الإهداء
إلى كل مسلم حريص على إعزاز دين الله ونصرته أهدي هذا الكتاب سائلاً المولى عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا أن يكون خالصاً لوجهه الكريم قال تعالى: " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً " (الكهف، آية: 111).(1/3)
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما " (الأحزاب: 71، 70).
يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك ولك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضى، فالله تعالى الحمد كما ينبغي لجلاله وله الثناء كما يليق بكماله، وله المجد كما تستدعيه عظمته وكبرياؤه أما بعد:
فهذا كتاب "السلطان الشهيد عماد الدين زنكي شخصيته وعصره" وقد تحدثت فيه عن الزنكيين، من حيث أصول أسرتهم وعن جدهم آق سنقر ومكانته لدى السلطان ملكشاه، وسياسته الداخليلة والخارجية في حلب تولي إمارتها وعن نشأة عماد الدين زنكي وبزوغ نجمه السياسي ودور بهاء الدين الشهرزوري في تعيينه أميراً على الموصل، وعن أهم صفاته، كالشجاعة، والهيبة، والدهاء، والمكر والحيلة واليقظة والحذر، والذكاء، وقدرته على اختيار الأكفاء من الرجال، ووفاؤه لأصحابه، وغيرته على
محارمهم، وعدله، وعبادته وهواياته ويتحدث عن سياسته الداخلية، والنظم الإدارية والعسكرية وعلاقة عماد الدين زنكي بالخلافة العباسية والسلطنة السلجوقية، وتوسع عماد الدين في شمال بلاد الشام وإقليم الجزيرة، وعلاقته بالأكراد، كبني أيوب حكام تكريت، والأكراد الحميدية والعكارية،
والمهرانية والبشنوية، وعلاقته بالإمارات المحلية في ديار بكر، ومحاولاته في ضم دمشق سواء بالتفاهم أم بالحصار أم بالسياسة وتكلمت عن جهاده ضد الصليبيين، وتطرقت لحال المسلمين قبل مجيئه للإمارة، وسياسته مع الصليبيين وفتحه للحصون والقلاع وسعيه الحثيث لتوحيد الجبهة الإسلامية وقيادتها لمقاومة الاحتلال الصليبي وذكرت مناصرة عماد الدين لبني منقذ عندما تعرضت إمارة شيزر لمحاصرة الجيش البيزنطي والصليبي، ومواقفه البطولية في مقارعة الغزاة وأساليبه التي استخدمها ضدهم سواء نفسية أو تعبوئية من طلب النجدة من مختلف المناطق واستخدم سهام الحيلة والدهاء لتعميق الخلاف بين أفرنج الشام وملك الروم البيزنطي وقد حقق نجاحاً منقطع النظير في هذا الميدان، وفي نهاية المطاف اضطر الأمبراطور البيزنطي فك حصاره عن شيزر بفضل الله ثم جهود عماد الدين(1/5)
العسكرية وكانت من أهم النتائج التي أسفرت عنها هذه الحملة تدهور العلاقات بين البيزنطيين والصليبيين، وعدم استطاعتهم القيام بعمل سريع ضد نشاط زنكي في المنطقة في السنين التالية، وقد انهمك عماد الدين بعد ذلك على اتمام خطته بتوحيد الجبهة الإسلامية، كي يكون أكثر قدرة على مجابهة الصليبيين وأشاد الشعراء بدفاع عماد الدين زنكي عن شيزر فقال ابن قسيم الحموى في مدحه:
بعزمك أيها الملك العظيم ... تَذِلُ لك الصَّعاب وتستقيم
ألم تر أن كلب الرُّوم لمَّا ... تًبيَّنَ أنه الملك الرحيم
فجاء يطبَّق الفلوات خيلاً ... كأن الجَحْفَل الليل البهيم
إلى أن قال:
أيلتمس الفرنجُ لديك عفواً ... وأنت بقطع دابرها زعيم
إذا خطرت سيوفك في نفوس ... فأوّل ما تفارقها الجسوم
واستطاع عماد الدين بفضل الله ثم بجهوده الميمونة أن ينتزع من الصليبيين إمارة الرها التي تأسست في الشرق الإسلامي سنة 491هـ/1097م بزعامة بدوين الأول وكان تحريرها في عام 539هـ وقد ساعد عماد الدين زنكي عوامل عديدة في فتح الرها من أهمها؛ تنامي حركة الجهاد الإسلامي حتى عصره وحصاد تجربة المسلمين في ذلك المجال، فلا ريب في أن
التجارب السابقة أثبت أن إمارة الرها مرشحة أكثر من غيرها لكي تكون أولى الإمارات الصليبية المعرضة للسقوط في أيدي قادة الجهاد الإسلامي حينذاك، وقد اجهدها أمر الإغارات المستمرة من جانب أمراء الموصل خلال فترة تزيد على أربعة عقود من الزمان على نحو مثل موتا بطيئاً لها إلى أن تم الاجهاز عليها في العام المذكور ويضاف إلى ذلك براعة عماد الدين العسكرية الذي فاجأ تلك الإمارة الصليبية بالهجوم، بعد أن أطمأن الصليبيون إليه وتصوروا أنه لن يهاجم فاستغل فرصة غياب أميرها جوسلين الثاني عنها ووجه لها ضربته القاضية التي انتهت بإسقاطها، وهكذا أثبت ذلك القائد الكبير أنه اختار التوقيت الملائم لذلك العمل العسكري العظيم لقد حقق عماد الدين زنكي بفتح الرها أهم إنجازاته التي قام بها ضد الصليبيين طوال مدة حكمه وكان لهذا النصر نتائج هامة في العالمين الإسلامي والنصراني ومن أهم تلك النتائج على الإجمال:
1 - تأكد للمسلمين أن حركة الجهاد الإسلامي وصلت سن الرشد وتجاوزت المراهقة السياسية والعسكرية دون أن يكون ذلك إجحاف بإنجازات القادة السابقين على زنكي(1/6)
لاسيما الأمير مودود بن التونتكين وإذا كانت أولى الإمارات الصليبية تهاوت تحت أيديهم فإنها البداية، واليوم أسقاط الرها وغداً إسقاط باقي الكيان الغازي الدخيل، وهذا ما حدث فعلاً ومن الآن فصاعداً لن تعود عقارب الساعة إلى الوراء، بل التقدم إلى الأمام بكل ثقة، وإباء.
2 - تأكد منطق التاريخ من أن مثل تلك الكيانات الصليبية الغير شرعية لن تستمر على الأرض المسلمة، لأن أبناء المنطقة أصحاب الهوية الدينية الموحدة لن يقبلوا بذلك الوضع السياسي والعسكري الدخيل وبالتالي عاد التجانس لمنطقة شمال العراق ولم تعد الرها تمثل دور الفصل والكيان الصليبي الحاجز المانع من الاتصال بين كل من سلاجقة آسيا الصغرى، وسلاجقة الروم، وكذلك بلاد فارس.
3 - كما أدى سقوط الرها بمثل هذه الصورة إلى تحرك الحلف الدفاعي الاستراتيجي القائم بين الكيان الصليبي في الشرق والرحم الأم، فلم يكن ذلك الغرب يسمح لامتداده السياسي، والتاريخي في الشرق أن ينهار قطعة قطعة، بل لابد من التدخل من أجل إعادة الأمور إلى نصابها وإجهاز فعاليات إمارة الموصل ومن ثم كان قيام الحملة الصليبية الثانية عام 542هـ وهي من النتائج المباشرة لإسقاط الرها وهو أمر يوضح لنا بجلاء كيف أن قادة الجهاد الإسلامي حاربوا قوى عالمية، ولم تكن مجرد قوى محلية محدودة التأثير والفعالية،
وأنهم بالفعل كانوا جزءاً من صراع قاري أو عالمي على نحو يجعل لهم مكانة بارزة في تاريخ المسلمين وقد مدح الشعراء الإنجاز الكبير الذي قام به عماد الدين لفتحه إمارة الرها، فقد وصف ابن الأثير جيش عماد الدين في خروجه لفتح الرها فقال:
بجيش جاش بالفرسان حتى ... ظننت البَّر بحراً من سلاح
وألسنة من العذبات حُمْر ... تخاطبنا بأفواه الرَّياح
وأروع جيشه ليلٌ بهيم ... وغُرَّته عمود للصباح
صفوح عند قدرته ولكن ... قليل الصفح ما بين الصفاح
فكان ثباته للقلب قلباً ... وهيبته جناحاً للجناح
وهنَّأ الشاعر ابن القيسراني القاضي كمال الدين الشهرزوري بهذا الفتح فقال:
إن الصفائح يوم صافحت الرُّها ... عطفت عليها كل أشوس ناكب
فتح الفتوح مبشَّراً بتمامه ... كالفجر في صدر النَّهار الآيبِ(1/7)
لله أية وقفة بدرية ... نُصرت صحابتها بأيمن صاحب
ظفٌر كمال الدين كنت لقاحه ... كم ناهضٍ بالحرب غير محارب
وأمدكم جيشُ الملائك نُصرة ... بكتائب محفوفة بكتائب
جبنوا الدَّبور وقدتم ريح الصبا ... جنُد النبوة هل لها من غالب
إلى أن قال:
وإذا رأيت الليث يجمع نفسه ... دون الفريسة فهو عين الواثب
وكان فتح الرها بداية لما بعدها، إذ لم يكن من الصعب على عماد الدين زنكي أن يستكمل مهمته بفتح باقي المعاقل الصليبية التابعة لهذه الإمارة، فاستغل فرصة تضعضع أحوال الصليبيين في المنطقة وقد استطاع عماد الدين أن يحقق قسطاً كبيراً من برنامجه وأن يكّون لنفسه مكانة خاصة في التاريخ الإسلامي كسياسي بارع وعسكري متمكن ومسلم واعٍ أدرك الخطر الذي حاق بالعالم الإسلامي من قبل الصليبيين فقد استطاع أن يوجه الظروف التاريخية القائمة لصالح المسلمين وذلك بتجميعه القوى الإسلامية، بعد القضاء على عوامل التجزئة والانقسام وتوحيد المدن والإمارات المنفصلة في نطاق دولة واحدة استطاع بحنكته أن يستغل أقصى ما يمكن أن تقدمه دولته من إمكانات في سبيل تحقيق برنامجه المزدوج أي تشكيل الجبهة الإسلامية وضرب الصليبيين ويعتبر عماد الدين زنكي أول قائد سلجوقي قام بتجميع القوى الإسلامية وفق برنامج معين ليجابه بها تزايد الخطر الصليبي الذي لم توقفه المحاولات الجدية التي سبقت زنكي وبخاصة تلك التي تمت على يد كل من مودود بن التونتكين 502هـ- 507هـ وإيلغازي وبلك الأرتقين 518 - 520هـ، وقد مهد عماد الدين زنكي الطريق لقادة التحرير من بعده فلم تكن جهود ابنه نور الدين محمود ومن بعده صلاح الدين الأيوبي سوى اتمام العمل الذي بدأه عماد الدين زنكي وفي نفس الطريق، وبعد استشهاد عماد الدين تولى القيادة ابنه البطل الفذ والمجاهد الشهير نور الدين محمود الشهيد الملك العادل
إن من الدروس المهمة من هذا الكتاب معرفة المشاريع المتصارعة في عهد الزنكيين، فقد كانت ثلاثة تتطاحن على قدم وساق، وهي المشروع الصليبي والذي تتزعمه الكنيسة من عهد أوربان الثاني والمشروع الشيعي الرافضي بقيادة الدولة الفاطمية بمصر والمشروع الإسلامي الصحيح وحامل لوائه نور الدين زنكي، فكانت المحاور التي سار عليها أهل السنة دولة وشعباً، تعميق الهوية العقائدية السنية والإحياء الإسلامي الصحيح في نفوس الأمة، والتصدي لشبهات المذهب(1/8)
الشيعي، وإعداد الأمة لمقاومة الصليبيين، وكانت المحاور متداخلةمن حيث السير إلا أن تحرير بيت المقدس والقضاء على الصليبيين في معركة حطين لم يتم إلا بعد القضاء على الدولة الفاطمية سياسياً وعسكرياً وقد سبقها الانتصارات العقائدية والفكرية والثقافية والتاريخية والحضارية للمذهب السني.
إن الذين استطاعوا تحرير بيت المقدس وانتزاع المدن والقلاع والحصون من الصليبيين هم الذين تميزوا بمشروعهم الإسلامي الصحيح وعرفوا خطر المشاريع الباطنية الدخيلة فتصدوا لها بكل حزم وعزم.
وعلى كل من يتصدى لقيادة الأمة في المواقف السياسية والتصريحات الإعلامية عليه أن يدرس كتاب ربه وسنة نبيه وهدى الخلافة الراشدة وحركة التاريخ الإسلامي وحقيقة الصراع بين هذه المشاريع المتباينة، كي يساهموا في توعية الأمة، وإزالة الجهل عنها ومعرفة أعدائها.
إن ما يحدث في العراق ولبنان من صراع بين المشروع الصليبي والصهيوني والإيراني الشيعي وعدم التركيز والدعم المطلوب للمقاومة الإسلامية في العراق وفلسطين يبرهن على أن الكثير من القيادات السياسية والفكرية والشرعية والإعلامية غير مستوعبة لما حدث من صراع بين المشاريع في حركة التاريخ ويدل على ذلك ما حدث في لبنان صراع بين المشروع الإيراني الشيعي والمشروع الأمريكي الصهيوني حيث أهملت المقاومة الإسلامية العراقية السنية والمقاومة الإسلامية الفلسطينية إعلامياً وسياسياً ومادياً لصالح المشروع الإيراني الشيعي.
إن أية أمة تريد أن تنهض من كبوتها لابد أن تحرك ذاكرتها التاريخية لتستلخص منها الدروس والعبر والسنن في حاضرها وتستشرف مستقبلها، وإيجاد الكتب النافعة في هذا المجال من الضرورات في عالم الصراع والحوار والجدال والدعوة مع اليهود والنصارى والملاحدة والعلمانيين والمبتدعة .. إلخ وهذا يدخل ضمن سنة التدافع في الأفكار والعقائد، والثقافات والمناهج وهي تسبق التدافع السياسي والعسكري، فأي برنامج سياسي توسعي طموح يحتاج لعقائد، وأفكار وثقافة، تدفعه فالحرف هو الذي يلد السيف، واللسان هو الذي يلد السنان والكتب هي تلد الكتائب.
هذا وقد انتهيت من هذا الكتاب يوم الأربعاء الساعة الثانية عشر، وثماني دقائق من تاريخ 20 شعبان 1427هـ الموافق 13/ 09/2006 والفضل الله من قبل ومن بعد، وأساله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل عملي لوجهه خالصاً ولعباده نافعاً ويشرح صدور العباد للانتفاع به ويبارك فيه بمنه وكرمه وجوده وأن يثيبني على كل حرف(1/9)
كتبته ويجعله في ميزان حسناتي، وأن يثبت إخواني الذين أعانوني بكل ما يملكون من أجل إتمام هذا الجهد المتواضع، ونرجو من كل مسلم يصله هذا الكتاب أن لا ينسى العبد الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه من دعائه " رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والَديَّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين " (النمل، آية: 19).
وقال تعالى: " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم " (فاطر: آية 2).
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
الفقير إلى عفو ربه ومغفرته
ورحمته ورضوانه
علي محمد محمد الصَّلاَّبيَّ
الإخوة الكرام يسرني أن تصل ملاحظاتكم وانطباعتكم حول هذا الكتاب وغيره من كتبي من خلال دور النشر وأطلب من إخواني الدعاء في ظهر الغيب بالإخلاص لله رب العالمين، والصواب للوصول للحقائق ومواصلة المسيرة في خدمة تاريخ أمتنا.
Mail: abumohamed2@maktoob.com(1/10)
بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الأول
ظهور عماد الدين زنكي على مسرح الأحداث
أولا: أصول الأسرة الزنكية:
ينتمي عماد الدين بن آق سنقر بن عبد الله آل ترغان إلى قبائل (السبا يو) التركمانية وقد حظي والده أبو سعيد آق سنقر الملقب بقسيم الدولة، والمعروف بالحاجب (1)، باهتمام المؤرخين بسبب الدور الذي لعبه على مسرح الأحداث السياسية والعسكرية للدولة السلجوقية (2)، وكان آق سنقر من أصحاب السلطان ملكشاه الأول و أترابه (3)، وقيل إنه كان لصيقه، ومن أخصَّ أصدقائه (4)، فقد نشأ الرجلان وترعرعاً معاً، ولما تسلم ملكشاه الحكم عينه حاجباً له، وحظي عنده فكان من المقرّبين وأنسن إليه، ووثق به حتى أفضى إليه بأسراره، واعتمد عليه في مهماته، فكان أبرز قادته (5).
ثانيا: مكانة آق سنقر عند السلطان ملكشاه:
من أقوى الدلائل على الحظوة التي حازها آق سُنقُر عند السلطان، منحه لقب "قسيم الدولة"، وهذا يعني الشريك، وكانت الألقاب في تلك الآونة مصونة لا تعُطى إلا لمستحقيها (6)، ويبدو أنه قاسم ملكشاه شؤون الحكم والإدارة، بالإضافة إلى ذلك، فإن آق سُنْقُر كان يقف إلى يمين سدة السلطنة ولا يتقدمه أحد، وصار ذلك أيضاً لعقبه من بعده (7).
والراجح أن منح آق سُنقُر هذه اللقب يعود إلى ثلاثة أسباب:
1 - محبة السلطان ملكشاه له ودعمه أياه.
2 - انتسابه إلى قبيلة تركية لها مكانتها وأهميتها بين القبائل السلجوقية الحاكمة، وأنه كان ذا مكانة رفيعة فيها.
_________
(1) وفيات الأعيان (1/ 217،218)، عماد الدين زنكي د. عماد الدين.
(2) عماد الدين زنكي، د. عماد الدين خليل ص 31.
(3) التاريخ الباهر في الدول الأتابكية بالموصل ص 4.
(4) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام، د. محمد طقوش.
(5) التاريخ الباهر ص 4.
(6) المصدر نفسه نقلاً عن تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 43.
(7) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 43.(1/11)
1 - أنه أدّى خدمات جليلة لمكشاه، استحقت منحه هذا اللقب (1).
واشترك أق سنقر إلى جانب السلاجقة في معارك عديدة، فقد سيره ملكشاه عام 477هـ مع عميد الدولة بن فخر الدولة في محاولة للاستيلاء على الموصل وطرد العقيليين منها، وقد تمكنا من إنجاز هذه المهمة (2)، وبعد مرور سنتين اشترك مع السلطان ملكشاه في انتزاع حلب من نواب العقيليين فولاه إياها تقديراً لجهوده (3) وقد تسلم آق سنقر منصبه في حلب وأعمالها، كمنيع واللاذقية وكفر طاب (4) واستطاع أن يوسع نطاق ولايته بالاستيلاء على حمص عام 483هـ، وحصن أفاميه عام 484هـ. كما فرض طاعته على صاحب شيرز عام 481هـ، وفي عام 485هـ اشترك مع ملكشاه في مهاجمة العقيليين والانتصار عليهم قرب الموصل وظلت علاقة آق سنقر بالسلطان ملكشاه قائمة على الطاعة والتفاهم المشترك، ولم يسع يوماً إلى الخروج على أوامره ورفض السلطان بدوره الاستجابة لشكاوى معارضي آق سنقر أو إقرار مساعيهم للتخلص منه (5).
ثالثا: سياسة آق سنقر في حلب الداخلية:
بدأت، مع تولي آق سنقر الحكم في حلب، مرحلة جديدة من حكم السلاجقة المباشر لهذه المدينة، وانتهى حكم القبائل العربية لهذه الإمارة وأزيحت عن مسرح الأحداث في شمالي بلاد الشام، ويُعدُّ سُنْقُر أول حاكم سلجوقي لإمارة حلب بعدما كانت سنوات طويلة من التمزق والحروب بين القبائل العربية فيما بينها، ثم بينها وبين التركمان القادمين من الشرق، ودام حكمه ثماني سنوات تقريباً كانت مرحلة هامة في تاريخ الإمارة والمنطقة بفعل أنها أحدثت تغييرات أساسية شملت كل جوانب الحياة (6)، لقد تسلم آق سُنقر الحكم في ظل حالة من الفوضى التامة بفعل عاملين دخلي وخارجي، يتمثل الأول بصراع الحكام، وتدبيرهم المؤامرات، واستعانتهم بالقوى الكبرى في المنطقة كالخلافة العباسية في بغداد، والدولة الفاطمية في مصر بالإضافة إلى الدولة السلجوقية الجديدة الطامعة في التوسع في المنطقة هي:
_________
(1) إمارة حلب، محمد ضامن ص 136.
(2) مفروج الكروب في أخبار بني أيوب (1/ 19 إلى 21، 22).
(3) الكامل في التاريخ نقلا عن عماد الدين زنكي ص 32.
(4) الباهر ص 8 عماد الدين زنكي ص32.
(5) عماد الدين زنكي ص 32، 33.
(6) مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية ص 209، تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 46.(1/12)
1 - قوة القبائل العربية البدوية وبخاصة الكلابيين العقيليين والمرداسيين لاستعادة نفوذها المسلوب.
2 - قوة التركمان المدمرة التي كانت تغير على المنطقة.
3 - قوة الدولة البيزنطية التي كانت تستغل الصراعات الداخلية لاستعادة نفوذها المفقود.
شهدت حلب نتيجة ذلك أوضاعاً من عدم الاستقرار السياسي انعكس سلباً على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية فيها في خضم هذه الصراعات، تغافل الحكام عن الاهتمام بالشؤون الداخلية للسكان، كما أهملوا تطوير الحياة الاقتصادية، مما أدَّى إلى تراجع واردات البلاد وعمدوا إلى استنزاف السكان بفرض ضرائب أخرى وأتاوات باهظة، كلما أعوزهم المال، حتى أثقلوا كاهلهم، فتذمروا من سوء الأوضاع، وكثر انتشار اللصوص وقطاع الطرق، مما أدَّى إلى انعدام الأمن على الطرق، فتعطلت الحركة التجاري، وقلَّت السلع في الأسواق، وتراجعت موارد الزراعة لعدم تمكُّن الفلاحين من القيام بالحرث والزرع وجني المحصول فبرزت في هذه الظروف الصعبة، منظمة الأحداث التي أخذت على عاتقها رعاية مصالح أفرادها ومقاومة التعديات الخارجية (1) وضع آق سنقر نصب عينيه هدفاً راح يعمل على تحقيقه، تمثل في إعادة الأمور إلى نصابها ولذلك شرع في:
1 - إقامة الحدود الشرعية وطارد اللصوص وقطاع الطرق وقضى عليهم وتخلص من المتطرفين في الفساد، كما قضى على الفوضى التي كانت متفشية في البلاد، وعامل أهل حلب بالحسنى حتى " توارثوا الرحمة عليه إلى آخر الدهر " (2).
2 - كتب إلى عمال الأطراف، لم يكتف آق سُنقُر بحصر تدابيره الإصلاحية في حلب بل كتب إلى عمال الأطراف التي خضعت لحكمه أن يحذو حذوه، وتابع أعماله بنفسه.
3 - وأقرّ قسيم الدولة مبدأ المسؤولية الجماعية، فإذا تعرض أحد التجار للسرقة في قرية ما، أو إذا هوجمت قافلة أو نهبت، فإن أهل القرية التي جرت الحادثة فيها يكونون مسؤولين جماعياً عن دفع قيمة الضرر اللاحق بهؤلاء (3) ونتيجة لهذا المبدأ، هبَّ سكان القرى لمساعدة الحكام في فرض الأمن، فإذا وصل تاجر إلى قرية أو مدينة، وضع أمتعته وبضاعته إلى جانبه ونام وهو مطمئن، بحراسة أهلها، وهكذا شارك السكان بتحمل المسؤولية في حفظ الأمن
_________
(1) دخول الترك الغز إلى الشام، مصطفى شاكر ص 307، 314 - 315.
(2) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 47.
(3) المصدر نفسه.(1/13)
حتى أمنت الطرق، وتحدث التجار والمسافرون بحسن تدابيره وسيرته (1).
ونتيجة لاستتباب الأمن في كافة أرجاء إمارة حلب، نشط التجارس، وامتلأت الأسواق بالبضائع الواردة إليها من كل الجهات واستقر الوضع الاقتصادي، وتداعى الناس إليها للكسب فيها والعيش برغد (2). وقد اعترف المؤرخون بحسن سياسة آق سُنقُر الداخلية، والأمنية، وأجمعوا على مدحه.
- قال ابن القلانسى: وأحسن فيهم السيرة، وبسط العدل في أهليها، وحمى السابلة للمترددين فيها، وأقام الهيبة، وأنصف الرعية، وتتبع المفسدين، فأبادهم، وقصد أهل الشر فأبعدهم، وحصل له بذلك من الصيت، وحسن الذكر، وتضاعف الثناء والشكر ... فعمرت السابلة للمترددين من السفار وزاد ارتفاع البلد بالواردين بالبضائع من جميع الجهات والأقطار (3).
- وقال ابن واصل: .. ورخصت الأسعار في أيام الأمير قسيم الدولة وأقيمت الحدود الشرعية، وعمرت الطرقات وأمنت السبل، وقتل المفسدون بكل فج، وكان كلما سمع بمفسد أو بقاطع طريق أمر بصلبه على أبواب المدينة (4).
- وقال ابن الأثير: ... وكان قسيم الدولة أحسن الأمراء سياسة لرعيته، وحفظاً لهم، وكانت بلاده بين رخص عام، وعدل شامل وأمن واسع (5).
- وقال عنه ابن كثير: .. بأنه كان من أحسن الملوك سيرة، وأجودهم سريرة وكان الرعية في أمن وعدل ورخص (6).
وأما من حيث إنجازاته العمرانية، فقد جدَّد عمارة منارة حلب بالجامع عام (482هـ/1089م) واسمه منقوش عليها إلى اليوم وفي ذلك قصة لطيفة ذكرها بن واصل مفادها: في سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة أسس القاضي أبو الحسن بن الخشاب منارة حلب، وكان بحلب بيت معبد نار، قديم العمارة، وصار بعد ذلك أتون حمّام، فأخذ ابن الخشاب حجارته، وبنى بها المنارة، فأنهى بعض حُسَّاده إلى الأمير قسيم الدولة خبره، فغضب على القاضي ابن الخشاب، وقال: هدمت معبداً هو لي وملكي فقال: أيها الأمير، هذا، معبد للنار،
_________
(1) الباهر: ص 15.
(2) مرآة الزمان (8/ 244).
(3) ذيل تاريخ دمشق ص 196.
(4) مفرج الكروب في أخبار بنى أيوب (1/ 19).
(5) الكامل في التاريخ (8/ 368).
(6) البداية والنهاية (16/ 143).(1/14)
وقد صار أتوناً (1)، فأخذت حجارته لأعمَّر بها معبداً للإسلام، يُذكر فيه الله وحده لا شريك له وكتبت اسمك عليه، وجعلت الثواب لك، فإن رسمت غرمت ثمنه لك، ويكون الثواب لي، فعلّت فأعجب الأمير كلامه، واستصوب رأيه وقال: بل الثواب لي، وأفعل ما تريد فشرع في عمارة المنارة في سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة (2).
رابعا: سياسته الخارجية:
عادت سياسة أق سنقر الحازمة بنتائج هامة على المنطقة، فساد الأطمئنان، وأمنت الطرق وانتشر العمران، فانتعشت التجارة، وقد بلغ من سيطرة آق سنقر على الأمن في قرى حلب وضياعها أن أرسل من ينادي فيها أن لا يغلق أحد بابه، وأن يتركوا آلاتهم الزراعية في أماكنها ليلاً ونهاراً (3)، ومن ثم جاءت شهرته بناء على ما أنجزه في هذا المجال (4) وبعد أن نظم قسيم الدولة إمارته الداخلية، وحقَّق الأمن والاستقرار أراد أن يقوم بدور خارجي وكانت بلاد الشام، عبر تاريخها، عرضه للنزاعات من أجل السيطرة بين الشمال والجنوب. وقد مثَّلت دمشق، منُذ القرن السابع الميلادي، الجنوب، في حين مثَّلت حلب الشمال وكانت المفارقات بين الشمال والجنوب في بعض الأحيان اجتماعية واقتصادية ولكن غالباً ما كانت سياسية، حيث حاول حكام دمشق من جهتهم، وحكام حلب أيضاً مَّد سيطرتهم كلياً على بلاد الشام، وتبعاً لهذه القاعدة حدث صراع بين تُتُش وآق سُنْقُر (5)، فقد وقف في وجه تُتش الطامع في بلاده، وأن يتوسع على حساب جيرانه، وبدا له قبل الإقدام على تنفيذ هذا المشروع أن ينشىء جيشاً منظماً يعتمد عليه في حروبه وشرع في ذلك وكانت نواة هذا الجيش تمثَّلت بالقوة التي تركها ملكشاه معه عندما رحل عن حلب وتعدادها أربعة آلاف مقاتل، ثم تعَّدت الستة آلاف (6). وقد اعتمد آق سُنْقُر على نوعين من القوات العسكرية.
* النوع الأول: القوات الاحتياطية التي كان يزداد عددها باستمرار، وهي تنتمي إلى العنصر التركي.
* النوع الثاني: القوات الاحتياطية التي كان يجمعها حين يحتاج إليها، وكانت خليطاً من العرب والتركمان وغيرهم، وقد وصل عددها في المعركة التي خاضها
_________
(1) مفرج الكروب في أخبار بني أيوب (1/ 20).
(2) المصدر نفسه (1/ 20).
(3) عماد الدين زنكي ص 35.
(4) ذيل تاريخ دمشق ص 119 - 120 الباهر ص 15.
(5) مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية ص 215.
(6) مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية ص 215.(1/15)
ضد تُتش إلى عشرين ألفاً وكان تتش قد جهد منذ أن أصبح حاكماً على دمشق في عام 470هـ /1077م في العمل على:
* بسط سلطانه على كامل بلاد الشام، وبخاصة المدن الساحلية التي كانت تدين بالطاعة للدولة الفاطمية، أو تُحكم من قبلها.
* إنشاء دولة أخرى للسلاجقة في هذه البلاد يتولى تحكمها بمعزل عن السلاجقة العظام في خراسان، إلا أنه فشل في تحقيق الهدف الأول، ونجح في تحقيق الثاني إنما بعد وفاة ملكشاه الأول على أن الأوضاع التي آلت إليها البلاد لم تُرضِ تتش، فلجأ إلى السياسة وطلب من أخيه في عام (480هـ /1087م) تزويده بقوات ومعدات تمكنه من طرد الفاطميين من بلاد الشام وإخضاعها كلها لسلطان السلاجقة، بما فيها المدن الساحلية، والواقع أن ملكشاه الأول كان يخشى تمدداً فاطمياً باتجاه الأملاك السلجوقية في بلاد الشام والعراق، لذلك لبَّى طلب أخيه، وأمر كل من قسيم الدولة صاحب حلب، وبوزان صاحب الرها، بأن يقَّدما له كل ما يحتاجه في مهمته من عساكر وتجهيزات (1) ويبدو أن الحاكمين لم ينفذَّا الأوامر السلطانية. فلم يذهب آق سنقر بعيداً في مساعدة تُتش وهو يعلم مدى خطورة أطماعه، وكذلك فعل بوزان. ومن جهته، فإن تُتُش لم يقم بأي عمل عسكري جدَّي ضد مدن الساحل (2)، ولكن الأوضاع تبَّدلت في عام (482هـ/1089م) حين استولى الفاطميون على عكا وصور وصيدا وجبيل، كما أنه وصل إلى المعسكر الفاطمي، في غضون ذلك، خلف بن ملاعب صاحب حمص وأفامية (3)، فاجتمع بالقائد الفاطمي واعترف له رسيماً بسلطان الفاطميين وسيادتهم عليه (4)، مما شكل تهدياً مباشراً لسلطان السلاجقة في بلاد الشام ونتيجة لما اتفق عليه الطرفان من بسط السيادة الفاطمية على كامل بلاد الشام قام خلف بن ملاعب بالاعتداء على أراض تابعة لتتش مما دفعه إلى الاستنجاد مجدداً بأخيه.
كما أن الحكام السلاجقة في هذه البلاد شكوا إلى السلطان اعتداءات أمير حمص، وكذلك فعل السكان بفعل أنه اتصف بالظلم، ونظراً للأوضاع الخطيرة التي باتت عليها بلاد الشام، أمر السلطان أخاه تُتُش بتأديب ابن ملاعب، وطرد الفاطميين من البلاد وضمَّها إلى الأملاك السلجوقية، وطلب في الوقت نفسه، من ولاته فيها بالتحرك السريع لمساعدته (5) انزعج كلُّ من آق سُنْقُر وبوزان من قيادة تُتُش لهذه الحملة وأدركا أنه سوف
ينفرد بحكم ما يستولى
_________
(1) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الزنكيين في الموصل ص 51.
(2) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 51.
(3) أفامية: مدينة حصينة.
(4) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 51.
(5) المصدر نفسه ص 52.(1/16)
عليه، فخرجا مكرهين غير مقتنعين بمساعدته (1). وصلت القوات المتحالفة إلى حمص عام 483هـ/1090م وحاصرتها وضيَّقت عليها حتى استسلمت، وقبض على ابن ملاعب، وأرسل إلى السلطان ملكشاه الأول (2)، وانكشفت في غضون ذلك أطماع الأطراف المتحالفة، فقد طلب كل من الأمراء حمص لنفسه وكتب إلى السلطان بذلك، فأنعم بها على أخيه (3).
1 - موقف آق سنقر من تتش: في عام 484هـ نزل تتش بجيوشه على طرابلس وكان بها قاضيها وهو صاحبها واسمه جلال الملك بن عمار ونصبوا المجانيق فاحتج عليهم ابن عمار وأظهر لهم منشور السلطان ملكشاه باقراره على طرابلس، فلم يقبل منه تتش ذلك وتوقف آق سنقر عن قتاله فقال له تتش: أنت تتبع لي فكيف تخالفني فقال أنا تبع لك إلا في عصيان السلطان، فغضب تاج الدولة تتش ورجع إلى دمشق وآق سنقر إلى حلب (4).
وأدرك آق سنقر أن سياسته العدائية تجاه تُتُش تفرض عليه منعه من ضم أي مدينة إلى أملاكه، لذلك جهد، أثناء عودته إلى حلب، في ضمَّ المواقع التابعة لخلف ابن ملاعب ومنها أفامية التي سلّمها إلى منقذ صاحب شيزر (5)، وقد هدف من ذلك إلى أمور منها.
أ- إقامة منطقة حاجزة بين أملاكه في شمالي الشام، وأملاك تتش في الجنوب واعتقد أن إمارة بني منقذ في شيزر بإمكانها أن تقوم بهذا الدور.
ب- حرمان تُتُش من ضّم إمارة بنى منقذ، وبالتالي إبعاده عن منطقة حلب.
ت- إيجاد حليف قوي يعتمد عليه في صراعه مع تُتُش.
ث- إبعاد بني منقذ عن التحالف مع تُتُش (6).
والواقع أن ملكشاه وقف على هذا الصراع على النفوذ في بلاد الشام فعمد إلى وضع حَّد له، فاستدعى في شهر رمضان عام 484هـ/ شهر تشرين الأول عام 1091م، جميع ولاته في بلاد الشام والجزيرة بإلاضافة إلى أخيه تُتُش، ليبحث معهم مشاكل وقضايا مناطقهم (7)، واستغل تُتُش وجوده عند أخيه وعرض خلافه مع آق
سُنْقُر، واتهمه بعدم الإخلاص للقضية السلجوقية، وقام آق سنقر يدافع عن نفسه
_________
(1) المصدر نفسخ ص 52.
(2) المصدر نفسه ص 52.
(3) بغية الطالب (7/ 3354).
(4) تاريخ الزنكيين ص 53.
(5) المصدر نفسه ص 53.
(6) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 53.
(7) المصدر نفسه ص 53.(1/17)
متهماً تُتُش بالكذب واستطاع إقناع السلطان بوجهة نظره، فرفض إتهام أخيه له كما رفض مساعيه للتخلص منه (1).
2 - دعم آق سنقر للسلطان بركيارق: ظلت العلاقة الطيبة، قائمة بين آق سُنقر وملكشاه، طيلة حياة هذا الأخير ولما توفي عام 485هـ/1092م طلب تُتُش السلطنة لنفسه في ظل صراع على السلطة بين أولاد السلطان المتوفى، وتجهّز للزحف شرقاً لإخضاع البلاد لسلطانه، وكاتب كلاً من آق سُنْقُر وبوزان يطلب مساعدتهما (2)، واستجابوا لذلك واشتركوا في حرب إبراهيم بن قريش صاحب الموصل لأنه رفض الخطبة في الموصل لتتش، ورفض أن يعطيه طريقاً إلى بغداد فهزم صاحب الموصل وأخذت منه، ساروا إلى ميافارقين فملك تُتُش سائر ديار بكر (3)، ثم سار تُتش إلى أذربيجان وكان بركيارق بن ملكشاه قد قوى أمره وصارت بيده الري وهمذان فسار ليمنع عمه (4)، ولما علم تُتُش بذلك قرر الإسراع في زحفه باتجاه خراسان لمحاربة ابن أخيه، وعندما وصل إلى مدينة تبريز (5)، حدثت المفاجأة إذ تخلَّى عنه آق سُنُقر وبوزان وانضما إلى بركيارق عند مدينة الري (6) فقوى موقفه بهما وكان هذا الإنسحاب محطماً لخطة تُتُش ويبدو أن هناك عدة أسباب دفعت آق سُنْقُر إلى هذا التصرف لعل أهمها:
أ- كان تُتُش منافساً خطيراً لآق سُنْقُر، وأن تأييده له حتَّمه واقع الظروف السياسية التي كان يمر بها.
ب- رأى آق سُنْقُر أن تبقى السلطنة محصورة في أبناء سيده ملكشاه الأول وفاء منه له.
ج- شعر قسيم الدولة بأن تتش يُقَّرب ياغي سيان صاحب أنطاكية، ويميل إليه وقد يعتمد عليه في حكم بلاد الشام في المستقبل (7) ومهما يكن من أمر، فقد أدرك تُتُش حرج موقفه، وضعف قواته بعد الإنسحابات التي حصلت في صفوفه، فاضطر إلى التوقف عن الزحف وقتال بركيارق، وآثر الإنسحاب إلى الشام، فعاد أدراجه نحو ديار بكر، وتوقف في الرحبة، ثم حدث أن أقنع كل من آق سنقر وبوزات السلطان بركيارق بألا يترك تُتُش وشأنه
وحذَّراه من أطماعه، وأشار عليه بمطاردته (8) وفعلا تحرك الجميع باتجاه الرحبة، فلما علم
_________
(1) تبريز: أشهر مدن أذربيجان وهي مدينة عامرة ذات أسوار محكمة.
(2) ذيل تاريخ دمشق ص 203.
(3) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 53.
(4) الحروب الصليبية والأسرة الزنكية ص 54.
(5) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 53.
(6) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 53.
(7) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 55.
(8) المصدر نفسه ص 55.(1/18)
تُتُش بذلك تركها واجتاز الفرات قاصداً أنطاكية التي بقي فيها مدة ثم عاد إلى دمشق (1)، وفي الرحبة عقد اجتماع رباعي ضم السلطان بركيارق وآق سُنقُر وبوزان وعلي بن مسلم بن قريش العقيلي، تمخَّض عن عقد تحالف بين الحاكمين السلجوقيين من جهة والأمير العقيلي من جهة ثانية، تحت إشراف السلطان، هدفه الوقوف في وجه تُتُش، وعاد السلطان إلى بغداد، بعد أن ترك قوة عسكرية بتصرف آق سُنْقُر، في حين عاد بوزان إلى الرها، وآق سُنقُر إلى حلب، فوصل إليها في شهر ذي القعدة عام 486هـ شهر تشرين عام 1093م، وهكذا قام آق سُنْقُر بدور بارز في إفشال مخططات، تتش ومنعه من الحصول على السلطنة، وساعد بركياروق على الاحتفاظ بها، مدركاً في الوقت نفسه، أن صاحب دمشق سوف ينتقم للضربة التي وجهت إليه، فأخذ يستعد للتصدي له وانتزاع دمشق منه هذه المرة، فطلب المساعدة من السلطان بركيارق فأمده بكر بوغا، واستنجد بمن جاوره من الحكام أمثال بوزان حاكم الرها، ويوسف بن آبق حاكم الرحبة، كما انضم إليه جماعة من بني كلاب وأحداث حلب (2).
3 - مقتل آق سنقر: كان أول ما فكر فيه تُتُش عند عودته إلى دمشق هو الانتقام من آق سُنقُر وبوزان بعد أن تخليا عنه في وقت الشدة (3)، فأخذ يستعد لقتالهما، وتحالف مع ياغي سيان صاحب أنطاكية بعد أن زوَّج ابنه رضوان من ابنته (4) كما جند قوات إضافية من بني كلاب، والتقى الجيشان يوم السبت في التاسع من شهر جمادي الأول / شهر آيار) عند تل السلطان (5)، القريب من حلب، ويبدو أن آق سُنْقُر لم يثق بمن كان معه من العرب، فنقلهم من الميمنة إلى الميسرة ثم إلى القلب والراجح أن هذا التبديل في المواقع العسكرية أثر على قدراته القتالية، فدارت الدائرة عليه، ووقع أسيراً في يد تُتُش (6)، فسأله تتش: لو ظفرت بي ما كنت صنعت بي قال: كنت أرى قتلك قال: فأنا أحكم عليك بما كنت تحكم علي فقتله صبراً وتسلم قلعة حلب الاثنين 11 جماد الأولى (7) ودفن آق سنقر خارج حلب ثم لما ملك عماد الدين نقل بقايا أبيه فدفنها
بجانب المدرسة الرجاحية في حلب (8).
_________
(1) المصدر نفسه ص 55.
(2) تاريخ الزنكيين في الموصل ص 55 الكامل في التاريخ (8/ 368).
(3) الحركة الصليبية، عاشور (1/ 112) تاريخ الزنكيين ص 56.
(4) زبدة حلب (1/ 331).
(5) تل السلطان: موضع بينه وبين حلب مرحلة نحو دمشق.
(6) الكامل في التاريخ (8/ 368).
(7) الحروب الصليبية والأسرة الزنكية ص 55.
(8) المصدر نفسه ص 55.(1/19)
خامسا: نشأة عماد الدين زنكي وأسرته:
1 - نشأته: ولد عماد الدين زنكي سنة 477هـ وكان أبوه من كبار قادة ملكشاه حتى لقب بقسيم الدولة وكان الابن الوحيد لهذا القائد العظيم في الدولة السلجوقية وتولى والده آق سنقر حلب سنة 479هـ أي بعد سنتين من مولده، فكانت حلب مهد طفولته وقضى بها أيامه الأولى (1).
2 - تربية والده له: عاش زنكي كنف والده مدة عشر سنوات تكونت خلالها الخطوط العريضة لشخصيته وتشرب من أبيه أخلاقه وصفاته، ولا شك أن والده دربه على الفروسية منُذ نعومة أظفاره، ليكون نعم الوارث لمركزه وقد دربه على ركوب الخيل ورمي السهام، وعوده على الصبر من المشاق في الحرب وممارستها، وقد أثبتت الأحداث اللاحقة حسن تربية والده له، فقد تميز بالشجاعة التي تبلغ حد الذروة فهو يهاجم مع مودود طبرية وينهزم الصليبيون، ويلحقهم المسلمون وعماد الدين في المقدمة، ولا يتلفت إلى الوراء، ليتأكد من لحاق أصحابه به، ويصل إلى باب طبرية ويحارب الأفرنج عليه ويبدي شجاعة فائقة وينسحب ويحسن الانسحاب عندما لا يرى حوله أحداً، فيعجب الناس من رجوعه سالماً، كما عجبوا من شجاعته (2)، وورث عن أبيه آق سنقر القوة التي تعرف العطف والتي لا تبقى على عدو خطر، وورث عنه التخطيط الذي يؤدي إلى حتف الخصم الذي رسمه له زنكي (3).
3 - والدته: توفي والده وعمره عشر سنوات ولكن أمه عاشت حتى رأت ابنها يرث أبيه ويحكم الموصل وقرت عينها إذا رأته في السنة التي توفيت فيها يحاصر دمشق التي قتل صاحبها تتش زوجها آق سنقر فقد توفيت 529هـ بالموصل وكانت هناك أسطورة أوروبية سورية أن أتابك الموصل من أصل فرنجي ويفترض أن أمه كانت الأميرة الجميلة النمساوية التي أسرت وقضيت بقية أيامها في حريم آقسنقر وإن أمرأة عظيمة أوروبية تستطيع أن تلد مثل هذا البطل. لكن هذه القصة غير صحيحة لأن أباه اقسنقر مات قبل سنوات من حدوث الكارثة الغزو الصليبي ولا يذكر لنا المؤرخون اسماً لوالدته ولا أصلها حتى نستطيع أن نتعرف على أسباب اكتسابه اللون الأسمر مع أن المشهور عن الأتراك اللون الأبيض
فلعله ورث هذه الصفات عن والدته (4).
_________
(1) الحروب الصليبية والأسرة الزنكية ص 57.
(2) الروضتين (1/ 68).
(3) الحروب الصليبية والأسرة الزنكية ص 58.
(4) المصدر نفسه ص 59.(1/20)
4 - زوجات عماد الدين:
أ- تزوج زنكي أكثر من واحدة فمن زوجاته التي ذكرها المؤرخون زوجة الأمير كندغدي. وقال السلطان محمود قد زوجتك امرأة الأمير كندغدي من أكابر أمراء السلطان محمد، والسلطان محمود، واتفق أنه مات وترك ولداً صغيراً وزوجة ومن المال والبرك (المتاع الخاص من ثياب وقماش وسلاح) مالاً يقدر عليه إلا السلطان فطلب من عماد الدين أن يتزوجها وأرسل إليها، يقول لها إنني زوجتك بعماد الدين زنكي فامتنعت ثم أجابت، فركب زنكي من غد دخوله بها ومعه ولد كندغدي وهو في موكب عظيم من أصحابه وأصحاب كندغدي وأخرجت له زوجته من الخيام والبرك ما ليس لأحد من العسكر مثله (1).
ب- الزوجة الثانية: خاتون ابنة الملك رضوان، كان زواجه بها زواجاً سياسياً، فقد تزوجها ليصبح له الحق والشرعية في حكم حلب (2)، ولكنه هجرها بعد أن رأى ثياب أبيه اقسنقر الذي قتله جدها تتش وطلقها بتدخل القاضي أبي غانم قاضي حلب (3)، وكان زواجه بها سنة 522هـ على رأي حسن حبشي وسنة 523هـ في رأي ابن العديم (4).
ج- الزوجة الثالثة: صاحبة خلاط ابنة سقمان القطبي، تزوج صاحبة خلاط ابنة سقمان القطبي سنة 529هـ والظاهر أن زواجه منها كان ليمكن نفوذه في تلك المنطقة، فقد كان زنكي في السنة السابقة لهذا الزواج في حرب وكان حسام الدين تمرتاش معه في حربه ضد داود بن سكمان بن أرتق وربما أراد بالمصاهرة أن يضم خلاط إليه وتقوية جبهته في تلك المنطقة، ولا سيما أنه في سنة زواجه كان في حرب في تلك الجهة فاستولى على الصقر وشوش.
د- الزوجة الرابعة: ابنة تمرتاش.
هـ- الزوجة الخامسة: خاتون بنت جناح الدولة حسين، وكان زواجه منها سنة 531هـ وفي هذه السنة كانت فترة نشاطه في حمص، فقد حاصرها حصاراً شديداً ولا يستبعد أن يكون زواجه بها ليكتسب شرعية أخذه حمص من دمشق، لأنها الوارثة لها بعد والدها وليضم إليه أنصار والدها ويساعدوه على أخذ المدينة (5).
و- الزوجة السادسة: تزوجها سنة 532هـ وهي صفوة الملك ابنة الأمير جاولي أم
_________
(1) التاريخ الباهر ص 28.
(2) نور الدين زنكي، حسن حبشي ص 24.
(3) زبدة حلب ص 244 الحروب الصليبية والأسرة الزنكية ص 59.
(4) الحروب الصليبية والأسرة الزنكية ص 59.
(5) المصدر نفسه ص 60.(1/21)
شمس الملوك إسماعيل وإخوته بني تاج الملوك وهي أخت الملك دقاق لأمه (1)، وقد كان زواجه منها في أمل أن يمتلك دمشق فلما لم يحصل له ملك دمشق أعرض عنها (2)، ونلاحظ أن موضوع زوجات زنكي قد حظي باهتمام عدد من المؤرخين وأغلب الظن أن سبب ذلك يعود إلى العلاقة الوثيقة بين معظم عقود الزواج التي قام بها وبين مشاريعه السياسية والعسكرية وكان زنكي يعتمد رابطة الزواج لتحقيق بعض أهدافه السياسية والعسكرية، وأنه تمكن بهذا الأسلوب من توثيق علاقاته بعدد من الحكام والأمراء، الأمر الذي ساعده إلى حد كبير في تنفيذ خططه الرامية إلى توحيد القوى الإسلامية لمواجهة الخطر الصليبي (3).
5 - أبناؤه فهم: سيف الدين غازي وهو الأكبر، نور الدين محمود، قطب الدين مودود، نصرة الدين أمير أفيران. وجميع أولاده ظهرت عليهم النجابة مما ورثوه من والدهم وكانوا ذوي أخلاق حميدة، وشجاعة فائقة، وخاصة نور الدين محمود، وسيف الدين غازي، وقطب الدين مودود فأخبار شجاعتهم مشهورة، ونلاحظ من أسماء أولاد زنكي اسم مودود فقد يدل على أعجاب زنكي بالأمير مودود وهناك غازي واسمه يدل عليه أما محمود فإنه يطابق اسم أحد السلاطين السلاجقة ممن خدمه زنكي (4). وقد خصص زنكي لتربية أولاده عليا بن منصور السروجي، وكان أديباً شاعراً خطاطاً وعندما كبر سيف الدين غازي أرسله أبوه لخدمة السلطان مسعود فتلقاه بالحفاوة والتقدير، ورتب في خدمته عشرة من الحراس (5) وقد بقي سيف الدين هناك حتى قبيل مقتل أبيه بوقت قصير وأما نور الدين محمود فقد نشأ تحت رعاية والده، وتعلم القرآن الكريم والفروسية والرمي (6)، ولما جاوز صباه لزم خدمة أبيه حتى مقتله (7)، وهكذا كان زنكي يعد أولاده لتحمل المسؤوليات الإدارية والعسكرية في المستقبل، وما يقال عن غازي ومحمود يمكن أن يقال عن ابنيه الآخرين أميران ومودود (8).
_________
(1) الروضتين (1/ 80).
(2) مفرج الكروب نقلاً عن الحروب الصليبية والأشرة الزنكية ص 60.
(3) عماد الدين زنكي ص 172.
(4) الحروب الصليبية والأسرة الزنكية ص 62.
(5) الباهر ص 97.
(6) البداية والنهاية نقلاً عن عماد الدين ص 173.
(7) الروضتين (1/ 119).
(8) عماد الدين زنكي ص 173.(1/22)
الفصل الثاني: تطور شخصية عماد الدين القيادية:
أولاً: بزوغ نجمه السياسي:
كان من العوامل الرئيسية التي ساعدت على ظهور عماد الدين زنكي، منُذ عهد طفولته، ذلك الدور الذي لعبه أبوه آق سنقر في شؤون الدولة السلجوقية السياسية والعسكرية والإدارية في الأعوام (465هـ - 487هـ) والمكانة التي حصل عليها نتيجة خدماته للسلاطين السلاجقة، وعمله على تدعيم كيانهم، حتى أنه ضحى بحياته - كما رأينا - في سبيل الولاء للسلطان السلجوقي بركيارق، ولم ينس هذا تضحية آق سنقر في سبيل عرشه فجازاه - بعد مقتله - بتوجيه العناية والاهتمام نحو ابنه الوحيد عماد الدين زنكي الذي كان آنذاك في العاشرة من عمره، وكان يقيم في حلب تحت رعاية مماليك أبيه، وأصحابه الذين كانوا يكنون الحب العميق لآق سنقر (1).
1 - مكانة زنكي عند أمير الموصل كربوقا: لما تولى أمر الموصل قوام الدولة كربوقا سنة 489هـ، باسم السلطان بركيارق أولى زنكي اهتماماً خاصاً، وطلب من بعض مماليك والده المقيمين في حلب إحضار عماد الدين إليه وقال لهم: هو ابن أخي وأنا أولى الناس بتربيته، فأحضروه عنده (2)، ويبدو أن كربوقا أدرك مكانة آقسنقر والد عماد الدين في نفوس كثير من التركمان وعرف ما يكنّون له من الولاء والطاعة، فحرص على أن يضّم إليه ابنه عماد الدين ليحصل على الولاء نفسه الذي يحمله التركمان لوالده، إضافة إلى أن كربوقا أثناء ملازمته لآقسنقر قد أدرك نجابه عماد الدين ومكانته بين مماليك والده، فأراد أن يضمه إلى جانبه للاستعانه به، وبمماليك والده في حروبه ضد خصومه، وربما ليضمن عدم منافسته له مستقبلاً، وقد حظي عماد الدين بمكانة مرموقة عند قوام الدولة كربوقا، وظل عماد الدين زنكي ملازماً له بالموصل إلى أن توفي كربوقا سنة 495هـ /1101م (3).
2 - مكانته عند الأمير جكرمش والي الموصل: بقيت العلاقة طيبة بين زنكي وشمس الدولة جكرمش الذي اعقب كربوقا على ولاية الموصل (495 - 500هـ) والذي كان أحد مماليك السلطان السلجوقي ملكشاه وعلى معرفة بالخدمات التي أداها والد زنكي للسلاجقة، ومن ثم توثقت العلاقة بينه وبين زنكي حيث: قربه وأحبه واتخذه ولداً، وظل
_________
(1) الباهر ص 15، عماد الدين زنكي ص 36.
(2) عماد الدين زنكي ص 36.
(3) الباهر ص 16 الحياة العلمية في العهد الزنكي ص 31.(1/23)
الأخير ملازماً له حتى وفاته عام 500هـ (1).
3 - في عهد ولاية جاولي سقاو على الموصل: بعد وفاة جكرمش تولى جاولي سقاو
(500 - 502هـ) على ولاية الموصل وأن زنكي قد بلغ مرحلة الشباب (وبدت عليه علائم الشهامة) وساد الصفاء علاقاته بالوالي الجديد. إلا أن عصيان الأخير للسلطان محمد عام 502هـ وهروبه إلى الشام، دفع زنكي إلى الانفصال عنه وجماعة من كبار الأمراء في نفس الوقت الذي عين فيه السلطان والياً جديداً على الموصل هو الأمير مودود بن التونتكين (502 - 507هـ)، فانضم زنكي ورفاقه إليه. مما كان له أبلغ الأثر في نفس السلطان والوالي الجديد على السواء، الأمر الذي رشحه لأن يكون من كبار أمراء هذا الوالي، وأن يحصل على مزيد من الاقطاعات (2).
4 - ملازمته للأمير مودود في حرب الصليبيين: لما استقر الأمير مودود بالموصل واتصل به عماد الدين عرف له مكانته بالإضافة إلى منزلة أبيه ولما رأى منه العقل والشجاعة زاد في اقطاعه وشهد زنكي حروبه كلها وخاصة مع الصليبيين في طبرية، وقبل مجئ مودود كان زنكي قد تميز بشجاعته ومقدرته وقد شارك في الغزوات التي قام بها ضد اللاتين ويذكر المؤرخون بكل اعتزاز أن عبقريته كرست للجهاد من السنوات الأولى من عمره (3)، وقد أظهر في عهد مودود من البطولات في جهاده ضد الصليبيين ما أكسبه شهره واسعة لدى المسلمين وظل ملازماً لمودود حتى مقتله عام 507هـ على أيدي الباطنية في جامع دمشق (4).
5 - في خدمة الأمير آق سنقر البرسقي: عاد زنكي بعد استشهاد مودود إلى الموصل ليلتحق بخدمة الوالي الجديد " جيوش بك " ثم ما لبث أن انضم إلى الأمير آق سنقر البرسقي الذي وجهه السلطان السلجوقي لقتال الصليبيين، في نفس العام، فقاتل في الرها وسميساط وسروج وأظهر من الشجاعة والمقدرة خلال ذلك ما زاد من شهرته لدى المسلمين (5)، ودفع السلطان محمد إلى أن يطلب من واليه على الموصل تقديم زنكي والرجوع إلى مشورته تقديراً لإخلاصه وقدراته (6).
6 - بعد وفاة السلطان السلجوقي محمد 511هـ: عندما توفي السلطان محمد عام 511هـ، سعى
_________
(1) الباهر ص 16 عماد الدين زنكي ص 36.
(2) عماد الدين زنكي ص 37.
(3) الحروب الصليبية والأسرة الزنكية ص 63.
(4) الباهر ص 17 - 19 عماد الدين زنكي ص 37.
(5) الباهر ص 17 - 19 عماد الدين زنكي ص 37.
(6) الباهر ص 24 عماد الدين زنكي ص 38.(1/24)
"جيوش" إلى استغلال وجود ابنه مسعود - إذ كان أتابكاً له - ودفعه إلى التوجه إلى بغداد لكي ينصب نفسه سلطاناً على سلاجقة العراق - مستهدفاً من وراء ذلك التحكم الفعلي في شؤون الدولة السلجوقية باسم السلطان الجديد، وقد أيد زنكي هذه المحاولة، وسار الوالي ومسعود متوجهين إلى بغداد على رأس حشد من قوات الموصل إلا أن المحاولة أخفقت بعد سلسلة من الحروب والمناوشات شهدتها منطقة بغداد، واستتب الأمر للسلطان محمود الذي أعقب أباه في الحكم (1). وبعد ثلاثة أعوام حاول جيوش بك أن يثور ثانية ضد السلطان محمود، غير أن زنكي رفض تأييده وأشار على
المتمردين: بطاعة السلطان وترك مخالفته وحذرهم عاقبة العصيان. لكنهم لم يلتفتوا إلى قوله، وأقدموا على تنفيذ محاولتهم التي انتهت هي الأخرى بالفشل بعد هزيمة جيوش بك ومسعود على يد السلطان محمود الذي بلغه موقف زنكي منه فقدره حق قدره وأوصى البرسقي والي الموصل الجديد بالعناية به وتقديمه على سائر الأمراء (2).
7 - تولي عماد الدين زنكي إمارة واسط والبصرة: وعندما عين البرسقي عام 516هـ شحنة على العراق رافقه زنكي واشترك إلى جانبه في المعركة التي دارت ضد دبيس أمير الحلة وانتهت بهزيمة البرسقي (3)، الذي رأى أن يزيد من اعتماده على زنكي في صراعه ضد دبيس - فولاه
واسط - ذات الموقع الهام - وكلفه مهمة الدفاع عنها ضد هجمات أمير الحلة. وقد استطاع زنكي أن يسحق في طريقه إلى واسط القوات التي حشدها دبيس للدفاع عن النعمانية، وأن يستولي على هذا الموقع (4) وأظهر زنكي في منصبه الجديد حزماً وكفاءة، وأبان عن مقدرة إدارية فذة (5)، الأمر الذي دفع البرسقي، حاكم العراق إلى إضافة البصرة إلى ولايته، لكي يصد هجمات الأعراب الدائمة عليها، وينشر الأمن في ربوعها (6) فانتقل زنكي إليها لكي يحقق فيها ما أنجزه في واسط من نشر للأمن وقضاء على الفوضى. وقد تمكن في وقت قصير من أن يتوقف هجمات الأعراب وغاراتهم المتتابعة عند حدها، وأن يجليهم إلى أعماق الصحراء، كما قضى على الفتن التي عمت البصرة، وأظهر مقدرة عسكرية وإدارية كالتي أظهرها في واسط من قبل، مما زاد من مكانته في نظر رجالات الدولة السلجوقية ومن رهبته للأعداء، حتى أن دبيس ابن صدقة - أقوى أمراء الجنوب -
_________
(1) الكامل في التاريخ نقلاً عن عماد الدين زنكي ص 38.
(2) الباهر ص 22 - 24، الروضتين (1/ 73).
(3) المنتظم (9/ 232 - 233) الباهر ص 24.
(4) الباهر ص 25، عماد الدين زنكي ص 38.
(5) الروضتين (1/ 73) عماد الدين زنكي ص 39.
(6) البداية والنهاية نقلاً عن عماد الدين زنكي ص 39.(1/25)
تجنب الاصطدام معه، لأنه أدرك أن ليس في طاقته مجابهته والتغلب عليه، وفضل توحيد جهوده ضد الخليفة العباسي في بغداد بدلاً من مقارعة هذا الأمير القدير (1).
8 - دفاع زنكي والبرسقي عن الخليفة المسترشد: لم يتركا البرسقي وزنكي الخليفة يجابه بمفرده حشود دبيس، فجمعوا قواتهم والتقوا به في مطلع عام 517هـ قريباً من الحلة، واستطاعوا - بفضل الله ثم الخطة البارعة التي اتبعها زنكي - أن يلحقوا به هزيمة نكراء، وأن يقتلوا ويأسروا الكثير من جنده، واضطر هو ومن سلم من قواته إلى الفرار، بينما عاد المسترشد وحلفاؤه إلى بغداد يستقبلهم الأهالي هناك استقبالاً حافلاً، بعد خلصوهم من خطر محقق كان يحيق ببغداد ويعرضها للنهب والتخريب (2)، وكان زنكي - لدى مغادرته البصرة - قد فوض شؤونها لمقدم حاميتها الأمير " سخت كمان " فاستغل دبيس بعد زنكي عنها وهاجمها على حين غرة وتمكن من قتل مقدم حاميتها ونهب أهاليها، لكن زنكي ما لبث أن عاد إلى البصرة ليقر الأوضاع فيها من جديد، فانسحب دبيس من المنطقة واتجه إلى الشام للعمل مع الصليبيين (3).
9 - عماد الدين في خدمة السلطان محمود: أقيل البرسقي من شحنكية العراق في عام 517هـ وأعيد إلى الموصل لقيادة حركة الجهاد ضد الصليبيين، وعين يرنقش الزكوي شحنة بعده (4)، فأرسل البرسقي إلى زنكي يستدعيه من البصرة ليتجه معه إلى الموصل غير أن الأخير فضل أن يربط مصيره بالسلطان محمود، يصحبه عدد من كبار أمرائه وقرر السلطان محمود تزويجه بأرملة أحد أمرائه الكبار، وتم ذلك في احتفال شهده السلطان وعدد كبير من القادة والمسؤولين (5) الأمر الذي هيّأ لزنكي فرصة الظهور في محيط كبار الأمراء وتعريف رجالات الدولة السلجوقية بمكانته (6).
10 - تكليف السلطان محمود عماد الدين بتوطيد الأمن في البصرة: غدة البصرة، بعد مغادرة زنكي لها، مسرحاً للفوضى، وهدفاً للنهب والتخريب، وهجمات الأعراب، وبلغ السلطان ذلك فأمر زنكي بالعودة إليها، بعد أن أقطعه إياها عام 518هـ وطلب منه اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لتوطيد الأمن في المنطقة، كما كلفه مهمة الإشراف على واسط
_________
(1) المنتظم (9/ 242، 243) عماد الدين زنكي ص 39.
(2) البداية والنهاية نقلاً عن عماد الدين زنكي ص 39.
(3) المنتظم (9/ 249).
(4) المنتظم (9/ 249).
(5) الباهر ص 27 - 28 عماد الدين زنكي ص 40.
(6) عماد الدين زنكي ص 40.(1/26)
والسعي للدفاع عنها إذا ما فكر الخليفة بإرسال جيش للإستيلاء عليها، إذ كانت هدفاً لمحاولاته التوسعية (1)، غادر زنكي اصفهان إلى البصرة وباشر مهام منصبه، فأحسن معاملة أهلها واستطاع أن يخلصهم من هجمات الأعراب، وذلك عن طريق تنظيم دوريات عسكرية دائمة للقيام بهجمات مضادة على الأعراب ونصب الكمائن لهم، كما اهتم بالوقت ذاته، بأمور واسط وأخذ يمد السلطان باخبار العراق بحيث لم يخف على الأخير شيئاً من أموره، الأمر الذي زاد من تقديره لزنكي ومن إرتفاع منزلته عنده، ورشحه لمنصب شحنكية
العراق (2).
11 - الصراع بين الخليفة المسترشد والسلطان السلجوقي: في عام 519هـ تدهورت العلاقات بين الخليفة المسترشد والسلطان محمود الذي رأى نفسه مضطراً للتوجه إلى بغداد للحد من مطامح الخليفة وفرض سيطرته المباشرة على العراق. وكان الخليفة قد أرسل بعض جيوشه بقيادة عفيف الخادم للاستيلاء على واسط إلا أن زنكي تمكن من صده والانتصار عليه في المعركة التي دارت بين الطرفين عند مشارف واسط. وفي العشرين من ذي الحجة وصل السلطان إلى بغداد وأرسل إلى الخليفة يطلب منه إقرار الصلح فرفض الأخير طلبه، الأمر الذي أدى إلى نشوب القتال بين الطرفين وقد رأى السلطان أن يعتمد على زنكي في صراعه هذا فأرسل إليه يأمره بالحضور إلى بغداد على رأس قواته وأن يجلب معه ما يستطيع من زوارق حربية وسفن، فنفذ زنكي الأمر، وجمع عدداً كبيراً منها، أثر جولة قام بها في مناطق العراق الجنوبي لهذا الغرض، وبعد أن ملأها بالمقالة اتخذ طريقه إلى بغداد، وما أن بلغ الخليفة نبأ تقدم زنكي بقواته الحاشدة براً ونهراً، حتى أدرك أن ليس في طاقته الصمود طويلاً أزاء شروط السلطان، وأن بغداد مقبلة على حصار شديد في البر والنهر، فأرسل إليه يعلن موافقته على الصلح، ومن ثم دخل السلطان بغداد حيث تمت المصالحة وساد الوئام (3). وهكذا لعب زنكي دوراً حاسماً في وضع حد للصراع بين السلطان والخليفة والذي كان من المحتمل أن يؤدي إلى نتائج لا تحمد عقباها (4).
12 - تولي عماد الدين شحنكية العراق: ولما أراد السلطان محمود الرحيل نظر فيمن يصلح أن يلي شحنكية العراق، وبغداد، ويأمن معه من الخليفة ويضبط الأمور فلم ير في امرائه وأصحابه من يصلح لسد هذا الباب العظيم ويرفع هذا الخرق من الاتساع وتقوى
_________
(1) الباهر ص 28 عماد الدين زنكي ص 41.
(2) الباهر ص 28 عماد الدين زنكي ص 41.
(3) المنتظم (9/ 252 - 259) الباهر ص 28 - 31.
(4) عماد الدين زنكي ص 41، 42.(1/27)
على ركوب هذا الخطر غير عماد الدين زنكي فولاه شحنكية العراق مضافاً إلى ما بيده من الأقطاع وسار السلطان عن بغداد (1)، وقد أطمأن إلى نفوذه في العراق، بعد أن أناب عنه الرجل الذي يستطيع أن يقوم بمهام منصبه خير قيام وأصبح عماد الدين منُذ ذلك التاريخ يصرف الأمور ولا في بغداد وحدها بل في سائر جهات
العراق (2).
ثانياً: دور الفقهاء في تعيين عماد الدين على الموصل:
عندما توفي أمير الموصل عز الدين البرسقي عام 521هـ/1127م تولى أمرها أخ صغير له تحت وصاية مملوك تركي يدعى جاولي، أدرك الفقهاء أن ضعف الموصل لابد وأن يؤثر على حلب وبلاد الشام في هذه المرحلة الحاسمة في تاريخ الصراع، إذ أن ذلك الفراغ السياسي، وعدم وجود قيادة عسكرية قوية في الموصل لابد وأن يلقى انعكاساً على الصراع الصليبي الإسلامي (3)، ولذلك قامت عائلة الشهر زوري المعروفة بالعلم والصلاح بدور كبير في تنصيب عماد الدين زنكي في الموصل لكونه قائد عسكري قوي. حقيقة أن جاولي قام بإرسال القاضي بهاء الدين بن القاسم الشهر زوري، ونائب عز الدين البرسقي صلاح الدين محمد الياغيسياني إلى بغداد، التي كان بها السلطان محمود السلجوقي، وذلك الولاية في الموصل لأخ عز الدين الصغير حتى يظل يسيطر باسمه على الحكم فيها بصفة الوصاية عليه، إلا أن القاضي ورفيقه أدركا ذلك الهدف وإنهما ليس في نيتهما تحقيق هدف جاولي، لاعتقادهما بعدم كفاءته لذلك الظرف الصعب، حيث كانا على معرفة بطباعه وتصرفاته التي لا يرضيان عنها، ويبدو في الوقت نفسه كانا على علاقة متينة بعماد الدين زنكي حيث خططا معاً في أن يتمكنا من إقناع ذلك السلطان لتولية الموصل وحلب، حرصاً منهما على عدم ضياع البلاد الإسلامية وخاصة الموصل في أيدي الصليبيين (4)، وبوصول القاضي ورفيقه إلى بغداد اتصل صلاح الدين محمد بأحد أقربائه في بغداد نصر الدين جقروا حيث كان بينهما مصاهرة (5) واجتمعوا به وقرروا أن جاولي لا يصلح لحفظ البلاد لأنه كان سيء السيرة (6)،
وأخذ القاضي الشهرزوري على عاتقه حمل الأمانة وقول الحق، فاجتمع هو وصلاح الدين الياغيسياني بوزير السلطان السلجوقي (7). وقالا له: قد علمت أنت والسلطان السلجوقي أن ديار الجزيرة والشام قد تمكن الفرنج منها وقويت شوكتهم بها واستولوا على
_________
(1) الحروب الصليبية والأسرة الزنكية ص 68.
(2) الروضتين نقلاً عن الحياة العلمية في العهد الزنكي ص 32.
(3) موقف فقهاء الشام وقضاتها من الغزو الصليبي ص 84.
(4) الكامل في التاريخ نقلاً عن موقف فقهاء الشام وقضاتها ص 84.
(5) المصدر نفسه ص 84.
(6) دور الفقهاء والعلماء المسلمين في الشرق الأدنى ص 106 ..
(7) المصدر نفسه ص 106.(1/28)
أكثرها، وقد أصبحت ولايتهم من حدود ماردين إلى عريش مصر ما عدا البلاد الباقية بيد المسلمين (1)، ويتضح من خلال حديث القاضي بهاء الدين الشهرزوري مبلغ تخوفه من سيطرة الصليبيين على أراضي الإسلام وخشيته من اتساع الرتق باستيلائهم على المزيد منها، وحاجة البلاد إلى الرجل المناسب لوقف التوسع الصليبي والتصدي له. فاستطرد قائلاً: ولا بد للبلاد من رجل شهم شجاع ذي رأي وتجربة يذب عنها ويحمي حوزتها (2) ومن عمق إحساسه بالمسؤولية أمام الله والعباد نراه يقول: وقد أنهينا الحال إليك لئلاً يجري خلل أو وهن على الإسلام والمسلمين، فنحصل نحن بالإثم من الله واللوم من السلطان (3)، وهذا يعطينا درساً مهماً في دور هذا الفقيه الذي وضع مصلحة الأمة فوق كل اعتبار ولم يتأثر بترغيب ولا ترهيب من حاكم الموصل الذي أرسله للسلطان السلجوقي، كما أن في اختيار كمال الدين الشهر زوري لعماد الدين زنكي تزكية له من بين بقية الأمراء في ذلك العهد. وقام وزير السلطان شرف الدين أنو شروان بن خالد بتوصيل مطلبهما وحال بلاد الشام إلى السلطان محمود. وبواسطه ذلك الوزير اقتنع السلطان برأيهما وحالهما.
وتحقق هدفهما عندما استشارهما فيمن يفضلون لولاية الموصل، ويبدو أن القاضي الشهر زوري ورفيقه أشارا عليه بمجموعة من القادة المسلمين من بينهم عماد الدين زنكي حتى لا يشك في أمرهما وإصرارهما عليه إلا أنه أختارا عماد الدين بإيعاز من وزيره أنوشروان وعينه والياً على الموصل (4)، وهنا يظهر دور العالم القاضي بهاء الدين بن القاسم الشهرزوري في اختيار القائد الأفضل لقيادة القوى الإسلامية نحو مواجهة الغزو الصليبي حتى كان لهذا الاختيار أثره في إرساء حجر الجهاد في المشرق الإسلامي حيث تمكن من خلاله غرس نواة الوحدة مع حلب عندما أخذها ورحب به أهلها عام 521هـ/1127م لأن موقع حلب الاستراتيجي بين بلاد الشام، ومناطق أعالي الفرات هو الذي جعلها في قلب الأحداث آنذاك حتى أن ذلك الأمير عماد الدين قد أدرك أهمية ذلك الموقع بالنسبة لبلاد الشام والموصل والجزيرة الفراتية وتمنى لو أخذها المسلمون قبل أن يدخلها الصليبيون (5).
إن هذا العدو قد طمع في البلاد وإن أخذ حلب لم يبق بالشام إسلام .. فالمسلمون أولى من الكفار
بها (6).
_________
(1) الكامل في التاريخ نقلاً عن دور الفقهاء والعلماء المسلمين في الشرق الأدنى ص 107.
(2) الكامل في التاريخ نقلاً عن دور الفقهاء ص 107.
(3) الكامل في التاريخ (8/ 659).
(4) المصدر نفسه (8/ 659).
(5) الكامل في التاريخ نقلاً عن موقف فقهاء الشام ص 86.
(6) المصدر نفسه ص 86.(1/29)
1 - مكانة القاضي بهاء الدين الشهرزوري عند عماد الدين: واعترافاً من عماد الدين زنكي بما بذله القاضي بهاء الدين الشهرزوري في تعيينه ورداً لجميله نحوه عينه قاضي قضاة بلاده جميعها وما يفتحه من البلاد، وكذلك زاده أملاكاً وإقطاعاً واحتراماً وكان يثق فيه وفي آرائه، لذلك كانت منزلته عظيمة عنده، وكان عماد الدين يستشيره في معظم الأمور الهامة في دولته حتى صرح ابن الأثير بذلك قائلاً: وكان لا يصدر إلا عن رأيه (1). إن احترام العلماء وتقدير آراءهم، واستشارتهم من عوامل وأسباب نجاح القادة السياسيين والعسكريين.
2 - أتابكيَّة الموصل: مال السلطان السلجوقي إلى تولية عماد الدين زنكي إمارة الموصل لما علم من شهامته وتمكنه من إنجاز المهام التي انيطت به من قبل، وأمره بالحضور وبعد مناقشات قصيرة اقتنع السلطان بجدارة زنكي في القيام بأعباء المنصب الجديد ومن ثم أصدر منشوراً بتوليته الموصل والجزيرة وما يفتتحه من بلاد الشام، وسلمه ولديه ألب أرسلان والخفاجي ليكون أتابكاً لهما (أي أبا مربياً) وفقاً للتقاليد السلجوقية السائدة آنذاك، ومنُذ ذلك الوقت سمي زنكي أتابكاً وأصبح كل من ولدي السلطان محمود تحت إشرافه المباشر وفي الثالث من رمضان عام 521هـ وصل بغداد الأمير مجاهد الدين بهروز، قادماً من بلاد فارس، ليتولى شحنكية العراق، فغادر زنكي ورجاله عاصمه العراق نحو الموصل لتسلم مهام منصبه الجديد (2)، وتعتبر أتابكيَّة الموصل نواة للدولة الزنكية (3).
ثالثاً: أهم صفاته:
كان عماد الدين زنكي حسن الصورة، أسمر اللون، مليح العينين (4) معتدل الطول (5)، وخط الشيب رأسه في سني حكمه الأخيرة (6)، وكان ذا شخصية قوية، شديد الهيبة على رعيته وجنده (7)، جاداً في معظم الأحيان، وكان جده الصارم يمنعه من الاستسلام للراحة أو النزف ويدفعه إلى مواصلة كفاحه من أجل أهدافه، ويجعل أصوات السلاح ألذ في سمعه من غناء القينات (8) وإليك تفصيل أهم صفاته.
_________
(1) الكامل في التاريخ نقلاً عن دور الفقهاء والعلماء ص 108.
(2) المنتظم (10/ 5) عماد الدين زنكي ص 45.
(3) الحياة العلمية في العهد الزنكي ص 27.
(4) الباهر ص 76 عماد الدين زنكي ص 173.
(5) الروضتين (1/ 108) عماد الدين زنكي ص 173.
(6) الباهر ص 76 عماد الدين زنكي ص 173.
(7) زبدة حلب (2/ 290 - 291) عماد الدين زنكي ص 173.
(8) الباهر ص 81 عماد الدين زنكي ص 173.(1/30)
1 - شجاعته: فقد ورث الشجاعة عن أبيه الذي تقدم في جيش ملكشاه وقد مّر معنا شيء من سيرته وقوله لتتش المنتصر وهو الأسير بين يديه، لو ظفرت بك لقتلتك، ويلقى نتيجة جرأته فيقتله تتش صبرا (1) وقد تقدم عماد الدين عند أمراء الموصل بشجاعته، وظهرت شجاعته في القتال في زمن مبكر، فقد سار مع مودود في غزوته ضد الإفرنج وخرج إفرنج طبرية للدفاع عنها، فحمل عليهم، وانهزم الإفرنج من أمامه وطعن باب سور طبرية طعنة أثرت فيه وكان أصحابه قد تأخروا عنه، لما قرب من الأسوار ومع ذلك قاتل متراجعاً، فعجب الناس من شجاعته ونجاته (2)، قال أبو شامه في شجاعته: وأما شجاعته وإقدامه فإليه النَّهاية فيهما، وبه كان تضرب الأمثال، ويكفي في معرفة ذلك جملة، أن ولايته أحّدق بها الأعداء والمنازعون من كل جانب: الخليفة المسترشد، والسلطان مسعود، وأصحاب أرمينية وأعمالها، وبيت سُكْمان، وركن الدولة داود صاحب صحن كيفا، وابن عمه صاحب ماردين ثم الفرنج ثم صاحب دمشق وكان ينتصف منهم ويغزو كُلاًَّ منهم في عقر داره ويفتح بلادهم، ما عدا السلطان مسعود فإنه كان لا يباشر قصده، بل كان يحمل أصحاب الأطراف على الخروج عليه، فإذا فعلوا عاد السلطان محتاجاً إليه وطلب منه أن يجمعهم على طاعته، فيصير كالحاكم على الجميع وكلًّ يداريه ويخضع له، ويطلب منه ما تستقر القواعد على يده (3). وحمل على قلعة عقر الحميدية في جبال الموصل، وأهلها أكراد وهي على جبال عال، فوصلت طعنته إلى سورها، وفي حصار الرها، جمع امرائه عنده، ومد السماط، وقال لا يأكل معي على مائدتي هذه إلا من يطعن معي غداً في باب الرها، فلم يتقدم إليه غير أمير واحد، وصبي واحد لا يعرفه، لما يعرفون من أقدامه وشجاعته وأن أحداً لا يقدر على مساواته في الحرب.
فقال الأمير لذلك الصبي: ما أنت وهذا المقام فقال عماد الدين: دعه، فإني أرى والله وجها لا يتخلف عني (4)، وكان يقدر الشجعان وكان لا يضطرب أمام أي خطر (5).
2 - هيبته: كان عماد الدين ذا هيبة شديدة في نفوس أصحابه لا يجرؤون على الجلوس بين يديه، واشترك معه في الحروب أجناس مختلفة، ويحتاج ضبطها من الدراية والمهارة والهيئة، فاستطاع بشخصيته القوية، فرض النظام على جميع جنده، وكان ذا هيبة وسطوة، وكان إذا
_________
(1) مفروج الكروب (1/ 26).
(2) أخبار الروضتين نقلاً عن الحروب الصليبية والأسرة الزنكية ص 160.
(3) كتاب الروضتين (1/ 160).
(4) مفرج الكروب (1/ 93).
(5) الحروب الصليبية والأسرة الزنكية ص 159.(1/31)
مشي يسير العسكر خلفه في صفين، كأنهم الخيط خوفاً أن يدوس أحدهم الزرع ولا يجسر أحد أن يدوس عرقاً منه، ولا يمشي فرسه فيه، ولا يجسر أن يأخذ من فلاح تبن إلا بثمنها، أو بخط من الديوان إلى رئيس القرية، وأن تعد أحد صلبه (1). وهيبته كانت في نفوس قادته قال علي كوجك نائبه بالموصل، لما فتحنا الرها مع الشهيد، وقع بيدي من النهب جارية رائعة أعجبني حسنها، ومال قلبي إليها فلم يكن بأسراع من أن أمر الشهيد، برد السبي والمال المنهوب وكان مهيباً مخيفاً فرددتها وقلبي معلق بها (2)، وخرج يوماً من باب السر، في قلعة الجزيرة خطوة، وملاح له نائم فأيقظه بعض الجاندرية من مماليك السلطان فحين رأى الشهيد سقط على الأرض فحركه فوجده (3) ميتاً، وركب يوماً فعثرت دابته، وكاد يسقط عنها فأستدعى أميراً، وكان معه، فقال له كلاماً لم يفهمه، ولم يتجاسر على أن يستفهمه منه، فعاد إلى بيته وودع أهله عازماً على الهرب فقالت له زوجته: ماذنبك وما حملك على الهرب؟ فذكر لها الحال، فقالت له: إن نصير الدين له بك عناية، فأذكر له قصتك، وأفعل ما يأمرك به. فقال: أخاف أن يمنعني من الهرب وأهلك.
فلم تزل به زوجته تراجعه وتقوي عزمه إلى أن عّرف نصير الدين حاله، فضحك منه وقال له: خذ هذه الصرة الدنانير وأحملها إليه، فهي التي أراد. فقال: الله الله في دمي ونفسي. فقال لا بأس عليك، فإنه ما أراد غير هذه الصرة. فحملها إليه فحين رآه قال: أمعك شيء؟ قال: نعم، فأمره أن يتصدق به، فلما فرغ من الصدقة قصد نصير الدين وشكره وقال: من أين علمت أنه أراد الصُرة؟ فقال: إنه يتصدق بمثل هذا القدر كل يوم، يرسل إليّ يأخذه من الليل، وفي يومنا هذا لم يأخذه، ثم بلغني أن دابته عثرت به حتى كان يسقط إلى الأرض، فأرسلك إليّ فعلمت أنه ذكر الصدقة (4)، واجتمع حوله العرب والترك والتركمان والأكراد والبدو وكان يجتهد أن تضبط أمور هذه الجموع بحكمة القائد الماهر، ويضبطهم في أحرج الأوقات، فعندما اقتحم جنده الرها، وكادوا يأتون على ما فيها، كف أيديهم وحافظ على البلد لأن تخريب مثله لا يجوز في السياسة كما قال (5) وخاف خصومه قصد ولايته لعلمهم أنهم لا ينالون منها عرضاً (6)، وبلغ من خوف الفرنجة منه أنه رفع الحصار عن قلعة البيرة لقتل نائبه في الموصل، فسلمها أهلها إلى حسام الدين تمرتاش خوفاً من عودة الشهيد إليهم (7)، وكان يخشاه سلاطين
_________
(1) تاريخ حلب ص 283، الحروب الصليبية ص 159.
(2) الحروب الصليبية والأسرة الزنكية نقلاً عن تاريخ حلب ص 159.
(3) مفرج الكروب (1/ 105).
(4) مفروج الكروب (1/ 105).
(5) الحروب الصليبية والأسرة الزنكية ص 159.
(6) الباهر ص 25.
(7) كتاب الروضتين نقلاً عن الحروب الصليبية والأسرة الزنكية ص 160.(1/32)
السلاجقة، ولا يقدرون على قصد بلاده، فيقول ابن الأثير: أراد السلطان مسعود زنكي لإثارته الأطراف عليه ومنع السلطان مسعود قصده، حصانة بلاده وكثرة عساكره وأمواله (1)، والخليفة المسترشد نفسه، حاصر الموصل فلم ينل منها شيئاً مدة ثلاثة شهور (2).
3 - ذو دهاء ومكر وحيلة: كان ذا دهاء ومكر وحيلة، وذكاء نافذ في مجابهة المشاكل الحربية والسياسية، وقد مكنه ذلك من اجتياز كثير من الصعوبات، وتحقيق مزيد من الانتصارات فمن مناورته البارعة ضد التحالف البيزنطي الصليبي عام 532هـ فقد أرسل إلى قادته يقول: إنكم قد تحصنتم بهذه الجبال فإخرجوا عنها إلى الصحراء حتى نلتقي، وتكون الغلبة لأحد الطرفين فظن الروم والصليبيون أن وراءه قوات ضخمة أتاحت له أن يطرح تحديه، فتجنبوا لقاءه وهو ما كان زنكي يرجوه، ثم راح بعد ذلك يراسل امبراطور الروم ويوهمه أن الصليبيين متفقون مع المسلمين سراً وبالعكس، واستطاع بذلك أن يبذر بذور الإنشقاق في الجبهة المسيحية مما اضطر قواتها إلى الانسحاب (3). هذا إلى أنه فتح الرها وهو أكبر نصر حققه في حياته، معتمداً على الحيلة والمكر، إذ اتجه إلى آمد موهماً الصليبيين أنه يسعى لحصارها، وما أن رحل أمير الرها عن حاضرته مطمئناً إلى إنهماك زنكي بمشاكله في ديار بكر حتى انقضى الأخير عليها وتمكن من اجتياحها (4).
4 - ذكاؤه: من ذكائه أنه لم يظهر أنه مستقل عن السلاطين السلاجقة، بل أظهر أنه يحكم بأمرهم، فقد كان معه ولدان من أولاد السلطان محمود بن محمد السلجوقي وهما ألب أرسلان وفرخشاه ويعرف بالخفاجي وكان يظهر أن الحكم له في بلاده، وأنه نائب عنه، وكان إذا أرسل رسولاً أو أجاب على رسالة يقول قال الملك كذا وكذا، وكان ينتظر موت السلطان مسعود، ليجمع العساكر باسم ألب أرسلان، ويخرج الأموال ويطلب السلطنة، فعاجلته المنية قبل ذلك (5)، وكان ابنه سيف الدين غازي عند السلطان مسعود ليثق بطاعته (6)، وكان يثير الأطراف على السلطان مسعود حتى يحتاجه ويجمعهم عليه مرة ثانية ليشتغل بهم عنه (7).
5 - يقظته وحذره: كان عماد الدين زنكي شجاعاً غير هياب، إلا أنه كان حذراً يحتاط
_________
(1) الباهر والكامل في التاريخ نقلاً عن الحروب الصليبية ص 160.
(2) مفرج الكروب نقلاً عن الحروب الصليبية ص 160.
(3) الباهر ص 55 - 56 عماد الدين زنكي ص 174.
(4) الباهر ص 67 - 68.
(5) أخبار الروضتين نقلاً عن الحروب الصليبية ص 168.
(6) الكامل في التاريخ نقلاً عن الحروب الصليبية والأسرة الزنكية ص 168.
(7) مفروج الكروب نقلاً عن الحروب الصليبية ص 168.(1/33)
للأمور، فقد كان شديد العناية بأخبار الأطراف وما يجري لأصحابها، حتى في خلواتهم، ولا سيما بلاط السلطان وكان يدفع في ذلك المال الجزيل، فكان يطالع ويكتب إليه بكل ما يفعله السلطان، في ليله ونهاره، من حرب وسلم وهزل، وجد، فكان يصل إليه كل يوم من عيونه عدة كتب وكان مع أشتغاله بالأمور الكبار، من أمور الدولة لا يهمل الإطلاع على الصغيرة وكان يقول إذا لم يعرف الصغيرن ليمنع صار كبيراً، وكان لا يمكن ملك أن يعبر بلاده بغير إذنه، وإذا استأذنه رسول في العبور أذن له، وأرسل إليه من يسيره ولا يتركه يجتمع بأحد من الرعيةن ولا غيرهم، فكان الرسول يدخل بلاده ويخرج منها، ولا يعلم من أحوالها شيئاً. ومن آرائه إنه لما اجتمع له الأموال الكثيرة، أودع بعضها بسنجار وبعضها بالموصل، وبعضها بحلب، وقال إن جرى علي بعض هذه الجهات فتق أو حيل بيني وبينه استعنت على سد الخرق بالمال في غيره (1)، وكان الرجل طويل الفكر كتوماً لا يعلن عما ينويه، إلا بعد أن يتخذ الأهبة الكاملة، وان يفرض أسوأ الاحتمالات، ويعد نفسه لها، فلما سار من بغداد قاصداً الموصل أخذ البوازيج وهي قرية قرب تكريت (2)، ليملكها وتقوى بها، ويجعلها في ظهره أن منعه جاولي عن البلاد (3)، ومن حذره تردده في دخول دمشق بعد أن وعده جماعة من أهلها بفتح أبوابها له، خوفاً من أن يتفرق جيشه ولضيق المسالك ولأمكان مهاجمتهم من ظهور البيوت (4).
ولما وصل الروم الفرنج إلى الشام نازلوا حلب، ولم ير عماد الدين أن يخاطر بالمسلمين ويلقاهم لأنهم كانوا في جمع عظيم فانحاز عنهم ونزل قريباً منهم يمنع عنهم الميرة (5).
6 - قدرته على اختيار الأكفاء من الرجال: وكان يختار الرجال الأكفاء، الذين أخلصوا له، وكانوا دعائم دولته، ودولة أبنائه من بعده، فقد كانت له همة عالية، ورغبة في الرجال وذوي الرأي والعقل، ويرغبهم ويخطبهم من البلاد، ويوفر لهم العطاء، وقال ابن الأثير حكى لي والدي، قيل للشهيد أن هذا كمال الدين، ويحصل له في كل سنة ما يزيد على عشرة آلاف دينار أميرية، وغيره يقنع منه بخمسائة دينار فقال لهم بهذا العقل والرأي تدبرون دولتي، إن كمال الدين يقل له هذا القدر وغيره يكثر له خمسمائة دينار، أن شغلا واحد يقوم به كمال الدين خير من مائة ألف دينار، وكان كما قال رحمه الله (6)، وكان
_________
(1) كتاب الروضتين نقلاً عن الحروب الصليبية والأسرة الزنكية ص 167.
(2) الحروب الصليبية والأسرة الزنكية ص 167.
(3) مفرج الكروب نقلاً عن الحروب الصليبية والأسرة الزنكية ص 168.
(4) كتاب الروضتين نقلاً عن الحروب الصليبية ص 168.
(5) الحروب الصليبية والأسرة الزنكية ص 168.
(6) كتاب الروضتين (1/ 159، 160).(1/34)
يتعهد أصحابه ويمتحنهم فقد أعطى يوماً خُشكُنانكه (1) إلى طشت دار له وقال: احفظ هذه. فبقى نحو سنة لا تفارقه خوفاً أن يطلبها منه، فلما كان بعد سنة سأله عنها، فأخرجها من منديل كان لا يفارقه خوفاً من أن يطلبوا منه، فاستحسن ذلك وجعله دز دار لقلعة
كواشي (2) - وهي قلعة حصينة في الجبال الواقعة شرقي الموصل (3)، وكان يخطب الرجال ذوي الهمم والآراء الصائبة والأنفس الأبية ويوسع في الأرزاق فيسهل عليهم فعل الجميل واصطناع الرجال، ومن أسباب توفيقه أنه كان نقاداً للرجال، يعرف كيف يختار الأكفاء الصالحين منهم ويوليهم ثقته (4)، فمن هؤلاء:
أ- بهاء الدين الشهرزوري الذي يقول عنه ابن القلانسي: وكان صاحب عزيمة وهمة نافذة ويقظة ثابته.
ب- ومنهم وزيره ضياء الدين أبي سعيد ابن الكفرتوثي، وكان على ما حكى عنه، حسن الطريقة جميل العقل كريم النفس مرضي السياسة مشهوراً للنفاسة والرئاسة.
ج- ومنهم نصر الدين جقر وقد كان لنصير الدين أخبار في العدل والإنصاف وتجنب الجور والاعتساق، أخباره متداولة بين التجار والمسافرين ومتناقلة بين الواردين والصادرين من السفار وقد كان رأيه جمع الأموال من غير جهة حرام، لكنه يتناولها بألطف مقال وأحسن فعال، وأرفق توصل واحتيال، فهذا محمود من ولاة الأمور وقصد سديد في سياسة الجمهور، وهذه هي الغاية في مرضي السياسة والنهاية في قوانين الرياسة (5).
7 - تقديره للرجال: ويظهر تقديره للرجال من تولية نائبه بالموصل فبعد مقتل نصير الدين؟ ارتاب في من يقيمه في موضعه، ويخلفه؟ في منصبه، فوقع اختياره على الأمير علي كوجك، لعلمه بشهامته ومضائه في الأمور وبسالته، فولاه مكانه، وعهد إليه أن يقتفي آثاره في الاحتياط والتحفظ، وتتبع أفعاله في التحرز، واليقظة وإن كان لا يغني غناءه ولا يضاهي كفاءته ومضاءه، فتوجه نحوها، وحصل بها وساس أمورها، سياسة سكتت معها نفوس أهلها، وبذل جهده في حماية المسالك وأمن السوابل، وقضاء حوائج ذوي الحاجات، ونصرة المظلومين فاستقام الأمر وحسنت بتدبيره الأحوال وتحققت بيقظته في أعماله الأمان (6).
_________
(1) معناها: كعكه.
(2) مفرج الكروب (1/ 103).
(3) الحروب الصليبية والأسرة الزنكية ص 166.
(4) المصدر نفسه ص 166.
(5) ذيل تاريخ دمشق ص 275 الحروب الصليبية والأسرة الزنكية ص 166.
(6) ذيل تاريخ دمشق ص 172.(1/35)
8 - قليل التلون والتنقل: وكان عماد الدين زنكي رحمه الله قليل التلون والتنقل، بطيء الملل والتغير، شديد العزم، لم يتغيّر على أحد من أصحابه مُذْ مَلَك إلى أن قتل إلا بذنب يوجب التغير والأُمراء والمِقَّدمون الذين كانوا معه أولاهم الذين بقوا أخيراً من سَلِمَ منهم من الموت فلهذا كانوا ينصحونه ويبذلون نفوسهم له وكان الإنسان إذا قدم عسكره لم يكن غريباً: إن كان جندياً اشتمل عليه الأجناد وأضافوه، وإن كان صاحب ديوان قصد أهل الديوان وإن كان عالماً قصد القضاة بني الشَّهُزُوري، فيحسنون إليه ويؤنسون غربته فيعود كأنه أهل وسبب ذلك جميعه أنه كان يخطب الرجال ذوي الهمم العليَّة والآراء الصائبة والأنفس الأبية، ويوسع عليهم في الأرزاق، فيسهل عليهم فعل الجميل واصطناع المعروف (1).
9 - غيرته: أتصف عماد الدين زنكي بالغيرة الشديدة ولا سيما على نساء الأجناد، فإن التعرض إليهنَّ كان من الذنوب التي لا يغفرها وكان يقول: إن جندي لا يفارقوني في أسفاري وقلَّما يقيمون عند أهليهم، فإن نحن لم نمنع من التعُرض إلى حُرمهم هلكن وفَسَدْت (2)، وكان قد أقام بقلعة الجزيرة دُزْداراً اسمه نور الدين حسن البربطي، وكان من خواصَّه وأقرب الناس إليه، وكان غير مرضي السيرة، فبلغه عنه أنه يتعَّرض للحُرمَ، فأمر حاجبه صلاح الدين الياغسيساني أن يسير مُجدا ويدخل الجزيرة، فإذا دخلها أخذ البربطي وقطع ذكره، وقلع عينيه، عقوبة لنظره بهما إلى الحرم، ثم يصلبه، فسار الصَّلاح مجُداً، فلم يشعر البربطي إلا وقد وصل إلى البلد، فخرج إلى لقائه، فأكرمه الصَّلاح ودخل معه البلد، وقال له: المولى أتابك يُسلَّم عليك ويريد أن يُعلَيَ قدرك ويرفع منزلتك ويسلَّمَ إليك قلعة حلب، ويوليَّكَ جميع البلاد الشامية لتكون هناك مثل نصير الدين، فتجهَّز وتحدر مالك في الماء إلى الموصل، وتسير إلى خدمته، ففرح ذلك المسكين فلم يترك له قليلاً ولا كيثراً إلا نقله إلى السفن ليحدرها إلى الموصل في دِجْلة، فحين فرغ من جميع ذلك أخذه الصَّلاح وأمضى فيه ما أمر به، وأخذ جميع ماله، فلم يتجاسر بعده أحد على سلوك شيء من أفعاله (3).
10 - عدله: حرص عماد الدين زنكي على نشر العدل بين رعيته، فقد أوصى عماله بأهل حران، ونهي عن الكلف والسخر والتثقيل على الرعية هذا ما حكاه أهل حران، وأما فلاحو حلب، فأنهم يذكرون ضد ذلك لأنه كان يلزم الناس ويجمع الرجال للقتال
_________
(1) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين (1/ 163).
(2) الباهر ص 84.
(3) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين (1/ 161).(1/36)
والحصار (1)، وكان من أحسن الملوك سيرة وأكثرها حزماً وضبطاً للأمور، وكانت رعيته في أمن شامل، يعجز القوي من ظلم الضعيف ومما رواه أبو شامه، أن الشهيد كان بجزيرة في الشتاء، فدخل الأمير عز الدين أبو بكر الدبيسي وهو من أكابر أمرائه ومن ذوي الرأي عنده، ونزل بدار يهودي وأخرجه منها، فأشتكى اليهودي والشهيد راكب وبجانبه عز الدين أبو بكر الدبيسي، ليس فوقه أحد، فلما سمع أتابك الخبر، نظر إلى أبي بكر الدبيسي نظرة غضب ولم يكلمه كلمة واحدة، فتأخر القهقري ودخل البلد، فأخرج خيامه وأمر بنصبها خارج البلد، ولم تكن الأرض تحتمل نصب الخيام، فوضعوا عليها التبن، وخرج إليها من ساعته (2)، وكان ينهى أصحابه عن اقتناء الأراضي، والاكتفاء بالاقطاعات لأن الأملاك متى صارت لأصحاب السلطان، ظلموا الرعية، وتعدوا عليهم وغصبوهم أملاكهم ولحسن سيرته قصده الناس يتخذون بلاده داراً للاقامة (3)
ومن عدله أنه لما فتح المعّرة وأخذها من الفرنج جاءه الناس يطلبون أملاكهم وكان عماد الدين حنفي المذهب ومن مَذهب أبي حنيفة - أن الكفار إذا استولوا على بلد وفيه أملاك المسلمين خرجت تلك الأموال عن أصحابها لصيرورة البلد دار حرب، فإذا عاد البلد بعد ذلك إلى المسلمين كانت تلك الأملاك لبيت المال، ولما طلب الناس منه أملاكهم استفتى عماد الدين الفقهاء، فأفتوه بما يقتضيه مذهبهم، وهو أن الأملاك لبيت المال، ولاحظَّ لأصحابها فيها فقال: رحمه الله: إذا كان الفرنج يأخذون أملاكهم ونحن نأخذ أملاكهم فأي فرق بيننا وبين الفرنج؟ كل من أتى بكتاب يدل على أنه مالك لأرض فليأخذها، فرد إلى الناس جميع أملاكهم، ولم يعترض لشيء
منها (4).
11 - عبادته: كان عماد الدين زنكي يشعر بمسووليته كمسلم سواء في سياسته وعلاقاته العامة أم في سلوكه الشخصي فقد كرس حياته وطاقاته في سبيل (الجهاد) ضد الصليبيين والجهاد من أفضل أركان العبادة (5)، واعتبر نفسه قائد المسلمين الأول في الوقوف بوجه الخطر الصليبي معتقداً أن
مركزه - كأقوى أمير في المنطقة - يحتم عليه ذلك ولعل موقفه من التحالف البيزنطي الصليبي ضد المسلمين عام 532هـ يوضح طبيعة نظرته في هذا المجال، فعندما قرر الاستنجاد بالسلطان السلجوقي واعترض قاضيه بأن ذلك ربما أدى إلى تمهيد
_________
(1) زبدة حلب ص 284 الحروب الصليبية والأسرة الزنكية ص 162.
(2) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين (1/ 157).
(3) المصدر نفسه (1/ 158) ..
(4) مفرج الكروب (1/ 75).
(5) تاريخ دولة سلجوق ص 186 عماد الدين زنكي ص 186.(1/37)
الطريق أمام سيطرة السلاجقة على بلاده ردّ قائلاً: إن هذا العدو قد طمع في البلاد، وإن أخذ حلب لم يبق بالشام إسلام، وعلى كل حال فالمسلمون أولى بها من الكفار (1)، وكان كلما قرر التوجه لقتال الصليبيين استثار في المسلمين تعشقهم للجهاد ففي عام 524هـ - على سبيل المثال - اتجه إلى الشام وصمم العزم على الجهاد ... وإعلاء كلمة الله (2)، وفي عام 532هـ سار إلى بعرين الخاضعة للصليبيين: وجمع عساكره وحثهم على الجهاد (3)، وعندما عزم على فتح الرها عام 539هـ تبعته العساكر .. عازمين على أن يؤدوا فريضة الجهاد (4). وقد لاقى فتحه للرها استبشاراً عاماً لدى المسلمين في كل مكان: فأمتلأت به المحافل في الآفاق (5)، واعتبروه نصراً حاسماً للإسلام ضد الصليبية (6)، ومن ثم فإن مفهوم الجهاد خلع على عماد الدين زنكي صفة إسلامية في نظر المسلمين إلى الحد الذي دفع العماد الأصفهاني إلى القول: بأنه كان قطباً يدور عليه فلك الإسلام (7)، كما ذكر رنسيمان أن زنكي اعتبر نفسه " حامي الإسلام " ضد الصليبيين (8)،
وتتضح نزعة زنكي الدينية في سياسته الداخلية وفي سلوكه الشخصي كذلك، وهناك العديد من الأمثلة التي تبين إلى أي مدى بلغ الحسّ الديني لدى هذا الأمير المسؤول، فعندما قام عام 534هـ - على سبيل المثال - بتولية هبة الله بن أبي جرادة قضاء حلب قال له: هذا الأمر قد نزعته من عنقي وقلدتك إياه، فينبغي أن تتقي الله (9). وكان يتصدق كل جمعة بمائة دينار جهراً، ويتصدق بما عداها من الأيام سراً (10). كما كان يستفتي الفقهاء والقضاة قبل إقدامه على كثير من الأعمال (11)، وقد أقام الحدود الشرعية في أنحاء بلاده (12).
* شبهات حول شخصية عماد الدين: إن عدداً من المؤرخين يأخذون على زنكي لجوءه إلى الغدر والظلم إزاء أعدائه في بعض الأحيان، فيصفه الأصفهاني بأنه كان يبلغ في ذلك حد الظلم (13) ويصفه الذهبي بالظلم والزعارة (14)، ويذكر أسامه بن منقذ كيف كان زنكي
_________
(1) الباهر ص 62 عماد الدين زنكي ص 175.
(2) الباهر ص 39 عماد الدين زنكي ص 175.
(3) الباهر ص 39 عماد الدين زنكي ص 176.
(4) ذيل تاريخ دمشق ص 279 عماد الدين ص 176.
(5) عماد الدين زنكي ص 176.
(6) المصدر نفسه ص 176. الباهر ص 69 - 70.
(7) تاريخ دول آل سلجوق ص 185.
(8) عماد الدين زنكي ص 176 ..
(9) زبدة حلب (2/ 274 - 275).
(10) الباهر ص 81 عماد الدين زنكي ص 176.
(11) مفرج الكروب نقلاً عن عماد الدين زنكي ص 176.
(12) زبدة حلب (2/ 284) عماد الدين زنكي ص 176.
(13) تاريخ دولة آل سلجوق ص 186.
(14) العبر في خبر من غير (4/ 112).(1/38)
أحيانا يسكت عن الأساليب القاسية التي اتبعها أحياناً بعض كبار موظفيه أمثال الياغسياني حاجبه (1)، ونصير الدين جقر نائبه في الموصل (2)، ويحمل ابن واصل عليه لدى استعراضه أحداث الهجوم على حماه عام 524هـ - قائلاً: وأرتكب أمراً قبيحاً أنكره الناس عليه، ولا شيء أقبح من الغدر. ولما عزم على تلك الفعلة الشنعاء، استفتى الفقهاء في ذلك، فأفتاه من لا دين له، وجوز له مالا يحل ولا يحسن شرعاً وعرفا (3). وقد ناقش الدكتور عماد الدين خليل تلك التهم وقال: .. ولعل ما يبرر لزنكي موقفه هذا إزاء أمراء الشام، محاولته الجادة لكسب الوقت وتوحيد العدد الأكبر من المدن ذات الحكم الذاتي هناك من أجل الإسراع بتشكيل الجبهة الإسلامية الموحدة للوقوف بوجه الخطر الصليبي، بعد أن أدرك عدم إمكان تحقيق نصر حاسم ضدهم في حالة تمزق بلاد الشام إلى إمارات عديدة متطاحنة، فكان لابد من الخدعة سيما وإنها في حالة كهذه توفر على المسلمين كثيراً من الجهود والدماء، لذا نجد زنكي يستفتي الفقهاء قبل أن يقدم على فعلته هذه، وشبيه بهذا. الحيلة الطريفة التي مكتنه عام 529هـ من الاستيلاء على الرقة، دون سفك قطرَّة دم واحدة (4).
وهل الحرب ضد الأمراء الذين سنوا وحدة الأمة ومصالحها الحيوية، إلا خداعهم والكيد لهم، أما أعدامه بعض أمراء بعلبك أثر استيلائه عليها بعد قتال عنيف عام 534هـ فقد جاء نتيجة نقضهم بعض الشروط التي تم الاتفاق عليها قبيل مغادرتهم القلعة (5) ولعل هذه الخادثة هي أبرز ما دفع المؤرخين إلى وصف زنكي بالقسوة والغدر، وقد أشار ابن الأثير - في
الكامل - إلى ذلك بقوله: واستقبح الناس ذلك من فعله، واستعظموه. وخافه غيرهم (6). ولكن زنكي سرعان ما سعى إلى التعويض عن خطأه هذا وذلك بإصداره العفو عن العدد الأكبر من المحكوم عليهم بالإعدام، وتولية بعلبك لنجم الدين أيوب وهو الذي بذل جهوداً مشكورة في التوسط لهؤلاء الأمراء والدفاع عنهم (7). وفي حصار زنكي لقلعة جعبر عام 541هـ، جرت مفاوضات بين الطرفين وافق فيها على تسلم مبلغ ثلاثين ألف دينار مقابل فك الحصار عن القلعة وما أن وصله الرسول حاملاً المبلغ المتفق عليه حتى ردّه من حيث جاء، بعد أن وردته
_________
(1) الاعتبار ص 157 عماد الدين زنكي ص 177.
(2) الكامل في التاريخ نقلاً عن عماد الدين زنكي ص 177.
(3) مفرج الكروب (1/ 42).
(4) عماد الدين زنكي ص 179.
(5) زبدة حلب (2/ 273) عماد الدين زنكي ص 179.
(6) الكامل في التاريخ نقلاً عن عماد الدين زنكي ص 179.
(7) أخبار الروضتين نقلاً عن عماد الدين زنكي ص 179.(1/39)
أنباء تشير إلى أن القلعة قد أوشكت على السقوط (1)، وهو موقف يبرره تماماً حرصه على وحدة الجبهة الإسلامية إزاء أنانيات الأمراء الصغار وأطماعهم الذاتية (2). وأما ما أورده ابن العديم من أن زنكي كان يقول: ما يتفق أن يكون أكثر من ظالم واحد - قاصداً نفسه (3)، فإنه لا يعني سوى عزمه على اتباع نظام المركزية في الإدارة، وتركيز السلطة بيد المسؤول الأعلى (4).
* هواياته: كان طبع زنكي الحاد، وعمله المتواصل من أجل تحقيق أهدافه السياسية والعسكرية، ويستنفذان الكثير من وقته، ولا يتيحان له من الفراغ للراحة والتمتع إلا القليل القليل وفي هذه الفترات المتباعدة من التحرر من قيوم العمل والمسؤولية، كان زنكي يسعى للترفيه عن نفسه وممارسة هواياته المفضلة التي كان الصيد والطراد أبرزها وأقربها إلى طبيعته الحادة (5).ويحدثنا ابن منقذ عن الجولات التي قام بها مع أمير الموصل وعن أنواع الصيد ووسائله وحيله ولنستمع إليه: شاهدت زنكي يوماً، وكانت له الجوارح الكثيرة، ونحن نسير على الأنهار، فيتقدم البازدارية (6) بالبزاة ويطلقونها على طيور الماء، وتدق الطبول كجاري العادة، فتصيد - من طيور الماء - ما تصيد، وتخطئ ما تخطئ ووارءهم الشواهيق الجبلية على أيدي البازدارية، فإذا أخطأت البزاة أرسلوا الشواهيق على الطيور، ويستطرد ابن منقذ قائلاً: وشاهدته يوماً ونحن بظاهر الموصل .. 0 وبين يديه بازدار على يده باشق، فطار ذكرُ دراج (7)، فأرسله عليه، فأخذه ونزل. فلما صار في الأرض - تمكن من الإفلات - فلما أرتفع لحقه الباز وأخذه ونزل به وقدثبته (8). ثم يمضي ابن منقذ يقضى علينا وجوها أخرى من الصيد، الذي كان يألفه زنكي ويهواه: فيقول: ورأيت زنكي وهو في صيد الوحش مراراً عديدة، فإذا ما نصبت الحلقة واجتمعت الوحوش داخلها - ثم حاولت الخروج - رموها وكان زنكي من أرمى الناس، فكان إذا دنا منه الغزال، رماه فنراه، كأنه قد عثر فيقع ويذبح وشاهدته وقد ضربوا الخيام، فوصل الوحش إلى الخيام، فخرج الغلمان بالعصي والعمد فضربوا منها شيئاً كثيراً .. وشاهدته يوماً ونحن بسنجار.
وقد جاءه فارس من أصحابه فقال: ها هنا ضبعة نائمة؛ فسار زنكي، ونحن معه إلى واد هناك والضبعة نائمة على صخرة في سفحة، فترجل ومشى حتى وقف مقابلها وضربها بنشابه، فوقعت أسفل الوادي، فنزلوا
_________
(1) زبدة حلب (2/ 2825 - 283).
(2) عماد الدين زنكي ص 179.
(3) زبدة حلب (2/ 284) عماد الدين زنكي ص 179.
(4) عماد الدين زنكي ص 180.
(5) المصدر نفسخ ص 180.
(6) الاعتبار ص 192 - 193.
(7) الدراج: طير من فصيلة الدجاج.
(8) الاعتبار ص 192 - 193.(1/40)
وجاءوا بها بين يديه وهي ميتّة (1). وكان الملوك والأمراء إذا أرادوا التقرب إلى زنكي وكسب وده قدموا له هدايا مما اصطادوه من طيور وحيوانات شتى، وكان يرد عليهم - بدوره - بهدايا مما جنته يداه في جولات الصيد والطراد فهوداً وبزاة وصقوراً (2)، ولم يكن تعشق زنكي لسباق الخيل ومهارات الفروسية بأقل من تعشقه للصيد والطراد، فهذه هواية تصدر هي الأخرى عن الطبع الجاد والرغبة في قضاء أوقات الفراغ بما هو مجد في عصر كانت الفروسي فيه شارته الأولى (3). وفي فترات أخرى من فترات الفراغ المتباعدة كان زنكي يروح عن نفسه بالقيام منفرداً برحلات هادئة في نهر دجلة، متخففاً من أعباء ومهام إمارة شاسعة الأطراف يتربص بها الأعداء من كل جانب (4).
رابعاً: سياسته الداخلية:
اهتم عماد الدين زنكي بضبط إمارته وكانت النظم التي سار عليها تعتبر امتداداً طبيعياً لمن فصلناه في كتابنا عن السلاجقة وتحول الموصل من عهد ولاة السلاجقة (489 - 521هـ) إلى عهد
الأتابكة - لم يؤد إلى ظهور مؤسسات إدارية جديدة بالمرة على المنطقة بل إن معظم هذه المؤسسات ظل موجوداً في العهد الجديد مع إجراء بعض التعديلات واستحداث عدد قليل من المناصب التي اقتضتها الظروف السياسية، والعسكرية الجديدة وأقام زنكي تنظيماته الإدارية على اكتاف مجموعة الموظفين منحهم نوعاً من الاستقلال الذاتي في ممارسة شؤونهم الإدارية، ولكن تحت إشرافه التام ومراقبته الدقيقة، وكان هؤلاء الموظفون يعملون في أربعة مجالات رئيسية هي:
* محافظة قلعة الموصل وسائر قلاع الإمارة. وكانت تسمى في كثير من الأحيان: النيابة، ويدعى متوليها (النائب).
* ولاية المدن والأعمال.
* الوزراة.
* الدواوين.
1 - نيابة الموصل أو محافظة القلعة: أنشأ زنكي هذا المنصب حال دخوله الموصل في رمضان عام 521هـ وقد أطلقت المصادر عليه لقب النيابة أحياناً (5)، وذر دارية قلاع
_________
(1) الاعتبار ص 192 - 193.
(2) زبدة حلب (2/ 263).
(3) عماد الدين زنكي ص 181.
(4) المصدر نفسه
(5) ذيل دمشق ص 263 - 270، عماد الدين زنكي ص 234.(1/41)
الإمارة أحياناً أخرى (1). ولما كانت كلمة دزدار الأعجمية تعني حافظ القلعة فمن الممكن تسمية هذا المنصب بالمحافظة وكان من مهام نائب الموصل أن يدير شؤونها وبقية أجزاء الإمارة نيابة عن زنكي، وأن يكاتب السلطان السلجوقي والخليفة العباسي عن أحوال الإمارة خلال تغيب الأمير (2)، ومن مهامه جمع الضرائب وجباية الأموال، والإشراف المستمر على أحكام تحصينات الموصل وتعميق خنادقها، فضلاً عن الأعمال العسكرية المحصنة كالدفاع عن المدينة (3)، والقيام بحملات توسعية بناء على أوامر زنكي (4) وكان نائب زنكي بالموصل يشرف على إقامة الحدود وتعقب المفسدين ومثيري الفتن مدمني الخمر ومعاقبة كل منهم حسب جريمته فضلاً عن مراقبة أبواب العاصمة والطواف في أحياء التجارة والمال وغير ذلك من الأعمال (5). وفي أغلب الظن أن السلطات الإدارية الواسعة التي كان نائب زنكي يمارسها كانت تتطلب جهازاً إدارياً واسعاً لتنفيذ الأوامر والقرارات (6)، ومن أشهر نواب زنكي في الموصل.
أ- نصير الدين جقر بن يعقوب 521 - 539هـ: هو أبو سعيد جعقر بن يعقوب الهمذاني الملقب: نصير الدين وكان جقر أعظم أصحاب زنكي منزلة، وقد لعب دوراً هاماً في توليته على الموصل عام 521هـ (7) واتبع جقر سياسة إدارية تضاربت المصادر في تحديد سماتها، بل إن المصدر الواحد لم يستطع تجنب هذا التناقض، فابن خلكان يصفه بأنه عرف بالعدل والإنصاف وتجنب الجور والظلم، ثم يشير إلى أن الطابع العام لسياسته وما أشتهر عنه هو الظالم وإنه كان: جباراً عسوفاً سفاكاً للدماء مستحلاً للأموال (8)، ويشير الفارقي إلى مالقي الناس منه من شدة الجور والظلم والقتل والمصادرات والأقساط (9) وكان ظلم جقر - كما يشير ابن خلكان - أحد أسباب المؤامرة التي دبرها أحد الأمراء ضده (10). وكان زنكي يقول عنه: إنه يخافني وما يخاف الله (11). ووضح عماد الدين خليل هذه التناقضات بقوله: .. بأن جقر اتبع سياسة شديدة قاسية ممتزجة بأسلوب من الرفق واللباقة أضفى على سياسته سمات العدل، ودفع بعض المؤرخين على عدم التأكيد على أي من الجانبين. ويظهر أنه كان
_________
(1) الباهر ص 35، الروضتين في أخبار الدولتين (1/ 76).
(2) ذيل تاريخ دمشق ص 263 عماد الدين زنكي ص 235.
(3) وفيات الأعيان (1/ 315، 316).
(4) الباهر ص 64 عماد الدين زنكي ص 235.
(5) عماد الدين زنكي ص 235، 236، 237.
(6) المصدر نفسه ص 238.
(7) الباهر ص 34 - 35.
(8) وفيات الأعيان (1/ 315 - 316).
(9) عماد الدين زنكي ص 239.
(10) وفيات الأعيان (1/ 316).
(11) الاعتبار ص 157.(1/42)
قد اهتم إلى حد كبير بتجميع الأموال لحسابه وحساب أهله وأقاربه حتى أن زنكي لدى عودته إلى الموصل بعد مقتل جقر، استخرج ذخائره وصادر معظم ما لأولئك الأقارب (1). إن أهم الأعمال التي أنجزها جقر خلال فترة نيابته هي إحكامه لاسوار الموصل. وحفره لخنادقها ودفاعه عنها ضد حصار الخليفة المسترشد العباسي عام 527هـ الذي اضطر أخيراً إلى الإنسحاب بسبب صمود جقر (2) لقيادة جيوش زنكي لدى مهاجمة حصون الأكراد في الجهات الجبلية شمالي الموصل، حيث تمكن من الاستيلاء على معظمها (3)،
كان يساعد جقر في حكم الموصل وال يعينه هو (4).
ب- زين الدين علي كجك بن بكتكين 539 - 541هـ: يعتبر زين الدين علي كجك من أبرز رجال عماد الدين، وأحد قادته الكبار وقد اشترك معه في معظم حروبه في بغداد والشام ومناطق الأكراد وكان زين الدين رجلاً صالحاً، ذا أصل تركماني، لقب بكجك أي: القصير اللطيف وكان معروفاً بالقوة والشجاعة والأقدام رؤوفاً بالفقراء مواساً للمرضى (5). اشتهر بالمحافظة على حسن العهد، وأداء الأمانة، ولم يمارس غدراً قط (6)، وبلغ من تقواه أن قال عنه زنكي: إنه يخاف الله ولا يخافني (7)، وقد رأى عنه أهل الموصل كل خير (8)، واستقام له الأمر، وحسنت بتدبيره الأحوال (9)، وانتشر الأمن في المنطقة وازداد عمران البلاد (10)، وتحققت بهذا آمال السكان (11).
ت- نائب زنكي في حلب: أدرك زنكي أهمية حلب بالنسبة لأعماله العسكرية والسياسية في الشام فاتخذها قاعدة له في المنطقة واعتبرها عاصمته الإدارية هناك، وأقام فيها جهازاً إدارياً يشابه إلى حد ما ذاك الذي أقامه في الموصل، وجعل على رأس هذا الجهاز نائبه في حلب ليقوم في منطقة الشام بما يقوم به نائبه في الموصل في الجهات الشرقية من إمارته (12) وقد جعل عماد الدين زنكي نائبه في حلب المسؤول الأعلى عن الجهاز الإداري هناك، وكان نائبه من كبار القادة العسكريين وكان يطلق عليه أحياناً اسم " مقدم زنكي في حلب " ومن
_________
(1) وفيات الأعيان (1/ 316).
(2) المصدر نفسخ (1/ 315 - 316).
(3) الباهر ص 64 عماد الدين زنكي ص 240 ..
(4) عماد الدين زنكي ص 240.
(5) الاعتبار ص 177 - 178.
(6) الباهر ص 135.
(7) الاعتبار ص 157 عماد الدين زنكي ص 241.
(8) وفيات الأعيان (1/ 316) عماد الدين زنكي ص 242.
(9) ذيل تاريخ دمشق ص 281 - 282.
(10) ذيل تاريخ دمشق ص 281 - 282.
(11) الباهر ص 84 عماد الدين زنكي ص 242.
(12) زبدة حلب (2/ 245) عماد الدين زنكي ص 245.(1/43)
أشهر نواب عماد زنكي في حلب سوار بن ابتكين قدم إلى حلب عام 524هـ الأمير سوار الملقب بمسعود هارباً من دمشق أثر تدهور علاقته بأميرها، وتقدم لعرض خدماته على زنكي: فأكرمه هذا وشرفه وخلع عليه، وأجرى له الاقطاعات الكثيرة وأعطاه ولاية حلب وأعمالها، واعتمد عليه في قتال الصليبيين، وكان له بصيرة بالحرب وتدبير الأمور (1)، وكانت أعماله العسكرية هي التي أكسبته شهرة واستنفذت معظم أوقاته وجهوده بسبب قربة من المواقع الصليبية وهكذا كان الأمير سوار يقوم بشن هجمات سريعة خاطفة على قوات الصليبيين وقوافلهم وكان - أحيانا أخرى يمّد قوات زنكي بجند من عنده يقودهم بنفسه إن دعت الضرورة، كما كان يقوم بالدفاع عن مدينة حلب وأعمالها ضد هجمات الصليبيين، وفضلاً عن الجنود النظاميين الذين أعتمدهم. كان ينضم إليه أحياناً كثيرة تركمان المنطقة (2)، طمعاً في الغنيمة أو حباً للجهاد. وقد استمر سوار في منصبه حتى مقتل زنكي عام 541هـ (3).
ث- ولاة (نواب زنكي على المدن والقلاع: يتضح مما سبق أنه كان لزنكي نائبان مركزيان هما: نائبه في الموصل الذي يشرف على الجهات الشرقية من الإمارة، ونائبه على حلب الذي يشرف على الجهات الغريبة " أي القسم الشامي ". وفضلاً عن هذين عين زنكي على المدن والأقاليم التي فتحها مجموعة من الولاة يطلق عليهم اسم النواب أو العمال (4).
2 - الوزارة: إن الوزارة في عهد زنكي ليست سوى جزء من التطور العام لهذا المنصب طيلة عصور التاريخ الإسلامي تبلور منصب الوزير منُذ العصر العباسي الأول، وكان عمله في البداية يقتصر على تنفيذ أوامر الخليفة العباسي لذا سمي هذا النوع من الاستيزار بـ " وزارة التنفيذ " وبعد مرور فترة قصيرة ظهر نوع آخر، عندما فوض الخليفة وزيره لإدارة شؤون مملكته، أطلق عليه " وزارة التفويض " (5) واستمر هذا المنصب يتأرجح بين التنفيذ والتفويض حسب مركز الخليفة أو السلطان الحاكم (6) ومن أشهر وزراء عماد الدين زنكي:
أ- الكفرتوثي 528 - 536هـ: تجمع المصادر على أن أول من استوزره زنكي هو ضياء الدين أبو سعد بهرام بن الخضر الكفرتوثي (7)، عام 528هـ ويتضح من هذا أن السنوات السبع الأولى من حكم زنكي لم يكن اتخذ خلالها وزيراً وربما كان نائبه في الموصل هذا
_________
(1) ذيل تاريخ دمشق ص 240 - 241 عماد الدين زنكي ص 246.
(2) عماد الدين زنكي ص 246.
(3) المصدر نفسه ص 246.
(4) المصدر نفسه ص 246.
(5) المصدر نفسه ص 256
(6) المصدر نفسه ص 256.
(7) ذيل تاريخ دمشق ص 243 وفيات الأعيان (4/ 228).(1/44)
الذي يقوم بمهمام الوزير، مما جعل زنكي يستغني عن هذا المنصب طيلة تلك المدة، وتذكر المصادر بالقول بأن الكفرتوتي كان: مشهوراً، بحسن الطريقة والكفاية وحب الخير والمذهب الحميد (1)، وقد قدم مع زنكي إلى حلب، مما يشير إلى أنه لم يكن مستقراً في الموصل بشكل دائم (2).
ب- أبو الرضا بن صدقة 536 - 538هـ: بقي الكفرتوثي في منصبه كوزير طيلة اثنى عشر عاماً، وتوفي في شبعان عام 536هـ (3)، فاستوزر زنكي بعده جلال الدين أبا الرضا محمد بن صدقة (4)، ولكنه لم يستمر في منصبه طويلاً حيث عزل عام 538هـ لأسباب أو جبت ذلك ودعت إليه (5).
ج- أبو المحاسن العجمي: يذكر ابن القلانسي أن زنكي ألقى القبض عام 531هـ على وزيره أبي المحاسن علي بن أبي طالب العجمي واعتقله في قلعة حلب، حيث بقي هناك بسبب مصادرته للأموال وانكسار المعاملات التي عجز عن القيام بها: وتأدية ما عليه من التزامات مالية (6)، ولم تقدم المصادر عن ترجمة العجمي شيئاً يستحق الذكر (7).
س- جمال الدين الأصفهاني: واطنبت المصادر في وصف أخلاق جمال الدين، مركزة الأضواء على كرمه العجيب، تلك الأخلاق التي قربته من زنكي، وجعلته محبوباً ومشتهراً في أنحاء واسعة من العالم الإسلامي، ومنحته لقب الجود لكثرة جوده، كما دفعت أبناء زنكي - فيما بعد - إلى الاعتماد عليه في إدارة إمارتهم (8)، وقد أطلقت بعض المصادر عن جمال الدين الأصبهاني وزير صاحب الموصل (9)، وذكرت بعض المصادر أن زنكي جعل جمال الدين: مشرف مملكته كلها، وحكمه تحكيماً لا مزيد عليه (10)، ويقول ابن الأثير: قال والدي: كنت أرى من جمال الدين الوزير في أيام زنكي من الكفاية والنظر في صغير الأمور وكبيرها والمحافظة - أي التحقيق - فيها، ما يدل على تمكنه من الكفاية وتشير المصادر إلى أن زنكي عول على جمال الدين في الفترة الأخيرة من حكمه، في الإشراف على ديوانه، وزاد راتبه (11)، ومكنه في
_________
(1) زبدة حلب (2/ 254) عماد الدين زنكي ص 262.
(2) عماد الدين زنكي ص 262.
(3) ذيل تاريخ دمشق ص 275، عماد الدين زنكي ص 262.
(4) عماد الدين زنكي ص 262.
(5) ذيل تاريخ دمشق ص 277، عماد الدين زنكي ص 263.
(6) ذيل تاريخ دمشق ص 263.
(7) عماد الدين زنكي ص 264.
(8) ذيل تاريخ دمشق ص 356 عماد الدين زنكي ص 265.
(9) الباهر ص 118 - 119 عماد الدين زنكي ص 259.
(10) الباهر ص 118 - 119 وفيات الأعيان (4/ 228).
(11) عماد الدين زنكي ص 260.(1/45)
منصبه (1)، ولم يحاول جمال الدين أن يستغل منصبه لجمع المال لحسابه الخاص، بل كان يأخذ ما يكفي لمعيشته ويرفع جميع ما يحصل له إلى خزانة زنكي (2)، مما زاد من اعتماد الأخير عليه وثقته به، فمكنه من أصحاب (3) ديوانه وهكذا كان جمال الدين يتمتع بسلطان عملية واسعة، وخاصة في مسائل الأشراف على الديوان والمسائل المالية، فقد شغل جمال الدين منصباً خطيراً، وقد أطلقت معظم المصادر على جمال الدين لقب " وزير " (4).
ش: الوزير مروان بن علي بن سلامة: كان وزير عماد الدين زنكي في الموصل مروان بن علي بن سلامة الطنزي نسبة إلى " طنزة " من ديار بكر وكان مروان هذا قد ورد بغداد وتفقه على الغزالي والشاشي، ثم عاد إلى بلده ليدبر أمور الوزارة حتى وفاته عام 540هـ (5).
3 - الموظفون ونظام التوظيف: اهتم عماد الدين زنكي بأمر الوظائف والموظفين اهتماماً عماد الدين زنكي بأمر الوظائف والموظفين اهتماماً كبيراً كي يستطيع أن يسيّر أمور دولته بشكل منظم، وكي يجنب جهازه الإداري الهزات التي كثيراً ما تعرقل سير الأمور وقد طبق زنكي مبادئ إدارية
منها:
أ- مبدأ تكافؤ الفرص في المجال الإداري: كي يحقق هدفه آنف الذكر ويضع يديه على الموظفين الأكفاء فكان: يتعهد أصحابه ويمتحنهم فلا يرفع أحداً فوق قدره الذي يستحقه ولا يضعه دونه (6)، كما كان يجعل كفاءة الشخص أساساً لتقدير راتبه.
ب- الثقة على قدر المعرفة: فكان يولي موظفيه ثقته على قدر ما يعلم منهم كي يشعرهم بالأمن والاستقرار وهو أمر ضروري لتقديم خدماتهم الإدارية على أحسن وجه.
ج- مبدأ كفاءة الشخص: فقد جعل من كفاءة الشخص أساساً لتقدير راتبه (7).
س- ثقته في موظفيه: على قدر ما يعلم منهم. كي يشعرهم بالأمن والاستقرار، وهو أمر ضروري لتقديم خدماتهم الإدارية على أحسن وجه، فكان: قليل التلون والتنقل، بطيء الملل والتغّير، شديد العزم، لم يتغير على أحد من أصحابه مذملك إلى أن قتل إلا بذنب يوجب التغيّر، والأمراء والمقدمون الذين كانوا معه أولا هم الذين بقوا معه أخيراً، فلهذا
_________
(1) تاريخ آل سلجوق ص 192 - 193 عماد الدين زنكي ص 260.
(2) عماد الدين زنكي ص 260.
(3) المصدر نفسه ص 260.
(4) المصدر نفسه ص 260.
(5) طبقات الشافعية (7/ 295) هكذا ظهر جيل صلاح الدين ص 255.
(6) الباهر ص 79 عماد الدين زنكي ص 266.
(7) الباهر ص 63 عماد الدين زنكي ص 266.(1/46)
كانوا ينصحونه، ويبذلون نفوسهم له (1)، وهذا هو الذي دعا جمال الدين الوزير إلى وصف زنكي بأنه كان: متمكناً قوي العزم لا يتجاسر أحد على الاعتراض عليه ولا يتلون بأقوال أصحابه مما دفع أصحابه إلى حفظه (2).
ش- انتقاء الموظفين: كان زنكي ينتقي موظفيه من الرجال ذوي الهمم العالية، والآراء الصائبة، والأنفس الأبية (3) فإذا ما أضيف إلى ذلك توسيعه في رواتب موظفيه (4) أدركنا مدى إخلاص هؤلاء له ولعملهم، ومدى سير الأمور الإدارية في ولايته سيراً طبيعياً. وخير مثل على ذلك موظفه الكبير جمال الدين الأصفهاني الذي أظهر في أيامه من الكفاية والنظر في صغير الأمور وكبيرها، والتحقيق فيها ما يدل على تمكنه من الكفاية، فلما وزر جمال الدين نفسه - لقطب الدين مودود بن زنكي، قلت كفايته وصار يهمل بعض الأمور وعندما سأله أحد الموظفين عن السبب في ذلك أجاب: ليست الكفاية عبارة عن فعل واحد في كل زمان، إنما هي أن يسلك الإنسان في كل زمان ما يناسبه (5).
ع- المركزية في الحكم: يقول بعض الباحثين كان زنكي يؤمن بما سمى اليوم (الدكتاتور العادل) ويسعى إلى تطبيع هذا المبدأ في مجال الإدارة، فكان يقول: ما يتفق أن يكون أكثر من ظالم
واحد - يعني نفسه (6) ويقول عماد الدين خليل كلمة ظالم تعني السيطرة الفردية المركزية في الحكم، وعدم السماح للموظفين الآخرين بالارتفاع إلى مستوى مسؤوليته في الإدارة، ومشاركته في الحكم وعدم السماح للموظفين الآخرين بالارتفاع إلى مستوى مسؤليته في الإدارة، ومشاركته في الحكم ولهذا السبب - نفسه - لم يكن زنكي يسمح لموظفيه وعماله بظلم أحد من أفراد الرعية أو التعرض لهم بأي أذى. وقد عاقب عز الدين الدبيسي - وهو من أكابر أمرائه - لأنه سلب أحد يهود جزيرة بن عمر بيته (7)، وعاقب أحد ولاته بسمل عينيه لتعرضه لامرأة (8) فخاف الولاة وانزجروا (9). وعجز القوي عن ظالم الضعيف (10).
_________
(1) عماد الدين زنكي ص 266.
(2) الباهر ص 82 - 83 عماد الدين زنكي ص 266.
(3) أخبار الروضتين (1/ 114).
(4) عماد الدين زنكي ص 267.
(5) الباهر ص 82 - 83 عماد الدين زنكي ص 267.
(6) زبدة حلب (2/ 284) عماد الدين زنكي ص 266.
(7) الباهر ص 77 عماد الدين زنكي ص 267.
(8) الباهر ص 84 عماد الدين زنكي ص 267.
(9) مرآة الزمان (8/ 190).
(10) زبدة حلب (2/ 284).(1/47)
ك- نهيه عن أصحابه وموظفيه عن اقتناء الأملاك: كان ينهي أصحابه وموظفيه عن اقتناء الأملاك قائلاً لهم: ما دامت البلاد بأيدينا فأي حاجة بكم إلى الأملاك، فإن الاقطاعات تغني عنها، فإن خرجت البلاد من أيدينا، فإن الأملاك تذهب معها ومتى صارت الأملاك لأصحاب السلطان ظلموا الرعية وتعدوا عليهم وغصبوهم أملاكهم (1). وقد لخص زنكي بهذا التصريح سياسته العادلة إزاء الرعية، وموقفه من موظفيه كما أوضح مفهومه عن الحكم المستبد العادل، وهذا هو الذي دفع عدداً من المؤرخين إلى التأكيد على سياسته العادلة لدى استعراضهم لسيرته (2)، وأنه كان يتقبل آراء الرعية وانتقاداتهم ويروي ابن واصل أن زنكي كان يمارس الظلم في بدء أمره، فسمع في إحدى الليالي شخصاً يغني بيتين من الشعر عن العدل فبكى وتبّدلت نيته في الظلم، والزم نفسه بالعدل منُذ ذلك اليوم (3)، كما يشير ابن العديم إلى أن أهل حران امتدحوا سياسة زنكي العادلة معهم ثم يقول: وبلغني أنه لا يتجاسر أحد من رعيته، كائناً من كان، أن يظلم أحداً من خلق الله (4). وفي العموم كانت سياسته إلى العدل أميل وخالطها شيء من الظلم، وحرص على التخلص منه.
4 - الدواوين: كان ديوان زنكي يقاس بدواوين السلاطين السلاجقة لكثرة التجميل ونفاذ الأمر، وعظم الحاشية والخرج (5) وهذا يؤكد أهمية ذلك الديوان وبلوغه مرحلة متقدمة من الاتساع والنمو وكثرة الموظفين وضخامة المصروفات بحيث أن أي مراجع كان يقصده كان يجد من " توفر - موظفيه عليه ونظرهم في مصالحة ما - يجعله - كأنه في أهله (6)
5 - الأمن الداخلي والأعمار: استطاع زنكي، بإدارته الحازمة وضبطه للأمور (7) وعدالته وبمساعدة أجهزة الجيش والبريد أن يحقق نتائج هامة في إمارته في مجال اقرار الأمن والقضاء على المفسدين ونشر العمران في البلاد، حيث يشير ابن العديم إلى أن البلاد عمرت في أيام زنكي: بعد خرابها وسادها الأمن بعد الخوف، وكان زنكي لا يبقي على مفسد (8) وقد كان الأمن مضطرباً في الموصل نفسها خلال الفترة التي سبقت حكم زنكي، ويورد ابن الأثير نصاً يلقي ضوءاً على الموضوع، رغم ما فيه من مبالغة، يقول فيه: كان الناس
_________
(1) الباهر ص 77 عماد الدين زنكي ص 268.
(2) مفرج الكروب نقلاً عن عماد الدين زنكي ص 268.
(3) مفرج الكروب نقلاً عن عماد الدين زنكي ص 268.
(4) زبدة حلب (2/ 284) عماد الدين زنكي ص 268.
(5) الباهر ص 83 عماد الدين زنكي ص 270.
(6) عماد الدين زنكي ص 270.
(7) الباهر ص 13 عماد الدين زنكي ص 270.
(8) زبدة حلب (2/ 284) عماد الدين زنكي ص 270.(1/48)
لا يقدرون على المشي إلى الجامع غير يوم الجمعة لبعده عن (1) العمارة وكان معظم مناطق البعيدة عن المركز خربة لا عمران فيها ولا أمن وسرعان ما ساد العمران هذه المناطق لدى مجيء زنكي (2)، بفضل حمايته للبلاد ومنعه المفسدين وكفه أيدي الأقوياء (3). وكان لانتشار الأمن في المنطقة أثر واضح في زيادة عدد السكان في إمارة زنكي (4)، كما غدت الموصل ملجأ للمهاجرين من بغداد بسبب فقدان الأمن هناك واشتداد الضوائق الاقتصادية (5). وبالإمكان معرفة الدور الذي لعبه زنكي في مجال الأمن بتتبع ذلك في الأيام التي أعقبت اغتياله حيث اضطربت الأعمال، واختلت المسالك، وانطلقت أيدي الحرامية في إفساد الأطراف والعبث في سائر النواحي (6).
وعندما كان زنكي يسيطر على المدن، لم يكن يترك جنوده يتحكمون بمقدراتها ويسيئون إلى أهاليها وينشرون الرعب والفوضى في بروعها، بل كان سرعان ما يعين عليها والياً من قبله، كي تكون الكلمة والسلطة بأيدي رجال مدنيين، من أجل إحلال الأمن في المدينة وإعمارها (7)، وكان لا يسمع - أبداً - لجنده - خلال التحركات والعمليات الحربية بأن يعتدوا على الفلاحين بنهب أو تخريب مزارعهم فكان العسكر يمشي خلفه كأنهم بين خيطين، مخافة أن يدوس العسكر شيئاً من الزرع ولا يجسر أحد من أجناده أن يأخذ - ولو مقداراً ضئيلاً من
التبن - من فلاح إلا بثمنه، أو بخط من الديوان إلى رئيس القرية وإن تعدى أحد صلبه (8)، ومراراً عديدة، وفي مناطق مختلفة، والهدم والتسلط العسكري، ففي عام 528هـ - مثلاًُ قام بالقضاء على أعمال النهب والفوضى التي كان يقوم بها بعض أكراد شرقي الموصل ضد الفلاحين (9) وفي عام 533هـ استولى على منطقة شهرزور التركمانية: فأصلح أحوال أهلها وخفف عنهم ما كانوا يلقونه من التركمان (10). وفي عام 537هـ استطاع أن يستولى على عدد من حصون الأكراد شمالي الموصل وأن يقضي على أعمال الفساد في المنطقة (11). وفي عام 539هـ قام عسكره - أثر استرجاع الرها من الصليبيين - باستباحة المدينة خلال الأيام الأولى من الفتح: فلما دخل زنكي البلد أعجبه منظره، فأسف لمثله من الخراب، ورأى أن تخريبه وإخلاءه من أهله غير مستحسن من مثله فأمر بإعادة ما أخذ من سبي وأموال، فردوا عن آخرهم، وعاد البلد عامراً آهلاً آمناً (12)، ثم أصدر أوامره بإعادة أعمار الرها (13)، فأصلح أحوال أهلها وخفف عنهم ما كانوا يلقونه من التركمان (14). وفي عام 537هـ استطاع أن يستولي على عدد من حصون الأكراد شمالي الموصل وأن يقضي على أعمال الفساد في المنطقة (15).
وفي عام 539هـ قام عسكره - أثر استرجاع الرها من الصليبيين - باستباحة المدينة خلال
_________
(1) الباهر ص 77 عماد الدين زنكي ص 270.
(2) الباهر ص 77 - 78 عماد الدين زنكي ص 271.
(3) المصدر نفسه ص 77.
(4) الكامل في التاريخ نقلاً عن عماد الدين زنكي ص 271.
(5) الكامل في التاريخ نقلاً عن عماد الدين زنكي ص 271.
(6) كتاب الروضتين نقلاً عن عماد الدين زنكي ص 271.
(7) عماد الدين زنكي ص 271.
(8) زبدة حلب (2/ 283 - 284) عماد الدين زنكي ص 271.
(9) عماد الدين زنكي ص 271.
(10) الباهر ص 57 - 58 عماد الدين زنكي ص 272.
(11) الباهر ص 64 مرآة الزمان (8/ 190) عماد الدين ص 272.
(12) الباهر ص 69 عماد الدين زنكي ص 272.
(13) زبدة الحلب (2/ 279 - 280).
(14) الباهر ص 57 - 58 عماد الدين زنكي ص 272.
(15) الباهر ص 64 مرآة الزمان (8/ 190) عماد الدين الزنكي ص 272.(1/49)
الأيام الأولى من الفتح: فلما دخل زنكي البلد أعجبه منظره، فأسف لمثله من الخراب، ورأى أن تخريبه وإخلاءه من أهله غير مستحسن من مثله فأمر بإعادة ما أخذ من سبي وأموال، فرداً عن آخرهم، وعاد البلد عامراً
آهلاً آمناً (1)، ثم أصدر أوامره بإعادة أعمار الرها (2). ولا أدل على حب عماد الدين زنكي للأعمار ورفقه بأهالي المناطق المفتوحة من تعيينه نجم الدين أيوب واليا على بعلبك عام 534هـ، وهو الذي توسط لدى زنكي في العفو عن أمراء بعلبك الذين حكم عليهم بالأعدام، فأجابه زنكي إلى طلبه وولاه على بعلبك وأقطعه ثلثها (3).
6 - سياسة الترحيل: اتبع زنكي ما يمكن تسميته بـ (سياسة الترحيل) أي نقل جماعة من مكان إلى مكان آخر لتحقيق غرضين. أولهما: التمكين لحكمه في بعض المناطق التي استولى عليها
وثانيهما: اتخاذ بعض هذه الجماعات كقوات حاجزة بين ممتلكاته وبين مناطق الأعداء، ففي عام 536هـ استولى على مدينة الحديثة الواقعة على الفرات، ونقل من كان بها من آل مهراش إلى الموصل ورتب أصحابه فيها (4)، وأغلب الظن أن آل مهراش هم حكام " الحديثة " الذين كانوا يهددون سيطرة زنكي على المدينة مما اضطره إلى إبعادهم وفي عام 540هـ وعندما أعلن أرمن الرها العصيان ضد زنكي واستطاع نائبه زين الدين كجك أن يقضي على المحاولة، أمره زنكي بإعدام قادة المؤامرة ثم قام بترحيل بعض الأرمن من المدينة، وأحل محلهم ثلاثمائة عائلة يهودية تخلصاً من خطر وجودهم (5) وخلال فترة مبكرة من حكم زنكي قام بنقل طائفة من التركمان تدعى " الإيوانية " مع أميرهم ياروق أرسلان إلى الشام، وأسكنهم في ولاية حلب، وأمرهم بجهاد الصليبيي، ومنحهم الحق في تملك كل ما استولوا عليه من البلاد العائدة لهؤلاء وقد استطاعت هذه الطائفة - فعلاً - أن تسترد من الصليبيين الكثير من الأراضي المحيطة بحلب حيث بقيت بأيديهم إلى سنة 600هـ (6). وكان ياروق مقدماً كبيراً وإليه نسبت الطائفة الياروقية من التركمان. وقد حققت هذه الطائفة - فضلاً عن أعمالها
الحربية - نتائج عمرانية، إذ بنى ياروق وأتباعه على شاطئ نهر قويق
_________
(1) الباهر ص 69 عماد الدين زنكي ص 272.
(2) زبدة الحلب (2/ 279 - 280).
(3) كتاب الروضتين (1/ 86 - 87).
(4) المنتظم (10/ 102) عماد الدين الزنكي ص 273.
(5) عماد الدين زنكي ص 273.
(6) الباهر ص 80 عماد الدين زنكي ص 273.(1/50)
المار بحلب. عمائر كثيرة عرفت بالياروقية واشتهرت هناك (1)، وقد استفاد زنكي في توطيد الأمن الداخلي إلى حد كبير من جهاز استخبارته الدقيق (2) ومن البريد، ويمكن القول بأن جند زنكي وحرسه وحاميات المدن قاموا - كذلك - بدور تنفيذي هام في هذا المجال (3).
خامساً: النظم العسكرية: عند عماد الدين زنكي:
1 - الجيش: كانت مؤسسة الجيش هي القوة الضاربة التي استخدمها زنكي للقضاء على الإمارات المحلية لكي يوحدها في جبهة إسلامية متماسكة ليستطيع مجابهة الصليبيين، وقد اعتنى بجيشه بحيث أصبح قوياً متماسكاً ومن الأمور المتعلقة بالجيش التي اهتم بها زنكي:
أ- ديوان الجيش: نظم زنكي ديوان الجيش، ليقوم بالإشراف على أمور الجند وتنظيمهم وتوزيع رواتبهم وأعطياتهم بانتظام (4) وجعل على رأس هذا الديوان موظفاً أعلى يطلق عليه
" أمير حاجب " (5)، وكان عمله أن ينصف بين الأمراء والجند، تارة بنفسه وتارة بمشاورة السلطان وتارة بمراجعة النائب، وإليه تقديم من يعرض ومن يرد وعرض الجند، وماناسب
ذلك (6)، كما كان ينظر في مخاصمة الأجناد واختلافهم في أمور الاقطاعات ونحو ذلك (7)، وذكر ابن الأثير أنه: كان لزنكي جماعة كثيرة من الخراسانية في الركاب أي ما يشبه الحرس الخاص المرافق للأمير -، لهم الجامكيات (8) الوافرة، وكان في الديوان من يجمعونها من جهاتها ويقسمونها عليهم كل ثلاثة أشهر مرة، ففي بعض السنين تأخرت (رواتبهم) تأخراً يسيراً، فاجتمعوا ووقفوا بحيث يراهم زنكي مجتمعين، فعلم أنهم يشكون شيئاً، فأرسل إليهم وسألهم عن حالهم فذكروه له فقال لهم: أشكو تم إلى الديوان؟ قالوا: لا قال: فهل ذكرتم حالكم .. للأمير حاجب؟ قالوا: لا قال: فلأي شيء أعطي الديوان مائة ألف دينار وأعطي الأمير حاجب أكثر من ذلك، إذا كنت أنا أتولى الأمور صغيرها وكبيرها؟ .. كان عليكم أن تشكوا حالكم إلى الديوان، فإن أهملوا أمركم قلتم (لأمير حاجب)، فإن أهمل أمركم شكوتم الجميع إليّ حتى أعاقبكم على أهمالكم، وأما الآن فالذنب عليكم. ثم أمر
_________
(1) عماد الدين زنكي ص 273.
(2) المصدر نفسه ص 274.
(3) المصدر نفسه ص 274.
(4) الباهر ص 83 عماد الدين زنكي ص 192.
(5) الباهر ص 83 عماد الدين زنكي ص 192.
(6) صبح الأعشى (4/ 19) عماد الدين زنكي ص 192.
(7) الخطط (2/ 219) عماد الدين زنكي ص 192.
(8) الجامكيات: هي الرواتب العامة.(1/51)
بتأديبهم وقطع (رواتبهم)، حتى شفع فيهم بعض الأمراء فعفا عنهم. ثم أحظر موظفي الديوان وأمير حاجب وقال لهم: إذا كنتم تهملون أمر جندي الذين تحت ركابي، ومن هو ملازمي في سفري وأقامتي، وبهم من الحاجة إلى النفقات في أسفارهم ما تعلمونه، فكيف يكون حال من بعد عني؟ وأنكر عليهم ذلك، فخرجوا من عنده وفرقوا في الأجناد من أموالهم إلى حين وصول " رواتبهم " فأخذوا عوض ما أخرجوه (1)، ويعلق ابن الأثير على هذه الحادثة قائلاً بأن زنكي بهذا الأجراء: أصلح الجند لطاعة الديوان وأصلح الديوان للنظر في مصالح الجند وعظم نفسه عن أن يخاطب في هذا الأمر الحقير، وسهل عليه بذل المبلغ الكثير لمن يقوم بأموره (2).
ب- أمير حاجب زنكي: تولى صلاح الدين بن أيوب الياغسياني منصب أمير حاجب لدى زنكي، ويرجع ذلك في تولية الأخير على الموصل إذ كان أحد عضوين في الوفد الذي توجه إلى بغداد عام 521هـ لمفاوضة المسؤولين حول إقرار الوضع في المنطقة وقد وعده زنكي بتوليته منصب أمير حاجب حالماً يستقر في الموصل فلما دخلها عام 521هـ ولاه هذا المنصب الهام (3)، وقد ظل الياغسياني يلازم زنكي في حله وترحاله، وأعتمد عليه هذا في مهامه العسكرية، وجعله أحد قواده الكبار. وكلفه بقيادة جيشه في عدد من المهام والمعارك العسكرية (4)، وتقدم لدى زنكي بالمناصحة وسداد التدبير. وحسن السفارة وصواب الرأي (5)، ولذلك لم يعترضه أو يقيله من منصبه طيلة فترة حكمه (6).
ج- تنظيم الجيش وعناصره: يعتبر نظم عماد الدين زنكي امتداد لنظم السلاجقة من جهة وأساس للنظم الأيوبية والمملوكية من جهة أخرى ومن العناصر التي كانت تشكل جيش زنكي، الخراسانيون، والتركمان الذين كانوا يشكلون أعداداً كبيرة، إذ يشير ابن القلانسي إلى أن زنكي عند ما حاصر الرها عام 539هـ كاتب طوائف التركمان بالاستدعاء لهم للمعونة عليها (أي على الرها) وأداء فريضة الجهاد، فوصل إليه منهم الخلق الكثير بحيث أحاطوا بها من جميع الجهات وحالوا بينها وبين ما يصل إليها من الميرة والأقوات (7)، وقد استفاد زنكي من التركمان لجهاد الصليبيين بالدرجة الأولى. وقام بنقل طائفة من التركمان الأيوانية مع أميرهم "الياروق" إلى الشام وأسكنهم بولاية
_________
(1) الباهر ص 83 عماد الدين زنكي ص 193.
(2) الباهر ص 83 عماد الدين زنكي ص 193.
(3) الباهر ص 35 عماد الدين زنكي ص 195.
(4) ذيل تاريخ دمشق ص 258.
(5) كتاب الروضتين نقلاً عن عماد الدين زنكي ص 195.
(6) عماد الدين زنكي ص 195.
(7) الباهر ص 279 عماد الدين زنكي ص 197.(1/52)
حلب، وأمرهم بجهاد الفرنج، وملكهم كل ما استنفذوه من البلاد التي لهم .. فكانوا يغادرون الفرنج بالقتال ويراوحونهم ولم يزل جميع ما فتحوه بأيديهم إلى سنة 600هـ. وقد استفاد الأمير سوار بن ايتكين التركماني، نائب زنكي في حلب، من التركمان في غارته ضد الصليبيين في شمالي الشام واستطاع أن يحقق بواسطتهم انتصارات عديدة (1)، وكان التركمان ينتشرون في معظم أنحاء الشام وبخاصة مناطق الفرات وكانوا طوائف كثيرة وجماعة كبيرة (2). وكان زنكي يمضي إلى الفرات لجمع التركمان قبل القيام بمعاركه المهمة، إذ كان هؤلاء بإعدادهم الضخمة ومرانهم في الحرب، وشجاعتهم، يشكلون أهم عنصر في جيشه (3)
وجاءت اشارات متعددة عن (الحلبيين) كقوة عسكرية اشتركت في معارك عديدة ضد الصليبيين في شمالي الشام بقيادة الأمير سوار، وقامت بدور أساسي في الدفاع عن حلب وبعض المدن الأخرى القريبة، عند هجوم الأمبراطور البيزنطي المتحالف مع الصليبيين على هذه المنطقة عام 532هـ (4)، كما قام الحلبيون بدور هام في فتح الرها عام 539هـ جنباً إلى جنب مع الخراسانيين، إذ كان في (الحلبيين) أيضاً من هو " عارف بمواضع النقوب "، فنقبوا عدة مواضع مع الخراسانيين، وأشعلوا فيها النار مما أدى إلى انهيار بعض أجزاء السور ودخول المسلمين إلى الرها (5). وقد كان هؤلاء الحلبيون، من سكان حلب الأصليين، أي من العرب، بدليل ما أورده ابن العديم من أن زنكي كان يجبر فلاحي حلب على الالتحاق بجيشه في أوقات القتال (6)، ويظهر أن هؤلاء كانوا يتركون الجيش ويعودون إلى أعمالهم الزراعية بعد انتهاء القتال، ولا ريب أنهم كانوا يتقاضون أجوراً على اشتراكهم في المعارك، سواء كانت أرزاقاً معينة، أم ما يحصلون عليه من الغنائم، وقد ذكر ابن واصل أن زنكي رحل إلى أرض حماة عام 533هـ واستصحب من أهلها تسعة آلاف راجل يخدمون الركاب (7). أي للقيام بمهمة الحشم في خدمة الجيش وامرائه في حلهم وترحالهم، فضلاً عن حراسة زنكي الخاصة، مما يشير إلى أن هذا اعتمد على أهالي الشام في كثير من الأمور الحربية (8) وأعتمد جيشه على عناصر أخرى كالبدو والأكراد (9).
? عدد جيش زنكي: ويظهر مما سبق أن عدد جيش زنكي لم يكن ثابتاً، بل كان عرضة
_________
(1) عماد الدين زنكي ص 197.
(2) زبدة حلب (2/ 264 - 268).
(3) ذيل تاريخ دمشق ص 279 عماد الدين زنكي ص 198 ..
(4) عماد الدين زنكي ص 198.
(5) المصدر نفسه ص 199.
(6) المصدر نفسه ص 199.
(7) المصدر نفسه ص 199.
(8) المصدر نفسه ص 199.
(9) المصدر نفسه ص 199.(1/53)
للزيادة والنقصان بم ينضم إليه من المتطوعين من حين لآخر. وقد حاول زنكي أن يضمن وجود مورد عسكري بشري ثابت، ففرض التجنيد الإجباري على بعض المناطق القريبة من مواطن الخطر، ولذلك كان يلزم أهل حلب بجمع الرجالة للقتال والحصار فإن كان ذلك في جهاد الكفار، فقد كان يجلب عليهم ذلك وله الزامهم به (1).
? معسكرات عماد الدين زنكي: هنالك إشارات محدودة عن معسكرات الجند، ففي شتاء إحدى السنين قدم زنكي إلى جزيرة ابن عمر، فنزل بالقلعة، وعسكر جنده في الخيام خارج المدينة (2)، الأمر الذي يشير إلى وجود معسكرات غير ثابتة في الحالات الطارئة، وأما في الحالات الدائمة، فقد كان زنكي يقيم حامية عسكرية في كل مدينة أو حصن يفتحه بعد أن يقطع أراضيها لأمراء الحامية وجنودها (3) وهذا يؤكد وجود معسكرات ثابتة في مختلف المناطق التابعة لزنكي، ولم تحدد المصادر فيما إذا كانت سكنى الجند داخل القلاع أم
خارجها (4)؟
?
استخدام الخيل في جيش عماد الدين: وردت اشارات عديدة عن اهتمام قوات عماد الدين زنكي بالخيل واستخدامها في مختلف الحروب. وفي الهجمات السريعة، وقد ذكر أسامة بن منقذ بعض اللمحات عن الخيول في عهد زنكي فكان الفارس يلبس الزردية، أو الكزاغند (أي الدرع). والخوذة ويقاتل بالسيف أحياناً وبالدبوس أحياناً أخرى (5). وقد جرى التنافس بين قوات زنكي لاقتناء الخيول الحسنة (6) وكان للأمراء ركائبيون واصطبلات خاصة لخيولهم (7) ويشير ابن العديم إلى استخدام الخيل في معارك عام 532هـ ضد الروم والصليبيين (8)
وقد اعتمد الأمير سوار نائب زنكي في حلب على الخيول في غاراته التي شنها ضد
الصليبيين (9). وقد اعتمد الأمير سوار نائب زنكي في حلب على الخيول في غاراته التي شنها ضد الصليبيين (10). وهنالك إشارات مختصرة عن تنظيم النقل في جيش زنكي، إذ يشير ابن منقذ إلى استخدام زنكي للبغال (11). ويظهر أن حروبه الجبلية دفعته إلى ذلك،
_________
(1) عماد الدين زنكي ص 199.
(2) الباهر ص 76 - 77، كتاب الروضتين (1/ 110).
(3) عماد الدين زنكي ص 200 الباهر ص 66، 69.
(4) عماد الدين زنكي ص 200.
(5) الاعتبار ص 98 عماد الدين زنكي ص 201.
(6) عماد الدين زنكي ص 201.
(7) المصدر نفسه ص 201.
(8) زبدة حلب (262 - 267).
(9) عماد الدين زنكي ص 201.
(10) عماد الدين زنكي ص 201.
(11) الاعتبار ص 59 - 60 عماد الدين زنكي ص 201.(1/54)
كما استخدمت الإبل في مناطق الجزيرة المستوية في الظروف التي تطلبت السرعة (1).
س - استدعاء الجيوش وأساليب الحرب: قبيل إعلان الحرب كان زنكي يستدعي قوات من المتطوعين لتنضم إلى جيوشه النظامية المجهزة (2). فعندما عزم على فتح الرها عام 539هـ كاتب طوائف التركمان بالاستدعاء لهم للمعونة عليها، وأداء فريضة الجهاد فوصل إليه منهم الخلق
الكثير (3). كما كان يمر - في طريقه إلى الحرب ببعض مدن إمارته ويجمع منها الجند ليضيفهم إلى قواته كما فعل مع أهالي حلب (4)، وحماة (5) وكان الجهاد ضد الصليبيين أحد الدوافع المهمة في اشتراك المتطوعين في حروب زنكي وخصوصاً التركمان، كما كانت الرغبة في الغنائم والخوف من سلطة زنكي (6)، من الدوافع الأخرى لذلك. وكانت معظم المعارك التي خاضها زنكي عبارة عن هجمات ومحاصرة للحصون الكثيرة المنتشرة في منطقة الجزيرة والشام، وأما المعارك المفتوحة فإنها كانت أقلّ من حروب الأسوار بشكل ملحوظ ولذلك قلت الإشارات عن الأساليب التي اتبعت فيها (7).
* وكان للجواسيس أهمية كبيرة في المعارك التي خاضها زنكي، وكانوا ينتشرون في مناطق العدو، ويطلعون أميرهم على تحركاته وإمكانياته لكي يكون على بينة من الأمر، وكان زنكي يحدد موقفه الحربي أحياناً بناء على ما يقدمه هؤلاء من معلومات (8)، ومن ثم يتجه هو أو أحد قواده على رأس الجيش لفرض الحصار، فإذا ما استدعت الظروف السرعة في السير أتخذ من الوسائل ما يكفل ذلك، ففي عام 528هـ على سبيل المثال، توجه إلى (خلاط) وأراد الوصول إليها بسرعة، فسلك طريقاً عبر الجبال عبر الطريق المسلوك وكان جنده يستريحون، كل واحد في موضعه دون خيام (9). وعندما توجه لحصار الرها عام 539هـ استعان على السرعة بركوب النجائب (أي الإبل صغيرة العمر) (10).
* حروب الأسوار: قدمت بعض المصادر تفصيلات عن أساليب الأسوار، ففي حصار الرها، تقدم زنكي - أولاً - إلى أهل الحصن بتسليمه له دون أن يضطر إلى تخريبه، فلما رفضوا أمر المنجنيقات بالضرب: وقاد الشجعان لنزاله على شكل زحوف مستمرة لقتال
_________
(1) الباهر ص 68 عماد الدين زنكي ص 201.
(2) عماد الدين زنكي ص 202.
(3) ذيل تاريخ دمشق ص 279 عماد الدين زنكي ص 202.
(4) عماد الدين زنكي ص 202.
(5) مفرج الكروب (1/ 84) عماد الدين زنكي ص 202.
(6) الباهر ص 68 عماد الدين زنكي ص 202.
(7) عماد الدين زنكي ص 202.
(8) مفرج الكروب (1/ 93) عماد الدين زنكي ص 202.
(9) الاعتبار ص 88 - 89.
(10) الباهر ص 68.(1/55)
الحامية وفي الوقت نفسه، كان النقابون: العارفون بمواضع النقوب: يعملون على نقب بعض المناطق الواقعة تحت الأبراج وبعد ذلك وضعوا فيها الأخشاب وأحرقوها فسقطت الأبراج واحترق السور واندفع جند زنكي إلى داخل الحصن (1).
* أسلوب الاشتباك: اتبع زنكي أسلوب الاشتباك مع حامية الحصن حالماً بفسح المجال بذلك، إذ تبدأ المنجنيقات أولاً - بضرب الأسوار، وما أن تحدث بعض الفتحات حتى يقوم عدد من جنده بهجوم سريع على تلك المناطق والاشتباك مع الحامية، فإذا ما قضوا على المدافعين فتحوا الطريق أمام الجيش للدخول إلى الحصن والاستيلاء عليه (2).
* الناحية التموينية: كان عماد الدين زنكي يؤكد في حصاره للحصون على الناحية التموينية، فيفرض حصاراً اقتصادياً على الحصن. فضلاً عن الحصار العسكري (3)، كما كان يؤكد على إثارة حماسة الجند بأن يشترك هو نفسه في الهجوم على الأسوار كما حدث في معركتي عقر الحميدية عام 528هـ (4) والرها عام 539هـ (5).
* الحروب المفتوحة: فقد اتبع زنكي أسلوب الحرب المفتوحة، حيث تقسم القوات إلى عدة مجموعات على رأس كل منها أمير: ميمنة، قلب، ميسرة، مقدمة، مؤخرة. وقد ظهرت براعة زنكي وقواده في استخدام الأساليب المختلفة في القتال كنصب الكمائن (6) وفي الحالات التي كانوا يرون فيها أن من الخطورة الدخول بمعارك مفتوحة مع العدو، أما لقلة عددهم، أو لعدم ملائمة الظروف العسكرية لهذا النوع من القتال، في هذه الحالات، كان زنكي وقواده يلجأون إلى شن الغارات على معسكرات العدو والانسحاب بسرعة وكانوا يستهدفون من ذلك أقلاق تلك المعسكرات ونشر الخوف والفوضى في صفوفها وذلك بما يحدثونه في أطرافها من قتل واختطاف ونهب وتخريب، مما يؤدي. أيضاً إلى اضطراب في تموين العدو، وهو عامل هام لاضعافه،
وقد حققت هذه الأساليب انتصارات عديدة لزنكي ورجاله (7). وكان زنكي - أحياناً
أخرى - يمارس ضغطه الاقتصادي ضد أعدائه عن طريق القيام بعمليات النهب والتخريب في المناطق التي تمد حصون هؤلاء بالتموين، كما حدث في
_________
(1) ذيل تاريخ دمشق ص 279.
(2) الاعتبار ص 155 عماد الدين زنكي ص 203.
(3) ذيل تاريخ دمشق ص 279.
(4) عماد الدين زنكي ص 203.
(5) مفرج الكروب (1/ 93 - 94).
(6) ذيل تاريخ دمشق ص 259 عماد الدين زنكي ص 204.
(7) الباهر ص 55 - 56 مفرج الكروب (1/ 78، 79).(1/56)
منطقة حمص في السنوات التي سبقت الاستيلاء عليها عام 532هـ (1) وفي حصاره لدمشق عام 534هـ حيث أحرق عدة قرى من المرج والغوطة وشن الغارات على حوران وأعمال دمشق للنهب والتخريب (2).
ع- الأسلحة التي استخدمها عماد الدين زنكي في جهاده: فقد ورد ذكر منها كالدبوس وهو آلة من حديد ذات أضلاع والرماح، والسيوف، والقوس والسهم والنشاب والمنجنيقات والدبابة والكبش والقلعة المتحركة والتي كانت تستخدم لنقل الجند والمعدات الحربية إلى الأسوار لكي تحميهم من سهام الأعداء ونيرانهم (3)، كما استعمل جند زنكي النار العادية لحرق الأسوار بعد نقبها وملئها بالخشب (4) وبلغت أسلحت زنكي من الكثرة في إحدى المعارك بحيث قال عنها الشاعر: ظننا البر بحراً من سلاح (5)، وكان مع جيوش زنكي جرائحي لعلاج مصاب
الحرب (6)، وربما كان ذلك دليل على وجود مجموعة، أو هيئة ترافق جند زنكي لإسعاف
الجرحى (7).
* سلوك الأمراء والجند تجاه سكان وحاميات المدن المفتوحة: كانت الاعتبارات السياسية والعسكرية هي التي تجدد سلوك الجند وأمرائهم تجاه سكان وحاميات المدن المفتوحة، ففي عام 533هـ على سبيل المثال، فتح زنكي حصن بزاعة بالسيف: وقتل كل من فيه من الروم
والفرنج (8)، كرد انتقامي على سلوك الروم والصليبيين تجاه المسلمين لدى استيلائهم على هذا الحصن، ومعاملتهم لأهله بوحشية بالغة (9). كما أن هذا الحصن كان يشكل مركزاً عسكرياً مهما لقربه من حلب ومن ثم فإن وجود أية جماعة تؤيد الصليبيين فيه يشكل خطراً على المنطقة كلها وكذلك يمكن القول في موقف زنكي عند فتح الرها عام 539هـ، بعد مقاومة شديدة دفعته إلى إطلاق الحرية لجنده وأمرائه في الأيام الأولى من الفتح، فملأوا أيديهم من الغنائم والأسلاب والأسرى (10)، لكنه لدى إطلاعه على البلد: أعجبه
_________
(1) الكامل في التاريخ نقلاً عن عماد الدين زنكي ص 204.
(2) مفرج الكروب نقلاً عن عماد الدين زنكي ص 205.
(3) تاريخ المماليك ص 276 عماد الدين زنكي ص 205.
(4) ذيل تاريخ دمشق ص 279، 282 عماد الدين زنكي ص 205.
(5) الباهر ص 68 عماد الدين زنكي ص 205.
(6) الاعتبار ص 59 - 60.
(7) عماد الدين زنكي ص 206.
(8) مفرج الكروب (1/ 83) عماد الدين زنكي ص 206.
(9) مفرج الكروب (1/ 77 - 78) عماد الدين زنكي ص 206.
(10) عماد الدين زنكي ص 206.(1/57)
منظره فأسف لمثله في الخراب، ورأي أن خرابه وإخلاءه غير مستحسن، فأمر باعادة ما أخذ من الغنائم والسبي فردوا، وعاد البلد عامراً، آهلاً بالسكان، بعد أن كان داثراً (1). وهكذا نجد أن موقف زنكي بالسماح لجنده بالنهب والأسر كان ذا اعتبار عسكري بسبب المقاومة العنيفة تلك الأعمال كان ذا اعتبار سياسي، إذ كان يرمي من وراء ذلك جعل المسيحيين الوطنيين في الرها كتلة واحدة يقيد منها ضد الصليبيين الذين يخالفونهنم في المذهب، ولعله أراد أن يستعين بالمسيحيين الوطنيين بالإضافة إلى الحامية التركية في المحافظة على الرها بعد طرد القوات الصليبية منها (2). ولذلك اجتهد في مصالح - أهل الرها - ووعدهم باجمال السيرة وبسط العدالة (3)، وعلى هذا الأساس كانت معاملة زنكي لأهل بعلبك وأمرائها بعد أن أعطاهم الأمان، إذ أن ما أتخذه معهم من شد وقسوة قصد به إثارة خوف المقاتلين له من المسلمين في دمشق (4).
ف- علاقة عماد الدين زنكي بجنوده: قامت علاق عماد الدين زنكي بجنده على النظام والطاعة والانضباط من جهة وعلى الود والتعاطف والرأفة من جهة أخرى، بسبب ما قدمه للجند من رواتب حسنة، وما شمل به أهليهم من رعاية واهتمام (5)، وكان عقابه صارماً للمخالفين من جنده سيما إذا كانت مخالفتهم على حساب الرعية (6)، وقد بلغ زنكي من السطوة والنفوذ لدى جنده أنه: إذا ركب مشى العسكر خلفه كأنهم بين خيطين، مخافة أن يدوس العسكر شيئاً من الزرع، ولا يحسر أحد من هيبته أن يدوس عرقاً منه، ولا يمشي فرسه فيه، ولا يحسر أحد من أجناده أن يأخذ من فلاح حفنة من التبن إلا بثمنها، أو بخط من الديوان إلى رئيس القرية (7)، وكان زنكي يقدر الدور الهام الذي يؤديه الجند في خدمة الإمارة لذلك عني بتوفير الراحة والاستقرار للجندي في كل ما يتعلق به، وبخاصة عائلته وزوجته؛ فكان شديد الغيرة على الحريم، لا سيما نساء الجند، فإن التعرض إليهن كان من الذنوب التي لا يغفرها وقد علل ذلك بقوله: إن جندي لا يفارقوني في أسفاري وما يقيمون عند أهليهم، فإن نحن لم نمنع من التعرض إلى حرمهم هلكن وفسدن (8)، ولذلك كان يعاقب المتعرضين للنساء أشد العقاب وقد مّر معنا قصة والي جزيرة ابن عمر التابع لعماد الدين
_________
(1) المصدر نفسه ص206.
(2) الحروب الصليبية (1/ 8527) العريني.
(3) ذيل تاريخ دمشق ص 280.
(4) عماد الدين زنكي ص 207.
(5) المصدر نفسه ص 209.
(6) كتاب الروضتين (1/ 110) عماد الدين زنكي ص 208.
(7) زبدة حلب (2/ 283 - 284).
(8) الباهر ص 84، عماد الدين زنكي ص 208.(1/58)
زنكي (حسن البرطي) وكيف جرده من كل أمواله وعاقبة (1).
ص - الاستخبارات: أقام عماد الدين زنكي جهازاً للمخابرات وخصص له الموظفين والرواتب وقد ورد عنه أنه: كان شديد العناية بأخبار الأطراف وما يجري لأصحابها حتى في خلواتهم، وكان له في بلاط السلطان السلجوقي من يطالعه وبكتب إليه بكل ما يفعله السلطان في ليله ونهاره وحرب وسلم، وهزل وجد، وكان (يصرف) على ذلك الأموال الجليلة، وكان يصل إليه في كل يوم عدة قاصدين أو كتب (2) كما كان له في كل بلد من يطالعه بالأخبار (3)، وقد اتصف عماد الدين زنكي بالدراية الواسعة والحذر في هذا المجال: فكان لا يمكن رسول ملك يعبر في بلاده بغير إذنه، وإذا أستأذنه رسول في العبور إلى بلاده أذن له وأرسل إليه من يسيره ولا يتركه يجمتع بأحد من الرعية ولا غيرهم، فكان الرسول يدخل بلاده ويخرج منها ولا يعلم من أحوالها شيئاً البتة (4)، كما كان لا يمكن أحد موظفيه من مغادرة بلاده ويعلل ذلك بأن البلاد، كبستان عليه سياج فمن هو خارج السياج يهاب الدخول، فإذا خرج منها من يدل على عورتها ويطمع العدو فيها، زالت الهيبة وتطرق الخصوم إليها (5) وهنالك عدد من الروايات حول هروب بعض موظفيه وفلاحيه إلى الإمارات الأخرى وإلحاحه بإعادتهم إلى إماراته حتى لو اضطره ذلك إلى استخدام القوة (6) وقد قدم جهاز مخابراته خدمات مهمة له في ظروف شتى ولعب دوراً هاماً في حصار بعرين عام 531هـ (7)، وحصار الرها عام 539هـ (8)،
كما كان يستخدمه عماد الدين على أحوال الجند لدى حصارهم بعض المواقع وملاحظة ما يصل إليهم من رواتب وسلاح (9)، وكان عماد الدين زنكي مع اشتغاله بأمور الدولة الهامة لا يهمل الإطلاع على القضايا الثانوية، معللاً ذلك. بأن الصغير إذا لم يعرف ليمنع، صار كبيراً (10). وكان من الطبيعي أن رجال المخبارات في الدولة الزنكية ارتبطوا بعماد الدين مباشرة نظراً لأهمية دورهم السياسي والعسكري، ولأنهم كانوا يتسلمون أوامرهم المباشرة منه (11).
_________
(1) الباهر ص 84 عماد الدين زنكي ص 208.
(2) الباهر ص 78، كتاب الروضتين (1/ 111) عماد الدين زنكي ص 209.
(3) عماد الدين زنكي ص 209 نقلاً عن الباهر.
(4) مفرج الكروب نقلاً عن عماد الدين زنكي ص 209.
(5) مفرج الكروب نقلاً عن عماد الدين زنكي ص 210.
(6) كتاب الروضتين (2/ 283).
(7) الكامل في التاريخ نقلاً عن عماد الدين زنكي ص 210.
(8) عماد الدين زنكي ص 210 ..
(9) الباهر ص 78 نقلاً عن عماد الدين زنكي ص 210.
(10) الباهر ص 78، عماد الدين زنكي ص 210.
(11) عماد الدين زنكي ص 210.(1/59)
1 - كان عماد الدين زنكي رجلاً ذا هدف واضح، وهذا أول شروط النجاح، وكان جاداً ومثابراً في تنفيذ خططه، وكان غالباً لا يهادن الصليبيين قاسياً عليهم وكان حريصاً على نشر الخوف في حصونهم وقلاعهم ومدنهم، وكان يقدر الظروف الحربية، فقد هادن جوسلين عندما قدم إلى الموصل لكي يتفرغ لإصلاح البلاد وتجنيد الأجناد، وتجنب مهاجمة مملكة بيت المقدس، حتى لا يثير أوروبا ضده، فقد كان هدفه القضاء على الأطراف مثل الرها، وأضعاف أنطاكية والقضاء على إمارة طرابلس وله فقه كبير في السياسة الحربية (1) ستبين بإذن الله تعالى عند الحديث عن جهوده الوحدوية وأعماله الجهادية.
2 - نظام الإقطاع العسكري: أدرك زنكي ضرورة توزيع الإقطاعات على أمرائه وجنده نظراً لطبيعة الظروف الحربية والسياسية التي جابهتها إمارته، حيث انتشرت مجموعة من الإمارات المحلية المتنافسة في الجزيرة والشام والجبال وشرقي الموصل، فضلاً عن إمارات الصليبيين، فكان ذلك يحتم عليه اتباع الأساليب التي تضمن له تشكيل قوة عسكرية متمكنة، يخلص أفرادها لأميرهم ومصلحة إمارتهم بناء على وجود مصالح مشتركة، وليس ثمة في تلك الفترة ما هو أحسن من الأسلوب الاقطاعي لضمان تكوين الجندي المخلص والجيش القوي المنظم لذلك كان أول عمل قام به زنكي عند دخوله الموصل 521هـ هو "تقرير قواعد الجنود وإقطاع العساكر" (2)، كما جعل من منهجه قبل الاصطدام مع الصليبيين، الاستيلاء على ما بقي من البلاد الشامية والجزرية، وإصلاح شأنها، والفرغ من إقطاع بلادها لجند يختبرهم ويعرف نصحهم وشجاعتهم (3)، وفي سبيل تحقيق ذلك عقد هدنة مؤقتة مع صليبي الرها (4)، ولم تكن معظم مدن الموصل والجزيرة وشمالي الشام خاضعة لزنكي عند توليته هذه المناطق رسمياً من قبل السلطان السلجوقي، لذا غدت معظم عمليات التوزيع الاقطاعي متوقفة إلى حد كبير على فتوحاته ومتدرجة زمنياً مع أوقات هذه الفتوحات، فكان كلما استولى على بلد " رتب أموره وأقطع أعماله الأجناد والأمراء (5)، وفضلاً عن قيام المقطع بالدفاع عن المنطقة وامداد جيوش زنكي بقوات من عنده في حالات القتال (6)، فقد استخدم الأخير الاقطاع لأغراض أخرى أهمها الغرض
_________
(1) الحروب الصليبية والأسرة الزنكية ص 169، 171.
(2) الباهر ص 36 عماد الدين زنكي ص 218.
(3) الباهر ص 37 عماد الدين زنكي ص 218.
(4) الباهر ص 37، مفرج الكروب (1/ 36).
(5) الكامل نقلاً عن عماد الدين زنكي ص 218.
(6) مفرج الكروب (1/ 103) عماد الدين زنكي ص 218.(1/60)
الإداري، وهو قيام المقطع بإدارة أمور ولايته كوال من قبل زنكي على تلك المنطقة (1)
أو لإبعاد الشخص الذي يرى في وجوده خطراً باقطاعه منطقة بعيدة (2)، أو لإكرام بعض أمرائه المقربين اعترافاً بفضلهم (3)، أو لإغراء بعض أعدائه بتسليم حصونهم مقابل إقطاعهم بعض المناطق (4)، كما أنه تنازل عن بعض الحصون التي فتحها في ديار بكر لحسام الدين تمرتاش أمير بني أرتق وذلك لأغراض سياسية تستهدف تقوية حلفه مع حسام الدين ضد أعدائه في المنطقة (5)، وإليك أسماء بعض الأمراء والقواد الذي أقطعهم زنكي بعض المدن والحصون:
أ- الأمير جاولي الذي كان وصياً على ابن عز الدين مسعود والي الموصل المتوفي عام 521هـ، أقطع الرحبة تخلصاً من خطره (6).
ب- بهاء الدين بن القاسم الشهرزوري، قاضي قضاة الموصل، وهبه زنكي أملاكاً وإقطاعاً (7)،
لم تحددها المصادر (8).
ج- أبو بكر البكجي، أحد كبار أمراء زنكي، أقطع نصيبين (9).
د- سوتكين الكرجي، أقطع حران عام 522هـ أو 523هـ وفي عام 527هـ أعلن العصيان وقد استطاع زنكي القضاء عليه عام 533هـ وعين نوابه هناك (10).
هـ- صلاح الدين الياغسياني (أمير حاجب). قطع حماة عام 523هـ.
و- زين الدين علي كجك بن بكتكين، أحد كبار قواد زنكي أقطع أربل عام 526هـ (11)، وعقر الحميدية وأعمالها عام 528هـ (12) وشهر زور (13).
ز- شهاب الدين أميرك الجاندار، أقطع الرقة عام 529هـ (14).
ح- نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه: قطعهما زنكي في بلد شهرزور إقطاعاً سنياً، وقيل أنه أقطع أسد الدين بالمؤزر (15) وذلك بعد التجائهما إليه في أواخر عام 532هـ.
_________
(1) عماد الدين زنكي ص 218 ..
(2) الباهر ص 35 عماد الدين زنكي ص 218.
(3) الباهر ص 16، عماد الدين زنكي ص 218.
(4) ذيل تاريخ دمشق ص 270، عماد الدين زنكي ص 219.
(5) عماد الدين زنكي ص 219.
(6) كتاب الروضتين (1/ 76) عماد الدين زنكي ص 219.
(7) الكامل في التاريخ نقلاً عن عماد الدين زنكي ص 219.
(8) عماد الدين زنكي ص 219.
(9) الباهر ص 79.
(10) مفرج الكروب (1/ 84).
(11) ذيل تاريخ دمشق ص 258.
(12) عماد الدين زنكي ص 220.
(13) المصدر نفسه ص 220.
(14) المصدر نفسه ص 220.
(15) المصدر نفسه ص 220.(1/61)
ط- عز الدين الدبيسي من أكابر أمراء زنكي، كانت دقوقاً من جملة إقطاعه (1).
ي- ناصر الدين كوري بن جكرمش (والي الموصل 495 - 500هـ) أقطعه زنكي إقطاعاً كثيراً اعترافاً بفضل والده (2).
ك- الأمير سوار بن ايتكين التركماني، ولي حلب عام 524هـ (3) وأجرى عليه زنكي الاقطاعات الكثيرة، وأعتمد عليه في قتال الفرنج (4).
ل- نجم الدين أيوب الذي ولاه زنكي بعلبك عام 534هـ، بعد أن أقطعه ثلثها، وقيل:
نصفها (5). وكان زنكي يمتلك بعض الاقطاعات، خارج حدود إمارته حصل عليها في ظروف استثنائية، كتلك التي وهبه الخليفة المقتفي إياها، من أملاكه الخاصة في بغداد، رغبة في استمالته (6) وقال متحدثاً عن ذلك: هذه قاعدة لم يسمح بها لأحد من زعماء الأطراف، وهي أن يكون له في العراق إقطاع (7). ومن ثم اعتبر هذا النوع من الاقطاع شاذاً. فهذه بعض الأسماء التي قدمتها المصادر عن مقطعي زنكي من كبار الأمراء والقواد، والراجح أن عدداً كبيراً من المقطعين لم تشر إليهم المصادر، أما إغفالاً منها، أو لعدم أهمية الأماكن التي أقطعت لهم من النواحي العسكرية والجغرافية وربما لقلة اشتهار المقطعين أنفسهم (8)، وقد وزعت الاقطاعات على الجند فضلاً عن الأمراء، وتشير النصوص الواردة في ذلك إلى أن زنكي كان يقوم بنفسه أحياناً، بتقرير قواعد الجند واقطاعهم (9) وأورد ابن الأثير في الباهر الإجراء الذي اتخذه زنكي بشأن امرائه المقطعين، إذ نهى هؤلاء: من اقتناء الأملاك معللاً ذلك بقوله: ما دامت البلاد لنا فأي حاجة بكم إلى الأملاك؟ فإن الاقطاعات تغني عنها، وإن خرجت البلاد عن أيدينا فإن الأملاك تذهب معها، ومتى صارت الأملاك لأصحاب السلطان ظلموا الرعية وتعدوا عليهم، وغصبوا أملاكهم (10). وهذا النص يؤكد بوضوح عدم وجود ملكية مباشرة للأرض من قبل المقطعين بل كانت هذه الملكية بيد
_________
(1) المصدر نفسه ص 220.
(2) المصدر نفسه ص 220.
(3) المصدر نفسه ص 221.
(4) المصدر نفسه ص 221.
(5) المصدر نفسه ص 221.
(6) عماد الدين زنكي ص 221.
(7) الباهر ص 54 عماد الدين زنكي.
(8) عماد الدين زنكي ص 221.
(9) الباهر ص 35 - 36، 37.
(10) الكامل في التاريخ نقلاً عن عماد الدين زنكي ص 222.(1/62)
الفلاحين (1)، والأهالي (2)، مقابل دفع ضريبة سنوية للحكومة والمقطعين (3)، وقد كان لهذا الإجراء الذي اتخذه زنكي بمنع المقطعين من "التملك" نتائج إيجابية.
* إذ أن اقتناء الأملاك من قِبل هؤلاء يؤدي إلى أضرار عديدة قد تلحق بالأهالي وبمصلحة الإمارة على حد سواء أولها ما يجر إليه المقطعين من ظلم للرعية واعتداء عليهم واغتصاب لأملاكهم، ذلك أن الأمير في حالة كهذه سيستخدم ما يمتلكه من نفوذ وسلطة للضغط على أصحاب الملك ببيعه ملكهم بأقل ثمن، وربما دفعهم إلى التنازل عنه بالقوة (4)، وقد أدرك ابن الأثير مدى عدالة زنكي في هذه الخطوة فعلق عليها قائلاً: فما أحسن هذا الخلق - أي خلق زنكي وأحسن هذا النظر للرعايا، وأكثر هذه الشفقة عليهم والرحمة لهم. لا خلاف في أن عمارة البلاد من ثمرات العدل، وكف الأيدي المتطاولة إلى أهلها (5).
*وفضلاً عن ذلك، فإن من نتائج اقتناء المقطعين للأملاك تجمع الثروة بأيدي طبقة محدودة من الأمراء، واحتكار هذه الطبقة لموارد الرزق، بينما تبقى أكثرية السكان في فقر مدقع.
* هذا إلى أن اقتناء الأمراء للأملاك والعناية بها قد يؤدي بهم إلى عدم توجيه جهودهم لكل ما يتعلق بالجندية والدفاع وهي الأمور التي أقطعوا الأراضي والأعمال من أجلها (6).
ويستدل من بعض الروايات أنه لم يكن يشترط في المقطع البقاء في إقطاعه خاصة إذا كان من أصحاب الوظائف العالية التي تقتضي ملازمته لزنكي وكان المقطع في هذه الحالة ينيب عنه من يقوم بإدارة اقطاعيته، كما حدث بالنسبة لجمال الدين محمد بن أيوب الياغسياني، أمير حاجب زنكي، الذي أقطع عدة مدن، فأناب في كل منها من يعتمد عليه في إدارة شؤونها (7) كحماه التي أناب فيها ابنه شهاب الدين أحمد (8)، وحصن الخربة الذي أناب فيه عيسى الحاجب (9)، وكذلك بالنسبة لزين الدين على كجك بن بكتكين قائد زنكي
_________
(1) زبدة حلب (2/ 283 - 284) عماد الدين زنكي ص 223.
(2) مفرج الكروب (1/ 74 - 75).
(3) الباهر ص 79 زبدة حلب (2/ 280).
(4) عماد الدين زنكي ص 22.
(5) الكامل في التاريخ نقلاً عن عماد الدين زنكي ص 223.
(6) عماد الدين زنكي ص 223.
(7) المصدر نفسه ص 223.
(8) ذيل تاريخ دمشق ص 258 الاعتبار ص 97 - 98.
(9) الاعتبار ص 78.(1/63)
في الموصل، الذي أقطع أربل وعقر الحمدية وأعمالها ومن المرحج أنه أناب عنه فيهما من يدير شؤونهما، بدليل عدم مغادرته الموصل إلى إقطاعه في أربل إلا
عام 563هـ (1).
وتشير الروايات إلى أن نور الدين محمود ابن زنكي أدخل نظام التوريث في الإقطاع، إذ كان: من آرائه الحسنة ما كان يعتمده في أمر أجناده، فإنه كان إذا توفي أحدهم، وخلف ولداً ذكراً، أقر الإقطاع عليه. فكان الأجناد يقولون: هذه أملاكنا يرشها الولد عن الوالد، فنحن نقاتل عليها وكان ذلك من أعظم الأساب لصبر الجند في الحروب بين يديه (2). وقد رجح الدكتور عماد الدين خليل أن زنكي سبق ابنه في إدخال هذا النظام، إذ هنالك سابقة من عهده تُشير إلى هذا الاتجاه الجديد في نظام الإقطاع، وذلك عندما قام بنقل طائفة من التركمان مع أميرهم الياروق إلى الشام؛ وأسكنهم بولاية وأمرهم بجهاد الفرنج، وملكهم كل ما استنقذوه من البلاد التي للفرنج وجعله ملكاً لهم، فكانوا يغادون الفرنج بالقتال ويراوحونهم وأخذوا كثير من السواد (3)، وسدوا ذلك الثغر العظيم، ولم يزل جميع ما فتحوه في أيديهم إلى نحو سنة 600هـ. ولا شك أن زنكي، أدرك، كما أدرك ولده من بعده مدى النتائج الإيجابية التي يمكن أن يؤدي إليها نظام التوريث هذا، وأهمها إخلاص جنده له، واستماتتهم في القضاء على ما يهدد إمارته من أخطار لما في ذلك من مصلحة لهم ولأولادهم الذين سيرثون إقطاعهم من بعدهم (4).
3 - نظام الإعداد القيادي (الأتابكية): وهي كلمة مشتقة من الكلمة التركية أتابك المركبة من المقطعين (أتا) بمعنى: أب و " بك " بمعنى أمير، وتعني " الوالد الأمير" وكان هذا اللقب يطلق على من يتولى تربية أبناء الملوك والسلاطين، ويرعى شؤونهم وكان الأتابك: هو الحاكم الأعلى في الأتابكية، وكان يلقب بالملك أيضاً، وله الإشراف على جميع شؤون المملكة أو الأتابكية، كما أنه يعد المسؤول الأول عن السياسية الخارجية، ومن حقه أن يعلن الحرب ويقود الجيوش، ويعين الولاة والقواد، فهو لذلك أشبه بالسلطان السلجوقي، كما أن له الحق في نقش اسمه على السكة، والدعاء له في الخطبة إلى جانب اسم الخليفة والسلطان (5).
وقد عرف عماد الدين زنكي بلقب (الأتابك) منُذ تعينه حاكماً على الموصل عام 521هـ، واشتهرت الإمارة التي أسسها باسم (أتابكية الموصل) والسلالة التي أعقبته في الحكم باسم الأتابكة،
_________
(1) الباهر ص 78، الكامل في التاريخ نقلاً عن عماد الدين ص 224.
(2) مفرج الكروب (1/ 280).
(3) المنطقة الزراعية المحيطة بحلب عماد الدين زنكي ص 225.
(4) كتاب الروضتين (1/ 111، 112).
(5) دولة الأتابكة في الموصل بعد عماد الدين زنكي ص 236.(1/64)
وقد بدأت تسمية زنكي بهذا اللقب في شعبان عام 521هـ عندما ولاه السلطان محمود الموصل وسلمه ولديه ألب أرسلان، وفرّوخ شاه (المعروف بالخفاجي) وجعله أتابكاً لهما (1)، وقد ترتبت على " أتابكية زنكي " نتائج عديدة، فقد كان عليه من الناحية الرسمية، أن يحكم باسم ألب أرسلان، أكبر الأميرين، وأن يخطب له، ولذلك أظهر للخلفاء والسلاطين وأصحاب الأطراف أن البلاد التي
يحكمها: إنما هي للملك ألب أرسلان (2)، وأنه نائب فيها: فكان إذا أرسل رسولاً أو أجاب على رسالة فإنما يقول: قال الملك: كذا (3) وكذا وكان هذا الإجراء من قبل زنكي لا يعدو أن يكون شكلياً، إذ أن السلطة الفعلية كانت متركزة في يده، ولم يكن لأحد من ابني السلطان محمود أية سلطة عملية، بل كانا أشبه بالمحتجزين، إذ فرق زنكي بينهما فجعل أحدهما في أحد معاقل سنجار، والآخر تحت اشراف زوجته في الموصل (4)، وقد استهدف من الخطبة لألب أرسلان إلقاء الصفة الرسمية " الشرعية " على سياسته وأعماله مستغلاً اسم الملك السلجوقي كما عمل زنكي على استغلال وجود هذين الملكين السلجوقيين، فقام بمحاولات ثلاث (525هـ - 529هـ) لتنصيب ألب أرسلان على عرش سلاجقة العراق بالاتفاق مع الخليفة العباسي ضد السلطان السلجوقي في اصفهان وقد استهدف من وراء ذلك جعل السلطة الفعلية لسلاجقة العراق بيده باسم السلطان الشرعي المنصب ولكن هذه المحاولات انتهت جميعاً بالفشل (5).
أ- محاولة انقلابية في الموصل: قامت مؤامرة ضد عماد الدين زنكي تزعمها الملك الخفاجي عام 539هـ أثناء غياب زنكي عن الموصل، إذ اتفق الخفاجي وأنصاره على اغتيال نصير الدين جقر نائب زنكي في الموصل ومن ثم السيطرة على المدينة وإعلان العصيان ضد زنكي ففي صباح الثامن أو التاسع من ذلك القعدة عام 539هـ ركب جقر في موكبه كعادته واخترق شوارع المدينة متجهاً إلى الدار التي يقيم فيها الملك الخفاجي للتسليم عليه (6)، فحسَّن المفسدون للملك قتله وقالوا له: إنَّك إن قتلته ملكت الموصل وغيرها ويعجز أتابك أن يقيم بين يديك، ولا يجتمع معه فارسان عليك فوقع هذا في نفسه وظنه صحيحاً، فلما دخل نصير الدين إليه كعادته وثب عليه جماعة في خدمة الملك فقتلوه، وألقوا رأسه إلى أصحابه، ظناً منهم أن أصحابه إذا رأوا رأسه تفرَّقوا، ويملك الملك البلاد وكان الأمر بخلاف ما ظنُوا، فإن أصحابه وأصحاب أتابك الذين معه لما رأوا رأسه قاتلوا من بالدّار مع الملك، واجتمع معهم الخلق الكثير، وكانت دولة عماد الدين مملؤة بالرّجال الأجلاد ذوي الرأي والتجربة، فلم يتغير عليه بهذا الفتق شيء (7).
_________
(1) وفيات الأعيان (1/ 315 - 316) عماد الدين زنكي ص 226.
(2) عماد الدين زنكي ص 227.
(3) الباهر ص 71 عماد الدين زنكي ص 227.
(4) عماد الدين زنكي ص 227.
(5) المصدر نفسه ص 227.
(6) المصدر نفسه ص 227.
(7) كتاب الروضتين.(1/65)
ب- دور العلماء في تثبيت عماد الدين: كان عماد الدين زنكي منشغلاً بمحاصرة البيرة سنة 539هـ وكانت هذه المدينة قد أوشكت على السقوط في يد عماد زنكي فورد إليه نبأ مقتل نائبه بالموصل نصير الدين جقر فانزعج كثيراً واضطر عماد الدين إلى الرحيل عن البيرة وأرسل نائباً عنه إلى الموصل لاستطلاع حقيقة الأمر وهو القاضي تاج الدين بن يحي بن الشهرزوري كان ملازماً لعماد الدين أثناء محاصرته للبيرة، فلما وصل تاج الدين إلى الموصل علم أن الملك السلجوقي ابن السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه كان وراء مقتل نصير الدين جقر ليملك الموصل في غياب عماد الدين عنها (1)، ولذلك قام القاضي تاج الدين بن الشهرزوري بخدعة كي يفسد على الملك السلجوقي زعيم الإنقلاب بالموصل مخططه، فدخل في الدار التي كان يحاصره فيها أصحاب جقر وأصحاب عماد الدين زنكي، وظل يخادعه بمعسول الكلام ويحسن له ما فعله مع جقر ويشجعه على الصعود إلى قلعة الموصل حتى يملكها ويكون في مأمن، حيث يوجد بها الأموال والسلاح فيستطيع بعد ذلك تملك الموصل، فاقتنع الملك السلجوقي بن محمود وخرج في صحبة القاضي تاج الدين وصعدا معاً إلى القلعة، وهناك قبض عليه وعلى من معه من أتباعه الذين قتلوا نصير الدين جقر، وبعد ذلك توجه القاضي تاج الدين إلى عماد الدين زنكي وبلغه بكل ما فعله فسكن جأشه وأطمأن قلبه (2)، ومما تقدم يتضح لنا مدى ما بلغه القاضي تاج الدين من الفطنة وحسن التصرف، مثل باقي أقاربه من بيت الشهرزوري الذين إمتلأت بهم دولة عماد الدين زنكي (3) وعين عماد الدين زنكي قائده زين الدين علي كجك ليحل محل جقر نائب الموصل المقتول ثم ذهب هو بنفسه بعد ذلك لإقرار الأوضاع هناك (4).
ج- سياسة عماد الدين مع الملك الآخر ألب أرسلان: أبدى زنكي، بعد مقتل الخفاجي، عطفه على الملك الآخر ألب أرسلان، فألغى احتجازه في أحد معاقل سنجار وعطف عليه وعين بتفاصيل أمره وعين له حراساً وموظفين لخدمته واهتم بمراسيم جلوسه وركوبه، وطالب رجاله بالاهتمام بأمره واحترامه وتلبية مطالبة وقد استهدف من هذه الإجراءات تغطية مقتل الملك الخفاجي (5)، كي لا يثير السلاجقة ضده ومحاولة منه لاستغلال ألب أرسلان لتحقيق أمله في المستقبل وذلك بالمطالبة بتوليته سلطنة العراق. بعد وفاة عمه السلطان مسعود، ليصبح زنكي المتحكم الفعلي باسم السلطان
الجديد (6).
_________
(1) دور الفقهاء العلماء المسلمين في الشرق الأدنى ص 113.
(2) الباهر ص 72 دور الفقهاء والعلماء ص 113.
(3) دور الفقهاء والعلماء المسلمين في الشرق الأدنى ص 114.
(4) عماد الدين زنكي ص 229.
(5) عماد الدين زنكي ص 229.
(6) المصدر نفسه ص 230.(1/66)
الفصل الثالث: علاقة عماد الدين زنكي بالخلافة العباسية والسلطنة السلجوقية:
تسلّم عماد الدين زنكي الموصل من الأمير جاولي وأقطعه الرحبة وأعمالها (1)، ثم انصرف إلى تنظيم جاولي وأقطعه الرحبة وأعمالها (2)، ثم انصرف إلى تنظيم شؤون إمارته إداريا وعسكريا مستنداً في ذلك إلى ما كان سائداً عند السلاجقة من نظم الحكم، فولَّى نصير الدين جقر قلعة الموصل، وفوَّض إليه أمر الولاية جميعها، وعيَّن الياغسياني أمير حاجب والقاضي الشهرزوري قاضي بلاده وما يفتحه من بلاده (3)، ثم انصرف إلى العمل على تحقيق هدفينَّ وضعهما نصب عينيه هما:
* تأسيس دولة وراثية وتوسيعها عن طريق ضّم المدن والامارات المحلية في الجزيرة وبلاد الشام، وتوحيدها مع إمارة الموصل.
* تكوين جبهة إسلامية متماسكة تستطيع مواجهة الصليبيين وتطردهم من الشرق الإسلامي، فدخل من أجل ذلك في علاقات سياسية عسكرية مع الأمراء المحليين.
ويبدو أنه لم يتمكن من المضي قدُماً في تحقيق هدفيه في بادئ الأمر، بسبب انغماسة في أحداث العراق، مما صرفه عن ميدان بلاد الشام، إذ شهد هذا البلد آنذاك صراعاً بين الخلافة العباسية والسلطنة السلجوقية من أجل الاستئثار بالنفوذ تدخل فيه عماد الدين زنكي، وانتهى بانتصار واضح لصالحه وتحديد مستقبله السياسي (4).
أولاً: محاولة عزل عماد الدين زنكي عن الموصل:
تراوحت علاقة عماد الدين بالخلافة العباسية والسلطنة السلجوقية بين التعاون المثمر والعداء الشديد وفقاً للمصلحة العامة والشخصية في الوقت نفسه، على أن هذه التقلبات لم تؤثر على مركزه في ولاية الموصل والجزيرة وبلاد الشام، فقد تعَّرض في بداية حكمه، لمحاولة استهدفت عزله عن منصبه وإحلال دُبَيس بن صدقة أمير الحلة مكانة، ذلك أن هذا الرجل كان قد التحق بخدمة السلطان سنجر، سلطان السلاجقة العظام في خراسان، وأضحى من أمرائه المقربين وحدث أن توجه محمود سلطان سلاجقة العراق إلى خراسان لتصفية المشاكل
_________
(1) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 88.
(2) الباهر ص 34.
(3) الباهر ص 34.
(4) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 89.(1/67)
القديمة مع عمه سنجر (1) وأثناء المباحثات التي جرت بينهما طلب سنجر من ابن أخيه محمود أن:
* يعزل عماد الدين زنكي عن الموصل والجزيرة وبلاد الشام ويوليها لدُبَيس.
* يطلب من الخليفة تحسين علاقاته به بعد المشاكل التي أثارها ضد الخلافة (2).
ويبدو أن محموداً استجاب لطلب عمه، فعندما وصل إلى بغداد في مطلع عام 523هـ/آخر عام 1128م) سعى لدى الخليفة المسترشد بالله لتحقيق ذلك، كما طلب من عماد الدين زنكي التخلي عن منصبه وتسليمه لُدبَيس (3).
كان هذا الطلب كافياً للقضاء على آمال عماد الدين زنكي وتطلعاته السياسية، لذلك تحرك على وجه السرعة لإحباط هذا التدبير، فقدم إلى بغداد، وتمكّن بعد مباحثات طويلة من إقناع السلطان بضرورة إبقائه على ولاية الموصل لمجابهة الصليبيين، كما أكَّد طاعته وإخلاصه له فخلع عليه وجّدد له ولايته، وكتب له منشوراً جديداً بحكم الموصل والجزيرة والشام، تأكيداً لمنشور عام 521هـ (4) وقد ساعدت عماد الدين زنكي مجموعة من العوامل على بقائه في منصبه منها ما بذله الخليفة من جهود لتثبيت زنكي على الموصل بدافع من كراهيته العميقة لدبيس، حتى أنه أرسل إلى السلطان محمود يقول له: إن دبيساً أعان الفرنجة ضد المسلمين فكيف توليه (5) وكان دبيس قد انضم إلى الصليبيين - وهو من الطائفة الشيعية الاثني عشرية - بعد هزيمة 517هـ وأسهم معهم في حصار حلب طمعاً بالاستيلاء عليها وحكمها نيابة عنهم.
* لم يكن أهالي بغداد أقل كراهية لدبيس وحقداً عليه من الخليفة نفسه، حتى أنهم تظاهروا ضده لدى دخوله العاصمة وراحوا ينددون به ويهتفون بالتأييد والدعاء للخليفة والسلطان (6) بسبب محاولات دبيس المتكررة لنهب بغداد وتخريبها (7). فضلاً عن مساعدته للصليبيين (8).
* ولم يكن في صالح السلطان محمود نفسه عزل زنكي عن الموصل وهو الذي وقف إلى جانبه في الظروف الحرجة، ولعله لم يقم بمحاولة العزل - أساساً - إلا تحت ضغط عمه
_________
(1) أخبار الدولة السلجوقية للحسيني ص 88 - 90.
(2) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (10/ 8 - 9).
(3) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 89.
(4) مفرج الكروب في أخبار بني أيوب (1/ 40).
(5) زبدة الحلب (2/ 244) عماد الدين زنكي ص 50.
(6) زبدة حلب (2/ 221 - 225).
(7) المنتظم (10/ 11).
(8) عماد الدين زنكي ص 51.(1/68)
سنجر صاحب السلطة العليا على السلاجقة، هذا فضلاً عن أن تعيين دبيساً في الموصل قد يتيح لسنجر أن يتخذ منه صنيعة ضد مصالح السلطان محمود في العراق (1).
ثانياً: صراع البيت السلجوقي على السلطنة بعد وفاة السلطان محمود:
أطمأن زنكي إلى ولايته طيلة الأعوام الأخيرة من حكم السلطان محمود وعند ما توفي هذا في منتصب عام 525هـ أرسل زنكي إلى الخليفة المسترشد يطلب منه أن يقيم الخطبة ببغداد للملك السلجوقي ألب أرسلان - وهو أحد الملكين اللذين انيطت بزنكي مهمة الإشراف على تربيتهما، إلا أن الخليفة اعتذر عن ذلك محتجاً (2).
1 - بصغر سن ألب أرسلان وبعدم صلاحيته للحكم.
2 - بأن السلطان كان قد عهد بالسلطنة من بعده وهو بأصفهان إلى إبنة داوود.
3 - بأن حكام الولايات قد بدأوا فعلاً بإقامة الخطبة له وأضاف، بأنه لن يقدم على اتخاذ أي إجراء بهذا الصدد قبل أن تصله رسالة من السلطان سنجر زعيم السلاجقة الكبار في خراسان (3). وهكذا فوَّت الخليفة فرصة ذهبية على عماد الدين زنكي للاستفادة من وفاة السلطان محمود، الذي لو نجح في اغتنامها لأتاحت له مجالات جديدة في العمل السياسي، ودفعته إلى الخروج عن الولاء للسلاجقة بتنصيب أحد أمرائهم المقيم تحت إشرافه في الموصل سلطاناً على سلاجقة العراق فيصبح بذلك المتحكم الفعلي في شؤون العراق باسم السلطان الجديد (4).
وفي العام التالي استطاع السلطان مسعود بن محمد - حاكم أذربيجان استمالة زنكي لمساعدته في المطالبة بعرض سلاجقة العراق، لقاء منحه مدينة أربل الحصينة شرقي الموصل، وتم الاتفاق بينهم على أن يتجها إلى بغداد لمطالبة الخليفة المسترشد بالخطبة لمسعود والاعتراف به سلطاناً على العراق (5)، إلا أن سلجوق شاه بن محمد - أخو مسعود الذي كان يطمح هو الآخر بعرش السلاجقة في العراق سبق أخاه إلى بغداد، وطالب الخليفة بالخطبة له فامتنع الأخير عن تنفيذ طلبه، ولما سمع سلجوق شاه باقتراب زنكي على رأس قواته الموالية لمسعود، أمر قائده (قراجا الساقي) بالإسراع في التوجه شمالاً لإيقاف تقدمه، فوصل إلى مشارف سامراء بأقل من يومين، ودارت المعركة بين الطرفين عند قصر المعشوق
_________
(1) المصدر نفسه ص 51.
(2) المصدر نفسه ص 51.
(3) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 91.
(4) عماد الدين زنكي ص 52.
(5) مفرج الكروب (1/ 97) عماد الدين زنكي ص 52.(1/69)
على الجهة المقابلة لسامراء، وانتهت بهزيمة زنكي وأسر عدد كبير من قواته، فلجأ بمن معه من فلول إلى تكريت (1) حيث أسرع وإليها نجم الدين أيوب بإقامة المعابر لهم، وإكرام ضيافتهم لحين عودتهم إلى الموصل (2)، وهناك استطاع زنكي أن يعيد تنظيم قواته، بعد أن أنفق عليها أموالاً كثيرة وجهزه بالمؤن والمعدات (3).
ثالثاً: موقف السلطان سنجر من الأحداث:
كان السلطان سنجر يراقب تطورات الأحداث السياسية في العراق، بهدف انتهاز فرصة للتدخل والهيمنة على مقدرات الأمور واخضاع سلاجقة العراق لإشرافه المباشر. وحتى يدعم موقفه، رأى أن يستقطب كلاً من عماد الدين زنكي ودُبيس بن صدقة، فطلب منهما التوجه إلى بغداد والاستيلاء عليها وإقامة الخطبة فيها له ولخليفته الملك طغرل بن محمد بن محمود، وتعهد بإضافة شحنكية بغداد إلى عماد الدين زنكي، وبإقطاع الحلة لدُبَيس (4) فوافق عماد الدين زنكي على هذا العرض لاعتقاده بأن النصر سيكون حليف سنجر، وبذا يستطيع أن يحقق مزيداً من مطامعه أدرك كل من مسعود وسلجوقشاه أن الصراع بينهما سوف يتيح الفرصة لتدخل عمهما سنجر ويقضي على مصالحهما في العراق فعقد صلحاً بينهما ووحَّدا قواتهما للوقوف في وجهه، لكن سنجر انتصر على جيوشهما، وأجلس طغرل بن محمد علي عرش سلاجقة العراق في شهر جمادي الآخرة عام 526هـ/ شهر نيسان عام 1132 (5). في هذه الأثناء كان عماد الدين زنكي ودُبيس قد اقتربا من بغداد، واشتبكاً مع قوات الخليفة في " أواخر شهر رجب/ شهر آيار" وحلَّت بهما الهزيمة، فتراجع عماد الدين زنكي إلى الموصل، وقام دُبيَس بمحاولة فاشلة لاستعادة الحلة (6) واستطاع مسعود، بعد سلسلة من الحروب، أن يقضي على منافسيه ويجلس على عرش سلاجقة العراق بموافقة سنجر في شهر صفر عام 527هـ/شهر كانون الأول عام 1132م.
- نتائج تلك الحروب: كان للحروب التي حدثت بين السلاجقة فيما بينهم من جهة، ثم فيما بينهم وبين الخلافة العباسية من جهة أخرى، واشتراك عماد الدين زنكي فيها نتائج هامة على وضعه السياسي والعسكري منها:
_________
(1) المنتظم (10/ 25) الباهر ص 43.
(2) الباهر ص 119 - 120 عماد الدين زنكي ص 52.
(3) الباهر ص 43 عماد الدين زنكي ص 52.
(4) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 93.
(5) المصدر نفسه ص 92.
(6) الباهر ص 45، 46 تاريخ الزنكيين في الموصل ص 93.(1/70)
1 - أنه خسر علاقته الودية بالسلطنة السلجوقية التي استفاد منها في أيام السلطان محمود، إلا أنه حصل على مدينة إربل المهمة عسكرياً.
2 - اتسعت شهرته كأمير ذي قوة مؤثَّرة في الصراع الدائر في المنطقة.
3 - خرج من تلك الحروب وقد تعرَّف على عائلة بني أيوب، مما سيكون له أثر كبير في تطور هذه العائلة، وازدياد نشاطها.
4 - تدهورت العلاقات بينه وبين الخلافة العباسية (1).
رابعاً: محاصرة الموصل: أرسل المسترشد بالله إلى عماد الدين الإمام أبا الفتوح الاسفرايني، فأغلط له في القول فأهانه عماد الدين وعاد إلى المسترشد بالله فسار إلى الموصل بثلاثين ألفا سنة 527هـ (2)، وحصرها في 20 رمضان فنزل زنكي بالموصل نائبه نصير الدين وسار هو إلى سنجار ليقطع المسيرة عن عسكر الخليفة واستمر الحصار ثلاثة أشهر وعاد الخليفة إلى بغداد يوم عرفة وسبب هذا الحصار سير عماد الدين زنكي السابق إلى بغداد، واختلاف سلاطين السلاجقة، وإهانة زنكي لرسول
الخليفة (3)، لم يتمكن جيش الخليفة من اقتحامهم الموصل وكان عماد الدين في غضون ذلك يشن الهجمات عليه، حتى أضحى محاصراً، فتناقضت أقواته وساء وضعه القتالي (4). وعلى الرغم من هذا الموقف الصعب الذي وجد الخليفة فيه نفسه إلا أن عماد الدين زنكي لم يتمكن من النيل منه، وكان تراجع الخليفة العسكري الذي حصل بعد ذلك نتيجة لعوامل خارجية. إذ استغل السلطان مسعود فرصة انهماك الخليفة بحصار الموصل فتوجه إلى بغداد لتعزيز مركزه فيها، واستغاث بُدَبيس بن صدقة للاستيلاء عليها (5) تلقى الخليفة هذه الأنباء المقلقة، وهو يحاصر الموصل، ففكَّ الحصار عنها وعاد إلى بغداد ليدافع عن عاصمته، فوصل إليها في العاشر من شهر ذي الحجة (6). وبذلك تخلص عماد الدين زنكي من الخطر الذي كاد يقضي على آماله (7)،.
_________
(1) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 93.
(2) زبدة حلب نقلاً عن الحروب الصليبية والأسرة الزنكية ص 75.
(3) الكامل في التاريخ نقلاً عن الحروب الصليبية ص 75.
(4) الكامل في التاريخ (8/ 696).
(5) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 94.
(6) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الزنكيين في الموصل ص 94.
(7) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 94.(1/71)
خامساً: التوتر بين عماد الدين والسلطان مسعود:
أجرى الخليفة المسترشد بالله العباسي مفاوضات ناجحة مع عماد الدين زنكي وعُقد الصلح بين الجانبين في مطلع عام 528هـ أواخر عام 1133م وتبودلت الهدايا، وأرسل عماد الدين زنكي ابنه سيف الدين غازي إلى الخليفة ليؤكد طاعته وولاءه له (1) واستنجد الخليفة بزنكي عام 529هـ أثناء صراعه مع السلطان مسعود وكان عماد الدين زنكي آنذاك يحاصر دمشق، ففك الحصار عنها، وعقد صلحاً مع حكومتها حتى لا يُطعن من الخلف وعاد مسرعاً إلى بغداد لنجدة الخليفة إلا أنه وصل متأخراً، إذ انتصر السلطان مسعود على الخليفة المسترشد في المعركة التي دارت بينهما في العاشر من شهر رمضان ووقع في السر، وظل مأسوراً حتى منتصف ذي القعدة، حين هاجمه جماعة من الباطنية وقتلوه (2) وقد فصلت في سيرة المسترشد بالله العباسي في كتابي عن دولة السلاجقة والمشروع الإسلامي لمقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي. هذا وقد أخذت البيعة بعد مقتل المسترشد بالله لابنه أبو جعفر منصور الملقب بالراشد بالله (529هـ -530هـ) بموافقة السلطان مسعود (3)، وهكذا ضاعت فرصة أخرى من يد عماد الدين زنكي للسيطرة على العراق (4)، ونتيجة لهذه التطورات السياسية ازداد التوتر بين عماد الدين زنكي والسلطان وقد بلغ حداً دفع الثاني إلى تدبير مؤامرة لاغتيال الأول حتى يتخلص من خطره بشكل نهائي فاستدعاه إلى أصفهان، لكن دُبَيساً أخبره. بنواياه وحذَّره من التوجه إلى بلاطه، فامتنع عن الذهاب، ولما علم السلطان بما فعله دُبيس قتله على الفور (5).
وكان عماد الدين زنكي قد أحسن لصدقه فعندما وقع في يدي تاج الملوك حاكم دمشق طلب عماد الدين من أمير دمشق أن يسلمه دُبيساً وإن امتنع عن تسليمه سار إلى دمشق وحصرها وخرّبها ونهب بلدها فأجاب تاج الملوك إلى ذلك، وأرسل عماد الدين سونج بن تاج الملوك والأمراء الذين معه، وأرسل تاج الملوك دُبيساً، فأيقن دُبيس بالهلاك ففعل زنكي معه خلاف ما ظن وأحسن إليه وحمل له الأقوات، والسلاح والدواب وسائر أمتعة الخزائن وقدمه على نفسه وفعل معه ما يفعل مع أكابر الملوك (6). ولما سمع عماد الدين زنكي بمقتل دبيس بن صدقة قال: فديناه بالمال وفدانا بالروح (7) وذكر ابن كثير بأنه فداه بخمسين ألف دينار ومالبثت العلاقات أن تدهورت بين
_________
(1) المنتظم (10/ 34) الباهر ص 47 - 48.
(2) عماد الدين زنكي ص 57.
(3) المصدر نفسه ص 57 تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 95.
(4) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 95.
(5) المنتظم (10/ 53) تاريخ الزنكيين ص 95.
(6) الكامل في التاريخ (8/ 680).
(7) واقع التربية الإسلامية في عهد نور الدين ص 17.(1/72)
الخليفة الجديد وبين السلطان مسعود واجتمع لدى الراشد عدد من الأمراء المناهضين للسلطان، وجندوا له العمل على إسقاطه والمجئ بسلطان جديد يرتضونه (1) وفي مستهل صفر عام 530هـ وصل زنكي بغداد قادماً من الشام بعد أن استدعاه الراشد واتفق معه على إعلان الخطبة لألب أرسلان المقيم في الموصل (2)، وانضم إلى الأمراء الذين كانوا قد حرضوا الخليفة على إعلان العصيان ضد السلطان مسعود (3)، وجد الخليفة أن الفرصة قد سنحت للبدء بالعمل، فألغى الخطبة لمسعود وحولها لداود بن محمود، خلافاً لما تم الاتفاق عليه مع زنكي (4).
وقام السلطان الجديد بتعيين شحنة له في العراق، ولم يمض على ذلك سوى وقت قصير حتى دبت الخلافات بين الراشد وسائر الأمراء بسبب المنافسات والأحقاد القديمة (5) واتفق المتحالفون على توجيه ضربتهم للسلطان مسعود في بلاد فارس نفسها، إلا أنهم ما أن قطعوا مسافة قصيرة حتى ورد خبر بتوجه مسعود على رأس قواته صواب بغداد، فارتأوا أن يعودوا إليها لاتخاذ الإجراءات الدفاعية اللازمة لصد الهجوم (6) ومالبث السلطان مسعود أن فرض الحصار على بغداد، وجرت مناوشات ومعارك جانبية بين الطرفين لم تستقر عن نتيجة حاسمة وسعى الخليفة إلى إحلال الصلح وإنهاء الصلح وإنهاء دون جدوى وأخذت الأوضاع داخل بغداد تزداد سوءاً يوماً بعد يوم (7)، ونجح السلطان مسعود في دخول بغداد وخلعه عن سدة الخلافة وولىّ المقتفي لأمر الله مكانه في شهر ذي الحجة عام 530هـ أيلول عام 1136م (8)، وغادر الراشد بغداد متوجهاً إلى الموصل بصحبة عماد الدين زنكي، والجدير بالذكر أن الخطبة للمقتفي اقتصرت على بعض أنحاء العراق بينما استمرت مناطق الموصل والجزيرة وبلاد الشام تخطب للراشد الذي كان يتمتع بحماية عماد الدين زنكي (9).
سادساً: مصالحة عماد الدين زنكي للسلطان مسعود:
لم يدم التحالف طويلاً بين عماد الدين زنكي والراشد فقد شعر كل منهما بضعف موقفه أمام موقف السلطان والخليفة الجديد لذلك أسرعا بإرسال الرسل للتوسط لديهما
_________
(1) عماد الدين زنكي ص 58.
(2) النجوم الزاهرة (5/ 358) عماد الدين زنكي ص 58.
(3) المنتظم (10/ 55) عماد الدين زنكي ص 58.
(4) مفرج الكروب (1/ 64) عماد الدين زنكي ص 58.
(5) عماد الدين زنكي ص 59.
(6) المنتظم (10/ 57) مفرج الكروب (1/ 65).
(7) عماد الدين زنكي ص 60.
(8) مفرج الكروب (1/ 65، 66) تاريخ الزنكيين في الموصل ص 95.
(9) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 96.(1/73)
وإنهاء حالة الحرب (1)، وأضحى عماد الدين زنكي على الرغم من ضعف موقفه، القوة التي تتطلع إليها الأطراف المتنازعة لاستقطابها، وهكذا استمالة أعوان المقتفي، إلى جانبهم وكافأة الخليفة، بأن أقطعه بعض أملاكه وزاد في ألقابه (2)، واضطر تحت ضغط الأحداث السياسية والعسكرية إلى التخلي عن حليفه الراشد كانت التقلبات السياسية السريعة بعماد الدين زنكي تهدف إلى ضمان استمرار حكمه، وتحقيق وحدة الصف الإسلامي في الموصل والجزيرة والشام لتكوين جبهة إسلامية موحّدة تقف في وجه الصليبيين (3)، وكان من الطبيعي أن تتحسن العلاقات بينه وبين السلطان مسعود الذي أرسل إليه في شهر ربيع الأول عام 532هـ/ شهر تشرين الثاني عام 1137م التشريف الكامل والخلع (4)، وأدرك عماد الدين زنكي خطورة الأوضاع في شمالي الشام بفعل تهديد الصليبيين لمدينة حلب التي كانت تعاني من الفوضى في ظل صراع على السلطة بعد وفاة حاكمها إيلغازي الأرتقي في شهر رمضان عام 516هـ/1122م، فأرسل قاضيه الشهرزوري ليشرح للسلطان هذا الوضع، ويطلب منه مساعدة عسكرية لإبعاد الصليبيين عن المنطقة (5)
ونجح الشهر زوري في مهمته، وتمكّن من إقناع السلطان بإمداده بقوة عسكرية إلا أن رسالة عاجلة وصلت إلى بغداد من عماد الدين زنكي، أفادت بأن الصليبيين رحلوا عن حلب، وأنه لم يعد بحاجة، إلى المدد العسكري وتدليلاً على العلاقات الجيدة بين السلطنة السلجوقية والدولة الزنكية، فقد أرسل السلطان مسعود رسالة تهنئة إلى عماد الدين زنكي وهو على أبواب حمص بمناسبة انتصاره على الصليبيين وخلع عليه الخلع السلطانية، إلا أن هذه العلاقات تبدَّلت في عام 538هـ/1143م حين حاول السلطان مسعود الذي خشي من طموحات عماد الدين زنكي واتساع رقعة إمارته، وتنامي قوته العسكرية، توجيه ضربة حاسمة له، معتقداً بأنه وراء القلاقل التي كان يقوم بها أمراء الأطراف ضد حكمه في العراق وأن هؤلاء لا يلتزمون بسياسته والراجح أن عماد الدين زنكي هدف إلى إلهاء السلطان لمنعه من مضايقته وبذلك يستطيع وهو مطمئن أن يؤطد نفوذه في الموصل ويوسع رقعة أملاكه على حساب الأمراء المسلمين المجاورين، ويحارب الصليبيين (6). ولما علم بنوايا السلطان أرسل إليه يستعطفه ويستميله وفعلاً جرت مفاوضات بين الطرفين أدّت إلى إعادة الوفاق بينهما وكان من أهم بنود الصلح أن:
_________
(1) تاريخ الزنكيين في الموصل وفي بلاد الشام ص 96.
(2) الباهر نقلاً عن تاريخ الزنكيين في الموصل ص 96.
(3) تاريخ الزنكيين في الموصل ص 96.
(4) المصدر نفسه ص 96.
(5) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الزنكيين ص 96 ..
(6) تاريخ الزنكيين ص 97.(1/74)
- يدفع عماد الدين للسلطان مبلغ مائة ألف دينار.
- يتنازل له عن بعض إقطاعاته.
- يحضر شخصياً إلى بلاطه لإعلان الطاعة (1).
- والواضح أن تراجع السلطان عن موقفه العدائي تجاهه يعود إلى أمرين:
الأول: أنه أدرك خطورة الوضع في الجزيرة وشمالي الشام حيث غدا الصليبيون يشكلون خطراً مباشراً على المنطقة وأن عماد الدين زنكي هو القوة الوحيدة التي يمكن أن تقف في وجههم، وترغمهم على التراجع.
الثاني: أنه جوبه بمعارضة شديدة من رجال دولته ومواطنيه من أجل إبقاء إمارة الموصل كحاجز قوي متماسك أمام أطماع الصليبيين، وقد أوضحت هذه المعارضة أن عماد الدين زنكي هو الأمير الوحيد في المنطقة الجدير بالتصدي لتلك الأطماع وأن القضاء عليه يعني فتح الطريق أمام الصليبيين في
العراق (2) بعد إقرار الصلح، أرسل عماد الدين زنكي عشرين ألف دينار كدفعة أولى تنفيذاً للبند الأول من الاتفاق، ثم تنازل السلطان عن المبلغ المتبقي بهدف استقطابه وكسب وده حتى لا ينضم إلى أمراء الأطراف الذين خرجوا عن حكمه، كما تغاضى عن تنفيذ البند الخاص بحضوره إلى البلاد السلجوقي، وعذره بسبب انهماكه في جهاد الصليبيين إلا أنه اشترط عليه فتح الرها (3).وقامت علاقات عماد الدين زنكي مع الخليفة العباسي المقتفي لأمر الله على الود والتعاطف، واستمَّرت الصلات المتبادلة بينهما، وازدادت هذه العلاقات وثوقاً بعد أن فتح عماد الدين زنكي الرها في عام (539هـ/1144م) حيث منحه عدداً من الألقاب، كالأمير الكبير، العادل، المؤيد، المظفر، المنصور (4). وهكذا يتضح أن عماد الدين زنكي اتبع سياسة مستقلة إلى حد كبير، تجاه علاقته بكل من الخليفة العباسي والسلطان السلجوقي، وأضحى يشكل قوة مؤثرة ضاغطة في الأحداث التي شهدها العراق مستغلاً علاقات الخلافة المتقلبة بالسلطنة السلجوقية لتحسين وضعه السياسي غير أن هذه السياسية لم تؤدَّ إلى استقرار وضعه بل على العكس هدَّدت حكمه بين الفينة والفينة، ولولا نجاحه في مقاومة الصليبيين وإقامة إمارة حاجزة في الموصل، بينهم وبين العراق لكان من المحتمل أن تتعَّرض إمارته لخضات سياسية شديدة وخطيرة، ربما أودت بجهوده في بناء دولة (5).
_________
(1) المنتظم (10/ 108) الباهر ص 65.
(2) تاريخ الزنكيين في الموصل ص 98.
(3) الباهر ص 65 تاريخ الزنكيين في الموصل ص 98.
(4) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 98.
(5) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 98.(1/75)
الفصل الرابع: توسع عماد الدين في شمال بلاد الشام وإقليم الجزيرة
521هـ - 541هـ/1127 - 1146م
بدأ عماد الدين زنكي محاولاته لتوحيد المنطقة بضم المدن التي حوله والقريبة منه، بسبب ضعفها وتفرقها وضيق مساحتها وكان ولاة الموصل الذين سبقوه قد عجزوا عن اكتساحها وبالتالي عن تحويل السلطة الرسمية التي منحهم السلاجقة إياها، بحكم الموصل والجزيرة وشمالي الشام، إلى سلطة فعلية، ولذلك سعى زنكي للقضاء على هذه المواقع المستقلة كي تغدو سلطته في هذه المناطق أمراً واقعاً. كانت البوازيج - الواقعة على طريق الموصل، عند مصب الزاب الأسفل - أولى المواقع التي استولى عليها زنكي وذلك لدى توجهه إلى الموصل عام 521هـ لتولي مهام منصبه، مستهدفاً من وراء ذلك اتخاذها خط رجعه له لحماية ظهره في حالة تصدي - وصي حاكم الموصل - لزحفه ثم استمر في سيره نحو الموصل، وعندما وصل جاولي نبأ تقدمه على رأس قوات حاشدة، يحمل معه منشور السلطان بحكم الموصل أدرك أن ليس في طاقته التصدي له وآثر السلامة، فخرج لاستقباله، يصحبه أمراء الموصل وقادتها، وما أن التقى به حتى ترجل وقبل الأرض بين يديه وأعلن طاعته له، فأقطعه زنكي مدينة الرحبة وأعمالها، وسيره إليها (1).
أولاً: جزيرة ابن عمر 521هـ: بعد أن رتب عماد الدين زنكي أوضاعه في الموصل، أراد الانتقال إلى جزيرة ابن عمر وسار بقواته إليها بمجرد وصوله إلى مشارفها، علم أعيانها وسكانها بقدومه فخافوا منه وامتنعوا عن استقباله وأغلقوا أبواب المدينة في وجهه، فضرب عماد الدين حصاره حولها وبدأ بمراسلة أعيان المدينة ومماليك البرسقي، وحاول إقناعهم بالمهادنة وبذل لهم الوعود الكثيرة إن سلموا المدينة، غير أنهم امتنعوا عن موافقته، وعند ذلك قرر عماد الدين قتالهم وإخضاع المدينة عنوة. وكان مجرى دجلة يفصل بين جيش عماد الدين والمدينة فأمر قواته بعبور النهر إلى المدينة، فمنهم من عبر بالسفن، وبعضهم بالأكلاك (2). ولما تكاثر جيش عماد الدين وشدّد حصاره على المدينة، كان السكان قد
_________
(1) عماد الدين زنكي ص 69، 70.
(2) تاريخ جزيرة ابن عمر ص 121.(1/77)
خرجوا إلى منطقة بين الجزيرة ودجلة تعرف بالزلاقة وكانوا بخروجهم يحاولون منع جيش عماد الدين من إكمال عبوره، ولكن عساكر عماد الدين تمكنوا من العبور وشددوا الحصار على المدينة، وجرت مناوشات بين مماليك البرسقي والمهاجمين، ظهر فيها التباين بين القوتين، ولم يمضي وقت طويل حتى انهزم جماعة البرسقي. ولما رأى أهالي الجزيرة أن ميزان المعركة ليس في صالحهم، ضعفوا وأيقنوا أن على المدينة أن تستسلم أفضل من دخولها عنوة. فبعثوا إلى عماد الدين، يطلبون منه الأمان فاستجاب لطلبهم واستلم المدينة (1)، ولعله بدأ بمهاجمة هذا الموقع قبل غيره من المدن والقلاع بسبب قربه من الموصل وأهميته العسكرية والاقتصادية (2).
ثانياً: حلب 522هـ:
تعد حلب ذات أهمية بالغة لأية قيادة عسكرية وسياسية تسعى لمجابهة الصليبيين، بفضل ما تتمتَّع من حصانة عسكرية، ومركز متميز، وإمكانات اقتصادية وبشرية وسياسية هامة، بالإضافة إلى موقعها على خطوط المواصلات بين فارس والعراق من جهة وبين الشام وآسيا الصغرى من جهة أخرى، ثم بين إمارتين صليبيتين هما الرها وأنطاكية، وغدت منُذ عهد طويل، قاعدة لا يمكن بدونها السيطرة على الجهات الشمالية والوسطى من بلاد الشام في الوقت الذي يمكنها فيه الاتصال بالقوى الإسلامية المنتشرة في الجزيرة والفرات والأناضول وشمالي بلاد الشام وأواسطه، مما يعد أساساً حيوياً لاستمرار حركة الجهاد، وتحقيق أهداف حاسمة ضد الصليبيين، لذلك كان ضمها من قبل أي قائداً إسلامي، بمثابة فتح الطريق أمامه لتبؤ مركز القيادة في حركة الجهاد (3). وساعدت الظروف السياسية التي كانت تمر بها إمارة حلب التي وجدت نفسها في حالة شديدة من الفوضى، عقب وفاة الأتابك عز الدين مسعود بن البُرسقي في عام 521هـ/ 1127م) وتعدُّد المطالبين بالسلطة وتنازعهم، فقد استأثر قتلغ أبه نائب الأتابك المتوفى، بإدارة شؤونها (4)، في الوقت الذي طمع فيه جوسلين الثاني امير الرها، وبوهيمند الثاني أمير أنطاكية لاتخاذها قاعدة لمد نفوذه باتجاه الشرق والجنوب الشرقي وشنَّ الصليبيون هجمات عنيفة للاستيلاء عليها رافقها تدهور حاد في أوضاعها الاقتصادية، وانتشار الخوف والقلق بين السكان (5)، مما دفع هؤلاء إلى الالتفاف حول نائب حلب السابق سليمان بن عبد الجبار الأرتقي وقد تزعم الثورة ضد قتلغ أبه الذي اتصف بالتعسف (6)،
ويبدو أن سليمان لم يتمكن من وضع
_________
(1) المصدر نفسه ص 121.
(2) عماد الدين زنكي ص 71.
(3) المصدر نفسه.
(4) تاريخ الزنكيين في الموصل ص 100.
(5) الباهر ص 34، 37 - 38.
(6) زبدة حلب (1/ 431) تاريخ الزنكيين ص 101 ..(1/78)
حد لتدهور الأوضاع على الرغم من أنه عقد هدنة مع جوسلين الثاني تنازل له بموجبها عن بعض المناطق الزراعية المحيطة بالجهات الغربية لحلب (1)، لكن، يقظة عماد الدين زنكي أفسدت على الجميع خططهم ومشاريعهم وقد سعى إلى ضَّم حلب بوصفه يملك منشوراً من السلطان السلجوقي بحكم الموصل والجزيرة وبلاد الشام، ومهَّد لخطواته هذه بإرسال الرسل إليها حتى يشرحوا لسكانها أحقيته في تولي أمورها، كما أرسل حاجبه الياغسياني لتنظيم أمورها الإدارية وتمهيد الطريق له لدخولها، ثم غادر الموصل في طريقه إليها وضّم في طريقه بزاعة (2)، ومنيح، ولما وصل إلى مشارف المدينة في شهر جماد الآخرة عام 522هـ شهر جزيران عام 1128م خرج سكانها لاستقباله آملين ببدية عهد جديد من الأمن والاستقرار بعدما سئموا من الفوضى التي سادت مدينتهم، فدخل القلعة وبدأ بتنظيم أمورها، وأقطع أعمالها لأمرائه وأجناده (3) وحتى يثبت أقدامه في حلب ويقطع الطريق على المفسدين ضايق عماد الدين زنكي زعماء المدينة المعارضين لحكمه وذوي المصالح القديمة فيها، فقضى على بعضهم وفَّر البعض الآخر من وجهه، فقتل قتلغ أبه، وفَّر إبراهيم بن رضوان ابن تتش إلى نصيبين وغادر سليمان بن عبد الجبار المدينة والتجأ فضائل بن بديع رئيس حلب السابق إلى قلعة جعبر القريبة من حلب (4).
وبذلك تحققّت الوحدة بين الموصل وحلب، مرة أخرى وحصل عماد الدين زنكي على موقع هام، وأمن جانب المعارضة، وتهيأت له الفرصة للتدخل في الأوضاع السياسية لبلاد الشام لتوحيد صفوف المسلمين ومجابهة أخطار الصليبيين، كما أدَّى ذلك إلى عزل إمارة الرها عن بقية الإمارات الصليبية في الغرب والجنوب (5).
ثالثاً: سنجار والخابور وحّران وإربل والرقة:
1 - سنجار والخابور: لم يتعرض زنكي - حين توجهه إلى حلب - للمدن والحصون الواقعة على الطريق بينها وبين الموصل، إذ كانت الظروف تستدعي منه أن يضع يده على حلب أولاً، ثم ينطلق لغرض سيطرته على المواقع الأخرى من أجل تأمين الطريق إلى الشام وما أن أقّر الأوضاع في المدينة المذكورة حتى اتجه في أواخر عام 522هـ للاستيلاء على سنجار والمناطق المجاورة (6) وفرض الحصار عليها، إلا أن أهاليها امتنعوا عليه، وإذ لم يروا من مقاومتهم جدوى إزاء إصرار زنكي على اقتحام المدينة، اضطروا إلى مصالحته وتسليم
_________
(1) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الزنكيين ص 101.
(2) بزاعة: بلدة من أعمال حلب في وادي بطنان بين منبج وحلب.
(3) الحروب الصليبية د. سهيل زكار (2/ 678).
(4) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 101.
(5) المصدر نفسه ص 101.
(6) عماد الدين زنكي ص 74.(1/79)
سنجار إليه (1). ثم ما لبث أن أرسل من هناك بعض قواته إلى الخابور (2)، حيث تمكنت من الاستيلاء عليه (3). وكانت سنجار تقع وسط الطريق بين الموصل وحلب، وتشكل منطلقاً للسيطرة على المناطق الأخرى (4) ولذا فقد حقق زنكي باستيلائه عليها نصراً هاماً (5).
2 - ضُّم حَّران: كانت حّران تابعة لعز الدين مسعود بن البُرسُقي وكانت قد تعرضت بعد وفاته لتهديدات الصليبيين الذين كانوا قد استولوا على بعض المواقع القريبة منها كالرها وسروج، فاستدعى أهلها عماد الدين زنكي في عام 523هـ/1129م إذ انتهت المشكلة بوفاة سوتكين (6).
3 - ضُّم إربل: أدرك عماد الدين زنكي أهمية أربل العسكرية بالنسبة للموصل، إذ هي بمثابة الباب الشرقي الذي يصلها ببلاد فارس والمشرق، ونقطة الدفاع الرئيسية في الطريق الذاهب غرباً صوب الشام، وعندما أتيحت له فرصة مهاجمتها لم يتردد رغم كونها ممتلكات مسعود بن محمد السلجوقي سلطان أذربيجان فهاجمها عام 526هـ وشدد النكير عليها، إلا أن حاميتها استطاعت أن تصمد لحين تقدم السلطان مسعود لنجدتها، فاضطر زنكي إلى الانسحاب، ثم رأى مسعود أن يضحي بهذا الموقع كي يكسب زنكي إلى جانبه في صراعه ضد منافسيه من أجل الحصول على عرش سلاجقة العراق، فوافق الأخير على اتفاق كهذا يتيح له ضم موقع هام إلى إمارته قد يساعده في المستقبل على التوغل شرقاً، وبعد أن أخذ كل من الحليفين العهود من صاحبه تسلم زنكي أربل وعين فيها نائباً عنه (7).
4 - ضُّم الرقة (8): مّر عماد الدين زنكي بالرقة في عام 529هـ/1135م) وهو في طريقه إلى دمشق في محاولة لضمّها فرأى أن يضمها إلى أملاكه، فانتهز هذه الفرصة ونَّفذ خدعة ذكية فأعلن رغبته بالاستحمام في حمام البلد، فقام حاجبه الياغسياني بتدبير هذا الأمر واتفق مع مسَّبب بن مالك صاحب الرقة الذي لم يشك في نوايا عماد الدين زنكي ورجاله، على السماح للجيش بدخول المدينة، وما أن أصبح آخر جندي داخل السور حتى أمر عماد الدين زنكي قواته لاستيلاء على المدينة، فأبعد المسيَّب وأقطعها أحد أمرائه (9).
_________
(1) الباهر ص 37 الكامل في التاريخ (8/ 661).
(2) عماد الدين زنكي ص 74.
(3) الباهر ص 37 الكامل في التاريخ (8/ 661).
(4) عماد الدين زنكي ص 74.
(5) المصدر نفسه ص 74.
(6) مفرج الكروب (1/ 84) تاريخ الزنكيين ص 102.
(7) مفرج الكروب (1/ 97) عماد الدين زنكي ص 76.
(8) مدينة على الفرات بينها وبين حّران ثلاثة أيام معدودة.
(9) زبدة حلب (2/ 450) تاريخ الزنكيين ص 76.(1/80)
6 - ضُّم دقوقا (1) وشهرزورا (2) وضم عماد الدين زنكي دقوقاً في عام 531هـ/1137م عنوة (3)، ودخل بعد ثلاث سنوات قلعة شهرزور الواقعة وسط سهل واسع يمتد من إربل إلى همذان ويقطنه الأكراد (4) وقد ارتبط هذا الضُّم بالمدى الذي وصلت إليه العلاقات بين الأمير قفجاق ابن أرسلان تاش التركماني حاكم شهرزور وبين السلطان السلجوقي مسعود فخشي عماد الدين زنكي أن يتناول الأمير التركماني عن بعض أملاكه للسلطان ومنها شهرزور فيغدو مجاوراً لإمارة الموصل، فيشكل عندئذ خطراً جَّدياً عليه (5).
6 - التوسع باتجاه الجنوب: توسع عماد الدين زنكي بين عامي (536هـ- 538هـ/1141 - 1143م) في الجنوب الغربي، فضَّم الحديثة الواقعة على الفرات (6)، وعانة القريبة منها (7)، وفي عام 541 هـ /1146م كان قد بلغ درجة من القوة مما دفعه إلى ضَّم قلعة جعبر المطلة على الفرات، عملاً بخطته القاضية: بألاَّ يبقى وسط بلاده ما هو ملك لغيره (8). وكانت هذه القلعة تحت حكم العقيليين، فهاجمها على حين غرَّة وحاصرها، وتوغلت قواته في ربضها واستمر القتال حتى اليوم الخامس من شهر ربيع الآخر، حيث اغتيل عماد الدين زنكي، فساد الاضطراب صفوف جيشه، فاضطر أفراده إلى فك الحصار (9)، مما سنبحثه مفصلاً بإذن الله تعالى.
رابعاً: علاقة عماد الدين زنكي بالأكراد:
1 - بنو أيوب حكام تكريت 526هـ - 541 هـ: تعتبر علاقة عماد الدين زنكي بالبيت الأيوبي الكردي متميزه وبدأت هذه العلاقة في الثاني عشر من ربيع الآخر عام 526هـ عندما انهزم زنكي في أعقاب المعركة التي دارت بينه - كحليف للسلطان مسعود وبين قوات الملكين طغرل وداود المنافسين للسلطان المذَّكور (10) وانسحب بفلول جيشه نحو تكريت التي كان يحكمها نجم
_________
(1) دقوقاً: مدينة بين إربل وبغداد الحموي (8/ 459).
(2) شهرزور: كورة واسعة في الجبال بين إربل وهمذان.
(3) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الزنكيين ص 103.
(4) معجم البلدان.
(5) الباهر ص 57 - 58 تاريخ الزنكيين ص 104.
(6) تقع على جزيرة وسط الفرات وهي غير حديثة الموصل.
(7) عانة: بلد مشهور، بين الرقة وهيت يعد في أعمال الجزيرة.
(8) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الزنكيين ص 104.
(9) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الزنكيين ص 104.
(10) عماد الدين زنيك ص 76.(1/81)
الدين أيوب (1)، فأقام هذه المعابر على دجلة وجهز عدداً من السفن لنقله وقواته إلى الضفة الأخرى التي تقع عليها مدينة تكريت وهناك أحسن نجم الدين إلى زنكي وجنده، وداوى جراحهم، وقدم إليهم سائر ما يحتاجون إليه، وبعد أسبوعين غادر زنكي وأتباعه تكريت مودعين بمثل ما استقبلوا به من حفاوة وإكرام (2) وأخذ يرسل الهدايا إلى نجم الدين تباعاً اعترافاً منه بفضله وحسن ضيافته (3). وعندما بلغ
بهروز- شحنة بغداد - موقف نائبه في تكريت من زنكي بعث إليه رسولاً ليعاتبه على إحسانه لعدو سلاجقة العراق وإطلاق سراحه بعد أن كان قد وقع في يديه (4)، وأزداد حرج بهروز لدى قيام أسد الدين شيركوه بقتل أحد سكان تكريت بسبب تعرضه لإحدى النساء، واضطّر إلى إصدار أمره إلى نجم الدين بمغادرة تكريت وجميع أفراد عائلته، ولم يكن باستطاعة بهروز معاقبة أسد الدين شيركوه لما بين الطرفين من صداقة قديمة ترجع إلى زمن أبيه (5) في هذه الفترة الحرجة من أواخر عام 532هـ ولد صلاح الدين لنجم الدين أيوب، واضطرت العائلة لمغادرة تكريت، وربما كان ذلك في الليلة التي ولد فيها الطفل المذكور (6)، ولم يكن هناك ملجأ أكثر أمناً لهذه العائلة الطريدة من كنف الأمير الذي أحسنوا إليه قبل عدة أعوام، ولم ينس زنكي الإحسان فاستقبل عائلة بني أيوب أحسن استقبال، وأقطع رجالاتها الاقطاعات الواسعة (7) وأتاح للأخوين نجم الدين وأسد الدين الانخراط في قواته (8) والاشراف على تربية أبنائه (9)، والاشتراك في الحروب التي خاضها في الشام ضد الصليبيين (10)، وظلت العائلة الأيوبية تنعم بحماية عماد الدين زنكي، وأخذت علاقاتها به تزداد وثوقاً يوماً بعد يوم وعندما استولى على بعلبك عام 534هـ عين نجم الدين أيوب والياً عليها وأقطعه ثلثها (11)، فاستقر هناك هو وأفراد العائلة الأيوبية (12)،
وظل يمارس مهام عمله كوال لزنكي حتى مقتل الأخير عام 541هـ، وكان صلاح الدين خلال تلك الفترة قد ترعرع في كنف والده، وبدت عليه سمات النجابة والذكاء والتمعت عيناه ببريق القوة (13). وهكذا قدر لعماد الدين زنكي أن يلعب دوراً هاماً في إظهار العائلة الأيوبية في المجالات السياسية والعسكرية والإدارية، وأن يمهد لها
_________
(1) عماد الدين زنكي ص 76.
(2) المصدر نفسه ص 77.
(3) كتاب الروضتين (2/ 537).
(4) وفيات الأعيان (6/ 142) عماد الدين زنكي ص 77.
(5) الباهر ص 119عماد الدين زنكي ص 77
(6) وفيات الأعيان (6/ 143 - 144) عماد الدين زنكي ص 77
(7) كتاب الروضتين (2/ 538).
(8) الباهر ص 119 عماد الدين رنكي ص 77.
(9) عماد الدين زنكي ص 77.
(10) كتاب الروضتين (2/ 538) عماد الدين زنكي ص 77.
(11) الكامل في التاريخ (8/ 750) عماد الدين زنكي ص 78.
(12) عماد الدين زنكي ص 78 ..
(13) عماد الدين زنكي ص 78.(1/82)
الطريق إلى المكانة الكبيرة التي تمتعت بها في عهد ابنه نور الدين محمود (1).
2 - الأكراد الحميدية: بدأ عماد الدين زنكي يضَّم مناطق الأكراد الحميدية بسبب قرب حصونهم من الموصل. وكان الحميديون يقومون في كثير من الأحيان بمهاجمة قرى ومزارع الموصل الشرقية ونهب فلاحيها، مما سببَّ قلقاً وخوفاً لفلاحي الموصل، وعندما أسس عماد الدين زنكي إمارة الموصل، أقَّر الأمير عيسى الحميدي على ولايته ولم يعترضه بشيء مما في يده (2) إلا أن الأمير المذكور سرعان ما خرج على طاعة زنكي لدى حصار الخليفة المسترشد الموصل عام 527هـ، حيث انضم إليه بجيوشه وأمده بالأقوات، وحشد له عدداً كبيراً من الأكراد، وما أن فشل الحصار وانسحب المسترشد عائداً إلى بغداد حتى بدأ زنكي هجومه على قلاع الحميدية، فحاصرها وقاتلها قتالاً شديداً حتى أنه حمل بنفسه على حامية العقر وصعد في جبلها المرتفع إلى سورها فوصلت طعنته إليه (3)، ثم ما لبث أن استولى عليها 527هـ منهياً بذلك أسباب القلق والخوف التي كانت تسببه هجمات الحميديين على فلاحي الموصل (4)، الأمر الذي أدى - ولا ريب - إلى عود ازدهار الحياة الزراعية والتجارية في المنطقة (5) ونتيجة لضمَّ قلاع الحميدية، حقق عماد الدين زنكي هدفين:
الأول: أمَّن المركز العسكري المسيطر على أمن الموصل بفعل ما كانت تشغله الإمارة الحميدية في موقع هام.
الثاني: حصل على موطئ قدم مهد الطريق أمامه للتوغل في بلاد الأكراد الجبلية (6).
3 - الأكراد الهكارية: أدرك أبو الهيجاء الهكاري، صاحب قلعة آشب، مدى قوة عماد الدين زنكي، وخطورة النصر الذي حققه على وضع الأكراد بعامة، فاستعطفه بمبلغ من المال، وتوسل إليه ألا يتعرض له، ثم ما لبث أن قدم إلى الموصل لإعلان ولائه (7)، والجدير بالذكر أن طائفة من الأكراد الهكارية تقطن في المنطقة المعروفة بهكاريا إلى الشمال في نهر الخابور الذي يصب في أعالي دجلة، وكانت قلعة آشب مركزهم الرئيسي وتنتشر حولها عدة قرى زراعية ترتبط بها وتؤمَّن لها التموين الغذائي
_________
(1) المصدر نفسه ص 78.
(2) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الزنكيين في ص 105.
(3) مفرج الكروب (1/ 55) عماد الدين زنكي ص 105.
(4) الباهر ص 48، عماد الدين زنكي ص 105.
(5) عماد الدين زنكي ص 105
(6) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 106.
(7) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الزنكيين ص 106(1/83)
واستمرت العلاقات الجيدة بين عماد الدين زنكي وبين الهكاريين حتى عام (537هـ/1142م) إذ توفي في ذلك العام أبو الهيجاء فدبت الفوضى في إمارته بسبب النزاعات الأسرية وبرز في هذه الصراعات باو ألا رجي، نائب أبي الهيجاء في حكم الإمارة الذي ساند الطفل علي بن الهيجاء ليهيمن من خلاله على شؤون الإمار ويحكم باسمه، في حين ساند عماد الدين زنكي أخاه أحمد (1)، ونجح عماد الدين زنكي في ضَّم قلعة آشب بعد أن هزم باو وأنصاره، ثم غادر المنطقة عائداً إلى الموصل بعد أن ترك فيها نائبه نصر الدين جقر ليتم ما بدأه بضَّم منازل الهكارية، فاجتاح هذا القائد القلاع المتبقية وسيطر على المنطقة (2)،
واستطاع عماد الدين زنكي بهذه الانتصارات أن ينهي أعمال الفوضى والفساد في المنطقة، فحل الأمن في ربوعها وعاد نفعه قبل كل أحد على الأكراد أنفسهم، الذين تخلصوا من المنازعات الداخلية على ما يظهر، واتجهوا إلى الانتاج ثم ما لبث عماد الدين زنكي أن أصدر أوامره ببناء قلعة العمادية - نسبة إلى اسمه (3) - على أطلال حصن قديم كان الأكراد قد خربوه لعجزهم عن الدفاع عنه (4) ويبدو أن زنكي أراد اتخاذ هذه القلعة قاعدة عسكرية للدفاع والتموين في حالات التمرد التي قد يقوم بها الأكراد ضد ممتلكاته هناك، ونقطة انطلاق لتوسيع نفوذه في المنطقة (5).
4 - الأكراد المهرانية: بدأ عماد الدين زنكي هجماته على الأكراد المهرانية في عام 537هـ/1142م والجدير بالذكر أن هذه الفئة تقطن عدداً من القلاع المنتشرة في المنطقة الجبلية المتاخمة لجزيرة ابن عمر، وأهمها كواشي الواقعة في جبال الجودي، شرقي نهر دجلة، والزعفراني، والشعباني وغيرها (6) والواقع أن ضمَّ المنطقة الخاصة بالمهرانية يُعد خطوة متممة لضَّم المنطقة الخاصة بالهكارية، بفعل تجاورهما، فبعد أن انتهى عماد الدين زنكي من ضَّم المنطقة الثانبة انتقل إلى ضَّم المنطقة الأولى. واستطاع أن يفرض سيطرته على عدة قلاع، منها المذكورة أعلاه وألقت هذه الانتصارات السريعة الرعب في قلوب حاميات القلاع الأخرى المجاورة مما دفعها إلى طلب الأمان، وخضعت لحكم عماد الدين زنكي (7).
_________
(1) الباهر ص 64 عماد الدين زنكي ص 106.
(2) الكامل في التاريخ نقلاص عن تاريخ الزنكيين ص 107 ..
(3) الباهر ص 64 عماد الدين زنكي ص 109.
(4) عماد الدين زنكي ص 109.
(5) المصدر نفسه ص 110.
(6) تاريخ الزنكيين في الموصل ص 107 نقلاً عن الكامل في التاريخ.
(7) تاريخ الزنكيين في الموصل ص 107.(1/84)
5 - الأكراد البشنوية: التفت عماد الدين بعد ذلك إلى مناطق الأكراد البشنوية في بلاد الزوزان الواقعة في الأرض الممتدة من جبال أرمينية شمالاً حتى الموصل جنوباً ومن أذربيجان شرقاً حتى إقليم ديار بكر غرباً (1)، وكان أمراء البشنوية قد أنشأوا عدداً من الحصون لعل أهمها حصن فنك المطل على نهر دجلة، واتخذوه مركزاً رئيسياً لهم نظراً لما يتمتع به من حصانة طبيعية ومتانة وكان أميرهم آنذاك حسام الدين البشنوي قد اشترك، مع عدد من الأمراء الأكراد القاطنين شمالي الموصل في إثارة الفتن والاضطرابات ضد إمارة عماد الدين زنكي، فهاجمها هذا الأخير وأخضعها لسلطانه، باستثناء حصن فنك الذي أوكل مهمة إخضاعه إلى قائده زين الدين على كجك في حين توجه هو لحصار قلعة جعبر، وفرض كجك الحصار على الحصن وصادق أن اغتيل عماد الدين زنكي أثناء حصار قلعة جَعْبَر فاضطر كجك إلى فك الحصار والانسحاب إلى الموصل (2). تلك هي الجماعات الكردية التي هاجم زنكي مواقعها، واستطاع أن يضع يده على معظم ممتلكاتها وقواعدها المهمة، ويخضعها لسيطرته في أقل من عقد ونصف، بفضل قدرته العسكرية، وخططه السياسية البارعة التي أتاحت له التغلب على مصاعب القتال في المناطق الجبلية الوعرة، وسط فئات لا تدين له بالولاء وقد تمكن بذلك من تأمين إحدى الجهات الهامة لإمارته بعد أن كانت تشكل نقاط خطر عليه، وأن يجعلها تستند إلى خطوط دفاعية يصعب اختراقها، تحقيقاً لخطته في بناء السياج الذي صمم على بنائه حول إمارته عندما قال يوماً: إن البلاد كبستان عليه سياج، فمن هو خارج السياج يهاب الدخول (3).
خامساً: عماد الدين والإمارات المحلية في ديار بكر:
كان هدف زنكي، بعد أن تّم له الاستيلاء على حلب واتخاذها قاعدة في بلاد الشام، السيطرة على المناطق الممتدة بينها وبين الموصل والتي كان يحكمها أمراء مستقلون، عملاُ بخطته القاضية: بألا يبقى في بلاده ما هو ملك لغيره، حزماً منه واحتياطاً. ذلك أنه كان يستهدف - كما ذكرنا - إنشاء إمارة موحدة قوية، تمكنه من تحقيق انتصارات حاسمة ضد الصليبيين. وكان عليه - لتحقيق هذا الهدف - اكتساح عدد من الإمارات المحلية في منطقة ديار بكر، والتي كانت تشكل خطراً على مواصلاته مع الشام، سيما في حالات صدامه مع الصليبيين (4).
_________
(1) المصدر نفسه ص 107.
(2) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الزنكيين في الموصل ص 108.
(3) مفرج الكروب (1/ 103) عماد الدين زنكي ص 116.
(4) عماد الدين زنكي ص 85.(1/85)
أ- ضّم نصيبين: بدأ عماد الدين زنكي حركته التوسعية الهادفة إلى توحيد الإمارات الإسلامية بالهجوم على نصيبين التابعة لإمارة ماردين وقد اختارها أولاً بفعل كونها أقرب المواقع إلى الجهات التابعة لحكمه، فضرب عليها حصاراً مركزاً فاستنجد حاكمها حسام الدين تمرتاش بداوود بن لقمان صاحب حصن كيفا، لصَّده وإرغامه على فك الحصار عنها، فوعده بالمساعدة (1)، كما بعث إلى أهاليها وحاميتها رسالة مستعجلة على جناح طائر. يحثهم فيها على الصمود ريثما تصلهم النجدة الأرتقية خلال فترة لا تتجاوز الخمسة أيام، إلا أن الرسالة وقعت بيد زنكي وأطلع على ما فيها، ورأى أن ينتهز الفرصة لتدبير حيلة قد تساعده على تحقيق هدفه، فأمر بكتابة رسالة أخرى إلى أهل نصيبين بدلاً من الرسالة الأولى، جاء فيها: من حسام الدين تمرتاش، إنني قد قصدت ابن عمي داود وقد وعدني بالنجدة والمسير بالجيوش، وسوف لن يتأخر قدومه إلينا بأكثر من عشرين يوماً، لذا أطلب منكم الثبات طيلة هذه المدة (2) وبعث الرسالة على جناح الطائر نفسه، ولم يشك النصيبيون لحظة واحدة بأنها وردت إليهم من أميرهم الارتقي: فخافوا على نفوسهم وأيقنوا أنهم يعجزون عن الدفاع عن البلد خلال هذه المدة الطويلة، لذا أرسلوا إلى زنكي وصانعوه وسلموا مدينتهم إليه فبطل على حسام الدين وداود ما كانا قد عزما عليه (3) وبفتح نصيبين أنفسح الطريق أمام زنكي لتحقيق أهدافه ضد إمارات ديار بكر، إذ اتخذ من هذا الموقع قاعدة عسكرية في المنطقة للهجوم على المواقع المجاورة (4).
ب- معركة دارا: مهد ضُّم نصيبين الطريق أمام عماد الدين زنكي لتحقيق أهدافه في ديار بكر بعد أن تأكد عن عجز الحكام المحليين عن مواجهته، إذ غدا هذا الموقع قاعدة أنطلاق للانتشار في المنطقة ومن جهتهم، أدرك أمراء هذا الإقليم مدى خطورة توسع عماد الدين زنكي على أملاكهم، فتداعوا في عام (524هـ/1130م) إلى عقد حلف للوقوف في وجهه، اشترك فيه الأميران الأرتقيان حسام الدين تمرتاش وابن عمه ركن الدولة داوود، وأنضَّم سعد الدولة أبو منصور إيكلدي صاحب آمد إلى الحلف، بالإضاف إلى عدد كبير من أمراء التركمان الموالين لداوود (5)، ولما سمع عماد الدين زنكي بحشود الأمراء قّرر مباغتة القوم قبل أن يتهيأوا للقتال، فأنطلق على رأس أربعة آلاف مقاتل، والتقى بهم بالقرب
_________
(1) التاريخ الباهر ص36.
(2) المصدر نفسه ص 36 - 37 عماد الدين زنكي ص 86.
(3) عماد الدين زنكي ص 87.
(4) المصدر نفسه ص 87.
(5) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الزنكيين ص 110.(1/86)
من دارا (1) التابعة لتمرتاش، وانتصر عليهم. كانت النتيجة الفورية للمعركة سيطرة عماد الدين زنكي على عدد من المواقع القريبة كحصن سرجي (2) ودارا (3)، وحتى يعرقل توغله في المنطقة، قرَّر داود مهاجمة جزيرة ابن عمر التابعة للموصل، مما دفع عماد الدين زنكي إلى ترك ديار بكر والتوجه إليه لإيقافه عند حده لكنه لم يتمكَّن من التوغل بعيداً بسبب وعورة المسالك، وانتشار التركمان في المنطقة، فاكتفى باستقطاب السكان في الجهات التي بلغها ثم قفل عائداً (4).
3 - أساليب سياسية من عماد الدين زنكي لإحداث إنشقاق وتنافر في صفوف الأراتقة: أدرك زنكي، أثر هذه الأحداث، مدى الخطر الذي يشكله التحالف بين أمراء ديار بكر ضد مطامحه في المنطقة، فرأى أن يلجأ إلى الأساليب السياسية علها تتيح له إحداث إنشقاق وتنافر في صفوف أولئك الأمراء كي يسهل عليه - بعد ذلك - اقتطاع أراضيهم وممتلكاتهم. وأعتقد أن خير ما يبدأ به خططه السياسية هو إيجاد تحالف متين مع أحد هؤلاء الأمراء والاستعانة به ضد الآخرين وكان من الصعب عليه تحقيق هذا التحالف مع غريمه اللدود ركن الدولة، لما كان يتميز به هذا من حقد ورغبة بإنزال الضربات بعدوه وتحين الفرص للانقضاض على ممتلكاته (5)، كما أن زنكي لم يشأ أن يتخذ من صاحب آمد حليفاً له، لضعف إمكانياته وعدم قدرته على تقديم مساعدات مجدية في حالة نشوب قتال بين أمير الموصل والأراتقة، ولم يبق أمامه إذن سوى حسام الدين تمرتاش الذي كان أكثر مرونة من ابن عمه داود، لذ أخذ يتقرب إليه، وأوقف مهاجمته لممتلكاته وسرعان ما أحس الأمير الأرتقي باتجاه زنكي الودي منه، ورأى أن التضحية بابن عمه داود لابد منها في سبيل كسب حليفه الجديد، وائتمان جانبه، والسعي - عن طريق هذا التحالف - للحصول على مزيد من المكاسب في المنطقة (6).
أ- مهاجمة حصن آمد: شهد عام 528هـ لقاء ودياً بين الحليفين أنطلق بعده مباشرة لمهاجمة الحصن المنيع آمد، وفرضا الحصار عليه، فأرسل صاحبه سعد الدولة ايكلدي (503هـ - 536هـ) يستنجد بداود الأرتقي، وسرعان ما جمع هذا جيوشه ومتطوعيه من
_________
(1) دارا: بلدة في لحف جبل بين نصيبين وماردين.
(2) سرجي أو سرجة: حصن بين نصيبين ودُنسير ودارا.
(3) الكامل في التاريخ نقلاً عن عماد الدين زنكي ص 111.
(4) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 111.
(5) مفرج الكروب (1/ 52).
(6) عماد الدين زنكي ص 88.(1/87)
التركمان وأتجه لفك الحصار عن آمد، وهناك عند أسوار هذا الحصن حدث اللقاء بين الطرفين في أواخر جمادي الآخرة من ذلك العام، وانتهى القتال بهزيمة داود وأسر ولده ومقتل عدد من جنده، بينما استمر حصار زنكي وحليفه لهدفهما المنيع، وكي يلقيا الفزع واليأس في نفوس أصحابه قاما بتخريب واسع النطاق في البساتين والمزارع المجاورة إلا أن آمد صمدت وأقنعت المهاجمين بعدم جدوى البقاء طويلاً ورضي زنكي من صاحبها - لقاء فك الحصار تقديم مقدار من المال (1) ثم اتجه الحليفان بعد ذلك إلى قلعة الصَوْر (2) القريبة وهي من ممتلكات داوود ويحكمها ابنه قرا أرسلان فحاصراها وأرغماها على الاستسلام، وأهداها عماد الدين زنكي لحليفه تقديراً لمساعداته وتأكيداً لتحالفهما (3).
ب- اتساع شقة الخلاف بين تمرتاش وبين ابن عمه داود: نتيجة لهذا الانقسام في الصف الأرتقي، اتسعت شقة الخلاف بين تمرتاش وبين ابن عمه داوود وبدت في الأفق السياسي بوادر نزاع مسلح بينهما في الوقت الذي ازداد فيه التحالف بين تمرتاش وعماد الدين زنكي متانة وصلابة. وقام الحليفان بشن هجوم مشترك على جبل جور (4) والسيوان في عام (530هـ) وتمكّنا من ضمهما، ومنحهما زنكي لحليفه تماشياً مع خطته في تقوية التحالف معه (5)، وأدت هذه الانتصارات السريعة إلى إلقاء الرعب في روع قرا أرسلان بن داود الذي أدرك أنه أمام عدو صلب قوي وبالتالي عدم جدوى المقاومة، فغادر المنطقة إلى قاعدة أبيه في حصن كيفا، تاركاً مناطق ولايته لقمة سائغة في يد عماد الدين زنكي، وحاول تمرتاش الإفادة من تحالفه مع عماد الدين زنكي في توسيع رقعة إمارته بضم بعض المواقع القريبة، وتمكَّن في عام (530هـ/1136م) من ضم قلعة الهتَّاخ (6)، وهي آخر الحصون المروانية في ديار بكر (7).
ج- تعّرض التحالف الزنكي الأرتقي إلى الهتزاز: تعّرض التحالف الزنكي - الأرتقي إلى الاهتزاز في عام (533هـ/1138م) وبدا في الأفق السياسي ما يشير إلى فتور في العلاقات بين الحليفين ويبدو أن مرد ذلك يعود إلى:
- التجاء الأمير أبي بكر، نائب
_________
(1) زبدة حلب (2/ 253) عماد الدين زنكي ص 89.
(2) الصَوْر: قلع حصينة عجيبة على رأس جبل قرب ماردين بين الجبال من أعمال ماردين.
(3) الاعتبار لأبن منقذ ص 199 - 201 تاريخ الزنكيين ص 112.
(4) جبل جور: اسم لكورة كبيرة متصلة بديار بكر من نواحي أرمينية.
(5) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 112.
(6) الهتاخ: قلعة حصين في ديار بكر قرب ميا فارقين.
(7) تاريخ الزنكيين في الموصل ص 112.(1/88)
عماد الدين زنكي في نصيبين إلى حسام الدين تمرتاش، بعد ما خرج عليه، فرفض الأخير تسليمه إلى عماد الدين زنكي رغم إلحاحه وجرت بينهما منازعات طويلة بسبب ذلك، فاضطر تمرتاش إلى تسليمه إلى السلطان مسعود الذي سلمه بدوره إلى عماد الدين زنكي لينال عقابه (1).
ح- عودة الوئام بين تمرتاش وداود: أدرك كل من تمرتاش وداود أن هذا الخلاف الذي أشتد بينهما واتسع إلى درجة الحرب والتخريب لن يفيد أيا منهما بقدر ما يعود بالمكاسب على زنكي الذي قد يستغله بشكل دائم لتحقيق مزيد من الانتصارات في المنطقة، وبالتالي أضعاف قوى الأراتقة جميعاً، كي يصبحوا بعد ذلك هدفاً سهل المنال، لذا قام كل من الأميرين الأرتقيين بتبادل الرسل في مطلع عام 536هـ، وأسفرت المفاوضات عن عقد صلح بينهما ومالبث داود أن أتجه إلى ميا فارقين حيث اجتمع بابن عمه بعد سنين طويلة من العداء (2).
س- سعي عماد الدين زنكي في كسب حليف جديد: لم يغب عن زنكي أن الصلح الذي تم بين الأراتقة سيكون على حسابه للحد من مطامحه في المنطقة، فسعى إلى اتخاذ إجراءات سياسية تكفل عدم انعزاله من جهة وإكتساب حليف جديد ضد منافسيه في المنطقة من جهة أخرى، وقد تمكن - في أقل من عام - من تحقيق هدفين هذين، وذلك بأن أرسل إلى صاحب آمد (3) يتهدده أن استمر زنكي، استطاع أن يحصل على مركز قوي في ديار بكر، وأن يستغل هذا المركز لمّد نفوذه هناك، والاستيلاء على ما يمكن الاستيلاء عليه من الحصون الكثيرة المنتشرة في المنطقة والتابعة لعدد من الأمراء، كي يتسنى له بعد ذلك القيام بخطوته الحاسمة، وهي الانقضاض لإسقاط حكم بني أرتق الذي يقف عائقاً دون تحقيق هدفه الرئيسي في توحيد بلاد الموصل والجزيرة وشمالي الشام (4).
ش- حملة عسكرية واسعة من عماد الدين زنكي: وشهدت أواخر عام 537هـ ومطالع العام التالي قيام زنكي بحملة واسعة ضد عدد كبير من الحصون الواقعة في أقاصي ديار بكر والتابعة لأمير يدعى يعقوب بن السبع الأخمر الذي لم تشر المصادر - بوضوح - إلى تاريخه السياسي، وهويته وطبيعة علاقاته بأمراء ديار بكر (5). وقد تمكن زنكي في حملته هذه - من
_________
(1) المصدر نفسه ص 113.
(2) عماد الدين زنكي ص 92.
(3) المصدر نفسه ص 92.
(4) عماد الدين زنكي ص 93.
(5) المصدر نفسه ص 94.(1/89)
الاستيلاء على مدينة طنزة، والسعرد والمعدن (1) وحيزان (2)، وحصن الزوق (3)، وفطليس (4) وباتاسا (5)، وحصن ذي القرنين (6)، وانيرون (7)، وقام بترتيب أوضاع هذه المواقع والحصون، ووضع في كل منها حامية عسكرية لتدافع عنها ضد هجمات الأعداء (8) وأسرع زنكي - بعد انجازه هذه الانتصارات - بالتوجه إلى ميافارقين لتنفيذ الخطة السرية التي رسمها مع شرف الدين حبشي وزير تمرتاش وعسكر بقواته الكبيرة، في إحدى ضواحيها القريبة المسماة (تل بسمي) أملاً أن يقوم حبشي، المقيم في ميافارقين، بفتح الأبواب لدخول قواته والسيطرة على المدينة والقلعة دون إراقة قطرة من دماء، إلا أن الخطة أكتشفت، واتفق رجلان من كبار أعيان البلد ومسؤوليه على اغتيال حبشي وإنهاء الخطر المحدق بميافرقين (9)، فتسللا إلى خيمته ليلاً وضرباه بالسيوف، ثم حملا رأسه إلى تمرتاش في ماردين، وسرعان ما انتشر نبأ الحادثة، فاضطرب جيش زنكي وعمته الفوضى، واضطر قائده إلى الإنسحاب، إذ أن مقتل حبشي المفاجئ جعل من الصعوبة بمكان الاستيلاء على ميافارقين، فقفل عائداً إلى نصيبين (10)
وفي مطلع العام التالي التالي (539هـ توفي داود بن سقمان صاحب حصن كيفا، فخلفه ابنه فخر الدين قرا أرسلان ويبدو أن هذا الأخير لم يكن يتمتع، كأبيه، بمقدرة سياسية أو عسكرية فرأى أن خير وسيلة لإيقاف عماد الدين زنكي هي إعادة التحالف القديم بين إمارتي حصن كيفا وماردين، فقام بالخطوة الأولى في هذا السبيل فصاهر تمرتاش (11) واستغل عماد الدين ضعف قرا أرسلان، فتوسع على حسابه، وضَّم مناطق واسعة من إمارة الحصن، وقد أدَّت العمليات العسكرية التي نفَّذها إلى تعميق الخلاف بينه وبين تمرتاش وبخاصة أنه هاجم قلعتي الجور والسيوان وضمهما إلى أملاكه، بعد أن كان قد منحهما لهذا الأخير والواقع أن عماد الدين زنكي لم يأبه لهذا النزاع بعد أن أضحى مركزه قوياً في ديار بكر، فقَّرر استئناف هجماته على الأملاك الأرتقية، فاتجه إلى آمد في محاولة لضمها إلا أنه أنهمك بمهاجمة
_________
(1) تقع قريباً من منابع نهر دجلة سميث بذلك بسبب كثرة معدني الحديد والنحاس.
(2) بلد كثير الأشجار والبساتين.
(3) عماد الدين زنكي ص 94.
(4) المصدر نفسه ص 94.
(5) المصدر نفسه ص 94.
(6) المصدر نفسه ص 94.
(7) المصدر نفسه ص 94.
(8) المصدر نفسه ص 94.
(9) المصدر نفسه ص 94.
(10) عماد الدين زنكي ص 95 ..
(11) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 115.(1/90)
إمارة الرها الصليبية، فانقذ تمرتاش من هجوم جديد ضد أملاكه (1).
ك- موقف عماد الدين من إمارة أرمينية: لابد قبل الانتهاء من سرد وتحليل علاقات زنكي بأمراء أرمينية المتاخمة لذلك الأقليم (2)، إذ أرسل في عام 528هـ يطلب خطبة ابنه سمكان القطبي الذي كانت زوجته قد تولت الوصاية على شؤون الإمارة منُذ وفاته عام 505هـ وصادف في الوقت نفسه أن تقدم حسام الدولة بن دلماج أمير بدليس المجاورة، يخطب هذه الفتاة لابنه، الأمر الذي أغضب زنكي أشد الغضب، وأعتبر الموضوع بمثابة تحّد لرغبته، فتقدم على رأس قواته إلى خلاط، سالكاً بجنده الطرق الجبلية الوعرة، غير المسلوكة من أجل أن يبلغ هدفه بأسرع وقت ممكن (3). فكان الجيش بغير خيام وكل جندي في موضعه من الطريق (4). وعندما وصلوا خلاط ضربوا خيامهم قريباً منها، واتجه زنكي مع كبار أفراد حاشيته إلى القلعة لكتابة المهر. وما أن أتم ذلك حتى قام بإرسال حاجبه الياغسياني إلى بدليس، على رأس قسم من قواته، لتأديب صاحبها، إلا أن هذا استطاع إقناع قائد زنكي بالعودة إلى سيده مقابل مبلغ من المال (5). وهكذا أعتمد زنكي رابطة الزواج لتعزيز علاقته بإمارة أرمينية
وكسب - بذلك - صديقاً جديداً، ربما حصل على مساعدته خلال عملياته العسكرية في المناطق القريبة من أرمينية، أو ضمن حياده على الأقل، سيما وأن هذه الإمارة كانت تجاور أعداءه في ديار بكر ومناطق الجبال الكردية، مما كان يحتم إبعادها عن الدخول في الصراع إلى جانب هؤلاء الأعداء ولم يحاول زنكي - من جهة أخرى - أن يتوسع على حساب هذه الإمارة، ربما لبعدها عن حدود ممتلكاته، وعدم تشكيلها خطراً مباشراً عليه، حيث يفصل بين الطرفين عدد من الأمارات والمواقع المستقلة في أقاليم الجبال وديار بكر، امتصت معظم جهوده خلال صراعه الطويل مع أمرائها، هذا إلى أن المنشور، الذي منحه السلطان السلجوقي لزنكي، نص على توليته الموصل والجزيرة والشام، دون أية إشارة إلى أرمينية وفضلاً عن هذا وذاك، كان هدف زنكي الرئيسي العمل على توحيد المواقع الإسلامية التي تخدمه في صراعه ضد الصليبيين، ولم تكن أرمينية ذات غناء كبير في هذا المجال، وأخيراً لا بد أن نلاحظ بعد نظر زنكي في سياسته التي استهدفت عدم إضعاف الإمارة المذكورة التي كانت بمثابة حزام واقٍ ضد هجمات الخزر والقفجاق القاسية على الجهات الشمالية
من
_________
(1) المصدر نفسه ص 115.
(2) عماد الدين زنكي ص 96.
(3) المصدر نفسه ص 97.
(4) المصدر نفسه ص 97.
(5) المصدر نفسه ص 97.(1/91)
آسيا الصغري وأرمينية، أولئك الذين كانوا يشكلون خطراً على المناطق المجاورة (1)
سادساً: عماد الدين زنكي، وأمراء دمشق:
1 - ضُّم حماة: أدرك عماد الدين زنكي أنه لا يستطيع مواصلة الجهاد ضد الصليبيين إلا إذا ضّم دمشق والمدن المحيطة بها إلى أملاكه، وأقام محور الموصل - حلب - دمشق لأن قطع الشام عن الجزيرة كان يجعله محتاجاً إلى البقاع وحوران لتموينه بالحبوب، بالإضافة إلى هدف سياسي يعود إلى وجود مملكة بيت المقدس اللاتينية في الجنوب. والواقع أن ممتلكات المسلمين في بلاد الشام كانت تتوزع آنذاك بين ثلاث قوى:
أ- محورها بوري بن طغتكين، أتابك دمشق الذي يسيطر على دمشق وحماة في الشمال، وحوران في الجنوب والجدير بالذكر أن آل طغتكين ورثوا حكم هذه المنطقة الحيوية من سلاجقة الشام، وكانت مشكلتا دمشق الرئيستان تتمثلان في تجنُّب قوة الزنكيين في الموصل وحلب، وقوة الصليبيين في بيت المقدس، والاحتفاظ بالسيطرة على السهلين الزراعين، البقاع في الشمال الغربي، وحوران في الجنوب الشرقي، اللذين يؤمنَّان لها القمح والعلف.
ب- محورها صمصام الدولة خير خان بن قراجا، أمير حمص.
ج- محورها سلطان بن منقذ، الأمير العربي الذي يسيطر على شيزر.
وحتى يحقق هذا الهدف كان عليه أن يضم حماة وحمص أولاً الواقعتين على الطريق المؤدي إلى دمشق نظراً لما يمنحه ذلك من قواعد عسكرية هامة، ومراكز للتموين لا يمكن الاستغناء عنها عند القيام بهجوم ضد المدينة الأخيرة أو فرض الحصار عليها (2) ورأى عماد الدين زنكي أن يستعمل الأساليب والمناورات السياسية لضَّم حماة وحمص، ويتجنَّب ما أمكن استعمال القوة، فأرسل إلى بوري بن طغتكين في دمشق يخطره بنيته في محاربة الصليبيين، ويلتمس منه المساعدة، فكتب بوري إلى ابنه سونج في حماة يأمره بالخروج من عسكره لنجدة عماد الدين زنكي، كما أرسل من دمشق قوة عسكرية مؤلفة من خمسمائة فارس، لتنضَّم إلى القوات الإسلامية. رحب عماد الدين زنكي بقدوم سونج، وأحسن لقاءه، لكنه لم يلبث أن قبض عليه، وعلى عدد من أمرائه وقادته، وأرسلهم إلى حلب ثم تقدم مسرعاً إلى حماة، منتهزاً خلوها من الدفاعات ودخلها في شهر شوال عام 524هـ/ شهر أيلول عام 1130م سلمَّها لحليفه خير خان صاحب حمص الذي كان يرافقه في عملياته (3).
_________
(1) المصدر نفسه ص 98.
(2) تاريخ الزنكيين في الموصل ص 116.
(3) زبدة حلب (2/ 440) تاريخ الزنكيين ص 116.(1/92)
2 - محاولة ضَّم حمص: ويبدو أن هذه الخطوة كانت خدعة من عماد الدين زنكي ليطمئن حليفه قبل أن يضربه، وفعلاً أنقلب عليه بعد ذلك، فقبض عليه، وأمره بمراسلة أهل حمص لتسليمه المدينة قبل أن يرسله إلى حلب، ثم أسرع بمهاجمتها (1). إلا أن أهالي حمص قاتلوا ببسالة كبيرة، اضطرت
زنكي- أخيراً - إلى فك الحصار والعودة إلى حلب (2). حيث أرسل من هناك كلاً من خير خان وسونج وأمرائه لكي يعتقلوا في الموصل. ثم ما لبث بوري أن أخذ يراسل زنكي مَلتمساً إطلاق سراح ابنه وأخيراً تمت موافقة أمير الموصل على إعادة المعتقلين إلى دمشق مقابل تسليمه دبيساً بن صدقة - أمير الحلة - الذي كان محتجزاً آنذاك في دمشق (3). أما خير خان فقد بقي في السجن حتى مقتله عام 529هـ (4) مالبث زنكي أن قام - في العام التالي - بهجومه الثاني على حمص، لكنه جوبه بنفس المقاومة الشديدة، فآثر الإنسحاب انتظاراً لفرصة مواتية أخرى (5)، وفي السنة التالية توفي بوري حاكم دمشق، فأعقبه في الحكم ابنه إسماعيل الذي كان أكثر طموحاً واندفاعاً من أبيه، فعزم على مهاجمة حماة، وتمكن من استردادها في شوال عام 527هـ بعد أن أبدت حاميتها مقاومة عنيفة (6).
3 - محاولة التفاهم مع حكام دمشق: حدث في شهر رجب عام 526هـ/ شهر حزيران عام 1132م أن توفي بوري بن طغتكين، فخلفه ابنه شمس الملوك إسماعيل الذي اتصف بالطموح والاندفاع الزائد ونجح هذا الحاكم الجديد في إستعادة حماة في أول شهر شوال عام 527هـ/شهر آب عام 1133م (7)، مستغلاً إنهماك عماد الدين زنكي بمشاكله مع الخلافة العباسية والسلطنة السلجوقية غير أن إسماعيل لم يلبث أن أساء السيرة، وبالغ في ظلم الأهالي ومصادرة أموالهم، كما أسرف في التخلص من معارضيه، حتى أضحى كل شخص يخشى على حياته، فاضطربت أحوال دمشق، وتألّب الجميع عليه (8)، وكان قد أدرك أصرار عماد الدين زنكي على مهاجمة دمشق وصعوبة الصمود بوجهه والنقمة تحيطه من كل مكان قرر القيام بمناورة استهدف من ورائها كسب زنكي إلى جانبه ضد خصومه الدمشقيين، فكاتبه عام 529هـ يطلب منه القدوم إلى دمشق لتسليمها إياه طوعاً، وشرط عليه - لقاء ذلك - أن يمكنه من الانتقام من خصومه، وأبلغه أنه إن لم يسرع بتلبية طلبه قام باستدعاء الصليبيين، وسلمهم دمشق وكان إثم المسلمين في عنق زنكي. ثم ما لبث إسماعيل أن شرع بنقل أمواله وممتلكاته
_________
(1) تاريخ الزنكيين في الموصل ص 117.
(2) عماد الدين زنكي ص 120.
(3) المنتظم (10/ 20).
(4) مفرج الكروب (1/ 71).
(5) عماد الدين زنكي ص 121.
(6) الاعتبار ص 97 - 98 عماد الدين زنكي ص 121.
(7) ذيل تاريخ دمشق نقلاً عن تاريخ الزنكيين ص 117.
(8) المصدر نفسه.(1/93)
إلى صرخد، استعداداً لتسليم دمشق لأمير الموصل. غير أن كبار أمراء دمشق وقادتها أوضحوا لوالدته - ذات النفوذ الكبير في الإمارة - العواقب الوخيمة التي ستجرها عليهم سياسة ابنها الرعناء فأسرعت بتدبير قتله، وأجلست مكانه في الحكم أخاه شهاب الدين محمود حيث بايعه الناس (1)،
كان عماد الدين زنكي آنذاك قد خرج من الموصل وعبر الفرات في طريقه إلى دمشق، وعندما بلغته أنباء التغييرات التي حصلت، لم يقطع أمله في إيجاد وسيلة التفاهم مع الحكام الجدد، لذلك واصل سيره حتى بلغ أرباض المدينة وأرسل رسولاً إلى حكامها للتفاوض بشأن شروط التسليم اعتقاداً منه بعدم قدرتهم على المقاومة (2).
4 - حصار دمشق: الواقع أن الدمشقيين رفضوا التفاوض معه وأصروا على المقاومة. وأصر هو من جهته على مهاجمة دمشق، فضرب الحصار عليها في أوائل جمادي الأولى ونَّفذ غارات على أطرافها، فردّ عليه الدمشقيون بغارات مضادة وتزعم حركة المقاومة معين الدين أنر أحد مماليك طغتكين (3) ولما فشل في اقتحام المدينة اضطر، تحت ضغط الظروف السياسية والعسكرية المستجدَّة، إلى عقد صلح مع الدمشقيين في آخر شهر جمادي الأولى عام 529هـ/شهر أذار عام 1135م وقفل عائداً إلى حلب (4) والواضح أن الظروف التي دفعته إلى فك الحصار تمكن في الأحداث التالية:
أ - قيام الدمشقيين بمضايقة جيشه في الوقت الذي أخذت أقواته في التناقص.
ب- تسللُّ بعض جنوده إلى دمشق، وانضمامهم إلى الدمشقيين.
ج- بَعَثَ حكام دمشق إلى الخليفة العباسي المسترشد بالله مبلغاً من المال، قدره خمسون ألف دينار، وطلبوا منه دفع عماد الدين زنكي عنهم، وتعهدوا، إذ نجح في ذلك، بأن يرسلوا مبلغاً مماثلاً كل سنة، فقبل الخليفة هذا العرض وأرسل إليه يأمره بفك الحصار عن دمشق، والتوجه على رأس قواته إلى بغداد لمعاونته ضد السلطان مسعود (5)، وهكذا فشلت الجهود التي بذلها عماد الدين زنكي لضَّم دمشق، كما ظلَّت هذه المدينة أمداً طويلاً تمثل عقبة في سبيل إتمام الوحدة الإسلامية في بلاد الشام (6).
5 - تجُّدد الغارات على حمص: تمكَّن عماد الدين أثناء عودته إلى حلب، بعد أن فكَّ الحصار
_________
(1) الكامل في التاريخ نقلاً عن عماد الدين زنكي ص 121 ..
(2) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 118.
(3) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الزنكيين ص119.
(4) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 119.
(5) المنتظم (10/ 43) تاريخ الزنكيين ص 119.
(6) تاريخ الزنكيين في الموصل ص 119.(1/94)
عن دمشق من إعادة ضّم حماة إلى أملاكه، كما هاجم حمص، إلا أنه فشل في دخولها (1) ويبدو أن هذه المدينة ظلت طيلة السنوات الثلاثة التالية 530هـ - 532هـ/1135 - 1137م) عرضة لهجماته، إذ شهد عام 530هـ/1135م محاولة أخرى لضمها، فوجد قريش بن جبرخان نفسه عاجز عن صده، فاستنجد بشهاب الدين محمود صاحب دمشق يلتمس منه إرسال من يراه كفئاً لتولي شؤون الحكم فيها على أن يعَّوضه عنها بإحدى مدن إمارته، وافق حاكم دمشق على هذا العرض الذي يتيح له ضَّم مدينة كبيرة وهامة كحمص إلى إمارته فتسلمها في شهر ربيع الأول عام 530هـ/شهر كانون الأول عام 1135م وأقطعها معين أنر (2) لم يركن الزنكيون إلى الهدوء وتابعوا شن الغارات على حمص بقيادة سوار ابن أيتكين، غير أن المدينة صمدت وانتعشت بما كان يدخلها من الميرة والأقوات، فاضطر سوار إلى طلب التفاوض، واستقر الصلح بين الطرفين على قاعدة عدم تعرض أي منهما للطرف الآخر (3). آمن عماد الدين زنكي دائماً بأن قيام الجبه الإسلامية المتحدة في بلاد الشام، يجب أن يسبق أية خطوة عملية يتخذها ضد الصليبيين، فرفض من هذا المنطلق إقرار الهدنة التي عقدها نائبه في حلب، وجدَّد الهجوم على حمص في شهر شعبان عام 531هـ/شهر آيار عام 1137م إلا أنه فشل في اقتحامها بسبب المقاومة الشديدة التي أبداها معين الدين أنر من جهة، وظهور بوادر تحالف خطير بين الزعماء الصليبيين من جهة أخرى، إذ قام فولك أنجو، ملك بيت المقدس، برفقة ريموند الثاني، أمير طرابلس، بنجدة المدينة (4).
6 - الهدنة مع حكام دمشق: اضطر عماد الدين زنكي إلى عقد هدنة مع حكام دمشق كي يتفرغ للتصدي للصليبيين الذين احتشدوا في حصن بارين المنيع، فانتصر عليهم (5)، وتهيأت له الفرصة مرة ثانية لمهاجمة ممتلكات آل طغتكين، وتوحيد بلاد الشام فقام في أوائل عام 532هـ/ أواخر عام 1137م بمهاجمةبعلبك إلا أنه قنع بما بذله له صاحبها (6)، واتجه إلى حصن المجدل فاستولى عليه دون مقاومة تذكر، وإذ ذاك شعر إبراهيم بن طرغت صاحب بانياس بضعف مركزه تجاه زنكي فراسله وأعلن دخوله في طاعته، وعندما دخل الشتاء وأشتد البرد، أوقف زنكي نشاطه في المنطقة (7).
7 - الحصار على حمص: ومع بوادر الربيع أنطلق على رأس قواته صوب حمص وفرض
_________
(1) زبدة حلب (2/ 451 - 452) تاريخ الزنكيين ص 119.
(2) تاريخ الزنكيين في الموصل ص 120.
(3) المصدر نفسه ص 120.
(4) المصدر نفسه ص 120.
(5) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 120.
(6) عماد الدين زنكي ص 124.
(7) عماد الدين زنكي ص 124.(1/95)
الحصار عليها. كان مركزه في المنطقة قد بلغ درجة كبيرة من القّوة أتاح لنفسه معها أن ينقض الهدنة التي عقدها مع حكام دمشق في العام الماضي، كما أنه باستيلائه على حصن المجدل، وفرض طاعته على صاحبي بعلبك وبانياس تمكن من السيطرة على معظم المواقع الغربي لإمارة آل طغتكين، ولم يبق أمامه، لإتخاذ طريقه صوب دمشق، سوى مدينة حمص (1) شدد عماد الدين زنكي الحصار على حمص، وجمع عليها جموعاً كبيرة من مقاتلي التركمان استقدم من حلب فرقة عسكرية متمرسة على أساليب الحصار وقام بشن هجماته على أنحاء المدينة، مستخدماً هذه المرة مزيداً من أساليب العنف والإرهاب، إلا أنه اضطر إلي فك الحصار وتوجه لمجابهة أخطار التحالف البيزنطي - الصليبي، وقد تمكن في فترة قصيرة من القضاء على هذا التحالف الذي انتهى بانسحاب أمبراطور الروم إلى بلاده (2)، وعاد زنكي إلى حصار حمص من جديد، محاولاً هذه المرة استخدام الأساليب السلمية لتحقيق هدفه، مستغلاً مركزه القوي في المنطقة أثر الانتصارات الحاسمة التي حققها ضد الصليبيين والبيزنطيين فتقدم طالباً يد زمرد خاتون والدة شهاب الدين محمود حاكم دمشق، لعله يضمن الحصول على حمص عن طريق هذا الزواج السياسي، فأجيب إلى طلبه بعد مفاوضات قصيرة وتمت إجراءات العقد في السابع عشر من رمضان، بعد أن تمكن من اقناع آل طغتكين بتسليمه حمصا كجزء من الاتفاق، على أن يعوض نائبها بعدد من الحصون القريبة من دمشق كبعرين واللكمة والحصن الشرقي كما اشترط عليهم تزويج ابنته من شهاب الدين محمود - مستهدفاً من وراء ذلك - أقامة علاقته بهذه العائلة الحاكمة على قواعد راسخة قد تفيده في المستقبل القريب (3).
8 - تجدُّد هجمات عماد الدين زنكي على دمشق: ظن عماد الدين زنكي أن بهذا الرباط العائلي ستصبح دمشق في متناول يده إلا أنه لم يكسب شيئاً، باستثناء الحصول على حمص فقط، أما ضمُّ دمشق الذي كان هدفه الأساسي من هذا الزواج فلم يتحقق. ويقول ابن الأثير في ذلك: إنما حمله على الزواج بها ما رأى من تحكيمها في دمشق، فظن أنه يملك البلد بالاتصال بها فلما تزوجها خاب أمله، ولم يحصل على شيء، فأعرض عنها (4) فما الذي تغير في الأوضاع السياسية في دمشق وحال بين عماد الدين زنكي وبين تحقيق هدفه؟ الواقع أنه ما إن غادرت زمرد خاتون دمشق حتى فقدت مكانتها السياسية العالية
_________
(1) المصدر نفسه ص 124.
(2) المصدر نفسه ص 125.
(3) مرآة الزمان 08/ 165) عماد الدين زنكي ص 125.
(4) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الزنكيين في الموصل ص 122.(1/96)
التي كانت تتمتع بها، حيث غدت الكلمة الأولى لابنها محمود وحاشيته (1). وشَّكلت سنة (533هـ/1139م) نقطة تحول هام في تاريخ دمشق، فقد هوجمت هذه المدينة من اتجاهين متباعدين، فقد هاجمها الصليبيون في بيت المقدس من الجنوب، في حين هاجمها عماد الدين زنكي من الشمال، ولم يدرك الدمشقيون أي الخطرين كان أشد على وضع مدينتهم إلا أن الجنوبية، شهدت هدوءاً يكاد يكون تاماً بعد حملة عام 523هـ/1129م، ثم تحقق السلام بين الجانبين في عام 528هـ/1134م والذي كان من الممكن أن يتجَّدد. أما سياسة عماد الدين زنكي تجاه دمشق، فقد اختلفت كلياً، فإنه بوصفه المدافع الأول عن المسلمين، فقد رأى توحيد صفوفهم تحت رايته، ولكن دمشق وقفت عقبة أمام تحقيق ذلك فكان عليه تذليلها وشهدت دمشق خلال (شهر شوال / شهر حزيران) تطورات سياسية متسارعة أدّت إلى مقتل شهاب الدين محمود على أيدي رجاله، وتنصيب أخ له غير شقيق هو جمال الدين محمد صاحب بعلبك. والراجح أن معين الدين أنر كان وراء هذه الأحداث بهدف السيطرة على الحاكم الجديد والتفرد باسمه بالسلطة الفعلية.
وفعلاً حقَّق أنر هدفه بعد أن فَّوض إليه الأتابك أمور المدينة وأقطعه بعلبك (2). وهكذا أدّت تلك التطورات السياسية إلى إزدياد نفوذ أنر مما حمل ابن الأثير على وصفة بأنه صار هو الجملة والتفصيل (3)، ولم تكن هذه التطورات في صالح عماد الدين زنكي، كما عَّز على زمرد خاتون التي كانت تقيم في حلب أن يقتل ابنها ويحل محله في حكم دمشق ابن ضرتها، فأرسلت إلى عماد الدين زنكي، وكان في الموصل تستدعيه طالبة الثأر لولدها والسيطرة على دمشق (4). كما أن الأمور لم تستتب للحكام الجدد بسهولة، إذ كان للأتابك جمال الدين محمد أخ يدعى بهرام شاه، عزَّ عليه أن يتجاهله أنر بعد مقتل شهاب الدين محمود، فلجأ إلى حلب، ومنها سار إلى الموصل، طالباً مساعدة عماد الدين زنكي (5)، وبذلك تهيأت لعماد الدين زنكي فرصة أخرى للتدخل في شؤون دمشق، فأعَّد جيشاً خرج على رأسه في (شهر ذي القعدة عام 533هـ/شهر تموز عام 1139م) قاصداً دمشق لاقتحامها قبل أن تستتب الأمور فيها، ويبدو أنه أدرك أن مهاجمة دمشق ليس بالأمر الهين، هي المدينة التي أخلص أهلها لبيت بوري، إذ لم يكد سكانها يسمعون بأخبار الزحف باتجاه مدينتهم حتى صمَّموا على الدفاع والمقاومة إنطلاقاً من هذا الواقع، وضع خطة عسكرية من شقين:
_________
(1) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 122.
(2) تاريخ الزنكيين في الموصل ص 123.
(3) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الزنكيين في الموصل ص 123.
(4) زبدة حلب (2/ 462) تاريخ الزنكيين ص 123.
(5) تاريخ الزنكيين في الموصل ص 123.(1/97)
* تنفيذ حصار شديد على دمشق وعزلها عن بقية ممتلكاتها.
* تكوين جبهة مناهضة لحكامها (1).
وتنفيذاً للشق الأول هاجم بعلبك، التي كانت إقطاعاً لأنر، ودخلها في شهر صفر عام 534هـ/شهر تشرين الأول عام 1139م ووضع يده عليها (2)، والواضح أن ضمَّ بعلبك في هذه الأونة وحمص وحماة وبانياس والمجدل من قبل، هيَّأ له تحقيق الشق الأول من خطته بعزل دمشق ومنع حكامها من الاتصال ببقية أجزاء الإمارة لطلب المساعدة العسكرية والاقتصادية الأمر الذي سيضعف من مقاومتها إلى حد كبير (3)، وتنفيذاً للشق الثاني قام، بجهود سياسية لتقوية موقفه، فراسل رضوان ابن الولخشي، الوزير الفاطمي، الذي كان في طريقه إلى دمشق هرباً من ثورة الجند عليه وأغراه بالانضمام إليه، وفعلاً استجاب الوزير الفاطمي ومال إلى مساندته (4). ويبدو أن أنر أدرك خطورة هذ التحالف على وضعه الداخلي، فسعى لإحباطه وأرسل أسامة بن منقذ إلى رضوان ليقنعه بالعدول عن هذا التحالف، وبذل له من الأموال ما أغراه (5). وظل عماد الدين زنكي قابعاً في بعلبك حتى (شهر ربيع الأول عام 534هـ/ شهر تشرين الثاني عام 1139م، أعاد خلالها تنظيم أمورها الإدارية وعين عليها نجم الدين أيوب، ثم زحف نحو دمشق، وعسكر في سهل البقاع، ورأى قبل أن يهاجمها استقطاب الأتابك جمال الدين لتسليمه المدينة، مقابل منحه حمص وبعلبك إلا أن هذا الأخير رفض هذا العرض، وسانده رجال دولته وعلى رأسهم معين الدين أنر (6) عندئد اضطر إلى التقدم نحو المدينة وفرض الحصار عليها، ودارت عدة اشتباكات بين الطرفين لم تكن حاسمة إنما جاءت لمصلحة عماد الدين زنكي، الذي أوقف القتال مدة عشرة أيام لإعفاء المحاصرين فرصة أخرى للتسليم (7)،
ويبدو أن جمال الدين محمد اقتنع أخيراً، بعدم جدوى المقاومة، وضرورة حقن الدماء، إلا أنه جوبه بمعارضة أنر فوجد نفسه مضطراً لاستئناف القتال (8). وفي شهر شعبان عام 534هـ/ شهر آذار عام 1140م توفي جمال الدين محمد، مما أتاح لعماد الدين زنكي، في ظل النزاع بين الورثة حول الفوز بحكم دمشق، فرصة مؤاتية لتوجيه ضربة حاسمة ضد المدينة، إلا أنه أنر أسرع بتعيين مجير الدين أبق بن محمد أميراً على دمشق، فاضطر عماد الدين زنكي، الذي ضعفت نفسه وضاق صدره إلى التراجع قليلاً، بعدما رأى إصرار الدمشقيين على المقاومة لكنه استمر حصاره أملاً في إنهيار الحالة
_________
(1) المصدر نفسه ص 124.
(2) المصدر نفسه ص 124.
(3) المصدر نفسه ص 124.
(4) الاعتبار ص 37 - 40 تاريخ الزنكيين في الموصل ص 124.
(5) تاريخ الزنكيين في الموصل ص 124.
(6) المصدر نفسه ص 125.
(7) المصدر نفسه ص 125 ..
(8) المصدر نفسه ص 125.(1/98)
الاقتصادية في دمشق، ومن استسلام المدينة (1).
9 - التحالف بين حكام دمشق والصليبيين: وأمام استمرار الحصار، واشتداد الخطر الزنكي، رأى أن يستعين بالصليبيين، فأرسل أسامة بن منقذ إلى فولك أنجو، ملك بيت المقدس لإجراء مفاوضات معه تستهدف طلب المساعدة وأبدى استعداده، بأن:
أ - يدفع عشرين ألف دينار كل شهر، وهي نفقات القوات الصليبية التي ستأتي لمساعدته.
ب- يعيد له حصن بانياس بعد انتزاعه من حاكمه التابع لزنكي.
ج- يسلمه عدداً من كبار أمرائه ليكونوا رهائن ضماناً لحسن التنفيذ وأوضح له أنه إذا نجح عماد الدين زنكي في ضَّم دمشق فإن مقدرات بلاد الشام ستصبح بين يديه مما يشكل خطراً كبيراً على الصليبيين وفعلاً، أدرك الملك فولك ومجلسه الاستشاري أن عماد الدين زنكي الذي بات يمتلك الموصل وحلب وحماة وحمص وبعلبك، لا ينبغي، بأي حال، أن يمتلك دمشق، وإلا فإن تحقيق الوحدة الإسلامية في بلاد الشام وشمالي العراق ستصبح واقعاً، وهذا معناه طردهم من الشرق الإسلامي وأقنعتهم الظروف السياسية والعسكرية بضرورة التعاون المثمر مع أنر، وساد بينهم الشعور بأنه لابَّد من قبول عرضه، وبخاصة أنهم كانوا يتطلعون إلى استعادة حصن بانياس (2)، وسرعان ما أتجه الصليبيون شمالاً بقيادة فولك لنجدة حليفهم. أما عماد الدين زنكي، ظل يراقب الوضع عن كثب، وفك الحصار عن دمشق حتى لا يقع بين فكي الكماشة، وأسرع للتصدي للصليبيين منفردين قبل أن يقتربوا من دمشق وعسكر في إقليم حوران في شهر (رمضان/نيسان) بانتظار وصولهم ويبدو أن فولك، الذي كان يتقدم بحذر، فضَّل التوقف قرب بحيرة طبرية، مما دفع عماد الدين زنكي إلى معاودة حصار دمشق، بيد أن ما لبث أن فكَّ الحصار عندما سمع بتقدم الصليبيين لنجدة حلفائهم، وعاد إلى حمص وتمكنَّ الحليفان من الاستيلاء على بانياس في شهر (شوال/ آيار) وتسلمها فولك وفقاً للاتفاق المبُرم مع أنر. والواقع أن التحالف بين دمشق وبيت المقدس، أنقذ الأولى دون أن ينشب القتال، وتخلصَّ أنر من أخطر وآخر محاولة جدّيه من عماد الدين زنكي لضمَّها إلى أملاكه، الأمر الذي أعاق جهوده بتوحيد المسلمين في بلاد الشام، إلا أنه ظل على الرغم من ذلك يفكر طوال سنوات حكمه المتبقية بتحقيق هذا الهدف (3).
_________
(1) تاريخ الزنكيين في الموصل ص 125 نقلاً عن الكامل في التاريخ.
(2) المصدر نفسه ص 126.
(3) المصدر نفسه ص 126.(1/99)
الفصل الخامس: جهاده ضد الصليبيين:
أولاً: حال المسلمين والصليبيين قبل عماد الدين:
كان المسلمون في الشام متفرقين تكاد كل مدينة أن تكون دولة مستقلة وأقام الصليبيون في شمال سوريا تسعة شهور بعد فتح أنطاكية قبل سيرهم إلى بيت المقدس واستفادوا من هذه الفترة بالإغارة على المناطق الشمالية في سوريا وأقاموا النفوذ الصليبي محل النفوذ الإسلامي دون أن يحتكوا بالبيزنطيين، فأقاموا بذلك سداً في وجه القوات الإسلامية والبيزنطية على السواء إذ فكرت في مهاجمة أنطاكية أو غيرها من الإمارات الصليبية في المستقبل كما جعلت الترابط بين الإمارات اللاتينية متيسراً لتستطيع أحداها أن تنجد الأخرى على جناح السرعة إذا جد الجد وتعقدت الأمور وتقدم الصليبيون نحو الجنوب فأسسوا مملكة بيت المقدس مستغلين ضعف الدولة الفاطمية، ودمشق عن حماية المنطقة والمدن الساحلية وبإنشاء إمارة طرابلس حدث توازن بين الصليبيين والمسلمين فأنطاكية تواجه حلب وطرابلس تواجه مدن وادي العاصي والرها تقع بين حلب والدولة الإسلامية في الشرق والغرب والقدس تقع بين دمشق ومصر ونقطة التوازن والسؤال المطروح هل تنضم حلب إلى دمشق أو للموصل أو إلى الصليبيين (1). لقد كانت بلاد الفرنجة تقتصر على سواحل سوريا وفلسطين وتعتمد على البحر لضمان التموين من الخارج وعلى سلسلة من القلاع الضخمة المبتدئة من ذغيرة في الطرف الجنوبي لبحيرة طبرية ثم كرك وبيت جبريل والدروم وكان خلف هذا الخط الأول توجد القلاع الممتدة من شقيق أرنون إلى صفد والقسطل وفي الشمال حصون عكا والكرك وبارين ومن ورائها جميعاً المدن الساحلية الكبيرة أنطاكية طرابلس وعكا وصور والمرقب وبيروت ويافا وعسقلان وهي أطراف القوى الصليبية من ناحية البحر.
ويقابلها من ناحية البر مرجعيون وجسر يعقوب وبيسان وطبريا وامتازت هذه الحدود الصليبية، أن قلاعها جمعت بين خصائص العمارة الحربية الغربية والشرقية، من حيث أزدواج الأسوار وتعدد الأبراج ذات الطابقين وكل مستلزمات الحامية من ذخيرة وتموين ووسائل دينية وصحية (2).
_________
(1) الحروب الصليبية والأسرة الزنكية ص 112.
(2) المصدر نفسه ص 112.(1/101)
وأما خصائص الصليبيين الاستراتيجية الإسلامية فامتازت باتساع رقعتها وطول خطوط مواصلاتها المتصلة شرقاً وغرباً بقواعد آمنة للتموين في سرعة ففي الشمال حلب وحماه وإلى الشرق الموصل وقلاع الجزيرة ولكنها مدن حصينة، وفي الغرب مصر وما وراءها من بلاد المغرب العربي والنوبة واليمن (1). وبدأ المسلمون في مقاومة الصليبيين منُذ اللحظات الأولى لقدومهم لكن كانت الكفة الراجحة للصليبيين فطمعوا في حلب ودمشق وفرضوا عليها الأتاوات ويصف الحال ابن الأثير (2)، لما ملك المولى الشهيد البلاد كانت الفرنج قد اتسعت بلادهم وكثرت أجنادهم وعظمت هيبتهم وامتدت إلى بلاد الشام أيديهم وضعف أهلها عن غارتهم وكانت مملكة الفرنج جينئذ قد امتدت من ناحية ماردين وسثجتان إلى عريش مصر لم يتخلله من ولاية المسلمين غير حلب وحمص وحماه ودمشق وكانت سراياهم تبلغ من ديار بكر إلى آمد ومن الجزيرة إلى نصيبين ورأس العين وأما الرقة وحران فقد كان أهلها معهم في ذل صغار وانقطعت الطرق إلى دمشق إلا على الرحبة والبر فكان التجار والمسافرين يلقون من المخاوف وركوب المفازة تعباً ومشقة ويخاطرون بالقرب من القبائل العربية بأموالهم وأنفسهم ثم زاد الأمر وعظم الشر حتى جعلوا على كل بلد جاورهم خراجاً يأخذونها منهم ليكفوا أيديهم عنهم، ثم لم يقتنعوا بذلك حتى أرسلوا إلى مدينة دمشق واستعرضوا الرقيق ممن أخذ من الروم والأرمن وسائر البلاد النصارنية وخيروهم المقام عند أربابهم أو العودة إلى أوطانهم والرجوع إلى أهلهم وإخوانهم وناهيك بهذه الحالة للمسلمين ذلة وصغاراً وللكافرين قدرة واقتساراً ... وأما حلب فإنهم ناصفوها أعمالها حتى الرحا على باب الجنان وبينها وبين المدينة عشرون خطوة وأما باقي بلاد الشام فكانت حالها أشد من هذين البلدين (3).
ثانياً: سياسة عماد الدين زنكي مع الصليبيين:
أدّت مواقف عماد الدين زنكي من الصراع ضد الصليبيين دوراً بارزاً في تحديد مستقبله السياسي، إذ دفعت السلطان محمد السلجوقي إلى توليته الموصل والجزيرة وما يفتحه من بلاد الشام إثر وفاة واليها عز الدين مسعود بن البُرسُقي في عام 521هـ/1127م ويبدو أن السلطان اقتنع بأنه الرجل الكفء الذي يستطيع أن يملأ الفراغ الذي تركه حكام الموصل من قبل، مما يؤكد حرصه على الاستفادة من قدراته لصد الخطر الصليبي الجاثم على حدود العراق الغربية (4).لم يمارس عماد الدين زنكي، في بداية حكمه للموصل أي نشاط عسكري
_________
(1) صلاح الدين ص 310 قلعجي الحروب الصليبية والأسرة الزنكية ص 113.
(2) المصدر نفسه ص 113
(3) المصدر نفسه ص 114.
(4) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 129.(1/102)
ضد الصليبيين قبل أن يُثبَّت أقدامه في إماراته الجديدة، ويُعزَّز إمكاناتها الاقتصادية والعسكرية ويؤحَّد ما أمكنه من الإمارات الصغيرة المتناثرة حولها لتأمين خطوط تحركاته في الجزيرة وبلاد الشام إلى الحد الذي يمكَّنه من التصدي لهم ولعل ما يدل على بُعد نظره في هذا الصدد، انه وقَّع هدنة مع جوسلين الثاني أمير الرها لمدة سنتين أخذ أثناءها يوحَّد سلطانه في بلاد الشام (1)، ولم تشر المصادر إلى شروطها، إلا أن ابن الأثير يذكر أنها تمّت على ما اختاره عماد الدين زنكي ويبدو أن المشاكل التي جابهت صاحب الرها، اضطرته إلى قبول هدنة لصالح عدوه المسلم كان هدف عماد الدين زنكي من عقد الهدنة التفرغ لضَّم حلب إلى أملاكه واتخاذها نقطة انطلاق له في بلاد الشام (2)، ونجح في تحقيق هذا الهدف، وانطلق بعد ذلك لاكتساح ما كان يقف في طريقه من حصون مستقلة وإمارات محلية منتهزاً فرصة الهدنة (3).
ثالثاً: مشكلة الوراثة الأنطاكية: وصادق عام 524هـ أن اجتازت أنطاكية الصليبية ظروفاً صعبة كادت تنتهي سقوط هذه الإمارة في يد زنكي، أو بخضوعها لطاعته على الأقل. ذلك أن أميرها " بوهيمند الثاني " قتل هذا العام على أيدي سلاجقة آسيا الصغرى، فخلفته في الحكم زوجته " أليس " ابنه (بلدوين) ملك بيت المقدس، وعندما استنجد الأنطاكيون بأبيها، واتجه لإنهاء المشاكل هناك، أسرعت ابنته وبعثت رسولاً إلى زنكي تعرض عليه إعلان طاعتها له مقابل إقرارها كأميرة على أنطاكية. لكن الرسول مالبث أن قتل على يد بلدوين، الذي عثر عليه أثناء توجهه إلى أنطاكية، إلا أن ملك بيت المقدس ما أن وصل إلى هناك حتى قامت ابنته بإقفال الأبواب في وجهه ثم ما لبثت أن أعلنت - مضطرة - خضوعها له (4) وهكذا خسر زنكي فرصة ثمينة لا تعوض، كان ستتيح له - بلا شك - السيطرة على أهم إمارات الصليبيين في الشمال.
رابعاً: فتح الأثارب: كان عماد الدين آنذاك قد أنهى معظم مشاكله وحروبه ضد أمراء ديار بكر (5)، كما كانت هدنته مع جوسلين قد انتهت، فقرر البدء بالهجوم على المواقع الصليبية، مستهدفاً أشدها قرباً وخطراً على كيانه السياسي في حلب، ولم يكن غير حصن الأثارب المجاورة هو
_________
(1) المصدر نفسه ص 130
(2) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الزنكيين في الموصل ص 130.
(3) عماد الدين زنكي ص 140.
(4) عماد الدين زنكي ص 140.
(5) الباهر ص 39 عماد الدين زنكي ص 140.(1/103)
ذلك الهدف، بسبب ما كان يلحقه من أضرار بفلاحي المنطقة من المسلمين، وكان من فيه من الصليبيين يقاسمون سكان حلب كافة أعمالها الغربية، ويقومون بغارات مستمرة عليهم وقد جمعوا فيه خيرة فرسانهم، نظراً لخطورة موقعه وأهميته بالنسبة لأهدافهم في المنطقة (1)، اتجه عماد الدين زنكي إلى هذا الحصن وفرض الحصار عليه، فلما علم صليبيو الشام بذلك حشدوا قواتهم من كل مكان، وشكلوا جيشاً ضخماً اتجَهوا به لقتال زنكي، فاستشار هذا أصحابه وقادته فيما يعمل، فاجمعوا أمرهم على الإنسحاب، وترك الحصن، لأن لقاء الصليبيين في بلادهم مجازفة وخيمة العاقبة، إلا أنه أجابهم إن الفرنج متى رأونا قد عدنا من بين أيديهم، طمعوا وساروا في أثرنا، وخربوا بلادنا ولا بد من لقائهم على كل حال (2). ومن ثم سار بجيشه للقائهم بعيداً عن الأثارب، وجرت بين الطرفين معركة قاسية انتهت بانتصار المسلمين وقتل وأسر عدد كبير من الصليبيين. ثم ما لبث زنكي أن أتجه إلى الحصن وفتحه عنوة، وقتل وأسر معظم أفراد حاميته، ثم أمر بتخريبه (3). كيلاً يكون عرضة لتهديد مستمر من قبل الصليبيين وتقدم من هناك إلى حارم الواقعة على طريق أنطاكية، وضرب عليها الحصار، فبذل له أهلها نصف دخل بلدهم والتمسوا مهادنته، فأجابهم إلى ذلك، وقفل عائداً إلى حلب (4).
وقد أشار ابن الأثير إلى نتيجة من أهم نتائج معركة الأثارب، وهي أن الأحداث في الشام أخذت تتجه اتجاهاً جديداً لصالح المسلمين الأمر الذي جعل الصليبيين يدركون أن عليهم مجابهة قوة جديدة لم تكن في حسابهم، ويحولون خططهم العسكرية من الهجوم إلى الدفاع، بعد أن كانوا قد طمعوا في ملك الجميع (5).
خامساً: حصن بعرين أوبارين: أنهمك عماد الدين زنكي طيلة السنوات بين
(525 - 528هـ/1131 - 1134م) بتنظيم شؤون إمارته وتوسيعها، ولم يستطيع أن يوجه اهتمامه إلى الصليبيين على الرغم من المنازعات التي نشبت بينهم إثر وفاة الملك بلدوين الثاني (6)، وفي عام 529هـ اتيحت له الفرصة ثانية لتحقيق انتصارات جديدة في بلاد الشام، حيث قام بمهاجمة عدد من المواقع الصليبية المحيطة بحلب والتي كانت تهددها باستمرار، فضلاً عن كونها الخط الدفاعي الذي يحمي أنطاكية من هجمات المسلمين، وتمكن من الاستيلاء على خمسة منها: الأثارب، زردنا،
_________
(1) الكامل في التاريخ نقلاً عن عماد الدين زنكي ص 140.
(2) عماد الدين زنكي ص 141.
(3) الكامل في التاريخ نقلاً عن عماد الدين زنكي ص 141.
(4) عماد الدين زنكي ص 141.
(5) المصدر نفسه ص 141 نقلاً عن الكامل في التاريخ.
(6) تاريخ الزنكيين في الموصل ص 133.(1/104)
تل اغدي، معرة النعمان، وكفر طاب (1)، أدت هذه الانتصارات التي حققها زنكي ضد الصليبيين إلى تنبيههم إلى تزايد خطره على ممتلكاتهم في الشام، وإلى ضرورة توجيه ضربة حاسمة إليه، وراحو يتحينون الفرصة المواتية لإنزال هذه الضربة وبعد عامين وحينما كان منهمكاً في حصاره لحمص، قاموا بحشد جيش كبير تقدموا به مسرعين لمباغتة زنكي والقضاء عليه، وكسب حكام دمشق إلى جانبهم وعندما سمع بذلك سار للقائهم بعيد عن حمص كيلاً يوقع نفسه في شقي الرحى بينهم وبين الحمصيين، ورأى أن خير وسيلة يستدرج بها الصليبيين إليه، وتتيح له، في نفس الوقت تولي زمام المبادرة بنفسه، هو أن يظهر عزمه على مهاجمة حصن بعرين الصليبي القريب وما أن بدأ زحفه صوب ذلك الموقع حتى تقدم إليه الصليبيون بقيادة كل من فولك ملك بيت المقدس وريموند كونت طرابلس ودارت بين الطرفين معركة شديدة انتهت بانتصار المسلمين، وقتل وأسر عدد كبير من جند العدو وأمرائه وقادته، كان ريموند من بينهم، أما فولك فقد تمكن من الهروب إلى حصن بعرين (2).
ومالبث عماد الدين زنكي أن تقدم نحو الحصن وفرض عليه حصاراً شديداً، بينما إتجه عدد من المنهزمين من المعركة إلى بلاد البيزنطيين وأوروبا طالبين النجدة من أبناء العالم المسيحي وأمرائه قائلين لهم أن زنكي، إذا ما تمكن من الاستيلاء على بعرين، سهلت عليه السيطرة على بقية الممتلكات الصليبية في الشام، لعدم وجود من يدافع عنها: وأن المسلمين لهم نية في قصد بيت المقدس. فجمع المسيحيون جيشاً كبيراً من الصليبيين والبيزنطيين، وساروا لنجدة الحصن. إلا أن زنكي كان قد عزله عن العالم الخارجي ومنع عنه تسلل الأخبار، كما أن تشديده الحصار على هذا الموقع الهام أدى إلى تناقص الميرة والذخيرة فيه، الأمر الذي اضطر أصحابه إلى طلب الصلح، فأجابهم زنكي إليه، بعد أن علم بتقدم الأعداء لنجدته، واشترط عليهم، فضلاً عن تسليم الحصن، تقديم مبلغ قدره خمسون ألف دينار يستعين بها على نشاطه العسكري، فلم يتردد أصحاب الحصن في قبول مطالب زنكي، بعد أن أيقنوا بعجزهم عن مقاومته، والتمسو منه إطلاق سراح أمرائهم وكبار أسراهم، فأطلقهم، بعد أن عاملهم معاملة حسنة، وتسلم الحصن (3). والواقع أن ما اشتهر به عماد الدين زنكي من الجلد والصبر ساعده في تحقيق أهدافه، وهو على يقين بما يفعله، فلم تكن بارين قلعة غير ذات أهمية، إذ أن تملكها سوف
_________
(1) زبدة حلب (2/ 259) عماد الدين زنكي ص 142.
(2) ذيل تاريخ دمشق ص 258 - 259 عماد الدين زنكي ص 142.
(3) عماد الدين زنكي ص 143.(1/105)
يمنع الصليبيين من أن ينفذوا إلى أعالي وادي نهر العاصي، كما أن موقعها الاستراتيجي يجعلها تسيطر على حماة وحمص، ويُعُّد فتحها بالغ الأهمية في مشاريعه المستقبلية (1).
1 - الشاعر ابن القيسراني يخلد انتصار عماد الدين في بارين: قال عنه الذهبي في سيره: سيد الشعراء، أبو عبد الله، محمد بن نصر بن صغير بن خالد القيسراني ولد بعكَّا ونشأ بقيسارية، وسكن دمشق وامتدح الملوك .. وقرأ الأدب، وأتقن علم الهيئة والهندسة قال عنه السمعاني: هو أشعر من رأيته بالشام، ولد سنة ثمان وسبعين وأربع مئة، وتوفي سنة ثمان وأربعين، وخمس مئة (2) ويعتبر القيسراني من أشهر شعراء العهد الزنكي وقد خلد انتصارات عماد الدين في بلاد الشام، وشهد بأم عينيه البطولة الإسلامية وهي تحقق الانتصارات الرائعة على الصليبيين وقد قال هذا الشاعر قصيدة مدح فيها عماد الدين زنكي وخلد انتصاره على الفرنجة في معركة بارين أمنع حصونهم،
سنة 534هـ (3).
حذار منا وأنَّى ينفع الحَذَرُ ... وهي الصوارم لا تبقي ولا تَذَرُ
وأين ينجو ملوك الشَّرك من مَلِكِ ... مَمْ خيلُهُ النصر لا بل جُنْدُهُ القَدَرُ
سلُّوا سيوفاً كأغماد السُّيوفِ بها ... صالوا فما غَمَدُوا نَصْلاً ولا شهروا
حتى إذا ما عماد الدين أرهَقَهُم ... في مأزق مِنْ سَنَاه يَبْرُقُ البَصَُر
وَلَّوْا تفيقُ بهم ذَرْعاً مسالكهم ... والموتُ لا ملجأٌ منه ولا وَزَرُ
وفي المسافة من دون النَّجاة بهم ... طُولٌ وإن كان في أقطارها قِصَرُ
وأصبح الدَّين لاعيناً ولا أثراً ... يخاف والكُفْرُ لاعين ولا أثُر
فلا تخف بعدها الإفرنج قاطبة ... فالقوم إن نفروا أَلْوى بهم نَفَرُ
إن قاتلوا قُتلوا أو حاربوا حُرِبوا ... أو طاردوا طُرِدوا أو حاصروا حُصِروا
وطالما استفحل الخطُب البهيمُ بهم ... حتى أتى مَلِكُ آراؤه غُرَرُ
والسيف مُفْترِعٌ أبكارَ أنفسهم ... ومن هنالك قيل الصارم الذَّكرُ
لا فارَقَتْ ظِلَّ محيي العَدْل لامعة ... كالصُّبْح تطوي من الأعداء ما نَشَروُا
ولاَ انثنى النَّصُر عن أنصار دَوْلته ... بحيث كان وإن كانوا به نُصِرُوا
_________
(1) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الزنكيين في الموصل ص 137.
(2) سير أعلام النبلاء (20/ 226).
(3) الأدب العربي من الإنحدار إلى الإزدهار ص 25.(1/106)
حتى تعود ثُغورُ الشام ضاحكة ... كأنما حَلَّ في أكنافها عمر (1)
ويعتبر عماد الدين زنكي أول من مدحه ابن القيسراني من الزنكيين وكان جمال الدين الأصفهاني وزير عماد الدين السبيل الذي أوصله إليه، فنظم في جمال الدين القصائد ومدحه بمدائح كانت - كما يقول العماد - أجود ما سمع من منظومة في الأفاضل (2) ومما قاله في مدح جمال الدين الأصفهاني
وإذا الوفود إلى الملوك تبادرت ... فعلى جمال الدين وفدْ محامدي
يا حبذا هم إليك أصارني ... وعزيمةْ تقفو رياضة قائد
أنا روضةٌ تزُهى بكل غريبة ... أفرائدي من لم يُفْر بفرائدي
إن ساقني طلُب الغنى أو شاقني ... حبُّ العُلا فلقد وَردَتُ مواردي
ومتى عَدّدْت إلى نداك وسائلي ... أعْدَدْتُ قصدي من أجلَّ مقاصدي
حتى أعود مِن امتداحك حالياً ... وكأنني قُلَّدتُ بعض قلائدي (3)
ومما قال فيه أيضاً:
ومروَّع سَكَنَتْ خوافقُ أمنه ... لولا جمال الدين عزَّ أمانه
أمحمد بن عليَّ اعتنقْ الأسى ... فكري فضاق بفارس مَيدانُهُ
ما بالُ حادي المجد مغبَّر المدى ... وأخو الهُوَينى روضةٌ أعطانُهُ
وأنا الذي لا عيب فيه لقائل ... مالم يُقلْ هذا الزمان زمانه
فهل المحامد ضامناتٌ عنكَ لي ... معنىً على هذا البيانِ بيانُه؟
وهي القوافي ما تناظر بالندى ... إلا وقام بفضلها برهانُهُ
ما كان بيتُ فضيلةٍ في فارس ... إلا ومن عربيتي سلمانُهُ (4)
وقد أورد الذين ترجموا لابن القيسراني طائفة مختارة من شعره ولاسيما العماد الكاتب في خريدته وياقوت في إرشاده وقد درس مجموعة من الناقدين شعره ومن أشهرهم من المعاصرين الدكتور عمر موسى باشا وقد أشار إلى أن شعره تميز باتجاهات عامة ثلاثة، تصور
_________
(1) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين (1/ 132).
(2) الأدب في بلاد الشام في عصور الزنكيين والأيوبيين والمماليك ص 177.
(3) الخريدة (1/ 104، 106) الأدب في بلاد الشام ص 177.
(4) الأدب في بلاد الشام عصور الزنكيين والأيوبيين والمماليك ص 178.(1/107)
الأحداث الكبرى في بلاد الشام والاتجاه التقليدي في المدح، والتجديد في معاني الغزل والنسيب ونحن ندعو شعراء اليوم للقيام بواجبهم في بث روح الجد والعمل والجهاد في الأمة من خلال ملكة الشعر التي وهبها الله لهم.
أ- أحداث كبرى: صور الشاعر الأحداث الكبرى في عصره خير تصوير، ووصف من خلال المدح الأبطال المسلمين وحروبهم ورسمها بدقة، فكانت لناصورة حقيقية عن الملاحم المشتجرة بين المسلمين والفرنجة ونستطيع القول إن المدح التقليدي المعروف خرج عن طوقه الآسر، وتطرق إلى وصف هذه الأحداث خلال فترة مديدة من الزمن ولم يبق الشاعر كما كان كثير من سابقيه أسير المعاني التقليدية المعروفة: جود، وبأس، وحلم وجد نفسه أمام صراع مرير تسترخص فيه المهج وتبذل له الأرواح في سبيل العقيدة، وصوت الأوطان، وحماية الأعراض، وطرد المغتصب، فقد أدى الشاعر مهمته خير أداء، فصور هذه الأحداث الجسام ونظمها في شعره، وخلدها على توالي الأيام وتعاقب الدهور، شأنه في ذلك كأي مؤرخ (1)، وقد تفاعل مع الأحداث ومما قاله في عماد الدين زنكي وجهاده:
فقل لملوك الكفر تُسلُم بعدها ... ممالكها إن البلاد بلاده
كذا عن طريق الصبُّح فلينته الدجا ... فيا طالما غال الظلام امتداده
ولله عزمٌ ماءَ سيحان وردهُ ... وروضة قسطنطينة مسترداه (2)
ب- التجديد في معاني الغزل والنسيب: درج الشعراء في معظم الأحيان على استهلال قصائدهم بالنسيب وعلى هذه السنة جرى ابن القيسراني في مطالع بعض القصائد وله في هذه المجال كلام يطول (3) وقد وصف العماد الكاتب في وصف إحدى قصائده أنها: قطعت مجنسة في لطافة الهواء، مالكة رق الأهواء، خلصت من كلفة التكلف، وصفا مشربها عن قذى التعسف، فالأشعار المتكلفة المصنوعة قلما ينفق فيها الأبيات المطبوعة، إلا أن يخص الله من يشاء بالخاطر العاطر، والفكر الحاضر، والقريحة الصافية والآداب الوافرة الوافية، وربما يندر للناظر مقطعات يرزق فيها القبول، كهذه القطعة التي تسلب العقول (4).
_________
(1) الأدب في بلاد الشام عصور الزنكيين والأيوبيين والمماليك ص 187.
(2) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين (1/ 37، 38).
(3) الأدب في بلاد الشام ص 189.
(4) الخريدة (1/ 98) نقلاً عن الأدب في بلاد الشام ص 204.(1/108)
ومما قاله في هذا الباب:
سقى الله بالزوراء (1) من جانب الغرب ... مهاً وردت عين الحياة من القلب
عفائف إلا عن معاقرة الهوى ... ضعائفُ إلا في مغالبة الصبَّ
عقائلُ تخشاها عُقيلُ بن عامر ... كواعب لا تعطى الدَّمام على كعب
إذا جاذبْهَُنَّ البوادي مزيَّة ... من الحسن شبهَّن البراقع بالنقب
تظلمتُ من أجفانهنَّ إلى النَّوى ... سفاها وهل يعدي البعادُ على القُرب
ولما دنا التوديع قلت لصاحبي ... حنانيك سربي عن ملاحظة السَّرب
إذا كانت الأحداق نوعاً من الظُّبا ... فلا شك أن اللحظ ضرب من الضرب
هبوني تعشقت الفراق ضلالة ... فأصبحت في شعب وقلبي في شِعْب
فمالي إذا ناديت ياصبُر منجداً ... خذلت، ولبى إن دعا حرقةً لبَّي
تقضَّى زماني بين بينٍ وهجرة ... فختامَ لا يصحو فؤاديَ مِنْ حبَّ
وأعجب ما في خمر عينيه أنها ... تضاعف سكري كلما قللَّت شربي
إذا لم يكن في الحب عندي زيادة ... تُرجَّى فما فضلُ الزيارة عن رغبَّ
فصرت إذا ما هزَّني الشوق نحوهم ... أحلت عذولي في الغرام على صحبي (2)
2 - ابن منير الطرابلسي يمدح عماد الدين في بارين: شاعر الشام أبو الحسين، أحمد بن منير بن أحمد بن مفلح الطرابلسي، صاحب ديوان مشهور وله نظم بديع وكان يلقب بمُهَذَّب الدين ويقال له: عين الزمان (3) قال ابن عساكر: رأيته مرات، وكان رافضيّاً، خبيث الهجو والفُحش، سجنه بُورى مدة - حاكم دمشق - وهمَّ بقطع لسانه، ثم تَسَحَّبَ، فلما ولي شمس الملوك عاد إلى دمشق، فلبغ شمس الملوك عنه أمرٌ، وأراد صلبه، فاختفى، وهرب، ثم قدم في صحبة نور الدين، وتوفي في جمادي الآخر سنة ثمان وأربعين وخمس مائة بحلب وكان هو والقيسراني كفرسي رهان، ولكن القيسراني سُنيَّ دَيَّن (4).
ولقد صّور ابن منير في مدائحه الزنكية كفاح المسلمين البطولي ضد الغازين الصليبيين
_________
(1) الزوراء: أي مدينة الزوراء، وسميت دجلة بغداد الزوراء.
(2) الأدب في بلاد الشام ص 189.
(3) سير أعلام النبلاء (20/ 223).
(4) المصدر نفسه (10/ 224).(1/109)
ومما قاله في موقعة بارين:
فدتك الملوك وأيّامها ... ودان لنقضك إبرامها
وزلتّ لِعَيْنِك أقّدامُها ... وزال لبطشك إقدامُها
ولو لم تُسلمَّ إليك القلوب ... هواها لما صّح إسلامها
أيا محيي العدل لَمَّا نعاه ... أيامَى البرايا وأيتامها
وُمْستقِذَ الدَّين من أُمَّةٍ ... أذال المحاريب أصنامها
دَلَفْتَ لها تقتفيك الأسود ... والبيض والسُمر آجامها
جَزَرْتَ جزيرتها بالسيوف ... حتى تشاءمها شامها
وصارت عواريَّ أكنافه ... متى شئت أرخص مُسْتامُها (1)
تصور هذه الأبيات حب الشاعر لعماد الدين وإعجابه به وشماتته بأعدائه الصليبيين، فيفتحها بالدعاء بأن يجعل الله ملوك الصليبيين فداء لعماد الدين وبأن يديم قدرته على نقض ما يبرمون ويرجو أن تزل أقدامهم أمام ثبات أقدامه وأن يزول إقدامهم أمام بطشه ويرى أن قلوب المسلمين لا يصح إسلامها إذا لم تسلم إليه زمامها، وهو الذي أحيا العدل بعد أن بكت على فقده الأرامل والأيتام وأنقذ الدين من الصليبيين الذين أزالوا المحاريب وأقاموا مقامها الأصنام ثم يمدحه لفتحه الجزيرة بسيوفه حتى تشاءم أهل الشام وتوقعوا أن يحل بهم ما حلّ بإخوانهم أهل الجزيرة (2).
سادساً: الأمبراطور البيزنطي يغزو بلاد الشام:
1 - ظروف قيام الحملة: ذكر ابن الأثير أن الصليبيين بالشام عندما علموا بحصر الملك فولك في بارين أرسلوا طالبين النجدة من الإمبراطور البيزنطي والغرب الأوروبي: فدخلت القسوس والرهبان بلاد الروم والفرنج وماوالاها من بلادد النصرانية مستنصرين على المسلمين، وأعلموهم أن زنكي إن أخذ حصن بارين ومن فيه من الفرنج، ملك جميع بلادهم في أسرع وقت لعدم الحامي عنها، وأن المسلمين ليس لهم إلا قصد البيت المقدس، فحينئذ اجتمعت النصرانية وساروا على الصعب والذلول وقصدوا الشام مع ملك الروم (3)، والواقع أنه إذا كانت الأميرة الأنطاكية أليسن لم تنجح في الاتصال بعماد الدين زنكي لمساندتها في صراعها مع والدها والنبلاء الآخرين، فنجدها تلجأ إلى طريقة أخرى هي الاتصال بالأمبراطور البيزنطي يوحنا كومنين
_________
(1) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين (1/ 132).
(2) الأدب العربي من الأنحدار إلى الإزدهار.
(3) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الزنكيين ص138.(1/110)
تعرض عليه زواج ابنتها الأميرة كونستاس من ابنه مانويل (1) وقد صادف هذا العرض قبولاً حسناً من قبل الأمبراطور، لأن ذلك يعني دخول أنطاكية في تبعية بيزنطية، وهي ما تسعى إليه جاهدة منُذ الحملة الصليبية الأولى، وهو الأمر الذي لا يقُّره بقية الزعماء الصليبيين لذلك سارعوا بتزويج كونستانس من ريموند دي بواتييه وقد غضب يوحنا من هذا الزواج الذي تَّم دون استشارته لأن أنطاكية تابعة له من الناحية الأسمية، وبذلك أضحى الصدام وشيكاً بين يوحنا وريموند (2).
والحقيقة أن العداء قد اشتد بين البيزنطيين والصليبيين منُذ وصول هؤلاء إلى أطراف بلاد الشام والعراق، ورفضهم التقيد بالعهد الذي قطعوه على أنفسهم للأمبراطور البيزنطي بتسليمه كافة المدن والبلدات التي كانت فيما مضى من ممتلكات الأمبراطورية البيزنطية قبل أن يفتحها المسلمون، وقد تركّز جزء كبير من العداء بين الطرفين في العلاقات بين الأمبراطورية البيزنطية وإمارة أنطاكية، لأن هذه الأمارة بالإضافة إلى إمارة الرها كانت تشكل أهمية دينية وعسكرية وتجارية في السياسية البيزنطية، وعَّدت بيزنطة هذه البلدات جزءاً من ممتلكاتها والواضح أن هذه البلاد كانت تتيح للأرمن الذين سكنوها منُذ أكثر من مائة عام، التوغل داخل الأراضي البيزنطية وتهديدها، ثم إن إقامة الصليبيين في بلاد الشام كان يعني توطيد النفوذ اللاتيني المضر بالمصالح البيزنطية، مما يعَّرض للخطر تجنيد المرتزقة الصليبيين ضمن إطار النظام العسكري البيزنطي. بالإضافة إلى ذلك، فإن مدنها الرئيسية كانت تشكل رؤوساً للجسور التجارية البالغة الحيوية في التجارية البيزنطية، فضلاً عن أنها كانت أكثر الإمارات الصليبية في بلاد الشام تطرفاً إلى جهة الشمال، مما جعل حدودها تجاور الحدود البيزنطية في كيليكية (3)، ويذكر أن الأمبراطور يوحنا كومنين حدَّد السياسة البيزنطية في الشرق الأدنى عند اعتلائه العرش على الشكل التالي:
* إعادة الحدود الآسيوية للأمبراطور إلى ما كانت عليه قبل الغزو السلجوقي.
* طرد سلاجقة الروم من الأناضول.
* طرد الأرمن من كيليكية.
* إجبار الصليبيين في أنطاكية على الاعتراف بسيادة الأمبراطورية.
* استعادة عدد من المواقع الإسلامية في شمالي الشام (4).
وحتى يؤمن مؤخرة جيشه أثناء زحفه نحو بلاد الشام، عقد يوحنا اتفاقيات أمنية مع سلاجقة الروم في الأناضول في عام 531هـ أما الدانشمهديون في سيواس، فقد انهمكوا في
_________
(1) معالم التاريخ الإسلامي الوسيط ص 205.
(2) تاريخ الزنكيين في الموصل ص 138.
(3) تاريخ الزنكيين في الموصل ص 139.
(4) المصدر نفسخ ص 139.(1/111)
منازعات أسرية، فلم يشكلوا أي خطر جدَّي على الأمبراطورية، فأضحى بوسعه بعد ذلك، التدخل في أمور بلاد الشام وهو
مطمئن (1).
2 - السيطرة على كيليكية وأنطاكية: تقدم الأمبراطور البيزنطي من السيطرة على القلاع الأرمينية في كيليكية وتابع زحفه نحو الجنوب، فاجتاز إسكندرونة، وعبر الدروب الشامية إلى أنطاكية التي كانت الهدف الثاني لحملته بعد كيليكية، فظهر أمام أسوارها، وضرب الحصار عليها، فاضطر صاحبها، ريموند بواتيه، أمام ضخام وقوة الجيش البيزنطي من جهة، وعدم حصوله على مساعدات الصليبيين في الرها وبيت المقدس من جهة أخرى، إلى الخضوع لإرادة الأمبراطور بعد حصوله على موافقة الملك فولك وتسلمّ الأمبراطور البيزنطي المدينة، إلا أنه لم يُصر على الدخول إليها، غير أن العلم الأمبراطوري إرتفع بأعلى القلعة (2).
3 - زحف الحملة على حلب: وجرت مباحثات بين الصليبيين والبيزنطيين أدّت إلى ما يلي:
* قيام تحالف بينهم.
* توحيد الجهود العسكرية وتوجيهها للقيام بحملة نصرانية كبرى ضد مسلمي بلاد الشام بهدف.
* تحطيم قوة عماد الدين في حلب.
* القضاء على إمارة بني منقذ في شيزر.
* إقامة إمارة صليبية تشمل الجهات الداخلية من بلاد الشام بما فيها حلب وشيزر وحماة وحمص.
* تعيين ريموند بواتييه أميراً على تلك الإمارة.
* ترك ريموند إقليم أنطاكية للأمبراطور البيزنطي.
* إنجاز هذا العمل التوسعي في الصيف القادم 1138م (3).
دلت المفاوضات على ما يشعر به الصليبيون من الضيق والقلق نحو الأمبراطور البيزنطي، إذ أن موافقة الملك فولك أملتها فيما يبدو، واقعية الظروف السياسية السيئة التي
_________
(1) المصدر نفسه ص 139.
(2) الحروب الصليبية، رنسيمان (2/ 341).
(3) تاريخ الزنكيين في الموصل ص 141.(1/112)
كان يمر بها الصليبيون حيث كان يُدرك جيداً أن عماد الدين زنكي هو العدو الأكبر للصليبيين، ولذا لم يشأ أن يقاوم القوة البيزنطية وينهكها وهي الوحيدة القادرة على وقف تقدمه، ومن جهته، فإن يوحنا كومنين كان واقعياً في تفكيره السياسي، فأدرك أن مصلحة النصارى العامة تقضي بعدم طرد الصليبيين من أنطاكية دون أن يبذل لهم تعويض، يضاف إلى ذلك، أنه أراد أن يقيم على امتداد الحدود إمارات تابعة يتحكم في سياساتها العامة، وتتحمل في الوقت نفسه صدمات، كما تجلّت أطماعه في أملاك المسلمين بالشام ويبدو أن أخبار هذا الاتفاق قد تسربت إلى أهالي حلب الذين قاموا بأعمال التحصين وحفر الخنادق، كما أن الأمير سوار قام بمهاجة الجيش البيزنطي أثناء عودته من أنطاكية إلى أرمينية لقضاء فصل الشتاء وظفر بسرية وافرة العدد من عسكره، فقتل وأسر، ودخل بهم إلى حلب (1) ورغم ما كان يضمره يوحنا من سوء النية وما كان يبيته من هجوم على حلب في العام التالي، إلا أنه تظاهر بالود تجاه عماد الدين زنكي، فأرسل إليه رسولاً أخبره بأنه ذاهب لقتال الأرمن وأن البيزنطيين ليسوا راغبين في أن يبادروا إلى مهاجمته وهو ينوي خداعه حتى يطمئن إليه (2) ثم ما لبث أن أصدر أوامره بالقاء القبض على جميع المسافرين القادمين من حلب والقرى المجاورة صوب الغرب، كيلا تصل أنباء تحركات قوات المتحالفين إلى زنكي (3)، ومن ثم تقدم الامبراطور، يصحبه أميراً الرها وأنطاكية، وبدأوا بمهاجمة حصن بزاعة القريب من حلب وتمكنوا من الاستيلاء عليه (4)،
وقد استطاع بعض أهاليه أن يفروا إلى حلب، حيث أنذروا المسؤولين فيها عن قرب الخطر، فقام هؤلاء بتعزيز التحصينات الدفاعية، وأرسلوا إلى زنكي يطلبون نجدة مستعجلة، فأمدهم بقوة من الفرسان، كان لدخولها حلب تأثير كبير على رفع معنويات أبنائها وما أن وصل المتحالفون إلى حلب وفرضوا الحصار عليها، حتى أدركوا مدى مناعتها وقدرتها الكبيرة على المقاومة، هذا إلى أن الحلبيين أخذوا يقومون بهجمات سريعة على معسكرات الأعداء أدخلت الرعب وعدم الاستقرار في نفوسهم، فآثروا الإنسحاب، ولما علم جند الأثارب بذلك، خافوا من توجه المتحالفين إليهم، فأحرقوا خزائن القلعة وانسحبوا، وقام الامبراطور - أثر
ذلك - بإرسال بعض قواته إلى هذا الموقع، فتمكنت من الاستيلاء عليه. أما هو فقد تقدم على رأس القسم الأكبر من جنده إلى معرة النعمان واستولى عليها، وتوجه من هناك إلى شيزر، وفرض الحصار عليها
_________
(1) المصدر نفسه ص 141.
(2) تاريخ الزنكيين في الموصل ص 141.
(3) زبدة حلب (2/ 264) عماد الدين زنكي ص 144.
(4) عماد الدين زنكي ص 144 ..(1/113)
ساعياً بذلك إلى وضع يده على موقع هام يمنح الغزاة السيطرة على وادي نهر العاصي، ويقف سداً أمام مطامح وأهداف زنكي البعيدة في المنطقة (1).
4 - مناصرة عماد الدين زنكي لبني منقذ في شيزر: أبدى أهالي حلب مقاومة عنيفة للقوات الغازية فضلاً عن وصول نجدة عماد الدين زنكي مما أقنع الأمبراطور بعدم جدوى الاستمرار لحصار المدينة، فغادرها وإتجه إلى حصن الأثارب وملكوه ثم احتلوا بعد ذلك معرة النعماة وكفر طالب واتجهوا إلى شيزر (2) كما ذكرنا وكانت حجم القوات الغازية: مائة ألف راكب ومائة ألف راجل، ومعهم من الكراع والسلاح مالا يحصيه إلا الله: وأمام هذا الخطر الكبير ما كان من حاكم شيزر أبو العساكر إلا أن يعزز من استحكامات المدينة ويطلب النجدة من عماد الدين زنكي، الذي أسرع بالقدوم إلى المنطقة ونزل حماة واتخذها قاعدة لقواته (3). وشرع الأمبراطور في بادئ الأمر بمهاجمة حصن الجسر، وتمكن من زحزحة المدافعين الذين انسحبوا عنه إلى داخل حصن شيزر، واتخذ الإمبراطور من ذلك الحصن الواقع على الجهة اليمنى من نهر العاصي مقراً به، ثم اندفع فرسانه إلى الجزء الذي عليه " البلد " وأظهر بنو منقذ مقاومة عنيفة في المعركة التي جرت بين الطرفين وجرح فيها أحد أمرائهم، وهو أبو المرهف نصر بن منقذ الذي توفي فيما بعد متأثراً بجروحه وتمكن عدد من المهاجمين من النفاذ إلى داخل القلعة من خلال إحدى الثغرات التي أحدثتها قذائف المنجنيقات إلاّ أن رجال بنو منقذ تصدوا لهم وأجبروهم على الإنسحاب من المدينة (4) ولكن البيزنطيين ظلوا يحتفظون ببعض المواقع المتقدمة في ضواحي المدينة، واستمرت غاراتهم مدة عشرة أيام، ثم اقتصر القتال فيما بعد على ضرب المدينة بالمنجنيقات (5).
أ- توزيع القوات المهاجمة: توزعت القوات المهاجمة في أثناء فترة القتال على النحو التالي: قوات ريموند حاكم أنطاكية الذي كان يتمركز في مسجد سمّون الذي يقع بالقرب من باب المدينة وقوات حاكم الرها جوسلين الثاني الذي اتخذ مواقعه في الساحة العامة المخصصة للصلاة أما الأمبراطور يوحنا فبعد ما عجز عن تحقيق النصر في غارته على المدينة
_________
(1) الباهر ص 55 عماد الدين زنكي ص 145.
(2) أسرة بني منقذ ودورها السياسي والحضاري ص 156.
(3) الباهر ص 55، أسرة بني منقذ ودورها السياسي ص 158.
(4) الاعتبار ص 146.
(5) زبدة حلب (2/ 267) أسرة بني منقذ ص 158.(1/114)
أختار مرتفعاً مقابلاً لشيزر يعرف باسم جبل جرجيس ونصب عليه ثمانية عشر منجنيقاً وأربع لعب كانت تضرب المدينة بشكل مباشر، وتمنع المدافعين عنها من الوصول إلى النهر والتزود من مائه (1)، وعلى الرغم من ذلك فقد ذكر أسامة بن منقذ أن جماعة من الراجلة من أهالي شيزر خرجوا لقتال المهاجمين ولكنهم قتلوا وأسر البعض
منهم (2)، وقد أثارت المنجنيقات التي جلبها البيزنطيون معهم الاستغراب والذعر لدى أهالي شيزر، نظراً لضخامتها ولما ألحقته من خراب ودمار بالمدينة حتى وصفها أسامة بأنها: مجانيق هائلة جاءت معهم من بلادهم ترمي الثقل وتبلغ حجرها ما تبلغه النشّابة، وترمي الحجر عشرين وخمسة وعشرين
رطلاً (3)، ويذكر أن إحدى القذائف أصابت منزلاً لصديق له يدعى يوسف بن أبي الغريب فانقلب رأساً على عقب وإن أخرى وقعت على القاعدة الحديدية التي أثبتت عليها السارية المرفوعة في دار عمه الأمير فكسرتها على أحد المارة فقتلته (4).
ب- موقف عماد الدين زنكي من هذه المجابهة: وأما عن دور زنكي في هذه المجابهة فإنه لدى سماعه استغاثة أبي العساكر هرع بقواته إلى المنطقة واختار موضعاً بين حماة وشيزر على ضفاف نهر العاصي، ولم يشأ أن يغامر بشن هجوم عام على البيزنطيين وحلفائهم نظراً لتفوقهم عليه عدة وعدداً: وكان يركب كل يوم ويسير إلى شيزر هو وعساكره ويقفون بحيث يراهم الروم ويرسل السرايا فتأخذ من ظفرت به منهم (5)، ويضيف ابن القلانسي أن عماد الدين زنكي كان يحول بخيله على أطرافهم ويفتك بمن يظفر به: فضلاً عن قيامه بمساعدة بني منقذ بالرجال والسلاح، كما أنه استطاع منع وصول المؤن إلى القوات المهاجمة (6)، فأثّر هذا في زيادة حراجة الموقف بالنسبة لهم ويؤيد لنا هذا الرهاوي في تاريخه بقوله: وشرعت القوات تشعر بالنقص في المؤونة، لأن شعباً فقيراً كان معهم وكان عماد الدين زنكي بمهارته يمنع باحتراس وصول شيء إليهم (7).
* أساليب الحرب النفسية: ولجأ عماد الدين زنكي إلى اعتماد أساليب الحرب النفسية تجاه أعدائه، فقد أرسل إلى الامبراطور البيزنطي يقول له: إنكم قد تحصنتم مني بهذه الجبال فأنزلوا منها إلى الصحراء حتى نلتقي، فإن ظفرت بكم أرحت المسلمين منكم وإن ظفرتم بي
_________
(1) أسرة بني منقذ ص 159.
(2) المصدر نفسه ص 159.
(3) الرطل: كان يعادل آنذاك الكيلو ونصفاً الاعتبار ص 145.
(4) الاعتبار ص 145 - 146 أسرة بني منقذ ودورها السياسي ص 160.
(5) الكامل في التاريخ (87/ 7396).
(6) الباهر ص 55 أسر بني منقد ودورها السياسي ص 160.
(7) أسرة بني منقذ ودورها السياسي ص 160.(1/115)
استرحتم وأخذتم شيزر وغيرها، ولم يكن له بهم قوة وإنما كان يرهبهم بهذا القول وأشباهه (1). وعندما أشار الفرنجة على الإمبراطور بالاستجابة لمنازلة عماد الدين قال لهم: أتظنون أن معه من العساكر من ترون وله البلاد الكثيرة، وإنما هو يريكم قلة من معه لتطمعوا فيه، إنما يريد أن تلقونه فيجيئه من نجدات المسلمين مالا حد له (2).
* طلب النجدة من مختلف المناطق: ومن الجدير بالذكر أن عماد الدين زنكي قد أرسل في طلب النجدة من مختلف المناطق، فأرسل إلى القاضي كمال الدين أبا الفضل محمد بن عبد الله بن القاسم الشهر زوري إلى السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه يستنجده ويطلب منه العساكر فقال القاضي لعماد الدين حين أرسله: أخاف أن تخرج البلاد من أيدينا ويجعل السلطان هذا حجة علينا وينفذ العساكر، فإذا توسطوا البلاد ملكوها. فقال عماد الدين: إن هذا العدو قد طمع في البلاد، وإن أخذ حلب لم يبق بالشام إسلام وعلى كل حال فالمسلمون أولى من الكفار بها (3). وهذا الموقف درس عملي من عماد الدين للقادة السياسيين والعسكريين في الولاء والبراء قال تعالى: " يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين " (المائدة: 51). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله (4)،
وكم ضاعت من بلاد المسلمين قديماً وحديثاً بسبب ضياع هذا المبدأ العقائدي المهم في حياة الأمة قال القاضي كمال الدين: فسرت طالب بغداد وجدت في السير، فلما وصلت بغداد وحضرت قدام السلطان وأديت الرسالة بإنفاذ العساكر، وأنا أخاطب ولا أزاد على الوعد شيئاً فلما رأيت قلة اهتمام السلطان بهذا الأمر العظيم أحضرت فلاناً وهو فقيه كان ينوب عني في القضاء - فقلت له: خذ هذه الدنانير وفرقها في جماعة من أوباش بغداد والأعاجم، وإذا كان يوم الجمعة وصعد الخطيب المنبر بجامع القصر قاموا وأنت معهم واستغاثوا بصوت واحد: وإسلاماه؛ ودين محمداه ويخرجون من الجامع ويقصدون دار السلطان مستغيثين ثم وضعت إنساناً آخر فعل ذلك في جامع السلطان؛ فلما كانت الجمعة وصعد الخطيب المنبر قام ذلك الفقيه وشق ثوبه وألقى عمامته عن رأسه وصاح وتبعه ذلك النفر بالصياح والبكاء، فلم يبق في الجامع إلا من قام وبكى، وبطلت الخطبة، وسار الناس كلهم إلى دار السلطان؛ وقد فعل أولئك الذين بجامع السلطان مثلهم، فاجتمع أهل بغداد وكل من بالعسكر عند دار السلطان يبكون ويصرخون ويستغيثون
_________
(1) الكامل في التاريخ (8/ 750).
(2) الكامل في التاريخ (8/ 740).
(3) مفرج الكروب (1/ 79).
(4) صحيح الجامع الصغير (2/ 343) ج 2536 ..(1/116)
وخرج الأمر عن الضبط، وخاف السلطان في داره وقال ما الخبر؟ فقيل إن الناس قد ثاروا حيث لم ترسل العساكر إلى الغزاة فقال: أحضروا القاضي ابن الشهرزوري. قال: فحضرت عنده وأنا خائف منه، إلا أنني قد عزمت على صدقه وقول الحق.
فلما دخلت قال: يا قاضي ما هذه الفتنة؟ فقلت: إن الناس قد فعلوا هذا خوفاً من الفتنة والشر ولاشك أن السطان لم يعلم كم بينه وبين العدو، وإنما بينكم نحو أسبوع، وإن أخذوا حلب انحدروا إليكم في الفرات وفي البر، وليس بينكم بلد يمنعهم عن بغداد، وعظمت الأمر عليه حتى كأنه ينظر إليه؛ فقال: فخرجت إلى العامة ومن انضم إليهم، وعرفتهم الحال وأمرتهم بالعود فعادوا وتفرقوا، وانتخبتُ من عسكره عشرة آلاف فارس من خيار العسكر، وكتبت إلى الشهيد أعرفه الخبر وأنه لم يبق غير المسير: وأجدد استئذانه في ذلك فأمرني بتسييرهم والحث على ذلك، وعبرت بالعساكر الجانب الغربي، فبينما نحن نتجهز للحركة، وإذا قد وصل نجًّاب من الشهيد يخبر بأن الروم والفرنج رحلوا عن حلب خائبين لم ينالوا منها غرضاً، ويأمرني بترك استصحاب العساكر؛ فلما خاطبت السلطان في ذلك أصّر على إنفاذ العساكر إلى الجهاد وقصد بلاد الفرنج وأخذها وكان قصده أن تطأ عساكره البلاد ويملكها، ولم أزل أتوصل مع الوزير وأكابر الدولة حتى أعدت العساكر إلى الجانب الشرقي وسرت إلى الشهيد (1)
ويتضح لنا مما تقدم مدى بعد نظر القاضي كمال الدين الشهرزوري وحكمته وفطنته لما يدور حوله، حيث استطاع أن يكشف مكنون نفس السلطان مسعود، وبحسن تصرفه في الموقفين في توفير الجيش عند الاحتياج له وصرفه عند انتفاء الحاجة إليه أنقذ عماد الدين زنكي من مأزق خطير كان من الممكن أن يقع فيه إذ وصلت عساكر السلطان إلى الشام في ذلك الوقت بعد رحيل البيزنطيين والصليبيين عن حلب ويكفي هنا أن نوضح أهمية وجود القاضي كمال الدين في دولة عماد الدين زنكي أن نذكر تعقيب ابن الأثير على ما قام به هذا الفقيه مع السلطان مسعود، إذ يقول: فانظر إلى هذا الرجل الذي هو خير من عشرة آلاف فارس، رحم الله الشهيد، فلقد كان ذا همة عالية ورغبة في الرجال ذوي الرأي والعقل، ويرغبهم ويخطبهم في البلاد ويوفر لهم العطاء (2) إن عماد الدين زنكي، ثبت الله ملكه بالعلماء، فقد جاء إلى حكم الموصل بسبب آرائهم، وانقذه الله من إنقلاب محقق على يديهم، وأبعد الله عنه أطماع السلطان مسعود بسبب حنكة العلماء وذكائهم من أمثال القاضي كمال الدين الشهرزوري ولهذا كانت لكمال الدين مكانة خاصة عند عماد الدين
_________
(1) مفرج الكروب (1/ 80،81) ..
(2) دور الفقهاء والعلماء المسلمين في الشرق الأدنى ص 112.(1/117)
زنكي، فقد قال عن جهوده وأعماله .. إن شغلاً واحداً يقوم فيه كمال الدين خير من مائة ألف دينار (1) هذا وقد أرسل عماد الدين إلى سلاجقة الروم يشير عليهم بالاغارة على المواضع البيزنطية في آسيا الصغرى حتى ينصرف البيزنطيون عن القتال هناك (2)، وصدق حدس الأمبراطور عندما وردته أخبار مفادها قدوم أرسلان بن داود ومعه عساكر بلغ تعدادها عشرين ألف فارس لنجدة شيزر (3).
* سهام الحيلة والدهاء يطلقها عماد الدين زنكي: أدرك زنكي كنه العلاقة بين الأمبراطور والفرنجة فلجأ إلى اعتماد أسلوب الحيلة والخداع لتعميق الخلاف بينهما فراح يراسل افرنج الشام ويحذرهم من ملك الروم، ويحملهم أنه أن ملك بالشام حصناً واحداً أخذ البلاد التي بأيديهم منهم، وكان يراسل ملك الروم يتهدده ويوهمه بأن الفرنج معه. فسادت الشكوك بين الطرفين المسيحيين (4) سيما وأن أميري الرها وأنطاكية لم يسعيا إلى التعاون الجاد مع الإمبراطور، فضلاً عن اشتداد المنافسة بينهم، وتخوف ريموند من انتصار الروم، وبالتالي تنفيذ الاتفاقية التي وقعها معهم، والتي تجعله يقف وجهاً لوجه أمام قوات المسلمين بعيداً عن أنطاكية ولم يرغب أمير الرها - هو الآخر - في أن يكون منافسه ريموند قريباً منه في حلب، في حالة انتصار المتحالفين وتنفيذ بنود الاتفاقية المعقودة بينهم، وقد عرقلت هذه العوامل جميعاً توحيد الجهود لفتح شيزر (5). ووردت أنباء إلى أن أمير حصن كيفا الأرتقي أرسل ابنه على رأس جيش كبير من التركمان (6) وأن قوات دمشق تحركت لمساعدة زنكي (7).
ج- فك الحصار عن شيزر: إزاء هذا وذاك رأى الإمبراطور أن الإنسحاب أصبح أمراً محتماً فانهى حصاره لشيزر في التاسع من رمضان (532هـ)، بعد أن عرض عليه أميرها مبلغاً من المال (8).
وقال له: أيها الملك أن الفرنج خدعوك إذ دفعوك إلى محاصرة هذا الموضع، بينما نحن لم نسيء إلى أحد قط ولم نضايق المسيحيين، فأستجاب الإمبراطور بسبب الضغوط الخارجة عن يده وأعلن الإنسحاب وبادر بنو منقذ بإرسال هدايا إليه قوامها آنيه كنيسة من الذهب والفضة وصلبان من الذهب مرصعة بالياقوت، وهي بقايا الغنائم التي
_________
(1) الباهر ص 63 نقلاً عن دور الفقهاء والعلماء المسلمين ص 112.
(2) تاريخ الحروب الصليبية رنسيمان (2/ 346).
(3) أسرة بني منقذ ص 161.
(4) الباهر ص 56 عماد الدين زنكي ص 146.
(5) محاضرات عن الحروب الصليبية، صالح أحمد العلي ص 235.
(6) زبدة حلب (2/ 8268).
(7) ذيل تاريخ دمشق ص 266 عماد الدين زنكي ص 147.
(8) عماد الدين زنكي ص 147.(1/118)
حصل عليها آباؤهم في أثناء مشاركتهم في معركة ملاذكرد (1)، وقاد يوحنا كومنين الأمبراطور البيزنطي القوات المسيحية في طريق العودة إلى أنطاكية وحينئذ إنقضى عماد الدين زنكي على آلاتهم الحربية الثقيلة ومجانيقهم العظام فاستولى عليها ورفعها إلى قلعة حلب (2)، كما أرسل بعض جنده في آثار قوات العدو المنسحب، فقتلوا وأسروا عدداً كبيراً منهم (3)، وفي أنطاكية حدث خلاف جديد بين الإمبراطور والصليبيين، كاد أن ينتهي بفتنة واسعة بين الطرفين لولا إسراع كومنين بالرجوع إلى بلاده (4).
د- أسباب فشل الحملة: يمكن تحديدها فيما يلي:
* عدم قيام الصليبيين بواجباتهم العسكرية وانصرافهم عن مساندة الإمبراطور (5).
* اشتداد المنافسة بين كل من ريموند بواتييه وجوسلين الثاني، فخشي الأول أنه إذا سقطت شيزر بيد النصارى سُيجبر على أن يقيم بها، وفقاً للاتفاقية المُبرمة بين الحلفاء وهي تقع على الخط الأمامي للممتلكات النصرانية المواجهة للمسلمين وسيبتعد نتيجة ذلك عن أنطاكية ومباهجها. أما جوسلين الثاني يكنُّ في قرارة نفسه الكراهية لريموند يواتييه، فإنه لم يود أن يراه مستقراً في شيزار، وفي حلب فيما بعد، فحاول الإيقاع بينه وبين الأمبراطور، ونجح في (6) ذلك.
* انتهز مسعود سلطان سلاجقة الروم فرصة تواجد الأمبراطور يوحنا بعيداً عن الأمبراطورية، وإنشغاله بأمر الصليبيين وعماد الدين زنكي فقام بمهاجمة مدينة أذنة، ولا شك بأن مثل هذه الأنباء قد أزعجت الأمبراطور لأنه خرج بجيشه من أجل العمل على ضَّم أنطاكية إلى أملاك بيزنطية، لا من أجل فقدان بعض أملاك الأمبراطورية، مما حمله على فك الحصار وشرع في العودة إلى بلاده لحمايتها من السلاجقة (7).
* اتبع عماد الدين زنكي خطة عسكرية ذكية يمكن أن نطلق عليها الحرب النفسية إذا جازت هذه التسمية في ذلك الوقت. ذلك أنه راسل المتحالفين وهم في مواقعهم الحصينة عند مدينة شيزر يقول
لهم: إنكم قد تحصنتم مني بهذه الجبال فاخرجوا عنها إلى الصحراء حتى نلتقي، فإن ظفرتم أخذتم شيزر، وإن ظفرنا بكم أرحت المسلمين (8) من شركم وكادت
_________
(1) أسرة بني منقذ ص 163.
(2) زبدة حلب (2/ 268) الباهر ص 56.
(3) الباهر ص 56 عماد الدين زنكي ص 147.
(4) زبدة حلب (2/ 268) عماد الدين زنكي ص 147.
(5) الباهر ص 56 عماد الدين زنكي ص 147.
(6) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 145.
(7) المصدر نفسه ص 145.
(8) المصدر نفسه ص 145.(1/119)
الخطة تنجح حين أشار الصليبيون على الأمبراطور بالنزول إليه وقتاله ولكن يوحنا خشي مغبَّة ذلك وأجاب: أتظنون أنه ليس من العسكر إلا ما ترون؟ وإنما يريد أنكم تلقونه فيجيء إليه من نجدات المسلمين مالا حّدله عليه وفي نفس الوقت كان يراسل صليبي الشام يحَّذرهم من أمبراطور الروم ويعلمهم أنه إذا استولى على حصن واحد في الشام أخذ البلاد التي بأيديهم منهم، ويرسل من جهة أخرى إلى الأمبراطور يخَّوفه من أن الصليبيين في بلاد الشام خائفون منه، فلو فارق مكانه لتخلوا عنه، فاستنفر كل طرف من الطرف الآخر وسادت الشكوك بينهما، وكان قد بلغ الأمبراطور أن قرا أرسلان بن داوود الأرتقي قد عبر الفرات في جموع عظيمة في طريقه إلى شيزر، مما كان له دافعاً له على فك الحصار عدم قيام الصليبيين بواجباتهم العسكرية وانصرافهم عن مساندة الإمبراطور (1).
5 - النتائج التي أسفرت عن فشل حملة المسيحيين: إن أهم النتائج التي أسفرت عن فشل حملة المسيحيين هذه، هي تدهور العلاقات بين البيزنطيين والصليبيين، وعدم استطاعتهم القيام بعمل سريع ضد نشاط زنكي في المنطقة في السنين التالية وفي الأيام التي أعقبت إنسحاب المتحالفين، استطاع صلاح الدين الياغسياني حاجب زنكي، أن يستولي على كفرطاب بعد أن بلغه هروب الصليبيين
منها (2). كما سار زنكي إلى حصن عرقة، فحاصره وفتحه عنوة، وأسر من فيه من الصليبيين، ثم أمر بتخريبه (3). وما لبث أن اتجه في مطلع العام التالي 533هـ إلى حصن بزاعة، فاجتاحه عنوة وقتل معظم من فيه من قوات الصليبيين والروم، ثم حاصر الأثارب، وتمكن من فتحها - في صفر - وقفل عائداً إلى الموصل (4) وأنهمك زنكي، في الفترة التالية، بالعمل على اتمام خطته بتوحيد الجبهة الإسلامية، كي يكون أكثر قدرة على مجابهة الصليبيين وقام عام 533هـ بعد مناورات وعمليات عسكرية وسياسية، في بعض جهات الجزيرة مستهدفاً ضمهاً لإمارته (5)، ثم عاد ليستأنف السعي من أجل تحقيق هدفه القديم بالاستيلاء على دمشق وتوحيد الجبهة الشامية، فاتجه إليها في أواخر العام نفسه، وفرض حصاراً شديداً عليها كاد أن يسقطها في يديه، لولا استنجاد أمرائها بصليبي بيت المقدس، واستجابة هؤلاء لهم، رغبة منهم في القضاء على الخطر المشترك الذي يمثله وجود زنكي في المنطقة، الأمر
_________
(1) الباهر ص 56 عماد الدين زنكي ص 147.
(2) زبدة حلب (2/ 268) عماد الدين زنكي ص 148.
(3) الباهر ص 57 عماد الدين زنكي ص 148.
(4) مفرج الكروب (1/ 83) عماد الدين زنكي ص 148.
(5) عماد الدين زنكي ص 148.(1/120)
الذي اضطر الأخير إلى الإنسحاب (1)، وفي عام 538هـ اتيح لزنكي استغلال مركزه القوى في ديار بكر (2)، والقيام بفتح عدد من المواقع والحصون الصليبية العائدة لإمارة الرها الصليبية، والمنتشرة في المناطق القريبة من ماردين، كجملين والموزر (3)، وتل موزن، وغيرها من حصون إقليم شيختان (4) , وكان هدفه من وراء ذلك قطع الاتصال بين قرا أرسلان الأرتقي، أمير حصن كيفا. وبين جوسلين أمير الرها، وبسبب تحالفهما ضده (5)،
وبذلك تمهد الطريق أمامه لإنزال ضربته المباشرة بالرها نفسها وتحقيق حلمه الذي طالما راود خياله عبر سني صراعه الطويل ضد
الصليبيين (6).
و- مبالغات عند الكتّاب الأوروبيين متعلقة بشيزر: عند الحديث عن حقيقة إنسحاب الأمبراطور عن شيزر يلاحظ عنصر المبالغة الذي اتسمت به الكتابات الأوروبية وإنساق وراءها مؤرخينا المحدثين مفيدة أن بني منقذ أعلنوا عند مفاوضاتهم مع الأمبراطور عن قبولهم بالتبعية والسيادة له، ويبدو أن هذه الكتابات اعتمدت على بعض الروايات البيزنطية التي أرادت أن تغطي للفشل الذريع الذي واجهه الأمبراطور عند أسوار شيزر. والذي يثبت عدم صحتها - كما نرى - هو أن الأمبراطور ليكن في وضع يسمح له بأن يملئ شروطه على بني منقذ للأسباب الآنفة الذكر، حتى أنه لم يمتلك الوقت عند إنسحابه لحمل معداته الحربية أو تدميرها فتركها في إماكنها، فأمر زنكي بحملها إلى حلب، يضاف إلى هذا عجز قواته عن صد الهجمات التي كانت تتعرض لها قواته من قبل زنكي بعد إنسحابه عن شيزر (7)، علاوة على أن المصادر العربية والسريانية التي عاصرت تلك الحملة لم تتطرق إلى هذه المسألة (8).
ز- من عجيب ما يحكى: أن ملك الروم لما عزم على حصر شيزر سمع من بها ذلك، فقال الأمير مرشد بن علي صاحبها وهو ينسخ مصحفاً: اللهم بحق من أنزلته عليه إن قضيت بمجئ ملك الروم فاقبضني إليك فتوفي بعد أيام (9).
ح- ابن قسيم الحموي يمدح عماد الدين زنكي: ولد شرف الدين أبو المجد، مسلم بن
_________
(1) عماد الدين زنكي ص 148.
(2) المصدر نفسه ص 148
(3) يذكر ابن شداد أنها وجملين قلعتا لهما عمل متسع بين ديار بكر وديار مضر، على مسيرة يوم جران.
(4) شيختان: هو أحد أقاليم ديار بكر عند منابع نهر الخابور.
(5) عماد الدين زنكي ص 149 ..
(6) المصدر نفسه ص 149.
(7) أسرة بني منقذ ودورها السياسي والحضاري ص 164.
(8) المصدر نفسه ص 164.
(9) الكامل في التاريخ (8/ 742).(1/121)
الخضر بن مسلم بن قسيم التنوخي الحموي أوائل القرن السادس الهجري بحماة 500هـ وهو أحد شعراء العصر الزنكي الثلاثة المشهورين بعد ابن القيسراني وابن منير، نبغ في عصر شيخوختهما وبلغ إلى درجتهما (1) وأحرز ابن قسيم أول نصر أدبي له عام 532هـ وكان ذلك في الثلاثينات من عمره عندما هرع عماد الدين للدفاع عن المسلمين ضد الأطماع الصليبية في شيزر، وقد خلد الشعراء هذا الحادث الكبير وكانت قصيدة ابن قسيم الوحيدة التي اقتبسها المؤرخون في كتبهم دون سائر القصائد الأخرى، وهي لأعلام شعراء عصر عماد الدين زنكي (2) ومما قاله من الشعر:
بعزمك أيها الملك العظيمُ ... تَذِلُّ لك الصَّعاب وتستقيمُ
ألم تر أن كلب الرُّوم لمَّا ... تبَّينَ أنه الملك الرحيمُ
فجاء يطَّبق الفلوات خيلاً ... كأن الجّحْفَل اللَّيْلُ البهيمُ
وقد نزل الزمان على رضاه ... فكان لِخَطبِه الخَطْبُ الجسيمُ
فحين رَمَيْتَه بك في خميس ... تيقَّن أن ذلك لا يدوم
وأبصر في المفاضة (3) منك جيشاً ... فأحرن (4) لا يسير ولا يقيم
كأنك في العجاج شهاب نور ... توقَّدَ وهو شيطان رحيم
أراد بقاء مهجته فولَّى ... وليس سوى الِحمام (5) له حميمُ (6)
يؤمَّلُ أن تجود بها عليه ... وأنت بها وبالدنيا كريم
أَيلتمس الفرنجُ لديك عفواً ... وأنت بقطع دابرها زعيم (7)
وكم جَرَّعْتَها غُصَصَ المنايا ... بيوم فيه يَكْتَهِلُ الفَطيمُ (8)
ولمَّا أنْ طلبتُهُم تمنَّى ... المنية جُوسلينَهُمُ (9) اللئيم
أقام يطَّوف الآفاق حيناً ... وأنت على معاقله مقيُم
فسار وما يعادله مليك ... وعاد وما يعادله سقيم
_________
(1) الأدب في بلاد الشام عصور الزنكيين والأيوبيين ص 228.
(2) الأدب في بلاد الشام في عصور الزنكيين والأيوبيين ص 230.
(3) المفاضة: مكان واسع تندفع منه الغارة.
(4) فأحرن: في بعض النسخ فأحزن أي بمعن الأرض الغليظة المرتفعة.
(5) الحمام: الموت.
(6) الحميم: صديق.
(7) زعيم كفيل.
(8) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين (1/ 174).
(9) صاحب الرها.(1/122)
إذا خطرت سيوفك في نفوس ... فأوّل ما تفارقها الجسوم (1)
سابعاً: فتح الرها: كانت إمارة الرها الصليبية أولى الإمارات التي تأسست في الشرق الإسلامي سنة 491هـ / 1097م بزعامة بلدوين الأول الذي استمر في حكم هذه الإمارة حتى سنة 494هـ/1100م حين انتقل إلى حكم بيت المقدس عقب وفاة جورفرى ملك بيت المقدس (2). وقد تميزت الرها عن بقية الإمارات الصليبية بموقعها في الحوض الأوسط لنهر الفرات حيث تحملت عبء الدفاع عن بقية الإمارات الصليبية في بلاد الشام، وذلك لقربها من الخلافة العباسية ثم لوقوفها في وجه التركمان الذين كانت تعج بهم منطقة الجزيرة عقب التفكك الذي أصاب السلاجقة في بلاد الشام والعراق عقب وفاة السلطان ملكشاه 485 هـ /1092م (3)، ولم تقتصر أهمية الرها على موقعها الاستراتجي وكونها خط الدفاع الأول عن بقية الإمارات الصليبية في بلاد الشام بل إنها شكلت خطراً أساسياً على خطوط المواصلات الإسلامية بين الشام وآسيا الصغرى والعراق ومنطقة الجزيرة (4). ومما يوضح ذلك أن الحملة التي قام بها كربوقا صاحب الموصل سنة 491هـ/ 1098م نجدة للمسلمين بأنطاكية قد تعطلت بعض الوقت حول الرها في محاولة لانتزاعها من بلدوين الأول (5)،
وعلى الرغم من أن الرها لم تقع في نطاق الأراضي المقدسة في فلسطين فقد عدها الصليبيون من أشرف المدن عندهم بعد بيت المقدس وأنطاكية والقسطنطينية، وفيرة الثروات ساعدت أمراء الرها على توسيع رقعتهم فامتدت إمارة الرها الواقعة على ضفتي نهر الفرات من راوندان وعين ثاب غرباً إلى مشارق ومن بهنسي وكيسوم شمالاً إلى منبج جنوباً (6) واكتسبت الرها أهمية بما تهيأ لها من حكام اتصفوا بالقوة والشجاع استطاعت الصمود في وجه المقاومة الإسلامية، على الرغم من أن الرها كانت تعاني من نقطتي ضعف واضحتين أحدهما الحدود الطبيعية إذ لا توجد لها موانع طبيعية تحميها وتكسبها وقاية ومناعة وثانيها عدم وجود تجانس بين سكانها إذ كانوا خليطاً من المسيحيين الشرقيين " السريان والأرمن
_________
(1) كتاب الروضتين (1/ 124، 125).
(2) الكامل في التاريخ نقلاً عن الجهاد ضد الصليبيين في الشرق الإسلامي ص 230
(3) سلاجقة إيران والعراق، عبد المنعم حسين ص 84.
(4) إمارة الرها، عليه الجنزوري ص 34، الجهاد ضد الصليبين ص 230.
(5) الجهاد ضد الصليبيين في الشرق الإسلامي ص 230 ..
(6) الحركة الصليبية (1/ 424) سعيد عاشور الجهاد ضد الصليبيين ص 230.(1/123)
اليعاقبة " ومن الصليبيين الغربيين، فضلاً عن المسلمين الذين تركزوا من مدن بكاملها كسروج والبيرة التي خضعت للصليبيين (1) ولم تقتصر أهمية الرها على الجانب الصليبي، بل كانت في نظر المسلمين من أهم المواقع التي يجب السيطرة عليها، فقد ذكر ابن الأثير مكانتها في بلاد الجزيرة بسبب موقعها بين الموصل وحلب، أي بينها قاعدة عما في شمال العراق وقاعدتها في الشمال، ولهذا ووصفها بإنها من الديار الجزرية عينها ومن البلاد الإسلامية حضها مما جعل القوى الإسلامية سواء في العراق أو الشام أو الجزيرة ترغب في السيطرة عليها (2).
1 - أوضاع إمارة الرها الداخلية: كانت ظروف الرها الداخلية مؤاتية لعماد الدين زنكي، إذ اتصف أميرها جوسلين الثاني بضعف الشخصيةوإنسياقه وراء العواطف والأهواء وعدم امتلاكه مقدرة سياسية، وبعد نظر، والواقع أن جوسلين الثاني تأثر في نشأته بالميول الأرمينية بفعل أن والدته كانت منهم، فترعرع وفي نفسه ميل إلى الأرمن وغيرهم من السكان الأصليين من الطوائف النصرانية الشرقية وفضَّلهم على النصارى الغربيين الأمر الذي أثار الفرسان الصليبيين وأوجد نوعاً من عدم الاستقرار داخل الإمارة وعُرف عن صاحب الرها أنه كان من عدم الاستقرار داخل الإمارة وعُرف عن صاحب الرها أنه كان من ذلك النوع الذي يؤثر الراحة والعافية، حتى أنه في الوقت الذي هاجم فيه عماد الدين زنكي إمارته، اختار أن يترك مدينته ليقيم في تل باشر عن الضفة الغربية للفرات، وإذا أضفنا إلى ذلك أن المسلمين أحاطوا بهذه الإمارة من كل جانب، وفصلها نهر الفرات عن بقية الممتلكات الصليبية في بلاد الشام؛ لاستطعنا أن نكَّون فكرة عامة عن العوامل التي ساعدت على سقوطها والجدير ذكره أن هذه شَّكلت خطراً كبيراً على المواصلات الإسلامية بين حلب والموصل وبغداد وسلاجقة الروم في آسيا الصغرى، كما كانت عائقاً حال دون قيام الوحدة الإسلامية في بلاد الشام والجزيرة بسبب تدخلها المستمر لصالح خصوم عماد الدين زنكي من الأمراء المسلمين في المنطقة (3)، فكان فتحها ضرورة سياسية وعسكرية واقتصادية (4) ودينية.
2 - عمليات الفتح: استغل عماد الدين زنكي الظروف السابق ذكرها وسعى إلى تدبير خدعة تتيح له تحقيق هدفه من أقصر طريق. وكان يعلم أنه لن يستطيع أن ينال غرضه من الرها ما دام جوسلين وقواته موجودين بها، وهكذا انصب اهتمامه على إيجاد وسيلة تدفع غريمه إلى مغادرة مقر إمارته، فاتجه إلى آمد، وأظهر أنه يعتزم حصارها، وأنها هدفه دون
_________
(1) الجهاد ضد الصليبيين ص 231.
(2) التاريخ الباهر ص 66، 67، الجهاد ضد الصليبيين ص 231.
(3) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلادالشام ص 149.
(4) المصدر نفسه ص 149.(1/124)
غيرها، وبث عيونه - في الوقت نفسه - في منطقة الرها ليطلعوه - أولاً بأول - على تحركات أميرها الذي ما أن رأى إنهماك زنكي بحروبه في ديار بكر وعدم تفرغه للهجوم على المواقع الصليبية، حتى غادر مقر إمارته على رأس
قواته (1)، بعد أن اتخذ إجراءاً احتياطياً بأن عقد هدنة مع فرار أرسلان صاحب حصن كيفا الذي كان قد التجأ إليه بعد تهديد زنكي لإمارته (2)، ومن ثم اتجه إلى تل باشر الواقعة على الضفة الغربية للفرات، كي يتخلص هناك، من كل مسؤولية، ويتفرغ لملذاته، تاركاً حماية الرها لأهاليها من الأرمن والسريان والنساطرة واليعاقبة، وكان معظمهم من التجار الذين لا خبرة لهم بشؤون الحرب والقتال بينما تولى الجند المرتزقة مهمة الدفاع عن القلعة (3)، وجاءت عيون عماد زنكي لتطلعة على النبأ الذي كان يتحرق إليه فأسرع بالتوجه إلى الرها مستعيناً على السرعة بركوب النجائب الإبل مستنفراً كل قادر على حمل السلاح من مسلمي المنطقة للجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله، وما لبث أن انهالت عليه جموع المتطوعين، فطوق بهم الرها من جهاتها الأربع. وحاول في البدء أن يتوسل بالطرق السلمية علها تحقق هدفه دون اضطرار إلى رفع السيف، مراسل أهالي الرها باذلاً لهم الأمان، طالباً منهم أن يفتحوا له الأبواب قبل أن يجد نفسه مضطراً إلى تدمير أسوار بلدهم وإخلاء دياره، إلا أنهم أبوا قبول الأمان (4). وحينئذا اشتد زنكي في التضييق على الحصن، مستخدماً آلات الحصار الضخمة التي جلبها معه لتدمير أسواره، أن تتاح الفرصة لتجمع الصليبيين والتقدم لإنقاذ هذا الموقع الخطير، وأرسل جوسلين لدى سماعه نبأ الهجوم - في طلب نجدة مستعجلة من كافة الإمارات الصليبية في الشام، فلم يستجب له سوى (ميلزاند) الوصية على بيت المقدس، التي وصلت نجدتها بعد فوات الأوان (5)،
كما أنه قام بمحاولة للدخول إلى المدينة، أو إرسال نجدة لتعزيز دفاعها فحيل بينه وبين ذلك وفي السادس والعشرين من جمادى الآخرة 539هـ وبعد مرور ثمان وعشرين يوماً على بدء الحصار إنهارت بعض أجزاء الحصن، أثر الضرب المركز الشديد الذي تعرضت له، فاجتاحت قوات المسلمين المدينة (6)، ثم ما لبثت القلعة أن استسلمت بعد يومين، وقام القس اليعقوبي برصوما بإجراءات تسليم الرها
لزنكي (7).
_________
(1) الباهر ص 67 عماد الدين زنكي ص 151.
(2) عماد الدين زنكي ص 151.
(3) المصدر نفسه ص 152.
(4) المصدر نفسه ص 152.
(5) الحركة الصليبية (2/ 605،606) عاشور عماد الدين زنكي ص 152 ..
(6) ذيل تاريخ دمشق ص 279 - 280) عماد الدين زنكي ص 152.
(7) عماد الدين زنكي ص 153.(1/125)
3 - سياسة عماد الدين زنكي في الرها: رأى عماد الدين زنكي، بعد أن فتح الرها، أن ذلك البلد لا يجوز في السياسة تخريب مثله (1) وأصدر أوامره إلى جنده بإيقاف أعمال القتل والأسر والسلب، وإعادة ما استولوا عليه من سبي وغنائم، فاعيدوا ولم يفقد إلا الشاذ النادر، وأعقب ذلك بإصدار أمر آخر بالإسراع في تنظيم ما اضطرب من أمور الرها، وتعمير ما تهدم خلال أسابيع طويلة من القتال ورتّب من رآه أهلاً لتدبير أمرها وحفظها والاجتهاد في مصالحها، ووعد أهلها با جمال السيرة وبسط العدالة (2) مستهدفاً من وراء ذلك استمالة سكانها الأصليين من المسيحيين الشرقيين ضد الصليبيين الكاثوليك، الأمر الذي يؤكده قيامه بتدمير عدد من الكنائس الكاثوليكية، واحتفاظه بكنائس الشرقيين (3).
4 - العوامل التي ساعدت عماد الدين على استعادة الرها: هناك العديد من العوامل التي ساعدت عماد الدين على تحرير الرها منها:
* تنامي حركة الجهاد الإسلامية حتى عصره وحصاد تجربة المسلمين في ذلك المجال، فلا ريب في أن التجارب السابقة أثبتت أن إمارة الرها مرشحة أكثر من غيرها لكي تكون أولى الإمارات الصليبية المعرضة للسقوط في أيدي قادة الجهاد الإسلامي حينذاك، وقد اجهدها أمر الإغارات المستمر من جانب أتابكة الموصل على نحو خاص طوال ما يزيد على أربعة عقود من الزمان على نحو مثل موتاً بطيئاً لها إلى أن تم الإجهاز عليها في العام المذكور.
* ويضاف إلى ذلك براعة عماد الدين زنكي العسكرية الذي فأجا تلك الإمارة الصليبية بالهجوم، بعد أن أطمأن الصليبيون إليه وتصوروا أنه لن يهاجم فاستغل فرصة غياب أميرها جوسلين الثاني عنها ووجه لها ضربته القاضية التي انتهت بإسقاطها، وهكذا أثبت ذلك القائد المسلم الكبير أنه اختار التوقيت الملائم لذلك العمل العسكري العظيم.
زد على ذلك: أن الخلاف الواقع بين إمارتي الرها وأنطاكية أثر بدوره على إمارة الرها، وأدى إلى إجهادها واستهلاكها سياسياً وعسكرياً (4)، على نحو أثبت أن الخلافات التي كانت تحدث بين القيادات الصليبية أثرت بدورها على كياناتهم السياسية وها هي - لحسن
الحظ - إمارة الرها تدفع الثمن بأن سقطت في قبضة من استحقها من قادة الجهاد الإسلامي في ذلك الحين.
_________
(1) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الزنكيين في الموصل 153.
(2) ذيل تاريخ دمشق ص 280 عماد الدين زنكي ص 153.
(3) عماد الدين زنكي ص 153.
(4) الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب ص 162.(1/126)
* ولا نغفل - من ناحية أخرى شخصية أمير الرها جوسلين الثاني الذي لم يكن على نفسه القدر من الكفاءة السياسية والعسكرية التي اتصف بها والده جوسلين الأول، وكان أميل إلى حياة الخلاعة والمجون والسعي الحثيث إلى الملذات، بل إن كثيراً ما غادر مدينة الرها ذاتها واتجه إلى تل باثر من أجل أن يجد هناك ما يبحث عنه من صور الفساد ولذلك أدرك فيه المسلمون تلك الزاوية فأحسن قائدهم الإفادة منها وهاجم الرها وقت أن غاب عنها جوسلين الثاني، فأصابها في مقتل (1).
* ويبدو أن الجيل الصليبي الذي حل بعد الجيل الأول الذي أسس الكيان الصليبي وحافظ عليه، لم يكن قادراً على الحفاظ على ما شيده السابقون بل لم يكن يدرك أهمية دوره التاريخي في ذلك الموقع الشديد الحساسية الذي أحاطه المسلمون من كل جانب، وهكذا شارك جوسلين الثاني - دون أن يدري - في إنجاح حركة الجهاد الإسلامية حينذاك بقيادة قائدها الكبير عماد الدين زنكي (2).
* وعلى أية حال: من الممكن أن من المؤرخين الغربيين من حاول إظهار عوامل الضعف الداخلي في إمارة الرها، وجعل تلك العوامل وحدها هي التي أدت إلى اسقاطها، وهدف من وراء ذلك إضعاف فعاليات المسلمين السياسية والحربية، غير أن المنطق التاريخي يدعونا إلى تصور أن العوامل الداخلية والخارجية تعاونت معاً من أجل صنع انتصار عام 539هـ/1144م ومهما كان أن شأن عوامل " النحر والانتحار" الداخلية ونتائجها في الرها فإنها ما كانت لتسقط دون الفعاليات العسكرية لقائد موهوب مثل عماد الدين زنكي، وجنوده من خلفه (3).
5 - موقف الفقيه موسى الأرمني في فتح الرها وماذا جرى في صقلية: ورويا لعماد الدين بعد موته:
أ- موقف الفقيه موسى الأرمني في فتح الرها: كان للفقيه المؤذن موسى الأرمني المدرس بإحدى مدارس الموصل موقف مشكور في فتح الرها حيث استخدم أسلوب الحرب النفسية في حملة عماد الدين زنكي على الرها عام 539هـ / 1145م فقد نزل الفقيه محاصراً ومقاتلاً، فخطرت بذهنه خطة ذكية أثناء حصار عماد الدين للرها، فقد نزل السوق، واشترى ملابس الأرمن، لكي يدخل بها إلى المدينة حتى لا يعرفه الصليبيون، ويشكون في
_________
(1) المصدر نفسه ص 162.
(2) المصدر نفسه ص 163.
(3) الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب ص 163.(1/127)
أمره (1): فقال فنزلت السوق، واشتريت لباساً من لباس الأرمن، وتزينت في زيهم (2) ووصلت إلى البلد لأنظره وأكشف حاله، فجئت إلى الجامع فدخلت ورأيت المنارة فقلت في نفسي أصعد إلى المنارة، وأوذن حتى يجري ما جرى، فصعدت وناديت الله أكبر الله أكبر، وأذنت، والكفار على الأسوار، فوقع الصياح في البلد أن المسلمين قد هجموا البلد من الجهة الأخرى، فترك الكفار القتال ونزلوا على السور، فصعد المسلمون وهاجموا المدينة (3).
ب- ملك جزيرة صقلية: كان ملك جزيرة صقيلة من الفرنج لما فتحت الرُّها، وكان بها بعض الصالحين من المغاربة المسلمين، وكان الملك يُحضره ويكرمه ويرجع إلى قوله، ويقّدمه على من عنده من الرهبان والقسيسين، فلما كان الوقت الذي فتحت فيه الرُّها سير هذا ملك الإفرج جيشاً في البحر إلى إفريقية فنهبوا وأغاروا وأسروا، وجاءت الأخبار إلى الملك وهو جالس وعنده هذا العالم المغربي، وقد نعس وهو شبيه النائم فأيقظه الملك وقال: يا فقيه، قد فعل أصحابنا بالمسلمين كيت وكيت، أين كان محمد عن نصرهم؟ فقال له: كان قد حضر فتح الرها - أي اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم - فتضاحك من عنده من الفرنج، فقال لهم الملك: لا تضحكوا، فوالله ما قال عن غير علم واشتد هذا على الملك، فلم يمض غيُر قليل حتى أتاهم الخبر بفتحها على المسلمين، فأنساهم شدة هذا الوهن رخاءَ ذلك الخبر؛ لعلَّو منزله الرّها عند النَّصرانية (4).
ج- رويا للشهيد بعد قتله: ويحكى أن رجلاً من الصالحين قال: رأيت الشهيد بعد قتله في المنام في أحسن حال، فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي. قلت: بماذا؟ قال: بفتح الرها (5).
س- مؤامرة فاشلة من سكان الرها: ما لبث سكان الرها من الأرمن أن دبروا - في العام التالي - مؤامرة استهدفت الفتك بالمسلمين وإعادة المدينة إلى السيطرة الصليبية بعد القيام باستدعاء جوسلين، إلا أن زنكي سرعان ما تمكن من كشف هذه المحاولة الخطيرة، والقبض على مُدبريها وإعدامهم، ثم أعقب ذلك بنفي عدد من الأرمن كيلا يتاح لهم مرة أخرى أن يسعوا إلى طعن المسلمين من الخلف، وتسليم أهم مواقعهم لقمة سائغة للغزاة الصليبيين (6).
6 - نتائج فتح الرها: حقق عماد الدين زنكي يفتح الرها أهم إنجازاته التي قام بها ضد
_________
(1) موقف فقهاء الشام وقضاتها من الغزو الصليبي ص 22.
(2) المصدر نفسه نقلاً عن بغية الطلب في تاريخ حلب.
(3) بغية الطلب في تاريخ حلب (9/ 3851) موقف فقهاء الشام وقضاتها من الغزو الصليبي ص 122.
(4) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين (1/ 141).
(5) المصدر نفسه (1/ 141).
(6) عماد الدين زنكي ص 157.(1/128)
الصليبيين طوال مدة حكمه، وكانت لهذا النصر نتائج هامة في العالمين الإسلامي والنصراني ومن أهم تلك النتائج على الإجمال:
أ- تأكد للمسلمين أن حركة الجهاد الإسلامية وصلت سن الرشد وتجاوزت المراهقة السياسية والعسكرية دون أن يكون ذلك إجحاف بإنجازات القادة السابقين على زنكي لاسيما مودود - وإذا كانت أولى الإمارات الصليبية تهاوت تحت أيديهم، فإنها البداية، واليوم أسقاط الرها وغداً إسقاط باقي الكيان الغازي الدخيل، وهذا ما حدث فعلاً، ومن الآن فصاعداً لن تعود عقارب الساعة إلى الوراء، بل التقدم إلى الأمام بكل ثقة، وإباء، وإنجاز.
ب- تأكد منطق التاريخ من أن مثل تلك الكيانات الصليبية الغير شرعية لن تستمر على الأرض المسلمة، لأن أبناء المنطقة أصحاب الهوية الدينية الموحدة لن يقبلوا بذلك الوضع السياسي والعسكري الدخيل وبالتالي عاد التجانس لمنطقة شمال العراق، ولم تعد الرها تمثل دور الفصل والكيان الصليبي الحاجز المانع من الاتصال بين كل من سلاجقة آسيا الصغرى، وسلاجقة العراق، وكذلك بلاد فارس (1).
ج- زاد الضغط على النطاق الصليبي الذي اتخذ شكلاً طولياً من أنطاكية في الشمال إلى أيلات (الرشراش) جنوباً ومن نهر الأردن شرقاً إلى الساحل الشامي - باستثناء عسقلان، إذ أن صور سقطت بالفعل عام 1124م/518هـ/ بما اشتمله من إمارة طرابلس، ومملكة بيت المقدس الصليبية، فالمؤكد أن رأس الحربة الصليبية في الرها سقطت إلى غير رجعة، والآن أصبح ذراعها قائماً في باقي الكيان الصليبي، ولذلك ازداد الضغط العسكري عليه من قبل القوى الإسلامية التي سيطرت على الظهير الشامي الموازي للساحل والسهل الساحلي، وكأن المعركة صارت - على المستوى الجغرافي - معركة بين الساحل والظهير، واعتمد الأول على الدعم الخارجي الأوروبي في الأساس، واعتمد الثاني على إمكاناته المحلية الوافرة التي تزايد شأنها مع ظهور قادة الوحدة بين المسلمين.
د- أدى إسقاط الرها بمثل هذه الصورة إلى تحرك الحلف الدفاعي الاستراتيجي القائم بين الكيان الصليبي في الشرق، والرحم الأمم في الغرب الأوروبي، فلم يكن ذلك الغرب ليسمح لامتداده السياسي والتاريخي في الشرق أن ينهار قطعة قطعة، بل لابد من التدخل من أجل إعادة الأمور إلى نصابها وإجهاز فعاليات إمارة الموصل، ومن ثم كان قيام حملة صليبية
_________
(1) الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب ص 164، 165.(1/129)
1147 - 1149/ 542هـ - 544هـ التي اشتهرت بالصليبية الثانية، وهي من النتائج المباشرة لإسقاط الرها وهو أمر يوضح لنا بجلاء كيف أن قادة الجهاد الإسلامية حاربوا قوى عالمية، ولم تكن مجرد قوى محلية محدودة التأثير والفعالية، وأنهم بالفعل كانوا جزءاً من صراع قاري أو عالمي على نحو يجعل لهم مكانة بارزة في تاريخ المسلمين - عامة - في عهد الحروب الصليبية.
هـ- ومن النتائج العديدة التي نتجت عن ذلك الإنجاز، إرتفاع شأن عماد الدين زنكي إلى حد بعيد، فبعد أن كان مجرد حاكم محلي محدود النطاق والفعالية، تردد اسمه سريعاً في الحوليات اللاتينية والسريانية ليعكس أنه أحدث تأثيراً كبيراً في مجرى أحداث الشرق اللاتيني، وبصورة غير مسبوقة، أما بالنسبة للمسلمين، فقد احتل مكانة بارزة (1)،فقد عزّز فتح الرها مركز عماد الدين تجاه السلطان السلجوقي مسعود والخليفة العباسي المقتفي لأمر الله الذي أنعم عليه بعدد كبير من الألقاب التي حازها عن جدارة، كالأمير المظفر، ركن الإسلام، عمدة السلاطين، زعيم جيوش المسلمين، ملك الأمراء أمير العراقين والشام (2) وجعل هذا النصر عماد الدين زنكي المدافع الأول عن الدين، والمجاهد في سبيل إعلاء كلمة الله، ودارت في المحافل الإسلامية، أحاديث تمحورت حول شخصه، تصور لنا مدى التقدير، والإعجاب اللذين نالهما إثر تحقيقه هذا النصر الكبير، ومهد هذا الفتح الطريق أمام عماد الدين زنكي لاستكمال فتح الحصون المجاورة، وفرض سيطرته التامة على أملاك أعدائه في المنطقة، وأدَّى فتح الرها دوراً كبيراً في إنقاذ إمارة عماد الدين زنكي من خطر استمرار الغارات الصليبية عليها، فأصبح أهلها بعد الخوف آمنين (3) وهذا إنشاء الله من عاجل بشرى المؤمن.
7 - رأى المستشرق جون لامونت في عماد الدين: يعد المستشرق جون لامونت من أبرز المؤرخين الأمريكيين خلال النصف الأول من القرن الماضي، وتعددت مؤلفاته في مجال الصليبيات، ولاسيما دراسته الوافية عن الملكية الإقطاعية في مملكة بيت المقدس، غير أن له دراسة أخرى عنوانها الحرب الصليبية والجهاد ضمن كتاب التراث الإسلامي الذي نشره نبيه فارس وفي هذه الدراسة؛ اتجه لامونت إلى تفنيده فكرة الجهاد عند المسلمين حينذاك، وتصور تحرك قادة الجهاد الإسلامي حينذاك على أنه من خلال الدوافع السياسية والاقتصادية فقط وذكر بأن عماد الدين زنكي لا يعتبر بأي حال من الأحوال بطل الجهاد،
_________
(1) الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب ص 165.
(2) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 156.
(3) المصدر نفسه ص 156.(1/130)
فإن عماد الدين وإن كان يطمع في استرجاع الرها منُذ وقت طويل كما يقول كمال الدين بن العديم، لم يقم بهذا العمل بوضوح إلا متأخراً، وإلا بعد، حثه على ذلك أمير حران جمال الدين أبو المعالي فضل الله بن ماهان الذي بين له سهولة احتلال المدينة (1)، ويستمر في تصوره قائلاً: الظاهر أنه هو نفسه كان يعتبر احتلال الرها خروجاً عن سياسته وعملاً قام به بناء على تحريض الآخرين (2) وذكر أيضاً: أن استيلاء زنكي على حماه، وحمص، وحلب وحروبه ضد الأرتقيين أعظم أهمية عنده من حرب النصارى، وما كان ليكره التحالف مع اللاتين إذا رئ ذلك مصلحته (3). ومن الممكن تفنيد تلك الآراء على النحو التالي:
* كان اتجاه عماد الدين زنكي لمهاجمة الرها متأخراً وذلك أمر لا يقلل البتة من دوره الجهادي خاصة أنه كان يرى أن يستهلك طاقات تلك الإمارة الصليبية في صراعاته وحروبه معها ضد حصونها ومعاقلها، ثم يتجه بعد ذلك إلى مهاجمة الإمارة نفسها بعد أن يتمكن من سبر غور دفاعاتها، ومعرفة نقاط الضعف فيها، وكذلك نقاط القوة، ومن ناحية أخرى من الطبيعي تصور أن نصيحة أمير حران لزنكي بإسقاط الرها لم تكن لتغير من الموقف شيئاً لو لم يكن زنكي قد خطط مسبقاً لذلك، بل أغلب الظن أن سقوط تلك الإمارة من الصعب تصور حدوثه على النحو الذي يصوره لامونت، بل أنها في الأغلب كانت من مخططات الزنكيين منُذ أمد بعيد، أما تعليل عدم تبكير زنكي، بالاستيلاء عليها، فذلك مرجعه إلى عدم رغبته في إجهاض قوته الحربية في صدام مبكر مع الصليبيين غير مضمون النتائج خلال مرحلة حكمه المبكرة، ولذا فمن الممكن اعتبار توقيت الاستيلاء على الرها - على نحو ما فصلته المصادر اللاتينية والسريانية، والعربية، يعتبر بحق من أبرز دلائل حنكة زنكي السياسية يبدو أن إدعاء لامونت بأن إسقاط الرها كان بعيد عن سياسة عماد الدين زنكي هو أكبر الإدعاءات التي لا تجد سنداً تاريخياً يدعمها، فمن المعروف أن زنكي كان مشتركاً في جيش مودود، وبنص عبارة ابن الأثير: شهد معه حروبه (4)، ولا ريب في أنه أدرك أهمية إسقاط الرها، بل إن ذلك الحلم ترسب في ذهنه منُذ زمن بعيد والمتصور أنه أراد النجاح فيما أخفق فيه مودود من قبل، وقد أعتقد أن إسقاطها أمر ضروري على اعتبار أنها الهدف الصليبي الأقرب إلى الموصل، كما أن تحقيق مثل ذلك الهدف من شأنه تيسير إتصاله بشمال
_________
(1) الحروب الصليبية، العلاقات بين الشرق والغرب ص 166.
(2) المصدر نفسه ص 166.
(3) المصدر نفسه ص 166.
(4) الباهر ص 17 الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب ص 167.(1/131)
الشام، وخاصة من خلال رؤيته التوحيدية الثاقبة (1).
* إن افتراض جون لامونت بأن زنكي كان يمكن أن يتحالف مع اللاتين من أجل مصلحته السياسية، افتراض يدعم حنكة عماد الدين زنكي السياسية، فقد لجأ إلى عقد الاتفاقيات مع الصليبيين أحياناً من أجل التقاط الأنفاس، وعدم الوقوع في آتون جبهتين جبهة الشرق بصراعه مع قواه السياسية وجبهة الصراع مع الصليبيين ثم أنه أراد أن يبعث الطمأنينة في نفوس الأخيرين من خلال مثل تلك الاتفاقات، في حين كان يبطن النية للاجهاز على الرها، ولذا جاءت عمليات الحصار من جانبه نحوها أمراً مفاجئاً لأهلها (2).
* أما القول بأن زنكي لم يكن هدفه الوحيد إسقاط الرها، بل إنه كان يسعى أيضاً إلى بناء دولته على حساب جيرانه سواء المسلمين أو الصليبيين فينبغي ملاحظة أن كافة القيادات الإسلامية التي ظهرت خلال عصر الحروب الصليبية على امتداد القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلادين / السادس والسابع الهجريين وساهمت في قضية الجهاد، كان لديها طابع ما من الطموح السياسي وكانت تسعى بالفعل إلى توطيد أركان دولها على حساب القوى السياسية المجاورة لها، غير أن العبرة هنا بأن الطموح السياسي - كما أشرت من قبل - يتم تفجيره في قضية الأمة بأسرها وهي الجهاد، لأن مثل تلك القيادات كان من الممكن أن ترضى العيش في ذلة وإنكسار مع الصليبيين ولا تتوسع على حسابهم تجنباً لإثارة المشكلات السياسية معهم ولسقوط القتلى والجرحى بل وتعرض مناطق نفوذها الأصلية لاعتداءات الغزاة غير أنها رفضت ذلك وقبلت التحدي الصليبي وأظهرت قدرتها على تغيير الجغرافية السياسية للمنطقة من خلال تبنيها لمشاريع الجهاد (3).
* من المهم أن تعرف أنه لا يخفى على دارسي تاريخ العلاقات الإسلامية مع القوى المسيحية في مرحلة الحروب الصليبية، كيف أن قطاعاً من المستشرقين حرص على سلب المسلمين إنجازاتهم، وشككوا في المراحل الناصعة من تاريخهم، كما أن هناك ثأراً ملازماً ذلك القطاع منهم لاسيما مع فكرة الجهاد وهو ذروة سنام الإسلام، ولذلك حرصوا الحرص أجمعه على إنكارها، والتشكيك فيها، والإساءة إلى كافة التجارب الجهادية الماضية للمسلمين حتى لا يتبنوها في الحاضر والمستقبل، وهكذا من الممكن التقرير - بموضوعية ودون اعتساف في الأحكام - أن عصر الحروب الصليبية شهد نقلة نوعية في تطوير فكرة الجهاد في الإسلام،
_________
(1) الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب ص 167.
(2) المصدر نفسه ص 167.
(3) الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق الغرب ص 168.(1/132)
حيث أن الجهاد هذه المرة ضد عدو استقر على الأرض الإسلامية، بعد ضعف المسلمين من جراء صراعاتهم مع بعضهم البعض، فإذا ما أدركنا أن هويتهم الدينية كانت في خطر أمام مشاريع التنصير التي علقت عليها البابوية آمالاً كباراً، أدركنا كم كانت فكرة الجهاد فكرة محورية في عصر الحروب الصليبية (1)، إن المراجع الغربية حاولت تشويه صورة هذا المجاهد الكبير قديماً وحديثاً ومن أشهر الكتب المعاصرة، كتاب الحرب المقدسة، الحملات الصليبية وأثرها على العالم اليوم قالت صاحبة الكتاب كارين ارمسترونغ عن عماد الدين زنكي: لم يكن هذا بأي حال قدوة تحتذى، بل كان سكيّراً عربيداً قلما يفيق من سكره، كما كان قاسياً بطاشاً مثل معظم رجال الحرب في عصره (2)، وسيرة الرجل تكذب ما يقولون ووصفه مؤرخونا بالشهيد وهو وسام عالي الرتبة والمقام لا يعطى إلا لمن هو أهلاً لهذا الوصف الكبير، فقد قالوا في سيرته من أحسن سير الملوك وأكثرها حزماً للأمور وكانت رعيته في أمن شامل يعجز القوي عن التعدي على الضعيف (3)،
وكان معظماً للشريعة ومقيماً لحدودها في دولته وقد كلف بذلك القضاة إن من أهداف بعض المستشرقين:
* تشويه رموز الجهاد لكي تبقى أجيالنا بدون قدوات تقوي العزائم وتنهض بالهمم.
* إضعاف روح الفداء والتضحية والشهادة والجهاد في الأمة حتى يستطيعوا سوقها كالبهائم.
* محاولة فصل الأمة عن تاريخها بالأكاذيب والتشويه حتى لا ترجع إلى تاريخها الحافل فتستخرج منه الدروس والعبر.
* كانت كتابتهم تنبثق من روح صليبية حاقدة على الأبطال الذين ساهموا في إفشال المشروع الصليبي ولذلك حاول المستشرقون تشويه صورة عماد الدين زنكي.
* إن سيرة عماد الدين ومن حوله من أعوانه المخلصين كالقاضي الشهرزوري تقطع بدون شك بكذب أولئك المستشرقين الذين حاولوا طمس الحقائق والصاق التهم الباطلة بذلك الرجل العظيم، فتجربته الجهادية تستحق الدراسة والتحليل العميق مع ربط ما وصلنا إليه من دروس وعبر بواقعنا المعاصر، لكي نستفيد منها في السعي الجاد لنهضة الأمة.
_________
(1) المصدر نفسه ص 168.
(2) الحرب المقدسة الحملات الصليبية وأثرها على العالم اليوم ص 245.
(3) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين (1/ 157) ..(1/133)
8 - مدح الشعراء لعماد الدين عند فتح الرها: إن كثيراً من الباحثين والكتاب لم يهتموا بالأدب في الحروب الصليبية، بل إن الكثير منهم أطلقوا عليه أدب الإنحطاط، آخذين بأقوال وآراء المستشرقين الذين رغبوا في أن نبتعد عن دراسة تاريخ وأدب هذه الحروب لأسباب كثيرة منها رغتبهم في عدم إطلاعنا على وحشية الصليبيين وقسوتهم، ثم حتى لا نشعر بالعزة والفخر ونحن نقرأ عن تاريخ الأبطال المسلمين عرباً وأكراداً وأتراكاً - يقودون الجيوش وهم يحملون راية الإسلام - مقاتلين ومجاهدين ومنتصرين يترفعون عن القوميات والوطنيات الجاهلية وتجمعهم حب الله ورسوله والجهاد في سبيل الله وابتغاء مرضاته، إن أدب هذه الفترة ما زال بحاجة إلى دراسات مستفيضة، ثم إلى إعادة تقييم وحينئذ سنجد أن آراءنا قد تغيرت تغيراً إيجابياً لإننا سنجد فيه الكثير مما يستحق الدراسة وسنجد الكثير من الأشعار اللطيفة الرقيقة في الحماسة ووصف المعارك ومديح الأبطال وسنجد الشعر الحزين الباكي في رثائهم (1) وهذه باقة طيبة من الأشعار متعلقة بفتح الرها ومدح عماد الدين زنكي فقد وصف ابن الأثير جيش عماد الدين في خروجه لفتح الرها فقال:
بجيش جاش بالفُرسان حتى ... ظننت البَّر بحراً من سلاح
وألسنة من العذبات حُمْر ... تخاطبنا بأفواه الرَّياح
وأروع جيشه ليلٌ بهيم ... وغُرَّته عمود للصباح
صفوح عند قدرته ولكن ... قليل الصفح ما بين الصفاح
فكان ثباته للقلب قلباً ... وهيبته جناحاً للجناح (2)
أ- القيسرني يمدح عماد الدين في فتح الرها: قال الشاعر:
هو السيف لا يغنيك إلا جلاده ... وهل طّوق الأملاك إلا نجاده
ولقد كان لهذا الفتح رنة فرح في نفوس الناس وبفتح الرها تغيرت نظرة الفرنج إلى قوة المسلمين، وأعادها عماد الدين زنكي إلى ديار الإسلام بعد أن حكمها الفرنج نصف قرن ومما جاء في القصيدة:
وعن ثغر هذا النصر فلتأخذ الظُّبى ... سناها وإن فات العيون اتقاده
سمت قبة الإسلام فخراً بطوله ... ولم يك يسمو الدين لولا عماده
_________
(1) شعر الجهاد الشامي في مواجهة الصليبيين ص 10.
(2) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين (1/ 139).(1/134)
وذاد قسيمُ الدَّولة ابنُ قسيمها ... عن الله مالا يُستطاعُ ذيادة
لِيَهْنِ بني الإيمان أمنٌ ترفَّعَتْ ... رواسيه عزَّاً وأطمأنَّ مهادة
وفتحٌ حديثٌ في السماع حديثه ... سهيُّ إلى يومِ المَعَادِ مُعَاُده
أراح قلوباً طِرْن من وُكُناتِها ... عليها فوافى كلَّ صدر فؤادُهُ
لقد كان في فتح الرُّها دلاِلة ... على غير ما عند الُعلُوجِ اعتقاده
يُرَجُّون ميلاد ابن مريم نصرة ... ولم يُعْنِ عند القوم عنهم ولاده
مدينة إفك منُذ خمسين حِجَّة ... يفِلُّ حديد الهند عنها حداده
تفوتُ مدى الأبصار حتى لو أنها ... ترقت إليه خان طرْفاً سواده
وجامحةٌ عزَّ الملوكَ قِيادُها ... إلى أن ثناها من يعزُّ قياده
فأوسعها حرَّ القِراع مُؤيَدٌ ... بصيرٌ بتمرين الألدَّ لِدَادهٌ
كأنَّ سنا لَمْعِ الأسنَّةِ حوله ... شرارُ ولكن في يديه زناده
فأضرمها نارين: حرباً وخدعة ... فما راع إلا سورُها وانهدادُهُ
فصدَّت صُدُودَ البِكْر عند افتضاضها ... وهيهات كان السيف حتماً سفاده (1)
فيا ظَفَراً عمّا البلاد صلاحه ... بمن كان قد عمَّ البلادَ فساده
فلا مُطْلَقٌ إلا وشُدّ وثاقه ... ولا مُوثَقٌ إلا وحُلَّ صِفاده
ولا مِنبرٌ إلا ترنحَّ عُوُده ... ولا مصحف إلا أنار مداده
فإن يثكل الإبرنز فيها حياته ... وإلا فقل للنجم كيف سُهادُهُ
وباتت سرايا القمص نقمص دونها ... كما يتنزّى عن حريق جراده
إلى إين يا أسرى الضَّلالة بعدها ... لقد ذَلَّ غاويكم وعَزَّ رشاده
رُوَيْدكُمُ لا مانع من مُظَفَّر ... يعانِدُ أسباب القضاء عِنادُهُ
مُصيبُ سهام الرأي لو أن عَزْمَهُ ... رمى سَدَّ ذي القرنين أصمى سَدادُهُ
وقل لملوك الكُفر سُلمُ بعدها ... ممالكها إن البلاد بلاده
كذا عن طريق الصُّبح أيتها الدُّجى ... فبا طالماً غال الظلام امتدادُهُ
ومن كان أملاك السَّمواتِ جنده ... فأية أرض لم ترضها جياده
_________
(1) في رواية: نفاده.(1/135)
ولله عزم ماءُ سيحان ورده ... وروضة قسطنطينة مستراده (1)
وله قصيدة هنَّأ بها القاضي كمال الدين بن الشهرُزُوْري أَوّلُها: هي جنة المأوى فهل من خاطب. يقول فيها:
إن الصَّفائح يوم صافحت الرُّها ... عطفت عليها كل أشوس ناكب
فتح الفتوح مبشَّراً بتمامه ... كالفجر في صدر النَّهار الأيبِ
لله أيّة وقفة بدربة ... نُصرت صحابتها بأيمن صاحب
ظفرٌ كمال الدين كنت لقاحَه ... كم ناهض بالحرب غير محارب
وأمدكم جيشُ الملائك نصرةً ... بكتائب محفوفة بكتائب
جنبوا الدَّبور وقد تم ريح الصبا ... جندُ النبوة هل لها من غالب
أترى الرُّها (الورهاء) (2) يوم تمنعت ... ظنت وجوب السورِ سورة لاعب
لا أين يا أسرى المهالك بعدها ... ضاق الفضاء على نجاة الهارب
شدَّا إلى أرض الفرنجة بعدها ... إن الدُّرُوبَ على الطريق اللاَّحب
أفغَرّكم والثّأرُ رهنُ دمائكم ... ما كان من إطراق لحظ الطَّالب
وإذا رأيت الليث يجمع نفسه ... دون الفريسة فهو عينُ الواثب (3)
ب- ابن منير يمدح عماد الدين في فتح الرها:
صفاتُ مجِدكَ لفظ جلَّ معناه ... فلا استردَّ الذي أعطاكه الله
يا صارماً بيمين قائمُةُ ... وفي أعالي أعادي اللَّهِ حَدَّاه
أصبحت دون ملوك الأرض منفرداً ... بلا شبيهٍ إذ الأملاكُ أشباه
فداك من حاولت مسعاك هِمتُهُ ... جهلاً وقصَّرَ عن مسعاك مسعاه
قل للأعادي ألا موتوا به عمداً ... فالله خيبَّكم والله أعطاه
مَلْكٌ تنام عن الفحشاء هِمِتَّهُ ... تقى وتسهر للمعروف عيناه
ما زال يَسْمُكُ والأيام تخدمه ... فيما ابتلاه وتُدْني ما توخّاه
حتى تعالت عن الشَّعْرى مشاعره ... قدراً وجاوزت الجوزاء نعلاه
_________
(1) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين (1/ 143).
(2) الورها: الخرقاء.
(3) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين (1/ 144).(1/136)
وقد روى الناس عن فتح أُتيح له ... مظَّلٌ أفف الّدنيا جناحاه
على المنابر من أنبائه، أرج ... مقطوبة بفتيق المِسْك رّياه
فتحٌ أعاد على الإسلام بهَجَتهُ ... فافتَّر مبسُمه واهتزّ عِطْفَاه
يُهْدَى بمتعصم بالله فتكته ... حَديثها نَسَخ الماضي وأنساه
إن الرُّها غير عمُّوريةٍ وكذا ... مَنْ رامها ليس مَغْزَا، كمغزاه
أخت الكواكب عِزَّا ما بغى أحدٌ ... من الملوك لها وَقْماً (1) فواتاه
حتى دلفت لها بالعزم يشحذه ... رأيٌ يبيتُ فُوَيْقَ النَّجْم مسراه
مشمَّراً وبنو الإسلام في شُغُلٍ ... عن بَدْءِ غرْس لهم أثمار عقباه
يا مُحيي العَدْلِ إذ قامت نَوَادبَُه ... وعامر الجُودِ لمامحَّ (2) معناه
يا نعمة الله يستضفي المزيد بها ... للشاكرين ويستقني صفاياه
أبقاك للَّدين والدُّنيا تحوطُهما ... من لم يُتوَّجْك هذا التَّاج إلا هو (3)
ولابن منير أيضاً من قصيدة أخرى يقول فيها:
أيا ملِكاً ألقى على الشَّرك كلكلاً ... أناخ على أماته كَلْكَلُ الُّثكل
جمعت إلى فتح الرُّها سدّ بابه ... بجمعك بين النَّهْب والأَسْر والقتل
هو الفتحُ أنس كلَّ فتح حديثه ... وتوَّجَ مسطورَ الرَّواية والنَّقْلِ
فضضت به نقشً الخواتمِ بعده ... جُزيتََ جزاءَ الصدق عن خاتم الرسلِ
تجردت للإسلام دون ملوكه ... تُبتَّكُ أسباب المذلَّةِ والخذل
أخو الحرب غَدَّتْهُ القراع مفطَّماً ... يشوب بإقدام الفتى حُنْكَة الكهل
وقال أيضاً:
بعماد الدين أضحت عروة الدين ... معصوبا بها الفتح المبين
واستزادت بقسيم الدَّولة ... القسم في إدحاض كيد المارقين
ملك أسهر عيناً لم يزل ... هُّمها تشديد هَمَّ الرَّاقدين
لاخَلْت من كَحَل النَّصْر فقد ... فقأت غيظاً عيون الحاسدين
_________
(1) وقماً: أي ذلاً.
(2) محّ: خلق ودرس.
(3) أماته: مفردها أم والجمع أمات أو المهات.(1/137)
كلَّ يوم مرّ من أيامه ... فهو عيٌد عائد للمسلمين
لو جرى الإنصاف في أوصافه ... كان أولاها أمير المؤمنين
ما روى الرَّاوون بل ما سَّطروا ... مثل ما خَطَّتْ له أيدي السنين
إذ أناخ الشرك في أكنافه ... بمئي ألفٍ تلاها بمئين
وقعة طاحت بكلب الروم من ... قطعه التَّين إلى قطع الوَتينْ (1)
إن حمت مصر فقد قام لها ... واضح البرهان أن الصَّين صينْ
والرُّها لو لم تكن إلا الرُّها ... لَكَفَتْ حسماً لشك المُمترين
درج الدّهر عليها مُعصِراً ... لم تدنس بمرام اللاّ مسين
هَمَّ قسطنطين أن يَفْرَعَهَا ... ومضى لم يَحوِ منها قِسْطَ طين
ولكم مِنْ مَلِكٍ حاولها ... فتحلَّى الحين وسما في الجبين
هي أخت النجم إلا أنّها ... منه كالنجم لرأي المبصرين
مُنِيَتْ منه بليث قائدٍ ... بِعران (2) الذُّلَّ أساد العرين
زارها يزأرُ في أسد وغًى ... تبدل الأسد في الزأر الأنين
صولجوا البيضَ (3) بضرب نثر ... الهام في ساحاتها نثر الكُرِيْن (4)
يا لها هّمةُ ثَغْرِ أضحكت ... من بني القُلْفِ (5) ثغور الشَّامتين
بَرْنَسَتْ رأسَ برنسٍ ذِلةً ... بعدما جاست حوايا جوسلين
وسروج مُذْوعت أسراجه ... فَرَّقَتْ جُمَّاعها عنها عِضين
تلك أقفال رماها الله من ... عزمه الماضي بخير الفاتحين
شامَ منه الشُّامُ برقاً ودْقُه (6) ... مؤمنُ الخوف مخيفُ الآمنين
كم كنيس كُنِست آرامها ... منه بعد الروح في ظل السَّفين
إلى أن قال:
همة تمسي وتضحي عزمةٌ ... ليس حصن إن نحته بحصين
_________
(1) الوتين: عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه.
(2) العران: خشبة تجعل في وتر أنف البعير وهو ما بين المنخرين.
(3) أي جعلوا السيوف صوالجة، مفردها: صولجان.
(4) مفردها كرة: وهي التي يلعب بها بالصولجان.
(5) القُلْقِ: أي الذين لم يخثنوا ويعني الصليبيين.
(6) ودقة: مطرة.(1/138)
قل لقوم غرّهم إمهاله ... ستذوقون شذاه بعد حين
إنه الموت الذي يدرك من ... فر منه فشجاً للغافلين
وهو يُحيي مُمسكي عُروته ... إنها حبل لمن تاب متين
من يطع ينج ومن يعص يكن ... من غداةٍ عبرةَُ للأخرين
أقسم الجد بأن تبقى لكي ... تملك الأرض يميناً لا يمينْ (1)
وتٌفيض العدل في أقطارها ... منسياً مؤلم عسف الجائرين
لا تزل دارُك كيف انتقلت ... كعبة محفوفة بالطائفين
كل يوم يتحلى جيُدها ... من نظيم المدح بالدُّرَّ الثمين
كلما أُخلص فيها دعوةٌ ... لك قالت ألسْنُُ الخلْفِ أمين (2)
ثامناً: الأحداث العسكرية بعد فتح الرها:
كان فتح الرها بداية لها ما بعدها، إذ لم يكن من الصعب على عماد الدين زنكي أن يستكمل مهمته بفتح باقي المعاقل الصليبية التابعة لهذه الإمارة، فاستغل فرصة تضعضع أحوال الصليبيين في المنطقة (3)، واتجه إلى سروج التي تخلت حاميتها عنها مولية الفرار واستولى عليها، وما لبثت الحصون المجاورة أن أخذت تسقط في يديه واحدة تلو الأخرى (4)، وجعل لا يمّر بعمل من أعمالها ولا معقل من معاقلها، إلا سلّم إليه في الحال (5)، ثم يمم وجهه صوب قلعة البيرة الحصينة المطلة على الفرات، وكانت من أهم الحصون التي تبقت لجوسلين الثاني، وأشدها مناعة ففرض الحصار عليها وقطع عنها ما كان يصل إليها من القوت والميرة والمعونة حتى أشرفت على الاستسلام، وحينذاك بلغ زنكي نبأ مقتل نائبه في الموصل فاضطر إلى فك الحصار والإسراع بالتوجه إلى مقر إمارته لإقرار الأوضاع فيها: إلا أن صليبي الحصن خافوا من مهاجمته إياهم ثانية، فأرسلوا إلى حسام الدين تمرتاش الأرتقي وأعلموه برغبتهم في التنازل له عن موقعهم هذا، قبل أن يسقط بيد عدوهم اللدود.
_________
(1) لا يمين: لا يكذب.
(2) كتاب الروضتين (1/ 149).
(3) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 156.
(4) ذيل تاريخ دمشق ص 280 عماد الدين زنكي ص 156.
(5) ذيل تاريخ دمشق ص 280 عماد الدين زنكي ص 157.(1/139)
وهكذا فقط صليبيو الرها كافة حصونهم الواقعة شرقي الفرات (1)، كنتيجة مباشرة لسقوط القاعدة الأم بيد زنكي، ولم يتبق لجوسلين من إمارته الواسعة سوى عدد من الحصون المنتشرة غربي الفرات كتل باشر ومرعش ودلوك وسميساط وعينتاب وعزاز (2)، واستطاع نور الدين محمود - فيما بعد - أكتساحها جميعاً، ومحو أولى الإمارات الصليبية من الوجود (3).
تاسعاً: من أساليب عماد الدين زنكي في محاربة الصليبيين:
لم يقتصر عماد الدين زنكي، في قتاله للصليبيين على الحروب النظامية، فحسب، إذ كان ذلك يقتضي منه البقاء باستمرار في بلاد الشام، واستنفاد قواه في قتال أعدائه هؤلاء، وعدم تمكنه - بالتالي - من التفرغ لتصفية مشاكله العديدة في العراق والجزيرة وأدرك أهمية الاستفادة من الغارات، أي الهجوم والإنسحاب السريع، سيما في فترات غيابه عن الشام، ذلك أن هذا النوع من القتال سيتيح له الحصول على نتائج هامة، أولها أقلاق الصليبيين وعدم أعطائهم المجال لإعادة تنظيم قواتهم، ورسم الخطط الهجومية على مواقع المسلمين في المنطقة، ومن ثم تمكين هؤلاء من الدفاع عن مراكزهم والاحتفاظ بها، وثانيها إضعاف قوى العدو العسكرية والاقتصادية، بما تحدثه - هذه الحروب - من قتل وأسر ونهب وتخريب، وثالث تلك النتائج قطع الاتصال بين المراكز الصليبية شمالي الشام، وعدم إعطائهم الفرصة للتجمع وتوجيه ضربة موحدة ضد المسلمين (4)، وقد اعتمد زنكي في هذا النوع من القتال على محاربي التركمان، ومهد لذلك بتوثيق علاقاته بقادتهم وإسناد كبرى المناصب الحربية إليهم وقد عمل زنكي على توفير القيادة الحاذقة من التركمان ايتكين، ولجة التركي والياروق وغيرهم، والمحاربين الشجعان، للقيام بشن ما يطلق عليه اليوم حروب المقاومة والعصابات، وجعل من حلب مركزاً لهم نظراً لأهمية موقعها بالنسبة للحصون الصليبية والإسلامية على السواء، فهي تتوسط أنطاكية والرها الصليبتين، وتسيطر على خطوط المواصلات بينهما، كما أنها تعد خير قاعدة عسكرية لتوجيه الهجمات السريعة ضد مواقع وتحركات الصليبيين، وقوافل امدادهم وتموينهم وقد قامت هذه الجماعات من التركمان بشن غارات عديدة ضد جيوش الأعداء ومعسكراتهم، وقوافلهم ومراكز تجمعهم، ولم تخل سنة من سني الصراع وحروب العصابات كان يقوم بها هؤلاء التركمان،
ويلحقون
_________
(1) مفرج الكروب (1/ 96) عماد الدين زنكي ص 157.
(2) عماد الدين زنكي ص 157.
(3) عماد الدين زنكي ص 157.
(4) عماد الدين زنكي ص 158.(1/140)
- بفضلها - خسائر مختلفة في صفوف أعدائهم، ففي رجب من عام 524هـ على سبيل المثال جهز زنكي قوة عسكرية أغارت على عزاز الصليبية وعاشت في بلاد جوسلين أمير الرها (1) وفي العام التالي حدث اشتباك بين سوار وجوسلين، شمالي حلب، أسفر عن انتصار الصليبيين ومقتل عدد من المسلمين، مما دفع سوار إلى القيام بهجوم على ربض الأثارب، والاستيلاء على مقادير من أموالهم ومحاصيله ثم ما لبث، بعد عام واحد 526هـ أن أوقع بصليبي تل باشر وقتل منهم خلقاً كثير (2) ولم يتوقف سوار وجنده التركمان عن شن الغارات ضد الصليبيين كلما اتيحت الفرصة لذلك، وشهد صفر من عام 527هـ عدة اشتبكات بين الطرفين، وقع أحدها بالقرب من قنسرين، أثر قيام بلدوين بيت المقدس بمحاولة للهجوم على أطراف حلب، حيث تصدى له سوار، وجماعة من جنده، وأسفر القتال عن هزيمة المسلمين وإنسحابهم إلى حلب، إلا أن قائدهم الشجاع ما لبث أن خرج بهم ثانية ووقع على طائفة منهم فأوقع بهم وأكثر القتل والأسر، وانهزم من سلم منهم إلى بلادهم وعاد إلى حلب حاملاً معه رؤوس القتلى والأسرى وكان يوماً مشهوداً (3)، ولم تمض سوى أيام قلائل حتى قام صليبيو الرها بمحاولة جديدة للاغارة على أعمال حلب، فخرج إليهم سوار يصحبه الأمير حسان البعلبكي أمير منبج، وأوقع بهم على حين غرة، وتمكن من إبادة عدد كبير منهم، وأسر الباقين، ثم قفل عائداً إلى حلب دون أن يصاب أحد من جنده بأذى (4) وفي جمادي الآخرة من نفس العام قام سوار على رأس قوة من الفرسان بالأغارة على تل باشر، فتصدى له صليبيو ذلك الموقع، إلا أنه تمكن من هزيمتهم، وحصد رؤوس ألف رجل، حملها معه إلى حلب (5).
وفي ربيع الأول من العام التالي سار صاحب موقع القدموس الصليبي إلى قنسرين، على رأس قوة من فرسان أنطاكية، فلقيهم عسكر حلب بقيادة سوار وأسفر القتال عن انتصار الصليبيين واضطر قائد زنكي إلى مصالحتهم، إلا أنه ما لبث أن باغت إحدى سرياهم بهجوم سريع وتمكن من قتل معظم أفرادها، ثم قفل عائداً إلى حلب: فسر الناس بذلك بعد مساءتهم. ولم يمض سوى وقت قصير حتى أغار فرسان الرها على أطراف حلب الشمالية في طريقهم إلى إحدى المعسكرات الصليبية فأوقع بهم سوار وحليفه أمير منبج، وأباد عدداً كبير منهم، بينما وقع معظم الباقين في الأسر (6)،
_________
(1) مفرج الكروب (1/ 4) عماد الدين زنكي ص 159.
(2) عماد الدين زنكي ص 160.
(3) ذيل تاريخ دمشق ص 240 - 241 عماد الدين زنكي ص 160
(4) عماد الدين زنكي ص 160.
(5) المصدر نفسه ص 161.
(6) زبدة حلب (2/ 252).(1/141)
ثم ما لبث سوار أن قام - في نفس العام - بغاره واسعة على المواقع الصليبية في منطقة الجزر (1)، وزردنا، وأوقع بأعدائه عند حارم ثم عاد إلى حلب محملاً بالغنائم والأسلاب (2)، وأخذ نطاق الغارات والهجمات المفاجئة يتسع شيئاً فشيئاً، وشهد رجب من عام 530هـ محاولة واسعة قام بها سوار، إذ سار على رأس ثلاثة آلاف فارس من التركمان وفاجأ بلاد اللاذقية وأعمالها بهجوم مباغت لم يكن الصليبيون يحسبون له أي حساب، وتمكن بذلك من أسر سبعة آلاف أسير، والحصول على مقادير كبيرة من الغنائم، واجتياح عشرات من القرى والمزارع الصليبية ملأ المسلمون أيديهم منها بالأسرى والغنائم، وقد استبشر مسلموا المنطقة أيما استبشار لهذا النصر الكبير الذي أحرزه سوار، والذي كان بالنسبة لصليبي الشمال نكبة لم يمنوا بمثلها (3) والواقع أن ما شاهدته أنطاكية، خلال عامي 529هـ، 530هـ من فتن داخلية بسبب النزاع على الحكم، أسهم إلى حد كبير في عجز هذه الأمارة عن الدفاع عن نفسها إزاء هجمات المسلمين (4)
الأمر الذي دفع قائدهم إلى استغلال الفرصة وتحقيق نصر كبير ضد صليبي الشمال وفي أواخر العام التالي قام سوار بهجوم مباغث ضد سرية بيزنطية كبيرة العدد، كانت تتقدم شرقاً، وتمكن من قتل وأسر عدد من أفرادها ثم قفل عائداً إلى مقره في حلب (5)، ولم تمض سوى أشهر معدودات على هذا الهجوم حتى قام الصليبيون والبيزنطيون بإرسال قوات مشتركة لاحتلال قلعة الأثارب القريبة من حلب، وبعد أن حققت هذه القوات هدفها، أوكل إليها حراسة أسرى المسلمين الذين جمعوا في هذا الموقع. إلا أن سوار ما لبث أن خرج على رأس قواته وهاجم الحامية الصليبية والبيزنطية، وتمكن من استخلاص معظم أسرى المسلمين من أيديهم، وعاد بهم إلى حلب التي عمها السرور وسادتها الأفراح لهذا النصر الذي حققه أميرها (6) وفي عام 533هـ هاجم سوار عدداً من المواقع الصليبية واستولى على بعض الغنائم، إلا أن فرسان الصليبيين تمكنوا من اللحاق به وإنزال هزيمة بقواته أسفرت عن أسر ما يزيد عن ألف فارس منهم، وانسحب هو إلى حلب بمن سلم من جنده (7) واستمرت المناوشات بين الطرفين طيلة السنين التالية، وأصابها بعض
_________
(1) الجزر: أحدى كور حلب معجم البلدان (2/ 71).
(2) زبدة حلب (2/ 254) عماد الدين زنكي ص 161.
(3) ذيل تاريخ دمشق ص 255 - 256) عماد الدين زنكي ص 161.
(4) الحروب الصليبية، العريني (1/ 510) عماد الدين زنكي ص 161 ..
(5) عماد الدين زنكي ص 162 زبدة حلب (2/ 263).
(6) الكامل في التاريخ نقلاً عن عماد الدين زنكي ص 162.
(7) زبدة حلب (2/ 271) عماد الدين زنكي ص 162.(1/142)
الفتور خلال عامي 534 - 535هـ. أثر فشل زنكي في الاستيلاء على دمشق، وتحالف الصليبيون والدمشقيون ضده إلا أن هذه المناوشات ما لبثت أن استعرت من جديد في عام 536هـ والسنين التي تلته، ففي الأشهر الأولى من هذا العام قام الصليبيون بهجوم سريع ضد بعض المواقع الإسلامية غربي حلب، ولدى تفرقهم، أرسل سوار قوة من التركمان بقيادة ابنه علم الدين، أغارت على المواقع الصليبية وتوغلت إلى أسوار أنطاكية، ثم عادت تحمل معها كثيراً من الغنائم والأسلاب (1)
وبعد فترة قصيرة أغار لجة التركي على بعض المناطق الصليبية في الشمال فساق وسبى وقتل، وذكر أن عدد القتلى بلغ سبعمائة رجل (2)، وفي رمضان من العام نفسه هاجم سوار معسكراً صليبياً عند جسر الحديد، إلى الشمال الشرقي من أنطاكية، بعد أن اجتاز بقواته نهر العاصي صوب تجمعات العدو، وتمكن من قتل معظم أفراد المعسكر، وأسر الباقين (3)، وما لبث أمير أنطاكية أن
خرج - في العام التالي - للأغارة على وادي بزاعة القريب من حلب، فتصدى له سوار وأجبره على الإنسحاب. وتمكن جوسلين الفرصة فقام بهجوم على تجمعات المسلمين عند ضفاف الفرات، وتمكن من أسر تسعمائة رجل منهم، ثم أرتأى الطرفان عقد هدنة بينهما لم يكن لأمير أنطاكية نصيب فيها (4)، وهكذا ظل القتال مستمراً بين هذه الإمارة وقوات حلب وعندما خرجت طائفة كبيرة من تجار أنطاكية وفي جمادي الأولى من عام 538هـ - تحرسها قوة من الفرسان في طريقها إلى بعض البلاد الصليبية المجاورة ومعها مال كثير وأموال ومتاع باغتها المسلمون، وأوقعوا بها، وتمكنوا من إبادة كافة أفراد القوة التي خرجت لحمايتها، وغنموا ما كانت تحمله من بضائع قيمة (5) وفي أواخر ذي القعدة من العام نفسه هاجمت مجموعة من فرسان حلب قوة من الفرسان الصليبيين الخارجين من باسوطا وأبادوهم، وأسروا صاحب باسوطا حيث اعتقله سوار في حلب (6).
عاشراً: حصيلة الدور السياسي العسكري الذي لعبه عماد الدين على مسرح التاريخ الإسلامي:
يمكن القول بأن عماد الدين زنكي استطاع أن يحقق قسطاً كبيراً من برنامجه وأن يكون لنفسه مكانه خاصة في التاريخ الإسلامي كسياسي بارع وعسكري متمكن ومسلم واع أدرك
_________
(1) زبدة حلب (2/ 275) عماد الدين زنكي ص 162 ..
(2) عماد الدين زنكي ص 163 زبدة حلب (2/ 275).
(3) زبدة (2/ 276) عماد الدين زنكي ص 163.
(4) عماد الدين زنكي.
(5) ذيل تاريخ دمشق ص 278 زبدة حلب (2/ 277 - 278).
(6) زبدة حلب (2/ 278) عماد الدين زنكي ص 163.(1/143)
الخطر الذي أحاط بالعالم الإسلامي من قبل الصليبيين فقد استطاع أن يوجه الظروف التاريخية القائمة لصالح المسلمين، وذلك بتجميعه القوى الإسلامية، بعد القضاء على عوامل التجزئة والانقسام وتوحيد المدن والإمارات المنفصلة في نطاق دولة واحدة استطاع بمقدرته أن يستغل أقصى ما يمكن أن تقدمه من إمكانات في سبيل تحقيق برنامجه المزدوج أي تشكيل الجبهة الإسلامية وضرب الصليبيين وقد اتضح لنا من خلال استعرض علاقة عماد الدين زنكي بالقوى الإسلامية كامارات المدن والإمارات المحلية في الجزيرة والشام، والقبائل الكردية والتركمانية - مدى قدرته السياسية وبراعة خططه العسكرية خلال علاقاته السلمية والحربية مع هذه القوى المنبثة في المنطقة، فهو من الناحية الرسمية كان قد تسلم من السلطان السلجوقي " محمود بن محمد بن ملكشاه " عام 522هـ منشوراً يقر سلطته الشرعية على الموصل والجزيرة والشام، وقد تأكد هذا المنشور خلال الأعوام التالية.
إلا أنه لم يكن كافياً لتثبيت سلطته الفعلية في هذه الفترة التي استطاع فيها عدد كبير من الأمراء أن يفرضوا سلطتهم على عدد لا يحصى من المدن والأقاليم، مستقلين إلى حد كبير عن السلطة السلجوقية ومستفيدين من مجموعة من العوامل الشخصية والسياسية والجغرافية والاقتصادية والبشرية، فكان لابد لزنكي إذن، من إخضاع هذه العدد الكبير من السلطات المتمركزة في المنطقة، ومن اختيار أسلوب الهجوم، منُذ البداية بالرغم مما يحيق بهذا الأسلوب من أخطار أولها احتمال تشكيل حلف دفاعي مضاد من الأمراء العادين وقد يتحول هذا الحلف فيما بعد إلى حلف هجومي، كما حدث بالنسبة للأراتقة وثاني تلك الأخطار عدم وجود خط رجعة في حالة إنكساره أو إنسحابه أمام الأمراء المحليين الذين كانوا يحيطون به إحاطة السوار بالمعصم. إلا أنه لم يأبه لهذه الأخطار، وراح يهاجم الأمراء المحليين منُذ البداية، دفعه إلى ذلك طموحه وشجاعته الشخصية، وإطمئنانه إلى قاعدة شعبية تحبه وتخلص له لمواقفه السابقة تجاه الصليبيين، قبل أن يتولى الحكم في الموصل، كما ساعده على ذلك منشور السلطان، آنف الذكر بتسلم الموصل والجزيرة والشام، وما كان يتضمنه من اعتراف بحرية زنكي في الاشتباك مع التشكيلات السياسية المحلية واكتساحها، والتوسل بأية وسيلة يراها مناسبة لتحقيق هذا الهدف (1)، لكن الأهم من ذلك كله ما تمتع به زنكي من مقدرة سياسية وعسكرية وما تميز به من نظر بعيد. ذلك أنه عرف - منُذ
البدء - أنه إذا ما سلك سبيل المسالمة والتودد تجاه الأمراء المحليين فإن حصونهم ومدنهم وإماراتهم ستظل تشكل عوامل خطر ضد إمارته، لقربها منها، ولاستراتيجية مواقعها إذ تشكل نقاط تسلط مرتفعة، إنحدارها باتجاه الموصل، وخطوطها الخلفية سلاسل جبلية وأنهار متشابكة
_________
(1) عماد الدين زنكي ص 165.(1/144)
وحصون منيعة. كما أن السياسة الانعزالية التي اتبعها أولئك الأمراء تجاه الخطر الصليبي المتقدم نحو الشرق، وما تبع ذلك ذلك من تشتيت لإمكانات المسلمين البشرية والعسكرية والاقتصادية، قد أدت إلى عجز هذه الإمارات عن الوقوف بوجه هذا الخطر الصليبي الزاحف هذا في الوقت الذي كان على زنكي فيه أن يعمل على إزالة العقبات التي تقف أمام توحيد الإمارات المتفرقة، المبعثرة، في جبهة إسلامية موحدة تستطيع أن توقف الزحف الصليبي، ومن ثم تبدأ بالهجوم المنظم على قواعد الصليبين هذه العوامل التي دفعت زنكي إلى اتباع سياسة الهجوم، والتي تخللتها أحياناً علاقات سلمية ومعاهدات استدعتها طبيعة الظرف الذي كان يمر فيه وفي نفس الوقت، عمل زنكي على تأمين حدود إمارته باتجاه الشرق والشمال الشرقي، حيث يشكل الأكراد والتركمان في هذه المناطق عناصر خطر بالغة ضد إمارته، لاسيما عند تأزم علاقاته بالإمارات الغربية، أو عند توغله بعيداً عن مقره في الموصل (1). ومن ثم تبدو لنا واضحة أهمية الدور الذي لعبه زنكي في التاريخ الإسلامي إذ يعتبر أول قائد قام بتجميع القوى الإسلامية وفق برنامج معين ليجابه بها تزايد الخطر الصليبي الذي لم توقفه المحاولات الجدية التي سبقت زنكي وبخاصة تلك التي تمت على يد كل من مودود بن التونتكين 502 - 507هـ وايلغازي وبلك الأرتقيين 512 - 518هـ وآق سنقر البرسقي 518 - 520هـ (2)
ومن المرجح أنه لو تمكن زنكي من فتح دمشق وانجاز محاولته لتوحيد الشام، ولو لم يقتل - وهو في قمة انتصاراته ضد الصليبيين - لكان قد استطاع أن يستكمل الأجزاء المتبقية من برنامجه، ولتكاملت أمام الباحث الحديث الصورة الواضحة للدور الذي قام به في التاريخ الإسلامي، وهو دور فاصل تتضح خطورته، إذا عرفنا أن نور الدين محمود، ومن بعده صلاح الدين لم تكن جهودهما سوى اتمام العمل الذي بدأه عماد الدين زنكي وفي نفس الطريق (3).
الحادي عشر: الأيام الأخيرة من حياة عماد الدين زنكي:
1 - تهنئة عماد الدين بالشفاء من مرض عرض له: في عام 540هـ انشد ابن منير بالرقة في عماد الدين زنكي قصيدة، يهنّئه بالعافية من مرض عرض له في يده ورجله قال فيها
يا بدرُ لا أَفْلٌ ولا مُحَاقُ (4) ... ولا يَرِم (5) مشرقك الإشراق
بالدَّين والدُّنيا الذي تشكو هول ... يهتز فرعٌ لم يُقمه ساق
_________
(1) المصدر نفسه ص 166.
(2) عماد الدين زنكي ص 166 ..
(3) المصدر نفسه ص 166.
(4) لا أفق ولا مجال وهو وهم.
(5) لا يَرِم: يبرح.(1/145)
لن تُورِق القُضْب ويجري ماؤها ... فيها إذا التاثت الأعراق
إن الرّعايا ما سلمت في حمىً ... للخطب عن طُرُوقه إطراق
غرست بالعدل لهم خمائلاً ... ترتع في حديقها الحِداقُ
ياهضبة الدين التي عاذبها ... فعاد لا بغت ولا إرهاق
لو لم تَحُطُه راحلاً وقاقلاً ... أصبح لا شام ولا عِراق
عماد الدين مُذْ أقام زيغَهُ ... حيَّ ومات الشَّركُ والنفاق
يا محي العدْل الذي في ظلَّة ... تسربَلَتْ زينتَها الأفاق
يَفديك من لان مِهادٌ جنبه ... لمَّا نبا بجنبك الإقلاقُ
من بِشَبَا سيفك (1) أنبطت (2) له ... العذْب وماء عيشه زُعاقُ (3)
تجرَّع السَّمَّ ولو لم تحمه ... بحَّده لعزه الدَّرياق (4)
ملوك أطراف حمى أطرافها ... عزمك هذا اللاّحق السَّبَّاقُ
لو لم ترق ماءَ كرى العين لما ... ساغت بأفواهم الأرياق (5)
شققتَ من دونهم موج الرّدى ... وشقَّ أكبادَهُمُ الشقاق
أقسم لو كلَّفتهم أن يسمعوا ... حديث أيامك ما أطاقوا
لمّا اشتكيت دبَّ في أهوائهم ... توجّسٌ للَّسمع واستِراق
تطاولوا لاعدمت آمالهُهم ... قصراً ولا جانبها الإخفاق
توهَّمُوها غَسَقاً ثم انجلت ... والصَّفُو من مشربهم غَسَّاق (6)
لئن ألمَّ ألمٌ يقدمٍ ... خَدُّ السُّها (7) لنعلها طراق
أو كان مدَّ يَدَهُ إلى يدٍ ... تحري بها الآجال والأرزاق
فالنَّصْل يُعْلَى صَدَأً وتحته ... حدٌ حسام وسنا رقراق
رمى الصَّليبَ بصليب الرَّأي عن ... زوراء أوْفى (8) نزعها الإغراق
_________
(1) أي بحد سيفك.
(2) انبطت: أي استخرجت.
(3) ماء زعاق: مر غليظ لا يطاق شربه من أجوجته.
(4) الدَّرياق: لغة في الترياق فارسي معرب وهو يستعمل لدفع السم.
(5) الأرياق: مفردها ريق وهو اللعب.
(6) الغساق: ما يسيل من صديد أهل النار وغُسالتهم.
(7) كويكب صغير خفي الضوء في بنات نعش الكبرى.
(8) في النسخ الخطبة: أوهى.(1/146)
ونوم مَنْ خلف الخليج سَهَرٌ ... والعيش في فرنجةٍ سياق (1)
ماتوا فلا همسٌ ولا إشارة ... خوف هموس زأره إزهاق
لا سَلَبَتْ منك اللَّيالي ما كست ... ولا عَرَا (2) جدَّتَك الإخلاق (3)
2 - مقتله: 541هـ: تجمع المصادر على أن زنكي اغتيل ليلة الخامس من ربيع الآخر عام 541هـ خلال حصاره لقلعة جعبر، عندما انقض عليه - وهو نائم - غلام أو عدة غلمان ممن مماليكه المقربين اللذين كانوا يقومون على حراسته أثناء نومه، وإنهم هربوا - بعد قتله - إلى القلعة ونادوا أصحابها بحقيقة الأمر ففتحوا لهم الأبواب، وأنه ما أن انتشر نبأ الاغتيال في معسكره حتى اضطرب وتشتت وسادته الفوضى، فلم ير قادته بداً من فك الحصار والرحيل (4) قال ابن الأثير: .. ختم الله بالشهادة في أعماله.
لاقى الحِمام ولم أكن مُستَيقناً ... أنَّ الحِمام سُيْتَلَى بحِمامِ
فأضحى وقد خانه الأمل وأدركه الأجل، وتخّلى عنه العبيد والخول، فأي نجم للإسلام أفل، وأي ناصر للإيمان رحل، وأي بحر ندى نضب، وأي بدر مكارم غرب، وأي أسد افترس ولم يُنْجِه قُلَّة (5) حصن ولا صهوة فرس فكم أجهد نفسه لتمهيد الملك وسياسته وكم أدّبها (6) في حفظه وحراسته، فأتاه مبيد الأمم، ومقسيها في الحَدَث والقدم، فأصاره بعد القهر للخلائق مقهوراً، وبعد وثير المضاجع في التراب معفراً مقبوراً، رهين جَدَثٍ لا ينفعه إلا ما قَّدم قد طويت صحيفة عمله فهو موثوق في صورة
مستسلم (7). وقد اختلفت المصادر في تفاصيل عملية القتل وهوية القاتل وسبب القتل، فمن حيث تفاصيل عملية القتل يشير العماد الأصفهاني إلى أن عماد الدين زنكي إذا نام ينام حوله سريره عدة من خدامه، يشفقون عليه في حالتي يقظته ومنامه ويذودون عنه ذود الآساد في ملاحمه ويزورونه زور الخيال في أحلامه وهو يحبّهم أعمق الحب .. ولكنه مع الوفاء منهم يجفوفهم وهم أبناء الفحول القروم، من الترك والأرمن والروم، وكان من دأبه أنه إذا نقم على كبير أرداه وأقصاه واستبقى ولده وخصاه ... فهم على أنهم من ذوي الاختصاص ينتهزون فيه فرصة الاقتصاص فنام تلك الليلة وحوله مماليكه، فانتبه وهم قد شرعوا في
_________
(1) السياق: نزع الروح عند الموت.
(2) في الأصل: عرق.
(3) أخبار الروضتين في أخبار الدولتين (1/ 153).
(4) ذيل تاريخ دمشق ص 284 عماد الدين زنكي ص 183.
(5) القلة: أعلى الجبلة، وقلة كل شيء أعلاه.
(6) كتاب الروضتين أخبار الدولتين (1/ 154).
(7) المصدر نفسه (1/ 155).(1/147)
اللعب، وأخذوا في الطرب فزجرهم وتوعدهم وهم ساكتون، لكن كبيرهم المدعو " يرنقش " أسّر ذلك في نفسه، وراح ينتظر الفرصة للأخذ بثأره وما أن عاد سيده إلى النوم ثانية حتى أسرع إليه، وبرك عليه، وذبحه، واستطاع - أثر ذلك - أن يتسلل من المعسكر إلى أسوار جعبر، دون أن يشك أحد فيه باعتباره كبير حراس زنكي وهناك أخبر أهل القلعة وحراسها بما أقدم عليه، وأراهم الأدلة والعلامات (1)، فأسرعوا بإشاعة الخبر في داخل القلعة وبين صفوف قواته كي يشيعوا الاضطراب فيها ويجبروها على الإنسحاب وقد نجحوا في ذلك (2)، ويتفق كل من ابن القلاسني وسبط ابن الجوزي مع العماد الأصفهاني في هذه الرواية مع اختصار وحذف بعض التفاصيل (3) وأما ابن العديم فإنه يذكر أن زنكي تهدد يرنقش خلال النهار، فخاف الأخير منه وأسرع باغتياله ليلاً (4).
وأما من حيث هوية القاتل فيشير كل من ابن القلانسي ورنسيمان وأليسييف إلى أن القاتل كان من أصل إفرنجي أما حسن حبشي فيقول: ولعل القاتل كان باطنياً (5)، ومن حيث سبب القتل فيبدو أن صاحب قلعة جَعْبَر هو الذي حّرض على قتله كي يتخلص من الحصار، وأنه كان على صلة بالقاتل بدليل ما أورده ابن العديم من أن حساناً البعلبكي، صاحب منبج، تقدم إلى أسوار القلعة ونادى على ابن مالك وقال له: يا أمير علي، أيش بقى يخلصك من أتابك؟ فقال له: يا عاقل، يخلصني الذي خلصَّك من حبس بلك، يعني حين قُتل بلك على منبج وخلص حسان، يضاف إلى ذلك أن يرنقش التجأ إلى القلعة بعد حادثة الاغتيال (6) والراجح أن يرنقش نفَّذ عملية الاغتيال مدفوعاً بثلاثة عوامل: شخصية ونفسية وسياسية (7).
أما العامل الشخصي: فيتمثَّل بتهديد عماد الدين زنكي له وخشيته عاقبة هذا التهديد، فأسرع باغتيال سيده دفاعاً عن نفسه ويتجلى تأثير العامل النفسي في انزعاج يرنقش من معاملة عماد الدين زنكي القاسية له وزجره إياه ثم شعوره العميق بما أصابه من ظلم (8) ولعب إحساسه بمرارة الأهانة دوره، فاندفع لحماية كرامته وذبح سيده، ويصور الأصفهاني حركات يرنقش أثناء الاغتيال بالشكل الذي يبرز أثر الانفعال النفسي فيها: فأسرع إلى زنكي، وبرك عليه وذبحه في نومه (9)
_________
(1) عماد الدين زنكي ص 183 تاريخ دولة آل سلجوق ص 190.
(2) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 160.
(3) المصدر نفسه ص 160.
(4) زبدة حلب (2/ 281 - 282) عماد الدين زنكي ص 184.
(5) نور الدين والصليبيون ص 40 تاريخ الزنكيين ص 184.
(6) تاريخ الزنكيين في الموصل ص 160.
(7) المصدر نفسه ص 160 عماد الدين زنكي ص 184.
(8) تاريخ الزنكيين في الموصل ص 161.
(9) تاريخ دولة آل سلجوق ص 189 - 190 عماد الدين زنكي ص 185.(1/148)
وأما الدافع السياسي للاغتيال فيقوم على وجهين، أولهما اتفاق يرنقش - سراً - مع أصحاب قلعة جعبر لاغتيال عدوهم وإنهاء أزمتهم، بعد أن كاد حصنهم يوشك على الاستسلام، ويدخل ضمن هذا الاحتمال كون يرنقش ذا ميول باطنية، وربما تسلل إلى خدمة زنكي منُذ زمن بعيد، لتحقيق هدفه هذا، كعادة الباطنية في التستر والانتظار الطويل لتنفيذ اغتيالاتهم لكبار الشخصيات السياسية السنية التي كانت تشكل خطراً على دعوتهم، خاصة إذا ما عرفنا العطف الذي كان يبديه أمراء جعبر تجاه الباطنية. أما ثاني الاحتمالات السياسية فكون يرنقش ذا أصل " إفرنجي ".
كما أكدّ ابن القلانسي وابن واصل ورنسمان، ويحتمل أن يكون قد أقدم على فعلته أما باتفاق سري مع الصليبيين أو بدافع شخصي مرتجل يعود إلى حرصه على مصالح قومه التي بدأ زنكي يوجه إليها ضربات حاسمة ولا نستطيع الجزم بأى من هذه الدوافع الثلاث لاغتيال زنكي، ذلك أن المصادر كما رأينا - لم تعط القول الفصل في هذا المجال، ومن الخطأ الاعتقاد بأن يرنقش ذا الأصل الفرنجي اغتال سيده - وهو في قمة انتصاره على الجبهتين الصليبية والإسلامية - بدافع شخصي أو نفسي محض، ولا ريب أن وراء هذا الاغتيال الخطير، في هذه المرحلة الصعبة، دوافع سياسية أبعد مدى وأشد خطورة، ربما تعود إلى الأصل الفرنجي للقاتل، أو إلى ميوله الباطنية، وربما تعود إلى اتفاقه سراً مع أمراء قلعة جعبر لقاء ما مّنوه به، إذا أتم تخليصهم من عماد الدين زنكي الذي غدا قاب قوسين أو أدنى من اجتياح حصنهم واتجه القاتل، بعد أن اغتال زنكي، إلى أسوار قلعة جعبر بسكينه الملطخ بالدم، وصاح في الحرس شيلوني فقد قتلت زنكي فلم يصدقوه، فأراهم السكين، وعلامة أخرى، كان قد أخذها من سيده وعند ذلك أصعدوه إلى القلعة وتحققوا صدق ما كان يقول (1)، وعندما بشر صاحب جعبر بالنبأ لم يصدقه أول الأمر وآوى يرنقش إلى القلعة وأكرمه، وعرف حقيقه الأمر، فسر بذلك واستبشر بما أتاه من الفرج بعد الشدة الشديدة (2)، ويشير ابن العديم إلى رد الفعل الذي أحدثه القاتل في أهل القلعة، فعندما ناداهم: إني قتلت زنكي، أجابوه: أذهب إلى لعنة الله، فقد قتلت المسلمين كلهم بقتله (3)،
ولم يقبض القاتل ثمناً لخيانته إلا المطاردة والخوف، ذلك أن حكام جعبر قاموا بطرده بعد وقت قصير من التجائه إليهم، ولم يكافؤوه على عمله ربما خوفاً من قيام نور الدين محمود زنكي، أمير حلب بالانتقام منهم لأبيه، وأخير تم القاء القبض على القاتل، وأرسل مخفوراً إلى الموصل حيث قتل هناك (4)
_________
(1) عماد الدين زنكي ص 186.
(2) عماد الدين زنكي ص 186.
(3) المصدر نفسه ص 186 ..
(4) عماد الدين زنكي ص 187.(1/149)
وعندما انتشر خبر اغتيال زنكي في معسكره انقسم إلى قسمين اتجه أحدهما إلى حلب بقيادة نور الدين محمود واتجه القسم الآخر إلى الموصل بقيادة جمال الدين الأصفهاني حيث قام هو وكبار الأمراء بتنصيب سيف الدين غازي أميراً على الموصل (1) وحملت جثة زنكي إلى الرقة حيث دفنت في مشهد هناك في منطقة قبور شهداء
صفين (2).
3 - ما قيل في مقتل عماد الدين زنكي من شعر: اضطربت الأمور بعد مقتل عماد الدين واختلت المسالك بعد الهيبة المشهورة، والأمنة المشكورة وانطلقت أيدي التركمان والحراميَّة في الإفساد في الأطراف والنواحي وقال أبو يعلى التميمي في صفة هذا الحال أبياتاً:
كذاك عماد الدين زنكي تنافرت ... سعادته عنه وخرَّت دعائمه
وكم بيت مال من نُضارٍ وجوهر ... وأنواع ديباج حوتها مخاتمه
وأضحت بأعلى كلَّ حصن مصونةً ... يحامي عليها جنده وخوادمه
ومن صافنات الخيل كلُّ مُطهَّم ... يروع الأعادي حَليُه وبراجمه
فلو رامتِ الكُتّاب وصف شياتها ... بأقلامها ما أدرك الوصف ناظمه
وكم معقل قدرامه بسيوفه ... وشامخ حصن لم تفته غنائمه
ودانت ولاة الأرض فيها لأمره ... وقد أمَّنتهم كُتْبُه وخواتمه
وأمّن من في كل قطر بهيبة ... يُراع بها أعرابه وأعاجمه
وظالم قوم حين يُذكر عَدْلُه ... فقد زال عنهم ظُلْمُه وخصائمه
وأصبح سلطان البلاد بسيفه ... وليس له فيها نظير يزاحمه
وزاد على الأملاك بأسا وسطوة ... ولم يبق في الأملاك ملك يقاومه
فلما تناهى ملكه وجلاله ... وراعت وُلاةَ الأرضِ منه لوائمه
أتاه قضاء لا تُردُّ سهامه ... فلم تُنْجِه أمواله ومغانمه
وأدركه للحين فيها حِمامهُ ... وحامت عليه بالمنون حوائمه
وأضحى على ظهر الفراش مُجَّدلا ... صريعاً تولىَّ ذبحه فيه خادمه
وقد كان في الجيش اللُّهام (3) مبيته ... ومن حوله أبطاله وصوارمُه
_________
(1) عماد الدين زنكيص 187.
(2) المصدر نفسه ص 187.
(3) اللُّهام: أي الكثير، كأنه يلتهم كل شيء.(1/150)
وسُمْرُ العوالي حَوْلَهُ بأكُفَّهم ... تذود الرّدى عنه وقد نام نائمه
ومن دون هذا عُصبةٌ قد ترتَّبت ... بأسهمها بُُرْدى من الطير حائمه
وكم رام في الأيام راحة سَّره ... وهمّتُه تعلو وتقوى شكائمه
وكم مَسْلكٍ أمّن سُبْلَه ... ومسرح حَيَّ أن تراع سوائمه
وكم ثغرِ إسلام حماه بسيفه ... من الروم لما أدركته مراحمه
فمن ذا الذي يأتي بهيبة مثله ... وتنفذ في أقصى البلاد مراسِمُه
فلو رُقيت في كلَّ مصر بذكره ... أراقمه ذلَّتْ هناك أراقِمُه (1)
فمن ذا الذي ينجو من الدَّهر سالماً ... إذا ما أتاه الأمر والله حاتِمُه
ومن رام صفواً في الحياة فما يرى ... له صَفُوَ عَيْشىٍ والحِمَامُ يحاومه
فإيَّاك لا تغبط مليكاً بملكه ... ودعه فإن الدهر لا شك قاصمه
وقل للذي يبني الحصون لحفظه ... رُويدك ما تبني فدهرك هادمه
وفي مثل هذا عبرة ومواعظ ... بها يتناس المرء ما هو عازمه (2)
وقال الحكيم أبو الحكم المغربي قصيدة في رثاء عماد الدين جاء فيها:
عينٌ لا تدخري الدموع وبَكَّي ... واستلهَّي دماً على فقد زنكي
لم يَهَب شخصه الرَّدى بعد أن ... كانت له هيبة على كل تُركي
خيرُ مَلْكٍ ذي هيبة وبهاء ... وعظيم بين الأنام بُزُزكِ
يَهَبُ المال والجياد لمن ... يمَّمَه مادحاً بغير تَلَكَّي
إنَّ داراً تمدُّنا بالرَّزايا ... هي عندي أحقُّ دار بترك
فاسْكُبوا فوق قبره ماء وَرْدٍ ... وانضحُوهُ بزعفران ومسك
أي فتكٍ جرى له في الأعادي ... بعد ما استفتح الرُّها أي فتكِ
كل خطب أتت به نُوَبُ ... الدهر يسيرُ في جنب مصرع زنكي
بعد ما كاد أن تدين له ... الرُّوم ويحوي البلاد من غير (3) شكَّ
_________
(1) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين (1/ 165).
(2) المصدر نفسه (1/ 166).
(3) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين (1/ 167).(1/151)
4 - فوائد متنوعة من البداية والنهاية في عهد إمارة عماد الدين زنكي:
1 - في سنة 523هـ قال ابن كثير: في هذه السنة قتل صاحب دمشق من الباطنية ستة آلاف، وعلَّق رأس كبيرهم على باب القلعة وأراح الله أهل الشام منهم وفيها حاصرت الفرنج مدينة دمشق فخرج إليهم أهلها فقاتلوهم قتالاً شديداً، وبعث أهل دمشق عبد الوهاب الواعظ ومعه جماعة من التجار إلى بغداد يستغيثون بالخليفة، وهموا بكسر منبر الجامع حتى وعدوا بأنهم سيكتبون إلى السلطان ليبعث جيشاً كثيفاً نصرة لأهل الشام فلم يبعث إليهم جيش حتى نصرهم الله من عنده، فهزمهم المسلمون وقتلوا منهم عشرة آلاف، ولم يفلت منهم سوى أربعين نفساً ولله الحمد والمنة وقتل بَيْمنَدُْ الفرنجي صاحب أنطاكية (1).
2 - وفي أحداث عام 524هـ: فيها كانت زلزلة عظيمة بالعراق تهدمت بسببها دور كثيرة ببغداد، ووقع بأرض الموصل مطر عظيم فسقط بعضه ناراً تأجَّجُ، فاحترقت دُور كثيرة من ذلك وتهارب الناس وفيها وجد ببغداد عقارب طيّارة لها شوكتان، فخاف الناس منها خوفاً شديداً وفيها ملك عماد الدين زنكي بلاداً كثيرة من الجزيرة، ومن بلاد الفرنج، وجرت له معهم حروب طويلة، وخطوب جليلة، ونُصر عليهم في تلك المواقف كَّلها، ولله الحمد والمنة، وقتل خلقاً من جيش الروم حين قدموا إلى الشام ومدحه الشعراء على ذلك (2).
3 - وفي عام 524هـ توفي إبراهيم بن عثمان، أبو إسحاق الكَلْبُّي من أهل غزّة، جاوز الثمانين، وله شعر جيد ومن شعره في الأتراك قوله:
في فتنة من جيوش التركِ ما تركت ... للرَّعْدِ كَرَّاتُهُمْ صوتاً ولا صِيتا
قوم إذا قُوبلوا كانوا ملائكة ... حُسناً وإن قُوتِلُوا كانوا عفاريتا (3)
وله أيضاً:
إنمَّا هذه الحياةُ متاعٌ ... والسَّفيهُ الغَوِيُّ من يصطفيها
ما مضى فات والمؤمَّلُ غَيْبٌ ... ولك الساعة التي أنت فيها (4)
4 - وفي سنة 525هـ توفي أحمد بن محمد، أبو نصر الطوسي سمع الحديث وتفقه بالشيخ أبي إسحاق الشيرازي وكان شيخاً لطيفاً عليه نور قال ابن الجوزي أنشدني
فإن نلت خيراً نِلْتهُ بعزيمة ... وإن قصَّرَت عنك الخطوب فعن عُذرِ (5)
_________
(1) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين (1/ 167).
(2) البداية والنهاية (16/ 284).
(3) المصدر نفسه (16/ 285).
(4) المصدر نفسه (16/ 286).
(5) المصدر نفسه (16/ 289).(1/152)
قال: أنشدني أيضاً:
لِبستُ ثوب الرّجا والناس قدَ رقدُوا ... وقمتُ أشكو إلى مولاي ما أجد
وقلتُ يا ياعُدَّثي في كلَّ نائبة ... ومن عليه لكشف الضُّرَّ أعتمدُ
وقد مددت يدي والضُّرُّ مُشتملٌ ... إليك يا خير من مُدَّت إليه يُد
فلا تَرُدَّنَّها يا رَبَّ خائبة ... فبحُر جُودِك يرْوِى كل من يَرد (1)
5 - وفي سنة 527هـ اقتتل الفرنج فيما بينهم قتالاً شديداً فمحق الله منهم خلقاً كثيراً وغزاهم فيها أيضاً عماد الدين زنكي فقتل منهم ألف قتيل وغنم أموالاً جزيلة، ويقال لها: غزاة أسوار (2) وفي نفس السنة توفي محمد بن أحمد بن يحي، أبو عبد الله العثماني الدّيباجي، وكان ببغداد يُعرف بالمقدسي وتفقه ووعظ الناس ببغداد قال ابن الجوزي سمعته ينشد في مجلسه قوله:
دعْ جفوني يَحِقُّ لي أن أَنُوحَا ... لم تَدَعْ لى الذنُوبُ قلباً صحيحاً
أخْلَقَتْ بهجتي أكف المعاصي ... ونَعاني المشيب نعياً فصيحاً
كلما قُلتُ قد بَرا جُرحُ قلبي ... عاد قلبي من الذنوب جَريحاً
إنما الفوز والنعيمُ لعبد ... جاء في الحشر آمناً مُستَرِيحا (3)
6 - وفي سن 533هـ توفي علي بن أفلح الكاتب وقد خلع عليه المسترشد الخليفة العباسي ولقَّبه جمال الملك وأعطاه أربعة دور وكانت له دار إلى جانبهن فهدمهن كلَّهنَّ واتخذ مكانهن داراً هائلة طولها ستون ذراعاً في عرض أربعين، وأطلق له الخليفة أخشابا وآجُرَّا وذهباً فبناها، وغرم عليه ابن أفلح مالا جزيلاً، وكتب على أبوابها وطرازاتها أشعار حسنة من نظمه ونظم غيره فكان على الطُّرُزِ مكتوب (4).
ومن المروءة للفتى ... ما عاش دار فاخرة
فاقنع من الدنيا بها ... وأعمل لدار الآخرة
هاتيك وافية بما ... وعدت وهذي ساحرة (5)
وفي موضع آخر مكتوب:
ونادٍ كأنَّ جنَانَ الخلود ... أعادته من حُسْنِها رَوْنَقَا
_________
(1) البداية والنهاية (16/ 289).
(2) البداية والنهاية (16/ 289).
(3) المصدر نفسه (16/ 298).
(4) المصدر نفسه (16/ 323).
(5) البداية والنهاية (16/ 323).(1/153)
وأعطته من حادثات الزمان ... أن لا تُلِمَّ به موْتِِقا
فأضحى يتيه على كلَّ ما ... بُني مغْرِباً كان أو مشرقاً
تظلُّ الوفود به عُكَّفاً ... وتُمسى الضيوف به طُرَّقاً
بقيتَ له يا جمال الملوك ... والفضل مهما أردت البقا
وسالمه فيك ريب الزمان ... ووُقيَّت منه الذي يُتَّقَى
فما صدقت هذه الأماني، بل عمّا قريب - بعد نيلها - اتَّهم الخليفة ابن أفلح بأنه يكاتب دُبَيساً، فأمر بتخريب هذه الدار، فلم يبق فيها جدار، وصارت خرابة بعد ما كان قد حَسُن منها المقام والقرار، وهذه حكمة من يقلَّبُ الليل والنهار وتجري بمشيئته الأقدار (1)
7 - وفي سنة 535هـ توفي محمد بن عبد الباقي بن محمد بن كعب بن مالك الأنصاري وكان مشاركاً في علوم كثيرة وقد أُسر في صغره في أيدي الروم، فأرادوه على أن يتكلم بكلمة الكفر فلم يفعل، وتعلمَّ منهم خط الروم، وكان يقول: من خدم المحابر خدمته المنابر ومن شعره الذي أورده ابن الجوزي عنه وسمعه عنه قوله:
احفّظْ لسانك لا تَبُحْ بثلاثة ... سنَّ ومال ما استطعت ومذهب
فعلى الثلاثة تُبْتَلَى بثلاثة ... بمُكفًّرِ وبحاسد ومُكذَّب
ومن ذلك قوله:
لي مُدَّة لابُدَّ أُبلغها ... فإذا انقضت وتصّرمت مِتُّ
لو عانَدَتني الأسُدُ ضاربةً ... ما ضَّرني مالم يَجي الوقت (2)
ومن ذلك قوله:
بغدادُ دارُ لأهل العلم طيبةٌ ... وللفاليس دار الضَّنْك والضَّيقِ
ظللت حيران أمشي في أزقتها ... كأنني مصحفٌ في بيت زنديق (3)
قال ابن الجوزي: بلغ من العُمر ثلاثاً وتسعين سنة لم تتَغيَّر حواسه ولا عقله وكانت وفاته ثاني رجب من هذه السنة وحضر جنازته الأعيان والناس ودفن قريباً من قبر بشر (4).
_________
(1) المصدر نفسه (16/ 324).
(2) البداية والنهاية (16/ 329).
(3) المصدر نفسه ص (16/ 330).
(4) المصدر نفسه (16/ 330).(1/154)
[الخلاصة]
61. من الحقائق المسلم بها في تاريخ الحركة الصليبية، أن حركة الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين انبعثت لأول مرة في بلاد المشرق الإسلامي من منطقة الجزيرة وهي تقع بين دجلة والفرات مجاورة لبلاد الشام وتشتمل على ديار مضر، وديار بكر، وسميت الجزيرة لوقوعها بين نهري دجلة والفرات، وتمتاز منطقة الجزيرة بأنها صحية الهواء جيدة الريع والنماء واسعة الخيرات، بها مدن جليلة وحصون منيعة وقلاع كثيرة ومن أشهر قادة السلاجقة الذين جهادوا الصليبيين، قوام الدولة كربوقا صاحب الموصل، وجكرمش صاحب الموصل، وسقمان بن أرتق صاحب ماردين وديار بكر، وقلج أرسلان في آسيا الصغرى.
62. ويحتل شرف الدولة مودود بن التونتكين مكانة خاصة في تاريخ الجهاد ضد الصليبيين، وقد أسهمت عوامل عدة من أهمها، الفترة المبكرة التي ظهر فيها، والطابع الإسلامي العميق لشخصيته المتفانية في سبيل أهداف المسلمين الكبرى، وسياسته الداخلية العادلة السمحة وقدرته على تزعم حركة الجهاد وإيجاد نوع من التنسيق ربما لأول مّرة، بين كافة القوى الإسلامية في ساحات الجهاد وإيجاد نوع من التنسيق، ربما لأول مرّة، بين كافة القوى الإسلامية في ساحات الجهاد وقد استطاع وضع الصليبيين في موضع الدفاع وتحقيقه عدداً من الانتصارات جاء أحدها عند مرتفعات طبرية في قلب فلسطين بعيداً عن الساحة التي درج عليها الصراع بين ولاة الموصل السابقين، ثم جاء مقتله السريع إثر ذلك، في جامع دمشق على أيدي الشيعة الباطنية الأعداء الشرسين لحركة الجهاد والمقاومة وقد حزن عليه المسلمون حزناً عميقاً ويعتبر في تاريخ الأمة من أبطال الحروب الصليبية وكانت فترة إمارته للموصل من عام 501هـ -507هـ وكان عند مقتله صائماً وأراد من حوله تفطيره إلا أنه قال: لا لقيت الله إلا صائماً ومات من يومه رحمه الله.
63. تعتبر حملات مودود نقطة تحول في تاريخ الصراع الإسلامي الصليبي خلال تلك المرحلة المبكرة، فقد صارت فكرت الإسلام حقيقة واقعة، ووجدت فارسها المخلص الذي حمل لواءها ما يقرب من نصف المدة التي تولى فيها إمارة الموصل ويمكن اعتبار حملات مودود مقدمة لحملات عماد الدين زنكي مع عدم إغفال الفارق الزمني في صورة الثلاثة عقود الفاصلة بين إنجاز كل منهما والتي أدت إلى سقوط إمارة الرها الصليبية عام 539هـ حيث أن مودوداً وجه حملاته الأولى إلى الرها وتل باشر، وعمل على إرهاق أهلها وتعتبر جهوده المقدمة الأولى لجهود زنكي ضدها على اعتبار أن قافلة الجهاد متصلة قائداً من بعد قائد.(1/155)
64. من القادة السلاجقة المجاهدين نجم الدين إيلغازي صاحب ماردين، الذي استطاع أن يكبد الصليبيين خسائر فادحة في الأرواح في معركة ساحة الدم في عام 513هـ وأسر معهم الكثير، وقد صاحب هذا النصر قيام جبهة إسلامية متحدة من الأمراء المسلمين في الشام والجزيرة إضافة إلى أنها جعلت حلب في منأى عن أخطار الصليبيين خصوصاً بعد استيلاء نجم الدين إيلغازي على حصن قريب من الاثارب.
65. تولي راية الجهاد بلك بن بهرام بن أرتق بعد وفاة عمه نجم الدين إيلغازي صاحب ماردين وكان خصماً عنيداً للصليبيين وكان يتطلع للقضاء لا في منطقة الجزيرة فقط بل وفي بلاد الشام وقد استهل أعماله العسكرية أثناء مرض عمه نجم الدين إيلغازي في رجب سنة 516هـ/1122م بحصار الرها، ودخل في معمعة الجهاد ضد الصليبيين ووقع في أسره بعض ملوك الصليبيين كجوسلين وابن خالته جاليران صاحب البيرة سنة 516هـ ولم يمهل الأجل بلك بن بهرام فبينما كان يحاصر الفرنجة عند قلعة منبج وافته المنية بسهم طائش أصابه فقتله لا يدري من رماه وفقد المسلمون بمقتله رجلاً أثبتت أعماله إنه زعيم وقائد حاول جمع كلمة المسلمين في الشام والجزيرة ضد الصليبيين وكان استشهاده 518هـ.
66. ومن قادة الجهاد آق سنقر البرسقي أمير الموصل السلجوقي الذي استطاع أن يفك الحصار عن حلب من قبل الصليبيين في عام 518هـ، وقد تمّ قتل قسيم الدولة البرسقي صاحب الموصل في سنة 520هـ بمدينة الموصل قتلته الباطنية يوم جمعة بالجامع وكان يصلي مع العامة فوثب عليه بضعة عشر نفساً وجرحوه بالسكاكين، فجرح هو بيده منهم ثلاثة وقتل رحمه الله وكان تركياً خيراً يحب أهل العلم والصالحين ويرى العدل ويفعله وكان من خيرة الولاة يحافظ على الصلوات في أوقاتها ويصلي من الليل متهجداً.
67. أثبت الباطنية عداءهم الكامل لقادة الجهاد الإسلامي في ذلك العصر، وكأن خناجرهم المسمومة كانت تشق للصليبيين طريقاً نحو تثبيت أقدامهم في بلاد الشام والجزيرة على حساب المسلمين.
68. ومن فضل الله على هذه الأمة أن قائمة المجاهدين عامرة ومتأهبة للقتال في سبيل الله ففي ربيع الآخر من عام 521/ 1127م عهد السلطان محمود السلجوقي إمارة الموصل إلى عماد الدين زنكي وبظهوره على مسرح الأحداث بدأت صفحة جديدة في ميزان القوى بين المسلمين والصليبيين.(1/156)
69. وكان من العوامل الرئيسية التي ساعدت على ظهور عماد الدين زنكي، الدور الذي لعبه أبوه آق سنقر في شؤون الدولة السلجوقية السياسية والعسكرية والإدارية.
70. كان للقاضي بهاء الدين الشهرزوري دور كبير في تنصيب عماد الدين زنكي في الموصل لكونه قائد عسكري قوي ولذلك رشح عماد الدين لقيادة القوى الإسلامية التي كان لها الأثر في التصدي للغزو الصليبي وكان لهذا الاختيار أثره في إرساء حجر الجهاد في المشرق الإسلامي حيث تمكن من خلاله غرس نواة الوحدة مع حلب عندما أخذها ورحب به أهلها عام 521هـ وكان لموقع حلب الاستراتيجي بين بلاد الشام ومناطق أعالي الفرات هو الذي جعلها في قلب الأحداث آنذاك وقد أدرك عماد الدين أهمية ذلك الموقع بالنسبة لبلاد الشام والموصل والجزيرة الفراتية، واعترافاً من عماد الدين بالجهد الذي قام به بهاء الدين الشهرزوري في تعيينه ورداً لجميله عينه قاضي قضاة بلاده جميعها وما يفتحه من البلاد وكان يثق فيه وفي آرائه، لذلك كانت منزلته عظيمة عنده، وكان لا يصدر إلا عن رأيه.
71. اتصف عماد الدين بصفات القادة العسكريين والسياسيين والتي من أهمها؛ الشجاعة، والهيبة، والدهاء، والمكر، والحيلة، والذكاء، واليقظة والحذر، والقدرة على اختيار الأكفاء من الرجال، وتقدير الرجال، وقلة التلون والتنقل، والغيرة على محارم المسلمين، والعدل.
72. اهتم عماد الدين زنكي بضبط إماراته وكانت النظم التي سار عليها تعتبر امتداداً طبيعياً للسلاجقة في غالب مؤسسات الدولة العسكرية، والإدارية، والمالية والقضائية.
73. عمل عماد الدين على توحيد الجبهة الإٍسلامية وذلك بضم المدن التي حوله والقريبة منه بسبب ضعفها وتفرقها وضيق مساحتها ثم توسع في مناطق الأكراد وضمها لدولته كالأماكن التي كان فيها الأكراد الحميدية والهكارية والمهرانية، والبشنوية واستطاع عماد الدين أن يضع يده على معظم ممتلكاتها وقواعدها المهمة ويخضعها لسيطرته في أقل من عقد ونصف بفضل الله - ثم قدرته العسكرية وخططه السياسية البارعة التي أتاحت له التغلب على مصاعب القتال في المناطق الجبلية الوعرة.
74. استمر عماد الدين في توسيع نفوذ دولته ولم يقم في بداية حكمه بأي نشاط عسكري ضد الصليبيين قبل أن يثبت أقدامه في إماراته الجديدة، ويُعزَّز إمكاناتها الاقتصادية(1/157)
والعسكرية ويؤحَّد ما أمكنه من الإمارة الصغيرة المتناثرة حولها لتأمين خطوط تحركاته في الجزيرة وبلاد الشام إلى الحد الذي يمكَّنه من التصدي لهم وبعد أن أنهى معظم مشاكله وحروبه ضد أمراء ديار بكر وانتهت هدنته مع جوسلين أمير الرها، قرر البدء والهجوم على المواقع الصليبية، وبدأ في فتح الحصون وضمها لدولته.
75. ظهرت قدرات عماد الدين ودولته في الدفاع عن حلب أمام الحملة الصليبية البيزنطية، فقد قاومت حلب وأخذ أهاليها يقومون بهجمات سريعة على معسكرات الأعداء أدخلت الرعب وعدم الاستقرار في نفوسهم فآثروا الإنسحاب.
76. وعندما توجهت جيوش الصليبيين والأمبراطور البيزنطي إلى شيزر، كان عماد الدين يقود حركة المقاومة للدفاع عن المدينة واستخدم أساليب الحرب النفسية ضد الجيوش الغازية وأرسل في طلب النجدة من كل المناطق للتصدي للغزاة، وشرع في رمي الأعداء بسهام الحيلة والدهاء وإيجاد فتنة بينهم، فقد اتبع عماد الدين خطة عسكرية فقد راسل المتحالفين وهم في مواقعهم الحصينة عند المدينة يقول لهم: إنكم قد تحصنتم مني بهذه الجبال فاخرجوا عنها إلى الصحراء حتى نلتقي، فإن ظفرتم أخذتم شيزر، وإن ظفرنا بكم أرحت المسلمين من شركم وكادت الخطة تنجح حين أشار الصليبيون على الأمبراطور بالنزول إليه وقتاله ولكن يوحنا خشي مغَّبة ذلك وأجاب: أتظنون أنه ليس من العسكر الإ ما ترون؟ وإنما يريد أنكم تلقونه فيجيء إليه من نجدأت المسلمين مالا حّد عليه. وفي نفس الوقت كان يراسل صليبي الشام يحَّذرهم من أمبراطور الروم ويعلمهم أنه إذا استولى على حصن واحد من الشام أخذ البلاد التي بأيديهم منهم، ويرسل من جهة أخرى إلى الأمبراطور يخّوفه من أن الصليبيين في بلاد الشام خائفون منه، فلو فارق مكانه لتخلوا عنه فاستنفر كل طرف من الطرف الآخر وسادت الشكوك بينهما.
77. تعتبر من أهم أعمال عماد الدين زنكي فتح الرها، في 539هـ وكان لهذا النصر نتائج هامة على العالمين الإسلامي والنصراني ومن أهم تلك النتائج:
* تأكد للمسلمين أن حركة الجهاد الإسلامي وصلت سن الرشد وتجاوزت المراهقة السياسية والعسكرية دون أن يكون ذلك إحجاف بإنجازات القادة السابقين على زنكي لاسيما مودود وإذا كانت أولى الإمارات الصليبية تهاوت تحت أيديهم، فإنها البداية واليوم أسقاط الرها وغداً إسقاط باقي الكيان الغازي الدخيل، وهذا ما حدث فعلاً، ومن الآن فصاعداً لن تعود عقارب الساعة إلى الوراء، بل التقدم إلى الأمام بكل ثقة وإباء وإنجاز.(1/158)
* تأكد منطق التاريخ من أن مثل تلك الكيانات الصليبية الغير شرعية لن تستمر على الأرض لأن أبناء المنطقة أصحاب الهوية الدينية الموحدة لن يقبلوا بذلك الوضع السياسي والعسكري الدخيل وبالتالي عاد التجانس لمنطقة شمال العراق ولم تعد الرها تمثل دور الفصل والكيان الصليبي الحاجز المانع من الاتصال بين كل من سلاجقة آسيا الصغرى، وسلاجقة العراق وكذلك بلاد فارس.
* أدى إسقاط الرها بمثل هذه الصورة إلى تحرك الحلف الدفاعي الاستراتيجي القائم بين الكيان الصليبي في الشرق والرحم الأم في الغرب الأوروبي.
78. بعد فتح الرها ارتفع شأن عماد الدين زنكي إلى حد بعيد، فبعد أن كان مجرد حاكم محلي محدود النطاق والفعالية تردد اسمه سريعاً في الحوليات الاتينية والسريانية ليعكس أنه أحدث تأثيراً كبيراً في مجرى أحداث الشرق اللاتيني، وبصورة غير مسبوقة، أما بالنسبة للمسلمين فقد احتل مكانة بارزة، فقد عزّز فتح الرها مركز عماد الدين تجاه السلطان السلجوقي مسعود والخليفة العباسي المقتفي لأمر الله الذي أنعم عليه بعدد كبير من الألقاب التي حازها عن جدارة، كالأمير المظفر، ركن الإسلام، عمدة السلاطين، زعيم جيوش المسلمين ملك الأمراء، أمير العراقين والشام وجعل هذا النصر عماد الدين زنكي المدافع الأول عن الدين، والمجاهد في سبيل إعلاء كلمة الله، ودارت في المحافل الإسلامية، أحاديث تمحورت حول شخصيته، تصور لنا مدى التقدير والإعجاب اللذين نالهما إثر تحقيقه هذا النصر الكبير.
79. مدح الشعراء عماد الدين زنكي في فتح الرها والملفت للنظر إن كثيراً من الباحثين والكتاب لم يهتموا بالأدب في الحروب الصليبية، بل إن الكثير منهم أطلقوا عليه أدب الانحطاط آخذين بأقوال وآراء المستشرقين الذين رغبوا في أن نبتعد عن دراسة تاريخ أدب هذه الحروب لأسباب كثيرة منها رغبتهم في عدم إطلاعنا على وحشية الصليبيين وقسوتهم، ثم حتى لا نشعر بالعز والفخر ونحن نقرأ عن تاريخ الأبطال المسلمين عرباً وأكراد وأتراكاً - يقودون الجيوش وهم يحملون راية الإسلام مجاهدين ويترفعون عن القوميات والوطنيات الجاهلية وتجمعهم حب الله ورسوله والجهاد في سبيل الله وابتغاء مرضاته، إن أدب هذه الفترة ما زال بحاجة إلى دراسات مستفيضة.
80. استطاع عماد الدين زنكي أن يوجه الظروف التاريخية القائمة لصالح المسلمين وذلك بتجميعه القوى الإسلامية، بعد القضاء على عوامل التجزئة والانقسام وتوحيد المدن(1/159)
والإمارات المنفصلة في نطاق دولة واحدة استطاع بقدرته أن يستغل أقصى ما يمكن أن تقدمه من إمكانات في سبيل تحقيق برنامجه المزدوج من تشكيل الجبهة الإسلامية وضرب الصليبيين ويظهر أهمية الدور الذي لعبه زنكي في التاريخ الإسلامي إذ يعتبر أول قائد قام بتجميع القوى الإسلامية وفق برنامج معين ليجابه بها تزايد الخطر الصليبي الذي لم توقفه المحاولات الجدية التي سبقت زنكي وبخاصة تلك التي تمت على يد كل من مودود بن التونتكين وإيلغازي وبلك الأرتقين 512هـ - 518هـ وآف سنقر البرسقي 518 - 520هـ وقد مهد عماد الدين لابنه نور الدين في توحيده للجبهة الإسلامية وكسر هيبة الصليبيين بفتح الرها.(1/160)