان على الإنسان وعلى حركة الإنسان معاً.
يقرر النورسي بادئ ذي بدء أن الإنسان وعلى رغم من أنه "قد خلق مظهراً لجميع تجليات أسمائه –تعالى- وجعله مداراً لجميع نقوشه البديعة، وصيره مثالاً مصغراً وأنموذجاً للكائنات بأسرها" (1) إلا أن نور الإيمان إذا استقر في قلبه كشف ذلك النور وعلى الفور "جميع ما على الإنسان من نقوش حكيمة فيقرأها المؤمن بتفكر، ويشعر بها في نفسه شعوراً كاملاً، ويجعل الآخرين يطالعونها ويتأملونها، أي كأنه يقول: هنا أنا ذا مصنوع الصانع الجليل ومخلوقه، أنظر كيف تتجلى في رحمته وكرمه" (2).
والصنعة هنا ليست إلاّ صنعة المخلوق الذي يكشف نور الإيمان عن معدن الحقيقي. فكأن نور الإيمان يكشف عن المعاني السامية التي هو بها إنسان، فيتفاضل بها عن غيره، وفي الوقت نفسه يتجاوز تلك الشركة القهرية مع غيره من المخلوقات، مترقياً في مدارج الشرف حتى يصل المقام الرفيع الذي أُعد له.
لأجل هذا قال النورسي: "إن الإيمان إذا دخل القلب يصير الإنسان جوهراً لائقاً للأبدية، وبالكفر يصير خزفاً فانياً، إذ الإيمان يرى تحت القشر الفاني لباً لطيفاً، ويرى ما يتوهم حباباً مشمساً زائلاً ألماساً منوراً. والكفر يرى القشر لباً فيتصلب فيه فقط، فتنزل درجة الإنسان من الألماس إلى الزجاجة، بل إلى الحباب" (3)
__________
(1) - الكلمات - النورسي ص 349.
(2) - الكلمات - النورسي ص 349.
(3) - المثنوي العربي النوري –النورسي ص 1988 ص 158.(5/54)
ومهما بلغ الإنسان في مراتب الكمال نوعاً أو وظيفة، ومهما نال من الشرف والفضيلة على غيره.فلا تتضح حقيقته إلا إذا انتسب إلى الله، تلك النسبة التي يشرق عليه بمقتضاها نور الإيمان. عندئذ ينكشف معدنه الحقيقي، ويظهر ما كان محجوباً عنه تحت ظلمات ذاته المجردة. فتتلألأ في داخله المعاني القلبية الرفيعة التي فيها التعبير البليغ عن جوهر وجوده.
وجوهر وجوده في منظور الرؤية الإيمانية هو أنه "مرآة لوجود غير محدود. وهو وسيلة للظفر بأنواع غير محدودة من الوجود، وذلك لأن وجوده ليس إلا أثراً من آثار واجب الوجود، وصنعة من صنعته وإبداعه، تجعله يرتبط بروابط الأخوة الوثيقة مع جميع الموجودات، لا سيما ذوي الحياة" (1).
غير أن الإيمان قد ترقى بوجود الإنسان من تلك العمومية إلى منزلة المخلوق المتلقي عن الله، الفاهم لخطابه تعالى، أي إلى منزلة المكلَّف، ليؤدي واجباً قد حدد له في دار هي دار الامتحان، ولينظر ويشاهد غرائب وعجائب معجزات القدرة الإلهية في الكون، ثم بعد ذلك سيرد مكلَّفه إلى عالم المكافأة والجوائز، حيث يكافئه بمقدار ما فهم ووعى في الأرض من مطالعاته في الكون، ومن قيامه بواجبه المطلوب (2).
ومما لا شك فيه: أن الكشف عن حقيقة وجود الإنسان وغايته لهي البداية الحقة لسائر حركات الإنسان فاعلاً ومنفعلاً، ولهي أيضاً الانقلاب الهائل الذي يحوله إلى مخلوق مكلَّف، له سند يعتمد عليه، وله نور يهتدي به، فهو من المبتدأ إلى المنتهى في معية الله تعالى، بحكم الاستناد وبحكم الصنعة، وهذا ما أشار إليه النورسي من أن الإيمان ينير بأنواره الباهرة جميع جهات الإنسان (3)، أو ما يمكن تسميته بالوعاء الحركي للإنسان زماناً ومكاناً، فلا يشعر المؤمن أبداً بأنه في ظلمة وظلام، مهما بلغ في حمله للتكاليف من تعب وإرهاق.
__________
(1) - اللمعات – النورسي ص348.
(2) - المكتوبات – النورسي ص 470
(3) - المصدر السابق ص 474(5/55)
لفت النورسي – في أول ما لفت إليه- النظر في الزمان الماضي الذي يذكر كل حيِّ بالعدم، أي بالظلام الموحش، وكأنه مقبرة كبيرة واسعة تضم الممالك وما فيها، ومدافن منتشرة خربة، تضم الأهل والأحباب، ويسودها الصمت الرهيب، ولكن بنور الإيمان تتبدد كل هذه الأوهام، وتزول الرهبة، وينقشع الظلام كسحابة صيف، فكأنه يقول لنا:
"نعم لقد دمرت الممالك حقاً، وأنها هدمت وزالت من الوجود، ولكن بدون خسائر في الأرواح،فإن ساكني تلك الممالك وموظفيها في حقيقة الأمر قد نقلوا إلى عالم نوراني خالد رائع الجمال، وما هذه القبور المبثوثة في أرجاء العالم التي نشاهدها هنا وهناك –إلا أنفاق تحت الأرض توصلنا إلى العالم الرحب". (1)
ومن هذا الإيمان ينبثق سرور وأفراح واطمئنان، لأنه قد حول الماضي إلى ذكرى منوّرة، فبدلاً من النظرة السوداء اليائسة، والرعب المخيف من المصير المحتوم، تحول الماضي كله إلى ملتقى يجتمع فيه الأهل والأحباب، وإلى مجلس منور كمجالس الدنيا، لا رهبة فيه، ولا خوف، ولا عدم فيه ولا فناء.
وما ينطبق على الماضي ينطبق –أيضاً- على الموت مصدر الرعب الدائم للأحياء قاطبة، فبنور الإيمان ينكشف الوجه الحقيقي له، فالموت كما يقول النورسي: "ليس بإعدام نهائي، ولا بفراق أبدي، وإنما هو مقدمة وتمهيد للحياة الأبدية وبداية لها، وهو انتهاء لأعباء مهمة الحياة ووظائفها، وراحة وإعفاء، وهو تبدل مكان بمكان" (2).
أما القبر نفسه فهو ليس فوهة بئر، وإنما هو باب لعالم النور، وإنه طريق لا يؤدي إلى الأبد، وليس طريقاً ممتداً ومنتهياً بالظلمات والعدم، بل هو طريق إلى عالم النور، وعالم الوجود، وعالم السعادة" (3).
__________
(1) - المصدر السابق ص 470.
(2) - اللمعات – النورسي ص346
(3) - المصدر السابق ص 340.(5/56)
إن تفكير الإنسان الدائم في الموت يرتبط عند الكافر دوماً بالفراق الأبدي الذي لا لقاء بعده، ولا اجتماع مع من ارتبط بهم في دنياه بعلاقة المحبة والأخوة. وعندما يتصور أن هذا مآل كل شئ فيقوده تصوره بالضرورة إلى ضرب شديد من الأنانية، تورثه –لضيقها وظلمتها وزيفها- آلاماً مبرحة، بينما المؤمن ينظر بنور الإيمان إلى المصير نفسه نظرة مشرقة، تبعث على الفرح ولهفة اللقاء، وتنطوي في قلبه على معنى واحد، وهو أن يما يبدو في ظاهره عدماً، إنما هو مقدمة لوجود عالم آخر، لا فناء فيه ولا زوال.
والنظرة نفسها يريها الإيمان للمؤمن عن جميع الأحياء الذين يتوجهون واحداً بعد الآخر إلى هذا المصير، حتى يغيبوا وراء ظلمات العدم إلى غير رجعة. فهو يريه أن الأحياء كالبدو، ينتقلون من مرعى إلى آخر، ومن دار الفناء إلى دار البقاء، ومن مكان الخدمة إلى موضع أخذ الأجرة، ومن ميدان الزحمة والمشقة إلى مقام الرحمة والمكافأة (1).
وما بين الحياة والموت يعيش الإنسان الكافر في عالم واسع يتسع بقدر حركته فيه، فيحس –من جراء ذلك- بضآلة شأنه وقصر حركته، إلى الحد الذي يظلم فيه الكون الفسيح، ويقبح فيه جمال الوجود. كيف لا وهو لا ينظر إليه إلا من خلال عمر قصير، سرعان ما ينقضي، وحركة محدودة بمحدودية قدرته.
ولكن بنور الإيمان تتسع حركته إلى ما لا نهاية، حتى كأن له عمراً معنوياً طويلاً من بداية الخليقة إلى نهاية العالم، ويتحول عالمه الضيق المحصور بين جداري الزمان والمكان إلى عالم فسيح مريح، ويجعل الأزمنة كلها زمناً حاضراً في قلبه بإزالته البعد بينهما، فيتحول هذا العالم الفسيح بيتاً له (2).
__________
(1) - المكتوبات - النورسي ص 474.
(2) - المصدر السابق ص 475.(5/57)
أما ما يحسه المؤمن من الآلام الناتجة عن الزوال والفراق، فإن نور الإيمان يزيل ما يحصل من آلام الفراق بإظهار تجدد الأمثال. يقول النورسي: "إن التفكر بزوال اللذة يولّد آلاماً كثيرة، وبنور الإيمان تذوب تلك الآلام، محيلاً زوالها إلى ثمرات جديدة من أمثالها بلا انقطاع، هذا وإن أشد الحالات ضيقاً وهماً لروح الإنسان ما يتولد من آلام الفراق وحسرات الوداع، فنور الإيمان قد أودع الله فيه ما يذهب تلك الآلام بدوام تجدد الأمثال والوصال، ولا ريب أن التجدد لا يبعث حزناً أليماً، وإنما يبعث التجدد –من زاوية الإيمان- لذة فائقة في أن الفراق إنما هو لأجل لقاء في دار أخرى بهيجة" (1).
والإنسان يرتبط مع المخلوقات الأخرى بعلاقات كثيرة ومتعددة، تتسع وتضيق بحسب حركته، وعلى تعدد وتنوع وجهاتها. فإذا لم ينظر إليها بنور الإيمان انقلبت كلها إلى غرباء عنه، وأعداء له يضمرون الشر، فيستوحش من كل شئ، فتنعدم في داخله روح الأخوة والإخاء، وإذا نظر إليها بنور الإيمان تحولت إلى مخلوقات ذات روح وحياة، فيستأنس بها، ويتجاوب معها بلغة المحبة والفطرة، فلا وحشة ولا خوف في نظر الإيمان (2).
فالإيمان – كما يؤكد النورسي يشيع روح الأخوة بين المؤمن ولك شئ، فلا يشتد الحرص والعداوة، والحقد والوحشية، إذ بروح الأخوة يرى أعدى أعدائه نوع أخ له، في حين يبنى الكفر الحواجز بين الكائنات، ويؤسس أجنبية وافتراقاً لا اتصال فيها بين الموجودات المحيطة به، فيعمق في نفسه الأنانية والإحساس بالغربة عن العالم، فيشتد فيه التزام النفس والاعتماد عليها (3).
__________
(1) - المصدر السابق ص 476.
(2) - المصدر السابق ص 477.
(3) - المثنوي العربي النوري – سعيد النورسي ص 158.(5/58)
يتضح مما سبق أن النورسي قد قصر الرؤية بنور الإيمان للعالم وما حوى على المؤمن وحده دون الكافر، وهو أمر ربما دفع بالبعض للقول: بأنه يكفي نقل هذه الرؤية في صورة خبرية لتتحول إلى معرفة، لها من الشيوع ما لسائر المعارف، بحيث يشترك فيها الجميع مؤمنهم وكافرهم، وهو قول صحيح إذا حصرنا الرؤية في كونها معرفة عميقة بالأشياء، أو معرفة نورانية للأشياء بنسبتها الاستنادية لله تعالى، ولكنها إذا كانت رؤية بنور الإيمان فهي من حظ المؤمن وحده، لأنها عندئذ تكون رؤية بعين الفؤاد لا القلب. وهو شئ لا وجود له عند الكافر.
ومرد ذلك كلِّه إلى أن الله تعالى قد خص الفؤاد بالرؤية (1). كما جاء في قوله تعالى: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) (2) والفؤاد يلي القلب في المقام، ومحله وسط القلب، فإذا كان القلب هو محل نور الإيمان ومحل العقل والعلم، فإنه يحتاج مع كل هذا إلى التأييد حتى تتولد الطمأنينة والسكينة، وذلك لا يتم إلا بالرؤية والمعاينة، وهي من عمل الفؤاد، ولذا يحدث الفراغ للفؤاد ولا يحدث للقلب، كما قال تعالى: (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً) (3).
والمعنى أنها لما سمعت بوقوع موسى في يد فرعون طار عقلها، لما دهمها من الخوف، فوصف الله الفؤاد بالفراغ وفضله على القلب، إذ كان القلب يحتاج إلى الربط والفؤاد يرى ويعاين والقلب يعلم، وليس الخبر كالمعاينة.
والفؤاد وإن وجد عند كل إنسان، إلا أن عيني الفؤاد لا تنفتح للرؤية إلا حين يتحد في القلب نور الحياة مع نور الإيمان، في وحدة لا انفصام لها، حينها يحيا القلب بالله، وتنفتح عينا الفؤاد على العالم، فيتطابق العلم القلبي مع الرؤية فيصبح حتى الغيب عند المؤمنين عيناً.
__________
(1) - الفرق بين القلب والصدر –الحكيم الترمذي ص 69،70.
(2) - النجم 11.
(3) - القصص 10.(5/59)
أما الكافر فقلبه خال تماماً من نور الإيمان، وليس فيه إلا نور الحياة، فهو لذلك أعمى الفؤاد، بل هو ميت الفؤاد، لا يرى شيئاً، وما في قلبه من نور هو الذي يعلم به في حدود ما هو حي لأجله، ويعي به وجوده وذاته التي هو بها مستخلف ونائب عن الله تعالى، ولكنه علم لا ينتفع به، ولا فائدة منه، مثله في ذلك مثل الأعمى (1) الذي لا ينفعه علمه شيئاً في وقت الشهادة إذا احتاج إلى أدائها، لأنه محجوب عن الرؤية، فعلمه في الحقيقة علم، ولكنه علم لا يطمأن و لايسكن إليه.
مظاهر الإيمان
خلق الله تعالى كل مخلوق لغرض محدد، فإذا تحقق الغرض وحصل المراد منه، كمل وبلغ حده من التمام، وإذا لم يحصل الغرض منه ولم يبلغ تمامه بحصول المراد منه، فلا يوصف بالكمال، ولا نعني بالغرض والكمال –معاً- إلا المعنى الخاص الذي من أجله خلق وأوجد.
إن هذه الفرضية في معناها العام واضحة وضوحاً بارزاً في جميع مخلوقات الله، وبأنواعها المختلفة –أحياء وجمادات- فما من مخلوق إلا وقد خص بفعل انفرد به عن غيره، واستقل به في الوجود، من غير شركة ولا إشراك، وفي حصول ذلك الفعل المقصود حصول للغرض.
غير أن النسبة الاختيارية في العلاقة والرابطة الاستنادية مع الله تعالى، ووجود عنصر الاختيار بقبول التكليف وعدمه، أدخل عنصراً جديداً في المعنى الذي به يتحقق كمال المخلوق، وبالتالي أُدخل عنصر التفاضل والشرف والتكريم، وعلى قدر موقف المخلوق من النسبة أو الانتساب، ومرجع الأمر كله إلى أن الكمال ينحصر –فيما هذا شأنه- في كونه حركة اختيارية نحو غرض بعينه يتجه نحوه المخلوق، حتى إذا بلغت الحركة غايتها حصل تمام المعنى المقصود، أما إذا لم تكن هناك حركة قصدية واضحة انحصرت الحركة في دائرة المعنى الذي لأجله خلق المخلوق.
__________
(1) - الفرق بين القلب والصدر –الحكيم الترمذي ص 68.(5/60)
والفرق بين الحركتين: أن هناك معنى يريد المخلوق أن يظهره للوجود، وصفة مخصوصة يريد بلوغها، فإذا كانت نسبته إلى الله –تعالى- اختيارية أظهر المعنى والصفة معاً، أو أظهر المعنى دون الصفة، فالخيار متاح له، وإذا كانت نسبته استنادية لا اختيار له فيها أظهر المعنى فقط، إذ ليس ثمة صفة له ينتسب بها، فأظهر هذا المعنى عنصر الكمال فيه، وهو الذي من أجله خلق وأوجد.
والإنسان ظهر للوجود بمعنى الخليفة لله والنائب عنه في الأرض. والخلافة له بحكم الجبر والاضطرار، وبلا اختيار منه، فظهر للوجود كاملاً، وبهما تحقق الغرض من خلقه وإيجاده، فلا حاجة له للمجاهدة كي يبلغ مرتبة الكمال، أما صفة المكلَّف، أي صفة العبودية فهي له باختياره، ورهن إرادته، بمعنى أنها صفة مخصوصة. وهي التي تحقق الغرض الذي من أجله كُلِّف، وفي تحقق الصفة تحقق لكماله الحقيقي، فينال من الشرف والفضيلة ما لا يناله من معنى الخليفة والنائب.
أما الحيوانات والجمادات فقد ظهرت للوجود ولم يعرف لها معنى، اللهم إلا المعنى الذي هي به مخلوقة، أي لا خصوصية لها في علاقتها بالله –تعالى- فأظهرت المعنى الذي هي به موجودة كاملاً، فتحقق الغرض منها، فلم يكن لها في الأصل حاجة إلى الكمال، فنالت بكمال المعنى الشرف، ونالت بالشرف صفة العبودية لله –تعالى- لنهوضها بأمر الله، وخضوعها لإرادته –تعالى- ومشيئته.
والنورسي في إشارته للفرق بين مخلوق لله كالحيوان –مثلاً- وبين مخلوق كالإنسان بين ذلك المعنى بجلاء، حيث قال:(5/61)
"إن الحيوان حينما يأتي إلى الدنيا –دار التكليف- يأتي إليها وكأنه قد اكتمل في عالم آخر، فيرسل إليها متكاملاً حسب استعداده، فيتعلم في ظرف ساعتين أو يومين أو شهرين جميع شرائط حياته وعلاقته بالكائنات الأخرى وقوانين حياته، فيتعلم العصفور أو النملة –مثلاً- القدرة الحياتية والسلوك العملي عن طريق الإلهام الرباني وهدايته، ما لا يتعلمه الإنسان إلا في عشرين سنة، وكل ذلك لأن الوظيفة الأساس للحيوان ليست التكمل والاكتمال بالتعلم، ولا الترقي بكسب العلم والمعرفة، وإنما وظيفته الأصلية هي القيام بالعمل حسب استعداده، أي العبودية الفعلية" (1).
ومراد النورسي بالعبودية –هنا- وجود المعنى الذي أشرنا إليه فيما سبق، وبه يتحصل الغرض منه، وهي عبودية يستند فيها الحيوان إلى سلطان الله وقدرته، فيكون طوع إرادته، ويتحرك وفق أوامره، وإطلاق لفظ العبودية في حق الحيوان وغيره من المخلوقات سائغ الاستعمال، وذلك لأن العبادة هي –في جوهرها- إظهار للمعنى الذي يتشرف المخلوق لإيجاده.
لأجل هذا قال النورسي: إن الموجودات قاطبة بما فيها الجمادات تتمثل الأوامر الربانية بشوق كامل، وبنوع من اللذة عند أدائها لوظائفها الخاصة بها، فكل شئ ابتداء من النحل والنمل والطير، وانتهاء بالشمس والقمر، كل منه يسعى بلذة تامة في أداء مهماتها، أي أن اللذة كامنة في ثنايا وظائف الموجودات، حيث إنها تقوم بها على وجه الإتقان التام، رغم أنها لا تعقل ما تفعل ولا تدرك نتائج ما تعمل (2).
والعلة في وجود اللذة يرده النورسي إلى أن المخلوقات تطلب شرفاً ومقاماً وجمالاً، بل هي تبحث عن كل ذلك وتفتش عنه، لأجل إظهار الأسماء الإلهية المتجلية فيها، لا لذاتها، لذا فهي تتنور وتترقى وتعلو أثناء امتثالها تلك الوظيفة الفطرية، حيث إنها تكون بمثابة مرايا ومعاكس لتجليات الأسماء الإلهية. فمثلاً:
__________
(1) - الكلمات – النورسي ص 354.
(2) - اللمعات – النورسي ص188.(5/62)
قطرة الماء وقطعة الزجاج رغم أنها تافهة وقاتمة في ذاتها، إذا ما توجهت بقلبها الصافي إلى الشمس فإنها تتحول إلى نوع من عرض لتلك الشمس، فتلقى الرائي بوجه مضيء، والموجودات –كذلك- من حيث أداؤها مهمة –مرايا عاكسة لتجليات الأسماء الحسنى لذي الجلال والجمال والكمال، فإنها تسمو وتعلو إلى مرتبة من الظهور والجلاء والتنور هي في غاية العلو والسمو، إذ ترتفع تلك القطرة وتلك القطعة من حضيض الخمود والظلمة إلى ذروة الظهور والتنور(1) .
أما الإنسان فعندما يقدم "إلى الدنيا يقدمها وهو محتاج إلى تعلم كل شئ وإدراكه، إذ هو جاهل بقوانين الحياة كافة جهلاً مطبقاً، حتى إنه قد لا يستوعب شرائط حياته خلال عشرين سنة، بل قد يبقى محتاجا إلى التعلم مدى عمره. فضلاً عن أنه يبعث إلى الحياة وهو في غاية الضعف والعجز، ولا يمكنه أن يحقق لنفسه منافع حياته، ولا دفع الضرر عنه إلا بالانخراط في الحياة الاجتماعية البشرية" (2).
واستناداً على هذا خلص النورسي إلى أن "وظيفة الإنسان الفطرية إنما هي التكمل، أي الترقي عن طريق كسب العلم والمعرفة. والترقي عن طريق العبودية بالدعاء والتضرع والتوسل والرجاء بلسان الفقر والعجز إلى قاضي الحاجات ليقضي له حاجاته التي لا تصل يده إلى واحدة من الألف منها.
وهذا يعني أن وظيفته الأساس هي التحليق والارتفاع بجناحي العجز والفقر إلى مقام العبودية السامي"(3).
بيد أن عبودية الإنسان –كما قلنا- تختلف عن عبودية سائر المخلوقات في أن نسبتها لله –تعالى- اختيارية، ولذلك سميت تكليفاً، أي إلزام ما فيه كلفة ومشقة، أو إلزام بما يشق عليه. والتكليف بطبيعته الحركية يحدث تأثيراً في الإنسان يؤدي به إلى الانقباض النفسي لكراهة المشقة، فلا يستقبل المكلَّف أوامر الله بشوق ولذة وانشراح صدر.
__________
(1) - المصدر السابق ص 188-189.
(2) - الكلمات - النورسي ص 354-355.
(3) - المصدر السابق ص 355.(5/63)
لأجل هذا لم يكن مقصود العبادة أن يأتمر المكلَّف بأوامر الله وينتهي عن نواهيه فحسب، بل المقصود بها الكيفية التي يفعل بها المأمور وينتهي عن المحظور، فهي –إذن- مشروطة بأن تتم بكيفية خاصة ترتفع بها عن كونها أداء حركياً بالجوارح، إلى منزلة عالية في الأداء، بحيث يصدر الفعل المراد مصحوبا بمعان فيها التعبير الحقيقي عن عشق المُكلَّف للفعل، ولذته في إتيانه.
والنورسي قد نبه إلى أن الخضوع لله لا بد أن يكون مبنياً على محبة المؤمن للأمر التكليفي، وهو أمر طبيعي عنده، لأن الإنسان قد جبل على هذه المحبة، فهي ليست بالأمر المكتسب، خاصة وأن الفطرة الإنسانية تُكِنُّ حباً للجمال ووداً للكمال، وتتزايد تلك المحبة بحسب درجات الجمال والكمال، حتى تصل إلى أقصى درجات العشق ومنتهاه، فما دامت الفطرة البشرية تملك استعداداً لمحبة الله، فلا بد أن الله تعالى يطلب محبة لا حد لها من الإنسان الذي هو أجمع ذوي الشعور صفة، وأكثرهم حاجة، وأعظمهم تنكراً. وأشدهم شوقاً إليه (1).
ومن دون هذه المحبة لا يستطيع الإنسان أن يعبد الله، كما لا يستطيع الاحتفاظ بإيمانه خالصاً. وذلك لأن حب الله ينحصر في طاعة أوامره واجتناب نواهيه. فمن أحب الله ولم يكن عاملاً بمرضاته لم يكن عابداً له، ومن خضع له وأطاعه بلا محبة لم يكن عابداً له.
ويقابل الله تعالى محبة عبده المؤمن بمحبة من عنده. يقول تعالى: ( قُلْ إِن كُنُتمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاْتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللهُ)(2) ومعنى الآية كما يشرحه النورسي:
"إن كنتم تؤمنون بالله فإنكم تحبونه، فما دمتم تحبونه فستعملون وفق ما يحبه، وما ذاك إلا تشبهكم بمن يحبه، وتشبهكم بمحبوبه ليس إلا في اتباعه، فمتى ما اتبعتموه يحبكم الله، ومن المعلوم أنكم تحبون الله كي يحبكم الله" (3).
__________
(1) - اللمعات – النورسي ص 91.
(2) - آل عمران 31.
(3) - اللمعات – النورسي ص 90-91.(5/64)
ولكن عنصر المحبة وحده لا يكفي في نقاء العبادة، وفي خلوص الطاعة، لأن المحبة كما يرى النورسي هي عطية من عطايا الله، ونور من أنوار الإيمان(1)، فلا بد أن يساوقها تعظيم لله، وتنشأ تلك العظمة عن استشعار قوة المعبود استشعاراً يتجاوز حدود العقل، حتى لا يدري المؤمن منشأها، كل ما يعرفه عنها أنها عظمة محيطة به، وفوق إدراكه.
فإذا اجتمعت المحبة مع التعظيم كان ذلك نهاية الخضوع لله تعالى. ومن ثم تصبح هي العبادة الحقة والتي يشعر فيها المؤمن بضعف وعجز في نفسه، مع استشعار قوة المعبود. ومن هنا تحولت العبادة عند النورسي من إظهار المعنى الذي به كمال الإنسان إلى دعاء، بحيث لا يظهر المؤمن غاية التذلل لله فقط، بل أيضاً "يأوي إلى ربه بالدعاء مظهراً عجزه، ومسلماً الأمر كله والتدبير إليه وحده، مع الاعتماد والاطمئنان إلى حكمه دون اتهام لرحمته ولا القنوط منها".(2)
والدعاء كما يراه النورسي فيه التعبير الفعلي عن حاجة المؤمن إلى ربه، بل إن الدعاء هو نداء ينبعث بقوة معبراً عن عجزه وضعفه وافتقاره إلى الله تعالى، فاتخذ عنده معنى أوسع من معنى العبادة، مع أن العبادة أبلغ في الدلالة، إذ هي الغاية في التذلل، ولأجل ذلك فقد قسم الدعاء إلى ثلاثة أنواع:
الأول: دعاء بلسان الاستعداد والقابلية المودعة في الشيء، فالحبوب والنويات جميعها تسأل فاطرها الحكيم بلسان استعدادها وقابلياتها المودعة فيها قائلة:
- اللهم، يا خالقنا، هيئ لنا نمواً نتمكن به من إبراز بدائع أسمائك الحسنى، فنعرضها أمام الأنظار، فحوِّل – اللهم- حقيقتنا الصغيرة إلى حقيقة عظيمة. تلك هي حقيقة الشجرة والسنبلة.
__________
(1) - اللمعات – النورسي ص 105
(2) - الكلمات - النورسي ص 358.(5/65)
وثمة دعاء من هذا النوع- أي بلسان الاستعداد- هو: اجتماع الأسباب، فاجتماع الأسباب دعاء لإيجاد المسبب، أي أن الأسباب تتخذ وضعاً معيناً وحالة خاصة بحيث تكون كلسان الحال يطلب المسبب من القدير، فيتخذ كل من الماء والحرارة والتراب والضوء حالة معينة حول البذرة، حتى تكون تلك الحالة كأنها بلسان ينطق بالدعاء قائلاً:
ـ اللهم يا خالقنا، اجعل هذه البذرة شجرة.
الثاني: هو الدعاء الذي يسأل بلسان حاجة الفطرة، فالكائنات الحية جميعها تطلب مطاليبها وتسأل حاجاتها من خالقها الرحيم، وتستجاب لها مطاليبها وحاجاتها في أنسب وقت ومن حيث لا يحتسب. فأيديها قاصرة عن أن تصل إلى ما تريد أو دفع حاجة لها، فإرسال كل ما تطلبه-إذن- مما هو خارج عن طوقها واختيارها- وفي أنسب وقت، ومن حيث لا يحتسب- إنما هو من قبل حكيم، فإغداق هذا الإحسان والإنعام ما هو إلا استجابة لدعاء فطري.
وهذا النوع من الدعاء الفطري تنطلق به السنة حاجة الفطرة لجميع الكائنات، فتسأل الخالق القدير مطاليبها، والتي هي من قبيل الأسباب تسأل القدير المسببات.
الثالث: هو الدعاء الذي يسأله ذوو الشعور لتلبية حاجاتهم، وهذا الدعاء نوعان:
1- مستجاب على الأغلب إن كان قد بلغ درجة الاضطرار، أو كان ذا علاقة قوية مع حاجة الفطرة وموافقة لها، أو كان قريباً من لسان الاستعداد والقابلية، أو كان خالصاً إذ ما يطلقون عليه من خوارق الحضارة والأمور التي يحسبونها مدار افتخار اكتشافاتهم ما هو إلا ثمرة هذا الدعاء المعنوي الذي سألته البشرية بلسان استعداد خالص فاستجيب لها، فما من دعاء يسأل بلسان الاستعداد وبلسان حاجة الفطرة إلا استجيب، إن لم يكن هناك مانع، وكان ضمن شرائط معينة.
2- الدعاء المعروف، وهذا أيضاً نوعان:(5/66)
ـ فِعْلِيّ: مثلاً الأخذ بالأسباب هو دعاء فعلي، علماً أن اجتماع الأسباب ليس المراد منه إيجاد المسبب، وإنما هو اتخاذ وضع ملائم ومرض لله تعالى لطلب المسبب منه بلسان الحال، حتى إن حراثة الأرض من قبيل طرق باب خزانة الرحمة الإلهية، ونظراً لكون هذا النوع الفعلي من الدعاء متوجه إلى اسم الجواد، فهو مقبول في أكثر الأحيان.
ـ قَوْلي: وهو الدعاء باللسان والقلب، أي طلب الحصول على المطالب غير القابلة للتحقيق، والحاجات التي لا تصل إليها اليد. وألطف غايات هذا الدعاء وألذ ثمراته أن الداعي يدرك أن هناك من يسمع خواطر قلبه، وتصل يده إلى كل شئ، وهو القادر على تلبية جميع رغباته وآماله، ويرحم عجزه ويواسي فقره (1).
ولعل اختيار النورسي للدعاء كمظهر حقيقي للإيمان، وكمعنى به يتحقق كماله اللائق به يرجع إلى ما لاحظه من ارتكاز الدعاء على قواعد متينة من العجز والافتقار أودعت في الإنسان "مرآة واسعة جامعة للتجليات غير المحدودة للقدير الرحيم" (2).
ومن العجز ونقصان القوة تنبعث الحاجة الشديدة والملحة إلى رحمة الله، بل إن الضعف ما هو إلا الوسيلة الناجعة لدر الرحمة الربانية، حتى صارت حياة الإنسان وحركته في طلب الرزق ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى ضعفه، وقد عبر النورسي عن ذلك بقوله:
"إن الدليل على أن الرزق يعطى حسب الافتقار والعجز ولا يؤخذ بقوة الكائن وقدرته هو سعة معيشة الصغار الذين لا طاقة لهم ولا حول، وضيق معيشة الحيوانات المفترسة، وبدانة الأسماك البليدة، وهزال الثعالب والقردة ذوي الذكاء والحيل، فالرزق –إذن- يأتي متناسباً تناسباً عكسياً مع الاختيار والقدرة، أي كلما اعتمد الكائن على إرادته وقدرته ابتلى بضيق المعيشة وتكاليفها ابتلاء أكثر"(3).
__________
(1) - اللمعات – النورسي ص106-107-108.
(2) - الكلمات – النورسي ص363.
(3) - الكلمات – النورسي ص65.(5/67)
ولم يقصد النورسي بقوله هذا إهدار ما ركب الله تعالى في الإنسان من قدرة واقتدار على الكسب، بل أراد أن يستشعر المؤمن دوماً فقره وافتقاره إلى الله، وتعلق فقره وافتقاره بقدرة قادر عظيم مطلق القدرة. وأنه عاجز، ويرتبط عجزه برحمة رحيم رحمن واسع مطلقة(1)، وهذا الشعور دافع له إلى التضرع إليه وحده والسؤال والطلب منه، وهنا لا يكون الفقر فقراً، ولا العجز عجزاً، وإنما يكون سبباً للاعتزاز بالفقر إلى الله، ومدخلاً للتلذذ بعجزه، وهذا وذاك عين الدعاء.
ذروة الإيمان
إذا بلغ المؤمن في حبه لله –تعالى- الحمد الذي يحبه فيه الله، وأقيمت العلاقة الإيمانية كلها على أساس من المحبة الخالصة التي لا تشوبها شائبة، فإن الله –تعالى- يعرض محبوبه لأنواع مختلفة من البلايا، كالخير والشر، والغنى والفقر، والصحة والمرض، لا بقصد الوقوف على ما يجهل منه، أو التعرف على حاله، وإنما ليستخرج المؤمن أشرف ما عنده، ويمكن حصر ذلك المستخرج في معنيين تدور حولهما المعاني التي هو بها إنسان:
أولهما: الحالة الزائدة التي تعمل على الإمساك بقوى النفس وتوجهها للثبات والدوران في إطار الحكم الإلهي –الشرعي والقدري- وتعرف هذه الحالة بالصبر.
ثانيهما: المعنى الزائد الذي يفيض من امتلاء المؤمن بالرضا ويكون كالمقابل للنعم الإلهية. ويعرف هذا المعنى باسم الشكر.
وبهما معاً يبلغ إيمان المؤمن أعلى منزلة، وأشرف مكانة. وذلك للمؤمن كالنار التي تخلص الذهب مما علق به من آفات، فإذا عرض للنار خلص وزال عنه ما علق به، وصفي حتى لم يخالطه شئ، وكذلك الإيمان لا يخلص ويصفو إلا إذا تعرض لما ينقيه مما علق به.
__________
(1) - اللمعات – النورسي ص 18 و39.(5/68)
ومن هنا عُدَّ الصبرُ والشكر ذروة الإيمان وأشرف ما فيه، لأن الابتلاء من الله لا لنائبه أو مكلَّفه، وإنما لمحبوبه الذي ارتبط معه بمحبة خالصة، قد يخالطها ما يكدر نقاءها وصفاءها، ولذلك يعرضه للاختبار، ليسمو إيمانه إلى أسمى منزلة وأشرف مكانة. وفي الوقت نفسه ليكشف للخلق فضله وفضيلته.
غير أن ابتلاء الله –تعالى- لمحبوبه فيما يستوجب الصبر لا يكون في كل الحالات إلا لعلة ظاهرة وسبب معلوم، ومرد ذلك إلى ما بين الله –تعالى- وعبده من خصوصية تجعل للابتلاء معنى خاصاً، إذ هو من الله لمحبوبه، فيستقبله محبوبه ليبرز من خلاله ما يعبر به عن تماسكه إزاء حكمه تعالى، فيترقى بذلك الذروة في الإيمان.
ومنذ الوهلة الأولى ينظر النورسي للصبر والشكر نظرة واحدة، فيراهما من نافذة ما أدرجه في الإنسان من عجز لا حد له، وفقر لا نهاية له، وذلك لأن الله –تعالى- قد خلقه على صورة يتألم بما لا يحصى من الجهات كما يتلذذ بما لا يعد من الجهات. فالأولى تدفعه إلى الصبر، فيغدو وكأنه ماكينة صبر، والثانية تدفعه إلى الشكر، فيغدو وكأنه ماكينة شكر (1).
وعند الكلام في تفصيل كل منهما على حدة، يفرق النورسي المصائب والابتلاءات التي تستوجب الصبر إلى نوعين:
ـ نوع منها يمس الدين: وهو الذي يعد مصيبة حقاً، والتي هي مضرة فعلاً، فلا مناص من الالتجاء إلى الله والانطراح بين يديه والتضرع إليه دون انقطاع(2).
ـ والنوع الثاني: مصائب لا تمس الدين، وتلك لا يعدها مصائب، إذ منها:
ـ ما هو تنبيه رحماني يبعثه الله تعالى إلى عبده ليوقظه من غفلته، مثل تنبيه الراعي لشياهه عندما تتجاوز مرعاها، فيرميها بحجر. والشياه بدورها تشعر أن راعيها ينبهها بذلك الحجر ويحذرها من أمر خطير، فتعود إلى مرعاها برضى واطمئنان، وهكذا النوائب، فإن الكثير منها تنبيه إلهي، وإيقاظ رحماني لمحبوب الله.
__________
(1) - اللمعات – النورسي ص 15.
(2) - اللمعات – النورسي ص 16.(5/69)
ـ ما هو منحة إلهية لتطمين القلب وإفراغ السكينة فيه، وذلك بدفع الغفلة التي تصيب الإنسان وإشعاره بعجزه وفقره الكامنين في جبلته.
أما المصيبة التي تنتاب الإنسان عند المرض، فهي ليست بمصيبة حقيقية، بل هي لطف رباني، لأنها تطهير له من الذنوب، وغسل له من أدران الخطايا(1).
ويقف النورسي وقفة متأنية عند المصيبة التي تكون بكسب من الإنسان كالآثام والذنوب، وما يلج إلى ذهنه من شبهات، فتلك في رأي النورسي تشق جروحاً غائرة في القلب، وتفجر قروحاً دامية في الروح، عندها يحتاج إلى المناجاة الأيوبية الكريمة ( أَنِّي مَسَّنيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(2).
وذلك لأن أيوب –عليه السلام- ظل صابراً ردحاً من الزمن، يكابد ألم المرض العضال، حتى سرت القروح والجروح إلى جسمه كله، ومع ذلك كان صابراً جلداً يرجو ثوابه العظيم من العلي القدير. وحينما أصابت الديدان الناشئة من جروحه قلبه ولسانه اللذين هما محل ذكر الله وموضع معرفته، تضرع إلى ربه بهذه المناجاة الرقيقة: "إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين" خشية أن يصيب عبادته خلل، ولم يتضرع إليه طالباً للراحة قط، فاستجاب الله العلي القدير لتلك المناجاة الخالصة استجابة خارقة بما هو فوق المعتاد، وكشف عنه ضره، وأحسن إليه العاقبة التامة، وأسبغ عليه ألطاف رحمته العميمة(3).
وحاجة المبتلى إلى تلك المناجاة أضعاف حاجة أيوب إليها، خاصة وأن الوساوس والشكوك المتولدة من الجروح المعنوية، والشروخ الروحية القادمة من ارتكاب الآثام واقتراف الذنوب تصيب باطن القلب الذي هو مستقر الإيمان، فتزعزع الإيمان فيه، وتمس اللسان الذي هو مترجم الإيمان، فتسلبه لذة الذكر، ومتعته الروحية، ولا تزال تنفره من ذكر الله حتى تسكته كلياً(4).
__________
(1) - المصدر السابق ص 16 و 17.
(2) - الأنبياء 83.
(3) - اللمعات – النورسي ص10.
(4) - المصدر السابق ص 11.(5/70)
وكما يرى النورسي فإن المؤمن الذي يشعر بعجزه إزاء المصائب، وضعفه إزاء البلايا، يلتجئ إلى الله ويتوجه إليه، فيؤدي بهذا عبادة خالصة زكية، لا يدخل فيها الرياء قط، فإذا ما تجمل المصاب بالصبر، وفكر في ثواب ضره عن الله، تحولت كل ساعات عذابه وألمه وكأنها يوم من العبادة. فيغدو عمره القصير مديداً طويلاً، بل تتحول كل دقيقة من دقائق عمره بمثابة يوم من العبادة(1).
وإن دل على هذا شئ إنما يدل على أن النورسي لا يرى من الصبر إلا جانبه الحركي، لا السكوني، لأن الصبر الحركي ومن الزاوية التكليفية خاص بالحكم الشرعي أمراً أو نهياً، إلا أنه عام في كل حركة. وهذا النوع من الصبر لكونه حبساً لقوى المؤمن على العبادة يصدر من المؤمن عن طواعية واختيار ورضا، ولذلك يوصف دوماً بأنه صبر فيه إيثار ومحبة لله تعالى.
وعلى أي حال فإن هذا الصبر يقتضي دوام رضا المؤمن فيما يحكم به الله عليه من أحكام قدرية أو شرعية، وذلك لأن حب المؤمن لله، يحبب إليه حكمه تعالى، فتطيب نفسه بالابتلاء، فهو أمام أمرين: حبه لله ولأحكامه من جهة. وألم المصيبة ووقعها في نفسه من جهة أخرى، فكلما تألمت نفسه للمصيبة قابلتها محبة فأزالت آثارها، فيبطل الألم وتثبت في القلب لذة المحبة وحلاوة المناجاة.
عندئذ يقفز المؤمن بالصبر من دائرة الانتساب، فيرتفع مترقياً إلى أعلى ذروة في الإيمان، ويحتل أسمى منزلة، وهي منزلة المعية الدائمة مع الله، وتلك عين المحبوبية، والتي يظهر من خلالها شرف المؤمن وسر امتيازه على الخلق أجمعين.
هذا عن الصبر، أما الشكر: فإن سعة معناه قد دفعت بالنورسي لأن ينظر إليه نظرة تخالف نظرته للصبر، وذلك لأن الشكر يحتل نقطة مركزية في الوجود تجعل كل شئ يدور حوله ويعود إليه، فيقول:
__________
(1) - المصدر السابق ص 13.(5/71)
"إن الله تعالى قد خلق الإنسان مرآة جامعة لجميع أسمائه الحسنى، وأبدعه معجزة دالة على قدرته، فهو يملك أجهزة يتمكم بها من تثمين وتقدير جميع مدخرات خزائن رحمته الواسعة ومعرفتها، وخلقه على صورة خليفة الأرض الذي يملك من الأجهزة الحساسية بحيث تتمكن من قياس أدق تجليات الأسماء الحسنى، فلأجل هذا أودع تعالى في هذا الإنسان فاقة لا حد لها، وجعله محتاجاً إلى أنواع لا تحد من الرزق المادي والمعنوي، وما الوسيلة التي تمكّن الإنسان من العروج بها إلى أسمى مقام إلا الشكر"(1).
والشكر وإن احتل هذه المنزلة الرفيعة في حركة الإنسان الحياتية. فهو –أيضاً- يشغل مكانة لا تقل عنها في الوجود وبين المخلوقات. فيقول النورسي موضحاً ذلك:
"ومثلما يبيّن القرآن أن الشكر نتيجة الخلق والغاية منه، فالكون يظهر –أيضاً- أن أهم نتيجة لخلق الكائنات هي الشكر. ذلك لأنه إذا ما أُمعن النظر في الكائنات لتبين لنا: أن هيأة الكون ومحتوياته قد صممت بشكل، ووضعت على نمط، بحيث تنتج الشكر، وتفضي إليه، فكل شئ متطلع ومتوجه إلى الشكر، حتى كأن أهم ثمرة في شجرة الخلق هذه هي الشكر، بل كأن أرقى سلعة من بين السلع التي ينتجها مصنع الكون هذا هي الشكر"(2).
ثم يتوسع النورسي في شرح ما مضى قائلاً:
"إن الوجود كله يتحرك في دوائر، كل منها تخدم الأخرى. فمثلاً إن جميع موجودات العالم قد صممت بطراز يشبه دائرة عظيمة، وخلقت الحياة لتمثل نقطة المركز فيها، فنرى: أن جميع الموجودات تخدم الحياة وترعاها، وتتوجه إليها. ثم نرى أن موجودات عوالم ذوي الحياة هي الأخرى قد أوجدت على شكل دائرة واسعة، بحيث يتبوأ الإنسان فيها المركز، فالغايات المرجوة من الأحياء تتمركز في هذا الإنسان، والله –تعالى- يحشد جميع الأحياء حول الإنسان، ويسخر الجميع لأجله وفي خدمته.
__________
(1) - المكتوبات – النورسي ص 469.
(2) - المصدر السابق ص 470.(5/72)
ثم نرى أن عالم الإنسان يتشكل بما يشبه دائرة، وقد وضع في مركزها الرزق، وغرز الشوق إلى الرزق في الإنسان وأصبح بهذا الشوق في خدمة الرزق، فالرزق يحكمه ويستولي عليه. ومثلما يحيط كل شئ بالرزق ويتطلع إليه، فالرزق نفسه أيضاً قائم بالشكر معنى ومادة، وحالاً ومقالاً، ويحصل بالشكر، وينتج الشكر، ويبين الشكر، ويريه، لأن اشتهاء الرزق والاشتياق إليه نوع من شكر فطري. أما الالتذاذ والتذوق فهما شكر –أيضاً- ولكن بصورة غير شعورية"(1).
انتهى النورسي من بعد هذا إلى أن في الشكر إيماناً صافياً لأن الذي يأكل تفاحة –مثلاً- باسم الله ويختم أكلها بالحمد لله، فإنما يعلن الشكر بعمله هذا، على أن تلك التفاحة تذكار خالص صادر مباشرة من يد القدرة الإلهية، وهدية مهداة من خزينة الرحمة الإلهية، فهو بهذا القول والاعتقاد به، يسلم كل شئ إلى يد القدرة الإلهية، ويدرك تجلي الرحمة الإلهية في كل شئ، ومن ثم يظهر إيماناً حقيقياً(2).
إن وضع النورسي للشكر في قلب الوجود، ثم اعتبار الشكر نفسه إيماناً هو الذي جعله يخلص في خاتمة تحليله إلى أن الشكر في حقيقته " ما هو إلا رؤية الإنعام في النعمة"(3) أو بمعنى آخر ما هو إلا انكشاف وانفتاح المؤمن للنعم الإلهية، ولكنها رؤية وانكشاف بعين الفؤاد، وذلك لأن الفؤاد –كما بينا- عن طريقه يبصر القلب، ويعاين تلك النعم، فيعلم أن الله وحده هو المنعم الفعلي، عندها يطمئن القلب إلى الله، ولا نقصد بالطمأنينة –هنا- إلا تلك الحالة التي يشعر فيها المنْعَمُ بالراحة والثقة والركون إلى بارئه تعالى، وبها يسميه الله مؤمناً، وبانكشاف الفؤاد ورؤيته للنعمة يسميه شاكراً.
__________
(1) - المصدر السابق ص 471.
(2) - المصدر السابق ص 452.
(3) - المثنوي العربي النوري – النورسي ص 225.(5/73)
أما الكافر: فلا سبيل لأن تنفتح عينا فؤاده لنعم الله، ليؤدي شكرها، فهو في ذلك على عكس المؤمن يسميه الله –نتيجة حرمانه من الطمأنينة، ولعدم ثقته بالله- كافراً، وبانغلاق فؤاده جاحداً ومنكراً.
وهكذا يتبوأ الشكر كالصبر ذروة الإيمان في قلب المؤمن، ويحتل كالصبر أشرف مكانة وأعزها، ولكنه يختلف عنه في أن الصبر أداء حركي، يجعل المؤمن في معية دائمة مع الله، في حين يتخذ الشكر معنى قلبياً، فيه التعبير المباشر عن ذات الإنسان الجامعة لصفات العبودية والخلافة والنيابة معاً.
ثمرة الإيمان
عندما تفضل الله – تعالى- على الإنسان بالتكليف كان باعثه وغرضه إيصاله إلى نهاية المطلوب، وتخليصه –في الوقت نفسه- من نهاية المحذور.
الأولى: هي المنفعة الخالصة. والثانية: هي المضرة الخالصة. وكلاهما لا يبلغهما الإنسان المكلَّف إلا بالتكليف.
غير أن المكلَّف لا ينال المنفعة الخالصة أو السعادة الأبدية –كما يسميها النورسي- إلا بعد اجتيازه مرحلة العبادة والعبودية، حيث ينقاد فيها إلى أوامر الله ونواهيه، ولأن السعادة الأبدية ذات منزلة عظيمة وسامية، فلا تنال بمجرد العبادة، إذ حظ الإنسان الذاتي فيها قليل، وإنما تنال بنفس الكيفية التي كان يتعبد بها الله في الدنيا.
فإذا كانت عبادته لله –تعالى- غاية في التذلل والحب الخضوع مع غاية التعظيم، اقترنت سعادته في دار الجزاء بالتعظيم والإجلال، وإذا انصرف عن عبادة الله –غير متحرز من المضار- اقترن عذابه وشقاؤه في الآخرة بالاستخفاف والإهانة، وتلك هي الثمرة الحقيقية للعبادة، وثمرة الإيمان والتكليف معاً.(5/74)
ومن هنا جاء تأكيد النورسي على أن هناك حياة أخرى، فيها ينال الإنسان إما السعادة الأبدية أو الشقاء الدائم، وهو يستدل عليها ببداهة ما نراه في الكون من النظام الشامل، والتناسق البديع المقصود في جميع أجزاء الكون، حيث نشاهد رشحات الإرادة ولمعان القصد في كل جهة، حتى نبصر نور القصد في كل شئ، وضياء الإرادة الإلهية في كل شأن، ولمعان الاختيار في كل حركة.
ولو لم يكن هناك حياة أخرى، فماذا يعني هذا النظام؟ إنه سيبقى مجرد صورة ضعيفة باهتة واهية، وسيكون نظاماً كاذباً بدون أساس. وستذهب المعنويات والروابط والنسب –التي هي روح النظام، والتناسق البديع- هباء منثوراً، فالحياة الأخرى هي التي جعلت هذا النظام نظاماً فعلاً، وأعطت له معنى، ولذا فالنظام يشير إلى تلك الحياة الأخرى(1).
ثم يثبت النورسي من جهة العقل والحكمة والاستقراء ما يقتضي ضرورة الآخرة، وذلك من خلال ملاحظته الدؤوبة أنه لا عبث ولا إسراف في الخلق ودليله على ذلك: أن الخالق قد اختار لخلق كل شئ أقرب طريقة، وأدنى جهة، وأرق صورة، وأجمل كيفية، فقد يسند إلى شئ واحد مائة وظيفة. وقد يعلق على شئ دقيق واحد ألفاً من الغايات والنتائج، فما دام ليس هناك إسراف، ولا يمكن أن يكون هناك عبث، فلا بد من تتحقق تلك الحياة الأخرى، وذلك إن لم يكن هناك رجوع إلى الحياة من جديد. فإن العدم يحول كل شئ إلى عبث، بمعنى أن كل شئ كان إسرافاً وهدراً(2).
__________
(1) - الكلمات – النورسي ص613.
(2) - المصدر السابق ص 614.(5/75)
ينتهي النورسي من هذا إلى "أن عدم اليوم الآخر والحياة الأخرى في حكم المحال، حيث عدمها يعني تبدل الرحمة التي هي منتهى الجمال إلى قسوة في منتهى البشاعة، ويعني تحول كمال الحكمة إلى نقص العبث القاصر وغاية الإسراف، ويعني انقلاب العناية التي هي في منتهى الحسن واللطف إلى إهانة في منتهى القبح والمرارة، ويعني تغير العدالة التي هي في منتهى الإنصاف والحق إلى ظلمات في أشد القسوة والباطل.
ثم إن في عدم مجيء الآخرة سقوط هيبة السلطة السرمدية، ويعني اتهام كمال الربوبية بالعجز والقصور، فكل هذا باطل ومحال، لا يقبله عقل أي إنسان مهما كان، وهو الممتنع والخارج عن دائرة الإمكان، لأن كل ذي شعور يعلم أن الله قد خلق هذا الإنسان في أحسن تقويم وربّاه أحسن تربية، وزوده من الأجهزة والأعضاء كالعقل والقلب ما يتطلع به إلى الحياة الأبدية، ويسوقه نحوها ويدرك كذلك مدى الظلم والفسق إذا ما انتهى مصير هذا الإنسان إلى العدم الأبدي"(1).
وكما يؤكد النورسي على ضرورة وحتمية الحياة الأخرى يؤكد –أيضاً- على أن السعادة الأبدية من مقتضيات الرحمة الإلهية فيقول:
"إن رحمة الله تعالى تدل على السعادة الأبدية، وهي التي جعلت النعمة نعمة فعلاً، وأنقذتها من النقمة، ونجّت المخلوقات من نحيب الفراق الأبدي، هي السعادة الخالدة، ودار الخلود، وهي من شأن الرحمة التي لا تحرم البشر منها، إذ لو لم توهب تلك السعادة التي هي رأس كل نعمة وغايتها ونتيجتها الأساس، أي لو لم تبعث الدنيا بعد موتها بصورة أخرى لتحولت جميع النعم إلى نقم، وهذا يستلزم إنكار الرحمة الإلهية الظاهرة بداهة وبالضرورة في الكون، والثابتة بشهادة جميع الكائنات"(2).
__________
(1) - المصدر السايق ص 97.
(2) - الكلمات – النورسي ص 599.(5/76)
وأبدية السعادة –في رأي النورسي- فطرة في الإنسان، ونابعة من كونه لم يخلق للفناء، بل خلق للبقاء الدائم، وأما اشتياقه للبقاء والأبدية فيدل على أنه خلق أولاً في عالم ألطف من هذا العالم وأرسل إلى هنا ليتجهز ويعود إليه من جديد(1).
ولا يكتفي النورسي بما انتهى إليه، بل يمضي قدماً ليبرهن على أن في وجود الله –تعالى- ضماناً لوجود هذه السعادة، وذلك لأن الربوبية المطلقة ما دامت تتجلى في هذه الكائنات، وهي ذات جلال وعظمة، وحكمة ورأفة ظاهرة، فلا بد أن هناك سعادة أبدية تنفي عن الربوبية المطلقة أي ظن بكونها تترك الخلق هملاً دون ثواب، وتبرئ الحكمة من العبث، وتصون الرأفة من الغدر"(2).
وفي مقابل السعادة الأبدية اقتضت الرحمة الإلهية الشقاء أو العذاب، يقول النورسي:
" إن وجود جهنم وعذابها لا ينافي مطلقاً الرحمة غير المحدودة، ولا الحكمة والعدالة، بل إن الرحمة والعدالة والحكمة تتطلب وجود جهنم، وتقتضيه، لأن قتل حيوان مفترس افترس مئة من الحيوانات، أو إنزال عقاب بظالم هتك حرمات ألف من الأبرياء، إنما هو رحمة بآلاف الأضعاف للمظلومين من خلال العدالة، وإن إعفاء ذلك الظالم من العقاب أو التجاوز عنه، وترك ذلك الحيوان الوحشي طليقاً، فيه ظلم شفيع، وعدم رحمة لمئات المساكين بمئات الأضعاف إزاء رحمة في غير موضعها.
ومثل هذا –أيضاً- الكافر، فإنه بكفره ينكر حقوق الأسماء الإلهية الحسنى، أي يتعدى عن تلك الحقوق، وبتكذيبه لشهادة الموجودات، يتعدى على حقوقها أيضاً. وبإنكاره الوظائف السامية للمخلوقات يتجاوز على حقوقها. وبجحوده لأنواع العبادات التي تؤديها المخلوقات تجاه مظاهر الربوبية والألوهية، يتعدى تعدياً صارخاً على حقوق جميع المخلوقات.
__________
(1) - المثنوي العربي النوري – النورسي ص 304.
(2) - الكلمات- النورسي ص602.(5/77)
لكل هذا فإن عدم إلقاء مثل هذا الكافر في جنهم –رحمة به- إنما هو أمر ينافي الرحمة منافاة كلية في حق الأعداد الهائلة من المخلوقات والكائنات التي انتهكت حقوقها"(1).
من هذا وذاك نصل –مع النورسي- إلى أن ثمرة الإيمان والتكليف معاً هو النفع المحض. وثمرة الكفر والجحود هو المضرة الخالصة، والنفع كما هو معروف يأتي دوماً بمعنى اللذة والسرور، واللذة حس نفسي مريح، يفرق فيه المرء بين ما هو مريح ومؤذ، فيحكم على ما يلتذ ويدركه بأنه لذة، والسرور مثله لذة قلبية، ولكنه لذة خالصة وخالية من الحزن.
أما الضر فهو الألم والحزن، فالألم هو الإيجاع القاسي والشديد، أي هو في مقابل اللذة والحزن، على النقيض من السرور. أي إنه ألم يغمر النفس ويغرقها في دوامة من الغمِّ والكآبة. فيضيق به الصدر، وينقبض من جرائه القلب.
بيد أن النفع والضر –كما قلنا في بداية الحديث- لا يعدان ثمرة طبيعية للإيمان إلا بعد دخول الكيفية التي يمنح بها كل منهما للمؤمن، فبدخول التعظيم والإجلال على المنفعة تتولد السعادة من اللذة والسرور كثمرة من ثمار النفع، وبدخول الاستخفاف والإهانة على المضرة يتولد الشقاء من الألم والحزن كثمرة مُرَّة من ثمار الضر.
المراجع
المراجع الأساسية :
الكلمات – سعيد النورسي- ترجمة احسان قاسم الصالحى- دار سوزلر للنشر-1922 استانبول.
المكتوبات - سعيد النورسي- ترجمة احسان قاسم الصالحى- دار سوزلر للنشر-1922 استانبول.
اللمعات – سعيد النورسي – ترجمة احسان قاسم الصالحي – دار سوزلر للنشر – 1993 استانبول.
الشعاعات- سعيد النورسي- ترجمة إحسان قاسم الصالحي - دار سوزلر للنشر – 1993 استانبول.
المثنوي العربي النوري - سعيد النورسي – تحقيق احسان قاسم الصالحي – دار سوزلر للنشر – 1994 استانبول.
المصادر الفرعية :
__________
(1) - المصدر السابق ص 77.(5/78)
1 ـ الأربعين في أُصول الدين، فخرالدين بن محمد بن عمر الرازى، مطبعة دار المعارف العثمانية، حيدرآباد، 1353 هـ.
2- بيان الفرق بين الصدر والقلب والفؤاد واللب، الحكيم الترمذي، تحقيق د. نيقولا زيادة. دار إحياء الكتب العربية، القاهرة 1958.
3 ـ حاشية الدسوقى على أم البراهين، محمد الدسوقى، دار الفكر، بيروت، د. ت
4 ـ الفتوحات المكية جـ (4) ، محىالدين بن عربى ، تحقيق عثمان يحيى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1977.
5 ـ الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، أبو البقاء أيوب الكفوي ، تحقيق عدنان درويش ومحمد المصري ، مؤسسة الرسالة، بيروت 1993.
6 ـ الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت(5/79)
التعليم في ضوء فكر النورسي
الدكتور إبراهيم أبو محمد
المقدمة
في شهر مارس 1993 كنت في زيارة لمدينة سدني لإلقاء بعض المحاضرات ، وأذكر بعد انتهائي من المحاضرة اقترب مني رجل وقور وسألني قائلاً : "يا أستاذ : هل قرأت لسعيد النورسي؟"
وكانت إجابتي بالنفي لأني لا أعرف الرجل ولم أسمع به من قبل.. لكن السائل تعجب وبدت عيه علامات الحيرة ، وقال "سبحان الله .. نفس الأفكار ، بل نفس العبارات أحياناً " وقلت له : "ماذا تقول؟" ، قال: " لا ، لا شيء يا أستاذ" ، وانصرف الرجل ..
وبعدها بثلاثة أعوام تكرر الموقف ذاته والسؤال نفسه في جامعة سدني بعد انتهائي من أحد المحاضرات .. ولفت نظري تكرار الاسم "سعيد النورسي" ، لكني لم أعر المسألة أي اهتمام .. وقلت لنفسي ربما كان النورسي هذا واحداً من شيوخ الطرق الصوفية الذين يهتم البعض بهم ويصنعون حولهم هالات تصل في كثير من الأحيان إلى مستوى الأساطير .
وفي عام 1996 كنت ألقي محاضرة في جامعة ماكواري واقترب مني شاب إيطالي مسلم وسألني سؤالاً كان جوابه قاطعاً بالنسبة لي . قال السائل: "تعتقد يا دكتور أيهما أكثر تأثيراً في إحياء اليقظة الإسلامية في القرن العشرين حسن البنا أم سعيد النورسي؟" وقلت على الفور بالطبع الإمام الشهيد حسن البنا والمقارنة هنا ليست عادلة ، فمن هو هذا الذي تضعه في مستوى الإمام الشهيد ؟؟(6/1)
وانصرفت .. لكن السؤال لفت نظري هذه المرة إلى هذا الاسم الذي تكرر على مسامعي من قبل .. ومرت الأيام، وكنت ألقي محاضرة في مسجد الإمام علي بن أبي طالب بحي لاكمبا بمدينة سدني، وبعد الإنتهاء اقترب مني ذاك الرجل الوقور وهنأني على المحاضرة وشكرني على حسن العرض، وأخرج بطاقة تحمل اسمه وعنوانه وكان اسمه إحسان قاسم الصالحي .. رجل من مسلمي تركيا ، بلد الخلافة التي اغتيلت .. وقرأت البطاقة فإذا به هو مدير مركز أبحاث النور . وتساءلت ما هو مركز أبحاث النور فقيل لي إنه مركز متخصص في العناية برسائل النور لسعيد النورسي، دراسةً وتحقيقاً وترجمة . وتعجبت ! ألهذا الشيخ مركز دراسات؟ فإذا بالأستاذ إحسان يكلف بعض طلابه أن يمدني ببعض هذه الرسائل، ومن هنا بدأت أتعرف على الرجل شيئاً فشيئاً ، ثم دعيت في عام 1999 إلى مؤتمر حركة التجديد في القرن الواحد والعشرين وكلفت بإعداد بحث عن التعليم في القرن الواحد والعشرين على ضوء فكر النورسي ، وكانت الدعوة من جامعة Kebangsaan Malaysia .(6/2)
ومن هنا بدأت صلتي بهذا الرجل من نافذة هذا البحث الذي تمكنت فيه أن أغوص في آثاره العلمية ومؤلفاته التي بلغت ثمان مجلدات بدأت بالكلمات والمكتوبات واللمعات وإشارات الإعجاز والشعاعات والمثنوي العربي والملاحق، وانتهت بصيقل الإسلام وشعرت بالخجل الشديد وأنا أتابع فكر هذا الرجل ، كما أحسست بكثير من الآلام لأن أعلاما كبارا في حياة أمتنا يعيشون حياتهم مليئة بالجهاد والتضحيات ثمّ يموتون في صمت وتحاول قوى شريرة أن تهيل التراب على جهادهم وجهدهم وتنقطع خطوط التواصل بين جيل وجيل كي تعيش أمتنا مهمّشة لا تعرف كثيراٌ عن أمجادها وكي تبتر الروابط والصلات بين الماضي والحاضر فتعيش الجماهير بلا رأس ولا رمز ولا مرجعية, بلا رأس تفكر ولا رمز للبطولة تلتف حوله وتلتقي عند أمجاده, ولا مرجعية تلجأ إليها وتلوذ بها عند الاختلاف ونزول النوائب وهكذا تغيب أجيالنا بإهمال منّا حيناٌ و بفعل أعدائنا في كثير من الأحيان.
والنموذج هو هذا الرجل العلامة الذي عاش حراٌ رغم القيود والأغلال ومتحدياٌ بكلماته رغم سجون الباطل ومعتقلاته ومواجهاٌ رغم خلو يده من أي سلاح إلاّ سلاح الإيمان والفكر والعقل والعزيمة التي لا تلين والإرادة التي لا تقهر, وبرغم الحصار الشديد فقد نفذت كلماته إلي قلوب طلابه ومريديه وكأنها الضوء والسنا حين يبدل الليل الطويل المعتكر بل وتجاوزت كل هؤلاء إلي آخرين لم يكونوا يعرفونه من قبل ولا يعرفون قدره ولا يقدرون خطره وآثاره.
وهكذا يريد الله شيئاٌ ويريد الباطل شيئاٌ آخر…لكنّ إرادة الله تنفذ وقدره يجري (والله غالب على أمره ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون).(6/3)
لذلك رأيت أن أقدم هذا البحث لجماهير القرّاء لا تعريفاٌ بالنورسي ولا مدحا له فالرجل أكبر من أن يعرّف و أجلّ من أن يمدح وقد شاء الله له أن يكون علامة بارزة ومعلماٌ من معالم الفكر والجهاد في القرن العشرين, وإنما أردت أن أبسط رؤيته وروآه في قضية من أخطر قضايا التحدي في حياة أمّتنا في القرن الواحد والعشرين وهي قضية التعليم, وذلك إسهاماٌ منّي في تقدير هذا الرجل العظيم وتكفيراٌ عن خطيئة الجهل به وأرجو الله أن يتقبّل منّي وأن يغفر لي وأن يهدينا جميعاٌ سواء السبيل.
سيدني في 6 شوّال 1420هجرية
الموافق 13 يناير 2000
مدخل
نبذة عن اهمية التعليم
الإنسان يأتي إلى الوجود طفلاً قاصر العقل ضعيف الجسم لا يعي شيئاً من حوله ، ثم يبدأ هذا الإنسان في النمو الجسمي والارتقاء العقلي شيئاً فشيئاً ومرحلة بعد مرحلة ، فيتعرف على الأشياء من حوله ، وتستمر هذه المراحل حتى يتم نضوجه ويكتمل نموه ويبلغ أشده ، ووسيلته إلى تحصيل المعارف والتعلم المستمر مجموعة من وسائل الإدراك الممنوحة له من قبل الخالق جل شأنه ، تنمو معه وتزداد اتساعاً وشمولاً مع نموه البدني حتى ينضج عقلاً وبدناً ، ومن ثم تتسع مداركه ويدرك حقيقة ما يحيط به من الأشخاص والأشياء ، ويعرف ما له وما عليه بعد تجارب متعددة تكسبه الخبرة بالأشياء المحيطة ، ومن ثم يبدأ في تكوين وجوده المعنوي الذي تبنى عليه شخصيته ويؤسس عليه كيانه في المجتمع المحيط به .
أهمية التعليم بالنسبة للمسلمين
الإسلام يأبى أن يعيش الإنسان جاهلاً بليد الذهن معطل العقل محجوباً عن الحقائق التي تحيط به في الكون والحياة ، ولذلك تعددت وتضافرت النصوص التي تلفت الإنسان إلى ما حوله وتشده عقلاً وقلباً إلى آيات الله في هذا الوجود بل وفي النفس أيضاً ، يقول تعالى:(6/4)
{ إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم * ويتفكرون في خلق السموات والأرض * ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار } (1)
ويقول جل شأنه:
{ وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون (2) }
منهج الإسلام إذاً يعتبر طلب العلم فريضة يصلح بها الدين وتصلح بها الدنيا معاً ، وهو منهج يمد عقل الإنسان وفكره بالحقائق اليقينية ، ويربط بينه وبين الكون الذي يحيط به ، ويطلب من الإنسان أن يتزود بالعلم ليعرف كيف يتعامل مع السنن الكونية وسنن الحياة .
وليست غاية التعليم في منهج الإسلام أن يبرز الإنسان في نوع معين من العلم يرتبط بشأن من شئون الحياة ثم يكون جاهلاً فيما عداه ، كما أن الغاية من التعليم ليست الوقوف بظاهر العلم عند حدود القشور وتحصيل العائد المادي وانتهى الأمر دون النظر إلى عواقب الأمور ومآلية الإنسان كما هو الحال عند الأيديولوجيات والفلسفات الأخرى، فتلك نظرة مبتورة وسعى مردود، لأنها في أول الأمر وآخره لن تحقق للفرد أمنه العقلي ولن تحقق للمجتمع أمنه النفسي والاجتماعي، لأن الوسائل فيها قطعت عن الغايات فلم يعد العلم هنا بعائد ذي طائل لا على مستوى الفرد ولا على مستوى المجتمع، حيث بقيت النفوس بظلامها الدامس حتى ولو بدلت في عيشها من سكن الكهوف إلى السكن في ناطحات السحاب أو خرجت من كوكب الأرض وصعدت فوق القمر المنير، فالأمر هنا لا يعني إلا تقدم الآلة وتأخر الإنسان ، يقول تعالى:
{ فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا * ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى } (3)
__________
(1) آل عمران: 190-191
(2) الذاريات: 20،21
(3) النجم: 30(6/5)
الإسلام يرفض هذه النظرة ويأباها ، لأنه منهج يربط بين الوسائل والغايات ، ولا يقطع النظر في الكون عن التفكير فيمن خلق وأبدع وكوَّن ، وهنا تتحقق وتتبدى غاية أخرى تتجاوز حدود المادة بثقلها وقصور اهتماماتها لتصل إلى قناعة عقلية ونفسية عظيمة الأثر، كبيرة الجدوى، عميقة البعد في تعديل مسار الذات الإنسانية نحو الكمال والرشد حين تكتسب في كل عملية تعليمية كدحاً جديداً أو رقياً في سلم الحقائق، تتيقن من خلاله أن لهذا الكون رباً يدبر أمره ويقوم على كل شيء فيه، ومن هنا تتحول العملية التعليمية إلى وسيلة لغاية أعظم وأجل ، وهي معرفة خالق الكون وواهب الحياة ، فمن عرف الحياة وتوصل من خلالها إلى الإيمان بالخالق العظيم فهو الإنسان حقاً ، وهو المتعلم حقاً وهذا هو التعليم الذي يفرضه الإسلام على أتباعه والمؤمنين به ، ويحيل طلبه قربى إلى الله وعبادة ولو كان في مجال المادة البحتة .
العلاقة بين التعليم والتربية
يقصد بكلمة التربية عملية تكوين الإنسان وصياغته وفق مبادئ معينة ومنهج معين ، ومن هنا تختلف العمليات التربوية باختلاف المناهج واختلاف المجتمعات ، ولا شك أن للتربية دوراً كبيراً في الاتجاهات السلوكية بالنسبة للإنسان ، كما أنها هي التي تحدد دوره في الحياة وتحدد علاقاته وارتباطاته بالزمان والمكان والبيئة ، وتحدد تصوره نحو المجتمع والكون والحياة .(6/6)
ومنهج الإسلام في التربية يتعامل مع الإنسان بشمولية، فهو لا يلبي حاجة على حساب أخرى ولا ينمي جانباً على حساب جانب آخر، فلا يقسم الإنسان إلى مربعات يتعامل مع البعض ويهمل الجوانب الأخرى، أو يوجه بعض الطاقات في اتجاه معين ثم يترك بقية الاتجاهات داخل الإنسان، إنه منهج يؤَمِّن لكل جانب احتياجاته وبالقدر المناسب، فهو يؤَمِّن جانب الروح بالعبادة والتزكية ومداومة الذكر والتطهر من الآثام، ويؤَمِّن جانب العقل بالتفكير المنظم والتأمل الجاد والنظر المتبصر، ويؤمن جانب الجسد بتلبية احتياجاته في الطعام والشراب والجنس والكساء المادي ، فيحيا الإنسان متوازناً سوياً قادراً على أداء وظيفته بعدما تحققت إنسانيته باكتمال العناصر الثلاثة فيه: الروح والعقل والجسد، فليس بالروح وحدها يحيا الإنسان، وليس بالعقل وحده يحيا الإنسان، وليس بالجسد وحده يحيا الإنسان، بواحد منها يمكن أن يعيش إن عاش كما تعيش الأشباح، أو كما تعيش أي خلية بدائية على الأرض دون أن تعرف من أين جاءت؟ وما هو دورها ووظيفتها؟ ومن أنشأها؟ ومن أين مبدؤها وإلى أين منتهاها؟(6/7)
والإسلام يأبى لأتباعه أن يكونوا كذلك ، لذا فقد تنوعت تعاليمه ودارت توجيهاته حول تلبية هذه الاحتياجات عن طريق التربية الصحيحة والتعليم المستمر من خلال نصوص الوحي المعصوم قرآناً وسنة، فتكاملت في الذات الإسلامية الشخصية السوية التي أدركت من خلال هذا التوازن حقيقة ذاتها، واكتشفت نفسها من خلال الوحي العظيم، وآمنت بدورها الرائد في قيادة الدنيا وإصلاح الحياة وتحقيق الخلافة وإقامة العدل، كما اكتشفت مع اكتشاف ذاتها أنها ليست وحدها في هذا الوجود، وإنما هي جزء من المجتمع الذي تعيش فيه، والمجتمع جزء من الإنسانية، والإنسانية جزء من الكون الكبير، والكون هو ملك للمالك الأعلى جل وعلا، والرسالة التي تلقتها من الله إنما هي منهج يصلح به الدين والدنيا معاً، ويرسم للإنسانية خطاها من البدء إلى المنتهى، ويحمي مصالح الجميع في توافق فريد وانسجام منتظم، يرتقي بحركة الإنسان العقلية من خلال العلاقات المتشابكة والمعقدة من الفرد إلى المجتمع، ومن المجتمع إلى الإنسانية، ومن الإنسانية إلى الكون، ومن الكون إلى المكون ، في حالة من الصعود المستمر والكفاح الراقي في ميادين الوجود حتى يلقى الله وهو عنه راض، يقول تعالى:
{ يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه } (1)
وبقدر ما يتوفر للإنسان من معرفة بنفسه وبمحيطه بقدر ما يدرك أن مصدر أمنه كامن في نفسه وفي مقدرته على السيطرة على نزعاتها والتحكم فيها، فخروج النفس على التعاليم التي يحددها الدين للفرد والمجتمع يشكل انحرافاً نحو العدوان والهدم .
__________
(1) الانشقاق: 6(6/8)
ولذلك فقد أملت الفطرة كما أملت الحياة الاجتماعية ضوابط نفسية على الإنسان، إن لم يخضع لها شكَّل خطراً على نفسه وعلى غيره، لذلك فقد اتجهت تربية الإنسان البدائي في أول الأمر إلى السيطرة على نفسه، وهذا ما لاحظه علماء الاجتماع، إذ قالوا بأن الإنسان البدائي أتقن السيطرة على نفسه قبل إتقانه سيطرته على غيره، فالنفس الإنسانية مجبولة على قابلية الخير والشر والذي خلقها وسواها هو الذي وصفها بهذا الوصف حين قال جل شأنه:
{ ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها } (1)
وهذه حقيقة تعَرَّف عليها الفلاسفة وأدركتها عقولهم .
يقول الفارابي: "لا يمكن أن يفطر الإنسان من أول مرة بالطبع ذا فضيلة أو رذيلة، كما لا يمكن أن يفطر الإنسان بالطبع حائكاً ولا كاتباً، ولكن يمكن أن يفطر بالطبع معداً نحو أفعال فضيلة أو رذيلة."(2) فإذا مورست الفضيلة أو الرذيلة وتكررت تمكنت في النفس بالعادة فأصبحت هيئة وسمتاً تعرف به ، فالفضيلة تكتسب بالتعلم والممارسة ، فإذا تمردت النفس عليها أو لم تستجب لها تمكنت الرذيلة من الإنسان فأصبحت هيئة له وسمتاً.
وهذا ما يؤكده سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يرسي قيمة أخلاقية من قيم الإسلام فيربي عليها الجماعة المسلمة ويوصيهم بالتدريب والتمرس عليها والتحذير من الوقوع في نقيضها ، ألا وهي فضيلة الصدق ونقيضها رذيلة الكذب فيقول - صلى الله عليه وسلم - :
__________
(1) الشمس: 7-10
(2) أبو النصر الفارابي –كتاب فصول نقدية ص21 تحقيق د. فوزي النجار دار الشروق بيروت 1971(6/9)
"عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً."(1)
وهذا التوجيه النبوي الرشيد يظهر ما للتربية والمران من أثر في تكوين النفس الاجتماعية لدى الإنسان، وما للتمرس في غرس القيم والفضائل وتنميتها من أثر فعال في ذلك، فإذا ما تعودت النفس على الفضيلة ومارسها الإنسان في محيطه سعد وأسعد غيره ، فيسود الوفاق والصفاء، وهما أساس لكل أمن واطمئنان وسلام.
وإذا كان بعض الباحثين يرى أن التربية والتعليم شيئاً واحداً ولا فرق بينهما، فإن آخرين يرون أن التعليم أعم وأشمل من التربية يقول الدكتور عبد الفتاح جلال:
"كلمة التعليم أعم وأشمل في الفكر التربوي الإسلامي من كلمة التربية، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلم المسلمين تلاوة القرآن ، ولا تقتصر التلاوة على مجرد القراءة ، وإنما هي تلاوة تدبر ملؤها الفهم والإدراك والمسئولية واستشعار الأمانة ، فينتقل بهم من هذه التلاوة إلى التزكية ، وهي تطهير النفس البشرية وتنقيتها من الشوائب وجعلها في حالة تسمح لها بتلقي الحكمة وتعلم كل ما ينفعها وما لم تكن تعلمه ، أما التربية فالمقصود بها هو عملية الإعداد والرعاية في مرحلة النشأة الأولى للإنسان."(2)
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي مجلد 8 ج16 ص160 طبعة دار الفكر 1981
(2) بحث في الأصول التربوية في الإسلام ص16،17 المركز الدولي للتعليم الوظيفي للكبار جمهورية مصر العربية 1977(6/10)
وهناك من يرى أن التربية أعم وأشمل، وفي العصر الحاضر يقصد بالتعليم شيء آخر أقل شمولاً وأضيق من مدلول كلمة التربية ، فالتربية تشمل جوانب الشخصية كلها، وهي تستعين بوسائل متعددة ومتنوعة، ومنها التعليم ومؤسساته الذي قد يكون مقصوراً على تحصيل المعرفة وزيادتها، أما التربية فهي تتناول ما هو أشمل وأعمق في شخصية الفرد، بينما التعليم يتناول غالباً المعلومات، أي الناحية العقلية، وقد يتناول إتقان المهارات، بينما تتناول التربية ما هو أعم من ذلك إنها تتناول السلوك والعاطفة والاتجاهات الأخلاقية وإيقاظ المشاعر السامية والتدريب على الخلق الجميل، وكل عمل تعليمي جيد لا بد أن يكون له هدف تربوي، أي أن التعليم المثالي إنما هو تربية ولكنه يظل في الاصطلاح مرتبطاً بموضوع ما، فالتربية والتعليم ليسا متعارضين ولا منفصلين بل هما متآزران متكاملان."(1)
__________
(1) الدكتور عبد الرحمن الباني مدخل إلى التربية في ضوء الإسلام ص7 طبعة المكتب الإسلامي بيروت 1980(6/11)
والذي نراه أن الفرق بين التربية والتعليم هو فرق في المؤسسات والأهداف، وهذا الفرق ليس كبيراً كما يصورونه ، وينبغي أن ننظر إلى عمليتي التربية والتعليم نظرة متكاملة، وحيث يحدث الانفصام والانفصال فإن ثمة خللاً كبيراً يحدث في نفسية الفرد ثم ينعكس على سلوكه العام، ومن ثم يحدث الخلل الاجتماعي، وتلك خطورة ينبغي أن نحسب حسابها وأن توضع في الاعتبار . فالذين يذهبون إلى قصر التربية على تربية الأخلاق وتهذيب السلوك، ويقصرون التعليم على أنه جمع للحقائق والمعلومات ، أي أنه يتناول جانب العقل فقط ، لا يتفقون مع نظرة الإسلام الشاملة للإنسان، وينظرون إلى الإنسان نظرة مجزأة ينفصل فيها كل جانب عن الآخر في الكيان العام لهذا الإنسان . والحقيقة أن الإنسان ليس كذلك، وإنما هو كل متكامل لا يصلح بصلاح جانب وفساد آخر، وإذا كنا نضطر أحياناً للحديث عن الجانب المادي أو الجانب الروحي أو جانب العقل أو جانب العاطفة في هذا الإنسان فليس هذا تقسيم له ، وإنما هي ضرورة البحث التي تقتضي تناول كل جانب على حدة ، علماً بأن الإنسان يتكون من كل هذه الجانب، وتتحقق إنسانيته بكمالها وصلاحها وليس بصلاح جانب وفساد آخر، وبناء عليه فنحن نرفض عملية الفصل بين التربية والتعليم ونحذر من مغبتها ، ونرى أنهما عمليتان متداخلتان متلازمتان من حيث العائد العام في سلوك الإنسان وحياته، فأحياناً يطلق التعليم ويراد به التربية لأنه يكون مشتملاً على تعديل في السلوك والميول ولا يكون مجرد تجميع للمعلومات والمعارف، ولأنه لا فائدة من مجرد تجميع المعلومات وتحصيل المعارف ما لم يصحب ذلك تعديل وتنمية السلوك الإنساني، فجمع المعلومات والمعارف وتخزينها وتصنيفها ربما تقوم بها أجهزة الحاسب الآلي في عصرنا هذا ، لكن يبقى الإنسان هو الهدف من عملية التربية والتعليم، وإذا رجعنا إلى القرآن الكريم نستخلص من خلال نصوصه فصل الخطاب فإننا سنجد أن نصوص القرآن الكريم(6/12)
تحدثت عن عملية التربية في قوله تعالى:
{ واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً } (1)
وقوله تعالى:
{ ألم نربك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين } (2)
وقوله تعالى:
{ ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم } (3)
وقوله تعالى:
{ كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } (4)
فالنص الأول في قوله تعالى: { وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً(5) } والنص في قوله تعالى: { ألم نربك فينا وليداً } (6)، هذان نصان يتعلقان بمرحلة الطفولة المبكرة كما يبدو من السياق، أما النص الثالث في قوله تعالى: { ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم } (7)، فهذا النص قد جمع بين العمليتين معاً التعليم والتربية بغير فصل ولا تجزيء وبالتالي فالعمليتان مترابطتان متلازمتان بغير انفصال أو انقطاع، وأحياناً تتقدم عملية التعليم على التربية وأحيانا يحدث العكس، غير أن الذي لا يمكن أن يحدث هو الانفصال بين العمليتين أو التناقض بينهما كما تصور المناهج الأرضية، ولئن جاز للباحث المسلم أن يستفيد في مجال ما بخبرة الآخرين بحثاً عن الحكمة باعتبارها ضالة المؤمن، فما يجوز له أن يقبل كل ما يقال في مجال البحث بغير فرز أو تمحيص بحيث تتم عملية الاستفادة دون أن تحث شروخاً في تصور المسلم ودون أن يكون لها انعكاسات بالاختلاف والتناقض بين عقيدته ومنهج دينه. وإذا عدنا إلى النص الكريم في قوله تعالى:
{ كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون (8) }
__________
(1) الإسراء: 14
(2) الشعراء: 18
(3) البقرة: 128
(4) البقرة: 151
(5) الإسراء: 24
(6) الشعراء: 18
(7) البقرة: 129
(8) البقرة: 151(6/13)
نجد أن عملية التربية متمثلة في تزكية النفوس تقدمت على عملية التعليم، ويلاحظ أن النص الكريم حدد المهمة للرسول - صلى الله عليه وسلم -في ثلاثة أهداف متماسكة:
الهدف الأول هو المنهج ممثلاً في الوحي الأعلى باعتباره دعامة البناء النفسي والاجتماعي والقرآن هنا يطالب الرسول بتلاوة الآيات ومجرد التلاوة لا يكفي وإنما لا بد من المعايشة مع تعاليم هذا المنهج بتلاوته نصوصاً واستنباطه أحكاماً وتطبيقه منهجاً وهذا هو الهدف الأول للرسالة والرسول .
الهدف الثاني هو التربية بهذا المنهج تأمينا للمجتمع وتحقيقاً لسعادة أبنائه وقد اختار القرآن الكريم كلمة التزكية باعتبارها أقرب الكلمات وأكثرها دلالة على معنى التربية، ولعل اللفظين يترادفان في الدلالة على إصلاح النفس وتهذيب الطباع وشد الإنسان إلى أعلى كلما حاولت المثبطات والهواجس أن تسف به وتعوج.
الهدف الثالث هو التعليم وهذه العملية في تصورنا لا تقتصر على مجرد جمع المعلومات والمعارف وتصنيفها في الذهن، وإنما هي عملية تفتيق الملكات الإنسانية وتفجير طاقاتها وتنوير العقول والأذهان بما تحتاجه وتفتقر إليه النفس البشرية من هدايات في عالم الغيب وعالم الشهادة، بما يحقق للفرد والمجتمع أمنهما النفسي والاجتماعي من خلال السلوك الراشد الذي يتولد عن التربية الصحيحة والتعليم المفيد ، ومما لا شك فيه أن حالات التعدي على الأمن العام وتهديد أمن الناس فرداً ومجتمعاً ، مظهر من مظاهر الانحراف في البيئة ، يدل دلالة واضحة على غياب عمليتي التربية والتعليم بمعناهما الصحيح عن البيئة ، حيث تسيطر النوازع الفردية، ويسود الناس منطق الأنانية والأثرة والجري وراء الأهواء ورفض قيود القوانين لأنها تفتقر إلى عنصر القداسة في النفس الإنسانية .(6/14)
وإذا حاولنا أن نجد وصفاً لتجريم الفعل المضر بالفرد والمجتمع والدولة، وإذا حاولنا أن نضع من العقوبات والزواجر من عند أنفسنا لحماية أمن الفرد والمجتمع فلا يمكن أن نجد وصفاً يقبح الفعل الضار ويقتلع جذوره من المجتمع ويحمي الكيان العام من الإجرام والمجرمين مثلما يفعل منهج الإسلام ، ولنتأمل هذا النص على سبيل المثال لا الحصر ، يقول تعالى:
{ أنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى } (1)
وعلاج مثل هذه الحالات من الإجرام لا يتم إلا عن طريق التربية السليمة بتطهير النفس وتزكيتها وتعويدها على فعل الطاعات وعمل الخيرات . ويقول جل شأنه:
{ ومن يأتيه مؤمناً قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وذلك جزاء من تزكى } (2)
التزكية هنا ليست فقط عملية تدريب للنفس على فعل بعض الأشياء بطريقة آلية كما يتصور البعض، إنها تعني الإيمان والإصلاح ومقاومة الشر ومنع أسباب الجرائم وضبط الغرائز والشهوات ، ولا يتم ذلك إلا بمنهج الإسلام المتميز في ذاته المتفرد بتوجيهاته التي تتطابق مع فطرة الإنسان السوية المستقيمة ، والتي تستهدف حماية الإنسان من التدني بمنع أسباب الجرائم وبمنع الفوضى والتسيب والتشويش، وتحقق للفرد أمنه وللمجتمع سلامته بإقامة نظام خلقي دقيق يصوغ حركة الفرد والجماعة ويضبط السلوكيات العامة والخاصة بضوابط محكمة عن طريق العمليتين معاً، التعليم والتربية ، أو التربية والتعليم بغير جنوح للفصل بينهما وبغير وقوع في خطأ الاختلاف والتناقض بينهما كما تصور المناهج المعلبة التي تفد إلى البيئة المسلمة من هنا ومن هناك .
خلفية تاريخية
التعليم في عصر النورسي
__________
(1) طه: 74
(2) طه: 75(6/15)
لقد كان الانقلاب الذي عاشته تركيا بعد سقوط الخلافة انقلابا مروعاً، فقد طال الحياة في كل ميادينها وأثر تأثيرا مباشرا على قضية التعليم باعتبارها وسيلة من وسائل تكوين الشخصية، وعاشت تركيا فترة من التمزق والتشرذم والتخلف السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وسيطر الجهل وعمت الفوضى والخواء الروحي، وفرغ الإنسان المسلم من محتواه أو كاد بعد أن بسطت العلمانية نفوذها وسيطرتها على المرافق والمؤسسات العامة وصبغت البلاد بصبغة قطعت أو حاولت أن تقطع كل صلة بينها وبين الإسلام .(1)
فالعلماء قد قتلوا وشردوا ومن بقى منهم فر بدينه ودمه إلى البلدان المجاورة, وفى وسط هذا الغبار المثار الذي سود وجه الحياة في تركيا بلد الخلافة وعاصمة الإسلام لم يكن التعليم ذا معنى يذكر . وبالتالي فقد همشت التعاليم الإسلامية ، وألغيت الحروف العربية ، وألغى الآذان من فوق المآذن، وأضحت مصادر التعليم ومنابعه مجففة بقرار الساسة الجدد الذين التوت أعناقهم نحو الغرب، وأرادوا أن يستبدلوا شمس الإسلام بضباب أوروبا وجليدها البارد، وخيمت الماسونية بظلامها على الحياة في تركيا من خلال الجمعيات التي تعمل لها كجمعية الاتحاد والترقي وجمعية تركيا الفتاة، ولم يكن وسط هذا الظلام من ضوء يذكر غير ضوء القلب المؤمن المتحدى بإيمانه رياح الخماسين التي هبت على الحياة فعكرت صفوها ونشرت فيها جراثيم الجهل، ولم يكن هنالك من شعاع غير مواقف الرجل العظيم بصلابة إيمانه وقوة يقينه ترد التائهين الحائرين وتبعث في النفوس أمل الخلاص في يوم يراه الظالمون بعيدا ويراه المؤمنون قريبا.
__________
(1) الشعاعات ص 294(6/16)
وبعد تأسيس الاتحاد المحمدي في سنة 1909 رداً على دعاة القومية الطورانية والوطنية الضيقة ، انضم النورسي إلى تشكيلات خاصة وكان النورسي من أنشط أعضاء الاتحاد الذين أهابوا بالمسلمين أن يدافعوا عن الخلافة ، وبدأ يلقى دروسه ومحاضراته بين القبائل والعشائر مما كان له الأثر الفعال في إيقاظ الروح الإسلامية التي حاولت قوى خبيثة أن تميتها فى تركيا وأن تحي القومية الطورانية بديلاً عنها ، ولم يكن لتعاليم الدين من وجود فعال ، اللهم إلا من خلال ما تركه النورسي في رسائله وبين طلابه ومريديه ، فراحت هذه الرسائل تنتشر كما ينتشر الضوء والسنا في الليل الطويل المعتكر.
دور وتأثير النورسي في إحياء حركة التعليم
لقد تألقت رسائل النورسي وكأنها نسيم يحمل بشائر الشفاء لأمة طال مرضها وطال ليلها، وكانت مواقفه وكلماته بمثابة إكسير الحياة للهمم التي أصابها اليأس وحطمها القنوط، فكادت تستسلم، فلما تعرفت على مواقف الرجل وقرأت كلماته دبت فيها الحياة من جديد وبعثت فيها كل عناصر الاستعصاء على المسخ والتشويه والذوبان، واستيقظت روح المقاومة ضد الهزيمة النفسية والفكرية التي يريد العلمانيون أن يفرضوها على أبناء الأمة ، لذلك يوجه اتباعه بضرورة التصدي لهؤلاء عن طريق القراءة والتسلح بالعلم من خلال رسائله التي تفضح خططهم وتكشف خباياهم وتهتك ستر مؤامراتهم .
ولم تكن كلماته فقط هي التي تحمل إلى أتباعه المعنى العظيم لإيمان رجل عظيم بفكرته، وإنما كانت مواقفه أيضا تلك التي تتضمن أرقى درجات الصلابة في مواجهة الأعداء الذين يريدون إفساد الحياة والأحياء وذلك بقطع صلتهم بالإيمان الذي يمنح الحياة قيمتها ومعناها. ففي مواقف التحدي وما أكثرها في حياة الرجل يقول النورسي موجها كلامه للقضاة الذين يحاكموه:(6/17)
"ألا فلتعلموا جيدا أنه لو كان لي من الرؤوس بعدد ما في رأسي من شعر وفصل في كل يوم واحد منها عن جسدي فلن أحنى هذا الرأس الذي نذرته للحقائق القرآنية أمام الزنادقة."(1)
ولقد استطاع الرجل العظيم أن يؤثر تأثيراً إيجابياً في حياة المعلمين والمربين والموجهين باعتبارهم القنوات التي تحمل العلم إلى عقول الناشئة، وطالبهم بضرورة التحقيق والتوثيق مع القدرة على الموازنة ومعرفة الأحجام والكتل والنسب بين الأشياء حتى يتمكنوا من الإثبات والإقناع. ولكي تكون حجتهم أوضح ودليلهم أسند وأوثق لابد لهم أن يسلكوا مسلك القرآن في استعمال التجربة في الماديات المحسوسة واستعمال النظر والبرهان في العقليات، وذلك يقتضي صدق الرواية وسلامة التوثيق، لذلك يقول لهم :
"على الوعاظ والمرشدين المحترمين أن يكونوا محققين كي يتمكنوا من الإثبات والإقناع، وأن يكونوا أيضا حكماء مدققين كي لا يفسدوا توازن الشريعة، وأن يكونوا بلغاء مقنعين كي يوافق كلامهم حاجات العصر، وعليهم أن يزنوا الأمور بميزان الشريعة."(2)
وهكذا يزيح هذا الرجل العظيم بكلماته تلك أهم معوقات التعليم في زمنه، فليس من المقبول أن يعيش المرشد والمربى والواعظ خارج إطار الزمان والمكان، فهو في واد والناس والزمان والمكان في واد آخر، كما أنه ليس من المعقول ولا من المقبول أن يتعلق المربى والمرشد والواعظ بأسانيد واهية وقصص لا برهان له ولا دليل عليه، وتلك هي أهم أسباب رفض الفكرة وردها حين لا يملك المتحدث عنها دليلا صادقا وحجة ثابتة، كما أن المبالغة في حجم الفكرة أو الموضوع يفسد قيمتها ويجعلها موضعا للتشكك والظن، ويخل كذلك بميزان العدالة في الأحجام والأوزان والنسب بين الحقائق الدينية المتعددة.
__________
(1) الكلمات ص 856
(2) المحكمة العسكرية 69 انظر منهج الإصلاح والتغيير عند بديع الزمان النورسى ص 63 تأليف عبد الله الطنطاوى. دار العلم دمشق.(6/18)
ومن هنا تأتى ضرورة معرفة الأولويات وأهميتها بالنسبة للداعية والمربى والواعظ، فبغير معرفة الأولويات تختلط الأشياء وتتداخل، وبالتالي تصعب رؤية الحقائق بشكل واضح، وهذا ما يجعل الآخرون يترددون بدورهم في قبول هذه الحقائق والإذعان لسلطانها.
وبناءً على ذلك كانت توجيهات الإمام النورسي للأئمة والمرشدين والمربيين أن ينأوا بأنفسهم وبمريديهم وطلابهم عن تناول الخرافات والأساطير، وأن يعتمدوا الحقائق وحدها في بناء وتكوين الشخصية المسلمة، وأن تستند أقوالهم إلى الحجة القاطعة والدليل الساطع، وأن ينأوا عن المبالغة والتهويل ، وأن يعيشوا عصرهم وأن تكون الشريعة هي المعيار الثابت لقياس كل الحقائق وكل الأشياء ، ولهذا كان للرجل دوره العظيم في إزالة المعوقات وتوجيه المعلمين من خلال مواقفه ولقاءاته بهم ورسائله إليهم .
متطلبات التجديد في القرن الواحد والعشرين
أسلمة المعرفة كمنطلق للإقلاع الحضاري
إذا كانت أوربا ودول الشمال عموما تعيش عصر المنجزات العلمية أو تعيش ثورة المعلومات إلا أن المتتبع لآثار هذا الإنجاز الضخم في حياة الأوربيين يرى الحياة قد صدأت ، وبغير شك أن الغرب قد قطع شوطاً كبيراً في عالم التقنية التكنولوجية وحقق كثيراً من الإنجازات في مجال العلوم التطبيقية ، ووفر العلم للإنسان كثيراً من الجهد والوقت في ميادين الحياة المختلفة مما يفترض أن يعود على الإنسان بالراحة والطمأنينة ويحقق له السعادة والاستقرار ويوفر له الكرامة والحرية والآمان، ذلك ما يفترض في المردود الحضاري على الفرد والمجتمع هناك، غير أن قراءة الواقع تقول غير ذلك، فهذه المدنية مازالت في الأرض التي نشأت فيها تفرق بين الأبيض والأسود ، ومع أنها وطأت بوسائلها أرض القمر، إلا إنها على الأرض لازالت لم تتخلص بعد من عقدها وعنصريتها وعوامل الكراهية الدفينة في أعماقها.(6/19)
وبقدر ما حققته من ثورة تكنولوجية في عالم المادة إلا إنها تخلفت في التعامل مع الإنسان، وانعكس التقدم على الآلة وحدها ، وبقى الإنسان كما هو مأزوماً مكتئباً مفزعاً مشطور الذات ، ومع إنها وفرت للإنسان الطعام والشراب والكساء والدواء والجنس ، إلا إنها تعاملت مع الإنسان من منظور واحد هو جانب المادة أو جانب الحيوان فيه ، والإنسان ليس مادة فقط ولا عقلاً فقط ولا جسداً فقط ولا روحاً، وإنما هو مزيج من ذلك كله.
وبالتالي فإشباع جزء على حساب جزء آخر لا يضمن له السعادة ولا يحقق له الاستقرار ، وإنما يشطر ذاته ويجعله يتحرك بنصفه فقط ، ويظل يعانى ظمأ الوجدان وغيبة البعد الروحي في حياته كلها ، مما يدفعه إلى فقدان التوازن والهروب إلى المهدءات والمخدرات والمنومات والمسكرات، ومن ثم الاكتئاب والضياع والأمراض النفسية والانتحار ، ولم يغن التقدم العلمي فتيلاً في مقاومة الضياع النفسي الذي يعانيه المجتمع ، ذلك لأن التقدم العلمي ربما يضمن تقدم الآلة ولكنه لا يضمن تقدم الإنسان ، ولا يرقى نفسه ولا يهذب سلوكه ولا يطهر وجدانه ولا ينمى فضائله ، ومن هنا فقد روع المصلحين والمفكرين حجم الجرائم التي ترتكب هناك ويصرخ بها الواقع بين كل الفئات .
لقد أضحى الإجرام ظاهرة والمجرم نجماً وبطلاً تكتب مذكراته وتباع قصته بآلاف الدولارات. نعم لقد استطاعت هذه الحضارة أن تخترق حواجز الصوت وحواجز المسافات والأمكنة بوسائلها المختلفة، لكنها لم تستطع أن تخترق حواجز الإنسان ، فتهذب المارد الذي يسكن أعماقه، ولم تستطع ونحن على مشارف القرن الواحد والعشرين أن تستأنس الحيوان الراكض في أعماق الإنسان . ربما سيطرت الحضارة الحديثة بشيء من وسائلها على مساحة من البر أو البحر أو الجو فمسحت عمقه ومنعت وسائل الخصوم من التجوال فيه ، لكنها لم تستطع السيطرة على عمق الإنسان وتمنع الشيطان الذي يتجول فيه فيسلبه آدميته ويحوله إلى وحش له أنياب ومخالب .(6/20)
أين إذاً منجزات تلك الحضارة وآثارها في حياة هذا الإنسان؟ ربما ملأت عليه بيته بالكهرباء والثلاجة والتلفاز والفيديو ، وربما نقلته من أقصى الأرض إلى أقصاها في زمن قليل، وربما نقلت إليه الخبر بالصوت والصورة من أقصى بلاد الدنيا في دقائق معدودة. وربما حركت له البيت كله بمجموعة من الأذرة ، وربما برمجت له كل شيء في عمله ومنزله عن طريق الكمبيوتر ، ولكنها لم تملأ فراغه الروحي ولم تهذب عمقه الوجداني ولم تطبع مشاعره بالطابع الإنساني . لماذا؟ لأن العلم عندهم بغير سياج من الأخلاق ، وبغير حارس من القيم ، وبغير عاصم من الدين، يقول الحق تعالى:
{ وما اختلف إلا الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم } (1)
إنه علم يستعمل في البغي والعدوان، والسيطرة، وبسط النفوذ، وإخضاع الطرف الآخر . إنه علم لا يهدى إلى هدى ، ولا يرد عن ردى. إنه علم يوظف منجزات العقل بلا عقل . وحضارة تستثمر العلم في بسط نفوذ الكبار على الصغار، والأقوياء على الضعفاء ، وتشرد الشعوب وتجوع الملايين لمجرد أنهم يريدون أن يحتفظوا بذواتهم ، ولا يريدون أن يخضعوا للآخر، ولا يقبلوا نمطه في الثقافة والسلوك والأخلاق . ومن هنا تأتى أهمية أسلمة المعرفة كمنطلق للبناء الحضاري في حياة أمتنا . فلسنا ضد العلم ، ولا يمكن أن نكون ضد ثمرات العقل ومنجزاته ، وإنما نحن ضد التوظيف الرديء لهذه الثمار وتلك المنجزات .
__________
(1) آل عمران: 19(6/21)
ومن الطبيعي أن يكون هذا التوظيف الرديء نتيجة للعقل الذي انقطع عن الله وعبد ذاته وهواه ، لكن النتائج المروعة لهذا الانقطاع ولهذا الجحود كانت مرة، ولازالت البشرية تعانى من آثارها المدمرة، ولذا فان الحياة قد صدأت وأضحت في حاجة إلى منهج جديد يحكم مسيرة الأحياء، ويصحح الأخطاء ، ويقي الإنسانية شر أخطار جسيمة تهدد حياتها ليلاً وفى وضح النهار وبأساليب العلم ذاته . لقد أضحت الدنيا في حاجة إلى الإسلام من جديد ليقيم فيها الميزان بالحق ، وليس غير القرآن من كتاب يفعل ذلك في يسر وسماحة واقتدار ، فهو لا يزال يعلو ولا يعلى عليه، وهو منذ نزل ولا يزال يحمل طابع الحق ويهدى بآياته إلى الحق ، ويقيم بالعدل الذي فيه الميزان بين الناس بالحق ، يقول تعالى:
{ وبالحق أنزلناه وبالحق نزل * وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً } (1)
رؤية النورسي كنموذج لمتطلبات التجديد
وإذا كنا على مشارف القرن الواحد والعشرين نتحدث عن التجديد والدور التجديدي لبديع الزمان النورسي ، فإنني ومن خلال الآثار العلمية التي تركها هذا الإمام العملاق المجدد نستشعر الفخر والاعتزاز برؤيته كنموذج ومثال لمتطلبات التجديد في القرن الواحد والعشرين . ذلك لأن الرجل يرى بنور الله ، ويتحدث بحقائق الوحي ، فلا غرابة إن أصابت كلماته لب الحقيقة ، ولا عجب أن سبق الرجل زمانه ، بعد أن عاشه وخبره وعارك الحياة فيه واستقامت طريقته فما وهن وما ضعف وما استكان ، وما انهزم أمام الفكر الوافد ، وما اغتر يوماً ببريقه الخلاب، وإنما دعا إلى الأصالة ، والى التفريق والتميز والغربلة والفرز الدقيق ومعرفة الفروق بين الشيء والفكرة، بين عالم الأشياء وتلك هي منتجات العقل الغربي، وبين الأفكار والفلسفات التي تحكم حركة الحياة في أبعادها الزمانية الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل، كما تحكم حركة المجتمعات في أهم بعدين من حياتها، البعد المادي والبعد الروحي:
__________
(1) الإسراء 105(6/22)
البعد المادي ممثلا في الغرائز واحتياجاها المحسوسة .
والبعد الغيبي ممثلا في الروح وتطلعاتها وأشواقها نحو عالم هي منه جاءت واليه تعود.
وهذا الخلط بين هذين العالمين وان كان كلاهما من صنع الله وإحدى تجلياته في هذا الوجود، إلا أنه سر الأزمة لدى الغرب لأنه تجاهل البعد الروحي من ناحية، وتعامل مع البعد المادي مقطوعاً عن أصله ومبدعه في هذا الوجود من ناحية أخرى . فكان الضياع وكانت الأزمة وكانت كل تلك الكوارث التي تهدد الكوكب الأرضي دون كوابح أو ضوابط .
لذلك وجدنا الإمام المجدد بديع الزمان النورسي يحدد برؤيته الثاقبة أبعاد الأزمة وسر الداء ، وينادى أمته بقلب الأمين الناصح وبصوت النذير العاري وبعقل البصير المدرك ، أن هبوا للنجاة وأوقفوا مركبة العواصف عن موالاة المسير قبل أن يعم الطوفان وتغرق الدنيا ، فهو يرى هذه المدنية الزائفة ويقارن بينها وبين المدنية الإسلامية فيقول:
" إن أسس المدنية الحاضرة سلبية وهى أسس تدور عليها رحاها:
هدفها وقصدها منفعة خسيسة بدل الفضيلة ، وشأن المنفعة التزاحم والتخاصم ، ومن هذا تنشأ الجناية .
دستورها في الحياة الجدال والخصام بدل التعاون ، وشأن الخصام التنازع والتدافع ومن هذا تنشأ السفالة .
رابطتها الأساس بين الناس العنصرية التي تنمو على حساب غيرها وتتقوى بابتلاع الآخرين وشأن القومية السلبية والعنصرية التصادم المريع وهو المشاهد ومن هذا ينشأ الدمار والهلاك .
وخامسها: هي أن خدمتها الجذابة تشجع الأهواء والنوازع وتذليل العقبات أمامها واتباع الشهوات والرغبات، وشأن الأهواء والنوازع دائما مسخ الإنسان وتغيير سيرته فتتغير بدورها الإنسانية وتمسخ مسخاً معنوياً".
أما أسس المدنية الإسلامية فيقول عنها:
"إنه لا ميزان في الأرض غير ميزان الشريعة ، إنها رحمة مهداة نزلت من سماء القرآن العظيم .
أما أسس مدنية القرآن الكريم فهي إيجابية تدور سعادتها على خمسة أسس إيجابية:(6/23)
نقطة استنادها إلى الحق بدل القوة ، ومن شأن الحق دائما العدالة والتوازن ومن هنا ينشأ السلام ويزول الشقاء .
وهدفها الفضيلة بدل المنفعة وشأن الفضيلة المحبة والتقارب ومن هنا تنشأ السعادة وتزول العداوة .
دستورها في الحياة التعاون بدل الخصام والقتال وشأن هذا الدستور الاتحاد والتساند اللذان تحيا بهما الجماعات .
وخدمتها للمجتمع بالهدى بدل الأهواء والنوازع وشأن الهدى الارتقاء بالإنسان ورفاهه إلى ما يليق به مع تنوير الروح ومدها بما يلزم .
رابطتها بين المجموعات البشرية رابطة الدين والانتساب الوطني وعلاقة الصنف والمهنة وقوة الإيمان ، وشأن هذه الرابطة اخوة خالصة وطرد العنصرية والقومية السلبية .
وبهذه المدنية يعم السلام الشامل إذ هو في موقف الدفاع ضد أي عدوان خارجي."(1)
وهكذا تتضح رؤية النورسي كنموذج ومثال لمتطلبات التجديد في القرن الواحد والعشرين وهى رؤية تجمع بين الوعي والإدراك لحقائق الوحي وبين متطلبات الحياة المدنية من منجزات العلم الحديث فلا تقع في الشراك الخادعة ولا ينطوي عليها البريق المزيف ، وإنما تأخذ من مدنية الغرب أشياءها وتستفيد بما أنجزته دون أن تفقد هويتها وأصالتها ، ودون أن تتأثر بموجات المسخ والتشويه التي عادة ما تصحب الاستفادة من مبتكرات العلم ومنجزات الحضارة .
فالرجل بما له من خبرة وبما أمده الله من بصيرة يطالب الأمة أن تستفيد من علوم الغرب دون أن تتأثر بآثار الفلسفة الغربية الجاحدة، ويربط بين ضياء القلب ونور العقل في معرفة الحقيقة فيقول:
" ضياء القلب هو العلوم الدينية
ونور العقل هو الفنون المدنية
وبامتزاجهما تتجلى الحقيقة
وبافتراقهما تتولد الحيل والشبهات في هذا والتعصب الذميم في ذلك."(2)
__________
(1) الكلمات ص 856
(2) المثنوي ص 14(6/24)
ولذلك فنحن نحتاج إلى التركيز الشديد على الربط بين الضيائين أو بين النورين، ضياء القلب ونور العقل حتى تخرج أمتنا من دائرة العجز والتخلف والتبعية وتعود إلى دينها عودا حميداً ، وذلك هو الأمل الذي عمل من أجله مجدد القرن بديع الزمان سعيد النورسي .
توظيف دور الشريعة في إيقاظ العقل
من المعروف بداهة أن العين لا ترى لوحدها وإنما لا بد من وسط يعين على الإبصار ، فإذا وجدت العين كاملة وكان الوسط الذي يعين على الإبصار غير موجود فإن العين لا ترى ، والعقل البشري إنما هو البصر، والشريعة هي النور أو هي الوسط الذي يعين على الإبصار ، فمن سار في النور بلا عقل كان كالأعمى الذي يمشي في النور ، ومن اعتمد على عقله بعيداً عن نور الشريعة يكون كالمبصر الذي يمشي في الظلام الدامس فتنعدم رؤيته ، لأن العقل وحده لا يستقل بإدراك الحقائق .
لذلك يتأكد دور الشريعة السماوية في حماية العقل من الشرود وتزويده بالرؤية الممتزجة بالبصيرة ، فإذا اجتمع الشرع والعقل فذلك نور على نور، نور البصر ممثلاً في العقل البشري ، ونور الوحي ممثلاً في شريعة الله السماوية ، ومن امتزاج النورين معاً تتولد الشرارة التي تحفز العقل والفهم الناضج ، وتتكامل في رؤيته الأبعاد كلها ، فتأتي أحكامه مصحوبة بالاستقامة المستمدة من استقامة الشريعة.
وإذا كانت هنالك فئة تحاول جاهدة أن تضع العقل في مقابل النص وتسعى لتكريس هذا الفهم بالمغالطة والتدليس، فإننا نتوجس من هؤلاء ونتوسم فيهم سوء الفهم أو سوء النية أو هما معاً: سوء الفهم وسوء النية، ذلك لأن النص ما كان أبداً ولم يكن يوماً مقابلاً للعقل، المقابل للعقل هو الجنون، والمجنون لا تكليف عليه .(6/25)
ومن هنا يتضح سو الفهم أو سوء النية لدى طائفة العلمانيين ودعاة الحداثة الذين يملئون الدنيا ضجيجاً وتعج وسائل الإعلام بأحاديثهم ويلوثون عقول الناشئة ويحاولون أن يزيفوا وعي الأمة ، لا عن اجتهاد وعقل يحترم ، وإنما عن كراهية لدين الله ولشريعته تبدو واضحة جلية في لحن القول حين يكون الحديث عن شرع الله وعن منهج الإسلام فتسمع أحدهم يقول وعلى شاشات التلفاز:
"أنا رجل علماني أعتمد العقل وحده سبيلاً للحياة ووسيلة إلى التقدم والإبداع وأرفض قيود النص الديني الذي يكبل مسيرة العقل وخيارنا واضح إما النص وإما العقل ولا أسمح لأحد أن يكفرني."(1)
هكذا وبلا استحياء أو خجل يظهر لحن القول ما كان مخبوءاً ويكشف اللسان عما يكنه الصدر كراهية لدين الله ولشريعته رغم كل محاولات التلبيس والتدليس التي يبذلها هؤلاء ويتسترون خلفها ، إلا أن خداعهم لا ينطلي على الله ، ولا يمر أيضاً على الأذكياء وأصحاب الخبرة والحصافة في مجتمع المسلمين ذلك لأن القرآن قد وضع الضوابط لمعرفة الإيمان الحقيقي من الإيمان المزيف المدّعى وبَيَّنَ أن أهل الإيمان المزيف المدّعى تكاد تظهر عليهم العلامات جلية واضحة وقال الله لنبيه وللمؤمنين:
{ أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم * ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول * والله يعلم أعمالكم } (2)
ولحن القول هذا يكشف الكثيرين ويعريهم ويفضح سرائرهم ، ويخرج أضغانهم على شريعة الله وعلى الدعاة إلى الله في مناسبات كثيرة، وإذا كان الصب تفضحه عيونه وتنم عن وجدٍ جفونه، فإن المنافق يكشفه لسانه ويخونه جنانه، وتنزلق منه عبارات تكشف سره وإن لبست وشاح الكلمة الحلوة والمنطق الرنان ، يقول تعالى:
__________
(1) مقابلة تلفزيونية مع الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي في برنامج مواجهات – قناة راديو وتلفزيون العرب – 28 / 6 /99 .
(2) سورة محمد 29-30(6/26)
{ ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد } (1)
ويقول تعالى:
{ وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة } (2)
وهؤلاء قد انكشفت سرائرهم في ميادين شتى، وأولها ميدان الإسلام العملي فهم حين يتنادى المخلصون بتطبيق وتحكيم شريعة الله يصابون بالهلع والفزع والرعب، ويقولون في كل موقع وبمناسبة وبلا مناسبة هل نعود إلى عصر الظلام من جديد؟ هل نرجع إلى محاكم التفتيش؟ من سيفسر النصوص؟ وهل ستطبق أحكام الشريعة في الزنا والسرقة والردة؟ وكيف سنحكم على الناس؟ ثم ألا تتنافى هذه الأحكام مع مدنية الدولة وتقدمية القرن الحادي والعشرين؟ وإذا كان المجتمع هو الذي يحمل جنين الجريمة في أحشائه ، فما ذنب أولئك الذي ستطبق عليهم أحكام الشريعة في القصاص والسرقة والزنا؟
__________
(1) البقرة: 204
(2) المنافقون: 4(6/27)
ولا ينسون أبداً أن يصفوا خصومهم بالظلاميين الذين يريدون للأمة أن تعود إلى كهوف القرون الأولى، وأن تتخلى عن الحكم المدني، ثم يحرضون النظم الحاكمة على السرعة في القضاء على هؤلاء باعتبارهم الخطر الذي يهدد أمن الدولة، ويقوض نظام الحكم، ويخرب المجتمع، وهكذا يخرجون من الأجداث كأنهم جراد مذعور يغلفون كراهيتهم للإسلام وشريعته ودُعاته بعبارات منمقة ربما تخدع السذج من الناس، وتلوث عقول الجيل الجديد وتبث فيه روح الكراهية والرفض لأحكام الله، ويصورون أنفسهم ومن على شاكلتهم بأنهم دعاة التنوير والحرية والديمقراطية وتحرير العقل، ثم تظهر عليهم نظرية الاستشعار عن بعد، فيستشعرون الرحمة فجأة ويظهر عطفهم على الجناة على حين غرّة، ويفتحون أفواههم وأبواقهم بضرورة التروي في الأمر وضرورة تحديد من هم أصحاب الحق في تفسير النصوص وتحديد الأحكام ، ثم يطلقون العنان لكل من يملك ورقة وقلماً فلعل مستنيراً منهم يفلح في إقصاء أحكام الإسلام أو ينجح في إخراج بعض المسلمين من دينهم ولو بالتقسيط المريح، وهكذا تستغل هذه الجوقة التائهة الضالة لضرب الإسلام في الداخل عن طريق النيل من دعاته ورموزه والعاملين له .(6/28)
وذلك ما حدث تماماً للإمام المجدد سعيد النورسي عندما بدأ يدعو إلى تحكيم شريعة الله والتحرر من نفوذ العلمانيين وسيطرتهم على ميادين الحياة وكأن التاريخ يعيد نفسه ويستدير من جديد . ولئن كان للباطل امتداد في عمق الزمان وعمق المكان ، فإن للحق أيضاً امتداداً في عمق الزمان وعمق المكان وأرض الله لن تخلو أبداً من قائم لله بحجة إما ظاهراً مشهوراً وإما خائفاً مغموراً . وسيبقى دين الله وتبقى شريعته حبل النجاة ووسيلة الإغاثة والإنقاذ، تمنح الدنيا أعلى وأغلى ما فقدته الدنيا حين غاب عنها الإيمان بالله، وغابت عن مجتمعاتها شمس شريعته الغراء ، وإذا كان النص المعصوم في دين الله له القدح المعلا ، فإن العقل في دين الله شريك للنص في معرفة الحقائق والاهتداء إلى الصواب والرشد ، ومن لا عقل له فلا تكليف عليه وجدير بالملاحظة هنا أن الإسلام في مجال التمييز والتفاوت بين البشر لا يعترف إلا بطبقتين اثنتين:(6/29)
إحداهما طبقية أهل التقوى ففي ميزان الإسلام لا تدخل الأعراض الزائلة ولا هيئات الناس في تقدير ملكاتهم وإنما المعول عليه قيم متاحة للبشر جميعاً . ولما كان المجتمع العربي قبل الإسلام مجتمعاً طبقياً ينقسم الناس فيه إلى سادة يملكون كل شيء وبيدهم كل مقاليد الأمور، وإلى عبيد لا يملكون حتى من أمر أنفسهم شيئاً ، فإن الإسلام قد جاء ليعدل الموازين ، ويشكل بصياغة جديدة قيم المجتمع فيستبقي فيها ما يفيد ويحافظ عليه وينميه ، ويستبدل فيها ما يضر، ويغير من نظرة الناس بعضهم لبعض ، ويضع معياراً ثابتاً بثبات قيمه في تقدير البشر ، ويرفض النظر السطحي الذي يقف عند حدود الظاهر من الأشياء ولا يغوص إلى عمق الإنسان ليجلي أجمل ما فيه من الفضائل والقيم ، ويخضع تقييم الرجال لمعايير جوهرية جديدة لم يعرفها المجتمع الجاهلي من قبل تتصل بنظافة الخلق ونظافة الضمائر ورجاحة العقل وطهارة النفس ، وتلك قفزة نوعية في التقدير والتقييم أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرسي قواعدها وأن يغرس بذورها في مجتمع كانت الكلمة والسيادة فيه لمن يملك المال وإن خبثت نفسه ودنست فطرته ، فأراد أن يجعلها لمن يملك طهارة النفس ورجاحة العقل وشرف الضمير ، وأن الثراء والفقر لا دخل لهما في تقدير الرجال، وأن البشر جميعاً متساوون في أصل الخلقة والتكوين، فلا ميزة لدم على دم، ولا لجنس على جنس، ولا للون على لون آخر، يقول الحق تعالى:
{ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } (1).
__________
(1) الحجرات: 13(6/30)
ويقول - صلى الله عليه وسلم - :" كلكم لآدم وآدم من تراب."(1) ومن هنا يكون مجال المنافسة في إطار من الفضيلة والشرف وأن خير الناس في الدنيا هو من يلتزم بالتقوى والعمل الصالح ، وذلك مجال متاح لكل من أراد أن يزكي نفسه ويطهر قلبه ويعلي في الأولين والآخرين مكانته . وهذا ما أكده حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ."(2)
وتلك هي الطبقية الأولى المعتبرة في منظور الإسلام .
أما الطبقية الثانية التي يعترف بها الإسلام في تمايز الناس وتقديرهم إنما هي الطبقية العلمية التي ترفع أهل العلم إلى مستوى مرموق في التبجيل والتقدير والتوقير ، وتربط بين المعرفة والتطبيق من ناحية وبين الغايات التي يسعى إليها العالم بعلمه من ناحية ثانية .
فلا يكفي أن يكون لدى العالم عقل موسوعي مجرد لكنه مقطوع الصلة بمن أبدع السموات والأرض، فقلبه من الإيمان فارغ، ومشاعره خالية من الارتباط بالله حينئذ يتحول هذا العلم في أي تخصص كان إلى مجرد "شريط كاسيت" أو "دسك كمبيوتر" على أكثر تقدير ، إنما العلم المعتبر في ميزان الإسلام هو الذي يرتبط بغاية ، فإما أن يهدي صاحبه إلى هدى أو يرده عن ردى ، بصرف النظر عن نوع العلم وتخصصه ، وذلك منحى في توظيف القدرات والملكات جديد يتميز به الإسلام وينفرد ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
"ما اكتسب مكتسب مثل فضل علم ، يهدي صاحبه إلى هدى أو يرده عن ردى ، ولا استقام دينه حتى يستقيم عقله."(3)
__________
(1) مختصر صحيح مسلم حديث رقم 1776 ص 473
(2) مختصر صحيح مسلم للحافظ المنذري تحقيق الألباني 1776 ص 473
(3) أخرجه الطبراني في المعاجم الثلاث – انظر فيض القدير شرح الجامع الصغير ج 5 ص 442 دار الفكر(6/31)
فأي شرف هذا الذي يحوزه العقل حين ترتبط استقامة الدين باستقامته في شريعة الله ، وهذا في الواقع إعلاء رائع لدور العقل ومكانته في مواجهة فريقين:
الأول فريق خارج الدائرة الإسلامية ، يلغي دور العقل ويصادر نشاطه ويطالب الأتباع بإطفاء سراجه كي يدخلوا ملكوت السماء، والمبدأ السائد لدى هؤلاء هو: "أطفئ سراج عقلك واتبعني" وهذا ما دعت إليه النصرانية.
وأما الفريق الثاني فهو فريق في داخل الدائرة الإسلامية ويمثله أولئك الذين يهمشون دور العقل في كثير من المواقع والمواقف، ويمنحونه إجازة مفتوحة حيناً، ولا يكتفون بذلك بل يطاردونه في كل موقع، ويلغون دوره في التعرف على الحقيقة، ولا يقبلون بأقل من سجنه واعتقاله في زنزانة ضيقة لا تسمح له بالنمو والازدهار عن طريق الحوار والمناقشة، فضلاً عن السماح له بالحياة ليحيا.(6/32)
والغريب العجيب أن يتم ذلك كله باسم الإسلام الذي حرر العقل وحطم أمامه كل القيود والأغلال. وإذا كانت النصوص، قرآناً وسنةً، هي المادة الخام لصياغة الدليل والبرهان والحجة، فإن العقل هو المصنع الذي يصنع هذا الدليل، أو هو الآلية التي بها وعن طريقها يتم الاستنباط، وصياغة الدليل والبرهان، وإقامة الحجة، وتحديد مناط الأمر والنهي ومعرفة المقصود من الأمر، وجوباً أو ندباً أو إباحةً، وكذلك الحال في النهي إن كان للتحريم أو للكراهة أو للتنزيه، وبالتالي فإلغاء دور العقل هنا أو تهميشه لا يتم احتراماً لقداسة "النص" كما يفهم البعض، وإنما هذا الإلغاء أو التهميش يشكل خطورة على المدى البعيد أو القريب على شريعة الله، كما يشكل عدواناً على النص نفسه ، ذلك لأن الدين الذي نعتنقه ونعيش تحت مظلته ، ونتجادل أحياناً حول قضاياه ، هو نفسه الذي قرر رعاية الجهد العقلي في مجال التجربة ، صواباً أو خطأً ، ولم يحرم المجتهد المخطئ من ثمرة جهده وإعمال عقله وإذا كان قد قرر للمجتهد المصيب أجرين، فهو لم ينس المجتهد المخطئ ، والأصل في ذلك هو حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يقول:
"إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر"(1)
كل ما هنالك أن علاقة العقل بالنص ربما ليست واضحة لدى البعض، فقد يفهمون خطأ أن العقل في مواجهة النص ، وهذا غير صحيح على الإطلاق ، بل إن الثنائية والتقابل مرفوضتان شكلاً وموضوعاً في التصور الإسلامي الصحيح .
ومن هنا يجب إزالة اللبس بين النصوص والعقل ، كما يجب فك الاشتباك المصطنع بين الطرفين حتى نقطع الطريق على هؤلاء الذين يلتمسون العيب لشريعة الله ويكيلون الاتهام لدعاة الإسلام ورموزه، فكلاهما النص والعقل وجهان لنعمة واحدة هي نعمة الله الكبرى في الإنسان وعليه:
__________
(1) صحيح مسلم تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي المجلد الثالث ص1342 دار إحياء التراث.(6/33)
الوجه الأول: هو نعمة الله وفضله بإنزال الكتاب وإرسال الرسل ورسم معالم العقيدة الصحيحة والشريعة الصالحة ، وهذا هو النور أو الوسط الذي يعين على الإبصار والرؤية .
والوجه الثاني: هو توظيف نعمة العقل لمعرفة مراد الله من خلقه وتحديد العلاقة بين العبد والمعبود والرب والمربوب ، وهذا هو البصر الذي ما كان له أن يرى وحده أبداً لولا رعاية الله له بإرسال الرسل وإنزال الكتب، يقول تعالى:
{ ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور } (1)
فالاستقلال بالثاني "العقل" والاستغناء به عن الأول شرود عن الحق وضياع للجهد وتبديد للطاقة وانحراف عن الصراط المستقيم ، كما أن إهمال الثاني "نعمة العقل" وتهميش دوره ضياع للأول وتجاهل لأعظم ما فيه من معجزات ومنجزات، وتجميد لما يظهر فيه من الحجج والبينات، وتغييب لعناصر التحدي التي به تميز وتفوق على كل القوانين والتشريعات، وتفويت أيضاً لمصالح العباد التي جاءت الشريعة لتحقيقها وحمايتها ورعايتها على مدار الليالي والأيام وإلى قيام الساعة .
وبناءً على ذلك لا بد أن يوجد التلازم بين النص والعقل ، وأن تكون العلاقة واضحة بين الطرفين لا على أنهما متقابلان ، فالتقابل الذي يتولد عنه الاختلاف والتناقض والتضاد مرفوض ، وبالتالي فالثنائية التي تضع العقل في مقابل النص ثنائية مغرضة ، والطرح الصحيح في الفكر الإسلامي الصحيح لا يحمل هذا الطابع ولا يعرفه أبداً ولا يعترف بوجوده أصلاً. ولذا فقد وجب التأكيد كما أشرنا على أنهما النص والعقل وجهان لا نقول لعملة واحدة وإنما وجهان لنعمة واحدة هي نعمة الله في الإنسان ممثلة في العقل ، ونعمته الكبرى على الإنسان ممثلة في الشرع الشريف .
__________
(1) سورة النور: 40(6/34)
كل ما هنالك أن النص يمثل الإطار الفكري الذي يتحرك العقل في مداه وفي ظله معاً ، فيستضيء ، ويسترشد ، ويحاول من خلال النص التعرف على الحقيقة والمقصود ولا حرج عليه إن سلك في سبيل ذلك كل وسائل البحث ، وطرق كل الأبواب متسائلاً ومحاوراً ومفكراً ومستنبطاً، وأن يفهم تعبداً ولا يتجاوز حدوده .
وإذا كان المجتمع الإسلامي قد عانى من غياب العقل في فهم النصوص زمناً ما فترة التراجع الحضاري والانكسار التاريخي في حياة أمتنا الإسلامية، فإن البشرية كلها قد عانت من التعسف في استعمال النصوص لدى الأوروبيين ، كما عانت من توظيفهم الرديء للدين في إثارة العصبيات والفتن وشن الحروب باسم الصليب على شعوب كثيرة ، وكان للكنيسة والسياسة في الغرب ، ولا يزال ، دور مشين يتندى له الجبين ويخجل منه الزمان ، وقد أضافت الكنيسة والسياسة في العصر الحديث إلى الأيام والليالي السود في تاريخ الدنيا صفحات جديدة ملؤها الجور والظلم والخبث والعار وإبادة الشعوب في بلدان كثيرة ، وليست مأساة البوسنة وكوسوفا عن الأذهان ببعيدة .
كذلك قد عانت الدنيا ولا تزال تعاني من التوظيف الرديء للعلم في مجالات مختلفة وكم قاست البشرية ولا تزال من ويلات أصحاب العقول العلمية الذين استعملوا عقولهم في البغي والعدوان وباعوا علمهم ومعه ضمائرهم وأخلاقهم للشيطان ، فصنعوا أدوات الفتك والتدمير وادخروا في مخازن السلاح من الأنواع البيولوجية والميكروبية ما يكفي لتدمير كوكب الأرض عشرات المرات ، ذلك فضلاً عن المخزون الاستراتيجي المعد لبرامج حرب النجوم ، وهذا هو العلم حين لا يرتبط بالله ولا يعرف للهداية طريقاً وكأن التاريخ يعيد نفسه فتتكرر الأخطاء ولا يعتبر بنو البشر بما حل في السابقين .
فهل تسمع الدنيا صوت الوحي المعصوم وهو يكرر التحذير ويصك الأذان منبهاً إلى خطورة الاغترار بالعلم وتسخيره في الإفساد وظلم الناس وتدمير الحياة ! يقول الحق:(6/35)
{ ويريكم آياته فتعرفونها فأي آيات الله تنكرون } (1)،
ويقول سبحانه:
{ أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم؟ كانوا أكثر منهم وأشد قوة وأثاراً في الأرض * فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون * فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون * فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا * سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون } (2).
فهل يلقى هذا التحذير صدى بين الغافلين والجاحدين؟ وهل يقوم المسلمون بدورهم في إيقاظ العالم؟ وهل ستحسن أمتنا استثمار دور الشريعة في توظيف العقل وشحذ الهمم وإيقاظ العزائم في تحقيق الخروج من دائرة التخلف والاستعداد ليوم الخلاص بتحكيم شريعة الله والاهتداء بمنهجه؟ ذلك أمل طالما عمل له وعاش من أجله ذلك الرجل العظيم بديع الزمان سعيد النورسي .
التكامل في الرؤية بين القيم المادية والقيم المعنوية
__________
(1) غافر: 81
(2) سورة غافر 82-85(6/36)
إذا كان الإيمان هو الذي يمثل قلب الحضارات، والعلم بمنجزاته المتعددة يمثل عقل الحضارات، فإن المادة بثقلها وضغطها تمثل جسد الحضارة، وفي عصور الهيام بالمادة وهيمنتها على العقل والوجدان تختفي وتتوارى بواعث الإيمان ومظاهره في النفس والمجتمع، ويصبح العقل خادماً لا سيداً ، وتتحول إنجازاته المختلفة إلى وسيلة لمزيد من الإغراء بمتعة جديدة بعدما ملت النفس وتشبعت من صنوف المتع وأنواع المتاع ، حينئذ تطغى بواعث المادة وتتلاشى أنوار العقل وتتوارى أشواق الروح، ويتخلى الإيمان والعقل عن دورهما الهام في قيادة النفس والمجتمع والسيطرة على ميادين الحياة بعدما أضحت الحياة نفسها مأساة وملهاة حين أمسكت فلسفة المادة بكل الخيوط وأضحت مفاهيمها هي التي توجه مسيرة الحياة والأحياء ، وعند ذلك تبدأ لحظة الانكسار الحضاري والتراجع التاريخي، ويبدأ الخط البياني في النزول بعدما وصل إلى القمة في الإشباع والترف المخل بقانون العدالة والإسراف المعطل لقانون التوازن، وتلك هي معاناة مدنية الغرب التي بدأت تتآكل من داخلها بجراثيم الوضاعة والمعصية والكوكايين والهيروين والأيدز .(6/37)
وإذا كانت هذه المدنية تفرض التخلف على الآخرين بحرمانهم من منجزات العلم ومبتكراته ومخترعاته ، وتصنع الحدود والسدود في وجه كل محاولة للاستفادة من خبراتها في هذا المجال، فإنها لا تكتفي بذلك فقط بل تدمر كل نشاط علمي يقوم به الآخرون للخروج من دائرة العجز والتخلف والتبعية ، وتصنع بؤر الصراع لتتذرع بها لتحطيم كل محاولة يقوم بها العالم الإسلامي في ذلك المجال ، بل إنها لا تكف عن محاولات فرض نمطها الأخلاقي المهترئ والمحمل بفيروسات الجريمة وغرور القوة وطغيان الشهوات، وتهب منها بين الحين والحين رياح الخماسين التي تحاول قطع العالم الإسلامي عن جذوره وتراثه وتاريخه ليتحول نبتاً شيطانياً لا جذور له في أرض الحضارات ، وإذا كانت أمتنا تعاني تخلفاً ذريعاً في عالم المادة فإن القيم المعنوية تتأثر هي الأخرى في الذات الإنسانية بهذا التخلف، ولما كان الإسلام يطالبنا بأن لا نبخس الناس أشياءهم فإنه كذلك يلزمنا بضرورة التوازن بين قيم الحياة بقسميها المادي منها والروحي باعتبارها تمثل شطري الإنسان في خلقته وتكوينه، ولا يستقيم طريقه كما لا تستقيم حياته بعيداً عن هذا التوازن .
ومن هنا كانت واقعية الإسلام العظيم حين جمع في منهجه بين الدنيا والآخرة وبين عالم الغيب وعالم الشهادة ، بين المادة والروح، بين الملك والملكوت، بين العقل والقلب، بين السيف والقلم، بين الحرية والانضباط، وبين الفن والالتزام ، وهذا في الحقيقة تكامل يصلح به الوجود الإنساني، وترتقي به الحياة وتزدان، فلا يطغى فيها جانب على آخر، ولا يشبع جانب ويجوع آخر، وبهذا التكامل يتوازن الإنسان مع ذاته أولاً ومع البيئة من حوله ومع الوجود كله باعتباره جزءا من هذا الوجود وعنصراً من عناصره المؤثرة فيه والمتأثرة به .(6/38)
لذلك كان من الضروري ونحن على مشارف القرن الواحد والعشرين أن نربط بين القيم المادية والقيم المعنوية في عقول الناشئة وفي منهج التعليم وفي أساليب التربية وآليات صياغة العقول، فلا يتركز الأداء العلمي والتربوي على الجانب المادي فقط ، وإنما لا بد من تكامل الرؤية بين الجانبين حتى نتلاشى انشطار الذات، لذلك يلفت النورسي نظرنا بشدة إلى هذه الحقيقة فيقول:
"إن الذين يبحثون عن كل شيء في المادة عقولهم في عيونهم ، والعين لا تبصر المعنويات."(1)
وهذا الذي يلفت النورسي انتباهنا إليه إنما هو حقيقة قرآنية صادقة ، حيث يقول الله فيها:
{ وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الأرض، إن الله لا يحب المفسدين(2) }
كما يلفت النبي - صلى الله عليه وسلم - نظرنا أيضاً إلى هذا التوازن حين يقول - صلى الله عليه وسلم - :
"كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان: سرف ومخيلة".
وبرغم معاناة الرجل، وبرغم الحياة المليئة بالمتاعب التي عاشها مجاهدة ومطاردة وعراكاً مستمراً وطرداً ونفياً وتشريداً، إلا أن الرجل بفكره الثاقب ونظره البعيد استطاع أن يسمو بنفسه فوق كل هذه المتاعب، ومزج بين جمال الفكر وروعة الفكرة وبين متع الحياة ولذاتها في داخل النفس حتى ولو كان الإنسان صفر اليدين خالي الجيوب ، فالفقر لا يمنع الإنسان من المتعة ولا يحول بينه وبين لذة الاستمتاع إذا حسنت رؤيته، وحينئذ يتحول برغم الفقر إلى صديق حميم للحياة حتى في صورتها الحسية التي قد ينظر البعض إليها نظرة تحقير وازدراء .
يقول النورسي:
"من أحسن رؤيته حسنت رويته وجمل فكره، ومن جمل فكره تمتع بالحياة والتذ بها."(3)
__________
(1) المكتوبات س 606
(2) القصص: 77
(3) الكلمات ص 606(6/39)
فهو قد جمع هنا بين قيمتين إحداهما معنوية هي إحسان الرؤية للأشياء، فالأشياء في حد ذاتها مادية ولكن النظرة إليها أضفت عليها بُعْداً آخر وأضافت إليها حساً جديداً ما كان الوجدان يستشعره ويحس به لولا إحسان الرؤية، وإحسان الرؤية هنا مبعثه النظر إلى فلسفة الأشياء لا إلى الأشياء نفسها، فالصور الجامدة لا تبقى جامدة في تصور الذين ينظرون إليها نظرة تفكر وتأمل، وإنما تبدو من خلفها حكمة عليا وإرادة تتسم بالدقة والإحكام وعلم يحيط بالأشياء من كل جانب ويلحظ الرباط القوي بين النسب والأحجام والكتل والأوزان .
وذلك باب يجده الفكر الجميل مفتوحاً أمامه ليرى صور الأشياء المادية البحتة، ممزوجاً بالحقائق المعنوية الكبرى، في رباط وثيق ومزج عجيب يتناول كل قيمة بمعيار العدالة، ويقوم كل حقيقة بلا بخس ولا مغالاة، وتلك هي معايير المنهج الحق الذي اعتنقه مجدد هذا العصر الإمام النورسي فانطلق منه وعاش له وتفانى في خدمة فكرته فخلده المنهج ورفع قدره وذكره بين الشعوب والأمم، فهلا استفدنا منه في ضرورة الربط والتجانس بين القيم المادية والمعنوية في عقول الناشئة من أبنائنا حتى نتلاشى هذا الضياع المترع بالآلام والاكتئاب وفقدان الغاية لدى مدنية القرن العشرين التي تعيشها الدنيا، متاعاً ومتعة مقطوعة الصلة عن كل قيمة روحية أو وجدانية؟
الربط والتجانس بين العقل والبصيرة في عملية التعليم
وأثر ذلك في توظيف التقدم العلمي
في بواكير الوحي الأولى يلحظ الباحث الرباط الوثيق بين القراءة باعتبارها وسيلة فعالة من وسائل التعليم وبين المصدر الآمر بها وهو الرب الذي خلق:
{ إقرأ باسم ربك الذي خلق } (1)
__________
(1) القلم: 1(6/40)
فالقراءة هنا ومنذ اللحظة الأولى تبدأ باسم الرب الذي خلق ، ولئن كان القارئ على الأرض والقراءة التي تلقاها كانت أيضاً على الأرض، إلا أن مصدرها كان من السماء، وحاملها إلى النبي كان ملكاً من السماء، والآمر بها أيضاً هو خالق الإنسان والأرض والسماء والوجود كله.
فهي إذاً قراءة ترتفع بالإنسان وتسمو به وتعلي من قدره وشأنه ليكون عبداً لله سيداً في الكون، فهي ترتبط بمقصد وغاية، ووسيلة التلقي لهذه القراءة إنما هو العقل الموهوب للإنسان من الخالق جل وعلا ، وإذا كان العقل وحده لا يستقل بإدراك الحقائق وإن أدرك بعضها ، إلا أنه إذا امتزج بالبصيرة وتوحد معها، زادت رؤيته وجذبت البصيرة إليه عالماً من الرؤية غير محدود ، فلا تتوقف رؤيته عند حدود الحسيات المرئية فقط، وإنما يصبح هذا العقل ممدوداً بأنوار البصيرة التي تستمد بدورها من أنوار الإيمان، فتهدي العقل أجمل وأعلى وأغلى ما يفقده العقل حين يسير في دروب الحياة وفي منحنيات العلم بغير هدى من أنوار الوحي السماوي ، فتضييع جهوده ويقوده هواه ، وتصبح ثمرة إنجازاته وحصيلة تجاربه كلها في يد الشيطان، ومهما كان العقل ذكياً ومهما توفرت له من أسباب النشاط العلمي ومن إمكاناته فلن يتمكن في نهاية المطاف من الاحتفاظ بثمرات جهوده بعيداً عن العبث والاستعمال الرديء بغير ضوابط من الوحي المعصوم .
وهل المأساة التي تمسك بخناق العالم عموماً والأمة الإسلامية على وجه مخصوص ترجع أسبابها إلا إلى الانفصال بين العقل والبصيرة ، أو بتعبير أدق بين العقل وضوابط الأخلاق الفاضلة التي هي ثمرة من ثمرات الإيمان الصحيح ونتيجة من نتائجه الباهرة في ضبط حركة الوجود وحماية البيئة وترقية الحياة ؟(6/41)
وإذا كان الإسلام يرفض أن يتحدث باسمه من لا يعرفون دنياهم ، فإنه كذلك يرفض أن ينتسب إليه من لا يعرفون ربهم ممن يتأبُّون على هداياته ويترفعون عن الخضوع له حتى ولو علموا ظاهراً من الحياة الدنيا فذلك مبلغهم من العلم ، وهذا في الحقيقة سر الداء في عالمنا الإسلامي خصوصاً ومصدر المأساة في أمم الدنيا المعاصرة ، علماء دين لا يعرفون دنياهم، فهم في واد ، والناس والزمان والمكان في وادٍ آخر وعلماء دنيا لا يعرفون دينهم ، فهم يتصرفون بلا ضابط ولا رابط ودون اعتبار لمقتضيات الحكمة والأخلاق والعقل البصير .
ومن ثم كان الشذوذ والنشاز والنغم الفاجر المفعم بالجحود والنكران، والذي يشيع الإلحاد باسم العلم ، والفوضى باسم الحرية ، واستغلال الشعوب باسم حماية الديمقراطية ، ويفرض نمطه وثقافته ومبادئه وفلسفته على الآخرين باسم العولمة والكونية الجديدة .
ولقد تنبه لهذا الفجور العقلي مجدد العصر الإمام النورسي وأدرك خطورة هذا الفجور وتأثيره في تلوث البيئة بشراً ومكاناً وزماناً فقال:
"لا قيمة لبصر دون بصيرة فإن لم تكن سويداء القلب في فكرة بيضاء ناصعة فحصيلة الدماغ لا تكون علماً ولا بصيرة فلا عقل دون قلب."(1)
وهكذا يُشَخِّصُ هذا المعلم الكبير مرض المدنية المعاصرة ويحدد مصدر الداء في أنها مدنية لا قلب لها وإن تَفَوَّق العقل وجاب أرجاء الفضاء بمراكبه ، وحل هنالك فوق سطح القمر ، إلا أن صدر الإنسان على الأرض لا يزال معتماً ، وسيظل كذلك ما ظل بعيداً عن توجيهات الوحي المعصوم وهدايات السماء ، قال الحق سبحانه وتعالى:
? { الر ،كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد } (2)
__________
(1) الكلمات 848
(2) سورة ابراهيم 1-2(6/42)
ولذلك يتحتم على الباحثين المخلصين أن يحذروا ويحذّروا من طروحات العلمانيين في الجانب التعليمي وحرصهم الشديد على الفصل بين ما هو ديني وما هو دنيوي أو بين ما هو ديني وما هو علمي كما يزعمون ، وهذا في الحقيقة تقابل لا معنى له ولا وجود في التصور الإسلامي الصحيح ، غير أنهم يعملون بجد ويبذلون جهودهم بلا ملل لتكريس هذا المفهوم في نظريات التربية والتعليم وفي الوسائل والآليات، ويلبسون دعواهم مسوح العلم ووشاح العصرنة وما إلى ذلك من الشعارات التي جرت أمتنا وراءها ردحاً من الزمن فما وجدت غير الوهم وتأكد لديها أن السراب لم يكن ماءً حتى يتجه الظمآن إليه ليروي ظمأه .(6/43)
وإذا كان جناح المادية الحديثة قد تحطم بسقوط الشيوعية الماركسية في الاتحاد السوفييتي وأوربا الشرقية إلا أن دعاة العلمانية وحراق بخورها الذين كانوا يتوجهون إلى سماء الكريملين ، ويصلون إليه ويقسمون بحياته ويلعنون الإمبريالية في الصباح والمساء إرضاء لآلهتهم الموهومة ، إلا أنهم وبحركة لولبية سعتها ثلاثمائة وستون درجة وبعد سقوط آلهتهم المدعاة قدموا أوراق اعتمادهم خدماً للإمبريالية التي كانوا بالأمس يلعنونها وأقسموا لها أن يكونوا حرباً على الإسلام والمسلمين وأنهم سيرونها من الهجوم على الإسلام وتجريح عقائده والنيل من دعاته ورموزه ما تقر به عيونها الزرقاء ، ولعلهم بذلك يكفرون عن إساءتهم لها ونكرانهم لقوتها وفضلها ، لذلك تراهم بين الحين والحين يخرجون من جحورهم مذعورين كلما ذكر الله ورسوله والدار الآخرة ، أو كلما تحدث حريص على مصلحة الأمة منبهاً أو ملفتاً إلى دور الدين عموماً والإسلام خصوصاً في غرس القيم وتربية الضمائر وتعديل الموازين الجائرة وتعمير القلوب الخربة ، حينئذ يبدأ سيل أقلامهم يطفح بصديد الكراهية والبغضاء ، ويحاول بالتدليس والتلبيس أن يرتدي ثوب الناصح الأمين والحريص على تقدم الأمة ومواكبة العصر والدخول إلى تكنولوجيا القرن الواحد والعشرين ، وكأن ذلك كله لا يتم في نظرهم إلا بالخلاص من الدين وطرح تعاليمه جانباً والكف عن الحديث عنه كموجه للحياة ، فتلك علاقة خاصة يمارسها من يشاء ويطرحها ويدعها من يشاء دون تدخل من الآخرين أو فرض الوصاية عليهم فيما يأخذون وفيما يتركون.(6/44)
وهكذا يتسللون لواذاً إلى الإعلام والتعليم ووسائل صياغة الرأي العام وهم يطرحون هذا الفكر الملوث في محاولة لإعادة الحياة إليه من جديد بعدما جربته أمتنا فلم تجن منه غير المرارة والعلقم ، ولقد كان مجدد العصر مثلاً للعالم الرباني الذي يدحض شبه هؤلاء ويرد كيدهم إلى نحورهم في منطق بارع وحجة قاطعة ، فلنستمع إليه وهو يعطي الأسباب حجمها ويقرر في يقين العارفين أنها لا تعمل وحدها وإنما تعمل بسر الله فيها وإرادة الله هي التي تمنحها القدرة على التأثير فيقول:
"إن في تأليف الكون إعجازاً باهراً بحيث لو فرضنا ، فرضاً محالاً، أن كل سبب من الأسباب الطبيعية فاعل مختار مقتدر لسجدت تلك الأسباب جميعها، بكمال العجز ، أمام ذلك الإعجاز قائلة: (سبحانك .. لا قدرة لنا إنك أنت العزيز الحكيم )(1) ، ثم يقول: (إن الذي خلق عين البعوضة هو الذي خلق الشمس أيضاً)(2). ويقول: (والذي نظم معدة البرغوث هو الذي نظم المجموعة الشمسية أيضاً.)"(3)
هكذا يرى النورسي ويرى معه أصحاب البصائر غير أن العميان لا يبصرون والموتى لا يسمعون .
فهل تتحرر أمتنا من هذا الادعاء الضال وتعود إلى رشدها ونهاها فتهتدي بكتاب الوجود والخلود وتستلهم آراء وأفكار الهداة والمهتدين وهي تتطلع إلى صحوة جديدة في مجال التعليم على مشارف القرن الواحد والعشرين؟ وهل يتألق وعينا من خلال نور الرسالة وهداية الرسول ونتصدى لأفكار هؤلاء إبراءً للذمة وحماية للأمة وتطهيراً للفكر من خرافات ترتدي ثوب العلم ومخرفين يلبسون مسوح الناصحين؟
مركزية التعليم في القرن الواحد والعشرين
حقيقة التوحيد كأساس ومنطلق
للتعليم والتربية
__________
(1) الكلمات ص600
(2) الكلمات ص600
(3) الكلمات ص600(6/45)
إذا كانت التربية عملية تنتقل بها الخبرة البشرية من السابق إلى اللاحق عبر الأجيال ، فإن التعليم هو طريق النقل وأسلوبه وهو دور المربي، وبذلك تتحول التربية إلى وعاء تستخدمه الأمم لتضمنه محتوىً ترتضيه من ثوابتها ، ثم تنقله إلى الأجيال لتحقق عن طريقه امتداداً حضارياً ولتأمن على هويتها التي ارتضتها فوثقتها في دساتيرها وفي عقل المجتمع وضميره .
وفي الأمة المسلمة تحديداً فإن الخط الأساسي الذي يخطه الإسلام ليترك معالمه في شخصية الإنسان والناشئ بصفة خاصة هو خط التوحيد:
{ وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } (1)
فالله تعالى هو خالق الكون ورب الناس وهو إلاههم الذي يملك نواصيهم ، وينبغي عليهم أن يلتزموا أوامره وينتهوا عما نهوا عنه، وللناس في كل صفة من صفاته سبحانه وتعالى أو اسم من أسمائه ، مَعْلَماً من معالم التصور العقدي يؤسس إطاراً مرجعياً في عقل الجيل الجديد ، يعينه على التوافق مع ذاته ومع البيئة من حوله ويرتبط بهذا الأصل فهم الناشئ منذ وقت مبكر لهدف وجوده على هذه الأرض ، فهو لم يأت عبثاً إلى هذا الوجود، وإنما هو خليفة في الأرض يستخدم طاقاته ومواهبه في البناء والتعمير، مستهدياً بما شرعه الله له من السنن والقوانين يقول تعالى:
{ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما أتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم } (2)
لذلك يدرب الطفل المسلم منذ سنيه الأولى على السلوك الإسلامي، وننقل إليه القيم تدريجياً، حتى إذا ما وصل إلى سن التكليف يكون قد تطبع بطبائع المكلفين فيسهل عليه الأداء طواعية واختياراً.
__________
(1) -سورة التوبة 31
(2) -سورة الأنعام 165(6/46)
وفهم الناشئ لحدود الحياة يجب أن يرتبط بأصل التوحيد منذ بداية الحياة البشرية في تصور المسلم، وهذه الحياة بدأت في صورتها المادية منذ نفخ الروح في آدم عليه السلام ، وتجارب الإنسانية التي تضمنها القرآن رصيد ملزم للناشئين في أحوالهم وتقلباتهم ، كما أن الحياة التي نعيشها إنما هي أدوار وأطوار ، فطوراً في الرحم وطوراً على الأرض وطوراً في القبر وآخر في المحشر ونهايتها إلى خلود لا إلى فناء فإما جنة وإما جحيم بعد حسابها على ما قدمت ، ومن هنا يرتبط فهم الناشئ لحدود الحياة بأصل التوحيد الذي تربى عليه ، يقول الله تعالى:
{ يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى، ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ، ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً، وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور } (1)
فهذا التوجيه يرسخ في عقل المسلم وفي تصوره أن الحياة ممتدة، وأنها لا تنقطع بعوارض الموت، فليس الموت إلا مرحلةً من مراحلها وطوراً من أطوارها وهذا في الحقيقة بعد جديد يعين المسلم ويساعده على أداء التكاليف وتحمل مشقات الحياة بصبر وأمل ، ويجعله صلباً في مواجهة الصعاب مهما كانت شديدة، ويزوده بطاقات نفسية تشد من عزمه وتقوي من إرادته في فعل الخير ومقاومة الشر طلباً للثواب وانتظاراً للجزاء.
__________
(1) الحج 5-7(6/47)
ومن المعروف أن الحياة لا تسير على نهج واحد ، ولا تلتزم بوتيرة واحدة، وأن الإنسان يحياها متقلباً بين الطفولة والشباب والرجولة والشيخوخة والأفراح والأتراح والقلق والطمأنينة، لذلك تضمن القرآن بجانب التوجيهات السابقة ، توجيهات أخرى تتناسب مع حالات التقلب التي يعيشها الإنسان في مراحل عمره المختلفة، ومن هنا يكون للخوف مكانه وللرجاء مكانه وللترغيب مكانه وللترهيب مكانه، قال تعالى:
{ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون } (1)
وقال تعالى: { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب } (2)
وقال تعالى:
{ تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون } (3)
ولم تكن هذه التوجيهات مجرد توجيهات نظرية لا واقع لوجودها، وإنما هنالك نموذج رائع ورفيع ، وفيه تتمثل القدوة الحقيقية التي يقتدي بها المسلم ، ويربط حياته كلها متأسياً بها ، لأنها جسّدت وحقّقت مراد الله من خلقه في أحكم وأدق صورة للعبودية الصادقة ، ذلكم هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) الأنفال 2
(2) الرعد 28
(3) السجدة 16(6/48)
ولذلك ينبغي أن يؤدي هذا النموذج دوره دون منافس خلال فترة التشكيل العقلي والوجداني بأبعاده الثلاثة: التصوري والسلوكي والعاطفي، وتستمر هذه الفترة إلى سن التكليف حتى تكون الهوية في أمان من الأخطار المضرة والتداخلات التي تحدث تميعاً في الشخصية وازدواجاً في السلوك، وببراعة الأديب ونورانية العارف ، يلتقط النورسي صورةً لخط التوحيد الموصول في هذا العالم الكبير ، وكأنه يسمع لسان الغيب ويرى بصماته في عالم الشهادة ، وهي تهتف بدلائل التوحيد وتشهد بلسان الوجود شهادة الحق وتخاطب الإنسان بلسان المكان ولسان الزمان قائلة: { فاعلم أنه لا إله إلا الله } (1) الذي دل على وجوب وجوده ودل على أوصاف جلاله ، وجماله وكماله ، وشهد على وحدانيته العالم ، أي هذا الكتاب الكبير بجميع فصوله وصحفه وسطوره وجمله وحروفه ، وهذا الإنسان الكبير بجميع أعضائه وجوارحه وحجيراته وذراته ، وأوصافه وأحواله أي هذه الكائنات بجميع أنواع العوالم تقول: لا إله إلا الله ..
وبأركان تلك العوالم: لا خالق إلا هو..
وبأعضاء تلك الأركان: لا صانع إلا هو..
وبأجزاء تلك الأعضاء: لا مدبر إلا هو..
وبجزئيات تلك الأجزاء: لا مربي إلا هو..
وبحجيرات تلك الجزئيات: لا متصرف إلا هو..
وبذرات تلك الحجيرات: لا خالق إلا هو..
وبأثير تلك الذرات لا إله إلا هو..
فتشهد الكائنات على أنه هو الواجب الوجود ، الواحد الأحد بجميع أنواعها وأركانها وأعضائها وأجزائها وجزئياتها وحجيراتها وذراتها وأثيرها ، إفراداً وتركيباً متصاعداً بتركيبات منتظمة رافعات أعلام الشهادة على وجوب الصانع الأزلي ، والكائنات كل واحد من مركباتها وأجزائها تشهد بخمس وخمسين لساناً بأنه واجب الوجود ، الواحد الأحد."(2)
__________
(1) محمد 19
(2) المثنوى العربي ص108(6/49)
وهكذا يلتمس النورسي من أنوار التوحيد خيوطاً مضيئة ، تكشف طريق الحق وتيسر سبل الهداية للسالكين ، وترسم أمام المربين ملامح منهج فريد في التربية والتعليم ، يمزج بين جمال الصنعة ودقة الصانع ، ويضع القسمات المشرقة لنوع من التربية لا يترك مجالاً من المجالات إلا ويوظف كل ما فيه لخدمة خط التوحيد كأساس ومنطلق للتربية والتعليم وصياغة الإنسان . وتلك نقلة فكرية وحضارية في آن معاً ، تربط في تناسق فريد من المنظومة الكونية والمنظومة الإنسانية وبين مفرداتها لتبدو الذات أو الأنا ضئيلة ضعيفة عاجزة تسلم لخالقها وصانعها ومبدعها ، فتسلم بالركون إليه والاستسلام في كنفه من سلبيات التمركز حول الذات، والتمركز حول الهوية، وبذلك تسلم في عقلها ووجدانها من الشذوذ في الفكر والعلة في السلوك .
وذلك كله لا يتأتى إلا عندما تكون ذمة المجتمع واحدة ، تتضافر من خلالها كل المؤسسات على اختلاف وظائفها، لتستقي وتتلقى من مصدر واحد وتصب في مجرى واحد ، ويتوازى أداؤها في عقول ووجدان النشء الجديد فيتربى على قيم التوحيد، ويتشرب روحه الذي يسري في هذا الوجود، فينسجم بذلك مع نفسه ومع البيئة المحيطة به ومع الكون والحياة من حوله . وبذلك ينسحب الانحراف ويتوارى الشذوذ والنشاز، وتسلم الأجيال من كوارث الانفصام والانفصال التي تعاني منها مجتمعات اليوم حين شردت بفكرها وقلبها عن الله الواحد الأحد ، ومن ثم بدأت تدفع فاتورة الحساب دموعاً ودماءً وقلقاً وخوفاً واكتئاباً وهروباً من الحياة بالمخدرات والمنومات والمسكرات حيناً وبالموت انتحاراً حيناً آخر .
وصدق الله إذ يقول:
{ ومن أعرض عن ذكري ، فإن له معيشةً ضنكاً ، ونحشره يوم القيامة أعمى } (1)
الربط بين عالم الخلق وعالم الأمر
في فكر الناشئة والمتعلمين
__________
(1) طه 124(6/50)
إذا كانت الحياة بمادياتها والوجود في شكله المادي والكون في مظاهره المحسوسة تمثل عالم الخلق ، فإن نصوص الشريعة تمثل عالم الأمر التكليفي. وإذا كانت الحياة والكون يمثلان جانب المادة في هذا الوجود ، فإنهما في الوقت ذاته صادران عن عالم الأمر الإلهي الذي به ومنه برز الوجود من العدم، والله تعالى في عقيدة المسلمين الصحيحة له الخلق والأمر ، فكلاهما مظهران من مظاهر تجليات رحمته في الخلق والإيجاد ، ودليلان من دلائل وحدانيته التي تفرد بها سبحانه في السموات والأرض. ومن هنا تطرد من الذهن كل سخافة تحاول فصل الوجود شطرين ، وتقسيمه إلى عالمين: أحدهما لله والآخر لقيصر كما يدعي الآخرون ويظنون، فلا يمكن الفصل بين عالمين كلاهما من أمر الله: عالم الخلق الذي جاء إلى الوجود بالأمر كن، وعالم الأمر التكليفي الذي أراد الله به أن يكرم الإنسان، وأن يحترم إرادته في الحرية والاختيار ، وأن يباهي به الملائكة عندما يجيء العبد إليه طائعاً مختاراً ، وعندما يمارس إرادته الممنوحة له من الله أصلاً في الاختيار الحر الصحيح حين يختار جانب العبودية ، ليتحول بها وعن طريقها إلى سيد في الوجود، وهذا الربط بين هذين العالمين ليس نتاج فكر صحيح فقط، إنما هو إقرار بحقيقة ، واعتراف بواقع يشهد به كل موجود في هذا الوجود، ويصدق على تلك الشهادة منطق الوحي المعصوم وهو يجمع في بيان معجز متألّق بين نقطة البدء والمنتهى:
{ إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ، يغشى الليل النهار يطلبه حثيثاً ، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين } (1)
__________
(1) الأعراف 54(6/51)
فالبدء منه والمنتهى إليه ، وبين البدء والمنتهى يبدو الوجود بمظهريه المادي والمعنوي وكأنهما وجهان لنعمة واحدة ، هي نعمة الله بإيجاد الخلق ، ونعمة الله الرحمن بإنزال الكتاب الذي كانت منه وإليه ترجع شريعته ، باعتباره الوعاء الذي له الإحاطة والاحتواء:
{ الرحمن ، علم القرآن ، خلق الإنسان ، علمه البيان ، الشمس والقمر بحسبان ، والنجم والشجر يسجدان ، والسماء رفعها ووضع الميزان ، ألا تطغوا في الميزان ، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان ، والأرض وضعها للأنام ، فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام ، والحب ذو العصف والريحان فبأي آلاء ربكما تكذبان (1) }
وقال تعالى:
{ الله الذي خلق السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر ، يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون } (2)
فهل يبقى بعد هذا الربط الرائع والمزج الذي لا يمكن أن ينفصل أبداً هل يبقى بعد ذلك تعلّة لمتعلل؟ وهل يستطيع عقل محترم أن يفصل تحت أي حجة مدعاة بين هذا الكون وبين إرادة مدبره ومكونه والقائم والقيوم على كل أمرٍ فيه؟ ومن هنا يرى الباحث النزيه أن كل محاولة تقطع الظواهر عن أسبابها الأصلية، وتفصل بين الدين والعقل ، وتتناول علوم الكون وعلوم الحياة مبتورة عن أصلها التي منه صدرت ، وعن إرادته تكونت ، وبعلمه وحكمته أخذت شكلها ومظهرها يرى الباحث المتجرد أن هذه المحاولات إنما هي تزييف للحقائق العلمية، ومجافاة للواقع، وإنكار لا مبرر له، وخيانة للضمير الإنساني، وتضليل للعقل، وتدليس وتزوير لشهادة تنطق بها ذرات الكيمياء ومظاهر الطبيعة ، ويهتف بها لسان الوجود .
__________
(1) الرحمن 1-13
(2) الأعراف 54(6/52)
والمنطق الوحيد السديد أن نرد الأشياء لأصلها، وألا نلقي بالاً لتلك الأصوات الشاذة التي تريد من البشر باسم العقل وحرية البحث أن يفقدوا عقولهم، وأن يتحولوا إلى آلات تغرق في التفاصيل الجزئية، وتعمى عن الحقائق الكبرى التي تبهر العقول والألباب، وتوقظ في النفس والفطرة مظاهر الخضوع والإعجاب بفاطر السموات والأرض ومبدع الوجود والكون.
"فالنورسى لا يرى شيئاً أشد سقوطاً وأشنع انحداراً، من أن يتجرد رأى الإنسان في هذه الخليقة من أى معنى إلهي، لذلك فليس من شأننا نحن المسلمين، أو من شأن مفكرينا، أن نعقل حقائق الأشياء بالعقل المجرد وحده كما يريدنا الغربيون أن نفعل، بل بالعقل المستضيئ بالإيمان، وبالبصيرة المستنيرة بالقرآن."(1)
ويربط بعقله العملاق، وبصيرته النافذة، بين عالم الخلق وعالم الأمر في وضوح لا يشوبه غموض ، ويرى الاثنين معاً: عالم الخلق وعالم الأمر شريعتين إحداهما تنظم وتحمي حركة الإنسان، والأخرى تنظم وتضبط حركة الكون ، فيقول الإمام النورسي: "الشريعة اثنتان :
إحداها: هي الشريعة المعروفة لنا ، التي تنظم أفعال وأحوال الإنسان فذلك العالم الأصغر والتي تأتي من صفة الكلام .
الثانية: هي الشريعة الكبرى الفطرية، التي تنظم حركات وسكنات العالم ذلك الإنسان الأكبر، والتي تأتي من صفة الإرادة وقد يطلق عليها خطأً اسم الطبيعة، والملائكة أمة عظيمة هم حملة الأوامر التكوينية وممثلوها وممتثلوها تلك الأوامر الآتية من صفة الإرادة والتي تسمى بالشريعة الفطرية."(2)
وضوح الرؤية وإزالة اللبس والخلط بين عالم الأشياء
وعالم الأفكار والإفادة من فكر النورسي
في هذا المجال
__________
(1) هوامش على فكر النورسي وسيرته ، ص 21 ، بحث أديب إبراهيم الدباغ ، ضمن ابحاث سعيد النورسي في مؤتمر عالمى حول تجديد الفكر الإسلامي
(2) المكتوبات ص613(6/53)
كثيرون هم أولئك الذين يتنادون بضرورة الخروج من مأزق التخلف، وكثيرون هم أولئك الذين يطالبوننا بضرورة الالتحاق بذيول مدنية العصر والانسحاق في أشيائها والعبّ من منابعها واللهث وراء كل جديد يظهر هناك .
وغريب أمر هؤلاء الذين التوت أعناقهم نحو الغرب، فوقعوا في خطأ التعميم بين الشيء والفكرة ، ويريدون منا أن نأخذ من أوروبا كل ما يصدر عنها، وكل ما ينتج فيها ، وأن نربط وجودنا بوجودهم، وأن نحيا كحياتهم، وأن نسلك مسلكهم، حتى لو دخلوا جحر ضب كما جاء في الحديث الشريف.
وهذه الفئة ترى أنه من الضروري أن ننفتح على العالم بكل ما فيه من تيارات ومذاهب، لأنه وفي ظل الظروف الحاضرة لم تعد العزلة ممكنة خصوصاً والعالم قد أضحى قرية صغيرة، ولم يعد من الممكن حصر الأفكار في دائرة محدودة، أو عزل التيارات في بيئة دون بيئة، وبصرف النظر عن صحة أو خطأ هذه التيارات، وبصرف النظر أيضاً عن مدى توافقها أو تناقضها مع بيئتنا وديننا، المهم أنها إفرازات لحضارة سائدة سيطرت على البر والبحر والفضاء ، ونحن على الأقل نعيش عالة على وسائلها ونستخدم الكثير من أدواتها، ذلك فضلاً عن وقوعنا تحت دائرة نفوذها وسيطرتها، وبالتالي فلا يمكن الفصل بين الشيء والفكرة لأن الآلة حين نستوردها تجلب بالضرورة أفكار صانعيها وتحمل طابعهم، وما الأفكار إلا إفرازات مادية كيميائية "في نظرهم" لما يتناوله الإنسان في حياته اليومية من طعام وشراب، ولم يتوقف الأمر في عرض وجهة النظر هذه عند ذلك الطرح الهادئ ، وإنما يتخطاه ويتعداه إلى درجة من التشنج الحاد يتهمون فيها الخصوم والمخالفين لهم في الرأي بأنهم ظلاميون ورجعيون، ومتخلفون، ومتطرفون وإرهابيون، يتوجون من أنفسهم حراساً على الثقافة وأوصياء على العقل يضعون عليه القيود ويكبلونه بأغلال الماضي البعيد .(6/54)
كما يرون فيهم عقبة في سبيل تقدم الأمة، ونمو المجتمع، لأنهم لا يحاولون إعمال العقل في الوصول للأسباب الحقيقية لأية ظاهرة، وإنما يسعون بكل ما يملكون من خيال واسع لإيجاد تعليل وهمي غير واقعي، يعلقون عليه الأسباب بوعود وهمية في عالم وهمي عبر غيبيات موهومة."(1)
هذا مجمل مختصر لما يقوله العلمانيون ويرددونه دائماً في كل مناسبة وأحياناً بغير مناسبة . فهل الأمر كذلك فعلا؟ أم أن هناك لبساً وخلطاً في الفهم يصل أحيانا إلى مستوى التدليس والخيانة للفكر والعقل السليم .
ونحن لا نتهم هؤلاء بالمؤامرة، فالمؤامرة تكون حيث يكون الخفاء والسرية والتآمر تحت جنح الظلام، لكن هؤلاء يعلنون عن أنفسهم في وضوح يشهده كل ذي عينين ، ويسمع به كل ذي أذنين .
وهم يشكلون فصيلاً كبيراً من المثقفين والكتاب، ويشغلون بفكرهم هذا مساحة واسعة من أجهزة الإعلام، وامتلأت بكتاباتهم صحف ومجلات متعددة. غير أننا نلحظ نوعاً من إفساح المجال أكثر لعدد من هؤلاء بحجة محاربة التطرف وحصار ظاهرة التشدد والعنف في بعض المجتمعات.
كما نلحظ أن هؤلاء تصيبهم حالة من الهلع الفكري، والصرع العقلي، كلما تطرق الحديث إلى الإسلام بصيغته الربانية الشاملة، وكلما تطرق الحديث أيضاً إلى البعد الغيبي وما له من تأثير في تقويم الاعوجاج، ومقاومة الانحراف، واعتدال الحياة، وهي ظاهرة أقرب إلى المرض منها إلى العافية النفسية والصحة العقلية، مما يجعل أصحابها يخرجون عن مألوف القيم المعروفة في أدب الحديث والحوار العلمي، فيستعملونه في وصف خصومهم عبارات من قاموس اللافتات الجاهزة التي تستعمل عادة في إسكات الخصوم، واستعداء السلطة عليهم، وإرعابهم بتهم التطرف والأصولية والإرهاب.
__________
(1) راجع فصل حماية الذات بين حراسة الثقافة وقيود العقل ، ص29 من كتاب دعوة إلى التأمل للدكتور إبراهيم أبو محمد .(6/55)
وإذا كان هؤلاء يجيدون قراءة النصوص لدى الغرب بانبهار وإعجاب شديدين، ويتلقونه بعقول ملجمة، فلهم في ذلك مطلق الحرية، لكن قراءة النصوص وحدها لا تكفي لصحة النظريات وصلاحية تطبيقها على كل أحد وفي كل بيئة، وإنما لا بد مع قراءة النصوص من قراءة الواقع بدقة متناهية، وكذا دراسة الظواهر عندنا وعندهم، وحصر مكوناتها ومقوماتها، ومعرفة دوافع انتشارها، وتحديد اتجاهاتها وأبعادها مما يتجاوز التوصيف المجرد ليدخل في نطاق التعليل والتحليل .
وتلك مهمة افتقدناها عندنا، وكانت الجهود المبذولة فيها فردية شخصية، بينما قامت بها هناك في أوروبا والغرب عموماً مؤسسات للدراسات الإنسانية تخطت جهود الأفراد، وقدمت دراساتها لجهات مسئولة، ووضعت تحت تصرف المفكرين والمصلحين وأصحاب القرار، وكانت نتائجها منذرة ومحذرة وداعية:
منذرة بإصابة الحضارة الغربية في جناحيها شرقاً وغرباً بحالات جزر وانكسار، وتعرض خلاياها في الظاهر والباطن لشيخوخة مبكرة، مما ينذر بموت محقق وأفول قريب .
ومحذرة من سيادة مناهج اللذة، وإثارة الشهوات، وتملق جوانب الحيوان في الإنسان .
وداعية للبحث السريع عن منهج بديل يعيد للمجتمع أمنه واستقراره، ويعيد للناس طمأنينتهم وهدوءهم النفسي، بعد القلق والتمزق والضياع.
وإذا كان رصد الواقع، وقراءة الأحداث، ضرورتين بجانب قراءة النصوص في التدليل على صحة النظرية أو خطئها، فهلا بدأتم أيها العلمانيون الأوفياء لسادتهم بقراءة الواقع والأحداث في مجتمع حضارة الغرب التي تريدون أن نلتحق بها وأن ننسحق فيها؟(6/56)
نعم هذه الحضارة قدمت للإنسان إنجازات ضخمة في عالم المادة، وربما برمجت له كل شيء عن طريق الكمبيوتر، لكنها لم تملأ فراغه الروحي، ولم تهذب عمقه الوجداني، ولم تطبع مشاعره بالطابع الإنساني المأنوس لماذا؟ لأن هناك فرقاً شاسعاً بين عالم الأفكار وعالم الأشياء، بين الوسائل والغايات، بين الفكرة والآلة، والآلة وسيلة، والوسائل محايدة، هكذا خلقها الله سبحانه وتعالى.
وهم هناك توصلوا لهذا الفرق، ونحن هنا لا زلنا نخلط بين الشيء والفكرة، وبين مناهج العلوم التطبيقية ومناهج العلوم الإنسانية. هم هناك قد تنبهوا لهذا الفرق منذ زمن بعيد، ومن هنا كان الصراع حول الإيديولوجيات، ولم يكن صراعاً حول المنهج العلمي، فكل فريق كان ولا يزال يحاول الحصول على أسرار تكنولوجيا الطرف الآخر، ويبذل جهوداً مضنية في التصنت والتجسس على أسرار مبتكراته ومختبراته ومخترعاته، ولكنه يحارب أفكاره، ويمنعها من الانتشار في مناطق نفوذه، ويضع الأسوار والقيود عليها، ويدخل أحياناً في حروب غير مباشرة لمنع انتشار أفكاره ، وكل منهما يرى من الضروري حماية ذاته وتأمين ثوابته ومناهجه الاجتماعية والثقافية من العبث أو الاجتياح ، والعلمانيون عندنا يرددون أن الثقافة بغير وطن وأن الفكر بغير هوية .
ثم لماذا تستبيحون لأنفسكم حق إهانة أمتكم وخيانة ثوابتها، وتنكرون على الإنسان السوي حقه في أن يتساءل عن بدايته ونهايته ومصيره ومنتهاه في ظل المنهج الذي يحكمه؟ وأين يجد الإجابة الشافية المقنعة التي تجعل من وجوده الموقت في عالم الشهادة سبباً وتمهيداً لوجوده الدائم في عالم الخلود ، فإن فعل خيراً جنى خيراً ، وإن شراً فشر .(6/57)
أين يجد هذه الإجابة إن لم تكن في البعد الغيبي؟ وإذا كانت هذه المعادلة تحفظ على الإنسان ذاته ، وترقي وجوده ، وتحميه من التمزق والضياع، أفيكون الإيمان بها أو الحديث عنها هروباً من الواقع؟ وتعليقاً للأسباب على قوى غير محسوسة وملموسة جنوحاً في الخيال ، وإهمالاً لإعمال العقل ، وتخديراً للشعوب بوعود وهمية في عالم وهمي؟
وهل يكون من الإنصاف أن تكال الاتهامات للغير بهذا السيل الجارف وبلا دليل؟ وهل الخلاف في الرأي أو حتى في الفكرة والمبدأ، يلغي الآخر ويعطيك الحق في قذفه وإرهابه وتهديده واستعداء السلطة عليه؟ أين إذاً عدالة الحكم على الأشياء؟ وأين نزاهة البحث وأدب الحوار وحق المخالفة؟ ألا ما أتعس العقل الذي فقد التعقل .
أليس من الخير للإنسان أن يظل على الأرض وهو إنسان من أن يصعد إلى القمر وهو لص ، قد سرق الشعوب ، واستغل خيراتها ، وأباد الآلاف من أبنائها؟ أليس من الخير للحياة أن تضاء مشاعر الإنسان ولو بشمعة من أن ينطفئ قلبه وحسه ومشاعره ، ولو أضيئت الدنيا كلها من حوله بكل مصابيح الكهرباء .
دعوتكم إذاً أيها المفتونون تحمل من الخطأ أضعاف أضعاف ما تحمل الصواب، وبخاصة أنها لم تفرق بين الإنسان والآلة ، وبين الشيء والفكرة، وبين التقدم في مجال العلوم التطبيقية وبين مناهج العلوم الاجتماعية، التي تشكل فلسفة الحياة لدى حضارة الغرب. ودعوتكم إذاً أيها المفتونون تتسم بفقدان الرؤية العلمية ، لأنها تفتقد حاسة التمييز بين ما يوافق حياتنا وبيئتنا وبين ما يناقضها .(6/58)
نحن نحتاج الآلة ، ونحتاج إلى التقدم التقني ونسعى للحصول عليه، ولكن الغرب هو الذي يحول بيننا وبينه، ويريد أن يصدر إلينا فلسفته ونمطه الثقافي والاجتماعي ، حين نستقبل كل شيء ، "كما يريدون" دون فرز دقيق ، وإذا فعلنا ذلك فإننا نكون قد أدخلنا أنفسنا تحت ضغط التجارب ومجازفات الصراع ، ونكون قد تركنا يقين ما عندنا لندخل في بديل عنه ما زال تحت دائرة الظنون والأوهام والهوى .
{ إن يتبعون إلا الظن ، وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً ، فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ، ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ، وهو أعلم بمن اهتدى } (1).
التصدي لطرح العلمانيين في جانب التعليم
على ضوء فكر النورسي
ولقد حذّر النورسي من هذا الخلط ، وخاطب أوربا والمفتونين بها، والمهزومين أمام بريق مدنيتها الخدّاع قائلاً:
"فيا أوروبا ما ورطك في هذا الخطأ المشين إلا ذكاؤك الأعور أي ذكاؤك المنحوس الخارق ، فلقد نسيت بذكائك هذا رب كل شيء وخالقه إذ أسندت آثاره البديعة إلى الأسباب ، والطبيعة الموهومة، وقسمت ملك الخالق الكريم على الطواغيت التي تعبد من دون الله ، فانطلاقاً من هذه الزاوية التي ينظر منها دهاؤك الأعور ، يضطر كل ذي حياة وكل إنسان أن يصارع وحده ما لا يعد من الأعداء ، ويحصل بنفسه على ما لا يجد من الحاجات ، بما يملك من اقتدار كذرة ، واختيار كشعرة، وشعور كلمعة تزول وحياة كشعلة تنطفئ ، وعمر كدقيقة تنقضي ، مع أنه لا يكفي كل ما في يده لواحد من مطالبه فعندما يصاب ، مثلاً ، بمصيبة لا يرجو الدواء لدائه إلا من أسباب صم حتى يكون مصداق الآية الكريمة:
{ وما دعاء الكافرين إلا في ضلال } (2)
إن دهاءك المظلم قد قلب نهار البشرية ليلاً ، ذلك الليل البهيم بالجور والمظالم ، ثم تريدين أن تنوري ذلك الظلام المخيف بمصابيح كاذبة مؤقتة..!
__________
(1) النجم 28-30
(2) الرعد 14(6/59)
هذه المصابيح لا تبتسم لوجه الإنسان ، بل تستهزئ به ، وتستخف من ضحكاته التي يطلقها ببلاهة وهو متمرغ في أوحال أوضاع مؤلمة مبكية!
"فكل ذي حياة في نظر تلاميذك ، مسكين مبتلى بمصائب ناجمة من هجوم الظلمة، والدنيا مأتم عمومي والأصوات التي تنطلق منها نعيات الموت ، وأنّات الآلام ونياحات اليتامى"(1).
"إن الذي يتلقى الدرس منك ويسترشد بهديك يصبح فرعوناً طاغية، ولكنه فرعون ذليل ، إذ يعبد أخس الأشياء ويتخذ كل شيء ينتفع منه رباً له.
وتلميذك هذا متمرد أيضاً ولكنه متمرد مسكين إذ لأجل لذة تافهة يُقَبِّل قدم الشيطان ولأجل منفعة خسيسة يرض بمنتهى الذل والهوان وهو جبار ولكنه جبار عاجز في ذاته لأنه "لا يجد مرتكزاً في قلبه يأوي إليه. إن غاية ما يصبو إليه تلميذك وذروة همته: تطمين رغبات النفس وإشباع هواها."(2)
هكذا يلقي بديع الزمان ضوء فكره الثاقب على أوروبا وتلاميذها، ممن يمموا وجوههم شطرها، والتوت أعناقهم نحوها، فيظهر عوارهم، ويكشف خباياهم، ويفضح سريرتهم، ويحبط فكرتهم، ويقتل بحرارة منطقه وقوة حجته غرورهم وادعاءهم، ثم يبايع تلميذ القرآن في مقابل هؤلاء خليفة في الأرض، يقيم العدل، وينصر الحق، ويرقى الوجود، ويحيا لربه.
دور القيم الإسلامية في حماية المجتمع من التحلل الحضاري
وأثر النورسي في إحياء هذا الدور
القيم الإسلامية بجانب كونها أوامر إلهية يجب الامتثال لها، والحفاظ عليها، إلا أنها تؤدي في الوقت نفسه وظيفة اجتماعية هامة، فهي بمثابة جهاز المناعة المكتسبة الذي يحمي جسد الأمة من التآكل، ويحفظ الكيان العام من الجراثيم الاجتماعية والاقتصادية والنفسية التي تنخر في عظام المجتمع، وتعرضه لعمليات التفكك الحضاري والتحلل العام، ومن ثم يكون الضياع والفناء والهلاك.
__________
(1) اللمعات ص 180-181
(2) اللمعات ص 181(6/60)
كما أنها تخلق في الإنسان بعد الممارسة، ما يسمى بالضبط الإرادي لدى الفرد والمجتمع، وهذا ما تقصر دونه كل القوانين والتشريعات الأرضية.
فالقوانين والتشريعات الأرضية تحاول حماية الفرد والمجتمع عن طريق الضبط القهري الذي يتولد عادة عن الخوف من العقاب والمؤاخذة، فإذا أمن الإنسان العقاب واستشعر أنه في مأمن من المؤاخذة فإنه قد يفعل ما يحلو له.
والقوانين تحمي الحق الموجود، ولكنها تعجز عن إيجاد الحق المعدوم بحكم التقادم أو النسيان مثلاً. وهي بحكم بشريتها لا تستطيع أن تتعامل إلا مع بعض مظاهر الجريمة دون أن تتسرب إلى داخل النفس بالعلاج الناجع، لأن القانون يتعامل مع الظواهر الخارجية للإنسان دون أن يتدخل في بواطنه بحسم الدوافع، وتوجيهها الوجهة النافعة.
كما أنها تهتم بمراقبة الأعراض دون الأمراض، فلا تنقطع لها جذور، بل تكثر وتزداد بمختلف الدوافع والأشكال ما دام أصلها يستوطن النفس ويستقر في داخلها. وهكذا تفوت عليها الحيل الخادعة ، وتمر أغلب أعمال العدوان والظلم بغير عقاب، لأن صاحبها استقام بشكله الظاهر وسلوكه الخارجي مع حرفية القانون ثم التف وتلوَّى حولها بالحيل الخادعة، حتى وصل إلى غايته الشريرة، وكان بمنأى عن الحساب والعقاب.
والقوانين الوضعية حين تتعامل مع الإنسان تقف منه عند حدود إصلاح المظهر ، ولا تتوجه أو تتدخل لإصلاح الأعماق والوجدان . فهي مثلاً لا تعاقب على النوايا السيئة ، ما دامت الأفعال مشروعة في مظهرها الخارجي . وهي نظراً لقصور أدوات الرقابة فيها لا تمس من الحياة إلا قشرتها ، ولا تعالج إلا جنباً منها ، ومن ثم يستشري الفساد والشر فيما وراء القشرة حتى يعم الحياة فيعديها .(6/61)
ومن هنا تفشل هذه القوانين في التعامل مع الكيان الإنساني ككل، وتبقى الحياة بحاجة ماسة إلى تشريع يتناول الظاهر والباطن والسطح والأعماق ، يتناول الظاهر بفرض الروادع عن طريق وسائل العقاب القانونية ، ويتناول الباطن بالإصلاح والتهذيب والتربية ، ويغرس في القلب والوجدان إحساساً فياضاً برقابة المشرع .
وهذا كله لا يتأتى بغير الدين ، لأن عقيدة المسلم تفرض عليه بحكم الإيمان والإحسان رقابة تجعل المرء يفكر ويتصرف وكأنه "يرى الله" ، فإذا قصرت أدوات البصر والإدراك الحسي لديه عن حقيقة الرؤية ، فهو يعلم بيقين دينه أن الله تعالى يراه ويسمعه ويرقبه ويطلع منه على سره ونجواه وظاهره وباطنه ، وهذا هو الضبط الإرادي الذي تنفرد به شريعة الإسلام وتمتاز ، فهي تزاوج بين رقابة الظاهر بتقرير الحدود التي تقتلع جذور الإجرام من النفس البشرية ، وتحقق الردع لكل من تسول له نفسه العدوان على الفرد والمجتمع ، وبذلك تجفف منابع أمهات الجرائم التي يتولد منها ويتفرع عنها ترويع الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم ، كما أنها لا تكتفي بذلك فقط في معالجة ظاهر الحياة ، وإنما تعطي الحاكم المسلم البصير بأحكام دينه والحريص على حماية أمته مساحة واسعة من التعازير، يستطيع بها أن يعالج كل جنحة أو مخالفة بما يناسبها من العقاب بعد النظر فيما يترتب عليها من الفساد أو الضرر .(6/62)
هذا هو جانب إصلاح الظاهر ، لكن الإسلام لا يقف في توجيهاته عند إصلاح الظاهر فقط ، وإنما يتناول بالتربية والتهذيب نفس الإنسان من الداخل عن طريق الإحساس المستمر برقابة الله له ومعرفته لسره ونجواه، وهذا الإحساس بالحضور الإلهي حين يصبغ الشعور والفكر، ويسيطر على التصرفات والسلوكيات يجعل المرء يعيش في جو من المراقبة الدائمة التي تحميه من ضعف نفسه وتحميه من الإغراءات الخارجية ، كما تحميه من المجتمع حوله، ومن شرور كثيرة تموت في مهدها بتأثير العقيدة الحية التي تذكر الإنسان دائماً وتغرس في حسه وضميره بأن الله يراه.
ويستمر هذا الشعور داخل النفس ، ويبقى بتأثير الاستمرار في أداء الفرائض التي تزكي النفس وتطهرها بشكل دائم، وتجعلها في حالة من الترقي والصعود المستمر ، فلا تنمو لبواعث الشر جذور، وبذلك يستقيم الفرد على منهج دينه ، وتسلم شخصيته من شرور الانفصام والازدواجية التي تصيب الفرد ، فتنزع منه كل إحساس بأدنى مسؤولية تجاه نفسه وتجاه الآخرين .
وما يصلح به الإنسان وهو فرد ، هو ما يصلح به المجتمع أو الأمة، والقرآن الكريم لم يكتف في تربيته للإنسان بمجرد الترغيب في الخير بمنح الثواب عليه ، أو الترهيب من الشرور بوضع العقاب على فعلها ، وإنما عرض مع الترغيب والترهيب الآثار المدمرة لغياب القيم الإسلامية عن المجتمع ، وما لهذا الغياب من أثر في الإسراع بالسقوط والتفكك الحضاري للأمة ، وساق لذلك نماذج كي تبقى حية في الذهن والوجدان .
ومن هنا كان حديث القرآن عن الأمم السابقة ، وما حل بها من العقاب ، وقد تعرض من خلال نصوصه لحضارات بادت ، ووضح من خلال عرضه أسباب هلاكها ، وعرض أنواع الجراثيم التي تبيد الأمم والحضارات وتؤدي بها إلى الزوال والدمار ، حتى تتجنب أمتنا مسالكها، وحذر من السقوط في أسبابها ، وسد أمامها كل الطرق والأبواب والثغرات .(6/63)
والقرآن في عرضه للأمم المختلفة والحضارات المتعددة والمتفاوتة ، لا بربطها بالزمان ولا بالمكان ، وإنما يكتفي بالإشارة إلى شيء من خصائص تلك الحضارات ، كما يقدم الحدث ، ويذكر من خلال العرض، الأسباب التي أفضت إليه مجردة عن الزمان والمكان ، ليثبت من خلال ذلك ثبات السنن الاجتماعية والقوانين الإلهية التي يتعامل بها الحق سبحانه مع شتى الأجناس ، دون تفريق بين حضارة وحضارة أو بين جنس وجنس .
فإذا استجمعت أمة ما صفات الخير التي تنهض بها، وتبعت إرادتها، وترشحها للسيادة والقيادة ، فإنها تسود وتقود ، وإذا ارتكبت أمة ما مظالم معينة تسقطها عن مكانتها ، وتحرمها من توظيف ملكات وطاقات وقدرات أبنائها بالشكل اللائق ، واستثمار خبراتها بالأسلوب المناسب، طبقت عليها السنة الاجتماعية التي لا تتخلف ، ونالها قانون العقوبات الإلهي بما تستحق من التأديب والعقاب ، لذلك يرى مجدد العصر بديع الزمان النورسي:
"أن إحياء الدين إحياء للأمة وحياة الدين نور الحياة."(1)
فهل تحيا أمتنا بحياة دينها؟
وهل نحمي ما تبقى من كياننا في شخصية النشء بتكثيف دور القيم الإسلامية والتركيز على أهميتها في حماية مجتمعاتنا؟
إن هناك آلافاً من الشياطين المهتاجة تحاول إبعاد أجيالنا عن إسلامهم، وتسلك سبلاً جهنمية في صرفهم عن عقيدتهم ، وتحويل هذه العقيدة الحية إلى مجرد تراث أو آثار ، فهل سيخلو لهم الجو ليحققوا ما يقصدون؟ وهل سيتخلى الشرفاء عن دورهم في الذود عن دينهم وعقائدهم؟
وهل سيطول ليل الباطل وهل يبقى حبله ممدوداً بالشر أم سيأتي فجر جديد؟
خلف هذا الليل فجر ... ليت هذا الفجر لاح
إن للقدر مفاجآت .
والله من ورائهم محيط .
ضرورة حشد الطاقات والتصدي للأفكار العنصرية
في عقول الناشئة
__________
(1) المكتوبات ص 606(6/64)
في زحام الضجيج حول الوطنية والمواطنة والقومية، والأجنبي والوافد، يعلو في سماء أمتنا دخان كثيف يحجب الرؤية ، ويزكم الأنوف، وتحت هذا الدخان الأسود ، تعلو القبلية على المواطنة ، وتعلو المواطنة على الوطنية ، وتعلو القطرية على الوطنية ، وتعلو الفطرية على القومية ، ثم تكون الطامة الكبرى حين تعلو القومية على الدين .
ولسنا بالطبع ضد احترام الخصوصيات لكل شعب ، فالله قد خلق الناس من ذكر وأنثى وجعلهم شعوباً وقبائل ، ولكن ليتعارفوا لا ليتناكروا، وليتعاونوا لا ليتصارعوا ، ولسنا بالطبع ضد ولاء الإنسان لبني جنسه، أو لبني قومه، ولكننا نرفض القومية حين تطرح بديلاً عن دين الله.
والمتأمل الجاد في حياة أمتنا ، يجد الأهواء قد مزقتها، والعصبيات قد فتنتها ولعبت فتن الداخل والخارج بعقول أبنائها ، فقسمتهم بدل الأخوة إلى مواطن ووافد وأجنبي ، ونظر كل طرف إلى أخيه نظرة شك وارتياب، وغذيت وتغذى هذه الأحاسيس الشريرة الخاسرة لدى الناشئة وبعض المتعلمين ، وبالتالي اختلت موازين العدالة في التعامل بين أبناء الأمة الواحدة والدين الواحد .
ففي بعض البلاد ، ينظم السلم الوظيفي وفق بلد المولد حتى لو كان الإنسان يحمل جنسية السيد المطاع ، صاحب العيون الزرقاء والشعر الأصفر ، فمجرد معرفة أصل بلد المولد ، يتدنى الراتب وينخفض بعد أن كان في أعلى السلم الوظيفي ، بصرف النظر عن الكفاءات والقدرات والمؤهلات العلمية ، بل إن التفاوت يحدث أحياناً بين أبناء البلد الواحد لاعتبارات لا يعرف المرء أصلاً لها ولا من أين جاءت .
والغريب العجيب أن ينعكس هذا الوضع على الجيل الجديد ، فيمتلئ بعض الشباب بغرور الثراء ، وينظرون إلى الزملاء والأقران نظرة ازدراء وتحقير لمجرد أنهم "أجانب وافدون" ، هكذا يكتب التصنيف في بعض الدول .(6/65)
وإذا كانت أمتنا تعاني من هذه الأوضاع المختلة والمعتلة في بعض دولها، فإن هذه المعاناة إنما هي الثمرة المرة لسيادة الأفكار العنصرية على ميادين الحياة فترة من الزمن ليست قصيرة ، وهي أيضاً نتيجة لمد قومي عنصري ، نشأت جذوره بعيداً عن بيئتنا وأرضنا ، وقد طهرها الله برسالة الإسلام التي أرست قواعد الأخوة وبذرت بذور المحبة بين المسلم والمسلم وكرمت الإنسان بصرف النظر عن لونه أو جنسه أو حتى معتقداته .
ولقد تنبه مجدد العصر الإمام النورسي لخطورة هذه العنصرية ، فحاربها ووجه إليها كثيراً من سهامه الصائبة ، ودعا أتباعه ومريديه إلى نبذها وكراهيتها ، ولفت الأنظار إلى الجهات التي أثارت هذا الفكر ، وروجت له وصدرته إلى بلاد المسلمين ، فقال تحت عنوان المسألة الثالثة:
"لقد انتشر الفكر القومي وترسخ في هذا العصر. ويثير ظالموا أوروبا الماكرون بخاصة هذا الفكر بشكله السلبي في أوساط المسلمين ليمزقوهم ويسهل لهم ابتلاعهم."(1)
ثم يتابع النورسي ، وكأنه يرانا من وراء الغيب ، ويضطلع منا على ما نعانيه من تشتت وعداء لا مبرر له فيقول:
"إن التباغض والتنافر بين عناصر الإسلام وقبائله ، بسبب من الفكر القومي هلاك عظيم وخطب جسيم ، إذ أن تلك العناصر أحوج ما يكون بعضهم لبعض ، لكثرة ما وقع عليهم من ظلم وإجحاف ولشدة الفقر الذي نزل بهم ، ولسيطرة الأجانب عليهم يقصد بالأجانب الاستعمار، كل ذلك يسحقهم سحقاً لذا فإن نظر هؤلاء بعضهم لبعض نظرة العداء مصيبة كبرى لا توصف ، بل إنه جنون أشبه ما يكون بجنون من يهتم بلسع البعوض ولا يعبأ بالثعابين الماردة التي تحوم حوله."(2)
ثم يخاطب أبناء تركيا بلد الخلافة وعاصمة المسلمين ، بعدما اغتالتها الأيدي الآثمة وحركت فيها نوازع القومية والعداء لكل ما هو إسلامي وعربي حتى حروف الهجاء فيقول:
__________
(1) المكتوبات 415
(2) المكتوبات 415(6/66)
"ليس بين أفراد الجنوب من يستحق أن يعادى حقاً، بل ما أتى من الجنوب إلا نور القرآن وضياء الإسلام الذي شع نوره فينا وفي كل مكان. فالعداء لأولئك الإخوان في الدين وبدوره العداء للإسلام ، إنما يمس القرآن وهو عداء لجميع أولئك المواطنين ولحياتهم ، الدنيوية والأخروية. لذا فإدعاء الغيرة القومية بنية خدمة المجتمع يهدم حجر الزاوية للحياتين معاً، فهي حماقة كبرى وليست حمية وغيرة قطعاً."(1)
لقد تعلم الرجل العظيم من أصل دينه أن الإسلام على مستوى التاريخ يطوي أبعاد الزمان ويجمع الأنبياء في عقد واحد ، والبشر في أصل واحد، ويحتم على الجميع أن يتعاونوا وما لم يتعاونوا ديناً لوجب عليهم أن يتعاونوا نسباً وصهراً ، يقول تعالى:
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ، إن الله كان عليكم رقيباً } (2)
ويوجب على أتباعه والمؤمنين به أن يؤمنوا بكل الرسالات السابقة وأن يحترموا ويوقروا جميع الأنبياء السابقين ، فيقول سبحانه:
{ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } (3).
وعلى مستوى الجغرافيا ، لا يعترف بنقاط التفتيش ولا بالحدود المصطنعة ، فالناس جميعاً من أصل واحد ، وكلهم لآدم وآدم من تراب .
والمؤمنون به أخوة ، يتساوون في الحقوق والواجبات ، حقوقهم محفوظة ، وكرامتهم مصانة وحرياتهم محترمة ، مهما اختلفت مواقعهم وأماكنهم ، وبصرف النظر عن ألوانهم وأعراقهم فرب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبرّه ، والعبرة في قيمتهم بالعلم والتقوى والعمل الصالح ، يقول الحق تعالى:
__________
(1) المكتوبات 415
(2) النساء 1
(3) البقرة 285(6/67)
{ يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، إن الله عليم خبير } (1)
فهل تكون هذه المبادئ نبراساً لنا في قضية تعليم وتكوين الناشئة، ونحن نواجه تكتلات بين أجناس شتى ، لغاتها ليست واحدة ومذاهبها ليست واحدة وأجناسها ليست واحدة ، ومع ذل يجمعها رباط المصالح المادية، وتتوحد فيما بينها التصورات نحو الكثير من القضايا حماية لمصالحها وابتغاءً لقوتها؟
وهل تكون أمتنا آخر أمم الأرض سماعاً للنصح ، واستجابة لنداء المصالح ، وتلبية لأمر الله بوحدة المسلمين ، ونبذ أسباب التفرقة والعنصرية؟ ذلك ما يرفضه منطق العقل ويأباه ، خاصة ونحن نواجه تحديات تستهدف الدين والهوية والمستقبل والمصير .
فضح الغش الثقافي والتصدي لحرب
المصطلحات التي تتعرض لها الأمة
لم تتعرض أمة من أمم الأرض لهجمة تستهدف عقيدتها وهويتها مثلما تتعرض أمتنا في زمنها الراهن . وإذا كان القرآن الكريم قد نبهنا إلى طبيعة الأعداء وأساليب هجومهم ، فإن الأمة في زمن الغفلة والانكسارات نسيت هذا التحذير وأغفلت هذا التنبيه فكان ما كان . قال تعالى:
{ لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيراً } (2)
وهذا الأذى الكثير بوصف القرآن له لم يتوقف يوماً ، ولم يأت من طريق واحد ، وإنما كان ولا يزال يسلك إلينا كل طريق ويحاول الدخول علينا من كل باب.
__________
(1) الحجرات 13
(2) آل عمران 186(6/68)
وإذا كانت اليقظة مطلوبة في كل وقت ، فهي في زمن الانكسارات والنكبات تصبح مطلباً يتجاوز حدود الاحتياج ليصل إلى حد الضرورة، حيث بها وعن طريقها تستعيد الأمة وعيها الغائب ورشدها المفقود وإرادتها المسلوبة ، كما تستثير هذه اليقظة عناصر المقاومة الذاتية والكامنة في ضمير الأمة ، ومن ثم تخرج من غيبوبة الهزائم لتدخل في مرحلة الإنعاش والصحوة ، وبقدر ما يكون لدى الإنسان الفرد من يقظة ووعي بقدر ما تتشكل عقلية الأمة ، أو يتشكل العقل الجمعي فيها .
فإذا كانت المكونات الثقافية لهذا العقل حية نابضة ، تحركت الأمة في الاتجاه الصحيح ، واتسعت مساحة حضورها وتأثيرها على مستوى الجغرافيا والتاريخ أيضاً .
أما إذا كانت هذه المكونات ميتة أو فاسدة ، ولم تكن نابعة من أصالة تحصن البيئة ضد عوامل الدمج والذوبان ، فإن الأمة تفرغ من محتواها، وتغيب عن دورها ورسالتها ، ويتلهى أبناؤها بالحديث في الغث من الثقافة، والشارد الضال من الفكر، ثم يدخلون في جدليات تستنفد الجهد والطاقة، ولا تعود بفائدة تذكر في النمو الاجتماعي أو برقي في ميادين الحياة.
ومن هنا يتحتم بالضرورة حماية العقل ، عقل الفرد والمجتمع ، من الجراثيم الثقافية التي تفتك به ، وتهدد وجوده ، وتبدد جهوده ، وذلك بمطاردة الفكر الضال الذي يؤصل العجز ، ويكرس الهزيمة النفسية والفكرية ، ويشيع لدى المسلم روح الاستسلام .
ولما كان الإنسان هو العنصر المؤثر والمباشر في رفع عار الهزائم ، وذلك ببذل الجهد واستثمار الطاقة وتوظيف الإمكانيات ، فإنه والحالة هذه يكون في مقدمة الثروات ، ويكون أعلى وأغلى رأسمال يجب حمايته والمحافظة عليه والدفاع دون اختراقه عقلاً ووجداناً ، وحمايته في هذه الحالة، إنما هي حماية للأمة ، واستبقاء لكيانها العام ، وتحصينه بالثقافة الحية والفكر الأصيل هو تحصين للأمة من التدمير الداخلي ، بإشاعة الإحباط والفشل بين جنباتها المختلفة .(6/69)
وضمن ما تتعرض له عقول أبناء الأمة من الخطر ، بل في مقدمة السموم الثقافية التي يتم تناولها في كل يوم مقروءة ومسموعة ومرئية ما يسمى بحرب المصطلحات .
وهي حرب يقصد بها أحياناً تكريس معنى معين ، يخدم قضية بذاتها، أو يمهد لفكرة يريد العدو إشاعتها بيننا فيركز إعلامياً عليها، وعن طريق الإلحاح والتكرار ترسخ في الأذهان وتستقر في الوجدان العام ، وتتلقاها الأجيال ، وكأنها مسلمات دون بحث في حقيقتها أو تحليل لمضمونها ومحتواها .
ومن هنا تفرغ الكلمات من مضمونها الحقيقي، ومن معناها اللغوي، وذلك باستعمالها بخبث ومكر ودهاء في غير معناها ، وأحياناً في عكس معناها ، والأمثلة على ذلك عديدة ومتنوعة.
منها مثلاً: مصطلح النص في مقابل العقل ، الأصالة أو المعاصرة، الصراع بين العلم والدين ، قهر الطبيعة ، الأصولية والإرهاب ، التشدد والتطرف والهوس الديني، وما إلى ذلك من مفردات كثيرة يراد لأبنائنا قبولها واستعمالها والتآلف معها وكأنها قضايا مسلمة ، وهي مصطلحات أطلقتها صحف وإذاعات، من خلفها مؤسسات أجنبية ، لا تضمر خيراً للإسلام ، ولا تكن احتراماً للمسلمين ، فضلاً عن أنها قبل أن تبث خبراً ما تكون قد حسبت حساباتها الدقيقة لمدلوله وآثاره وردود أفعاله في عقول ومشاعر الذين يتلقونه خصوصاً من أبناء العالم الثالث، وطبيعي جداً أن تكون كل الحسابات لصالح هذه الجهات في الحاضر والمستقبل معاً ولذلك تختار الكلمات من قبلهم بدقة متناهية لتفضي في النهاية إلى ما يريدون ، ثم تجري على ألسنتنا نحن بما يخدم قضاياهم ويحمي مصالحهم ويقتل كل عناصر الرفض والمقاومة في الأمة المحروبة ، بمزيد من إضفاء صفات الكراهية والتنفير على كل الرافضين للقهر والاستبداد والاستغلال، وذلك بإطلاق المصطلحات إياها والمعروفة لدى الجميع .(6/70)
وإذا تركت الأمة عقول ووجدان أبنائها مستباحة لدى الآخرين ، ليبثوا فيها سمومهم بحجة حرية الثقافة ، وحرية المعلومات، وحرية الاختيار، خصوصاً لدى النشء الجديد الذي لا حصانة لديه ولا معرفة له بأساليب الآخرين ، فالنتيجة ستكون وخيمة ، والكارثة ستكون فادحة ، وذلك بالطبع نذير شؤم لا بد أن يحسب العقلاء حسابه ، وأن يسارع كل الشرفاء إلى التخلص منه ، لأنه وباء جديد ينتشر في عقل الأمة ، فيكرس فيها الهزيمة ويغرس في وجدانها جذور الإحباط ، ومن هنا تكون صياغة الرأي العام ، وصناعة الأفكار والعقول ، من أخطر المهام التي تؤثر في حياة الأمم والشعوب في الحاضر والمستقبل ، ويتحتم على أمتنا بحكم تحديات الصراع ، أن تدخل في هذا المجال ، وأن يتحول العمل فيه إلى واجب وجهاد يعدل في قيمته الدينية مع الصلاة والصيام والحج ، لأنه يحمي عقول الأمة من الاجتياح الفكري الظالم الذي تجب مقاومته ديناً، كما تجب مقاومته رجولةً وشرفاً حمايةً لمستقبل الأمة من الانبهار غير المحسوب ، والانهيار المنتظر على المدى القريب أو البعيد . والغريب أن الآخرين في مواجهة الأمة لم يكتفوا بما لديهم من إمكانيات ووسائل، وإنما جندوا لهذه الأغراض جنوداً عندنا يكتبون ، ولكن بأقلام الآخرين، ويهتفون ولكن أيضاً بأصوات وحناجر الآخرين .
وقد كان النورسي واحداً من أولئك الذين تصدوا لهؤلاء وكشف خباياهم وخاطبهم قائلاً: "إن تصوير الأباطيل تصويراً جيداً إضلال للأذهان الصافية."(1)
ثم يشير رحمة الله عليه إلى حجم التدليس والخلط الذي يمارسه هؤلاء ضد دينهم وأمتهم ، حيث يدّعون الوطنية ويلبسون ثياب الناصحين وهم يمارسون تزييف وعي الأمة ، ويبثون سمومهم للجماهير في أسلوب خدَّاع لا ينطوي على أهل العلم والحصافة فيقول:
__________
(1) المكتوبات ص 603(6/71)
" لقد وضع الظلم على رأسه قلنسوة العدالة ، ولبست الخيانة رداء الحمية ، وأطلق على الجهاد اسم البغي ، وعلى الأسر اسم الحرية ، وهكذا تبادلت الأضداد صورها."(1)
وينبه الأمة ويحذرها من مغبة السكوت على ذلك أو التودد إلى هؤلاء، فالتودد إليهم لا يقلل من حقدهم وكراهيتهم لدين الله ولمجتمعات المسلمين، وإنما يزيدهم ضراوة وشراسة ، يقول النورسي:
"إن التودد إلى وحش جائع لا يثير شفقته بل يثير شهيته فضلاً عن أنه يطالب بأجرة أنيابه وأظفاره."(2)
ألا فلتسمع الدنيا صوت هذا العالم الرباني ، وليت للبراق عيناً ، فترى ما تعانيه أمتنا وهي تجثو مترجية أمام الوحش الهائج ، فإذا بهذا الرجاء لا يزيده إلا إمعاناً في إهانتها ، وتحقيراً لشعوبها ، وإبادةً لأبنائها ، ثم يطالب بالمزيد من الأجر لأنيابه التي اغتالت كرامتها ، وأراقت دماءها ، وأغرت بها القاصي والداني .
فهل بقي بعد ذلك ثوب يستر فكر محتال ؟!
وهل بقي بعد ذلك حجاب يغطي وجه دجال؟!
{ فلا تطع المكذبين ، ودّوا لو تدهن فيدهنون } (3)
خاتمة
بديع الزمان الرجل والدور التاريخي
وبعد ، فنحن أمام رجل من طراز فريد ، فهو عالم رباني يعيد للأذهان صور العلماء العمالقة ، وكأن التاريخ يستدير كهيئته الأولى ، وكأن الزمان يضاجع الألم والمعاناة فينجب أمثال هذا الرجل العظيم الذي لا يملك إلا قلباً وهبه لله ، وعقلاً سخره لخدمة قضايا دينه وفكرته ، فعالج كأفضل ما يكون العلاج ، ووصف كأصدق ما يكون الوصف .
__________
(1) المكتوبات ص 604
(2) المكتوبات ص 404
(3) القلم 8-9(6/72)
وعاش بين الناس متواضعاً، يرشد ، ويوجه، ويبعث الأمل ، وينشط الهمم في كفاح لا يعرف الملل ، وعراك مع شياطين الأنس لا يعرف الهزيمة، ولا يتوقف عن النزال مهما كانت الجراح حتى ولو تهددت الحياة، وبالتالي فأمثال هؤلاء الرجال لا يمكن إغواؤهم بمنح متع الحياة لهم، ولا بمنع الحياة نفسها عنهم ، فالحياة الدنيا في نظرهم ليست غايةً ومطلباً ، وإنما ما بعد الحياة الدنيا هو المطلوب المرغوب .
وإذا كانت الأرض لن تخلو أبداً من قائم لله بحجة ، إما ظاهراً مشهوراً، وإما خائفاً مغموراً، لئلا تبطل حجج الله وبيناته، أولئك والله الأقلون عدداً، والأعظمون عند الله قدراً، يحفظ الله بهم حججه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم ، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة ، فباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون، وآنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى ، وعاشوا حياتهم وهم يتطلعون إلى لحظة الخلود بلقاء الله، فهانت عليهم الدنيا وصغرت في عيونهم كل قوى الطواغيت فتحدوها برجولة منقطعة النظير، وبإيمان تتزلزل الجبال ولا يزول .
وقد كان بديع الزمان واحداً من هؤلاء الذين هم أعظم عند الله قدراً، وكأن قدر الله اختار الرجل ليؤدي هذا الدور التاريخي في مرحلة تعد من أخطر مراحل التحول في حياة تركيا وحياة المسلمين عموماً ، وليكون الرجل شاهد عصره وزمانه وكأن فم الزمان يقول بلسانه:
لا لن تخبو أبداً أنوار الحق
لا لن يسكت أبداً صوت الأذان
لا ولن تتوارى أبداً شمس الإسلام
لا ولن يعلو أبداً صوت الشيطان فوق صوت الوحي المعصوم مهما تقدم الباطل وطال ليله وامتد حبله وانتفخت أوداجه .
ونسمع من بعيد صوت الرجل وهو يستشف حجب الغيب المكنون، وينبه الغافلين إلى سنة كونية مفادها إن الله لا يصلح عمل المفسدين فيقول لهم:(6/73)
"ليس بالإمكان القيام بعمل إيجابي بنّاء مع التهاون في الدين ، حيث اقتربت الحضارة القرآنية من الظهور، وأوشكت الحضارة الأوروبية الضالة المسؤولة عن ضعف الدين على التمزق والانهيار."
فهل يفهم المهزومون وسماسرة الثقافة وتجار الفكر الشارد هذه النبوءة؟
رحم الله بديع الزمان ، فقد تخطى بنظره الثاقب وكلماته الصادقة حدود الزمان ، كما تخطى بفكره الناضج نقاط التفتيش وحدود المكان .
وهكذا يعيش العظماء ويحيون رغم الممات، ويخلدون رغم تحلل الأجساد. وإذا كان الأموات الذين لا يسمعون في مجتمعات المسلمين يحاولون قتل الأحياء والقضاء على فكرهم الفوار بالحيوية والحركة ، إلا أن الأفكار المستمدة من كلمات الله تستعصي على الفناء ، ولا تجري عليها قوانين التغيير ولا التزوير، لأن سرها من كلمات الله ، وخلودها من خلود كلماته، فستبقى تعلو ولا يعلى عليها، وتهدر كالإعصار، فتلقف ما يأفكون، وتحيا وإن مات أصحابها ، وتخلد في الضمائر والعقول برغم ضراوة الفساد الذي يحاول أن يحجب الرؤية، ويشوه الحقائق، وينال من أقدار العظماء .
وسيبقى سعيد تسعد بكلماته الأجيال، وتستضيء بفكره الأمة، فتستمد منه طهارة النفس من الإثم ، وطهارة العقل من الخرافة ، وطهارة القلب مما سوى الله . لأنه من بحار التوحيد ينهل، ومن السنة يرتوي، وعلى كلمات القرآن وبها يحيا سعيداً وبديعاً في زمانه ، وفي كل الزمان.
سلام عليك أيها الإمام في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر .
وجمعنا الله بك في جواره الذي هو أكرم وأخلد وأعز .
مصادر البحث
القرآن الكريم
السنة النبوية المطهرة
كليات رسائل النور، تأليف سعيد النورسي، ترجمة إحسان قاسم الصالحي
الكلمات ، ج1 ، ط1 ، 1992 .
المكتوبات ، ج2 ، ط1 ، 1992 .
الشعاعات
اللمعات
بديع الزمان سعيد النورسي في مؤتمر عالمي، أبحاث مؤتمر استانبول، 1992 .(6/74)
منهج الإصلاح والتغيير عند بديع الزمان النورسي، عبد الله محمود طنطاوي ، ط1 ، دار القلم ، دمشق ، 1997 .
منهج الإسلام في تحقيق الأمن، ج2، رسالة دكتوراه، الدكتور إبراهيم ابو محمد .
دعوة إلى التفكير ، ط2 ، الدكتور إبراهيم أبو محمد ، أبو ظبي للطباعة والنشر، 1996.
دعوة إلى التأمل ، ط2 ، الدكتور إبراهيم أبو محمد ، أبو ظبي للطباعة والنشر، 1994.(6/75)
الرّجُل والإعصَار
سيرة ذاتية مختصرة
لبديع الزمان سعيد النورسي
ترجمة وإعداد
إحسان قاسم الصالحي
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه ، وبعد
فقد منّ الله سبحانه وتعالى علينا فضلاً منه وكرماً بإصدار الجزء التاسع من كليات رسائل النور وهو "سيرة ذاتية" مفصلة للأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي، وقد اقترح عليّ أخوة أفاضل أن اختصرها في كتيب يكون سهل التناول ويضم بين دفتيه الأحداث البارزة من حياة الأستاذ على أن تبقى السيرة المفصلة مرجعا لمن أراد البحث والدراسة. فبادرت بالعمل وحرصت أن يكون الاختصار جامعاً لأهم الأحداث التي مرّ بها الأستاذ النورسي، فكان هذا الكتيب الذي أقدّمه بكل تواضع للقارئ الكريم عسى أن نغنم منه دعاء مستجابا عند الله تعالى.
وقد آثرت أن أتبع منهجاً متميزاً في كتابة السيرة الذاتية المفصلة ، وهو التقاط ما سجله الأستاذ النورسي عن حياته من الخواطر والأحداث التي بثّها بين سطور "كليات رسائل النور" البالغة ثمانية مجلدات، ثم القيام بترتيب هذه المتناثرات وتنظيمها حسب تسلسلها التاريخي. وإكمال ما يستوجب إكماله من كتاب "تاريخجه حياة" الذي كتبه طلابه المقربون إليه بالتركية وأقرّه بنفسه .(7/1)
ولهذا فإن متن الكتاب كله من كلام الأستاذ النورسي نفسه الذي ورد في "كليات رسائل النور"، مع فقرات من كتاب "تاريخجه حياة" الذي أقرّه. وميّزتُ فقراته عن كلام الأستاذ نفسه بحصرها بين علامة اقتباس مزدوجة “ ”. ثم نظمت كلها حسب التسلسل التاريخي. بينما أوردت في الهوامش ما يعزّز المتن ويوضحه مما اقتبستُه من المصادر التركية،(1) بل أضفت في بعض المواضع ما سمعتُه مباشرة من الطلاب الذين لازموا الأستاذ النورسي، فانتقيت من هذه المشاهدات والخواطر ما تأيد من قبل شهود كثيرين أو مما تأيد تواتراً.
ولعل السبب الأساس في اختيار هذا النمط الصعب من الكتابة والإعداد هو جعل القارئ الكريم يواجه الأستاذ النورسي مباشرة ويستمع إليه بنفسه من دون أن يكون بينهما أحد، أي لئلا يكون لي تأثير ما على مشاعر القارئ وأحاسيسه، حيث إن الكاتب مهما حاول التجرد والموضوعية فإنه قد يضفي على صاحب السيرة دون قصد شيئاً من الإعجاب والثناء على ما كتب وسجل.
هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن أي مصدر من المصادر لا يرقى في مصداقيته مهما كان صائباً وصادقاً على ما سجّله الأستاذ النورسي عن نفسه أو أقره.
والله نسأل حسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل.
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
إحسان قاسم الصالحي
الفصل الأول
المولد والنشأة
1877م (1294هـ)
هويته الشخصية:
الاسم واللقب ... : بديع الزمان سعيد..
__________
(1) وقد رمزت بحرف(ب) لكتاب Bediuzzaman Said-I Nursi, Mufassal Tarihce-I Hayat? (تاريخ حياة بديع الزمان سعيد النورسي المفصل) لعبد القادر بادللي. وبحرف (ش) لكتاب Bilinmeyen Taraflariyle Bediuzzaman Said Nursi (جوانب مجهولة عن بديع الزمان سعيد النورسي) لنجم الدين شاهين أر.(7/2)
اسم الوالد ... : ميرزا.(1)
اسم الوالدة ... : نورية.(2)
تأريخ الولادة ... : سنة 1293 (3)
مسقط الرأس : قرية "نورس" التابعة لناحية "إسپاريت" المرتبطة بقضاء "خيزان" من أعمال ولاية "بتليس".
الملة ... ... : مسلم
الشكل ... : طويل القامة، عسلي العيون، حنطي اللون.
العلامات الفارقة: بلا (4)
إحسان المولى العميم:
إنني لم أشاهد والدتي الرؤوفة منذ التاسعة من عمري، فلم أحظ بتبادل الحوار اللطيف معها فى جلساتها. فبتّ محروماً من تلك المحبة الرفيعة. ولم أتمكن من مشاهدة أخواتي الثلاث(5) منذ الخامسة عشر من عمري، فقد ارتحلن ووالدتي إلى عالم البرزخ. فبتّ محروماً من كثير من ألطاف الرحمة والاحترام التي تنثر في الجلسات الأخوية الطيبة اللذيذة في الدنيا. ولم أشاهد أيضاً أخوين من إخواني الثلاثة(6)
__________
(1) كان والده "الصوفي ميرزا" ورعاً يُضرب به المثل، لم يذق حراماً، ولم يطعم أولاده من غير الحلال. حتى إنه كان إذا عاد بمواشيه من المرعى شد أفواهها لئلا تأكل من مزارع الآخرين.(ش/ 54).
(2) عندما سئلت والدته: ما طريقتك في تربية أولادك حتى حازوا هذا الذكاء النادر؟ أجابت: لم أفارق صلاة التهجد طوال حياتي إلاّ الأيام المعذورة شرعاً. ولم أرضع أولادي إلا على طهر ووضوء. (ب/ 59).
(3) حسب التأريخ الرومي الذي كان يستعمل رسمياً في أواخر الدولة العثمانية وتبدأ فيه السنة أول مارت، وهذه السنة توافق سنة 1294 هـ و 1876- 1877م.
(4) من الوثيقة التي أملاها الأستاذ النورسي حين قبوله عضواً في "دار الحكمة الإسلامية". (ش/ 198)
(5) وهن: درّية وخانم ومرجان.
(6) وهم: عبد الله وهو والد "عبدالرحمن" تلميذ الأستاذ النورسي وابنه المعنوي. ومحمد وعبد المجيد: توفي سنة 1967.
فأبناء السيد ميرزا بالتسلسل هم: درية، خانم، عبدالله، سعيد، محمد، عبد المجيد، مرجان.(7/3)
- منذ خمسين سنة - رحمهم الله - فبتّ محروماً من السرور المنبثق من الاخوة الودودة والشفقة العطوفة في مجالسة أولئك الأعزاء المتقين العلماء… وعوضاً عن كل ذلك
وقد أحسن الرحيم سبحانه وتعالى عليّ، اُلوفاً من الوالدات اللائي يستفدن من رسائل النور استفادة تفوق المعتاد ويتذوقن منها أذواقاً روحية..
وأحسن المولى الكريم عليّ بالألوف من السيدات والشابات، وجعلهن سبحانه وتعالى في موضع أخوات لي، فاستفيد من دعواتهن وتعلقهن برسائل النور ألوفاً من الفوائد والثمرات المعنوية والمسرات الروحية…
وأحسن سبحانه وتعالى برحمته عليّ بمئات الألوف من الأخوة الحقيقيين المضحين في خدمة رسائل النور…
وأنعم سبحانه وتعالى عليّ بمئات الألوف من الأولاد الأبرياء، من حيث استفادتهم من رسائل النور مستقبلاً..(1)
نسبه:(2)
قال الخبراء في محكمة "دنيزلى"..: لو ادّعى سعيد النورسي أنه المهدي فإن جميع طلابه يصدّقونه برحابة صدر. وأنا قد قلت لهم في المحكمة:
__________
(1) الملاحق - اميرداغ 2/ 397
(2) ينقل شهود كثيرون أن الأستاذ النورسي كان قد ذكر في مجالسه الخاصة: أن نسبه ينتهي من جهة الأب إلى الإمام الحسن ومن جهة الأم إلى الإمام الحسين رضي الله عنهما إلا أنه لم يصرح بذلك في رسائله حفاظاً على الإخلاص وتجنبا عن إحراز مقام معنوي في نظر الناس.
فمثلاً: "يا أخي إن المنتسب إلى سيدنا علي رضي الله عنه هو أنا، فما أتاني من شيء إلا من سبيله..". Son ?ahitler 1/ 240
ومثلا: "يا أخي صالح إنك سيد - من أهل البيت - حقاّ، ونورية كذلك سيدة، ومرزا أيضا سيد". Son ?ahitler 3/ 201
ومثلا: "إنني سيد - من أهل البيت - ولكن إحذر أن تذكر هذا لأحد، فوالدتي حسينية ، ووالدي حسني". Son ?ahitler 3/ 238(7/4)