(وأخبر تعالى أن من صدقه فهو خير له فقال: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد: 21]
(وأخبر تعالى عن أهل البر وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم: من الإيمان والإسلام والصدقة والصبر بأنهم أهل الصدق فقال: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] وهذا صريح في أن الصدق بالأعمال الظاهرة والباطنة وأن الصدق هو مقام الإسلام والإيمان.
(وقسم الله سبحانه الناس إلى صادق ومنافق فقال: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ
وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب: 24]
(والإيمان أساسه الصدق والنفاق أساسه الكذب فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما محارب للآخر وأخبر سبحانه أنه في يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلا صدقه، قال تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: 119] وقال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 34] فالذي جاء بالصدق: هو من شأنه الصدق في قوله وعمله وحاله فالصدق في الأقوال: استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها والصدق في الأعمال: استواء الأفعال على الأمر والمتابعة كاستواء الرأس على الجسد.
والصدق في الأحوال: استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص واستفراغ الوسع وبذل الطاقة فبذلك يكون العبد من الذين جاءوا بالصدق وبحسب كمال هذه الأمور فيه وقيامها به: تكون صديقيته ولذلك كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه: ذروة سنام الصديقية سمي الصديق على الإطلاق و الصديق أبلغ من الصدوق والصدوق أبلغ من الصادق(9/595)
فأعلى مراتب الصدق: مرتبة الصديقية وهي كمال الانقياد للرسول مع كمال الإخلاص للمرسل.
(وقد أمر الله تعالى رسوله أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق فقال: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} [الإسراء: 80]
(وأخبر عن خليله إبراهيم أنه سأله أنه يهب له لسان صدق في الآخرين فقال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84]
(وبشر عباده بأن لهم عنده قدم صدق ومقعد صدق فقال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2] وقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54 - 55] فهذه خمسة أشياء: مدخل الصدق ومخرج الصدق ولسان الصدق وقدم الصدق ومقعد الصدق وحقيقة الصدق في هذه الأشياء: هو الحق الثابت المتصل بالله الموصل إلى الله وهو ما كان به وله من الأقوال والأعمال وجزاء ذلك في الدنيا والآخرة فمدخل الصدق ومخرج الصدق: أن يكون دخوله وخروجه حقا ثابتا بالله وفي مرضاته بالظفر بالبغية وحصول المطلوب ضد مخرج الكذب ومدخله الذي لا غاية له يوصل إليها ولا له ساق ثابتة يقوم عليها كمخرج أعدائه يوم بدر ومخرج الصدق كمخرجه هو وأصحابه في تلك الغزوة وكذلك مدخله المدينة: كان مدخل صدق بالله ولله وابتغاء مرضاة الله فاتصل به التأييد والظفر والنصر وإدراك ما طلبه في الدنيا والآخرة بخلاف مدخل الكذب الذي رام أعداؤه أن يدخلوا به المدينة يوم الأحزاب فإنه لم يكن بالله ولا لله بل كان محادة لله ورسوله فلم يتصل به إلا الخذلان والبوار وكذلك مدخل من دخل من اليهود المحاربين لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حصن بني قريظة فإنه لما كان مدخل كذب: أصابه معهم ما أصابهم «فكل مدخل معهم ومخرج كان بالله ولله وصاحبه ضامن على الله فهو مدخل صدق ومخرج صدق»(9/596)
(وكان بعض السلف إذا خرج من داره: رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إني أعوذ بك أن أخرج مخرجا لا أكون فيه ضامنا عليك، يريد أن لا يكون المخرج مخرج صدق ولذلك فسر مدخل الصدق ومخرجه: بخروجه من مكة ودخوله المدينة، ولا ريب أن هذا على سبيل التمثيل فإن هذا المدخل والمخرج من أجل مداخله ومخارجه وإلا فمداخله كلها مداخل صدق ومخارجه مخارج صدق «إذ هي لله وبالله وبأمره ولابتغاء مرضاته» وما خرج أحد من بيته ودخل سوقه أو مدخلا آخر إلا بصدق أو بكذب فمخرج كل واحد ومدخله: لا يعدو الصدق والكذب والله المستعان.
((وأما لسان الصدق: فهو الثناء الحسن عليه من سائر الأمم بالصدق، ليس ثناء بالكذب كما قال عن إبراهيم وذريته من الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} [مريم: 50]
والمراد باللسان ههنا: الثناء الحسن فلما كان الصدق باللسان وهو محله أطلق الله سبحانه ألسنة العباد بالثناء على الصادق جزاء وفاقا وَعَبَرَ به عنه فإن اللسان يراد به ثلاثة معان: هذا واللغة كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] وقوله: {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم: 22] وقوله: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103] ويراد به الجارحة نفسها كقوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16]
((وأما قدم الصدق: ففسر بالجنة وفسر بمحمد وفسر بالأعمال الصالحة وحقيقة القدم ما قدموه وما يقدمون عليه يوم القيامة وهم قدموا الأعمال والإيمان بمحمد ويقدمون على الجنة التي هي جزاء ذلك فمن فسره بها أراد: ما يقدمون عليه ومن فسره بالأعمال وبالنبي: فلأنهم قدموها وقدموا الإيمان به بين أيديهم فالثلاثة قدم صدق.
((وأما مقعد الصدق: فهو الجنة عند الرب تبارك وتعالى ووصف ذلك كله بالصدق مستلزم ثبوته واستقراره وأنه حق ودوامه ونفعه وكمال عائدته فإنه متصل بالحق سبحانه كائن به وله فهو صدق غير كذب وحق غير باطل ودائم غير زائل ونافع غير ضار وما للباطل ومتعلقاته إليه سبيل ولا مدخل.
((ومن علامات الصدق: طمأنينة القلب إليه، ومن علامات الكذب: حصول الريبة.
(ثم ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله الأحاديث الآتية:(9/597)
(حديث علي الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة و الكذب ريبة.
(ثم قال رحمه الله تعالى:
فجعل الصدق مفتاح الصديقية ومبدأها وهي غايته فلا ينال درجتها كاذب البتة لا في قوله ولا في عمله ولا في حاله ولا سيما كاذب على الله في أسمائه وصفاته ونفي ما أثبته أو إثبات ما نفاه عن نفسه فليس في هؤلاء صديق أبدا وكذلك الكذب عليه في دينه وشرعه بتحليل ما حرمه وتحريم ما لم يحرمه وإسقاط ما أوجبه وإيجاب ما لم يوجبه وكراهة ما أحبه واستحباب ما لم يحبه كل ذلك مناف للصديقية وكذلك الكذب معه في الأعمال: بالتحلي بحلية الصادقين المخلصين والزاهدين المتوكلين وليس في الحقيقة منهم «فلذلك كانت الصديقية كمال الإخلاص والانقياد والمتابعة للخبر والأمر ظاهرا وباطنا» حتى إن صدق المتبايعين يحل البركة في بيعهما وكذبهما يمحق بركة بيعهما كما في الصحيحين عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما: محقت بركة بيعهما.
(تعريف الصدق:
الصدق هو: مطابقة القول الضمير والمخبر عنه، فإذا طابق قولك ما في ضميرك والشيء الذي تخبر عنه فأنت صادق، والعكس بالعكس، فإذا انخرم شرط لم يكن صدقاً، بل إما أن يكون كذباً أو متردداً بينهما ـ يعني بين الصدق والكذب ـ كقول المنافق: محمد رسول الله، فهو من جهة المطابقة للمخبر عنه وهو النبي عليه الصلاة والسلام كذلك فإنه رسول الله حقاً، لكن من جهة ما يعتقده المنافق في ضميره فهو كذاب، ويصح أن يقال كذب؛ لمخالفة قوله لضميره. وقد يستعمل الصدق والكذب في الاعتقاد وفي الفعل كما قال الصحابي للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إنا قوم صدق في القتال] في الحرب، ومنه قوله تعالى: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا [الصافات:105] عملنا بمقتضاها إذاً: هو قول الحق المطابق للواقع والحقيقة.
(مراتب الصدق:
والصدق على مراتب، والصادقون على مراتب، فالصدِّيق أبلغ من الصدوق، والصدوق أبلغ من الصادق، فأعلى مراتب الصدق هي مرتبة الصديقية التي أشار الله إليها بقوله تعالى: (فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ) [النساء:69] وسمي أبو بكر الصديق صديقاً لكثرة تصديقه للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(9/598)
(من أقوال السلف في الصدق:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
(قال عبد الواحد بن زيد: الصدق الوفاء لله بالعمل.
(وقيل: موافقة السر النطق.
(وقيل: استواء السر والعلانية يعني أن الكاذب علانيته خير من سريرته كالمنافق الذي ظاهره خير من باطنه:
(وقيل: الصدق القول بالحق في مواطن الهلكة.
(وقيل: كلمة الحق عند من تخافه وترجوه.(9/599)
(وقال الجنيد: الصادق يتقلب في اليوم أربعين مرة والمرائي يثبت على حالة واحدة أربعين سنة، وهذا الكلام يحتاج إلى شرح وقد يسبق إلى الذهن خلافه وأن الكاذب متلون لأن الكذب ألوان فهو يتلون بتلونه والصادق مستمر على حالة واحدة فإن الصدق واحد في نفسه وصاحبه لا يتلون ولا يتغير لكن مراد الشيخ أبي القاسم صحيح غير هذا فإن المعارضات والواردات التي ترد على الصادق لا ترد على الكاذب المرائي بل هو فارغ منها فإنه لا يرد عليه من قبل الحق موارد الصادقين على الكاذبين المرائين ولا يعارضهم الشيطان كما يعارض الصادقين فإنه لا أرب له في خربة لا شيء فيها وهذه الواردات توجب تقلب الصادق بحسب اختلافها وتنوعها فلا تراه إلا هاربا من مكان إلى مكان ومن عمل إلى عمل ومن حال إلى حال ومن سبب إلى سبب لأنه يخاف في كل حال يطمئن إليها ومكان وسبب: أن يقطعه عن مطلوبه فهو لا يساكن حالة ولا شيئا دون مطلوبه فهو كالجوال في الآفاق في طلب الغنى الذي يفوق به الأغنياء والأحوال والأسباب تتقلب به وتقيمه وتقعده وتحركه وتسكنه حتى يجد فيها ما يعينه على مطلوبه وهذا عزيز فيها فقلبه في تقلب وحركة شديدة بحسب سعة مطلوبه وعظمته وهمته أعلى من أن يقف دون مطلبه على رسم أو حال أو يساكن شيئا غيره فهو كالمحب الصادق الذي همته التفتيش على محبوبه، وكذا حال الصادق في طلب العلم وحال الصادق في طلب الدنيا فكل صادق في طلب شيء لا يستقر له قرار ولا يدوم على حالة واحدة وأيضا: فإن الصادق مطلوبه رضا ربه وتنفيذ أوامره وتتبع محابه فهو متقلب فيها يسير معها أين توجهت ركائبها ويستقل معها أين استقلت مضاربها فبينا هو في صلاة إذ رأيته في ذكر ثم في غزو ثم في حج ثم في إحسان للخلق بالتعليم وغيره من أنواع النفع ثم في أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو في قيام بسبب فيه عمارة الدين والدنيا ثم في عيادة مريض أو تشييع جنازة أو نصر مظلوم إن أمكن إلى غير ذلك من أنواع القرب والمنافع فهو في تفرق دائم لله وجمعية على الله لا يملكه رسم ولا عادة ولا وضع ولا يتقيد بقيد ولا إشارة ولا بمكان معين يصلى فيه لا يصلى في غيره وزي معين لا يلبس سواه وعبادة معينة لا يلتفت إلى غيرها مع فضل غيرها عليها أو هي أعلى من غيرها في الدرجة وبعد ما بينهما كبعد ما بين السماء والأرض فإن البلاء والآفات والرياء والتصنع وعبادة النفس وإيثار مرادها والاشارة إليها: كلها في هذه الأوضاع والرسوم والقيود التي(9/600)
حبست أربابها عن السير إلى قلوبهم فضلا عن السير من قلوبهم إلى الله تعالى فإذا خرج أحدهم عن رسمه ووضعه وزيه وقيده وإشارته ولو إلى أفضل منه استهجن ذلك ورآه نقصا وسقوطا من أعين الناس وانحطاطا لرتبته عندهم وهو قد انحط وسقط من عين الله
وقد يحس أحدهم ذلك من نفسه وحاله ولا تدعه رسومه وأوضاعه وزيه وقيوده: أن يسعى في ترميم ذلك وإصلاحه وهذا شأن الكذاب المرائي الذي يبدي للناس خلاف ما يعلمه الله من باطنه العامل على عمارة نفسه ومرتبته وهذا هو النفاق بعينه ولو كان عاملا على مراد الله منه وعلى الصدق مع الله: لأثقلته تلك القيود وحبسته تلك الرسوم ولرأى الوقوف عندها ومعها عين الانقطاع عن الله لا إليه ولما بالى أي ثوب لبس ولا أي عمل عمل إذا كان على مراد الله من العبد فكلام أبي القاسم الجنيد حق كلام راسخ في الصدق عالم بتفاصيله وآفاته ومواضع اشتباهه بالكذب وأيضا «فحمل الصدق كحمل الجبال الرواسي لا يطيقه إلا أصحاب العزائم» فهم يتقلبون تحته تقلب الحامل بحمله الثقيل «والرياء والكذب خفيف كالريشة» لا يجد له صاحبه ثقلا البتة فهو حامل له في أي موضع اتفق بلا تعب ولا مشقة ولا كلفة فهو لا يتقلب تحت حمله ولا يجد ثقله.
(وقال بعضهم: لا يشم رائحة الصدق عبد داهن نفسه أو غيره.
(وقال بعضهم: الصادق الذي يتهيأ له أن يموت ولا يستحيي من سره لو كشف قال الله تعالى: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94] قلت: هذه الآية فيها للناس كلام معروف قالوا: إنها معجزة للنبي أعجز بها اليهود ودعاهم إلى تمني الموت وأخبر: أنهم لا يتمنونه أبدا وهذا علم من أعلام نبوته إذ لا يمكن الاطلاع على بواطنهم إلا بأخبار الغيب ولم ينطق الله ألسنتهم بتمنيه أبدا.
(وقال سهل بن عبد الله: أول خيانة الصديقين: حديثهم مع أنفسهم.
(وقال يوسف بن أسباط: لأن أبيت ليلة أعامل الله بالصدق أحب إلي من أضرب بسيفي في سبيل الله.(9/601)
(وقال الحارث المحاسبي: الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الخلق من أجل صلاح قلبه ولا يحب اطِّلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله، ولا يكره أن يطلع الناس على السيء من عمله، فإن كراهته لذلك دليل على أنه يحب الزيادة عندهم وليس هذا من علامات الصديقين وفي هذا نظر لأن كراهته لاطلاع الناس على مساوىء عمله من جنس كراهته للضرب والمرض وسائر الآلام وهذا أمر جبلي طبيعي ولا يخرج صاحبه عن الصدق لا سيما إذا كان قدوة متبعا فإن كراهته لذلك من علامات صدقة لأن فيها مفسدتين: مفسدة ترك الاقتداء به واتباعه على الخير وتنفيذه ومفسدة اقتداء الجهال به فيها فكراهيته لاطلاعهم على مساوئ عمله: لا تنافي صدقه بل قد تكون من علامات صدقه نعم المنافي للصدق: أن لا يكون له مراد سوى عمارة حاله عندهم وسكناه في قلوبهم تعظيما له فلو كان مراده تنفيذا لأمر الله ونشرا لدينه وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر ودعوة إلى الله: فهذا الصادق حقا والله يعلم سرائر القلوب ومقاصدها وأظن أن هذا هو مراد المحاسبي بقوله: ولا يكره اطلاع الناس على السيء من عمله فإنهم يريدون ذلك فضولا ودخولا فيما لا يعني فرضي الله عن أبي بكر الصديق حيث قال: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة والله لو منعوني عناقا أو عقالا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقاتلتهم عليه فهذا وأمثاله يعدونه ويرونه من سيء الأعمال عند العوام والجهال.
(وقال بعضهم: من لم يؤد الفرض الدائم لم يقبل منه الفرض المؤقت قيل: وما الفرض الدائم قال: الصدق.
(وقيل: من طلب الله بالصدق أعطاه مرآة يبصر فيها الحق والباطل.
(وقيل: عليك بالصدق حيث تخاف أنه يضرك فإنه ينفعك ودع الكذب حيث ترى أنه ينفعك فإنه يضرك.
(وقيل: ما أملق تاجر صدوق:
[*] (أورد النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين عن الأستاذ القشيري رحمه الله قال: الصدق عماد الأمر، وبه تمامه، وفيه نظامه، قال: وأقل الصدق استواء السر والعلانية.
[*] (وأورد النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين عن " سهل " رحمه الله تعالى قال: " لا يشم رائحة الصدق عبد داهن نفسه أو غيره ".
[*] (وأورد النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين عن ذي النون رحمه الله أنه قال: الصدق سيف الله، وما وضع على شيء إلا قطعه.(9/602)
[*] (وأورد النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين عن الإمام العارف الحارث المحاسبي رحمه الله تعالى قال: الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الخلق من أجل صلاح قلبه؛ ولا يحب إطلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله؛ ولا يكره أن يطلع الناس على السيء من عمله، فإن كراهته لذلك دليل على أنه يحب الزيادة عندهم؛ وليس هذا من إخلاص الصديقين!
[*] (وأورد النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين عن الجنيد رضي الله عنه قال: " الصادق يتقلب في اليوم أربعين مرة ". والمرائي يثبت على حالة واحدة أربعين سنة! ".
(قال النووي رحمه الله تعالى:
قلت: معناه أن الصادق يدور مع الحق كيف كان؛ فإذا رأى الفضل الشرعي في أمر عمل به، وإن خالف ما كانت عليه عادته، وإذا عرض أهم منه في الشرع ولا يمكن الجمع بينهما، انتقل إلى الأفضل، ولا يزال هكذا، وربما كان في اليوم الواحد على مائة حال، أو ألف أو أكثر، على حسب تمكنه في المعارف وظهور الدقائق له واللطائف.
وأما المرائي: فيلزم حالة واحدة بحيث لو عرض له مهم يرجحه الشرع عليها في بعض الأحوال لم يأت بهذا المهم؛ بل يحافظ على حالته لأنه يرائي بعبادته وحاله المخلوقين، فيخاف من التغير ذهاب محبتهم إياه فيحافظ على بقائها!
«والصادق يريد بعبادته وجه الله تعالى، فحيث رجح الشرع حالًا صار إليه»، ولا يعرج على المخلوقين.
(أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عاملوا الله عز وجل بالصدق في السر، فإن الرفيع من رفعه الله، وإذا أحب الله عبداً أسكن محبته في قلوب العباد.
(أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال: ما تزين الناس بشيء أفضل من الصدق، والله عز وجل يسأل الصادقين عن صدقهم، منهم عيسى بن مريم عليه السلام، كيف بالكذابين المساكين، ثم بكى وقال: أتدرون في أي يوم يسأل الله عز وجل عيسى ابن مريم عليه السلام؟ يوم يجمع الله فيه الأولين والآخرين آدم فمن دونه، ثم قال: وكم من قبيح تكشفه القيامة غداً.
(أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن الفضيل بن عياض يقول ما من مضغة أحب إلى الله من لسان صدوق وما من مضغة أبغض إلى الله من لسان كذوب.
(أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن أسعد بن عبيد الله المخزومي قال أمرني عبد الملك بن مروان أن أعلم بنيه الصدق كما أعلمهم القرآن.(9/603)
(أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن علي رضي الله عنه قال زين الحديث الصدق.
(أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن أبي حصين أن رجلا أتى ابن مسعود رضي الله عنه فقال علمني كلمات نوافع جوامع فقال تعبد الله وتشرك به شيئا وتزول مع القرآن أين ما زال ومن جاءك بالصدق من صغير أو كبير وإن كان بعيدا بغيضا فاقبله منه ومن أتاك يكذب من صغير أو كبير وإن كان حبيبا قريبا فاردده عليه.
(حث الشريعة على التحلي بالصدق:
وقد حثت الشريعة على التحلي بهذا الخلق العظيم، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موضحاً ما أمر الله: (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119]
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث ابن مسعودٍ الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر و إن البر يهدي إلى الجنة و ما يزال الرجل يصدق و يتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا و إياكم و الكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور و إن الفجور يهدي إلى النار و ما يزال الرجل يكذب و يتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا.
((حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة اصدقوا إذا حدثتم و أوفوا إذا وعدتم و أدوا إذا ائتمنتم و احفظوا فروجكم و غضوا أبصاركم و كفوا أيديكم.
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: خير الناس ذو القلب المخموم و اللسان الصادق قيل: ما القلب المخموم؟ قال: هو التقي النقي الذي لا إثم فيه و لا بغي و لا حسد قيل: فمن على أثره؟ قال: الذي يشنأ الدنيا و يحب الآخرة قيل: فمن على أثره؟ قال: مؤمن في خلق حسن. فمن على أثره؟ قال: الذي يشنأ الدنيا و يحب الآخرة: ومفهوم هذا أن شر الناس الذي يحب الدنيا.(9/604)
إذاً: صاحب اللسان الصادق والقلب المخموم، السليم من الإثم والبغي والحسد هو خير الناس. وقد كان أحب الحديث إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصدقه، وورد ذلك في صحيح البخاري: لما جاء وفد هوازن مسلمين فسألوا النبي عليه الصلاة والسلام أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم؛ لأن أموالهم وسبيهم قد أخذت من قبل المسلمين في المعركة، لكن القوم الكفار أسلموا بعد ذلك، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (معي من ترون وأحب الحديث إليَّ أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين، إما السبي وإما المال.) إلى آخر الحديث الذي فيه تنازل المسلمين عن السبي لصالح وفد هوازن الذين جاءوا مسلمين.
(شرح آية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ):
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119] الأمر بالكون مع أهل الصدق حسنٌ بعد قصة الثلاثة الذين خلفوا، هذه الآية قال الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119] كانت بعد ذكر قصة الثلاثة الذي خلفت التوبة عليهم وأرجأ الله أمرهم امتحاناً لهم ولبقية المؤمنين، وجاء المنافقون من الأعراب يعتذرون ويكذبون، وهؤلاء الثلاثة صدقوا الله ورسوله فأرجأ الله التوبة عليهم وسموا بالمخلفين وكان مما أمر الله به في الآيات التي جاءت تعقيباً على تلك القصة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119].
(قال القرطبي رحمه الله تعالى: الأمر بالكون مع أهل الصدق حسنٌ بعد قصة الثلاثة الذين خلفوا حين نفعهم صدقهم وذهب بهم عن منازل المنافقين.
قال مطرف: سمعت مالك بن أنس يقول: [قل ما كان رجل صادقاً لا يكذب إلا متع بعقله ولم يصبه ما يصيب غيره من الهرم والخرف] هذا من فوائد الصدق.(9/605)
وقوله تعالى: (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119] اختلف فيهم: فقيل خطاب لمن آمن من أهل الكتاب: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119] أي: المؤمنين والصادقين قيل: خطاب لمن آمن من أهل الكتاب، وقيل: هو خطاب لجميع المؤمنين أن اتقوا مخالفة الله وكونوا مع الصادقين الذي خرجوا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا مع المنافقين، وقيل: كونوا على مذهب الصادقين وسبيلهم، وقيل: هم الأنبياء، أي: كونوا معهم بالأعمال الصالحة فتدخلوا الجنة بسببها فتكونوا معهم أيضاً.
ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً:
والحديث العظيم المشهور في الصدق الذي يبين فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصدق ويوصيهم به: (فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً). والكذب -أيضاً- (لا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار). قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الآخر: (عليكم بالصدق فإنه مع البر وهما في الجنة، وإياكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار، وسلوا الله اليقين والمعافاة). وهذا الحديث الذي فيه قوله: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة) عليكم بالصدق أي: الزموه، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق -يعني- في قوله وعمله ويبالغ ويجتهد حتى يكتب عند الله صديقاً، فهذا يعني أن الصدق لا يصل إليه الإنسان إلا بالمجاهدة، ولا يزال يصدق ويتحرى الصدق، يتعمد ويتحرى ويقصد الصدق، ولا يزال ديدنه وعادته حتى يصل إلى المرحلة العظيمة وهي أنه عند الله صديقاً، يكتب أي: يثبت عند الله. قال الإمام النووي معلقاً على الحديث: فيه فضيلة الصدق وملازمته وإن كان فيه مشقة فإن عاقبته خير. (حتى يكتب عند الله صديقاً) فيه إشارة إلى حسن خاتمة هذا الرجل؛ لأنه قال: (ولا زال يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً) فإذا كتب عند الله صديقاً فهذه إشارة إلى حسن خاتمته، وإشارة إلى أن الصدق مأمول العواقب.
(ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً:(9/606)
والجولة الآن مع الأنبياء والصالحين في الصدق كما حكى الله تعالى عنهم. أمر الله رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً) [الإسراء:80]. وأخبر عن خليله إبراهيم أنه سأله أن يهب له لسان صدقٍ في الآخرين، فقال: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) [الشعراء:84].
وبشر الله عباده بأن لهم قدم صدق عند ربهم، وأنه لهم مقعد صدق، فقال تعالى: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [يونس:2] وقال: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر:54 - 55].
((قال ابن القيم رحمه الله تعالى:(9/607)
وهذه خمسة أشياء: مدخل صدق، ومخرج صدق، ولسان صدق، وقدم صدق، ومقعد صدق، فأما مدخل الصدق ومخرج الصدق بأن يكون دخوله وخروجه حقاً شرعياً موافقاً للكتاب والسنة في أي أمر من الأمور، وهو ضد مخرج الكذب ومدخل الكذب الذي لا غاية له يوصل إليها، فمخرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو وأصحابه في غزوة بدر هو مخرج صدق، ومخرج الأعداء من كفار قريش إلى غزوة بدر هو مخرج كذب، ومدخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة كان مدخل صدق في الله وابتغاء مرضاة الله، هاجر وترك الوطن والأهل ابتغاء مرضاة الله؛ فاتصل به التأييد والظفر والنصر، بخلاف مدخل الكذب الذي رام أعداؤه أن يدخلوا به المدينة يوم الأحزاب فإنه لم يكن لله ولا بالله، بل كان محاداً لله ورسوله فلم يتصل به إلا الخذلان والبوار. وفسر مدخل الصدق ومخرجه بخروجه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة ودخوله المدينة وهذا مثال على ذلك وليس هو كل مدخل الصدق ومخرج الصدق وإنما هو مثال عليه. والنبي عليه الصلاة والسلام مداخله ومخارجه كلها كانت مداخل صدق ومخارج صدق، لا يخرج من المدينة ويدخل بلداً، أو يدخل في أمرٍ أو يخرج من أمرٍ إلا لله وبالله، وما خرج أحدٌ من منزله ودخل سوقه أو مدخلاً آخر إلا بصدقٍ أو كذب، فمدخل كل واحد منا ومخرجه لا يعدو الصدق والكذب، كلنا الآن نغدو ونذهب، ندخل في أمر ونخرج من آخر، ندخل في مكان ونخرج من آخر، ولذلك الدعاء بأن يدخلنا الله مدخل صدق ويخرجنا مخرج صدق هو في الحقيقة دعاء لله أن يسددنا في جميع أقوالنا وأعمالنا، وأن يكون إقدامنا على الأمور وخروجنا من الأمور موافقاً للكتاب والسنة.
أما لسان الصدق الذي جاء في دعاء الخليل إبراهيم فهو الثناء الحسن عليه من سائر الأمم صدقاً لا كذباً، وقد استجاب الله له فصار الناس يثنون على إبراهيم بعد موت إبراهيم بآلاف السنين، يثنون عليه ويذكرون سيرته ويتأسون به.
وأما قدم الصدق الذي وعد الله به المؤمنين فقد فسر بالجنة، وحقيقة القدم ما قدموه في الدنيا من الأعمال والإيمان، وما يقدمون عليه في الآخرة وهي الجنة التي هي جزاؤهم وهو مقعد الصدق (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) [القمر:54 - 55] أي: هي الجنة عند الرب تبارك وتعالى.
((صور من حياة الأنبياء والصالحين مع الصدق:
(من صفات النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصادق الأمين:(9/608)
كان من صفات النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصادق الأمين وساعده ذلك في دعوته لما قام يدعو الكفار، كما جاء في صحيح البخاري، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قال: لما نزلت: {وأنذر عشيرتك الأقربين}. ورهطك منهم المخلصين، خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى صعد الصفا، فهتف: (يا صباحاه). فقالوا: من هذا، فاجتمعوا إليه، فقال: (أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي). قالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد). قال أبو لهب: تبا لك، ما جمعتنا إلا لهذا، ثم قام. فنزلت: {تبت يدا أبي لهب وتب}.
صدق الرجل يساعد في نشر دعوته: «ما جربنا عليك كذبا» قال: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [المسد:1 - 5]).
وكان من الأشياء التي استدلت بها خديجة على صدق النبي عليه الصلاة والسلام في بعثته وأن الله لم يتخل عنه أنه بعدما جاءه الملك في غار حراء وقال له: اقرأ فرجع خائفاً مضطرباً، فقالت له خديجة لما قال لها لقد خشيت على نفسي، قالت: «كلا فوالله لا يخزيك الله أبداً، والله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق». إذاً: هذا الصدق منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان معيناً له في دعوته، وكان من أدلة صدقه في بعثته وفيما أخبر به عن نبوته.
(يوسف الصديق عليه السلام:(9/609)
ويوسف عليه السلام كان صادقاً؛ لذلك اعترف له الرجل الذي جاء يستفتيه فقال: (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ) [يوسف:46] فأرسلوا أحد السجينين اللذين كانا مع يوسف إلى يوسف في السجن ليسأله لأنه قال لهم: أنا آتيكم بالجواب، ذهب إليه فقال: (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) [يوسف:46] وصفه بالمبالغة في الصدق حسبما علمه وجربه من أحواله في مدة إقامته في السجن، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي للمستفتي أن يعظم المفتي: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ [يوسف:46].
(أبو بكر الصديق مع الصدق:
(حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: كنت جالسا عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه، حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أما صاحبكم فقد غامر). فسلم وقال: إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى علي، فأقبلت إليك، فقال: (يغفر الله لك يا أبا بكر). ثلاثا، ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر، فسأل: أثم أبو بكر، فقالوا: لا، فأتى إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسلم، فجعل وجه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتمعر، حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم، مرتين، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدق. وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي). مرتين، فما أوذي بعدها.
(أبو ذر مع الصدق:
ومن الصحابة المشهورين بالصدق أيضاً أبو ذر رضي الله تعالى عنه،
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق من أبي ذر.
(كعب بن مالك وصدقه في حادثة تبوك:(9/610)
وكذلك من الصحابة المشهورين بالصدق كعب بن مالك رضي الله عنه، قال حين تخلف عن تبوك: (والله ما أنعم الله علي من نعمة بعد إذ هداني أعظم من صدقي لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا أكون كذبت فأهلك كما هلك الذين كذبوا حين أُنزل الوحي: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [التوبة:95]) الحديث في البخاري. وفي البخاري أيضاً عن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب بن مالك لما عمي قال: [سمعت كعب بن مالك يحدث فينا حين تخلف عن قصة تبوك فقال: والله ما أعلم أحداً أبلاه الله في صدق الحديث أحسن مما أبلاني، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى يومي هذا كذباً أبداً] سنوات طويلة، وأنزل الله عز وجل على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:117 - 119].
(مجالات الصدق:
وللصدق مجالات عديدة منها:
(أولاً: الصدق في الأقوال:(9/611)
الصدق يكون في الأقوال كما قلنا سابقاً، وهو: استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها، فحق على كل عبد أن يحفظ ألفاظه ولا يتكلم إلا بالصدق. وصدق اللسان أشهر أنواع الصدق وأظهرها، وأن يتحرز من الكذب ومن المعاريض التي تجانس الكذب، وينبغي أن يراعي معنى الصدق في ألفاظه التي يناجي بها ربه كقوله: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، فإن كان قلب العبد منصرفاً عن الله منشغلاً عن الدنيا وهو يقول: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض في الصلاة في الاستفتاح فهو كاذب. ومن الأقوال التي ينبغي الحرص على الصدق فيها: الحلف والقسم، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تحلفوا بآبائكم من حلف بالله فليصدق و من حلف له بالله فليرض و من لم يرض بالله فليس من الله.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (رأى عيسى بن مريم رجلا يسرق، فقال له: أسرقت؟ قال: كلا، والله الذي لا إله إلا هو، فقال عيسى: آمنت بالله، وكذبت عيني).
((حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تحلفوا بآبائكم من حلف بالله فليصدق و من حلف له بالله فليرض و من لم يرض بالله فليس من الله.
(اليمين على نية المستحلف:
فلا يجوز لك أن توري فيه، ولا تجوز التورية في القسم عند القاضي أو عند الشخص الذي تريد أن تقسم له إذا كان صاحب حق، فلا تنفعك توريتك في اليمين، وهي حرام والواجب أن تكون يمينك على ما يصدقك به صاحبك ويفهم من كلامك، فلو حلف أنه مثلاً لم يأخذ منه مالاً ونوى في نفسه أنه لم يأخذ منه مالاً في هذا المجلس فلا ينفعه ذلك ولا يجعل المال حلالاً له، يمينك على ما صدقك به صاحبك، والحقوق لا يجوز لك أبداً التورية فيها.
((حديث عمر الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) وما أعظم هذا الحديث.(9/612)
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اليمين على نية المستحلف.
(ثانياً: الصدق في الأفعال:
ومن مجالات الصدقِ الصدق في الأفعال: وهو استواء الفعل على الأمر والمتابعة كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام وكما أمر، كاستواء الرأس على الجسد، وهو أن تصدق السريرة العلانية حتى لا تدل أعمالهم الظاهرة من الخشوع ونحوه على أمر في باطنه، والباطن بخلافه، فالمراءون أعمالهم الظاهرة بخلاف بواطنهم، فلذلك ليسوا بصادقين في أعمالهم، والأعمال منها ما يكون أعمال قلب ومنها ما يكون أعمال جوارح.
(والأمثلة في الصدق مع الله والإخلاص لله كثيرة ومنها: قصة الثلاثة الذين أطبق عليهم الغار فقال بعضهم لبعض: إنه والله لا ينجيكم إلا الصدق فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق الله فيه، توسلوا إلى الله بصالح أعمالكم، فكان كل واحد يذكر أرجى ما عمل في حياته لله وأصدق ما حصل منه لله حتى كان السبب في انفراجها ذلك الرجل الذي وفر أجرة الأجير وحفظها كأمانة ونماها له أيضاً حتى صارت وادياً من المال وجاء الأجير فصدقه في هذا المال المحفوظ عنده وأعطاه إياه وسلمه كاملاً بعد تنميته. هل أخذ أجرة على التنمية؟ بل هل التنمية واجبة عليه؟ لا. لكنه نماه مجاناً ولم يأخذ أجرة على التنمية ولم يذكر في الحديث أنه قال له: جزاك الله خيراً أو أثنى عليه، فاستاقه فلم يبقِ منه شيئاً، حتى ما قال: خذ نصفه أو خذ أرباحه وأعطني أجرتي فقط، أخذه فلم يبقِ منه شيئاً فكان الفرج بسبب الدعوة الأخيرة مع الدعوات السابقة.(9/613)
((حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم، حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسَدَّتْ عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبقُ قبلهما أهلا ولا مالا، فَنَاءَ بِي في طلب شيء يوما، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي، فأردتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سَنَة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أُجَرَاء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله أَدِّ إلي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون).
{تنبيه}: (بعض الناس قد يصدقون في تعبيراتهم الفعلية وقد يكذبون، وقد يفعل الإنسان فعلاً يوهم به حدوث شيء لم يحدث أو يعبر به عن وجود شيء غير موجود وذلك على سبيل المخادعة، فالمخادعة مثلما تكون بالقول تكون بالفعل أيضاً، وربما يكون الكذب في الأفعال أشد خطراً وأقوى تأثيراً من الكذب في الأقوال.(9/614)
من أمثلة الكذب في الأفعال ما فعله إخوة يوسف: (وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ) [يوسف:16] هذه بكاء كذب ليس ببكاء حقيقي ولا صحيح: (وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) [يوسف:18] جعلوا في القميص دماً، ذبحوا شاة فصبغوها فجعلوا الدم في هذا القميص، ليقولوا: إن الذئب قد أكله، ولكن نبي الله يعقوب بفطنته وفراسته عرف أن هذا القميص مصبوغ بدم كذب، فليس فيه تشقيق ولا آثار مخالب ولا أنياب، فاستغرب من كلامهم واستعجب وقال: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) [يوسف:18]
ما أعجب هذا الذئب الذي يخلع القميص عن الولد ثم يأكل الولد وليس في القميص آثار مخالب ذلك الأسد أو أنياب الذئب ولذلك جاءوا على قميصه بدم كذب، وجاءوا أباهم عشاءً يبكون بكاء كذب، إذاً: الكذب يكون في الأقوال ويكون في الأفعال وقالوا ـ كذباً ـ: (يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) [يوسف:17]
فجمعوا بين الكذب في القول والكذب في العمل. وكذلك فإن الأعمال التي يقوم بها المراءون ولو شيدوا مساجد وطبعوا كتباً وعملوا صدقات، إذا كانوا يقصدون الرياء فإنها أعمال كذب وليست بصدق. وقد يكون الكذب في الحركات التعبيرية، كإشارات اليد والعين، والحاجب والرأس، فإن كانت مطابقة للواقع فهي صدق وإن كانت مخالفة فهي كذب، فلو سئل إنسان مثلاً: هل أودع فلان عندك مالاً؟ فهز برأسه نافياً دون أن يتكلم وقد أودع صاحبه عنده المال فعلاً فإن هذه الحركة كذب.
(ثالثاً: الصدق في النية والإرادة:
ومن مجالات الصدق: الصدق في النية والإرادة كما ذكرنا المثال عليه سابقاً وهو الإخلاص في قصة أصحاب الغار الثلاثة. ولنعلم أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة: عالم وقارئ ومجاهد، لأنهم ما أرادوا وجه الله. كما في الحديث الآتي: ((9/615)
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأُتِيَ به فَعَرَّفَه نِعَمَه فَعَرَفَهَا قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأُتِيَ به فَعَرَّفَه نِعَمَه فَعَرَفَهَا قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأُتِيَ به فَعَرَّفَه نِعَمَه فَعَرَفَهَا قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن يُنْفَقَ فيها إلا أنفقتُ فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقالَ هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار.
(أما الصادقون في النية والعمل، الذين يصدقون الله فإن الله يصدقهم ويصدقهم ويأتي لهم بالنتائج التي يحبها سبحانه وتعالى، ومن الأمثلة التي وردت في السنة ما جاء في حديث شداد بن الهاد الآتي:
(حديث شداد بن الهاد رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فآمن به واتبعه ثم قال أهاجر معك فأوصى به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعض أصحابه فلما كانت غزوة غنم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبيا فقسم وقسم له فأعطى أصحابه ما قسم له وكان يرعى ظهرهم فلما جاء دفعوه إليه فقال ما هذا قالوا قسم قسمه لك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخذه فجاء به إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال ما هذا قال قسمته لك قال ما على هذا اتبعتك ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى ها هنا وأشار إلى حلقه بسهم فأموت فأدخل الجنة فقال إن تصدق الله يصدقك فلبثوا قليلا ثم نهضوا في قتال العدو فأتى به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحمل قد أصابه سهم حيث أشار فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهو هو قالوا نعم قال صدق الله فصدقه ثم كفنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قدمه فصلى عليه فكان فيما ظهر من صلاته اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك فقتل شهيدا أنا شهيد على ذلك.(9/616)
(وكذلك الصدق يكون فيما يريد العبد أن يعزم عليه في المستقبل كما هو حال هذا الصحابي، فبعض الناس يقول: إن آتاني الله مالاً لأتصدقن ولأفعلن، هذه عزيمة لشيء في المستقبل، وقد تكون حقاً: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب:23]
(وقد تكون كذباً: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ) [التوبة:75 - 77].
(وكذلك فإن الصدق يكون في الأحوال كلها وهذه رتبة الصديقين الذين يصدقون في الأقوال والأعمال والنيات والعزائم.
(دواعي الصدق:
الصدق له دواعٍ كثيرة منها ما يلي:
(أولاً: العقل السليم:
فإن العقل الصحيح يدفع إلى الصدق.
(ثانياً: الشرع المؤكد:
الفطرة التي فطر الله الناس عليها والعقول السليمة تحب الصدق وتميل إليه وتنفر من الكذب، والدين يرد فيصدق العقل الصحيح، فالدين لا شك أنه ورد باتباع الصدق وحظر الكذب، لكن الدين يزيد أشياء على الفطرة، والفطرة السليمة لا تعطي التفصيلات لكن تميل إلى الحق، فالعقل قد يقول بجواز الكذب إذا كان فيه مصلحة أو لدفع مضرة؛ لكن يأتي الدين فيقول: إن الكذب كله حرام لا يجوز، إلا في حال الضرورة والقلب مطمئن بالإيمان.
(ثالثاً المروءة:
فهي خلق مانع من الأخلاق المشينة كالكذب.
(رابعاً حب التعود على الصدق:
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إنما العلم بالتعلم و إنما الحلم بالتحلم و من يتحر الخير يعطه و من يتق الشر يُوَقَّه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إنما العلم) أي تحصيله.(9/617)
(بالتعلم) بضم اللام على الصواب كما قاله الزركشي ويروى بالتعليم أي ليس العلم المعتبر إلا المأخوذ عن الأنبياء وورثتهم على سبيل التعليم وتعلمه طلبه واكتسابه من أهله وأخذه عنهم حيث كانوا فلا علم إلا بتعلم من الشارع أو من ناب عنه منابه وما تفيده العبادة والتقوى والمجاهدة والرياضة إنما هو فهم يوافق الأصول ويشرح الصدور ويوسع العقول ثم هو ينقسم لما يدخل تحت دائرة الأحكام ومنه ما لا يدخل تحت دائرة العبادات وإن كان مما يتناوله الإشارة ومنه ما لا تفهمه الضمائر وإن أشارت إليه الحقائق في وضوحه عند مشاهده وتحققه عند متلقيه فافهم قال ابن مسعود تعلموا فإن أحدكم لا يدري متى يحتاج إليه وقال ابن سعد ما سبقنا ابن شهاب للعلم إلا أنه كان يشد ثوبه عند صدره ويسأل وكنا تمنعنا الحداثة وقال الثوري من رق وجهه رق علمه وقال مجاهد لا يتعلم مستحي ولا متكبر وقيل لابن عباس بما نلت هذا العلم قال بلسان سؤول وقلب عقول
(وإنما الحلم بالتحلم) أي ببعث النفس وتنشيطها إليه قال الراغب: الحلم إمساك النفس عن هيجان الغضب والتحكم إمساكها عن قضاء الوطر إذا هاج الغضب
(ومن يتحر الخير يعطه) أي ومن يجتهد في تحصيل الخير يعطه اللّه تعالى إياه.
(ومن يتق الشر يوقه) زاد الطبراني والبيهقي في روايتيهما ثلاث من كن فيه لم يسكن الدرجات العلى ولا أقول لكم الجنة من تكهن أو استقسم أو ردّه من سفر تطير.
(تنبيه) قال بعضهم: ويحصل العلم بالفيض الإلهي لكنه نادر غير مطرد فلذا تمم الكلام نحو الغالب قال الراغب: الفضائل ضربان نظري وعملي وكل ضرب منها يحصل على وجهين أحدهما بتعلم بشرى يحتاج إلى زمان وتدرب وممارسة ويتقوى الإنسان فيه درجة فدرجة وإن فيهم من يكفيه أدنى ممارسة بحسب اختلاف الطبائع في الذكاء والبلادة، والثاني يحصل [ص 570] بفيض إلهي نحو أن يولد إنسان عالماً بغير تعلم كعيسى ويحيى عليهما الصلاة والسلام وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام الذين حصل لهم من المعارف بغير ممارسة ما لم يحصل لغيرهم وذكر بعض الحكماء أن ذلك قد يحصل لغير الأنبياء عليهم السلام في الفيئة بعد الفيئة وكلما كان يتدرب فقد يكون بالطبع كصبي يوجد صادق اللّهجة وسخياً وجريئاً وآخر بعكسه وقد يكون بالتعلم والعادة فمن صار فاضلاً طبعاً وعادة وتعلماً فهو كامل الفضيلة ومن كان رذلاً فهو كامل الرذيلة.
(ولله درُ من قال:
عود لسانك قول الصدق تحظ ... به إن اللسان لما عودت معتاد(9/618)
موكل بتقاضي ما سلمت له ... في الخير والشر فانظر كيف ترتاد
إذاً: الصدق عادة إذا كان الرجل لا زال يصدق ويتحرى الصدق يكون الصدق له في النهاية سجية وعادة ويكون سهلاً، أما في أول الأمر فيكون صعباً يحتاج إلى مجاهدة؛ لأن النفس أمارة بالسوء، تقول: اكذب فالكذب فيه منفعة، اكذب فالكذب يرفع عنك المضرة ونحو ذلك، ولكن إذا جاهد العبد نفسه فإنه يصل إلى مرتبة الصدق.
(علامات الصدق:
للصدق علامات، منها ما يلي:
(أولاً: اطمئنان القلب له:
يحدثك الشخص أحياناً بحديث فترتاح إليه نفسك وتطمئن، كما أن من علامات الكذب حصول الريبة والشك، يخالج نفسك الشعور بأن هذا ليس بصحيح فإن الصدق طمأنينة و الكذب ريبة كما في الحديث الآتي:
((حديث علي الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة و الكذب ريبة.
لو قال قائل: كيف نستدل على الصدق؟ نقول: من علامات الصدق: أن تطمئن نفسك للكلام، ومن علامات الكذب أن لا تطمئن نفسك للكلام، وهذه نفس المؤمن طبعاً، أما نفس الإنسان العاصي قد تطمئن للكذب وتشك في الصدق.
(ثانياً: كتمان المصائب والطاعات:
وكراهة اطلاع الخلق على ذلك، فهو يصبر لله على الطاعة وعلى المكروه، ونحن ـ في موضوع الصدق ـ «لنا الظاهر وَنَكِلُ إلى الله السرائر»، قد يخبرك أشخاص بأشياء وأنت لا تدري عن حقيقتها فلك ظاهر حالهم، فإن كان الذي يظهر لك من حاله الصدق فاقبل كلامه، وإن كان الذي يظهر لك منه الكذب والفسق والفجور فاتهمه، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة.(9/619)
وهذه مقولة عظيمة من عمر رضي الله عنه، انظر إلى حال الرجل من بني إسرائيل لما جاءه صديق له يستسلفه ألف دينار، قال صاحب المال: ائتني بالشهداء أشهدهم، قال: كفى بالله شهيداً، قال: فائتني بالكفيل لو هربت يكون بدلاً منك، ولو عجزت يسدد عنك، قال: كفى بالله كفيلاً، قال: صدقت، ظهر له من حال صاحبه الصدق، فدفعها إليه وحصلت القصة بعد ذلك، حيث ذهب الرجل وتاجر وعبر البحر وجاء الموعد المحدد ولم يجد سفينة ليرجع بها؛ ليعطي المال لصاحبه فما عنده حيلة، فأخذ خشبة ونقرها ووضع فيها الألف دينار، ودعا الله عز وجل فقال: هذه حيلتي فأوصل هذه الأمانة ورمى الخشبة في البحر، وخرج صاحبه في الشاطئ الآخر على الموعد يتلمس هذا الرجل على الموضع المضروب بينهما ليأتي، لكنه لم يجد سفينة ولم يأتِ أحد ووجد خشبة تتهادى على الماء فقال: آخذها حطباً لأهلي، فأخذها فنشرها فإذا فيها الألف دينار والرسالة من صاحبه، فأدى الله الأمانة عن ذلك الرجل.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن رجلا من بني إسرائيل سأل رجلا أن يسلفه ألف دينار , فقال له: ائتني بشهداء أشهدهم عليك , فقال: كفى بالله شهيدا. قال: فائتني بكفيل. قال: كفى بالله كفيلا. قال: صدقت. قال: فدفع إليه ألف دينار إلى أجل مسمى فخرج في البحر و قضى حاجته و جاء الأجل الذي أجل له , فطلب مركبا فلم يجده فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار , و كتب صحيفة إلى صاحبها ثم زجج موضعها , ثم أتى بها البحر فقال: اللهم إنك قد علمت أني استسلفت من فلان ألف دينار فسألني شهودا و سألني كفيلا , فقلت: كفى بالله كفيلا فرضي بك و قد جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه بحقه فلم أجد و إني استودعتكها , فرمى بها في البحر! فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبا يقدم بماله فإذا هو بالخشبة التي فيها المال ,
فأخذها حطبا فلما كسرها وجد المال و الصحيفة فأخذها , فلما قدم الرجل قال له: إني لم أجد مركبا يخرج , فقال: إن الله قد أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة , فانصرف بالألف راشدا.
(أمور مهمة في الصدق وأهله:
(الاستدلال على الصدق من مظانه:(9/620)
يستدل على الصدق من أهله ومظانه، كما حصل في قصة الإفك التي اتهمت فيها عائشة رضي الله عنها، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يبحث عن الحقيقة ويسأل ويتحرى .. يسأل من؟ (أشار علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال له: وسل الجارية تصدقك، ـ بريرة جارية عند عائشة معروفة بالصدق والأمانة، تاريخها صدق وأمانة وهي ملازمة لعائشة، وتعرف سرها وتطلع في بيتها على الأمور الكثيرة ـ فقال النبي عليه الصلاة والسلام لبريرة، ولم يسأل الناس الآخرين البعيدين، الإنسان عندما يريد الصدق يتحرى الصدق من مظانه، هل رأيتِ من شيء يريبك؟ قالت: ما رأيت أمراً أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن ـ يعني الشاة ـ فتأكله).
(تصديق الحق ... :
ومن الأمور المهمة أن نصدق الحق، لذلك تجد كثيراً من الأحاديث فيها صدقت .. صدقت .. صدقت، صدق فلان .. صدق فلان، وأعلى أنواع التصديق ما يصدق الله به عبده ونبيه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فيخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء فيأتي الوحي تصديقاً لكلام نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما حصل في خيبر، قال أبو هريرة والحديث في البخاري (شهدنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيبر فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لرجل ممن معه يدعي الإسلام: هذا من أهل النار، فلما حضر القتال قاتل الرجل من أشد القتال، وكثرت به الجراح فأثبتته وعجز عن الحركة، فجاء رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله! أرأيت الرجل الذي تحدثت أنه من أهل النار قد قاتل في سبيل الله من أشد القتال فكثرت به الجراح، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أما إنه من أهل النار، فكاد بعض المسلمين أن يرتاب، فبينما هو على ذلك إذ وجد الرجل ألم الجراح فأهوى بيده إلى كنانته فانتزع منها سهماً فانتحر به، فاشتد رجال من المسلمين إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: يا رسول الله! صدق الله حديثك قد انتحر فلان فقتل نفسه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا بلال قم فأذن، ألا يدخل الجنة إلا مؤمن، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر).(9/621)
لو قال واحد: كيف يقاتل مع المسلمين؟ نقول: إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وهذا له أمثلة كثيرة في الواقع، فتجد الرجل ينشر العلم ويطبع الكتب ويبني المساجد، ويفعل أشياء ينتفع بها المسلمون وهو فاجر، نقول: هذا لا يجعل فجوره صلاحاً إذا كانت نيته ليست لله لكن هذا مصداق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام: إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر. وقد صدق الله صحابة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فمن ضمن تلك الأمثلة ما روى البخاري رحمه الله عن زيد بن أرقم قال: (كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن أبي بن سلول يقول: لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا * لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون:7 - 8] فذكرت ذلك لعمي، فذكر عمي ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام فدعاني، فحدثته بالذي سمعت فأرسل إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا، وكذبني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصدقهم بما ظهر من حلفهم، فأصابني غمٌ لم يصبني مثله قط، فجلست في بيتي وقال عمي: ما أردت إلا أن كذبك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومقتك فأنزل الله تعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ... [المنافقون:1] .. الآيات وأرسل إلي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقرأها، قال: قد صدقك الله يا زيد) نزلت الآية تصديقاً للصحابي. ونحن نأخذ الحق ونصدقه ولو كان مصدره رجلاً كافراً، ولو كان مصدره الشيطان، إذا كان حقاً نصدق به ولا يمنعنا جرم الكافر أن نصدق كلامه إذا كان حقاً، وبعض أهل الكتاب كانوا يخبرون بأشياء من الصدق والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصدقهم، مثل المرأتان اليهوديتان اللتان جاءتا إلى عائشة يخبرانها عن عذاب القبر، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام فصدق كلام اليهوديتين بعذاب القبر.(9/622)
من الأمثلة عن جابر رضي الله عنه قال: (لما رجعت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مهاجرة البحر الذين ذهبوا إلى الحبشة - قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم لما رجعوا: ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة، قالت فتية منهم: بلى يا رسول! بينا نحن جلوس مرت بنا عجوزٌ من عجائز رهبانهم تحمل على رأسها قُلَّةً من ماء فمرت بفتىً منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها، ثم دفعها فخرت على ركبتيها فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت العجوز التفتت إليه فقالت: سوف تعلم يا غُدر ـ يعني يا غادر ـ إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون كيف أمري وأمرك عنده غداً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: صدقت .. صدقت، كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم؟) حديث حسن حسنه الألباني في مختصر العلو. وكذلك فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد صدق كلاماً قاله الشيطان لما وكل أبا هريرة بحفظ بيت المال وجاء الشيطان بهيئة رجل يحثو منه، فألقى أبو هريرة القبض عليه في أول ليلة وثاني ليلة وثالث ليلة وفي النهاية قال له: إني أعلمك آية إذا قلتها قبل النوم حفظك الله لا يقربك شيطان، قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ... ) [البقرة:255] وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح. أبو هريرة حريص على الخير، أطلق الرجل لأجل هذه الفائدة فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أما إنه قد صدقك وهو كذوب! تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليالٍ يا أبا هريرة؟ قال: لا. قال: فذاك شيطان) إذاً: قد يصدق الكذوب، فإذا قال صدقاً فإننا نقبله ولا نقول: لا؛ لأنهم يكذبون أو فجرة لا نقبل منهم شيئاً ولا نصدقهم، بل نصدق ما قالوه إذا وافق الدين.(9/623)
والنبي عليه الصلاة والسلام صدق أحد أحبار اليهود، قال: (يا محمد! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع فيقول: أنا الملك، فضحك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر -صدقه بالضحك الذي هو كناية عن الرضا والإقرار بما قاله- ثم قرأ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]).
(الصدق المذموم:
هل هناك صدق مذموم؟ الجواب: نعم، من الصدق المذموم: الغيبة والنميمة والسعاية، ولو ذكره بما ليس فيه، لكان هذا بهتاناً، لكن لو ذكرته بما فيه وقلت أنا صادق .. فربما عذر المغتاب نفسه بأنه يقول حقاً لكن هذا بعيد عن الصواب ومخالف للأدب؛ لأنه ولو كان في الغيبة صادقاً فقد هتك ستراً كان صونه أولى، وجاهر من أسر وأخفى، وربما دعا المغتاب وهذه نكتة لطيفة يشير إليها الماوردي رحمه الله في كتاب أدب الدنيا والدين، يقول: فلان فيه كذا وفعل وفعل فهذا الرجل إذا كان مصراً على فسفه وأنت تأتي وتعلن ما فعل الرجل، ربما دعا المغتاب ذلك إلى إظهار ما كان يستره والمجاهرة بما كان يخفيه، يقول: مادام أن الأمر يفتضح بين الناس، سأبهى بالفسق وأعلن به ما دمت قد افتضحت، فهل الذي ذكره وأفشى أمره ساعده على الخير؟ لا. لم يفده إلا فساد أخلاقه بدون صلاح.
(صدق النمام:(9/624)
وكذلك النمام والقتات، النمام يمكن أن يكون في نقل الكلام في غاية الأمانة لا يزيد ولا ينقص من الكلام، يذهب للشخص الآخر يقول: فلان قال عنك في المجلس الفلاني كذا وكذا وكذا، عابك وقال عنك كذا وكذا وكذا، ونقل الكلام بأمانة وبصدق ما كذب ولا افترى، فما حكم هذه النميمة ما حكم هذا الصدق في النقل؟ حرام، نميمة، النمام الذي يكون مع القوم يتحدثون فينم حديثهم وينقله. ما هو الفرق بين النمام والقتات؟ النمام عرفناه فمن هو القتات؟ النمام الذي يكون مع القوم فيسمع الكلام وينقله للإفساد، والقتات الذي يسمع إليهم وهم لا يعلمون فينقل خبرهم، أي: يتجسس عليهم ويسمع كلامهم وينقله ولا يكذب، ولا يزيد ولا ينقص، ينقل بدقة لكن لأجل الفساد، فهذا من المتجسسين وكلاهما لا يدخلان الجنة لأن الحديث جاء: (لا يدخل الجنة قتات) وكذلك: (لا يدخل الجنة نمام).
(صدق الوشاية:
أما السعاية فهي الوشاية: أن يشي بإنسان عند صاحب سلطان أو منصب لكي يوقع به، وهذه السعاية والوشاية هي شر الثلاثة؛ لأنها تجمع إلى مذمة الغيبة، ولؤم النميمة، التغرير بالنفوس والأموال، ووردت أمثلة وقصص لهذا فمما ذكره ابن عبد البر في بهجة المجالس قال: استراح رجل إلى جليس له في السلطان، يعني: رجل تكلم مع رجل في المجلس فوقع في السلطان فاستراح ووثق بالذي أمامه فتكلم في السلطان ـ هذا الآخر كان غير ثقة ولا يحفظ الحديث ـ فذهب إلى السلطان وقال: فلان قال عنك كذا وكذا وكذا، فرفع ذلك عليه، فلما أوقف السلطان ذلك القائل فقال له: أنت الذي قلت عني كذا وكذا وكذا، فأنكر أن يكون أحد سمع ذلك منه، فقال السلطان: بل فلان سمع ذلك منك هل ترضى به؟ قال: نعم. على أساس أنه صديق وصاحب، فكشف الستر عن الرجل، وكان قد خبأه عنده فقال: بلى أنت قلت ذلك لي، فسكت المرفوع عليه ساعة ثم أنشأ يقول:
أنت امرؤ إما ائتمنتك خالياً ... فخنت وإما قلت قولاً بلا علم
فأنت من الأمر الذي قلت ... بيننا بمنزلة بين الخيانة والإثم
إما أنك خائن أو آثم. وسعي بأحدهم إلى سلطان وكان السلطان عاقلاً فقال للساعي والواشي: أتحب أن نقبل منك ما تقول فيه على أن نقبل منه ما يقول فيك؟ قال: لا. قال: فكف عن الشر يكف عنك الشر.
(تصديق العرافين والكهان:(9/625)
ومن التصديق المحرم تصديق العرافين والكهان وهذا أعظم الأشياء وأخطرها؛ لأنه يتعلق بالتوحيد، وهو يقدح فيه قدحاً بليغاً، بل إن الذي يصدق العرافين والكهان يكون مشركاً بالله العظيم؛ لأنه يعتقد أن هناك من الناس من دون الله من يعلم الغيب، والله يقول: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) [النمل:65]
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد.
فلو ذهب رجل إلى الكاهن وقال انظر لي فلانة هذه التي أنا مقدم على زواجي منها، اكشف لي المستقبل، اقرأ الكف والفنجان، اضرب بالودع، انظر لي هل هي خير أو شر في المستقبل، إلى غير ذلك، وذهب الكاهن وادعى النظر ثم قال له: إنها خير لك في المستقبل فصدق السائل الكاهن فإذا صدقه فقد كفر ولا شك في ذلك. وكثير من الناس يأتون إلى الكهان لهذه الأسباب فيقعون في الشرك والعياذ بالله، وإن قال أنا أذهب وأجرب، آخذ كلامه وأجرب، فنقول: مجرد ذهابك إليه حرام وإن فعلت فإنك لا تكفر لكن لا تقبل لك صلاة الأربعين يوماً، هذه هي العقوبة، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث صفية بنت أبي عُبيد الثابت في صحيح مسلم) عن بعض أزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة.
فالكهان قد يصدقون ويأتيهم خبر موثوق، ثقة ثقة فكيف ذلك؟
اسمع إلى الحديث الآتي:
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) قالت: سأل أناس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الكهان، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ليسوا بشيء). قالوا: يا رسول الله، فإنهم يحدثون أحياناً بالشيء يكون حقاً؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تلك الكلمة من الحق، يخطفها الجني، فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة).(9/626)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كالسلسة على صفوان ـ قال علي: وقال غيره: صفوان، ينفذهم ذلك ـ فإذا فزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم، قالوا للذي قال: الحق، وهو العلي الكبير. فيسمعها مسترقو السمع، ومسترقو السمع هكذا واحد فوق الآخر ـ ووصف سفيان بيده وفرج بين أصابع يده اليمنى، نصبها بعضها فوق بعض ـ فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي بها إلى صاحبه فيحرقه، وربما لم يدركه حتى يرمي بها الذي يليه، إلى الذي هو أسفل منه، حتى يلقوها إلى الأرض ـ وربما قال سفيان: حتى تنتهي إلى الأرض ـ فتلقى على فم الساحر، فيكذب معها مائة كذبة، فيصدق فيقولون: ألم يخبرنا يوم كذا وكذا، يكون كذا وكذا، فوجدنا حقا؟ للكلمة التي سمعت من السماء).
(معنى (إذا قضى الله الأمر في السماء): بأمر معين، بقبض روح فلان، بمرض فلان، بشفاء فلان، بولد فلان وولادة فلان ونحو ذلك:
((ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كالسلسة على صفوان) مثل جر سلسلة على الصخر، فكذلك صوت أجنحة الملائكة الخاضعة لأوامر الله النازلة إليهم والتي لابد لهم من تنفيذها: (فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير، (فيسمعها مسترقو السمع: الجن يركب بعضهم فوق بعض إلى السماء يسترقون السمع، ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض.
(فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي بها إلى صاحبه فيحرقه: فأحرقه وما معه من الخبر، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيصل الخبر إلى الكاهن ويكون هذا فعلاً خبر ثقة صحيح مؤكد؛ لأنه مصدره من السماء عن طريق هؤلاء الجن المسترقين، لكن هذا الكاهن يعمل هذا الخبر الواحد الصحيح وسيلة لكي يدخل الناس في الشرك ويوقعهم في الشرك والعياذ بالله(9/627)
- فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمع من السماء. أي: الكاهن يقول: سوف يحدث كذا يوم كذا، ويحدث كذا يوم كذا، وواحد من هذه الكذبات الكثيرة صدق، ومشكلة الناس أنهم لا يتذكرون إلا الصدق، وأما كذبات الكاهن الأخرى فلا يتذكرونها، يقولون: فعلاً فلان قال لنا يوم كذا سيحدث كذا وحدث فعلاً، هذا رجل مجرب فعلاً يعلم ما في الغيب فاذهبوا إليه. والله عز وجل قادر على أن يحرق الجن مسترقي السمع قبل أن يصلوا إلى السماء أصلاً، لكن الله عز وجل شاء أن يجعل هذا الحدث فتنة ليرى من يثبت على الدين والتوحيد ومن لا يثبت.
تصديق أمراء السوء:
ومن التصديق المحرم تصديق أمراء السوء، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أعيذك بالله يا كعب بن عجرة من أمراء يكونون من بعدي فمن غشي أبوابهم فصدقهم في كذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولا يرد علي الحوض ومن غشي أبوابهم أو لم يغش فلم يصدقهم في كذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وسيرد علي الحوض.
فالحاصل أن الصدق نافع جداً في أشياء كثيرة: فهو ينفع الداعية إلى الله عز وجل؛ لأن الناس يتأثرون بالصادق ويظهر صدق الداعية في وجهه وصوته، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يتحدث إلى أناس لا يعرفونه فيقولون: والله ما هو بوجه كذاب ولا صوت كذاب، ولا شك أن ظهور أثر الصدق في وجه الداعية وصوته يؤثر على المخاطب ويحمله على قبول القول واحترام ما يصدر من الداعية لأن الكلام إذا خرج من القلب وصل إلى القلب، إلا إذا كان أعمى القلب، ومهما يكن من أمر فإن الصدق ضروري لكل مسلم.
(الحث على الاهتمام بتربية الأولاد على الصدق:(9/628)
وكذلك من الأمور المهمة في التربية: تربية الأولاد على الصدق، لابد أن يتربى المسلمون جميعاً على الصدق، لكن من الأشياء المهمة تربية الأولاد على الصدق، فالإسلام يوصي أن تغرس فضيلة الصدق في نفوس الأطفال حتى يشبوا عليها وقد ألفوها في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عبد الله بن عامر رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) قال: دعتني أمي يوما ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاعد في بيتنا فقالت ها تعال أعطيك فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما أردت أن تعطيه قالت أعطيه تمرا فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أما إنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
من قال لصبي: تعال هاك، ثم لم يعطه فهي كذبة).
(فهذه الحركة التي تفعلها بعض الأمهات تقبض يدها وتقول للولد: تعال أعطيك، لو كانت يدها فارغة فهي كاذبة، وتكتب عليها كذبة،
فانظر كيف يعلم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآباء والأمهات أن ينشئوا أولادهم نشأة يقدسون فيها الصدق، ويتنزهون عن الكذب، ولو تجاوز الآباء والأمهات عن هذه الأمور وقالوا: هذه توافه وهينة؛ فإن الأطفال سيكبرون وهم يعتبرون الكذب هيناً وهو عند الله عظيم. أما الكذب فلا شك أنه جماع كل شر، وقبل أن ندخل في موضوع الكذب إذا كان الوقت سيسعفنا في ذلك، فإن هناك بعض الأمور السريعة عن الصدق وهي:
(الصدق في البيع والشراء:
من المجالات المهم فيها الصدق: البيع والشراء. وما أكثر الكذب ـ الآن ـ في البيع والشراء؛ فإن الصدق في البيع والشراء سبب للبركة بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
((حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما).(9/629)
والآن الناس يغشون في الحراج وفي أسواق السيارات وغيرها، ولذلك كثير منهم لا بركة في مكاسبهم، وخصوصاً الذين يشتغلون في معارض السيارات من هؤلاء الدلالين وغيرهم، يقولون: (سكر في مويه) (ملح في مويه) و (كومة حديد) وسيارة لا تفتح ولا تغلق، لا تمشي إلى الخلف ولا إلى الأمام، ثم يقولون: برئت الذمة، وهم يعلمون الخلل الذي فيه، فهذا حرام، ولو رضي المشتري فهو حرام. ونحن في هذا الزمان وهو آخر الزمان، أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام أن الكذب سيفشو فيه، والصدق سيقل، وأن الصادقين سيضطهدون، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة.
في أمر عامة الناس، وكل أهل البلد، يتكلم في أمرهم الرجل التافه، فما أشبه زماننا هذا بما أخبر به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث الصحيح.
إذاً: هذا عصر يفشو فيه الكذب ويقل الصدق، ولذلك المؤمنون يتحرون الصدق ولا يدفعهم ألم الغربة إلى أن يكونوا مع الكذابين ولو كثر الكذب، ولقد أصبح الكذب ـ الآن ـ من أهون الأشياء عند الناس، تجد السنترال في الشركة أو الذي يرد على الهاتف في البيت يكذب، فلان موجود؟ لا. غير موجود، ويحلف على هذه الأشياء، فنسأل الله السلامة والعافية.
(الكذب أضراره وعواقبه:
الكذب جماع كل شر، وأصل كل ذم وما ذاك إلا لسوء عواقبه وخبث نتائجه
وما شيء إذا فكرت فيه ... بأذهب للمروءة والجمال
من الكذب الذي لا خير ... فيه وأبعد بالبهاء عن الرجال
والنبي عليه الصلاة والسلام كان يحارب الكذب محاربة شديدة، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد. ((9/630)
((حديث ابن مسعود الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر و إن البر يهدي إلى الجنة و ما يزال الرجل يصدق و يتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا و إياكم و الكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور و إن الفجور يهدي إلى النار و ما يزال الرجل يكذب و يتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا.
(هذا حديث عظيم من جوامع كلم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو يبين فيه أن الصدق هو رأس كل خلق حسن، وهو الذي يهدي صاحبه إلى كل بر، وإلى كل توفيق، وإذا وفق للبر فلا شك أن طريق البر هو طريق الجنة، وكذلك الكذب هو رأس الخطايا وهو بدايتها وهو الذي يهدي إلى كل فجور، والفجور لا شك أنه طريق النار.
((حديث ابن عمر في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أفرى الفِرى أن يُريَ الرجل عينيه ما لم تريا.
((حديث عائشة الثابت في صحيح الجامع) قالت: كان أبغض الخلق إليه الكذب.
((حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع) قالت: كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا اطلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة لم يزل معرضاً عنه حتى يحدث توبة.
((حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب و إذا وعد أخلف و إذا ائتمن خان.
((حديث عبد الله ابن عمرو الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أربعٌ من كن فيه كان منافقا خالصا و من كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان و إذا حدث كذب و إذا عاهد غدر و إذا خاصم فجر.
((حديث أبي أمامة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اكفلوا لي بست أكفل لكم بالجنة: إذا حدث أحدكم فلا يكذب و إذا ائتمن فلا يخن و إذا وعد فلا يخلف و غضوا أبصاركم و كفوا أيديكم و احفظوا فروجكم.
(تحريم الكذب في الرؤيا:
((حديث ابن عباس الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من تحلَّم بحُلمٍ لم يره كُلِّف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قومٍ وهم له كارهون صُبَّ في أُذنيه الآنكُ يوم القيامة، ومن صور صورةً عُذِّب وكُلِّفَ أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ.
(عقوبة الكذب:(9/631)
وعقوبة الكذاب شديدة بعد الموت كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في الرؤيا الصادقة التي رآها، وأخبر عنها لما سأل الملكين فقالا: (أما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، ثم ينتقل إلى الجانب الآخر ويعملون به مثل ذلك، فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق) فهذه عقوبته. وتأمل الحديث الآتي: ((9/632)
((حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: كان رسول اًلله صلى اًلله عليه وسلم ـ يعني ـ مما يكثر أن يقول لأصحابه: (هل رأى أحد منكم من رؤيا). قال: فيقصُّ عليه من شاء الله أن يقصَّ، وإنه قال ذات غداة: (إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي انطلق، وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه، فيتدهده الحجر ها هنا، فيتبع الحجر فيأخذه، فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل به مرَّة الأولى، قال: قلت لهما: سبحان الله ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا، فأتينا على رجل مستلق لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلُّوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقَّي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه - قال: وربما قال أبو رجاء: فيشقُّ - قال: ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه فيفعل مثل مل فعل المرة الأولى، قال: قلت: سبحان الله ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا، فأتينا على مثل التنُّور - قال: وأحسب أنه كان يقول - فإذا فيه لغط وأصوات، قال: فاطَّلعنا فيه، فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا، قال: قلت لهما: ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا، فأتينا على نهر - حسبت أنه كان يقول - أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة، فيفغر له فاه فيلقمه حجراً فينطلق يسبح، ثم يرجع إليه كلما رجع إليه فغر له فاه فألقمه حجراً، قال: قلت لهما: ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا، فأتينا على رجل كريه المرآة، كأكره ما أنت راء رجلاً مرآة، فإذا عنده نار يحشُّها ويسعى حولها، قال: قلت لهما: ما هذا؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا، فأتينا على روضة معتمة، فيها من كل لون الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل، لا أكاد أرى رأسه طولاً في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قطُّ، قال: قلت لهما: ما هذا ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا فانتهينا إلى(9/633)
روضة عظيمة، لم أر روضة قطُّ أعظم منها ولا أحسن، قال: قالا لي: ارق فيها، قال: فارتقينا فيها، فانتهينا إلى مدينة مبنيَّة بلبن ذهب ولبن فضة، فأتينا باب المدينة فاستفتحنا ففتح لنا فدخلناها، فتلقَّانا فيها رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء، وشطر كأقبح ما أنت راء، قال: قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، قال: وإذا نهر معترض يجري كأن ماءه المحض في البياض، فذهبوا فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة، قال: قالا لي: هذه جنة عدن وهذاك منزلك، قال: فسما بصري صعداً، فإذا قصر مثل الربابة البيضاء، قال: قالا لي: هذاك منزلك، قال: قلت لهما: بارك الله فيكما ذراني فأدخله، قالا: أما الآن فلا، وأنت داخله، قال: قلت لهما: فإني قد رأيت منذ الليلة عجباً، فما هذا الذي رأيت؟ قال: قالا لي: أما إنا سنخبرك، أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة، وأما الرجل الذي أتيت عليه، يشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، فإنه الرجل يغدو من بيته، فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق، وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل بناء التنُّور، فإنهم الزناة والزواني، وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجارة، فإنه آكل الربا، وأما الرجل الكريه المرآة، الذي عند النار يحشُّها ويسعى حولها، فإنه مالك خازن جهنم، وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة). قال: فقال بعض المسلمين: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وأولاد المشركين، وأما القوم الذين كانوا شطراً منهم حسن وشطراً منهم قبيح، فإنهم قوم خلطوا عملاً صالحا وآخر سيِّئاً، تجاوز الله عنهم).(9/634)
(قال الحسن البصري عن هذه النوعية: [خرج عندنا رجل في البصرة فقال: لأكذبن كذبة يتحدث بها الوليد، قال الرجل: فما رجعت إلى منزلي حتى ظننت أنها حق لكثرة ما رأيت الناس يتحدثون بها] هو الذي كذبها يقول: ما رجعت إلى منزلي حتى ظننت أنها حق لكثرة ما رأيت الناس يتحدثون بها. فهؤلاء الذين يروجون الإشاعات، ويختلقون الأخبار، ويستغلون الوسائل المختلفة لنشرها؛ فتعم المجتمع لأنها تسمع بجميع الوسائل المسموعة، لا شك أن عذابهم يوم البرزخ أليم، وعذابهم يوم القيامة أشد ألماً وأنكى وأخزى، ولا يقول الناس: هؤلاء أعداء الله ينشرون الأكاذيب ويخونون الأمين ويزعمون أن فلاناً صادق وهو خائن، ويروجون الإشاعات، ويغيرون الواقع، ويتهمون الأبرياء، والناس يروج عليهم هذا الكذب؛ لأنهم ليس عندهم هذه الوسائل التي أمامهم، نقول: رويداً .. سيأتي موعدهم عند الله، فإن الله عز وجل لا يضيع عنده حق وستكون عقوبة هؤلاء أليمة. الواحد قبل مجيء هذه الوسائل الحديثة التي تنشر الأخبار وتذيعها كان يكذب، وتنتشر الكذبة في الحي أو في البلد؛ لكن الآن عبر هذه الوسائل صار الكذب ينتشر في أقطار الأرض، فكيف يكون العذاب؟ أشد وأنكى.
(تحذير السلف من الكذب:
ولما علم الصالحون خطورة الكذب وأنه ثلث النفاق، وأنه يهدي إلى الفجور؛ خافوه على أنفسهم. عندما حضرت الوفاة عبد الله بن عمر قال: [إنه كان خطب إلي ابنتي رجل من قريش، وقد كان مني إليه شبه الوعد، وأخاف أن ألقى الله بثلث النفاق أشهدكم أني زوجته]. وكان الأئمة يستدلون بحركات الناس وأفعالهم وكلامهم على صدقهم، والبخاري لما خرج يطلب الحديث من رجل فرآه يشير إلى دابته برداء كأن فيه شعيراً وليس فيه شيء رجع وقال: «لا آخذ الحديث عمن يكذب على البهائم».
وقال الأحنف بن قيس: ما كذبت من يوم أسلمت إلا مرة واحدة. وكان السلف يدققون فيه جداً، لقي أحمد رحمه الله بعض أصحابه فقال: كيف حال أولادك؟ فقال الرجل: يقبلون يديك، قال الإمام أحمد: لا تكذب.
(قال بعض السلف: «من استحلى رضاع الكذب عسر عليه الفطام».
(وقال بعضهم لولده: يا بني! احذر الكذب فإنه شهي كلحم العصفور من أكل منه شيئاً لم يصبر عنه.
(وقال الأصمعي: قيل لكذاب: ما يحملك على الكذب؟ قال: أما إنك لو تغرغرت بمائه ما نسيت حلاوته. وقيل للكذاب هل صدقت قط؟ فقال: أخاف أن أقول لا فأصدق.(9/635)
(أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن الحسن رحمه الله قال يعد من النفاق اختلاف القول والعمل واختلاف السر والعلانية والمدخل والمخرج وأصل النفاق والذي بني عليه النفاق الكذب.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال ما كذبت كذبة منذ شددت علي إزاري.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن عمر رضي الله عنه قال أحبكم إلينا ما لم نركم أحسنكم اسما فإذا رأيناكم فأحبكم إلينا أحسنكم خلقا فإذا اختبرناكم فأحبكم إلينا أصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في خطبته ليس فيما دون الصدق من الحديث خير من يكذب يفجر ومن يفجر يهلك.
(أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن مالك بن دينار رحمه الله يقول الصدق والكذب يعتركان في القلب حتى يخرج أحدهما صاحبه.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن يزيد بن ميسرة الكذب يسقي باب كل شر كما يسقي الماء أصول الشجر.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا تجد المؤمن كذابا.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا تجد المؤمن كذابا.
(وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن الحسن قال قال لقمان عليه السلام لابنه إياك والكذب فإنه شهي كلحم العصفور عما قليل يقلاه صاحبه.
(دواعي الكذب:
والكذب له دواع كثيرة منها ما يلي:
أن يجلب لنفسه مغنماً أو يدفع عن نفسه ضرراً، أو أن يقول: الناس لا يقبلون حديثي ويقبلون عليّ إلا إذا كذبت، ولأني لا أجد من الأخبار الصحيحة ما أطرفهم به ويستظرفون به حديثي، فيستحل الكذب ويأتي بعجائب وغرائب من أجل أن يضحك الناس ويجمعهم حوله. وقد يكون الكذب من أجل التشفي بالخصم فيكذب عليه لأجل تشويه سمعته مثلاً وهكذا. وهذا الكذب خلق ذميم من اعتاده صعب عليه جداً أن يتخلص منه، لأن العادة طبع ثانٍ، إنسان فيه طبع يولد من بطن أمه فيه، والعادة التي يتعود عليها الإنسان طبع ثانٍ ويصعب جداً تغيير الطباع.
(تحريم الكذب في المزاح:(9/636)
وبعض الناس يستسهلون الكذب في المزاح ويحسبون أنه مجال للهو، ويختلقون الأخبار من أجله، والإسلام أباح الترويح عن القلوب لكن ليس بالكذب فإن الكذب في المزاح محرم بتص السنة الصحيحة، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الترمذي) قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا قال: إني لا أقول إلا حقاً.
((حديث معاوية ابن حيدة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ويلٌ للذي يُحَدِّثُ فيكذبُ ليضحك به القوم ويلٌ له ويلٌ له.
((حديث أبي أمامة الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء و إن كان محقا، و بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب و إن كان مازحا، و بيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه.
(والشاهد: أن الناس يطلقون الأعنة لأخيلتهم في تلفيق الأضاحيك ولا يحسون حرجاً في إدارة الحديث المفترى المكذوب، ليتندر بالخصوم ويسخر منهم أو بخلق الله، وهذا اللهو بالكذب حرام ولا شك فيه، فقد يلجأ الإنسان للكذب للتملص من خطأ وقع فيه، وهذا غباء وهوان، وهو فرار من شر إلى شر أشد منه، فالواجب أن يعترف بخطئه فلعل صدقه ينجيه ويكون سبباً في مسح هفوته، ومما يروى عن الحجاج هذا الظالم الباغي الفاجر أنه كان إذا صدقه الخصم عفا عنه.
(أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال لا يبلغ رجل حقيقة الإيمان حتى يدع المراء وهو محق والكذب في المزاح.
(لا تجمعن جوعا وكذبا:
يأتيك في البيت تريد أن تضيفه فيقول: لا أشتهي ولا أريد, وهو يشتهي لكن يعتبر أنها من الحرج أو شيء من هذا القبيل فيكون قد وقع في الكذب، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(وهذه حال كثير من الناس إما أن يقول لا أريد لكن يقول لا أشتهي وهو يشتهي فهذا من الكذب. هذه بعض الأمثلة التي تقع، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الصادقين، وأن يباعد بيننا وبين الكذب، وأن يحفظ ألسنتنا وقلوبنا منه، إنه سميع قريب مجيب، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.
(علامات الكذب:(9/637)
وكذلك فإن للكذب علامات وأمارات كما قلنا في الصدق، فمن علامات الكذاب ما يلي: (أولاً: أنك إذا لقنته حديثاً تلقنه ولم يكن بينه وبين ما حكيته فرق عنده، وأخذ مباشرة أي شيء تقوله.
ثانياً: أنك إذا شككته فيه تشكك حتى يكاد يرجع عنه.
ثالثاً: إنك إذا رددت عليه قوله، حصر وارتبك ولم يكن عنده نصرة المحتجين، ولا برهان الصادقين، إذا رددت عليه أبلس، أما الصادق إذا رددت عليه قوله ثبت عليه.
رابعاً: وكذلك ما يظهر عليه من الريبة والتخبط في الكلام؛ لأن هذا لا يمكن أن يدفعه عن نفسه، كما قالوا: الوجوه مرايا تريك أسرار البرايا.
(ولله درُ من قال:
حسب الكذوب من البلية ... بعض ما يحكى عليه
فإذا سمعت بكذبة ... من غيره نسبت إليه
من أضرار الكذب أن الكذاب ينسب إليه حتى الأشياء التي لم يكذب فيها، فيكذب على الكذاب، ولو تحرى الصدق يبقى متهماً، إذا عرف الكذاب بالكذب لم يكد يصدق في شيء وإن كان صادقاً، ومن آفة الكذاب نسيان كذبه؛ ولذلك فإن الكذاب يكون في منزلة وضيعة بين الناس.
(مواطن جواز الكذب:
مسألة: هل هناك أمور يجوز فيها الكذب؟
الجواب: نعم يجوز الكذب في الحرب، وإصلاح ذات البين، وبين الزوجين، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أم كلثوم بنت عقبة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ليس الكذاب بالذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا.
زاد مسلم (ولم أسمعه يُرَخَّص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها)
((حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يحل الكذب إلا في ثلاث: يحدث الرجل امرأته والكذب في الحرب والكذب ليصلح بين الناس.
{تنبيه}: (النبي عليه الصلاة والسلام قد استخدم التورية، ولذلك نقول: الكذب يجوز في حالات لكن اللجوء إلى التورية أحسن، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه قد استخدم التورية فسئل عن النبي عليه الصلاة والسلام ومن معه فقال: هذا هادٍ يهديني السبيل فظنوا أنه على هداية الطريق وهو على هداية سبيل الخير.(9/638)
ومن الأشياء التي يجوز الكذب فيها: بين الزوجين، ليس الكذاب الذي ينمي خيراً أو يقول خيراً، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً، أو ليصلح ما بينه وبين زوجته لو كذب عليها فإنه لا يعتبر بذلك كاذباً ولكن الإنسان يستخدم المعاريض كما ذكرنا. كان إبراهيم إذا طلبه إنسان لا يحب لقاءه خرجت الجارية فقالت: اطلبوه في المسجد، وهذا من المعاريض. وقال إسحاق بن هانئ: كنا عند أحمد بن حنبل في منزله ومعه المروذي أحد طلبته ومهنا طالب آخر، فدق داق الباب فقال: المروذي هنا؟ فكأن المروذي كره أن يعلم موضعه، فوضع مهنا إصبعه في راحته وقال: ليس المروذي هاهنا، والطارق يسمع، وما يصنع المروذي هاهنا، فضحك أحمد ولم ينكر.
(أما أهل الكتاب فإنا لا نصدقهم ولا نكذبهم فإذا وافق ما ورد عنهم الكتاب والسنة أقررنا وإذا خالف الكتاب والسنة رفضناه، إذاً لا نوافق ولا نخالف ولا نصدق ولا نكذب، لأنه إما أن يكون حقاً فنكذب به أو باطلاً فنصدق به، فنكون قد وقعنا في محذور.
((14) جواز المعاريض والتورية بشروطها:
(معنى التورية:
مسألة: ما معنى التورية؟
(التورية لغةً: هي إخفاء الشيء.
قال الله عَزَّ و جَلَّ: {فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة / 31]
و قال عَزَّ من قائل: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} الأعراف / 26.
(التورية اصطلاحا: فهو أن يقول القائل كلاماً يظهر منه معنى يفهمه السامع ولكن القائل يريد معنى آخر يحتمله الكلام، كأن يقول له ليس معي درهم في جيبي فيُفهم منه أنّه ليس معه أي مال أبداً، ويكون مراده أنه لا يملك درهماً لكن يملك ديناراً مثلاً، ويسمى هذا الكلام تعريضاً أو تورية.
(حكم التورية:
مسألة: ما حكم التورية؟.
تُعد التورية من الحلول الشرعية لتَجَنُّب حالات الحرج التي قد يقع الإنسان فيها عندما يسأله أحدٌ عن أمرٍ وهو لا يريد إخباره بالواقع من جهة، ولا يريد أن يكذب عليه من جهة أخرى.(9/639)
وتصح التورية من القائل إذا دعت الحاجة أو المصلحة الشرعية لها، ولا ينبغي أن يكثر منها بحيث تكون ديدناً له، ولا أن يستعملها لأخذ باطل أو دفع حق.
(والتورية جائزة بشرطين: الأول: أن يكون اللفظ محتملاً لها.
والثاني: ألا تكون ظلماً. فلو قال رجل: أنا لا أنام إلا على وتد. والوتد عود يوضع في الجدار ويعلق عليه المتاع. وقال الرجل: أنا أريد بالوتد الجبل، فهذه تورية صحيحة، لأن اللفظ يحتملها وليس فيها ظلمٌ لأحد.
وكذلك لو أن رجلاً قال: والله لا أنام إلا تحت السقف. ثم نام فوق السقف وقال: أردت بالسقف السماء. فهذا صحيح، فقد سميت السماء سقفاً في قوله سبحانه: (وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً) [الأنبياء /32]
(حديث عمران ابن حُصين في صحيح الأدب المفرد موقوفاً) قال إن في المعاريض لمندوحةٌ عن الكذب.
معنى مندوحة: سعة
[*] قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما يسرني بمعاريض الكلام حُمُرُ النعم.
[*] وقال بعض السلف: كان لهم كلامٌ يدرؤون به عن أنفسهم العقوبة، فقد لقي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طليعةً للمشركين وهو في نفرٍ من أصحابه فقال المشركون ممن أنتم؟ فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحن من ماء. فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا: أحياء اليمن كثيرةٌ لعلهم منهم وانصرفوا.
وأراد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله (من ماء) قوله قال تعالى: (خُلِقَ مِن مّآءٍ دَافِقٍ) [الطارق / 6]
(قال النووي رحمه الله:
قال العلماء: فإن دعَت إلى ذلك مصلحة شرعيَّة راجحة على خداع المخاطب، أو دعت إليه حاجة لا مندوحة عنها إلا بالكذب: فلا بأس بالتعريض، فإن لم تدع إليه مصلحة ولا حاجة: فهو مكروه وليس بحرام، فإن توصل به إلى أخذ باطل أو دفع حق فيصير حينئذ حراماً، وهذا ضابط الباب.
" الأذكار " (ص 380).
وذهب بعض العلماء إلى تحريم التعريض لغير حاجة أو مصلحة، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. انظر الاختيارات ص 563.
وهناك حالات أرشد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها إلى استخدام التورية، فعلى سبيل المثال:
إذا أحدث الرجل في صلاة الجماعة فماذا يفعل في هذا الموقف المحرج؟.
الجواب: عليه أن يأخذ بأنفه فيضع يده عليه ثم يخرج.
والدليل:
((حديث عائشة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا أَحْدَثَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَأْخُذْ بِأَنْفِهِ ثُمَّ لِيَنْصَرِفْ.(9/640)
قال الطيبي: أمر بالأخذ ليخيل أنه مرعوف (والرعاف هو النزيف من الأنف)، وليس هذا من الكذب، بل من المعاريض بالفعل، ورُخِّص له في ذلك لئلا يسوِّل له الشيطان عدم المضي استحياء من الناس ا. هـ " مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح " (3/ 18).
وهذا من التورية الجائزة والإيهام المحمود رفعاً للحرج عنه، فيظن من يراه خارجاً بأنه أصيب برعاف في أنفه ...
وكذلك إذا واجه المرء المسلم ظروفاً صعبة محرجة يحتاج فيها أن يتكلم بخلاف الحقيقة لينقذ نفسه، أو ينقذ معصوماً، أو يخرج من حرج عظيم، أو يتخلص من موقف عصيب.
فهناك طريقة شرعية ومخرجٌ مباح يستطيع أن يستخدمه عند الحاجة ألا وهو " التورية " أو " المعاريض "، وقد بوَّب البخاري - رحمه الله - في صحيحه " باب المعاريض مندوحة عن الكذب " - صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب (116) -.
(وفيما يلي التوضيح بأمثلة من المعاريض التي استخدمها السلف والأئمة أوردها العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه " إغاثة اللهفان ":
(ذُكر عن حماد رحمه الله أنه إذا أتاه من لا يريد الجلوس معه قال متوجعاً: ضرسي، ضرسي، فيتركه الثقيل الذي ليس بصحبته خير.
(وأحضر سفيان الثوري إلى مجلس الخليفة المهدي فاستحسنه، فأراد الخروج فقال الخليفة لا بد أن تجلس فحلف الثوري على أنه يعود فخرج وترك نعله عند الباب، وبعد قليل عاد فأخذ نعله وانصرف فسأل عنه الخليفة فقيل له إنه حلف أن يعود فعاد وأخذ نعله.
(أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إسحاق بن هانئ قال: كنا عند أحمد بن حنبل في منزله ومعه المروذي ومهنى فدق داق الباب وقال المروذي ها هنا فكان المروذي كره أن يعلم موضعه فوضع مهنى أصبعه في راحته وقال ليس المروذي ها هنا وما يصنع المروذي ها هنا فضحك أحمد ولم ينكر.
(ومن أمثلة التورية أيضاً:
لو سألك شخص هل رأيت فلاناً وأنت تخشى لو أخبرته أن يبطش به فتقول ما رأيته وأنت تقصد أنك لم تقطع رئته وهذا صحيح في اللغة العربية أو تنفي رؤيته وتقصد بقلبك زماناً أو مكاناً معيناً لم تره فيه، وكذلك لو استحلفك أن لا تكلم فلاناً: فقلت: والله لن أكلمه، وأنت تعني أي لا أجرحه لأن الكلم يأتي في اللغة بمعنى الجرح. وكذلك لو أرغم شخص على الكفر وقيل له اكفر بالله، فيجوز أن يقول كفرت باللاهي. يعني اللاعب. إغاثة اللهفان: ابن القيم 1/ 381 وما بعدها 2/ 106 - 107، وانظر بحثاً في المعاريض في الآداب الشرعية لابن مفلح 1/ 14.(9/641)
{تنبيه}: (لا يستخدم المسلم التورية إلا في حالات الحرج البالغ وذلك لأمور منها:
1 - أن الإكثار منها يؤدي إلى الوقوع في الكذب.
2 - فقدان الإخوان الثقة بكلام بعضهم بعضاً لأن الواحد منهم سيشك في كلام أخيه هل هو على ظاهره أم لا؟.
3 - أن المستمع إذا اطلع على حقيقة الأمر المخالف لظاهر كلام الموري ولم يدرك تورية المتكلم يكون الموري عنده كذاباً وهذا مخالف لاستبراء العرض المأمور به شرعاً.
4 - أنه سبيل لدخول العجب في نفس صاحب التورية لإحساسه بقدرته على استغفال الآخرين.
(حكم من استخدم التورية للظلم والعياذ بالله:
إذا استخدمت التورية للظلم فلا تجوز، كمن أخذ حقاً من إنسان ثم ذهب إلى القاضي، ولم تكن للمظلوم بيّنة فطلب القاضي من آخذ الحق أن يحلف أن ليس له عندك شيء، فحلف وقال: والله ما له عندي شيء، فحكم له القاضي، ثم كلمه بعض الناس في ذلك وعرفه أن هذه يمين غموس تغمس صاحبها في النار، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
((حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْكَبَائِرُ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ (1).
((حديث أبي أمامة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ.
فإذا قال هذا الحالف: أنا ما أردت النفي، وإنما أردت الإثبات. ونيتي في كلمة "ما له" أن (ما) اسم موصول أي: والله الذي له عندي شيء. فهذا وإن كان اللفظ يحتمله إلا أنه ظلم فلا يجوز، فإن اليمين على نية المستحلف بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اليمين على نية المستحلف.
ولو أن رجلاً اتهمت زوجته بالخيانة وهي بريئة منها فحلف وقال: والله إنها أختي وقال: أردت أنها أختي في الإسلام. فهذا تعريض صحيح لأنه أخته في الإسلام، وهي مظلومة.
((15) أن يطابق قوله عمله:
__________
(1). سميت بذلك: لأنها تغمس صاحبها في الإثم والنار. الفتح (11/ 564)(9/642)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) {الصف/3،2}
((حديث أسامة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يُؤتى بالعالم يوم القيامة فيُلقى في النار فتندلقُ أقتابه فيدور حولها كما يدور الحمار حول الرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ويحك، مالك كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر فيقول كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه.
((حديث جندب ابن عبد الله الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال مثل العالم الذي يعلم الناس الخير و ينسى نفسه كمثل السراج يضيء للناس و يحرق نفسه.
((حديث أنس الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال أتيت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت وفت فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون و يقرءون كتاب الله و لا يعملون به.
((حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهمت الثابت في صحيح الأدب المفرد) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ارْحَمُوا تُرْحَمُوا , اغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ , وَيْلٌ لِأَقْمَاعِ الْقَوْلِ , وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
أَقْمَاعُ الْقَوْلِ: هُمْ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْقَوْلَ وَلَا يَعُونَهُ وَلَا يَفْهَمُونَهُ.
((حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور.
(يُرِيدُ بِالْمُتَشَبِّعِ بِمَا لاَ يَمْلِكُ الْمُتَزَيِّنَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ. وَقَوْلُهُ كَلاَبِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ هُوَ الَّذِي يَلْبَسُ ثِيَابَ الصُّلَحَاءِ، فَهُوَ بِرِيَائِهِ مَحْرُومُ الاجْرِ، مَذْمُومُ الذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى فَيُؤْجَرَ عَلَيْهِ، وَلاَ يَخْفَى رِيَاؤُهُ عَلَى النَّاسِ فَيُحْمَدَ بِهِ.(9/643)
ما زال الحديثُ موصولاً عن أدب النفس، فتأمله بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر
فيه واجعل له في سمعك مسمعاً وفي قلبك موقِعاً، عسى الله أن ينفعك بما فيه
من غرر الفوائد، ودرر الفرائد، لعلك تستأنف ما فات بما بقيَ من الأيام قبل
انصرامِ العمرِ ومرورِ الأيام.
آداب الطعام:
للطعام آداب ينبغي لطالب العلم أن يحيط بها علماً وأن يتبعها حتى يكون متأسياً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهاك آداب الأكل والشرب جملةً وتفصيلا:
أولاً آداب الطعام جملةً:
(1) أن يغسل يديه قبل الطعام وبعده:
(2) ذكر الله تعالى عند الطعام:
(3) أن يقول بسم الله قبل البدء في الطعام وأن يحمد الله تعالى بعد الطعام:
(4) إذا أُتِيَ بطعامٍ ولم يدري أذُكِر اسم الله عليه أم لا فليُسَمِّ هو ويأكل:
(5) أن يأكل باليمين:
(6) يحرم الأكل بالشمال إلا لضرورة:
(7) أن يأكل بثلاث أصابع:
(8) لعق الأصابع والصحفة:
(9) إذا سقطت اللقمة منه فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان:
(10) النهي عن الشبع:
(11) النهي عن القران بين التمرتين حتى يستأذن أصحابه:
(12) التواضع في الأكل:
(13) عدم الأكل منبطحاً على بطنه أو الجلوس على ما حرم الله:
(14) الْأَكْلُ عَلَى السُّفَر أَوْلَى مِنْ الْأَكْلِ عَلَى الْخِوَانِ:
(15) كَرَاهِيَةِ الأَكْلِ مِنْ وَسَطِ الطّعَام:
(16) جواز الأكلُ قائما:
(17) لا يعيب الطعام إن اشتهاه أكله وإلا تركه.
(18) استحباب الاجتماع على الطعام:
(19) أن يبدأ بالطعام الْأَكْبَرُ وَالْأَعْلَمُ:
(20) تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة:
(21) انتظار الطعام الساخن حتى يبرد:
(22) تجنب الإسراف والمخيلة:
(23) لا يستحب الوضوء قبل الأكل:
(24) تقديم الأكل على الصلاة عند حضور الطعام:
(25) الأكل مما يلي الآكل:
(26) استحباب الأكل بعد ذهاب حرارته:
(27) أكل اللحم غير موجب للوضوء:
(28) النهى عن أكل طعام المتباريين:
(29) استحباب الكلام على الطعام:
ثانيا آداب الطعام تفصيلا:
(1) أن يغسل يديه قبل الطعام وبعده:
أما قبل الطعام:
(حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ تَوَضَّأَ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ غَسَلَ يَدَيْهِ.
وأما بعد الطعام:(10/1)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ نَامَ وَفِي يَدِهِ غَمَرٌ وَلَمْ يَغْسِلْهُ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ.
(غَمَرٌ): الدسم والزهومة من اللحم.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ فَمَضْمَضَ وَغَسَلَ يَدَيْهِ وَصَلَّى.
(2) ذكر الله تعالى عند الطعام:
(حديث ابن عباس في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من أطعمه الله طعاما فليقل: اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وارزقنا خيرا منه و من سقاه الله لبنا فليقل: اللهم بارك لنا فيما رزقتنا و زدنا منه فإني لا أعلم ما يجزئ من الطعام و الشراب إلا اللبن.
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
وَفِي هَذَا فَضِيلَةُ اللَّبَنِ وَكَثْرَةُ خَيْرِهِ وَنَفْعِهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَنْفَعُ مَشْرُوبٍ لِلْآدَمِيِّ لِمُوَافَقَتِهِ لِلْفِطْرَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَاعْتِيَادِهِ فِي الصِّغَرِ , وَلِاجْتِمَاعِ التَّغْذِيَةِ وَالدَّمَوِيَّةِ فِيهِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66]. وَقَالَ عَنْ الْجَنَّةِ: {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد: 15].
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان أدركتم المبيت وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال أدركتم المبيت والعشاء.
(3) أن يقول بسم الله قبل البدء في الطعام وأن يحمد الله تعالى بعد الطعام:
من السنة أن يُسَّمِ الآكل قبل أكل طعامه، ويحمد الله تعالى بعد الفراغ منه.(10/2)
(حديث حُذَيْفَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: كُنَّا إِذَا حَضَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا لَمْ نَضَعْ أَيْدِيَنَا حَتَّى يَبْدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَضَعَ يَدَهُ، وَإِنَّا حَضَرْنَا مَعَهُ مَرَّةً طَعَامًا فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ كَأَنَّهَا تُدْفَعُ فَذَهَبَتْ لِتَضَعَ يَدَهَا فِي الطَّعَامِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهَا ثُمَّ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ كَأَنَّمَا يُدْفَعُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ أَنْ لَا يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ جَاءَ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ لِيَسْتَحِلَّ بِهَا فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا فَجَاءَ بِهَذَا الْأَعْرَابِيِّ لِيَسْتَحِلَّ بِهِ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ يَدَهُ فِي يَدِي مَعَ يَدِهَا.
(حديث عمر بن أبي سلمى رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قَالَ: كُنْتُ غُلَامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا غُلَامُ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ.
(حديث عائشة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ.
(حديث ابن عباس في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ أَطْعَمَهُ اللَّهُ طَعَامًا فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَارْزُقْنَا خَيْرًا مِنْهُ وَمَنْ سَقَاهُ اللَّهُ لَبَنًا فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ مَا يُجْزِئُ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَّا اللَّبَنُ.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في زاد المعاد:(10/3)
والتسمية في أول الطعام والشراب، وحمد الله في آخره تأثيرٌ عجيب في نفعه واستمرائه، ودفع مضرته. قال الإمام أحمد: إذا جمع الطعام أربعاً فقد كمل: إذا ذُكر اسم الله في أوله، وحُمد الله في آخره، وكثرت عليه الأيدي، وكان من حِل (1).
وفائدة التسمية قبل الطعام أنه يحرم الشيطان من المشاركة في الأكل والإصابة منه.
(حديث حُذَيْفَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: كُنَّا إِذَا حَضَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا لَمْ نَضَعْ أَيْدِيَنَا حَتَّى يَبْدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَضَعَ يَدَهُ، وَإِنَّا حَضَرْنَا مَعَهُ مَرَّةً طَعَامًا فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ كَأَنَّهَا تُدْفَعُ فَذَهَبَتْ لِتَضَعَ يَدَهَا فِي الطَّعَامِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهَا ثُمَّ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ كَأَنَّمَا يُدْفَعُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ أَنْ لَا يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ جَاءَ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ لِيَسْتَحِلَّ بِهَا فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا فَجَاءَ بِهَذَا الْأَعْرَابِيِّ لِيَسْتَحِلَّ بِهِ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ يَدَهُ فِي يَدِي مَعَ يَدِهَا.
ولفظ التسمية أن يقول الآكل: (بسم الله):
(حديث عمر بن أبي سلمى رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قَالَ: كُنْتُ غُلَامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا غُلَامُ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ.
__________
(1). زاد المعاد (4/ 232)(10/4)
واختار النووي في أذكاره أن الأفضل أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فإن قال: بسم الله كفاه وحصلت السنة (1). ورده ابن حجر بقوله: فلم أر لما ادعاه من الأفضلية دليلاً خاصاً (2).قلت: وغالب النصوص جاءت بلفظ (سَمِّ الله) ونحو ذلك، دون زيادة (الرحمن الرحيم)، بل جاء التصريح بلفظ التسمية عند الطبراني-دون زيادة (الرحمن الرحيم) - من حديث عمرو بن أبي سلمة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يا غلام إذا أكلت فقل: بسم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك) (3).
وإذا نسي الآكل أن يسمِّ الله قبل الطعام ثم ذكر في أثنائه فإنه يقول: (بسم الله أوله وآخره)
(حديث عائشة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ.
وأما حمد الله تعالى بعد الفراغ من طعامه أو شرابه ففيه فضل عظيم تفضل به الله على عباده، (حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا.
وقد تعددت ألفاظ الحمد عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد الفراغ من طعامه وشرابه ومنها ما يلي:
(حديث أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مُوَدَّعٍ (4) وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبَّنَا.
__________
(1). الأذكار للنووي (334)
(2). فتح الباري (9/ 431)
(3). أخرجه الطبراني في معجمه الكبير، وأدخله الألباني في سلسلته الصحيحة وقال: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين (1/ 611)، برقم (344)
(4). قوله: (غير مودَّعٍ) أي: غير متروك الطلب إليه، والرغبة فيما عنده، ومنه قوله سبحانه وتعالى: {ما ودعك ربك} أي: تركك. ومعنى المتروك: المستغنى عنه، وقرأ بعضهم (غير موِّعٍ) أي: غير تارك طاعة ربي، قاله البغوي في شرح السنة (11/ 277 - 278)(10/5)
(حديث أبي أمامة الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَفَانَا وَأَرْوَانَا غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مَكْفُورٍ.
(حديث معاذ بن أنس الجُهَنِي الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيَّ ... - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ أَكَلَ طَعَامًا ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا الطَّعَامَ وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي هَذَا الثَّوْبَ وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.
(حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَ وَسَقَى وَسَوَّغَهُ وَجَعَلَ لَهُ مَخْرَجًا.
(وَسَوَّغَهُ): أي سَهَّلَ كلاً من نزول اللقمة ونزول الشراب في الحلق.
{فائدة}: يستحب الإتيان بألفاظ الحمد الواردة بعد الفراغ من الطعام جميعها ـ "لأن بينها اختلاف تنوع وليس اختلاف تضاد" ـ، فيقول هذا مرة، وهذا مرة حتى يحصل له حفظ السنة من جميع وجوهها، وتناله بركة هذا الأدعية، مع ما يشعر به المرء في قرارة نفسه من استحضار هذه المعاني عندما يقول هذا اللفظ تارة، وهذا اللفظ تارة أخرى، لأن النفس إذا اعتادت على أمرٍ معين ـ كترديد ذكر معين ـ فإنه مع كثرة التكرار يقل معها استحضار المعاني لكثرة الترداد.
(4) إذا أُتِيَ بطعامٍ ولم يدري أذُكِر اسم الله عليه أم لا فليُسَمِّ هو ويأكل:
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) أن قوماً قالوا: يا رسول الله، إن قوماً يأتوننا باللحم، لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: "سَمُّوا أنتم وكلُوا"
(5) أن يأكل باليمين:(10/6)
(حديث عمر بن أبي سلمى رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قَالَ: كُنْتُ غُلَامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا غُلَامُ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ.
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كشف المشكل:
لما جُعلت الشمال للاستنجاء ومباشرة الأنجاس، واليُمنى لتناول الغذاء، لم يصلح استعمال أحدهما في شغل الأخرى، "لأنه حطٌّ لرتبة ذي الرتبة، ورفع للمحطوط"، فمن خالف ما اقتضته الحكمة وافق الشيطان (1).
ومع أن الأحاديث في هذا مشهورة لا تكاد تخفى على عامة الناس، إلا أن بعض المسلمين ـ هداهم الله ـ لا زال متمسكاً بهذه الخصلة الذميمة، وهي الأكل والشرب باليد الشمال. وإذا قيل لهم في ذلك، قالوا: هذا أمرٌ أصبح لنا عادة ويصعب أن ننفك منه، ولعمر الله إن هذا من تزيين الشيطان لهم، وصدهم عن اتباع الشرع، وهو في الجملة دليلٌ على نقص الإيمان في قلوبهم؛ وإلا فما معنى مخالفة أمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونهيه! وشرهم وأخبثهم من فعل ذلك تكبراً وتجبراً، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشِمَالِهِ فَقَالَ: كُلْ بِيَمِينِكَ. قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ قَالَ لَا اسْتَطَعْتَ مَا مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْرُ، قَالَ فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ.
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
وفي هذا الحديث: "جواز الدعاء على من خالف الحكم الشرعي بلا عذر"، وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل حال حتى في حال الأكل، واستحباب تعليم الآكل آداب الأكل إذا خالفه (2).
__________
(1). كشف المشكل (2/ 594) (1227)
(2). شرح صحيح مسلم. المجلد السابع (14/ 161)(10/7)
{تنبيه}: إذا هناك ثمَّ عذرٌ يمنع من الأكل باليد اليمنى كالمرض والجراحة ونحوهما، فلا حرج في الأكل بالشمال، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
(6) يحرم الأكل بالشمال إلا لضرورة:
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ.
(حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تَأْكُلُوا بِالشِّمَالِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِالشِّمَالِ.
(7) أن يأكل بثلاث أصابع:
من هديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يأكل بأصابعه الثلاث، وكان يلعق يده بعد الفراغ من طعامه.
(حديث كعب بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قَالَ:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ وَيَلْعَقُ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَمْسَحَهَا.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
فإن الأكل بأصبع أو أصبعين لا يستلذ به الآكل، ولا يمريه، ولا يشبعه إلا بعد طول، ولا تفرح آلات الطعام والمعدة بما ينالها في كل أكلة ... والأكل بالخمسة والراحة يوجب ازدحام الطعام على الآته، وعلى المعدة، وربما انسدت الآلات فمات، وتُغصب الآلات على دفعه، والمعدة على احتماله، ولا يجد له لذة ولا استمراء، فأنفع الأكل أكله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأكل من اقتدى به بالأصابع الثلاث اهـ (1).
(8) لعق الأصابع والصحفة:
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا أَوْ يُلْعِقَهَا.
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِلَعْقِ الْأَصَابِعِ وَالصَّحْفَةِ وَقَالَ إِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ فِي أَيِّهِ الْبَرَكَةُ.
__________
(1). زاد المعاد (4/ 222) بتصرف يسير.(10/8)
والعلة في ذلك مبينةً في حديث جابر السابق (إِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ فِي أَيِّهِ الْبَرَكَةُ) معناه والله أعلم أن الطعام الذي يحضره الإنسان فيه بركة، ولا يدري أن تلك البركة فيما أكله أو فيما بقي على أصابعه أو فيما بقي في أسفل القصعة أو في اللقمة الساقطة، فينبغي أن يحافظ على هذا كله لتحصل البركة، وأصل البركة الزيادة وثبوت الخير والامتاع به، والمراد هنا والله أعلم ما يحصل به التغذيه وتسلم عاقبته من أذى ويقوى على طاعة الله وغير ذلك، قاله النووي (1).
(9) إذا سقطت اللقمة منه فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان:
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا وَقَعَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَأْخُذْهَا فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى وَلْيَأْكُلْهَا وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ وَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ بِالْمِنْدِيلِ حَتَّى يَلْعَقَ أَصَابِعَهُ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ.
وفي هذا الحديث فوائد، منها: إماطة الأذى من تراب وغيره عن اللقمة الساقطة ثم أكلها وحرمان الشيطان منها؛ لأنه عدو، والعدو ينبغي حرمانه والتحرز منه. ومنها: أن بركة الطعام قد تكون في اللقمة الساقطة فلا يفرط فيها. ومنها: أن الشيطان يحضر ويلازم الإنسان، ولا مدخل للعقل في إنكار حضوره، كما يزعم أهل العقول.
(10) النهي عن الشبع:
(حديث مِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَا مَلأَ آدَمِىٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لاَ مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ "
(حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) قَالَ: تَجَشَّأَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِىِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ " كُفَّ عَنَّا جُشَاءَكَ فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ شِبَعاً فِى الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ جُوعاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".
(حديث معاذ الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِيَاكَ وَالتَنَعُمَ فَإِنَّ عِبَادَ اللهِ لَيْسُوا بِالمُتَنَعِمِيْن.
__________
(1). شرح مسلم. المجلد السابع (13/ 172)(10/9)
(حديث فاطمة الزهراء رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: شِرِارُ أُمَتِي الَّذِينَ غُذُوا بِالنَّعِيمِ الَّذِينَ يَأكُلُونَ أَلوَانَ الطَّعَامِ وَيَلْبَسُونَ أَلوَانَ الثِيَابِ وَيَتَشَدَقُونَ فِي الكَلَامِ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَأْكُلُ أَكْلًا كَثِيرًا فَأَسْلَمَ فَكَانَ يَأْكُلُ أَكْلًا قَلِيلًا فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرَ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ.
وللسلف كلام في هذا الجانب يحسن بنا أن نقف عنده: قال ابن مفلح: ذكر ابن عبد البر وغيره أن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- خطب يوماً فقال: إياكم والبطنة، فإنها مكسلةٌ عن الصلاة، مؤذية للجسم، وعليكم بالقصد في قوتكم، فإنه أبعد من الأشَرِ، وأصحُّ للبدن، وأقوى على العبادة، وإن امرءاً لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه. وقال عليٌّ -رضي الله عنه-: المعدةُ حوض البدن، والعروق واردة عليها وصادرة عنها، فإذا صحت صدرت العروق عنها بالصحة، وإذا سقمت صدرت العروق عنها بالسقم. وقال الفضيل بن عياض: تنتان تُقسيان القلب: كثرة الكلام وكثرة الأكل.
وروى الخلال في (جامعه) عن أحمد أنه قال: وقيل له: هؤلاء الذي يأكلون قليلاً، ويقللون من طعامهم؟ قال: ما يعجبني! سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: فعل قومٌ هكذا فقطعهم عن الفرض (1).
[*] أورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عن ثابت البناني قال: " بلغنا أن إبليس ظهر ليحيى بن زكريا، فرأى عليه معاليق من كل شيء، فقال: ما هذه التي أراها عليك؟ قال: هذه الشهوات، أصيد بها بني آدم. قال له: لي فيها شيء؟ قال: لا. قال: فهل تصيب مني من شيء؟ قال: ربما شبعت فثقلت عن الصلاة والذكر. قال: غير هذا؟ قال: لا. قال: لا جرم لا أشبع أبدا "
لا جرم: هذه كلمة تَرِد بمعْنى تَحْقِيق الشَّيء. وقد اخْتُلف في تقديرها، فقِيل: أصْلُها التَّبْرِئة بمعنى لا بُدَّ، ثم اسْتُعْمِلت في معْنى حَقًّا. وقيل جَرَم بمعْنى كسَبَ. وقيل بمعْنى وجَبَ وحُقَّ.
(11) النهي عن القران بين التمرتين حتى يستأذن أصحابه:
__________
(1). الآداب الشرعية (3/ 183،184،185) مع تقديم وتأخير.(10/10)
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقْرُنَ الرَّجُلُ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ جَمِيعًا حَتَّى يَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ.
{تنبيه}: السبب في ذلك لأن ذلك يكون سبباً في الطمع وسوء الخلق.
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى في المشكل:
فأما حكم الحديث فإن هذا إنما يكون في الجماعة، والعادة تناول تمرة واحدة، فإذا قرن الإنسان زاد على الجماعة واستأثر عليهم، فافتقر إلى الأذن. اهـ (1).
والنهي هنا إما للتحريم أو الكراهة وكلٌ قد قال به أهل العلم. وذهب النووي إلى التفصيل فقال: والصواب التفصيل، فإن كان الطعام مشتركاً بينهم فالقران حرام إلا برضاهم ويحصل الرضا بتصريحهم به أو بما يقوم مقام التصريح من قرينة حالٍ أو إدلال عليهم كلهم بحيث يعلم يقيناً أو ظناً قوياً أنهم يرضون به، ومتى شك في رضاهم فهو حرام، وإن كان الطعام لغيرهم أو لأحدهم اشترط رضاه وحده، فإن قرن بغير رضاه فحرام، ويستحب أن يستأذن الآكلين معه ولا يجب، وإن كان الطعام لنفسه وقد ضيفهم به فلا يحرم عليه القران، ثم إن كان في الطعام قلة فحسن أن لا يقرن لتساويهم، وإن كان كثيراً بحيث يفضل عنهم فلا بأس بقرانه، لكن الأدب مطلقاً التأدب في الأكل وترك الشره إلا أن يكون مستعجلاً ويريد الإسراع لشغل آخر (2).
مسألة: هل يقاس على التمر غيره من صنوف الطعام التي تتناول إفراداً؟
الجواب: نعم يقاس عليه ما كانت العادة بتناوله إفراداً. قال ابن تيمية: وعلى قياسه قران كل ما العادة جارية بتناوله إفراداً (3).
(12) التواضع في الأكل:
(حديث أبي جُحَيفة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا آكُلُ مُتَّكِئًا.
{تنبيه}: والسبب في ذلك أن الإتكاء حال الأكل من صفات المتكبرين والعياذ بالله.
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح:
__________
(1). كشف المشكل من حديث الصحيحين (2/ 565) رقم (1165)
(2). شرح مسلم. المجلد السابع (13/ 190)
(3). الآداب الشرعية (3/ 158)(10/11)
اختلف في صفة الاتكاء فقيل: أن يتمكن من الجلوس للأكل على أي صفة كان، وقيل أن يميل على أحد شقيه، وقيل أن يعتمد على يده اليسرى من الأرض، قال الخطابي: تحسب العامة أن المتكئ هو الآكل على أحد شقيه، وليس كذلك بل هو المعتمد على الوطاء الذي تحته ... وقال ابن حجر: وإذا ثبت كونه مكروهاً أو خلاف الأولى فالمستحب في صفة الجلوس للآكل أن يكون جاثياً على ركبتيه وظهور قدميه، أو ينصب الرجل اليمنى ويجلس على اليسرى (1). ووجه الكراهة في ذلك أن هذه الهيئة من فعل الجبابرة وملوك العجم، وهي جلسة من يريد الإكثار من الطعام (2).
(حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) قَالَ
أَهْدَيْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةً فَجَثَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ يَأْكُلُ فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ مَا هَذِهِ الْجِلْسَةُ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ جَعَلَنِي عَبْدًا كَرِيمًا وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا عَنِيدًا.
(حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: آكل كما يأكل العبد و أجلس كما يجلس العبد.
(حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) قَالَ
أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ فَقَالَ لَهُ هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ.
قال الماوردي رحمه الله تعالى في أدب الدين والدنيا:
وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسْمًا لِمَوَادِّ الْكِبْرِ، وَقَطْعًا لِذَرَائِعِ الاعْجَابِ، وَكَسْرًا لِأَشَرِ النَّفْسِ، وَتَذْلِيلًا لِسَطْوَةِ الاسْتِعْلاَءِ.
(13) عدم الأكل منبطحاً على بطنه أو الجلوس على ما حرم الله:
__________
(1). فتح الباري (9/ 452). قلت: وهذه الصفة أعني: نصب الرجل اليمنى والجلوس علىاليسرى، رواها أبو الحسن بن المقري في الشمائل من حديثه (كان إذا قعد استوفز على ركبته اليسرى وأقام اليمنى ... ) وسنده ضعيف. قاله العراقي في تخريج إحياء علوم الدين. (2/ 6). ط. دار الحديث، الطبعة الأولى 1412هـ.
(2). انظر زاد المعاد (4/ 222)، وفتح الباري (9/ 452)(10/12)
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود) قال: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَطْعَمَيْنِ عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ وَأَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ وَهُوَ مُنْبَطِحٌ عَلَى بَطْنِهِ.
والحديث صريحٌ في النهي، والعلة في ذلك أن الجلوس مع وجود ذلك المنكر فيه إشعارٌ بالرضا والإقرار عليه (1).
{فائدة}: هديه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هيئة الجلوس للأكل: أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يأكل وهو مقعٍ، ويُذكر عنه أنه كان يجلس للأكل متوركاً على ركبتيه، ويضع بطن قدمه اليسرى على ظهر قدمه اليمنى تواضعاً لربه عزو جل، قاله ابن القيم (2).
فأما الأولى:
(حديث أَنَسُ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقْعِيًا (3) يَأْكُلُ تَمْرًا.
وأما الثانية:
(حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) قَالَ
أَهْدَيْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةً فَجَثَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ يَأْكُلُ فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ مَا هَذِهِ الْجِلْسَةُ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ جَعَلَنِي عَبْدًا كَرِيمًا وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا عَنِيدًا.
(14) الْأَكْلُ عَلَى السُّفَر أَوْلَى مِنْ الْأَكْلِ عَلَى الْخِوَانِ:
(حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قَالَ مَا أَكَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خِوَانٍ وَلَا فِي سُكْرُجَةٍ وَلَا خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ قُلْتُ لِقَتَادَةَ عَلَامَ يَأْكُلُونَ قَالَ عَلَى السُّفَرِ.
الخِوَان: وهو مرتفع يهيأ ليؤكل الطعام عليه كالطاولة.
سُكْرُجَة: إناء صغير يوضع فيه الشيء القليل كالسلطة والمقبلات. ولا يعني هذا أنه يحرم الأكل على الطاولة أو ما ارتفع ولكن الأفضل الأكل على الأرض لأنه هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(15) كَرَاهِيَةِ الأَكْلِ مِنْ وَسَطِ الطّعَام:
__________
(1). انظر عون المعبود. المجلد الخامس (10/ 178)
(2). زاد المعاد (4/ 221)
(3). أي جالساً على إليته ناصباً ساقيه. شرح مسلم. المجلد السابع (13/ 188)(10/13)
(حديث ابنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أنّ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ: "إنّ الْبَرَكَةَ تَنْزِلُ وَسَطَ الطّعَامِ فَكُلُوا مِنْ حَافَتَيْهِ وَلاَ تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهِ".
وخُص الوسط بنزول البركة، لأنه أعدل المواضع، وعلة النهي حتى لا يُحرم الآكل البركة التي تحِلُ في وسطه، وقد يُلحق به ما إذا كان الآكلون جماعة، فإن المتقدم منهم إلى وسط الطعام قبل حافته قد أساء الأدب معهم، واستأثر لنفسه بالطيب دونهم، والله أعلم (1).
(16) جواز الأكلُ قائما:
(حديث ابنِ عُمَرَ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قَالَ: "كُنّا نَأَكُلُ على عَهْدِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ نَمْشِي، وَنَشْرَبُ وَنَحْنُ قِيَامٌ".
{تنبيه}: وعلى هذا فيُحمل الحديث الآتي على كراهية التنزيه.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَائِمًا فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِئْ.
(17) لا يعيب الطعام إن اشتهاه أكله وإلا تركه.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قَالَ: مَا عَابَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَعَامًا قَطُّ إِنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ.
{تنبيه}: وهذا دليلٌ أوفى عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ الطَّعَامِ إلَّا مَا يَشْتَهِيهِ , لَا يُجَاهِدُ نَفْسَهُ عَلَى تَنَاوُلِ مَا لَا يُرِيدُهُ فَإِنَّهُ مِنْ أَضَرِّ شَيْءٍ بِالْبَدَنِ , وَقَدْ جَاءَ فِي صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة: 21].
وعيب الطعام كقولك: مالح قليل الملح حامض رقيق غليظ غير ناضج ونحو ذلك، قاله النووي (2). وعلة النهي في ذلك؛ لأن الطعام خلقة الله فلا تعاب، وفيه وجهٌ آخر وهو أن عيب الطعام يُدخل على قلب الصانع الحزن والألم لكونه الذي أعده وهيأه، فسد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الباب حتى لا يجد الحزن طريقاً إلى قلب المسلم، والشريعة تأتي بمثل هذا دائماً.
__________
(1). انظر عون المعبود. المجلد الخامس (10/ 177)
(2). شرح مسلم. المجلد السابع (14/ 22)(10/14)
مسألة: هل يتعارض هذا الحديث مع امتناع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أكل الضب (1)، وهل يُعد قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الضب: ( ... فأجدني أعافه) وفي رواية: (هذا لحم لم آكله قط) امتناعه من عيب الطعام؟
الجواب: أنه لا تعارض بين الحديثين، وليس قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الضب من عيب الطعام، بل هو إخبارٌ عن سبب امتناعه، وهو أنه لا يشتهي هذا النوع من الطعام ولم يعتاده. قال النووي: وأما حديث ترك أكل الضب فليس هو من عيب الطعام، إنما هو إخبار بأن هذا الطعام الخاص لا أشتهيه (2).
{تنبيه}: هذا لا يعارض كون النبي يعجبه الذراع ويحب الدباء.
كان يعجبه الذراع:
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعجبه الذراع.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(كان يعجبه الذراع) وتمامه عند الترمذي وسم في الذراع أي في فتح خيبر جعل فيه سم قاتل لوقته فأكل منه لقمة فأخبره جبريل أو الذراع الخلاف المعروف بأنه مسموم فتركه ولم يضره السم أى يطيب ويحسن في مذاقه ولم يصب من قال في نظره إلا أن يريد بالنظر الرأي والاعتقاد وذلك لأنها ألين وأعجل نضجاً وأبعد عن موضع الأذى.
يحب الدُبَّاء:
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن خياطا دعا رسول الله لطعام صنعه، قال أنس ابن مالك: فذهبت مع رسول الله إلى ذلك الطعام، فقرب إلى رسول الله خبزا ومرقا، فيه دباء وقديد، فرأيت النبي يتتبع الدباء من حوالي القصعة، قال: فلم أزل أحب الدباء من يومئذ.
(18) استحباب الاجتماع على الطعام:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: طَعَامُ الِاثْنَيْنِ كَافِي الثَّلَاثَةِ وَطَعَامُ الثَّلَاثَةِ كَافِي الْأَرْبَعَةِ.
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ وَطَعَامُ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الْأَرْبَعَةَ وَطَعَامُ الْأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ.
__________
(1).البخاري ()، مسلم (1946)، أحمد (2679)، النسائي (4316)، أبو داود (3794)، ابن ماجه (3241)، مالك (1805)، الدارمي (2017)
(2). شرح مسلم. المجلد السابع (14/ 22)(10/15)
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَحَبُ الطَعَامِ إِلَى اللهِ مَا كَثُرَتْ عَلَيهِِ الأَيْدِي.
(حديث وَحْشِيٍّ ابن حرب الثابت في صحيح ابن ماجة) أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّا نَأْكُلُ وَلَا نَشْبَعُ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُونَ؟ قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: اجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّه يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ.
(19) أن يبدأ بالطعام الْأَكْبَرُ وَالْأَعْلَمُ:
(حديث حُذَيْفَةُ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال: كُنَّا إذَا حَضَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا لَمْ نَضَعْ أَيْدِيَنَا حَتَّى يَبْدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَضَعَ يَدَهُ.
(20) تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة:
جاءت الأحاديث بالوعيد الشديد لمن شرب في آنية الذهب والفضة، أو أكل في صحافهما.
وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
(حديث حُذيفة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الحرير و الديباج و الشرب في آنية الذهب و الفضة وقال: هي لهم في الدنيا وهي لكم في الآخرة.
(حديث أم سلمة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الَّذِي يَشْرَبُ فِي إِنَاءِ الْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ.
وأجمع العلماء على أنه لا يجوز الشرب بها (1). وليس ثمة نصٌ في علة هذا الحكم، والمسلم إذا جاءه الدليل من الكتاب أو من السنة الصحيحة، لا ينبغي له أن يتعداه قيد أنملة، ولا يتكلف التأويل ليستسيغ الفعل. وقد تطرق بعض أهل العلم لحكمة هذا النهي واختلفوا فيه، فمن هذه العلل: التشبه بالجبابرة وملوك الأعاجم، والسرف والخيلاء، وأذى الصالحين والفقراء الذين لا يجدون من ذلك ما بهم الحاجة إليه. قاله ابن عبد البر 0 (2).
{فائدة}: قال ابن حجر رحمه الله في الفتح:
__________
(1). ذكر الاجماع ابن عبد البر في التمهيد (16/ 104)، وابن المنذر. انظر فتح الباري (10/ 97). ولا شك أن الأكل في حكم الشرب.
(2). التمهيد (16/ 105). وانظر فتح الباري (10/ 97)(10/16)
قال الإسماعيلي: قوله: (ولكم في الآخرة) [في رواية] أي: تستعملونه مكافأة لكم على تركه في الدنيا، ويمنعه أولئك جزاء لهم على معصيتهم باستعماله. قلت [أي: ابن حجر]: ويحتمل أن يكون فيه إشارة إلى أن الذي يتعاطى ذلك في الدنيا لا يتعاطاه في الآخرة كما تقدم في شرب الخمر (1).
(21) انتظار الطعام الساخن حتى يبرد:
(حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها الثابت في السلسلة الصحيحة) أنها كانت إذا ثردت غطته شيئاً حتى يذهب نوره ودخانه، ثم تقول: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إنه أعظم للبركة.
(22) تجنب الإسراف والمخيلة:
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا مَا لَمْ يُخَالِطْهُ إِسْرَافٌ أَوْ مَخِيلَةٌ.
(23) لا يستحب الوضوء قبل الأكل:
(حديث بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ مِنْ الْخَلَاءِ فَقُدِّمَ إِلَيْهِ طَعَامٌ فَقَالُوا أَلَا نَأْتِيكَ بِوَضُوءٍ فَقَالَ إِنَّمَا أُمِرْتُ بِالْوُضُوءِ إِذَا قُمْتُ إِلَى الصَّلَاةِ.
آدَابِ أَكْلِ التَّمْرِ:
(1) تَفْتِيشُهُ لِتَنْقِيَتِهِ:
(حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) قال:
أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَمْرٍ عَتِيقٍ فَجَعَلَ يُفَتِّشُهُ يُخْرِجُ السُّوسَ مِنْهُ.
(2) يأكل التمر ويلقي النوى بين أصبعيه:
(حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي فَقَرَّبْنَا إلَيْهِ طَعَامًا وَوَطْبَةً فَأَكَلَ مِنْهَا ثُمَّ أُتِيَ بِتَمْرٍ فَكَانَ يَأْكُلُهُ وَيُلْقِي النَّوَى بَيْنَ إصْبَعَيْهِ وَيَجْمَعُ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى ثُمَّ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَهُ ثُمَّ نَاوَلَهُ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ قَالَ فَقَالَ أَبِي وَأَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّتَهُ: اُدْعُ اللَّهَ لَنَا فَقَالَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِيمَا رَزَقَتْهُمْ وَاغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ.
__________
(1). فتح الباري (10/ 98)(10/17)
الْوَطْبَةُ: بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبَعْدَهَا بَاءٌ مَفْتُوحَةٌ وَهِيَ الْحَيْسُ , يَجْمَعُ التَّمْرَ الْبَرْنِيَّ وَالْأَقِطَ الْمَدْقُوقَ وَالسَّمْنَ , وَضَبَطَهَا بَعْضُهُمْ وَطِئَةٌ بِفَتْحِ الْوَاو وَكَسْرِ الطَّاء وَبَعْدهَا هَمْزَةٌ قِيلَ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُلْقِي النَّوَى بَيْنَ إصْبَعَيْهِ أَيْ: يَجْعَلُهُ بَيْنَهُمَا لِقِلَّتِهِ وَقِيلَ كَانَ يَجْمَعُهُ عَلَى ظَهْرِ إصْبَعَيْهِ ثُمَّ يُرْمَى بِهِ.
(3) النهي عن القران بين التمرتين حتى يستأذن أصحابه:
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقْرُنَ الرَّجُلُ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ جَمِيعًا حَتَّى يَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ.
{تنبيه}: السبب في ذلك لأن ذلك يكون سبباً في الطمع وسوء الخلق.
مراعاة صفة الأطعمة عند الجمع بينها:
(حديث عبد الله بن جعفر الثابت في الصحيحين) قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأكل الرطب بالقثاء.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) قالت: أرادت أمي أن تسمنني لدخولي على رسول الله فلم أقبل عليها بشيء مما تريد حتى أطعمتني القثاء بالرطب فسمنت عليه كأحسن السمن.
(حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:"أنّ النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يَأْكُلُ البِطّيخَ بالرّطَبِ".
فضل الحلوى والعسل:
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) قالت: كان النبي يحب الحلوى والعسل.
(24) تقديم الأكل على الصلاة عند حضور الطعام:
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ وَلَا يَعْجَلْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ.
والعلة في ذلك؛ لئلا يقوم المرء ونفسه تتوق إلى الطعام فيحصل له من التشويش الذي يذهب معه خشوعه.
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح:
روى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة بإسناد حسن عن أبي هريرة وابن عباس: (أنهما كانا يأكلان طعاماً وفي التنور شواء، فأراد المؤذن أن يقيم، فقال هل ابن عباس: لا تعجل لئلا نقوم وفي أنفسنا منه شئ)(10/18)
وفي رواية ابن أبي شيبة: (لئلا يعرض لنا في صلاتنا) (1).
وليس هذا الأمرُ خاصاً بالعشاء وحده إنما هو في كل طعام تتشوف النفس إليه، ويؤيد ذلك نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة بحضرة الطعام، وعند مدافعة الأخبثان، والعلة ظاهرة في الحديث الآتي:
(حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ وَلَا هُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ.
{فائدة}: قال بعض العلماء: من حضر طعامه ثم أقيمت الصلاة، فإنه ينبغي عليه أن يأكل لقيمات يكسر بها سورة الجوع. ورد ذلك النووي فقال: وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ولا يعجلن حتى يفرغ منه) دليل على أنه يأكل حاجته من الأكل بكماله، وهذا هو الصواب، وأما ما تأوله بعض أصحابنا على أنه يأكل لقماً يكسر بها شدة الجوع فليس بصحيح وهذا الحديث صريحٌ في إبطاله (2).
مسألة: إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، فهل يجب الأكل منه للظاهر الحديث، أم أن ذلك على الاستحباب؟
الجواب: فعل ابن عمر-رضي الله عنهما- في رواية أحمد وغيره، يدل على تقديم الأكل مطلقاً، ومن أهل العلم من قيد ذلك بتعلق النفس وتشوفها إلى الطعام، فإن كانت نفسه تتوق إلى الطعام فإن الأولى في حقه أن يصيب منه حتى يقبل على صلاته وهو خاشع، ومن ذلك قول أبي الدرداء-رضي الله عنه- من فقه المرء إقباله على حاجته حتى يُقبل على صلاته وقلبه فارغ (3). والمختار من ذلك ما ذكره الحافظ ابن حجر- فإنه بعد أن ساق أثر ابن عباس، وأثر الحسن ابن علي: (العشاء قبل الصلاة يذهب النفس اللوامة) قال: وفي هذا كله إشارة إلى أن العلة في ذلك تشوف النفس إلى الطعام، فينبغي أن يدار الحكم مع علته وجوداً وعدماً ولا يتقيد بكل أو بعض (4).
(25) الأكل مما يلي الآكل:
__________
(1). فتح الباري (2/ 189)
(2). مسلم بشرح النووي. المجلد الثالث (5/ 38)
(3). علقه البخاري في كتاب الأذان. باب: إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة. وهذا الأثر وصله ابن المبارك في كتاب الزهد. وأخرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب تعظيم قدر الصلاة من طريقه. قاله ابن حجر. فتح الباري (2/ 187)
(4). فتح الباري (2/ 189 - 190)(10/19)
(حديث عمر بن أبي سلمى رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قَالَ: كُنْتُ غُلَامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا غُلَامُ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ.
وعلة النهي في ذلك: لأن الأكل من موضع أيدي الناس فيه سوء أدب، وقد يتقذر الآكلين من هذا الفعل ـ وهو الغالب ـ. لكن قد يعترض علينا معترضٌ فيقول: ما تقولون في حديث أنس قال: إن خياطاً دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لطعام صنعه فذهبت مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقرب خبز شعير ومرقاً فيه دباءٌ وقديدٌ رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتتبع الدباء من حوالي القصعة (1). والجواب عن هذا الاعتراض أنه لا تعارض بين الحديثين، ونقول: ما قاله ابن عبد البر: إن المرق والادام وسائر الطعام، إذا كان فيه نوعان أو أنواع، فلا بأس أن تجول اليد فيه، للتخير مما وضع على المائدة ... ثم قال- معلقاً على قوله: (وكل مما يليك) -: وإنما أمره أن يأكل مما يليه، لأن الطعام كله كان نوعاً واحداً، والله أعلم. كذا فسره أهل العلم (2). وبهذا يتضح الجمع بين الحديثين -والله الموفق-.
(26) استحباب الأكل بعد ذهاب حرارته:
(حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما الثابت في السلسلة الصحيحة) أنها كانت إذا ثردت (3) غطته شيئاً حتى يذهب فوره، ثم تقول: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (إنه أعظم للبركة).
__________
(1). البخاري (5436) واللفظ له، مسلم (2041)، أحمد (12219)، الترمذي (1850)، أبو داود (3782)، مالك (1161)، الدارمي (2050). والدباء هو القرع، وجاء مصرحاً به في رواية أحمد. قال: (قُدمت إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قصعةٌ فيها قرع، قال: وكان يعجبه القرع، قال: فجعل يلتمس القرع بأصبعه أو قال بأصابعه). والقديد: هو اللحم المملح المجفف بالشمس.
(2). التمهيد (1/ 277)
(3). أي صنعت ثريداً.(10/20)
وقال أبو هريرة-رضي الله عنه-: (لا يؤكل طعام حتى يذهب بخاره) (1). ولم يكن [النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] يأكل طعاماً في وقت شدة حراراته، قاله ابن القيم (2). وأقرب المعاني للبركة هنا هو ما يحصل به التغذيه وتسلم عاقبته من أذى ويقوى على طاعة الله وغير ذلك، قاله النووي (3).
(27) أكل اللحم غير موجب للوضوء:
(حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجه) قَالَ
أَكَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ خُبْزًا وَلَحْمًا وَلَمْ يَتَوَضَّئُوا.
(28) النهى عن أكل طعام المتباريين:
(حديث ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ طَعَامِ الْمُتَبَارِيَيْنِ أَنْ يُؤْكَلَ.
طعام المتباريين: هما المتعارضان بفعلهما ليعجز أحدهما الآخر بصنيعه وإنما كرهه لما فيه من المباهاة والرياء.
(29) استحباب الكلام على الطعام:
مخالفة للعجم فإنها من عاداتهم (4) والمشابهة منهيٌ عنها.
قال ابن مفلح رحمه الله في الآداب الشرعية:
قال إسحاق بن إبراهيم: تعشيت مرة أنا وأبو عبد الله [أحمد بن حنبل] وقرابة له، فجعلنا لا نتكلم وهو يأكل ويقول: الحمد لله وبسم الله، ثم قال: أكلٌ وحمدٌ خيرٌ من أكل وصمت. ولم أجد عن أحمد خلاف هذه الرواية صريحاً، ولم أجدها في كلام أكثر الأصحاب. والظاهر أن أحمد -رحمه الله- اتبع الأثر في ذلك؛ فإن من طريقته وعادته تحري الاتباع (5).
آداب الشراب:
آداب الشراب:
للشراب آداب ينبغي لطالب العلم أن يحيط بها علماً وأن يتبعها حتى يكون متأسياً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهاك آداب الأكل والشرب جملةً وتفصيلا:
أولاً آداب الشراب جملةً:
(1) كراهية التنفس في الإناء والنفخ فيه:
(2) التنفس خارج الإناء:
(3) السنة في الشرب اليمن فالأيمن:
(4) كراهية الشرب من فَمِ الْقِرْبَةِ أَوْ السِّقَاءِ:
(5) النهي عن اختناث الأسقية:
(6) يَحرُم الشرب في آنية الذهب و الفضة:
(7) تغطية الأسقية:
(8) استحباب كون ساقي القوم آخرهم شرباً:
__________
(1). قال الألباني في إرواء الغليل (1978): صحيح: أخرجه البيهقي (7/ 2580)
(2). زاد المعاد (4/ 223)
(3). شرح مسلم. المجلد السابع (13/ 172)
(4). انظر إحياء علوم الدين للغزالي (2/ 11) دار الحديث ط. الأولى 1412هـ
(5). الآداب الشرعية (3/ 163)(10/21)
(9) يُفضَل الشراب الحلو البارد:
(10) المضمضة من شرب اللبن:
(10) المضمضة من شرب اللبن:
(13) حكم الأكل أو الشرب في أواني أهل الكتاب:
(14) إباحة الشرب دفعة واحدة:
ثانيا آداب الشراب تفصيلا:
(1) كراهية التنفس في الإناء والنفخ فيه:
من آداب الشرب، أن لا يتنفس الشارب في الإناء، ولا ينفخ فيه، وفي ذلك أحاديث صحيحة، فمنها ما يلي:
(حديث أبي قتادة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ وَإِذَا أَتَى الْخَلَاءَ فَلَا يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَلَا يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ.
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يُتَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ أَوْ يُنْفَخَ فِيهِ.
(حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ النَفْخِ فِي الشَرَابِ، فَقَالَ رَجُلٌ: القَذَاةُ أَرَاهَا فِي الإِنَاءِ، قَالَ: أَهْرِقْهَا، قَالَ فَإِنِّي لَا أُرْوَى مِنْ نَفَسٍ وَاحِدٍ! فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَأَبِنْ الْقَدَحَ عَنْ فِيْكَ، ثُمَّ تَنَفَس.
والنهي عن التنفس في الإناء هو من طريق الأدب مخافة من تقذيره ونتنه وسقوط شيء من الفم والأنف فيه ونحو ذلك، قاله النووي (1).
وأما النفخ في الشراب فإنه يُكسبه من فم النافخ رائحة كريهة يُعاف لأجلها، ولاسيما إن كان متغير الفم. وبالجملة: فأنفاس النافخ تخالطه، ولهذا جمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين النهي عن التنفس في الإناء والنفخ فيه، قاله ابن القيم .. (2).
(2) التنفس خارج الإناء:
(حديث أبى سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَبِنْ الْقَدَحَ عَنْ فِيْكَ، ثُمَّ تَنَفَس.
(3) السنة في الشرب اليمن فالأيمن:
__________
(1). شرح صحيح مسلم. المجلد الثاني (3/ 130)
(2). زاد المعاد (4/ 235)(10/22)
(حديث أنس ابن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: أنها حلبت لرسول الله شاة داجن، وهي في دار أنس بن مالك، وشيب لبنها بماء من البئر التي في دار أنس، فأعطى رسول الله القدح فشرب منه، حتى إذا نزع القدح من فيه، وعلى يساره أبو بكر، وعن يمينه أعرابي، فقال عمر، وخاف أن يعطيه الأعرابي: أعط أبا بكر يا رسول الله عندك، فأعطاه الأعرابي الذي على يمينه، ثم قال: (الأيمن فالأيمن).
(حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: أتي رسول الله بقدح فشرب، وعن يمينه غلام هو أحدث القوم، والأشياخ عن يساره، قال: (يا غلام، أتأذن لي أن أعطي الأشياخ). فقال: ما كنت لأوثر بنصيبي منك أحدا يا رسول الله، فأعطاه إياه.
(4) كراهية الشرب من فَمِ الْقِرْبَةِ أَوْ السِّقَاءِ:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الشُّرْبِ مِنْ فَمِ الْقِرْبَةِ أَوْ السِّقَاءِ.
في الحديث نهيٌ صريح عن الشرب من فم القربة أو السقاء، والذي ينبغي هو صبُ الشراب في الإناء ثم الشرب منه. وهذا النهي حمله بعض أهل العلم على التحريم وحمله بعضهم على كراهة التنزيه وهم الأكثر، ومنهم من جعل أحاديث النهي ناسخة للإباحة (1). وقد ذكر أهل العلم بعض الحكم التي من أجلها جاء هذا النهي، نذكر بعضاً منها:
فمنها: أن تردد أنفاس الشارب فيه يُكسبه زُهومة ورائحة كريهة يُعاف لأجلها، ومنها: أنه ربما يكون في القربة أو السِّقاء حشرات أو حيوانات أو قذاة أو غيرها لا يشعر بها الشارب فتدخل في جوفة فيتضرر بها، ومنها: أنه ربما يخالط الماء من ريق الشارب فيتقذره غيره (2). ومنها: أن ريق الشارب ونَفَسه قد يكون ممرضاً غيره، لما ثبت عند الأطباء أن العدوى قد تنتقل عن طريق الريق والنفس.
(5) النهي عن اختناث الأسقية:
(حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: نهى عن اختناث الأسقية.
(6) يَحرُم الشرب في آنية الذهب و الفضة:
(حديث حُذيفة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الحرير و الديباج و الشرب في آنية الذهب و الفضة وقال: هي لهم في الدنيا وهي لكم في الآخرة.
__________
(1). انظر فتح الباري (10/ 94)
(2). انظر زاد المعاد (4/ 233)، وفتح الباري (10/ 94)، و الآداب الشرعية (3/ 166).(10/23)
(حديث أم سلمة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الَّذِي يَشْرَبُ فِي إِنَاءِ الْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ.
(7) تغطية الأسقية:
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ بِاللَّيْلِ إِذَا رَقَدْتُمْ وَغَلِّقُوا الْأَبْوَابَ وَأَوْكُوا الْأَسْقِيَةَ وَخَمِّرُوا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ. (وخَمِّروا الطعام والشراب) أي استروه وغطوه.
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: خَمِّرُوا الْآنِيَةَ وَأَوْكُوا الْأَسْقِيَةَ وَأَجِيفُوا الْأَبْوَابَ وَاكْفِتُوا صِبْيَانَكُمْ عِنْدَ الْعِشَاءِ فَإِنَّ لِلْجِنِّ انْتِشَارًا وَخَطْفَةً وَأَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ عِنْدَ الرُّقَادِ فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ رُبَّمَا اجْتَرَّتْ الْفَتِيلَةَ فَأَحْرَقَتْ أَهْلَ الْبَيْتِ.
(8) استحباب كون ساقي القوم آخرهم شرباً:
(حديث أبي قتادة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: سَاقِيَ الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْبًا.
ودلالة هذا الحديث ظاهرة في أن من تولى سقاية قوم فإنه يقدمهم على نفسه ويكون هو آخرهم شرباً اقتداءً برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(9) يُفضَل الشراب الحلو البارد:
(حديث عائَشةَ رضي الله عنها الثابت في صحيح الترمذي) قالت: "كانَ أحَبّ الشّرَابِ إلى رَسُولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحُلْوَ الْبَارِدَ".
(10) المضمضة من شرب اللبن:
(حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرِبَ لَبَنًا فَمَضْمَضَ وَقَالَ إِنَّ لَهُ دَسَمًا.
(حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الثابت في صحيح ابن ماجة) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ مَضْمِضُوا مِنْ اللَّبَنِ فَإِنَّ لَهُ دَسَمًا.
(11) حكم الشرب قائما:
القول الصحيح الذي دلت عليه السنة الصحيحة وتجتمع فيه الأدلة هو جواز الشرب قائما وعليه يُحمل الآتي:(10/24)
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قَالَ: سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ زَمْزَمَ فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِم.
(حديث ابنِ عُمَرَ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قَالَ: "كُنّا نَأَكُلُ على عَهْدِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ نَمْشِي، وَنَشْرَبُ وَنَحْنُ قِيَامٌ".
{تنبيه}: وعلى هذا فيُحمل الحديث الآتي على الكراهة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَائِمًا فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِئْ.
(12) لا يجوز انتباذ التمر والزبيب معا لأن كلاً منهما من جنس ما يُسْكِر:
(حديث أبي قتادة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يُجمع بين التمر والزَّهْوِ، والتمر والزبيب، ولْيُنْبَذْ كل واحد منهما على حدة.
(13) حكم الأكل أو الشرب في أواني أهل الكتاب:
(حديث أبي ثعلبة الثابت في الصحيحين) قال: قلتُ يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا بِأَرْضِ قَومٍ أَهْلَ كِتَابٍ، أَفَنَأكُلُ فِي آنِيَتَهُم قَالَ: لَا تَأْكُلُوا فِيهَا إِلَا أَنْ لَا تَجِدُوا غَيْرَهَا فَاغْسِلُوهَا ثُمَّ كُلُوا فِيْهَا.
(14) إباحة الشرب دفعة واحدة:
(حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ النَفْخِ فِي الشَرَابِ، فَقَالَ رَجُلٌ: القَذَاةُ أَرَاهَا فِي الإِنَاءِ، قَالَ: أَهْرِقْهَا، قَالَ فَإِنِّي لَا أُرْوَى مِنْ نَفَسٍ وَاحِدٍ! فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَأَبِنْ الْقَدَحَ عَنْ فِيْكَ، ثُمَّ تَنَفَس.
قال مالك: فكأني أرى في ذلك الرخصة، أن يشرب من نفس واحد ما شاء، ولا أرى بأساً بالشرب من نفس واحد، وأرى فيه رخصة لموضع الحديث: (أني لا أروى من نفس واحد) (1).
وقال شيخ الإسلام: وفيه دليل-أي الحديث المتقدم- على أنه لو روى في نفس واحد ولم يحتج إلى النفس جاز، وما علمت أحداً من الأئمة أوجب التنفس، وحرم الشرب بنفس واحد (2).
__________
(1). التمهيد لابن عبد البر: (1/ 392)
(2). الفتاوى (32/ 209)(10/25)
آداب قضاء الحاجة:
آداب قضاء الحاجة:
لقضاء الحاجة آداب ينبغي لطالب العلم أن يحيط بها علماً وأن يتبعها حتى يكون متأسياً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهاك آداب قضاء الحاجة جملةً وتفصيلا:
أولاً آداب قضاء الحاجة جملةً:
(1) اجتناب الملاعن الثلاث:
(2) يحرُم البول في الماء الراكد (الدائم):
(3) كراهية دخول مكان قضاء الحاجة بشيء فيه ذكر الله:
(4) لا يجوز استقبال القبلة ولا استدبارها في الفضاء ويجوز في البنيان:
(5) ما يقال ويفعل عند الدخول والخروج من الخلاء:
(6) التستر عند قضاء الحاجة:
(7) البول قائماً وقاعداً:
(8) النهي عن استخدام اليد اليمنى في قضاء الحاجة:
(9) الاستنجاء والاستجمار (1):
(10) كراهية الاستجمار بالعظم والروث:
(11) استحباب الاستجمار وتراً:
(12) كراهية الكلام في الخلاء:
ثانيا آداب قضاء الحاجة تفصيلا:
(1) اجتناب الملاعن الثلاث:
(حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ (2) وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالظِّلِّ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ قَالُوا وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ.
وحديث معاذ انفرد بذكر الموارد والموردة وهي: الطريق إلى الماء ذكره في اللسان (3). وهي المجاري والطرق إلى الماء واحدها مورد، يقال: وردت الماء إذا حضرته لتشرب (4).
__________
(1).الاستنجاء: الاغتسال بالماء من النجو والتمسح بالحجارة منه ... وقال الزجاج: الاستنجاء: التنظف بمدر أو ماء. واستنجى أي مسح موضع النجو أو غسله. (لسان العرب 15/ 306) مادة: (نجا).
الاستجمار: قال أبو زيد: الاستجمار: الاستنجاء بالحجارة، وقيل: هو الاستنجاء، واستجمر واستنجى واحد إذا تمسح بالجمار، وهي الأحجار الصغار، ومنه سميت جمار الحج للحصى التي ترمى بها. (اللسان: 4/ 147) مادة: (جمر).
(2) هي المجاري والطرق إلى الماء واحدها مورد، يقال: وردت الماء إذا حضرته لتشرب.
(3). (3/ 456) مادة: (ورد)
(4). عون المعبود بشرح سنن أبي داود. المجلد الأول (1/ 31)(10/26)
والحديثان صُدر أحدهما باجتناب الملاعن الثلاث، والآخر باتقاء اللاعنين، فما المراد بذلك. قال الخطابي: المراد باللاعنين الأمرين الجالبين للعن، الحاملين الناس عليه والداعيين إليه، وذلك أن من فعلهما شتم ولعن يعني عادة الناس لعنه، فلما صارا سبباً لذلك أضيف اللعن إليهما، قال: وقد يكون اللاعن بمعنى الملعون والملاعن مواضع اللعن، قلت: فعلى هذا يكون التقدير: اتقوا الأمرين الملعون فاعلهما، وهذا على رواية أبي داود. وأما على رواية مسلم فمعنا والله أعلم: اتقوا فعل اللعانين أي صاحبي اللعن وهما اللذان يلعنهما الناس في العادة والله أعلم (1).
وعلة النهي عن التخلي في هذه المواضع الثلاثة، هو أن تقذير هذه المواضع وتنجيسها بالقذر فيه إيذاءٌ للمؤمنين وإيذاءهم محرم بنص الكتاب، قال تعالى: (وَالّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مّبِيناً) [الأحزاب: 58]
{تنبيه}: يُلحق بالظل، المكان الذي يتشمس فيه الناس أيام الشتاء، قال الشيخ ابن عثيمين: وهذ قياسٌ جلي (2). وعلى هذا فلا يجوز التخلي في هذا المكان، لأن العلة في النهي عن الظل موجودة هنا والحكم يدور مع علته وجوداً وعدما ً.
{فائدة}: الأحاديث تشير إلى أن النهي ينصبُ على حال التغوط فقط دون التبول. وإلى هذا ذهب النووي فقال في شرح قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الذي يتخلى في طريق الناس وظلهم) قال: فمعناه يتغوط في موضع يمر به الناس. ورد ذلك العظيم آبادي فقال: [و] لا يصح تفسير النووي بالتغوط، ولو سلم فالبول يلحق به قياساً ... وقال: وقد علمت أن المراد بالتخلي التفرد لقضاء الحادة غائطاً كان أو بولاً ... وأنت تعلم أن البراز اسم للفضاء الواسع من الأرض، وكنوا به عن حاجة الإنسان، يقال: تبرز الرجل إذا تغوط، فإنه وإن كان اسماً للغائط لكن يلحق به البول (3).
مسألة: ثبت أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يستتر عند قضاء حاجته بحائش نخلٍ، والحائش له ظل. فكيف نجمع بين فعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين نهيه؟
__________
(1). شرح مسلم للنووي. المجلد الثاني (3/ 132)
(2). الشرح الممتع على زاد المستقنع (1/ 102). دار آسام. ط. الثانية 1414هـ
(3). انظر شرح مسلم للنووي. المجلد الثاني (3/ 132)، وعون المعبود. المجلد الأول (1/ 30 - 31)(10/27)
الجواب: إن الظل الذي يحرم التخلي فيه، هو الظل الذي يقصده الناس ويجلسون فيه، ويجعلونه مقيلاً لهم، وأما فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيحمل على أن هذا الظل غير مقصود ولا مرغوب فيه، وحاشا أن ينهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن شيء ثم يفعله.
(2) يحرُم البول في الماء الراكد (الدائم):
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ.
والعلة فيه ظاهرة، وهو أن البول في الماء الدائم مظنة التنجيس، والتغوط فيه أشد وأقبح وهو أولى. ويُفهم منه أن حكم النهي لا ينسحب على الماء الجاري. قال النووي: فإن كان الماء كثيراً جارياً لم يحرم البول فيه لمفهوم الحديث (1).
(3) كراهية دخول مكان قضاء الحاجة بشيء فيه ذكر الله:
وذلك صيانة لاسم الله تعالى عن الإهانة والابتذال، و لا يليق بمسلم أن يدخل الخلاء بشيء فيه ذكر الله إلا لحاجة. قال ابن عثيمين في شرحه، قوله: (إلا لحاجة) هذا مستثنى من المكروه، يعني إذا احتاج إلى ذلك كالأوراق النقدية التي فها اسم الله، لأننا لو قلنا؛ لا تدخل بها ثم أخرجها ووضعها عند باب الخلاء صارت عرضة للنسيان، وإذا كان في محل بارح صارت عرضة لأن يطير بها الهواء، وإذا كان في مجمع من الناس عرضة لأن تسرق (2).
وأما المصحف فلا نشك في تحريم الدخول به إلى مكان قضاء الحاجة، وعليه أهل العلم، ولكنهم أجازوا الدخول به إن كان يُخشى عليه السرقة، ومع ذلك فإن المسلم عليه أن يتقي الله ربه، ولا يعرض كلام الله للإهانة، وعليه أن يتحرز في ذلك الأمر ما استطاع إلى ذلك سبيلاً كأن يُعطي شخصاً آخر ذلك المصحف حتى يخرج من الخلاء ونحو ذلك من السبل، فإن عُدمت فلا يُكلف الله نفساً إلا وسعها (3).
(4) لا يجوز استقبال القبلة ولا استدبارها في الفضاء ويجوز في البنيان:
__________
(1). شرح صحيح مسلم. المجلد الأول (2/ 152). وللعلماء تفصيل في هذه المسألة لم أرد الإطالة فيها، واقتصرنا على المراد. انظر شرح مسلم للنووي، وشرح البخاري لا بن حجر (1/ 413 - 414).
(2). الشرح الممتع على زاد المستقنع (1/ 91)
(3) انظر الشرح الممتع (1/ 91)(10/28)
(حديث أبي أيوب الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْغَائِطَ فَلَا يَسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ وَلَا يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قَالَ: لَقَدْ ارْتَقَيْتُ يَوْمًا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَنَا فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلًا بَيْتَ الْمَقْدِسِ لِحَاجَتِهِ.
(حديث سلمان الفارسي الثابت في صحيح مسلم) أَنَّهُ قِيلَ لَهُ قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ قَالَ فَقَالَ أَجَلْ لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ.
(حديث مَرْوَانَ الْأَصْفَرِ الثابت في صحيح أبي داوود) قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ثُمَّ جَلَسَ يَبُولُ إِلَيْهَا فَقُلْتُ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَلَيْسَ قَدْ نُهِيَ عَنْ هَذَا قَالَ بَلَى إِنَّمَا نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْفَضَاءِ فَإِذَا كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ شَيْءٌ يَسْتُرُكَ فَلَا بَأْسَ.
ومذاهب أهل العلم في هذا كثيرة تبعاً لظواهر النصوص المتعارضة، ولكن الجمع بينها ممكن.
قال النووي رحمه الله: ولا خلاف بين العلماء أنه إذا أمكن الجمع بين الأحاديث لا يصار إلى ترك بعضها، بل يجب الجمع بينها والعمل بجميعها (1). والمختار عندنا هو تحريم قضاء الحاجة مستقبل القبلة أو مستدبرها في الخلاء، وجواز ذلك في البنيان، أو بوجود ساتر بين المتخلي وبين القبلة استقبالاً أو استدباراً. وإلى هذا ذهبت اللجنة الدائمة (2).
(5) ما يقال ويفعل عند الدخول والخروج من الخلاء:
مواضع قضاء الحاجة محل للنجاسات والقذر، والشياطين معروفةٌ بملابستها للنجاسات ومحبتها لذلك، ولذا فهي تأوي إلى الكُنف والحُشوش (مكان قضاء الحاجة)،والحشوش محتضرة بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
__________
(1). شرح مسلم. المجلد الثاني (3/ 126)
(2). انظر الفتوى رقم (4480) (5/ 97 - 99)(10/29)
(حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْحُشُوشَ مُحْتَضَرَةٌ فَإِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْخَلَاءَ فَلْيَقُلْ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ.
والشيطان عدوٌ للإنسان، لا ينفك عن عداوته وإيذاءه ويجد بغيته في الحشوش والكنف، ولهذا جاء الشرع بما يحفظ للإنسان بدنه وعقله، فشرع له أذكاراً تحفظه بأمر الله -سبحانه وتعالى-. فيقدم الداخل إلى الخلاء رجله اليسرى، قال شيخ الإسلام: وقد استقرت قواعد الشريعة على أن الأفعال التي تشترك فيها اليمنى واليسرى: تقدم فيها اليمنى إذا كانت من باب الكرامة، كالوضوء والغسل، والابتداء بالشق الأيمن في السواك، ونتف الإبط، وكاللباس، والانتعال، والترجل، ودخول المسجد والمنزل، والخروج من الخلاء، ونحو ذلك. وتقدم اليسرى في ضد ذلك، كدخول الخلاء وخلع النعل، والخروج من المسجد (1).
الذكر عند دخول الخلاء:
يستحب للمسلم إذا أراد أن يدخل الخلاء أن يقول: (بسم الله) بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث علي الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سَتْرُ مَا بَيْنَ أَعْيُنِ الْجِنِّ وَعَوْرَاتِ بَنِي آدَمَ إِذَا دَخَلَ أَحَدُهُمْ الْخَلَاءَ أَنْ يَقُولَ بِسْمِ اللَّهِ.
ويسن له أن يقول: (أعوذ بالله من الخبث والخبائث)، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخَبَائِثِ إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ (2).
__________
(1). الفتاوى (21/ 108 - 109)
(2). قال ابن عثيمين: الخبْث: علىرواي التسكين- الشر، والخبائث: النفوس الشريرة. والخبُث: على رواية الضم - جمع خبيث والمراد به ذكران الشياطين، والخبائث جمع خبيثة، والمراد إناث الشياطين. والتسكين أعم، ولهذا كان هو أكثر روايات الشيوخ كما قاله الخطابي -رحمه الله-. (الشرح الممتع 1/ 82 - 83).(10/30)
[وقال البخاري]: وقال سعيد بن زيد: (إذا أراد أن يدخل) (1). وقوله: (إذا أراد الخلاء) أفاد أن الداخل يقول هذا الذكر قبل دخوله لا بعده.
وفائدة هذه الاستعاذة: الالتجاء إلى الله عز وجل من الخبث والخبائث، لأن هذا المكان خبيث، والخبييث مأوى الخبثاء، فهو مأوى الشياطين فصار من المناسب إذا أراد دخول الخلاء أن يقول: أعوذ بالله من الخبث والخبائث حتى لا يصيبه الخبث وهو الشر، ولا الخبائث وهو النفوس الشريرة، قاله في ابن عثيمين (2).
الذكر بعد الخروج من الخلاء:
وعند الخروج من الخلاء يقدم الرجل اليمنى ويقول: (غفرانك)، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث عائشة الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ الْغَائِطِ قَالَ غُفْرَانَكَ.
{تنبيه}: هذا الأدب لا يقتصر على الأماكن المعدة لقضاء الحاجة، بل يستحب فعله حتى في الصحراء، فإذا اقترب المتخلي من المكان الذي اختاره لقضاء حاجته فليقل ذكر الدخول، وإذا فرغ منه قال ذكر الخروج. قال النووي: وهذا الأدب مجمع على استحبابه، ولا فرق فيه بين البنيان والصحراء والله أعلم (3).
(6) التستر عند قضاء الحاجة:
وهو أدبٌ نبوي، أرشد به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمته إلى أن يستتروا عند قضاء حاجتهم، وذلك لأن قضاء الحاجة مدعاة إلى كشف العورة، والشرع جاء بالستر وحفظ العورات لا كشفها.
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود) أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا أَرَادَ الْبَرَازَ انْطَلَقَ حَتَّى لَا يَرَاهُ أَحَدٌ.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَرَادَ الْحَاجَةَ لَمْ يَرْفَعْ ثَوْبَهُ حَتَّى يَدْنُوَ مِنْ الْأَرْضِ.
__________
(1). رواه البخاري (142)، ومسلم (375)، وأحمد (11536)، والترمذي (5)، والنسائي (19)، وأبو داود (4)، وابن ماجه (296)، والدارمي (669). وقول البخاري: وقال سعيد بن زيد .. الخ. هذه الرواية وصلها المصنف نفسه في الأدب المفرد. انظر فتح الباري (1/ 294)
(2). الشرح الممتع (1/ 83)
(3). شرح مسلم. المجلد الثاني (4/ 60)(10/31)
(حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود والنسائي) أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا ذَهَبَ الْمَذْهَبَ (1) أَبْعَدَ.
والمتخلي في البنيان قد كُفي مشقة التحرز من كشف العورة، لوجود المرافق والمراحيض المستورة، فلله الحمد والمنة على تيسيره.
{تنبيه}: ينبغي على المتخلي في الصحراء أن لا يرفع ثوبه قبل أن يدنو من الأرض، وخصوصاً إذا كان هناك من يمكنه النظر إليه.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَرَادَ الْحَاجَةَ لَمْ يَرْفَعْ ثَوْبَهُ حَتَّى يَدْنُوَ مِنْ الْأَرْضِ.
(7) البول قائماً وقاعداً:
الأصل في البول أن يكون من قعود، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث عائشة الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجه) قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكَم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَالَ قَائِمًا فَلَا تُصَدِّقْوهُ مَا كَانَ يَبُولُ إِلَا جَالِسَاً.
وذلك لأن البائل قائماً لا يسلم عادةً من تلوث في بدنه وثوبه، ولكن إن دعت الحاجة إلى البوم واقفاً فلا بأس بذلك، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث حُذيفة الثابت في الصحيحين) قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُبَاطَةَ (2) قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمًا ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَجِئْتُهُ بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ.
{تنبيه}: لا منافاة بين حديث حذيفة، وبين قول عائشة-رضي الله عنهما- فكلام عائشة يُحمل على الأغلب من عادة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقلنا ذلك لثبوت بوله قائماً - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وحمل العلماء بول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائماً، على أن ذلك لبيان الجواز، أو أنه كان في مكان لا يستطيع معه البول جالساً.
{فائدة}: لجواز البول قائماً شرطان:
(1) أن يأمن التلويث.
(2) أن يأمن الناظر. قاله ابن عثيمين (3).
مسألة: هل يجوز البول قائماً لغير حاجة؟
__________
(1). قال الكسائي: يقالُ لموضع الغائط: الخلاءُ، والمَذْهب، والمرفق، والمرحاض. (لسان العرب 1/ 394) مادة: (ذهب)
(2). السُّباطة: الكناسة ... : [وهي] الموضع الذي يُرمى فيه التراب والاوساخ وما يُكنس من المنازل. (لسان العرب 7/ 309) مادة: (سبط)
(3). الشرح الممتع (1/ 92)(10/32)
الجواب: قالت اللجنة الدائمة: لو بال قائماً لغير حاجة لم يأثم لكنه خالف في القضاء حاجته الأفضل والأكثر من فعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1).
(8) النهي عن استخدام اليد اليمنى في قضاء الحاجة:
اعلم أن من تأمل نصوص الشرع، فإنه يجد أنها جاءت بتكريم اليد اليمنى والرجل اليمنى على الرجل اليسرى واليد اليسرى، وأرشدت العباد إلى أن يستخدموا أيمانهم في فعل الأمور الكريمة، وشمائلهم على الضد من ذلك. ومن هذا الباب نهي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن مس الذكر والاستنجاء باليد اليمنى.
(حديث أبي قتادة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ وَإِذَا أَتَى الْخَلَاءَ فَلَا يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَلَا يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ.
(حديث عائشة الثابت في صحيح أبي داوود) قَالَتْ: كَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيُمْنَى لِطُهُورِهِ وَطَعَامِهِ وَكَانَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى لِخَلَائِهِ وَمَا كَانَ مِنْ أَذًى.
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
أجمع العلماء على أنه منهي عن الاستنجاء باليمين، ثم الجماهير على أنه نهي تنزيه وأدب لا نهي تحريم (2).
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
وإنما وقع النهي عن مس الذكر والاستنجاء باليمين لمعنيين:
أحدهما: لرفع قدر اليمين عن الاستعمال في خساس الأحوال، ولهذا تجعل في آخر دخول الخلاء وأول دخول المسجد، وتُجعل اليمين للأكل والشرب والتناول، وتُمتهن اليسرى في الأقذار.
والثاني: أنه لو باشرت اليُمنى النجاسة لكان الإنسان يتذكر عند تناول طعامه بيمنه ما باشرت ومست، فينفر الطبع ويستوحش، ويخيل إليه بقاء ذلك الأثر فيها، فُنزهت عن هذا ليطيب عيشه في التناول (3).
مسألة: لم يرد في الأحاديث النهي عن مس الدبر باليمين عند التغوط؟
__________
(1). (5/ 89 - 90). فتوى (4213)
(2). شرح مسلم. المجلد الثاني (3/ 127)
(3). مشكل الصحيحين (2/ 138) رقم (604)(10/33)
والجواب: النهي عن مس الدبر عند التغوط أولى من النهي عن مس الذكر عند التبول. فهو قياس الأولى، ولعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبه بالأخف اكتفاءً به للدلالة على الأشد، لا سيما وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كان أشد حياءً من العذراء في خدرها) (1). ولا يرد علينا أن الحياء يمنع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تبليغ الدين؛ لأن البلاغ حصل بذكر الأخف تنبيهاً على الأشد، والله أعلم.
مسألة: قال طلق بين حبيب-رضي الله عنه- قدمنا على نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاء رجل كأنه بدوي فقال: يا نبي الله، ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما يتوضأ، فقال: (هل هو إلا مُضغةٌ منه) أو قال: (بضعةٌ منه) (2). والسؤال هنا: إن ظاهر حديث طلق يدل على إباحة مس الذكر في جميع الأحول، فما الجمع بينه وبين حديث أبي قتادة؟
الجواب: أنه لا تعارض بينهما فحديث طلق -رضي الله عنه- مطلق، وحديث أبي قتادة-رضي الله عنه- مقيد في حال البول. قال ابن أبي جمرة: [قوله]: (إنما هو بضعةٌ منك) فدل على الجواز في كل حال، فخرجت حالة البول بهذا الحديث الصحيح وبقي ما عداها على الإباحة (3).
(9) الاستنجاء والاستجمار (4):
من محاسن الشريعة، أنها جاءت باليسر والتخفيف، ورفع الحرج عند المشقة وعدم الاستطاعة، قال تعالى: (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185].
__________
(1). رواه البخاري (3562)، ومسلم (2320)، وأحمد (11286)، وابن ماجه (4180)
(2). رواه أبو داود (182) قال ابن حجر: والحديث صحيح أو حسن (فتح الباري 1/ 306) وصححه الألباني، أحمد (15857)، والترمذي (85)، وابن ماجه (483).
(3). فتح الباري (1/ 306)
(4).الاستنجاء: الاغتسال بالماء من النجو والتمسح بالحجارة منه ... وقال الزجاج: الاستنجاء: التنظف بمدر أو ماء. واستنجى أي مسح موضع النجو أو غسله. (لسان العرب 15/ 306) مادة: (نجا).
الاستجمار: قال أبو زيد: الاستجمار: الاستنجاء بالحجارة، وقيل: هو الاستنجاء، واستجمر واستنجى واحد إذا تمسح بالجمار، وهي الأحجار الصغار، ومنه سميت جمار الحج للحصى التي ترمى بها. (اللسان: 4/ 147) مادة: (جمر).(10/34)
ومن التيسير الذي منَّ الله به على المكلفين أن أباح لهم التنظف بالأحجار و نحوها كالأوراق والمناديل وشبهها بعد الفراغ من تخليهم واستطابتهم، وهو يقوم مقام الماء في التطهير، ولا شك أن هذا من التيسير لأن الماء غير مقدور عليه في كل الأحوال، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قَالَ: اتَّبَعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجَ لِحَاجَتِهِ فَكَانَ لَا يَلْتَفِتُ فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقَالَ ابْغِنِي أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضْ (1) بِهَا أَوْ نَحْوَهُ وَلَا تَأْتِنِي بِعَظْمٍ وَلَا رَوْثٍ فَأَتَيْتُهُ بِأَحْجَارٍ بِطَرَفِ ثِيَابِي فَوَضَعْتُهَا إِلَى جَنْبِهِ وَأَعْرَضْتُ عَنْهُ فَلَمَّا قَضَى أَتْبَعَهُ بِهِنَّ.
{تنبيه}: الاستنجاء قد يكون بالماء، وقد يكون بالأحجار، وقد يكون بهما جميعاً. أما الأول والثاني فقد وردت فيهما آثاراً صحيحة، وأما الثالث: [فـ] هذا لا أعلمه وارداً عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن من حيث المعنى لا شك أنه أكمل تطهيراً، قاله ابن عثيمين (2).
(10) كراهية الاستجمار بالعظم والروث:
لما أباح الله على لسان نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، استعمال الأحجار ونحوها عوضاً عن الماء في التنظيف، منعهم من استعمال الروث العظم لمعاني فيها، إما على جهة التعبد أو أنها ليست لها خاصية التطهير كما في الأحجار وشبهها، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث ابن مسعود الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تَسْتَنْجُوا بِالرَّوْثِ وَلَا بِالْعِظَامِ فَإِنَّهُ زَادُ إِخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ.
(حديث سلمان الفارسي الثابت في صحيح مسلم) أَنَّهُ قِيلَ لَهُ قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ قَالَ فَقَالَ أَجَلْ لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ.
__________
(1). قال ابن منظور: وفي الحديث: ابغني أحجاراً استنفض بها. أي استنجي بها، وهو من نفض الثوب لأن المستنجي ينفض عن نفسه الأذى بالحجر أي يزيله ويدفعه. (اللسان: 7/ 241) مادة: (نفض)
(2). الشرح الممتع (1/ 105)(10/35)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قَالَ: اتَّبَعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجَ لِحَاجَتِهِ فَكَانَ لَا يَلْتَفِتُ فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقَالَ ابْغِنِي أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضْ (1) بِهَا أَوْ نَحْوَهُ وَلَا تَأْتِنِي بِعَظْمٍ وَلَا رَوْثٍ فَأَتَيْتُهُ بِأَحْجَارٍ بِطَرَفِ ثِيَابِي فَوَضَعْتُهَا إِلَى جَنْبِهِ وَأَعْرَضْتُ عَنْهُ فَلَمَّا قَضَى أَتْبَعَهُ بِهِنَّ.
{تنبيه}: يمنع الاستنجاء أو الاستجمار بطعام الآدميين، قياساً على طعام الجن، من باب قياس الأولى. كما يحرم الاستنجاء أو الاستجمار بالأوراق المحترمة ككتب علوم الشريعة لأنها لا تخلوا من الآيات القرآنية، وألفاظ الجلالة، والقرآن من باب أولى.
(11) استحباب الاستجمار وتراً:
(حديث سلمان الفارسي الثابت في صحيح مسلم) أَنَّهُ قِيلَ لَهُ قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ قَالَ فَقَالَ أَجَلْ لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ.
وهذا من أجل إنقاء المحل، وأقله ثلاث مسحات تعم المحل، لحديث سلمان -رضي الله عنه-السابق، فإن حصل الإنقاء بدون ثلاث مسحات وجب تكميلها، وإن حصل الإنقاء بعد الثلاث وكان شفعاً كالأربع والست استحب قطعه على الوتر بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ.
(12) كراهية الكلام في الخلاء:
كره كثيرٌ من أهل العلم الكلام على قضاء الحاجة وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أَنَّ رَجُلًا مَرَّ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبُولُ فَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ.
(حديث المهاجر بن قُنفد الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجه) أَنَّهُ
__________
(1). قال ابن منظور: وفي الحديث: ابغني أحجاراً استنفض بها. أي استنجي بها، وهو من نفض الثوب لأن المستنجي ينفض عن نفسه الأذى بالحجر أي يزيله ويدفعه. (اللسان: 7/ 241) مادة: (نفض)(10/36)
أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبُولُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى تَوَضَّأَ ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا عَلَى طُهْرٍ أَوْ قَالَ عَلَى طَهَارَةٍ.
واستثنوا من ذلك إذا كان لضرورة أو حاجة كإرشاد ضرير يكاد يقع في بئر، أو طلب ماء ونحو ... ذلك (1).
آداب حضور المساجد:
آداب حضور المساجد:
حضور المساجد آداب ينبغي لطالب العلم أن يحيط بها علماً وأن يتبعها حتى يكون متأسياً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهاك آداب حضور المساجد جملةً وتفصيلا:
أولاً آداب حضور المساجد جملةً:
(1) فضل بناء المساجد:
(2) النهي عن حضور المساجد لمن أكل الثوم أو البصل ونحوهما:
(3) استحباب التبكير إلى المساجد:
(4) المشي إلى الصلاة بخشوع وسكينة:
(5) ما يقال من الدعاء عند المشي إلى الصلاة:
(6) استحباب تقديم الرجل اليمنى عند دخول المسجد، واليسرى عند الخروج منه:
(7) الدعاء عند دخول المساجد وعند الخروج منها:
(8) استحباب أداء تحية المسجد عند دخول المسجد:
(9) فضل القعود في المسجد:
(10) اسْتِحْبَابِ جُلُوسِ الْقُرْفُصَاءِ في المسجد لما فيها من الخشوع:
(11) اسْتِحْبَابِ التربع في المسجد بعد صلاة الفجر:
(12) ما جاء في الاستلقاء في المسجد:
(13) جواز النوم في المسجد:
(14) النهي عن البيع والشراء في المساجد:
(15) النهي عن إنشاد الضالة في المساجد:
(16) عدم رفع الصوت في المسجد إلا في الموعظة والمصالح الشرعية:
(17) النهي عن تشبيك الأصابع عند الخروج إلى المسجد قبل الصلاة، وجوازه بعدها.
(18) جواز التحدث بالأمور الدنيوية المباحة في المسجد:
(19) جواز الأكل والشرب في المسجد:
(20) جواز قول الشعر في المسجد:
(21) استحباب إظهار الزينة لصلاة الجمعة والعيدين:
(22) النهي عن الخروج من المسجد بعد الأذان:
(23) من السنة الصلاة بالنعال في المساجد:
(24) آداب حضور النساء للمساجد:
ثانيا آداب حضور المساجد تفصيلا:
(1) فضل بناء المساجد:
__________
(1). انظر شرح صحيح مسلم للنووي. المجلد الثاني (4/ 55)، والشرح الممتع على زاد المستقنع لابن عثيمين (1/ 95)(10/37)
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجة) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ أَوْ أَصْغَرَ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ.
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَو كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ لِبَيْضِهِا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ.
قال الإمام المناوي رحمه الله في فيض القدير:
(من بنى للّه مسجداً ولو كمفحص) وفي رواية مثل مفحص (قطاة) حمله الأكثر على المبالغة لأن مفحصها بقدر ما تحفره (لبيضها) وترقد عليه وقدره لا يكفي للصلاة فيه وزعم أن المراد بالمسجد محل السجود فحسب يأباه لفظ بنى لإشعاره بوجود بناء حقيقي أو ما في معناه قال ابن حجر: لكن لا تمنع إرادة الآخر مجازاً إذ بناء كل شيء بحسبه وقد شاهدنا كثيراً من المساجد في طرق المسافرين يحوطونها إلى جهة القبلة وهي في غاية الصغر وبعضها لا يكون أكثر من قدر محل السجود وقال الزركشي: لو هنا للتقليل وقد عده من معانيها ابن هشام الخضراوي وجعل منها اتقوا النار ولو بشق تمرة والظاهر أن التقليل مستفاد مما بعد لو، لا منها (بنى اللّه له بيتاً في الجنة) إن كان قد بنى المسجد من حلال كما جاء مصرحاً به في رواية البيهقي عن أبي هريرة ولفظه من بنى للّه بيتاً يعبد اللّه فيه من مال حلال بنى اللّه له بيتاً في الجنة من درٍّ وياقوتٍ اهـ. وهذا من أعظم أنواع الإعظام والإكرام لإيذائه بأنه مقره ومسكنه قد أعد له وهيئ وبنى وأنه عند اللّه بمكان جليل يبنى له بدار القرار بجوار الغفار. (تنبيه) قال الزركشي: خص القطاة بالذكر دون غيرها لأن العرب تضرب به المثل في الصدق ففيه رمز إلى المحافظة على الإخلاص في بنائه والصدق في إنشائه.
(2) النهي عن حضور المساجد لمن أكل الثوم أو البصل ونحوهما:
يجب على من أكل بصلاً أو ثوماً نيئاَ أن يجتنب المساجد حتى لا يؤذي المصلين برائحته الخبيثة، ومن آذى المصلين فقد آذى الملائكة، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث جابر رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا فَلْيَعْتَزِلْنَا أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ.(10/38)
(حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِ الْبَصَلِ وَالْكُرَّاثِ فَغَلَبَتْنَا الْحَاجَةُ فَأَكَلْنَا مِنْهَا فَقَالَ مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْمُنْتِنَةِ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ الْإِنْسُ.
{تنبيه}: ومع صراحة الأحاديث في نهي آكل الثوم و البصل عن حضور المساجد ورفع الإثم عنه لأجل تركه شهود الجماعة؛ إلا أن هناك طائفة من الناس أبت إلا المخالفة. والله تعالى يقول (فَلْيَحْذَرِ الّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63]
وبعضهم لا يريد المخالفة ولا يقصدها ولكن لحسن نيته يجد أن من الصعب عليه أن يترك الجماعة ولا يشهدها حتى ولو كان آكلاً للثوم أو البصل، وليس هذا عذرٌ يقبل. وبعض العامة يعلم بالنهي ولكن لا يلقي له اهتماماً، وهذا من ضعف الإيمان في قلبه.
وإذا تعاطى آكل البصل والثوم شيئاً يمنع رائحتهما الخبيثة، فإنه لا يمنع من شهود المساجد، ولكن ليتحقق الآكل أن الرائحة قد زالت بالكلية وأنها لا تؤذي المصلين. وأما ... ما يفعله بعض الناس اليوم من اتخاذ (معجون الأسنان) كمزيل لرائحة البصل والثوم، فهذا خطأ بين، لأن رائحة البصل والثوم تنبعث من المعدة وليست من الفم.
{فائدة}: يُقاس على الثوم والبصل والكراث كل رائحة خبيثة تؤذي المصلين، (كالدخان)، أو الروائح الكريهة التي تنبعث من الجسد، أو الملابس المنتنة. فعلى المصلي تفقد نفسه قبل حضور المساجد، حتى لا يؤذي المصلين فيأثم بذلك.
(3) استحباب التبكير إلى المساجد:
رغب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التبكير إلى المساجد والمسارعة إليها، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا.(10/39)
ففي هذا الحديث دلالة ظاهرة على فضل وعظم أجر التبكير إلى المساجد، وذلك يتضح من إبهام الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأجر المبكر إلى المسجد، فإنه يدل على أن المبكر إلى المسجد قد حاز أجراً عظيماً. ثم اقتراعهم على الصف الأول فيه دلالة قوية-أيضا- على عظم هذا الأجر.
(4) المشي إلى الصلاة بخشوع وسكينة:
يستحب للماشي إلى الصلاة، أن يكون مشيه إليها في خشوع وسكون وطمأنينة، لأن من قدم إلى الصلاة وهو مطمئن في مشيه؛ كان ذلك أدعى لخشوعه في صلاته وإقباله عليها، وعكسه من جاء إليها مسرعاً مستعجلاً فإنه يدخل في صلاته وهو مشتت الفكر والذهن.
ولقد نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمته أن يسعوا إلى صلاتهم حتى ولو أقيمت الصلاة، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
(حديث أبي قتادة الثابت في الصحيحين) قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ فَلَمَّا صَلَّى قَالَ مَا شَأْنُكُمْ قَالُوا اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ فَلَا تَفْعَلُوا إِذَا أَتَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَعَلَيْكُمْ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ وَأْتُوهَا تَمْشُونَ عَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا.
{تنبيه}: والمتأمل في الحديثين يجد أن حديث أبي قتادة-رضي الله عنه- جاء بلفظ: (إذا أتيتم الصلاة) وحديث أبي هريرة-رضي الله عنه- بلفظ: (إذا أقيمت الصلاة). فهل بينهما تعارض؟ والجواب عن ذلك أن يقال: إن قدوم المصلي إلى المسجد يجب أن يكون في خشوع وسكينة سواء أقيمت الصلاة أو لم تقم. وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إذا أقيمت الصلاة) فيه بيان للأمر الذي يحمل الناس -غالباً- على السعي إلى الصلاة. فبان بذلك أن لا تعارض بين اللفظين، والله أعلم.
(5) ما يقال من الدعاء عند المشي إلى الصلاة:
يستحب للماشي إلى الصلاة أن يدعو بدعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما خرج إلى الصلاة.(10/40)
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قَالَ بِتُّ عِنْدَ مَيْمُونَةَ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَى حَاجَتَهُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ثُمَّ نَامَ ثُمَّ قَامَ فَأَتَى الْقِرْبَةَ فَأَطْلَقَ شِنَاقَهَا ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءًا بَيْنَ وُضُوءَيْنِ لَمْ يُكْثِرْ وَقَدْ أَبْلَغَ فَصَلَّى فَقُمْتُ فَتَمَطَّيْتُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَرَى أَنِّي كُنْتُ أَتَّقِيهِ فَتَوَضَّأْتُ فَقَامَ يُصَلِّي فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ فَأَخَذَ بِأُذُنِي فَأَدَارَنِي عَنْ يَمِينِهِ فَتَتَامَّتْ صَلَاتُهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ اضْطَجَعَ فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ فَآذَنَهُ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: (اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا وَفِي بَصَرِي نُورًا وَفِي سَمْعِي نُورًا وَعَنْ يَمِينِي نُورًا وَعَنْ يَسَارِي نُورًا وَفَوْقِي نُورًا وَتَحْتِي نُورًا وَأَمَامِي نُورًا وَخَلْفِي نُورًا وَاجْعَلْ لِي نُورًا).
ولفظ أبي داود: ( .. ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا وَاجْعَلْ فِي لِسَانِي نُورًا وَاجْعَلْ فِي سَمْعِي نُورًا وَاجْعَلْ فِي بَصَرِي نُورًا وَاجْعَلْ خَلْفِي نُورًا وَأَمَامِي نُورًا وَاجْعَلْ مِنْ فَوْقِي نُورًا وَمِنْ تَحْتِي نُورًا اللَّهُمَّ وَأَعْظِمْ لِي نُورًا الحديث) (1).
(6) استحباب تقديم الرجل اليمنى عند دخول المسجد، واليسرى عند الخروج منه:
يستحب للداخل إلى المسجد أن يقدم رجله اليمنى؛ لأن ذلك هو فعل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولأن المسجد أشرف الأماكن فناسب تقديم اليمنى لشرفه. وعند الخروج منه تقدم الرجل اليسرى لفعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ولأن الأماكن غير المسجد دونه في الشرف. ومن عادة الشرع أن جعل اليد والرجل اليمنى لمباشرة الأشياء الفاضلة الكريمة، وجعل الشمال لمباشرة الأشياء الوضيعة.
والقاعدة العامة في هذا الباب هو حديث عائشة الآتي:
__________
(1). رواه مسلم: (763)، وأبو داود (1353) وقال الألباني: صحيح (1025)، وأحمد (3531)(10/41)
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ.
وفي دخول المسجد سنة ذكرها أنس -رضي الله عنه- قال: (من السنة إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى، وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى) (1).
ومن المعلوم عن أهل الحديث أن قول الصحابي من السنة أن له حكم الرفع. وقد بوب البخاري على حديث عائشة المتقدم بقوله: باب التيمن في دخول المسجد وغيره. ثم ساق أثر ابن عمر فقال: وكان ابن عمر يبدأ برجله اليمنى فإذا خرج بدأ برجله اليسرى. ومعروفٌ عن ابن عمر رضي الله عنهما بشدة متابعته لسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(7) الدعاء عند دخول المساجد وعند الخروج منها:
يستحب للداخل إلى المسجد أن يقول:
اللهم صلى وسلم على محمد وعلى آل محمد، اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج يقول: اللهم صلى وسلم على محمد وعلى آل محمد، اللهم إني أسألك من فضلك. تأسياً بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند دخوله المسجد وعند خروجه منه.
(حديث فاطمة بنت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ وَإِذَا خَرَجَ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ.
اغفر لي: أي استر ذنوبي وتجاوز عن عيوبي، وأصل الغَفْر التغطية، والمغفرة: إلباس الله تعالى العفوَ للمذنبين.
(حديث فاطمة بنت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ وَإِذَا خَرَجَ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ.
__________
(1). قال الحاكم في مستدركه: صحيح على شرط مسلم (1/ 338) (791)، ووافقه الذهبي.(10/42)
ويستحب للداخل إلى المسجد-أيضاً- أن يقول: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم.
(حديث عبد الله ابن عمرو الثابت في صحيح أبي داود) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.
(8) استحباب أداء تحية المسجد عند دخول المسجد:
يستحب لداخل المسجد أن يبدأ بركعتين هما: تحية المسجد. وهي ليست واجبة، ولكنها سنة مؤكدة لأمره بها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه في كذا موضع، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
(حديث أبي قتادة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إذا دخل أحدكم المسجد إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ.
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ أَصَلَّيْتَ يَا فُلَانُ قَالَ لَا قَالَ قُمْ فَارْكَعْ رَّكْعَتَيْنِ.
والذي صرف أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الوجوب إلى الاستحباب أحاديث أخر منها الحديث الآتي:
(حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرَ الرَّأْسِ يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنْ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَقَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا قَالَ لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصِيَامُ رَمَضَانَ قَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ قَالَ لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ قَالَ وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزَّكَاةَ قَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا قَالَ لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ قَالَ فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ.(10/43)
وعلى هذا فلا ينبغي لأهل الإيمان أن يرغبوا عن هاتين الركعتين ففيهما خيرٌ كثير.
(9) فضل القعود في المسجد:
مما جاء في فضل القعود في المساجد وانتظار الصلاة، الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: صَلَاةُ الرَجُلِ فِي الجَمَاعَةِ تُضَّعَفُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَصَلَاتِهِ فِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً وَ ذَلَكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الوِضُوءَ ثَمَّ خَرَجَ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلَّا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً فَإِذَا صَلَى لَمْ تَزَلْ المَلَائِكَةُ تُصَلِي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلَاه: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ وَلَا يَزَالُ أَحَدَكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَلَاة.
وهذا من رحمة الله بعباده وجزيل كرمه؛ أن رتب على جلوسهم في المساجد وانتظار الصلاة، كأجر المصلي. ثم جعل ملائكته يدعون لمنتظر الصلاة في المسجد، بالرحمة والمغفرة والتوبة!.
{تنبيه}: يفرط كثيرٌ من الناس بالوقت الفاضل-وقت انتظار الصلاة (بين الأذان والإقامة)، فتجدهم يقلبون أعينهم في المصلين أو التالين، وبعضهم يُرسل بصره وعقله في تأمل نقوش المسجد وعمارته إلى غير ذلك، ولو أنهم اغتنموا هذا الوقت الفاضل بقراءة القرآن، أو ذكر الله، أو الاجتهاد في الدعاء لأنه وقت إجابة، لكان فيه خيرٌ كثير.
(10) اسْتِحْبَابِ جُلُوسِ الْقُرْفُصَاءِ في المسجد لما فيها من الخشوع:
(حديث قَيْلَةَ بِنْتِ مَخْرَمَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود): أَنَّهَا رَأَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَاعِدٌ الْقُرْفُصَاءَ، قالت: فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَخَشِّعَ فِي الْجِلْسَةِ أُرْعِدْتُ مِنْ الْفَرَقِ.
قال صاحب عون المعبود شرح سنن أبي داوود:
القرفصاء بضم القاف والراء على الاتباع أن يجلس على إليتيه ويلصق فخديه ببطنه ويحتبي بيديه يضعهما على ساقيه أو يجلس على ركبتيه منكبا ويلصق بطنه بفخذيه ويتأبط كفيه انتهى.
(الْمُتَخَشِّعَ) أي الخاشع الخاضع المتواضع.
(أُرْعِدْتُ) بصيغة المجهول أي أخذتني الرعدة والاضطراب والحركة.(10/44)
(مِنْ الْفَرَقِ) بفتحتين أي من أجل الخوف والمعنى هبته مع خضوعه وخشوعه.
مسألة: ما هي جلسة القرفصاء؟
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيِّ: مَا رَأَيْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ جَالِسًا إلَّا الْقُرْفُصَاءَ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الصَّلَاةِ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَنَاقِبِ: وَهَذِهِ الْجِلْسَةُ تَحْكِيهَا قَيْلَةُ فِي حَدِيثِهَا {إنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا جِلْسَةَ الْمُتَخَشِّعِ الْقُرْفُصَاءَ} وَكَانَ أَحْمَدُ يَتَيَمَّمُ فِي جُلُوسِهِ هَذِهِ الْجِلْسَةَ , وَهِيَ أَوْلَى الْجِلْسَاتِ بِالْخُشُوعِ. وَالْقُرْفُصَاءُ أَنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ عَلَى أَلْيَتَيْهِ رَافِعًا رُكْبَتَيْهِ إلَى صَدْرِهِ بِأَخْمَصِ قَدَمَيْهِ إلَى الْأَرْضِ , وَرُبَّمَا احْتَبَى بِيَدِهِ , وَلَا جِلْسَةَ أَخْشَعُ مِنْهَا انْتَهَى كَلَامُهُ.
(11) اسْتِحْبَابِ التربع في المسجد بعد صلاة الفجر:
(حديث جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) قَالَ
كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا صَلَّى الْفَجْرَ تَرَبَّعَ فِي مَجْلِسِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسْنَاءَ.
(12) ما جاء في الاستلقاء في المسجد:
(حديث عبد الله بن زيد بن عاصم المازني رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَلْقِيًا فِي الْمَسْجِدِ وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى.
(حديث جَابِرٍ رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قَالَ
نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْفَعَ الرَّجُلُ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى وَهُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَى ظَهْرِهِ.
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:(10/45)
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَا بَأْسَ بِهِ إذَا كَانَ لَهُ سَرَاوِيلُ وَيَتَوَجَّهُ تَخْرِيجُ رِوَايَةِ يُكْرَهُ كَشُرْبِهِ قَائِمًا وَنَهْيِهِ عَنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا لَوْ وَضَعَ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى مِنْ غَيْرِ اسْتِلْقَاءٍ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ نَظَرًا إلَى أَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا هُوَ مَنْعُ الِاسْتِلْقَاءِ , وَالْأَصْلُ اعْتِبَارُ الْوَصْفِ. أَوْ أَنَّ الْمَقْصُودَ وَضْعُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى , وَالِاسْتِلْقَاءُ ذُكِرَ ; لِأَنَّهُ الْغَالِبُ لَا أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي الْحُكْمِ , وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ خُولِفَ لِلْخَبَرِ وَهُوَ فِي أَمْرٍ مَخْصُوصٍ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ الْإِجْمَاعِ قَبْلَ السَّبْقِ وَالرَّمْيِ: اتَّفَقُوا عَلَى إبَاحَةِ جُلُوسِ الْمَرْءِ كَيْفَ أَحَبَّ مَا لَمْ يَضَعْ رِجْلًا عَلَى رِجْلٍ أَوْ يَسْتَلْقِي كَذَلِكَ , وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الِاسْتِلْقَاءِ وَالْقُعُودِ كَمَا قَدَّمْنَا فَمِنْ مَانِعٍ وَمُبِيحٍ. فَسَوَّى ابْنُ حَزْمٍ فِي حِكَايَتِهِ بَيْنَ الْقُعُودِ وَالِاسْتِلْقَاءِ , وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا سَبَقَ وَالْقَوْلُ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ غَيْرُ مُتَّجَهٍ لِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْأَصْلُ التَّسَاوِي فِي الْأَحْكَامِ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ.
(13) جواز النوم في المسجد:
يجوز النوم في المسجد لمن احتاج إلى ذلك، ولقد كان أصحاب الصُّفة-رضي الله عنهم- (1) ينامون في المسجد (2)، وكان ابن عمر-رضي الله عنهما- ينام في المسجد قبل أن يكون له أهل.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ وَهُوَ شَابٌّ أَعْزَبُ لَا أَهْلَ لَهُ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجه) قَالَ كُنَّا نَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
(1). أصحاب الصُّفة: فقراء كانوا يقيمون في مسجد-رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ويأكلون وينامون فيه.
(2). البخاري (442).(10/46)
{تنبيه}: إذا احتلم [المسلم] وهو نائم به [بالمسجد] أسرع بالخروج منه حين يستيقظ ليغتسل من الجنابة (1).
(14) النهي عن البيع والشراء في المساجد:
لا يجوز البيع والشراء في المساجد فهي لم تبن لهذا، وإنما بنيت لذكر الله، وإقامة الصلاة، وتعليم الناس أمور دينهم .. الخ. ومن رأى رجلاً يبيع أو يبتاع في المساجد فليدع عليه وليقل: لا أربح الله تجارتك، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَقُلْ لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ فِيهِ ضَالَّةً فَقُولُوا لَا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ.
{تنبيه}: حول البيع أو الشراء في الغرف أو الصالات الملحقة بالمسجد أو القاعات المخصصة للصلاة. قالت اللجنة الدائمة: لا يجوز البيع والشراء ولا الإعلان عن البضائع في القاعة المخصصة للصلاة إذا كانت تابعة للمسجد، وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك) .. . -وقالت-: أما الغرف ففيها تفصيل: فإن كانت داخلة في سور المسجد فلها حكم المسجد والقول فيها كالقول في القاعة، أما إن كانت خارج سور المسجد ولو كانت أبوابها فيه فليس لها حكم المسجد؛ لأن بيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي تسكنه عائشة-رضي الله عنها- كان بابه في المسجد ولم يكن له حكم المسجد (2).
{فائدة}: اتباعاً لسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن من سمع رجلاً يبيع أو يبتاع في المساجد فليقل له: لا أربح الله تجارتك. وظاهر اللفظ أنه لا فرق بين العالم بالحكم أو الجاهل به.
(15) النهي عن إنشاد الضالة في المساجد:
__________
(1). من فتاوى اللجنة الدائمة (6/ 292) فتوى (5795). وما بين المعقوفتين زيادة بيان مني.
(2). (6/ 283) فتوى رقم: (11967)(10/47)
مساجد الله بُنيت لذكره، وتسبيحه، وتلاوة القرآن، والصلاة فيه. ولم تجعل مكاناً للسؤال عن الضوال، أو المفقودات، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً (1) فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَقُلْ لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ فِيهِ ضَالَّةً فَقُولُوا لَا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ.
وعلى هذا: فمن سمع من ينشد ضالته، فليقل: لا ردها الله عليك، أو لا أداها الله عليك، أو لا أدى الله عليك، والمعنى واحد.
(16) عدم رفع الصوت في المسجد إلا في الموعظة والمصالح الشرعية:
(حديث عبد الله ابن عمرو الثابت في الصحيحين) قَالَ تَخَلَّفَ عَنَّا النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلَاةُ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا.
الشاهد من الحديث: [فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ] فإنه دليلٌ أوفى على جواز رفع الصوت في الموعظة لمن أراد أن يُوَفَّقَ للتأسي بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(حديث كعب بن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ فَنَادَى يَا كَعْبُ قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَيْ الشَّطْرَ قَالَ لَقَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ قُمْ فَاقْضِهِ.
__________
(1). نشدت الضالة: إذا ناديتَ وسألتَ عنها. (لسان العرب3/ 421) مادة: نشد.(10/48)
الشاهد من الحديث: [فَنَادَى يَا كَعْبُ] لم ينكر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على من رفع صوته في المسجد وإنما أمر كعباً -رضي الله عنه- بوضع الشطر من دينه، ولم يكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يؤخر البيان عن وقت حاجته. فإنه دليلٌ أوفى على جواز رفع الصوت في "المصالح الشرعية" لمن أراد أن يُوَفَّقَ للتأسي بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(حديث السائب ابن يزيد الثابت في صحيح البخاري) قَالَ كُنْتُ قَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ فَحَصَبَنِي رَجُلٌ فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ اذْهَبْ فَأْتِنِي بِهَذَيْنِ فَجِئْتُهُ بِهِمَا قَالَ مَنْ أَنْتُمَا أَوْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا قَالَا مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ قَالَ لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ لَأَوْجَعْتُكُمَا تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
هذا الحديث له حكم الرفع. ولعل هذا يؤيد ما ذهب إليه مالك في إحدى روايتيه: (التفرقة بين رفع الصوت بالعلم والخير وما لابد منه فيجوز، وبين رفعه باللغط ونحوه فلا) قاله ابن حجر (1).
(17) النهي عن تشبيك الأصابع عند الخروج إلى المسجد قبل الصلاة، وجوازه بعدها.
(حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إِلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يُشَبِّكَنَّ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَإِنَّهُ فِي صَلَاةٍ.
(حديث أبي موسى الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.
وطريق الجمع في ذلك أن يقال: إن النهي عن تشبيك الأصابع يكون قبل الصلاة لأن العامد إلى المسجد في حكم المصلي، وبعد انقضاء الصلاة يكون المصلي في حكم المنصرف منها.
(18) جواز الأكل والشرب في المسجد:
يجوز أن يتحدث الرجل مع أخيه في ـ المسجد ـ بالأمور الدنيوية المباحة، ولا أثم عليه في ذلك، فقد فعله رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وكان أصحابه يتحدثون بالمسجد وهو معهم ويقرهم على ذلك، وهذا دالٌ على جوازه، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
__________
(1). فتح الباري (1/ 658)(10/49)
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنَاجِي رَجُلًا فِي جَانِبِ الْمَسْجِدِ فَمَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ حَتَّى نَامَ الْقَوْمُ.
(حديث سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَكُنْتَ تُجَالِسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ نَعَمْ كَثِيرًا كَانَ لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ أَوْ الْغَدَاةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ قَامَ وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ فَيَأْخُذُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَيَضْحَكُونَ وَيَتَبَسَّمُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ولكن ينبغي مراعاة عدة أمور عند التحدث في المسجد فيما يتعلق بشئون الدنيا منها ما يلي: أولاً: أن لا يشغل من حوله من المصلين أو التالين للقرآن أو المشتغلين بالعلم.
ثانياً: أن لا يُتخذ عادة.
ثالثاً: أن يجتنب فيه الأقوال أو الأفعال المحرمة.
رابعاً: أن يكون الكلام قليلاً لا كثيراً.
(19) جواز الأكل والشرب في المسجد:
لا بأس بالأكل والشرب في المسجد، لأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأكل في المسجد، وفعله دليل الجواز.
(حديث عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ الزُّبَيْدِيَّ رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: كُنَّا نَأْكُلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ.
ولكن ينبغي على من شرب أو أكل طعاماً في المسجد أن لا يلوث المسجد بفضلات الطعام أو الشراب (1).
(20) جواز قول الشعر في المسجد:
يجوز الإنشاد في المسجد إذا كان فيه حكمة وكان من النوع المباح وعليه يحمل الحديث الآتي:
(حديث أبي هر يرة رضي الله تعالى عنه الثابت في الصحيحين) أَنَّ عُمَرَ مَرَّ بِحَسَّانَ وَهُوَ يُنْشِدُ الشِّعْرَ فِي الْمَسْجِدِ فَلَحَظَ إِلَيْهِ فَقَالَ قَدْ كُنْتُ أُنْشِدُ وَفِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ.
{تنبيه}: أما إذا كان الشعر فيه هجاء لمسلم أو زيادة مدح أو غيره فلا يجوز وعليه يحمل الحديث الآتي:
__________
(1). وهذا يكثر في شهر رمضان، عندما يجتمع الناس للإفطار، فينبغي التنبه لذلك.(10/50)
(حديث عبد الله ابن عمرو الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ فِي الْمَسْجِدِ وَأَنْ تُنْشَدَ فِيهِ ضَالَّةٌ وَأَنْ يُنْشَدَ فِيهِ شِعْرٌ وَنَهَى عَنْ التَّحَلُّقِ قَبْلَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
(21) استحباب إظهار الزينة لصلاة الجمعة والعيدين:
يستحب للمسلم أن يتخذ لصلاة الجمعة والعيدين ثوباً جميلاً يتجمل به، لأن لبس الجميل من الثياب لصلاة الجمعة والعيدين مرغبٌ فيه من الشارع، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ ثُمَّ جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا حُلَلٌ فَأَعْطَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْهَا حُلَّةً فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَوْتَنِيهَا وَقَدْ قُلْتَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا فَكَسَاهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخًا لَهُ بِمَكَّةَ مُشْرِكًا.
(الشاهد) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينكر على عمر اتخاذ الحلة الجميلة للجمعة وعند استقبال الوفود؛ إنما أنكر لبس مثل هذه الحلة التي فيها الحرير، فبهذا يعلم أن التجمل للجمعة والعيدين وللوفود مرغوب فيه.
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن خزيمة) قَالَ: كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جُبَّةًٌ يَلْبَسْهَا فِي العِيْدَيْنِ وَيَومِ الْجُمُعَةِ.
(حديث عائشة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَا عَلَى أَحَدِكُمْ إِنْ وَجَدَ سَعَةً أَنْ يَتَّخِذَ ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ سِوَى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ.(10/51)
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا صَلَى أَحَدُكُم فَلْيَلْبَسْ ثَوبَيْهَ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَحَقُ مَنْ تُزِيِنَ لَهُ.
ومن الزينة أن يمس القادم إلى الجمعة من الطيب أو الدهن، وفيه ترغيب عظيم.
(حديث سلمان الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الْإِمَامُ إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى.
(22) النهي عن الخروج من المسجد بعد الأذان:
يكره الخروج من المسجد لمن أدركه الأذان وهو فيه، إلا لمن كان عنده عذرٌ يسوغ له الخروج من المسجد، كتجديد وضوء ونحوه.
(حديث أبي الشعثاء الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: كُنَّا قُعُودًا فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْمَسْجِدِ يَمْشِي فَأَتْبَعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ بَصَرَهُ حَتَّى خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والحديث له حكم الرفع لأن أبا هريرة رضي الله عنه لم يكن له أن يجتهد في مثل هذا ـ وحاشاه ـ فلا يجوز لمن أدركه الأذان وهو بالمسجد أن يخرج منه حتى يؤدي الصلاة المكتوبة، إلا لعذر. لأن من خرج بعد الأذان بدون عذرٍ، قد يشغله أو يعوقه ما يمنعه من إقامة الصلاة مع الجماعة، فيكون سبباً في تفويت صلاة الجماعة.
(23) من السنة الصلاة بالنعال في المساجد:
ثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غير وجه أنه صلى في نعاله، بل أمر بها.
(حديث سَعِيدٍ أَبِي مَسْلَمَةَ الثابت في الصحيحين) قَالَ سَأَلْتُ أَنَسًا أَكَانَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ قَالَ نَعَمْ.(10/52)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَلَا يُؤْذِ بِهِمَا أَحَدًا لِيَجْعَلْهُمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَوْ لِيُصَلِّ فِيهِمَا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
والصلاة في النعلين سنة أمر بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمر إذا كان فيها أذى أن يدلكهما بالأرض فإنها لهما طهور. وهذا هو الصحيح من قولي العلماء، وصلاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه بالنعال في المسجد مع أنهم يسجدون على ما يلاقي النعال، كل ذلك دليل على طهارة أسفل النعل، مع أنهم كانوا يروحون بها إلى الحش للبراز. فإذا رأى عليهما أثر النجاسة فدلكها بالأرض طهرتا. أهـ (1).
{تنبيه}: في هذه الأزمان المتأخرة أصبحت المساجد تُفرش (بسجاد)، وجرت عادتهم أن لا يدخلوا المساجد بنعالهم وخفافهم، ولا يوطئونها فرشهم، وإذا كان الأمر كذلك، فإن على الغيورين على سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الاندثار، والحريصين على تطبيق سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أن لا يدخلوا هذه المساجد بنعالهم وخفافهم، حتى لا تحدث مفسدة في سبيل تحصيل مصلحة. لأن أكثر العوام يجهلون هذه السنة، وبسبب جهلهم فإن الداخل إلى المسجد بنعليه لا يأمن إنكار العوام عليه، وارتفاع أصواتهم ولغطهم في المسجد، هذا مع ما قد تسببه النعال أو الخفاف في تلويث هذه الفرش التي أصبح الناس يولونها عناية كبيرة.
وعلى الراغب في تطبيق سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة بالنعلين، أن يصلي بهما في بيته، أو عند خروجه للنزهة، أو عند السفر، أو في مسجد أهله يصلون بنعالهم وخفافهم.
(24) آداب حضور النساء للمساجد:
لا تُمْنَعُ المرأة من شهود المساجد، ولا ينبغي منعها منه، مادامت أنها لم ترتكب محذوراً شرعياً، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: اسْتَأْذَنَتْ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعْهَا.
__________
(1). المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام بن تيمية (3/ 69). جمع وترتيب: الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن قاسم -حفظه الله- الطبعة الأولى لعام 1418هـ.(10/53)
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا فَلَا تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داود) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَلَكِنْ لِيَخْرُجْنَ وَهُنَّ تَفِلَاتٌ.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داود) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمْ الْمَسَاجِدَ وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ.
قالت اللجنة الدائمة: يجوز للمرأة المسلمة أن تصلي في المساجد، وليس لزوجها إذا استأذنته أن يمنعها من ذلك ما دامت مستترة ولا يبدو من بدنها شيء مما يحرم نظر الأجانب إليه .. . [ثم قالت اللجنة بعد أن أوردت الأدلة من الكتاب والسنة:] فهذه النصوص تدل دلالة واضحة على أن المرأة المسلمة إذا التزمت آداب الإسلام في ملابسها وتجنبت ما يثير الفتنة ويستميل ضعفاء الإيمان من أنواع الزينة المغرية، لا تمنع من الصلاة في المساجد، وأنها إذا كانت على حالة تغري بها أهل الشر وتفتن من في قلبه ريب منعت من دخول المساجد، بل تمنع من الخروج من بيتها ومن حضور المجامع العامة .. (1).
وتنفرد النساء عن الرجال عند حضورهن للمساجد بأمور عدة، منها:
(أ) أن لا تتطيب أو تتزين بما يدعو إلى الفتنة:
كأن تلبس ملابس مغرية، أو تلبس خلخالاً، فمتى وجدت هذه أو بعضها فإن المرأة تمنع من شهود المسجد.
فأما الطيب فتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا فَلَا تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ.
(حديث أبي موسى الثابت في صحيح النسائي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ عَلَى قَوْمٍ لِيَجِدُوا مِنْ رِيحِهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ.
__________
(1). (7/ 330 - 332)(10/54)
وأما الزينة الأخرى فمتى تجملت المرأة تجملاً يحرك الغرائز، ويوقض الفتنة، فإنها تمنع درءً للفتنة، وإغلاقاً لموارد الشر.
(ب) لا تمكث الحائض والنفساء بالمسجد:
لا يجوز دخول الحائض والنفساء ولا الجنب إلى المسجد، إلا إذا كانوا عابري سبيل لقوله تعالى: (وَلاَ جُنُباً إِلاّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتّىَ تَغْتَسِلُواْ) [النساء: 43]
ومن الأدلة على منع الحائض من دخول المسجد ـ والنفساء قياساً عليها ـ:
(حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم) قَالَتْ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَا عَائِشَةُ نَاوِلِينِي الثَّوْبَ فَقَالَتْ إِنِّي حَائِضٌ فَقَالَ إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ فَنَاوَلَتْهُ.
وقول عائشة-رضي الله عنها- (إني حائض) فيه دليل على أن الحائض لا تدخل المسجد ولا تمكث فيه إلا ما استثني. والعلة هو خوف تلوث بقعة المسجد بنجاسة الدم.
{تنبيه}: يجوز للمستحاضة أن تدخل المسجد بل وتعتكف فيه، ولكن مع التحرز من تلوث المسجد بالنجاسة.
(حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري) أَنَّ بَعْضَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ اعْتَكَفَتْ وَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ.
(ج) الصلاة خلف الرجال وعدم الاختلاط بهم:
صفوف النساء في المسجد تكون خلف صفوف الرجال، وكلما كانت المرأة أبعد عن الرجال كلما كان ذلك أفضل لها وخير لها، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا.
لأن قرب الرجال من النساء قد يهيج الشهوة ويحركها، ويضيع معه لب الصلاة وهو الخشوع فيها، فمن أجل ذلك حرص الشرع على أن يبتعد الرجال عن النساء، والنساء عن الرجال، حتى في المسجد.
ومن حرص صاحب الشريعة-رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على ابتعاد الرجال عن النساء في المسجد أنه كان إذا صلى يمكث في مصلاه يسيراً من أجل أن ينصرف النساء قبل الرجال وينقلبن إلى بيوتهن قبل أن يدركهن الرجال عند الخروج من المسجد ويحدث الاختلاط بهن، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:(10/55)
(حديث أُمَّ سَلَمَةَ رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري) قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ وَمَكَثَ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ مُكْثَهُ لِكَيْ يَنْفُذَ النِّسَاءُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ مَنْ انْصَرَفَ مِنْ الْقَوْمِ.
والناس لهم في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سلف، فينبغي لهم أن يتأخروا في مصلاهم قليلاً حتى يذهب النساء، وعلى النساء أن لا يتأخرن في مصلاهن بعد انصراف الإمام بل يخرجن سريعاً وينقلبن إلى بيوتهن، ذلك خيرٌ لهم ولهن. ولكن إن كان مخرج النساء بعيداً عن مخرج الرجال ولا يحصل بذلك اختلاط فلا بأس بخروج الرجال بعد انصراف الإمام مباشرة أو انتظار النساء قليلاً في مصلاهن لانتقاء العلة والله أعلم.
{تنبيه}: إذا كان مصلى النساء معزولاً عن مصلى الرجال، فإن خير صفوف النساء عندئذٍ يكون أولها، وشرها آخرها. وذلك لأن العلة التي من أجلها جعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شر صفوف النساء أولها قد انتفت بانعزال الرجال عن النساء فعادت الخيرية للصف المقدم.
آداب النوم:
آداب النوم:
للنوم آداب ينبغي لطالب العلم أن يحيط بها علماً وأن يتبعها حتى يكون متأسياً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهاك آداب النوم المساجد جملةً وتفصيلا:
أولاً آداب النوم جملةً:
(1) إغلاق الأبواب وإطفاء النار والمصابيح قبل النوم:
(2) الوضوء قبل النوم:
(3) نفض الفراش قبل الاضطجاع عليه:
(4) النوم على الشق الأيمن، ووضع الخد على اليد اليمنى:
(5) قراءة شيءٍ من القرآن:
(6) قراءة بعض الأدعية والأذكار:
(7) ما يراه النائم، وما يقوله ويفعله إذا رأى ما يسره أو يفزعه:
(8) كراهية النوم على الوجه:
(9) كراهية النوم على سطح لَيْسَ لَهُ حِجَارٌ:
(10) ما يقوله النائم إذا استيقظ:
ثانيا آداب النوم تفصيلا:
(1) إغلاق الأبواب وإطفاء النار والمصابيح قبل النوم:(10/56)
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ بِاللَّيْلِ إِذَا رَقَدْتُمْ وَغَلِّقُوا الْأَبْوَابَ وَأَوْكُوا الْأَسْقِيَةَ وَخَمِّرُوا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ. (وخَمِّروا الطعام والشراب) أي استروه وغطوه.
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: خَمِّرُوا الْآنِيَةَ وَأَوْكُوا الْأَسْقِيَةَ وَأَجِيفُوا الْأَبْوَابَ وَاكْفِتُوا صِبْيَانَكُمْ عِنْدَ الْعِشَاءِ فَإِنَّ لِلْجِنِّ انْتِشَارًا وَخَطْفَةً وَأَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ عِنْدَ الرُّقَادِ فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ رُبَّمَا اجْتَرَّتْ الْفَتِيلَةَ فَأَحْرَقَتْ أَهْلَ الْبَيْتِ.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ.
(حديث أبي موسى رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ هَذِهِ النَّارَ إِنَّمَا هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ.
{تنبيه}: في الآثار السابقة الأمر بإطفاء المصابيح والنار، وغلق الأبواب. والأمر هل هو للوجوب أم للندب أو للإرشاد، مُختلفٌ في ذلك.
وعلة الأمر بإطفاء النار والمصابيح: هو الخوف من انتشار النار واشتعالها على أهلها، وبُينت هذه العلة في الحديث بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فإن الفويسقة [الفأرة] ربما جرت الفتيلة فأحرقت أهل البيت).
قال القرطبي: في هذا الأحاديث أن الواحد إذا بات ببيت ليس فيه غيره وفيه نار فعليه أن يطفئها قبل نومه أو يفعل بها ما يؤمن معه الاحتراق، وكذا إن كان في البيت جماعة فإنه يتعين على بعضهم وأحقهم بذلك آخرهم نوماً، فمن فرط في ذلك كان للسنة مخالفاً ولأدائها تاركاً (1).
وأما إغلاق الأبواب قبل النوم، لأن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
__________
(1). فتح الباري (11/ 89)(10/57)
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ أَوْ أَمْسَيْتُمْ فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ فَإِذَا ذَهَبَتْ سَاعَةٌ مِنْ اللَّيْلِ فَخَلُّوهُمْ وَأَغْلِقُوا الْأَبْوَابَ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا.
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح:
قال ابن دقيق العيد: في الأمر بإغلاق الأبواب من المصالح الدينية والدنيوية حراسة الأنفس والأموال من أهل العبث والفساد ولا سيما الشياطين، وأما قوله: (فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً) فإشارة إلى أن الأمر بالإغلاق لمصلحة إبعاد الشيطان عن الاختلاط بالإنسان، وخصه بالتعليل تنبيهاً على ما يخفى مما لا يطلع عليه إلا من جانب النبوة .. (1).
مسألة: إذا أُمن الحريق وعُمل لذلك أسباباً تمنع من حدوثه، فهل يُقال بجواز ترك النار والمصباح دون إطفاء؟
الجواب: إن أمن ذلك ... فالظاهر أنه لا بأس بها لا نتفاء العلة لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علل الأمر بالإطفاء في الحديث السابق بأن الفويسقة تضرم على أهلها البيت بيتهم فإذا انتفت العلة زال المنع، قاله النووي (2).
(2) الوضوء قبل النوم:
(حديث البراء رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ ثُمَّ قُلْ اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ قَالَ فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا بَلَغْتُ اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ قُلْتُ وَرَسُولِكَ قَالَ لَا وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ.
__________
(1). فتح الباري (11/ 90)
(2) شرح مسلم. المجلد السابع (13/ 156) حديث رقم (2015)(10/58)
والوضوء ليس واجباً بل مستحب في حق كل من أراد النوم، ورواية أحمد تؤيد ذلك: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا أويت إلى فراشك طاهراً ... ) (1). فإن كان متوضئاً كفاه ذلك الوضوء لأن المقصود النوم على طهارة مخافة أن يموت من ليلته وليكون أصدق لرؤياه وأبعد من تلعب الشيطان به في منامه وترويعه إياه، قاله النووي (2).
(3) نفض الفراش قبل الاضطجاع عليه:
من هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نومه، أنه كان ينفض فراشه بداخلة إزاره ثلاثاً قبل اضطجاعه عليه، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ (3) فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ.
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ فِرَاشَهُ فَلْيَنْفُضْهُ بِصَنِفَةِ ثَوْبِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَلْيَقُلْ بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ.
__________
(1). (18089)
(2). شرح مسلم. المجلد التاسع (17/ 29)
(3). داخلة الإزار: طرفه الداخل الذي يلي جسده ويلي الجانب الأيمن من الرجل إذا ائتزر، لأن المؤتزر إنما يبدأ بجانبه الأيمن فذلك الطرف يباشر جسده وهو الذي يغسل. قاله في اللسان (11/ 240) مادة: (دخل). ومثله (صنفة الثوب) في الرواية التي تليها، فصنفة الثوب: أي الحاشية التي تلي الجلد. (انظر فتح الباري 11/ 130)(10/59)
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَأْخُذْ دَاخِلَةَ إِزَارِهِ فَلْيَنْفُضْ بِهَا فِرَاشَهُ وَلْيُسَمِّ اللَّهَ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا خَلَفَهُ بَعْدَهُ عَلَى فِرَاشِهِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَضْطَجِعَ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ وَلْيَقُلْ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبِّي بِكَ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ عَنْ فِرَاشِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَلْيَنْفُضْهُ بِصَنِفَةِ إِزَارِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ بَعْدُ فَإِذَا اضْطَجَعَ فَلْيَقُلْ بِاسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ فَإِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ فَإِذَا اسْتَيْقَظَ فَلْيَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي فِي جَسَدِي وَرَدَّ عَلَيَّ رُوحِي وَأَذِنَ لِي بِذِكْرِهِ.
وفي الحديث برواياته فوائد: منها استحباب نفض الفراش قبل النوم، ومنها أن النفض يكون ثلاثاً، ومنها التسمية عند النفض، ومنها أن من قام من فراشه ثم رجع إليه فيستحب له أن ينفضه مرة أخرى.
والعلة في ذلك بينها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: (فإن أحدكم لا يدري ما خلفه عليه).
والحكمة من تخصيص داخلة الإزار غير ملعومة لنا، وللعلماء في ذلك أقاويل مختلفة. ولا يتوقف العمل على العلم بالحكمة منه، بل متى ثبت الخبر عُمل به ولو جُهلت حكمته، ومردُ ذلك إلى الانقياد والتسليم، وهذا أصلٌ عظيم فتشبث به.
(4) النوم على الشق الأيمن، ووضع الخد على اليد اليمنى:(10/60)
(حديث البراء رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ ثُمَّ قُلْ اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ قَالَ فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا بَلَغْتُ اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ قُلْتُ وَرَسُولِكَ قَالَ لَا وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ.
(حديث حذيفة الثابت في الصحيحين) قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنْ اللَّيْلِ وَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ خَدِّهِ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا وَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ.
(حديث حفصة الثابت في صحيح أبي داود) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْقُدَ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ.
وفي النوم على الجانب الأيمن فوائد: منها أنه أسرع إلى الانتباه، ومنها أن القلب متعلق إلى جهة اليمين فلا يثقل بالنوم، ومنها قال ابن الجوزي: هذه الهيئة نص الأطباء على أنها أصلح للبدن، قالوا: يبدأ بالاضطجاع على الجانب الأيمن ساعة ثم ينقلب على الجانب الأيسر، قاله في الفتح (1).
(5) قراءة شيءٍ من القرآن:
كان من هدي نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، أنه لا ينام حتى يقرأ شيئاً من القرآن. وفي قراءة القرآن قبل النوم حفظٌ للمسلم من تلاعب الشيطان به، وأصدق لرؤياه. والآثار عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الباب كثيرة ومتنوعة، وسوف نذكر ما يتيسر جمعه.
(أ) قراءة آية الكرسي:
__________
(1) (11/ 113)(10/61)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنْ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ وَقُلْتُ وَاللَّهِ لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ وَلِي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ قَالَ فَخَلَّيْتُ عَنْهُ فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالًا فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ قَالَ أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ سَيَعُودُ فَرَصَدْتُهُ فَجَاءَ يَحْثُو مِنْ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ لَا أَعُودُ فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالًا فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ قَالَ أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ فَجَاءَ يَحْثُو مِنْ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ وَهَذَا آخِرُ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَزْعُمُ لَا تَعُودُ ثُمَّ تَعُودُ قَالَ دَعْنِي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا قُلْتُ مَا هُوَ قَالَ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا(10/62)
فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ قَالَ مَا هِيَ قُلْتُ قَالَ لِي إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وَقَالَ لِي لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى الْخَيْرِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ لَا قَالَ ذَاكَ شَيْطَانٌ.
ب- قراءة سورة الإخلاص والمعوذتان والنفث (1) بها. كان صلى الله عليه وآله وسلم يداوم على قراءة سورة الإخلاص والمعوذتان والنفث بها، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا فَقَرَأَ فِيهِمَا قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
وأفاد هذا الحديث مداومة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك الأمر لقول عائشة-رضي الله عنها-: (كل ليلة)، وأن القراءة بها تكون نفثاً في الكفين ثم يسمح بهما ما يُستطاع من الجسد ابتداءً بالرأس والوجه وما أقبل من الجسد، وأفاد الحديث -أيضاً- أن ذلك النفث يكون ثلاثاً. وفائدة التفل التبرك بتلك الرطوبة والهواء والنفس المباشرة للرقية والذكر الحسن ... قاله القاضي (2).
{تنبيه}: النفث بسورة الإخلاص والمعوذتان، ليس مخصوصاً عند النوم فقط، بل يستحب لمن اشتكى وجعاً أن ينفث بهذه السور على كفيه ثلاثاً ويمسح بهما جسده.
__________
(1). النفث: أقل من التفل، لأن التفل لا يكون إلا معه شيءٌ من الريق؛ والنفث: شبيه بالنفخ؛ وقيل: هو التفل بعينه. (لسان العرب 2/ 195) مادة: (نفث)
(2). شرح صحيح مسلم للنووي. المجلد السابع (14/ 150)(10/63)
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا اشْتَكَى نَفَثَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَمَسَحَ عَنْهُ بِيَدِهِ فَلَمَّا اشْتَكَى وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ طَفِقْتُ أَنْفِثُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ الَّتِي كَانَ يَنْفِثُ وَأَمْسَحُ بِيَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ.
(ت) قراءة سورة (الكافرون) فإنها براءة من الشرك:
(حديث فروة بن نوفل الثابت في صحيح الترمذي) أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَقُولُهُ إِذَا أَوَيْتُ إِلَى فِرَاشِي قَالَ اقْرَأْ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنْ الشِّرْكِ.
(ث) قراءة سورة (تبارك) و (آلم تنزيل السجدة):
(حديث جابر الثابت في صحيح الترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الم تَنْزِيلُ وَتَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ.
{فائدة}: جاء في سورة تبارك ما يرغب في تلاوتها والمحافظة عليها، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: سُورَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ ثَلَاثُونَ آيَةً تَشْفَعُ لِصَاحِبِهَا حَتَّى يُغْفَرَ لَهُ: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ.
(حديث ابن مسعود في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: سُورَةٌ تَبَارَكَ هِيَ المَانِعَةُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ.
ج- قراءة الآيتين الآخرتين من سورة البقرة، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
وعن أبي مسعود البدري-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلةٍ كفتاه) (1).
(كفتاه): قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
قيل معناه كفتاه من قيام الليل، وقيل من الشيطان، وقيل من الآفات، ويحتمل الجميع (2).
(6) قراءة بعض الأدعية والأذكار:
من هديه صلى الله عليه وآله وسلم في نومه أنه كان يدعو بكلمات يختم بها ليلته،
__________
(1). رواه البخاري (4008)، ومسلم (807)، وأحمد (16620)، والترمذي (2881)، وأبو داود (1397)، وابن ماجه (1368)،والدارمي (1487)
(2). شرح صحيح مسلم. المجلد الثالث (6/ 76)(10/64)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ اضْطَجَعَ مَضْجَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهِ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ اللَّهِ تِرَةٌ وَمَنْ قَعَدَ مَقْعَدًا لَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ فِيهِ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ اللَّهِ تِرَةٌ.
تِرَةٌ: أي نقص.
ومن نظر في دعائه-صلى الله عليه وآله وسلم- عند نومه يجد أنه اشتمل على معاني عظيمة وجليلة، ففيه التوحيد بأقسامه، وفيه إظهار الفقر بين يدي الله، وفيه سؤال المغفرة والتوبة والإنابة والوقاية من العذاب الأخروي، وفيه الاستعاذة بالله من النفس والشيطان، وفيه حمده على نعمه، وغير ذلك من المعاني التي لا يتسع المقام لحصرها. وسوف نذكر بعضاً من أدعيته -صلى الله عليه وآله وسلم- لكي يستفيد منها راغب الاستزادة من الخير، والموفق من سبق إلى الخيرات.
أ- قول: (اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك).
(حديث حفصة الثابت في صحيح أبي داود) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْقُدَ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ.
ب- قول: (باسمك اللهم أموت وأحيا).
(حديث حذيفة الثابت في الصحيحين) قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنْ اللَّيْلِ وَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ خَدِّهِ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا وَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ.
ت- قول: (اللهم خلقت نفسي وأنت توفاها .... ).
(حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أَنَّهُ أَمَرَ رَجُلًا إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ قَالَ اللَّهُمَّ خَلَقْتَ نَفْسِي وَأَنْتَ تَوَفَّاهَا لَكَ مَمَاتُهَا وَمَحْيَاهَا إِنْ أَحْيَيْتَهَا فَاحْفَظْهَا وَإِنْ أَمَتَّهَا فَاغْفِرْ لَهَا اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ أَسَمِعْتَ هَذَا مِنْ عُمَرَ فَقَالَ مِنْ خَيْرٍ مِنْ عُمَرَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ث- قول: (باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه .... ).(10/65)
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ (1) فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ.
ج- قول: (اللهم رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم ... ).
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا إِذَا أَخَذْنَا مَضْجَعَنَا أَنْ نَقُولَ: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَرَبَّ الْأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَأَغْنِنَا مِنْ الْفَقْرِ.
ح-قول: (اللهم فاطر السموات والأرض ... ).
(حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِكَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ إِذَا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ قَالَ قُلْ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ قَالَ قُلْهَا إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ.
خ- قول: (الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا .... )
__________
(1). داخلة الإزار: طرفه الداخل الذي يلي جسده ويلي الجانب الأيمن من الرجل إذا ائتزر، لأن المؤتزر إنما يبدأ بجانبه الأيمن فذلك الطرف يباشر جسده وهو الذي يغسل. قاله في اللسان (11/ 240) مادة: (دخل). ومثله (صنفة الثوب) في الرواية التي تليها، فصنفة الثوب: أي الحاشية التي تلي الجلد. (انظر فتح الباري 11/ 130)(10/66)
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَكَفَانَا وَآوَانَا فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ وَلَا مُؤْوِيَ.
د- التسبيح والتحميد ثلاثاً وثلاثين، والتكبير أربعاً وثلاثين:
(حديث علي الثابت في الصحيحين) أَنَّ فَاطِمَةَ أَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَشْكُو إِلِيهِ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنْ الرَّحَى ـ وَبَلَغَهَا أَنَّهُ جَاءَهُ رَقِيقٌ ـ فَلَمْ تُصَادِفْهُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ قَالَ فَجَاءَنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا فَذَهَبْنَا نَقُومُ فَقَالَ عَلَى مَكَانِكُمَا فَجَاءَ فَقَعَدَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى بَطْنِي فَقَالَ أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا أَوْ أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا فَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ.
ذ-قول: (باسمك ربِّ وضعت جنبي،):
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ (1) فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ.
ر- قول: (أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه ... ) لمن يشتكي الفزع في نومه:
__________
(1). داخلة الإزار: طرفه الداخل الذي يلي جسده ويلي الجانب الأيمن من الرجل إذا ائتزر، لأن المؤتزر إنما يبدأ بجانبه الأيمن فذلك الطرف يباشر جسده وهو الذي يغسل. قاله في اللسان (11/ 240) مادة: (دخل). ومثله (صنفة الثوب) في الرواية التي تليها، فصنفة الثوب: أي الحاشية التي تلي الجلد. (انظر فتح الباري 11/ 130)(10/67)
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح الترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا فَزِعَ أَحَدُكُمْ فِي النَّوْمِ فَلْيَقُلْ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ.
(حديث خالد بن الوليد رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) قَالَ: كُنْتُ أُفْزَعُ بِاللَّيْلِ , فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: إِنِّي أُفْزَعُ بِاللَّيْلِ فَآخُذُ سَيفِي فَلَا أَلْقَى شَيْئَاً إِلَا ضَرَبْتُهُ بِسَيْفِي, فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:أَلَا أُعَلِمَكَ كَلِمَاتٍ عَلََّمنِي الرُّوحُ الْأَمِينُ؟ فَقُلْتُ: بََلى, فَقَالَ قُلْ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌ وَلَا فَاجِرٌ, مِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيْهَا, وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ ِاللَّيْلِ والنَّهَارِ, وَمِنْ كُلِّ طَارِقٍ, إِلَا طَارِقٌ يَطْرُقُ بِخَيْرٍِ, يَا رَحْمَن.
ز- قول: (اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك ... ).
(حديث البراء رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ ثُمَّ قُلْ اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ قَالَ فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا بَلَغْتُ اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ قُلْتُ وَرَسُولِكَ قَالَ لَا وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ.
(7) ما يراه النائم، وما يقوله ويفعله إذا رأى ما يسره أو يفزعه:
ما يراه النائم قد يكونُ حلماً، وقد يكون رؤيا، فالرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة(10/68)
(حديث أبي قتادة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الرُّؤْيَا مِنْ اللَّهِ وَالْحُلْمُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَنْفِثْ حِينَ يَسْ
تَيْقِظُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيَتَعَوَّذْ مِنْ شَرِّهَا فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ.
الحُلْم: بضم الحاء وسكون اللام وبضمها: هو الرؤيا وبالضم والسكون فقط هو رؤية الجماع في النوم، وهو المراد هنا.
فليتفُل بضم الفاء وكسرها أي: فليبزق.
وقيل: التفل أقل من البزق، والنفث أقل من التفل.
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا يُحِبُّهَا فَإِنَّمَا هِيَ مِنْ اللَّهِ فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ عَلَيْهَا وَلْيُحَدِّثْ بِهَا وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ فَإِنَّمَا هِيَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا وَلَا يَذْكُرْهَا لِأَحَدٍ فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الرُّؤْيَا ثَلَاثٌ فَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ بُشْرَى مِنْ اللَّهِ وَالرُّؤْيَا تَحْزِينٌ مِنْ الشَّيْطَانِ وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ بِهِ الْمَرْءُ نَفْسَهُ فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ وَلَا يُحَدِّثْ بِهَا النَّاسَ.
وفي الأحاديث فوائد منها ما يلي:
أن الرؤيا قد تكون صالحة وقد تكون سيئة، فالصالحة من الله، والسيئة من الشيطان وتسمى حلماً. ومنها: أن من رأى رؤيا حسنة فليستبشر وليؤمل خيراً، ولا يخبر بها إلا من يحب، وهي بشرى من الله فعند أحمد: (من رأى رؤيا تعجبه فليحدث بها فإنها بشرى من الله عز وجل). ومنها: أن من رأي ما يسوءه فمستحبٌ له أن يتفل على يساره ثلاثاً، ثم يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم أو من شرها وإن كررها ثلاثاً فهو أفضل، ثم ليتحول عن جنبه الذي كان عليه، ثم إن قام يصلي فهو أفضل، فإن فعل ذلك أو بعضه -كما جاءت به الأحاديث- فإنها لا تضره، ولا يخبر بها أحداً.
(8) كراهية النوم على الوجه:(10/69)
(حديث طَخْفَةَ الْغِفَارِيِّ رضي الله عنه الثابت في صحيح الأدب المفرد) أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ فِي المَسْجِدِ مِنْ آخِرِ اللّيلِ، أَتَانِي آتٍ وَأَنَا نَائِمٌ عَلَى بَطْنِي، فَحَرَكَنِي بِرِجْلِهِ فَقَالَ: (قُمْ؛ هَذِهِ ضِجْعَةٌ يُبْغِضُهَا اللَّهُ). فَرَفعتُ رَأْسِي فَإِذَا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي.
والحديث صريحٌ في النهي عن هذه النومة، وأن الله -سبحانه وتعالى- يمقتها، وما كان مكروهاً لله فيجتنب.
وأما سبب الكراهة هي مشابهة أهل النار في نومهم، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) قَالَ: مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مُضْطَجِعٌ عَلَى بَطْنِي فَرَكَضَنِي بِرِجْلِهِ وَقَالَ يَا جُنَيْدِبُ إِنَّمَا هَذِهِ ضِجْعَةُ أَهْلِ النَّارِ.
(9) كراهية النوم على سطح لَيْسَ لَهُ حِجَارٌ:
(حديث علي بن شيبان رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ بَاتَ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَيْسَ لَهُ حِجَارٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ.
قال فضل الله الجيلاني: ... أنه يلزم الإنسان أن لا يقصر في مراعاة الأسباب العادية لجلب ما ينفع ودفع ما يضر، وهذا الحديث من أدلة ذلك، فمن بات على سطح لا حجاب عليه فقد قصر في مراعاة الأسباب العادية لاجتناب لا ضرر، فإن النائم قد ينقلب في نومه وقد يقوم ولا يزال أثر النوم عليه فيسعى إلى غير الطريق فيسقط، فكان ينبغي له مراعاة الأسباب العادية بأن لا ينام في ذلك الموضع، فإذا نام فقد عرض نفسه للسقوط فيسقط، فمن تعاطى الأسباب العادية وذكر اسم الله تعالى واعتمد عليه فهو في ذمة الله عز وجل، إنا أن يحفظه وإما أن يثيبه على ما أصابه من ضرر بكفارة السيئات أو رفع الدرجات، فإن أصابه ما فيه هلاكه بعد اتخاذ الأسباب فهو شهيد كما ورد في المتردي والغريق ونحوهما، ومن قصّر بعد وسعه لم يكن في ذمة الله عز وجل، فإن أصابه ضرر لم يثب، وإن هلك لم يكن شهيداً، بل يخشى أن يعد قاتلاً نفسه، والله أعلم بالصواب (1).
(10) ما يقوله النائم إذا استيقظ:
__________
(1). شرح الأدب المفرد (2/ 601)(10/70)
شرع في حق النائم دعوات وتلاوة آيات يقولها إذا استيقظ من نومه، ونحن ذاكرون لك طرفاً منها:
(أ) من تعارَّ من الليل فليقل: (لاإله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد ... ).
(حديث عبادة بن الصامت الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ تَعَارَّ (1) مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، سُبْحَانَ اللَّهِ والْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي أَوْ دَعَا اسْتُجِيبَ لَهُ فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلَاتُهُ.
ب- تلاوة العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران:
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أَنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ خَالَتُهُ فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ الْوِسَادَةِ وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي وَأَخَذَ بِأُذُنِي الْيُمْنَى يَفْتِلُهَا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَوْتَرَ ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى أَتَاهُ الْمُؤَذِّنُ فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ.
__________
(1). في اللسان: ذكر ابن الأثير في كتاب النهاية: من تعارّ من الليل، ... وقال: أي هبَّ من نومه واستيقظ. (4/ 92) مادة: (تعر)(10/71)
ت- قول: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور).
(حديث حذيفة الثابت في الصحيحين) قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنْ اللَّيْلِ وَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ خَدِّهِ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا وَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ.
آداب السفر:
للسفر آداب ينبغي لطالب العلم أن يحيط بها علماً وأن يتبعها حتى يكون متأسياً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهاك آداب السفر المساجد جملةً وتفصيلا:
أولاً آداب السفر جملةً:
(1) معرفة فوائد السفر:
(2) معرفة عيوب السفر:
(3) معرفة حكم السفر:
(4) تقديم الاستخارة قبل السفر:
(5) إذا عزم على السفر فليبدأ بالتوبة من المعاصي:
(6) إرضاء والديه ومن يتوجه عليه بره وطاعته:
(7) كراهية الوحدة في السفر:
(8) يستحب له أن يطلب رفيقًا:
(9) استحباب التأمير في السفر إذا كانوا ثلاثة فأكثر:
(10) يستحب طلب الدعاء والوصية من أهل الخير والصلاح:
(11) يستحب السفر يوم الخميس:
(12) يستحب أن يكون السفر مبكراً:
(13) استحباب التوديع للمسافر:
(14) يستحب أن يستكثر من الزاد والنفقة:
(15) السنة أن يدعوا إذا خرج من بيته:
(16) ما يقول إذا ركب:
(17) ما يدعو به في سفره:
(18) استحباب ذكر الله في حال سيره وإقامته:
(19) دعاء نزول المنزل:
(20) صلاة التطوع في السفر:
(21) ما يقول إذا خاف قومًا:
(22) النهي عن اصطحاب الكلب والجرس في السفر:
(23) النهي عن سفر المرأة بدون محرم:
(24) استحباب الاجتماع عند النزول وعند الأكل:
(25) النوم في السفر:
(26) استحباب رجوع المسافر لأهله بعد قضاء حاجته وعدم الإطالة:
(27) كراهية قدوم المسافر على أهله ليلاً:
(28) استحباب الصلاة ركعتين في المسجد عند قدوم البلد:
(29) تحريم سفر المرأة بدون محرم:
(30) كَرَاهَيةِ السِّيَاحَةِ إلَى غَيْرِ مَكَان مَعْلُومٍ وَلَا غَرَضٍ مَشْرُوعٍ:
ثانيا آداب السفر تفصيلا:
(1) معرفة فوائد السفر:
للسفر فوائد غزيرة منها ما يلي:
(1) خمسة فوائد أوردها الشافعي كما يلي:
أورد الزركشي رحمه الله في الغرر السافر فيما يحتاج إليه المسافر عن الشافعي قال:
تغرب عن الأوطان تكتسب العلي ... وسافر ففي الأسفار خمس فوائد(10/72)
تَفَرُّجُ هَمَّ، واكتسابُ معيشةٍ ... وعلمٌ، وآداب، وصحبةٌ ماجدِ
(الفائدة الأولى): وهي انفراج الهم:
فإن الله أجرى العادة، أن الملازم لمكان واحد، وطعام واحد يسأم منه، لا سيما إذا كان في هم كثير، انتقل عن تلك الحالة أو تشاغل بغيرها، تصرّف عنه الهم على التدريج، وانبعثت روحانيته لما يروم.
قال يحيى بن عدي: إن الطبيعة تمل الشيء الواحد إذا دام عليها، ولذلك اتخذت ألوان الطعام، وأطلق التزويج بأربع نسوة (1)، ورسم التنزه والتحول من مكان إلى مكان، والإكثار (2) من الإخوان، والتفنن في الآداب، والجمع بين الجد والهزل.
قال الحريري:
وَجدتُ بها ما يملأُ العينَ قرةً ... ويسلي عن الأوطانِ كلَّ غريب
(الفائدة الثانية): وهي اكتساب المعيشة:
فإنها لا تكون إلا بالتحرك، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15]
أورد الزركشي رحمه الله في الغرر السافر فيما يحتاج إليه المسافر عن أحمد ابن أبي داؤد قال: "الاستعجال قرين الاحتياج". ومن الكلم النوابغ: "صعود الإكام (3) وهبوط الغيطان قرين القعود بين الحيطان". ولله در السراج الوراق حيث يقول:
دع الهوينا وانتصب واكتسب ... واكدح فنفس المرء كداح
وكن عن الراحة في معزل ... فالصفع موجود مع الراحة
وقال آخر:
ليس ارتحالك في نفس الغني سفرا ... بل المقام على فقر هو السفر
من أعظم ما يتحلى به المؤمن التحلي بفضيلة التكسب والتجارة والاستغناء عن الناس، والسنة المشرفة طافحةٌ بما يحث على فضيلة التكسب وعمل الإنسان بيده ليستغني بالله تعالى عن الناس، ومن ذلك ما يلي:
(حديث أبي بردة بن نيار رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:
أَفْضَلُ الْكَسْبَِْ بَيْعٌ مَبْرُورٌ وَعَمَلُ الرَجُلِ بِيَدِه.
__________
(1) قال تعالى (سورة النساء: 3): {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ}.
(2) في الحاشية: (والاستكثار).
(3) جمع (أكمة) وهي: الرابية، وهو دون الجبل. والغيطان: جمع (غائط): وهو المكان المطمئن من الأرض. وقيل هو، المتسع من الأرض مع طمأنينة. انظر لسان العرب (12/ 20، 7/ 364)، دار صادر.(10/73)
(حديث أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ.
(التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ إِلَخْ) أَيْ: مَنْ تَحَرَّى الصِّدْقَ وَالْأَمَانَةَ في البيع كَانَ فِي زُمْرَةِ الْأَبْرَارِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ.
(حديث المقدام بن معد يكرب الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (ما أكل أحدٌ طعامٌ قط، خيرٌ من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكلُ من عمل يده)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (والذي نفسي بيده، لأن يأخذ أحدكم حَبْله، فيحتطبَّ على ظهره، خيرٌ له من أن يأتيَ رجلاً فيسألَه، أعطاهُ أو مَنَعه)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (كان زكرياء نجاراً)
(حديث عُمَرَ بنِ الْخَطّابِ رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لَوْ أَنّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكّلُونَ عَلَى الله حَقّ تَوَكّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطّيْرُ تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً ".
(حديث أبي بردة بن نيار رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:
أَفْضَلُ الْكَسْبَِْ بَيْعٌ مَبْرُورٌ وَعَمَلُ الرَجُلِ بِيَدِه.
قال الإمام المناوي رحمه الله في فيض القدير:
(أفضل الكسب بيع مبرور) أي لا غش فيه ولا خيانة أو معناه مقبول في الشرع بأن لا يكون فاسداً أو مقبول عند اللّه بأن يكون مثاباً عليه.
(عمل الرجل بيده) من نحو صناعة أو زراعة وقيد العمل باليد لكون أكثر مزاولته بها وخص الرجل لأنه المحترف غالباً لا لإخراج غيره وظاهر الحديث تساويهما في الأفضلية قال بعضهم وقد قيل له لا تتبع التكسب فيدنيك من الدنيا فقال لئن أدناني من الدنيا فقد صانني عنها.
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (ليستغن أحدكم عن الناس بقضيب سواك)
وبين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن العبد إذا رزقه الله مالاً وعلما فهو بأحسن المنازل عند الله بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:(10/74)
(حديث أبي كبشة الأنماري الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَحسنِ الْمَنَازِلِ عند الله، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْماً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الأجرِ سَوَاءٌ، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً فَهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ لاَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلاَ يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فهو بِأَسوءِ الْمَنَازِلِ عند الله، وَرجلٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلاَ عِلْماً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الوزر سَوَاءٌ.
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
قَالَ الْمَرْوَزِيُّ: سَمِعْت رَجُلًا يَقُولُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ إنِّي فِي كِفَايَةٍ قَالَ الْزَمْ السُّوقَ تَصِلُ بِهِ الرَّحِمَ وَتَعُودُ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ. وَقَالَ أَحْمَدُ لِلْمَيْمُونِيِّ اسْتَغْنِ عَنْ النَّاسِ فَلَمْ أَرَ مِثْلَ الْغَنِيِّ عَنْ النَّاسِ وَقَالَ رَجُلٌ لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَعَدَ فِي بَيْتِهِ وَزَعَمَ أَنَّهُ يَثِقُ بِاَللَّهِ فَيَأْتِيه بِرِزْقِهِ قَالَ: إذَا وَثِقَ بِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنْ قَدْ وَثِقَ بِهِ لَمْ يَمْنَعْهُ شَيْء أَرَادَهُ وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا الْأَنْبِيَاءُ وَلَا غَيْرُهُمْ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}.
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن مجاهد، في قوله تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للّهِ إِن كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة: 172] قال: التجارة.
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن مجاهد (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ أَنْفِقُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) [البقرة: 267] قال: التجارة.(10/75)
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن أبي بكر المروذي قال: سمعت رجلا يقول لأبي عبد الله رحمه الله: إني في كفاية، فقال: " الزم السوق تصل به الرحم وتعود به "
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن الفضل بن زياد قال: سمعت أبا عبد الله، يأمر بالسوق ويقول: " ما أحسنَ الاستغناءَ عن الناس "
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن أن أبا عبد الله رحمه الله تعالى قال: قال رجل للسري بن يحيى وكان يتجر في البحر: تركب البحر في طلب الدنيا؟ قال: " أحب أن أستغني عن ضربك من الناس "
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن عبيد الله بن موسى، قال: سمعت سفيان الثوري، يقول: المال في هذا الزمان سلاح.
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن محمد بن ثور قال: كان سفيان الثوري يمر بنا ونحن جلوس في المسجد الحرام، فيقول " ما يُجْلِسِكُم؟ " فنقول: فما نصنع؟ قال: " اطلبوا من فضل الله، ولا تكونوا عيالا على المسلمين "
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة أن إبراهيم بن أدهم كان إذا قيل له: كيف أنت؟ قال: بخير ما لم يتحمل مؤنتي غيري.
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن الفيض بن إسحاق، قال: سألت الفضيل بن عياض، قلت: لو أن رجلا قعد في بيته، زعم أنه يثق بالله فيأتيه برزقه؟ قال: يعني إذا وثق به حتى يعلم أنه قد وثق به، لم يمنعه شيء أراده، ولكن لم يفعل هذا الأنبياء ولا غيرهم، وقد كانت الأنبياء يؤاجرون أنفسهم، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آجر نفسه، وأبو بكر وعمر، ولم يقولوا: نقعد حتى يرزق الله عز وجل، وقد قال الله تعالى في كتابه: قال تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللّهِ) [الجمعة: 10]. فلابد من طلب المعيشة
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن الحسن بن الربيع، يقول: لأن أكسب قيراطا (1) أحب إلي من أن يصلني أحد بعشرة دراهم.
__________
(1) القيراط: عشر الدينار(10/76)
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن مجاهد، في قوله تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للّهِ إِن كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة: 172] (1) قال: التجارة.
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن سعيد بن المسيب، قال: لا خير في من لا يطلب المال يقضي به دينه، ويصون به عرضه، ويقضي به ذمامه، وإن مات تركه ميراثا لمن بعده.
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن سعيد بن المسيب، أنه ترك دنانير، فقال: اللهم إنك تعلم أني لم أجمعها إلا لأصون بها ديني وحسبي، لا خير فيمن لا يجمع المال فيقضي دينه، ويكف به وجهه.
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن عائشة، قالت: كان أبو بكر رضي الله عنه أتجر قريش حتى دخل في الإمارة.
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن عبد الله بن عمرو، أنه قال لقيم له في شهر رمضان: هل كلت لأهلنا قوت شهرهم هذا؟ قال: نعم، قال عبد الله بن عمرو: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت "
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَتْرُكُ التِّجَارَةَ وَيُقْبِلُ عَلَى الصَّلَاةِ يَعْنِي وَرَجُلٌ يَشْتَغِلُ بِالتِّجَارَةِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ قَالَ التَّاجِرُ الْأَمِينُ.
وَتَرَكَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ دَنَانِيرَ: فَقَالَ اللَّهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَجْمَعْهَا إلَّا لِأَصُونَ بِهَا دِينِي وَحَسَبِي , لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَجْمَعُ الْمَال فَيَقْضِي دَيْنَهُ وَيَصِلُ رَحِمَهُ وَيَكُفُّ بِهِ وَجْهَهُ. أهـ
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:(10/77)
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قِيلَ لِأَحْمَدَ: مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ جَلَسَ فِي بَيْتِهِ أَوْ مَسْجِدِهِ وَقَالَ: لَا أَعْمَلُ شَيْئًا حَتَّى يَأْتِي رِزْقِي؟ فَقَالَ أَحْمَدُ هَذَا رَجُلٌ جَهِلَ الْعِلْمَ أَمَا سَمِعَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ جَعَلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي} وَقَالَ حِينَ ذَكَرَ الطَّيْرَ {تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا} وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَّجِرُونَ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَيَعْمَلُونَ فِي نَخْلِهِمْ , وَالْقُدْوَةُ بِهِمْ.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَيْسَ الْعِبَادَةُ عِنْدَنَا أَنْ تَصُفَّ قَدَمَيْك وَغَيْرُك يَتْعَبُ لَك وَلَكِنْ ابْدَأْ بِرَغِيفِك فَاحْرُزْهُمَا ثُمَّ تَعَبَّدْ.
أورد ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية عن سفيان الثَّوْرِيُّ قَالَ لَأَنْ أَخْلُفَ عَشْرَةَ آلَاف دِرْهَمٍ يُحَاسِبُنِي اللَّهُ عَلَيْهَا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْتَاجَ إلَى النَّاسِ.
أورد الزركشي رحمه الله في الغرر السافر فيما يحتاج إليه المسافر أن رجلاً قال لمعروف الكرخي: يا أبا محفوظ! أتحرك لطلب الرزق أم أجلس؟ قال: لا بل تحرك، فإنه أصلح لك، فقال له أتقول هذا؟! فقال: وما أنا قلت، ولكن الله عز وجل أمر به، قال الكريم: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} [مريم:25] ولو شاء أن ينزله عليها (1).
أورد الزركشي رحمه الله في الغرر السافر فيما يحتاج إليه المسافر عن ابن عبد ربه قال: هل يجوز في عقل، أو يمثل في وهم، أو يصح في قياس أن يحصد زرع بغير بذر، أو يجني ثمر بغير غرس، أو يورى زند بغير قدح، أو ينموا مال بغير طلب.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن جريج، قال: قال لي عطاء: جاءني طاووس فقال لي: يا عطاء إياك أن ترفع حوائجك إلى من أغلق دونك بابه وجعل دونك حجاباً، وعليك بطلب حوائجك إلى من بابه مفتوح إلى يوم القيامة، طلب منك أن تدعوه ووعدك بالإجابة.
__________
(1) تاريخ بغداد: (13/ 199)، طبعة دار الفكر.(10/78)
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي الأحوص سلام بن سليمل قال: قال لي سفيان الثوري: عليك بعمل الأبطال، الكسب من الحلال، والإنفاق على العيال، قال: وكان سفيان الثوري إذا أعجبه تجر الرجل، قال: نعم الفتى إن عوجل.
إباحة جمع المال للقائم بحقوقه:
(حديث عمرو بن العاص الثابت في صحيح الأدب المفرد) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: نعم المال الصالح للمرء الصالح.
(حديث يسار بن عُبيد الثابت في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا بأس بالغنى لمن اتقى و الصحة لمن اتقى خير من الغنى و طيب النفس من النعيم.
قال أهل العلم:
الواجب على العاقل أن يعمل في شبابه فيما يقيم به أوده كالشيء الذي لا يفارقه أبدا وفيما يصلح به دينه كالشيء الذي لا يجده غدا وليكن تعاهده لماله ما يصلح به معاشه ويصون به نفسه وفي دينه ما يقدم به لآخرته ويرضي به خالقه والفاقه خير من الغنى بالحرام والغنى الذي لا مروءة له أهون من الكلب وإن هو طوق وخلخل.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن محمد بن المنكدر قال نعم العون على تقوى الله الغني.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن عبدان قال دخلت على عبد الله المبارك وهو يبكي فقلت له مالك يا أبا عبد الرحمن قال بضاعة لي ذهبت قال قلت أو تبكي على المال قال إنما هو قوام ديني.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن أيوب قال: قال لي أبو قلابة يا أيوب الزم سوقك فإنك لا تزال كريما على إخوانك ما لم تحتج إليهم.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن أيوب قال: قال لي أبو قلابة الزم السوق فإن الغنى من العافيه.
(الفائدة الثالثة): وهي حصول العلم والأدب:
فقد كان السلف يرحلون في طلب الفائدة، ورحل جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في طلب حديث واحد (1). وقال موسى: "لا تلوموا، فإني أدركت منه ما لم يدرك أحد". يريد: أن الله تعالى كلمه. ونظم هذا أبو تمام، فقال:
__________
(1) علقة البخاري في الصحيح بصبغة الجزم (3 - كتاب العلم، 19 - باب الخروج في طلب العلم)، فتح الباري (1/ 208) طبعة دار الريان، وأخرجه أحمد في المسند، والبخاري في الأدب (970)، وأبو يعلى (كما قال الحافظ)، والحاكم (2/ 437) وصححه ووافقه الذهبي. قال المنذري: رواه أحمد وإسناده حسن. قال الحافظ في الفتح (1/ 210): والإسناد حسن وقد اعتضد.(10/79)
فإن موسى صلى روحه لله ... صلاةً كثيرةَ القُدُسِ
صار نبيًا، وأعْظِم بغيبته ... في جذوة للصلاةِ أو قبسٍ
وقال آخر:
أولى التغرب، ما ارتقى ... در البحور إلى النحور
(الفائدة الرابعة): وهي الآداب:
فلما يرى من الأدباء، ولقاء العلماء والعقلاء الذين لا يردون قطره، فيكتسب من أخلاقهم وخلايقهم، ويتحلى بفوائدهم وحقايقهم، كما قيل:
إذا أعجبتكَ خلالُ امرئٍ ... فكُنه، يكُنْ فيكَ ما تعجب
فليس على المجد والمكرمات ... إذا رُمتها حاجبّ يحَجب
(الفائدة الخامسة):: وهي صحبة الأمجاد:
فيشهد لها الحس والواقع، وصحبة الأمجاد ترفع المنقوص، وترقيه إلى رتبة أهل الخصوص، وتدخِلُهُ في زمرتهم، وتنسجه في لحمتهم، ولله در القائل:
نزلتُ على آل المهلب شاتيًا ... غريبًا عن الأوطان في زمن المَحْلِ
فما زالَ بي إحسانهم، وجميلهم ... وبرهمْ، حتى حسبتهُم أهلي
أورد الزركشي رحمه الله في الغرر السافر فيما يحتاج إليه المسافر عن الثعالبي قال:"من فضائل السفر: أن صاحبه يرى من عجائب الأمصار، ومن بدايع الأقطار، ومحاسن الآثار، ما يزيده علمًا بقدرة الله تعالى، ويدعوا شكرًا على نعمه".
وأورد الزركشي رحمه الله في الغرر السافر فيما يحتاج إليه المسافر عن المأمون قال: "لا شيء ألذّ من السفر في كفاية؛ لأنك كل يوم تحل محلة لم تحلها، وتعاشر قومًا لم تعاشرهم".
وأورد الزركشي رحمه الله في الغرر السافر فيما يحتاج إليه المسافر عن عنترة قال: "السفر يشدُّ الأبدان، وينشط الكسلان، ويشهي الطعام".
وأورد الزركشي رحمه الله في الغرر السافر فيما يحتاج إليه المسافر عن ابن رشيق قال: "كتب إلى بعض إخواني: مثل الرجل القاعد - أعزك الله - كمثل الماء الراكد إن ترك تغير، وإن ترك تكدر، ومثل المسافر كالسحاب الماطر، هؤلاء يدعونه رحمة، وهؤلاء يدعونه نقمة، فإذا اتصلت أيامه ثقل مقامه وكثر لوّامه، فأجمع لنفسك فرحة الغيبة، وفرحة الأوبة. والسلام".
وقالت الحكماء: "لا تدرك الراحة إلا بالتعب، ولا الرغبة إلا بالنصب".
وقال ابن شرف القيرواني:
وصيّر الأرض دارا والورى رحلا ... حتى ترى مقبلا في الناس مقبولا
ولهذه الفوائد أو بعضها أكثر الناس من الأسفار حتى قيل:
كريشة بمهب الريح ساقطة ... لا تستقر على حال من القلق
وقال ابن اللبان:
كأنما الأرض عني غير راضية ... فليس لي وطن فيها ولا وطر
وللسفر فوائد غزيرة غير ما سبق منها ما يلي:(10/80)
(الفائدة السادسة): رفع الإنسان نفسه من الذل إذا كان بين قوم لئام، كما قيل:
إذا جاورتك الليالي بساقط ... وقدرك مرفوع فعنه تحول
ألم تر ما لاقاه في جنب جاره ... كبير أناس في بجاد مزمل
وقيل:
فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... فما الكد في الدنيا ولا الناس قاسم
وقد خرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مكة - شرفها الله تعالى_، وهي أحب البقاع إليه، وهاجر إلى طيبة لما نأى المقام، فكان من أمره ما كان، ثم عاد إليها وفتحها الله عليه. فيستنبط منه مشروعية الانتقال من مكان الضرر.
(الفائدة السابعة):
أن فيه صحة للبدن بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: سَافِرُوا تَصِحُوا، وَاغْزُوا تَسْتَغْنُوا.
(الفائدة الثامنة):
إذا مات بغير مولده كان له عظيم الأجر بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما الثابت في صحيح النسائي) قَالَ: مَاتَ رَجُلٌ بِالْمَدِينَةِ مِمَّنْ وُلِدَ بِهَا فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَالَ: " يَا لَيْتَهُ مَاتَ بِغَيْرِ مَوْلِدِهِ" قَالُوا وَلِمَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ بِغَيْرِ مَوْلِدِهِ قِيسَ لَهُ مِنْ مَوْلِدِهِ إِلَى مُنْقَطَعِ أَثَرِهِ فِي الْجَنَّةِ.
ورغبنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سُنَّتِهِ المُشَرَّفَة في استحباب الموت في المدينة كما في الحديث الآتي:
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ يَمُوتُ بِهَا.
(الفائدة التاسعة):
أن الأعمال التي تفوته بسبب السفر تكتب له وإن لم يعملها، إذا كان العائق لها مجرد السفر، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا.
(الفائدة العاشرة):
أن المسافر مستجاب الدعوة بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:(10/81)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ.
(2) معرفة عيوب السفر:
(1) من أجل عيوب السفر فَقْدَ الأحبابِ، وتقطيع الأكباد، وترك المألوف، واقتحام المخوف، ولذا سماه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطعة من العذاب، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ.
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح:
السفر قطعة من العذاب: أي جزء منه والمراد بالعذاب الألم الناشىء عن المشقة لما يحصل في الركوب والمشي من ترك المألوف.
يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ: كأنه فصله عما قبله بيانا لذلك بطريق الاستئناف كالجواب لمن قال كان كذلك فقال يمنع أحدكم نومه الخ أي وجه التشبيه الإشتمال على المشقة.
فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ: بفتح النون وسكون الهاء أي حاجته من وجهه أي من مقصده. أهـ
قال الزركشي رحمه الله في الغرر السافر فيما يحتاج إليه المسافر:
ولا معارضة بينه وبين الأحاديث الدالة على مدح السفر، كما ظنه قوم، لاحتمال أن يكون العذاب - وهو التعب والنصب - مبتدأ للصحة والراحة (1).
وقال ابن بطال (2): "لأن في الحركة والرياضة منفعة لأهل الدعة والرفاهة، كالدواء المر المعقب للصحة، وإن كان في تناوله كراهية".
والنهمة (بكسر النون وسكون الهاء): الحاجة وبلوغ الغرض. قال ابن التين: وضبطناه أيضًا بكسرها. وقوله " فلعجل إلى أهله" أي: يسرع بالرجوع إليهم ليزيل عذابه ويطيب له طعامه وشرابه.
وذكر الخطابي (3) أن فيه حجة لمن رأى تغريب الزاني بعد جلده. قال تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: من الآية2].
__________
(1) قاله ابن عبد البر: كما في التمهيد (22/ 36)، والاستذكار (27/ 282).
(2) ذكره الحافظ في الفتح (3/ 730)، وقال مثل ذلك ابن عبد البر في التمهيد (22/ 36)، والاستذكار (27/ 282).
(3) ذكره في الفتح (3/ 730).(10/82)
وقال ابن عبد البر (1): "فيه دليل على أن طول التغريب عن الأهل والوطن لغير حاجة من دين أو دنيا لا يصلح ولا يجوز، وأن من انقضت حاجته لزمه الاستعجال لأهله".
ذكر السمعاني في "تاريخه"، قال: لما قدم الأستاذ أبو القاسم القشيري بغداد، وعقد له مجلس الوعظ. فروى في أول مجلسه الحديث المشهور: " السفر قطعة من العذاب"، فقام إليه سائل، وقال: لم سمى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السفر قطعة من العذاب؟ فقال: لأنه من فرقة الأحباب. فاضطرب الناس وتواجدوا، وما أمكنه أن يتم المجلس فنزل.
(2) أنه يورث ضيق الأخلاق:
وقالوا: "لا تعرف صاحبك حتى تعصيه أو تسافر معه". وقالوا: "الحريص والمسافر مريضان لا يعادان". وقال بعضهم يمدح: أفلح بسام وإن طال السفر.
أورد الزركشي رحمه الله في الغرر السافر فيما يحتاج إليه المسافر عن علي - رضي الله عنه - قال: "السفر ميزان القوم".
وقيل: "عسرك في بلدك خير من يسرك في غربتك ". وقيل لأعرابي: "ما الغبطة؟ (قال): الكفاية مع لزوم الأوطان والجلوس مع الإخوان. قيل: ما الذلة؟، قال: التنقل في البلدان، والتنحي عن الأوطان".
وحكي ابن عبد البر: أن الإمام الشافعي خرج في بعض أسفاره فضمه الليل إلى مسجد فبات فيه، وغذا في المسجد قوم يتحدثون، يضربون المنا، وهجر المنطق، فتمثل:
وأنزلني طول النوى دار غربة ... إذا شئت لاقيت امرؤا لا أشاكله (2)
وأنشدوا:
وكل غريب سوف يمشي بذلة ... إذا بات عن أوطانه وجفا الأهلا
وأنشدوا:
وإن اغتراب المرء من غير حاجة ... ولا فاقة يسموا لها لعجيبُ
وحسب الفتى ذلا، وإن أدرك الغنى ... (ولو) نال ملكًا، أن يقال غريبُ
ولله درُّ الشافعي حيث يقول:
إن الغريب له مخافة سارق ... وخضوع مديون وذلة موثق
فإذا تذكر أهله وبلاده ... ففؤاده كجناح طير خافق (3)
وكان الحجاج يقول: "لولا فرح الإياب لما عذبت أعدائي إلا بالسفر".
وقيل: "الغربة ذلة فإن أعقبها قلة فهي نفس مضمحلة".
وقال إبقراط: (يداوي كل عليل بعقاقير أرضه فإن الطبيعة تنزع إلى غذائها وعادتها". وقال جالينوس: يستروح العليل إلى تربة أرضه كما تستروح الأرض الجدبة لوابل القطر.
ولله در بن الرؤبي حيث يقول:
وَحَبّبَ أوطان الرجال إليهم ... مآربُ قضاها الفؤاد هنالكا
__________
(1) في التمهيد (22/ 36).
(2) معجم الأدباء (6/ 2408)، طبعة دار الغرب الإسلامي، ديوان الشافعي (107).
(3) ديوانه (69).(10/83)
إذا ذكروا أوطانهم ذكْرتهم ... عهود الصبا فيها فحنّوا لذالكا
وأراد الحطيئة سفرًا فلما أراد الركوب قالت له زوجته: متى الرجوع؟ فانشد:
عُدّي السنين إذا ارتحلت لرجعتي ... ودعي الشهور فإنهن قصار
فأنشدته:
أذكر صبابتنا عليك وشوقنا ... وأرحم بناتك إنهن صغار
فحط رحله ولم يخرج.
قالوا: وقد يكون الأكد مع الكد، والغيبة مع الغَيْبَة كما يقيل:
وما زلت أقطع عرض البلاد ... من المشرقين إلى المغربين
وأدرع بالخوف تحت الدجا ... واستصحب الجدي والفرقدين
وأطوي وأنشر ثوب العُلا ... إلى أن رجعت بخفي حنين
وقال امرؤ القيس:
لقد طوّفت في الآفاق حتى ... قنعت من الغنيمة بالإياب
وقال آخر:
ألا رُبَّ باغي حاجة لا ينالها ... وآخر قد تقضي له وهو جالس
وهذا ونحوه قليل من كثير، وإنما الحكم للأغلب. والنجاح مع المطلوب أكثر، والحرمان للعاجز أصحب.
(3) معرفة حكم السفر:
قال الزركشي رحمه الله في الغرر السافر فيما يحتاج إليه المسافر:
اعلم أن السفر مشروع في الجملة، ولكنه ينقسم إلى: طلب وهرب، وكل منهما ينقسم إلى الأحكام الخمسة (1).
(أولاً سفر الهرب):
سفر الهرب ينقسم إلى: واجب، ومستحب، وحرام، ومكروه، ومباح.
أما الواجب: كالخروج من أرض غلب فيها الحرام، فإن طلب الحلال فريضة على المسلم.
وأما المستحب: فالخروج من أرض غلب فيها البدع إذا لم يقدر على إنكارها، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: من الآية68].
وأما الحرام: فالخروج من ارض تعيّن عليه فيها وظيفة كمن يتعين قضاء البلد.
وأما المكروه: فالخروج من أرض وقع فيها الطاعون فرارًا منه، فقد نهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك (2).
__________
(1) انظر إحياء علوم الدين (2/ 380 - 387)، طبعة دار الحديث، وفيه تفصيل أوسع.
(2) ثبت الحديث عن عدة من الصحابة منهم:
1 - أسامة بن زيد، رواه البخاري (5728)، ومسلم (2218).
2 - عبد الرحمن بن عوف. رواه البخاري (5729)، ومسلم (2219) وأبو داود (3103)، وأحمد (5/ 206) وانظر للفائدة: "التمهيد" لابن عبد البر (6/ 210 - 217، 8/ 363 - 372) وفتح الباري (10/ 189 - 205) وفيها تفاصيل حول هذه المسألة، من أراد ذلك فليراجعهما.(10/84)
وأما المباح: فخروج المريض من الأرض الوخمة إلى النزهة (1)، وقد أذن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك للرعاء حين استوخموا المدينة (2).
(ثانياً سفر الطلب):
سفر الطلب ينقسم أيضًا إلى واجب ومندوب وحرام ومكروه ومباح.
فالواجب: سفر الجهاد والحج وتحصيل القوت، لأن ما لا يتم (الواجب) (3) إلا به فهو واجب.
والمستحب: السفر لطلب العلم والزيارة والعشرة والرباط (4).
والحرام: سفر المعاصي (5).
والمكروه: سفر الاستكثار من المال وغيره.
والمباح: سفر التنزه والتجارة، وكسب الزائد على القوت الذي لا ينتهي به إلى حد الطغيان للغنى.
حكم سفر السياحة:
قال الزركشي رحمه الله في الغرر السافر فيما يحتاج إليه المسافر:
وأما سفر السياحة لا لغرض، ولا إلى مكان مقصود فمنهي عنه، وقال الإمام أحمد: ما السياحة من الإسلام في شيء ولا من فعل النبيين ولا الصالحين. ولأن السفر مشتت للقلب، فلا ينبغي للمريد أن يسافر إلا في طلب علم أو مشاهدة شيخ يقتدي به. انتهى.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
__________
(1) الأرض النزهة: الفسيحة، البعيدة عن الوخم. "فتح الباري" (10/ 199).
(2) روى الحديث البخاري (5727)، ومسلم (1671).
(3) زدتها لأن الكلام لا يصلح إلا بها، ولعلها سقطت سهوًا من الناسخ.
(4) ليست بهذا الأطلاق. فالسفر لطلب العلم الذي هو من الواجبات يلحق بالواجب لنفس القاعدة المذكورة. وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" رواه ابن ماجة (224) والطبراني في الأوسط (1/ 16)، والكبير (10/ 420)، وهو حديث صحيح مشهور جدًا، بل قال السيوطي: إنه متواتر. وله رسالة جمع فيها طرقه والفاظه وهي مطبوعة بتحقيق على الحلبي. وأما الزيارة فمنها الواجب ومنها المستحب. وأما الرباط فوجوبه في بعض الأحيان أظهر من أن يُستدل عليه.
(5) وهو من أكثر أنواع السفر في زماننا، خاصة السفر إلى بلاد الكفر لأجل الفساد والفجور والسفر إلى منتجعات الخنا والديانة والعرى والبهيمية، وإلى مأوى الشياطين ومدن اللانسانية الحمقاء. وأن كان السفر لأمر آخر من تجارة أو تطيب أو غير ذلك، فإنه قلما يخلوا من الفساد. والأدلة في تحريم ذلك أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر. والله المستعان.(10/85)
(حديث أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي السِّيَاحَةِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى.
أورد الزركشي رحمه الله في الغرر السافر فيما يحتاج إليه المسافر عن عكرمة في قوله تعالى: {السائحون} قال: هم طلبة الحديث (1).
(4) تقديم الاستخارة قبل السفر:
فإن الله تعالى أجرى العادة بسلامة العاقبة عند حصول ذلك، ولقد كان النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديثُ جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ يَقُولُ إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أَرْضِنِي قَالَ وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ.
__________
(1) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره، وأبو الشيخ بلفظ:" هم طلبة العلم" ولا فرق كبير بينهما، وأورده الحافظ ابن كثير في تفسيره (2/ 375)، والسيوطي في "الدر" (4/ 298).
أقول: قد كانت السياحة هكذا سابقًا، أما اليوم!! فالله المستعان.(10/86)
قال ابن الصلاح: ويستحب له أن يكرر الصلاة مع الاستخارة ثلاث مرات (1) ثم ينبغي أن يشاور من يثق بدينه وخيره (2).
(5) إذا عزم على السفر فليبدأ بالتوبة من المعاصي:
إذا عزم على السفر فليبدأ بالتوبة من المعاصي: ويخرج من مظالم الخلق، ويقضي ما أمكنه من ديونهم، ويرد الودائع، ثم يتحلل ممن كان بينه وبينه معاملة في شيء، أو مصاحبة، ويكتب وصيته (3) ويشهد عليه بها، ويوكل من يقضي دينه ما لم يتمكن قضائه، ويترك لأهله ومن يلزمه نفقته نفقتهم ومؤنتهم.
(6) إرضاء والديه ومن يتوجه عليه بره وطاعته:
فإن منعه الوالد، أو منع الزوج الزوجة، أو صاحب الدين المديون من السفر، فلا يجوز الخروج، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في الصحيحين) قال: جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستأذنه في الجهاد فقال: أحي والداك؟ قال نعم: قال: ففيهما فجاهد.
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجه) قال: أتى رجل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال يا رسول الله إني جئت أريد الجهاد معك أبتغي وجه الله والدار الآخرة ولقد أتيت وإن والدي ليبكيان، قال فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما.
(7) كراهية الوحدة في السفر:
(حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الْوَحْدَةِ مَا أَعْلَمُ مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ.
__________
(1) ورد في عمل اليوم والليلة لابن السني، مرفوعًا: "الإستخارة سبقًا". قال الحافظ في الفتح (11/ 191): وسنده واه جدًا أهـ. ولم أعثر على نص في استحباب تكرار الاستخارة ثلاثًا أو أكثر. والله أعلم بالصواب. [ورد تكرار الإستخارة عن السلف، كما فعل عمر في استخارته حول كتابة القرآن، (المجلة)].
(2) بناءًا على قوله تعالى (آل عمران: 159): {وشاورهم في الأمر} وقوله (الشورى: 38): {وأمرهم شورى بينهم}.
(3) كتابة الوصية واجبة على القول الصحيح لمن كان له أو عليه حقوق أو واجبات، كما في حديث ابن عمر وغيره.(10/87)
وفي الحديث فوائد: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يخبر أمته بما يعلمه من الآفات التي تحدث من جراء سفر الرجل وحده مبالغةً منه في التحذير من التفرد في السفر، وثانيها: أن النهي مخصوصٌ في وقت الليل لا النهار، وثالثها: أن النهي يعم الراكب والراجل، ولعل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما سار راكب بليلٍ) أنه خرج مخرج الغالب، وإلا فالراجل في معنى الراكب، والله أعلم. وفي النهي عن الوحدة في السفر أيضاً:
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الرَّاكِبُ شَيْطَانٌ وَالرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ.
قال الخطابي: معناه أن التفرد والذهاب وحده في الأرض من فعل الشيطان، وهو شيء يحمله عليه الشيطان ويدعو إليه، وكذلك الاثنان، فإذا صاروا ثلاثة فهو ركب جماعة وصحب قال: والمنفرد في السفر إن مات لم يكن بحضرته من يقوم بغسله ودفنه وتجهيزه، ولا عنده من يوصي إليه في ماله ويحمل تركته إلى أهله ويورد خبره إليهم، ولا معه في سفره من يعينه على الحمولة، فإذا كانوا ثلاثة تعاونوا وتناوبوا المهنة والحراسة وصلوا الجماعة وأحرزوا الحظ فيها (1).
(8) يستحب له أن يطلب رفيقًا:
يستحب له أن يطلب رفيقًا موافقًا، راغبًا في الخير، كارهًا الشر، إن نسي ذكّره، وإن ذَكَرَ أعانه. وإن تيسر له مع ذلك كونه عالمًا فليتمسك به، فإنه يمنعه بعلمه وعمله، ما يطرأ على المسافرين من مساوئ الأخلاق والضجر، ويعينه على مكارم الأخلاق ويحثه عليها.
أورد الخطيب البغدادي رحمه الله في الجامع لأخلاق الراوي وأداب السامع عن الأوزاعي، قال: "الرفيق بمنزلة الرقعة من الثوب، إذا لم تكن مثله شانته " (2).
أورد أبو نعيمٍ رحمه الله في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال: "جاء رجل إليه، فقال: إني أريد الحج! قال: فلا تصحب من يكرم عليك، فإن ساويته في النفقة أضر بك، وإن تفضل عليك استذلك".
__________
(1). عون المعبود. المجلد الرابع (7/ 191)
(2) "الجامع لآداب الراوي وأخلاق السامع" (2/ 351 رقم 1774)، تحقيق د. محمد عجاج الخطيب.(10/88)
أورد الخرائطي رحمه الله في مكارم الأخلاق عن الحسن البصري: "لا تصحب رجلاً يتكرم عليك فيفسد ما بينك وبينه - يعني من السفر". وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إذا سافرتم فاصحبوا ذوي الجود واليسر" (1).
ويستحب في اختيار الرفيق أن يكون الصديق المألوف به لأنه أعون له على مهماته، وأرفق به في أموره. (ثم قال) (2): يحرص كل منهما على إرضاء رفيقه في جميع طريقه، ويحتمل كل منهما صاحبه، ويرى له فضلاً، وخدمة، ويصبر على ما يقع منه في بعض الأوقات.
(9) استحباب التأمير في السفر إذا كانوا ثلاثة فأكثر:
نادى الشرع بالاجتماع وعدم التفرق، وحث على ذلك ورغب فيه، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا كَانَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ.
ولما كان السفر من الأمور التي يحصل بها الاجتماع والملازمة بين الناس، استحب للقوم المسافرون الذين يبلغون ثلاثة فأكثر أن يؤمروا أحدهم يسوسهم ويأمرهم بما فيه مصلحتهم، وعليهم الطاعة والاتباع ما لم يأمر بمعصية الله، فإن فعلوا ذلك حصل لهم من اجتماع الكلمة، وسلامة الصدور، ما يجعلهم يقضون حاجتهم من سفرهم دون منغصات أو مكدرات تحدث بينهم. وفي حث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على تأمير الثلاثة في السفر لأحدهم تنبيهٌ منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الاجتماع الأعظم، والله أعلم.
(10) يستحب طلب الدعاء والوصية من أهل الخير والصلاح:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُسَافِرَ فَأَوْصِنِي قَالَ عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالتَّكْبِيرِ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ فَلَمَّا أَنْ وَلَّى الرَّجُلُ قَالَ اللَّهُمَّ اطْوِ لَهُ الْأَرْضَ وَهَوِّنْ عَلَيْهِ السَّفَرَ.
__________
(1) وعن معاذ بن جبل موقوفًا: قال: سافر مع ذوي الجود والميسر. أورده الهندي في كنز العمال (17490) وأشار إلى أنه في مسند الفردوس عن معاذ. وهو في مجمع الزوائد (5/ 258).
(2) في المخطوطة: "قال ثم" والصواب ما أثبتناه.(10/89)
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ سَفَرًا فَزَوِّدْنِي قَالَ زَوَّدَكَ اللَّهُ التَّقْوَى قَالَ زِدْنِي قَالَ وَغَفَرَ ذَنْبَكَ قَالَ زِدْنِي بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي قَالَ وَيَسَّرَ لَكَ الْخَيْرَ حَيْثُمَا كُنْتَ.
(11) يستحب السفر يوم الخميس:
من هديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أسفاره، أنه كان يحب الخروج في يوم الخميس، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) قَالَ: قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ فِي سَفَرٍ إِلَّا يَوْمَ الْخَمِيسِ.
قال النووي رحمه الله: فإن لم يكن، فيوم الاثنين، لأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هاجر من مكة يوم الاثنين.
(12) يستحب أن يكون السفر مبكراً:
(حديث صخر الغامدي الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا وَكَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشًا بَعَثَهُمْ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ وَكَانَ صَخْرٌ رَجُلًا تَاجِرًا وَكَانَ يَبْعَثُ تِجَارَتَهُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فَأَثْرَى وَكَثُرَ مَالُهُ.
أورد الزركشي رحمه الله في الغرر السافر فيما يحتاج إليه المسافر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما بعد صلاة الصبح وقت تُقسمُ فيه الأرزاق بين العباد، وهو وقت نشاط النفس، وراحة البدن، وصفاء الخاطر.
(13) استحباب التوديع للمسافر:
أولاً: توديع المسافر للمقيم:
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح ابن ماجة) قَالَ: وَدَّعَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَسْتَوْدِعُكَ اللَّهَ الَّذِي لَا تَضِيعُ وَدَائِعُهُ.
ثانياً: توديع المقيم للمسافر:
(حديث ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا ادْنُ مِنِّي أُوَدِّعْكَ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوَدِّعُنَا فَيَقُولُ أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ.(10/90)
(حديث ابن عمر الثابت في صحيح ابن ماجة) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَشْخَصَ السَّرَايَا يَقُولُ لِلشَّاخِصِ: أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ.
وقوله: (أستودع الله دينك) أي: أستحفظ وأطلب منه حفظ دينك. (وأمانتك) قال الخطابي: الأمانة ههنا أهله ومن يخلفه منهم، وماله الذي يودعه ويستحفظه أمينه ووكيله ومن في معناهما، وجرى ذكر الدين مع الودائع لأن السفر موضع خوف وخطر وقد يصيبه فيه المشقة والتعب فيكون سبباً لإهمال بعض الأمور المتعلقة بالدين فدعا له بالمعونة والتوفيق فيهما (1).
قال الزركشي رحمه الله في الغرر السافر فيما يحتاج إليه المسافر:
وإنما ذكر الدين مع الوداع لأن السفر موضع خوف وخطر، وقد يصيبه منه المشقة والتعب، فيكون سببًا لإهمال بعض الأمور المتعلقة بالدين. فدعا له بالمعونة، والتوفيق فيهما. وقيل: الأمانة هاهنا أهله ومن يخلفه منهم، وماله الذي أودعه (2)، ويستحفظه أمينة ووكيله، ومن في معناه.
قال ابن مفلح رحمه الله في الآداب الشرعية:
قال ابن عبد البر: إذا خرج أحدكم في سفر فليودع إخوانه، فإن الله جاعلٌ في دعائهم بركة. قال: وقال الشعبي: السنة إذا قدم رجلٌ من سفر أن يأتيه إخوانه فيسلموا عليه، وإذا خرج إلى سفر أن يأتيهم فيودعهم ويغتنم دعائهم (3).
(14) يستحب أن يستكثر من الزاد والنفقة:
يستحب أن يستكثر من الزاد والنفقة ليواسي به المحتاجين، وليكن زاده طيبًا، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ .... } [البقرة: من الآية267].
والمراد بالطيب هنا: الجيد، وبالخبيث: الرديء. ويكون طيب النفس بما ينفقه ليكون أقرب إلى قبوله.
(15) السنة أن يدعوا إذا خرج من بيته:
(حديث أنس الثابت في صحيحي أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ قَالَ يُقَالُ حِينَئِذٍ هُدِيتَ وَكُفِيتَ وَوُقِيتَ فَتَتَنَحَّى لَهُ الشَّيَاطِينُ فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ.
__________
(1). عون المعبود بشرح سنن أبي داود. المجلد الرابع (7/ 187)
(2) قال ذلك غير واحد منهم الخطابي في "معالم السنن" (3/ 76).
(3). الآداب الشرعية (1/ 450)(10/91)
(حديث أم سلمة الثابت في صحيح السنن الأربعة) قَالَتْ
مَا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْتِي قَطُّ إِلَّا رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ.
(16) ما يقول إذا ركب:
(حديث علي بن ربيعة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قَالَ: شَهِدْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأُتِيَ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ ثُمَّ قَالَ (سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ) ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَكَ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ ثُمَّ ضَحِكَ فَقِيلَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ كَمَا فَعَلْتُ ثُمَّ ضَحِكَ.
(17) ما يدعو به في سفره:
(حديث ابن عمر الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ
(سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ)
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَمِنْ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ وَزَادَ فِيهِنَّ آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ.
وعثاء السفر: شدته ومشقته، وأصله من (الوعث) وهو الرمل الدقيق الذي يغوص فيه الرجل ويشتد المشي عليهم. ثم جعل ذلك مما يشق ويؤلم.(10/92)
والكآبة: تغير النفس والانكسار من الحزن والهم. يقال: رجل كئيب، أي: حزين. ونقل كآبة كآبة بتخفيف الهمزة وإسكان الألف (كرأفة ورافة).
والمنقلب: (بفتح اللام): المرجع. ومعناه: أن يرجع من سفره فيجد أهله أصيبوا بمصيبة نسأل الله السلامة.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنْ الْأَرْضِ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ ثُمَّ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ.
الذكر عند علو الثنايا والهبوط من الأودية:
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود) قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجُيُوشُهُ إِذَا عَلَوْا الثَّنَايَا كَبَّرُوا وَإِذَا هَبَطُوا سَبَّحُوا.
(18) استحباب ذكر الله في حال سيره وإقامته:
أورد الزركشي رحمه الله في الغرر السافر فيما يحتاج إليه المسافر عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال إن الجبل ليقول للجبل: "يا فلان مر بك اليوم ذاكرًا لله عز وجل. فإن قال: نعم، سره ذلك". استبشارًا بذكر الله.
أورد الزركشي رحمه الله في الغرر السافر فيما يحتاج إليه المسافر عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: اذكروا الله في أسفاركم عند كل حجرة وشجرة لعلها تأتي يوم القيامة تشهد لكم (1).
ويستحب الذكر عند كل اضطجاعة، وعند كل شيء، وعند كل حجر ومدر وشجر.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ اضْطَجَعَ مَضْجَعًا لَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ تَعَالَى فِيهِ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِ تِرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ قَعَدَ مَقْعَدًا لَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِ تِرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
تِرَة: أي نقص.
ما يستحب ذكره في السحر للمسافر:
__________
(1) رواه أحمد في الزهد عن عطاء مرسلاً. وذكره الهندي في الكنز (17618) ونسبه لابن شاهين في "الترغيب" في الذكر. وانظر كشف الخفا للعجلوني (1/ 114 رقم 303).(10/93)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا كَانَ فِي سَفَرٍ وَأَسْحَرَ يَقُولُ سَمِعَ سَامِعٌ (1) بِحَمْدِ اللَّهِ وَحُسْنِ بَلَائِهِ عَلَيْنَا رَبَّنَا صَاحِبْنَا وَأَفْضِلْ عَلَيْنَا عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ النَّارِ.
{فائدة}: ينبغي للمسافر أن يغتنم سفره، ويدعو لنفسه وآبائه وأهله ومن يحب، وأن يجتهد في ذلك، ويتحرى الدعاء الجامع، مع0 الإلحاح والخضوع، فللمسافر دعوة مستجابة فلا ينبغي التفريط فيها.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ.
(19) دعاء نزول المنزل:
يحتاج المسافر إلى النزول من مركوبه للنوم أو الأكل أو قضاء الحاجة، والبرية فيها من الهوام والسباع والشياطين ما الله به عليم، فكان من نعمة الله علينا أن شرع لنا على لسان نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دعاءً نقوله يحفظنا -بإذن الله- من شر كل مخلوق.
(حديث خولة بنت حكيم السلمية رضي الله عنها الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا ثُمَّ قَالَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ.
وفي الحديث فوائد منها: أن هذا الدعاء يقال عند حلول كل مكان أو النزول فيه وليس مخصوصاً بنزول المسافر من مركوبه.
ومنها: أن كلام الله منه تبارك اسمه وصفة من صفاته ليس بمخلوق، لأنه محال أن يستعاذ بمخلوق، وعلى هذا جماعة أهل السنة، قاله ابن عبد البر (2).
__________
(1) قوله: (سمع سامع) أي: بلغ سامع قولي هذا لغيره، وقال الخطابي: معناه: شهد شاهد على حمدنا لله تعالى على نعمه وحسن بلائه. وقوله: (ربنا صاحبنا وأفضل علينا) أي: احفظنا وحطنا واكلأنا، وأفضل علينا بجزيل نعمك، واصرف عنا كل مكروه. وقوله: (عائذا بالله من النار): منصوب على الحال: أي: أقول هذ في حال استعاذتي واستجارتي بالله من النار. قاله النووي انظر شرح مسلم. المجلد التاسع (17/ 34 - 35)
(2). التمهيد (24/ 186)(10/94)
ومنها: أن قائل هذا الدعاء عند النزول محفوظٌ بحفظ الله له، فلا يضره شيء حتى يغادر محله. قال القرطبي: هذا خبر صحيح وقول صادق علمنا صدقه دليلاً وتجربة، فإني منذ سمعت هذا الخبر عملت عليه فلم يضرني شيء إلى أن تركته، فلدغتني عقرب بالمهدبة ليلاً، فتفكرت في نفسي فإذا بي قد نسيت أن أتعوذ بتلك الكلمات (1).
(20) صلاة التطوع في السفر:
من السنن المهجورة، صلاة المسافر التطوع على مركوبه، فقل من تراه يصلي النافلة أو الوتر في الطائرة أو في غيرها من ألآت السفر. ونبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يفعل ذلك على راحلته، ولا يلزم تحري القبلة في صلاة النافلة للمسافر إن كان راكباً لمشقة ذلك، والأفضل أن يستقبل القبلة عند الإحرام، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قاَلَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ يُومِئُ إِيمَاءً صَلَاةَ اللَّيْلِ إِلَّا الْفَرَائِضَ وَيُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ.
ولذا فإنه يستحب للمسافر أن يصلي النافلة والوتر على آلة السفر اقتداءً بنبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
مسألة: هل يجوز للمسافر أن يصلي الفريضة على الطائرة أو السيارة أو القطار إذا أُضطر لذلك؟ أم يؤخرها حتى يصل إلى المكان الذي يتمكن أن يؤديها فيها؟ وهل يلزم التوجه إلى القبلة؟
الجواب: أجابت اللجنة الدائمة عن سؤال مماثل فقالت:
إذا كان راكب السيارة أو القطار أو الطائرة أو ذوات الأربع، يخشى على نفسه لو نزل لأداء الفرض ويعلم أنه لو أخرها حتى يصل إلى المكان الذي يتمكن أن يصلي فيه فات وقتها، فإنه يصلي على قدر استطاعته، لعموم قوله تعالى: (لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا) [البقرة: 286] وقوله تعالى: (فَاتّقُواْ اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن: 16]، وقوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: 78].
__________
(1). فتح المجيد شرح كتاب التوحيد. ص161. ط: دار اليقين للنشر والتوزيع. (مصر)(10/95)
وأما كونه يصلي أين توجهت المذكورات أم لابد من التوجه إلى القبلة دوماً واستمراراً أو ابتداءً فقط، فهذا يرجع إلى تمكنه، فإذا كان يمكنه استقبال القبلة في جميع الصلاة وجب فعل ذلك، لأنه شرط في صحة صلاة الفريضة في السفر والحضر، وإذا كان لا يمكنه في جميعها، فليتق الله ما استطاع، لما سبق من الأدلة (1).
(21) ما يقول إذا خاف قومًا:
(حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا خَافَ قَوْمًا قَالَ اللَّهُمَّ إِنَّا نَجْعَلُكَ فِي نُحُورِهِمْ وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ.
(22) النهي عن اصطحاب الكلب والجرس في السفر:
نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن اصطحاب الكلب والجرس في الأسفار، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا كَلْبٌ وَلَا جَرَسٌ.
وسبب النهي عن الجرس لأنها مزامير الشيطان، جاء ذلك مصرحاً عند مسلم.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْجَرَسُ مَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ.
وأما الكلب فقد أُختلف في سبب النهي عن اصطحابه، فقيل لما كان الكلب منهياً عن اقتنائه ـ إلا كلب ماشية أو صيد ـ عوقب متخذه من بتجنب الملائكة عن صحبته، فحرم من بركتهم واستغفارهم وإعانتهم على طاعة الله، وقيل لكونه نجساً (2). والله أعلم.
(23) النهي عن سفر المرأة بدون محرم:
نهى الشرع المطهّر عن سفر المرأة بدون محرم، لما قد يترتب عليه من الفتنة لها ولمن حولها من الرجال. والأحاديث الواردة في ذلك صحيحة لا مجال لتوهينها، ولا تأويلها، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا رَجُلٌ إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَخْرُجَ فِي جَيْشِ كَذَا وَكَذَا وَامْرَأَتِي تُرِيدُ الْحَجَّ فَقَالَ اخْرُجْ مَعَهَا.
__________
(1). فتاوي اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء. (8/ 123 - 124) رقم (1375)
(2). انظر عون المعبود. المجلد الرابع (7/ 162)(10/96)
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حُرْمَةٌ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ عَلَيْهَا.
(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً وَاكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا قَالَ ارْجِعْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ.
(حديث عقبة بن عامر الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ قَالَ الْحَمْوُ الْمَوْتُ.
(حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أَنَّ نَفَرًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ دَخَلُوا عَلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَهِيَ تَحْتَهُ يَوْمَئِذٍ فَرَآهُمْ فَكَرِهَ ذَلِكَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ لَمْ أَرَ إِلَّا خَيْرًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَرَّأَهَا مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ لَا يَدْخُلَنَّ رَجُلٌ بَعْدَ يَوْمِي هَذَا عَلَى مُغِيبَةٍ إِلَّا وَمَعَهُ رَجُلٌ أَوْ اثْنَانِ.(10/97)
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلَا يُسْتَحْلَفُ وَيَشْهَدَ الشَّاهِدُ وَلَا يُسْتَشْهَدُ أَلَا لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ، مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكُمْ الْمُؤْمِنُ.
وكما ترى فإن النهي صريحٌ في منع المرأة من السفر مسيرة يوم وليلة بدون محرمٍ لها، زوجها أبوها ابنها أخوها ونحوهم من محارمها. بل إن أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرجل الذي أُكتتب في الغزو أن يلحق بأهله الذين خرجوا للحج لهو أبلغ دليل على تحريم سفر المرأة بدون محرم.
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
فيه تقديم الأهم من الأمور المتعارضة لأنه لما تعارض سفره في الغزو وفي الحج معها رجح الحج معها لأن الغزو يقوم غيره في مقامه عنه بخلاف الحج معها (1).
{شبهة}:: يتردد على ألسنة بعض الناس أن سفر المرأة وحدها في هذا العصر ضرورة لا بد منها، فظروف العصر تقتضي ذلك، ويحتجون بأن الخلوة تنتفي بسفرها بالطائرة أو القطار ونحوهما. وقد يقول قائلهم ما المانع إذا أوصلت زوجتي إلى المطار وتأكدت من ركوبها الطائرة ثم استقبلها أخوها في البلد الآخر؟
والجواب:
أولاً: فتنة النساء من أعظم الفتن التي تبتلى بها الأمم، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حذرنا منها وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
(حديث أسامة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ.
__________
(1). شرح صحيح مسلم. الخامس (9/ 93)(10/98)
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ.
فإذا تُركت المرأة تسرح وتمرح، وتعمل مع الرجال جنباً إلى جنب، وتتولى المناصب القيادية، فإن ذلك نذيرٌ بأن يصيبنا ما أصاب بني إسرائيل ـ عياذاً بالله ـ.
ثانياً: لابد من تقرير حقيقة لا مكابرة فيها وهي أن المرأة ضعيفة سريعة التأثر، سريعة الانجذاب، تحتاج إلى رجلٍ يحميها ويقوم بشئونها (1)، فإذا انضاف إلى ذلك ضعف الإيمان والوازع الديني في قلوب كثير من الرجال، ازداد الأمر خطورةً وعظمت الفتنة. ومن قال إن الخلوة تنتفي بركوب الطائرة ونحوها مما يكون فيه النقل جماعياً، يردُ عليه أن جلوسها بين الأجانب، ومباشرتها الكلام معهم في قضاء حوائجها فيه ما فيه، فالذين في قلوبهم مرض كثير، وأصحاب العيون الخائنة أكثر، وفوق ذلك لا رقيب عليها ـ من محارمها ـ ولا حسيب.
وأما إركابها آلة السفر لوحدها كالطائرة مثلاً واستقبالها في البلد الأخر، فإنه يقال لهذا وأمثاله: ما أدراك لو اضطرت الطائرة إلى النزول في بلد آخر غير المكان المقصود لخلل بها ـ وهذا يحدث أحياناً ـ. وأكبر من ذلك لو اضطر المسافرون إلى البقاء يوماً أو يومين في هذا البلد. فأين المحرم؟ ومن سيباشر إجراءات السكن والأكل والشرب؟!.
(24) استحباب الاجتماع عند النزول وعند الأكل:
جعل الله في الاجتماع القوة والعزة والمنعة والبركة، وجعل في التفرق الوهن والضعف وتسلط الأعداء ونزع البركة. والقوم إن كانوا يسافرون جميعاً استحب لهم أن يجتمعوا في مكان نزولهم ومبيتهم، وكذا يجتمعوا على أكلهم لتحصل البركة لهم.
أما الاجتماع عند النزول، فتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
__________
(1). حتى وإن انكرت ذلك بعض المسترجلات في هذا الزمن، فإنها تعرف حقيقة نفسها، وتعرف مقدار ضعفها، وهذه سنة الله في خلقه التي لا تبديل لها، ولكنها تخشى أن تتهم بالرجعية والتخلف، فحتى تواكب الحضارة وتصبح كالمرأة الغربية المتحضرة!! لا بد أن تسافر وحدها مثلهم، وتلبس كلبسهم، وتعمل إلى جنب الرجال، وإن لم تفعل ذلك أُتهمت بالتخلف!. رزقنا الله وإياهم لزوم صراطه المستقيم.(10/99)
(حديث أَبُي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) قَالَ: كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلُوا مَنْزِلًا قَالَ عَمْرٌو كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْزِلًا تَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِي هَذِهِ الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ إِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنْ الشَّيْطَانِ فَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْزِلًا إِلَّا انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى يُقَالَ لَوْ بُسِطَ عَلَيْهِمْ ثَوْبٌ لَعَمَّهُمْ.
والاجتماع على الطعام تحصل به البركة والزيادة، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث وَحْشِيُّ بْنُ حَرْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَأْكُلُ وَلَا نَشْبَعُ قَالَ فَلَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُونَ قَالُوا نَعَمْ قَالَ فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ.
{تنبيه}: يستحب التناهد في السفر، والنهد: أن يخرج كل واحد من الرفقة شيئاً من النفقة يدفعونه إلى رجل ينفق عليهم منه ويأكلون جميعاً (1).
قال ابن مفلح رحمه الله في الآداب الشرعية:
قيل للإمام أحمد: أيما أحب إليك يعتزل الرجل في الطعام أو يرافق؟ قال: يرافق، هذا أرفق يتعاونون، وإذا كنت وحدك لم يمكنك الطبخ ولا غيره، ولا بأس بالنهد، قد تناهد الصالحون. كان الحسن إذا سافر ألقى معهم، ويزيد أيضاً بقدر ما يلقي، يعني في السر (2).
(25) النوم في السفر:
قد يضطر المسافر على الطرق البرية إلى النوم للراحة من عناء السفر، ولما كان الشرع المطّهر يرشد الناس لما فيه مصلحتهم العاجلة والآجلة؛ كان من جملة ذلك إرشاد المسافر لمكان نومه، حتى لا يؤذى من هوام الأرض ودوابه.
__________
(1). انظر الآداب الشرعية (3/ 182)
(2). الآداب الشرعية (3/ 182)(10/100)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا سَافَرْتُمْ فِي الْخِصْبِ فَأَعْطُوا الْإِبِلَ حَظَّهَا مِنْ الْأَرْضِ وَإِذَا سَافَرْتُمْ فِي السَّنَةِ فَأَسْرِعُوا عَلَيْهَا السَّيْرَ وَإِذَا عَرَّسْتُمْ (1) بِاللَّيْلِ فَاجْتَنِبُوا الطَّرِيقَ فَإِنَّهَا مَأْوَى الْهَوَامِّ بِاللَّيْلِ.
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
وهذا أدب من آداب السير والنزل أرشد إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن الحشرات ودواب الأرض من ذوات السموم والسباع تمشي في الليل على الطرق لسهولتها ولأنها تلتقط منها ما يسقط من مأكول ونحوه، وتجد فيها من رمة ونحوها، فإذا عرس الإنسان في الطريق ربما مر منها ما يؤذيه فينبغي أن يتباعد عن الطريق (2).
ثم إنه ينبغي على المسافر إذا أراد نوماً، أن يتخذ ما في وسعه من الوسائل التي تُعينه على الاستيقاظ لصلاة الفجر، وفي زمننا هذا أصبحت تلك الوسائل ـ ولله الحمد ـ متيسرة وبأبخس الأثمان. ورسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يحتاط لذلك، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
__________
(1). المُعرِّس: الذي يسير نهاره ويعرس أي ينزل أو الليل، وقيل: التعريس النزول في آخر الليل. وعرس المسافر: نزل في وجه السحر ... وقال غيره: والتعريس: نزول القوم في السفر من آخر الليل، يقعون فيه وقعة للاستراحة ثم يُنيخون وينامون نومة خفيفة ثم يثورون مع انفجار الصبح. قاله في اللسان. (6/ 136) مادة: (عرس).
(2). شرح صحيح مسلم. المجلد السابع (13/ 59)(10/101)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَفَلَ مِنْ غَزْوَةِ خَيْبَرَ سَارَ لَيْلَهُ حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْكَرَى (1) عَرَّسَ وَقَالَ لِبِلَالٍ اكْلَأْ لَنَا اللَّيْلَ فَصَلَّى بِلَالٌ مَا قُدِّرَ لَهُ وَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فَلَمَّا تَقَارَبَ الْفَجْرُ اسْتَنَدَ بِلَالٌ إِلَى رَاحِلَتِهِ مُوَاجِهَ الْفَجْرِ فَغَلَبَتْ بِلَالًا عَيْنَاهُ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى رَاحِلَتِهِ فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا بِلَالٌ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى ضَرَبَتْهُمْ الشَّمْسُ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَهُمْ اسْتِيقَاظًا فَفَزِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَيْ بِلَالُ فَقَالَ بِلَالٌ أَخَذَ بِنَفْسِي الَّذِي أَخَذَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ بِنَفْسِكَ قَالَ اقْتَادُوا فَاقْتَادُوا رَوَاحِلَهُمْ شَيْئًا ثُمَّ تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ الصَّلَاةَ فَصَلَّى بِهِمْ الصُّبْحَ فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَالَ مَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ
(وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)
(26) استحباب رجوع المسافر لأهله بعد قضاء حاجته وعدم الإطالة:
يستحب للمسافر إذا نال مراده من سفره أن يعود سريعاً إلى أهله، ولا يمكث فوق حاجته لحكم سوف يأتي ذكرها. وقد أرشد إلى هذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ.
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح:
وفي الحديث كراهة التغرب عن الأهل لغير حاجة، واستحباب استعجال الرجوع ولا سيما من يخشى عليهم الضيعة بالغيبة، ولما في الإقامة في الأهل من الراحة المعينة على صلاح الدين والدنيا، ولما في الإقامة من تحصيل الجماعات والقوة على العبادة (2).
__________
(1) الكرى: أي: النعاس أو النوم
(2). فتح الباري (3/ 730)(10/102)
(27) كراهية قدوم المسافر على أهله ليلاً:
(حديث جابر رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمْ الْغَيْبَةَ فَلَا يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلًا.
(حديث جابر رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ لَيْلًا يَتَخَوَّنُهُمْ أَوْ يَلْتَمِسُ عَثَرَاتِهِمْ.
{تنبيه}: ينبغي للمسافر إذا رجع إلى أهله أن لا يدخل عليهم ليلاً، حتى لا يرى ما يكره في أهله من سوء المنظر، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ إِذَا دَخَلْتَ لَيْلًا فَلَا تَدْخُلْ عَلَى أَهْلِكَ حَتَّى تَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ وَتَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَيْكَ بِالْكَيْسِ الْكَيْسِ.
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
أنه يكره لمن طال سفره أن يقدم على امرأته ليلاً بغته، فأما من كان سفره قريباً تتوقع امرأته إتيانه ليلاً فلا بأس كما قال في إحدى الروايات: إذا أطال الرجل الغيبة. وإذا كان في قفل عظيم أو عسكر ونحوهم واشتهر قدومهم ووصولهم وعلمت امرأته وأهله أنه قادم معهم وأنهم الآن داخلون فلا بأس بقدومه متى شاء لزوال المعنى الذي نهي بسببه فإن المراد أن يتأهبوا وقد حصل ذلك ولم يقدم بغته (1). قلت: ومثله إذا علموا بقدومه عن طريق أجهزة الاتصال ونحوها.
(28) استحباب الصلاة ركعتين في المسجد عند قدوم البلد:
من هديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان إذا قدم من سفر، فإن أول شيءٍ كان يبادر إليه هو الصلاة في المسجد ركعتين.
(حديث كعب بن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ ضُحًى دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ.
وهذه من السنن المهجورة، التي قلَّ من يطبقها، فنسألك اللهم اتباعاً لسنة نبيك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظاهراً وباطناً، وبالله التوفيق.
(29) تحريم سفر المرأة بدون محرم:
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم.
__________
(1). شرح مسلم. المجلد السابع (13/ 61)(10/103)
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم عليها.
(30) كَرَاهَيةِ السِّيَاحَةِ إلَى غَيْرِ مَكَان مَعْلُومٍ وَلَا غَرَضٍ مَشْرُوعٍ:
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: السِّيَاحَةُ فِي الْأَرْضِ لَا لِمَقْصُودٍ وَلَا إلَى مَكَان مَعْرُوفٍ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مَا السِّيَاحَةُ مِنْ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ , وَلَا مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّينَ وَلَا الصَّالِحِينَ , وَلِأَنَّ السَّفَرَ يُشَتِّتُ الْقَلْبَ فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ يُسَافِرَ إلَّا فِي طَلَبِ عِلْمٍ أَوْ مُشَاهَدَةِ شَيْخٍ يَقْتَدِي بِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
(حديث أبي أمامة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن رجلا قال: يارسول الله، إئذن لي في السياحة قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "" إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله عزوجل.
آداب عيادة المريض:
آداب عيادة المريض:
لعيادة المريض آداب ينبغي لطالب العلم أن يحيط بها علماً وأن يتبعها حتى يكون متأسياً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهاك آداب عيادة المريض المساجد جملةً وتفصيلا:
أولاً آداب عيادة المريض جملةً:
(1) فضل عيادة المريض:
(2) عيادة الصبيان:
(3) عيادة النساء للرجال:
(4) عيادة المغمي عليه:
(5) عيادة المشرك:
(6) وقت عيادة المريض:
(7) التخفيف عند عيادة المريض:
(8) يستحب للعائد أن يجلس عند رأس المريض:
(9) سؤال المريض عن حاله والتنفيس في أجله:
(10) جواز البكاء عند المريض ما لم يكن فيه تسخط أو جزع:
(11) ما يقال عند المريض من الدعاء ونحوه:
(12) وضع اليد على المريض:
(13) رقية المريض:
(14) تلقين المريض الشهادة إذا حضر أجله وإغماض عينيه والدعاء له إذا مات:
ثانيا آداب عيادة المريض تفصيلا:
(1) فضل عيادة المريض:
عيادة المريض لها فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم، له منافع عظيمة وفوائد عميمة في الدارين
وإليك غيضٌ من فيض وقليلٌ من كثير مما ورد في الوحيين في فضل عيادة المريض:(10/104)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ رَدُّ السَّلَامِ وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ.
(حديث ثوبان الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا عَادَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ (1) حَتَّى يَرْجِعَ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا خُرْفَةُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ جَنَاهَا.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي قَالَ يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي.
__________
(1). قال البغوي في شرحه: قوله في خراف الجنة، ويروى: (في مخاارف الجنة) [وخرفة الجنة]، وهي جمع مخْرف، قال الأصمعي: وهو جنى النخل، سمي به لأنه يُخترف، أي: يجتنى ... قال ابن الأنباري: يُريد في اجتناء ثمر الجنة، من قولهم: خرفت النخلة أخرفها، فشبه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يحوزه عائدُ المريض من الثواب بما يحوزه المخترفُ من الثمار. (شرح السنة 5/ 216)(10/105)
(حديث علي الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعُودُ مُسْلِمًا غُدْوَةً إِلَّا صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِيَ وَإِنْ عَادَهُ عَشِيَّةً إِلَّا صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ فِي الْجَنَّةِ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أنَّ النَّبِيَّ ... - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ عَادَ مَرِيضًا نَادَى مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ وَتَبَوَّأْتَ مِنْ الْجَنَّةِ مَنْزِلًا.
(حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح الأدب المفرد) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ عَادَ مَرِيضَاً خَاضَ فِي الرَحْمَةِ، حَتَى إِذَا قَعَدَ اسْتَقَرَ فِيهَا.
وبعد ذكر هذه الأحاديث الصحيحة في بيان فضل عيادة المريض، والثواب الذي يناله العائد من عيادته، فلا ينبغي التفريط فيها، بل تلزم المبادرة إليها، والمداومة عليها، حتى تُنال رحمة الرحمن الرحيم. وفي عيادة المريض غير ما ذكر: تطييب قلبه [أي المريض]، واستعراض حوائجه، والاتعاظ بمصرعه، قاله ابن الجوزي (1).
(2) عيادة الصبيان:
يُعادُ الصبيان إذا مرضوا، كما يُعاد الرجال. وذلك لأن المعنى الذي من أجله يُعادُ الرجال موجودٌ في عيادة الصبيان من الدعاء للمريض، وتخفيف ألآمه، ورقيته بالرقى الشرعية، وكذا حصول الأجر من جراء العيادة للعائد، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
__________
(1). كشف المشكل من حديث الصحيحين. رقم (715)، (2/ 236) بتصرف يسير.(10/106)
(حديث أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الثابت في الصحيحين) أَنَّ ابْنَةً لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ وَهُوَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَعْدٌ وَأُبَيٌّ نَحْسِبُ أَنَّ ابْنَتِي قَدْ حُضِرَتْ فَاشْهَدْنَا فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا السَّلَامَ وَيَقُولُ إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَمَا أَعْطَى وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ مُسَمًّى فَلْتَحْتَسِبْ وَلْتَصْبِرْ فَأَرْسَلَتْ تُقْسِمُ عَلَيْهِ فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقُمْنَا فَرُفِعَ الصَّبِيُّ فِي حَجْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَفْسُهُ جُئِّثُ فَفَاضَتْ عَيْنَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ هَذِهِ رَحْمَةٌ وَضَعَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ وَلَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ إِلَّا الرُّحَمَاءَ.
(3) عيادة النساء للرجال:
يجوز للنساء عيادة الرجال ولو كانوا أجانب، ولكن ذلك مشروطٌ بأمن الفتنة، والتستر، وانتفاء الخلوة، فإذا تحققت هذه الشروط جاز للنساء عيادة الرجال الأجانب والعكس.
(حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الثابت في صحيح البخاري) أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ قَالَتْ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا فَقُلْتُ يَا أَبَتِ كَيْفَ تَجِدُكَ وَيَا بِلَالُ كَيْفَ تَجِدُكَ قَالَتْ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَكَانَ بِلَالٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ فَيَقُولُ أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مِجَنَّةٍ وَهَلْ تَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ وَصَحِّحْهَا وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ.(10/107)
وعن ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل ابن حنيف أنه أخبره: (أن مسكينة مرضت، فأخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمرضها، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعود المساكين ويسأل عنهم ... الحديث) (1). قال ابن عبد البر: وفيه [أي: الحديث] إباحة عيادة النساء، وإن لم يكن ذوات محرم. ومحل هذا-عندي- أن تكون المرأة متجالة (2)، وإن كانت غير متجالة فلا، إلا أن يسأل عنها ولا ينظر إليها (3).
(4) عيادة المغمي عليه:
يعزف بعض الناس عن عيادة المرضى الذين لا يشعرون بمن حولهم، كالذي تنتابه حالات الإغماء المتكررة، أو الذين هم في غياب عن الوعي بشكل دائم، بحجة أن هذا المريض لا يشعر بوجوده ولا يحس به فلا حاجة إذاً لزيارته. وهذا فهمٌ خاطئ، وحجة بلا دليل، والدليل بخلافه، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قَالَ: مَرِضْتُ فَجَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا مَاشِيَانِ فَأَتَانِي وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيَّ فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَبَّ وَضُوءَهُ عَلَيَّ فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ فَقُلْتُ أَيْ رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَقْضِي فِي مَالِي كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي قَالَ فَمَا أَجَابَنِي بِشَيْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ.
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح:
__________
(1). رواه مالك في الموطأ (531) قال ابن عبد البر: لم يختلف على مالك في الموطأ في إرسال هذا الحديث ... وهو حديث مسند متصل صحيح من غير حديث مالك. (التمهيد 6/ 254)
(2). في اللسان: ... تجالَّت أي أسنت وكبرت. وفي حديث أم صبية: كنا نكون في المسجد نسوة قد تجاللن أي كبرن. ويقال: جلتَّ فهي جليلة، وتجالَّت فهي متجالَّة. (11/ 116) مادة: (جلل).
(3). التمهيد (6/ 255)(10/108)
ومجرد علم المريض بعائده لا تتوقف مشروعية العيادة عليه، لأن وراء ذلك جبر بخاطر أهله، وما يرجى من بركة دعاء العائد، ووضع يده على المريض، والمسح على جسده والنفث عليه عند التعويذ وغير ذلك (1)، (2).
(5) عيادة المشرك:
فصل الخطاب في عيادة المشرك يجوز للمسلم أن يعود الكافر بغرض الدعوة إن رُجِي إسلامه وإلا فلا، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
__________
(1). فتح الباري: (10/ 119). قال ابن المنير: ليس في حديث جابر التصريح بأنهما علما أنه مغمى عليه قبل عيادته، فلعله وافق حضورهما. [ورد ذلك ابن حجر فقال:] قلت: بل الظاهر من السياق وقوع ذلك حال مجيئهما وقبل دخولهما عليه، ومجرد علم المريض بعائده .... الخ. (10/ 118 - 119).
(2). تنبيه: تُثار في بعض الدول العربية فكرة إراحة المريض المتوفى دماغياً، وذلك عن طريق إعطاءه حقنة تميته، ويحتجون بأن هذا المريض حسب قوانينهم الطبية ميت لا محالة وإنما هي مسألة وقت، ونحن نعطيه هذه الحقنة حتى نُريحه من الالآم التي قد يجدها أثناء حياته.
ويقال لهم: أنتم بهذه الطريقة وبهذا الأسلوب لا تريحونه بل تحرمونه وتحرمون غيره، ففي بقائه على قيد الحياة وهو على تلك الحال، تكفيرُ من سيئاته، ورفعٌ لدرجاته إن كان من أهل الإيمان والإحسان. ففي حديث ابن مسعود-رضي الله عنه- قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما من مسلم يُصيبه أذى مرضٌ فما سواه إلا حط الله سيئاته كما تحط الشجرة ورقها) رواه البخاري (5667) وغيره. وفي بقائه على قيد الحياة أنه قد تناله دعوة صالحة، فيقبلها الله عز وجل فيشفى من مرضه ذاك- والله على كل شيء قدير-. أو تغفر له ذنوبه بدعوات المسلمين له. وفي بقائه على قيد الحياة، تكفير لسيئات أهله الذين أصابهم الهم والغم. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) رواه البخاري (5642) وغيره. وفي بقائه على قيد الحياة استمرار البر وعدم انقطاعه وخصوصاً إن كان المريض أباً أو أماً. وفي بقائه على قيد الحياة تكثير الأجر بعيادة المريض وزيارته. فمن أجل هذه المعاني التي ذكرناها وغيرها، نعرف شناعة قول من قال: إنه لا فائدة ترجى من بقاء المتوفى دماغياً على قيد الحياة وأن الموت أفضل له. والله أعلم.(10/109)
(حديث أنس الثابت في صحيح البخاري) قَالَ كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ أَسْلِمْ فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ.
(حديث سعيد ابن المسيَّب عن أبيه الثابت في الصحيحين) قَالَ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَا وَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: (مَا كَانَ لِلنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوَاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوَاْ أُوْلِي قُرْبَىَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) [سورة: التوبة - الآية: 113]
(6) وقت عيادة المريض:
لا توجد نصوص عن المعصوم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تبين أوقاتاً معينة لعيادة المرضى وزيارتهم، وما دام الأمر كذلك فإنه يباح زيارة المرضى في أي وقت من ليل أو نهار ما لم تكن هناك مشقة عليهم، لأن من معاني العيادة التخفيف على المريض وتطييب قلبه لا الإشقاق عليه. وتختلف أوقات العيادة باختلاف الزمان والمكان، فقد تكون الزيارة في الليل وقت ما مستساغة، ولكنها تكره في زمن آخر.(10/110)
أورد ابن مفلح رحمه الله في الآداب الشرعية عن المروذي قال: عُدت مع أبي عبد الله مريضاً بالليل وكان في شهر رمضان، ثم قال لي: في شهر رمضان يُعادُ بالليل (1).
وكذا الظهيرة فإن العادة جرت أن يقيل الناس، ويخلدوا إلى الراحة.
أورد ابن مفلح رحمه الله في الآداب الشرعية عن الأثرم قال: قيل لأبي عبد الله: فلانٌ مريض وكان عند ارتفاع النهار في الصيف، فقال: ليس هذا وقت عيادة (2).
والمكان معتبرٌ في العيادة ـ أيضاً ـ، فما تعارف عليه أهل هذه البلاد واعتادوه من أوقات معينة للعيادة والزيارة، قد لا يكون في بلاد أخرى معتاداً عليه.
(7) التخفيف عند عيادة المريض:
ينبغي على العائد أن لا يطيل الجلوس ولا المكث عند المريض، لأن المريض مشغولٌ بأوجاعه وألآمه، وطول مقام العائد عنده يشق عليه وقد يزيد في ألمه. ولذا كان من حسن العيادة تخفيفها. فعن ابن طاوس عن أبيه قال: أفضل العيادة أخفها ... وقال الأوزاعي: خرجت إلى البصرة أريد محمد بن سيرين، فوجدته مريضاً به البطن، فكنا ندخل عليه نعوده قياماً ... وقال الشعبي: عيادة حمقى القرى أشد على أهل المريض من مرض صاحبهم، يجيئون في غير حين عيادة ويطيلون الجلوس (3).
ولكن ينبغي أن يُعْلَمَ، أنه إن كان المريض يُحب طول مقام العائد عنده وتكرار زيارته، فالأولى للعائد أن يستجيب لرغبته لما في ذلك من إدخال السرور عليه، وتطييب قلبه كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعود سعد بن معاذ عندما أصيب يوم الخندق، حيث أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تضرب لسعد خيمة في المسجد ليعوده من قريب،
(حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري) قَالَتْ أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فِي الْأَكْحَلِ فَضَرَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْمَةً فِي الْمَسْجِدِ لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ فَلَمْ يَرُعْهُمْ وَفِي الْمَسْجِدِ خَيْمَةٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ إِلَّا الدَّمُ يَسِيلُ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا يَا أَهْلَ الْخَيْمَةِ مَا هَذَا الَّذِي يَأْتِينَا مِنْ قِبَلِكُمْ فَإِذَا سَعْدٌ يَغْذُو جُرْحُهُ دَمًا فَمَاتَ فِيهَا.
ومن من الصحابة لا يحب مقام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنده، أو تكرار زيارته!.
(8) يستحب للعائد أن يجلس عند رأس المريض:
__________
(1). الآداب الشرعية (2/ 190)
(2). الآداب الشرعية (2/ 189)
(3). التمهيد لابن عبد البر (24/ 277) مع تقديم وتأخير.(10/111)
وهذا كان فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصالحين من بعده، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
(حديث أنس الثابت في صحيح البخاري) قَالَ كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ أَسْلِمْ فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ.
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الأدب المفرد) قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا عاد مريضاً جلس عند رأسه.
وعن الربيع بن عبد الله قال: ذهبت مع الحسن إلى قتادة نعوده، فقعد عند رأسه، فسأله ثم دعا له ... (1).
وفي جلوس العائد عند رأس المريض فوائد منها: أن فيه إيناساً للمريض، ومنها تمكن العائد من وضع يده على المريض والدعاء له والنفث عليه، إلى غير ذلك.
(9) سؤال المريض عن حاله والتنفيس في أجله:
من حسن العيادة سؤال المريض عن حاله ومصابه، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
__________
(1). رواه البخاري في الأدب المفرد (537) وقال الألباني: صحيح الإسناد (417)(10/112)
(حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الثابت في صحيح البخاري) أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ قَالَتْ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا فَقُلْتُ يَا أَبَتِ كَيْفَ تَجِدُكَ وَيَا بِلَالُ كَيْفَ تَجِدُكَ قَالَتْ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَكَانَ بِلَالٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ فَيَقُولُ أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مِجَنَّةٍ وَهَلْ تَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ وَصَحِّحْهَا وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ.
ومن حسن العيادة ـ أيضاً ـ التنفيس في أجل المريض كأن يقال له: لابأس عليك ستشفى بإذن الله، أو إن هذا المرض ليس خطيراً وسيعافيك الله -إن شاء الله- ونحو هذا الكلام، ما لم تظهر عليه علامات قرب أجله، وذلك لأن التنفيس عن أجل المريض، يساعد كثيراً في سرعة البرء من المرض، وهذا علاج مجرب ومعروف بين الناس.
{تنبيه}: شكوى المريض لا تخلو من حالين:
الأولى: أن تكون على سبيل التضجر والجزع، وهذا لا شك في كراهيته لأنه دليلٌ على ضعف اليقين وعدم الرضا بقضاء الله وقدره.
والثانية: على سبيل الإخبار عن الحال دون الالتفات إلى المخلوقين أو التعلق بهم، وهذا لا ريب في إباحته والدليل يعضده.
(حديث عائشة الثابت في صحيح ابن ماجة) قَالَتْ: رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْبَقِيعِ فَوَجَدَنِي وَأَنَا أَجِدُ صُدَاعًا فِي رَأْسِي وَأَنَا أَقُولُ وَا رَأْسَاهُ فَقَالَ بَلْ أَنَا يَا عَائِشَةُ وَا رَأْسَاهُ ثُمَّ قَالَ مَا ضَرَّكِ لَوْ مِتِّ قَبْلِي فَقُمْتُ عَلَيْكِ فَغَسَّلْتُكِ وَكَفَّنْتُكِ وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ وَدَفَنْتُكِ.(10/113)
(حديث ابن مسعود الثابت في الصحيحين) قَالَ دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُوعَكُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، قَالَ أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ، قُلْتُ ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ قَالَ أَجَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا.
(10) جواز البكاء عند المريض ما لم يكن فيه تسخط أو جزع:
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قاَل َدَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَذْرِفَانِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ.
ظئرا: أي زوج المرضعة وهو معنى مستعار.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ أَوْ يَرْحَمُ.
(11) ما يقال عند المريض من الدعاء ونحوه:
ينبغي على من عاد مريضاً أن لا يقول إلا خيراً، لأن الملائكة تؤمن على قوله، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:(10/114)
(حديث أم سلمة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا حَضَرْتُمْ الْمَرِيضَ أَوْ الْمَيِّتَ فَقُولُوا خَيْرًا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ قَالَتْ فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سَلَمَةَ قَدْ مَاتَ قَالَ قُولِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلَهُ وَأَعْقِبْنِي مِنْهُ عُقْبَى حَسَنَةً قَالَتْ فَقُلْتُ فَأَعْقَبَنِي اللَّهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ لِي مِنْهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ويستحب للعائد أن يدعو للمريض بالرحمة، والمغفرة، والتطهير من الذنوب، والسلامة والعافية. وللنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعوات، ينبغي على العائد أن يدعو بها، لأنها صدرت من المعصوم الذي أوتي جوامع الكلم، والذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى. فمن دعائه:
أ- (لا بأس طهور إن شاء الله).
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ، قَالَ وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ قَالَ لَا بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَالَ لَهُ لَا بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ قُلْتُ طَهُورٌ كَلَّا بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ أَوْ تَثُورُ عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ تُزِيرُهُ الْقُبُورَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَعَمْ إِذًا.
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح:
قوله: (لا بأس) أي أن المرض يكفر الخطايا، فإن حصلت العافية فقد حصلت الفائدتان، وإلا حصل ربح التكفير.
وقوله: (طهور) هو خبر مبتدأ محذوف أي هو طهور لك من ذنوبك أي مطهرة (1).
وفي الحديث من الفوائد أنه ينبغي على المريض أن يقبل دعاء الناس له، و لا يتذمر من دعائهم له بالتطهير من الذنوب كما هو حال ذاك الأعرابي في الحديث.
ب- (اللهم اشف ... فلاناً) مرة - أو ثلاث مرار.
__________
(1). . فتح الباري (10/ 124)(10/115)
(حديث سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قَالَ تَشَكَّيْتُ بِمَكَّةَ شَكْوًا شَدِيدًا فَجَاءَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أَتْرُكُ مَالًا وَإِنِّي لَمْ أَتْرُكْ إِلَّا ابْنَةً وَاحِدَةً فَأُوصِي بِثُلُثَيْ مَالِي وَأَتْرُكُ الثُّلُثَ فَقَالَ لَا قُلْتُ فَأُوصِي بِالنِّصْفِ وَأَتْرُكُ النِّصْفَ قَالَ لَا قُلْتُ فَأُوصِي بِالثُّلُثِ وَأَتْرُكُ لَهَا الثُّلُثَيْنِ قَالَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ ثُمَّ مَسَحَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِي وَبَطْنِي ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا وَأَتْمِمْ لَهُ هِجْرَتَهُ فَمَا زِلْتُ أَجِدُ بَرْدَهُ عَلَى كَبِدِي فِيمَا يُخَالُ إِلَيَّ حَتَّى السَّاعَةِ.
(حديث سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى سَعْدٍ يَعُودُهُ بِمَكَّةَ فَبَكَى قَالَ مَا يُبْكِيكَ فَقَالَ قَدْ خَشِيتُ أَنْ أَمُوتَ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرْتُ مِنْهَا كَمَا مَاتَ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا ثَلَاثَ مِرَارٍ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي مَالًا كَثِيرًا وَإِنَّمَا يَرِثُنِي ابْنَتِي أَفَأُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ قَالَ لَا قَالَ فَبِالثُّلُثَيْنِ قَالَ لَا قَالَ فَالنِّصْفُ قَالَ لَا قَالَ فَالثُّلُثُ قَالَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّ صَدَقَتَكَ مِنْ مَالِكَ صَدَقَةٌ وَإِنَّ نَفَقَتَكَ عَلَى عِيَالِكَ صَدَقَةٌ وَإِنَّ مَا تَأْكُلُ امْرَأَتُكَ مِنْ مَالِكَ صَدَقَةٌ وَإِنَّكَ أَنْ تَدَعَ أَهْلَكَ بِخَيْرٍ أَوْ قَالَ بِعَيْشٍ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ وَقَالَ بِيَدِهِ.
قال ابن الجوزي: وفي قوله: (اللهم اشف سعداً) دليلٌ على استحباب الدعاء للمريض بالعافية (1).
ت- (أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك) سبع مرات.
__________
(1). كشف المشكل من حديث الصحيحين (1/ 233) رقم (164)(10/116)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ فَقَالَ عِنْدَهُ سَبْعَ مِرَارٍ أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَشْفِيَكَ إِلَّا عَافَاهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ.
ث- (اللهم اشف عبدك ينكأ لك عدواً، أو يمشي إلى جنازة [ورواية: الصلاة]).
(حديث ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا جَاءَ الرَّجُلُ يَعُودُ مَرِيضًا فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَكَ يَنْكَأُ لَكَ عَدُوًّا أَوْ يَمْشِي لَكَ إِلَى جَنَازَةٍ.
(حديث ابن عمروـ رضي الله عنهما ـ الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا جَاءَ الرَّجُلُ يَعُودُ مَرِيضًا فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَكَ يَنْكَأُ لَكَ عَدُوًّا أَوْ يَمْشِي لَكَ إِلَى صَلَاةٍ.
(12) وضع اليد على المريض:
يستحب للعائد أن يضع يده على جسد المريض ويدعو له، اقتداء بنبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد يكون لوضع اليد أثرٌ في تخفيف الألم أو إزالته بالكلية، ولكن لا يمكن الجزم بذلك لعدم ورود النصوص في ذلك الخصوص.
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح:
قال ابن بطال: في وضع اليد على المريض تأنيس له وتعرف لشدة مرضه ليدعو له بالعافية على حسب ما يبدو له منه، وربما رقاه بيده ومسح على ألمه بما ينتفع به العليل إذا كان العائد صالحاً. قلت [ابن حجر] وقد يكون العائد عارفاً بالعلاج فيعرف العلة فيصف له ما يناسبه (1). وقد جاء ذكر وضع يده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -الشريفة- في عدة مواضع. ففي حديث سعد بن أبي وقاص السابق: (ثم وضع يده على جبهته، ثم مسح يده على وجهي وبطني ثم قال: اللهم اشف سعداً .. الحديث). وعن عائشة-رضي الله عنها- قالت: (كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا عاد مريضاً يضع يده على المكان الذي يألم ثم يقول: بسم الله) (2).
(13) رقية المريض:
__________
(1). فتح الباري (10/ 126)
(2). قال ابن حجر في الفتح (10/ 126): أخرجه أبو يعلى بسند حسن.(10/117)
يستحب للعائد أن يرقي المريض، كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل، ولا سيما إن كان العائد من أهل التقى والصلاح، فإن رقيته أنفع من رقية غيره لصلاحه وتقواه. وقد رقى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعض المرضى من أهله وغيرهم، وأقر بعض أصحابه على رقاهم، نسوق منها ما يحضرنا، فمنها:
أ- الرقية بالمعوذات.
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا فَقَرَأَ فِيهِمَا قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
(حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) قَالَتْ
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ (1) عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ (2) فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْ يَدِي.
ب- الرقية بـ (فاتحة الكتاب).
__________
(1). النفث: أقل من التفل، لأن التفل لا يكون إلا معه شيءٌ من الريق والنفث: شبيه بالنفخ. قاله في لسان العرب (2/ 195) مادة: (نفث)
(2). قال الحافظ: والمراد بالمعوذات سورة قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، وجمع إما باعتبار أن أقل الجمع اثنان أو باعتبار أن المراد بالكلمات التي يقع بها من السورتين، ويحتمل أن المراد بالمعوذات هاتات السورتان مع سورة الإخلاص وأطلق ذلك تغليباً، وهذا هو المعتمد. فتح الباري (7/ 738)(10/118)
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا فِي سَفَرٍ فَمَرُّوا بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَاسْتَضَافُوهُمْ فَلَمْ يُضِيفُوهُمْ فَقَالُوا لَهُمْ هَلْ فِيكُمْ رَاقٍ فَإِنَّ سَيِّدَ الْحَيِّ لَدِيغٌ أَوْ مُصَابٌ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ نَعَمْ فَأَتَاهُ فَرَقَاهُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَبَرَأَ الرَّجُلُ فَأُعْطِيَ قَطِيعًا مِنْ غَنَمٍ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا وَقَالَ حَتَّى أَذْكُرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا رَقَيْتُ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَتَبَسَّمَ وَقَالَ وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ ثُمَّ قَالَ خُذُوا مِنْهُمْ وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ مَعَكُمْ.
ت- الرقية بـ (أذْهِب البأس، رب الناس، أشف وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقماً)
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا أَتَى مَرِيضًا أَوْ أُتِيَ بِهِ قَالَ أَذْهِبْ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ اشْفِ وَأَنْتَ الشَّافِي لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا.
ث-الرقية بـ (باسم الله أرقيك، من كل شيءٍ يؤذيك، من شر كل نفسٍ أو عين حاسدٍ الله يشفيك، باسم الله أرقيك).
(حديث أبي سعيد الثابت في صحيح مسلم) أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ اشْتَكَيْتَ؟ فَقَالَ نَعَمْ، قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ اللَّهُ يَشْفِيكَ بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ.
ج- الرقية بـ (بسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا يُشفى سقيمنا بإذن ربنا).
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ لِلْمَرِيضِ بِسْمِ اللَّهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا يُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا.(10/119)
(حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم) أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا اشْتَكَى الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ مِنْهُ أَوْ كَانَتْ بِهِ قَرْحَةٌ أَوْ جُرْحٌ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِصْبَعِهِ هَكَذَا وَوَضَعَ سُفْيَانُ سَبَّابَتَهُ بِالْأَرْضِ ثُمَّ رَفَعَهَا بِاسْمِ اللَّهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا لِيُشْفَى بِهِ سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا.
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
ومعنى الحديث: أنه يأخذ من ريق نفسه على أصبعه السبابة، ثم يضعها على التراب فيعلق بها منه شيء فيمسح به على الموضع الجريح أو العليل ويقول هذا الكلام في حال المسح والله أعلم (1).
{تنبيه}: يحرص بعض الناس عند زيارة المرضى على اصطحاب (باقة ورد) يقدمها للمريض، وبعضهم يكتب عليها عبارات وأمنيات بالشفاء العاجل ونحو هذا، وهذا عندهم أفضل ما يقدم للمريض. ومن المعلوم عند كثيرٍ من الناس أن هذا التقليد جاءنا من بلاد النصارى، الذي نُهينا عن التشبه بهم، والتشبه باليهود والنصارى محرم.
فعجيبٌ حال هؤلاء استبدلوا الدعاء للمريض بالتطهير والرحمة والمغفرة والعافية، بعبارات جوفاء، وأمنيات لا تقدم ولا تؤخر!. واستبدلوا الرقى الشرعية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية بباقة ورد قد تذبل بعد يوم أو يومين!. اللهم اهدنا صراطك المستقيم، غير مغضوب عليهم ولا ضآلين. آمين.
(14) تلقين المريض الشهادة إذا حضر أجله وإغماض عينيه والدعاء له إذا مات:
عندما يدنو أجل المريض وتظهر عليه علامات الموت، فإنه يستحب للعائد أن يذّكر المريض برحمة الله الواسعة ولا يقنطه منها، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ.
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
قال العلماء: معنى حسن الظن بالله تعالى: أن يظن أنه يرحمه ويعفو عنه (2).
ويستحب له -أيضاً- أن يلقنه الشهادة برفق ولين.
__________
(1). شرح صحيح مسلم. المجلد السابع (14/ 151)
(2). شرح مسلم للنووي. المجلد التاسع (17/ 176)(10/120)
فعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) (1).
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فإنَّهُ مَنْ كَانَ آخرُ كَلامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عِنْدَ المَوتِ دَخَلَ الجَنَّةَ يوماً مِنْ الدَهْرِ و إنْ أصَابَهُ قَبْلَ ذَلكَ مَا أصَابَه.
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
والأمر بهذا التلقين أمر ندب، وأجمع العلماء على هذا التلقين وكرهوا الإكثار عليه والموالاة لئلا يضجر بضيق حاله وشدة كربه فيكره ذلك بقلبه ويتكلم بما لا يليق، قالوا: وإذا قاله مرة لا يكرر عليه إلا أن يتكلم بعده بكلام آخر فيعاد التعريض به ليكون آخر كلامه (2).
فإذا مات أستحب لمن حضره أن يغمض عينيه ويدعو له، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث أم سلمة الثابت في صحيح مسلم) قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ ثُمَّ قَالَ إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ فَقَالَ لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ (3) وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ.
آداب اللباس:
آداب اللباس:
للباس آداب ينبغي لطالب العلم أن يحيط بها علماً وأن يتبعها حتى يكون متأسياً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهاك آداب اللباس جملةً وتفصيلا:
أولاً آداب اللباس جملةً:
(1) وجوب ستر العورة:
(2) استحباب لبس البياض:
(3) استحباب لبس الثياب الطيبة الجميلة:
__________
(1). رواه مسلم (916)، وأحمد (10610)، والترمذي (976)، والنسائي (1826)،وأبوداود (3117)، وابن ماجه (1445)
(2). شرح صحيح مسلم. المجلد الثالث (6/ 183)
(3) الغابرين: أي الباقين.(10/121)
(4) استحباب لبس القميص:
(5) استحباب إظهار النعمة في الملبس ونحوه:
(6) استحباب التواضع في الثياب:
(7) السنة تقصير لباس الرجل، وتطويل لباس المرأة:
(8) من السنة التيامن في اللباس ونحوه:
(9) ما يقال عند لبس الجديد:
(10) ذم التنعم:
(11) لبس العمامة:
(12) تحريم تشبه الرجال بالنساء، وتشبه النساء بالرجال:
(13) تحريم جر الثوب خيلاء:
(14) تحريم لباس الشهرة:
(15) تحريم ارتداء الملابس التي عليها صلبان أو تصاوير:
(16) تحريم ثياب الكفار:
(17) السنة في التنعل:
(18) آداب لبس النساء:
ثانيا آداب اللباس تفصيلا:
(1) وجوب ستر العورة:
امتن الله على عباده حيث سترهم بلباس حسيٍ، ثم أرشدهم إلى لباس آخر معنوي أعظم من اللباس الأول، قال تعالى: (يَابَنِيَ آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ * يَابَنِيَ آدَمَ لاَ يَفْتِنَنّكُمُ الشّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مّنَ الْجَنّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ إِنّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنّا جَعَلْنَا الشّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف 26: 27]}
قال ابن كثير-في تفسير هذه الآية-: يمتن الله على عباده بما جعل لهم من اللباس والريش، فاللباس ستر العورات وهي السوآت، والريش ما يتجمل به ظاهراً، فالأول من الضروريات والريش من التكملات والزيادات (1).
(حديث ابن عباس في صحيح مسلم) قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عُريانة وتقول: من يعيرني تِطوافاً؟ تجعله على فرجها. وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله فنزلت هذه الآية: "خذوا زينتكم عند كل مسجد".
و التِطواف (بكسر التاء).
{تنبيه}: هذا خطاب لجميع بني آدم وإن كان وارداً على سبب خاص، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
(حديث معاوية بن حيدة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك قيل: إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت أن لا يرينها أحد فلا يرينها قيل: إذا كان أحدنا خاليا؟ قال: الله أحق أن يستحيا منه من الناس.
__________
(1). تفسير القرآن العظيم. (2/ 217) ط. دار الكتب العلمية -بيروت -1418هـ.(10/122)
(احفظ عورتك) صنها عن العيون
(إلا من زوجتك) بالتاء لغة وبدونها جاء القرآن
(أو ما ملكت يمينك) أي و الأمة فقد حل لك وطؤها
(قيل إذا كان القوم بعضهم في بعض) كأب وجد وابن وابنة أو المراد المثل لمثله كرجل لرجل وأنثى لأنثى.
(قال إن استطعت أن لا يرينها أحداً فلا يرينها) أي اجتهد في حفظها ما استطعت وإن دعت ضرورة للكشف جاز بقدرها.
(قيل إذا كان أحدنا خالياً) أي في خلوة فما حكم ستر عورته حينئذ
(قال الله أحق أن يستحيا منه من الناس ... ) أي أوجب أن يستحيا منه من الناس، وهو تعالى وإن كان لا يحجبه شيء ويرى المستور كما يرى العاري لكن رعاية الأدب تقتضي الستر.
قال بعض أهل العلم: هذا إشارة إلى مقام المراقبة فإن العبد إذا امتنع عن كشف عورته حياء من الناس فلأن يستحيي من ربه المطلع عليه في كل حال وكل وقت أولى والداعي إلى المراقبة أمور أعظمها الحياء قيل إن إبراهيم بن أدهم صلى قاعداً ثم مد رجله فهتف به هاتف أهكذا تجالس الملوك فما مدها بعد أبداً وقال الحكيم من تعرى خالياً ولم يحتشم فهو عبد قلبه غافل عن الله لم يعلم بأن الله يرى علم اليقين ولذلك كان الصديق رضي الله تعالى عنه يقنع رأسه عند دخوله الخلاء حياء من الله تعالى وكان عثمان رضي الله تعالى عنه يغتسل في بيت مظلم حتى لا يرى عورة نفسه.
(حديث يعلى في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله حَييٌ سِتير يحبُ الحياءَ والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر.
(حديث عائشة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من امرأة تضَعُ ثيابها في غير بيت زوجها إلا هتكت السترَ بينها و بين الله.
وستر العورة من الآداب العظيمة التي أمر بها الإسلام، بل نُهي الرجال والنساء عن النظر إلى عورات بعضهم لما يترتب عليه من المفاسد، والشريعة جاءت بسد كل باب يفضي إلى الشر. والعورة هي ما يسوء الإنسان إخراجه، والنظر إليه؛ لأنها من العور وهو العيب، وكل شيء يسوؤك النظر إليه، فإن النظر إليه يعتبر من العيب، قاله ابن عثيمين (1).
__________
(1). الشرح الممتع (2/ 144)(10/123)
(حديث أبي سعيد الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ وَلَا الْمَرْأَةُ إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ وَلَا يُفْضِي الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَلَا تُفْضِي الْمَرْأَةُ إِلَى الْمَرْأَةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ (1).
(حديث الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قَالَ:
أَقْبَلْتُ بِحَجَرٍ أَحْمِلُهُ ثَقِيلٍ وَعَلَيَّ إِزَارٌ خَفِيفٌ قَالَ فَانْحَلَّ إِزَارِي وَمَعِيَ الْحَجَرُ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَضَعَهُ حَتَّى بَلَغْتُ بِهِ إِلَى مَوْضِعِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْجِعْ إِلَى ثَوْبِكَ فَخُذْهُ وَلَا تَمْشُوا عُرَاةً.
(حديث معاوية بن حيده الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا كَانَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ قَالَ إِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا يَرَيَنَّهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَيَنَّهَا قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا قَالَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنْ النَّاسِ.
وعورة الرجل التي أُمر بسترها ـ ماعدا عن زوجه وأمته ـ من السرة إلى الركبة. والمرأة كلها عورة ـ إلا عن زوجها ـ، وأما محارمها فلهم النظر إلى ما يظهر غالباً كالوجه، واليدين، والشعر، والرقبة ونحو ذلك. وعورتها مع بنات جنسها من السرة إلى الركبة.
مسألة: هل فخذ الرجل عورة؟
__________
(1). أي لا يضطجعان متجردين تحت ثوب واحد. قاله في تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي.(10/124)
الجواب: قالت اللجنة الدائمة: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن فخذ الرجل عورة، واستدلوا بأحاديث لا يخلو كل منها عن مقال في سنده من عدم اتصاله، أو ضعف في بعض الرواة، لكنها يشد بعضها بعضاً فينهض بمجموعها للاحتجاج به على المطلوب، ومن تلك الأحاديث ... ما رواه مالك في الموطأ وأحمد وأبو داود والترمذي من حديث جرهد الأسلمي -رضي الله عنه- قال: مر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليَّ بردة وقد انكشفت فخذي فقال: (غط فخذك فإن الفخذ عورة) حسنه الترمذي (1). وذهب جماعة إلى أن فخذ الرجل ليست عورة، واستدلوا بما رواه أنس -رضي الله عنه- أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حسر الإزار عن فخذه حتى أني لأنظر إلى بياض فخذه. رواه أحمد والبخاري وقال حديث أنس أسند، وحديث جرهد أحوط (2)، وقول الجمهور أحوط ولأن الأحاديث الأولى نص في الموضوع، وحديث أنس-رضي الله عنه- محتمل (3).
مسألة 2: تتعمد بعض النساء لبس بعض الملابس التي تُظهر مفاتنها وزينتها الباطنة، كأن تُظهر ظهرها أو فخذها أو جزء منه، أو تلبسُ ما يشفُ جسدها، أو ضيقاً يبرز مفاتنها. ويحتج بعضهن بأن العورة المأمور بسترها بين النساء تكون من السرة إلى الركبة، وإنهن إنما يلبسن ذلك في مجامع النساء فقط. فما الجواب عن ذلك؟
__________
(1). وصحح الألباني رواية أبي داود برقم (3389)
(2). انظر صحيح البخاري/ كتاب الصلاة/ باب: ما يذكر في الفخذ.
(3). فتوى اللجنة الدائمة رقم (2252) (6/ 165 - 167)(10/125)
الجواب: لا شك أن عورة المرأة مع المرأة تكون من السرة إلى الركبة، ولكن هذا مشروطٌ بالأمن من الفتنة، وواقع كثير من النساء اليوم أنهن تجاوزن الحد في ستر عوراتهن (1)، بل أدى الحال إلى افتتان بعض النساء ببعض، ولهن في ذلك قصص معلومة علمها من علمها وجهلها من جهلها. وليس مجمع النساء عذرٌ في لبس ما يحلو للمرأة لبسه، بل متى كان داعياً للفتنة ومحركاً للغرائز فإنه يحرم ولو كان ذلك بين أوساط النساء. وللشيخ ابن عثيمين كلامٌ في لبس الضيق من اللباس، يحسن بنا أن نذكره، فقال (2): لبس الملابس الضيقة التي تبين مفاتن المرأة وتبرز ما فيه الفتنة محرم، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (صنفان من أهل النار لم أرهما بعد، رجالٌ معهم سياط كأذناب البقر، يضربون بها الناس-يعني ظلماً وعدواناً-. ونساء كاسيات عاريات ما ئلات مميلات) (3). فقد فسر قوله: (كاسيات عاريات) بأنهن يلبسن ألبسة قصيرة لا تستر ما يجب ستره من العورة، وفُسر بأنهن يلبسن ألبسة تكون خفيفة لا تمنع من رؤية ما وراءها من بشرة المرأة، وفُسرت بأن يلبسن ملابس ضيقة فهي ساترة عن الرؤية لكنها مبدية لمفاتن المرأة، وعلى هذا فلا يجوز للمرأة أن تلبس هذه الملابس الضيقة إلا لمن يجوز لها إبداء عورتها عنده وهو زوجها فإنه ليس بين الزوج وزوجته عورة لقول الله تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين}، وقالت عائشة: (كنت أغتسل أنا والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من إناء واحد تختلف أيدينا فيه) (4). فالإنسان بينه وبين زوجته لا عورة بينهما، وأما بين المرأة والمحارم فإنه يجب عليها أن تستر عورتها، والضيق لا يجوز عند المحارم ... ولا عند النساء إذا كان ضيقاً شديداً يبين مفاتن المرأة (5).
__________
(1). وأخبارهن لا تسر المؤمن، وننزه أسماعكم وأبصاركم عن إيرادها، ومن أراد معرفة ذلك فليسأل النساء فعندهن الكثير من أخبارهن، والله المستعان.
(2). ويقاس عليه الملابس الشفافة، والعارية من باب أولى.
(3). رواه مسلم (2128)، وأحمد (8451)، ومالك (1694). وتمامه عند مسلم: (رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ... ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا).
(4). رواه البخاري (261)، ومسلم (316) وغيرهما.
(5). فتاوي الشيخ محمد بن عثيمين (2/ 825 - 826). ط. دار عالم الكتب - الرياض- الطبعة الأولى 1411هـ(10/126)
{تنبيه}: من الأدب مع الله -سبحانه وتعالى- أن يستتر الذي يريد غسلاً بشيء يستره ويواريه، وخصوصاً من كان في الأمكنة المكشوفة التي لا يحجبها شيء. فقد روى يعلى-رضي الله عنه- أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رأى رجلاً يغتسل بالبراز (1) بلا إزار، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الله عز وجل حيىٌ ستيرٌ يحبُ الحياءَ والسترَ، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر) (2). وفي حديث حكيم عن أبيه عن جده قال: ( ... قلت يا رسول الله: إذا كان أحدنا خالياً؟ قال: اللهُ أحقُ أن يستحيا منه من الناس) (3).
(2) استحباب لبس البياض:
(حديث ابن عباس الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمْ الْبَيَاضَ فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ وَإِنَّ خَيْرَ أَكْحَالِكُمُ الْإِثْمِدُ يَجْلُو الْبَصَرَ وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ.
وفي المقابل نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرجل عن لبس الثوب المعصفر والثوب المشبع بحمرة.
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ (4) فَقَالَ أَأُمُّكَ أَمَرَتْكَ بِهَذَا قُلْتُ أَغْسِلُهُمَا قَالَ بَلْ أَحْرِقْهُمَا.
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
قوله: (أأمك أمرتك بهذا) معناه أن هذا من لباس النساء وزيهن وأخلاقهن، وأما الأمر بإحراقهما فقيل هو عقوبة وتغليظ لزجره وزجر غيره عن مثل هذا الفعل، قاله النووي (5). وقد يكون النهي عن لبس المعصفر لأجل التشبه بالكفار، وهو أولى لما جاء في الحديث: ... (إن هذه ثياب الكفار فلا تلبسها).
(3) استحباب لبس الثياب الطيبة الجميلة:
__________
(1). البَرازُ، بالفتح: المكان الفضاء من الأرض البعيد الواسع، وإذا خرج الإنسان إلى ذلك الموضع قيل: قد برز يبرز بروزاً، أي خرج إلى البراز. والبراز، بالفتح أيضاً: الموضع الذي ليس به خمرٌ من شجر ولا غيره ... (لسان العرب 5/ 309) مادة: (برز)
(2). رواه أبو داود (4012) وصححه الألباني، ورواه أحمد (17509)، والنسائي (406)
(3). تقدم تخريجه.
(4). المعصفر: ما صبغ بصبغ أصفر اللون. وقال ابن حجر: غالب ما يصبغ بالعصفر يكون أحمر. (انظر فتح الباري 10/ 318)
(5). شرح مسلم. المجلد السابع (14/ 45)(10/127)
(حديث أنس في الصحيحين) قال: كان أحب الثياب إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحِبَرَة.
[الحِبَرَة] بُرْدٌ يماني من قطن، وكانت أفضلَ الثياب عندهم.
(حديث ابن مسعود في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر قيل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا و نعله حسنة قال: إن الله جميل يحب الجمال الكبر بَطَرُ الحقِ وغَمْطِ الناس.
الشاهد قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[جميل يحب الجمال] حين قيل له: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا و نعله حسنة.
(4) استحباب لبس القميص:
(حديث أم سلمة في صحيحي أبي داوود والترمذي) قالت: رضي الله تعالى عنها: كان أحب الثياب إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القميص.
(كان أحب الثياب إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) من جهة اللبس
(القميص) أي كانت نفسه تميل إلى لبسه أكثر من غيره من نحو رداء أو إزار لأنه أستر منهما وأيسر لاحتياجهما إلى حل وعقد بخلافه فهو أحبها إليه لبساً والحبرة أحبها إليه رداء فلا تدافع بين حديثيهما.
(5) استحباب إظهار النعمة في الملبس ونحوه:
يستحب لمن آتاه الله مالاً أن يظهر أثر نعمة الله عليه بلبس الجميل من الثياب من غير إسراف ولا مخيلة. ولا يشدد على نفسه، أو يبخل بماله، بل يلبس الجديد والجميل والنظيف من الثياب إظهاراً لنعمة الله عليه.
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ.
(حديث أَبِي الْأَحْوَصِ رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود والنسائي) قَالَ:
أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَوْبٍ دُونٍ (1) فَقَالَ أَلَكَ مَالٌ قَالَ نَعَمْ قَالَ مِنْ أَيِّ الْمَالِ قَالَ قَدْ آتَانِي اللَّهُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ قَالَ فَإِذَا آتَاكَ اللَّهُ مَالًا فَلْيُرَ أَثَرُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكَ وَكَرَامَتِهِ.
والناس في هذا الباب طرفان ووسط، فقومٌ شددوا على أنفسهم وقتروا عليها إما ديناً ـ بزعمهم ـ أو بخلاً. وقومٌ أفرطوا وجاوزوا الحد فأنفقوا الأموال الكثيرة، في ثيابٍ تُبلى وتخلق. وقومٌ وسط أظهروا نعمة الله عليهم في ملبسهم ومسكنهم من غير إسراف ولا مخيلة.
__________
(1). أي رديء أوحقير.(10/128)
(6) استحباب التواضع في الثياب:
(حديث عائشة في الصحيحين) أنها أخرجت كساءاً وإزاراً غليظاً فقالت: قُبِضَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذين.
(حديث أبي أُمامةَ في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: البذاذةُ من الإيمان.
(البذاذة) التقشف في الثياب و رثاثة الهيئة وترك الترفه وإدامة التزين والتنعم في البدن والملبس إيثاراً للخمول بين الناس.
(من الإيمان) أي من أخلاق أهل الإيمان إن قصد به تواضعاً وزهداً وكفاً للنفس عن الفخر والتكبر لا إن قصد إظهار الفقر وصيانة المال وإلا فليس من الإيمان من عرَّض النعمة للكفران وأعرض عن شكر المنعم المنان لأن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده.
فالحسن والقبح في أشباه هذا بحسب قصد القائم بها إنما الأعمال بالنيات.
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده.
(7) السنة تقصير لباس الرجل، وتطويل لباس المرأة:
فرَّقت الشريعة المحمدية بين لباس الرجل والمرأة في الطول والقصر، فحدت للرجل ما بين نصف ساقة إلى ما فوق الكعبين، وألزمت المرأة بستر قدميها فلا يظهر منه شيء. وذلك لأن بدن المرأة أو جزء منه فتنة للرجال فأُمرت بستره كله، وأما الرجال فأمروا برفع أثوابهم، كي لا يدخل الكبر والعجب والخيلاء إلى قلوبهم، مع ما في إرخاء الثوب من تنعم ورفاهية لا تتناسب مع طبع الرجال.
والعجيب أن كثيراً من الناس خالفوا السنة وقلبوا الأمر، فأطال الرجال ثيابهم حتى أصبحت تجر الأرض بل تكنسه!، وقصرت النساء من ثيابهن فبدت سوقهن، ومنهن من تجاوزن ذلك.
والآثار في هذا الباب كثيرةٌ جداً ومعلومة لخاصة الناس وعامتهم، ولكن منعت الشهوات والهوى المخالفين من اتباع الحق ولزومه، ونذكر ما يحضرنا هنا تذكيراً للمؤمنين، وزجراً للعاصين المخالفين -نسأل الله لنا ولهم الهداية والاستقامة على دينه-.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ مِنْ الْإِزَارِ فَفِي النَّارِ.(10/129)
(حديث أبي ذر الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مِرَارًا قَالَ أَبُو ذَرٍّ خَابُوا وَخَسِرُوا مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْمُسْبِلُ وَالْمَنَّانُ وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ وَمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ فِي النَّارِ يَقُولُ ثَلَاثًا لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا.
(حديث أُمَّ سَلَمَةَ رضي الله عنها الثابت في صحيح أبي داوود) أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ ذَكَرَ الْإِزَارَ فَالْمَرْأَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ تُرْخِي شِبْرًا قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ إِذًا يَنْكَشِفُ عَنْهَا قَالَ فَذِرَاعًا لَا تَزِيدُ عَلَيْهِ.
{تنبيه}: القصد من تطويل ثوب المرأة هو ستر القدمين، فلو كان ثوب المرأة لا يستر قدميها ولبست مع ذلك (شُراباً) أو نحو ذلك مما يستر جاز. قال ابن عثيمين: فإن ستر قدمي المرأة أمرٌ مشروع بل واجب عند كثير من أهل العلم، فالذي ينبغي للمرأة أن تستر قدميها إما بثوبٍ ضافٍ عليها وإما بلباس شراب أو كنادر أو شبهها (1).
__________
(1). فتاوى الشيخ ابن عثيمين. (2/ 838)(10/130)
{تنبيه2}: يحتج بعض الناس بفعل أبي بكر الصديق-رضي الله عنه-، وأن ثوبه كان يسترخي. و لاحجة في ذلك لأحد، بل إن الحجة قائمة عليهم. فعن ابن عمر-رضي الله عنهما- أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة. قال أبو بكر: ... يا رسول الله إن أحد شقَّي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لست ممن يصعنه خيلاء) (1). ونقول للمحتج نُبيح لك إرخاء ثوبك إذا توفرت فيك ثلاثة أمور: أولها: أن يكون أحد شقي إزارك يسترخي وليس من جميع جوانب الثوب. والثاني: أن تتعاهد ثوبك برفعه كلما سقط، كما كان أبو بكر -رضي الله عنه- يفعل، فيكون ذلك بغير اختيار منك. قال ابن حجر: عند أحمد [أي في رواية عند أحمد]: (إن إزاري يسترخي أحياناً) [قال]: فكأن شده كان ينحل إذا تحرك بمشي أوغيره بغير اختياره، فإذا كان محافظاً عليه لا يسترخي لأنه كلما كاد يسترخي شده. اهـ (2). والثالث: أن يشهد لك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنك ممن لا يفعله خيلاء!. وهذا الأخير منتفٍ الآن، ولا سبيل إليه.
{تنبيه}: جر الثوب على ثلاثة أقسام:
الأول: أن يكون للخيلاء. وهذا لا ينظر الله إليه يوم القيامة.
الثاني: أن يكون عن قصد وعلى وجه دائم، وليس خيلاء إنما تبعٌ لعادة الناس. فهذا ينطبق عليه قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار) (3).
الثالث: أن يكون لعارض طاريء، ولم يكن فيه خيلاء. وهذا الأخير لا بأس به لوقوعه من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما خسفت الشمس: (فقام يجر ثوبه مستعجلاً حتى أتى ... المسجد) (4). قال ابن حجر: فيه أن الجر إذا كان بسبب الإسراع لا يدخل في النهي ... اهـ (5). ولوقوعه من أبي بكر الصديق-رضي الله عنه- كما مر معنا (6).
(8) من السنة التيامن في اللباس ونحوه:
والأصل في ذلك حديث عائشة الآتي:
__________
(1). رواه البخاري (5784) واللفظ له، ومسلم (2085)، وأحمد (5328)، والترمذي (1730)، والنسائي (5335)، وأبو داود (4085)، وابن ماجه (3569)، ومالك (16696)
(2). فتح الباري (10/ 266)
(3).رواه البخاري (5787)،وأحمد (9064)، والنسائي (5330).
(4). رواه البخاري (5785)، وأحمد (19877)، والنسائي (1502)
(5). فتح الباري (10/ 267)
(6). هذا ملخص ما ذكره الشيخ: محمد بن الصالح العثيمين في شرحه لكتاب اللباس من صحيح البخاري (شريط رقم 2 وجه أ)(10/131)
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ.
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
هذه قاعدة مستمرة في الشرع، وهي إنما كان من باب التكريم والتشريف، كلبس الثوب، والسراويل، والخف، ودخول المسجد، والسواك، والاكتحال، وتقليم الأظافر، وقص الشارب، وترجيل الشعر وهو مشطه، ونتف الإبط، وحلق الرأس، والسلام من الصلاة، وغسل أعضاء الطهارة، والخروج من الخلاء، والأكل والشرب، والمصافحة واستلام الحجر الأسود، وغير ذلك مما هو في معناه يستحب التيامن فيه. وأما ما كان بضده كدخول الخلاء، والخروج من المسجد، والامتخاط، والاستنجاء، وخلع الثوب، والسرواويل، والخف وما أشبه ذلك فيستحب التياسر فيه، وذلك كله بكرامة اليمين وشرفها والله أعلم (1).
(9) ما يقال عند لبس الجديد:
أُثر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أدعية كان يقولها إذا لبس جديداً منها:
أ- (اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه أسألك من خيره وخير ما صُنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له).
(حديث أبي سعيد الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا اسْتَجَدَّ ثَوْبًا سَمَّاهُ بِاسْمِهِ إِمَّا قَمِيصًا أَوْ عِمَامَةً ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ كَسَوْتَنِيهِ أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِهِ وَخَيْرِ مَا صُنِعَ لَهُ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ.
ب- (الحمد لله الذي كساني هذا الثوب ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غُفر له ما تقدم من ذنبه).
(حديث معاذ بن أنس الجُهَنِي الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيَّ ... - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ أَكَلَ طَعَامًا ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا الطَّعَامَ وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي هَذَا الثَّوْبَ وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.
ويستحب أن يُقال لمن لبس جديداً:
أ- (البس جديداً، وعش حميداً، ومت شهيداً):
__________
(1). شرح صحيح مسلم. المجلد الثاني (3/ 131)(10/132)
(حديث ابن عمر الثابت في صحيح ابن ماجة) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى عَلَى عُمَرَ قَمِيصًا أَبْيَضَ فَقَالَ ثَوْبُكَ هَذَا غَسِيلٌ أَمْ جَدِيدٌ قَالَ لَا بَلْ غَسِيلٌ قَالَ الْبَسْ جَدِيدًا وَعِشْ حَمِيدًا وَمُتْ شَهِيدًا.
وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (البس جديداً): صيغة أمر أريد به الدعاء بأن يرزقه الله الجديد (1).
ب- (تُبْلي ويُخلفُ الله تعالى):
(حديث أمِّ خالدٍ بِنتِ سعيد بن العاصِ الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أُتِيَ بِكسوةٍ فِيهَا خميِصةٌ صغيرةٌ فقالَ: مَنْ ترونَ أحقَّ بهذهِ؟ فسكَتََ القومُ فقالَ: ائتُوني بأمِّ خالدٍ، فأُتِيَ بِهَا, فألْبَسَهَا إيَّاهَا, ثمَّ قالَ: أبْلِي وأَخْلِقِي مرَّتيِن.
قال أبو نضرة في حديث أبي سعيد الخدري-السابق-: فكان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا لبس أحدهم ثوباً جديداً قيل له: تُبْلي ويُخْلفٌ اللهُ تعالى (2).
{تنبيه}: يجب أن نستحضر سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التيامن، وهنا يستحب تقديم الجهة اليمنى عند اللبس واليسرى عند النزع.
(10) ذم التنعم:
(حديث معاذ في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إياك و التنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين.
) إياك والتنعم فإن عباد اللّه ليسوا بالمتنعمين) لأن التنعم بالمباح وإن كان جائزاً لكنه يوجب الأنس به ثم إن هذا محمول على المبالغة في التنعم والمداومة على قصده.
(11) لبس العمامة:
(حديث جابر في صحيح الترمذي) قال دخل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة يوم الفتح وعليه عمامةٌ سوداء.
(حديث ابن عمر في صحيح الترمذي) قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أعتم سدَلَ عِمامته بين كتفيه.
(12) تحريم تشبه الرجال بالنساء، وتشبه النساء بالرجال:
وفيه وعيدٌ شديد، ولعن من الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكيد، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث ابن عباس في صحيح البخاري) قَالَ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ.
__________
(1). شرح ابن ماجه للسندي ()
(2). رواه أبو داود (4020) وهو تتمة لحديث أبي سعيد الخدري الذي سبق ذكره.(10/133)
{تنبيه}: والتشبه قد يكون في اللباس، وقد يكون في الكلام، وقد يكون في المشي ونحو ذلك. فمتى تعاطى الرجل ما هو من خصائص النساء في مشيهن أو كلامهن أو لبسهن فقد دخل في اللعن، أو متى تعاطت المرأة ما هو من خصائص الرجل في مشيهم أو كلامهم أو لباسهم فقد دخلت في اللعن.
مسألة: هل يدخل في الذم واللعن إذا كان ذلك التشبه من أصل الخلقة؟
الجواب:
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح:
وأما من كان ذلك من أصل خلقته فإنما يؤمر بتكلف تركه والإدمان على ذلك بالتدريج، فإن لم يفعل وتمادى دخله الذم، ولا سيما إن بدا منه ما يدل على الرضا به، وأخذ هذا واضح من لفظ المتشبهين (1).
(13) تحريم جر الثوب خيلاء:
توعد الله من جر ثوبه تكبراً وترفعاً أن لا ينظر إليه في يومٍ هو أحوج ما يكون فيه إلى رب العالمين، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّ أَحَدَ شِقَّيْ ثَوْبِي يَسْتَرْخِي إِلَّا أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّكَ لَسْتَ تَصْنَعُ ذَلِكَ خُيَلَاءَ.
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ (2) إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
والأحاديث كما ترى مصرحةٌ بتحريم جر الثوب تكبراً وترفعاً على الناس، وذلك لأن التكبر من صفات الله -عز وجل- وهي صفة كمال له -سبحانه-، ولا ينبغي لمخلوق أن يكون هذا شأنه، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
__________
(1). فتح الباري (10/ 345)
(2). الجمة: بالضم: مجتمع الرأس وهي أكثر من الوفرة. وفي الحديث: كان لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُمةٌ جعدةٌ؛ الجمة من شعر الرأس: ما سقط على المنكبين. (لسان العرب 12/ 107) مادة (جمم)(10/134)
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْعِزُّ إِزَارُهُ وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ فَمَنْ يُنَازِعُنِي عَذَّبْتُهُ.
(حديث علي الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ الِعزَ إِزَارِي وَالْكِبْرِيَاءَ رِدَائِي فَمَنْ نَازَعَنِي فِيهِمَا عَذَّبْتُهُ.
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
ومعنى (ينازعني): يتخلق بذلك فيصير في معنى المشارك، وهذا وعيدٌ شديد في الكبر مصرح بتحريمه (1).
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ما من رجل يتعاظم في نفسه و يختال في مشيته إلا لقي الله تعالى و هو عليه غضبان.
{تنبيه}: الثوب الحسن نفيساً أو غير نفيس، لا يُعد من الكبر الذي تُوعد صاحبه، والذم يقع على من قام في قلبه الكبر، وتبخترَ وبطرَ معجباً بنفسه وهيئته فهذا المذموم.
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح:
والذي يجتمع من الأدلة أن من قصد بالملبوس الحسن إظهار نعمة الله عليه مستحضراً لها شاكراً عليها غير محتقر لمن ليس له مثله، لا يضره ما لبس من المباحات ولو كان في غاية النفاسة. ففي صحيح مسلم عن ابن مسعود: (أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة، فقال: إن الله جميلٌ يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس) (2)، (3).
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
ويستنبط من سياق الأحاديث (4) أن التقييد بالجر خرج للغالب، وأن البطر والتبختر مذموم ولو لمن شمر ثوبه (5).
(14) تحريم لباس الشهرة:
يتسابق كثيرٌ من الناس ـ وخصوصاً النساء ـ إلى ارتداء الملابس النفيسة بُغية أن يرفع الناس أبصارهم إليها، واشتهارها بينهم، مع الترفع والاختيال والتكبر عليهم، وهذا فعلٌ مذموم، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
__________
(1). شرح صحيح مسلم. المجلد الثامن (16/ 148 - 149)
(2). رواه مسلم (91)، وأحمد (3779)
(3). فتح الباري (10/ 271)
(4). يريد بذلك الأحاديث التي وردت فيمن جر ثوبه خيلاء.
(5). فتح الباري (10/ 271)(10/135)
(حديث ابن عمر في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ فِي الدُّنْيَا أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ أَلْهَبَ فِيهِ نَارًا.
قال ابن الأثير: الشهرة ظهور الشيء والمراد أن ثوبه يشتهر بين الناس لمخالفة لونه لألوان ثيابهم فيرفع الناس إليه أبصارهم ويختال عليهم بالعجب والتكبر ... [و] قال ابن رسلان: لأنه لبس الشهرة في الدنيا ليعز به ويفتخر على غيره ويلبسه الله يوم القيامة ثوباً يشتهر مذلته واحتقاره بينهم عقوبة له، والعقوبة من جنس العمل ... وقوله: (ثوب مذلة) أي ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة، والمراد به ثوب يوجب ذلته يوم القيامة كما لبس في الدنيا ثوباً يتعزز به على الناس ويترفع عليهم، قاله في عون المعبود (1).
(من لبس ثوب شهرة) الشهرة ظهور الشيء في شنعة بحيث يشتهر به
(ألبسه اللّه يوم القيامة ثوب مذلة) ثوب مذلة أي يشمله بالذل كما يشمل الثوب البدن في ذلك الجمع الأعظم بأن يصغره في العيون ويحقره في القلوب لأنه لبس شهوة الدنيا ليفتخر بها على غيره.
(ثم يلهب فيه النار) عقوبة له بنقيض فعله والجزاء من جنس العمل فأذله اللّه كما عاقب من أطال ثوبه خيلاء بأن خسف به فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
{تنبيه}: ثوب الشهر ليس مختصاً بنفيس الثياب، بل كل ثوب ـ ولو كان حقيراً ـ ولكنه يؤدي إلى الشهرة، وكان غرض اللابس اشتهار ذلك بين الناس فهو ثوب شهرة، كمن يلبس رديء الثياب وحقيرها ليعتقد الناس فيه الزهد والورع وما أشبه ذلك. قال ابن تيمية: وتكره الشهرة من الثياب، وهو المترفع الخارج عن العادة، والمنخفض الخارج عن العادة؛ فإن السلف كانوا يكرهون الشهرتين، المترفع والمتخفض، وفي الحديث: (من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة). وخيار الأمور أوساطها (2).
(15) تحريم ارتداء الملابس التي عليها صلبان أو تصاوير:
والمقصود بالصلبان ما فيها صورة الصليب، والمقصود بالصور التي فيها الروح. ولقد أنكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على عائشة -أم المؤمنين -رضي الله عنها- عندما اتخذت له وسادة فيها صورة من ذوات الأرواح.
__________
(1). بشرح سنن أبي داود. المجلد السادس (11/ 50 - 51) بتصرف يسير.
(2). الفتاوى (22/ 138)(10/136)
(حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الثابت في الصحيحين) أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْبَابِ فَلَمْ يَدْخُلْ فَقُلْتُ أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِمَّا أَذْنَبْتُ، قَالَ مَا هَذِهِ النُّمْرُقَةُ
؟ قُلْتُ لِتَجْلِسَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا، قَالَ: إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ الصُّورَةُ.
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
قال العلماء: سبب امتناعهم [أي الملائكة] من بيت فيه صورة كونها معصية فاحشة، وفيها مضاهاة لخلق الله تعالى، وبعضها في صورة ما يعبد من دون الله تعالى (1).
(حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَتْرُكُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصَالِيبُ إِلَّا نَقَضَهُ.
مما سبق يتضح لنا جلياً تحريم لبس ما فيه تصاوير من ذوات الأرواح أو الصلبان، ومن أُبتلي بشيءٍ من ذلك فليتق الله وليطمسها ويغير من حالها، ثم إن شاء فليتخذها وينتفع بها، كما فعلت عائشة -رضي الله عنها- وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الثابت في الصحيحين) قَالَتْ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ سَفَرٍ وَقَدْ سَتَرْتُ بِقِرَامٍ لِي عَلَى سَهْوَةٍ لِي فِيهَا تَمَاثِيلُ فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَتَكَهُ وَقَالَ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ قَالَتْ فَجَعَلْنَاهُ وِسَادَةً أَوْ وِسَادَتَيْنِ.
مسألة: هل تصح صلاة من صلى بلباس فيه تصاوير أو صلبان؟
__________
(1). شرح مسلم. المجلد السابع (14/ 69)(10/137)
الجواب: قالت اللجنة الدائمة في إحدى فتاويها: لا يجوز له أن يصلي في ملابس فيها صور ذوات الأرواح من إنسان أو طيور أو أنعام أو غيرها من ذوات الأرواح، ولا يجوز للمسلم لبسها في غير الصلاة، وتصح صلاة من صلى في ثوب فيه صور مع الإثم في حق من علم الحكم الشرعي ... [وفي جواب آخر عن لبس الساعة أم صليب قالت:] لا يجوز لبس الساعة أم صيلب لا في الصلاة ولا غيرها حتى يزال الصليب بحك أو بوية تستره، لكن لو صلى وهي عليه فصلاته صحيحة. والواجب عليه البدار بإزالة الصليب؛ لأنه من شعار النصارى، ولا يجوز للمسلم أن يتشبه بهم (1).
(16) تحريم ثياب الكفار:
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلم) قال: رأى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليَّ ثوبين مُعَصْفَرين فقال: إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها، قلت أغسلها؟ قال: لا أحرقها.
(حديث ابن عمر في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من تشبه بقوم فهو منهم
(من تشبه بقوم) أي تزيا في ظاهره بزيهم وفي تعرفه بفعلهم وفي تخلقه بخلقهم وسار بسيرتهم وهديهم في ملبسهم وبعض أفعالهم أي وكان التشبه بحق قد طابق فيه الظاهر الباطن.
(فهو منهم) قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: هذا الحديث أقل أحواله التحريم.
(17) السنة في التنعل:
أن تُدخل الرجل اليمنى أولاً ثم تليها اليسرى، وعند خلعهما اليسرى أولاً ثم اليمنى، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيَمِينِ وَإِذَا نَزَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ لِيَكُنْ الْيُمْنَى أَوَّلَهُمَا تُنْعَلُ وَآخِرَهُمَا تُنْزَعُ.
وكُره للمسلم أن يمشي في نعل واحدة، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا يَمْشِي أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ لِيُحْفِهِمَا جَمِيعًا أَوْ لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا انْقَطَعَ شِسْعُ أَحَدِكُمْ فَلَا يَمْشِ فِي الْأُخْرَى حَتَّى يُصْلِحَهَا.
__________
(1). فتاوي اللجنة الدائمة رقم (5611) (6/ 179)، ورقم (2615) (6/ 183)(10/138)
وليعلم أن جميع ما ذكر على وجه الاستحباب لا الوجوب، فمن عرض له عارض أو انقطع نعله أو خفه فليقف حتى يصلح نعله أو يخلع الأخرى ويكمل سيره، ولا ينبغي لمؤمن أن يخالف نهي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولو كان الأمر كراهة لا تصل إلى التحريم، فليعود المرء نفسه على سلوك هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظاهراً وباطناً، لينال شرف الاتباع الحقيقي. ثم اعلم أن العلماء ذكروا عللاً لنهي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المشي في نعل واحدة. قال النووي: قال العلماء: وسببه أن ذلك تشويه ومثلة ومخالف للوقار، ولأن المنتعلة تصير أرفع من الأخرى فيتعسر مشيه وربما كان سبباً للعثار (1) وغير ذلك.
مسألة: ما هي علة النهي عن المشي في نعلٍ واحدة؟
العلة لأنها مشية الشيطان بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَمْشِي فِي النَّعْلَ الْوَاحِدَةِ.
{تنبيه}: من السنة الاحتفاء ـ أحياناً ـ أي المشي حافياً.
(حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُنَا أَنْ نَحْتَفِيَ أَحْيَانًا.
وفي الاحتفاء كسرٌ لما اعتاده المرء من التنعم الحاصل بالمداومة على التنعل.
(18) آداب لبس النساء:
فصل الخطاب في آداب لبس النساء يكون في ارتياد الحجاب الشرعي الذي فرضه الله تعالى عليهن ستراُ لهنّ وحفاظاً عليهنّ.
وإليك بعض فضائل الحجاب الشرعي:
(1) الحجاب طاعةٌ لله تعالى ولرسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد أوجب الله تعالى طاعته وطاعة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً مّبِيناً) [سورة: الأحزاب - الآية: 36]
الشاهد قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ]
فأعلم الله تعالى أنه لا اختيار على ما قضاه الله ورسوله.
__________
(1). شرح صحيح مسلم. المجلد السابع (14/ 62)(10/139)
وقد أمر الله تعالى بالحجاب فقال تعالى: (وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ عَلَىَ جُيُوبِهِنّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنّ أَوْ آبَآئِهِنّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنّ أَوْ أَبْنَآئِهِنّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنّ أَوْ إِخْوَانِهِنّ أَوْ بَنِيَ إِخْوَانِهِنّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنّ أَوْ نِسَآئِهِنّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنّ أَوِ التّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرّجَالِ أَوِ الطّفْلِ الّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىَ عَوْرَاتِ النّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنّ وَتُوبُوَاْ إِلَى اللّهِ جَمِيعاً أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ) [سورة: النور - الآية: 31]
الشاهد قوله تعالى [وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ عَلَىَ جُيُوبِهِنّ]
(وليضربن بخمرهن على جيوبهن) أي يسترن الرؤوس والأعناق والصدور بالمقانع، والخُمُر جمع خمار، وهو ما تغطي به المرأة رأسها، ومنه اختمرت المرأة، والجيوب: جمع جيب، وهو موضع القطع من الدرع والقميص،
قال المفسرون: إن نساء الجاهلية كن يسدلن خمرهن من خلفهن، وكانت جيوبهن من قدام واسعة.
وقال تعالى: (يَأَيّهَا النّبِيّ قُل لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنّ مِن جَلاَبِيبِهِنّ ذَلِكَ أَدْنَىَ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً) [سورة: الأحزاب - الآية: 59]
(يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن) يقول تعالى آمرا رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسليما أن يأمر النساء المؤمنات المسلمات - خاصة أزواجه وبناته لشرفهن - بأن يدنين عليهم من جلابيبهن ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية وسمات الإماء والجلباب هو الملاءة التي تشتمل بها المرأة أي يرخين بعضها على الوجوه إذا خرجن لحاجتهن إلا عينا واحدة (ذلك أدنى) أقرب إلى (أن يعرفن) بأنهن حرائر (فلا يؤذين) بالتعرض لهن بخلاف الإماء فلا يغطين وجوههن فكان المنافقون يتعرضون لهن (وكان الله غفورا) لما سلف منهن لترك الستر (رحيما) بهن إذ سترهن
(2) الحجاب إيمان:(10/140)
لأن الله تعالى لم يخاطب به إلا المؤمنات لقوله تعالى (وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ عَلَىَ جُيُوبِهِنّ) [سورة: النور - الآية: 31]
وقال تعالى: (يَأَيّهَا النّبِيّ قُل لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنّ مِن جَلاَبِيبِهِنّ ذَلِكَ أَدْنَىَ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً) [سورة: الأحزاب - الآية: 59]
(3) الحجاب طهارة:
قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ ً) [سورة: الأحزاب - الآية: 53]
الشاهد قوله تعالى: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ ً) [الأحزاب / 53]
فبين الله تعالى أن الحجاب طهارةٌ لقلوب المؤمنين والمؤمنات.
و آية الحجاب هذه مما وافق تنزيلها قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما ثبت ذلك في الصحيحين عنه أنه قال وافقت ربي عز وجل في ثلات قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فأنزل الله تعالى "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلي "وقلت يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو حجبتهن فأنزل الله آية الحجاب وقلت لأزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما تمالأن عليه في الغيرة "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن "فنزلت كذلك.
(4) الحجاب عفة:
لقوله تعالى يَأَيّهَا النّبِيّ قُل لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنّ مِن جَلاَبِيبِهِنّ ذَلِكَ أَدْنَىَ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً) [سورة: الأحزاب - الآية: 59]
الشاهد قوله تعالى: (ذَلِكَ أَدْنَىَ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ) أي ذلك أحرى أن يعرفن بأنهن عفيفات بلبسهن الحجاب، (فَلاَ يُؤْذَيْنَ) أي لا يتعرضُ لهن الفساق بأذى من قولٍ أو فعل.
(5) الحجاب ستر:
قال تعالى: (يَابَنِيَ آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ) [سورة: الأعراف - الآية: 26](10/141)
[*] قال عبد الرحمن بن أسلم: يتقي فيواري عورته، فذاك لباس التقوى، ولذلك تجد وظيفة اللباس عند من لا يتقون الله تعالى ولا يستحون منه كعامة الغربيين مثلاً لا يتجاوز غاية الزينة والرياش، وأما المؤمنون المتقون فإنهم يحرصون على اللباس أولاً لستر العورة التي يستحي من إظهارها ثم بعد ذلك لهم سعة في إظهار الزينة والتجمل.
(حديث يعلى بن أمية في صحيحي أبي داوود والنسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله حييٌ سِتِّير يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر.
[*] شروط الحجاب الشرعي:
للحجاب الشرعي شروطٌ ثمانية هي:
(1) استيعاب جميع البدن حتى الوجه على الراجح
(2) أن لا يكون زينةً في نفسه
(3) أن يكون صفيقاً لا يشف
(4) أن يكون فضفاضاً لا يصف.
(5) أن لا يكون مُبخراً مطيباً
(6) أن لا يشبه لباس الرجل
(7) أن لا يشبه لباس الكافرات
(8) أن لا يكون لباس شهرة
وإليك تفصيل ذلك:
[الشرط الأول] استيعاب جميع البدن حتى الوجه على الراجح
قال تعالى: (يَأَيّهَا النّبِيّ قُل لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنّ مِن جَلاَبِيبِهِنّ ذَلِكَ أَدْنَىَ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً) [سورة: الأحزاب - الآية: 59]
الشاهد قوله تعالى [يَأَيّهَا النّبِيّ قُل لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنّ مِن جَلاَبِيبِهِنّ]
والجلباب: ثوبٌ أكبر من الخمار تستر به جميع بدنها حتى وجهها إلا ما ترى به الطريق.
{تنبيه}: ممن قال أن المقصود بقوله تعالى [يُدْنِينَ عَلَيْهِنّ مِن جَلاَبِيبِهِنّ] هو ستر جميع البدن حتى الوجه إلا ما ترى به الطريق جملةٌ من الأئمة منهم الإمام الطبري والقرطبي وابن كثير والرازي والزمخشري والنسفي وابن حبان، وجلال الدين المحليّ وجلال الدين السيوطي والشنقيطي وعبد الرحمن بن ناصر السعدي وغيرهم.
وقال تعالى: (وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ عَلَىَ جُيُوبِهِنّ)
الشاهد قوله تعالى [وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ عَلَىَ جُيُوبِهِنّ]
[*] قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [الخُمُر] التي تغطي الرأس والوجه والعنق، والجلابيب التي تسدل من فوق الرؤوس حتى لا يظهر من لا بسها إلا العينان.(10/142)
(حديث ابن مسعود في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان.
الشاهد قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[المرأة عورة] وهوقولٌ عام يشمل جميع البدن حتى وجهها.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: كل شيءٍ منها عورة حتى ظفرها.
(حديث ابن عمر في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ولا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القُفازين)
الشاهد قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[ولا تنتقب المرأة المحرمة] هذا دليلٌ واضح على لبس النقاب في غير الإحرام لأنه من محظورات الإحرام.
(حديث ابن عمر في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة فقالت أم سلمة: يا رسول اللّه فكيف تصنع النساء بذيولهن قال: يرخين شبراً قالت: إذن تنكشف أقدامهن قال: فترخيه ذراعاً لا يزدن عليه.
قال الشيخ ابن عثيمين حفظه الله تعالى: في الحديث دليل على وجوب ستر قدم المرأة وأنه معلوم عند نساء الصحابة رضي الله تعالى عنهم، والقدم أقل فتنة من الوجه والكفين اتفاقا، وعليه فيجب ستر الوجه من باب أولى.
[الشرط الثاني] أن لا يكون زينةً في نفسه
لقوله تعالى: (وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ عَلَىَ جُيُوبِهِنّ)
[النور /31]
[*] قال العلامة الألباني حفظه الله تعالى: المقصود من الأمر بالجلباب سترُ زينة المرأة فلا يعقل حينئذٍ أن يكون الجلباب نفسه زينة.
[الشرط الثالث]: أن يكون صفيقاً لا يشف:
وذلك لأن الستر لا يتحقق إلا بالصفيق، أما الشفاف فإنه يزيد المرأة فتنةً وزينة
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: صنفان من أهل النار لم أرهما: رجالٌ معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، و نساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ مائلاتٌ مميلاتٌ رءوسهُن كأسنمةِ البُخت المائلة لا يدخلن الجنة و لا يجدن ريحها و إن ريحها ليوجد من مسيرة كذا و كذا.
الشاهد قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[و نساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ مائلاتٌ مميلاتٌ رءوسهُن كأسنمةِ البُخت المائلة لا يدخلن الجنة و لا يجدن ريحها و إن ريحها ليوجد من مسيرة كذا و كذا]
(ونساء كاسيات) في الحقيقة
(عاريات) في المعنى لأنهن يلبسن ثياباً رقاقاً يصف البشرة، يسترن بعض بدنهن ويكشفن بعضه إظهاراً للجمال(10/143)
(مائلاتٌ مميلاتٌ) مائلات متبخترات في مشيتهن مميلات أكتافهن وأكفالهن، أو مائلات للرجال مميلات قلوبهم إلى الفساد بهم بما يبدين من زينتهن.
(رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة) أي يُعَظِّمْنَ رؤوسهن بالخُمُرِ والعمائم التي يلففنها على رؤوسهن حتى تشبه أسنمة الإبل
(لا يدخلن الجنة) مع الفائزين السابقين أو مطلقاً إن استحللن.
[الشرط الرابع]: أن يكون فضفاضاً لا يصف.
وذلك لأن الغرض من الثياب رفع الفتنة، واللباسُ الضيقة يحصل بها الفتنة لأنها وإن كانت تستر لون البشرة إلا أنها تصف حجم الجسم أو بعضه.
(حديث أسامة بن زيد في المسند) قال: كساني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُبطيةً كثيفةً مما أهداها له دحيةُ الكلبي فكسوتها امرأتي فقال: ما لك لم تلبس القُبطية؟ قلت كسوتها امرأتي. فقال: مُرْها فلتجعل تحتها غِلاله فإني أخافُ أن تصف حجم عِظامها.
[الشرط الخامس أن لا يكون مبخراً]:
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة.
(أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة) فيه حرمة التطيب على مريدة الخروج إلى المسجد لما فيه من تحريك داعية شهوة الرجال.
(حديث أبي موسى في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية و كل عين زانية.
(أيما امرأة استعطرت) أي استعملت العطر أي الطيب يعني ما يظهر ريحه منه
(ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها) أي بقصد ذلك
(فهي زانية) أي كالزانية في حصول الإثم وإن تفاوت لأن فاعل السبب كفاعل المسبب قال الطيبي: شبه خروجها من بيتها متطيبة مهيجة لشهوات الرجال التي هي بمنزلة رائد الزنا بالزنا مبالغة وتهديداً وتشديداً عليها
(وكل عين زانية) أي كل عين نظرت إلى محرم من امرأة أو رجل فقد حصل لها حظها من الزنا إذ هو حظها منه وأخذ بعض المالكية من الحديث حرمة التلذذ بشم طيب أجنبية لأن اللّه إذا حرم شيئاً زجرت الشريعة عما يضارعه مضارعة قريبة وقد بالغ بعض السلف في ذلك حتى كان ابن عمر رضي اللّه عنه ينهى عن القعود بمحل امرأة قامت عنه حتى يبرد.
[الشرط السادس أن لا يشبه لبس الرجل]:
(حديث ابن عباس في صحيح البخاري) قال لعن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال.
[الشرط السابع أن لا يشبه لبس الكافرات]:(10/144)
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلم) قال: رأى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليَّ ثوبين مُعَصْفَرين فقال: إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها، قلت أغسلها؟ قال: لا أحرقها.
(حديث ابن عمر في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من تشبه بقوم فهو منهم.
(من تشبه بقوم) أي تزيا في ظاهره بزيهم وفي تعرفه بفعلهم وفي تخلقه بخلقهم وسار بسيرتهم وهديهم في ملبسهم وبعض أفعالهم أي وكان التشبه بحق قد طابق فيه الظاهر الباطن
(فهو منهم) قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: هذا الحديث أقل أحواله التحريم
[الشرط الثامن أن لا يكون لبس شهرة]:
(حديث ابن عمر في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من لبس ثوبَ شُهْرة ألبسه الله يوم القيامة ثوب مَذَلةٍ ثم يُلْهِبُ فيه النار.
(من لبس ثوب شهرة) الشهرة ظهور الشيء في شنعة بحيث يشتهر به.
(ألبسه اللّه يوم القيامة ثوب مذلة) ثوب مذلة أي يشمله بالذل كما يشمل الثوب البدن في ذلك الجمع الأعظم بأن يصغره في العيون ويحقره في القلوب لأنه لبس شهوة الدنيا ليفتخر بها على غيره.
(ثم يلهب فيه النار) عقوبة له بنقيض فعله والجزاء من جنس العمل فأذله اللّه كما عاقب من أطال ثوبه خيلاء بأن خسف به فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
{تنبيه}:وجدير بنا هنا أن نلفت النظر إلى تعريف التبرج ثم ذكر مساوئ التبرج حتى تجتنبه المؤمنات وتحترز منه وتفرُ منه فرارها من الأسد فإنه من قبائح الذنوب وفواحش العيوب، ومن صفات الجاهلية الأولى التي أتى الإسلام لتطهير النفوس من دنسها.
التبرج هو إظهار الزينة وإبراز المرأة لمحاسنها،
وهاك بعض مساوئ التبرج والعياذ بالله:
(1) التبرج من صفات أهل النار:
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: صنفان من أهل النار لم أرهما: رجالٌ معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، و نساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ مائلاتٌ مميلاتٌ رءوسهُن كأسنمةِ البُخت المائلة لا يدخلن الجنة و لا يجدن ريحها و إن ريحها ليوجد من مسيرة كذا و كذا.
الشاهد قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[و نساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ مائلاتٌ مميلاتٌ رءوسهُن كأسنمةِ البُخت المائلة لا يدخلن الجنة و لا يجدن ريحها و إن ريحها ليوجد من مسيرة كذا و كذا]
(ونساء كاسيات) في الحقيقة(10/145)
(عاريات) في المعنى لأنهن يلبسن ثياباً رقاقاً يصف البشرة، يسترن بعض بدنهن ويكشفن بعضه إظهاراً للجمال
(مائلاتٌ مميلاتٌ) مائلات متبخترات في مشيتهن مميلات أكتافهن وأكفالهن، أو مائلات للرجال مميلات قلوبهم إلى الفساد بهم بما يبدين من زينتهن.
(رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة) أي يُعَظِّمْنَ رؤوسهن بالخُمُرِ والعمائم التي يلففنها على رؤوسهن حتى تشبه أسنمة الإبل
(لا يدخلن الجنة) مع الفائزين السابقين أو مطلقاً إن استحللن.
(ولا يجدن ريحها) أي الجنة
(وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا) كناية عن خمسمائة عام أي يوجد من مسيرة خمسمائة عام كما جاء مفسراً في رواية أخرى.
(2) التبرج جاهليةٌ منتنة:
قال تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنّ وَلاَ تَبَرّجْنَ تَبَرّجَ الْجَاهِلِيّةِ الاُولَىَ) [سورة: الأحزاب - الآية: 33]
الشاهد قوله تعالى: [وَلاَ تَبَرّجْنَ تَبَرّجَ الْجَاهِلِيّةِ الاُولَىَ]
(ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) أي ما قبل الإسلام من إظهار النساء محاسنهن للرجال.
(حديث ابن عباس في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أبغض الناس إلى الله ثلاثة: مُلْحِدٌ في الحرم ومبتغٍ في الإسلام سنة الجاهلية ومُطَّلِبٌ دمَ امرئٍ بغير حق ليهريق دمه.
الشاهد قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[ومبتغٍ في الإسلام سنة الجاهلية]
(مبتغ) طالب
(في الإسلام) أي في دينه
(سنة الجاهلية) أي إحياء طريقة الجاهلية، ومنها التبرج والعياذ بالله.
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
[سنة الجاهلية]: اسم جنس يعم جميع ما كان أهل الجاهلية يعتمدونه.
(3) التبرج معصيةٌ لله ورسوله:
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول اللّه؟ من أطاعني دخل الجنة و من عصاني فقد أبى.
(كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى) بفتح الهمزة والموحدة بامتناعه عن قبول الدعوى أو بتركه الطاعة التي هي سبب لدخولها لأن من ترك ما هو سبب شيء لا يوجد بغيره فقد أبى أي امتنع.
(من أطاعني) أي انقاد وأذعن لما جئت به
(دخل الجنة) وفاز بنعيمها الأبدي، بين أن إسناد الامتناع عن الدخول إليهم مجاز عن الامتناع لسببه وهو عصيانه بقوله
(ومن عصاني) بعدم التصديق أو بفعل المنهي
(فقد أبى) ... فله سوء المنقلب بإبائه والموصوف بالإباء إن كان كافرا لا يدخل الجنة أصلا أو مسلماً لم يدخلها مع السابقين الأولين.(10/146)
والمعنى: من أطاعني وتمسك بالكتاب والسنة دخل الجنة ومن اتبع هواه وزل عن الصواب وخل عن الطريق المستقيم دخل النار.
(4) التبرج هلاكٌ مُحَقق بنص السنة الصحيحة:
(حديث فضالة بن عبيد في صحيح الأدب المفرد) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاثةٌ لا تسأل عنهم: رجلٌ فارق الجماعة وعصى إمامه فمات عاصياً، وأمةٌ أوعبدٌ أبق فمات، وامرأةٌ غاب عنها زوجها فتبرجَّت بعده، فلا تسأل عنهم.
معنى لا تسأل عنهم: أي لا تسأل عن هلكتهم أي هلاكهم محقق، ومن بينهم المرأة المتبرحة.
آداب الزينة:
آداب الزينة:
للزينة آداب ينبغي لطالب العلم أن يحيط بها علماً وأن يتبعها حتى يكون متأسياً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهاك آداب الزينة جملةً وتفصيلا:
أولاً آداب الزينة جملةً:
(1) إكرام الشعر:
(2) السنة في ترجيل الشعر وحلقه:
(3) إباحة الضفائر:
(4) السنة للرجال توفير اللحى، وقص الشارب:
(5) النهي عن نتف الشيب:
(6) السنة تغيير الشيب بغير السواد:
(7) تحريم الخِضاب بالسواد:
(8) تحريم اتخاذ النساء قُصة ً من شعر:
(9) استحباب استعمال الطيب:
(10) النهي عن المبالغة في التطيب:
(11) تحريم الطيب الذي تخرج رائحته للنساء خارج البيت:
(12) تحريم الذهب والحرير على الرجال إلا من عذر:
(13) التختم الجائز للرجال:
(14) ما جاء في الاكتحال:
(15) ما يحرم من الزينة على النساء:
(16) تحريم إظهار المرآة زينتها إلا لمن استثناهم الله:
(17) الاقتصاد في الفراش فلا يُتخذ للزينة بغير حاجة:
(18) لا يُتخذ الجرس في الدواب للزينة:
ثانيا آداب الزينة تفصيلا:
(1) إكرام الشعر:
ويكون إكرام الشعر بتسريحه ودهنه وتنظيفه:
(حديث أبي هريرة في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من كان له شعر فليكرمه.
(من كان له شعر فليكرمه) بتعهده بالتسريح والترجيل والدهن ولا يتركه حتى يتشعث ويتلبد لكنه لا يفرط في المبالغة في ذلك للنهي عن الترجل إلا غباً.
(2) السنة في ترجيل الشعر وحلقه:
يستحب للرجل أن يزين من شعره وينظفه ويعتني به، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
(حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود) قَالَ(10/147)
أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى رَجُلًا شَعِثًا قَدْ تَفَرَّقَ شَعْرُهُ فَقَالَ أَمَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يُسَكِّنُ بِهِ شَعْرَهُ وَرَأَى رَجُلًا آخَرَ وَعَلْيِهِ ثِيَابٌ وَسِخَةٌ فَقَالَ أَمَا كَانَ هَذَا يَجِدُ مَاءً يَغْسِلُ بِهِ ثَوْبَهُ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ.
ولكن لا يكن تزيناً وتنظيفاً وإكراماً مبالغاً فيه يخرجه عن الحد المعقول فيكون مشابهاً للنساء، لأن المبالغة في تزين الشعر والاعتناء به من خصائص النساء، ولهذا نهى النبي عن الترجل إلا غباً، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
(حديث عبد الله بن المغفل الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ التَّرَجُّلِ إِلَّا غِبًّا.
(إلا غباً) أي يوماً بعد يوم فلا يكره بل يسن فالمراد النهي عن المواظبة عليه والاهتمام به لأنه مبالغة في التزيين لأن ذلك من فعل المتنعمين.
(حديث معاذ في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إياك و التنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود والنسائي) قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَمْتَشِطَ أَحَدُنَا كُلَّ يَوْمٍ أَوْ يَبُولَ فِي مُغْتَسَلِهِ.
وأما حلق الشعر: فاعلم أولاً أن الأفضل ترك الشعر على حاله وإرساله إلى شحمة الأذنين كما هو شعر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث البراء رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قَالَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرْبُوعًا بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ لَهُ شَعَرٌ يَبْلُغُ شَحْمَةَ أُذُنِهِ رَأَيْتُهُ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ لَمْ أَرَ شَيْئًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ.
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَضْرِبُ شَعَرُهُ مَنْكِبَيْهِ.(10/148)
(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين) قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَسْدِلُونَ أَشْعَارَهُمْ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ رُءُوسَهُمْ فَسَدَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاصِيَتَهُ ثُمَّ فَرَقَ بَعْدُ.
مسألة: ما حكم حلق الشعر؟
الجواب:
حلق الشعر قد يكون واجباً، أو محرماً، أو مستحباً أو جائزاً.
فيجب حلقه: إذا كان في حج أو عمرة، ولم يُقصر صاحبه، [أو] كان فيه مشابهة لغير المسلمين ... ويحرم حلقه: إذا كان بقصد به التدين أو التعبد من غير حج أو عمرة كما يفعله بعض المتصوفة ... ويستحب حلقه: إذا أسلم الكافر -لاسيما إذا كان غزير الشعر. [أو] إذا مر على الصبي المولود سبعة أيام فإنه يستحب لوليه أن يحلق رأسه ويتصدق بوزنه. [أو] إذا طال الشعر طولاً فاحشاً بحيث تجاوز مقدار شعره صلىالله عليه وسلم ... ويستحب حلق شعر الرأس -أيضاً- إذا كان يكسو صاحبه جمالاً يكون به مصدراً للفتنة سواء للرجال أو النساء .... ويجوز حلقه: إذا لم يستطع الإنسان أن يعتني به لانشغاله عنه بأمور أخرى هي أهم منه ... (قال الإمام أحمد: هو سنة؛ لو نقوى عليه اتخذناه، ولكن له كلفة ومؤنة). [ويجوز] حلقه للتداوي (1).
{تنبيه}: ظهرت بين أوساط الشباب حلاقة الرأس على هيئة نهت عنها الشريعة، وهي حلاقة بعض الرأس وترك بعضه، وهو يعرف في الشرع واللغة باسم القزع (2).
__________
(1). شعر الرأس (أحكام وفوائد متنوعة عن شعر الرأس) للأخ. سليمان الخراشي. (بتصرف). وهي رسالة جيدة في بابها. ط. دار القاسم. الطبعة الأولى 1419هـ. وكلام الأمام أحمد عزاه المؤلف إلى حاشية الروض (1/ 162). وتجده أيضاً في الآداب الشرعية (3/ 328)
(2). في اللسان: والقُزَّعةُ والقُزْعةُ: خُصَلٌ الشعر تترك عل رأس الصبي كالذوائب متفرقة في نوحي الرأس. والقَزَعُ: أن تحلق رأس الصبي وتترك في مواضع منه الشعر متفرقاً، وقد نُهي عنه. (8/ 271 - 272) مادة: (قزع).(10/149)
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْقَزَعِ (1).
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
والقزع له أربعة أنواع: أحدها: أن يحلق من رأسه موضع من ههنا وههنا. مأخوذ من تقزع السحاب وهو تقطعه. الثاني: أن يحلق وسطه ويترك جوانبه، كما يفعله شماسة النصارى. الثالث: أن يحلق جوانبه ويترك وسطه، كما يفعله كثير من الأوباش والسفل. الرابع: أن يحلق مقدمه ويترك مؤخره، وهذا كله من القزع والله أعلم. اهـ (2).
{فائدة}: يستحب لمن أراد أن يحلق شعره أن يبدأ بالجانب الأيمن منه أولاً ثم الأيسر. وذلك لما رواه أنس ابن مالك: (أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى ونحر ثم قال للحلاق، خُذْ وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه للناس) (3).
(3) إباحة الضفائر:
(حديث أم هانئ في صحيحي أبي داوود والترمذي) قالت: قدم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى مكة وله أربع غدائر أي ضفائر.
(4) السنة للرجال توفير اللحى، وقص الشارب:
السنة الواجبة في حق الرجال هي توفير اللحى وإرخاؤها، وتقصير الشارب والأخذ منه. وليس هذا الأمر لنا فيه سعة حتى نأخذ ما نريد ونذر ما نريد، بل هو حتمٌ يجب علينا الامتثال والانقياد له. قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً مّبِيناً) [الأحزاب: 36]
__________
(1). في اللسان: والقُزَّعةُ والقُزْعةُ: خُصَلٌ الشعر تترك عل رأس الصبي كالذوائب متفرقة في نوحي الرأس. والقَزَعُ: أن تحلق رأس الصبي وتترك في مواضع منه الشعر متفرقاً، وقد نُهي عنه. (8/ 271 - 272) مادة: (قزع).
(2). تحفة الودود بأحكام المولود. (ص119) ط. دار الجيل - بيروت. الطبعة الأولى 1408هـ
(3). رواه مسلم (1305)، والترمذي (912)، وأبو داود (1981)(10/150)
أي لا ينبغي ولا يليق، من اتصف بالإيمان إلا الإسراع في مرضاة الله ورسوله، والهرب من سخط الله ورسوله، وامتثال أمرهما، واجتناب نهيهما: فلا يليق بمؤمن ولا مؤمنة {إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً} من الأمور، وحتماً به وألزما به {أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} أي: الخيار، هل يفعلونه أم لا؟. بل يعلم المؤمن والمؤمنة أن الرسول أولى به من نفسه، فلا يجعل بعض أهواء نفسه حجاباً بينه وبين أمر الله ورسوله، قاله ابن سعدي (1).
وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
(ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ وَفِّرُوا اللِّحَى وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ.
زَادَ الْبُخَارِيُّ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا حَجَّ وَاعْتَمَرَ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ فَمَا فَضَلَ أَخَذَهُ.
(حديث زيد بن أرقم الثابت في صحيحي الترمذي والنسائي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَارِبِهِ فَلَيْسَ مِنَّا.
والأمر بتوفير اللحى وجز الشوارب اجتمع فيه أمران:
الأول: أمر الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الواجب الذي لا صارف له، والذي لا يجوز لمسلم بحال مخالفته.
الثاني: الأمر بمخالفة المشركين، وقد عُلم من نصوص الشرع أن التشبه بهم محرم. ولذا كان لزاماً على المسلم أن ينصاع لأمر الله ورسوله ولا يخالف أمرهما حتى لا يقع في الفتنة أو يناله العذاب الأليم قال تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63]
ولبعض أهل العلم كلامٌ في الأخذ من اللحية طولاً وعرضاً، تمسكاً بآثار عن السلف الكرام، ولكن الألفاظ التي وردت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صريحةٌ تُغني عنها، والحجة في كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا في كلام أو فعل أصحابه وأتباعه.
والمختار ترك اللحية على حالها، وأن لا يتعرض لها بتقصير أصلاً، والمختار في الشارب ترك الاستئصال والاقتصار على ما يبدو به طرف الشفة والله أعلم، قاله النووي (2).
(5) النهي عن نتف الشيب:
__________
(1). تفسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان. (6/ 222 - 223)
(2). شرح صحيح مسلم. المجلد الثاني (3/ 123)(10/151)
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تنتفوا الشيب فإنه نور المسلم يوم القيامة.
(حديث كعب بن مُره في صحيحي الترمذي والنسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من شاب شيبةً في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة.
(من شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة) أي يصير الشيب نفسه نوراً يهتدي به صاحبه ويسعى بين يديه في ظلمات الحشر إلى أن يدخله الجنة والشيب وإن لم يكن من كسب العبد لكنه إذا كان بسبب من نحو جهاد أو خوف من اللّه ينزل منزلة سعيه فيكره نتف الشيب من نحو لحية وشارب وعنفقة.
(6) السنة تغيير الشيب بغير السواد:
يُسنُ لمن شاب شعر رأسه ووجهه أن يغيره بالصبغ
(حديث أبي ذر الثابت في صحيح السنن الأربعة) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ أَحْسَنَ مَا غُيِّرَ بِهِ هَذَا الشَّيْبُ الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود والنسائي) أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ وَيُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ.
(7) تحريم الخِضاب بالسواد:
يُجتنب السواد لنهيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الصبغ به، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: أُتِيَ بِأَبِي قُحَافَةَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَرَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيِّرُوا هَذَا بِشَيْءٍ وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ.
(وجنبوه السواد) نصٌ قاطع في التحريم. فيُغير السواد بأي شيء إلا بالسواد، وهذا نهيٌ للرجال والنساء على حدٍ سواء.
(حديث ابن عباس الثابت في صحيحي أبي داوود والنسائي) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: وَسَلَّمَ يَكُونُ قَوْمٌ يَخْضِبُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ بِالسَّوَادِ كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ لَا يَرِيحُونَ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ.
قال ابن مفلح رحمه الله في الآداب الشرعية:(10/152)
قيل للإمام أحمد: تكره الخضاب بالسواد؟ قال: إي والله؛ لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن والد أبي بكر -رضي الله عنهما- (وجنبوه السواد) (1).
(8) تحريم اتخاذ النساء قُصة ً من شعر:
(حديث معاوية في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم - يعني قُصةً من شعر.
(9) استحباب استعمال الطيب:
والطيب من الزينة التي تذكي النفس، وتبعث على الانبساط. ورسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أطيب الناس ريحاً، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث أنس الثابت في صحيح البخاري) قَالَ: مَا مَسِسْتُ حَرِيرًا وَلَا دِيبَاجًا أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا شَمِمْتُ رِيحًا قَطُّ أَوْ عَرْفًا قَطُّ أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ أَوْ عَرْفِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(حديث أنس الثابت في صحيح البخاري) أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَرُدُّ الطِّيبَ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ فَلَا يَرُدُّهُ فَإِنَّهُ خَفِيفُ الْمَحْمِلِ طَيِّبُ الرِّيحِ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي والنسائي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: طِيبُ الرِّجَالِ مَا ظَهَرَ رِيحُهُ وَخَفِيَ لَوْنُهُ وَطِيبُ النِّسَاءِ مَا ظَهَرَ لَوْنُهُ وَخَفِيَ رِيحُهُ.
(حديث أبي سعيد في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: المسكُ أطيب الطيب.
{تنبيه}: يجدر بنا هنا أن نبين الفرق بين طيب الرجل وطيب المرأة
(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي والنسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: طِيب الرجال ما ظهر ريحُه و خَفِيَ لونُه و طِيبُ النساءِ ما ظهر لونُه و خَفِيَ ريحُه.
(طيب الرجال) اللائق بهم المناسب لشهامتهم
(ما ظهر ريحه وخفي لونه) كالمسك والعنبر قال العامري: نبه المصطفى صلى اللّه عليه وسلم على أدبه للرجال وللنساء ففيما ظهر لونه رعونة وزينة لا يليق بالرجولية
(وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه) أي إذا أرادت الخروج أما عند زوجها فتتطيب بما شاءت.
__________
(1). الآداب الشرعية (3/ 334 - 335)(10/153)
والطيب مباحٌ للرجال والنساء على حدٍ سواء، ولكن يحرم عليهما جميعاً حال الإحرام بحج أو عمرة، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين) أَنَّ رَجُلًا كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَمَاتَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ وَلَا تَمَسُّوهُ بِطِيبٍ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يَلْبَسُ الْقُمُصَ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْبَرَانِسَ وَلَا الْخِفَافَ إِلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ وَلَا تَلْبَسُوا مِنْ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ أَوْ وَرْسٌ.
وتختص النساء بالمنع منه -أيضاً- في حالين، الحال الأولى: أن تكون محادة على زوج فتمتنع منه أربعة أشهر وعشرة أيام، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
(حديث أم عطية الثابت في الصحيحين) قَالَتْ: كُنَّا نُنْهَى أَنْ نُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَلَا نَكْتَحِلَ وَلَا نَطَّيَّبَ وَلَا نَلْبَسَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ وَقَدْ رُخِّصَ لَنَا عِنْدَ الطُّهْرِ إِذَا اغْتَسَلَتْ إِحْدَانَا مِنْ مَحِيضِهَا فِي نُبْذَةٍ مِنْ كُسْتِ أَظْفَارٍ وَكُنَّا نُنْهَى عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ.(10/154)
(حديث زينب بنت أبي سلمة الثابت في الصحيحين) قَالَتْ دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ ثُمَّ قَالَتْ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمِنْبَرِ لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.
والحال الأخرى: إذا كانت المرأة ستغشى مكان فيه رجال أجانب، حتى ولو مرت في طريقهم فوجدوا ريحها فهي داخلة في النهي-وهذا الجانب فرط فيه كثيرٌ من النساء وتساهلن فيه مع صراحة الأحاديث وشدة الوعيد فيها، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
(حديث أبي موسى الثابت في صحيح النسائي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ عَلَى قَوْمٍ لِيَجِدُوا مِنْ رِيحِهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) قَالَ: لَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ وَجَدَ مِنْهَا رِيحَ الطِّيبِ يَنْفَحُ وَلِذَيْلِهَا إِعْصَارٌ فَقَالَ يَا أَمَةَ الْجَبَّارِ جِئْتِ مِنْ الْمَسْجِدِ قَالَتْ نَعَمْ قَالَ وَلَهُ تَطَيَّبْتِ قَالَتْ نَعَمْ قَالَ إِنِّي سَمِعْتُ حِبِّي أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ لِامْرَأَةٍ تَطَيَّبَتْ لِهَذَا الْمَسْجِدِ حَتَّى تَرْجِعَ فَتَغْتَسِلَ غُسْلَهَا مِنْ الْجَنَابَةِ.
وَلِذَيْلِهَا إِعْصَارٌ: أي غبار.
(10) النهي عن المبالغة في التطيب:
(حديث أنس في الصحيحين) قال: نهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتزعفر الرجل.
*والتزعفر: هو التلطخ بالزعفران.
(11) تحريم الطيب الذي تخرج رائحته للنساء خارج البيت:(10/155)
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة.
(أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة) فيه حرمة التطيب على مريدة الخروج إلى المسجد لما فيه من تحريك داعية شهوة الرجال.
(حديث أبي موسى في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية و كل عين زانية.
(أيما امرأة استعطرت) أي استعملت العطر أي الطيب يعني ما يظهر ريحه منه.
(ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها) أي بقصد ذلك
(فهي زانية) أي كالزانية في حصول الإثم وإن تفاوت لأن فاعل السبب كفاعل المسبب قال الطيبي: شبه خروجها من بيتها متطيبة مهيجة لشهوات الرجال التي هي بمنزلة رائد الزنا بالزنا مبالغة وتهديداً وتشديداً عليها (وكل عين زانية) أي كل عين نظرت إلى محرم من امرأة أو رجل فقد حصل لها حظها من الزنا إذ هو حظها منه وأخذ بعض المالكية من الحديث حرمة التلذذ بشم طيب أجنبية لأن اللّه إذا حرم شيئاً زجرت الشريعة عما يضارعه مضارعة قريبة وقد بالغ بعض السلف في ذلك حتى كان ابن عمر رضي اللّه عنه ينهى عن القعود بمحل امرأة قامت عنه حتى يبرد.
(12) تحريم الذهب والحرير على الرجال إلا من عذر:
حُرِّم على الرجال لبس الذهب والحرير، وأبيح للنساء، فالذهب من الحلية التي تحتاج المرأة أن تتزين به ـ وكذا الحرير ـ، وأما الرجل فهو طالب غير مطلوب، مع ما في الذهب والحرير من تنعم زائد يكسر من جلد الرجل وصلابته، فكيف إذا كان الأمر منهياً عنه بالشرع، فوجب التسليم والإذعان، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث أبي موسى الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: حُرِّمَ لِبَاسُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي وَأُحِلَّ لِإِنَاثِهِمْ.
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا فَلَنْ يَلْبَسَهُ فِي الْآخِرَةِ.
(من لبس الحرير في الدنيا) أي من الرجال كما أفاده الحديث المار " حرم الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحلّ لإناثهم "
(لم يلبسه في الآخرة) أي جزاؤه أن لا يلبسه فيها لاستعجاله ما أمر بتأخيره.(10/156)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ.
ومع أن الآثار السابقةـ وغيرها ـ قضت بتحريم الذهب والحرير على الرجال،
إلا أنه قد أُستثني من هذا التحريم أحوال منها ما يلي:
فيباح للرجل لبس الحرير إذا كانت به حكة وكان يتأذى بها، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ فِي قَمِيصٍ مِنْ حَرِيرٍ مِنْ حِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا.
ويباح له لبسه في الحرب، أو دفع ضرورة كمن لا يجد ثوباً إلا ثوب حرير يستر به عورته، أو يدفع به عنه البرد.
ويباح لبس الحرير إن كان جزء من الثوب بمقدار أربعة أصابع فما دون، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث عمر الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إِلَّا مَوْضِعَ إِصْبَعَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ.
ويباح استخدام الذهب ـ للتداوي ـ للرجال للضرورة،
(حديث عَرْفَجَةَ بْنَ أَسْعَدَ رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أَنَّهُ قُطِعَ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكُلَابِ (1) فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ فَأَنْتَنَ عَلَيْهِ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ.
مسألة: هل يجوز إلباس الصبيان الحرير؟
الجواب: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ... وأما لباس الحرير للصبيان، الذين لم يبلغوا الحلم: ففيه قولان مشهوران للعلماء: لكن أظهرهما أن لا يجوز، فإن ما حرم على الرجال فعله حرم عليه أن يمكن منه الصغير، فإنه يأمره بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، ويضربه عليها إذا بلغ عشراً، فكيف يحل له أن يلبسه المحرمات. وقد رأى عمر بن الخطاب على صبي للزبير ثوباً من حرير فمزقه وقال: لا تلبسوهم الحرير. وكذلك ابن مسعود مزق ثوب حرير كان على ابنه ... (2).
(13) التختم الجائز للرجال:
يجوز للرجال أن يتختموا بالفضة لا الذهب فإنه محرم عليهم. وموضع الخاتم المستحب أن يكون في الخنصر وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
__________
(1) يوم معروف من أيام الجاهلية
(2). الفتاوى (22/ 143)(10/157)
(حديث أَنَسٍ رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قَالَ: صَنَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاتَمًا قَالَ إِنَّا اتَّخَذْنَا خَاتَمًا وَنَقَشْنَا فِيهِ نَقْشًا فَلَا يَنْقُشَنَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ قَالَ فَإِنِّي لَأَرَى بَرِيقَهُ فِي خِنْصَرِهِ.
(حديث أنس الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاتَمُهُ مِنْ فِضَّةٍ وَكَانَ فَصُّهُ مِنْهُ.
ونهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن لبس الخاتم في الوسطى أو السبابة، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث عليّ الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَتَخَتَّمَ فِي إِصْبَعِي هَذِهِ أَوْ هَذِهِ قَالَ فَأَوْمَأَ إِلَى الْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِيهَا.
وعلى هذا فيستحب لمن أراد التختم أن يضعه في خنصره، ويكره له وضعها في الوسطى والتي تليها وهي كراهة تنزيه (1).
وأما في أي اليدين يتختم فهذا أمرٌ اختلف العلماء فيه، لورود الآثار بهذا وهذا. قال النووي: وأما الحكم في المسألة عند الفقهاء فأجمعوا على جواز التختم في اليمين وعلى جوازه في اليسار ولا كراهة في واحدة منهما، واختلفوا أيتهما أفضل، فتختم كثيرون من السلف في اليمين، وكثيرون في اليسار ... (2). والأمر في هذا واسع ولله الحمد، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
(حديث أنس الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: كَانَ خَاتَمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ وَأَشَارَ إِلَى الْخِنْصِرِ مِنْ يَدِهِ الْيُسْرَى.
(حديث عليّ الثابت في صحيح النسائي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَلْبَسُ خَاتَمَهُ فِي يَمِينِهِ.
(14) ما جاء في الاكتحال:
الاكتحال للنساء زينة، وللرجال والنساء علاج ومنفعة. والعرب كانوا يتخذونه علاجاً من الرمد، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث ابن عباس الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمْ الْبَيَاضَ فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ وَإِنَّ خَيْرَ أَكْحَالِكُمُ الْإِثْمِدُ يَجْلُو الْبَصَرَ وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ.
__________
(1). انظر شرح مسلم للنووي. المجلد السابع (14/ 59)
(2). شرح مسلم للنووي. المجلد السابع (14/ 59).(10/158)
والسنة فيه أن يكون وتراً، أي يكتحل في العين اليمنى ثلاثاً وفي اليسرى ثلاثاً، أو في اليمنى اثنتين وفي اليسرى واحدة فيكون الجميع وتراً أو العكس أو أكثر من ذلك ما دام وتراً. ورجح ابن حجر الأول (1).
{تنبيه}: لا ينبغي أن يتخذ الرجال الكحل زينة، فهو طالبٌ لا مطلوب، وليس من الرجولة أن يتزين الرجل كما تتزين النساء، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رغب في الإثمد لما فيه من الفوائد فقال: (عليكم بالإثمد فإنه منبتة للشعر، مذهبة للقذى، مصفاة للبصر). أما أن يتخذه الرجالُ جمالاً وزينةً للعينين فلا.
(15) ما يحرم من الزينة على النساء:
أباح الله سبحانه وتعالى للنساء أن يتخذوا أنواعاً عديدة من الزينة كالكحل، والطيب، والحنا ونحو ذلك مما تتجمل به المرأة. وحرم عليها أموراً تتخذها المرأة زينة وهي في حقيقتها لا تعدو كونها تغييراً لخلق الله الذي خلقها عليه. كالوشم، والنمص، والتلفج للحسن، والوصل.
(حديث أَسْمَاءَ الثابت في الصحيحين) قَالَتْ: سَأَلَتْ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَتِي أَصَابَتْهَا الْحَصْبَةُ فَامَّرَقَ شَعَرُهَا وَإِنِّي زَوَّجْتُهَا أَفَأَصِلُ فِيهِ فَقَالَ لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ (2) وَالْمَوْصُولَةَ.
(حديث ابن مسعود الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ (3)
__________
(1). انظر فتح الباري (10167)
(2).والواصلة من النساء: التي تصل شعرها بشعر غيرها، والمستوصلة: الطالبة لذلك وهي التي يفعل بها ذلك. وفي الحديث: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن الواصلة والمستوصلة. قال أبو عبيد: هذا في الشعر، وذلك أن تصل المرأة شعرها بشعر آخر زوراً. (لسان العرب: 11/ 727) مادة: وصل.
(3). قال أبو عبيد: الوشم في اليد، وذلك أن المرأة كانت تغرز ظهر كفها ومعصمها بإبرة أو بمسلة حتى تؤثر فيه، ثم تحشوه بالكحل أو النيل أو النيِّل أو بالنؤور (دخان الشحم) فيزرق أثره أو يخضر. (لسان العرب: 12/ 638) مادة: وشم.
والمستوشمة هي التي تطلب من غيرها الوشم.(10/159)
وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ (1) وَالْمُتَفَلِّجَاتِ (2) لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ.
[*] قال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (5/ 369):
" وهذه الأمور قد شهدت الأحاديث بلعن فاعلها وأنها من الكبائر، واختلف في المعنى الذي نهى لأجلها. فقيل: لأنها من باب التدليس. وقيل: من باب تغيير خلق الله تعالى كما قال ابن مسعود وهو أصح وهو يتضمن المعنى الأول ".
ومع صراحة الأحاديث في ذلك، وشدة وعيدها، إلا أن كثيراً من النساء يفعلن ذلك أو بعضه، وهل هذا إلا ضعف إيمان، وإلا فأي امرئٍ تهون عليه نفسه ويعرضها لسخط الجبار!. اللهم إنا نسألك السلامة والعافية في ديننا ودنيانا.
{تنبيه}: لا يختص اللعن بالنساء، بل يدخل فيه الرجال إذا نمصوا، أو وشموا، أو وصلوا، أو تفلجوا للحسن! أو طلبوا من غيرهم أن يفعل بهم شيئاً من ذلك. وتخصيص النساء باللعن من باب الأغلبية فإن تلك الفعال تكون في النساء أغلب كالنائحة، والله أعلم.
(16) تحريم إظهار المرآة زينتها إلا لمن استثناهم الله:
__________
(1). النمص: نتف الشعر. ونمص شعره ينمصه نمصاً: نتفه ... والنامصة: المرأة التي تُزين النساء بالنمص. وفي الحديث: لُعنت النامصة والمتنمصة؛ قال الفراء: النامصة التي تنتف من الوجه، ومنه قيل للمنقاش منماص، لأنه ينتفه به، والمتنمصة: هي التي تفعل ذلك بنفسها. (لسان العرب: 7/ 101) مادة: نمص)
(2).فلج الأسنان: تباعد بينها ... ورجل أفلج إذا كان في أسنانه تفرق، وهو التفليج أيضاً. (التهذيب): والفلج بين الأسنان تباعد ما بين الثنايا والرباعيات خلقة، فإن تكلف، فهو التفليج ... وفي الحديث: أنه لعن المتفلجات للحسن: أي النساء اللاتي يفعلن ذلك بأسنانهن رغبة في التحسين. (لسان العرب: 2/ 346 - 347 بتصرف يسير) مادة: فلج.(10/160)
زينة المرأة إما ظاهرة أو باطنة، قال تعالى: (وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ عَلَىَ جُيُوبِهِنّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنّ أَوْ آبَآئِهِنّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنّ أَوْ أَبْنَآئِهِنّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنّ أَوْ إِخْوَانِهِنّ أَوْ بَنِيَ إِخْوَانِهِنّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنّ أَوْ نِسَآئِهِنّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنّ أَوِ التّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرّجَالِ أَوِ الطّفْلِ الّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىَ عَوْرَاتِ النّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنّ وَتُوبُوَاْ إِلَى اللّهِ جَمِيعاً أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31]
وقوله: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أي الثياب الظاهرة التي جرت العادة بلبسها إذا لم يكن في ذلك ما يدعو إلى الفتنة بها، قاله ابن سعدي (1) "وهي الزينة الظاهرة ". ثم قال تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ} أي الباطنة إلا للأزواج والآباء والأبناء ... الخ.
والزينة الباطنة مثل الوجه والعنق والحلي والكفين. وبهذا يُعلم أن الوجه من الزينة الباطنة التي يحرم على المرأة المسلمة أن تظهرها إلا لمن استثناهم الله في الآية.
ثم قال تعالى: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنّ} أي: لا يضربن الأرض بأرجلهن، ليصوت ما عليهن من حلي، كخلاخل وغيرها، فتعلم زينتها بسببه، فيكون وسيلة إلى الفتنة (2).
(17) الاقتصاد في الفراش فلا يُتخذ للزينة بغير حاجة:
(حديث جابر في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: فراش للرجل و فراش لامرأته و الثالث للضيف و الرابع للشيطان.
(فراش للرجل وفراش لامرأته)
(والثالث للضيف) أي فراش واحد كاف للرجل وهكذا
(والرابع للشيطان) لأنه زائد على الحاجة وسرف واتخاذه مماثل لعرض
الدنيا وزخارفها فهو للمباهاة والاختيال والكبر وذلك مذموم وكل مذموم يضاف
إلى الشيطان لأنه يرتضيه ويحث عليه.
(18) لا يُتخذ الجرس في الدواب للزينة:
__________
(1). تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان. (5/ 410)
(2). تفسير ابن سعدي (5/ 412)(10/161)
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب و لا جرس.
(لا تصحب الملائكة) وفي رواية لا تقرب، وفي أخرى لا تتبع وهو يبين أن المراد بنفي الصحبة نفي مجرد اللقاء لا في الملازمة والمراد ملائكة الرحمة والاستغفار لا الحفظة ونحوهم
(رفقة) بضم الراء وكسرها جماعة مترافقة في سفر
(فيها كلب) ولو لحراسة الأمتعة سفراً كما اقتضاه ظاهر الخبر قال القرطبي وهو قول أصحاب مالك قال: لكن الظاهر أن المراد غير المأذون في اتخاذه لأن المسافر يحتاجه
(ولا جرس) بفتح الراء الجلجل وبسكونها صوته وذلك لأنه من مزامير الشيطان والملائكة ضده ولأنه يشبه الناقوس فيكره تنزيهاً عند الشافعية جرس الدواب، وقال ابن العربي المالكي: لا يجوز بحال لأنها أصوات الباطل وشعار الكفار اهـ. وزعم أن ذلك شعار الكفار ممنوع، ومما فيه من المضارّ أنه يدل على أصحابه بصوته وكأنه عليه السلام يحب أن لا يعلم العدو به حتى يأتيهم فجأة، وعطف ولا جرس على فيها كلب وإن كان مثبتاً لأنه في سياق النفي، وذكر الرفقة في الحديث غالبي فلو سافر وحده كره له صحبة الجرس والكلب لوجود المعنى ولا يختص الحكم بجرس الإبل والخيل والبغال والحمر كذلك بل وعنق الرجل كما ذكره الزين العراقي.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الجرس مزامير الشيطان.
آداب الركوب والمشي:
للركوب والمشي آداب ينبغي لطالب العلم أن يحيط بها علماً وأن يتبعها حتى يكون متأسياً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهاك آداب الركوب والمشي المساجد جملةً وتفصيلا:
أولاً آداب الركوب والمشي جملةً:
(1) النهي عن مشية الخيلاء:
(2) أحسن المشي وأعدله:
(3) كراهة المشي في نعل واحدة:
(4) من السنة الاحتفاء أحياناً:
(5) رب الدابة أحق بصدر دابته:
(6) جواز الارتداف على الدابة إذا لم يشق عليها:
(7) كراهية اتخاذ الدواب منابر:
ثانيا آداب الركوب والمشي تفصيلا:
(1) النهي عن مشية الخيلاء:
التبختر في المشي من الصفات الذميمة التي تنم عن كبرٍ وعجبٍ بالنفس. والمؤمن من صفاته التواضع والاستكانة لا الكبر والغطرسة، والكبر من فواحش العيوب وقبائح الذنوب، وتأمل في النصوص الآتية بعين البصيرة(10/162)
قال تعالى: (تِلْكَ الدّارُ الاَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ) [سورة: القصص - الآية: 83]
قال تعالى: (وَلاَ تُصَعّرْ خَدّكَ لِلنّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [سورة: لقمان - الآية: 18]
(حديث ابن مسعود الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ قَالَ رَجُلٌ إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً قَالَ إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ.
بَطَرُ الْحَقِّ: التكبر على الحق وعدم قبوله.
غَمْطُ النَّاسِ: احتقارهم وازدرائهم.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ما من رجل يتعاظم في نفسه و يختال في مشيته إلا لقي الله تعالى و هو عليه غضبان.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ وَمَلِكٌ كَذَّابٌ وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْعِزُّ إِزَارُهُ وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ فَمَنْ يُنَازِعُنِي عَذَّبْتُهُ.
(حديث ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: اتَّقُوا هَذِهِ المَذَابِحَ ـ يَعْنِي المَحَارِيْبَ ـ.
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ مِنْ الْخُيَلَاءِ خُسِفَ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.(10/163)
{تنبيه}: ولا يكون التبختر إلا في مواطن الحرب لإغاظة الأعداء، كما فعل أبو دجانة-رضي الله عنه- عندما اعتصب بعصابة -له- حمراء ثم جعل يتبختر بين الصفين، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين رآه يتبختر إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن.
(2) أحسن المشي وأعدله:
كان رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ تَكَفُّؤًا:
(حديث عَلِيٍّ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالطَّوِيلِ (1) وَلَا بِالْقَصِيرِ، شَثْنَ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ (2) ضَخْمَ الرَّأْسِ ضَخْمَ الْكَرَادِيسِ (3) طَوِيلَ الْمَسْرُبَةِ إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ تَكَفُّؤًا (4) كَأَنَّمَا انْحَطَّ (5) مِنْ صَبَبٍ (6) لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مِثْلَهُ.
قال صاحب "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
__________
(1) أَيِ: الْمُفْرِطِ فِي الطُّولِ.
(2) أَيْ: أَنَّهُمَا يَمِيلَانِ إِلَى الْغِلَظِ، وَالْقِصَرِ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي فِي أَنَامِلِهِ غِلَظٌ بِلَا قِصَرٍ، وَيُحْمَدُ ذَلِكَ فِي الرِّجَالِ؛ لِأَنَّهُ أَشَدُّ لِقَبْضِهِمْ وَيُذَمُّ فِي النِّسَاءِ
(3) هِيَ رُءُوسُ الْعِظَامِ، واحِدُهَا كُرْدُوسٌ، وَقِيلَ: هِيَ مُلْتَقَى كُلِّ عَظْمَيْنِ ضَخْمَيْنِ كَالرُّكْبَتَيْنِ، وَالْمِرْفَقَيْنِ، وَالْمَنْكِبَيْنِ أَرَادَ أَنَّهُ ضَخْمُ الْأَعْضَاءِ.
(4) التكفِّي: التمايل إلى قدام كما تتكفأ السفينة في جريها. (لسان العرب: 1/ 141 - 142) مادة: كفأ.
(5) بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ: يَسْقُطُ.
(6) مَوْضِعٍ مُنْحَدِرٍ مِنَ الْأَرْضِ.(10/164)
(لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالطَّوِيلِ) أَيِ: الْمُفْرِطِ فِي الطُّولِ (وَلَا بِالْقَصِيرِ) زَادَ الْبَيْهَقِيُّ وَهُوَ إِلَى الطُّولِ أَقْرَبُ، وَعَنْ عَائِشَةَ {لَمْ يَكُنْ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ وَلَا بِالْقَصِيرِ الْمُتَرَدِّدِ (شمائل النبي) وَكَانَ يُنْسَبُ إِلَى الرَّبْعَةِ إِذَا مَشَى وَحْدَهُ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى حَالٍ يُمَاشِيهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يُنْسَبُ إِلَى الطُّولِ إِلَّا طَالَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَرُبَّمَا اكْتَنَفَهُ الرَّجُلَانِ الطَّوِيلَانِ فَيَطُولَهُمَا فَإِذَا فَارَقَاهُ نُسِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الرَّبْعَةِ} (1). رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَالْبَيْهَقِيُّ (شَثْنَ الْكَفَّيْنِ، وَالْقَدَمَيْنِ (شمائل النبي)) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ وَبِالنُّونِ قَالَ فِي النِّهَايَةِ أَيْ: أَنَّهُمَا يَمِيلَانِ إِلَى الْغِلَظِ، وَالْقِصَرِ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي فِي أَنَامِلِهِ غِلَظٌ بِلَا قِصَرٍ، وَيُحْمَدُ ذَلِكَ فِي الرِّجَالِ؛ لِأَنَّهُ أَشَدُّ لِقَبْضِهِمْ وَيُذَمُّ فِي النِّسَاءِ. انْتَهَى، وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ: شَثِنَتْ كَفُّهُ كَفَرِحَ وَكَرُمَ شَثَنًا وَشُثُونَةً خَشُنَتْ وَغَلُظَتْ فَهُوَ شَثْنُ الْأَصَابِعِ بِالْفَتْحِ، فَإِنْ قُلْتَ هَذَا يُخَالِفُ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ {مَا مَسِسْتُ حَرِيرًا وَلَا دِيبَاجًا أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} (2) -، قُلْتُ قِيلَ: اللِّينُ فِي الْجِلْدِ، وَالْغِلَظُ فِي الْعِظَامِ فَيَجْتَمِعُ لَهُ نُعُومَةُ الْبَدَنِ مَعَ الْقُوَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ - رضي الله عنه - {أَرْدَفَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلْفَهُ فِي سَفَرٍ فَمَا مَسِسْتُ شَيْئًا قَطُّ أَلْيَنَ مِنْ جِلْدِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} (3)
__________
(1) - البخاري المناقب (3355) ,مسلم الفضائل (2347) ,الترمذي المناقب (3623) ,أحمد (3/ 240) ,مالك الجامع (1707).
(2) - البخاري المناقب (3368) ,أحمد (3/ 228) ,الدارمي المقدمة (62).
(3) - الترمذي البر والصلة (2015) ..(10/165)
- (ضَخْمَ الرَّأْسِ (شمائل النبي)) أَيْ: عَظِيمَهُ (ضَخْمَ الْكَرَادِيسِ (شمائل النبي)) هِيَ رُءُوسُ الْعِظَامِ، واحِدُهَا كُرْدُوسٌ، وَقِيلَ: هِيَ مُلْتَقَى كُلِّ عَظْمَيْنِ ضَخْمَيْنِ كَالرُّكْبَتَيْنِ، وَالْمِرْفَقَيْنِ، وَالْمَنْكِبَيْنِ أَرَادَ أَنَّهُ ضَخْمُ الْأَعْضَاءِ (طَوِيلَ الْمَسْرُبَةِ (شمائل النبي)) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ السِّينِ وَضَمِّ الرَّاءِ: الشَّعْرُ الْمُسْتَدَقُّ الَّذِي يَأْخُذُ مِنَ الصَّدْرِ إِلَى السُّرَّةِ (تَكَفَّا تَكَفِّيًا (مشية النبي)) قَالَ فِي النِّهَايَةِ أَيْ: تَمَايَلَ إِلَى قُدَّامَ، هَكَذَا رُوِيَ غَيْرَ مَهْمُوزٍ، وَالْأَصْلُ الْهَمْزُ وَبَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ مَهْمُوزًا؛ لِأَنَّ مَصْدَرَ تَفَعَّلَ مِنَ الصَّحِيحِ تَفَعُّلَ كَتَقَدَّمَ تَقَدُّمًا وَتَكَفَّأَ تَكَفُّأً، وَالْهَمْزَةُ حَرْفٌ صَحِيحٌ فَأَمَّا إِذَا اعْتَلَّ انْكَسَرَتْ عَيْنُ الْمُسْتَقْبَلِ مِنْهُ نَحْوُ: تَحَفَّى تَحَفِّيًا، وَتَسَمَّى تَسَمِّيًا فَإِذَا خُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ الْتَحَقَتْ بِالْمُعْتَلِّ، وَصَارَ تَكَفِّيًا بِالْكَسْرِ. انْتَهَى مَا فِي النِّهَايَةِ (كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ) بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ: يَسْقُطُ (مِنْ صَبَبٍ) أَيْ: مَوْضِعٍ مُنْحَدِرٍ مِنَ الْأَرْضِ، قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الصَّبَبُ: الْحُدُورُ وَمَا يَنْحَدِرُ مِنَ الْأَرْضِ يُرِيدُ أَنَّهُ كَانَ يَمْشِي مَشْيًا قَوِيًّا وَيَرْفَعُ رِجْلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ رَفْعًا بَائِنًا لَا كَمَنْ يَمْشِي اخْتِيَالًا وَيُقَارِبُ خُطَاهُ تَنَعُّمًا كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ (لَمْ أَرَ قَبْلَهُ) أَيْ: قَبْلَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا لَمْ يُدْرِكْ زَمَانًا قَبْلَ وُجُودِهِ (وَلَا بَعْدَهُ) أَيْ: بَعْدَ مَوْتِهِ. أهـ
(حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثابت في صحيح ابن ماجة) قَالَ
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَشَى مَشَى أَصْحَابُهُ أَمَامَهُ وَتَرَكُوا ظَهْرَهُ لِلْمَلَائِكَةِ.
(3) كراهة المشي في نعل واحدة:
يُكره للمسلم أن يمشي في نعل واحدة، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة(10/166)
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا يَمْشِي أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ لِيُحْفِهِمَا جَمِيعًا أَوْ لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا انْقَطَعَ شِسْعُ أَحَدِكُمْ فَلَا يَمْشِ فِي الْأُخْرَى حَتَّى يُصْلِحَهَا.
(4) من السنة الاحتفاء أحياناً:
من السنة الاحتفاء ـ أحياناً ـ أي المشي حافياً.
(حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُنَا أَنْ نَحْتَفِيَ أَحْيَانًا.
وفي الاحتفاء كسرٌ لما اعتاده المرء من التنعم الحاصل بالمداومة على التنعل.
(5) رب الدابة أحق بصدر دابته:
من ملك شيئاً فهو أحق به من غيره، وركوب الدواب الحي منها والجماد يأخذ الحكم نفسه. فصاحب الجمل أو الخيل أو (السيارة) أحق بصدر دابته ومقدمته من غيره، فلا يُركب في مقدمتها إلا بإذنه، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث بُرَيْدَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْشِي جَاءَ رَجُلٌ وَمَعَهُ حِمَارٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ارْكَبْ، وَتَأَخَّرَ الرَّجُلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا، أَنْتَ أَحَقُّ بِصَدْرِ دَابَّتِكَ مِنِّي إِلَّا أَنْ تَجْعَلَهُ لِي قَالَ فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ لَكَ فَرَكِبَ.
(6) جواز الارتداف على الدابة إذا لم يشق عليها:
ومن آداب الركوب أنه لا بأس بركوب اثنين أو ثلاثة ما دامت الدابة تطيق ذلك. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أردف بعض أصحابه كمعاذ وأسامة والفضل وكذا إردافه لعبد الله بن جعفر والحسن أو الحسين معاً وغيرهم-رضي الله عن الجميع- (1)، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
__________
(1). وفي هذا دلالة على أن تحميل الدابة ما لاتطيقه من الظلم لها، وقد يؤدي بها إلى التلف. وفيه إشارة تعلم بالحس، وهو أن تحميل الدواب الآلية فوق طاقتها وحمولتها المقرر لها من قبل صانعها، يضر بها ويسبب لها العطب.(10/167)
(حديثُ أنس الثابت في الصحيحين): أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُعاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ قَالَ يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ قَالَ يَا مُعَاذُ قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ثَلَاثًا قَالَ مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا قَالَ إِذًا يَتَّكِلُوا وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا.
(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين) قَالَ كَانَ الْفَضْلُ رَدِيفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ فَقَالَتْ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ نَعَمْ وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
(7) كراهية اتخاذ الدواب منابر:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِيَّاكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا ظُهُورَ دَوَابِّكُمْ مَنَابِرَ فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُبَلِّغَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ وَجَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ فَعَلَيْهَا فَاقْضُوا حَاجَتَكُمْ.
والمعنى: لا تجلسوا على ظهورها فتوقفونها وتحدثون بالبيع والشراء وغير ذلك بل انزلوا واقضوا حاجاتكم ثم اركبوا، قاله القاري (1).
ولا يعكر على ذلك وقوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على دابته في حجة الوداع، فإن ذلك كان لمصلحة راجحة وهو لا يتكرر.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
__________
(1). عون المعبود: المجلد الرابع (7/ 169)(10/168)
وأما وقوف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على راحلته في حجة الوداع وخطبته عليها، فذاك غير ما نهى عنه، فإن هذا عارض لمصلحة عامة في وقت ما، لا يكون دائماً، ولا يلحق الدابة منه من التعب والكلال ما يلحقها من اعتياد ذلك لا لمصلحة، بل يستوطنها ويتخذها مقعداً يناجي عليها الرجل، ولا ينزل إلى الأرض، فإن ذلك يتكرر ويطول، بخلاف خطبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على راحلته ليسمع الناس، ويعلمهم أمور الإسلام وأحكام النسك، فإن هذا لا يتكرر ولا يطول ومصلحته عامة (1).
آداب الطريق:
آداب الطريق:
للطريق آداب ينبغي لطالب العلم أن يحيط بها علماً وأن يتبعها حتى يكون متأسياً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهاك آداب الطريق جملةً وتفصيلا:
أولاً آداب الطريق جملةً:
(1) وجوب أداء حقوق الطريق:
(2) إزالة الأذى من الطريق:
(3) اجتناب الملاعن الثلاث:
(4) الرجال أحق بوسط الطريق من النساء:
(5) إعانة الرجل في حمله على دابته أو رفع متاعه عليها:
ثانيا آداب الطريق تفصيلا:
(1) وجوب أداء حقوق الطريق:
وحقوق الطريق بينها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي: (غض البصر، وكفُّ الأذى، ورد السلام، وأمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر) وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث أبي سعيد الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ فَقَالُوا مَا لَنَا بُدٌّ إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا قَالَ فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجَالِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا قَالُوا وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ قَالَ غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الْأَذَى وَرَدُّ السَّلَامِ وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ.
وهذه الحقوق ليست من باب الحصر، وإنما هي بعضها، وقد بينت أحاديث أخر حقوقاً للطريق غيره هذه، فعُلم أن المذكورات التي في الحديث ليست من باب الحصر.
__________
(1). عون المعبود: المجلد الرابع (7/ 168) (الحاشية)(10/169)
أ- غض البصر: الأمر بغض البصر يشترك فيه الرجال والنساء على حدٍ سواء، وذلك لأن إطلاق البصر فيما يحرم يجلب عذاب القلب وألمه، وهو يظن أنه يروح عن نفسه ويبهج قلبه، ولكن هيهات. وأعظمهم عذاباً مدمنهم، وكما قال ابن تيمية: تعمد النظر يورث القلب علاقة يتعذب بها الإنسان، وإن قويت حتى صارت غراماً وعشقاً زاد العذاب الأليم، سواء قدر أنه قادر على المحبوب أو عاجر عنه، فإن كان عاجزاً فهو في عذاب أليم من الحزن والهم والغم، وإن كان قادراً فهو في عذاب أليم من خوف فراقه، ومن السعي في تأليفه وأسباب رضاه! (1). وأصل ذلك ومبدؤه من النظر، فلو أنه غض بصره لارتاحت نفسه وارتاح قلبه.
والشرع المطهر لم يغفل ما قد يقع من الناس بدون قصد منهم، بل أمر من نظر إلى امرأة أجنبية بدون قصد منه أن يصرف بصره عنها ولا يتمادى، وتأمل في النصوص الآتية بعين البصيرة
قال تعالى: (قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَىَ لَهُمْ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) [سورة: النور - الآية: 30]
الشاهد: قوله تعالى [قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ]
هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه وأن يغمضوا أبصارهم عن المحارم فإن اتفق أن وقع البصر على محرم من غير قصد فليصرف بصره عنه سريعا كما في الحديث الآتي:
(حديث جرير بن عبد الله البجلي الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ نَظَرِ الْفُجَاءَةِ (2) فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي.
__________
(1) الفتاوى (14/ 156 - 157)
(2) معنى نظر الفجأة: أن يقع بصره على الأجنبية من غير قصد فلا إثم عليه في أول ذلك، ويجب عليه أن يصرف بصره في الحال، فإن صرف في الحال فلا إثم عليه، وإن استدام النظر أثم لهذا الحديث قاله النووي.(10/170)
(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين) قَالَ كَانَ الْفَضْلُ رَدِيفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ فَقَالَتْ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ نَعَمْ وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنْ الزِّنَا مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ.
(حديث أبي سعيد الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ فَقَالُوا مَا لَنَا بُدٌّ إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا قَالَ فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجَالِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا قَالُوا وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ قَالَ غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الْأَذَى وَرَدُّ السَّلَامِ وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[فأعطوا الطريق حقه، قالوا وما هو حقُ الطريق؟ قال: غض البصر]
(حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ كَانَ مِنْكُنَّ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا تَرْفَعْ رَأْسَهَا حَتَّى يَرْفَعَ الرِّجَالُ رُءُوسَهُمْ كَرَاهَةَ أَنْ يَرَيْنَ مِنْ عَوْرَاتِ الرِّجَالِ.
(حديث أَبِي رَيْحَانَةَ رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: حُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ دَمَعَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، حُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ سَهِرَتْ فِي سَبِيلِ اللهِ، حُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ غَضَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ.(10/171)
(حديث بُريدة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَلِي يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَكَ الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الْآخِرَةُ.
(حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: يَا عَلِيُّ إِنَّ لَكَ كَنْزاً فِي الجَنَّةِ وَإِنَّكَ ذُو قَرْنَيْهَا فَلَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَكَ الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الْآخِرَةُ.
(حديث سهل بن سعد الثابت في الصحيحين) قَالَ: اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ فَقَالَ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِعَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ.
اعلم وفقك الله أن البصر صاحب خبر القلب ينقل إليه أخبار المبصرات وينقش فيه صورها فيجول فيها الفكر فيشغله ذلك عن الفكر فيما ينفعه من أمر الآخرة.
ولما كان إطلاق البصر سببا لوقوع الهوى في القلب أمرك الشرع بغض البصر عما يخاف عواقبه فإذا تعرضت بالتخليط وقد أمرت بالحمية فوقعت إذا في أذى فلم تضج من أليم الألم.
[*] قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:
قال تعالى: (قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَىَ لَهُمْ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا) [النور 30: 31] ثم أشار إلى مسبب هذا السبب ونبه على ما يئول إليه هذا الشر بقوله ويحفظوا فروجهم ويحفظن فروجهن.
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:(10/172)
هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم، فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه (8)، وأن يغضوا (9) أبصارهم عن المحارم، فإن اتفق أن وقع البصر على مُحرَّم من غير قصد، فليصرف بصره عنه سريعًا، كما رواه مسلم في صحيحه، من حديث يونس بن عُبَيد، عن عمرو بن سعيد، عن أبي زُرْعَة بن عمرو بن جرير، عن جده جرير بن عبد الله البجلي، رضي الله عنه، قال: سألت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن نظرة الفجأة، فأمرني أن أصرفَ بَصَري.
قال القرطبي رحمه الله: البصر هو الباب الأكبر إلى القلب وأعمر طرق الحواس إليه وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته ووجب التحذير منه وغضه واجب عن جميع المحرمات وكل ما يخشى الفتنة من أجله وفي صحيح مسلم عن جرير عن عبد الله قال: سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نظرة الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري وهذا يقوي قول من يقول إن من للتبعيض لأن النظرة الأولى لاتملك فلا تدخل تحت خطاب تكليف.
[وقال:] وبدأ بالغض قبل الفرج لأن البصر رائد للقلب كما أن الحمى رائدة الموت وأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال: ألم تر أن العين للقلب رائد فما تألف العينان فالقلب آلف ا. هـ[تفسير القرطبي 12/ 222]
ويقول ابن القيم كذلك كما في كتابه الجواب الكافي عندما تكلم عن الزنا فقال:
ولما كان مبدأ ذلك من قبل البصر جعل الأمر بغضه مقدمًا على حفظ الفرج فإن كل الحوادث مبدؤها من النظر تكون نظرة - ثم تكون خطرة - ثم خطوة - ثم خطيئة فإما اللحظات فهى رائدة الشهوة ورسولها وحفظها أصل حفظ الفرج فمن أطلق نظرة أورد نفسه موارد الهلاك والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان ومن آفاته. أنه يورث الحسرات والزفرات والحرقات فيرى الإنسان ما ليس قادرًا عليه ولا صابرًا عنه وهذا من أعظم العذاب.
(حديث ابن عباس في الصحيحين) قال كان الفضلُ رَدِيْفَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقدمت امرأةٌ من خثعم، فجعل الفضلُ ينظرُ إليها وتنظرُ إليه، وجعل رسول الله يصرفُ وجه الفضل إلى الشقِ الآخر، فقالت يا رسول الله: إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت شيخاً كبيراً لا يثبتُ على الراحلة، أفأحجُ عنه؟ قال نعم. وذلك في حجة الوداع.(10/173)
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كُتب على ابن آدم نصيبه من الزنا، فهو مدرك ذلك لا محالة فالعينان زناهما النظر و الأذنان زناهما الاستماع و اللسان زناه الكلام و اليد زناها البطش و الرجل زناها الخطا و القلب يهوى و يتمنى و يصدق ذلك الفرج أو يكذبه.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[فالعينان زناهما النظر] فبدا الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بزنى العين لأنه اصل زنى اليد والرجل والقلب والفرج وهذا الحديث من أبين الأشياء على أن العين تعصى بالنظر وان ذلك زناها.
قال الغزالي رحمه الله تعالى: ونبه به على أنه لا يصل إلى حفظ الفرج إلا بحفظ العين عن النظر وحفظ القلب عن الفكرة وحفظ البطن عن الشبهة وعن الشبع فإن هذه محركات للشهوة ومغارسها قال عيسى عليه السلام: إياكم والنظر فإنه يزرع في القلب الشهوة وكفى بها لصاحبها فتنة ثم قال الغزالي: وزنا العين من كبار الصغائر وهو يؤدي إلى الكبيرة الفاحشة وهي زنا الفرج ومن لم يقدر على غض بصره لم يقدر على حفظ دينه.
[فيض القدير ج: 4 ص: 65]
(حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من كان منكن يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ترفع رأسها حتى يرفع الرجال رءوسهم كراهة أن يرين من عورات الرجال.
ولهذا جعل الرسول غض البصر من حقوق الطريق التي تلزم كل جالس فيها حتى لا تتخذ الطرقات ذرائع للترفه بمحاسن النساء وتأمل مفاتن الغاديات والرائحات.
(حديث أبي سعيد في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إياكم و الجلوس في الطرقات، قالوا يا رسول الله مل لنا منها بدٌ إنها مجالسنا نتحدثُ فيها، قال فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقه، قالوا وما هو حقُ الطريق؟ قال: غض البصر و كف الأذى و رد السلام و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.
قال النووي رحمه الله تعالى:
وقد أشار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى علة النهي من التعرض من الفتنة و الإثم بمرور النساء وغيرهن وقد يمتد النظر إليهن أو فكر فيهن.(10/174)
{تنبيه}: وفي الحديث مشروعية سد الذرائع التي بنيت عليها فروع كثير فقهية، فهذه الخصال من حقوق الطريق التي يُلزم بها الجالس عليها ومنها غض البصر وكفه عن النظر إلى النساء وذلك في الأماكن العامة التي هي مظنة مرور العرايا والمتبرجات فان الجلوس في مثل هذه الأماكن جريمة ومنكر ولاسيما إذا اعتاده الإنسان فانه يفسق بذلك وهذه صرخة إنذار لمن يعتادون الجلوس على الطرقات ويتخذون من المقاهي مجالس للتسلية والنظر لما حرم عليه.
ولله درًّ من قال:
كل الحوادث مبدأها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة بلغت في قلب صاحبها ... كمبلغ السهم بين القوس والوتر
والعبد ما دام ذا طرفٍ يقلبه ... في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسرُ مُقْلَتَه ما ضَر مُهْجَتَه ... لا مرحبا بسرور عاد بالضرر
وقد أمرنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سُنَّتِهِ المُشَرَّفَة بغض البصر ومن ذلك ما يلي:
(حديث أبي أمامة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اكفلوا لي بست أكفل لكم بالجنة: إذا حدث أحدكم فلا يكذب و إذا ائتمن فلا يخن وإذا وعد فلا يخلف و غضوا أبصاركم و كفوا أيديكم و احفظوا فروجكم.
(حديث سهل بن سعد في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من يضمن لي ما بين لحييه و ما بين رجليه أضمن له الجنة.
وقد كان السلف الصالح أشد إيمانا وأكثر عملا ومع هذا فإنهم لا يأمنون على أنفسهم فتنة النساء.
فكان انس يقول: إذا مرت بك امرأة فغض عينك حتى تجاوزك
وكان الربيع ابن خثيم:
يمشى فمر به نسوه فغض بصره وأطرق حتى ظن النسوة انه أعمى فتعوذن بالله من العمى.
وقال وكيع خرجنا مع الثوري في يوم عيد فقال: إن أول ما نبدأ به في يومنا غض أبصارنا
وخرج حسان بن أبي سنان يوم عيد: فلما عاد فقالت له امرأته كم من امرأة حسناء قد رأيت؟ فقال: والله ما نظرت إلا في إبهامي منذ خرجت من عندك إلى أن رجعت إليك.
الله اكبر إنها قلوب غفت عن الحرام فعوضها الله خيرا وأذاقها حلاوة الإيمان.
أين هؤلاء ممن يطلقون البصر ليل نهار.
أين هؤلاء ممن يتابع مشاهد الفجور في التلفاز والفضائيات.
أين هؤلاء ممن يجلسون على المقاهي والطرقات ينظرون إلى الغاديات والرائحات.
أين هؤلاء ممن يجلسون في الأندية ينظرون إلى كل رائحة وغادية.(10/175)
قال الأصمعي: رأيت جارية في الطواف كأنها مهاة فجعلت أنظر إليها وأملأ عيني من محاسنها فقالت لي: يا هذا ما شأنك قلت: وما عليك من النظر فأنشأت تقول:
وكنت متى أرسلت طرفك رائدا ... لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر
نظر رجل إلى امرأة عفيفة فقالت: يا هذا غض بصرك عما ليس لك تنفتح بصيرتك فترى ما هو لك. نفح الطيب للتلمساني 5/ 314
والنظرة تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرمية فإن لم تقتله جرحته وهي بمنزلة الشرارة من النار ترمى في الحشيش اليابس فإن لم يحرقه كله أحرقت بعضه كما قيل:
كل الحوادث مبدأها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها ... فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها ... في أعين الغير موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته ... لا مرحبا بسرور عاد بالضرر
والناظر يرمي من نظره بسهام غرضها قلبه وهو لا يشعر فهو إنما يرمي قلبه.
ولله درُ من قال:
يا راميا بسهام اللحظ مجتهدا ... أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
وباعث الطرف يرتاد الشفاء له ... توقه إنه يأتيك بالعطب
ولما كان النظر داعية إلى فساد القلب، كما قال بعض السلف: "النظر سهام سم إلى القلب"؛ ولذلك أمر الله بحفظ الفروج كما أمر بحفظ الأبصار التي هي بواعث إلى ذلك، فقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}. وحفظُ الفَرج تارةً يكون بمنعه من الزنى، كما قال {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المعارج:29، 30] أهـ.
ذم فضول النظر:
(حديث جرير بن عبد الله البجلي في صحيح مسلم) قال: سألت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري.
(حديث بُريدة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعلي يا علي لا تتبع النظرةَ النظرة فإن لك الأولى وليس لك الآخرة.
وكذلك النظرة إذا أثرت في القلب فإن عجل الحازم بغضها وحسم المادة من أولها سهل علاجه وإن كرر النظر نقب عن محاسن الصورة ونقلها إلى قلب متفرغ فنقشها فيه فكلما تواصلت النظرات كانت كالمياه تسقى بها الشجرة فلا تزال تنمي فيفسد القلب ويعرض عن الفكر فيما أمر به ويخرج بصاحبه إلى المحن ويوجب ارتكاب المحظورات ويلقى في التلف.(10/176)
[*] قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:
والسبب في هذا الهلاك أن الناظر أول نظرة التذ بها فكررها يطلب الالتذاذ بالنظر مستهينا بذلك فأعقبه ما استهان به التلف ولو أنه غض عند أول نظرة لسلم في باقي عمره.
ولله درُ من قال:
أنا ما بين عدوين هما قلبي وطرفي ... ينظر الطرف ويهوى القلب والمقصود حتفي.
وقال ابن الحريري.
فتبصر ولا تشم كل برق ... رب برق فيه صواعق حين.
واغضض الطرف تسترح من غرام ... تكتسي فيه ثوب ذل وشين.
فبلاء الفتى موافقة النفس ... وبدء الهوى طموح العين.
التحذير من شر النظر:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه.
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح:
قال ابن بطال: سُمِّيَ النظر والنطق زنا لأنه يدعو إلى الزنا الحقيقي ولذلك قال والفرج يصدق ذلك ويكذبه.
كم من نظرة تحلو في العاجلة، مرارتها لا تطاق في الآجلة، يا بن آدم قلبك قلب ضعيف، ورأيك في إطلاق الطرف رأي سخيف، يا طفل الهوى متى يؤنس منك رشد، عينك مطلقة في الحرام ولسانك مهمل في الآثام، وجسدك يتعب في كسب الحطام، كم نظرة محتقرة زلت بها الأقدام.
يا عجباً للمشغولين بأوطارهم، عن ذكر أخطارهم، لو تفكروا في حال صفائهم في أكدارهم، لما سلكوا طريق اغترارهم، ما يكفي في وعظهم وازدجارهم (قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ)
أين أرباب الهوى والشهوات، ذهبت والله اللذات وبقيت التبعات، وندموا إذ قدموا على ما فات، وتمنوا العودة وهيهات، فتلمح في الآثار سوء أذكارهم (قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ)
احذروا نظرة تفسد القلوب، وتجني عليكم الذم والعيوب، وتسخط مولاكم عالم الغيوب.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي عثمان سعيد بن الحكم ـ تلميذ ذي النون ـ قال، سئل ذو النون: ما سبب الذنب؟ قال: اعقل ويحك ما تقول، فإنها من مسائل الصديقين. سبب الذنب النظرة، ومن النظرة الخطرة، فإن تداركت الخطرة بالرجوع إلى الله ذهبت، وإن لم تذكرها امتزجت بالوساوس فتتولد منها الشهوة وكل ذلك بعد باطن لم يظهر على الجوارح، فإن تذكرت الشهوة وإلا تولد منها الطلب، فإن تداركت الطلب وإلا تولد منه العقل.(10/177)
أورد ابن الجزري رحمه الله تعالى في الزهر الفاتح عن الشبلي رحمه الله تعالى قال: رأيت فتى في الطواف تفرست فيه الخير، فنظر الفتى إلى امرأة كانت تطوف، وإذا بسهم قد أصاب عينه، فذهبت إليه وأخرجت من عينه السهم فإذا عليه مكتوب: نظرت بعينك إلى غيرنا فأعميناها، ولو نظرت بقلبك إلى غيرنا لكويناه.
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
قال بعض الصالحين: رأيت حداداً وهو يخرج الحديد من النار بيده ويقلبها باًصابعه، فقلت في نفسي: هذا عبد صالح، فدنوت منه وسلمت عليه، فرد علي السلام، فقلت له: يا سيدي، بالذي عليك بهذه المنزلة ألا ما دعوت الله لي، فبكى وقال: يا أخي، ما أنا من القوم الذين تزعم، ولكن أحدثك أمري، وذلك أني كنت كثير المعاصي والذنوب، فوقعت على امرأة من أحسن الناس وجهاً، فقالت لي: هل عندك شيء لله تعالى، فأخذت قلبي؟ فقلت لها أمضي معي إلى البيت وادفع لك ما يكفيك، فتركتني وذهبت ثم عادت وهي تبكي، وقالت: والله لقد أحوجني الوقت إلى أن رجعت إليك، فأخذتها ومضيت بها إلى البيت ثم أجلستها، وتقدمت أليها، فإذا هي تضطرب كالسفينة في الريح العاصف، فقلت: مم اضطرابك، فقالت: خوفا من الله تعالى أن يرانا على هذه الحالة، فإن تركتني ولم تصبني فلا أحرقك الله بناره لا في الدنيا ولا في الآخرة.
فقمت عنها ودفعت لها ما كان عندي لله تعالى، فخرجت من عندي، وأغمي علي، فرأيت في النوم امرأة أحسن منها، فقلت لها: من أنت؟ فقالت: أنا أم الصبية التي جاءت إليك، هي من نسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن يا أخي جزاك الله عني خيراً، ولا أحرقك الله بناره لا في الدنيا ولا في الآخرة، فانتبهت وأنا فرح مسرور فأنا من ذلك اليوم تركت ما كنت عليه من المعاصي، ورجعت إلى الله تعالى.
قال ابن الجزري رحمه الله تعالى في الزهر الفاتح:
حكي عن الحسن البصري رضي الله عنه أنه مشى خلف جزارة، فلما بلغ سكة الجزارة وقف وبكى بكاء شديداً، فقيل له في ذلك، لقال: كان ههنا رجل عابد، فدخل يوما هذه السكة، فرأى امرأة نصرانية، فافتتن بها فخاطبها، فامتنعت منه إلا أن يدخل في دين النصرانية، فغلب عليه الشيطان، ودخل في دينها، فلما سمعت المرأة بذلك خرجت إليه وبصقت في وجهه، وقالت له: أفٍ لك من رجل تركت دين الإسلام لشهوة ساعة، وأنا تركت دين النصرانية لشهوة الأبد، فأسلمت وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وحسن إسلامها.(10/178)
{تنبيه}: ويجب على المسلم أن يغض بصره عن بيوت الناس:
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن النظر الحرام النظر إلى العورات وهي قسمان: عورة وراء الثياب، وعورة وراء الأبواب. ا. هـ مدارج السالكين ج: 1 ص: 117
[*] وقال ابن تيمية: وكما يتناول غض البصر عن عورة الغير وما اشبهها من النظر إلى المحرمات فإنه يتناول الغض عن بيوت الناس فبيت الرجل يستر بدنه كما تستره ثيابه وقد ذكر سبحانه غض البصر وحفظ الفرج بعد آية الاستئذان، وذلك أن البيوت سترة كالثياب التي على البدن، كما جمع بين اللباسين فى قوله تعالى {والله جعل لكم مما خلق ظلالاً وجعل لكم من الجبال أكناناً وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم} فكل منهما وقاية من الأذى الذى يكون سموما مؤذيا كالحر والشمس والبرد وما يكون من بنى آدم من النظر بالعين واليد وغير ذلك. ا. هـ مجموع الفتاوى 15/ 379
وقد بين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سنته الصحيحة أنما جعل الاستئذان من أجل البصر.
(حديث سهل بن سعد في الصحيحين) قال: اطَّلع رجلٌ من جحرٍ في حجرِ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِدْرى يحكُ به رأسه فقال: لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك إنما جعل الاستئذان من أجل البصر.
(حديث عبد الله بن بسر في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه و لكن من ركنه الأيمن أو الأيسر و يقول: السلام عليكم السلام عليكم.
كلمة إلى الذين يُطْلِقون أبصارهم ولا يغضونها:
إلى كل رجل أو امرأة نظرا إلى الحرام فليعلم الجميع:
أن هذه النظرة ما هي إلا سهم مسموم فان أصابك سهم قتلك فكيف وان هذا السهم مسموم.
لا تظن أن هذه النظرة ستروى ظمئك فما أنت بذلك إلا كالذي يشرب ن ماء البحر فكلما ازداد شربا ازداد عطشا ويظل هكذا حتى يقتله.
ولخطورة الأمر انظر إلى هذا الرجل الذي نظر إلى امرأة نصرانية فأعجبته ووقع حُبُها في قلبه فراودها عن نفسها فطلبت منه أن يتنصر فتنصر ومات على النصرانية ولو غض الطرف ما كان هذا.
ألم تسمع قوله تعالي: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر/19](10/179)
[*] قال ابن عباس في هذه الآية: هو الرجل يكون في القوم فتمر به المرأة فيريهم أنه يغض بصره عنها فان رأى منهم غفلة نظر إليها فان خاف أن يفطنوا إليه غض بصره وقد اطلع الله عز وجل من قلبه انه يود لو نظر إلى عورتها.
[*] سئل الجنيد بما يستعان على غض البصر؟
قال بعلمك أن نظر الله إليك اسبق إلى ما تنظر إليه.
[*] قال الإمام احمد:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل ... خلوت ولكن قل على رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ... ولا أن ما تخفي عليه يغيب
[*] وصدق أبو الأعلى المودودي حيث قال:
من الذي يكابر في أن كل ما يحدث في الدنيا إلى هذا اليوم ولا يزال يحدث فيها من الفحشاء والفجور باعثه الأول والأعظم هو فتنة النظر.
[*] غض البصر للنساء:
[*] قال النووي رحمه الله في شرحه على مسلم (10/ 96):" الصحيح الذي عليه جمهور العلماء وأكثر الصحابة أنه يحرم على المرأة النظر إلى الأجنبي كما يحرم عليه النظر إليها لقوله تعالى قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ولأن الفتنة مشتركة ".
[*] قال ابن الجوزي في أحكام النساء (60):
" وينبغي للمرأة أن تغض طرفها عن الرجال، كما يؤمر الرجال بالغض عنها، وقد اختلفت الرواية عن أحمد بن حنبل - رحمه الله - فيما يجوز للمرأة أن ترى من الرجل الأجنبي، فروى عنه، أنه يجوز لها أن ترى منه ما ليس بعورة، وروي عنه أنه يحرم عليها أن تنظر منه ما يحرم عليه أن ينظر منها. واعلم أن أصل العشق إطلاق البصر، وكما يخاف على الرجل من ذلك يخاف على المرأة، وقد ذهب دين خلق كثير من المتعبدين بإطلاق البصر وما جلبه، فليحذر من ذلك ".
وقال أيضاً في (43): " ومن المنكرات اطلاع النساء على الشباب إذا اجتمعوا في الدعوات لأنه لا يؤمن الفتنة " (1).
كيفية معالجة الهم والفكر المتولد عن النظر:
[*] قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:
__________
(1) ينظر لزاماً: أحكام النظر وغائلته وما يجني على صاحبه , وفوائد غض البصر في فتاوى ابن تيمية (15/ 140) تفسير سورة النور , وكتاب روضة المحبين ونزهة المشتاقين للإمام ابن القيم (ص83).(10/180)
اعلم وفقك الله أنك إذا امتثلت المأمور به من غض البصر عند أول نظرة سلمت من آفات لا تحصى فإذا كررت النظر لم تأمن أن يزرع في قلبك زرعا يصعب قلعه فإن كان قد حصل ذلك فعلاجه الحمية بالغض فيما بعد وقطع مراد الفكر بسد باب النظر فحينئذ يسهل علاج الحاصل في القلب لأنه إذا اجتمع سيل فسد مجراه سهل نزف الحاصل ولا علاج للحاصل في القلب أقوى من قطع أسبابه ثم زجر الاهتمام به خوفا من عقوبة الله تعالى فمتى شرعت في استعمال هذا الدواء رُجِيَ لك قرب السلامة وإن ساكنت الهم ترقى إلى درجة العزم ثم حرك الجوارح.
[*] أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى عن أبي بكر القرشي قال قيل لبعض الحكماء ما سبب الذنب؟ قال الخطرة، فإن تداركت الخطرة بالرجوع إلى الله ذهبت وإن لم تفعل تولدت عنها الفكرة، فإن تداركتها بالرجوع إلى الله بطلت وإلا فعند ذلك تخالط الوسوسة.
من ابتلي بنظر الفجأة أن يداويه بإتيان امرأته:
(حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه.
(حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن المرأة إذا أقبلت أقبلت في صورة شيطان فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله فإن معها مثل الذي معها.
[*] أورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عن الربيع بن خيثم أنه جاء إلى علقمة فدخل المسجد، وكان في جانب المسجد جماعة من النساء فجعلن يمررن عليه في المسجد، فغض بصره، فلا يلتفت يمينا ولا شمالا.
ذكر ثواب من غض بصره عن الحرام:
تأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي أمامة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اكفلوا لي بست أكفل لكم بالجنة: إذا حدث أحدكم فلا يكذب و إذا ائتمن فلا يخن وإذا وعد فلا يخلف و غضوا أبصاركم و كفوا أيديكم و احفظوا فروجكم.
في النهي عن النظر إلى المردان ومجالستهم:(10/181)
[*] قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:
اعلم وفقك الله أن هذا الباب من أعظم أبواب الفتن قد أهمل كثير من الناس مراعاته فإن الشيطان إنما يدخل على العبد من حيث يمكنه الدخول إلى أن يدرجه إلى غاية ما يمكنه من الفتن فإنه لا يأتي إلى العابد فيحسن له الزنا في الأول وإنما يزين له النظر والعابد والعالم قد أغلقا على أنفسهما باب النظر إلى النساء الأجانب لبعد مصاحبتهن وامتناع مخالطتهن والصبي مخالط لهما فليحذر من فتنته فكم قد زل فيها قدم وكم قد حلت من عزم وقل من قارب هذه الفتنة إلا وقع فيها.
وعلى منهج الحذر مضى سلف هذه الأمة وبه أمر العلماء الأئمة.
[*] أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى عن أبي سهل قال سيكون في هذه الأمة قوم يقال لهم اللوطيون على ثلاثة اصناف فصنف ينظرون وصنف يصافحون وصنف يعملون ذلك العمل.
قال أبو بكر بن أيوب: سمعت إبراهيم الحربي يقول جنبوا أولادكم قرناء السوء قبل أن تصبغوهم في البلاء كما يصبغ الثوب.
قال وسمعته يقول أول فساد الصبيان بعضهم من بعض.
وقال علي بن محمد بن أبي صابر الدلال: وقفت علي الشبلي في قبة الشعراء في جامع المنصور والناس مجتمعون عليه فوقف عليه في الحلقة غلام لم يكن ببغداد في ذلك الوقت أحسن وجها منه يعرف بابن مسلم فقال له تنح فلم يتنح فقال له الثانية تنح يا شيطان عنا فلم يتنح فقال له الثالثة تنح وإلا والله خرقت كل ما عليك.
فوائد غض البصر:
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان:
غض البصر عن المحارم يوجب ثلاث فوائد عظيمة الخطر، جليلة القدر:
(الفائدة الأولى): حلاوة الإيمان ولذته، التي هي أحلى وأطيب وألذ مما صرف بصره عنه وتركه لله تعالى فإن من ترك شيئا لله عوضه الله عز وجل خيرا منه، والنفس مولعة بحب النظر إلى الصور الجميلة، والعين رائد القلب. فيبعث رائده لنظر ما هناك، فإذا أخبره بحسن المنظور إليه وجماله، تحرك اشتياقا إليه، وكثيرا ما يتعب ويتعب رسوله ورائده كما قيل:
وَكُنْتَ مَتَى أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِدًا لِقلبكَ يَوْماً أتْعَبَتْكَ المنَاظِرُ
رَأَيْتَ الذي لا كُلَّهُ أَنْتَ قَادِرٌِ عَلَيْه وَلا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابرُ(10/182)
فإذا كف الرائد عن الكشف والمطالعة استراح القلب من كلفة الطلب والإرادة، " فمن أطلق لحظاته دامت حسراته"، فإن النظر يولد المحبة. فتبدأ علاقة يتعلق بها القلب بالمنظور إليه. ثم تقوى فتصير صبابة. ينصب إليه القلب بكليته. ثم تقوى فتصير غراما يلزم القلب، كلزوم الغريم الذي لا يفارق غريمه. ثم يقوى فيصير عشقا. وهو الحب المفرط. ثم يقوى فيصير شغفا. وهو الحب الذي قد وصل إلى شَغاف القلب وداخله. ثم يقوى فيصير تتيماً. والتتيم التعبد ومنه تيمه الحب إذا عَبَّده. وتيم الله عبد الله. فيصير القلب عبدا لمن لا يصلح أن يكون هو عبدا له. وهذا كله جناية النظر فحينئذ يقع القلب في الأسر. فيصير أسيرا بعد أن كان ملكا، ومسجونا بعد أن كان مطلقا. يتظلم من الطرْف ويشكوه. والطرْف يقول: أنا رائدك ورسولك، وأنت بعثتني، "وهذا إنما ابتُلى به القلوب الفارغة من حب الله والإخلاص له"، فإن القلب لا بد له من التعلق بمحبوب. فمن لم يكن الله وحده محبوبه وإلهه ومعبوده فلا بد أن ينعقد قلبه لغيره. قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام:
{كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ} [يوسف: 24].
فامرأة العزيز لما كانت مشركة وقعت فيما وقعت فيه، مع كونها ذات زوج، ويوسف عليه السلام لما كان مخلصا لله تعالى نجا من ذلك مع كونه شابا عزَبا غريبا مملوكا.
(الفائدة الثانية): نور القلب وصحة الفراسة.
[*] قال أبو شجاع الكرماني: " من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وكف نفسه عن الشهوات، وغض بصره عن المحارم، واعتاد أكل الحلال لم تخطئ له فراسة"وقد ذكر الله سبحانه قصة قوم لوط وما ابتلوا به، ثم قال بعد ذلك:
{إِنَّ فِى ذلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75].
وهم المتفرسون الذين سلموا من النظر المحرم والفاحشة، وقال تعالى عقيب أمره للمؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم:
{اللهُ نُورُ السَّمواتِ وَالأرْضِ} [النور: 35].(10/183)
وسر هذا الخبر: أن الجزاء من جنس العمل. فمن غض بصره عما حرم الله عز وجل عليه عوضه الله تعالى من جنسه ما هو خير منه، فكما أمسك نَوَّرَ بصره عن المحرمات أطلق الله نور بصيرته وقلبه، فرأى به ما لم يره من أطلق بصره ولم يغضه عن محارم الله تعالى، وهذا أمر يحسه الإنسان من نفسه. فإن القلب كالمرآة، والهوى كالصدأ فيها. فإذا خلصت المرآة من الصدأ انطبعت فيها صورة الحقائق كما هي عليه. وإذا صدئت لم ينطبع فيها صورة المعلومات. فيكون علمه وكلامه من باب الخرص والظنون.
(الفائدة الثالثة):قوة القلب وثباته وشجاعته، فيعطيه الله تعالى بقوته سلطان النُصْرَة، كما أعطاه بنوره سلطان الحجة، فيجمع له بين السلطانين، ويهرب الشيطان منه، كما في الأثر:
"إنَّ الذي يُخَالِفُ هَوَاهُ يَفْرَقُ الشَّيْطَانُ مِنْ ظِلِّهِ".ولهذا يوجد في المُتَبِعِ هواه من ذل النفس وضعفها ومهانتها ما جعله الله لمن عصاه، فإنه سبحانه جعل العز لمن أطاعه والذل لمن عصاه. قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] وقال تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأنْتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُريِدُ الْعِزَّةَ فَللَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} [فاطر: 10].
أي "من كان يطلب العزة فليطلبها بطاعة الله: بالكلم الطيب، والعمل الصالح"، وقال بعض السلف: "الناس يطلبون العز بأبواب الملوك ولا يجدونه إلا في طاعة الله"
وقال الحسن: "وإن هَمْلَجَتْ بهم البراذين، وطقطقت بهم البغال إن ذل المعصية لفي قلوبهم، "أبى الله عز وجل إلا أن يُذِلَّ من عصاه"، وذلك أن من أطاع الله تعالى فقد والاه، ولا يذل من والاه الله، كما في دعاء القنوت:
"إِنَّهُ لا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ وَلا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ".
الحذر طريق السلامة:
[*] قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه صيد الخاطر:
من قارب الفتنة بعدت عنه السلامة، و من ادعى الصبر، و كل إلى نفسه.
و رب نظرة لم تناظر! و أحق الأشياء بالضبط و القهر: اللسان و العين. فإياك إياك أن تغتر بعزمك على ترك الهوى، مع مقاربة الفتنة، فإن الهوى مكايد، و كم من شجاع في صف الحرب اغتيل، فأتاه ما لم يحتسب ممن يأنف النظر إليه! واذكر حمزة مع وحشي.(10/184)
ب- كف الأذى: ومن حقوق الطريق، كف الأذى، وعدم إيذاء الناس في أبدانهم أو أعراضهم.
وتأمل في النصوص الآتية بعين البصيرة
قال تعالى: (وَالّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مّبِيناً) [الأحزاب: 58]
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ.
والحديث من جوامع كلمه صلى الله عليه وآله وسلم، فيشمل اللسان من تكلم بلسانه وآذى الناس في أعراضهم أو سبهم، ويشمل من أخرج لسانه استهزاء وسخرية. وكذا اليد فإن أذيتها لا تنحصر في الضرب، بل تتعداها إلى أمور أخر كالوشاة بالناس والسعي في الاضرار بهم عن طريق الكتابة، أو القتل ونحو ذلك.
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَفْضَلُ المُؤْمِنِينَ إِسٍْلَامَا مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَأَفْضَلُ المُؤْمِنِينَ إِيمَانَاً أَحْسَنُهُم خُلُقَاً وَأَفْضَلُ المُهَاجِرِينَ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَأَفْضَلُ الجِهَادِ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللهِ عَزَ وَجَل.
(حديث أسود بن أصرم رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تَبْسُطْ يَدَكَ إِلَا إِلَى خَيْرٍ وَلَا تَقُلْ بِلِسَانِكَ إِلَا مَعْرُوفَاً.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا.
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ.(10/185)
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح ابن ماجة) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ.
بل إن من محاسن هذا الدين أن كان كف المرء شره وأذه عن الناس صدقة يتصدق بها على نفسه، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث أبي موسى الأشعري الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ فَقَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ قَالَ يَعْمَلُ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ قَالُوا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قَالَ يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ قَالُوا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قَالَ فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ وَلْيُمْسِكْ عَنْ الشَّرِّ فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ.
ت-رد السلام:
ومن حقوق الطريق: رد السلام، وهو واجب، ومن حق المسلم على أخيه، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ رَدُّ السَّلَامِ وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ قِيلَ مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَسَمِّتْهُ وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ.(10/186)
وقد قصَّر في هذا الباب خلقٌ كثير، واقتصر سلامهم على المعرفة، فمن عرفوه سلموا عليه أو ردوا عليه سلامه، ومن لم يعرفوه لم يعيروه اهتماماً. وهذا خللٌ ومخالفة للسنة.
ث-وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه من أفضل الأعمال وأجل القربات لأنه قطب الدين العظيم والمهمة التي بعث الله تعالى بها الأنبياء والمرسلين، وهو كذلك سبب خيرية هذه الأمة، وبه يحصل النجاة من الهلكة.
قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ مّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) [سورة: آل عمران - الآية: 110]
[*] قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره:
قوله تعالى: [كنتم خير أمة أخرجت للناس] ثبت بنص التنزيل أن هذه الأمة خير الأمم
قوله تعالى: " تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر " مدح لهذه الأمة ما أقاموا ذلك واتصفوا به. فإذا تركوا التغيير وتواطأوا على المنكر زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم، وكان ذلك سبباً لهلاكهم. أهـ
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة
(حديث معاوية ابن حيدة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أنه سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: في قوله {كنتم خير أمة أخرجت للناس} قال إنكم تُتِمُّونَ سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله.
قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(تُتِمُّونَ) بِضَمٍّ فَكَسْرٍ فَتَشْدِيدٍ مِنَ الْإِتْمَامِ، أَيْ تُكْمِلُونَ.(10/187)
(سَبْعِينَ أُمَّةً) أَيْ يَتِمُّ الْعَدَدُ بِكُمْ سَبْعِينَ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لِلتَّكْثِيرِ قَالَهُ الْمُنَاوِيُّ، فَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِسَبْعِينَ التَّكْثِيرُ لَا التَّحْدِيدُ لِيُنَاسِبَ إِضَافَةَ الْخَيْرِ إِلَى الْمُفْرَدِ النَّكِرَةِ لِأَنَّهُ لِاسْتِغْرَاقِ الْأُمَمِ الْفَائِتَةِ لِلْحَصْرِ بِاعْتِبَارِ أَفْرَادِهَا، أَيْ إِذَا نَقَصَتْ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ كُنْتُمْ خَيْرَهَا وَتُتِمُّونَ عِلَّةٌ لِلْخَيْرِيَّةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْخَتْمُ، فَكَمَا أَنَّ نَبِيَّكُمْ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ أَنْتُمْ خَاتَمُ الْأُمَمِ. انْتَهَى. وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُمَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَّةً.
وقال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلََئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [سورة: التوبة - الآية: 71]
وقال تعالى: (فَلَماّ نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُوَءِ وَأَخَذْنَا الّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ) [سورة: الأعراف - الآية: 165]
قال تعالى [فلما نسوا ما ذكروا به] أي فلما أبى الفاعلون قبول النصيحة
[أَنجَيْنَا الّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُوَءِ وَأَخَذْنَا الّذِينَ ظَلَمُواْ] أي ارتكبوا المعصية "بعذاب بئيس" فنص على نجاة الناهين وهلاك الظالمين.
مَرَاتِبُ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ:
" أَعْلَاهُ بِالْيَدِ ثُمَّ بِاللِّسَانِ , ثُمَّ بِالْقَلْبِ "" ولَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ " وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي سعيد في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه و ذلك أضعف الإيمان.(10/188)
(حديث ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ.
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ: مُرَادُهُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذَا الْإِنْكَارِ مَا يَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ حَتَّى يَفْعَلَهُ الْمُؤْمِنُ بَلْ الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ آخِرُ حُدُودِ الْإِيمَانِ , لَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُنْكِرْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ وَلِهَذَا قَالَ: " لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ " فَجَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ فَكُلٌّ مِنْهُمْ فَعَلَ الْإِيمَانَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ قَالَ وَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِمْ مَعَ بُلُوغِ الْخِطَابِ إلَيْهِمْ كُلِّهِمْ. انْتَهَى كَلَامُهُ. {تنبيه}: إن شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يُنافَحُ بها عن الدين، ويُنصح للمسلمين عن التردي في هوة صيحات العابثين، وبه تُحْرَسُ الفضائل، وتكبت الرذائل، ويؤخذ على أيدي السفهاء،
{تنبيه}: إذا أدى تغيير المنكر إلى منكراً أشد فإنه لا يجوز تغييره.
قال تعالى: (وَلاَ تَسُبّواْ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيّنّا لِكُلّ أُمّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمّ إِلَىَ رَبّهِمْ مّرْجِعُهُمْ فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 108]
الشاهد: قوله تعالى (وَلاَ تَسُبّواْ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ)(10/189)
يقول الله تعالى ناهيا لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين عن سب آلهة المشركين وإن كان فيه مصلحة إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها وهي مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين وهو "الله لا إله إلا هو"
خطر التقاعس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
إن التقاعس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمره خطير وشره مستطير، وقد يكون سبباً في تعميم العقاب وعدم استجابة الدعاء.
قال تعالى: (لُعِنَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيَ إِسْرَائِيلَ عَلَىَ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وّكَانُواْ يَعْتَدُونَ، كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) [سورة: المائدة /78، 79]
قوله تعالى: [لُعِنَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيَ إِسْرَائِيلَ] أي لعنهم الله سبحانه "على لسان داود وعيسى ابن مريم" أي في الزبور والإنجيل على لسان داود وعيسى بما فعلوه من المعاصي كاعتدائهم في السبت وكفرهم بعيسى.
قوله: [ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا] أي ذلك اللعن بسبب المعصية والاعتداء لا بسبب آخر.
ثم بين سبحانه المعصية والاعتداء بقوله تعالى [كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه] أي لا ينهي بعضهم بعضاً عن فعل المعاصي، وبيان العصيان والاعتداء بترك التناهي عن المنكر لأن من أخل بواجب النهي عن المنكر فقد عصى الله سبحانه وتعدى حدوده. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم القواعد الإسلامية وأجل الفرائض الشرعية، ولهذا كان تاركه شريكاً لفاعل المعصية ومستحقاً لغضب الله وانتقامه كما وقع لأهل السبت، فإن الله سبحانه مسخ من لم يشاركهم في الفعل ولكن ترك الإنكار عليهم، كما مسخ المعتدين فصاروا جميعاً قردة وخنازير "إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد" ثم إن الله سبحانه قال مقبحاً لعدم التناهي عن المنكر "لبئس ما كانوا يفعلون" أي من تركهم لإنكار ما يجب عليهم إنكاره.
(حديث أبي بكر الصديق في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه.
(إن الناس) المطيقين لإزالة الظلم مع سلامة العافية
(إذا رأوا الظالم) أي علموا بظلمه
(فلم يأخذوا على يديه) أي لم يمنعوه من الظلم بفعل أو قول.
(أوشك) أي قارب أو أسرع(10/190)
(أن يعمهم اللّه بعقاب منه) إما في الدنيا أو الأخرى أو فيهما لتضييع فرض اللّه بغير عذر وزاد قوله منه زيادة في التهويل والزجر والتحذير وقد أفاد بالخبر أن من الذنوب ما يعجل اللّه عقوبته في الدنيا ومنه ما يمهله إلى الآخرة والسكوت على المنكر يتعجل عقوبته في الدنيا بنقص الأموال والأنفس والثمرات وركوب الذل من المظلمة للخلق وقد تبين بهذا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية لا عين، إذ القصد إيجاد مصلحة أو دفع مفسدة لا تكليف فرد فرد فإذا أطبقوا على تركه استحقوا عموم العقاب لهم وفيه تحذير عظيم لمن سكت عن النهي فكيف بمن داهن فكيف بمن رضى فكيف بمن أعان؟ نسأل اللّه السلامة.
(حديث حذيفة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لتأمُرنّ بالمعروف و لتنهَوْنَّ عن المنكر أو يبعث الله عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لهم.
تغليظ عقوبة من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وخالف قوله فعله:
قال تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) [سورة: البقرة - الآية: 44]
[أتأمرون الناس بالبر] استفهام معناه التوبيخ، بسبب ترك فعل البر المستفاد من قوله: "وتنسون أنفسكم" مع التطهر بتزكية النفس والقيام في مقام دعاة الخلق إلى الحق إيهاماً للناس وتلبيساً عليهم، والنسيان هنا بمعنى الترك: أي وتتركون أنفسكم،
وقوله: "وأنتم تتلون الكتاب" جملة حالية مشتملة على أعظم تقريع وأشد توبيخ وأبلغ تبكيت. أي كيف تتركون البر الذي تأمرون الناس به وأنتم من أصل العلم العارفين بقبح هذا الفعل وشدة الوعيد عليه، كما ترونه في الكتاب الذي تتلونه والآيات التي تقرأونها من التوراة.
اعلم وفقك الله تعالى أن التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر لا بسبب الأمر بالبر، ولهذا ذم الله تعالى في كتابه قوماً كانوا يأمرون بأعمال البر ولا يعملون بها، وبخهم به توبيخاً يتلى على طول الدهر إلى يوم القيامة فقال: "أتأمرون الناس بالبر" الآية.
و قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ) [سورة: الصف /2،3]
الشاهد قوله تعالى [كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ]
و المقت أشد البغض.(10/191)
(حديث أسامة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يؤتى بالعالم يوم القيامة فيُلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور حولها كما يدور الحمار حول الرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ويحك ما لك كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر فيقول كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه.
معنى [أقتابه]: أي أمعاءه
(حديث أنس في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أتيت ليلة أسري بي على قوم تُقْرَضُ شفاهُهم بمقاريضَ من نار كلما قُرِضَتْ وَفَتْ فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون و يقرءون كتاب الله و لا يعملون به.
ج-هداية السائل عن الطريق:
ومن حقوق الطريق-أيضاً- إرشاد السائل عن الطريق، وهدايته إليه، سواءٌ كان ضالاً أو أعمى.
وجاء هذا الحق مصرحاً به في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في قصة الذين سألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن حق الطريق- قال: (وَإِرْشَادُ السَّبِيلِ) (1).
وأخبرنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سُنَّتِهِ المُشَرَّفَة، أن هداية السبيل من الصدقات، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: كُلُّ سُلَامَى عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ يُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ يُحَامِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ وَدَلُّ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ.
(2) إزالة الأذى من الطريق:
من الآداب المستحبة في الطريق؛ إزالة الأذى عن الطريق، بل هي شعبة من شعب من الإيمان بنص السنة الصحيحة وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ.
وهي من الصدقات، وبسببها أُدخل رجلٍ الجنة.
__________
(1).صحيح أبي داوود.(10/192)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: كُلُّ سُلَامَى مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ يَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ وَيُمِيطُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَه.
(3) اجتناب الملاعن الثلاث:
(حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ (1) وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالظِّلِّ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ قَالُوا وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ.
وحديث معاذ انفرد بذكر الموارد والموردة وهي: الطريق إلى الماء ذكره في اللسان (2). وهي المجاري والطرق إلى الماء واحدها مورد، يقال: وردت الماء إذا حضرته لتشرب (3).
__________
(1) هي المجاري والطرق إلى الماء واحدها مورد، يقال: وردت الماء إذا حضرته لتشرب.
(2). (3/ 456) مادة: (ورد)
(3). عون المعبود بشرح سنن أبي داود. المجلد الأول (1/ 31)(10/193)
والحديثان صُدر أحدهما باجتناب الملاعن الثلاث، والآخر باتقاء اللاعنين، فما المراد بذلك. قال الخطابي: المراد باللاعنين الأمرين الجالبين للعن، الحاملين الناس عليه والداعيين إليه، وذلك أن من فعلهما شتم ولعن يعني عادة الناس لعنه، فلما صارا سبباً لذلك أضيف اللعن إليهما، قال: وقد يكون اللاعن بمعنى الملعون والملاعن مواضع اللعن، قلت: فعلى هذا يكون التقدير: اتقوا الأمرين الملعون فاعلهما، وهذا على رواية أبي داود. وأما على رواية مسلم فمعنا والله أعلم: اتقوا فعل اللعانين أي صاحبي اللعن وهما اللذان يلعنهما الناس في العادة والله أعلم (1).
وعلة النهي عن التخلي في هذه المواضع الثلاثة، هو أن تقذير هذه المواضع وتنجيسها بالقذر فيه إيذاءٌ للمؤمنين وإيذاءهم محرم بنص الكتاب، قال تعالى: (وَالّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مّبِيناً) [الأحزاب: 58]
{تنبيه}: يُلحق بالظل، المكان الذي يتشمس فيه الناس أيام الشتاء، قال الشيخ ابن عثيمين: وهذ قياسٌ جلي (2). وعلى هذا فلا يجوز التخلي في هذا المكان، لأن العلة في النهي عن الظل موجودة هنا والحكم يدور مع علته وجوداً وعدما ً.
{فائدة}: الأحاديث تشير إلى أن النهي ينصبُ على حال التغوط فقط دون التبول. وإلى هذا ذهب النووي فقال في شرح قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الذي يتخلى في طريق الناس وظلهم) قال: فمعناه يتغوط في موضع يمر به الناس. ورد ذلك العظيم آبادي فقال: [و] لا يصح تفسير النووي بالتغوط، ولو سلم فالبول يلحق به قياساً ... وقال: وقد علمت أن المراد بالتخلي التفرد لقضاء الحادة غائطاً كان أو بولاً ... وأنت تعلم أن البراز اسم للفضاء الواسع من الأرض، وكنوا به عن حاجة الإنسان، يقال: تبرز الرجل إذا تغوط، فإنه وإن كان اسماً للغائط لكن يلحق به البول (3).
مسألة: ثبت أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يستتر عند قضاء حاجته بحائش نخلٍ، والحائش له ظل. فكيف نجمع بين فعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين نهيه؟
__________
(1). شرح مسلم للنووي. المجلد الثاني (3/ 132)
(2). الشرح الممتع على زاد المستقنع (1/ 102). دار آسام. ط. الثانية 1414هـ
(3). انظر شرح مسلم للنووي. المجلد الثاني (3/ 132)، وعون المعبود. المجلد الأول (1/ 30 - 31)(10/194)
الجواب: إن الظل الذي يحرم التخلي فيه، هو الظل الذي يقصده الناس ويجلسون فيه، ويجعلونه مقيلاً لهم، وأما فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيحمل على أن هذا الظل غير مقصود ولا مرغوب فيه، وحاشا أن ينهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن شيء ثم يفعله.
(4) الرجال أحق بوسط الطريق من النساء:
من حرص صاحب الشرع-صلى الله عليه وآله وسلم- على تميز النساء عن الرجال، وقطع كل طريق يؤدي إلى الفتنة بهن، أن جعل حافة الطريق للنساء وأوسطه للرجال، حتى لا يختلط الرجال بالنساء وتعظم الفتنة-كما هو الحال الآن إلا من رحم الله-.
(حديث أبي أسيد الأنصاري رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الْمَسْجِدِ فَاخْتَلَطَ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنِّسَاءِ اسْتَأْخِرْنَ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ (1) عَلَيْكُنَّ بِحَافَّاتِ الطَّرِيقِ فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تَلْتَصِقُ بِالْجِدَارِ حَتَّى إِنَّ ثَوْبَهَا لَيَتَعَلَّقُ بِالْجِدَارِ مِنْ لُصُوقِهَا بِهِ.
وسير النساء بمحاذاة جوانب الطريق أستر لهن، وأقرب للحياء، لا أن ينافسن الرجال في طريقهم ويقتحمونه معرضين أنفسهن وغيرهن للفتنة. وأول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء، وهلاكها كان بسبب ذلك.
(5) إعانة الرجل في حمله على دابته أو رفع متاعه عليها:
ومن آداب الطريق المستحب فعلها أنك إذا رأيت رجلاً يريد أن يركب دابته وكان ذلك يشق عليه، فإنك تعينه على ذلك، أو تعينه في حمل متاعه، ويمكن فعل ذلك الآن، فإن بعض كبار السن قد لا يتمكن من الركوب في (العربات المتحركة) بسهولة، وخصوصاً إذا كانت كبيرة.
وفعل ذلك كله من الصدقة التي يؤجر المسلم عليها، بنص السنة الصحيحة وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
__________
(1). في النهاية: (أن تحققن): وهو أن يركبن حُقَّها وهو وسطها. اهـ. ذكره في عون المعبود. المجلد السابع (14/ 127)(10/195)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: كُلُّ سُلَامَى مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ يَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ وَيُمِيطُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ.
آداب الجوار:
آداب الجوار:
للجوار آداب ينبغي لطالب العلم أن يحيط بها علماً وأن يتبعها حتى يكون متأسياً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهاك آداب الجوار جملةً وتفصيلا:
أولاً آداب الجوار جملةً:
(1) إكرام الجار والوصية به:
(2) الجار الأدنى وحقوقه:
(3) تحريم أذى الجار:
(4) ماذا نصنع مع جار صاحب كبيرة:
(5) ماذا نصنع مع جار ديوثاً أو قليل الغيرة:
(6) ماذا نصنع مع جار يهودياً أو نصرانياً:
ثانيا آداب الجوار تفصيلا:
(1) إكرام الجار والوصية به:
أوصى الله سبحانه في كتابه بالجار قال تعالى: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىَ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً) [النساء: 36]
فالجار القريب له حقان: حق القرابة وحق الجوار، والجار البعيد له حق الجوار. وكلاهما يُكرم ويُتعاهد ويُحسن إليه.
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في السلسلة الصحيحة) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: حُسْنُ الْخُلُقِ وَحُسْنُ الْجُوَارِ يُعَمِّرَانِ الدِّيَارَ وَيَزِيدَانِ فِي الأعْمَارِ.
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ.
قال الذهبي رحمه الله في حق الجار:(10/196)
ويفهم من الحديث المذكور عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو تعظيم حق الجار من الإحسان إليه وإكرامه وعدم الأذى له وإنما جاء الحديث في هذا الأسلوب للمبالغة في حفظ حقوق الجار وعدم الإساءة إليه حيث أنزله الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منزلة الوارث تعظيماً لحقه ووجوب الإحسان إليه وعدم الإساءة إليه بأي نوع من أنواع الأذى.
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أَنَّهُ ذُبِحَتْ لَهُ شَاةٌ فِي أَهْلِهِ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ؟ أهديتم لجارنا اليهودي؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ.
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح:
قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: ... ويحصل امتثال الوصية به [الجار] بإيصال ضروب الإحسان إليه بحسب الطاقة، كالهدية، والسلام، واطلاقة الوجه عند لقائه، وتفقد حاله، ومعاونته فيما يحتاج إليه إلى غير ذلك، وكف أسباب الأذى عنه على اختلاف أنواعه حسية كانت أو معنوية. اهـ (1)
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ.
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: وَاللِه لَا يُؤْمِنُ، وَاللِه لَا يُؤْمِنُ، وَاللِه لَا يُؤْمِنُ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَنْ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ.
__________
(1). فتح الباري (10/ 456)(10/197)
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: سألت النبي: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: (أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك). قلت: إن ذلك لعظيم، قلت: ثم أي؟ قال: (ثم أن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك). قلت: ثم أي؟ قال: (ثم أن تزاني بحليلة جارك). قال: ونزلت هذه الآية تصديقا لقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون}.
(حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لأن يزني الرجل بعشر نسوة خير له من أن يزني بامرأة جاره و لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر له من أن يسرق من بيت جاره.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(لأن يزني الرجل بعشرة نسوة خير له من أن يزني بامرأة جاره) ويقاس بها نحو أمته وبنته وأخته وذلك لأن من حق الجار على الجار أن لا يخونه في أهله فإن فعل ذلك كان عقاب تلك الزنية يعدل عذاب عشر زنيات قال الذهبي في الكبائر: فيه أن بعض الزنا أكبر إثماً من بعض قال: وأعظم الزنا بالأم والأخت وامرأة الأب وبالمحارم وبامرأة الجار، روى الحاكم وصححه والعهدة عليه من وقع على ذات محرم فاقتلوه فالزنا كبيرة إجماعاً وبعضه أفحش من بعض وأقبحه زنا الشيخ بابنته وأخته مع كونه غنياً له حلائل وزناه بجارية إكراهاً ونحو ذلك ودونه في القبح زنا الشاب البكر بشابة خلت به وشاكلته بفعل وقام نادماً تائباً
(ولأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر له من أن يسرق من بيت جاره) فيه تحذير عظيم من أذى الجار بكل طريق من فعل أو قول وقد أخرج الطبراني من حديث ابن عمر قال: خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزاة فقال: لا يصحبنا اليوم من آذى جاره فقال رجل من القوم: أنا بلت في أصل حائط جاري فقال: لا تصحبنا اليوم.
(حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ.(10/198)
{تنبيه}: اسم الجار يشمل المسلم والكافر، والعابد والفاسق، والصديق والعدو، والغريب والبلدي، والنافع والضار، والقريب والأجنبي، والأقرب داراً والأبعد. وله مراتب بعضها أعلى من بعض، فأعلاها من اجتمعت فيه الصفات الأول كلها ثم أكثرها وهلم جرا إلى الواحد، وعكسه من اجتمعت فيه الصفات الأخرى كذلك، فيعطى كل حقه بحسب حاله، وقد تتعارض صفتان فأكثر فيرجح أو يساوى، قاله في الفتح (1).
(2) الجار الأدنى وحقوقه:
الجار الأدنى الملاصق له من الحقوق ما ليس للجار البعيد. ويُؤخذ هذا الحكم من سؤال عائشة -رضي الله عنها- في الحديث الآتي:
(حديث عائشة الثابت في صحيح البخاري) قالت: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي قَالَ إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا.
فلما أمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتخصيص الهدية للجار القريب دون البعيد، عُلم أن حقه مقدم على حق البعيد. ومن الحِكم في ذلك: أن الأقرب يرى ما يدخل بيت جاره من هدية وغيرها فيتشوف لها بخلاف الأبعد، وإن الأقرب أسرع إجابة لما يقع لجاره من المهمات لا سيما في أوقات الغفلة، قاله الحافظ (2). وأكثر الناس على ذلك، فإنهم يخصون القريب منهم بمزيد عناية وتعاهد، ما لايجده الجار البعيد.
ومن حقوق الجار أن لا يمنع الجار جاره من غرز الخشب أو وضعه على جداره من أجل بناء غرفة أو نحو ذلك، بنص السنة الصحيحة وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا يَمْنَعْ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ، ثُمَّ يَقُولُا أَبُو هُرَيْرَةَ مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَاللَّهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ.
ولكن لا بد من مراعاة عدة أمور:
أولاً: أن يكون البناء لا يضر بالجدار.
ثانياً: أن يكون الجار الآخر مضطراً لذلك.
ثالثاً: أن لا توجد طريقة أخرى يمكن بواسطتها البناء، إلا بالاعتماد على جدار الجار.
فإن اختل أحد أو بعض هذه الأمور فإنه لا يجوز للجار المستفيد البناء والاعتماد على جدار جاره لما في ذلك من الإضرار الذي نهى عنه الشرع: فـ (لا ضرر ولا ضرار) كما في الحديث الآتي:
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح ابن ماجة) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ.
__________
(1). (10/ 456)
(2). فتح الباري (10/ 461)(10/199)
(3) تحريم أذى الجار:
لا يحل لمؤمن أن يؤذي جاره بشتى أنواع الأذى، بنص السنة الصحيحة وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ.
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: وَاللِه لَا يُؤْمِنُ، وَاللِه لَا يُؤْمِنُ، وَاللِه لَا يُؤْمِنُ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَنْ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ.
وفي حديث أبي هريرة-رضي الله عنه- نهيُ وتغليظٌ على من آذى جاره، فقد قرن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بين الإيمان بالله واليوم الآخر وبين أذية الجار، مما يدلنا على عظم أذيته-، فقال: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ... الحديث) (1). وفي الحديث الآخر؛ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن. قيل من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوايقه، ومن رواية أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه).
ففي حديث أبي شريح-رضي الله عنه- أقسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، على نفي الإيمان-ثلاثاً- على من لم يأمن جاره بوائقه. والمراد أن الجار الذي لا تؤمن غوائله وشروره غير كامل الإيمان، فهو بعصيانه وظلمه قد زنقص إيمانه.
وفي حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-، أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الجنة لا يدخلها الجار الذي لا تؤمن بوائقه، والمراد-والله أعلم- أنه لا يدخلها ابتداءً، وقلنا ذلك لأن النصوص بمجموعها تفيد أن الموحد يدخل الجنة وإن عُذب قبل ذلك. أو أن سنة الله اقتضت أن الذي لايأمن جاره بوائقه يموت كافراً.
__________
(1).رواه البخاري (6018)، ومسلم (47)، وأحمد (7571)، وأبو داود (5154)(10/200)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو جَارَهُ فَقَالَ اذْهَبْ فَاصْبِرْ فَأَتَاهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَقَالَ اذْهَبْ فَاطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ فَطَرَحَ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ فَجَعَلَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ فَيُخْبِرُهُمْ خَبَرَهُ فَجَعَلَ النَّاسُ يَلْعَنُونَهُ فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ وَفَعَلَ فَجَاءَ إِلَيْهِ جَارُهُ فَقَالَ لَهُ ارْجِعْ لَا تَرَى مِنِّي شَيْئًا تَكْرَهُهُ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الأدب المفرد) قال: قيل للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا رسول الله! إن فلانة تقوم الليل وتصوم النهار، وتفعل، وتصدق، وتؤذي جيرانها بلسانها؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "" لا خير فيها، هي من أهل النار. قالوا: وفلانة تصلي المكتوبة، وتصدق بأثوار، ولا تؤذي أحدا؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هي من أهل الجنة.
تفاوت أذية الجار:
وأذية الجار قد تتفاوت، فبعضها يسير بالنسبة إلى غيرها وبعضها عظيم، بل إن أعظم أذية تنال الجار، هي أذيته في أهله، وهي من أعظم الذنوب عند الله، بنص السنة الصحيحة وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ قُلْتُ إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ قَالَ ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ قَالَ ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ، قال: ونزلت هذه الآية تصديقا لقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَالّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلََهَا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً) [الفرقان: 68]
(حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لأن يزني الرجل بعشر نسوة خير له من أن يزني بامرأة جاره و لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر له من أن يسرق من بيت جاره.
ماذا نصنع مع جار صاحب كبيرة:(10/201)
مسألة: ماذا نصنع مع جار صاحب كبيرة؟
قال الذهبي رحمه الله في حق الجار:
إذا كان الجار صاحب كبيرة فلا يخلو إما إن يكون متستراً بها ويغلق بابه عليه فليعرض عنه ويتغافل عنه وإن أمكن أن ينصحه في السر ويعظه فحسن وإن كان متظاهراً بفسقه مثل مكاس أو مرابي فتهجره هجراً جميلاً وكذا إن كان تاركاً للصلاة في كثير من الأوقات فمره بالمعروف وانهه عن المنكر مرة بعد أخرى وإلا فاهجره في الله لعله أن يرعوي ويحصل له انتفاع بالهجرة من غير أن تقطع عنه كلامك وسلامك وهديتك فإن رأيته متمرداً عاتياً بعيداً من الخير فأعرض عنه واجهد أن تتحول من جواره فقد تقدم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعوذ من جار السوء في دار الإقامة. أهـ
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة فإن جار البادية يتحول.
قال المناوي رحمه الله في فيض القدير:
(اللّهم إني أعوذ) أصله أعوذ بسكون العين وضم الواو استثقلت الضمة على الواو فنقلت إلى العين فبقيت الواو ساكنة أي أستجير وأعتصم (بك من جار السوء) أي من شره (في دار المقامة) الإقامة فإنه هو الشر الدائم والأذى الملازم (فإن جار البادية يتحول) فمدته قصيرة يمكن تحملها فلا يعظم الضرر فيها، وفي رواية الطبراني جار السوء في دار الإقامة قاصمة الظهر وقد ينزل بسببه البلاء فيعم الصالح والطالح. قال الحرائي: والعوذ اللجأ من مخوف لكاف يكفيه. أهـ
ماذا نصنع مع جار ديوثاً أو قليل الغيرة:
قال الذهبي رحمه الله في حق الجار:
فإن كان الجار ديوثاً أو قليل الغيرة أو حريمه على غير الطريق المستقيم فتحول عنه أو فاجهد أن لا يؤذون زوجتك فإن في ذلك فساداً كثيراً وخف على نفسك المسكينة ولا تدخل منزله واقطع الود بكل ممكن وإن لم تقبل مني ربما حصل لك هوى وطمع وغلبت عن نفسك أو أنبك أو فصل فإن كان جارك رافضياً أو صاحب بدعة كبيرة فإن قدرت على تعليمه وهدايته فاجهد وإن عجزت فانجمع عنه ولا تواده ولا تصافه ولا تكون له مصادقاً ولا معاشراً والتحول أولى بك.
ماذا نصنع مع جار يهودياً أو نصرانياً:(10/202)
قال الذهبي رحمه الله في حق الجار:
فإن كان جارك يهودياً أو نصرانياً في الدار أو في السوق أو في البستان فجاوره بالمعروف ولا تؤذه كما جاء في الحديث: (الجيران ثلاثة جار له ثلاثة حقوق وهو القريب المسلم الجار وجار له حقان حق الإسلام وحق الجوار وجار له حق واحد وهو غير المسلم له حق الجوار).
فأما من جعل إجابة دعوتهم ديدنه وعاشرهم وباسطهم فإن إيمانه يرق وقد قال الله تعالى: (لا تَجِد قَوماً يُؤمِنونَ بِاللَهِ وَاليَومِ الآخِرِ يوادُّونَ مِن حادَ اللَهَ وَرسولَهُ وَلَو كانوا آباءَهُم أَو أَبناءَهُم أو إِخوانَهُم أو عَشيرَتَهُم أُولَئِكَ كُتِبَ في قُلوبُهم الإيمانَ وَأَيدهم بِروحٍ مِنهُ).
آداب العطاس والتثاؤب:
آداب العطاس والتثاؤب:
للعطاس والتثاؤب آداب ينبغي لطالب العلم أن يحيط بها علماً وأن يتبعها حتى يكون متأسياً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهاك آداب العطاس والتثاؤب جملةً وتفصيلا:
أولاً آداب العطاس والتثاؤب جملةً:
أولاً: آداب العطاس:
(1) تشميت العاطس (1) مأمورٌ به، ومندوبٌ إليه:
(2) تشميت العاطس يكون عند سماع حمد العاطس:
(3) السنة أن يقول العاطس أولاً: الحمد لله أو الحمد لله على كل حال:
(4) السنة أن يقول المشمت (يرحمك الله):
(5) السنة أن يقول العاطس ثانياً بعد تشميت المشمت: يهديكم الله ويصلح بالكم أو يرحمنا الله وإياكم، ويغفر لنا ولكم.
(6) استحباب خفض العاطس صوته:
(7) التشميت ثلاثاً، فما زاد فهو زكام:
(8) جواز تشميت أهل الذمة:
ثانياً: آداب التثاؤب:
(1) استحباب كظم التثاؤب وهو من الشيطان:
ثانيا آداب العطاس والتثاؤب تفصيلا:
أولاً: آداب العطاس:
__________
(1). . تشميت العاطس: الدعاء له. قال ابن سيده: شمت العاطس، وسمت عليه، دعا له أن لا يكون في حال يشمت به فيها؛ والسين لغة عن يعقوب. وكل داع لأحد بخير فهو مشمت له، ومسمت، بالشين والسين، والشين أعلى وأفشى في كلامهم. (لسان العرب: 2/ 52) مادة: شمت(10/203)
(1) تشميت العاطس (1) مأمورٌ به، ومندوبٌ إليه:
من محاسن ديننا أن شرع لهم دعاء يقولونه بعد العطاس -الذي هو نعمة من الله عليهم (2) -، فبه يحمدون الله، وبه يتراحمون ويسألون الله الهداية وصلاح البال.
(حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجَنَازَةِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ أَوْ الْمُقْسِمِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِجَابَةِ الدَّاعِي وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمَ أَوْ عَنْ تَخَتُّمٍ بِالذَّهَبِ وَعَنْ شُرْبٍ بِالْفِضَّةِ وَعَنْ الْمَيَاثِرِ وَعَنْ الْقَسِّيِّ وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالْإِسْتَبْرَقِ وَالدِّيبَاجِ.
وتشميت العاطس فرض الكفاية إذا فعله بعض الحاضرين سقط الأمر عن الباقين (3).
ولا ينبغي تركه لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فإذا عطس أحدكم وحمد الله كان حقاً على كل مسلم سمعه أن يقول له يرحمك الله).
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ فَإِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ وَحَمِدَ اللَّهَ كَانَ حَقًّا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَثَاءَبَ ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ.
(2) تشميت العاطس يكون عند سماع حمد العاطس:
__________
(1). . تشميت العاطس: الدعاء له. قال ابن سيده: شمت العاطس، وسمت عليه، دعا له أن لا يكون في حال يشمت به فيها؛ والسين لغة عن يعقوب. وكل داع لأحد بخير فهو مشمت له، ومسمت، بالشين والسين، والشين أعلى وأفشى في كلامهم. (لسان العرب: 2/ 52) مادة: شمت
(2). قال ابن القيم: ولما كان العاطس قد حصلت له بالعطاس نعمة ومنفعة بخروج الأبخرة المحتقنة في دماغه التي لو بقيت فيه أحدثت له أدواءً عسرة، شُرع له حمد الله على هذه النعمة مع بقاء أعضائه على التئامها وهيئتها بعد هذه الزلزلة التي هي للبدن كزلزلة الأرض لها. (زاد المعاد 2/ 438)
(3). انظر الآداب الشرعية (2/ 317)، وشرح صحيح مسلم. المجلد السابع (14/ 26)(10/204)
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قَالَ: عَطَسَ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا وَلَمْ يُشَمِّتْ الْآخَرَ فَقَالَ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ شَمَّتَّ هَذَا وَلَمْ تُشَمِّتْنِي قَالَ إِنَّ هَذَا حَمِدَ اللَّهَ وَلَمْ تَحْمَدْ اللَّهَ.
(حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتُوهُ فَإِنْ لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ فَلَا تُشَمِّتُوهُ.
مسألة: هل يلزم سماع حمد العاطس لتشميته، أو يُكتفى بعلم ذلك من تشميت من حوله؟
الجواب: الأظهر أنه يشمته إذا تحقق أنه حمد الله، وليس المقصود سماع المشمَّت للحمد، وإنما المقصود نفس حمده، فمتى تحقق ترتب عليه التشميت، كما لو كان المشمت أخرس، ورأى حركة شفتيه بالحمد. والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فإن حمد الله، فشمتوه. هذا هو الصواب، قاله ابن القيم (1).
مسألة 2: هل يستحب تذكير من نسى حمد الله بعد العطاس حتى يُشمت؟
الجواب: اختار بعض أهل العلم كالنخعي والنووي تذكيره، لأنه من باب التعاون على البر والتقوى، والنصيحة، والأمر بالمعروف. واختار بعضهم كابن العربي وابن القيم أنه لا يُذكر،
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
وظاهر السنة يقوي قول ابن الأعرابي: لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يشمت الذي عطس، ولم يحمد الله، ولم يذكره، وهذا تعزير له، وحرمان لبركة الدعاء لما حرم نفسه بركة الحمد، فنسي الله، فصرف قلوب المؤمنين وألسنتهم عن تشميته، والدعاء له، ولوكان تذكيره سنة، لكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولى بفعلها وتعليمها، والإعانة عليها (2).
(3) السنة أن يقول العاطس أولاً: الحمد لله أو الحمد لله على كل حال:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَإِذَا قَالَ لَهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَلْيَقُلْ يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ.
ولفظ أبي داود: (فليقل الحمد لله على كل حال).
__________
(1).زاد المعاد (2/ 442)
(2). زاد المعاد (2/ 442)(10/205)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَلْيَقُلْ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ وَيَقُولُ هُوَ يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ.
(4) السنة أن يقول المشمت (يرحمك الله):
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَإِذَا قَالَ لَهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَلْيَقُلْ يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ.
(5) السنة أن يقول العاطس ثانياً بعد تشميت المشمت: يهديكم الله ويصلح بالكم أو يرحمنا الله وإياكم، ويغفر لنا ولكم.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَإِذَا قَالَ لَهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَلْيَقُلْ يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ.
أو يقول يرحمنا الله وإياكم ويغفر لنا ولكم، جاء ذلك صريحا في حديث نافع عن ابن عمر: (أن عبد الله بن عمر كان إذا عطس فقيل له يرحمك الله. قال: يرحمنا الله وإياكم ويغفر لنا ولكم) (1).
(6) استحباب خفض العاطس صوته:
وفائدته أنه لما كان العاطس -غالباً- يُحدث صوتاً رفيعاً مزعجاً أُستحب له أن يخفض من صوته بوضع يده على وجهه أو بثوبه. وفي وضع اليد أو الثوب على الفم فائدة أخرى وهي: أن العاطس لا يأمن-غالباً- من خروج شيءٍ من فمه، فاستحب له أن يضع يده على فيه. وفي هذا سنة.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا عَطَسَ غَطَّى وَجْهَهُ بِيَدِهِ أَوْ بِثَوْبِهِ وَغَضَّ بِهَا صَوْتَهُ.
(7) التشميت ثلاثاً، فما زاد فهو زكام:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: شَمِّتْ أَخَاكَ ثَلَاثًا فَمَا زَادَ فَهُوَ زُكَامٌ.
__________
(1). رواه مالك (1800). وقال محققوا زاد المعاد: إسناده صحيح. (2/ 437) (حاشية 2)(10/206)
(حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يُشَمَّتُ الْعَاطِسُ ثَلَاثًا فَمَا زَادَ فَهُوَ مَزْكُومٌ.
قال النووي رحمه الله: واختلف العلماء فيه، فقال ابن العربي المالكي: قيل: يقال له في الثانية: إنك مزكوم، وقيل: يقال له في الثالثة، وقيل: في الرابعة، والأصح أنه في الثالثة. قال: والمعنى أنك لست ممن يشمت بعد هذا؛ لأن هذا الذي بك زكام ومرض، لا خفة العطاس (1). وقوله في الحديث: (الرجل مزكوم) تنبيه على الدعاء له بالعافية، لأن الزكمة علة، وفيه اعتذار من ترك التشميت بعد الثلاث، وفيه تنبيه له على هذه العلة ليتداركها ولا يهملها، فيصعب أمرها، فكلامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كله حكمة ورحمة، وعلم وهدى، قاله ابن القيم (2).
(8) جواز تشميت أهل الذمة:
(حديث أ أبي موسى رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) قَالَ: كَانَتْ الْيَهُودُ تَعَاطَسُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَاءَ أَنْ يَقُولَ لَهَا يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ فَكَانَ يَقُولُ يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ.
وعلى هذا يجوز الدعاء لأهل الذمة -إذا حمدوا الله بعد عطاسهم- بالهداية والتوفيق للإيمان، ولا يُدعى لهم بالرحمة والمغفرة، فهم ليس أهلٌ لذلك.
ثانياً: آداب التثاؤب:
(1) استحباب كظم التثاؤب وهو من الشيطان:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: التَّثَاؤُبُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَالَ هَا ضَحِكَ الشَّيْطَانُ.
(حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا تَثَاوَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيُمْسِكْ بِيَدِهِ عَلَى فِيهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ.
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
والثتاؤب يكون غالباً مع ثقل البدن وامتلائه واسترخائه وميله إلى الكسل، وإضافته إلى الشيطان لأنه الذي يدعو إلى الشهوات، والمراد التحذير من السبب الذي يتولد منه ذلك وهو التوسع في المأكل وإكثار الأكل (3).
__________
(1). الأذكار (393)
(2). زاد المعاد (2/ 441)
(3). شرح صحيح مسلم. المجلد التاسع (18/ 97)(10/207)
والكظم قد يكون عن طريق التحكم بالفم ومنعه من انفتاحه، وقد يكون بضغط الأسنان على الشفة، وقد يكون بوضع اليد أو الثوب على الفم ونحو ذلك.
آداب معاشرة الإخوان:
آداب معاشرة الإخوان:
لمعاشرة الإخوان آداب ينبغي لطالب العلم أن يحيط بها علماً وأن يتبعها حتى يكون متأسياً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهاك آداب معاشرة الإخوان جملةً وتفصيلا:
أولاً آداب معاشرة الإخوان جملةً:
(1) تحقيق رابطة المؤاخاة في الله:
(2) اختيار الصحبة الصالحة:
(3) المحبة في الله:
(4) البشاشة واللين والتودد للإخوان:
(5) استحباب بذل النصيحة وهي من تمام الأخوة:
(6) التعاون فيما بين الإخوان:
(7) تواضع الإخوان فيما بينهم وعدم التكبر أو الفخر عليهم:
(8) حسن الخلق:
(9) سلامة الصدر:
(10) إحسان الظن بالإخوان وعدم التجسس عليهم:
(11) كظم الغيظ والعفو عن الناس:
(12) النهي عن التحاسد والتباغض والهجر:
(13) النهي عن التنابز (1) بالألقاب:
(14) استحباب الإصلاح بين الإخوان:
(15) تحريم المنّ:
(16) حفظ السر وعدم إفشاؤه:
(17) ذم ذي الوجهين:
(18) التحلي بالسَمْتِ الصالح:
(19) التحلي بفضيلتي الحِلمِ والأناة:
(20) التحلي بفضيلة الرفق:
(21) التحلي بفضيلة احتمال الأذى:
(22) التحلي بفضيلة الجود والسخاء والإنفاق في وجوه الخير:
(23) التحلي بفضيلة الإيثار:
(24) التحلي بفضيلة المواساة في السَنَةِ والمجاعة:
(25) التحلي بفضيلة إقراض القرض والتجاوز عن المعسر:
(26) التحلي بفضيلة التكسب والتجارة والاستغناء عن الناس:
(27) التحلي بفضيلة الوفاء بالوعد:
(28) التحلي بحُسْنِ الظَّنِّ بِأَهْلِ الدِّينِ:
(29) التحلي بالْتِزَامِ الْمَشُورَةِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا:
(30) التحلي بفضيلة مدارة الناس:
(31) التآلف مع الإخوان:
(32) النهي عن مصاحبة أهل الأهواء والبدع:
(33) أن يعيش بين إخوانه بالمودة والرحمة:
(34) دفع السيئة بالحسنة:
(35) قضاء حوائج الإخوان والشفاعةِ فيها:
(36) صنع المعروف:
(37) شكر المعروف والمجازاة على صنعه:
(38) الزهد فيما عند الناس:
(39) مراعاة أحاسيس الناس ومشاعرهم:
(40) إدخال السرور على المسلم:
(41) الإنصاف لأخيك:
(42) عدم تتبع عورات المسلمين وزلاتهم:
(43) التعاون على البر والتقوى:
__________
(1). في اللسان: وتنابزوا بالالقاب أي لقب بعضهم بعضاً، والتنابز: التداعي بالألقاب وهو يكثر فيما كان ذماً. (5/ 413) مادة: نبز(10/208)
(44) رحمة الصغير وتوقير الكبير:
(45) أن يكون مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر:
(46) مشورة أهل الصلاح:
(47) اجتناب العصبية فإنها هلاكٌ مُحَقَّق:
(48) اجتناب الغش والخداع للمسلمين:
(49) اجتناب الغدر للمسلمين:
(50) اجتناب ظلم العباد:
(51) اجتناب مجالس الظالمين:
(52) اجتناب إيذاء المسلمين:
(53) اجتناب احتقار المسلمين:
(54) اجتناب التجسس على المسلمين:
(55) الاقتصاد في العزلة والمخالطة:
(56) الإحسان إلى من يعمل تحت يديه:
(57) التخلي عن شهوة الخصومة:
(58) الاحتراز من رذيلة الحرص والطمع:
(59) صحبة من يُسْتَحْيَا منه ليزجره ذلك من المخالفات:
(60) المشورة مع الإخوان وقبول ما يشيرون به عليه:
(61) قلة مخالفة الإخوان في أسباب الدنيا:
(62) الحرص على اجتماع الكلمة والحذر من الخلاف:
(63) أن يلزم التجارة والصناعة ويستغني بالله عن الناس:
(64) النهي عن إغضاب المسلم:
(65) إكرام ضعفاء المسلمين وفقرائهم:
(66) إكرام اليتيم:
(67) الاقتصاد في الحب والكره:
(68) الاحتراز من الشح والبخل:
(69) أن يكون مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر:
(70) التخلي عن رزيلة هجر المسلم:
(71) ترك الاستكثار من الأصدقاء وما يستحب من قلة الالتقاء:
(72) تركُهُ ما لا يعنيه:
(73) التحلي بالقناعة:
(74) إقالة ذوي الهيئات عثراتهم:
ثانيا آداب معاشرة الإخوان تفصيلا:
(1) تحقيق رابطة المؤاخاة في الله:
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة، فآخى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلني على السوق، فربح شيئا من أقط وسمن، فرآه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أيام وعليه وضر من صفرة، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مهيم يا عبد الرحمن). قال: يا رسول الله، تزوجت امرأة من الأنصار، قال: (فما سقت فيها). فقال: وزن نواة من ذهب، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أولم ولو بشاة).
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخى بين أبي عبيدة بن الجراح وبين أبي طلحة.(10/209)
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن محمد بن واسع لم يبق من العيش إلا ثلاث الصلاة في الجماعة ترزق فضلها وتكفي سهوها وكفاف من معاش ليست لأحد من الناس عليك فيه مِنَّة ولا لله عليك فيه تبعه وأخ محسن العشرة.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن أيوب السختياني أنه قال يزيدني حرصا على الحج لقاء إخوان لي لا ألقاهم بغير الموسم.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن سعيد بن المسيب قال وضع عمر بن الخطاب رضي الله عنه للناس ثمانية عشر كلمة كلها حكم قال ما كافأت من يعصي الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك ولا تظنن بكلمة خرجت من مسلم شرا وأنت تجد لها في الخير محملا ومن تعرض للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن ومن كتم سره كانت الخيرة في يديه وعليك بإخوان الصدق فعش في أكنافهم فإنهم زينة في الرخاء وعدة في البلاء وعليك بالصدق وإن قتلك الصدق ولا تعرض لما لا يعنيك ولا تسأل عما لم يكن فإن فيما كان شغلا عما لم يكن ولا تطلبن حاجتك إلى من لا يحب لك نجاحها ولا تصحبن الفاجر فتعلم فجوره واعتزل عدوك واحذر صديقك إلا الأمين ولا أمين إلا من خشي الله وتخشع عند القول وذل عند الطاعه واعتصم عند المعصية واستشر في أمرك الذين يخشون الله فإن الله يقول: (إِنّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28]
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن شعبة قال خرج عبد الله بن مسعود على أصحابه فقال أنتم جلاء حزني.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن خالد بن صفوان لم يبق من لذات الدينا إلا ثلاث مجالسة النسوان وشم الولدان ولقيا الإخوان.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن سفيان أنه قيل له ما ماء العيش قال لقاء الإخوان.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن سفيان قال: لربما لقيت الأخ من إخواني فأقيم شهرا عاقلا بلقائه.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن ربيعة قال: المروءة مروءتان فللسفر مروءة وللحضر مروءة فأما مروءة السفر فبذل الزاد وقلة الخلاف على أصحابك وكثرة المزاح في غير مساخط الله وأما مروءة الحضر فالإدمان إلى المساجد وكثرة الإخوان في الله وتلاوة القرآن.
{تنبيه}: العاقل يستخبر أمور إخوانه قبل أن يؤاخيهم ومن أصح الخبرة للمرء(10/210)
وجود حالته بعد هيجان الغضب هل سينصفك عند الغضب أم الله، هذا هو فصل الخطاب في معدن الإخوان، فمن لم ينصفك عند غضبه لم تودك أيامه.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن عوانة بن الحكم قال: قال لقمان لابنه يا بني إذا أردت أن تواخي رجلا فأغضبه قبل ذلك فإن أنصفك عند غضبه وإلا فدعه.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن سفيان قال أصحب من شئت ثم أغضبه ثم دس إليه من يسأله عنك.
(2) اختيار الصحبة الصالحة:
إن اختيار الصحبة الصالحة من أهم الآداب التي يجب على المسلم أن يعتني بها اهتماماً بالغاً لأن الطباع سَرَّاقة والناس مجبولون على تقليد بعضهم البعض، والمرء على دين خليله بنص السنة الصحيحة، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ.
والمعنى: أن الإنسان على عادة صاحبه وطريقته وسيرته، فليتأمل ويتدبر (من يخالل) فمن رضي دينه وخلقه خالله ومن لا تجنبه، فإن الطبع سراقه، قاله في عون المعبود (1)
(حديث أبي سعيد الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ.
و لا يأكل طعامك إلا تقي.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
[لا تصاحب إلا مؤمناً]: وكامل الإيمان أولى لأن الطباع سراقة، ومن ثم قيل صحبة الأخيار تورث الخير وصحبة الأشرار تورث الشر كالريح إذا مرت على النتن حملت نتناً، وإذا مرت على الطيب حملت طيباً.
[ولا يأكل طعامك إلا تقي]: لأن المطاعمة توجب الألفة وتؤدي إلى الخلطة بل هي أوثق عرى المداخلة ومخالطة غير التقي يخل بالدين ويوقع في الشبه والمحظورات فكأنه ينهى عن مخالطة الفجار إذ لا تخلو عن فساد إما بمتابعة في فعل أو مسامحة في إغضاء عن منكر فإن سلم من ذلك ولا يكاد فلا تخطئه فتنة الغير به وليس المراد حرمان غير التقي من الإحسان لأن المصطفى صلى اللّه عليه وسلم أطعم المشركين وأعطى المؤلفة المئين بل يطعمه ولا يخالطه.
__________
(1). شرح سنن أبي داود. المجلد السابع (13/ 123)(10/211)
والنهي في المصاحبة يشمل النهي عن مصاحبة أهل الكبائر والفجور، لأنهم ارتكبوا ما حرم الله، ومصاحبتهم تضر بالدين، ويشمل النهي عن مصاحبة الكفار والمنافقين من باب أولى. وقوله: (ولا يأكل طعامك إلا تقي). قال الخطابي: إنما جاء هذا في طعام الدعوة دون طعام الحاجة، وذلك لأن الله سبحانه قال: (وَيُطْعِمُونَ الطّعَامَ عَلَىَ حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) [الإنسان: 8] ومعلوم أن أسراءهم كانوا كفاراً غير مؤمنين ولا أتقياء، وإنما حذر عليه السلام من صحبة من ليس بتقي وزجر عن مخالطته ومؤاكلته، فإن المطاعمة توقع الألفة والمودة في القلوب (1).
ورفيق السوء وجليس السوء مضرته متحققة لا محالة مهما كانت وسائل التحرز، بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي موسى الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
بين به النهي عن مجالسة من يتأذى به ديناً أو دنيا والترغيب فيمن ينتفع بمجالسته فيهما وجواز بيع المسك وطهارته.
__________
(1). عون المعبود بشرح سنن أبي داود. المجلد السابع ((13123)(10/212)
قال الراغب: نبه بهذا الحديث على أن حق الإنسان أن يتحرى بغاية جهده مصاحبة الأخيار ومجالستهم فهي قد تجعل الشرير خيراً كما أن صحبة الأشرار قد تجعل الخير شريراً قال الحكماء: من صحب خيراً أصاب بركته فجليس أولياء اللّه لا يشقى وإن كان كلباً ككلب أهل الكهف ولهذا أوصت الحكماء الأحداث بالبعد عن مجالسة السفهاء، قال علي كرم اللّه وجهه: لا تصحب الفاجر فإنه يزين لك فعله ويود لو أنك مثله، وقالوا: إياك ومجالسة الأشرار فإن طبعك يسرق منهم وأنت لا تدري وليس إعداء الجليس جليسة بمقاله وفعاله فقط بل بالنظر إليه والنظر في الصور يورث في النفوس أخلاقاً مناسبة لخلق المنظور إليه فإن من دامت رؤيته للمسرور سر أو للمحزون حزن وليس ذلك في الإنسان فقط بل في الحيوان والنبات فالحمل الصعب يصير ذلولاً بمقاربة الجمل الذلول والذلول قد ينقلب صعباً بمقارنة الصعاب والريحانة الغضة تذبل بمجاورة الذابلة ولهذا يلتقط أهل الفلاحة الرمم عن الزرع لئلا تفسدها ومن المشاهد أن الماء والهواء يفسدان بمجاورة الجيفة فما الظن بالنفوس البشرية التي موضعها لقبول صور الأشياء خيرها وشرها؟ فقد قيل سمي الإنس لأنه يأنس بما يراه خيراً أو شراً. أهـ
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ.
(حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ.
قال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة:
ومن آداب الصحبة معاشرة من يثق بدينه وأمانته في ظاهره وباطن لقول الله تبارك وتعالى: قال تعالى: (لاّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ يُوَآدّونَ مَنْ حَآدّ اللّهَ وَرَسُولَهُ) [المجادلة: 22].(10/213)
والصحبة والمعاشرة على وجوه، فالمعاشرة مع الأكابر والمشايخ بالحرية والخدمة لهم والقيام بأشغالهم. والمعاشرة مع الأقران والأوساط بالنصيحة وبذل الموجود، والكون عند الأحكام ما لم يكن إثما. والمعاشرة مع الأصاغر والمريدين بالإرشاد والتأديب والحمل على ما يوجبه ظاهر العلم، وآداب السنة وأحكام البواطن، والهداية التي تقويمها بحسن الأدب.
ولله درُّ من قال:
عَنْ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ: فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي
وَصَاحِبْ أُولِي التَّقْوَى تَنَلْ مِنْ تُقَاهُمْ: وَلَا تَصْحَبْ الْأَرْدَى فَتَرْدَى مَعَ الرَّدَي
قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه:
عليك بإخوان الصدق تعش في أكنافهم فإنهم زينةٌ في الرخاء وعدةٌ في البلاء، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجيئك ما يقيلك منه، واعتزل عدوك واحذر صديقك إلا الأمين ولا أمين إلا من يخشى الله، ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره، ولا تطلعه على سرك واستشر في أمرك الذين يخشون الله تعالى.
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: " لَا تُؤَاخِي الْأَحْمَقَ وَلَا الْفَاجِرَ , أَمَّا الْأَحْمَقُ فَمَدْخَلُهُ وَمَخْرَجُهُ شَيْنٌ عَلَيْك , وَأَمَّا الْفَاجِرُ فَيُزَيِّنُ لَك فِعْلَهُ وَيَوَدُّ أَنَّك مِثْلَهُ ". وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " لَا خَيْرَ فِي صُحْبَةِ مَنْ يَجْتَمِعُ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ: مَنْ إذَا حَدَّثَك كَذَبَك , وَإِذَا ائْتَمَنْتَهُ خَانَك , وَإِذَا ائْتَمَنَك اتَّهَمَك وَإِذَا أَنْعَمْت عَلَيْهِ كَفَرَك وَإِذَا أَنْعَمَ عَلَيْك مَنَّ عَلَيْك ". وَقَالَ أَيْضًا: " اصْحَبْ مَنْ يَنْسَى مَعْرُوفَهُ عِنْدَك وَيُذَكِّرُك حُقُوقَك عَلَيْهِ ".
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ إذَا أَرَدْت أَنْ تَعْرِفَ مَا لَك عِنْدَ صَدِيقِك فَأَغْضِبْهُ فَإِنْ أَنْصَفَك وَإِلَّا فَاجْتَنِبْهُ.(10/214)
وَرَوَى الْخَلَّالُ فِي الْأَدَبِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ لَا يُصَاحِبَ خَمْسَةً: الْمَاجِنَ وَالْكَذَّابَ , وَالْأَحْمَقَ وَالْبَخِيلَ , وَالْجَبَانَ فَأَمَّا الْمَاجِنُ فَعَيْبٌ إنْ دَخَلَ عَلَيْك , وَعَيْبٌ إنْ خَرَجَ مِنْ عِنْدِك , لَا يُعِينُ عَلَى مُعَادٍ وَيَتَمَنَّى أَنَّك مِثْلُهُ , وَأَمَّا الْكَذَّابُ فَإِنَّهُ يَنْقُلُ حَدِيثَ هَؤُلَاءِ إلَى هَؤُلَاءِ , وَيُلْقِي الشِّحْنَةِ فِي الصُّدُورِ وَأَمَّا الْأَحْمَقُ فَإِنَّهُ لَا يُرْشِدُ لِسُوءٍ يَصْرِفُهُ عَنْك , وَرُبَّمَا أَرَادَ أَنْ يَنْفَعَكَ فَيَضُرّكَ فَبُعْدُهُ خَيْرٌ مِنْ قُرْبِهِ وَمَوْتُهُ خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِهِ , وَأَمَّا الْبَخِيلُ فَأَحْوَجُ مَا تَكُونُ إلَيْهِ أَبْعَدَ مَا تَكُونُ مِنْهُ , فَفِي أَشَدِّ حَالَاتِهِ يَهْرُبُ وَيَدَعُك.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان بن عيينة، قال: كان يقال جالس الحكماء فإن مجالستهم غنيمة، وصحبتهم سليمة، ومؤاخاتهم كريمة.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسين بن أبي جعفر، قال: سمعت مالك بن دينار، يقول: لا يصطلح المؤمن والمنافق حتى يصطلح الذئب والحمل.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مالك، حدثني من أرضي أن عمر بن الخطاب أوصى رجلاً، فقال: لا تعترض فيما لا يعنيك، واجتنب عدوك، واحذر خليلك، ولا أمير من القوم إلا من خشي الله، والأمين من القوم لا تعدل به شيئاً، ولا تصحبن فاجراً كي تعلم من فجوره، ولا تفش إليه سرك، واستشر في أمرك الذين يخشون الله.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن معاذ قال: لا تتخذوا من القرناء إلا ما فيه ثلاث خصال: من حذرك غوائل الذنوب وعرفك مدانس العيوب وسايرك إلى علام الغيوب.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يوسف بن الحسين يقول: سمعت ذا النون يقول: بالعقول يجتني ثمر القلوب، وبحسن الصوت تستمال أعنة الأبصار، وبالتوفيق تنال الحظوة وبصحبة الصالحين تطيب الحياة. والخير مجموع في القرين الصالح، إن نسيت ذكرك، وإن ذكرت أعانك.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن سفيان ابن عيينه يقول من أحب رجلا صالحا فإنما يحب الله تبارك وتعالى.(10/215)
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن مالك بن دينار يقول إنك أن تنقل الحجارة مع الأبرار خير من أن تأكل الخبيص مع الفجار.
صفات خير الأصحاب:
قال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة:
ومن آدابها: ألا يصحب إلا عاقلا وعالما وحليما تقيا.
أورد أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة عن ذي النون يقول: " ما خلع الله على عبد من عبيده خلعة أحسن من العقل، ولا قلده الله قلادة أجمل من العلم، ولا زينه بزينة أفضل من الحلم، وكمال ذلك التقوى.
[*] قال الإمام ابن قُدامة رحمه الله تعالى في مختصر منهاج القاصدين:
ينبغي أن يكون فيمن تؤثر صحبته خمسُ خصال:
1) العقل: فهو رأس مال، ولا خير في صحبة الأحمق لأنه يريد أن ينفعك فيضرك.
2) حسن الخلق: فلا بد منه إذ رُبَّ عاقلٍ يغلبه غضبه أو شهوة فيطيع هواه فلا خير في صحبته.
3) غير فاسق: لأن الفاسق لا يخاف الله، ومن لا يخاف الله لا تؤمن غائلته ولا يوثق به، ومن خان أولَ منعم ٍ لا يفي لك أبداً
4) غير مبتدع: لأن المبتدع يُخافُ من صحبته لأن في صحبتك له الشر كله إما سراية البدعة أو عدم الإنكار عليه أو تتعلم من بدعته فيحصل لك انتكاسة.
5) غير حريصٍ على الدنيا لأن الحرص على المال يفسد الدين بقدر أكبر من الفساد الحاصل من إرسال ذئبين جائعين على غنم، أي يفسد فساداً بيناً بلا روية
(حديث كعب بن مالك في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسدَ لها من حرص المرء على المال و الشرف لدينه.
مقصود الحديث أن الحرص على المال والشرف أكثر إفساداً للدين من إفساد الذئبين للغنم لأن ذلك الأشر والبطر يستفز صاحبه ويأخذ به إلى ما يضره وذلك مذموم لاستدعائه العلو في الأرض والفساد المذمومين شرعاً ذلك الأشر والبطر يستفز صاحبه ويأخذ به إلى ما يضره وذلك مذموم لاستدعائه العلو في الأرض والفساد المذمومين شرعاً.
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: مثل الجليس الصالح و الجليس السوء كحامل المسك و نافخ الكير، فحامل المسك إما أن يُحْذِيَك وإما أن تبتاع منه وإما تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك أو تجد منه ريحا خبيثة.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.(10/216)
بين به النهي عن مجالسة من يتأذى به ديناً أو دنيا والترغيب فيمن ينتفع بمجالسته فيهما وجواز بيع المسك وطهارته.
قال الراغب: نبه بهذا الحديث على أن حق الإنسان أن يتحرى بغاية جهده مصاحبة الأخيار ومجالستهم فهي قد تجعل الشرير خيراً كما أن صحبة الأشرار قد تجعل الخير شريراً قال الحكماء: من صحب خيراً أصاب بركته فجليس أولياء اللّه لا يشقى وإن كان كلباً ككلب أهل الكهف ولهذا أوصت الحكماء الأحداث بالبعد عن مجالسة السفهاء، قال علي كرم اللّه وجهه: لا تصحب الفاجر فإنه يزين لك فعله ويود لو أنك مثله، وقالوا: إياك ومجالسة الأشرار فإن طبعك يسرق منهم وأنت لا تدري وليس إعداء الجليس جليسة بمقاله وفعاله فقط بل بالنظر إليه والنظر في الصور يورث في النفوس أخلاقاً مناسبة لخلق المنظور إليه فإن من دامت رؤيته للمسرور سر أو للمحزون حزن وليس ذلك في الإنسان فقط بل في الحيوان والنبات فالحمل الصعب يصير ذلولاً بمقاربة الجمل الذلول والذلول قد ينقلب صعباً بمقارنة الصعاب والريحانة الغضة تذبل بمجاورة الذابلة ولهذا يلتقط أهل الفلاحة الرمم عن الزرع لئلا تفسدها ومن المشاهد أن الماء والهواء يفسدان بمجاورة الجيفة فما الظن بالنفوس البشرية التي موضعها لقبول صور الأشياء خيرها وشرها؟ فقد قيل سمي الإنس لأنه يأنس بما يراه خيراً أو شراً.
تجنب صحبة أهل الدنيا:
قال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة:
لا تعاشر أبناء الدنيا وواجب على المؤمن أن يتجنب عِشْرَةَ طلاب الدنيا؛ فإنهم يدلونه على طلبها، وجمعها، ومنعها، وذاك الذي يبعده عن طلب نجاته، ويقطعه عنها، ويجتهد في معاشرة أهل الخير ومن يدله على طلب الآخرة، وطلب مولاه كذلك
أورد أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة عن يوسف بن الحسين يقول: قلت لذي النون وقت مفارقته: أوصني فقال: " عليك بصحبة من تسلم منه في ظاهر أمرك، ويبعثك على الخير صحبته، ويذكرك الله رؤيته "
ولله درُّ من قال:
فَلَا تَصْحَبْ أَخَا الْجَهْلِ وَإِيَّاكَ وَإِيَّاهُ
فَكَمْ مِنْ جَاهِلٍ أَرْدَى حَلِيمًا حِينَ وَاخَاهُ
يُقَاسُ الْمَرْءُ بِالْمَرْءِ إذَا هُوَ مَاشَاهُ
(3) المحبة في الله:(10/217)
أعظم مقامات الأخوة أن تكون في الله ولله، لا لنيل منصب، ولا لتحصيل منفعة عاجلة أو آجلة، ولا من أجل كسب مادي، أو غير ذلك. ومن كانت محبته في الله وأخوته في الله فقد بلغ الغاية، وليحذر أن يشوبها شيءٌ من حظوظ الدنيا فيفسدها. ومن كانت محبته في الله فليبشر بموعود الله ونجاته من هول الموقف يوم القيامة، ودخوله في ظل عرش الجبار جل جلاله، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ.
وكلما زادت المحبة بين المؤمنين كان هذا أقرب إلى الله:
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَا تَحَابَ رَجُلَانِ فِي اللهِ؛ إِلَا كَانَ أَحَبَهُمَا إِلَى اللهِ عَزَ وَجَلَّ أَشَدُهُمَا حُبَاً لِصَاحِبِهِ.
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَوْثَقُ عُرَى الإِيْمَانِ: المُوَالَاةِ فِي اللهِ وَالمُعَادَاةُ فِي اللهِ وَالحُبُ فِي اللهِ وَالبُغْضُ فِي اللهِ عَزَ وَجَل.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(أوثق عرى الإيمان) أي أقواها أو أثبتها وأحكمها جمع عروة وهي في الأصل ما يعلق به نحو دلو أو كوز فاستعير لما يتمسك به من أمر الدين ويتعلق به من شعب الإيمان وقال الحرالي: العروة ما يشد به العباءة ونحوها يتداخل بعضها في بعض دخولاً لا ينفصم بعضه من بعض إلا بفصم طرفه فإذا انفصمت منه عروة انفصم جميعه وقال الزمخشري: هذا تمثيل للمعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس حتى يتصور السامع كأنه ينظر إليه بعينه فبحكم اعتقاده والتيقن به
(الموالاة) أي التحابب والمعاونة
(في اللّه) أي فيما يرضيه
(والمعاداة في اللّه) أي فيما يبغضه ويكرهه(10/218)
(والحب في اللّه والبغض في اللّه عز وجل) قال مجاهد: عن ابن عمر فإنك لا تنال الولاية إلا بذلك ولا تجد طعم الإيمان حتى تكون كذلك اهـ. ومن البغض في اللّه بغض كثير ممن ينسب نفسه للعلم في زمننا لما أشرق عليهم من مظاهر النفاق وبغضهم [ص 70] لأهل الخير فيتعين على من سلم قلبه من المرض أن يبغضهم في اللّه لما هم عليه من التكبر والغلظة والأذى للناس قال الشافعي: عاشر الكرام تعش كريماً ولا تعاشر اللئام فتنسب إلى اللؤم ومن ثم قيل مخالطة الأشرار خطر ومبالغة في الغرر كراكب بحر إن سلم من التلف لم يسلم قلبه من الحذر. أهـ
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي.
(حديث معاذ رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَجَبَتْ مَحَبَتِي لِلْمُتَحَابِينَ فِي وَالمُتَجَالِسِيَن فِي وَالمُتَبَاذِلِينَ فِي وَالمُتَزَاوِرِينَ فِي.
(حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُتَحَابُّونَ فِي جَلَالِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمْ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ.
(حديث أبي أمامة الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ.(10/219)
(حديث عمر الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَكَانِهِمْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخْبِرُنَا مَنْ هُمْ قَالَ هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ وَلَا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا فَوَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ وَإِنَّهُمْ عَلَى نُورٍ لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ (أَلآ إِنّ أَوْلِيَآءَ اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)
[يونس: 62].
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (سَبْعَةٌ يُظِلّهُمُ الله في ظِلّهِ يَوْمَ لاَ ظِلّ إِلاّ ظِلّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌ نَشَأَ في ِعِبَادَةِ الله، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلّقٌ في المَسْاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابّا في الله اجْتَمعَا عَلَيه وَتَفَرّقَا عليه، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امرأة ذَاتُ منصبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنّي أَخَافُ الله، وَرَجُلٌ تَصَدّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَهُ)
(حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: قِيلَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّجُلُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ قَالَ الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ.(10/220)
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في السلسلة الصحيحة) قَالَتْ: جَاءَ رَجُلٌ إِلى النبيِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّكَ لأَحَبُ إليَّ مِنْ نَفْسِي، وَإنَّكَ لأَحَبَ إليَّ مِنْ وَلَدِي، وَإنِّي لأَكُونُ فِي البَيْتِ فَأَذْكُرُكَ فَمَا أَصْبِرُ حَتَى آتِي فَأَنْظُرُ إِليْكَ، وَإِذَا ذَكَرْتُ مَوْتِي وَمَوْتِكَ عَرَفَتُ أنَّكَ إِذَا دَخَلْتَ الجَنَّةَ رُفِعْتَ مَعْ النَّبيِّين، وَإنِّي إِذَا دَخَلْتَ الجَنَّةَ خَشِيْتُ أَنْ لا أَرَاكَ؛ فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئاً حَتَى نَزَلَ جِبْرِيْلُ عليه السلام بهذه الآية: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشُّهَدَآء وَالصَّالِحِينَ) [النساء: 69].
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَتَى السَّاعَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَا أَعْدَدْتَ لَهَا قَالَ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلَاةٍ وَلَا صَوْمٍ وَلَا صَدَقَةٍ وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ.
(حديث أبي أمامة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "مَا أَحَبَ عَبْدٌ عَبْداً لِلهِ إِلا أَكْرَمَه الله "
(حديث علي ابن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "لَا يُحِبُ رَجُلٌ قَومَاً إِلَا حُشِرَ مَعَهُم.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ (1) مَلَكًا فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ أَيْنَ تُرِيدُ قَالَ أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ قَالَ هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قَالَ لَا غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ.
__________
(1). في اللسان: المدرجة: ممرُّ الأشياء على الطريق وغيره. (2/ 267) مادة (درج).(10/221)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ عَادَ مَرِيضًا أَوْ زَارَ أَخًا لَهُ فِي اللَّهِ نَادَاهُ مُنَادٍ أَنْ طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ وَتَبَوَّأْتَ مِنْ الْجَنَّةِ مَنْزِلًا.
(حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِرَجَالِكُم مِنْ َأهْلِ الجَنَّةِ؟ النَّبِيُّ فِي الْجَنَّةِ وَالشَهِيدُ فِي الْجَنَّةِ وَالصِّدِّيقُ فِي الْجَنَّةِ وَالمَولُودُ فِي الْجَنَّةِ وَالرَجُلُ يَزورُ أَخَاهُ فِي نَاحِيَةِ المِصْرِ فِي اللهِ فِي الْجَنَّةِ; أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِنِسَائِكُم مِنْ َأهْلِ الجَنَّةِ؟ الوَدُودُ الوَلُودُ العَئُودُ التِي إِذَا ظُلِمَتْ قَالَتْ: هَذِهِ يَدِي فِي يَدِكَ لَا أَذُوقُ غَمْضَاً حَتَى تَرْضَى.
دلالة المحبة وشواهدها:
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر اختلف.
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح:
قال الخطابي: يحتمل أن يكون إشارة إلى معنى التشاكل في الخير والشر والصلاح والفساد وأن "الخير من الناس يحن إلى شكله والشرير نظير ذلك" يميل إلى نظيره فتعارف الأرواح يقع بحسب الطباع التي جبلت عليها من خير وشر فإذا اتفقت تعارفت وإذا اختلفت تناكرت.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(الأرواح) التي تقوم بها الأجساد.
(جنود مجندة) أي جموع متجمعة وأنواع مختلفة.
(فما تعارف) توافق في الصفات وتناسب في الأخلاق.
(منها ائتلف) أي ألف قلبه قلب الآخر وإن تباعدا كما يقال ألوف مؤلفة وقناطير مقنطرة.
(وما تناكر منها) أي لم يتوافق ولم يتناسب.(10/222)
(اختلف) أي نافر قلبه قلب الآخر وإن تقاربا جسداً فالائتلاف والاختلاف للقلوب والأرواح البشرية التي هي النفوس الناطقة مجبولة على ضرائب مختلفة وشواكل متباينة فكل ما تشاكل منها في عالم الأمر تعارف في عالم الخلق وكل ما كان في غير ذلك في عالم الأمر تناكر في عالم الخلق فالمراد بالتعارف ما بينهما من التناسب والتشابه وبالتناكر ما بينهما من التباين والتنافر وذلك لأنه سبحانه عرف ذاته للأرواح [ص 175] بنعوته فعرفها بعض بالقهر والجلال وبعض باللطف والجمال وبعض بصفات أخر ثم استنطقها بقوله {ألست بربكم} ثم أوردها في الأبدان فالتعارف والتنافر يقع بحسب ذلك والتعارف والتناكر بحسب الطباع التي جبل عليها من خير وشر وكل شكل يميل إلى شكله فالتعارف والتناكر من جهة المناسبة المحكمة بين الفريقين فيميل الطيب للطيب والخبيث للخبيث ويألفه ومنشأ ذلك أحكام التناسب ولهذا قال الشافعي: العلم جهل عند أهل الجهل كما أن الجهل جهل عند أهل العلم. (حكى) الشيرواني أن تمرلنك كان يحب رجلاً من معتقدي العجم ويتردد إليه فوجد الرجل في قلبه ميلاً لتمرلنك فتخوف وقال: ما المناسبة فمنع تيموراً من دخوله عليه فسأله عن سببه فذكر ما خطر له فقال تمرلنك: بيني وبينك مناسبة وهي أنك تحب بيت آل النبي صلى اللّه عليه وسلم وأنا واللّه أحبهم وأنت رجل كريم وأنا أحب الكرم فهذه المناسبة المقتضية للميل لا ما فيَّ من الشر وقد يتفق اجتماع مادّتي الخبيث والطيب في شخص واحد فيصدران منه ويميل لكل منهما بكل من الوصفين (نكتة) حكى بعضهم أن اثنين اصطحبا في سفينة فقعد أحدهما على طرفها والآخر بوسطها فسقط من على الطرف في البحر فرما الآخر نفسه عليه فأخرجا بالحياة فقال الأول للثاني: أنا كنت بطرفها فوقعت فمالك أنت قال لما وقعت: أنت غبت بك عني * فحسبت أنك أني. أهـ
إعلام المحبوب بما تجنه القلوب:
(حديث المقدام بن معد يكرب الثابت في صحيح أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُعْلِمْهُ إِيَّاهُ.
(حديث المقدام بن معد يكرب الثابت في صحيح الأدب المفرد) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُعْلِمْهُ أَنَّهُ أَحَبَهُ.
(إذا أحب أحدكم) محبة دينية قال الحراني: من الحب وهو إحساس بوصلة لا يدرك كنهها.(10/223)
(أخاه) في الدين كما يرشد إليه قوله في رواية صاحبه وفي أخرى عبداً.
(فليعلمه) ندباً مؤكداً أنه أي بأنه.
(يحبه) لله سبحانه وتعالى لأنه إذا أخبره به فقد استمال قلبه واجتلب وده فإنه إذا علم أنه يحبه قبل نصحه ولم يرد عليه قوله في عيب فيه أخبره به ليتركه فتحصل البركة. قال البغدادي: إنما حث على الإعلام بالمحبة إذا كانت لله لا لطمع في الدنيا ولا هوى بل يستجلب مودته فإن إظهار المحبة لأجل الدنيا والعطاء تملق وهو نقص والله أعلم
(تنبيه) ظاهر الحديث لا يتناول النساء فإن اللفظ أحد بمعنى واحد وإذا أريد المؤنث إنما يقال إحدى لكنه يشمل الإناث على التغليب وهو مجاز معروف مألوف وإنما خص الرجال لوقوع الخطاب لهم غالباً وحينئذٍ إذا أحبت المرأة أخرى لله ندب إعلامها. أهـ
{تنبيه}: مما ينبغي -أيضاً- على المتحابين في الله، أن يتفقدوا أنفسهم وقلوبهم بين وقت وآخر، وينظروا هل خالط هذه المحبة ما ينغصها ويكدرها ويخرجها عن حقيقتها أم لا، لأن المحبة في أول أمرها قد تكون خالصة لله، ولكن لا تلبث -إن غفل عنها أهلها- أن تتحول إلى أخوة تبادل المنافع، وقد تتحول مع التمادي والمجاوزة إلى شيء من العشق والغرام، فمخالطة المردان باسم الأخوة في الله، وتجاوز بعض النساء عن الحد المشروع مع بنات جنسهن قد يُفضي إلى مثل ذلك.
مسألة: ما هي الأمور التي تجلب المحبة في قلوب العباد:
[*] الأمور التي تجلب المحبة في قلوب العباد هي ما يلي:
1) الإيمان والعمل الصالح: قال تعالى: (إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرّحْمََنُ وُدّاً) [سورة: مريم - الآية: 96]
[*] قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره:
قوله تعالى [إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا]: أي حباً في قلوب عباده.
(حديث أبي هريرة الأشعري في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا أحب الله عبدا نادى جبريل: إن الله يحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض.
2) إفشاء السلام:
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: و الذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا و لا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم.
3) لا يتناجى يتناجى رجلان دون الآخر حتى يختلطوا بالناس.(10/224)
(حديث ابن مسعود في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى رجلان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس فإن ذلك يحزنه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى) التناجي التحادث سراً.
(رجلان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس) أي تنضموا إليهم وتمتزجوا ويتحدث بعضهم مع بعض
(فإن ذلك يحزنه) ... ثم علل ذكر النهي بقوله فإن ذلك يحزنه، أي التناجي مع انفراد واحد، وذلك لئلا يقع في نفسه أنهما يتحدثون عنه بما يشينه أو أنهما لم يشاركاه في الحديث احتقاراً له.
4) تعاهد الإخوان بالهدايا فإنها تجلب المحبة بنص السنة الصحيحة:
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: تهادوا تحابوا.
وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبل الهدية و يثيب عليها
(حديث عائشة في صحيح البخاري) قالت كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبل الهدية و يثيب عليها.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(كان يقبل الهدية ويثيب عليها) بأن يعطي بدلها فيسن التأسي به في ذلك بأن يجازي المهدي بهدية أيضاً.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أجيبوا الداعي ولا تردوا الهدية ولا تضربوا المسلمين.
مسألة: ما هي الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها من أراد الإهداء أو قبول الهدية إذا أراد التأسي بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟
[*] الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها من أراد الإهداء إذا أراد التأسي بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هي ما يلي:
1) الإهداء ولو بالشيء القليل كذلك على قبول الهدية ولو كانت شيئاً قليلاً لأن العبرة بمعناها.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يا نساء المسلمات! لا تحقرن جارة لجارتها و لو فِرْسَن شاة.
معنى فرسن شاة: الفِرسن للشاة كالقدم للإنسان، وفي الحديث دليل واضح جَلِيٌ على تعاهد الجار
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لو دُعيتُ إلى ذراعٍ أو كُرَاعٍ لأجبت و لو أُهْدِي إليَّ ذِراعٍ أو كُراعٍ لقبلت.
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في الفتح:
وخصَّ الذراع والكراع بالذكر ليجمع بين الحقير والخطير لأن الذراع كانت أحب إليه من غيرها والكراع لا قيمة لها.(10/225)
2) ومن السنة أنك إذا رددت الهدية تبين سبب ردها تطيباً لخاطر صاحبها.
(حديث الصعب بن جثامة الليثي في الصحيحين) أنه أهدى لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودَّان فردَّه عليه فلما رأى ما في وجهه قال إنَّا لم نرده عليك إلا أنَّا حرم.
3) يكره الرجوع في الهدية.
(حديث ابن عباس في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ليس لنا مثل السوء العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه.
4) أن يجتنب المنّ فإنه يبطل ثواب الهدية.
(حديث أبي ذر في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة و لا ينظر إليهم و لا يزكيهم و لهم عذاب أليم: المسبل إزاره و المنَّان الذي لا يعطي شيئا إلا منه و المنفق سلعته بالحلف الكاذب.
5) الْهَدِيَّةُ لِمَنْ أُهْدِيَتْ إلَيْهِ لَا لِمَنْ حَضَرَ:
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
الْهَدِيَّةُ إنْ أُهْدِيَتْ إلَيْهِ يَخُصُّ بِهَا مَنْ شَاءَ , وَلَا يَصِحُّ الْخَبَرُ إنَّهَا لِمَنْ حَضَرَ , وَمِمَّا يُسْتَحَبُّ شَرْعًا وَعُرْفًا الْهَدِيَّةُ أَوَائِلُ الثِّمَارِ وَالزَّرْعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْهَا لَا سِيَّمَا إلَى الْكَبِيرِ الصَّالِحِ وَدُعَائِهِ عِنْدَ ذَلِكَ بِالْبَرَكَةِ , وَأَنَّهُ يُخَصِّصُ ذَلِكَ أَوْ بَعْضَهُ بَعْضَ مَنْ يُحْضِرُهُ مِنْ الصِّغَارِ ; لِأَنَّهُ يَقَعُ لِذَلِكَ مَوْقِعًا عَظِيمًا بِخِلَافِ الْكِبَار. أهـ
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُؤْتَى بِأَوَّلِ الثَّمَرِ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا وَفِي مُدِّنَا وَفِي صَاعِنَا وَفِي ثِمَارِنَا بَرَكَةً مَعَ بَرَكَةٍ ثُمَّ يُعْطِيهِ أَصْغَرَ مَنْ يُحْضِرُهُ مِنْ الْوِلْدَانِ.
(4) البشاشة واللين والتودد للإخوان:
إن أقل ما يتلقى به الأخ أخيه، هو وجه طلق، وثغر باسم، وهو من المعروف والأدب الذي ينبغي أن يكون بين الأخ وأخيه؛ أن يهش ويبش في وجهه كلما لاقاه أو رآه، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث جرير ابن عبد الله الثابت في الصحيحين) قَالَ: مَا حَجَبَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلَا رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي.(10/226)
(حديث أبي ذر الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ.
(حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ وَإِنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ وَأَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ أَخِيكَ.
(حديث أبي ذر رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالِ لَكَ صَدَقَةٌ وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ الْبَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ وَإِمَاطَتُكَ الْحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالْعَظْمَ عَنْ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن أبي حاتم قال: البشاشه إدام العلماء وسجية الحكماء لأن البشر يطفيء نار المعاندة ويحرق هيجان المباغضه وفيه تحصين من الباغي ومنجاة من الساعي ومن بش للناس وجها لم يكن عندهم بدون الباذل لهم ما يملك.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن سعيد بن عبد الرحمن الزبيدي قال يعجبني من القراء كل سهل طلق مضحاك فأما من تلقاه يبشر ويلقاك بعبوس يمن عليك بعمله فلا أكثر الله في القراء ضرب هذا.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن حبيب بن أبي ثابت قال من حسن خلق الرجل أن يحدث صاحبه وهو يبتسم.
واللين والرفق والتودد مما يقوي الروابط بين الإخوان، ويعمق الصلة بينهم، فـ (الله يحب الرفق في الأمر كله) وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ.
(حديث جرير ابن عبد الله الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ يُحْرَمْ الرِّفْقَ يُحْرَمْ الْخَيْرَ(10/227)
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ.
(حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ.
(حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ.
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أَنَّ الْيَهُودَ أَتَوْا النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكَ قَالَ وَعَلَيْكُمْ فَقَالَتْ عَائِشَةُ السَّامُ عَلَيْكُمْ وَلَعَنَكُمْ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْكُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَهْلًا يَا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ أَوْ الْفُحْشَ قَالَتْ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ.
(حديث عائشة الثابت في صحيح أبي داود) قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا بَلَغَهُ عَنْ الرَّجُلِ الشَّيْءُ لَمْ يَقُلْ مَا بَالُ فُلَانٍ يَقُولُ وَلَكِنْ يَقُولُ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا.
ومادام ذلك كذلك، فالإخوان أحرى وأولى أن يرفق بعضهم ببعض، وأن يلين بعضهم لبعض.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنَ النَّاسِ.
ومن الأمور التي تعين على استدامة المحبة، وإزالة الشحناء من القلوب؛ التهادي بين الإخوان، (حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: تَهَادُوا تَحَابُوا.
ولله درُ من قال:
هدايا الناس بعضهم لبعض ... تولد في قلوبهم الوصالا
وتزرع في الضمير هوى وودا ... وتكسوهم إذا حضروا جمالا(10/228)
(5) استحباب بذل النصيحة وهي من تمام الأخوة:
النصيحة مطلبٌ شرعي مُرغبٌ فيه من لدن الشارع، وهي من الأمور التي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبايع عليها أصحابه، والنصيحة من أفضل القربات وأجل الطاعات، ولا سيما إن كانت النصائح الأخوية صادرةٌ عن إخلاص وحسن طوية ليس فيها مجالاً للحقد والحسد أو اتِّباع الهوى، فإنها إن خلت من ذلك وجدت للسامع في سمعه مسمعاً وفي قلبه موقعا، وعليه أن يتقبلها بقبولٍ حسن عسى الله أن ينفعه بها ويوفقه إلى تطبيقها.
قال تعالى (وَالْعَصْرِ إِنّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصّبْرِ) [العصر: من 1: 3]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره:
فاستثنى من جنس الإنسان عن الخسران الذين آمنوا بقلوبهم وعملوا الصالحات بجوارحهم " وتواصوا بالحق " وهو أداء الطاعات وترك المحرمات.
والسنة الصحيحة طافحة بالحث على النصيحة بين المؤمنين
(حديث تميم ابن أوس الداريِّ الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الدين النصيحة قالوا: لمن يا رسول اللّه قال: للّه وكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم.
(حديث تميم ابن أوس الداريِّ الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الدِّينُ النَّصِيحَةُ قُلْنَا لِمَنْ؟ قَالَ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ.
قوله: (الدين النصيحة) أي: أن النصيحة أفضل الدين وأكمله (1). وقال ابن الجوزي: اعلم أن النصيحة لله عز وجل المناضلة عن دينه والمدافعة عن الإشراك به وإن كان غنياً عن ذلك، ولكن نفعه عائد على العبد، وكذلك النصح لكتابه الذب عنه والمحافظة على تلاوته، والنصيحة لرسوله إقامة سنته والدعاء إلى دعوته، والنصيحة لأئمة المسلمين طاعتهم، والجهاد معهم، والمحافظة على بيعتهم، وإهداء النصائح إليهم دون المدائح التي تغر، والنصيحة لعامة المسلمين إرادة الخير لهم، ويدخل في ذلك تعليمهم وتعريفهم اللازم، وهدايتهم إلى الحق (2).
__________
(1). كشف المشكل من حديث الصحيحين. لابن الجوزي (4/ 219)
(2). كشف المشكل من حديث الصحيحين. لابن الجوزي (4/ 219)(10/229)
وعلى هذا فتكون نصيحة الإخوان بإرادة الخير لهم، وبيان الحق لهم، ودلالتهم عليه، وعدم غشهم ومجاملتهم في دين الله، ويدخل فيه أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ولو خالف هواهم وطريقتهم. وأما مسايرتهم في طريقتهم، ومجاملتهم في دين الله باسم الأخوة، وحتى لا ينفضوا أو ينفروا، فهذا ليس من النصح الذي أمر به نبينا عليه الصلاة والسلام. نعم، الحكمة مطلوبة عند عرض النصيحة عليهم، ولكن الحق لابد أن يبين ويعلم، وخصوصاً إذا كان ذلك بين الإخوان فهو مقدورٌ عليه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(الدين النصيحة) أي عماده وقوامه النصيحة على وزان الحج عرفة فبولغ في النصيحة حتى جعل الدين كله إياها
(للّه وكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم) قال بعضهم: هذا الحديث ربع الإسلام أي أحد أحاديث أربعة يدور عليها وقال النووي: بل المدار عليه وحده ولما نظر السلف إلى ذلك جعلوا النصيحة أعظم وصاياهم قال بعض العارفين: أوصيك بالنصح نصح الكلب لأهله فإنهم يجيعونه ويطردونه ويأبى إلا أن يحوطهم ويحفظهم وظاهر الخبر وجوب النصح وإن علم أنه لا يفيد في المنصوح ومن قبل النصيحة أمن الفضيحة ومن أبى فلا يلومن إلا نفسه
(حديث جرير بن عبد الله في الصحيحين) قال بايعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم.
وكون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرنها مع الصلاة والزكاة التي هي من أركان الإسلام، ليدلنا على عظم شأنها وعلو منزلتها.
(حديث أبي هريرة في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: المؤمن مرآة المؤمن و المؤمن أخو المؤمن يكفُّ عليه ضيعته و يحُوطُه من ورائه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(المؤمن مرآة المؤمن) فأنت مرآة لأخيك يبصر حاله فيك وهو مرآة لك تبصر حالك فيه فإن شهدت في أخيك خيراً فهو لك وإن شهدت غيره فهو لك وكل إنسان مشهده عائد عليه ومن ثم قالوا: من مشهدك يأتيك روح مددك
(والمؤمن أخو المؤمن) أي بينه وبينه أخوه ثابتة بسبب الإيمان {إنما المؤمنون إخوة}
(يكف عليه ضيعته) أي يجمع عليه معيشته ويضمها له وضيعة الرجل ما منه معاشه.(10/230)
(ويحوطه من ورائه) أي يحفظه ويصونه ويذب عنه ويدفع عنه من يغتابه أو يلحق به ضرراً ويعامله بالإحسان بقدر الطاقة والشفقة والنصيحة وغير ذلك قال بعض العارفين: كن رداءاً وقميصاً لأخيك المؤمن وحطه من ورائه واحفظه في نفسه وعرضه وأهله فإنك أخوه بالنص القرآني فاجعله مرآة ترى فيها نفسك فكما يزبل عنك كل أذى تكشفه لك المرآة فأزل عنه كل أذى به عن نفسه.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان بن عيينة عليك بالنصح لله في خلقه فلن تلقى الله بعمل أفضل منه.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه قال: لا تعمل بالخديعة فإنها خلق اللئام وامحض أخاك النصيحة حسنة كانت أو قبيحه وزل معه حيث زال.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن الحسن قال المؤمن شعبة من المؤمن وهو مرآة أخيه إن رأى منه مالا يعجبه سدده وقومه ونصحه السر والعلانية.
النصيحة سراً:
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن ابن المبارك قال كان الرجل إذا رأى من أخيه ما يكره أمره في ستر ونهاه في ستر فيؤجر في ستره ويؤجر في نهيه فأما اليوم فإذا رأى أحد من أحد ما يكره استغضب أخاه وهتك ستره.
كيفية النصيحة:
(1) أن يقصد النصح وليس التوبيخ أو التعيير بالذنب:
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله في الفرق بين النصيحة والتعيير:
إذا أخبر أحد أخاه بعيب ليجتنبه كان ذلك حسناً لمن أُخبر بعيب من عيوبه أن يعتذر منها إن كان له منها عذر، وإن كان ذلك على وجه التوبيخ بالذنب فهو قبح مذموم.
وقيل لبعض السلف: أتحبُّ أن يخبرك أحد بعيوبك؟ فقال:"إن كان يريد أن يوبخني فلا "
فالتوبيخ والتعيير بالذنب مذموم وقد نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تُثَرَّبَ الأمة الزانية مع أمره بجلدها فتجلد حداً ولا تعير بالذنب ولا توبخ به. أهـ
وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: زَنَتْ الْأَمَةُ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا وَلَا يُثَرِّبْ ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا وَلَا يُثَرِّبْ ثُمَّ إِنْ زَنَتْ الثَّالِثَةَ فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ.
لا يُثَرِّب: أي لا يُعَيِّر.(10/231)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قَالَ أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ رَجُلٌ مَا لَهُ أَخْزَاهُ اللَّهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ.
(2) أن تكون النصيحة سراً:
أورد ابن رجب الحنبلي رحمه الله في الفرق بين النصيحة والتعيير عن الفضيل قال: (المؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويُعيِّر).
فهذا الذي ذكره الفضيل من علامات النصح والتعيير، وهو أن النصح يقترن به الستر والتعيير يقترن به الإعلان.
وكان يقال: (من أمر أخاه على رؤوس الملأ فقد عيَّره) أو بهذا المعنى.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال: من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وخانه.
ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ عَنْ مِسْعَرٍ قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَهْدَى إلَيَّ عُيُوبِي فِي سِرٍّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ , فَإِنَّ النَّصِيحَةَ فِي الْمَلَأِ تَقْرِيعٌ.
أورد ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية عن يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: أَخُوك مَنْ ذَكَّرَك الْعُيُوبَ وَصَدِيقُك مَنْ حَذَّرَك الذُّنُوبَ.
وكان السلف يكرهون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على هذا الوجه ويحبون أن يكون سراً فيما بين الآمر والمأمور فإن هذا من علامات النصح " فإن الناصح ليس له غرض في إشاعة عيوب من ينصح له وإنما غرضه إزالة المفسدة التي وقع فيها". وأما إشاعة وإظهار العيوب فهو مما حرمه الله ورسوله قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النور:19)
والأحاديث في فضل السر كثيرةٌ جدَّاً منها ما يلي:(10/232)
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ.
وقال بعض العلماء لمن يأمر بالمعروف: (واجتهد أن تستر العصاة فإن ظهور عوراتهم وهن في الإسلام أحقُّ شيء بالستر: العورة).
فلهذا كان إشاعة الفاحشة مقترنة بالتعيير وهما من خصال الفجار لأن الفاجر لا غرض له في زوال المفاسد ولا في اجتناب المؤمن للنقائص والمعايب إنما غرضه في مجرد إشاعة العيب في أخيه المؤمن وهتك عرضه فهو يعيد ذلك ويبديه ومقصوده تنقص أخيه المؤمن في إظهار عيوبه ومساويه للناس ليُدخل عليه الضرر في الدنيا.
وأما الناصح فغرضُه بذلك إزالة عيب أخيه المؤمن واجتنابه له وبذلك وصف الله تعالى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:128)(10/233)
ووصف بذلك أصحابه فقال: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (الفتح:29).
ووصف المؤمنين بالصبر والتواصي بالمرحمة.
وأما الحامل للفاجر على إشاعة السوء وهتكه فهو القوة والغلظة ومحبته إيذاء أخيه المؤمن وإدخال الضرر عليه وهذه صفة الشيطان الذي يزيِّن لبني آدم الكفر والفسوق والعصيان ليصيروا بذلك من أهل النيران كما قال الله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (فاطر:6).
وقال بعد أن قص علينا قصته مع نبي الله آدم عليه السلام ومكرَه به حتى توصل إلى إخراجه من الجنة: (يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا) (لأعراف: من الآية27).
"فشتان بين من قصده النصيحة وبين من قصده الفضيحة" ولا تلتبس إحداهما بالأخرى إلا على من ليس من ذوي العقول الصحيحة.
عقوبة من أشاع السوء على أخيه المؤمن وتتبع عيوبه وكَشَفَ عورته:
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله في الفرق بين النصيحة والتعيير:
عقوبة من أشاع السوء على أخيه المؤمن وتتبع عيوبه وكَشَفَ عورته أن يتبع الله عورته ويفضحه ولو في جوف بيته. أهـ
(حديث أبي برزة الأسلمي الثابت في صحيح أبي داود) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ.(10/234)
أورد ابن رجب الحنبلي رحمه الله في الفرق بين النصيحة والتعيير أن ابن سيرين لما ركبه الدَّيْن وحبس به قال: (إني أعرف الذنب الذي أصابني هذا عيَّرت رجلاً منذ أربعين سنة فقلت له: يا مفلس).
ذم من أظهر النصح وأبطن التعيير:
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله في الفرق بين النصيحة والتعيير:
ومِن أظهرِ التعيير: إظهارُ السوء وإشاعتُه في قالب النصح وزعمُ أنه إنما يحمله على ذلك العيوب إما عاماً أو خاصاً "وكان في الباطن إنما غرضه التعيير والأذى" فهو من إخوان المنافقين الذين ذمهم الله في كتابه في مواضع فإن الله تعالى ذم من أظهر فعلاً أو قولاً حسناً وأراد به التوصل إلى غرض فاسد يقصده في الباطن وعدَّ ذلك من خصال النفاق كما في سورة براءة التي هتك فيها المنافقين وفضحهم بأوصافهم الخبيثة: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (التوبة:107).
وقال تعالى: (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران:188)، وهذه الآية نزلت في اليهود لما سألهم النبي صلى اله عليه وسلم عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك عليه وفرحوا بما أتوا من كتمانه وما سألهم عنه. كذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما وحديثه بذلك مخرّج في الصحيحين وغيرهما.(10/235)
(حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الثابت في الصحيحين) أَنَّ رِجَالًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْغَزْوِ تَخَلَّفُوا عَنْهُ وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ وَحَلَفُوا وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَنَزَلَتْ {لَا يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} الْآيَةَ.
فهذه الخصال خصال اليهود والمنافقين وهو أن يظهر الإنسان في الظاهر قولاً أو فعلاً وهو في الصورة التي ظهر عليها حسن ومقصوده بذلك التوصل إلى غرض فاسد فيحمده على ما أظهر من ذلك الحسن ويتوصل هو به إلى غرضه الفاسد الذي هو أبطنه ويفرح هو بحمده على ذلك الذي أظهر أنه حسن وفي الباطن شيء وعلى توصله في الباطن إلى غرضه السيء فتتم له الفائدة وتُنَفَّذُ له الحيلة بهذا الخداع.
ومن كانت هذه همته فهو داخل في هذه الآية ولا بد فهو متوعد بالعذاب الأليم، ومثال ذلك: أن يريد الإنسان ذمَّ رجل وتنقصه وإظهار عيبه لينفر الناس عنه إما محبة لإيذائه [أو] لعداوته أو مخافة من مزاحمته على مال أو رئاسة أو غير ذلك من الأسباب المذمومة فلا يتوصل إلى ذلك إلا بإظهار الطعن فيه بسبب ديني مثل: أن يكون قد ردَّ قولاً ضعيفاً من أقوال عالم مشهور فيشيع بين من يعظِّم ذلك العالم أن فلاناً يُبغِضُ هذا العالم ويذمُّه ويطعن عليه فيغرُّ بذلك كل من يعظِّمه ويوهمهم أن بغض الراد وأذاه من أعمال العرب لأنه ذبٌّ عن ذلك العالم ورفع الأذى عنه وذلك قُربة إلى تعالى وطاعته فيجمع هذا المظهر للنصح بين أمرين قبيحين محرَّمين:
أحدهما: أن يحمل ردُّ العالم القول الآخر على البغض والطعن والهوى وقد يكون إنما أراد به النصح للمؤمنين وإظهار ما لا له كتمانه من العلم.
والثاني: أن يظهر الطعن عليه ليتوصل بذلك إلى هواه وغرضه الفاسد في قالب النصح والذب عن علماء الشرع وبمثل هذه المكيدة كان ظلم بني مروان وأتباعهم يستميلون الناس إليهم وينفِّرون قلوبهم عن علي بن أبي طالب والحسن والحسين وذريتهم رضي الله عنهم أجمعين.(10/236)
وأنه لما قُتِل عثمان رضي الله عنه لم ترَ الأمة أحق من علي رضي الله عنه فبايعوه فتوصل من توصل إلى التنفير عنه بأن أظهر تعظيم قتل عثمان وقُبحه وهو في نفس الأمر كذلك ضُمَّ إلى ذلك أن المؤلَّب على قتله والساعي فيه علي رضي الله عنه وهذا كان كذباً وبهتاً. وكان علي رضي الله عنه يحلف ويغلِّظ الحلف على نفي ذلك وهو الصادق البارُّ في يمينه رضي الله عنه وبادروا إلى قتاله ديانةً وتقرُّباً ثم إلى قتال أولاده رضوان الله عليهم واجتهد أولئك في إظهار ذلك وإشاعته على المنابر في أيام الجُمَع وغيرها من المجامع العظيمة حتى استقر في قلوب أتباعهم أن الأمر على ما قالوه وأن بني مروان أحق بالأمر من علي وولده لقربهم من عثمان وأخذهم بثأره فتوصلوا بذلك إلى تأليف قلوب الناس عليهم وقتالهم لعلي وولده من بعده ويثبُت بذلك لهم الملك واستوثق لهم الأمر.
وكان بعضهم يقول في الخلوة لمن يثق إليه كلاماً ما معناه: (لم يكن أحد من الصحابة أكفأ عن عثمان من علي) فيقال له: لِمَ يسبُّونه إذاً؟ فيقول: (إن المُلك لا يقوم إلا بذلك).
ومراده أنه لولا تنفير قلوب الناس على علي وولده ونسبتُهم إلى ظلم عثمان لما مالت قلوب الناس إليهم لما علموه من صفاتهم الجميلة وخصائصهم الجليلة فكانوا يسرعون إلى متابعتهم ومبايعتهم فيزول بذلك ملك أمية وينصرف الناس عن طاعتهم.
مسألة: من ابتلي بشيءٍ من هذا المكر فما يصنع؟
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله في الفرق بين النصيحة والتعيير:
ومن بُلي بشيء من هذا المكر فليتق الله ويستعن به ويصبر فإن العاقبة للتقوى. كما قال الله تعالى: بعد أن قصَّ قِصَّة يوسف وما حصل له من أنواع الأذى بالمكر والمخادعة:(10/237)
(وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) (يوسف: من الآية21)، وقال الله تعالى حكاية عه أنه قال لإخوته: (أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا) (يوسف: من الآية90)، وقال تعالى في قصة موسى عليه السلام وما حصل له ولقومه من أذى فرعون وكيده قال لقومه: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا) (لأعراف: من الآية128)، وقد أخبر الله تعالى أن المكر يعود وباله على صاحبه قال تعالى: (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) (فاطر: من الآية43)، وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا) (الأنعام: من الآية123)، والواقع يشهد بذلك فإن من سبر أخبار الناس وتواريخ العالم وقف على أخبار من مكر بأخيه فعاد مكره عليه وكان ذلك سبباً في نجاته وسلامته على العجب العجاب.
(6) التعاون فيما بين الإخوان:
ولنا في ذلك قدوة وأسوة، وأعظم به من قدوة-رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وما كان جناب الرسالة مانعاً له صلى الله عليه وآله وسلم من مشاركته أصحابه، وتقديم العون لهم. ومن ذلك مشاركته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه في بناء مسجده في المدينة.
(حديث أنس - رضي الله عنه - الثابت في الصحيحين) قَالَ: وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهُمْ وَهُوَ يَقُولُ اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الْآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ.
ومثله يوم الخندق:
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْخَنْدَقِ فَإِذَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَهُمْ فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنْ النَّصَبِ وَالْجُوعِ قَالَ اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ فَقَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا.
(حديث أبي موسى الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.(10/238)
(حديث النعمان بن بشير الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى.
والإخوان يحتاج بعضهم بعضاً، فيتعاونون فيما بينهم في سد خلة فقيرهم، أو الشفاعة الحسنة في قضاء حاجة محتاجهم، أو غير ذلك من شتى صور التعاون، (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ.
(7) تواضع الإخوان فيما بينهم وعدم التكبر أو الفخر عليهم:
[*] عناصر تواضع الإخوان فيما بينهم وعدم التكبر أو الفخر عليهم:
تعريف التواضع:
فضل التواضع:
أمورٌ من التواضع:
التواضع في اللباس:
تواضع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
ما جاء في الخمول:
ما جاء في الشهرة:
ذم الكبر:
أسباب الكبر:
ذم الاختيال:
أسباب الإعجاب والاختيال:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
تعريف التواضع:
التواضع هو: عقد القلب على صَغار النفس المؤثر في عواطفه وميوله وجوارحه في مقابل اللَّه سبحانه وتعالى، وفي مقابل رسله وأوليائه المعصومين، وفي مقابل المؤمنين.
قال الشوكاني رحمه الله في السلوك الإسلامي القويم:
وأما التواضع فهو أن لا يرى لنفسه حقاً.(10/239)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض وسُئِلَ: ما التواضع؟ قال: أن تخضع للحق وتنقاد له، ولو سمعته من صبي قبلته منه، ولو سمعته من أجهل الناس قبلته منه. وسألته: ما الصبر على المصيبة? قال: أن لا تبث.
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
سئل الفضيل بن عياض عن التواضع فقال: يخضع للحق وينقاد له
ويقبله ممن قاله.
وقيل: التواضع أن لا ترى لنفسك قيمة فمن رأى لنفسه قيمة فليس له في التواضع نصيب وهذا مذهب الفضيل وغيره.
وقال الجنيد بن محمد: هو خفض الجناح ولين الجانب.
وقال أبو يزيد البسطامي: هو أن لا يرى لنفسه مقاما ولا حالا ولا يرى في الخلق شراً منه.
وقال ابن عطاء: هو قبول الحق ممن كان والعز في التواضع فمن طلبه في الكبر فهو كتطلب الماء من النار.
وقال إبراهيم بن شيبان: الشرف في التواضع والعز في التقوي والحرية في القناعة ويذكر عن سفيان الثوري رحمه الله أنه قال: أعز الخلق خمسة أنفس: عالم زاهد وفقيه صوفي وغني متواضع وفقير شاكر وشريف سني.
وقال عروة بن الزبير رضي الله عنهما: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء فقلت: يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك هذا فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين دخلت نفسي نخوة فأردت أن أكسرها.
وولي أبو هريرة رضي الله عنه إمارة مرة فكان يحمل حزمة الحطب على ظهره يقول طرقوا للأمير.
وركب زيد بن ثابت مرة فدنا ابن عباس ليأخذ بركابه فقال: مه يا ابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بكبرائنا فقال: أرني يدك فأخرجها إليه فقبلها فقال: هكذا أمرنا نفعل بأهل بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقسم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بين الصحابة رضي الله عنهم حللا فبعث إلى معاذ حلة مثمنة فباعها واشترى بثمنها ستة أعبد وأعتقهم فبلغ ذلك عمر فبعث إليه بعد ذلك حلة دونها فعاتبه معاذ فقال عمر: لأنك بعت الأولى فقال معاذ وما عليك ادفع لي نصيبي وقد حلفت لأضربن بها رأسك فقال عمر رضي الله عنه: رأسي بين يديك وقد يرفق الشاب بالشيخ.(10/240)
أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عامر بن سعد بن أبي وقاص أن أباه سعدا كان في غنم له فجاء إبنه عمر فلما رآه قال أعوذ بالله من شر هذا الراكب فلما إنتهى أليه قال يا أبة أرضيت أن تكون أعرابيا في غنمك والناس يتنازعون في الملك بالمدينة فضرب صدر عمر وقال أسكت فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول (إن الله عز وجل يحب العبد التقي الغني الخفي.
ومر الحسن بن علي صبيان معهم كسر خبز فاستضافوه فنزل فأكل معهم ثم حملهم إلى منزله فأطعمهم وكساهم وقال: اليد لهم لأنهم لا يجدون شيئا غير ما أطعموني ونحن نجد أكثر منه.
ويذكر أن أبا ذر رضي الله عنه عَيَّرَ بلالا رضي الله عنه بسواده ثم ندم فألقى بنفسه فحلف: لا رفعت رأسي حتى يطأ بلال خدي بقدمه فلم يرفع رأسه حتى فعل بلال.
وقال رجاء بن حيوة: قومت ثياب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو يخطب باثني عشر درهما وكانت قباء وعمامة وقميصا وسراويل ورداء وخفين وقلنسوة.
ورأى محمد بن واسع ابنا له يمشي مشية منكرة فقال: تدري بكم شريت أمك بثلاثمائة درهم وأبوك لا كثر الله في المسلمين مثله أنا وأنت تمشي هذه المشية.
وقال حمدون القصار: التواضع أن لا ترى لأحد إلى نفسك حاجة لا في الدين ولا في الدنيا.
وقال إبراهيم بن أدهم: ما سررت في إسلامي إلا ثلاث مرات: كنت في سفينة وفيها رجل مضحاك كان يقول: كنا في بلاد الترك فأخذ العلج هكذا وكان يأخذ بشعر رأسي ويهزني لأنه لم يكن في تلك السفينة أحد أحقر مني والأخرى: كنت عليلا في مسجد فدخل المؤذن وقال: اخرج فلم أطق فأخذ برجلي وجرني إلى خارج والأخرى: كنت بالشام وعلي فرو فنظرت فيه فلم أميز بين شعره وبين القمل لكثرته فسرني ذلك وفي رواية: كنت يوما جالسا فجاء إنسان فبال علي.
وقال بعضهم: رأيت في الطواف رجلا بين يديه شاكرية يمنعون الناس لأجله عن الطواف ثم رأيته بعد ذلك بمدة على جسر بغداد يسأل شيئا فتعجبت منه فقال لي: إني تكبرت في موضع يتواضع الناس فيه فابتلاني الله بالذل في موضع يترفع الناس فيه.
وبلغ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: أن ابنا له اشترى خاتما بألف درهم فكتب إليه عمر: بلغني أنك اشتريت فصا بألف درهم فإذا أتاك كتابي فبع الخاتم وأشبع به ألف بطن واتخذ خاتما بدرهمين واجعل فصه حديدا صينيا واكتب عليه: رحم الله امرءا عرف قدر نفسه.
{تنبيه}: إن من أهم الأسباب التي تعين الإنسان على التواضع أن يمقت الإنسان نفسه في جنب الله تعالى.(10/241)
[*] قال أبو الدرداء: " لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون أشد لها مقتاً ".
[*] وكان بعض السلف يقول في دعائه في عرفة (اللهم لا ترد الناس لأجلي)!،
[*] وقال محمد بن واسع: لو كان للذنوب ريحٌ ما قدر أحد أن يجلس إلىّ.
مع أنه من كبار العباد في هذه الأمة.
[*] قال يونس بن عبيد: " إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن في نفسى منها واحدة ".
[*] دخل حمّاد بن سلمة على سفيان الثوري وهو يحتضر فقال: (يا أبا عبد الله أليس قد أمنت مما كنت تخافه وتقدم على من ترجوه وهو أرحم الراحمين؟!) قال: (يا أبا سلمة أتطمع لمثلي أن ينجو من النار) قال: (إي والله إني لأرجو لك ذلك).
[*] وقال جعفر بن زيد: (خرجنا في غزاة إلى كابل وفي الجيش صلة بن أشيم فنزل الناس عند العتمة فصلوا ثم اضطجع فقلت: لأرمقنّ عمله، فالتمس غفلة الناس فانسلّ وثبا فدخل غيظة (مجموعة أشجار ملتفة) قريب منا، فدخلت على أثره فتوضأ ثم قام يصلي فجاء أسد حتى دنا منه فصعدت في شجرة فتراه التفت إليه أو عدّه جرو! فلما سجد قلت الآن يفترسه فجلس ثم سلّم ثم قال: (أيها السبع اطلب الرزق من مكان آخر)، فولّى وإن له زئيراً، فمازال كذلك يصلي حتى كان الصبح فجلس يحمد الله وقال: (اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار ومثلي يستحي أن يسألك الجنة)! ثم رجع وأصبح وكأنه بات على حشاياً، أما أنا فأصبح بي ما الله به عليم من هول ما رأيت!
[*] وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (اللهم اغفر لي ظلمي وكفري)، فقال قائل: (يا أمير المؤمنين هذا الظلم فما الكفر؟) قال: (إن الإنسان لظلوم كفّار)، فإذا تمعّن الإنسان حال السلف عرف حاله والبعد الشديد مابينه وبينهم.
[*] أورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عن مالك بن دينار قال: " رحم الله عبدا قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله تعالى، فكان لها قائدا "
[*] وأورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عن عن وهب بن منبه: " أن رجلا، تعبد زمانا، ثم بدت له إلى الله تبارك وتعالى حاجة، فصام تسعين سبتا، يأكل كل سبت إحدى عشرة تمرة، ثم سأل حاجته فلم يعطها، فرجع إلى نفسه، فقال: منك أوتيت، لو كان فيك خير أعطيت حاجتك، فنزل إليه عند ذلك ملك، فقال: يا ابن آدم ساعتك هذه التي أزريت فيها على نفسك خير من عبادتك التي قد مضت، وقد قضى الله حاجتك "(10/242)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضيل بن عياض قال: كيف ترى حال من كثرت ذنوبه وضعف علمه وفني عمره ولم يتزود لمعاده.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضيل بن عياض قال: يا مسكين أنت مسيء وترى أنك محسن وأنت جاهل وترى أنك عالم وتبخل وترى أنك كريم وأحمق وترى أنك عاقل أجلك قصير وأملك طويل.
قال الذهبي رحمه الله: قلت إي والله صدق وأنت ظالم وترى أنك مظلوم وآكل للحرام وترى أنك متورع وفاسق وتعتقد أنك عدل وطالب العلم للدنيا وترى أنك تطلبه لله.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شعيب بن حرب، قال: بينا أنا أطوف بالبيت إذا رجل يمد ثوبي من خلفي فالتفت فإذا بفضيل بن عياض، فقال: لو شفع في وفيك أهل السماء كنا أهلاً أن لا يشفع فينا، قال شعيب: ولم أكن رأيته قبل ذلك بسنة، قال: فكسرني وتمنيت أني لم أكن رأيته.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال: أخذت بيد سفيان بن عيينة في هذا الوادي فقلت له: إن كنت تظن أنه بقى على وجه الأرض شر مني ومنك فبئس ما تظن.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن إبراهيم بن الأشعث قال سألت الفضيل عن التواضع قال التواضع أن تخضع للحق وتنقاد له ولو سمعته من صبي قبلته منه ولو سمعته من أجهل الناس قبلته منه.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن أبي صالح الفراء قال سمعت بن المبارك يقول رأس التواضع أن تضع نفسك عند من هو دونك في نعمة الدنيا حتى تعلمه أن ليس لك بدنياك عليه فضل وأن ترفع نفسك عمن هو فوقك في نعمة الدنيا حتى تعلمه أنه ليس له بدنياه عليك فضل.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن كعب قال ما أنعم الله عز وجل على عبد من نعمة في الدنيا فشكرها لله وتواضع بها لله إلا أعطاه الله عز وجل نفعها في الدنيا ورفع له بها درجة في الآخرة وما أنعم الله عز وجل على عبد من نعمة في الدنيا فلم يشكرها لله ولم يتواضع بها لله عز وجل إلا منعه الله عز وجل نفعها في الدنيا وفتح له طبقا من النار يعذبه به إن شاء الله أو يتجاوز عنه.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن الأصبغ بن نباتة قال كأني أنظر إلى عمر بن الخطاب معلقا لحما في يده اليسرى وفي يده اليمنى الدرة يدور في الأسواق حتى دخل رحله.(10/243)
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن صالح بياع الأكسية عن أمه أو جدته قالت رأيت عليا اشترى تمرا بدرهم فحمله في ملحفته فقلت أحمل عنك يا أمير المؤمنين قال لا أبو العيال أحق أن يحمله.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن حماد بن زيد قال ما رأيت محمد بن واسع إلا وكأنه يبكي وكان يجلس مع المساكين والبكائين.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن بكر بن عبد الله المزني أنه كان يلبس الكسوة تساوي أربعة آلاف ويجالس المساكين ومعه الصرر فيها الدراهم فيدسها إلى ذا وإلى ذا قال وكان موسرا فمات ولم يخلف شيئا فقال الحسن رحمه الله إن بكرا عاش عيش الأغنياء ومات موت الفقراء.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن مسعر قال مر الحسين بن علي على مساكين وقد بسطوا كساء وبين أيديهم كسرا فقالوا هلم يا أبا عبد الله فحول وركه وقرأ (إِنّهُ لاَ يُحِبّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) فأكل معهم ثم قال قد أجبتكم فأجيبوني فقال للرباب يعني امرأته أخرجي ما كنت تدخرين.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن صالح المري قال خرج الحسن ويونس وأيوب يتذاكرون التواضع فقال لهما الحسن وهل تدرون ما التواضع التواضع أن تخرج من منزلك فلا تلق مسلما إلا رأيت له عليك فضلا.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن يحيى بن كثير قال رأس التواضع ثلاث أن ترضى بالدون من شرف المجلس وأن تبدأ من لقيته بالسلام وأن تكره من المدحة والسمعة والرياء بالبر.
فضل التواضع:(10/244)
إن للتواضع فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم، فهو نعمةٌ عظيمة، وَمِنَّةٌ جسيمة، نعمة كبرى، ومنحة عظمى، شأنه عظيم، ونفعه عميم، له فضائل لا تحصى، وثمرات لا تعد، وله أهمية كبرى، وثمرات جليلة، وفضائل عظيمة، وأسرار بديعة، وهو طريق النجاة، وسلم الوصول، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين، وهو من أشرف العبادات و أجلّ الطاعات والتواضع يزيد الحكمة بنص السنة الصحيحة، وكفى بذلك فضلاً فإنه من يؤتى الحكمة فقد أُوتيَ خيراً كثيراً، والتواضع خلق حميد، وجوهر لطيف يستهوي القلوب، ويستثير الإعجاب والتقدير وهو من أخصّ خصال المؤمنين المتّقين، ومن كريم سجايا العاملين الصادقين، ومن شِيَم الصالحين المخبتين. التواضع هدوء وسكينة ووقار واتزان، التواضع ابتسامة ثغر وبشاشة وجه ولطافة خلق وحسن معاملة، بتمامه وصفائه يتميّز الخبيث من الطيب، والأبيض من الأسود والصادق من الكاذب، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله، إن المتواضع يبدأ من لقيه بالسلام، ويجيب دعوة من دعاه، كريم الطبع، جميل العشرة، طلق الوجه، باسم الثغر رقيق القلب، متواضعا من غير ذلة، جواداً من غير سرف.
نعم .. فاقد التواضع عديم الإحساس، بعيد المشاعر، إلى الشقاوة أقرب وعن السعادة أبعد، لا يستحضر أن موطئ قدمه قد وطأه قبله آلاف الأقدام، وأن من بعده في الانتظار، فاقد التواضع لا عقل له، لأنه بعجبه وأنفته يرفع الخسيس، ويخفض النفيس، كالبحر الخضم تسهل فيه الجواهر والدرر، ويطفو فوقه الخشاش والحشاش. فاقد التواضع قائده الكبر وأستاذه العجب، فهو قبيح النفس ثقيل الطباع يرى لنفسه الفضل على غيره.
إن التواضع لله تعالى خُلُق يتولّد من قلب عالم بالله سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله وتعظيمه ومحبته وإجلاله. إن التواضع هو انكسار القلب للرب جل وعلا وخفض الجناح والذل والرحمة للعباد، فلا يرى المتواضع له على أحد فضلاً ولا يرى له عند أحد حقاً، بل يرى الفضل للناس عليه، والحقوق لهم قبله. فما أجمل التواضع، به يزول الكِبَرُ، وينشرح الصدر، ويعم الإيثار، وتزول القسوة والأنانية والتشفّي وحب الذات.
والكتاب والسنة طافحان بما يحث على التواضع وخفض الجناح وهاك غيضٌ من فيض وقليلٌ من كثير مما ورد في ذلك.
قال الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان: 63] أي سكينة ووقارا متواضعين غير أشرين ولا مرحين ولا متكبرين.
قال الحسن: علماء حلماء.(10/245)
وقال محمد بن الحنفية: أصحاب وقار وعفة لا يسفهون وإن سفه عليهم حلموا والهون بالفتح في اللغة: الرفق واللين و الهون بالضم: الهوان فالمفتوح منه: صفة أهل الإيمان والمضموم صفة أهل الكفران وجزاؤهم من الله النيران.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] لما كان الذل منهم ذل رحمة وعطف وشفقة وإخبات عداه بأداة على تضمينا لمعاني هذه الأفعال فإنه لم يرد به ذل الهوان الذي صاحبه ذليل وإنما هو ذل اللين والانقياد الذي صاحبه ذلول فالمؤمن ذلول كما في الحديث: "المؤمن كالجمل الذلول والمنافق والفاسق ذليل وأربعة يعشقهم الذل أشد العشق: الكذاب والنمام والبخيل والجبار" وقوله: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} هو من عزة القوة والمنعة والغلبة قال عطاء رضي الله عنه: للمؤمنين كالوالد لولده وعلى الكافرين كالسبع على فريسته كما قال في الآية الأخرى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] وهذا عكس حال من قيل فيهم:
كبر علينا وجبنا عن عدوكم لبئست الخلتان الكبر والجبن
قال تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة: الشعراء - الآية: 215]
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عِياضِ بن حمار في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد و لا يبغي أحد على أحد
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما نقصت صدقة من مال و ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا و ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله.
(حديث أنس في الصحيحين) أنه مرَّ على صبيان فسلَّم عليهم وقال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله.
(حديث الأسود بن يزيد في صحيح البخاري) قال سُئلت عائشةُ رضي الله تعالى عنها ما كان يصنع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.(10/246)
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم، قال أصحابه وأنت؟ فقال نعم كنت أرعاها على قراريط َ لأهل مكة.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لو دُعِيتُ إلى ذراعٍ أو كُرَاعٍ لأجبت و لو أُهْدِيَ إليَّ ذراعٍ أو كُرَاعٍ لقبلت ... .
(حديث أنس في صحيح البخاري) قال: كانت ناقةٌ لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسمى العضباء وكانت لا تُسبق، فجاء أعرابي على قَعُودٍ له فسبقها فاشتد ذلك على المسلمين فقالوا: سُبقت العضباء! قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن حقا على الله تعالى أن لا يرفع شيئا من أمر الدنيا إلا وضعه.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من آدمي إلا في رأسه حكمة بيد مَلك فإذا تواضع قيل للمَلك ارفع حكمته و إذا تكبر قيل للملك: دَعْ حكمته.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(ما من آدمي) من زائدة كما سبق وهي هنا تفيد عموم النفي وتحسين دخول ما على النكرة.
(إلا في رأسه حكمة) وهي بالتحريك ما يجعل تحت حنك الدابة يمنعها المخالفة كاللجام والحنك متصل بالرأس.
(بيد ملك) موكل به.
(فإذا تواضع) للحق والخلق.
(قيل للملك) من قبل اللّه تعالى.
(ارفع حكمته) أي قدره ومنزلته يقال فلان عالي الحكمة، فرفعها كناية عن الأعذار.
(فإذا تكبر قيل للملك ضع حكمته) كناية عن إذلاله فإن من صفة الذليل تنكيس رأسه فثمرة التكبر في الدنيا الذلة بين عباد اللّه وفي الآخرة نار الإيثار وهي عصارة أهل النار كما جاء في بعض الأخبار.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبو جعفر الحذاء، قال: سمعت فضيل بن عياض يقول: أخذت بيد سفيان بن عيينة في هذا الوادي فقلت له: إن كنت تظن أنه بقى على وجه الأرض شر مني ومنك فبئس ما تظن.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن المبارك قال: إذا عرف الرجل قدر نفسه يصير عند نفسه أذل من الكلب.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت إنكم لتغفلون أفضل العبادة التواضع.(10/247)
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن عون بن عبد الله قال كان يقال من كان في صورة حسنة وموضع لا يشينه ووسع عليه في الرزق ثم تواضع لله عز وجل كان من خالص الله عز وجل.
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
قَالَ صَالِحٌ ابن الإمام ألأحمد: كَانَ أَبِي إذَا دَعَا لَهُ رَجُلٌ يَقُولُ الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا.
وَقَالَ عَامِرٌ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بَلَغَنِي أَنَّك رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ فَمِنْ أَيِّ الْعَرَبِ أَنْتَ؟ فَقَالَ لِي يَا أَبَا النُّعْمَانِ نَحْنُ قَوْمٌ مَسَاكِينُ وَمَا نَصْنَعُ بِهَذَا؟ فَكَانَ رُبَّمَا جَاءَنِي أُرِيدُهُ عَلَى أَنْ يُخْبِرَنِي فَيُعِيدُ عَلَيَّ مِثْلَ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَلَا يُخْبِرُنِي بِشَيْءٍ.
وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: إنَّ لِي وَالِدَةً مُقْعَدَةً تَسْأَلُك أَنْ تَدْعُوَ لَهَا قَالَ: فَغَضِبَ وَقَالَ: كَيْف قَصَدَتْنِي؟ قُلْ لِوَالِدَتِك تَدْعُو لِي , هَذِهِ مُبْتَلَاةٌ , وَأَنَا مُعَافًى. ثُمَّ دَعَا لَهَا وَعُوفِيَتْ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيُّ رَأَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَشْتَرِي مِنْ السُّوقِ الْخُبْزَ وَيَحْمِلُ بِنَفْسِهِ فِي الزِّنْبِيلِ , وَرَأَيْتَهُ يَشْتَرِي الْبَاقِلَّا غَيْرَ مَرَّةً وَيَجْعَلُهُ فِي زُبْدِيَّةٍ أَوْ شَيْءٍ آخَرَ فَيَحْمِلُهُ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِهِ وَقَالَ صَالِحٌ كَانَ أَبِي رُبَّمَا خَرَجَ إلَى الْبَقَّالِ فَيَشْتَرِي جِرْزَةَ حَطَبٍ فَيَحْمِلُهَا.
{تنبيه}: التواضع تواضعان أحدهما محمود والآخر مذموم والتواضع المحمود ترك التطاول على عباد الله والإزراء بهم والتواضع المذموم هو تواضع المرء لذي الدنيا رغبة في دنياه، فالعاقل يلزم مفارقة التواضع المذموم على الأحوال كلها ولا يفارق التواضع المحمود على الجهات كلها.
أمورٌ من التواضع:
(1) اتّهام النفس والاجتهاد في علاج عيوبها وكشف كروبها وزلاتها {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}
(2) مداومة استحضار الآخرة واحتقار الدنيا، والحرص على الفوز بالجنة والنجاة من النار، وإنك لن تدخل الجنة بعملك، وإنما برحمة ربك لك.(10/248)
(3) التواضع للمسلمين والوفاء بحقوقهم ولين الجانب لهم، واحتمال الأذى منهم والصبر عليهم قال تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر / 88]
(4) معرفة الإنسان قدره بين أهله من إخوانه وأصحابه ووزنه إذا قُورن بهم
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما نقصت صدقة من مال و ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا و ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله.
(5) غلبة الخوف في قلب المؤمن على الرجاء، واليقين بما سيكون يوم القيامة
قال تعالى: {وبَدَا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} [الزمر /47]
(6) التواضع للدين والاستسلام للشرع، فلا يُعارض بمعقول ولا رأي ولا هوى.
(7) الانقياد التام لما جاء به خاتم الرسل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن يُعبد الله وفق ما أمر، وأن لا يكون الباعث على ذلك داعي العادة.
(8) ترك الشهوات المباحة، والملذّات الكمالية احتساباً لله وتواضعاً له مع القدرة عليها، والتمكن منها
(حديث معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من ترك اللباس تواضعا لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها.
معنى قوله (حلل الإيمان) يعني ما يعطى أهل الإيمان من حلل الجنة
(9) التواضع في جنب الوالدين ببرّهما وإكرامهما وطاعتهما في غير معصية، والحنو عليهما والبِشْرُ في وجههما والتلطّف في الخطاب معهما وتوقيرهما والإكثار من الدعاء لهما في حياتهما وبعد مماتهما
قال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}.
[الإسراء /24]
(10) التواضع للمرضى بعيادتهم والوقوف بجانبهم وكشف كربتهم، وتذكيرهم بالاحتساب والرضا والصبر على القضاء
(11) تفقّد ذوي الفقر والمسكنة، وتصفّح وجوه الفقراء والمحاويج وذوي التعفف والحياء في الطلب, ومواساتهم بالمال والتواضع لهم في الحَسَب، يقول بشر بن الحارث: "ما رأيت أحسن من غني جالسٍ بين يدي فقير".
التواضع في اللباس:
(حديث أبي أُمامةَ في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: البذاذةُ من الإيمان.
(البذاذة): رثاثة الهيئة وترك الترفه وإدامة التزين والتنعم في البدن والملبس إيثاراً للخمول بين الناس.(10/249)
(حديث عائشة في الصحيحين) أنها أخرجت كساءاً وإزاراً غليظاً فقالت: قُبِضَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذين.
(حديث معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من ترك اللباس تواضعا لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها.
معنى قوله (حلل الإيمان) يعني ما يعطى أهل الإيمان من حلل الجنة.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن زيد بن وهب قال رأيت عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه خرج إلى السوق وبيده الدرة وعليه إزار فيه أربع عشرة رقعة بعضها آدم.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن عن أنس قال رأيت بين كتفي عمر رحمه الله أربع رقاع.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن أم عفيف قالت رأيت علي بن أبي طالب مؤتزرا ببرد أحمر من برود الحمالين فيه رقعة بيضاء.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن عمر بن قيس أن عليا رضى الله تعالى عنه رئي عليه إزار مرقوع فعوتب في لبوسه فقال يقتدي به المؤمن ويخشع له القلب.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن أبي سعيد رضيع عائشة قال دخلت عليها فرأيتها تخيط نقبة لها فقلت لها يا أم المؤمنين أليس قد أوسع الله عز وجل عليك قالت لا جديد لمن لا يلبس الخلق.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن سعد بن الحسن التميمي قال كان عبد الرحمن بن عوف لا يعرف من بين عبيده يعني من التواضع في الزي.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن سعيد بن سويد من حرس عمر بن عبد العزيز قال صلى بنا عمر بن عبد العزيز الجمعة ثم جلس وعليه قميص مرقوع الجيب من بين يديه ومن خلفه فقال له رجل يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قد أعطاك فلو لبست وصنعت فنكس مليا حتى عرفنا أن ذلك قد ساءه ثم رفع رأسه إليه فقال إن أفضل القصد عند الجدة وأفضل العفو عند المقدرة.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن سفيان الثوري يقول أنفع ثيابك لك أهونها عليك.
تواضع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:(10/250)
(حديث الأسود بن يزيد الثابت في صحيح البخاري) قال: سألت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صنع في البيت؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله، تعني خدمة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم، قال أصحابه وأنت؟ فقال نعم كنت أرعاها على قراريط َ لأهل مكة.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لو دُعِيتُ إلى ذراعٍ أو كُرَاعٍ لأجبت و لو أُهْدِيَ إليَّ ذراعٍ أو كُرَاعٍ لقبلت ... .
(حديث أنس في صحيح البخاري) قال: كانت ناقةٌ لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسمى العضباء وكانت لا تُسبق، فجاء أعرابي على قَعُودٍ له فسبقها فاشتد ذلك على المسلمين فقالوا: سُبقت العضباء! قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن حقا على الله تعالى أن لا يرفع شيئا من أمر الدنيا إلا وضعه.
{تنبيه}: وكلما زاد تواضع طالب العلم زاد مقدار الحكمة عنده وتعلم العلم ومتى تكبر قلَّت حكمته ومنع العلم
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من آدمي إلا في رأسه حكمة بيد ملك فإذا تواضع قيل للملك ارفع حكمته و إذا تكبر قيل للملك: دع حكمته.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخيط ثوبه و يخصف نعله و يعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم.
(حديث عائشة رضي الله عنهاالثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفلي ثوبه و يحلب شاته و يخدم نفسه.
(حديث عمر في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تطروني لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله و رسوله.
(حديث سهل بن حنيف رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأتي ضعفاء المسلمين و يزورهم و يعود مرضاهم و يشهد جنائزهم.
(حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ابغوني الضعفاء فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم.
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجلس على الأرض و يأكل على الأرض و يعتقل الشاة و يجيب دعوة المملوك على خبز الشعير.(10/251)
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يزور الأنصار ويسلّم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم".
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كانت الأمة من إماء أهل المدينة، لتأخذ بيد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتنطلق به حيث شاءت.
(حديث أبي مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) قال أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل فكلمه فجعل ترعد فرائصه فقال له هون عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد.
(القديد): هو اللحم المملح المجفف في الشمس
ما جاء في الخمول:
إن للخمول فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم، فهو نعمةٌ عظيمة، وَمِنَّةٌ جسيمة، نعمة كبرى، ومنحة عظمى، شأنه عظيم، ونفعه عميم، له فضائل لا تحصى، وثمرات لا تعد، وله أهمية كبرى، وثمرات جليلة، وفضائل عظيمة، وأسرار بديعة، وهو طريق النجاة، وسلم الوصول، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين، وهو من أشرف العبادات و أجلّ الطاعات، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك.
(حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى علىَّ أن لا أغفر لفلان إني قد غفرت له وأحبطت عملك)
ومعنى يتألى عليَّ: أي يقسم ويحلف.(10/252)
(حديث ثوبان رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: حَوْضِي مِنْ عَدَنَ إِلَى عَمَّانَ الْبَلْقَاءِ مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ وَأَكَاوِيبُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا أَوَّلُ النَّاسِ وُرُودًا عَلَيْهِ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ "الشُّعْثُ رُءُوسًا الدُّنْسُ ثِيَابًا" الَّذِينَ لَا يَنْكِحُونَ الْمُتَنَعِّمَاتِ وَلَا تُفْتَحُ لَهُمْ السُّدَدُ.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:(10/253)
(إِلَى عُمَانَ الْبَلْقَاءِ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَخِفَّةِ الْمِيمِ قَرْيَةٌ بِالْيَمَنِ لَا بِفَتْحِهَا وَشَدِّ الْمِيمِ فَإِنَّهَا قَرْيَةٌ بِالشَّامِ، وَقِيلَ بَلْ هِيَ الْمُرَادَةُ كَذَا فِي التَّيْسِيرِ. وَقَالَ الْحَافِظُ: عَمَّانُ هَذِهِ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ لِلْأَكْثَرِ وَحُكِيَ تَخْفِيفُهَا وَتُنْسَبُ إِلَى الْبَلْقَاءِ لِقُرْبِهَا مِنْهَا وَالْبَلْقَاءُ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا قَافٌ وَبِالْمَدِّ بَلَدٌ مَعْرُوفٌ مِنْ فِلَسْطِينَ (وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ) أَيِ الَّذِي مِنْهُ الجزء السابع (وَأَكْوَابُهُ) جَمْعُ كُوبٍ وَهُوَ الْكُوزُ الَّذِي لَا عُرْوَةَ لَهُ عَلَى مَا فِي الشُّرُوحِ، أَوْ لَا خُرْطُومَ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ (عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ عَدَدُ أَكْوَابِهِ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ (أَوَّلُ النَّاسِ وُرُودًا عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْحَوْضِ (فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ) الْمُرَادُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَهُوَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيِّدُهُمْ (الشُّعْثُ) بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ أَشْعَثَ بِالْمُثَلَّثَةِ أَيِ الْمُتَفَرِّقُو الشَّعْرِ (رُءُوسًا) تَمْيِيزٌ (الدُّنْسُ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَقَدْ يُسَكَّنُ الدُّنْسُ وَهُوَ الْوَسَخُ (الَّذِينَ لَا يَنْكِحُونَ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْكَافِ أَيِ الَّذِينَ لَا يَتَزَوَّجُونَ (الْمُتَنَعِّمَاتِ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ مِنَ التَّنَعُّمِ، وَقِيلَ هُوَ بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الْكَافِ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ لَوْ خَطَبُوا الْمُتَنَعِّمَاتِ مِنَ النِّسَاءِ لَمْ يُجَابُوا (وَلَا يُفْتَحُ لَهُمُ السُّدَدُ) بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْأُولَى الْمُهْمَلَتَيْنِ جَمْعُ سُدَّةٍ وَهِيَ بَابُ الدَّارِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمَدْخَلَ يُسَدُّ بِهِ. وَالْمَعْنَى: لَوْ دَقُّوا الْأَبْوَابَ وَاسْتَأْذَنُوا الدُّخُولَ لَمْ يُفْتَحْ لَهُمْ وَلَمْ يُؤْذَنْ.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن عبد الله بن المبارك قال:(10/254)
ألا رب ذي طمرين في منزل غدا ... زرابيه مبثوثة ونمارقه
قد أطردت أنهاره حول قصره ... وأشرق والتفت عليه حدائقه
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن محمد بن المنكدر قال كنت في المسجد فإذا أنا برجل عند المنبر يدعو بالمطر فجاء المطر بصوت ورعد فقال يا رب ليس هكذا قال فمطرت فتبعته حتى تدخل دار حزم أو آل عمر فعرفت مكانه فجئت من الغد فعرضت عليه شيئا فأبى وقال لا حاجة لي بهذا فقلت فحج معي فقال هذا شيء لك فيه أجر فأكره أن أنفس عليك وأما شيء آخذه فلا.
[*] وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن ابن مسعود قال كونوا ينابيع العلم مصابيح الهدى أحلاس البيوت سرج الليل "جدد القلوب خلقان الثياب" تعرفون في أهل السماء وتخفون في أهل الأرض.
[*] وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كونوا أوعية الكتاب وينابيع العلم وسلوا الله رزق يوم بيوم وعدوا أنفسكم مع الموتى ولا يضركم ألا يكثر لكم.
[*] وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن إبراهيم بن أدهم قال: ما فزت في الدنيا قط إلا مرة بت ليلة في بعض مساجد قرى الشام وكان في البطن فجر المؤذن رجلي حتى أخرجني من المسجد.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال: كان يقال كن شاهداً لغائب ولا تكن غائباً لشاهد، قال: كأنه يقول: إذا كنت في جماعة الناس فأخف شخصك وأحضر قلبك وسمعك، وعما تسمع، فهذا شاهد لغائب، ولا تكن غائباً لشاهد، قال: كأنه يقول: تحضر المجالس بيديك وسمعك وقلبك لاه ساه، قال: وسمعت الفضيل يقول: عامة الزهد في الناس- يعني إذا لم يحب ثناء الناس عليه ولم يبال بمذمتهم-وسمعته يقول: إن قدرت أن لا تعرف فافعل وما عليك أن لم يثن عليك، وما عليك أن تكون مذموما عند الناس إذا كنت عند الله محموداً، وسمعته يقول: من أحب أن يذكر لم يذكر ومن كره أن يذكر ذكر.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال: المؤمن قليل الكلام كثير العمل، والمنافق كثير الكلام قليل العمل، كلام المؤمن حكم، وصمته تفكر، ونظره عبرة، وعمله بر، وإذا كنت كذا لم تزل في عبادة.
ما جاء في الشهرة:(10/255)
إن الحرص على الشهرة داءٌ وبيل، بل وهو داءٌ عضال ومرض قتَّال أمره خطير وشره مستطير أشر من البرص وأضر من الجرب كالسرطان يأكل الخلايا، ومثل السوس الذي ينخر عظامهم من الداخل، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شِرَّةً وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ فَارْجُوهُ وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فَلَا تَعُدُّوهُ.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
قَوْلُهُ: (إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شِرَّةً) بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ حِرْصًا عَلَى الشَّيْءِ وَنَشَاطًا وَرَغْبَةً فِي الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ (وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ التَّاءِ أَيْ وَهَنًا وَضَعْفًا وَسُكُونًا (فَإِنْ) شَرْطِيَّةٌ (صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ) أَيْ جَعَلَ صَاحِبُ الشِّرَّةِ عَمَلَهُ مُتَوَسِّطًا وَتَجَنَّبَ طَرَفَيْ إِفْرَاطِ الشِّرَّةِ وَتَفْرِيطِ الْفَتْرَةِ (فَأَرْجُوهُ) أَيْ أَرْجُو الْفَلَاحَ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ الدَّوَامُ عَلَى الْوَسَطِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدُومُهَا (وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ) أَيِ اجْتَهَدَ وَبَالَغَ فِي الْعَمَلِ لِيَصِيرَ مَشْهُورًا بِالْعِبَادَةِ وَالزُّهْدِ وَسَارَ مَشْهُورًا مُشَارًا إِلَيْهِ (فَلَا تَعُدُّوهُ) أَيْ لَا تَعْتَدُّوا بِهِ وَلَا تَحْسَبُوهُ مِنَ الصَّالِحِينَ لِكَوْنِهِ مُرَائِيًا، وَلَمْ يَقُلْ فَلَا تَرْجُوهُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ قَدْ سَقَطَ وَلَمْ يُمْكِنْهُ تَدَارُكُ مَا فَرَّطَ.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن أبي بكر بن الفضل قال سمعت أيوب يقول ما صدق الله عبد إلا سره أن لا يشعر بمكانه.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن به محمد بن العلاء وإذا فيه يا أخي من أحب الله أحب أن لا يعرفه الناس.(10/256)
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن سفيان قال: كثرة الإخوان من سخافة الدين.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن عثمان بن زائدة يقول كان يقال إذا رأيت الرجل كثير الأخلاء فاعلم أنه مخلط.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن فضالة بن صيفي قال كتب أبان بن عثمان إلى بعض إخوانه إن أحببت أن يسلم لك دينك فاقل من المعارف.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن عن يحيى بن سعيد عن خالد بن معدان أنه كان إذا كثرت حلقته قام مخافة الشهرة.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن أبي العالية أنه كان إذا جلس إليه أكثر من ثلاثة قام.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن أبي بكر بن عياش قال سألت الأعمش كم رأيت أكثر ما رأيت عند إبراهيم قال أربعة خمسة.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن أبي رجاء قال رأى طلحة قوما يمشون معه أكثر من عشرة فقال ذبان طمع وفراش النار.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن سليم بن حنظلة قال بينا نحن حول أبي بن كعب نمشي خلفه إذ رآه عمر فعلاه بالدرة فقال انظر يا أمير المؤمنين ما تصنع فقال إن هذا ذلة للتابع وفتنة للمتبوع.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن الحسن قال خرج بن مسعود ذات يوم من منزله فاتبعه الناس فالتفت إليهم فقال علام تتبعوني والله لو تعلمون ما أغلق عليه بابي ما اتبعني منكم رجلان.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن إبراهيم قال لا تلبس من الثياب ما يشتهرك الفقهاء ولا يزدريك السفهاء.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن سفيان الثوري قال كانوا يكرهون الشهرتين الثياب الجياد التي يشتهر فيها ويرفع الناس إليه فيها أبصارهم والثياب الرديئة التي يحتقر فيها ويستذل دينه.
(حديث ابن عمر في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من لبس ثوبَ شُهْرة ألبسه الله يوم القيامة ثوب مَذَلةٍ ثم يُلْهِبُ فيه النار.(10/257)
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن الحسن قال إن أقواما جعلوا الكبر في قلوبهم والتواضع في ثيابهم فصاحب الكساء بكسائه أعجب من صاحب المطرف بمطرفه ما لم تفاقروا.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن ابن عمر أنه رأى على ابنه ثوبا قبيحا دونا فقال لا تلبس هذا فإن هذا ثوب شهرة
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن الحسن بن عبيد قال قال رجل لبشر بن الحارث أوصني قال أخمل ذكرك وطيب مطعمك.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن عبد الصمد بن عبد الوارث قال كان حوشب يبكي ويقول بلغ اسمي مسجد الجامع.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن بشر بن الحارث رحمه الله أنه قال: لا أعلم رجلا أحب أن يعرف إلا ذهب دينه وافتضح قال وقال بشر بن الحارث لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب أن يعرفه الناس.
ذم الكبر:
الكبر والعياذ بالله داء ٌ عضال ومرض قتَّال أمره خطير وشره مستطير أشر من البرص وأضر من الجرب كالسرطان يأكل الخلايا، ومثل السوس الذي ينخر عظامهم من الداخل،
والتكبر هو: التعالي على اللَّه سبحانه، وهذا كفر باللَّه، أو على رسوله أو الإمام، وهذا كفر بالرسول أو الإمام، أو على المؤمنين، وهذا هو التكبُّر المألوف بين المسلمين الذين لم يهذِّبوا أنفسهم، وهي معصية عظيمة.
وفرق التكبُّر عن الكِبر هو: أنّ الكِبْر مجرد تعاليه على غيره في نفسه. أمّا التكبُّر فهو: إظهار الكِبْر وإبرازه بجوارحه. وفرق الكبر عن العُجْب: أن الكِبْر يكون بالقياس إلى غيره، وهو اللَّه أو الرسول والإمام أو المؤمنون. والعُجْب ما يكون في الإنسان من رؤيته إلى نفسه بالعظمة والزهو والتبختر بذلك ولو من دون قياس بغيره، وهذا - أيضاً - من المعاصي العظيمة.
وقد ذم الله تعالى الكبر في كتابه في أكثر من موضع، قال تعالى:
قال تعالى: (وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إِنّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) [الإسراء / 37]
[*] قال ابن كثير رحمه الله:
يقول تعالى ناهيا عباده عن التجبر والتبختر في المشية
(وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً) أي متبخترا متمايلا مشي الجبارين
(إِنّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ): أي لن تقطع الأرض بمشيك(10/258)
(وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) أي بتمايلك وفخرك وإعجابك بنفسك بل قد يجازى فاعل ذلك بنقيض قصده كما ثبت في الصحيح
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: بينما رجل يمشي في حُلةٍ تُعْجِبْه نَفْسُه مُرَّجِلٍ رأسَه إذ خسف الله به فهو يتجلجلُ في الأرض إلى يوم القيامة.
وكذلك أخبر الله تعالى عن قارون أنه خرج على قومه في زينته وأن الله تعالى خسف به وبداره الأرض
وفي الحديث " من تواضع لله رفعه الله فهو في نفسه حقير وعند الناس كبير ومن استكبر وضعه الله في نفسه كبير وعند الناس حقير حتى لهو أبغض إليهم من الكلب والخنزير.
[*] قال القرطبي رحمه الله:
(وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً) هذا نهي عن الخيلاء وأمر بالتواضع. والمرح: شدة الفرح. وقيل: التكبر في المشي. وقيل: تجاوز الإنسان قدره. وقال قتادة: هو الخيلاء في المشي. وقيل: هو البطر والأشر.
(إِنّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ): يعني لن تتولج باطنها فتعلم ما فيها ويقال: خرق الثوب أي شقه , وخرق الأرض قطعها. والخرق: الواسع من الأرض. أي لن تخرق الأرض بكبرك ومشيك عليها
(وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) أي لن تساوي الجبال بطولك ولا تطاولك. " ولن تبلغ الجبال طولا " بعظمتك , أي بقدرتك لا تبلغ هذا المبلغ , بل أنت عبد ذليل , محاط بك من تحتك ومن فوقك , والمحاط محصور ضعيف , فلا يليق بك التكبر.
[*] قال الطبري رحمه الله:
(وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً): ولا تمش في الأرض مختالا مستكبرا
(إِنّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ): إنك لن تقطع الأرض باختيالك
(وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) بفخرك وكبرك
قال تعالى: (وَلاَ تُصَعّرْ خَدّكَ لِلنّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [لقمان / 18]
إن من نبذ خلق التواضع وتعالى وتكَبَّر، إنما هو في حقيقة الأمر معتدٍ على مقام الألوهية، طالباً لنفسه العظمة والكبرياء، متناسياً جاهلاً حق الله تعالى عليه، من عصاة بني البشر، متجرِّئٌ على مولاه وخالقه ورازقه، منازع إياه صفة من صفات كماله وجلاله وجماله، إذ الكبرياء والعظمة له وحده.
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.(10/259)
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تحاسدوا و لا تناجشوا و لا تباغضوا و لا تدابروا و لا يبع بعضكم على بيع بعض و كونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخْذُلُه و لا يَحْقره التقوى هاهنا - و أشار إلى صدره - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه و ماله و عرضه.
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمْ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الْخَبَالِ.
(حديث جندب بن عبد الله في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان! فقال الله تعالى من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان! إني قد غفرت له وأحبطتُ عملك.
(حديث حارثة بن وهب رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ جعظري مستكبر.
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أهل النار كل جعظري جواظ مستكبر، جماع مناع، وأهل الجنة الضعفاء المغلوبون.
(العتل): الغليظ الجافي.
(الجواظ): الذي جمع ومنع،
(المستكبر): المتعاظم في نفسه، الذي يرد الحق، ويحتقر الناس كما في الحديث الآتي:
(حديث ابن مسعود في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبر فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبُه حسنا و نعله حسنة قال: إن الله جميل يحب الجمال الكبر بَطَرُ الحقِ و غمطُ الناس.
بَطَرُ الحقِ: التكبر على الحق وعدم قبوله
غمطُ الناس: احتقارهم وازدرائهم
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ما من رجل يتعاظم في نفسه و يختال في مشيته إلا لقي الله تعالى و هو عليه غضبان.(10/260)
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن الأحنف بن قيس أنه كان يجلس مع مصعب بن الزبير على سريره فجاء يوما ومصعب ماد رجليه فلم يقبضهما وقعد الأحنف فزحم بعض الزحم فرأى ذلك فيه فقال عجبا لابن آدم يتكبر وقد خرج من مجرى البول مرتين.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن الحسن قال من خصف نعليه ورقع ثوبه وعفر وجهه لله عز وجل فقد بريء من الكبر.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن يحيى بن جعدة قال من وضع وجهه لله عز وجل ساجدا فقد بريء من الكبر.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان بن عيينة يقول: من رأى أنه خير من غيره فقد استكبر، وذاك أن إبليس إنما منعه من السجود لآدم عليه السلام استكباره.
أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن عيينة قال من كانت معصيته في الشهوة فأرج له ومن كانت معصيته في الكبر فأخش عليه فإن آدم عصى مشتهيا فغفر له وإبليس متكبرا فَلُعِن.
أسباب الكبر:
لِلْكِبْرِ أَسْبَابٌ منها ما يلي:
(1) مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِهِ عُلُوُّ الْيَدِ، وَنُفُوذُ الأمْرِ، وَقِلَّةُ مُخَالَطَةِ الأكْفَاءِ.
أورد الماوردي رحمه الله تعالى في أدب الدين والدنيا عن أَنَّ قَوْمًا مَشَوْا خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فَقَالَ: أَبْعِدُوا عَنِّي خَفْقَ نِعَالِكُمْ فَإِنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِقُلُوبِ نَوْكَى الرِّجَالِ، وَمَشَوْا خَلْفَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ ارْجِعُوا فَإِنَّهَا زِلَّةٌ لِلتَّابِعِ وَفِتْنَةٌ لِلْمَتْبُوعِ.
(حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) قال أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلٌ فكلمه فجعل ترعد فرائصه فقال له هون عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد.
قال الماوردي رحمه الله تعالى في أدب الدين والدنيا:
وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسْمًا لِمَوَادِّ الْكِبْرِ، وَقَطْعًا لِذَرَائِعِ الاعْجَابِ، وَكَسْرًا لِأَشَرِ النَّفْسِ، وَتَذْلِيلًا لِسَطْوَةِ الاسْتِعْلاَءِ.(10/261)
وأورد الماوردي رحمه الله تعالى في أدب الدين والدنيا عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ نَادَى الصَّلاَةُ جَامِعَةٌ فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَرْعَى عَلَى خَالاتِ لِي مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ فَيَقْبِضُ لِي الْقَبْضَةَ مِنْ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ فَأَظَلُّ الْيَوْمَ وَأَيَّ يَوْمٍ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَاَللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا زِدْتَ عَلَى أَنْ قَصَّرْتَ بِنَفْسِك. فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: وَيْحَك يَا ابْنَ عَوْفٍ إنِّي خَلَوْت فَحَدَّثَتْنِي نَفْسِي، فَقَالَتْ أَنْتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَمَنْ ذَا أَفْضَلُ مِنْك فَأَرَدْتُ أَنْ أُعَرِّفَهَا نَفْسَهَا.
ذم الاختيال:
إن الاختيال داء ٌ عضال ومرض قتَّال أمره خطير وشره مستطير أشر من البرص وأضر من الجرب كالسرطان يأكل الخلايا، ومثل السوس الذي ينخر عظامهم من الداخل، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا ينظرُ الله إلى من جرَّ إزاره بطراً.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة فقال أبو بكر: يا رسول اللّه إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده فقال له: إنك لست ممن يفعله خيلاء.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: بينما رجل يمشي في حُلةٍ تُعْجِبْه نَفْسُه مُرَّجِلٍ رأسَه إذ خسف الله به فهو يتجلجلُ في الأرض إلى يوم القيامة.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن الحسن قال تلقى أحدهم يتحرك في مشيته يسحب عظامه عظما عظما لا يمشي بطبيعته.(10/262)
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن أبي بكر الهذلي قال بينما نحن مع الحسن إذ مر عليه بن الأهتم يريد المقصورة وعليه جباب خز قد نضد بضعها فوق بعض على ساقه وانفرج عنها قباه وهو يمشي يتبختر إذ نظر إليه الحسن نظرة فقال أف لك شامخ بأنفه ثاني عطفه مصعر خده ينظر في عطفيه أي حميق أنت تنظر في عطفيك في نعم غير مشكورة ولا مذكورة غير المأخوذ بأمر الله عز وجل فيها ولا المؤدي حق الله منها والله إن يمشي أحدهم طبيعته أن يتخلج تخلج المجنون، في كل عضو من أعضائه لله نعمة وللشيطان به لعنة فسمع بن الأهتم فرجع يعتذر فقال لا تعتذر إلي وتب إلى ربك عز وجل أما سمعت قوله تعالى: (وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إِنّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) [الإسراء: 37]
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن محمد بن واسع أنه رأى ابنا له يخطر بيده فدعاه فقال تدري من أنت أما أمك فاشتريتها بمئتي درهم وأما أبوك فلا أكثر الله عز وجل في المسلمين ضربه.
[*] أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن جميل بن زيد قال رأى بن عمر رجلا يجر إزاره فقال إن للشيطان إخوانا مرتين أو ثلاثا.
أسباب الإعجاب والاختيال:
مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِهِ كَثْرَةُ مَدِيحِ الْمُتَقَرِّبِينَ وَإِطْرَاءِ الْمُتَمَلِّقِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا النِّفَاقَ عَادَةً وَمَكْسَبًا، وَالتَّمَلُّقَ خَدِيعَةً وَمَلْعَبًا، فَإِذَا وَجَدُوهُ مَقْبُولًا فِي الْعُقُولِ الضَّعِيفَةِ أَغْرَوْا أَرْبَابَهَا بِاعْتِقَادِ كَذِبِهِمْ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى الاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي موسى الثابت في الصحيحين) قال: أثنى رجلٌ على رجلٍ عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ويلك! قطعت عنق صاحبك، مراراً، ثم قال: من كان منكم مادحا أخاه لا محالة فليقل: أحْسِبُ فلانا و الله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا أحسِبه كذا و كذا إن كان يعلم ذلك منه.
(حديث المقداد الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجههم التراب.(10/263)
(حديث معاوية الثابت في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إياكم والتمادحَ فإنه الذبح.
وَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ: قَابِلُ الْمَدْحِ كَمَادِحِ نَفْسِهِ.
وَرُبَّمَا آلَ حُبُّ الْمَدْحِ بِصَاحِبِهِ إلَى أَنْ يَصِيرَ مَادِحَ نَفْسِهِ، إمَّا لِتَوَهُّمِهِ أَنَّ النَّاسَ قَدْ غَفَلُوا عَنْ فَضْلِهِ، وَأَخَلُّوا بِحَقِّهِ. وَإِمَّا لِيَخْدَعَهُمْ بِتَدْلِيسِ نَفْسِهِ بِالْمَدْحِ وَالإطْرَاءِ، فَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ قَوْلَهُ حَقٌّ مُتَّبَعٌ، وَصِدْقٌ مُسْتَمَعٌ. وَإِمَّا لِتَلَذُّذِهِ بِسَمَاعِ الثَّنَاءِ وَسُرُورِ نَفْسِهِ بِالْمَدْحِ وَالإطْرَاءِ، مَا يَتَغَنَّى بِنَفْسِهِ طَرَبًا إذَا لَمْ يَسْمَعْ صَوْتًا مُطْرِبًا وَلاَ غِنَاءً مُمْتِعًا. وَلِأَيِّ ذَلِكَ كَانَ فَهُوَ جهل صَّرِيحُ، ونقص الْقَبِيحُ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
وَمَا شَرَفٌ أَنْ يَمْدَحَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ وَلَكِنَّ أَعْمَالا تَذُمُّ وَتَمْدَحُ
وَمَا كُلُّ حِينٍ يَصْدُقُ الْمَرْءُ ظَنُّهُ وَلاَ كُلُّ أَصْحَابِ التِّجَارَةِ يَرْبَحُ
وَلاَ كُلُّ مَنْ تَرْجُو لِغَيْبِك حَافِظًا وَلاَ كُلُّ مَنْ ضَمَّ الْوَدِيعَةَ يَصْلُحُ(10/264)
وَهَذَا أَمْرٌ يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَضْبِطَ نَفْسَهُ عَنْ أَنْ يَسْتَفِزَّهَا، وَيَمْنَعَهَا مِنْ تَصْدِيقِ الْمَدْحِ لَهَا، فَإِنَّ لِلنَّفْسِ مَيْلًا لِحُبِّ الثَّنَاءِ وَسَمَاعِ الْمَدْحِ، فَإِذَا سَامَحَ نَفْسَهُ فِي مَدْحِ الصَّبْوَةِ، وَتَابَعَهَا عَلَى هَذِهِ الشَّهْوَةِ، تَشَاغَلَ بِهَا عَنْ الْفَضَائِلِ الْمَمْدُوحَةِ، وَلَهَا بِهَا عَنْ الْمَحَاسِنِ الْمَمْنُوحَةِ، فَصَارَ الظَّاهِرُ مِنْ مَدْحِهِ كَذِبًا، وَالْبَاطِنُ مِنْ ذَمِّهِ صِدْقًا، وَعِنْدَ تَقَابُلِهِمَا يَكُونُ الصِّدْقُ أَلْزَمَ الأمْرَيْنِ. وَهَذِهِ خُدْعَةٌ لاَ يَرْتَضِيهَا عَاقِلٌ وَلاَ يَنْخَدِعُ بِهَا مُمَيِّزٌ. وَلْيَعْلَمْ أَنَّ الْمُتَقَرِّبَ بِالْمَدْحِ يُسْرِفُ مَعَ الْقَبُولِ وَيَكُفُّ مَعَ الإبَاءِ، فَلاَ يَغْلِبُهُ حُسْنُ الظَّنِّ عَلَى تَصْدِيقِ مَدْحٍ هُوَ أَعْرَفُ بِحَقِيقَتِهِ وَلْتَكُنْ تُهْمَةُ الْمَادِحِ أَغْلَبَ عَلَيْهِ. فَقَلَّ مَدْحٌ كَانَ جَمِيعُهُ صِدْقًا، وَقَلَّ ثَنَاءٌ كَانَ لَهُ حَقًّا. وَلِذَلِكَ كَرِهَ أَهْلُ الْفَضْلِ أَنْ يُطْلِقُوا أَلْسِنَتَهُمْ بِالثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ تَحَرُّزًا مِنْ التَّجَاوُزِ فِيهِ، وَتَنْزِيهًا عَنْ التَّمَلُّقِ بِهِ.
غضب عمر رضي الله عنه على مدح المسلم:
وأخرجه ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: كنا قعوداً عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فدخل عليه رجل فسلَّم عليه، فأثنى عليه رجل من القوم في وجهه، فقال عمر: عَقَرتَ الرجل عقَرك الله، تثني عليه في وجهه في دينه، كذا في الكنز. وعند ابن أبي الدنيا في الصمت عن الحسن أن رجلاً أثنى على عمر رضي الله عنه فقال: تهلكني وتهلك نفسك كذا في الكنز.
قصة عمر رضي الله عنه مع الجارود:
وأخرج ابن أبي الدنيا في الصمت عن الحسن قال: كان عمر رضي الله عنه قاعداً ومعه الدِّرَّة والناس حوله إذا أقبل الجارود رضي الله عنه، فقال رجل: هذا سيد ربيعة، فسمعه عمر ومن حوله وسمعه الجارود، فلما دنا منه خَفَقَه بالدِّرَّة، فقال: مالي ولك يا أمير المؤمنين؟ فقال: مالي ولك؟ أمَا لقد سمعتها، قال: سمعتها فَمْه؟ قال: خشيت أن يخالط قلبك منها شيء فأحببت أن أطأطىء منك. كذا في الكنز.
عمل ابن عمر رضي الله عنهما وقوله في هذا الأمر:(10/265)
وأخرج البخاري في الأدب (ص51) عن عطاء بن أبي رباح أن رجلاً كان يمدح رجلاً عند ابن عمر رضي الله عنهما، فجعل ابن عمر يحثو التراب نحو فيهِ وقال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إذا رأيتم المدَّحين فاحثُوا في وجوههم التراب". وعند أحمد والطبراني عن عطاء بن أبي رباح قال: كان رجل يمدح ابن عمر رضي الله عنهما يقول هكذا: يحثو في وجهه التراب، قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إذا رأيتم المدَّاحين فاحثُوا في وجوههم التراب". قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط ورجاله رجال الصحيح. اهـ.
وعند أبي نُعَيم في الحلية عن نافع رضي الله عنه وغيره أن رجلاً قال لابن عمر رضي الله عنهما: يا خير الناس ـ أو: يا ابن خير الناس ـ فقال ابن عمر: ما أنا بخير الناس ولا ابن خير الناس، ولكني عبد من عباد الله أرجو الله تعالى وأخافه، والله لن تزالوا بالرجل ليخرج ومعه دينه فيرجع وما معه شيء منه، يأتي الرجلَ لا يملك له ولا لنفسه ضَراً ولا نفعاً فيقسم له بالله: لأنت وأنت فيرجع ما حلَّ من حاجته بشيء وقد أسخط الله عليه. قال الهيثمي: رواه الطبراني بأسانيد ورجال أحدهما رجال الصحيح.
وَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَسْتَرْشِدَ إخْوَانَ الصِّدْقِ الَّذِينَ هُمْ أَصْفِيَاءُ الْقُلُوبِ، وَمُرَائِي الْمَحَاسِنِ وَالْعُيُوبِ، عَلَى مَا يُنَبِّهُونَهُ عَلَيْهِ مِنْ مَسَاوِئِهِ الَّتِي صَرَفَهُ حَسَنُ الظَّنِّ عَنْهَا. فَإِنَّهُمْ أَمْكَنُ نَظَرًا، وَأَسْلَمُ فِكْرًا، وَيَجْعَلُونَ مَا يُنَبِّهُونَهُ عَلَيْهِ مِنْ مَسَاوِئِهِ عِوَضًا عَنْ تَصْدِيقِ الْمَدْحِ فِيهِ، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: المؤمن مرآة المؤمن و المؤمن أخو المؤمن يكفُّ عليه ضيعته و يحُوطُه من ورائه.
أورد الماوردي رحمه الله تعالى في أدب الدين والدنيا عن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قال: رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَهْدَى إلَيْنَا مَسَاوِئَنَا.
وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ: أَتُحِبُّ أَنْ تُهْدَى إلَيْك عُيُوبُك؟ قَالَ: نَعَمْ، مِنْ نَاصِحٍ.
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: مَنْ أَظْهَرَ عَيْبَ نَفْسِهِ فَقَدْ زَكَّاهَا.(10/266)
فَإِذَا قَطَعَ أَسْبَابَ الْكِبْرِ وَحَسَمَ مَوَادَّ الْعُجْبِ اعْتَاضَ بِالْكِبْرِ تَوَاضُعًا وَبِالْعُجْبِ تَوَدُّدًا. وَذَلِكَ مِنْ أَوْكَدَ أَسْبَابِ الْكَرَامَةِ وَأَقْوَى مَوَادِّ النِّعَمِ وَأَبْلَغِ شَافِعٍ إلَى الْقُلُوبِ يَعْطِفُهَا إلَى الْمَحَبَّةِ وَيُثْنِيهَا عَنْ الْبُغْضِ.
وَقَالَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ: التَّوَاضُعُ مَصَائِدُ الشَّرَفِ.
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: مَنْ دَامَ تَوَاضُعُهُ كَثُرَ صَدِيقُهُ. وَقَدْ تُحْدِثُ الْمَنَازِلُ وَالْوِلاَيَاتُ لِقَوْمٍ أَخْلاَقًا مَذْمُومَةً يُظْهِرُهَا سُوءُ طِبَاعِهِمْ، وَلِآخَرِينَ فَضَائِلَ مَحْمُودَةً يَبْعَثُ عَلَيْهَا زَكَاءُ شِيَمِهِمْ؛ لِأَنَّ تَقَلُّبَ الأحوالِ سَكَرَةٌ تُظْهِرُ مِنْ الأخْلاَقِ مَكْنُونَهَا، وَمِنْ السَّرَائِرِ مَخْزُونَهَا، لاَ سِيَّمَا إذَا هَجَمَتْ مِنْ غَيْرِ تَدْرِيجٍ وَطَرَقَتْ مِنْ غَيْرِ تَأَهُّبٍ.
مسألة: ما الفرق بين الكبر والعجب؟
الكبر أن يحتقر الناس ويرى أنه فوقهم، والعجب أن ينظر إلى نفسه معجباً بها.
(8) حسن الخلق:
طوبى لمن ألبسه الله ثوب حسن الخلق، فإنه ما من رجلٌ أُثر عنه ذلك، إلا طاب ذكره عند الناس، ورُفع قدره بينهم. وحسن الخلق هو بسط الوجه، واحتمال الأذى، وكظم الغيظ، وغير ذلك من المعاني والخصال الحميدة. قال ابن منصور: سألت أبا عبد الله: عن حسن الخلق: قال: أن لا تغضب ولا تحتد ... وقال إسحاق بن راهويه: هو بسط الوجه وأن لا تغضب ونحو ذلك، ذكره الخلال ... وروى الخلال عن سلام بن مطيع في تفسير حسن الخلق، فأنشد هذا البيت:
تراه إذا ما جئته متهللاً ... كأنك معطيه الذي أنت سائله (1).
وخير الناس أحسنهم خلقاً بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(خياركم أحسنكم أخلاقا) (2). وكان من دعائه في الاستفتاح -صلى الله عليه وآله وسلم- (واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت) (3).
ومن كان كذلك أحبه الناس، ورغبوا في مجلسه ومجالسته، واستأنسوا بحديثه، وبضده صاحب الخلق السيء؛ فحديثه ممل، ومجلسه ينفر عنه الناس، وهو مبغوضٌ ثقيل على القلب.
__________
(1). الآداب الشرعية (2/ 191) بتصرف.
(2). رواه البخاري (6035)، وأحمد (6468)، والترمذي (1975)
(3). رواه مسلم (771)، وأحمد (805)، والترمذي (3421)، والنسائي (897)، وأبو داود (760)، والدارمي (1238)(10/267)
أورد ابن مفلح رحمه الله في الآداب الشرعية عن الفضيل بن عياض أنه قال: من ساء خلقه ساء دينه، وحسبه ومودته (1).
ومعاشرة الإخوان لها نصيب من ذلك كبيرٌ، فبحسن الخلق تدوم العشرة، وتأتلف القلوب، وتُسل السخائم من الصدور. فحريٌ بالإخوان أن يبسطوا وجوههم لإخوانهم، وأن ينتقوا أطايب الكلام لهم، وأن يغضوا عن هناتهم وزلاتهم ويلتمسوا لهم المعاذير.
فضلُ حسن الخلق:
إن حسن الخلق له أهمية بالغة، وأثراً كبيراً في حياة الأفراد والجماعات والأمم؛ فالأخلاق الحسنة سبب للسعادة في الدنيا والآخرة، وعامل مهم من عوامل النجاح للأفراد والمؤسسات، ورافد مهم من روافد نهضة الأمم، "ولما كانت الأمة الإسلامية متمسكةً بأخلاقها دانت لها الأمم"، حتى إن كثيراً من البلاد دخلت في دين الله حين رأوا أخلاق المسلمين الحسنة ومعاملتهم الطيبة، وأمانتهم العظيمة، إن من مقاصد البعثة المحمدية إتمام صالح الأخلاق، فإن الله بعث محمداً على حين فترة من الرسل ليتم به صالح الأخلاق وفاضلها، وتأمل في النصوص الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
قال تعالى مثنياً على نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم / 4]
(حديث أنس في الصحيحين) قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحسن الناس خلقاً.
(حديث أنس في الصحيحين) قال لما قدم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة أخذ أبو طلحة بيدي إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال يا رسول الله إن أنساً غلامٌ كيسٌ فليخدمك، قال: فخدمته في الحضر والسفر فوالله ما قال لي لشيءٍ صنعته لم صنعت هذا هكذا ولا لشيء لم أصنعه لِمَ لَمْ تصنع هذا هكذا.
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قَالَ: خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ وَاللَّهِ مَا قَالَ لِي أُفًّا قَطُّ وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَهَلَّا فَعَلْتَ كَذَا.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِمَ صَالِحَ الأَخْلَاق.
(حديث عبد الله بن عمرو في الصحيحين) قال لم يكن رسول الله فاحشاً ولا متفحشاً وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً.
__________
(1). الآداب الشرعية (2/ 191)(10/268)
وقد جعل الله تزكية النفوس وإصلاحها بالفضائل والمكرمات إحدى وظائف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164] أيها المؤمنون إن شأن الأخلاق عظيم في هذه الشريعة المباركة إذ هي مبنية على القيام بحقوق الله تعالى والقيام بحقوق العباد ابتغاء وجه الله تعالى، فبقدر ما معك من استقامة الخلق بقدر ما معك من استقامة الدين قال الله تبارك و تعالى في بيان أعظم آيات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدالة على صدق نبوته:
(وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ) [سورة: القلم - الآية: 4]
قال ابن عباس: أي على دين عظيم.
وقد جعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حسن الخلق من دلائل كمال الإيمان:
(حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أَكْمَلُ المُؤْمِنِيْنَ إِيْمَانَاً أَحْسَنُهُم خُلِقَا المُوَطَئُونَ أَكْنَافَاً الذِيْنَ يَأْلَفُوْنَ وَيُؤْلَفُوْنَ وَلَا خَيْرَ فِيْمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ.
قال ابن الجوزي: التوطئة التذليل والتمهيد. يُقال: فراش وطيء وثير، لا يُؤذِي جنب النائم.
وقال ابن الأثير: هذا مَثَل، وحقيقته من التوطئة، وهي التمهيد والتذليل، وفراش وطيء لا يُؤذِي جنب النائم، والأكناف الجوانب، أراد الذين جوانبهم وطيئة يَتَمَكَّن فيها من يُصَاحِبهم ولا يتأذى. اهـ.
فالمقصود بـ (الموطئون أكنافا): أي عندهم لين جانب يألفون ويؤلفون.
وهذا المثل المضروب للمؤمنين يُفسِّره ما جاء في الحديث نفسه، إذ جاء فيه:
إن أحبكم إليّ أحسنكم أخلاقا، الموطَّؤون أكنافاً، الذين يَألفون ويُؤلفون.
ومثله قوله عليه الصلاة والسلام: المؤمن كالجمل الأنف حيثما انْقِيد انْقَاد.(10/269)
(حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) قال: وعظنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقلنا يا رسول الله إن هذه لموعظة مودع فماذا تعهد إلينا قال قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وعليكم بالطاعة وإن عبدا حبشيا فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد.
فهذا يعني أن المؤمن يَألَف ويُؤلَف، وليس بِفظِّ ولا غليظ، فإن شرّ الناس من تَرَكه الناس مَخافَة فُحشِه.
(حديث جابر في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: المؤمن يألف و يؤلف و لا خير فيمن لا يألف و لا يؤلف و خير الناس أنفعهم للناس.
حسن الخلق أيها المؤمنون صفة من صفات الأنبياء والصديقين والصالحين، بها تنال الدرجات، وترفع المقامات، وهو واجب من الواجبات الدينية، وفريضة من الفرائض الشرعية، وقد أمرنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن نخالق الناس بخلقٍ حسن:
(حديث أبي ذر رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن.
أيها المؤمنون إن لحسن الخلق وطيب الشيم فضائل عديدة في الكتاب والسنة وكلام الأئمة
فمن فضائل حسن الخلق امتثال أمر الله تعالى به في قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (1) فإن هذه الآية أجمع آية لمكارم الأخلاق وأصول الفضائل.
ومن فضائل حسن الخلق الاقتداء بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي كل الخير والفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة مرتهنة بالاقتداء به واتباع سنته، وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجمل الناس خلقاً، وأطيبهم شيماً قال الله تعالى: (وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ) [سورة: القلم - الآية: 4]
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحسن الناس خلقاً.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع) قالت: كَانَ خُلُقٌهُ القُرْآن.
ومن فضائل حسن الخلق أيها المؤمنون أن به يبلغ المؤمن درجة الصائم القائم:
__________
(1) الأعراف:199.(10/270)
(حديث عائشة الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ.
ومن فضائل حسن الخلق أيها المؤمنون أنه يثقل ميزان العبد يوم القيامة:
(حديث أبي الدرداء الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ.
ومن فضائل حسن الخلق أن حسن الخلق من أكثر الأشياء التي تكون سبباً في دخول الإنسان الجنة:
(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) قال: سئل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة؟ قال: تقوى الله وحسن الخلق، وسئل عن أكثر ما يُدخل الناس النار؟ فقال الفم والفرج.
ومن فضائل حسن الخلق أنه من أسباب القرب من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم القيامة:
(حديث جابر الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن من أحبكم إلي و أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا و إن من أبغضكم إلي و أبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون و المتشدقون و المتفيهقون قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون.
عباد الله إن خيرية الرجل لا تقاس بصلاته وصيامه فحسب بل لا بد من النظر في أخلاقه وشيمه:
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في الصحيحين) قال لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ مِنْ أَخْيَرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقَاً.
ومن فضائل حسن الخلق أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضمن بيتاً في أعلى الجنة لمن حسن خلقه:
(حديث أبي أمامة الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء و إن كان محقا، و بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب و إن كان مازحا، و بيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه.
معنى زعيم: أي ضمين
معنى ربض الجنة: حولها خارجٌ عنها تشبيهاً بالأبنية التي تكون حول المدن.
ومن فضائل حسن الخلق أنه يجمع خصال الخير كلها بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث النواس ابن سمعان في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: البر حسن الخلق و الإثم ما حاك في صدرك و كرهت أن يطلع عليه الناس.
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:(10/271)
قال العلماء: البر يكون بمعنى الصلة وبمعنى اللطف والمبرة وحسن الصحبة والعشرة وبمعنى الطاعة، وهذه الأمور هي مجامع حسن الخلق. أهـ
(البر) بالكسر أي الفعل المرضي الذي هو في تزكية النفس كالبر في تغذية البدن وقوله البر أي معظمه فالحصر مجازي وضده الفجور والإثم ولذا قابله به وهو بهذا المعنى عبارة عما اقتضاه الشارع وجوباً أو ندباً والإثم ما ينهى عنه وتارة يقابل البر بالعقوق فيكون هو الإحسان والعقوق الإساءة.
(حسن الخلق) أي التخلق مع الخلق والخالق والمراد هنا المعروف وهو طلاقة الوجه وكف الإذى وبذل النداء وأن يحب للناس ما يحب لنفسه وهو راجع التفسير [ص 218] أهـ
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: " الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين " (1).
قَالَ الاحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: ألا أُخْبِرُكُمْ بِأَدْوَأِ الدَّاءِ؟ قَالُوا بَلَى. قَالَ الْخُلُقُ الدَّنِيُّ وَاللِّسَانُ الْبَذِيُّ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ سَاءَ خُلُقُهُ ضَاقَ رِزْقُهُ. وَعِلَّةُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرَةٌ.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: الْحَسَنُ الْخُلُقِ مَنْ نَفْسُهُ فِي رَاحَةٍ، وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي سَلاَمَةٍ. وَالسَّيِّئُ الْخُلُقِ النَّاسُ مِنْهُ فِي بَلاَءٍ، وَهُوَ مِنْ نَفْسِهِ فِي عَنَاءٍ،
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: عَاشِرْ أَهْلَك بِأَحْسَنِ أَخْلاَقِك فَإِنَّ الثَّوَاءَ فِيهِمْ قَلِيلٌ.
قال يحيى بن معاذ: " في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق" (2).
وقال الجنيد: " أربع ترفع العبد إلى أعلى الدرجات وإن قل عمله وعلمه: الحلم والتواضع والسخاء وحسن الخلق، وهو كمال الإيمان" (3).
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال: إذا خالطت فخالط حسن الخلق فإنه لا يدعو إلا إلى خير، وصاحبه منه في راحة، ولا تخالط سيىء الخلق فإنه لا يدعو إلا إلى شر وصاحبه منه في عناء.
كمال خلق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مسألة: من أحسن الخلق أخلاقا؟
أحسن الخلق أخلاقا هو النَّبِيُّ وتأمل في النصوص الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
__________
(1) مدارج السالكين 2/ 320.)
(2) إحياء علوم الدين 3/ 57.
(3) إحياء علوم الدين 3/ 57.(10/272)
قال تعالى مثنياً على نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ) [سورة: القلم - الآية: 4]
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحسن الناس خلقاً.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع) قالت: كَانَ خُلُقٌهُ القُرْآن.
[*] قال المناوي في فيض القدير:
أي ما دل عليه القرآن من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده إلى غير ذلك. وقال القاضي: أي خلقه كان جميع ما حصل في القرآن. فإن كل ما استحسنه وأثنى عليه ودعا إليه فقد تحلى به، وكل ما استهجنه ونهى عنه تجنبه وتخلى عنه. فكان القرآن بيان خلقه. انتهى. وقال في الديباج: معناه العمل به والوقوف عند حدوده والتأدب بآدابه والاعتبار بأمثاله وقصصه وتدبره وحسن تلاوته. أهـ
كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكمل الناس خلقا في جميع محاسن الأخلاق وجميل الخصال والأفعال. والحوادث والوقائع التي وقعت في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، تدل على حسن خلقه.
وهاك لمحات سريعة في إيجازٍ غير مُخِّل لمظاهر حسن خلق النبي في شتى المجالات:
خُلُقُ النبي في بيته:
مدارته مع أهله:
(حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الثابت في الصحيحين) قَالَتْ: كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ لِي صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِي فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ يَتَقَمَّعْنَ مِنْهُ فَيُسَرِّبُهُنَّ إِلَيَّ فَيَلْعَبْنَ مَعِي.
يَتَقَمَّعْنَ مِنْهُ: يتغيبن منه ويدخلن من وراء الستر.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري) أنها: كانت مع النبي في سفر قالت فَسَابَقْتُه فَسَبَقْتُه على رجلي فلما حملت اللحم َسَابَقْتُه فَسَبَقَنِي فقال هذه بتلك.
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كل شيء ليس من ذكر الله لهو و لعب إلا أن يكون أربعة: ملاعبة الرجل امرأته و تأديب الرجل فرسه و مشي الرجل بين الغرضين و تعليم الرجل السباحة.(10/273)
(حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الثابت في الصحيحين) قَالَتْ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّتِي أَسْأَمُ فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ الْحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ.
تواضعه في بيته:
(حديث الأسود بن يزيد الثابت في صحيح البخاري) قال سُئلت عائشةُ رضي الله تعالى عنها ما كان يصنع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخيط ثوبه و يخصف نعله و يعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفلي ثوبه و يحلب شاته و يخدم نفسه.
حسن خلق النبي مع أصحابه:
محبة النبي لأصحابه وملاطفته لهم والبشاشة في وجوههم والسؤال عن أحوالهم، وتطييب وخواطرهم؟ وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث جَرِيرٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلَا رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي.
ولما اختصم علي وزيد وجعفر في ابنة حمزة رضي الله عنهم قضى بها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لخالتها فاطمة وقال: ((الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ))، وَقَالَ لِعَلِيٍّ: ((أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ)). وَقَالَ لِجَعْفَرٍ: ((أشبهت خَلقي وخُلقي)). وَقَالَ لِزَيْدٍ: ((أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا)) (1).
__________
(1) أخرجه البخاري 7/ 624 ح 4251.(10/274)
(حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا لَقِيَهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَامَ مَعَهُ قَامَ مَعَهُ فَلَمْ يَنْصَرِفْ حَتَى يَكُونَ الرَجُلُ هُوَ الَذِي يَنْصَرِفُ عَنْهُ وَإِذَا لَقِيَهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَتَنَاوَلَ يَدَهُ نَاوَلَهُ إِيَاهَا فَلَمْ يَنْزِع يَدَهُ مِنْهُ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هو الذي يَنْزِعُ يَدَهُ مِنْهُ وَإِذَا لَقِيِ أَحَدَاً مِنْ أَصْحَابِهِ فَتَنَاوَلَ أُذُنَهُ نَاوَلَهُ إِيَاهَا ثُمَّ لَمْ يَنْزِعَهَا حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هو الذي يَنْزِعَهَا عَنْهُ.
(حديث أَنَسٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الأدب المفرد) قَالَ مَا كَانَ شَخَصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،وَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا إِلَيْهِ، لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لَذَلِك.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْلِسُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَصْحَابِهِ فَيَجِيءُ الْغَرِيبُ فَلَا يَدْرِي أَيُّهُمْ هُوَ حَتَّى يَسْأَلَ.
(حديث عبد الله ابن أبي أوفى رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكْثِرُ الذِّكْرَ وَيُقِلُّ اللَّغْوَ وَيُطِيلُ الصَّلَاةَ وَيُقَصِّرُ الْخُطْبَةَ وَلَا يَأْنَفُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ فَيَقْضِيَ لَهُ الْحَاجَةَ.
حسن خلق النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع الأطفال:
كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَلِّمُ عليهم ويلاطفهم ويلاعبهم، وكان يقول لأحد الأطفال (يا أبا عمير، ما فعل النغَيْر؟)
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) أَنَّهُ مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ.
(حديث أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قَالَ: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُخَالِطُنَا حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي صَغِيرٍ يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ.(10/275)
وأبو عمير كنية لطفل وكان معه (نغير) وهو طائر صغير مثل العصفور هلك هذا النغير، فحزن عليه الصبي واغتم فكان عليه الصلاة والسلام يلاطفه قائلا (ماذا فعل النغير؟).
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
من مظاهر حسن خلقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورحمته بالخلق:
من مظاهر حسن خلقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورحمته بالخلق أن أعرابياً جاء وبال في المسجد، فزجره الناس ونهروه بشده، فنهاهم النبي عليه الصلاة والسلام فلما قضى بوله دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قَالَ: قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْ مَهْ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فَأَمَرَ رَجُلًا مِنْ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ.
وجه حسن الخلق في هذه القصة ظاهر , فهو لم يوبخ هذا الأعرابي ولم يأمر بضربه، بل إنه تركه حتى قضى بوله، ثم أعلمه أن المساجد لا تصلح لما فعل إنما هي للصلاة، والذكر، وقراءة القرآن.
وكذلك من حسن خلقه عليه الصلاة والسلام ورحمته بالمؤمنين الحديث الآتي فتأمله بعين البصيرة:(10/276)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: بينما نحن جلوس عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، هلكت. قال: مالك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل تجدُ رقبة تعتقها؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال لا. فقال: فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟ قال لا. قال: فمكث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبينا نحن على ذلك أُتي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرقٍ فيه تمر، والعرقُ المكتل، قال: أين السائل؟ فقال أنا، قال: خذ هذا فتصدق به. فقال الرجلُ أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها، يريد الحرتين، أهلُ بيتٍ أفقرُ من أهل بيتي، فضحك النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بدت أنيابه ثم قال: أطعمه أهلك)
وحسن خلق النبي عليه الصلاة والسلام في هذه القصة واضحاً وضوحاً جلياً: فإنه لم ينهر هذا الرجل، ولم يشتمه ولم يوبخه، لأنه جاء نادماً تائباً خائفاً، فرأى النبي عليه الصلاة والسلام بعلمه وحكمته أن هذا الرجل لا يستحق أن يوبخ، بل يبين له الحق الذي جاء من عند الله، ويعامل بالرفق واللين وهذا من رحمته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، التي مدحه الله تعالى بها في كتابه حيث قال (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ)] آل عمران159 [, وقال تعالى (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)] التوبة 128 [.
صفاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
وأما صفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو المقدم في كل صفه حميدة عرفت شرعاً أو طبعاً.
جود النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكرمه:
(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين) قال كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، و كان يلقاه في كل ليلةٍ من رمضان فيُدارسه القران فلرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجود بالخير من الريح المرسلة.(10/277)
(حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ، فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَاقَةَ.
(حديث جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) قَالَ:
مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا قَطُّ فَقَالَ لَا.
(حديث أَنَسٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ.
(حديث جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ النَّاسُ مَقْفَلَهُ مِنْ حُنَيْنٍ فَعَلِقَهُ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ فَوَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَعْطُونِي رِدَائِي لَوْ كَانَ لِي عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا وَلَا كَذُوبًا وَلَا جَبَانًا.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح:
حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ: أي ألجؤه إلى شجرة من شجر البادية ذات شوك.
لَوْ كَانَ لِي عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا: الْعِضَاهِ بكسر المهملة بعدها معجمة خفيفة وفي آخره هاء هو شجر ذو شوك.
وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يؤثر على نفسه، فيعطي العطاء و يمضي عليه الشهر والشهران لا يوقد في بيته نار.
وكان كرمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كرماً في محله، ينفق المال له وبالله، إما لفقير، أو محتاج، أو في سبيل الله، أو تأليفا على الإسلام، أو تشريعا للأمة.
شجاعة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشجع الناس، وأمضاهم عزما و إقداما، كان الناس يفرون وهو ثابت، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة(10/278)
(حديث أَبِي إِسْحَاقَ رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قَالَ سَأَلَ رَجُلٌ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ يَا أَبَا عُمَارَةَ أَوَلَّيْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَالَ الْبَرَاءُ وَأَنَا أَسْمَعُ أَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوَلِّ يَوْمَئِذٍ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذًا بِعِنَانِ بَغْلَتِهِ فَلَمَّا غَشِيَهُ الْمُشْرِكُونَ نَزَلَ فَجَعَلَ يَقُولُ أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ قَالَ فَمَا رُئِيَ مِنْ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ أَشَدُّ مِنْهُ.
(حديث أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الثابت في الصحيحين) قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَيْلَةً فَخَرَجُوا نَحْوَ الصَّوْتِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ اسْتَبْرَأَ الْخَبَرَ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ وَفِي عُنُقِهِ السَّيْفُ وَهُوَ يَقُولُ لَمْ تُرَاعُوا لَمْ تُرَاعُوا ثُمَّ قَالَ وَجَدْنَاهُ بَحْرًا أَوْ قَالَ إِنَّهُ لَبَحْرٌ.
لينه وحسن خلقه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
فقد كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لطيفا رحيما، فلم يكن فاحشا ولا متفحشاً، ولا صخاباً في الأسواق، ولا يجزي السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال: قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة ليس له خادم، فأخذ أبو طلحة بيدي، فانطلق بي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، إن أنسا غلام كيس فليخدمك، قال: فخدمته في السفر والحضر، ما قال لي لشيء صنعته لم صنعت هذا هكذا، ولا لشيء لم أصنعه لم تصنع هذا هكذا.
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قَالَ: خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ وَاللَّهِ مَا قَالَ لِي أُفًّا قَطُّ وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَهَلَّا فَعَلْتَ كَذَا.
ومن لينه وحسن خلقه أنه كان يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم:
ففي المزاح إجماماً للقلوب وتفريجاً للكروب، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الترمذي) قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا قال: إني لا أقول إلا حقاً.(10/279)
وهاك صور مشرقة من مزاح النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن رجلا استحمل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إني حاملك على ولد الناقة فقال يا رسول الله ما أصنع بولد الناقة فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهل تلد الإبل إلا النوق.
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له يا ذا الأذنين.
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في الساسلة الصحيحة) قال: أتت عجوز إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله ادع الله لي أن يدخلني الجنة فقال: يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز قال: فولت تبكي فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهى عجوز إن الله تعالى يقول " إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً. فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً. عُرُباً أَتْرَاباً "
(حديث معاوية ابن حيدة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ.
(حديث أبي أمامة الثابت في صحيح أبي داود) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ (1) الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري) أنها كانت مع النبي في سفر، قالت: فسابَقْتُه فَسَبَقْتُه على رجلي فلما حملت اللحم سابقته فسبقني فقال هذه بتلك.
{تنبيه}: ومما يجب اجتنابه في المزح أن لا يأخذ متاع أخيه على سبيل المزاح، وكذلك يحرم عليه أن يروِّع أخيه على سبيل المزح.
(حديث يزيد ابن سعيد الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعباً و لا جاداً و من أخذ عصا أخيه فليرُدَّها.
__________
(1). في اللسان: (7/ 152) مادة (ربض): قال ابن خالويه: رُبُض المدينة، بضم الراء والباء، أساسها، وبفتحهما: ما حولها. وفي الحديث: أنا زعيمٌ ببيت في رَبَض الجنة؛ وهو بفتح الباء، ما حولها خارجاً عنها تشبيهاً بالابنية التي تكون حول المدن وتحت القلاع.(10/280)
(حديث عبد الرحمن ابن أبي ليلى في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يحلُ لمسلمٍ أن يُروِّعَ مسلماً.
ومن لينه وحسن خلقه أنه كان يُسَلِّمُ على صبيانهم ويداعبهم:
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) أَنَّهُ مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ.
(حديث أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قَالَ: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُخَالِطُنَا حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي صَغِيرٍ يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ.
ومن لينه وحسن خلقه أنه كان يقوم في الصلاة يريد أن يطول فيها فيسمع بكاء الصبي فيتجوز في صلاته كراهية أن يشق على أمه.
(حديث أبي قتادة الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلَاةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ.
زهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الدنيا ورغبته في الآخرة:
كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أزهد الناس في الدنيا وأرغبهم في الآخرة , خيره الله تعالى بين أن يكون ملكاً نبياً أو عبداً نبياً , فاختار أن يكون عبداً نبياً , وخيره بين أن يعيش في الدنيا ما شاء أن يعيش وبين ما عند الله فاختار ما عند الله.
إن من يطالع سيرة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سيد الأولين والآخرين يعلم علم اليقين الذي لا يخالطه شك أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " سيدُ الزاهدين وإمام العابدين وخيرُ البشرِ أجمعين " " وكان زهده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الدنيا طواعيةً، كان زهده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طوعاً لا كَرْهَا، ووالله لو شاء لأجرى الله معه جبال الذهب والفضة " ويتضح ذلك وضوحاً جلياً في " زهده وتواضعه في بيته، زهده في طعامه، زهده في لباسه، زهده في فراشه، زهده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المال "
وهاك غيضٌ من فيض ونقطةً من بحر مما ورد في مظاهر زهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
زهده وتواضعه في بيته:
كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " زهده في الدنيا طواعيةً، كان زهده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طوعاً لا كَرْهَا ووالله لو شاء لأجرى الله معه جبال الذهب والفضة "(10/281)
(حديث الأسود بن يزيد الثابت في صحيح البخاري) قال: سألت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصنع في البيت؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله، تعني خدمة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخيط ثوبه و يخصف نعله و يعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(كان يخيط ثوبه ويخصف نعله ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم) من الاشتغال بمهنة الأهل والنفس إرشاداً للتواضع وترك التكبر لأنه مشرف بالوحي والنبوة ومكرم بالمعجزات والرسالة وفيه أن الإمام الأعظم يتولى أموره بنفسه وأنه من دأب الصالحين.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفلي ثوبه و يحلب شاته و يخدم نفسه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(كان يفلي ثوبه) بفتح فسكون من فلى يفلي كرمي يرمي ومن لازم التفلي وجود شيء يؤذي في الجملة كبرغوث وقمل فدعوى أنه لم يكن القمل يؤذيه ولا الذباب يعلوه دفعت بذلك وبعدم الثبوت ومحاولة الجمع بأن ما علق بثبوته من غيره لا منه ردت بأنه نفي أذاه وأذاه غذاؤه من البدن وإذا لم يتغذ لم يعش
(ويحلب شاته ويخدم نفسه) عطف عام على خاص فنكتته الإشارة إلى أنه كان يخدم نفسه عموماً وخصوصاً قال المصري: ويجب حمله على أحيان فقد ثبت أنه كان له خدم فتارة يكون بنفسه وتارة بغيره وتارة بالمشاركة وفيه ندب خدمة الإنسان نفسه وأن ذلك لا يخل بمنصبه وإن جل.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم، قال أصحابه وأنت؟ فقال نعم كنت أرعاها على قراريط َ لأهل مكة.
[*] قال الإمام ابن حجر في الفتح:
(ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم):(10/282)
قال العلماء الحكمة في إلهام الأنبياء من رعى الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم الحلم والشفقة لأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى ونقلها من مسرح إلى مسرح ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة ألفوا من ذلك الصبر على الأمة وعرفوا اختلاف طباعها وتفاوت عقولها فجبروا كسرها ورفقوا بضعيفها وأحسنوا التعاهد لها فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم وخصت الغنم بذلك لكونها أضعف من غيرها ولأن تفرقها أكثر من تفرق الإبل والبقر لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة ومع أكثرية تفرقها فهي أسرع انقياد من غيرها وفي ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لذلك بعد أن علم كونه أكرم الخلق على الله ما كان عليه من عظيم التواضع لربه والتصريح بمنته عليه وعلى إخوانه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء
(كنت أرعاها على قراريط َ لأهل مكة):
يعني كل شاة بقيراط يعني القيراط الذي هو جزء من الدينار أو الدرهم.
زهده في طعامه:
كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " زهده في الدنيا طواعيةً، كان زهده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طوعاً لا كَرْهَا، ووالله لو شاء لأجرى الله معه جبال الذهب والفضة "
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) قالت: " ما شبع آلُ محمدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منذ قدم المدينة من خبز بُرٍ ثلاث ليال تباعاً حتى قبض ".
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اللهم اجعل رزق آلِ محمد قوتا.
قوتاً: أي شيءٌ يسدُ الرمق.
[*] قال الإمام ابن حجر في الفتح:
قوتاً: أي اكفهم من القوت بما لا يرهقهم الى ذل المسألة ولا يكون فيه فضول تبعث على الترفه والتبسط في الدنيا وفيه حجة لمن فضل الكفاف لأنه إنما يدعو لنفسه وآله بأفضل الأحوال.(10/283)
والشاهد: أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا، ووالله لو شاء لأجرى الله معه جبال الذهب والفضة.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) أنها قالت لعروة: ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نار. فقلت: يا خالة، ما كان يُعَيِّشُكُم؟ قالت: الأسودان التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جيرانٌ من الأنصار، كانت لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ألبانهم فيسقينا.
[*] قال الإمام ابن حجر في الفتح:
إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين: المراد بالهلال الثالث هلال الشهر الثالث وهو يرى عند انقضاء الشهرين وبرؤيته يدخل أول الشهر الثالث.
وما أوقدت في أبيات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نار: لا يوقد في شيء من بيوته نار لا لخبز ولا لطبخ.
ما كان يُعَيِّشُكُم؟ بضم أوله يقال أعاشه الله أي أعطاه العيش.
الأسودان التمر والماء: الأسودان يطلق على التمر والماء والسواد للتمر دون الماء فنعتا بنعت واحد تغليبا وإذا اقترن الشيئان سميا باسم أشهرهما.
منائح: جمع منيحة بنون وحاء مهملة
(حديث عبد الله بن عمر الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (قد أفلح من أسلم ورُزق كفافاً و قنَّعه الله بما آتاه.
[*] قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم:
ورُزق كفافاً: الكفاف الكفاية بلا زيادة ولا نقص، وفيه فضيلة هذه الأوصاف:
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً) أي ما يكف عن الحاجات، ويدفع الضرورات والفاقات، ولا يلحقه بأهل الترفهات. قال القاضي: الفلاح الفوز بالبغية.(10/284)
(وقنعه اللّه بما آتاه) بمد الهمزة أي جعله قانعاً بما أعطاه إياه ولم يطلب الزياد لمعرفته أن رزقه مقسوم لن يعدو ما قدر له والفلاح الفوز بالبغية في الدارين والحديث قد جمع بينهما والمراد بالرزق الحلال منه فإن المصطفى صلى اللّه تعالى عليه وعلى آله وسلم مدح المرزوق وأثبت له الفلاح وذكر الأمرين وقيد الثاني بقنع أي رزق كفافاً وقنعه اللّه بالكفاف فلم يطلب الزيادة وأطلق الأوّل ليشمل جميع ما يتناوله الإسلام ذكره الطيبي وصاحب هذه الحالة معدود من الفقراء لأنه لا يترفه في طيبات الدنيا بل يجاهد نفسه في الصبر على القدر الزائد على الكفاف فلم يفته من حال الفقراء إلا السلامة من قهر الرجال وذل المسألة.
(حديث عبيد الله بن محصن الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في جسده عنده قوتُ يومه فكأنما حيزت له الدنيا.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(من أصبح منكم آمنا في سربه) بكسر السين على الأشهر أي في نفسه وروي بفتحها أي في مسلكه وقيل بفتحتين أي في بيته
(معافى في جسده) أي صحيحاً بدنه
(عنده قوت يومه) أي غذاؤه وعشاؤه الذي يحتاجه في يومه ذلك، يعني من جمع اللّه له بين عافية بدنه وأمن قلبه حيث توجه وكفاف عيشه بقوت يومه وسلامة أهله فقد جمع اللّه له جميع النعم التي من ملك الدنيا لم يحصل على غيرها فينبغي أن لا يستقبل يومه ذلك إلا بشكرها بأن يصرفها في طاعة المنعم لا في معصية ولا يفتر عن ذكره
(فكأنما حيزت) بكسر المهملة
(له الدنيا) أي ضمت وجمعت
(بحذافيرها) أي بجوانبها أي فكأنما أعطي الدنيا بأسرها، ومن ثم قال نفطويه: إذا ما كساك الدهر ثوب مصحة * ولم يخل من قوت يحلى ويعذب فلا تغبطن المترفين فإنه * على حسب ما يعطيهم الدهر يسلب وقال: إذا القوت يأتي لك والصحة والأمن * وأصبحت أخا حزن فلا فارقك الحزن وفيه حجة لمن فضل الفقر على الغنى.
وكان يربط الحجر على بطنه من الجوع:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يربط الحجر على بطنه من الغرث.
الغرث: الجوع.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: ما أكل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبزاً مرققاً، ولا شاة مسموطة حتى لقي الله.
[*] قال الحافظ بن حجر في الفتح:(10/285)
ما أكل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبزاً مرققاً: وأكل المرقق إنما هو لدفع طيبات الدنيا اختيارا لطيبات الحياة الدائمة.
ولا شاة مسموطة: المسموط الذي ازيل شعره بالماء المسخن وشوى بجلده أو يطبخ وإنما يصنع ذلك في الصغير السن الطري وهو من فعل المترفين من وجهين أحدهما المبادرة إلى ذبح ما لو بقي لازداد ثمنه وثانيهما أن المسلوخ ينتفع بجلده في اللبس وغيره.
زهده في لباسه:
" كان زهده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الدنيا طواعيةً، كان زهده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طوعاً لا كَرْهَا، ووالله لو شاء لأجرى الله معه جبال الذهب والفضة "
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أنها أخرجت كساءاً وإزاراً غليظاً فقالت: قُبِضَ رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذين.
وكيف لا وقد علمنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن البذاذةُ من الإيمان.
(حديث أبي أُمامةَ الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: البذاذةُ من الإيمان.
(البذاذة): رثاثة الهيئة وترك الترفه وإدامة التزين والتنعم في البدن والملبس إيثاراً للخمول بين الناس.
زهده في فراشه:
" كان زهده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الدنيا طواعيةً، كان زهده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طوعاً لا كَرْهَا، ووالله لو شاء لأجرى الله معه جبال الذهب والفضة "
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) قالت دخلت علي امرأةٌ من الأنصار فرأت فراش رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قطيفة مثنية فبعثت إلي بفراشٍ حشوه الصوف فدخل علي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال ما هذا يا عائشة قالت قلت يا رسول الله فلانة الأنصارية دخلت فرأت فراشك فذهبت فبعثت إلي بهذا فقال رُدِّيْه يا عائشة فوالله لو شئتُ لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة.
"وكان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينام على حصير قد أثر في جنبه ووالله لو شاء لأجرى الله معه جبال الذهب والفضة "(10/286)
وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قال: نام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حصير فقام وقد أثر في جنبه فقلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء فقال ما لي وما للدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها.
(حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجة) قال: دخلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو على حصير قال فجلست فإذا عليه إزار وليس عليه غيره وإذا الحصير قد أثر في جنبه وإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع وقرظ في ناحية في الغرفة وإذا إهاب معلق فابتدرت عيناي فقال ما يبكيك يا ابن الخطاب فقلت يا نبي الله ومالي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى وذلك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار وأنت نبي الله وصفوته وهذه خزانتك قال يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا قلت بلى.
زهده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المال:
كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " زهده في الدنيا طواعيةً ووالله لو شاء لأجرى الله معه جبال الذهب والفضة " فالمال لم يكن يخطر له ببال ولا يدور له في الخيال ولو كان له مثل أحدٍ ذهبا، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لو أن عندي مثلَ أحدٍ ذهباً ما يسرني أن لا يمَّر عليَّ ثلاث وعندي منه شيءٌ إلا شيءٌ أرْصُدُه لدين.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(لو أن عندي مثلَ أحدٍ) أي جبل أحد
(ذهباً) بالنصب على التمييز قال ابن مالك بوقوع التمييز بعد مثل قليل وجواب لو
(ما يسرني) من السرور بمعنى الفرح
(أن لا يمر عليَّ) بالتشديد
(ثلاث) من الليالي ويجوز الأيام بتكلف
(وعندي منه شيء) أي من الذهب، وفي التقييد بثلاث مبالغة في سرعة الإنفاق
(إلا شيء أرصده) بضم الهمزة وكسر الصاد أعدَّه(10/287)
(لدين) أي أحفظه لأداء دين لأنه مقدم على الصدقة واستثنى الشيء من الشيء لكون الثاني مقيداً خاصاً ورفعه لكونه جواب لو في حكم النفي وجعل لو هنا للتمني متعقب بالرد وخص الذهب بضرب المثل لكونه أشرف المعادن وأعظم حائل بين الخليقة وبين فوزها الأكبر يوم معادها وأعظم شيء عصى اللّه به وله قطعت الأرحام وأريقت الدماء واستحلت المحارم ووقع التظالم وهو المرغب في الدنيا المزهد في الآخرة وكم أميت به من حق وأحيي به من باطل ونصر به ظالم وقهر به مظلوم فمن سره أن لا يكون عنده منه شيء فقد آثر الآخرة.
(حديث عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قَالَ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَلَا عَبْدًا وَلَا أَمَةً إِلَّا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ الَّتِي كَانَ يَرْكَبُهَا وَسِلَاحَهُ وَأَرْضًا جَعَلَهَا لِابْنِ السَّبِيلِ صَدَقَةً.
رِفْقِتهِ بِأُمَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
يَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَيَقْرَأُ بِالسُّورَةِ الْقَصِيرَةِ،
(حديث أبي قتادة الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلَاةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ.
(حديث مالك بن الحُويرث الثابت في الصحيحين) قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِي فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَكَانَ رَحِيمًا رَفِيقًا فَلَمَّا رَأَى شَوْقَنَا إِلَى أَهَالِينَا قَالَ ارْجِعُوا فَكُونُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَصَلُّوا فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ.
(حديث أنس في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: التأني من الله والعجلة من الشيطان.
رحمة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:(10/288)
رحمته بأمته ورأفته بها؟ فقد كان رحيماً رفيقاً رقيقاً كما وصفه ربه تعالى بقوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159]
وقوله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128]
(حديث أبي قتادة الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلَاةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ.
حلم النبي وعفوه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
كان أحلم الناس:
(حديث أَنَسِ الثابت في الصحيحين) قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً قَالَ أَنَسٌ فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ.
فانظر أخي كيف قابل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الجفاء والغلظة بالحلم والضحك والإحسان.
حياء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(حديث أبي سعيد الثابت في الصحيحين) قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناه في وجهه.
تواضع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(حديث الأسود بن يزيد الثابت في صحيح البخاري) قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ مَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ، فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ.(10/289)
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخِيطُ ثَوبَهُ وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ وَيَعْمَلُ مَا يَعْمَلُ الرِّجَالُ فِي بُيُوتِهِم.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ وَأَنْتَ؟ فَقَالَ نَعَمْ كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ.
(حديث أنس الثابت في صحيح البخاري) قَالَ: كَانَتْ نَاقَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ تُسَمَّى الْعَضْبَاءَ وَكَانَتْ لَا تُسْبَقُ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَعُودٍ لَهُ فَسَبَقَهَا، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا: سُبِقَتْ الْعَضْبَاءُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يَرْفَعَ شَيْئًا مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا وَضَعَهُ.
(حديث أَنَسٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الأدب المفرد) قَالَ مَا كَانَ شَخَصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،وَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا إِلَيْهِ، لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لَذَلِك.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْلِسُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَصْحَابِهِ فَيَجِيءُ الْغَرِيبُ فَلَا يَدْرِي أَيُّهُمْ هُوَ حَتَّى يَسْأَلَ.
(حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ، وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ.
(حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) قَالَ
أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ فَقَالَ لَهُ هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ.(10/290)
(حديث عبد الله ابن أبي أوفى رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكْثِرُ الذِّكْرَ وَيُقِلُّ اللَّغْوَ وَيُطِيلُ الصَّلَاةَ وَيُقَصِّرُ الْخُطْبَةَ وَلَا يَأْنَفُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ فَيَقْضِيَ لَهُ الْحَاجَةَ.
عَلَامَةِ رِضَاهُ وَعَلَامَةِ سَخَطِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(حديث كعب ابن مالك الثابت في الصحيحين) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ.
(حديث عائشة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ.
(حديث عائشة الثابت في صحيح ابن ماجة) قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى مَا يُحِبُّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
(حديث أم سلمة الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا غَضِبَ احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ.
صِفَةُ مَشْيِهِ وَالْتِفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثابت في صحيح ابن ماجة) قَالَ
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَشَى مَشَى أَصْحَابُهُ أَمَامَهُ وَتَرَكُوا ظَهْرَهُ لِلْمَلَائِكَةِ.
صفة جلوسه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْحَابِهِ جَالِسٌ، إِذْ جَاءَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، فَقَالَ: أَيُّكُمُ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ قَالُوا: هَذَا الْأَمْغَرُ الْمُرْتَفِقُ.
: الْأَمْغَرُ: الْأَبْيَضُ مُشَرَّبًا حُمْرَةً
الْمُرْتَفِقُ: مُتَّكِئٌ عَلَى مِرْفَقِهِ.(10/291)
هذه درر من أخلاق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاتخذوها نبراساً لكم تأتمون به وتأخذون بهديه وتسيرون على منهاجه فتهتدوا , فإن الله جبله على مكارم الأخلاق , وأمرنا بالاقتداء به. قال الله تعالى (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتََدُون َ)] الأعراف 158 [.
رزقنا الله وإياكم محبة هذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ووفقنا إلى اتباع سنته وهديه حتى يأتينا اليقين.
صور من أخلاق الصحابة والتابعين:
صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم خير القرون، وأفضل الأمة، وأكملُ المؤمنين، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرضي عنهم ورضوا عنه فهم كما قال الله عنهم: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) [الفتح: 29]
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة: 54]
وقال تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9](10/292)
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) قال: جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إني مجهود، فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. ثم أرسل إلى الأخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء فقال: من يضيف هذا الليلة رحمة الله.؟ فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله. فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ فقالت: لا، إلا قوت صبياني. قال: فعليهم بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل، فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه قال: فقعدوا وأكل الضيف. فلما أصبح غدا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: قد عجب الله عز وجل من صنيعكم.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة، فآخى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلني على السوق، فربح شيئا من أقط وسمن، فرآه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أيام وعليه وضر من صفرة، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مهيم يا عبد الرحمن). قال: يا رسول الله، تزوجت امرأة من الأنصار، قال: (فما سقت فيها). فقال: وزن نواة من ذهب، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أولم ولو بشاة).
الله أكبر ما أحسن هذه الأخلاق، وأكرم هذه النفوس، وأطهر هذه القلوب.
وعن ميمون بن مهران قال سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: " ما بلغني عن أخ مكروه قط إلا أنزلته إحدى ثلاث منازل: إن كان فوقي عرفت له قدره، وإن كان نظيري تفضلت عليه، وإن كان دوني لم أحفلْ به. هذه سيرتي في نفسي، فمن رغب عنها فأرض الله واسعة " (1).
__________
(1) صفة الصفوة 1/ 754.(10/293)
وَلَمَا دَخَلَ الْحُرُّ بْنِ حِصْن عَلَى عُمَرَ ابْنَ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - قَالَ: فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ وَمَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِأَنْ يَقَعَ بِهِ فَقَالَ الْحُرُّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ} وَإِنَّ هَذَا مِنْ الْجَاهِلِينَ فَوَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ" (1).
وقال علي رضي الله عنه:" يا عجباً لرجل مسلم يجيئه أخوه المسلم في حاجة فلا يرى نفسه للخير أهلاً، فلو كان لا يرجو ثواباً ولا يخشى عقاباً، لقد كان ينبغي له أن يسارع إلى مكارم الأخلاق، فإنها مما تدل على سبيل النجاة ... ".
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: " دعتني أم حبيبة عند موتها فقالت: قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك، فقلت: غفر الله لك ذلك كلَّه وحللَّك من ذلك، فقالت: سررتني سَّرك الله، وأرسلت إلى أم سلمة فقالت لها مثل ذلك " (2).
هذه جملة من أخلاق أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتلاميذه الأطهار رضي الله عنهم:
صور من أخلاق سلف الأمة:
وعلى نهج أولئك الأصحاب سار سلف الأمة رحمهم الله تعالى, فضربوا أروع الأمثال في حسن الخلق وطيب المعشر وسلامة الصدر ورحابة النفس وجود اليد حتى إن الإنسان لا يملك عينيه وهو يتصفح سيرهم العطرة، ودونك طائفةً من أخبارهم:
خاصم رجل الأحنف رحمه الله فقال: لئن قلت واحدة لتسمعن عشراً، فقال له الأحنف: لكنك إن قلت واحدة لم تسمع واحدة.
ودخل أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز المسجد ليلة في الظلمة، فمر برجل نائم فعثر به، فرفع رأسه وقال: أمجنونٌ أنت؟ فقال عمر: لا، فهمَّ به الحرس، فقال عمر: مه، إنما سألني أمجنون؟ فقلت: لا (3).
__________
(1) أخرجه البخاري 8/ 386 ح4642.
(2) سير أعلام النبلاء 2/ 223.
(3) مختصر منهاج القاصدين لأحمد بن قدامة ص 199.(10/294)
وقال رجل للإمام أبي حنيفة: اتق الله، فانتفض واصفرَّ وأطرق وقال: جزاك الله خيراً، ما أحوج الناس كل وقت إلى من يقول لهم مثل هذا (1) لهذه الكلمة.
وعن بلال بن سعد عمن رأى عامرَ بن عبد الله التميمي بأرض الروم وله بغلة يركبها عقبة (أي نوبة) ويحمل المهاجرين عقبة، قال بلال: " كان إذا فصل غازياً يتوشَّم من يرافقه، فإذا رأى رفقة تعجبه، اشترط عليهم أن يخدمهم، وأن يؤذن، وأن ينفق عليهم طاقته " (2).
فلا إله إلا الله ما أعجب هذه الشروط.
وعن أبي قِلابة قال: " إذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه فالتمس له العذر جهدك، فإن لم تجد له عذراً فقل في نفسك: لعل له عذراً لا أعلمه " (3).
رزقت أسمح ما في الناس من خلق ... إذا رزقت التماس العذر في الشيم
وعن يونس الصَّدفي: "ما رأيت أعقلَ من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة " (4).
الله أكبر، هذه أخلاق الأئمة فأين الذين يوالون ويعادون عند أدنى خلاف؟!
وعن معاذ بن سعيد قال: كنا عند عطاء بن أبي رباح فتحدث رجل بحديث فاعترض له آخر في حديثه، فقال عطاء: " سبحان الله ما هذه الأخلاق؟ ما هذه الأخلاق؟ إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم منه به فأريه أني لا أُحسن منه شيئاً " (5).
فأين هذا من قوم إذا تحدث فيهم الرجل اعترض له عشرة؟
وعن ابن مهروية الرازي، سمعت علي بن الحسين بن الجنيد: سمعت يحي بن معين يقول: " إنا لنطعن على أقوام، لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة من أكثر من مائتي سنة " (6).
قال ابن مهروية: " فدخلت على عبد الرحمن بن أبي حاتم وهو يقرأ على الناس كتاب الجرح والتعديل، فحدثته بهذا، فبكى، وارتعدت يداه، حتى سقط الكتاب وجعل يبكي ويستعيدني الحكاية ".
قال الذهبي: " أصابه على طريق الوجل وخوف العاقبة، وإلاّ فكلام الناقد الورع في الضعفاء من النصح لدين الله، والذب عن السنة " (7).
فأين هذا من أقوام لم تشبعهم لحوم الأحياء فتطاولوا على أموات المسلمين يلغون في أعراضهم ويأكلون لحومهم؟ نسأل الله العافية.
__________
(1) سير أعلام النبلاء 6/ 400.
(2) سير أعلام النبلاء 4/ 17.
(3) صفة الصفوة1/ 238.
(4) سير أعلام النبلاء 10/ 16.
(5) صفة الصفوة 2/ 214.
(6) قال الذهبي: قلت: لعلها من مائة سنة فإن ذلك لا يبلغ في أيام يحيى هذا القدر.
(7) سير أعلام النبلاء 13/ 268.(10/295)
وكان بين حسن بن حسن وعلي بن الحسين بعضُ الأمر، فجاء حسن بن حسن إلى علي بن الحسين وهو في أصحابه في المسجد، فما ترك شيئاً إلا قاله له وعلي ساكت. فانصرف حسن فلما كان من الليل أتاه في منزله فقرع عليه بابه، فخرج إليه، فقال له علي: يا أخي إن كنت صادقاً فيما قلت لي فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك، السلام عليكم. وولى، قال: فاتبعه حسن فالتزمه وبكى حتى رُثي له ثم قال: لا جرم لا عدتُ في أمر تكرهه. فقال علي: وأنت في حل مما قلت لي (1).
فانظر أخي الكريم إلى أخلاق أهل بيت النبوة فأين نحن منها؟ يختلف الرجلان فينا فيتهاجران الدهر كلَّه، وقد لا يشهد أحدُهما جنازةَ الآخر.
وعندما سُرق للربيع بن خُيثم فرس كان أعطي به عشرين ألفاً قالوا له: ادع الله عليه فقال: اللهم إن كان غنياً فاغفر له وإن كان فقيراً فأغنه.
فسبحان من منَّ عليهم بهذه القلوب الطاهرة.
وكان عبد الله بن المبارك - رحمه الله - إذا كان وقتُ الحج اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو فيقولون: نصحبك، فيقول: هاتوا نفقاتِكم، فيأخذ نفقاتهِم فيجعلها في صندوق ويقفل عليها ثم يكتري لهم ويخرجهم من مرو إلى بغداد فلا يزال ينفق عليهم ويطعمهم أطيب الطعام، وأطيبَ الحلوى ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زيٍّ وأكمل مروءة حتى يصلوا إلى مدينة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول لكل واحد: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طُرَفها؟ فيقول: كذا وكذا، ثم يخرجهم إلى مكة فإذا قضوا حجهم قال لكل واحد منهم: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من متاع مكة؟ فيقول: كذا وكذا، فيشتري لهم، ثم يخرجهم من مكة، فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو فيجصِّص بيوتهَم وأبوابهم، فإذا كان بعد ثلاثة أيام عمل لهم وليمة وكساهم فإذا أكلوا وسرُّوا دعا بالصندوق ففتحه ودفع إلى كل رجل منهم صرته عليها اسمه (2).
هذه صور قليلة من أخلاق السلف رحمهم الله، وأخبارهم في هذا الباب أكثر من أن تحصر.
طرق اكتساب حسن الخلق:
هناك طرق متعددة، وأسباب متنوعة تعين الشباب على التخلق بالأخلاق الإسلامية المحمودة (3)، فمنها ما يلي:
__________
(1) صفة الصفوة 2/ 94.
(2) سير أعلام النبلاء 8/ 385.
(3) انظر موعظة المؤمنين للقاسمي ص271، والأخلاق الفاضلة لعبد الله الرحيلي ص117، وفصول في الأخلاق الإسلامية لعبد الله الأزدي ص77.(10/296)
(1) الإيمان؛ فإن للإيمان بالله - تعالى - أثراً كبيراً في تزكية النفوس، وتهذيب السلوك، وسمو الأخلاق، فالمؤمن الصادق يطبق شرع الله الحكيم الذي هو منبع الأخلاق الحميدة، ويتجرد من أمراض القلوب، وشهوات النفس .. التي هي منبع الأخلاق الذميمة، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: و الذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا و لا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم.
(حديث عبد الله بن سلام الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجه) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ.
(حديث عبد الله ابن عمرو الثابت في الصحيحين) أن رجلاً سأل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي الإسلامُ خير؟ قال: تُطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف.
هذا ولفعل الطاعات واجتناب المحرمات أثر كبير في طيب النفس وحسن الخلق، وهذا أمر مشاهد.
(2) مجالسة أهلِ الأخلاق الحسنة، فإن للمجالسة والمخالطة أثراً كبيراً في السلوك والأخلاق فالإنسان يتأثر بمن يصاحبه ويتخلق بأخلاقه وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي سعيد الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تصاحب إلا مؤمنا و لا يأكل طعامك إلا تقي.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل.
ولله درُ من قال:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارَنِ يقتدي(10/297)
بل إن الإنسان يتأثر بمخالطة البهائم ويكتسب بعض طباعها فكيف لا يتأثر بمخالط جنسه من البشر، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَلْيَنُ قُلُوبًا الْإِيمَانُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي أَصْحَابِ الْإِبِلِ وَالسَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" إن الله تعالى جبل بني آدم، بل سائر المخلوقات على التفاعل بين الشيئين المتشابهين، وكلما كانت المتشابهة أكثرَ كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم ... إلى أن قال: ولأجل هذا الأصل وقع التأثر والتأثير في بني آدم، واكتساب بعضهم أخلاق بعض بالمشاركة والمعاشرة. وكذلك الآدمي إذا عاشر نوعاً من الحيوان اكتسب بعض أخلاقه، ولهذا صارت الخيلاءُ والفخرُ في أهل الإبل، وصارت السكينة في أهل الغنم ... " (1).
والواقع أيها الإخوة شاهد بذلك فكم رأينا من الناس من تغيرت أخلاقهم بسبب جلسائهم.
قال الفضيل بن عياض: " إذا خالطت فخالط حسنَ الخلق، فإنه لا يدعو إلا إلى خير، وصاحبه منه في راحة ... ".
(3) محاسبة النفس، إن أعدى عدو للإنسان هو نفسه التي بين جنبيه، فقد خلقت أمارةً بالسوء، ميالة إلى الشر، فرارة من الخير، ولذلك أمر المسلم بتزكيتها وتقويمها، ومحاسبتها وحملها على ما يزينها من محاسن الأخلاق ومكارم الآداب، فينبغي للمسلم أن يتعاهد نفسه، ويمنعها من اقتراف المساوئ ويعاتبها على التقصير والتفريط، فإنها بذلك تزكو وتستقيم.
والنفس كالطفل إن تهمله شبَّ على ... حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
وقد كان السلف رحمهم الله، يحاسبون أنفسهم ويتهمونها ويعاتبونها عند كل صغيرة وكبيرة.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري موقوفا) قَالَ إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنْ الشَّعَرِ إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُوبِقَاتِ.
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم 1/ 487.(10/298)
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري موقوفا) قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا.
وقال مالك بن دينار:" رحم الله عبداً قال لنفسه: ألستِ صاحبةَ كذا؟ ألستِ صاحبةَ كذا؟ ثم ذمّها ثم خطمها، ثم ألزمها كتابَ الله عز وجل، فكان لها قائداً ".
وقال مطرف بن عبد الله: " لولا ما أعلم من نفسي لقليتُ الناس ".
(4) قراءة سير السلف الصالح - رحمهم الله -:
من الأسباب المعينة على التخلق بالأخلاق الحسنة الاطلاع على سير أهل الصلاح والتقى ... فإن الإنسان إذا عرف أحوالهم، وتأمل أخلاقهم وصفاتهم انبعثت همتهُ نحو مشاكلتهم واشتاقت نفسه إلى الاقتداء بهم.
قال الإمام أبو حنيفة: " الحكايات عن العلماء ومحاسنهم أحب إليّ من كثير من الفقه، لأنها آدابُ القوم وأخلاقهم، وشاهده من كتاب الله تعالى قوله سبحانه: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف: 111]
وقال بعضهم: " الحكايات جند من جنود الله تعالى يثبت الله بها قلوبَ أوليائه، وشاهده من كتاب الله تعالى قوله سبحانه: (وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود: 120]
وقال آخر:" استكثروا من الحكايات فإنها درر، وربما كانت فيها الدرة اليتيمة " (1).
وقد اتفق علماء النفس والتربية على أن القصص والأخبار والسير من أقوى عوامل التربية.
(5) الدعاء، وهذا من أعظم الأسباب الموصلة إلى محاسن الأخلاق، فإن العبد ضعيف فقير إلى الله تعالى في جميع أحواله لا غنى له طرف عين عن خالقه،
وقد كان سيد البشر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأل الله تَعالى أن يهديه لأحسن الأخلاق كما في حديث علي الطويل الوارد في دعاء الاستفتاح وفيه: ((واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت))
__________
(1) انظر صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل لأبي غدة ص 17.(10/299)
(حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ وَإِذَا رَكَعَ قَالَ اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبِي وَإِذَا رَفَعَ قَالَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ وَإِذَا سَجَدَ قَالَ اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ يَكُونُ مِنْ آخِرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَفْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ.
(حديث ابن مسعود الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اللهم كما حَسَّنْتَ خَلْقِي فَحَسِّن خُلُقِي.
(6) ترويض النفس على حسن الخلق، فإنه من يتحر الخير يعطه و من يتق الشر يُوّقَّه.(10/300)
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنما العلم بالتعلم و إنما الحلم بالتحلم و من يتحر الخير يعطه و من يتق الشر يُوّقَّه.
فينبغي للعبد أن يتحر حسن الخلق ويحرص عليه ويجاهد نفسه ويتكلفه حتى ينعم الله تعالى عليه بهذه الفضيلة، وهذا حاصلٌ لا محالة إذا صدق العبد في ذلك.
(حديث شداد بن أوس في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن تصدق الله يصدقك.
(7) لا بد من الصبر وطول النفس في تحصيل أي خير وليس له أن يستعجل فإنه من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه. فعليه أن يتأنى جيداً وإياه والعجلة فبئست المطيةُ هي، تحول بينك وبين أي خير.
ما هو حسن الخلق:
قال الماوردي رحمه الله تعالى في أدب الدين والدنيا:
حُسْنُ الْخَلْقِ أَنْ يَكُونَ "سَهْلَ الْعَرِيكَةِ، لَيِّنَ الْجَانِبِ، طَلِيقَ الْوَجْهِ، قَلِيلَ النُّفُورِ، طَيِّبَ الْكَلِمَةِ"
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: حُرِّمَ على النار كل هين لين سهل قريب من الناس.
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حُسْنِ الْخُلُقِ قَالَ أَنْ لَا تَغْضَبَ وَلَا تَحْتَدَّ.
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ هُوَ بَسْطُ الْوَجْهِ وَأَنْ لَا تَغْضَبَ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
أورد ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية عن الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ قَالَ: حَقِيقَةُ حُسْنِ الْخُلُقِ بَذْلُ الْمَعْرُوفِ , وَكَفُّ الْأَذَى وَطَلَاقَةُ الْوَجْهِ.
وأورد ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية عن الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ قَالَ: الْأَخْلَاقُ لِلْمُؤْمِنِ قُوَّةٌ فِي لِينٍ , وَحَزْمٌ فِي دِينٍ , وَإِيمَانٌ فِي يَقِينٍ , وَحِرْصٌ عَلَى الْعِلْمِ , وَاقْتِصَادٌ فِي النَّفَقَةِ , وَبَذْلٌ فِي السَّعَةِ , وَقَنَاعَةٌ فِي الْفَاقَةِ , وَرَحْمَةٌ لِلْجُمْهُورِ , وَإِعْطَاءٌ فِي كَرَمٍ وَبِرٌّ فِي اسْتِقَامَةٍ.
حدود حسن الخلق:(10/301)
لِمَحَاسِنِ الأخلاقِ حُدُودٌ مُقَدَّرَةٌ وَمَوَاضِعُ مُسْتَحَقَّةٌ فَإِنْ تَجَاوَزَ بِهَا الْحَدَّ صَارَتْ مَلَقًا وَإِنْ عَدْلَ بِهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا صَارَتْ نِفَاقًا. وَالْمَلَقُ ذُلٌّ، وَالنِّفَاقُ لُؤْمٌ، وَلَيْسَ لِمَنْ وُسِمَ بِهِمَا وُدٌّ مَبْرُورٌ وَلاَ أَثَرٌ مَشْكُورٌ، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه.
(حديث عمار ابن ياسر الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الأدب المفرد) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أميناً.
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية تعليقاً على الحديث السابق:
لِأَنَّهُ نِفَاقٌ وَخِدَاعٌ وَكَذِبٌ وَتَحَيُّلٌ عَلَى اطِّلَاعِهِ عَلَى أَسْرَارِ الطَّائِفَتَيْنِ ; لِأَنَّهُ يَأْتِي كُلَّ طَائِفَةٍ بِمَا يُرْضِيهَا , وَيُظْهِرُ أَنَّهُ مَعَهَا , وَهِيَ مُدَاهَنَةٌ مُحَرَّمَةٌ ذَكَرَ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ قَالَ تَعَالَى: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ}. أَيْ: مَقْطُوعَةٌ مُمَالَةٌ إلَى الْحَائِطِ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا وَلَا هِيَ ثَابِتَةٌ , إنَّمَا كَانُوا يَسْتَنِدُونَ إلَى مَنْ يَنْصُرُهُمْ , وَإِلَى مَنْ يَتَظَاهَرُونَ بِهِ {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} لِسُوءِ اعْتِقَادِهِمْ {هُمْ الْعَدُوُّ} لِلتَّمَكُّنِ بَيْنَ الشَّرِّ بِالْمُخَاطَبَةِ وَالْمُدَاخَلَةِ. أهـ
أورد الماوردي رحمه الله تعالى في أدب الدين والدنيا عن سَعِيدُ بْنُ عُرْوَةَ قال: لاَنْ يَكُونَ لِي نِصْفُ وَجْهٍ وَنِصْفُ لِسَانٍ عَلَى مَا فِيهِمَا مِنْ قُبْحِ الْمَنْظَرِ وَعَجْزِ الْمَخْبَرِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَكُونَ ذَا وَجْهَيْنِ وَذَا لِسَانَيْنِ وَذَا قَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ.
قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ:
وَكَمْ مِنْ صَدِيقٍ وُدُّهُ بِلِسَانِهِ خَئُونٌ بِظَهْرِ الْغَيْبِ لاَ يَتَذَمَّمُ(10/302)
يُضَاحِكُنِي عَجَبًا إذَا مَا لَقِيتُهُ وَيَصْدُفُنِي مِنْهُ إذَا غِبْتُ أَسْهُمُ
كَذَلِكَ ذُو الْوَجْهَيْنِ يُرْضِيك شَاهِدًا وَفِي غَيْبِهِ إنْ غَابَ صَابٌ وَعَلْقَمُ.
أسباب تغير حسن الخلق إلى الشراسة والبذاء:
وَرُبَّمَا تَغَيَّرَ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالْوَطَاءُ إلَى الشَّرَاسَةِ وَالْبَذَاءِ لِأَسْبَابٍ عَارِضَةٍ، وَأُمُورٍ طَارِئَةٍ، تَجْعَلُ اللِّينَ خُشُونَةً وَالْوَطَاءَ غِلْظَةً وَالطَّلاَقَةَ عُبُوسًا. فَمِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ ما يلي:
(1) الْوِلاَيَةُ الَّتِي تُحْدِثُ فِي الأخلاقِ تَغَيُّرًا، وَعَلَى الْخُلَطَاءِ تَنَكُّرًا، إمَّا مِنْ لُؤْمِ طَبْعٍ، وَإِمَّا مِنْ ضِيقِ صَدْرٍ. وَقَدْ قِيلَ: مَنْ تَاهَ فِي وِلاَيَتِهِ ذَلَّ فِي عَزْلِهِ. وَقِيلَ: ذُلُّ الْعَزْلِ يُضْحِكُ مِنْ تِيهِ الْوِلاَيَةِ.
(2) وَمِنْهَا: الْعَزْلُ فَقَدْ يَسُوءُ بِهِ الْخُلُقُ وَيَضِيقُ بِهِ الصَّدْرُ إمَّا لِشِدَّةِ أَسَفٍ أَوْ لِقِلَّةِ صَبْرٍ. حَكَى حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ عُزِلَ عَنْ وِلاَيَةٍ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: إنِّي وَجَدْتهَا حُلْوَةَ الرَّضَاعِ مَرَّةَ الْفِطَامِ.
(3) وَمِنْهَا: الْغِنَى فَقَدْ تَتَغَيَّرُ بِهِ أَخْلاَقُ اللَّئِيمِ بَطَرًا، وَتَسُوءُ طَرَائِقُهُ أَشَرًا. وَقَدْ قِيلَ: مَنْ نَالَ اسْتَطَالَ.
وَكَتَبَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ إلَى الْحَجَّاجِ أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ قَدْ الْتَاثُوا عَلَيْهِ فَكَتَبَ إلَيْهِ أَنْ اقْطَعْ عَنْهُمْ الأرزاق، فَفَعَلَ فَسَاءَتْ حَالُهُمْ فَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ فَقَالُوا: أَقِلْنَا. فَكَتَبَ إلَى الْحَجَّاجِ فِيهِمْ فَكَتَبَ إلَيْهِ: إنْ كُنْت آنَسْتَ مِنْهُمْ رُشْدًا فَأَجْرِ عَلَيْهِمْ مَا كُنْتَ تُجْرِي، وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَقْرَ جُنْدُ اللَّهِ الأكبرَ يُذِلُّ بِهِ كُلَّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ يَتَكَبَّرُ.
(4) وَمِنْهَا: الْفَقْرُ فَقَدْ يَتَغَيَّرُ بِهِ الْخُلُقُ إمَّا أَنَفَةً مِنْ ذُلِّ الاسْتِكَانَةِ أَوْ أَسَفًا عَلَى فَائِتِ الْغِنَى.(10/303)
وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ: وَأَعْجَبُ حَالاتِ ابْنِ آدَمَ خَلْقُهُ يَضِلُّ إذَا فَكَّرْتَ فِي كُنْهِهِ الْفِكْرُ فَيَفْرَحُ بِالشَّيْءِ الْقَلِيلِ بَقَاؤُهُ وَيَجْزَعُ مِمَّا صَارَ وَهُوَ لَهُ ذُخْرُ وَرُبَّمَا تَسَلَّى مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ بالأماني، وَإِنْ قَلَّ صِدْقُهَا. فَقَدْ قِيلَ: قَلَّمَا تَصْدُقُ الأمْنِيَّةُ وَلَكِنْ قَدْ يُعْتَاضُ بِهَا سَلْوَةً مِنْ هَمٍّ أَوْ مَسَرَّةٍ بِرَجَاءٍ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: حَرِّكْ مُنَاك إذَا اغْتَمَمْت فَإِنَّهُنَّ مَرَاوِحُ.
وَقَالَ آخَرُ: إذَا تَمَنَّيْت بِتَّ اللَّيْلَ مُغْتَبِطًا إنَّ الْمُنَى رَأْسُ أَمْوَالِ الْمَفَالِيسِ.
(5) وَمِنْهَا الْهُمُومُ الَّتِي تُذْهِلُ اللُّبَّ، وَتَشْغَلُ الْقَلْبَ، فَلاَ تَتْبَعُ الاحْتِمَالَ وَلاَ تَقْوَى عَلَى صَبْرٍ. وَقَدْ قِيلَ: الْهَمُّ كَالسُّمِّ.
وَقَالَ بَعْضُ الأدباء: الْحُزْنُ كَالدَّاءِ الْمَخْزُونِ فِي فُؤَادِ الْمَحْزُونِ.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
هُمُومُك بِالْعَيْشِ مَقْرُونَةٌ فَمَا تَقْطَعُ الْعَيْشَ إلا بِهِمْ
إذَا تَمَّ أَمْرٌ بَدَا نَقْصُهُ تَرَقَّبْ زَوَالا إذَا قِيلَ تَمْ
إذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا فَإِنَّ الْمَعَاصِيَ تُزِيلُ النِّعَمْ
وَحَامِ عَلَيْهَا بِشُكْرِ الإله فَإِنَّ الإلهَ سَرِيعُ النِّقَمْ
حَلاَوَةُ دُنْيَاك مَسْمُومَةٌ فَمَا تَأْكُلُ الشَّهْدَ إلا بِسُمْ
فَكَمْ قَدَرٌ دَبَّ فِي مُهْلَةٍ فَلَمْ يَعْلَمْ النَّاسُ حَتَّى هَجَمْ.
(6) وَمِنْهَا الأمْرَاضُ الَّتِي يَتَغَيَّرُ بِهَا الطَّبْعُ مَا يَتَغَيَّرُ بِهَا الْجِسْمُ، فَلاَ تَبْقَى الأخْلاَقُ عَلَى اعْتِدَالٍ وَلاَ يُقْدَرُ مَعَهَا عَلَى احْتِمَالٍ.
قَالَ الْمُتَنَبِّي:
آلَةُ الْعَيْشِ صِحَّةٌ وَشَبَابُ فَإِذَا وَلَّيَا عَنْ الْمَرْءِ وَلَّى
وَإِذَا الشَّيْخُ قَالَ أُفٍّ فَمَا مَلَّ حَيَاةً وَإِنَّمَا الضَّعْفَ مَلاَ
وَإِذَا لَمْ تَجِدْ مِنْ النَّاسِ كُفُئًا ذَاتَ خِدْرٍ أَرَادَتْ الْمَوْتَ بَعْلاَ أَبَدًا
تَسْتَرِدُّ مَا تَهَبُ الدُّنْيَا فَيَا لَيْتَ جُودَهَا كَانَ بُخْلاَ(10/304)
(7) وَمِنْهَا عُلُوُّ السِّنِّ وَحُدُوثُ الْهَرَمِ لِتَأْثِيرِهِ فِي آلَةِ الْجَسَدِ كَذَلِكَ يَكُونُ تَأْثِيرُهُ فِي أَخْلاَقِ النَّفْسِ، فَكَمَا يَضْعُفُ الْجَسَدُ عَنْ احْتِمَالِ مَا كَانَ يُطِيقُهُ مِنْ أَثْقَالٍ فَكَذَلِكَ تَعْجِزُ النَّفْسُ عَنْ أَثْقَالِ مَا كَانَتْ تَصْبِرُ عَلَيْهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْوِفَاقِ، وَمَضِيقِ الشِّقَاقِ. وَكَذَلِكَ مَا ضَاهَاهُ.
فَهَذِهِ سَبْعَةُ أَسْبَابٍ أَحْدَثَتْ سُوءَ خُلُقٍ كَانَ عَامًّا. وَهَا هُنَا سَبَبٌ خَاصٌّ يُحْدِثُ سُوءَ خُلُقٍ خَاصٍّ وَهُوَ الْبُغْضُ الَّذِي تَنْفِرُ مِنْهُ النَّفْسُ فَتُحْدِثُ نُفُورًا عَلَى الْمُبْغَضِ، فَيَؤُولُ إلَى سُوءِ خُلُقٍ يَخُصُّهُ دُونَ غَيْرِهِ. فَإِذَا كَانَ سُوءُ الْخُلُقِ حَادِثًا بِسَبَبٍ كَانَ زَوَالُهُ مَقْرُونًا بِزَوَالِ ذَلِكَ السَّبَبِ، ثُمَّ بِالضِّدِّ.
خطر فقدان الأخلاق:
إن انعدام الأخلاق السوية من المجتمع يفقد الدين معناه وجدواه ومبرر وجوده، وتصبح الحياة بذلك غابة يسودها الخوف والفوضى وغرائز اللذة والعدوان والنفعية الجافة المقيتة؛ لذلك بعث الله سبحانه رسله تترى، وجعل أخلاقهم في تمام السواء والكمال، كي تتعزز التوجيهات الربانية الشفوية بالقدوة العملية التي تمشي على قدمين، ويتغير سلوك الأمم والأقوام بتغير الأفكار والنفوس والعقائد (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد 11:].
إن استقراء التاريخ عبر حقبه الماضية والمعاصرة، ليكشف بكل وضوح تأثير الأخلاق ودورها في رقي الأمم أو اندحارها. فيوم مكن الله للأمة الإسلامية لم يكن النصر لسيوفهم بقدر ما كان لعقيدتهم وحسن أخلاقهم، وهو ما شهد به العدو قبل الصديق والنائي قبل الداني.
ويوم تحولت قصور الأندلس إلى مواخير لداعر وداعرة، هما ولادة والمعتمد، وأمثالهما من فسقة الأدباء والمتأدبين، ومترفي المخنثين والمتصابين، أخرج أهلها منها أذلة صاغرين.
وفي اليوم الذي كان فيه خليفة المسلمين يتلهى برقص جاريته ومخنثيه، دخل هولاكو بغداد منتصرا، وكان ما كان مما جرت بذكره الركبان ودونه التاريخ بدمع ودم.(10/305)
وفي عصرنا هذا، ونحن نشهد من انحطاط الأخلاق وتسيب التصرفات ما يخجل القلم من تسطيره، واللسان من ذكره، والمخيلة من تصوره، سلط الله تعالى علينا شرقا وغربا ما دعاه المتداعون إلى القصعة "حرب الإرهاب" بقيادة الصهيونية العالمية، ومشاركة بعض المسلمين لهم من صغار النفوس ضعاف الهمة فسقة الجوارح أغبياء العقول فاسدي القول والعمل. أليس في هذا ما يشرح قوله تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا) [الطلاق: 8]، وقوله عز وجل (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الأنفال: 53]
(9) سلامة الصدر:
معنى سلامة الصدر:
قال الشوكاني رحمه الله في السلوك الإسلامي القويم:
سلامة الصدر المراد به "عدم الحقد والغل والبغضاء".
ثم ذكر رحمه الله تعالى الأحاديث الآتية:
(حديث الزبير بن العوام الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دَبَّ إليكم داءُ الأممِ من قبلِكم: الحسدُ و البغضاء، والبُغْضةُ هي الحالقة، لا أقول حالقة الشعر ولكن حالقةَ الدين، و الذي نفس محمد بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا و لن تؤمنوا حتى تحابوا ألا أنبئكم بما يُثّبتُ ذلك أفشوا السلام بينكم.
دب إليكم: سار إليكم.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: و الذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا و لا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا. أهـ
إنَّ من لوازم التقوى سلامة الصدر من الغل والحقد والحسد والضغائن والرذائل قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1](10/306)
ولا يكون صلاح ذات البين إلا بسلامة الصدر من تلك الآفات.
لذا فإن دين الإسلام قد حرص حرصاً شديداً على أن تكون الأمة أمةً واحدة في قلبها وقالبها، وأن تكون الأمة على قلب رجلٍ واحد لا تحاسد بينهم ولا تباغض. تسودها عواطف الحب المشترك والود الشائع والتعاون على البر والتقوى، والتناصح البناء الذي يثمر إصلاح الأخطاء مع صفاء القلوب وتآلفها دون فرقة وغل وحسد ووقيعة وكيد وبغي. وقد جاءت الآيات القرآنية والآثار النبوية منسجمة متناسقة متضافرة لتحقيق ذلك المقصد الشرعي الكبير. فمن تلك الآيات قول الله تعالى في الطائفتين المقتتلتين من المؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10] فالأخوة الإيمانية تعلو على كل خلاف مهما اشتدت وطأته واضطرمت شدته وبلغ حد الاشتباك المسلح.
أما الأحاديث فمنها ما يلي:
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا.
(حديث النعمان بن بشير الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ (1) وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ (2) سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى (3).
(حديث أبي موسى الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.
وكان من دعائه صلى الله عليه وآله وسلم: (واسلل سخيمة صدري (4). كما في الحديث الآتي:
__________
(1) توادهم: تحابهم
(2) تداعى له: شاركه فيما هو فيه
(3) الحُمَّى: علة يستحر بها الجسم
(4). السخيمة: الحقد والضغينة والموجدة في النفس. (لسان العرب: 12/ 282) مادة: سخم(10/307)
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) قال: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو يَقُولُ رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ وَاهْدِنِي وَيَسِّرْ الْهُدَى لِي وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا لَكَ ذَكَّارًا لَكَ رَهَّابًا لَكَ مِطْوَاعًا لَكَ مُخْبِتًا إِلَيْكَ أَوَّاهًا مُنِيبًا رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي وَاغْسِلْ حَوْبَتِي وَأَجِبْ دَعْوَتِي وَثَبِّتْ حُجَّتِي وَسَدِّدْ لِسَانِي وَاهْدِ قَلْبِي وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ (1) صَدْرِي.
وهذه منقبة وخلة عظيمة الشأن قليل هم الذين يتحلون بها؛ لأنه عسيرٌ على النفس أن تتجرد من حظوظها، وتتنازل عن حقوقها لغيرها، هذا مع ما يقع من كثير من الناس من التعدي والظلم، فإذا قابل المرء ظلم الناس وجهلهم وتعديهم بسلامة صدر، ولم يقابل إساءتهم بإساءة، ولم يحقد عليهم، نال مرتبة عالية من الأخلاق الرفيعة والسجايا النبيلة. وهو عزيز ونادر في الناس، ولكنه يسير على من يسره الله عليه.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ وَالْفَاجِرُ خِبٌّ لَئِيمٌ.
قوله: (والمؤمن غرٌ كريم) قال المباركفوري: وفي النهاية: أي ليس بذي مكر، فهو ينخدع لانقياده ولينه، وهو ضد الخب، يريد أن المؤمن المحمود من طبعه الغرارة وقلة الفطنة للشر وترك البحث عنه، وليس ذلك منه جهلاً، ولكنه كرم وحسن خلق، كذا في المرقاة. وقال المناوي: أي يغره كل أحد ويغيره كل شيء ولا يعرف الشر وليس بذي مكر، فهو ينخدع لسلامة صدره وحسن ظنه. وقوله: (والفاجر خب لئيم) أي بخيل لجوج سيء الخلق (2).
__________
(1). السخيمة: الحقد والضغينة والموجدة في النفس. (لسان العرب: 12/ 282) مادة: سخم
(2). تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي (6/ 84). وفيه تقديم وتأخير.(10/308)
ولقد ضرب الصحابة - رضي الله عنهم - أروع الأمثلة في سلامة القلوب وطهارة الصدور، فكان لهم من هذه الصفة أوفر الحظ والنصيب، فلقد كانوا رضي الله عنهم صفاً واحداً يعطف بعضهم على بعض ويرحم بعضهم بعضاً ويحب بعضهم بعضاً كما وصفهم جل وعلا بذلك حيث قال: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] وكما قال جل ذكره في وصفهم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} [الفتح: 29]
ولقد كان لسلامة الصدر عندهم منزلة كبرى حتى إنهم جعلوها سبب التفاضل بينهم:
قال إياس بن معاوية بن قرة عن أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((كان أفضلهم عندهم أسلمهم صدراً وأقلهم غيبة))
وقد قال سفيان بن دينار لأبي بشر أحد السلف الصالحين: أخبرني عن أعمال من كان قبلنا؟ قال: كانوا يعملون يسيراً ويؤجرون كثيراً. قال سفيان: ولم ذاك؟ قال أبو بشر: لسلامة صدورهم.
قال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة:
ومن آدابها: سلامة الصدر للإخوان والأصحاب، والنصيحة لهم، وقبول النصيحة منهم، وأصله قوله تعالى: (إِلاّ مَنْ أَتَى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 89]
أورد أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة عن سريا السقطي قال: " من أخلاق الأبدال (1) سلامة الصدر، والنصيحة للإخوان "
فضائل سلامة الصدر:
(1) من فضائل سلامة الصدر أنها صفة أهل الجنة الذين هم خير أهل ومعشر قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء 88، 89]
وصاحب القلب السليم هو الذي سلم صدره وعوفي فؤاده من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدينار والرياسة فسلم من كل آفة تبعد عن الله تعالى.
(2) ومن فضائل سلامة الصدر أن صاحبها خير الناس وأفضلهم بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
__________
(1) الأبدال: الأولياء والعُبَّاد، سُمُّوا بذلك لأنهم كلما مات واحد منهم أُبْدِلَ بآخر.(10/309)
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: خَيْرُ النَّاسِ ذُو القَلْبِ المَخْمُومِ وَاللِّسَانِ الصَّادِقِ، قِيلَ: مَا القَلبُ المَخْمُومُ؟ قَالَ: هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ الَّذِي لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ وَلَا حَسَد، قِيلَ: فَمَنْ عَلَى أَثَرِهِ؟ قَالَ: الَّذِي يَشْنَأُ الدُّنْيَا وَيُحِبُ الْآخِرَةَ قِيلَ: فَمَنْ عَلَى أَثَرِهِ؟ قَالَ: مُؤْمِنٌ فِي خُلُقٍ حَسَنٍ.
(3) ومن فضائل سلامة الصدر جمعية القلب على الخير والبر والطاعة والصلاح فليس أروح للمرء ولا أطرد للهم ولا أقر للعين من سلامة الصدر على عباد الله المسلمين.
(4) ومن فضائل سلامة الصدر أنها تقطع سلاسل العيوب وأسباب الذنوب فإن من سلم صدره وطهر قلبه عن الإرادات الفاسدة والظنون السيئة عف لسانه عن الغيبة والنميمة وقالة السوء.
(5) ومن فضائل سلامة الصدر أن فيها صدق الإقتداء بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسلم الناس صدراً وأطيبهم قلباً وأصفاهم سريرة، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.
أسباب سلامة الصدر:
إن لسلامة الصدر أسباباً وطرقاً لابد من سلوكها. فمن تلك الأسباب ما يلي:
(1) الإخلاص لله تعالى:
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم إخلاص العمل لله ومناصحة أئمة المسلمين ولزوم جماعتهم فإن الدعوة تحيط من ورائهم.
قال ابن الأثير عند هذا الحديث: إن هذه الخلال الثلاث تستصلح بها القلوب فمن تمسك بها طهر قلبه من الخيانة والدخل والشر.
(2) ومن أسباب سلامة الصدر الإقبال على كتاب الله تعالى الذي أنزله شفاء لما في الصدور قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57](10/310)
فكلما أقبلت ياعبد الله على كتاب الله تلاوة وحفظاً وتدبراً وفهماً صلح صدرك وسلم قلبك.
(3) ومن أسباب سلامة الصدر دعاء الله تعالى أن يجعل قلبك سليماً من الضغائن والأحقاد على إخوانك المؤمنين قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}
[الحشر: 10]
(4) ومن طرق إصلاح القلب وسلامة الصدر إفشاء السلام بين المسلمين، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: و الذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا و لا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم.
(5) ومن أسباب سلامة الصدر الابتعاد عن سوء الظن فإنه بئس سريرة الرجل قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا.
فانظر كيف بدأ بالنهي عن سوء الظن لأنه الذي عنه تصدر سائر الآفات المذكورة في الحديث فالواجب عليك ياعبد الله أن تطهر قلبك من سوء الظن ما وجدت إلى ذلك سبيلاً.
الآفات.
(10) إحسان الظن بالإخوان وعدم التجسس عليهم:
ومن حسن المعاشرة بين الإخوان إحسان الظن بهم، وحمل كلامهم وما يصدر منهم من الأفعال على أحسن المحامل. ونُهينا عن ظن السوء فإنه أكذب الحديث، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا.(10/311)
والمراد بالنهي هنا هو النهي عن ظن السوء. قال الخطابي: هو تحقيق الظن وتصديقه دون ما يهجس في النفس؛ فإن ذلك لا يملك. ومراد الخطابي أن المحرم من الظن ما يستمر صاحبه عليه، ويستقر في قلبه، دون ما يعرض في القلب ولا يستقر، فإن هذا لا يكلف به كما سبق في حديث: (تجاوز الله تعالى عما تحدثت به الأمة ما لم تتكلم أو تعمد) وسبق تأويله على الخواطر التي لا تستقر، قاله النووي (1). وقال القرطبي: المراد بالظن هنا التهمة التي لا سبب لها كمن يتهم رجلاً بالفاحشة من غير أن يظهر عليه ما يقتضيها، ولذلك عطف عليه قوله: {ولا تجسسوا} وذلك أن الشخص يقع له خاطر التهمة فيريد أن يتحقق فيتجسس ويبحث ويستمع، فنهي عن ذلك، وهذا الحديث يوافق قوله تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظّنّ إِنّ بَعْضَ الظّنّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ تَوّابٌ رّحِيمٌ) [الحجرات: 12] فدل سياق الآية على الأمر بصون عرض المسلم غاية الصيانة، لتقدم النهي عن الخوض فيه بالظن، فإن قال الظان أبحث لأ تحقق، قيل له: {ولا تجسسوا} فإن قال تحققت من غير تجسس قيل له: {وَلاَ يَغْتَب بّعْضُكُم بَعْضاً} (2).
{فائدة}: من إحسان الظن بالإخوان؛ حمل كلامهم على أحسن المحامل، فإذا بلغك شيءٌ تكرهه، فالتمس له العذر، وقل: لعله أراد كذا، ولعله أراد كذا، حتى لا تجد له محملاً.
ذم التجسس على المسلم:
أخرج عبد الرزاق وعبد بن حُمَيد والخرائطي عن المِسْور بن مَخْرَمة عن عبد الرحمن بن عوف أنه حرس مع عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ ليلةً المدينة، فبينما هم يمشون شبَّ لهم سراج في بيت، فانطلقوا يؤمونه، فلما دنوا منه إذا باب مُجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولَغَط. فقال عمر ـ وأخذ بيد عبد الرحمن بن عوف ـ: أتدري بيت من هذا؟ قال: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خَلَف وهم الآن شَرْب فما ترى؟ قال: أرى أن قد أتينا ما نهى الله عنه، قال الله: {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} (سورة الحجرات: الآية: 12) فقد تجسسنا فانصرف عنهم عمر رضي الله عنه وتركهم.
قصة عمر - رضي الله عنه - مع رجل ومع جماعة في هذا الشأن:
__________
(1). شرح صحيح مسلم. المجلد الثامن (16/ 101)
(2). فتح الباري (10/ 496)(10/312)
وأخرج ابن المنذر وسعيد بن منصور عن الشَّعْبي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد رجلاً من أصحابه، فقال لابن عوف رضي الله عنه: انطلق بنا إلى منزل فلان فننظر، فأتيا منزله فوجدا بابه مفتوحاً وهو جالس وامرأته تصب له في الإناء فتناوله إياه، فقال عمر لابن عوف: هذا الذي شغله عنا. فقال ابن عوف لعمر: وما يُدريك ما في الإِناء؟ فقال عمر: أتخاف أن يكون هذا هو التجسس؟ قال: بل هو التجسس. قال: وما التوبة من هذا؟ قال: لا تُعلمه بما اطَّلعت عليه من أمره، ولا يكونَنَّ في نفسك إلاَّ خيراً، ثم انصرفا. كذا في الكنز.
تسوّر عمر - رضي الله عنه - على المغني بيته:
وأخرج الخرائطي عن ثَوحر الكندي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يَعُس بالمدينة من الليل، فسمع صوت رجل في بيت يتغنَّى، فتسوَّر عليه فقال: يا عدو الله، أظننت أن الله يسترك وأنت في معصية فقال: وأنت يا أمير المؤمنين لا تعجل عليَّ؛ إن أكن عصيت الله واحدة فقد عصيت الله في ثلاث قال: "ولا تجسسوا" وقد تجسست. وقال: {وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِهَا} (سورة البقرة، الآية: 189) وقد تسوَّرت عليَّ، ودخلت عليَّ بغير إذن وقال الله تعالى: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا} (سورة النور، الآية: 27) قال عمر: فهل عندك من خير إن عفوت عنك؟ قال: نعم، فعفا عنه وخرج وتركه. كذا في الكنز.
قصة عمر - رضي الله عنه - مع شيخ كبير في هذا الشأن:(10/313)
وأخرج أبو الشيخ عن السُّدِّي قال: خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإذا هو بضوء نار ومعه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فأتْبَع الضوء حتى دخل داراً فإذا بسراج في بيت، فدخل وذلك في جوف الليل، فإذا شيخ جالس وبين يديه شراب وقَيْنة تغنِّيه، فلم يشعر حتى هجم عليه عمر، فقال عمر: ما رأيت كالليلة منظراً أقبح من شيخ ينتظر أجله فرفع رأسه إليه، فقال: بلى، يا أمير المؤمنين ما صنعت أنت أٌبح أتجسست وقد نُهي عن التجسس، ودخلت بغير إذن؟ فقال عمر: صدقت. ثم خرج عاضاً على ثوبه يبكي وقال: ثكلت عمر أمه إن لم يغفر له ربه، يجد هذا كان يستخفي به من أهله فيقول الآن رآني عمر فيتتابع فيه. وهجر الشيخ مجلس عمر حيناً، فبينا عمر بعد ذلك جالس إذ به قد جاء شبه المستخفي حتى جلس في أخريات الناس، فرآه عمر فقال: عليَّ بهذا اشيخ، فأُتي فقيل له: أجب، فقام وهو يرى أن عمر سيسوءه بما رأى منه، فقال عمر: ادنُ مني، فما زال يدنيه حتى أجلسه بجنبه، فقال: إدنِ مني أذنك، فالتقم أذنه فقال: أما والذي بعث محمداً بالحق رسولاً ما أخبرت أحداً من الناس بما رأيت منك ولا ابن مسعود فإنه كان معي، فقال: يا أمير المؤمنين أدنِ مني أذنك، فالتقم أذنه فقال: ولا أنا والذي بعث محمداً بالحق رسولاً ما عدت إليه حتى جلست مجلسي هذا، فرفع عمر صوته يكبِّر، فما يدري الناس من أي شيء يكبر. كذا في الكنز.
قصة عمر - رضي الله عنه - مع أبي محجن الثقفي:
وأخرج الطبراني عن أبي قِلابة أن عمر رضي الله عنه حُدِّث أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر في بيته هو وأصحاب له، فانطلق عمر حتى دخل عليه، فإذا ليس عنده إلا رجل، فقال أبو محجن: يا أمير المؤمنين إن هذا لا يحل لك قد نهاك الله عن التجسس؛ فقال عمر: ما يقول؟ فقال له زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن الأرقم ـ رضي الله عنهما ـ: صدق يا أمير المؤمنين، هذا من التجسس، فخرج عمر وتركه. كذا في الكنز.
(11) كظم الغيظ والعفو عن الناس:
لما كانت مخالطة الناس ومعاشرتهم ـ لا بد ـ وأن يعتريها شيءٌ من التقصير والتفريط والتعدي من بعضهم على بعض إما بقولٍ أو فعلٍ؛ أُستحب لمن ظُلم أن يكظم غيظه ويعفو عمن ظلمه، قال تعالى: (وَالّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ) [الشورى: 37](10/314)
وقال تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النّاسِ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 134] قوله: {والكاظمين الغيظ} أي: إذا حصل لهم من غيرهم أذية توجب غيظهم وهو امتلاء قلوبهم من الحنق، الموجب للانتقام بالقول والفعل، هؤلاء لا يعملون بمقتضى الطباع البشرية، بل يكظمون ما في القلوب من الغيظ، ويصبرون عن مقابلة المسيء إليهم.
والكاظم غيظه مع قدرته على إنفاذه موعود على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخير جزيل بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث معاذ ابن أنس الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ.
أخرج أبو نُعيم في الحلية عن أبي المتوكل أن أبا هريرة رضي الله عنه كانت له زنجية قد غمتهم بعملها، فرفع عليها السوط يوماً فقال: لولا القصاص لأغشيتك به، ولكني سأبيعك ممن يوفيني ثمنك، اذهبي فأنت لله.
وَهُوَ قادرٌ على أَنْ يُنَفِّذَهُ: بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ يُمْضِيَهُ.
وقوله: {والعافين عن الناس} يدخل في العفو عن الناس، العفو عن كل من أساء إليك بقول أو فعل. والعفو أبلغ من الكظم، لأن العفو ترك المؤاخذة، مع السماحة عن المسيء،
وقال تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [سورة: الأعراف - الآية: 199]
وقال تعالى: (فَاصْفَحِ الصّفْحَ الْجَمِيلَ) [سورة: الحجر - الآية: 85]
وقال تعالى: (وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوَاْ أَلاَ تُحِبّونَ أَن يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ) [سورة: النور - الآية: 22]
وقال تعالى: (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاُمُورِ) [سورة: الشورى - الآية: 43]
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة(10/315)
(حديث عائشة في الصحيحين) أنها قالت لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هل أتى عليك يومٌ كان أشد من أحد؟ لقد لقيت من قومك ما لقيت، و كان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كُلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت و أنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا و أنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع كلام قومك لك و ما ردوا عليك و قد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال يا محمد! فقال ذلك فما شئت إن شئت أطبق عليهم الأخشبين قلت: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا.
معنى الأخشبين: الجبلان المحيطان بمكة، والأخشب الجبل الغليظ.
والله تعالى يزيدك بعفوك عزاً بنص السنة الصحيحة:
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما نقصت صدقة من مال و ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا و ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله.
(حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهمت الثابت في صحيح الأدب المفرد) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ارْحَمُوا تُرْحَمُوا , اغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ , وَيْلٌ لِأَقْمَاعِ الْقَوْلِ , وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
أَقْمَاعُ الْقَوْلِ: هُمْ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْقَوْلَ وَلَا يَعُونَهُ وَلَا يَفْهَمُونَهُ.
(حديثا ابن مسعود في الصحيحين) قال: كأني أنظر إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحكي نبياً ضربه قومُهُ فأدمَوه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
وهذا إنما يكون ممن تحلى بالأخلاق الجميلة، وتخلى عن الأخلاق الرذيلة، وممن تاجر مع الله، وعفا عن عباد الله، رحمة بهم، وإحساناً إليهم، وكراهة حصول الشر عليهم، وليعفو الله عنه، ويكون أجره على ربه الكريم، لا على العبد الفقير، كما قال تعالى: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} اهـ (1).
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
__________
(1). تفسير الكلام المنان في تفسير كلام الرحمن. لابن سعدي (آل عمران آية 134)(10/316)
قَالَ صَالِحٌ ابن الإمام أحمد: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي يَوْمًا فَقُلْتُ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى فَضْلٍ الْأَنْمَاطِيِّ فَقَالَ لَهُ: اجْعَلْنِي فِي حِلٍّ إذَا لَمْ أَقُمْ بِنُصْرَتِكَ , فَقَالَ فَضْلٌ: لَا جَعَلْتُ أَحَدًا فِي حِلٍّ , فَتَبَسَّمَ أَبِي وَسَكَتَ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابن الإمام أحمد: قَالَ أَبِي: وَجَّهَ إلَيَّ الْوَاثِقُ أَنْ اجْعَلْ الْمُعْتَصِمَ فِي حِلٍّ مِنْ ضَرْبِهِ إيَّاكَ , فَقُلْتُ مَا خَرَجْتُ مِنْ دَارِهِ حَتَّى جَعَلْتُهُ فِي حِلٍّ. وَذَكَرْتُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يَقُومُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا مَنْ عَفَا} فَعَفَوْتُ عَنْهُ.
وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: أَفْضَلُ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِ الْعَفْوُ. وَرَوَى أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مُجَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: كُلُّ النَّاسِ مِنِّي فِي حِلٍّ.
قال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة:
ومن آدابها: الصفح عن عثرات الإخوان وترك تأنيبهم عليها، قال الله تعالى: (فَاصْفَحِ الصّفْحَ الْجَمِيلَ) [الحجر: 85]
في التفسير: أن لا يكون فيه تقريع، ولا تأنيب، ولا توقيف، ولا معاتبة. وقيل أيضا: هو رضا بلا عتاب.
أورد أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة عن الفضيل بن عياض يقول: " الفتوة: العفو عن عثرات الإخوان "
وأورد أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة عن الأصمعي قال: قال أعرابي: " تَنَاسَ مساوئَ الإخوان يدم لك ودهم "(10/317)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يونس بن عبد الأعلى يقول: قال لي الشافعي ذات يوم: يا يونس إذا بلغت عن صديق لك ما تكرهه فإياك أن تبادر بالعداوة وقطع الولاية، فتكون ممن أزال يقينه بشك، ولكن ألقه وقل له: بلغني عنك كذا وكذا، وأجدر أن تسمى المبلغ، فإن أنكر ذلك فقل له: أنت أصدق وأبر، ولا تزيدن على ذلك شيئاً. وإن اعترف بذلك فرأيت له في ذلك وجهاً بعذر فاقبل منه، وإن لم يرد ذلك فقل له: ماذا أردت بما بلغني عنك؟ فإن ذكر ماله وجه من العذر فاقبله، وإن لم يذكر لذلك وجها لعذر وضاق عليك المسلك فحينئذ أثبتها عليه سيئة أتاها. ثم أنت في ذلك بالخيار، إن شئت كافئه بمثله من غير زيادة، وإن شئت عفوت عنه، والعفو أبلغ للتقوى وأبلغ في الكرم، لقول الله تعالى: (وَجَزَآءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللّهِ إِنّهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ) [الشورى: 40]. فإن نازعتك نفسك بالمكافأة فاذكر فيما سبق له لديك، ولا تبخس باقي إحسانه السالف لهذه السيئة، فإن ذلك الظلم بعينه وقد كان الرجل الصالح يقول: رحم الله من كافأني على إساءتي من غير أن يزيد ولا يبخس حقاً لي. يا يونس، إذا كان لك صديق فشد يديك به، فإن اتخاذ الصديق صعب ومفارقته سهل. وقد كان الرجل الصالح يشبه سهولة مفارقة الصديق بصبي يطرح في البئر حجراً عظيماً فيسهل طرحه عليه، ويصعب إخراجه على الرجال البرك فهذه وصيتي لك. والسلام.
{تنبيه}: اعلم علم اليقين الذي لا يخالطه شك أن كظم الغيظ يمكن اكتسابه بترويض النفس فلا ينبغي للإنسان أن يستوطئ العجز ولا أن يقول أنني جُبلت على ذلك فإنه من يتحرى الخير يُعطه ومن يتق الشر يُوَقَّه بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّمَا العِلْمُ بِالتَّعَلُمِ وَإِنَّمَا الحِلْمُ بِالتَّحَلُمِ وَمَنْ يَتَحَرَّ الخَيْرَ يُعْطَهُ وَمَنْ يَتَقِ الشَّرَ يُوّقَّهُ.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إنما العلم) أي تحصيله.(10/318)
(بالتعلم) بضم اللام على الصواب كما قاله الزركشي ويروى بالتعليم أي ليس العلم المعتبر إلا المأخوذ عن الأنبياء وورثتهم على سبيل التعليم وتعلمه طلبه واكتسابه من أهله وأخذه عنهم حيث كانوا فلا علم إلا بتعلم من الشارع أو من ناب عنه منابه وما تفيده العبادة والتقوى والمجاهدة والرياضة إنما هو فهم يوافق الأصول ويشرح الصدور ويوسع العقول ثم هو ينقسم لما يدخل تحت دائرة الأحكام ومنه ما لا يدخل تحت دائرة العبادات وإن كان مما يتناوله الإشارة ومنه ما لا تفهمه الضمائر وإن أشارت إليه الحقائق في وضوحه عند مشاهده وتحققه عند متلقيه فافهم قال ابن مسعود تعلموا فإن أحدكم لا يدري متى يحتاج إليه وقال ابن سعد ما سبقنا ابن شهاب للعلم إلا أنه كان يشد ثوبه عند صدره ويسأل وكنا تمنعنا الحداثة وقال الثوري من رق وجهه رق علمه وقال مجاهد لا يتعلم مستحي ولا متكبر وقيل لابن عباس بما نلت هذا العلم قال بلسان سؤول وقلب عقول
(وإنما الحلم بالتحلم) أي ببعث النفس وتنشيطها إليه قال الراغب: الحلم إمساك النفس عن هيجان الغضب والتحكم إمساكها عن قضاء الوطر إذا هاج الغضب
(ومن يتحر الخير يعطه) أي ومن يجتهد في تحصيل الخير يعطه اللّه تعالى إياه.
(ومن يتق الشر يوقه) زاد الطبراني والبيهقي في روايتيهما ثلاث من كن فيه لم يسكن الدرجات العلى ولا أقول لكم الجنة من تكهن أو استقسم أو ردّه من سفر تطير.
(تنبيه) قال بعضهم: ويحصل العلم بالفيض الإلهي لكنه نادر غير مطرد فلذا تمم الكلام نحو الغالب قال الراغب: الفضائل ضربان نظري وعملي وكل ضرب منها يحصل على وجهين أحدهما بتعلم بشرى يحتاج إلى زمان وتدرب وممارسة ويتقوى الإنسان فيه درجة فدرجة وإن فيهم من يكفيه أدنى ممارسة بحسب اختلاف الطبائع في الذكاء والبلادة، والثاني يحصل بفيض إلهي نحو أن يولد إنسان عالماً بغير تعلم كعيسى ويحيى عليهما الصلاة والسلام وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام الذين حصل لهم من المعارف بغير ممارسة ما لم يحصل لغيرهم وذكر بعض الحكماء أن ذلك قد يحصل لغير الأنبياء عليهم السلام في الفيئة بعد الفيئة وكلما كان يتدرب فقد يكون بالطبع كصبي يوجد صادق اللّهجة وسخياً وجريئاً وآخر بعكسه وقد يكون بالتعلم والعادة فمن صار فاضلاً طبعاً وعادة وتعلماً فهو كامل الفضيلة ومن كان رذلاً فهو كامل الرذيلة.(10/319)
{تنبيه}: العفو عن الزلات والهنات والمظلمات ليس ضعفاً ولا نقصاناً، بل هو رفعة لصاحبها وعزاً، بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ.
والمتآخيين في الله جديرٌ بهم أن يتجاوزوا عن زلات بعضهم، ويعفوا محسنهم عن مسيئهم، فإنهم إذا تم لهم ذلك سلمت قلوبهم وتصافت، وعاشوا في أحسن حال.
{فائدة}: من العفو قبول عذر المسيء، وفيه أقوالٌ بليغة:
قال الحسن بن علي -رضي الله عنهما- لو أن رجلاً شتمني في أذني هذه، واعتذر في الأخرى، لقبلت عذره ما يعلم كذبه.
ولله درُ من قال:
قيل لي: قد أساء إليك فلانٌ ... وقعود الفتى عن الضيم عارُ
قلت: قد جاءنا فأحدث عذراً ... دية الذنب عندنا الاعتذارُ
وقال الأحنف: إن اعتذر إليك معتذرٌ فتلقه بالبشر (1).
(12) النهي عن التحاسد والتباغض والهجر:
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا.
(حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ.
(حديث أبي خراش السلمي رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ.
__________
(1). الآداب الشرعية (1/ 319)(10/320)
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[فيغفر فيها لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه و بين أخيه شحناء فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا]
(فيغفر فيهما لكل عبد لا يشرك باللّه شيئاً) أي ذنوبه الصغائر بغير وسيلة طاعة.
(إلا رجل كان بينه وبين أخيه شحناء) أي عداوة
(فيقال انظروا) يعني أخروا
(هذين حتى يصطلحا)
[*] قال أبو داود: إذا كان الهجر للّه فليس من هذا فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم هجر بعض نسائه أربعين يوماً وابن عمر هجر ابناً له حتى مات.
ذم الحسد:
الحسد داءٌ وبيل بل إنه من قبائح الذنوب وفواحش الذنوب، والحسد مذموم وصاحبه مغموم،
والحسد ينم عن نفسِ خبيثةٍ إذ هو تمني زوال النعمة عن صاحبها والعياذ بالله وهذا يدل على سوء النية وقبح الطوية وسقامة الضمائر وخبث السرائر إذ لو كانت نفسه طيبة لطلب الفضل من الله تعالى الذي لا يعجزه شيءٌ أعطاه بدلاً من أن يحسد الناس على فضل الله تعالى.
قال تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلَىَ مَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مّلْكاً عَظِيماً) [سورة: النساء - الآية: 54]
[*] قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره:
قوله تعالى:" أم يحسدون" يعني اليهود" الناس " يعني النبي صل الله عليه وسلم خاصة عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما حسدوه على النبوة وأصحابه على الإيمان به وقال قتادة الناس العرب، حسدتهم اليهود على النبوة الضحاك: حسدت اليهود قريشا لأن النبوة فيهم والحسد مذموم وصاحبه مغموم:(10/321)
وهو يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب رواه أنس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال الحسن: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من حاسد، نفس دائم وحزن لازم وعبرة لا تنفد وقال عبد الله بن مسعود: لا تعادوا نعم الله قيل له: ومن يعادي نعم الله؟ قال الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله يقول الله تعالى في بعض الكتب الحسود عدو نعمت متسخط لقضائي غير راض بقسمتي.
[*] ولمنصور الفقيه:
إلا قل لمن ظل لي حاسداً أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في حكمه إذا أنت لم ترض لي ما وهب
ويقال: الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء، وأول ذنب عصي به في الأرض فأما في السماء فحسد إبليس لآدم وأما في الأرض فحسد قابيل لهابيل:
[*] ولأبي العتاهية في الناس:
فيا رب إن الناس لا ينصفونني فكيف ولو أنصفتهم ظلموني
وإن كان لي شيء تصدوا لأخذه وإن شئت أبغي شيئهم منعوني
وإن نالهم بذلي فلا شكر عندهم وإن أنا لم أبذل لهم شتموني
وإن طرقتني نكبة فكهوا بها وإن صحبتني نعمة حسدوني
سأمنع قلبي أن يحن إليهمو وأحجب عنهم ناظري وجفوني
وقيل: إذا سرك أن تسلم من الحاسد فغم عليه أمرك ولرجل من قريش:
حسدوا النعمة لما ظهرت فرموها بأباطيل الكلم
وإذا ما الله أسدى نعمة لم يضرها قول أعداء النعم
[*] ولقد أحسن من قال:
اصبر على حسد الحسو د فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله
[*] وقال بعض أهل التفسير في قوله تعالى:" ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين" [فصلت: 29] إنه إنما أراد بالذي من الجن إبليس والذي من الإنس قابيل، وذلك إن إبليس كان أول من سن الكفر، وقابيل كان أو من سن القتل، وإنما كان أصل ذلك كله الحسد.
[*] وقال الشاعر:
إن الغراب وكان يمشي مشيةً فيما مضى من سالف الأحوال
حسد القطاة فرام يمشي مشيها فأصابه ضب من التعقال(10/322)
قوله تعالى:" فقد آتينا " ثم أخبر تعالى أنه آتى آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتاهم ملكاً عظيماً قال همام بن الحارث: أيدوا بالملائكة وقيل: يعني ملك سليمان عن ابن عباس. وعنه أيضاً: المعنى أم يحسدون محمداً على ما أحل الله له من النساء فيكون الملك العظيم على هذا أنه أحل لداود تسعاً وتسعين امرأة ولسليمان أكثر من ذلك واختار الطبري أن يكون المراد ما أوتيه سليمان من الملك وتحليل النساء والمراد تكذيب اليهود والرد عليهم في قولهم: لو كان نبياً ما رغب في كثرة النساء ولشغلته النبوة عن ذلك فأخبر الله تعالى بما كان لداود وسليمان يوبخهم فأقرت اليهود أنه اجتمع عند سليمان ألف امرأة، فقال لهم النبي صلى لاله عليه وسلم:
"ألف امرأة " قالوا: نعم ثلاثمائة مهرية، وسبعمائة سرية، وعند داود مائة امرأة فقال لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألف عند رجل ومائة عند رجل أكثر أو تسع نسوة فسكتوا وكان له يومئذ تسع نسوة.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تحاسدوا و لا تناجشوا و لا تباغضوا و لا تدابروا و لا يبع بعضكم على بيع بعض و كونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يخْذُلُه و لا يَحْقره التقوى هاهنا - و أشار إلى صدره - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه و ماله و عرضه.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[لا تحاسدوا]
(حديث الزبير بن العوام في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دَبَّ إليكم داءُ الأممِ من قبلِكم: الحسدُ و البغضاء، والبُغْضةُ هي الحالقة، لا أقول حالقة الشعر ولكن حالقةَ الدين، و الذي نفس محمد بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا و لن تؤمنوا حتى تحابوا ألا أنبئكم بما يُثّبتُ ذلك أفشوا السلام بينكم.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[دَبَّ إليكم داءُ الأممِ من قبلِكم: الحسدُ و البغضاء]
(دب إليكم) أي سار إليكم
(داء الأمم قبلكم) أي عادة الأمم الماضية
(الحسد والبغضاء)
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:(10/323)
ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أُصُولُ الشَّرِّ ثَلَاثَةٌ: الْحِرْصُ , وَالْحَسَدُ , وَالْكِبْرُ , فَالْكِبْرُ مَنَعَ إبْلِيسَ مِنْ السُّجُودِ لِآدَمَ , وَبِالْحِرْصِ أُخْرِجَ آدَم مِنْ الْجَنَّةِ , وَالْحَسَدُ حَمَلَ ابْنَ آدَمَ عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ.
قال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة:
ومن آدابها: أن لا يحسد إخوانه على ما يرى عليهم من آثار نعم الله، بل يفرح بذلك ويحمد الله على ما يرى من النعمة عليهم، كما يحمده بنعمته على نفسه. قال تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلَىَ مَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ) [النساء: 54] وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " لا تحاسدوا "
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
ومن آدابها: مجانبة التباغض والتحاسد فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن ذلك فقال: " لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا " أعلم صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن التباغض والتحاسد يسقطان عن درجة الأخوة، وأن صحبة الأخوة وكرم الصحبة ما كان منزها عن هذه الخصال المذمومة، فلا تصح حسن العشرة إلا بصحبة الأخوة.(10/324)
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن بكر بن عبد الله، قال: كان فيمن كان قبلكم ملك وكان له حاجب يقربه ويدنيه، وكان هذا الحاجب يقول: أيها الملك أحسن إلى المحسن ودع المسيء تكفك إساءته، قال: فحسده رجل على قربه من الملك فسعى به، فقال: أيها الملك إن هذا الحاجب هوذا يخبر الناس أنك أبخر، قال: وكيف لي بأن أعلم ذلك? قال: إذا دخل عليك تدنيه لتكلمه فإنه يقبض على أنفه، قال فذهب الساعي فدعا الحاجب إلى دعوته واتخذ مرقة وأكثر فيها الثوم، فلما أن كان من الغد دخل الحاجب فأدناه الملك ليكلمه بشيء فقبض على فيه، فقال الملك: تنح فدعا بالدواة وكتب له كتاباً وختمه وقال اذهب بهذا إلى فلان وكانت جائزته مائة ألف، فلما أن خرج استقبله الساعي فقال: أي شيء هذا، قال: قد دفعه إلي الملك، فاستوهبه فوهبه له فأخذ الكتاب ومر به إلى فلان فلما أن فتحوا الكتاب دعوا بالذباحين فقال: اتقوا الله يا قوم فإن هذا غلط وقع علي، وعاودوا الملك؛ فقالوا: لا يتهيأ لنا معاودة الملك، وكان في الكتاب إذا أتاكم حامل كتابي هذا فاذبحوه واسلخوه واحشوه التبن ووجهوه إلي، فذبحوه وسلخوا جلده ووجهوا به إليه، فلما أن رأى الملك ذلك تعجب، فقال للحاجب تعال وحدثني وأصدقني لما أدنيتك لماذا قبضت على أنفك? قال: أيها الملك إن هذا دعاني إلى دعوته واتخذ مرقة وأكثر فيها الثوم فأطعمني فلما أن أدناني الملك قلت يتأذى الملك بريح الثوم، فقال: ارجع إلى مكانك وقل ما كنت تقوله ووصله بمال عظيم، أو كما ذكره.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي، قال: الحسد إنما يكون من لؤم العنصر، وتعادي الطبائع، واختلاف التركيب، وفساد مزاج البنية، وضعف عقد العقل. الحاسد طويل الحسرات عادم الدرجات.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال: إن الله تعالى يقسم المحبة كما يقسم الرزق وكل ذا من الله تعالى، وإياكم والحسد، فإنه ليس له دواء، من عامل الله عز وجل بالصدق أورثه الله عز وجل الحكمة.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال: المؤمن قليل الكلام كثير العمل، والمنافق كثير الكلام قليل العمل، كلام المؤمن حكم، وصمته تفكر، ونظره عبرة، وعمله بر، وإذا كنت كذا لم تزل في عبادة.
أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضيل قال المؤمن يغبط ولا يحسد الغبطة من الإيمان والحسد من النفاق.(10/325)
قال الذهبي رحمه الله: قلت هذا يفسر لك قوله عليه الصلاة والتسليم لا حسد إلا في اثنتين رجل أتاه الله مالا ينفقه في الحق ورجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار فالحسد هنا معناه الغبطة أن تحسدوا أخاك على ما آتاه الله لا أنك تحسده بمعنى أنك تود زوال ذلك عنه فهذا بغي وخبث.
وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ فَسَمِعَهُ جَارٌ لَهُ فَقَالَ لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلَانٌ فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُهْلِكُهُ فِي الْحَقِّ فَقَالَ رَجُلٌ لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلَانٌ فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَآخَرُ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا.
والتباغض ضد التحاب، والتدابر هو الهجران.
حُكْمُ هَجْرِ أَهْلِ الْمَعَاصِي:
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
يُسَنُّ هَجْرُ مَنْ جَهَرَ بِالْمَعَاصِي الْفِعْلِيَّةِ وَالْقَوْلِيَّةِ وَالِاعْتِقَادِيَّة قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: إذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُقِيمٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ وَهُوَ يَعْلَمُ بِذَلِكَ لَمْ يَأْثَمْ إنْ هُوَ جَفَاهُ حَتَّى يَرْجِعَ , وَإِلَّا كَيْفَ يَتَبَيَّنُ لِلرَّجُلِ مَا هُوَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَرَ مُنْكِرًا وَلَا جَفْوَةً مِنْ صَدِيقٍ؟ أهـ
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم.(10/326)
وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَضْحَكُ فِي جِنَازَةٍ. فَقَالَ: أَتَضْحَكُ مَعَ الْجِنَازَةِ؟ لَا أُكَلِّمُك أَبَدًا.
وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ امْرَأَةٌ فِي خُلُقِهَا سُوءٌ , فَكَانَ يَهْجُرُهَا السَّنَةَ وَالْأَشْهُرَ , فَتَتَعَلَّقُ بِثَوْبِهِ فَتَقُولُ: أَنْشُدُك بِاَللَّهِ يَا ابْنَ مَالِكٍ أَنْشُدُك بِاَللَّهِ يَا ابْنَ مَالِكٍ فَمَا يُكَلِّمُهَا.
وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ وَقِيلَ لَهُ: إنَّ قَوْمًا يُكَذِّبُونَ بِالشَّفَاعَةِ وَقَوْمًا يُكَذِّبُونَ بِعَذَابِ الْقَبْرِ , قَالَ: لَا تُجَالِسُوهُمْ.
وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ جَعَلَ فِي عَضُدِهِ خَيْطًا مِنْ الْحُمَّى: لَوْ مِتَّ وَهَذَا عَلَيْك لَمْ أُصَلِّ عَلَيْك.
وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ: إنْ أَتَيْتُك بِرَجُلٍ يَتَكَلَّمُ فِي الْقَدَرِ؟ فَقَالَ: لَوْ أَتَيْتَنِي بِهِ لَأَوْجَعْت رَأْسَك , ثُمَّ قَالَ: لَا تُكَلِّمْهُمْ وَلَا تُجَالِسْهُمْ.
{تنبيه}: الهجر قد يكون لحق الله وهو الهجر على وجه التأديب، وقد يكون لحظ النفس. فما كان لحظ النفس لم يُرخص فيه فوق ثلاث ليالٍ، وعليه يُنزل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تُفتح أبواب الجنة يوم الأثنين ويوم الخميس، فيُغفر لكل عبدٍ لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا) ولفظ الترمذي: (إلا المتهجرين، يقال ردوا هذين حتى يصطلحا) (1). وما كان لحق الله؛ كهجران صاحب المنكرات حتى يتوب منها، كما هجر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثلاثة الذين خُلفوا حتى أنزل الله توبتهم. وهذه لم تحدد بوقت؛ بل متى ما حصل المقصود امتنع الهجر وحرُم (2).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
__________
(1). رواه مسلم (2565)، وأحمد (7583)، والترمذي (2023)، وأبو داود (4916)، وابن ماجه (1740)، ومالك (1686)
(2). انظر الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (28/ 203 - 209)(10/327)
وهذا الهجر [هجر التأديب] يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله. فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يُفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعاً. وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف، بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته، لم يشرع الهجر؛ بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر. والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف؛ ولهذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتألف قوماً ويهجر آخرين. اهـ (1).
{فائدة}: رخص الشرع في هجر المسلم أخاه ثلاثة أيام، إذا كان هجراً لحظ النفس، ولم يُبح له أن يزيد على ذلك. والحكمة في ذلك أن النفس البشرية تنتابها من العوارض والحوادث ما يجعلها تغضب، فرُخص لمن وجد على أخيه أن يهجره ثلاثة ليالٍ وهي كافية في كسر سورة الغضب وزوال موجدته على أخيه. ومُثل ذلك المحادة على غير زوجٍ، فقد رُخص لها أن تحد ثلاثة أيام ولا تزيد على ذلك للعلة نفسها؛ فالموت من أعظم المصائب والنفس ينالها من الحزن ما ينالها، فأُبيح لها أن تحد وتُرسل نفسها في التنفيس عن مصابها غير متجاوزة ثلاثة أيام. ولله الحكمة البالغة.
(13) النهي عن التنابز (2) بالألقاب:
إن التنابز بالألقاب من آفات اللسان التي تجلب الإثم، وتوغر الصدور، وتسبب الفرقة بين الإخوان؛ التنابر بالألقاب، وتلقيب الآخرين بألقاب مُشينة مذمومة يُعيرون بها، ويُضحك عليهم منها، وفيه نهيٌ من الله جل في علاه، قال تعالى: (وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإَيمَانِ) [الحجرات: 11]. والمسلم الحق من سلم المسلمون من لسانه ويده.
(حديث أَبُي جَبِيرَةَ بْنُ الضَّحَّاكِ - رضي الله عنه - الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قَالَ:
فِينَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي بَنِي سَلَمَةَ (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ) قَالَ قَدِمَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ مِنَّا رَجُلٌ إِلَّا وَلَهُ اسْمَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ
__________
(1). الفتاوى (28/ 206)
(2). في اللسان: وتنابزوا بالالقاب أي لقب بعضهم بعضاً، والتنابز: التداعي بالألقاب وهو يكثر فيما كان ذماً. (5/ 413) مادة: نبز(10/328)
فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ يَا فُلَانُ فَيَقُولُونَ مَهْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَغْضَبُ مِنْ هَذَا الِاسْمِ فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ).
وعامة الناس اليوم يكثر فيهم هذا، وهو من العدوان بالقول، ومن أوزار اللسان وآفاته. والناجي من أخذ بلسانه وكفه عن أعراض المسلمين، ولم ينالهم بسوء. وقانا الله وإياكم آفات اللسان وسقطاته.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن معاذ قال: أفواه الرجال حوانيتها وشفتاها مغاليقها، وأسنانها مخاليبها، فإذا فتح الرجل باب حانوته تبين لك العطار من البيطار.
(14) استحباب الإصلاح بين الإخوان:
لا محيد عن وجود بعض الخصام والنزاع بين الإخوان، مما قد ينتج عنه بعض الشحناء والإحن بينهم. والموفق من الناس من جعله الله مصلحاً بين المتهاجرين أو المتخاصمين، والإصلاح بين الناس من أفضل القربات وأجل الطاعات، ويترتب عليه الأجر العظيم بنص القرآن والسنة الصحيحة، بل هو أفضل من درجة الصيام والصلاة وقد حثنا الله تعالى على إصلاح ذات البين في محكم التنزيل منها مايلي:
قال تعالى: (لاّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مّن نّجْوَاهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَآءَ مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (النساء / 114)
النجوى: السر بين الاثنين، تقول: ناجيت فلاناً مناجاة *
ومعنى (لاّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مّن نّجْوَاهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النّاسِ): لا خير في كثير من نجواهم إلا نجوى من أمر بصدقةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النّاسِ، ثم وعد الله تعالى من يفعل هذه الخصال الثلاث ابتغاء مرضاته فسوف يؤتيه أجراً عظيماً فقال سبحانه
(وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَآءَ مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)
وقال تعالى: (فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ) (الأنفال / 1)
وقال تعالى: (إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (الحجرات / 10)
والسنة الصحيحة طافحةُ بالحث على إصلاح ذات البين منه ما يلي:(10/329)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: كُلُّ سُلَامَى مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ يَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ وَيُمِيطُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ.
الشاهد من الحديث: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعدل بين الاثنين صدقة.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: كُلُّ سُلَامَى عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ يُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ يُحَامِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ وَدَلُّ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ.
(حديث أبي الدر داء الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
) ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة) أي بدرجة هي أفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة.
(إصلاح ذات البين) أي إصلاح أحوال البين حتى تكون أحوالكم أحوال صحبة وألفة أو هو إصلاح الفساد والفتنة التي بين القوم.
(فإن فساد ذات البين هي الحالقة) أي الخصلة التي شأنها أن تحلق أي تهلك وتستأصل الدين كما يستأصل الموسى الشعر أو المراد المزيلة لمن وقع فيها لما يترتب عليه من الفساد والضغائن وذلك لما فيه من عموم المنافع الدينية والدنيوية من التعاون والتناصر والألفة والاجتماع على الخير حتى أبيح فيه الكذب وكثرة ما يندفع من المضرة في الدنيا والدين بتشتت القلوب ووهن الأديان من العداوات وتسليط الأعداء وشماتة الحساد فلذلك صارت أفضل الصدقات.
الرخصة في الكذب بين المتخاصمين بما يوجب الصلح:(10/330)
والشرع المطهر حريص على اجتماع الكلمة، وتوحيد الصفوف، وسلامة القلوب، وينهى عن الاختلاف والتباعد والمفارقة. ومن أجل ذلك رُخص للمصلح بين الناس أن يكذب، وليس هو بآثم.
(حديث أم كلثوم بنت عقبة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا.
زاد مسلم (وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ الْحَرْبُ وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا)
(حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها الثابت في صحيح الترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ يُحَدِّثُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا وَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ وَالْكَذِبُ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ.
(حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا يَصْلُحُ الْكَذِبُ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: يُحَدِّثُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا وَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ وَالْكَذِبُ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ.
وأولوا الألباب خليق بهم أن يكونوا سباقين للإصلاح بين الناس، فلا ينبغي لهم العزوف عنه، ولا الحيدة عن طريقه بعد ما عرفوا ما فيه من الأجر العظيم.
قال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة:
ومن آدابها: مجانبة الحقد، ولزوم الصلح، والعفو عن الإخوان.
أورد أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة عن هلال بن العلاء قال: " جعلت على نفسي أن لا أكافئ أحدا بسوء ولا عقوق، وذهب إلى هذه الأبيات: لما عفوت ولم أحقد على أحد أرحت نفسي من هم العداوات إني أحيي عدوي عند رؤيته لأدفع الشر عني بالتحيات وأظهر البشر (1) للإنسان أبغضه كأنه قد ملا قلبي محبات "
(15) تحريم المنّ:
__________
(1) البِشْر: هو طَلاقة الوجه وبشاشَتُه والسرور(10/331)
غالباً ما يكون بين الإخوان تهادي وأُعطيات، فهذا يهدي لهذا، وهذا يُعطي هذا. وهذا من تمام المعاشرة بينهم، وداعي إلى دوامها واستقرارها. ولكن النفوس الضعيفة تسلك سبيل المنِّ عند العطاء إما بُخلاً أو عُجباً. قال القرطبي: المن غالباً يقع من البخيل والمعجب، فالبخيل تعظم في نفسه العطية وإن كانت حقيرة في نفسها، والمعجب يحمله العجب على النظر لنفسه بعين العظمة وأنه منعم بماله على المعطي والمنُّ محرمٌ في الشرع، والمنَّانُ مذموم وعلى خطر عظيم. قال ابن مفلح: ويحرم المنُّ بما أعطى، بل هو كبيرة على نصِّ أحمد. اهـ (1). والآيات والأحاديث قاضية بتحريم المنِّ، كقوله تعالى: (الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة: 262]
(حديث أبي ذر الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مِرَارًا قَالَ أَبُو ذَرٍّ خَابُوا وَخَسِرُوا مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْمُسْبِلُ وَالْمَنَّانُ وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ.
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح النسائي) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنَّانٌ وَلَا عَاقٌّ وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ.
(16) حفظ السر وعدم إفشاؤه:
وهو من الأمانات التي يجب حفظها وكتمانها. والمُفشي للسر خائنٌ للأمانة، وهي من خصال المنافقين، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ.
__________
(1). الآداب الشرعية (1/ 336)(10/332)
(حديث عبد الله ابن عمرو الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ.
(حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: اضْمَنُوا لِي سِتَاً مِنْ أَنْفُسِكُم أَضْمَنُ لَكُم الجَنَّةَ اصْدُقُوا إِذَا حَدَثْتُم وَأَوفُوا إِذَا وَعَدتُم وَأَدُوا إِذَا ائْتُمِنْتُم وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُم وَغُضُوا أَبْصَارَكُم وَكُفُوا أَيْدِيَكُم.
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال: جاءت امرأة إلى رسول الله تعرض عليه نفسها، قالت يا رسول الله، ألك بي حاجة؟ فقالت بنت أنس: ما أقل حياءك، واسوأتاه واسوأتاه، قال هي خير منك، رغبت في النبي فعرضت عليه نفسها.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) يحدث: أن عمر بن الخطاب، حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله، فتوفي بالمدينة، فقال عمر ابن الخطاب: أتيت عثمان بن عفان، فعرضت عليه حفصة، فقال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا. قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إلي شيئا، وكنت أوجدَ عليه مني على عثمان، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدتَ علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئا؟ قال عمر: قلت: نعم، قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي، إلا أني كنت علمت أن رسول الله قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله، ولو تركها رسول الله قبلتها.
(حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ بِالْحَدِيثِ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ.
وهذا من حرص الشرع وعنايته بحفظ الناس لأسرارهم، حيث عدَّ التفات المتكلم على وجه التأكد من خلو المكان، قائماً مقام قوله: هذا سرٌ فاكتمه عني.
قال بعض الحكماء: قلوب الأحرار قبور الأسرار.(10/333)
أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن الحسن رحمه الله قال: إن من الخيانة أن تُحَدِّثَ بِسِرِّ أخيك.
أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:
ولا تفش سرك إلا إليك: فإن لكل نصيحٍ نصيحا
فإني رأيت غواة الرجال لا يتركون أديما صحيحا.
وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: ما وضعت سري عند أحد أفشاه علي فلمته إنما كنت أضيق به حيث استودعته إياه.
وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن رجل من همدان قال سمعت أعرابيا يقول لابن عم له إن سِرَّك من دينك فلا تضعه إلا عند من تثق به.
(17) ذم ذي الوجهين:
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ شَرَّ النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ.
قال القرطبي: إنما كان ذو الوجهين شر الناس لأن حاله حال المنافق، إذ هو متملق بالباطل والكذب، مدخل للفساد بين الناس. وقال النووي: هو الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها، فيظهر لها أنه منها ومخالف لضدها، وصنيعه نفاق محض كذب وخداع وتحيل وإطلاع على أسرار الطائفتين، وهي مداهنة محرمة. قال: فأما من يقصد بذلك الإصلاح بين الطائفتين فهو محمود. وقال غيره: الفرق بينهما أن المذموم من يزين لكل طائفة عملها ويقبحه عند الأخرى ويذم كل طائفة عند الأخرى، والمحمود أن يأتي لكل طائفة بكلام فيه صلاح للأخرى ويعتذر لكل واحدة عن الأخرى، وينقل إليه ما أمكنه من الجميل ويستر القبيح. اهـ (1).
(حديث عمار ابن ياسر الثابت في صحيح أبي داود) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ وَجْهَانِ فِي الدُّنْيَا كَانَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِسَانَانِ مِنْ نَارٍ.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الأدب المفرد) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا يَنْبَغِي لِذِي الوَجْهَينِ أَنْ يَكُونَ أَمِينَاً.
__________
(1). فتح الباري (10/ 490)(10/334)
(حديث أَبِي الشَّعْثَاءِ رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ إنَّا نَدْخُلُ عَلَى أَمِيرِنَا فَنَقُولُ الْقَوْلَ فَإِذَا خَرَجْنَا قُلْنَا غَيْرَهُ قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النِّفَاقِ "
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ تَعِيرُ إِلَى هَذِهِ مَرَّةً وَإِلَى هَذِهِ مَرَّةً.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح النسائي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ تَعِيرُ فِي هَذِهِ مَرَّةً وَفِي هَذِهِ مَرَّةً لَا تَدْرِي أَيَّهَا تَتْبَعُ.
(كمثل الشاة العائرة): المترددة المتحيرة.
(تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة): أي تعطف على هذه وعلى هذه.
(لا تدري أيهما تتبع) لأنها غريبة ليست منهما، فكذا المنافق لا يستقر بالمسلمين ولا بالكافرين بل يقول لكل منهم أنا منكم.
(18) التحلي بالسَمْتِ الصالح:
يجب على طالب العلم أن يتحلى بفضيلة السمت الصالح وهو حسن الهيئة في الدين من الوقار والسكينة والخشوع وغيرها لأنها جزء من النبوة بنص السنة الصحيحة.
(حديث ابن عباس في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: السمت الصالح والهدي الصالح والاقتصاد جزء من خمسةٍ و عشرين جزءا من النبوة.
(19) التحلي بفضيلتي الحِلمِ والأناة:
يجب على المسلم أن يُروِّض نفسه على الحلم والأناة فإنه من يتحرى الخير يعطه ومن يتقِ الشر يُوَقَّه، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث ابن عباس في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لأشج عبد القيس: إن فيك لخصلتين يحبهما الله تعالى: الحلم و الأناة.
(حديث سعد بن أبي وقاص في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة.
(حديث أنس في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: التأني من الله والعجلة من الشيطان.
مسألة: كيف يكتسب الإنسان فضيلتي الحِلمِ والأناة؟
يكتسب الإنسان فضيلتي الحِلمِ والأناة بشيئين متلازمين:(10/335)
أحدهما: ترويض النفس على الخير، فإن النفس إذا روضتها على الخير اكتسبت هذا الخلق وصار من صفاتها فإنه من يتحر الخير يعطه بنص السنة الصحيحة
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنما العلم بالتعلم و إنما الحلم بالتحلم و من يتحر الخير يعطه و من يتق الشر يوقه.
(ومن يتحر الخير يعطه) أي ومن يجتهد في تحصيل الخير يعطه اللّه تعالى إياه
والثاني الصدق: فإن الله تعالى إذا اطَّلع على قلبك ورأى منك الصدق أوصلك إلى ما تصبو إليه.
(حديث شداد بن الهادي في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن تصدق الله يصدقك.
(20) التحلي بفضيلة الرفق:
إن الرفق مما يقوي الروابط بين الإخوان، ويعمق الصلة بينهم، فـ (الله يحب الرفق في الأمر كله) وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ.
(حديث جرير ابن عبد الله الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ يُحْرَمْ الرِّفْقَ يُحْرَمْ الْخَيْرَ
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ.
(حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ.
(حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ.(10/336)
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أَنَّ الْيَهُودَ أَتَوْا النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكَ قَالَ وَعَلَيْكُمْ فَقَالَتْ عَائِشَةُ السَّامُ عَلَيْكُمْ وَلَعَنَكُمْ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْكُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَهْلًا يَا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ أَوْ الْفُحْشَ قَالَتْ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ.
(حديث عائشة الثابت في صحيح أبي داود) قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا بَلَغَهُ عَنْ الرَّجُلِ الشَّيْءُ لَمْ يَقُلْ مَا بَالُ فُلَانٍ يَقُولُ وَلَكِنْ يَقُولُ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا.
ومادام ذلك كذلك، فالإخوان أحرى وأولى أن يرفق بعضهم ببعض، وأن يلين بعضهم لبعض.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنَ النَّاسِ.
(21) التحلي بفضيلة احتمال الأذى:
(حديث أَنَسِ الثابت في الصحيحين) قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً قَالَ أَنَسٌ فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن رجلاً قال يا رسول الله إن لي قرابةً أصلهم ويقطعوني وأُحسِن إليهم ويُسِيئون إليَّ وأحلمُ عنهم ويجهلون عليَّ فقال: لئن كنت كما قلت فكأنما تُسِفُّهِمُ الملَّ و لا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك.
(22) التحلي بفضيلة الجود والسخاء والإنفاق في وجوه الخير:(10/337)
من الصفات التي يجب على المسلم أن يتحلى بها إذا أراد أن يتأسى بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضيلة الجود والسخاء والإنفاق في سبيل الله تعالى، فقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جودُه متتابع وكرمه فياض وكان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان جوده يعم كل من يقابله، وكان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يرد سائلاً.
[*] والكتاب والسنة الصحيحة طافحان بما يحث على الجود والسخاء والإنفاق في سبيل الله تعالى.
وإليك بعض ما ورد في ذلك فارعها سمعك وفكرك واجعل لها في سمعك مسمعاً وفي قلبك موقعاً عسى الله أن ينفعك بها ويوفقك إلى تطبيقها.
قال تعالى: (وَمَآ أَنفَقْتُمْ مّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ) [سورة: سبأ - الآية: 39]
و قال تعالى: (وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) [سورة: البقرة - الآية: 272]
(حديث ابن مسعود في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق و رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها و يُعَلِمُها ... (حديث عدي ابن حاتم في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اتق النارَ ولو بشقِ تمرة.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى [أنفق يا ابن آدم أُنفق عليك]
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خَلَفَاً و يقول الآخر: اللهم أعط مُمْسِكَاً تَلَفّا.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع)) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً.
(حديث عبد الله ابن عمرو في الصحيحين) أن رجلاً سأل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي الإسلامُ خير؟ قال: تُطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما نقصت صدقة من مال و ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا و ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله.(10/338)
(حديث أبي كبشة الأنماري في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَحسنِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْماً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الأجرِ سَوَاءٌ، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً فَهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ لاَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلاَ يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فهو بِأَسوءِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلاَ عِلْماً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الوزر سَوَاءٌ.
(حديث عبد الله ابن الشخير في صحيح مسلم) أنه انتهي إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يقرأ (أَلْهَاكُمُ التّكّاثُرُ) قال: قال يقول بن آدم مالي مالي. وهل لك يا بن آدم من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت أو أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من تصدق بعدل تمرةٍ من كسب طيب و لا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يُرَبِيها له كما يربي أحدكم فَلَوَّه حتى تكون مثل الجبل.
معنى الفَلُّو: المهر وهو صغير الحصان، واختير في التشبيه لأنه يزيد زيادةً بينة بسرعة.
(حديث ابن عباس في الصحيحين) قال كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجود الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، و كان يلقاه في كل ليلةٍ من رمضان فيُدارسه القران فلرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجود بالخير من الريح المرسلة
{تنبيه}: السرُّ في تشبيه جود النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالريح المرسلة أن الريح المرسلة تعم كل من يقابلها، وهكذا كان جود النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يَعُمُ من يقابله.
(23) التحلي بفضيلة الإيثار:
يجب على المسلم أن يتحلى بفضيلة الإيثار لما فيه من الفضل العظيم والأجر الجسيم، فالإيثار يظهر معدن الأخيار(10/339)
قال تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىَ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [سورة: الحشر - الآية: 9]
قال القرطبي رحمه الله تعالى في قوله تعالى:" ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " الإيثار: هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنياوية، ورغبة في الحظوظ الدينية. وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة. يقال: آثرته بكذا، أي خصصته به وفضلته. .
قوله تعالى: " ولو كان بهم خصاصة " الخصاصة: الحاجة التي تختل بها الحال، وأصلها من الاختصاص وهو انفراد بالأمر. فالخصاصة الانفراد بالحاجة، أي لو كان بهم فاقة وحاجة.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) قال: جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إني مجهود، فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. ثم أرسل إلى الأخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء فقال: من يضيف هذا الليلة رحمة الله.؟ فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله. فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ فقالت: لا، إلا قوت صبياني. قال: فعليهم بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل، فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه قال: فقعدوا وأكل الضيف. فلما أصبح غدا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: قد عجب الله عز وجل من صنيعكم. "
(24) التحلي بفضيلة المواساة في السَنَةِ والمجاعة:
من الفضائل التي يجب على المسلم أن يتحلى بها فضيلة المواساة في السَنَةِ والمجاعة فإنها من أجلِّ القربات وأعظم الطاعات لما فيها من تفريج الكربات.
(حديث أبي موسى الأشعري في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جعلوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني و أنا منهم.
معنى أرملوا: أي فرغ زادهم أو قارب الفراغ.
(حديث أبي سعيد في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له و من كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له، فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حقَّ لأحدٍ منا في فضل.(10/340)
(حديث محمد بن المنكدر في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أفضل العمل إدخال السرور على المؤمن تقضي عنه دينا تقضي له حاجة تنفس له كربة.
(25) التحلي بفضيلة إقراض القرض والتجاوز عن المعسر:
ومن الفضائل التي ينبغي على المسلم أن يتحلى بها إقراض القروض والتجاوز عن المعسر لما فيهما من تنفيس الكروب وتفريج الهموم.
(حديث ابن مسعود في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقتها مرة.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كان رجل يداين الناس فإذا رأى معسراً قال لفتيانه: تجاوز عنه لعل الله أن يتجاوز عنا الله فتجاوز الله عنه.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من يسرَّ على مسلمٍ يسرَّ الله عليه في الدنيا والآخرة.
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
(26) التحلي بفضيلة التكسب والتجارة والاستغناء عن الناس:
من أعظم ما يتحلى به المؤمن التحلي بفضيلة التكسب والتجارة والاستغناء عن الناس، والسنة المشرفة طافحةٌ بما يحث على فضيلة التكسب وعمل الإنسان بيده ليستغني بالله تعالى عن الناس، ومن ذلك ما يلي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (والذي نفسي بيده، لأن يأخذ أحدكم حَبْله، فيحتطبَّ على ظهره، خيرٌ له من أن يأتيَ رجلاً فيسألَه، أعطاهُ أو مَنَعه)
(حديث المقدام بن معد يكرب الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (ما أكل أحدٌ طعامٌ قط، خيرٌ من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكلُ من عمل يده)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (كان زكرياء نجاراً)
(حديث عُمَرَ بنِ الْخَطّابِ رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لَوْ أَنّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكّلُونَ عَلَى الله حَقّ تَوَكّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطّيْرُ تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً ".(10/341)
(حديث أبي بردة بن نيار رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:
أَفْضَلُ الْكَسْبَِْ بَيْعٌ مَبْرُورٌ وَعَمَلُ الرَجُلِ بِيَدِه.
قال الإمام المناوي رحمه الله في فيض القدير:
(أفضل الكسب بيع مبرور) أي لا غش فيه ولا خيانة أو معناه مقبول في الشرع بأن لا يكون فاسداً أو مقبول عند اللّه بأن يكون مثاباً عليه.
(عمل الرجل بيده) من نحو صناعة أو زراعة وقيد العمل باليد لكون أكثر مزاولته بها وخص الرجل لأنه المحترف غالباً لا لإخراج غيره وظاهر الحديث تساويهما في الأفضلية قال بعضهم وقد قيل له لا تتبع التكسب فيدنيك من الدنيا فقال لئن أدناني من الدنيا فقد صانني عنها.
(حديث أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ.
(التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ إِلَخْ) أَيْ: مَنْ تَحَرَّى الصِّدْقَ وَالْأَمَانَةَ في البيع كَانَ فِي زُمْرَةِ الْأَبْرَارِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ.
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (ليستغن أحدكم عن الناس بقضيب سواك)
وبين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن العبد إذا رزقه الله مالاً وعلما فهو بأحسن المنازل عند الله بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:(10/342)
(حديث أبي كبشة الأنماري الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَحسنِ الْمَنَازِلِ عند الله، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْماً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الأجرِ سَوَاءٌ، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً فَهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ لاَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلاَ يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فهو بِأَسوءِ الْمَنَازِلِ عند الله، وَرجلٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلاَ عِلْماً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الوزر سَوَاءٌ.
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
قَالَ الْمَرْوَزِيُّ: سَمِعْت رَجُلًا يَقُولُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ إنِّي فِي كِفَايَةٍ قَالَ الْزَمْ السُّوقَ تَصِلُ بِهِ الرَّحِمَ وَتَعُودُ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ. وَقَالَ أَحْمَدُ لِلْمَيْمُونِيِّ اسْتَغْنِ عَنْ النَّاسِ فَلَمْ أَرَ مِثْلَ الْغَنِيِّ عَنْ النَّاسِ وَقَالَ رَجُلٌ لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَعَدَ فِي بَيْتِهِ وَزَعَمَ أَنَّهُ يَثِقُ بِاَللَّهِ فَيَأْتِيه بِرِزْقِهِ قَالَ: إذَا وَثِقَ بِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنْ قَدْ وَثِقَ بِهِ لَمْ يَمْنَعْهُ شَيْء أَرَادَهُ وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا الْأَنْبِيَاءُ وَلَا غَيْرُهُمْ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}.
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَتْرُكُ التِّجَارَةَ وَيُقْبِلُ عَلَى الصَّلَاةِ يَعْنِي وَرَجُلٌ يَشْتَغِلُ بِالتِّجَارَةِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ قَالَ التَّاجِرُ الْأَمِينُ.
وَتَرَكَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ دَنَانِيرَ: فَقَالَ اللَّهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَجْمَعْهَا إلَّا لِأَصُونَ بِهَا دِينِي وَحَسَبِي , لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَجْمَعُ الْمَال فَيَقْضِي دَيْنَهُ وَيَصِلُ رَحِمَهُ وَيَكُفُّ بِهِ وَجْهَهُ. أهـ(10/343)
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
َقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قِيلَ لِأَحْمَدَ: مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ جَلَسَ فِي بَيْتِهِ أَوْ مَسْجِدِهِ وَقَالَ: لَا أَعْمَلُ شَيْئًا حَتَّى يَأْتِي رِزْقِي؟ فَقَالَ أَحْمَدُ هَذَا رَجُلٌ جَهِلَ الْعِلْمَ أَمَا سَمِعَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ جَعَلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي} وَقَالَ حِينَ ذَكَرَ الطَّيْرَ {تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا} وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَّجِرُونَ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَيَعْمَلُونَ فِي نَخْلِهِمْ , وَالْقُدْوَةُ بِهِمْ.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَيْسَ الْعِبَادَةُ عِنْدَنَا أَنْ تَصُفَّ قَدَمَيْك وَغَيْرُك يَتْعَبُ لَك وَلَكِنْ ابْدَأْ بِرَغِيفِك فَاحْرُزْهُمَا ثُمَّ تَعَبَّدْ.
أورد ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية عن سفيان الثَّوْرِيُّ قَالَ لَأَنْ أَخْلُفَ عَشْرَةَ آلَاف دِرْهَمٍ يُحَاسِبُنِي اللَّهُ عَلَيْهَا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْتَاجَ إلَى النَّاسِ.
أورد الزركشي رحمه الله في الغرر السافر فيما يحتاج إليه المسافر أن رجلاً قال لمعروف الكرخي: يا أبا محفوظ! أتحرك لطلب الرزق أم أجلس؟ قال: لا بل تحرك، فإنه أصلح لك، فقال له أتقول هذا؟! فقال: وما أنا قلت، ولكن الله عز وجل أمر به، قال الكريم: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} [مريم:25] ولو شاء أن ينزله عليها (1).
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن جريج، قال: قال لي عطاء: جاءني طاووس فقال لي: يا عطاء إياك أن ترفع حوائجك إلى من أغلق دونك بابه وجعل دونك حجاباً، وعليك بطلب حوائجك إلى من بابه مفتوح إلى يوم القيامة، طلب منك أن تدعوه ووعدك بالإجابة.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي الأحوص سلام بن سليمل قال: قال لي سفيان الثوري: عليك بعمل الأبطال، الكسب من الحلال، والإنفاق على العيال، قال: وكان سفيان الثوري إذا أعجبه تجر الرجل، قال: نعم الفتى إن عوجل.
مسألة: كيف نجمع بين الحديث الآتي وبين حديث أنس كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ.
__________
(1) تاريخ بغداد: (13/ 199)، طبعة دار الفكر.(10/344)
(حديث عُمَرَ رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قَالَ:
كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ فَكَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً فَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ وَمَا بَقِيَ يَجْعَلُهُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
(حديث أَنَسٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ.
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كَشْفِ الْمُشْكِلِ فِيمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيث عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْخُذُ نَفَقَةَ سَنَةٍ} قَالَ فِيهِ جَوَازُ ادِّخَارِ قُوتِ سَنَةٍ وَلَا يُقَالُ هَذَا مِنْ طُولِ الْأَمَلِ لِأَنَّ الْإِعْدَادَ لِلْحَاجَةِ مُسْتَحْسَنٌ شَرْعًا وَعَقْلًا , وَقَدْ اسْتَأْجَرَ شُعَيْبُ مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى جَهَلَةِ الْمُتَزَهِّدِينَ فِي إخْرَاجِهِمْ مَنْ يَفْعَلُ هَذَا عَنْ التَّوَكُّلِ , فَإِنْ احْتَجُّوا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَدَّخِرُ لَغَدٍ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ خَلْقٌ مِنْ الْفُقَرَاءِ فَكَانَ يُؤْثِرُهُمْ انْتَهَى كَلَامُهُ.
إباحة جمع المال للقائم بحقوقه:
(حديث عمرو بن العاص الثابت في صحيح الأدب المفرد) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: نعم المال الصالح للمرء الصالح.
(حديث يسار بن عُبيد الثابت في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا بأس بالغنى لمن اتقى و الصحة لمن اتقى خير من الغنى و طيب النفس من النعيم.
قال أهل العلم:
الواجب على العاقل أن يعمل في شبابه فيما يقيم به أوده كالشيء الذي لا يفارقه أبدا وفيما يصلح به دينه كالشيء الذي لا يجده غدا وليكن تعاهده لماله ما يصلح به معاشه ويصون به نفسه وفي دينه ما يقدم به لآخرته ويرضي به خالقه والفاقه خير من الغنى بالحرام والغنى الذي لا مروءة له أهون من الكلب وإن هو طوق وخلخل.(10/345)
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن محمد بن المنكدر قال نعم العون على تقوى الله الغني.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن عبدان قال دخلت على عبد الله المبارك وهو يبكي فقلت له مالك يا أبا عبد الرحمن قال بضاعة لي ذهبت قال قلت أو تبكي على المال قال إنما هو قوام ديني.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن أيوب قال: قال لي أبو قلابة يا أيوب الزم سوقك فإنك لا تزال كريما على إخوانك ما لم تحتج إليهم.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن أيوب قال: قال لي أبو قلابة الزم السوق فإن الغنى من العافيه.
(27) التحلي بفضيلة الوفاء بالوعد:
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
أَثْنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: {إنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54]. وَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ عَانَى فِي الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ مَا لَمْ يُعَانِهِ غَيْرُهُ.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
إن حسن العهد من الإيمان:
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إن حسن العهد) أي الوفاء والخفارة ورعاية الحرمة
(من الإيمان) أي من أخلاق أهل الإيمان ومن خصائلهم أو من شعب الإيمان ويكفي الموفي بالعهد مدحاً وشرفاً قول من علت كلمته والموفون بعهدهم إذا عاهدوا وقد [ص 447] تظافرت على حسن العهد مع الإخوان والخلان أهل الملل والنحل وأعظم الناس وفاء بذلك ومحافظة عليه وإن تقادم عهده: الصوفية، وأنشد بحضرة العارف الشاذلي: رأى المجنون في البيداء كلبا * فجر له من الإحسان ذيلا * فلاموه لذاك وعنفوه وقالوا لم أنلت الكلب نيلا * فقال دعوا الملامة إن عيني * رأته مرة في حي ليلي فقال له كرر فلم يزل يتواجد وينتحب ثم قال جزاك اللّه خيراً يا بني على وفائك بعهدك إن حسن العهد من الإيمان والعهد لغة له معان منها حفظ الشيء ومراعاته حالاً بعد حال والمراد هنا عهد المعرفة المتقدمة.
من أقوال السلف في الوفاء بالوعد:
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مكحول، قال: لا تعاهدوا السفيه ولا المنافق فما نقضوا من عهد الله أكبر من عهدكم.(10/346)
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ النَّاسِ ثَلَاثٌ وَجَبَتْ لَهُ عَلَيْهِمْ ثَلَاثٌ مَنْ إذَا حَدَّثَهُمْ صَدَقَهُمْ , وَإِذَا ائْتَمَنُوهُ لَمْ يَخُنْهُمْ , وَإِذَا وَعَدَهُمْ وَفَّى لَهُمْ وَجَبَ لَهُ عَلَيْهِمْ أَنْ تُحِبَّهُ قُلُوبُهُمْ , وَتَنْطِقَ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ أَلْسِنَتُهُمْ , وَتَظْهَرَ لَهُ مَعُونَتُهُمْ.
وَقَالَ نَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ: طَافَ ابْنُ عُمَرَ سَبْعًا وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ: مَا أَسْرَعَ مَا طُفْتَ وَصَلَّيْتَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ,. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ أَنْتُمْ أَكْثَرُ مِنَّا طَوَافًا وَصِيَامًا , وَنَحْنُ خَيْرٌ مِنْكُمْ بِصِدْقِ الْحَدِيثِ. وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَإِنْجَازِ الْوَعْدِ. أهـ
قال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة:
ومن آدابها: أن لا تعد أخاك وعدا ثم تخلفه، فإنه من النفاق.
أورد أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة عن الثوري يقول: " لا تعد أخاك موعدا فتخلفه، فَتُسْتَبْدَلُ المودة بغضا "
أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن هارون بن رئاب قال لما حضرت عبد الله بن عمرو الوفاة رضي الله عنه قال إنه كان خطب إلي ابنتي رجل من قريش وقد كان مني إلية شبيه بالوعد فوالله لا ألقى الله بثلث النفاق اشهدوا أني قد زوجتها إياه.
وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن عبد ربه القصاب قال واعدت محمد بن سيرين رحمه الله أن أشترى له أضاحي فنسيت وعده بشغل ثم ذكرت بعد فأتيته قريبا من نصف النهار وإذا محمد ينتظرني فسلمت عليه ورفع رأسه فقال أما إنه قد يقبل أهون ذنب منك فقلت شغلت وعنفني أصحابي في المجيء إليك وقالوا قد ذهب ولم يقعد إلى الساعة فقال لو لم تجئ حتى تغرب الشمس ما قمت من مقعدي هذا إلا للصلاة أو حاجة لا بد منها.
وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن أبي إسحاق قال كان أصحاب عبد الله رضي الله عنه يقولون إذا وعد فقال إن شاء الله فلم يخلف.
(28) التحلي بحُسْنِ الظَّنِّ بِأَهْلِ الدِّينِ:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذَا ظَنَنْتُمْ فَلَا تُحَقِّقُوا.(10/347)
أي إذا ظننتم بأحدٍ سوأ فلا تجزموا به ما لم تتحققوه، وَهَذَا مِنْ الظَّنِّ الَّذِي يَعْرِضُ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ فِي أَخِيهِ فِيمَا يُوجِبُ الرِّيبَةَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحَقِّقَهُ.
(حديث صفية الثابت في الصحيحين) أنها جاءت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان فتحدثت عنده ساعة، ثم قامت تنقلب فقام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقْلبُها، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمةَ مرَّ رجلان من الأنصار فسلَّما على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال لهما النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على رِسلكُمَا إنما هي صفية بنت حيي فقالا سبحان الله يا رسول الله وكبُرَ عليهما فقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم وإني خشيتُ أن يقذف في قلوبكما شيئاً)
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ:
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مُسْلِمٍ يَسْمَعُ مِنْ أَخِيهِ كَلِمَةً يَظُنُّ بِهَا سُوءًا وَهُوَ يَجِدُ لَهَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْخَيْرِ مَخْرَجًا.
وَقَالَ أَيْضًا: لَا يَنْتَفِعُ بِنَفْسِهِ مَنْ لَا يَنْتَفِعُ بِظَنِّهِ.
وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ: اتَّقُوا ظَنَّ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ أهـ
{تنبيه}: لا يجوز أن يُحْسَنَ الظنُ بما يُخَالفُ الشرع:
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما أظن فلاناً وفلاناً يعرفان من ديننا شيئاً). قال الليث: كانا رجلين من المنافقين.
(29) التحلي بالْتِزَامِ الْمَشُورَةِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا:
قال تَعَالَى (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [آل عمران: 159]
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى فِي قَوْله تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}. مَعْنَاهُ: اسْتَخْرِجْ آرَاءَهُمْ وَاعْلَمْ مَا عِنْدَهُمْ.
(حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: المستشارُ مُؤتَمَن.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من أُفْتِىَ بغير علمٍ كان إثْمُه على من أفتاه و من أشار على أخيه بأمرٍ يعلمُ أن الرشدَ في غيرهِ فقد خانَه.(10/348)
أورد ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية عن الحسن البصري رحمه الله تعالى قال:
إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُشَاوَرَةِ أَصْحَابِهِ حَاجَةً مِنْهُ. إلَى رَأْيِهِمْ وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ مَا فِي الْمَشُورَةِ مِنْ الْبَرَكَةِ.
وأورد ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية عن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: شَاوِرْ فِي أَمْرِكَ مَنْ يَخَافُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ.
وأورد ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية عن عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ قال: مَا نَزَلَتْ بِي قَطُّ عَظِيمَةٌ فَأَبْرَمْتُهَا حَتَّى أُشَاوِرَ عَشَرَةً مِنْ قُرَيْشٍ , فَإِنْ أَصَبْتُ كَانَ الْحَظُّ لِي دُونَهُمْ , وَإِنْ أَخْطَأْتُ لَمْ أَرْجِعْ عَلَى نَفْسِي بِلَائِمَةٍ.
وأورد ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية عن عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ قال: لَأَنْ أُخْطِئَ وَقَدْ اسْتَشَرْتُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُصِيبَ مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ.
وأورد ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية عن قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ قال: الْخَطَأُ مَعَ الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الصَّوَابِ مَعَ الْفُرْقَةِ وَإِنْ كَانَتْ الْجَمَاعَةُ لَا تُخْطِئُ وَالْفُرْقَةُ لَا تُصِيبُ.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مالك، حدثني من أرضي أن عمر بن الخطاب أوصى رجلاً، فقال: لا تعترض فيما لا يعنيك، واجتنب عدوك، واحذر خليلك، ولا أمير من القوم إلا من خشي الله، والأمين من القوم لا تعدل به شيئاً، ولا تصحبن فاجراً كي تعلم من فجوره، ولا تفش إليه سرك، واستشر في أمرك الذين يخشون الله.
(30) التحلي بفضيلة مدارة الناس:
(حديث عائشة في الصحيحين) قالت استأذن رجل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال ائذنوا له بئس أخو العشيرة أو بن العشيرة فلما دخل ألان له الكلام قلت يا رسول الله قلت الذي قلت ثم ألنت له الكلام قال أي عائشة إن شر الناس من تركه الناس أو ودعه الناس اتقاء فحشه.
قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: رَأْسُ الْمُدَارَاةِ تَرْكُ الْمُمَارَاةِ.(10/349)
أورد ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية عن عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: شَرْطُ الصُّحْبَةِ إقَالَةُ الْعَثْرَةِ , وَمُسَامَحَةُ الْعِشْرَةِ , وَالْمُوَاسَاةُ فِي الْعُسْرَةِ.
الفرق بين المداراة والمداهنة:
مسألة: ما الفرق بين المداراة والمداهنة مع أن كلاهما ملاينة؟
فصل الخطاب في الفرق بين المداراة والمداهنة أن كلاهما ملاينة إلا أن المداراة ملاينة للوصول إلى حق والمداهنة ملاينة للوصول إلى باطل.
[*] قال معاوية ابن أبي سفيان - رضي الله عنه -: لو أنّ بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، كانوا إذا مدّوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها.
[*] أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن إبراهيم بن أدهم قال قال أبو الدرداء لأم الدرداء إذا غضبت فرضيني وإذا غضبت رضيتك فإذا لم نكن هكذا ما أسرع ما نفترق.
[*] أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن ابن الحنفية قال ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بداً حتى يأتيه الله منه بالفرج أو المخرج. أهـ
فالواجب على العاقل أن يداري الناس مداراة الرجل السابح في الماء الجاري ومن ذهب إلى عشرة الناس من حيث هو كدر على نفسه عيشه ولم تصف له مودته لأن وداد الناس لا يستجلب إلا بمساعدتهم على ما هم عليه إلا أن يكون مأثما فإذا كانت حالة معصية فلا سمع ولا طاعة والبشر قد ركب فيهم أهواء مختلفة وطبائع متباينة فكما يشق عليك ترك ما جبلت عليه فكذلك يشق على غيرك مجانبة مثله فليس إلى صفو ودادهم سبيل إلا بمعاشرتهم من حيث هم والإغضاء عن مخالفتهم في الأوقات.
ولله درُّ من قال:
دار من الناس ملالاتهم ... من لم يدار الناس ملوه
ومكرم الناس حبيب لهم ... من أكرم الناس أحبوه
[*] أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن معاذ بن سعد الأعور قال كنت جالسا عند عطاء بن أبي رباح فحدث رجل بحديث فعرض رجل من القوم في حديثه قال فغضب وقال ما هذه الطباع إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به فأريه كأني لا أحسن منه شيئا.
(31) التآلف مع الإخوان:
ومن أهم الآداب التي ينبغي على المسلم أن يتحلى بها في معاشرة الإخوان التآلف مع الإخوان فإن المؤمن يألف و يؤلف و لا خير فيمن لا يألف و لا يؤلف.(10/350)
(حديث جابر في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: المؤمن يألف و يؤلف و لا خير فيمن لا يألف و لا يؤلف و خير الناس أنفعهم للناس.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
[المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف وخير الناس أنفعهم للناس] قال الماوردي: بين به أن الإنسان لا يصلح حاله إلا الألفة الجامعة فإنه مقصود بالأذية محسود بالنعمة فإذا لم يكن ألفاً مألوفاً تختطفه أيدي حاسديه وتحكم فيه أهواء أعاديه فلم تسلم له نعمة ولم تصف له مدة وإذا كان ألفاً مألوفاً انتصر بالألف على أعاديه وامتنع بهم من حساده فسلمت نعمته منهم وصفت مودته بينهم.
(حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أَكْمَلُ المُؤْمِنِيْنَ إِيْمَانَاً أَحْسَنُهُم خُلِقَا المُوَطَئُونَ أَكْنَافَاً الذِيْنَ يَأْلَفُوْنَ وَيُؤْلَفُوْنَ وَلَا خَيْرَ فِيْمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ.
[*] أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن ميمون بن مهران قال التودد إلى الناس نصف العقل وحسن المسألة نصف العلم واقتصادك في معيشتك يلقي عنك نصف المؤونه.
{تنبيه}: حاجة المرء إلى الناس مع محبتهم إياه خير من غناه عنهم مع بغضهم إياه والسبب الداعي إلى صد محبتهم له هو التضايق في الأخلاق وسوء الخلق لأن من ضاق خلقه سئمه أهله وجيرانه واستثقله إخوانه فحينئذ تمنوا الخلاص منه ودعوا بالهلاك عليه.
سبب استثقال الناس للإنسان:
الاستثقال من الناس يكون سببه شيئين أحدهما مقارفة المرء ما نهى الله عنه من المآثم لأن من تعدى حرمات الله أبغضه الله ومن أبغضه الله أبغضته الملائكة ثم يوضع له البغض في الأرض فلا يكاد يراه أحد إلا استثقله وأبغضه، والسبب الآخر هو استعمال المرء من الخصال ما يكره الناس منه فإذا كان كذلك استحق الاستثقال منهم.
(32) النهي عن مصاحبة أهل الأهواء والبدع:
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:(10/351)
قَالَ أَبُو الْفَرَجِ الشِّيرَازِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ التَّبْصِرَةِ لَهُ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِذَا رَأَيْت الشَّابَّ أَوَّلَ مَا يَنْشَأُ مَعَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَأَرْجِهْ وَإِذَا رَأَيْته مَعَ أَصْحَابِ الْبِدَع فَايئَسْ مِنْهُ فَإِنَّ الشَّابَّ عَلَى أَوَّلِ نُشُوئِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ السِّرِّ الْمَكْتُومِ لَمَّا ذَكَرَ الْمُعْتَزِلَةَ وَغَيْرَهُمْ وَالْفَلَاسِفَةَ قَالَ اللَّهَ اللَّهَ مِنْ مُصَاحَبَةِ هَؤُلَاءِ , وَيَجِبُ مَنْعُ الصِّبْيَانِ مِنْ مُخَالَطَتِهِمْ لِئَلَّا يَثْبُتَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَاشْغَلُوهُمْ بِأَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتُعْجَنَ بِهَا طَبَائِعُهُمْ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِسَالَتِهِ إلَى مُسَدَّدٍ: وَلَا تُشَاوِرْ صَاحِبَ بِدْعَةٍ فِي دِينِك , وَلَا تُرَافِقْهُ فِي سَفَرِك.
(33) أن يعيش بين إخوانه بالمودة والرحمة:
من أهم آداب معاشرة الإخوان أن يعيش بين إخوانه بالمودة والرحمة حتى يصيروا معاً كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى.
(حديث النعمان بن بشير في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(مثل المؤمنين) الكاملين في الإيمان
(في توادهم) أي تحاب
(وتراحمهم) أي تلاطفهم
(وتعاطفهم) قال ابن أبي جمرة: الثلاثة وإن تفاوت معناها بينها فرق لطيف فالمراد بالتراحم أن يرحم بعضهم بعضاً لحلاوة الإيمان لا لشيء آخر وبالتواد التواصل الجالب للمحبة كالتهادي وبالتعاطف إعانة بعضهم بعضاً
(مثل الجسد الواحد) بالنسبة لجميع أعضائه، وجه الشبه فيه التوافق في التعب والراحة
(إذا اشتكى منه عضو) أي مرض
(تداعى له سائر الجسد) يعني دعا بعضهم بعضاً إلى المشاركة في الألم
(بالسهر) بفتح الهاء ترك النوم لأن الألم يمنع النوم(10/352)
(والحمى) لأن فقد النوم يثيرها والحمى حرارة غريبة تشتعل في القلب فتنبث به في جميع البدن ثم لفظ الحديث خبر ومعناه أمر أي كما أن الرجل إذا تألم بعض جسده سرى ذلك الألم إلى جميع جسده فكذا المؤمنون ليكونوا كنفس واحدة إذا أصاب أحدهم مصيبة يغتم جميعهم ويقصدوا إزالتها.
(حديث أبي موسى الأشعري في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(المؤمن للمؤمن كالبنيان) أي الحائط لا يتقوى في أمر دينه ودنياه إلا بمعرفة أخيه كما أن بعض البنيان يقوى ببعضه.
(يشد بعضه بعضاً) بيان لوجه التشبيه وبعضاً منصوب بنزع الخافض أو مفعول يشد وتتمته كما في البخاري ثم شبك بين أصابعه أي يشد بعضهم بعضاً مثل هذا الشد فوقع التشبيك تشبيهاً لتعاضد المؤمنين بعضهم ببعض كما أن البنيان الممسك بعضه ببعض يشد بعضه بعضا وذلك لأن أقواهم لهم ركن وضعيفهم مستند لذلك الركن القوي، وفيه تفضيل الاجتماع على الانفراد ومدح الاتصال على الانفصال فإن البنيان إذا تفاصل بطل وإذا اتصل ثبت الانتفاع به بكل ما يراد منه.
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
" ومما لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ , وَيَغْفِرَ زَلَّتَهُ , وَيَرْحَمَ عَبْرَتَهُ , وَيُقِيلَ عَثْرَتَهُ , وَيَقْبَلَ مَعْذِرَتَهُ , وَيَرُدَّ غِيبَتَهُ , وَيُدِيمَ نَصِيحَتَهُ , وَيَحْفَظَ خِلَّتَهُ , وَيَرْعَى ذِمَّتَهُ , وَيُجِيبَ دَعْوَتَهُ , وَيَقْبَلَ هَدِيَّتَهُ , وَيُكَافِئَ صِلَتَهُ , وَيَشْكُرَ نِعْمَتَهُ , وَيُحْسِنَ نُصْرَتَهُ , وَيَقْضِيَ حَاجَتَهُ , وَيَشْفَعَ مَسْأَلَتَهُ , وَيُشَمِّتَ عَطْسَتَهُ , وَيَرُدَّ ضَالَّتَهُ , وَيُوَالِيَهُ , وَلَا يُعَادِيَهُ , وَيَنْصُرَهُ عَلَى ظَالِمِهِ , وَيَكُفَّهُ عَنْ ظُلْمِهِ غَيْرِهِ , وَلَا يُسْلِمَهُ , وَلَا يَخْذُلَهُ , وَيُحِبَّ لَهُ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ , وَيَكْرَهَ لَهُ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ " أهـ
(34) دفع السيئة بالحسنة:(10/353)
إن دفع السيئة بالحسنة يحوِّل العداوة إلى محبة بنص القرآن الكريم، قال تعالى: (وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السّيّئَةُ ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقّاهَا إِلاّ الّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقّاهَآ إِلاّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ) [سورة: فصلت /34،35]
[*] قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره:
قوله تعالى: [ادفع بالتي هي أحسن] قال ابن عباس: أي ادفع بحلمك جهل من يجهل عليك. وعنه أيضاً: هو الرجل يسب الرجل فيقول الآخر إن كنت صادقاً فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك.
وقوله تعالى: " فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم " أي قريب حديق
قال ابن عباس: أمره الله تعالى في هذا الآية بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعل الناس ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم. وروي أن رجلاً شتم قنبراً مولى علي بن أبي طالب فناداه علي يا قنبر! دع شاتمك، واله عنه ترضي الرحمن وتسخط الشيطان، وتعاقب شاتمك، فما عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه.
{تنبيه}: إذا قابلت إساءة الإنسان بعفوك وإحسانك لا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن رجلا قال يا رسول الله إن لي قرابةً أصلهم ويقطعوني وأُحسنُ إليهم ويُسيئون إلي وأحلُمُ عنهم ويجهلون علي فقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لئن كنت كما قلت فكأنما تُسِفُّهمُ المَلَّ ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك.
الشاهد من الحديث:
قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[لئن كنت كما قلت فكأنما تُسِفُّهمُ المَلَّ ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك]
ومعنى الملَّ: الرماد الحار
ومعنى [تُسِفُّهمُ المَلَّ]: أي تطعمهم الرماد الحار، والمقصود أنك منصورٌ عليهم وتنقطع حجتهم كما ينقطع كلام من سَفَّ الرماد الحار.
(35) قضاء حوائج الإخوان والشفاعةِ فيها:
ومن أفضل معاشرة الإخوان قضاء حوائج المسلمين والشفاعةِ فيها، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث محمد بن المنكدر في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أفضل العمل إدخال السرور على المؤمن تقضي عنه دينا تقضي له حاجة تنفس له كربة.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(من أفضل العمل إدخال السرور) أي الفرح(10/354)
(على المؤمن) إذا كان ذلك من المطلوبات الشرعية كأن
(تقضي عنه ديناً) لا يقدر على وفائه ويحتمل الإطلاق لأن تحمل ذلك عنه يسره غالباً.
(تقضي له حاجة) لا يستطيع إبلاغها أو يستطيعه
(تنفس له كربة) من الكرب الدنيوية أو الأخروية فكل واحدة من هذه الخصال من أفضل الأعمال بلا إشكال بل ربما وقع في بعض الأحيان أن يكون ذلك من فروض الأعيان.
(حديث جابر في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: خير الناس أنفعهم للناس.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(خير الناس أنفعهم للناس) بالإحسان إليهم بماله وجاهه فإنهم عباد فإنهم عباد اللّه وأحبهم إليه وأنفعهم لعياله أي أشرفهم عنده أكثرهم نفعاً للناس بنعمة يسديها أو نقمة يزويها عنهم ديناً أو دنيا ومنافع الدين أشرف قدراً وأبقى نفعاً قال بعضهم: هذا يفيد أن الإمام العادل خير الناس أي بعد الأنبياء لأن الأمور التي يعم نفعها ويعظم وقعها لا يقوم بها غيره وبه نفع العباد والبلاد وهو القائم بخلافة النبوة في إصلاح الخلق ودعائهم إلى الحق وإقامة دينهم وتقويم أودهم ولولاه لم يكن علم ولا عمل.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الساعي على الأرملة و المسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(الساعي على الأرملة) براء مهملة التي لا زوج لها.
(والمسكين) أي الكاسب لهما العامل لمؤونتهما
(كالمجاهد في سبيل اللّه) لإعلاء كلمة اللّه
(أو) كذا بالشك في كثير من الروايات وفي بعضها بالواو
(القائم الليل) في العبادة ويجوز في الليل الحركات الثلاث كما في قولهم الحسن الوجه
(الصائم النهار) لا يفتر ولا يضعف وأل في المجاهد والقائم معرفة ولذلك جاء في بعض الروايات وصف كل منهما بجملة فعلية بعده وهو كالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر كقوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني.
(حديث سهل بن سعد في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أنا و كافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بأُصبعيه بالسبابة والوسطى.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(أنا وكافل اليتيم) أي القائم بأمره ومصالحه هبه من مال نفسه أو من مال اليتيم كان ذا قرابة أم لا.(10/355)
(في الجنة هكذا) وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما أي أن الكافل في الجنة مع النبي صلى اللّه عليه وسلم إلا أن درجته لا تبلغ بل تقارب درجته وفي الإشارة إشارة إلى أن بين درجته والكافل قدر تفاوت ما بين المشار به ويحتمل أن المراد قرب المنزلة حال دخول الجنة أو المراد في سرعة الدخول وذلك لما فيه من حسن الخلافة للأبوين ورحمة الصغير وذلك مقصود عظيم في الشريعة ومناسبة التشبيه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم شأنه أن يبعث لقوم لا يعقلون أمر دينهم فيكون كافلاً ومرشداً لهم ومعلماً وكافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل فيرشده ويعقله وهذا تنويه عظيم بفضل قبول وصية من يوصى إليه ومحل كراهة الدخول في الوصايا أن يخاف تهمة أو ضعفاً عن القيام بحقها.
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
كَانَ السَّلَفُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يُذْهِبُونَ حُزْنَ الْأَيْتَامِ , وَالْأَرَامِلِ وَيُزِيلُونَ ذُلَّ الْيَتِيمِ بِأَنْوَاعِ الْبِرِّ حَتَّى صَارُوا كَالْآبَاءِ , وَالْأُمَّهَاتِ لِلْيَتِيمِ لَا يَتْرُكُونَهُ يُضَامُ وَيَتَنَاضَلُونَ عَنْهُ , وَفِي الْجُمْلَةِ الْكِرَامُ لَا يَبِينُ بَيْنَهُمْ يُتْمُ أَوْلَادِ الْجِيرَانِ وَلَا النَّازِلُ مِنْ الْقَاطِنِينَ.
أورد أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة عن محمد بن المنكدر قال: " لم يبق من لذة الدنيا إلا قضاء حوائج الإخوان.
(حديث أبي موسى الثابت في الصحيحين) قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه فقال: اشفعوا تؤجروا و يقضي الله على لسان نبيه ما أحب.
(حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الرجل ليسألني الشيء فأمنعه حتى تشفعوا فيه فتؤجروا.
{تنبيه}:من لم ينفع العباد بما اختصه الله من النعم فإنه عُرْضَةٌ لسلب نعم الله منه وتحويلها إلى غيره بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَقْوَامًا اخْتَصَّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ مَا بَذَلُوهَا , فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ وَحَوَّلَهَا إلَى غَيْرِهِمْ.(10/356)
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أحب الناس إلى الله أنفعهم و أحب الأعمال إلى الله عز و جل سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينا أو تطرد عنه جوعا و لأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهرا ومن كف غضبه ستر الله عورته و من كظم غيظا و لو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضا يوم القيامة و من مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل.
أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في قضاء الحوائج عن عثمان بن واقد العمرى قال قيل لمحمد ابن المنكدر أي الدنيا أعجب إليك قال إدخال السرور على المؤمن من موجبات المغفرة إدخال السرور على المسلم.
وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في قضاء الحوائج عن الحسن لأن أقضى لمسلم حاجة أحب إلى من أن أصلى ألف ركعة.
وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في قضاء الحوائج عن الحسن قال لأن أقضى لأخ حاجة أحب إلى من أن أعتكف شهرين.
وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في قضاء الحوائج عن محمد بن واسع ما رددت أحدا عن حاجة أقدر على قضائها ولو كان فيها ذهاب مالي.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن أبي معمر شبيب بن شيبه الخطيب قال لما حضرت ابن سعيد ابن العاص الوفاة قال لبنيه يا بني ايكم يقبل وصيتي فقال ابنه الأكبر أنا قال إن فيها قضاء ديني قال وما دينك يا أبت قال ثمانون ألف دينار قال يا أبت فيم أخذتها قال يا بني في كريم سددت خلته ورجل جائني في حاجة وقد رأيت السوء في وجهه من الحياء فبدأت بحاجته قبل أن يسألها.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن الحسن قال: قضاء حاجة أخ مسلم أحب إلي من اعتكاف شهرين.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن ابن عائشة قال: قال أبي جاء رجل إلى يحيى بن طلحة بن عبيد الله فقال له هب لي شيئا قال يا غلام أعطه ما معك فأعطاه عشرين ألفا فأخذها ليحملها فثقلت عليه فقعد يبكي فقال ما يبكيك لعلك استقللتها فازيدك قال لا والله ما استقللتها ولكن بكيت على ما تأكل الأرض من كرمك فقال له يحيى هذا الذي قلت لنا أكثر مما أعطيناك.(10/357)
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن سعيد بن عبد العزيز أن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم سمع رجلا إلى جنبه يسأل الله أن يرزقه عشرة آلاف درهم فانصرف فبعث بها إليه.
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ لِقُتَيْبَةِ بْنِ مُسْلِمٍ: إنِّي أَتَيْتُك فِي حَاجَةٍ رَفَعْتهَا إلَى اللَّهِ قَبْلَك فَإِنْ يَأْذَنْ اللَّهُ فِيهَا قَضَيْتهَا وَحَمِدْنَاك , وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ فِيهَا لَمْ تَقْضِهَا وَعَذَرْنَاك.
وَكَتَبَ سَوَّارُ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَوَّارِ الْقَاضِي إلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ:
لَنَا حَاجَةٌ وَالْعُذْرُ فِيهَا مُقَدَّمٌ: خَفِيفٌ وَمَعْنَاهَا مُضَاعَفَةُ الْأَجْرِ
فَإِنْ تَقْضِهَا فَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّنَا: وَإِنْ تَكُنْ الْأُخْرَى فَفِي وَاسِعِ الْعُذْرِ
عَلَى أَنَّهُ الرَّحْمَنُ مُعْطٍ وَمَانِعٌ: وَلِلرِّزْقِ أَسْبَابٌ إلَى قَدَرٍ يَجْرِي
فَأَجَابَهُ مُحَمَّدُ بْنِ طَاهِرٍ:
فَسَلْهَا تَجِدْنِي مُوجِبًا لِقَضَائِهَا: سَرِيعًا إلَيْهَا لَا يُخَاطِبُنِي فِكْرُ
شَكُورٌ بِإِفْضَالِي عَلَيْك بِمِثْلِهَا: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا حَوَتْهُ يَدِي شُكْرُ
فَهَذَا قَلِيلٌ لِلَّذِي قَدْ رَأَيْته: لِحَقِّك لَا مَنٌّ لَدَيَّ وَلَا ذُخْرُ
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ: لَا تَطْلُبُوا الْحَوَائِجَ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهَا , وَلَا تَطْلُبُوهَا فِي غَيْرِ حِينِهَا , وَلَا تَطْلُبُوا مَا لَا تَسْتَحِقُّونَ مِنْهَا , فَإِنَّ مَنْ طَلَبَ مَا لَا يَسْتَحِقُّ اسْتَوْجَبَ الْحِرْمَانَ.
وَقَالَ آخَرُ:
لَا تَطْلُبَنَّ إلَى لَئِيمٍ حَاجَةً: وَاقْعُدْ فَإِنَّك قَائِمٌ كَالْقَاعِدِ
يَا خَادِعَ الْبُخَلَاءِ عَنْ أَمْوَالِهِمْ: هَيْهَاتَ تَضْرِبُ فِي حَدِيدٍ بَارِدِ
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ:
اقْضِ الْحَوَائِجَ مَا اسْتَطَعْتَ وَكُنْ لِهَمِّ أَخِيكَ فَارِجْ: فَلَخَيْرُ أَيَّامِ الْفَتَى يَوْمٌ قَضَى فِيهِ الْحَوَائِجْ.
وقوف أمير المؤمنين عمر لعجوز استوقفته:(10/358)
أخرج ابن أبي حاتم والدارمي والبيهقي عن أبي يزيد قال: لقي عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأة يقال لها خولة ـ رضي الله عنها ـ وهي تسير مع الناس، فاستوقفته فوقف لها، ودنا منها وأصغى إليها رأسه، ووضع يديه على مَنْكبيها حتى قضت حاجتها وانصرفت. فقال له رجل: يا أمير المؤمنين حبست رجالات قريش على هذا العجوز؟ قال: ويك أتدري من هذه؟ قال: لا، قال: هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت حتى تُقضي حاجتها.
وعند البخاري في تاريخه وابن مَرَدَوَيه عن ثُمامة بن حَزْن رضي الله عنه قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسير على حماره لقيته امرأة فقالت: قف يا عمر، فوقف فأغلظت له القول، فقال رجل: يا أمير المؤمنين ما رأيت كاليوم، قال: وما يمنعني أن أسمع لها وهي التي سمع الله لها وأنزل فيها ما أنزل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا} (سورة المجادلة، الآية: 1). كذا في الكنز.
وقوف أمير المؤمنين عمر لعجوز استوقفته:
أخرج ابن أبي حاتم والدارمي والبيهقي عن أبي يزيد قال: لقي عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأة يقال لها خولة ـ رضي الله عنها ـ وهي تسير مع الناس، فاستوقفته فوقف لها، ودنا منها وأصغى إليها رأسه، ووضع يديه على مَنْكبيها حتى قضت حاجتها وانصرفت. فقال له رجل: يا أمير المؤمنين حبست رجالات قريش على هذا العجوز؟ قال: ويك أتدري من هذه؟ قال: لا، قال: هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت حتى تُقضي حاجتها.
وعند البخاري في تاريخه وابن مَرَدَوَيه عن ثُمامة بن حَزْن رضي الله عنه قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسير على حماره لقيته امرأة فقالت: قف يا عمر، فوقف فأغلظت له القول، فقال رجل: يا أمير المؤمنين ما رأيت كاليوم، قال: وما يمنعني أن أسمع لها وهي التي سمع الله لها وأنزل فيها ما أنزل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا} (سورة المجادلة، الآية: 1). كذا في الكنز.
أفضل العطية ما كان قبل الطلب:
أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في قضاء الحوائج عن عبيد الله بن عباس قال لأخيه إن أفضل العطية ما أعطيت الرجل قبل المسألة فإذا سألك فإنما تعطيه ثمن وجهه حين بذله إليك.(10/359)
وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في قضاء الحوائج عن عبد الله بن جعفر قال ليس الجواد الذي يعطيك بعد المسألة ولكن الجواد الذي يبتدئ لأن ما يبذله إليك من وجهه أشد عليه مما يعطى عليه.
(36) صنع المعروف:
ومن أفضل آداب معاشرة الإخوان صنع المعروف، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث أنس في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: صنائع المعروف تقي مصارع السوء و الآفات و الهلكات و أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة) هذا تنويه عظيم بفضل المعروف وأهله.
[*] قال علي كرم اللّه وجهه: لا يزهدك في المعروف كفر من كفر فقد يشكره الشاكر أضعاف جحود الكافر قال الماوردي: فينبغي لمن قدر على ابتداء المعروف أن يعجله حذراً من قوته ويبادر به خيفة عجزه ويعتقد أنه من فرص زمانه وغنائم إمكانه ولا يمهله ثقة بالقدرة عليه فكم من واثق بقدرة فاتت فأعقبت ندماً ومعول على مكنة زالت فأورثت خجلاً ولو فطن لنوائب دهره وتحفظ من عواقب فكره لكانت مغارمه مدحورة ومغانمه محبورة وقيل: من أضاع الفرصة عن وقتها فليكن على ثقة من فوتها.
(37) شكر المعروف والمجازاة على صنعه:
ينبغي على المسلم أن يتحلى بشكر المعروف فإن ذلك مما حث عليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما بيَّن - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن من لم يشكر الناس لا يوفق لشكر الله تعالى
(حديث ابن عمر في صحيحي أبي داوود والنسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من استعاذكم بالله فأعيذوه و من سألكم بالله فأعطوه و من دعاكم فأجيبوه و من صنع إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه.
(حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من لا يشكرُ الناس لا يشكرُ الله.
معنى [من لا يشكر الناس لا يشكر الله]: فيها وجهان:
الأول: من كان طبعه وعادته عدم شكر الناس على معروفهم فإنه لا يوفق لشكر الله تعالى
والثاني: أن الله تعالى لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر الناس على إحسانهم إليه.(10/360)
ومن أفضل الآداب في معاشرة الإخوان التحلي بالمجازاة على صنع المعروف، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من لا يشكر الناس لا يشكر الله.
(حديث ابن عمر في صحيحي أبي داوود والنسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من استعاذكم بالله فأعيذوه و من سألكم بالله فأعطوه و من دعاكم فأجيبوه ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه.
ومن الثناء كقول جزاك الله خير، و الدعاء أيضاً وسيلة للشكر.
(حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن العقبي قال مر سعيد بن العاص بدار رجل بالمدينة فاستسقى فسقوه ثم مر بعد ذلك بالدار ومناد ينادى عليها فيمن يزيد فقال لمولاه سل لم تباع هذه؟ فرجع إليه فقال على صاحبها دين قال فارجع إلى الدار فرجع فوجد صاحبها جالسا وغريمه معه فقال لم تبيع دارك؟ قال لهذا علي أربعة آلاف دينار فنزل وتحدث معهما وبعث غلامه فأتاه ببدرة فدفع إلى الغريم أربعة آلاف ودفع الباقي إلى صاحب الدار وركب ومضى.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن أبي عيسى قال كان إبراهيم ابن أدهم إذا صنع إليه أحد معروفا حرص على أن يكافئه أو يتفضل عليه قال أبو عيسى فلقيني وأنا على حمار وأنا أريد بيت المقدس جائيا من الرملة قال وقد اشترى بأربعة دوانيق تفاحا وسفرجلا وخوخا وفاكهة فقال يا أبا عيسى أحب أن تحمل هذا قال وإذا عجوز يهودية في كوخ لها فقال أحب أن توصل هذا إليها فإنني مررت وأنا ممس فبيتتنى عندها فأحب أن أكافئها على ذلك.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن علي بن محمد قال مر عمر بن هبيرة لما انصرف في طريقه فسمع امرأة من قيس تقول لا والذي ينجي عمر بن هبيرة فقال يا غلام أعطها ما معك وأعلمها أني قد نجوت.
(38) الزهد فيما عند الناس:
قال تعالى: (وَلاَ تَمُدّنّ عَيْنَيْكَ إِلَىَ مَا مَتّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ) [سورة: طه - الآية: 131](10/361)
[*] قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره:
ومعنى الآية: لا تجعل يا محمد لزهرة الدنيا وزناً، فإنه لا بقاء لها.
" ولا تمدن " أبلغ من لا تنظرن، لأن الذي يمد بصره، إنما يحمله على ذلك حرص مقترن، والذي ينظر قد لا يكون ذلك معه.
(حديث سهل بن سعد الثابت في صحيح ابن ماجة) قال أتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلٌ فقال يا رسول الله: دلني على عملٍ إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس.
(39) مراعاة أحاسيس الناس ومشاعرهم:
من أهم آداب معاشرة الإخوان مراعاة أحاسيس الناس ومشاعرهم وجبر خاطرهم، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة
(حديث الصعب بن جثامة الليثي في الصحيحين) أنه أهدى لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودَّان فردَّه عليه فلما رأى ما في وجهه قال إنَّا لم نرده عليك إلا أنَّا حرم.
{تنبيه}: ومن ذلك أنه لا يواجه الناس بالعتاب مراعاة لأحاسيس الناس ومشاعرهم تأسياً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(حديث عائشة في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا بلغه عن الرجل شيء لم يقل: ما بال فلان يقول؟ و لكن يقول: ما بال أقوام يقولون كذا و كذا.
(40) إدخال السرور على المسلم:
من أفضل آداب معاشرة الإخوان إدخال السرور على المسلم فإنها من أفضل الأعمال بنص السنة الصحيحة
(حديث محمد بن المنكدر في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أفضل العمل إدخال السرور على المؤمن تقضي عنه دينا تقضي له حاجة تنفس له كربة.
(41) الإنصاف لأخيك:
من أفضل آداب معاشرة الإخوان الإنصاف لأخيك المسلم فإنها من أفضل الأعمال، فلا تكون كحال من يرى عيوب أخيه وينسى عيوب نفسه
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يَبْصُرُ أحدكم القذى في عين أخيه و ينسى الجذعَ في عينه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(يبصر أحدكم القذى في عين أخيه) في الإسلام جمع قذاة وهي ما يقع في العين والماء والشراب من نحو تراب وتبن ووسخ(10/362)
(وينسى الجذع في عينه) واحد جذوع النخل، كأن الإنسان لنقصه وحب نفسه يتوفر على تدقيق النظر في عيب أخيه فيدركه مع خفائه فيعمى به عن عيب في نفسه ظاهر لا خفاء به مثل ضرب لمن يرى الصغير من عيوب الناس ويعيرهم به وفيه من العيوب ما نسبته إليه كنسبة الجذع إلى القذاة وذلك من أقبح القبائح وأفضح الفضائح فرحم اللّه من حفظ قلبه ولسانه ولزم شأنه وكف عن عرض أخيه وأعرض عما لا يعنيه فمن حفظ هذه الوصية دامت سلامته وقلت ندامته فتسليم الأحوال لأهلها أسلم واللّه أعلى وأعلم.
(42) عدم تتبع عورات المسلمين وزلاتهم:
ومن أفضل آداب معاشرة الإخوان عدم تتبع عورات المسلمين وزلاتهم فإنه داءٌ وبيل بل إنه من قبائح الذنوب وفواحش الذنوب، لأنك إذا تتبعت عيوب أخيك المسلم أفسدته.
(حديث معاوية في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا قال العبد هلك الناس فهو أهلَكهم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال: اللبيب العاقل، هو الفطن المتغافل.
أُتيَّ ابن مسعود برجلٍ فقيل له: هذا فلانٌ تقطُرُ لحيته خمراً فقال: إنا قد نُهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به.
(حديث أبي برزة الأسلمي في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يا معشر من آمن بلسانه و لم يدخل الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين و لا تتبعوا عوراتهم فمن يتبع عوراتهم يتبع الله عورته، و من يتبع الله عورته يفضحه في بيته.
[*] قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: المؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب الزلات.
أورد أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة عن عبد الله بن محمد بن منازل يقول: " المؤمن يطلب معاذير إخوانه، والمنافق يطلب عثرات (1) إخوانه "
وأورد أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة عن حمدون القصار يقول: " إذا زل أخ من إخوانكم فاطلبوا له سبعين عذرا، فإن لم تقبله قلوبكم فاعلموا أن المعيب أنفسكم؛ حيث ظهر لمسلم سبعون عذرا فلم تقبله "
وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله في الصمت وآداب اللسان عن عون بن عبد الله قال لا أحسب الرجل ينظر في عيوب الناس إلا من غفلة قد غفلها عن نفسه.
__________
(1) العثرة: الزلة والسقطة(10/363)
فيجب على المرء المسلم أن يهتم بإصلاح نفسه وتزكيتها من العيوب والآفات، كما أن عليه أن يكف عن تتبع عورات الآخرين والخوض في أعراضهم؛ فإن هذا مما لا يجوز فعله، والإنسان سوف يحاسب بين يدي الله عز وجل عن ذنوبه لا عن ذنوب غيره، فالأولى اشتغاله بها.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يَبْصُرُ أحدكم القذى في عين أخيه و ينسى الجذعَ في عينه.
فقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يبصر أحدكم القذى في عين أخيه) القذى: هو ما يقع في العين أو في الماء والشراب من نحو تراب ووسخ أيَّ قاذورات أو أذى أو تراب يقع، سواء في العين أو في الماء أو في الشراب، فيطلق عليه القذى. إذاً المقصود به "الأشياء الهينة الصغيرة التي تكاد لا تدرك"، يبصرها الإنسان ويفتح عينيه لها ما دامت في عين أخيه ـ يعني: أخاه في الإسلام ـ وفي نفس الوقت ينسى الجذع في عينه، والجذع هو واحد جذوع النخل، وهذه من المبالغة، وكأن جذع شجرة موجود في عينه من العيوب، ثم هو يتجاهله ولا يشتغل بإصلاحه، في حين أنه يدقق ويتحرى مع الآخرين بحيث يدرك عيوبهم مع خفائها. فيؤخذ من هذا الحديث أن الإنسان لنقصه ولحب نفسه يدقق النظر في عيب أخيه، فيدرك عيب أخيه مع خفائه، فيعمى به عن عيبٍ في نفسه ظاهر لا خفاء به، ولو أنه اشتغل بعيب نفسه عن التفرغ لعيوب الناس وتتبعها لكف عن أعراض الناس، ولسد باب آفات اللسان وأعظمها الغيبة، يقول الشاعر: عجبت لمن يبكي على موت غيره دموعاً ولا يبكي على موته دما، وأعجب من ذا أن يرى عيب غيره عظيماً وفي عينيه عن عيبه عمى وقال الإمام أبو حاتم بن حبان رحمه الله تعالى: الواجب على العاقل لزوم السلامة بترك التجسس عن عيوب الناس مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه؛ فإن من اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره أراح بدنه، ولم يتعب قلبه، فكلما اطلع على عيب لنفسه هان عليه ما يرى مثله من عيب أخيه، وإن من اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه عمي قلبه، وتعب بدنه، وتعذر عليه ترك عيوب نفسه، وإن من أعجز الناس من عاب الناس بما فيهم، وأعجز منه من عابهم بما فيه، ومن عاب الناس عابوه، ومن ذمهم ذموه.
ولله درُ الشافعي رحمه الله تعالى حيث قال:
المرء إن كان عاقلاً ورعاً ... أشغله عن عيوب غيره ورعه
كما العليل السقيم أشغله ... عن وجع الناس كلهم وجعه(10/364)
كما أن العليل السقيم أو المريض يشغله الألم الذي يجده في مرضه عن ألم غيره، فكذلك ينبغي للإنسان أن يشتغل بعيب نفسه عن عيب غيره على حد قول الشاعر: أي: الجراح التي في غيري لا تداوي الجراح التي فيَّ، وقوله (ما به به وما بي بي) يعني: الأولى أن يشتغل الإنسان بالعيوب التي في نفسه.
[*] وعن مجاهد قال: ذكروا رجلاً ـ يعني: كأنهم ذكروا عيوب هذا الرجل ـ فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك). وهذا علاج لهذا الداء على الإنسان أن لا يسهو ولا يغفل عنه، وهو أنه إذا هم أن يتكلم في عيوب الآخرين فليفكر أولاً وليذكر عيوب نفسه وينشغل بها، فسيجد فيها غنية عن أن يشتغل بعيوب الآخرين، فهذا من أدوية هذا الداء (إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك)، فإذا فتشت سوف تجد كثيراً جداً يشغلك إصلاحه في نفسك عن الاشتغال بذم غيرك.
[*] وقال أحد السلف: إن من تصرف في نفسه فعرفها صحت له الفراسة فيغيره وأحكمها. وعن بكر قال: تساب رجلان، فقال أحدهما: محلمي عنك ما أعرف من نفسي. يعني: تشاتما وسب أحدهما الآخر، فرد الشخص المسبوب فقال له: محلمي عنك ـ يعني: الذي يجعلني أتحلم وأصبر عن أن أرد عليك بالمثل ـ ما أعرف من نفسي. يعني: أنا أعرف أن في نفسي من العيوب الكثير، فهذا يجعلني عوناً لك عليها، ولست أتخذ موقف الدفاع عنها؛ لأن فيها من العيوب ما تستحق به أن تُذم، ولذلك قال له: محلمي عنك ما أعرف من نفسي.
[*] وقيل للربيع بن خثيم رحمه الله تعالى: ما نراك تغتاب أحداً؟ فقال: لست عن حالي راضياً حتى أتفرغ لذم الناس ثم أنشد: لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها لنفسي من نفسي عن الناس شاغل.
[*] قال عون بن عبد الله رحمه الله تعالى: لا أحسب الرجل ينظر في عيوب الناس إلا من غفلة قد غفلها عن نفسه. يعني: هذا يدل على أنه إنسان غافل؛ حيث يشتغل بتراب وقع على ثوب غيره أو نملة تمشي على ثوبه، في حين أن داخل ثيابه هو العقارب والحيات والآفات تنهش فيه، فيشتغل بهذا الذي لا يعنيه -وهو أمر يسير مهما كان- عن هذا الأمر الخطير الذي يحدث به، وعن محمد بن سيرين رحمه الله تعالى قال: (كنا نحدث أن أكثر الناس خطايا أفرغهم لذكر خطايا الناس) أي: لأنه إذا اشتغل الإنسان بخطايا وبعيوب الناس لا شك أن هذا سيشغله عن إصلاح نفسه، وبالتالي تكثر خطاياه، ولا يتوب منها، ولا يعاتب نفسه؛ لأنه غير متفرغ لإصلاح نفسه.(10/365)
وتأمل في قول بن سيرين الآتي ـ في توجيهه لمن يشغل نفسه بسب الحجاج ـ بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد حتى تنشغل بعيوبك عن عيوب غيرك وإن كان ظالماً غاشماً، وإن بلغ ظلمه عنان السماء، وإن كان غارقاً في الظلم إلى الأذقان.
[*] قال الهيثم بن عبيد الصيدلاني: سمع ابن سيرين رجلاً يسب الحجاج، فقال: مَه أيها الرجل ـ أي: انصت وتعقل وتفكر ـ! إنك لو وافيت الآخرة كان أصغر ذنب عملت قط أعظم عليك من أعظم ذنب عمله الحجاج. أي أنه يقول له: كف عن هذا، ولا تضيع وقتك بالاشتغال بسب الحجاج، مع أن الحجاج رجل ظالم فعل ما فعل من الكبائر، لكن انظر إلى هنا إلى "طريقة تفكير ابن سيرين"، حيث إنه يدل الإنسان على أن يشتغل بعيب نفسه حتى لو كان في غيره من العيوب ما الله به عليم. فيقول: مه أيها الرجل! إنك لو وافيت الآخرة ـ أي: إذا قامت القيامة ووقفت بين يدي الله سبحانه وتعالى ـ فأيهما أخطر عليك: أقل ذنب أنت عملته بنفسك، أم أعظم ذنب عمله الحجاج؟ الجواب: ما عملته أنت بنفسك، فلهذا ينبغي أن تخاف من ذنبك أكثر من ذنوب غيرك؛ لأن هذا سوف يضرك إن لم يتب الله عليك. قال ابن سيرين: إنك لو وافيت الآخرة كان أصغر ذنب عملته قط أعظم عليك من أعظم ذنب عمله الحجاج، واعلم أن الله عز وجل حكم عدل، إن أخذ من الحجاج لمن ظلمه شيئاً فشيئاً أخذ للحجاج ممن ظلمه، فلا تشغلن نفسك بسب أحد. أي أن الله سبحانه وتعالى حكم عدل، فإذا أنت جاوزت الحد وبغيت على الحجاج نفسه ـ مع أن الحجاج كان ظالماً وباغياً ـ فالله سبحانه وتعالى حكم عدل، وإن أخذ من الحجاج لمن ظلمه الحجاج شيئاً فشيئاً للمظلومين الذين ظلمهم الحجاج؛ لأنه سوف ينتقم الله من الحجاج إن شاء ذلك، ويأخذ من الحجاج بقدر ظلمه لهؤلاء الناس، لكن بجانب ذلك أيضاً الله سبحانه وتعالى لأنه حكم عدل سوف يأخذ للحجاج ممن ظلم الحجاج، فإذا أنت اشتغلت بذنبه وسبه وبغيت في ذلك فلا تأمن أن الله سبحانه وتعالى سوف يعاقبك بأن ينتقم منك من أجل الظلم الذي ظلمته الحجاج، فلا تشغلن نفسك بسب أحد.
الأسباب التي تحمل الإنسان أن يتتبع عيوب الناس:
(1) حب الرياسة والعياذ بالله:(10/366)
[*] قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: ما من أحد أحب الرياسة إلا حسد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يُذكر أحد بخير. وهذه إشارة إلى أسباب هذا الداء، وهو حب وتتبع عيوب الناس، وتصيد أخطاء الآخرين، وسبب الحسد والبغي هو حب الرياسة وشهوة الرياسة، وهي الشهوة الخفية، فما من أحد أحب الرياسة إلا حسد ـ يحسد الآخرين ـ وبغى، وتتبع عيوب الناس؛ لأنه يكره أن يُذكر الآخرون بخير، وبالتالي يحاول دائماً أن يهزمهم ويحطمهم ويكشف عيوبهم من أجل أن تكون له الرياسة والعلو.
وقد بين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن حرص الإنسان على المال والجاه يفسد الدين فساداً كبيراً أكبر من الفساد الحاصل من إطلاق ذئبان جائعان على غنم وتأمل في الحديث الآتي بعين الاعتبار:
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(ما) بمعنى ليس
(ذئبان جائعان) صفة له وفي رواية عاديان والعادي الظالم المتجاوز للحد
(أرسلا في غنم) الجملة في محل رفع صفة
(بأفسد) خبر ما والباء زائدة أي أشد فساداً والضمير في
(لها) للغنم واعتبر فيه الجنسية فلذا أنث وقوله
(من حرص المرء على المال والشرف) عطف على المال والمراد به الجاه والمنصب (لدينه) اللام فيه للبيان، نحوها في قوله {لمن أراد أن يتم الرضاعة} فكأنه قيل هنا بأفسد لأي شيء؟ قيل لدينه، ذكره الطيبي،
فمقصود الحديث أن الحرص على المال والشرف أكثر إفساداً للدين من إفساد الذئبين للغنم لأن ذلك الأشر والبطر يستفز صاحبه ويأخذ به إلى ما يضره وذلك مذموم لاستدعائه العلو في الأرض والفساد المذمومين شرعاً، قال الحكيم: وضع اللّه الحرص في هذه الأمة ثم زمه في المؤمنين بزمام التوحيد واليقين وقطع علائق الحرص بنور السبحات فمن كان حظه من نور اليقين ونور السبحات أوفر كان وثاق حرصه أوثق والحرص يحتاجه الآدمي لكن بقدر معلوم وإذا لم يكن لحرصه وثاق وهبت رياحه استفزت النفس فتعدى القدر المحتاج إليه فأفسد وعرف بعضهم الحرص بأنه مدد القوة الموضوعة في الآدمي ومثيرها وعمادها. أهـ
(2) نقص خلقه ودينه:
إن تتبع الإنسان لعيوب غيره دليل على عيبه ونقصه:(10/367)
[*] كان مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول: كفى بالمرء إثماً أن لا يكون صالحاً، ثم يجلس في المجالس ويقع في عرض الصالحين. فقوله: (كفى بالمرء إثماً أن لا يكون صالحاً) أي: هو في نفسه ليس من الصالحين، وليس رجلاً صالحاً. وقوله: (ثم يجلس في المجالس ويقع في عرض الصالحين) أي: يغتابهم ويذكر عيوبهم. وقال أبو عاصم النبيل: لا يذكر الناس بما يكرهون إلا سفلة لا دين لهم.
ولله درُ من قال:
لا تكشفن مساوي الناس ما ستروا ... فيهتك الله ستراً عن مساويك
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ... ولا تعب أحداً منهم بما فيك
وسمع أعرابي رجلاً يقع في الناس ـ والأعراب هم البدو الرحل الذين لا يعيشون في المدن، ولا يسمعون القرآن، ولا يحضرون دروس العلم، والأصل فيهم الجهل والجفاء إلا ما استثني، كما ذكر الله تبارك وتعالى في سورة التوبة ـ، لكن هذا الأعرابي مع ذلك نطق بالحكمة، ونطق بما تدل عليه أحدث الاتجاهات في علم النفس الحديث، حيث إنهم يفرحون بهذه الأشياء، ويظنون أنهم هم الذين أوجدوا هذه العلوم، لكن انظر هذا الأعرابي مع بساطته عبر بما يطلقون عليه الآن: (الحيل الدفاعية) التي يسلكها الإنسان ليدفع عن نفسه العوص والعيب، ومنها حيلة الإسقاط، أي: يسقط أخطاءه على الآخرين، فهو يشعر بعيب معين في نفسه، فكي يلفت النظر بعيداً عن أن ينتبه الناس إلى هذا العيب الذي هو في نفسه يرمي الناس بما فيه من العيوب، وكلما كثرت فيه هذه العيوب كلما كثر تتبع هذه العيوب في الناس، فهي حيلة من الحيل الدفاعية بالاصطلاح الحديث في علم النفس، فهذا الأعرابي سمع رجلاً يقع في أعراض الناس، فقال: " قد استدللت على عيوبك بكثرة ذكرك لعيوب الناس "؛ لأن الطالب لها ـ أي: للعيوب ـ يطلبها بقدر ما فيه منها. أي: فكثرة الاشتغال بعيوب الناس تدل على وجود نفس هذه العيوب في نفسه هو، فهي عبارة عن عملية دفاعية بكونه يسقط هذه العيوب على الآخرين. يقول: قد استدللت على عيوبك بكثرة ذكرك لعيوب الناس؛ لأن الطالب لها يطلبها بقدر ما فيه منها. وأجرأ من رأيت بظهر غيب على عيب الرجال أخو العيوب أي: صاحب العيوب.
ولله درُ من قال:
شر الورى من بعيب الناس مشتغلاً ... مثل الذباب يراعي موضع العلل(10/368)
فالإنسان لو في جسمه جروح مكشوفة، وفيها الدم وفيها كذا وكذا، فتجد الذباب يحب أن يتتبع مواضع العلل والداء كي يقف عليها، فكذلك هناك أناس لهم هواية التفتيش في القمامة، فترى أحدهم عنده هذه الهواية، ويحب التفتيش في القمامة، فما يقع إلا على العلل، ولا يذكر محاسن الآخرين، لكن دائماً يفتش في القمامة، ويقلب هذه الأشياء، وهذا ما يعبر عنه الشاعر بقوله: شر الورى من بعيب الناس مشتغلاً مثل الذباب يراعي موضع العلل، وهذا التفتيش في القمامة ليس فقط على مستوى العلاقات الفردية، لكن يوجد أيضاً فيما يُسمى زوراً بالبحوث التاريخية، يزعمون أنهم يكتبون أو يبحثون بحوثاً علمية وتاريخية، ثم هم ما يقعون إلا على مواضع المؤاخذة في التاريخ الإسلامي، فمثلاً: ما يعرفون عن معاوية رضي الله تعالى عنه إلا كذا وكذا وكذا، وينسون أنه صحابي، وأنه خال المؤمنين، وأنه كاتب الوحي، وأنه المجاهد في سبيل الله، وأنه الحاكم بشريعة الله، كل هذا يُنسى، ويُركز فقط على المآخذ، سواء على معاوية رضي الله تعالى عنه مثلاً، أو على الدولة الأموية، أو على الدولة العباسية، وينسون أن واجب كل مسلم من أهل السنة أن يكون له ولاء لكل هذه الولايات الإسلامية أو الخلافات الإسلامية، سواء أكانت راشدة ـ بلا شك ـ أو أموية أو عباسية؛ لأنها في الجملة كانت خلافة إسلامية ترفع راية الشريعة، وتحكم بكتاب الله تبارك وتعالى، فينشغلون بذم تاريخ بعض السابقين وبعض الصور التاريخية السابقة بهدف التنفير من هذا التاريخ، وقطع اعتزاز الخلف بهذا السلف بالتركيز فقط على عيوبهم، ولو سلكوا المنهج المثيل لأمسكوا عما شجر بينهم، ولأمسكوا عن هذه العيوب، ولقالوا ما سنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.
(43) التعاون على البر والتقوى:
إن التعاون على البر والتقوى من أفضل القربات وأجل الطاعات، ويترتب عليه الأجر العظيم بنص السنة الصحيحة
قال تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرّ وَالتّقْوَىَ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ) [سورة: المائدة - الآية: 2]
[*] قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره:(10/369)
قوله تعالى: [وتعاونوا على البر والتقوى] قال الأخفش: هو مقطوع من أول الكلام وهو أمر لجميع الخلق بالتعاون على البر والتقوى أي ليعن بعضكم بعضاً وتحاثوا على ما أمر الله تعالى واعلموا به، وانتهوا عما نهى الله عنه وامتنعوا منه.
[*] وقال ابن خويز منداد في أحكامه: والتعاون على البر والتقوى يكون بوجوه فواجب على العالم أن يعين الناس بعلمه فيعلمهم ويعينهم الغني بماله والشجاع بشجاعته في سبيل الله وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة.
ثم نهى فقال: " ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " وهو الحكم اللاحق عن الجرائم وعن العدوان وهو ظلم الناس ثم أم بالتقوى وتوعد توعداً مجملاً فقال: " واتقوا الله إن الله شديد العقاب".
**والسنة الصحيحة طافحة بالحث على التعاون على البر والتقوى
(حديث ابن مسعود في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الدال على الخير كفاعله.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(الدال على الخير كفاعله) فإن حصل ذلك الخير فله مثل ثوابه وإلا فله ثواب دلالته قال القرطبي: ذهب بعض الأئمة إلى أن المثل المذكور إنما هو بغير تضعيف لأن فعل الخير لم يفعله الدال وليس كما قال بل ظاهر اللفظ المساواة ويمكن أن يصار إلى ذلك لأن الأجر على الأعمال إنما هو بفضل اللّه يهب لمن يشاء على أي فعل شاء وقد جاء في الشرع كثير وظاهر صنيع المصنف أن هذا هو الحديث بتمامه والأمر بخلافه بل بقيته والدال على الشر كفاعله أي لإعانته عليه فله كفعله من الإثم وإن لم يحصل بمباشرته.
(حديث زيد بن خالد في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا و من خلف غازيا في سبيل الله في أهله بخير فقد غزا.
(44) رحمة الصغير وتوقير الكبير:
ومن أفضل آداب معاشرة الإخوان رحمة الصغير وتوقير الكبير
(حديث أنس في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ليس منا من لم يرحم صغيرنا و يوقر كبيرنا.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.(10/370)
(ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا) الواو بمعنى أو فالتحذير من كل منهما وحده فيتعين أن يعامل كلاً منهما بما يليق به فيعطى الصغير حقه من الرفق به والرحمة والشفقة عليه ويعطى الكبير حقه من الشرف والتوقير، قال الحافظ العراقي: فيه التوسعة للقادم على أهل المجلس إذا أمكن توسعهم له سيما إن كان ممن أمر بإكرامه من الشيوخ شيباً أو علماً أو كونه كبير قوم كما في حديث جرير المار إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه.
(حديث أبي موسى في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم و حامل القرآن غير الغالي فيه و الجافي عنه و إكرام ذي السلطان المقسط.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(إن من إجلال اللّه) أي تبجيله وتعظيمه
(إكرام ذي الشيبة المسلم) أي تعظيم الشيخ الكبير صاحب الشيبة البيضاء الذي عمره في الإيمان وتوقيره في المجالس والرفق به والشفقة عليه
(وحامل القرآن) أي قارئه
(غير الغالي فيه) أي غير المتجاوز الحد في العمل به وتتبع ما خفي منه واشتبه عليه من معانيه وفي حدود قراءته ومخارج حروفه
(والجافي عنه) أي التارك له البعيد عن تلاوته والعمل بما فيه
(وإكرام ذي السلطان) أي سلطان لأنه ذي قهر وغلبة من السلاطة وهي التمكن من القهر قال اللّه تعالى {ولو شاء اللّه لسلطهم عليكم} ومنه سمي السلطان وقيل ذي حجة لأنه يقام به الحجج.
(المقسط) بضم الميم العادل في حكمه بين رعيته قال ابن الأثير: وقيد بقوله غير الغالي إلخ لأن من أخلاقه التي أمر بها القصد في الأمور والغلو التشديد في الدين ومجاوزة الحد والتجافي البعد عنه.
(حديث جابر رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَمَرَنِي جِبْرِيْلُ أَنْ أُقَدِّمَ الأَكَابِرَ.
(حديث سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: لَقَدْ كُنْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُلَامًا فَكُنْتُ أَحْفَظُ عَنْهُ فَمَا يَمْنَعُنِي مِنْ الْقَوْلِ إِلَّا أَنَّ هَا هُنَا رِجَالًا هُمْ أَسَنُّ مِنِّي.(10/371)
ولقد تطبّع أفراد المجتمع المسلم بذلك الخلق وتوارثوا توقير الكبير واحترامه وتقديره انقياداً لتعاليم دينهم، واتباعاً لسنة رسولهم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - من أشد الناس توقيراً لإخوانه ولمن هو أسن منه، فقد روى عنه المروزي أنه جاءه أبو همام راكباً على حماره، فأخذ له الإمام أحمد بالركاب. وقال المروزي: رأيته فعل هذا بمن هو أسن منه من الشيوخ (1).
وذكر ابن الجوزي عن ابن سعيد الأشج أنه قال: ((حدثنا ابن إدريس، عن ليث، قال: كنت أمشي مع طلحة بن مصرف فقال: لو كنت أسن مني بليلة ما تقدمتك)) (2)، فهذا خُلُقُهُم - رحمهم الله - فالأسن مقدم ولو كان الفارق ليلة فكيف بسنة أو سنوات؟! فذلك من باب أولى، وروى الحسن بن منصور قال: كنت مع يحيى وإسحاق بن راهويه يوماً نعود مريضاً فلما حاذينا الباب تأخر إسحاق، وقال ليحيى: تقدم أنت، قال: يا أبا زكريا أنت أكبر مني (3).
(45) أن يكون مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر:
ومن أفضل الآداب في الصحبة ومعاشرة الخلق أن يكون مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر فطوبى فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه و ويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه.
(حديث أنس في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن من الناس ناسا مفاتيح للخير مغاليق للشر و إن من الناس ناسا مفاتيح للشر مغاليق للخير فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه و ويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
إن من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر وإن من الناس ناساً مفاتيح للشر مغاليق للخير فطوبى) أي حسنى أو خيراً وهو من الطيب أي عيش طيب
(لمن جعل اللّه مفاتيح الخير على يديه وويل) شدة حسرة ودمار وهلاك
__________
(1) الآداب الشرعية والمنح المرعية، مرجع سابق، جزء 1، ص 470.
(2) كتاب الحدائق في علم الحديث والزهديات، ابن الجوزي، تحقيق: مصطفى السبكي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1408هـ، جزء 3، ص 105.
(3) الآداب الشرعية والمنح المرعية، مرجع سابق، جزء 3، ص 269.(10/372)
(لمن جعل اللّه مفاتيح الشر على يديه) قال الحكيم: فالخير مرضاة اللّه والشر سخطه فإذا رضى اللّه عن عبد فعلامة رضاه أن يجعله مفتاحاً للخير فإن رؤى ذكر الخير برؤيته وإن حضر حضر الخير معه وإن نطق نطق بخير وعليه من اللّه سمات ظاهرة لأنه يتقلب في الخير بعمل الخير وينطق بخير ويفكر في خير ويضمر خيراً فهو مفتاح الخير حسبما حضر وسبب الخير لكل من صحبه والآخر يتقلب في شر ويعمل شراً وينطق بشر ويفكر في شر ويضمر شراً فهو مفتاح الشر لذلك فصحبة الأول دواء والثاني داء.
(46) مشورة أهل الصلاح:
ومن أفضل الآداب في الصحبة ومعاشرة الخلق مشورة أهل الصلاح لأن من شاور الناس فقد شاركهم في عقولهم.
قال تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتَوَكّلِينَ) [سورة: آل عمران - الآية: 159]
الشاهد: قوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ]
(وشاورهم) استخرج آراءهم
(في الأمر) أي شأنك من الحرب وغيره تطييبا لقلوبهم وليستن بك وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثير المشاورة لهم.
و قال تعالى: (وَالّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمْ وَأَقَامُواْ الصّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىَ بَيْنَهُمْ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) [سورة: الشورى - الآية: 38]
الشاهد: قوله تعالى [وَأَمْرُهُمْ شُورَىَ بَيْنَهُمْ]
(وأمرهم شورى بينهم) يتشاورون فيه ولا يعجلون، فالمشورة من صفات المؤمنين بنص القرآن الكريم.
مسألة: ما هو واجب المستشار؟
يجب على المستشار شيئين متلازمين إذا أراد النجاة هما:
(1) أداء الأمانة في المشورة لأنه مؤتمن بنص السنة الصحيحة
(حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: المستشارُ مُؤتَمَن.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[المستشارُ مُؤتَمَن]
(المستشار مؤتمن) أي أمين على ما استشير فيه فمن أفضى إلى أخيه بسره وأمنه على نفسه فقد جعله بمحلها فيجب عليه أن لا يشير عليه إلا بما يراه صواباً.
(حديث أبي هريرة في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من أُفْتِىَ بغير علمٍ كان إثْمُه على من أفتاه و من أشار على أخيه بأمرٍ يعلمُ أن الرشدَ في غيرهِ فقد خانَه.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[و من أشار على أخيه بأمرٍ يعلمُ أن الرشدَ في غيرهِ فقد خانَه].(10/373)
2) يجب على المستشار كذلك أن لا يكن همه رضا من استشاره وليكن همه رضا الله تعالى ولو بسخط الناس.
(حديث معاوية في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، و من التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس.
(47) اجتناب العصبية فإنها هلاكٌ مُحَقَّق:
ومن أفضل الآداب في الصحبة ومعاشرة الخلق اجتناب العصبية فإنها هلاكٌ مُحَقَّق
(حديث ابن مسعود في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعيرِ الذي تردى فهو يُنْزَعُ بِذَنَبِه.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[فهو كالبعيرِ الذي تردى فهو يُنْزَعُ بِذَنَبِه]
[فهو كالبعيرِ الذي تردى]: أي كالبعير الذي سقط وهلك في البئر
[فهو يُنْزَعُ بِذَنَبِه]: أي يُرْفع من البئر بذَنبه أي بذيله فهو هلاك محقق.
(48) اجتناب الغش والخداع للمسلمين:
ومن أفضل آداب معاشرة الإخوان اجتناب الغش والخداع للمسلمين فإنه من قبائح الذنوب وفواحش الذنوب
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من حمل علينا السلاح فليس منا و من غشنا فليس منا.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[و من غشنا فليس منا]
(من غش) أي خان والغش ستر حال الشيء
(فليس منا) أي من متابعينا. ليس المعنى نفيه عن الإسلام بل نفي خلقه عن أخلاق المسلمين أي ليس هو على سنتنا أو طريقتنا في مناصحة الإخوان كما يقول الإنسان لصاحبه أنا منك يريد الموافقة والمتابعة قال تعالى عن إبراهيم {فمن تبعني فإنه مني}
(حديث ابن عمر في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن النَّجَش.
(نهى عن النَّجش) الزيادة في ثمن السلعة لا لرغبة الشراء بل ليخدع غيره من المسلمين ويوقعه فيها وهو خداع وغش والعياذ بالله.
(حديث أبي هريرة في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ليس منا من خَبَّبَ امرأةً على زوجها أو عبداً على سيده.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[ليس منا من خَبَّبَ امرأةً على زوجها أو عبداً على سيده]
(ليس منا من خبب امرأة على زوجها) أي خدعها وأفسدها عليه(10/374)
[*] قال النووي في الأذكار: فيحرم أن يحدث قِن رجل أو زوجته أو ابنه أو غلامه أو نحوهم بما يفسدهم به عليه إذا لم يكن أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}.
ومعنى (ليس منا): أي ليس من متابعينا. ليس المعنى نفيه عن الإسلام بل نفي خلقه عن أخلاق المسلمين أي ليس هو على سنتنا أو طريقتنا في مناصحة الإخوان كما يقول الإنسان لصاحبه أنا منك يريد الموافقة والمتابعة قال تعالى عن إبراهيم {فمن تبعني فإنه مني.
(حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ خِبٌّ وَلَا مَنَّانٌ وَلَا بَخِيلٌ.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
قَوْلُهُ: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ) أَيْ دُخُولًا أَوَّلِيًّا
(خِبٌّ) بِفَتْحِ الْخَاءِ وَيُكْسَرُ أَيْ خَدَّاعٌ يُفْسِدُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْخِدَاعِ
(وَلَا بَخِيلٌ) يَمْنَعُ الْوَاجِبَ مِنَ الْمَالِ البخل
(وَلَا مَنَّانٌ) مِنَ الْمِنَّةِ أَيْ يَمُنُّ عَلَى الْفُقَرَاءِ بَعْدَ الْعَطَاءِ أَوْ مِنَ الْمَنِّ بِمَعْنَى الْقَطْعِ لِمَا يَجِبُ أَنْ يُوصَلَ وَقِيلَ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَعَ هَذِهِ الصِّفَةِ حَتَّى يُجْعَلَ طَاهِرًا مِنْهَا إِمَّا بِالتَّوْبَةِ عَنْهَا فِي الدُّنْيَا أَوْ بِالْعُقُوبَةِ بِقَدْرِهَا تَمْحِيصًا فِي الْعُقْبَى, أَوْ بِالْعَفْوِ عَنْهُ تَفَضُّلًا وَإِحْسَانًا
(49) اجتناب الغدر للمسلمين:
ومن أفضل آداب معاشرة الإخوان اجتناب الغدر للمسلمين فإنه من قبائح الذنوب وفواحش الذنوب، وهو من صفات المنافقين والعياذ بالله.
(حديث عبد الله بن عمرو في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أربع من كن فيه كان منافقا خالصا و من كانت فيه خَصْلَةٌ منهن كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى يدعها: إذا ائتُمن خان و إذا حدَّث كذب و إذا عاهد غدر و إذا خاصَم فجر.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[و إذا عاهد غدر] فعدها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من صفات المنافقين والعياذ بالله
(وإذا عاهد غدر) أي نقص العهد
(حديث ابن عمر في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لكل غادرٍ لواءٌ يوم القيامة، يُقالُ هذه غَدْرَةُ فلانٍ بن فلان.
(لكل غادرٍ لواءٌ يوم القيامة) لتزداد فضيحته وتتضاعف استهانته(10/375)
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى: ثلاثةٌ أنا خَصْمُهُم يوم القيامة: رجلٌ أعطى بي ثم غدر و رجلٌ باع حراً فأكل ثمنه و رجل استأجر أجيرا فاستوفى منه و لم يُعْطِهِ أجره.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[رجلٌ أعطى بي ثم غدر]
(رجل أعطى بي ثم غدر) أي أعطى يمينه بي أي عاهد عهداً وحلف عليه ثم نقضه.
(50) اجتناب ظلم العباد:
ومن أفضل الآداب في الصحبة ومعاشرة الخلق اجتناب ظلم العباد فإنه بئس الزاد ليوم الميعاد، فالظلم ظلماتٌ يوم القيامة، ودعوة المظلوم مستجابة ليس بينها وبين الله حجاب.
قال تعالى: (مَا لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ) [سورة: غافر - الآية: 18]
(ما للظالمين من حميم) محب
(ولا شفيع يطاع) تقبل شفاعته لا مفهوم للوصف إذ لا شفيع لهم أصلا فما لنا من شافعين أوله مفهوم بناء على زعمهم أن لهم شفعاء أي لو شفعوا فرضا لم يقبلوا
و قال تعالى: (وَمَا لِلظّالِمِينَ مِن نّصِيرٍ) [سورة: الحج - الآية: 71]
(وما للظالمين) بالإشراك
(من نصير) يمنع عنهم عذاب الله
(حديث ا بن عباس في الصحيحين) قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذٍ ابن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتُردُ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائمَ أموالهم، واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب]
(حديث خزيمة بن ثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اتقوا دعوة المظلوم فإنها تُحْمَلُ على الغمام يقول الله: و عزتي و جلالي لأنصرنك و لو بعد حين.
(اتقوا دعوة المظلوم) أي اجتنبوا دعوة من تظلمونه وذلك مستلزم لتجنب جميع أنواع الظلم على أبلغ وجه وأوجز إشارة وأفصح عبارة لأنه إذا اتقى دعاء المظلوم فهو أبلغ من قوله لا تظلم وهذا نوع شريف من أنواع البديع يسمى تعليقاً ثم بين وجه النهي بقوله.(10/376)
(فإنها تُحمل على الغمام) أي يأمر الله برفعها حتى تجاوز الغمام أي السحاب الأبيض حتى تصل إلى حضرته تقدس
(يقول الله وعزتي وجلالي لأنصرنك) بلام القسم ونون التوكيد الثقيلة وفتح الكاف أي لأستخلصن لك الحق ممن ظلمك
(ولو بعد حين) أي أمد طويل بل دل به سبحانه على أنه يمهل الظالم ولا يهمله
(حديث ابن عمر في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة.
(اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة) كناية عن سرعة الوصول لأنه مضطر في دعائه وقد قال سبحانه وتعالى {أمّن يجيب المضطر إذا دعاه} وكلما قوي الظلم قوي تأثيره في النفس فاشتدت ضراعة المظلوم فقويت استجابته والشرر ما تطاير من النار في الهواء شبه سرعة صعودها بسرعة طيران الشرر من النار.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوة المظلوم مستجابة و إن كان فاجرا ففجوره على نفسه.
(دعوة المظلوم مستجابة) أي يستجيبها اللّه تعالى يعني فاجتنبوا جميع أنواع الظلم لئلا يدعو عليكم المظلوم فيجاب
(وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه) ولا يقدح ذلك في استجابة دعائه لأنه مضطر ونشأ من اضطراره صحة التجائه إلى ربه وقطعه قلبه عما سواه وللإخلاص عند اللّه موقع وقد ضمن إجابة المضطر بقوله تعالى: (أَمّن يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إِذَا دَعَاهُ) [النمل: 62].
(حديث أنس في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا: البغي و العقوق.
(بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا) أي قبل موت فاعليها
(البغي) أي مجاوزة الحد والظلم
(حديث ابن عمر في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الظلم ظلماتٌ يوم القيامة.(10/377)
(حديث أبي ذرٍ في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي و جعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل و النهار و أنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني و لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله و من وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: [قال الله تعالى: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي و جعلته بينكم محرما فلا تظالموا]
(قال اللّه تعالى يا عبادي إني حرّمت) أي منعت
(الظلم على نفسي) أي تقدست وتعاليت عنه لأنه مجاوزة والتصرف في ملك الغير وكلاهما في حقي كالمحرم فهو استعارة مصرحة تبعية شبه تنزهه عنه بتحرز المكلف عما نهى عنه
(وجعلته محرماً بينكم) أي حكمت بتحريمه عليكم
(فلا تظالموا) أي لا تتظالموا أي لا يظلم بعضكم بعضاً
(حديث جابر في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة و اتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم و حملهم على أن سفكوا دماءهم و استحلوا محارمهم.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: [اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة]
(اتقوا الظلم) بأخذ مال الغير بغير حق أو التناول من عرضه ونحو ذلك قال بعضهم: ليس شيء أقرب إلى تغيير النعم من الإقامة على الظلم(10/378)
(فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) فلا يهتدي الظالم يوم القيامة بسبب ظلمه في الدنيا فربما أوقع قدمه في وهدة فهو في حفرة من حفر النار وإنما ينشأ الظلم من ظلمة القلب لأنه لو استنار بنور الهدى تجنب سبل الردى فإذا سعى المتقون بنورهم الحاصل بسبب التقوى احتوشت ظلمات ظلم الظالم فغمرته فأعمته حتى لا يغني عنه ظلمه شيئاً.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ و صيام و زكاة و يأتي وقد شتم هذا و قذف هذا و أكل مال هذا و سفك دم هذا و ضرب هذا فيُعطِى هذا من حسناته و هذا من حسناته فإن فنيت حسناتُه قبل أن يُقضَى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طُرح في النار.
(حديث ابن عمر في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أخذ من الأرض شيئا بغير حقه خُسِفَ به يوم القيامة إلى سبع أرضين.
(من أخذ من الأرض شيئاً بغير حقه خسف به) أي هوى به إلى أسفلها، أي بالأخذ غصباً لتلك الأرض المغصوبة
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله تعالى لَيملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.
(إن اللّه تعالى لَيملي) بفتح اللام الأولى أي ليمهل والإملاء الإمهال والتأخير وإطالة العمر (للظالم) زيادة في استدراجه ليطول عمره ويكثر ظلمه فيزداد عقابه {إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً} فإمهاله عين عقابه
(حتى إذا أخذه) أي أنزل به نقمته
(لم يُفلته) أي لم يفلت منه.
(والعقوق) للوالدين وإن عليا أو أحدهما أي إيذاؤهما ومخالفتهما فيما لا يخالف الشرع.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الظلم ثلاثة فظلم لا يغفره الله و ظلم يغفره و ظلم لا يتركه فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك قال الله: (إن الشرك لظلم عظيم)، و أما الظلم الذي يغفره فظلم العباد أنفسهم فيما بينهم و بين ربهم و أما الظلم الذي لا يتركه الله فظلم العباد بعضهم بعضا حتى يدبر لبعضهم من بعض.
قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(الظلم) قال ابن حجر: وهو وضع الشيء في غير موضعه الشرعي
(ثلاثة) من الأنواع والأقسام
(فظلم لا يغفره اللّه وظلم يغفره وظلم لا يتركه فأمّا)
الأول وهو (الظلم الذي لا يغفره اللّه فالشرك قال اللّه {إن الشرك لظلم عظيم}(10/379)
وأمّا) الثاني وهو (الظلم الذي يغفره اللّه فظلم العباد أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم) {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم} قالوا: نكرة في سياق چ
الشرط فعم كل ما فيه ظلم النفس وقال {فمنهم ظالم لنفسه} فهذا لا يدخل
فيه الشرك الأكبر قال ابن مسعود: لما نزلت {الذين آمنوا ولم يلبسوا
إيمانهم بظلم} شق ذلك على الصحب وقالوا: يا رسول اللّه أينا لم يظلم
نفسه قال: إنما هو الشرك ألم تسمعوا قول العبد الصالح {إن الشرك لظلم عظيم} (وأما) الثالث وهو (الظلم الذي لا يتركه اللّه فظلم
العباد بعضهم بعضاً حتى يدير لبعضهم من بعض) علم من هذا ما نقله الذهبي
عن بعض المفسرين أن الظلم المطلق هو الكفر المطلق {والكافرون هم الظالمون
} فلا شفيع لهم غداً {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} والظلم المفيد قد يختص بظلم العبد نفسه وظلم بعضهم بعضاً فالأول من الثاني مغفور إن شاء اللّه والثاني تنصب له موازين العدل فمن سلم من [ص 296] أصناف
الظلم فله الأمن التام ومن لم يسلم من ظلمه لنفسه فله الأمن ولا بد أن يدخل
الجنة (تنبيه) قال ابن عربي: من ظلم العباد أن يمنعهم حقهم الواجب
عليه أداؤه وقد يكون ذلك بالحال لما يراه على المسكين وهو قادر واجد لسد
خلته ودفع ضرورته. أهـ
أورد الماوردي رحمه الله تعالى في أدب الدين والدنيا أَنَّ الرَّشِيدَ حَبَسَ أَبِي الْعَتَاهِيَةِ فَكَتَبَ عَلَى حَائِطِ الْحَبْسِ:
أَمَا وَاَللَّهِ إنَّ الظُّلْمَ شُؤْمٌ: وَمَا زَالَ الْمُسِيءُ هُوَ الظَّلُومُ
إلَى دَيَّانِ يَوْمِ الدِّينِ نَمْضِي: وَعِنْدَ اللَّهِ تَجْتَمِعُ الْخُصُومُ
سَتَعْلَمُ فِي الْمَعَادِ إنْ الْتَقَيْنَا: غَدًا عِنْدَ الْمَلِيكِ مَنْ الظَّلُومُ
فَأُخْبِرَ الرَّشِيدُ بِذَلِكَ فَبَكَى بُكَاءً شَدِيدًا، وَدَعَا بِأَبِي الْعَتَاهِيَةِ فَاسْتَحَلَّهُ وَوَهَبَ لَهُ أَلْفَ دِينَارٍ وَأَطْلَقَهُ.
{تنبيه}: وينبغي على المسلم إن زلت قدمه ووقع في ظلم أن يرد المظالم إلى أهلها وأن يتحلل منه اليوم قبل ألا يكون دينارٌ ولا درهم.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه.(10/380)
قال تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنّ اللّهَ غَافِلاً عَمّا يَعْمَلُ الظّالِمُونَ إِنّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ) [إبراهيم: 42]
تشخص أبصار الخلائق لظهور الأهوال: فلا تغمض الويل لأهل الظلم من ثقل الأوزار، ذكرهم بالقبائح قد ملأ الأقطار، يكفيهم أنهم قد وسموا بالأشرار، ذهبت لذاتهم بما ظلموا وبقي العار، وداروا إلى دار العقاب وملك الغير الدار، وخلوا بالعذاب في بطون تلك الأحجار فلا مغيث ولا أنيس ولا رفيق ولا جار، ولا راحة لهم ولا سكون ولا مزار، سالت دموع أسفهم على سلفهم كالأنهار، شيدوا بنيان الأمل فإذا به قد انهار، أما علموا أن الله جار المظلوم ممن جار، فإذا قاموا في القيامة زاد البلاء على المقدار، سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار) لا يغرنك صفاء عيشهم كل الأخير أكدار (إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار)
قل للمشغولين بالفساد، الواقفين مع العناد، إلى متى ظلم العباد (إِنّ رَبّكَ لَبِالْمِرْصَادِ).
{تنبيه}: ويجب عليه أيضاً إن وجد أخاً له وقع في الظلم فإن يجب عليه أن يحجزه ويمنعه من الظلم.
(حديث أنس في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: انصر أخاك ظالما أو مظلوما، فقال رجل يا رسول الله: أنصره إن كان مظلوماً أرأيت إن كان ظالما كيف أنصره؟ قال: تحجزه أو تمنعه عن الظلم فإن ذلك نصره.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[تحجزه أو تمنعه عن الظلم فإن ذلك نصره]
(تحجزه عن الظلم) أي تمنعه منه وتحول بينه وبينه
(فإن ذلك نصرة) له أي منعك إياه من الظلم نصرك إياه على شيطانه الذي يغويه وعلى نفسه الأمارة بالسوء.
(حديث أبي بكر الصديق في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه.
(حديث أبي سفيان في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله لا يقدس أمة لا يأخذ الضعيف حقه من القوي و هو غير متعتع.
(51) اجتناب مجالس الظالمين:
وعلى المسلم أن يجتنب اجتناب مجالس الظالمين لئلا يصيبهم العذاب فيصبه ذلك العذاب معهم.(10/381)
(حديث عائشة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يُخسفُ بأولهم و آخرهم، قال قلت يا رسول الله! كيف يُخسفُ بأولهم و آخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: يُخسفُ بأولهم و آخرهم ثم يبعثون على نياتهم.
(حديث أبي بكر الصديق في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه.
(52) اجتناب إيذاء المسلمين:
ومن أفضل آداب معاشرة الإخوان اجتناب إيذاء المسلمين.
قال تعالى: (وَالّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مّبِيناً) [سورة: الأحزاب - الآية: 58]
(والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا) يرمونهم بغير ما عملوا
(فقد احتملوا بهتانا) تحملوا كذبا
(وإثما مبينا) بينا
(حديث عبد الله بن عمرو في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده و المهاجر من هجر ما نهى الله عنه.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[: المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده]
(المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) فإيذاء المسلم من نقصان الإسلام والإيذاء ضربان ضرب ظاهر بالجوارح كأخذ المال بنحو سرقة أو نهب وضرب باطن كالحسد والغل والبغض والحقد والكبر وسوء الظن والقسوة ونحو ذلك فكله مضر بالمسلم مؤذ له، وقد أمر الشرع بكف النوعين من الإيذاء وهلك بذلك خلق كثير.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: صنفان من أهل النار لم أرهما: رجالٌ معهم سِياطٌ كأذناب البقر يضربون بها الناس و نساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ مائلاتٌ مميلاتٌ رءوسهنَّ كأسنمةِ البُخْتِ المائلة لا يدخلن الجنة و لا يجدن ريحها و إن ريحَها لتوجد من مسيرة كذا و كذا.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[صنفان من أهل النار لم أرهما: رجالٌ معهم سِياطٌ كأذناب البقر يضربون بها الناس].
(صنفان من أهل النار) أي نار جهنم
(لم أرهما) الضم أي حدثا بعد ذلك العصر
رجالٌ معهم سِياطٌ كأذناب البقر يضربون بها الناس.(10/382)
وهم أعوان والي الشرطة المعروفون بالجلادين فإذا أمروا بالضرب تعدوا المشروع في الصفة والمقدار وربما أفضى بهم الهوى وما جبلوا عليه من المظالم إلى إهلاك المضروب أو تعظيم عذابه.
(حديث ابن عباس في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا ضرر و لا ضرار.
(لا ضرر) أي لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئاً من حقه
(ولا ضرار) فعال بكسر أوله أي لا يجازي من ضره بإدخال الضرر عليه بل يعفو فالضرر فعل واحد والضرار فعل اثنين. وفيه تحريم سائر أنواع الضرر إلا بدليل لأن النكرة في سياق النفي تعم.
(حديث خالد بن الوليد في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أشد الناس عذابا للناس في الدنيا أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة.
[أشد الناس عذابا للناس في الدنيا أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة] أي كما تدين تدان.
أورد أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة عن الربيع بن خثيم قال: " الناس رجلان: مؤمن فلا تؤذه، وجاهل فلا تجاهله "
{تنبيه}: يحرم إيذاء المسلمين حتى لو بالإشارة.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يشرْ أحدكم على أخيه بالسلاح فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار.
(53) اجتناب احتقار المسلمين:
ومن أفضل آداب معاشرة الإخوان اجتناب احتقار المسلمين فإنه داءٌ وبيل بل إنه من قبائح الذنوب وفواحش الذنوب لأنه من الكبر الذي يهلك صاحبه لا محالة.
قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عَسَىَ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مّن نّسَآءٍ عَسَىَ أَن يَكُنّ خَيْراً مّنْهُنّ وَلاَ تَلْمِزُوَاْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإَيمَانِ وَمَن لّمْ يَتُبْ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ) [سورة: الحجرات - الآية: 11]
[*] قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره:
قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم "
قيل عند الله وقيل (خيراً منهم) أي معتقداً وأسلم باطناً، والسخرية الاستهزاء.(10/383)
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تحاسدوا و لا تناجشوا و لا تباغضوا و لا تدابروا و لا يبع بعضكم على بيع بعض و كونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يخْذُلُه و لا يَحْقره التقوى هاهنا - و أشار إلى صدره - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه و ماله و عرضه.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يخْذُلُه و لا يَحْقره]
(المسلم أخو المسلم) أي يجمعهما دين واحد {إنما المؤمنون إخوة} فهم كالأخوة الحقيقية وهي أن يجمع الشخصين ولادة من صلب أو رحم أو منهما بل الأخوة الدينية أعظم من الحقيقة لأن ثمرة هذه دنيوية وتلك أخروية. ثم بين مقتضيات هذه الأخوة وحقوقها.
(حديث ابن مسعود في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر قيل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا و نعله حسنة قال: إن الله جميل يحب الجمال الكبر بَطَرُ الحقِ و غَمطُ الناس.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[الكبر بَطَرُ الحقِ و غَمطُ الناس]
[بَطَرُ الحقِ]: دفعه وعدم قبوله
[و غَمطُ الناس]: أي احتقارهم وازدرئهم
(حديث جندب بن عبد الله في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان! فقال الله تعالى من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان! إني قد غفرت له وأحبطتُ عملك.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[! فقال الله تعالى من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان! إني قد غفرت له وأحبطتُ عملك.]
فانظر رحمك الله تعالى كيف كان احتقار المسلم العاصي سبباً في إحباط عمل الذي احتقره واستقل شأنه.
أخرج أبو عبيد عن الحسن أن قوماً قدموا على أبي موسى رضي الله عنه، فأعطى العرب وترك الموالي. فكتب إليه عمر رضي الله عنه: ألا سويتَ بينهم؟ بحسب المرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كذا في الكنز.
(54) اجتناب التجسس على المسلمين:
ومن أفضل آداب معاشرة الإخوان اجتناب التجسس على المسلمين فإنه داءٌ وبيل بل إنه من قبائح الذنوب وفواحش الذنوب(10/384)
قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظّنّ إِنّ بَعْضَ الظّنّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ تَوّابٌ رّحِيمٌ) [سورة: الحجرات - الآية: 12]
الشاهد: قوله تعالى [وَلاَ تَجَسّسُواْ]
(ولا تجسسوا) حذف منه إحدى التاءين لا تتبعوا عورات المسلمين ومعايبهم بالبحث عنها.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخواناً.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[ولا تجسسوا]
مسألة: ما الفرق بين التحسس بالحاء والتجسس بالجيم؟
التجسس البحث عما يكتم عنك، والتحسس (بالحاء) طلب الأخبار والبحث عنها، وقيل: إن التجسس (بالجيم) هو البحث، ومنه قيل: رجل جاسوس إذا كان يبحث عن الأمور، وبالحاء: هو ما أدركه الإنسان ببعض حواسه.
(55) الاقتصاد في العزلة والمخالطة:
ومن أفضل آداب معاشرة الإخوان الاقتصاد في العزلة والمخالطة، وجدير بالذكر أن لكل من العزلة والمخالطة فوائد وغوائل، وأكثر الزهاد اختاروا العزلة منهم سفيان الثوري والفضيل وإبراهيم بن أدهم وبشر الحافي، ومنهم من اختار المخالطة كسعيد بن المسيب وشُريح والشعبي، وهاك صفوة مسائل الاقتصاد في العزلة والمخالطة:
معنى العزلة والخلطة:
ضوابط العزلة والخلطة:
متى تشرع العزلة؟
معنى التقية وأقسامها:
وسطية أهل السنة فى باب التَقِيَّة:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
معنى العزلة والخلطة:
أولاً معنى العزلة:
قال الخطابي رحمه الله في آداب العزلة:
ولسنا نريد ـ رحمك الله ـ بهذه العزلة التي نختارها مفارقة الناس في الجماعات والجمعات وترك حقوقهم في العبادات وإفشاء السلام ورد التحيات وما جرى مجراها من وظائف الحقوق الواجبة لهم وصنائع السنن والعادات المستحسنة فيما بينهم فإنها مستثناة بشرائطها جارية على سيلها ما لم يحل دونها حائل شغل ولا يمنع عنها مانع عذر.(10/385)
إنما نريد بالعزلة "ترك فضول الصحبة" ونبذ الزيادة منها وحط العلاوة التي لا حاجة بك عليها فإن من جرى في صحبة الناس والاستكثار من معرفتهم على ما يدعو إليه شغف النفوس وإلف العادات وترك الاقتصاد فيها والاقتصار الذي تدعوه الحاجة إليه كان جديرا ألا يحمد غبه وأن تستوخم عاقبته وكان سبيله في ذلك سبيل من يتناول الطعام في غير أوان جوعهن ويأخذ منه فوق قدر حاجته فإن ذلك لا يلبث أن يقع في أمراض مدنفة وأسقام متلفة وليس من علم كمن جهل ولا من حرب وامتحن كمن ماد وخاطر.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: خذوا بحظكم من العزلة.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: في العزلة راحة من خليط السوء.
قال الخطابي رحمه الله في آداب العزلة:
ومن مناقب العزلة أنها خالعة عنك ربقة ذل الآمال وقاطعة رق الأطماع ومعيدة عز اليأس من الناس فإن من صحبهم وكان فيهم ومعهم لم يكد يخلو من أن يحدث نفسه بنوع من الطمع فيهم إما في مال أو جاه والطمع فقر حاضر وذل صاغر.
ثانياً: معنى الخلطة:
اما الخلطة فهى المازجة والمداخلة، تقول: خلطت الشىء بغيره فاختلط ورجل مخلط، اى: حسن المداخلة للامور، وعكسه المزيل (انظرمعجم مقاييس اللغه)
ضوابط العزلة والخلطة:
ورد عن النبي صلى الله وعليه وسلم، أحاديث في فضل العزلة، وأخرى في فضل الخلطة، وقد يستشكل بعض الناس كيفية فهم كل من هذه الأحاديث والجمع بينهما ومعرفة ضوابط العزلة والخلطة:
[*] وفصل الخطاب في مسألة العزلة والخلطة أن يقتصد الإنسان في العزلة والمخالطة على التفصيل الآتي:
أولاً يأخذ بحظه من العزلة ليصون وقته الذي هو عمره ويستأنس بمناجاة ربه تعالى ويدارس الكتاب والسنة، وعليه يحمل الأحاديث الآتية:
(حديث أبي سعيد في الصحيحين) قال: قيل يا رسول الله أي الناس خير؟ قال: رجلٌ يجاهد بنفسه وماله ورجلٌ في شعبٍ من الشعاب يعبد الله ويدعُ الناس من شره.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[ورجلٌ في شعبٍ من الشعاب يعبد الله ويدعُ الناس من شره]
(حديث عقبة ابن عامر في صحيح الترمذي) قال قلت يا رسول الله ما النجاة؟ قال: أملك عليك لسانك ولْيسعك بيتُك وابكِ على خطيئتك.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: خذوا بحظكم من العزلة.(10/386)
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: في العزلة راحة من خليط السوء.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن ابن إبراهيم يقول: لو لم يكن في العزلة أكثر من أنك لا تجد أعوانا على الغيبة لكفى.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن الفضيل بن عياض يقول: من خالط الناس لم يسلم من أحد اثنين إما أن يخوض معهم إذا خاضوا في الباطل أو يسكت إن رأى منكرا فيأثم.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن سفيان بن عيينة قال: رأيت الثوري في المنام فقلت له أوصني فقال أقل معرفة الناس أقل معرفة الناس.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن بكر محمد العابد يقول قال لي داود الطائي يا بكر استوحش من الناس كما تستوحش من السبع.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن أبي ذر قال كان الناس ورقا لا شوك فيه فهم اليوم شوك لا ورق فيه.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن مكحول قال: إن كان في مخالطة الناس خير فالعزلة أسلم.
أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن ابراهيم البخاري يقول دخلت المسجد الحرام بعد المغرب فإذا فضيل جالس فجئت فجلست إليه فقال من هذا فقلت إبراهيم قال ما جاء بك قلت رأيتك وحدك فجلست إليك قال تحب أن تغتاب أو تتزين أو ترائي قلت لا قال قم عني.
وقال داود الطائي رحمه الله تعالى: فِر من الناس كما تفر من الأسد.
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابن الإمام أحمد: كَانَ أَبِي أَصْبَرَ النَّاسِ عَلَى الْوَحْدَةِ وَقَالَ لَمْ يَرَ أَحَدٌ أَبِي إلَّا فِي مَسْجِدٍ أَوْ حُضُورِ جِنَازَةٍ أَوْ عِيَادَةِ مَرِيضٍ وَكَانَ يَكْرَهُ الْمَشْيَ فِي الْأَسْوَاقِ.
وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ عَنْهُ: رَأَيْتُ الْوَحْدَةَ أَرْوَحَ لِقَلْبِي.
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: ذَكَرْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَبْدِ الْوَهَّابِ عَلَى أَنْ يَلْتَقِيَا فَقَالَ أَلَيْسَ قَدْ كَرِهَ بَعْضُهُمْ اللِّقَاءَ وَقَالَ يَتَزَيَّنُ لِي وَأَتَزَيَّنُ لَهُ , وَكَفَى بِالْعُزْلَةِ عِلْمًا , وَالْفَقِيهُ الَّذِي يَخَافُ اللَّهَ، وَقَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قُلْ لِعَبْدِ الْوَهَّابِ أُخْمِلَ ذِكْرُكَ , فَإِنِّي أَنَا قَدْ بُلِيت بِالشُّهْرَةِ.(10/387)
وَقَالَ غَيْرُهُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: أَشْتَهِي مَا لَا يَكُونُ , أَشْتَهِي مَكَانًا لَا يَكُونُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُسَيِّبِيُّ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ إنِّي أُحِبُّ أَنْ آتِيَك فَأُسَلِّمَ عَلَيْك وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ تَكْرَهَ الرَّحْلَ , فَقَالَ: إنَّا لَنَكْرَهُ ذَلِكَ.
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ السَّلَفِ يُؤْثِرُونَ الْعُزْلَةَ عَلَى الْخِلْطَةِ وَقَالَ أَيْضًا: إنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى نَفْعِ النَّاسِ بِمَالِهِ أَوْ بَدَنِهِ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ مَعَ الْقِيَامِ بِحُدُودِ الشَّرْعِ إنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ الْعُزْلَةِ إنْ كَانَ لَا يَشْتَغِلُ فِي عُزْلَتِهِ إلَّا بِنَوَافِلِ الصَّلَاةِ وَالْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ , وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ انْفَتَحَ لَهُ طَرِيقُ عَمَلٍ بِالْقَلْبِ بِدَوَامِ ذِكْرٍ أَوْ فِكْرٍ فَذَلِكَ الَّذِي لَا يُعْدَلُ بِهِ أَلْبَتَّةَ.
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
لَيْسَ فِي الدُّنْيَا أَطْيَبُ مِنْ تَنَزُّهِ الْعَالِمِ بِالْعِلْمِ فَهُوَ أَنِيسُهُ وَجَلِيسُهُ , وَقَدْ قَنِعَ بِمَا يَسْلَمُ بِهِ دِينُهُ مِنْ الْمُبَاحَاتِ الْحَاصِلَةِ لَا عَنْ تَكَلُّفٍ وَلَا عَنْ تَضْيِيعِ دِينٍ , وَارْتَدَى بِالْعُزْلَةِ عَنْ الذُّلِّ لِلدُّنْيَا وَأَهْلِهَا , وَالْتَحَفَ بِالْقَنَاعَةِ بِالْيَسِيرِ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْكَثِيرِ فَيَسْلَمُ دِينُهُ وَدُنْيَاهُ , وَاشْتِغَالُهُ بِالْعِلْمِ يَدُلُّهُ عَلَى الْفَضَائِلِ وَيُفَرِّجُهُ فِي الْبَسَاتِينِ , فَهُوَ يَسْلَمُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالسُّلْطَانِ وَالْعَوَامِّ بِالْعُزْلَةِ , وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ هَذَا إلَّا لِلْعَالِمِ , فَإِنَّهُ إذَا اعْتَزَلَ الْجَاهِلُ فَاتَهُ الْعِلْمُ فَتَخَبَّطَ.
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:(10/388)
فَإِذَا عَرَفْت فَوَائِدَ الْعُزْلَةِ وَغَوَائِلِهَا تَحَقَّقْت أَنَّ الْحُكْمَ عَلَيْهَا مُطْلَقًا خَطَأٌ , بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ إلَى الشَّخْصِ وَحَالِهِ وَإِلَى الْخَلْطِ وَحَالِهِ وَإِلَى الْبَاعِثِ عَلَى مُخَالَطَتِهِ وَإِلَى الْفَائِتِ بِسَبَبِ مُخَالَطَتِهِ مِنْ الْفَوَائِدِ , وَيُقَاسُ الْفَائِتُ بِالْحَاصِلِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَبَيَّنُ الْحَقُّ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الِانْقِبَاضُ عَنْ النَّاسِ مَكْسَبَةُ الْعَدَاوَةِ , وَالِانْبِسَاطُ لَهُمْ مَجْلَبَةٌ لِقُرَنَاءِ السُّوءِ , فَكُنْ بَيْنَ الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ , وَمَنْ ذَكَرَ سِوَى هَذَا فَهُوَ قَاصِرٌ , وَإِنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ عَنْ حَالِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ الْمُخَالِفِ لَهُ فِي الْحَالِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الطَّمَعُ فَقْرٌ وَالْيَأْسُ غِنًى , وَالْعُزْلَةُ رَاحَةٌ مِنْ جَلِيسِ السُّوءِ , وَقَرِينُ الصِّدْقِ خَيْرٌ مِنْ الْوَحْدَةِ.
وقال أيضاً خَالِطُوا النَّاسَ فِي مَعَايِشِكُمْ وَزَائِلُوهُمْ بِأَعْمَالِكُمْ.
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نِعْمَ صَوْمَعَةُ الرَّجُلِ بَيْتُهُ يَصُونُ دِينَهُ وَعِرْضَهُ , وَإِيَّاكُمْ وَالْأَسْوَاقَ فَإِنَّهَا تُلْغِي وَتُلْهِي.
وقال أيضاً كَانَ النَّاسُ وَرَقًا لَا شَوْكَ فِيهِ وَهُمْ الْيَوْمَ شَوْكٌ لَا وَرَقَ فِيهِ.
وَقَالَ مَكْحُولٌ إنْ كَانَ فِي الْجَمَاعَةِ فَضْلٌ فَإِنَّ فِي الْعُزْلَةِ سَلَامَةً. أهـ
{تنبيه}: لا تكون العزلة محمودة إلا بعد التفقه في الدين.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن إبراهيم النخعي قال: تفقه ثم اعتزل.
وأورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن ربيع بن خثيم قال: تفقه ثم اعتزل.
وسُئِلَ بعض العلماء: ما تقول في عزلة الجاهل؟ قال: خبالٌ ووبال، فقيل له: فالعالِم؟ فقال: مالك ولها؟ دعها معها حذاؤها وسقاؤها حتى يلقاها ربها.
{تنبيه}: هذا الكلام غايةٌ في الصدق والتوفيق حيث شبه عزلة العالم بضالة الإبل، فكما أن ضالة الإبل لا يُخشى عليها الضياع لأن معها حذاؤها وسقاؤها، فكذا عزلة العالم لا يُخشى عليها الضياع لأن معه الكتاب والسنة.
ثانياً: يأخذ بحظه من المخالطة: وعليه يحمل الحديث الآتي:(10/389)
(حديث ابن عمر في صحيح الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: المؤمنُ الذي يُخالطُ الناسَ و يصبرُ على أذاهُم أعظم أجراً من المؤمن الذي لا يخالطُ الناس و لا يصبرُ على أذاهم.
{تنبيه}: ويجب على المسلم أن لا يخالط إلا من ينتفع بمخالطته فلا يخالط إلا إحدى ثلاث.
1) عالماً يتعلم منه.
2) متعلماً يعلمه شيءٌ يبتغي به وجا الله تعالى
3) أحد إخوانه ممن يُحس فيهم الصدق والتقوى فيذكرون ويخبرونه بعيوبه وينصحونه نصائح أُخوية صادرةٌ عن إخلاصٍ وحسنِ طوية عساها أن تجد له في سمعه مسمعاً وفي قلبه موقعا، عسى الله أن ينفعه بها ويوفقه إلى تطبيقها.
ولله در من قال:
لقاءُ الناسِ ليس يفيدُ شيئا ... سوى الهذيان من قِل وقال
فاقلل من لقاءِ الناس إلا ... لأخذِ العلمِ أو إصلاحِ حال
متى تشرع العزلة؟
هناك حالات خاصة تشرع فيها العزلة، وينبغى أن يُلْحَظ ان الحديث سيكون عن الحالات العامة التى تشرع فيها العزلة، والتى سبب مشروعيتها فيها تغير عام يقع فى المجتمع، أما العزلة التى تشرع بسبب خاص فقد مضت الإشارة إليها، وهى التى تكون بسبب الفرد ذاته، إما لعدم قدرته على احتمال رؤية المعاصى والمفاسد، أو الخوف على نفسه من الوقوع فيها خوفاً ظاهراَ قويا، وإما لتخلقه بطبائع وخلائق سيئة، من الحِدة والشدة، أو التعجيل والهوج، أو غيرها مما يلحق الضرر بالآخرين، دون تحصيل فائدة تذكر، إلى أسباب أخرى يكون متعلقها ذاته، وليس الحال العام، والحالات التي تشرع فيها العزلة ثلاثة هي كما يلي:
الحالة الاولى: عند فساد الزمان:
أشار النبى صلى الله علية وسلم، إلى الزمان الذي يتعذر فيه إصلاح العامة، لاختلاف الناس وتناحرهم وتطاحنهم، وخفة أحلامهم وأمأناتهم، ومروج عهودهم ونذورهم ووصف، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أهل ذلك الزمان بأنهم "حثالة"من الناس، والحثالة من كل شىء هى رديئه ومنه حثالة الشعير والأرز والتمر وكل ذى قشر،
وحثالة الناس: أراذلهم، فهو اشارة إلى استقرار الانحراف العام، والغربة الشاملة، وغلبة الشر والفساد غلبة لايُطْمَعُ معها فى إصلاح العامة.
وقد بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه يُشْرَعُ للمرء حينئذ أن يُقْبَِلَ على خاصة نفسه ويذَرَ أمر العامة كما في الحديث الآتي:(10/390)
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم و خفت أماناتهم و كانوا هكذا ـ و شبك بين أصابعه ـ فالزم بيتك و املك عليك لسانك و خذ بما تعرفه و دع ما تنكر و عليك بأمر خاصة نفسك و دع عنك أمر العامةودع عنك أمر العامة.
قال صاحب عون المعبود شرح سنن أبي داوود:
أي الزم أمر نفسك واحفظ دينك واترك الناس ولا تتبعهم وهذا رخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كثر الأشرار وضعف الأخيار. أهـ
(حديث مِرْدَاسٍ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:
يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ وَيَبْقَى حُفَالَةٌ كَحُفَالَةِ الشَّعِيرِ أَوْ التَّمْرِ لَا يُبَالِيهِمْ اللَّهُ بَالَةً.
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح:
حُفَالَةٌ كَحُفَالَةِ الشَّعِيرِ: قال الخطابي الحثالة بالفاء وبالمثلثة الرديء من كل شيء،
وقال بن التين الحثالة سقط الناس وأصلها ما يتساقط من قشور التمر والشعير وغيرهما وقال الداودي ما يسقط من الشعير عند الغربلة ويبقى من التمر بعد الأكل
لا يباليهم الله بالة: قال الخطابي أي لا يرفع لهم قدرا ولا يقيم لهم وزنا.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تتمثل بهذين البيتين:
ذَهبَ الَّذَينَ يُعاشُ في أَكنافِهِم ** وَبَقيتُ في جِلدٍ كَجَلدِ الأَجرَبِ
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن أبي مسلم الخولاني قال: كان الناسُ ورقاً لا شوكَ فيه وإنهم اليوم شوكٌ لا ورقَ فيه.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن ابن أبي ليلى: قال سيأتي على الناس زمان يقال له زمان الذئاب فمن لم يكن في ذلك الزمان كلبا أكلوه قال أبو سليمان قال قتيبة: هو هذا الزمان.
ما جاء في فساد الخاصة وما جاء في علماء السوء وذكر آفاتهم:(10/391)
(حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا.
قال الخطابي رحمه الله في آداب العزلة:
قد أعلم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن آفة العلم ذهاب أهله وانتحال الجهال وترؤسهم على الناس باسمه وحذر الناس أن يقتدوا بمن كان من أهل هذه الصفة وأخبر أنهم ضلال مضلون وأنذر به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث آخر. أهـ
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ.
(حديث عُمَرَ رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَقِلَّ الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ وَيَظْهَرَ الزِّنَا وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ وَيَقِلَّ الرِّجَالُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ.
قال الخطابي رحمه الله في آداب العزلة:
يريد ـ والله أعلم ـ ظهور الجهال المنتحلين للعلم المترئسين على الناس به قبل أن يتفقهوا في الدين ويرسخوا في علمه. أهـ
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: تفقهوا قبل أن تسودوا يريد أن من لم يخدم العلم في صغره استحيى أن يخدمه في كبر السن وادراك السؤدد.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن سفيان الثوري أنه قال: من ترأس في حداثته كان أدني عقوبته أن يفوته حظ كبير من العلم.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن أبي حنيفة رحمة الله عليه أنه قال: من طالب الرياسة بالعلم قبل أوانه لم يزل في ذل ما بقي.
ما جاء في فساد الأئمة وما جاء في الإقلال من صحبة السلاطين:(10/392)
(حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لكعب بن عجرة: (أعاذك الله يا كعب بن عجرة من إمارة السفهاء. قال وما إمارة السفهاء قال أمراء يكونون بعدي لا يهدون بهديي ولا يستنون بسنتي فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم بكذبهم ولم ينعهم على ظلمهم فأولئك ليسوا مني ولست منهم ولا يردون على حوضي ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم وسيردون على حوضي. يا كعب بن عجرة لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت أبدا النار أولى به. يا كعب بن عجرة الناس غاديان: فمبتاع نفسه فمعتقها أو بائعها فموبقها).
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر.
قال الخطابي رحمه الله في آداب العزلة:
إنما كان هذا أفضل الجهاد لأن من جاهد العدو كان على أمل من الظفر بعدوه ولا يتيقن العجز عنه لأنه لا يعلم يقينا أنه مغلوبن وهذا يعلم أن يد سلطانه أقو من يده فصارت المثوبة فيه على قدر عظيم المؤونة.
الحالة الثانية: عند الفتنة:
الفتنة ماخوذة من "ف ت ن "الدال على الابتلاء والاختبار، وقيل هو بمعنى الاحراق.
ولها معان كثيرة، منها: العذاب، والشرك، والكفر، والإثم والبلاء، والمحنة، والقتل، والهلاك، والصد عن الصراد المستقيم، والحيرة، والضلال وغيرها.
والمقصود هنا ما يعرض للفرد والجماعة من إثار الشبهات والشهوات من انحراف واختلاف وتقاتل.
وقد جاءت السنة كثيرا بإطلاقها على الاختلاف والتفرق الواقع بين المسلمين، وما يترتب عليه من تحزب وقتال وقتل، وشاع استعمالها بهذا المعنى.
[*] قال الحافظ ابن حجر:"والمراد بالفتنة ما ينشأ عن الاختلاف فى طلب الملك، حيث لا يعلم المُحِقَّ من المُبْطِل".وقد وردت أحاديث فى التحذير من الفتن عموما، والحث على الفرار منها، واعتزالها بالكلية. أهـ
وتأمل في النصوص الآتية بعين البصيرة
قال الله تعالى ذكره حكاية عن إبراهيم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَأَعتَزَلَكُم وَما تَدعونَ مِن دونِ اللَهِ وَأَدعو رَبي عَسى أَلا أَكونَ بِدُعاءِ رَبي شَقِياً) [مريم: 48](10/393)
اعتصم خليل الله سبحانه بالعزلة واستظهر بها على قومه عند جفائهم إياه وخلافهم له في عبادة الأصنام ومعاندة الحق وكفاه الله تعالى أمرهم وعصمه من شرهم وأثابه على ذلك بالموهبة الجزيلة وعوضه النصرة بالذرية الطيبة،
قال تعالى: (فَلَمّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاّ جَعَلْنَا نَبِيّاً) [مريم: 49]
وقال تعالى في قصة موسى عليه السلام (وَإِنّي عُذْتُ بِرَبّي وَرَبّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ * وَإِن لّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فَاعْتَزِلُونِ) [الدخان 20، 21] فزع نبي الله تعالى إلى العزلة حين ظهر له عنادهم في قبول الدعوة وإصرارهم على منابذة الحق.
وقال تعالى ذكره في قصة أصحاب الكهف: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاّ اللّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبّكُم مّن رّحْمَتِهِ وَيُهَيّىءْ لَكُمْ مّنْ أَمْرِكُمْ مّرْفَقاً) [الكهف: 16]
وكانوا قوما كرهوا المقام بين ظهراني أهل الباطل ففروا من فتنة الكفر وعبادة الأوثان فصرف الله تعالى عنهم شرهم ودفع عنهم بأسهم ورفع في الصالحين ذكرهم.
وقد اعتزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قومه قريشا لما جفوه وآذوه فدخل الشعب وأمر أصحابه باعتزالهم والهجرة إلى أرض الحبشة ثم تحول إلى المدينة مهاجرا حتى تلاحق به أصحابه وتوافوا بها معه فأعلى الله تعالى كلمته وتولى إعزازه ونصره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم، يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع أحدهم دينه بعرض من الدنيا.
اما الأحاديث الوارادة فى الاختلاف والتنازع بين المسلمين، وما يتبعه من قتال وتطاحن وسفك للدماء فهى كثيرة جدا، منها ما يلي:(10/394)
(حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، القاعد فيها خير من القائم، والماشي فيها خير من الساعي، فكسروا قِسِيِّكم، وقطعوا أوتاركم، واضربوا سيوفكم بالحجارة، فإن دخل يعني على أحد منكم فليكن كخير ابني آدم.
[*] قال صاحب عون المعبود شرح سنن أبي داوود:
(كقطع الليل المظلم) بكسر القاف وفتح الطاء ويسكن أي كل فتنة كقطعة من الليل المظلم في شدتها وظلمتها وعدم تبين أمرها
قال الطيبي رحمه الله يريد بذلك التباسها وفظاعتها وشيوعها واستمرارها
(فيها) أي في تلك الفتن
ويصبح كافرا الظاهر أن المراد بالإصباح والإمساء تقلب الناس فيها وقت دون وقت لا بخصوص الزمانين فكأنه كناية عن تردد أحوالهم وتذبذب أقوالهم وتنوع أفعالهم من
عهد ونقض وأمانة وخيانة ومعروف ومنكر وسنة وبدعة وإيمان وكفر
(القاعد فيها خير من القائم والماشي فيه خير من الساعي) أي كلما بعد الشخص عنها وعن أهلها خير له من قربها واختلاط أهلها لما سيؤل أمرها إلى محاربة أهلها فإذا رأيتم الأمر كذلك
(فكسروا قِسِيِّكم) بكسرتين وتشديد التحتية جمع القوس وفي العدول عن الكسر إلى التكسير مبالغة لأن باب التفعيل للتكثير
(وقطعوا) من التقطيع
(أو تاركم) جمع وتر بفتحتين
قال القارىء فيه زيادة من المبالغة إذ لا منفعة لوجود الأوتار مع كسر القسي أو المراد به أنه لا ينتفع بها الغير
(واضربوا سيوفكم بالحجارة) أي حتى تنكسر أو حتى تذهب حدتها وعلى هذا القياس الأرماح وسائر السلاح
(فإن دخل) بصيغة المجهول ونائب الفاعل قوله
(على أحد منكم) من بيانية
(فليكن) أي ذلك لأحد
(كخير ابني آدم) أي فليستسلم حتى يكون قتيلا كهابيل ولا يكون قاتلا كقابيل
(حديث خالد بن عرفطة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ستكون أحداث و فتنة و فرقة و اختلاف فإن استطعت أن تكون المقتول لا القاتل فافعل.
(حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سلامة الرجل في الفتنة أن يلزم بيته.(10/395)
(حديث أبي بكرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل و المقتول في النار قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه.
فهذه الأحاديث تدل على مشروعية الاعتزال فى الفتنة، وتجنب الخوض فيها، ولذلك لما وقع القتال بين على ومعاوية رضى الله عنهما اعتزل عدد كبير من الصحابة، وأبوْا الدخول فى قتال بين المسلمين مع اعترافهم ببيعة أمير المؤمين على بن ابى طالب رضى الله عنه وخلافته.
فاعتزل محمد بن مسلمة، وسعد بن أبى وقاص، وعبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد، وأبو بكر نفيع بن الحارث، وأبو مسعود الانصارى، وسلمة بن الاكوع، وأبو موسى الاشعرى، وغيرهم.
قال الخطابي رحمه الله في آداب العزلة:
" والعزلة عند الفتنة سنة الأنبياء وعصمة الأولياء وسيرة الحكماء والأولياء" فلا أعلم لمن عابها عذرا لا سيما في هذا الزمان القليل خيره البكيء دره وبالله نستعيذ من شره وريبه. أهـ
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة
(حديث عقبة بن عامر الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قلت يا رسول الله ما النجاة؟ قال أملك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك.
(حديث ثوبان رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: طوبى لمن ملك لسانه وَوَسِعَه بَيْتَهُ وبكى على خطيئته.
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم و خفت أماناتهم و كانوا هكذا ـ و شبك بين أصابعه ـ فالزم بيتك و املك عليك لسانك و خذ بما تعرفه و دع ما تنكر و عليك بأمر خاصة نفسك و دع عنك أمر العامةودع عنك أمر العامة.
قال صاحب عون المعبود شرح سنن أبي داوود:
أي الزم أمر نفسك واحفظ دينك واترك الناس ولا تتبعهم وهذا رخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كثر الأشرار وضعف الأخيار. أهـ
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم، يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن.(10/396)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع أحدهم دينه بعرض من الدنيا.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن عامر ابن سعد بن أبي وقاص قال: كان سعد في إبل له وغنم فأتاه ابنه عمر بن سعد فلما رآه قال: أعوذ بالله من هذا الراكب فلما انتهى إليه قال: يا أبت أرضيت أن تكون أعرابيا في إبلك وغنمك والناس يتنازعون في الملك قال فضرب سعد صدر عمر بيده وقال: اسكت يا بني فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي)
قال الخطابي رحمه الله: كان سعد رحمه الله ممن اعتزل أيام الفتنة فلم يكن مع واحد من الفريقين فأرادوه على الخروج فأبى وضرب لذلك مثلا.
وأورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن ميمون بن مهران قال: إن سعداً لما دعوه إلى الخروج معهم أبى عليهم ثم قال: لا إلا أن تعطوني سيفا له عينان بصيرتان ولسان ينطق بالكافر فاقتله والمؤمن فاكف عنه وضرب لهم مثلا فقال: مثلنا ومثلكم كمثل قوم كانوا على محجة بيضاء فينا هم كذلك يسيرون هاجت ريح عجاجة فضلوا الطريق والتبس عليهم فقال بعضهم: الطريق ذات اليمين فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا وضلوا وقال آخرون: الطريق ذات الشمال فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا وقال آخرون: كنا في الطريق حيث هاجت الريح فنيخ فأناخوا فأصبحوا فذهب الريح وتبين الطريق فهؤلاء هم الجماعة قالوا: نلزم ما فارقنا عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى نلقاه ولا ندخل في شيء من الفتن.
وأورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن داود بن شابور قال: كان طاوس قد جلس في بيته فقلنا له في ذلك فقال: فساد الناس وحيف الأئمة.
وأورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن ابن سيرين قال: العزلة عبادة.
وأورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن هشام بن عروة قال: لما بنى عروى قصره بالعقيق لزمه قيل له: مالك لزمت هذا القصر وتركت مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: رأيت مساجدكم لاهية وأسواقكم لاغية والفاحشة في فجاجكم عالية وكان فيما هنالك عما أنتم فيه عافية.
وأورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن سفيان بن عيينة قال: قالوا لعبد الله بن عروة بن الزبير: ألا تأتي المدينة فقال: ما بقي بالمدينة إلا حاسد لنعمة أو فرح بنقمة.(10/397)
وأورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن خلف بن تميم قال: جئت أطلب إبراهيم بن أدهم في مطير فاطلعت فلم أره فأعدت النظر فإذا هو قاعد تحت السرير وقد فر من الوكف فلما نظر إليَّ قال: قَلب الناسِ كَيفَ شِئتَ تَجِدُهُم عَقارِبا.
وأورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن الفضيل بن عياض رحمه الله يقول: كفى بالله محبا وبالقرآن مؤنسا وبالموت واعظا اتخذ الله صاحبا وذر الناس الناس جانبا.
وأورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن أبي الربيع الزاهد قال قلت لداود الطائي: أوصني.
قال: صم عن الدنيا واجعل فطرك الآخرة وفر من الناس فرارك من الأسد.
وأورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن ابن السماك قال: كتب إلينا صاحب لنا (أما بعد فإن الناس كانوا دواء يتداوى به فأصبحوا داء لا يقبل الدواء ففر منهم فرارك من الأسد واتخذ الله تعالى مؤنسا والسلام.
وأورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن وعيب بن الورد قال: بلغنا أن الحكمة عشرة أجزاء: تسعة منها في الصمت والعاشرة في عزلة الناس.
ويقول اخر لمن طلب منه الخروج فى قتال فتنة: إن أبى وعمى شهدا بدرا، وإنهما عهدا الى ألا أقاتل أحد يقول: لاإله إلا الله، فإن أنت جئتنى ببراءة من النار قاتلت معك، ثم يقول:
ولست بقاتل رجلا يصلى ... على سلطان آخر من قريش
له سلطانه وعلى إثمي ... معاذ الله من جهل وطيش
أأقتل مسلما فى غير جرم ... فليس بنافعي ما عشت عيشي
وفى موقف هولاء المعتزلين يقول الإمام الخطابي رحمه الله تعالى:
"قال ميمون: فصار الجماعة والفئة التى تدعي فيه الإسلام ما كان عليه سعد بن أبي وقاص وأصحابه الذين اعتزلوا الفتن، حتى أذهب الله الفُرْقَةَ وجمع الألفة، فدخلوا الجماعة ولزموا الطاعة، وانقادوا، فمن فعل ذلك ولزمه نجا، ومن لم يلزمه وقع فى المهالك "
ولذك تمنى عدد من الصحابة الذين خاضوا فى الفتنة ان لو كان فى موقف هولاء المعتزلين، ومن كبار قادة الفئتين الذين تمنوا ذلك: عمروبن العاص رضى الله عنه حين رأى على - رضي الله عنه - قال "لله در بنى عمرو بن مالك لئن كان تخلقهم عن هذا الأمر خيرا كان خيرا مبررا، ولئن كان ذنبا مغفورا"
وكذلك على بن أبى طالب - رضي الله عنه - كان يقول "لله در مقام قامه سعد بن مالك وعبد الله بن عمر، إن كان براٍ إن اجره لعظيم، وإن كان إثما إن خطأه ليسير"(10/398)
وما من شك ان دافع الصحابة كلهم - رضي الله عنهم - هو الاجتهاد، ولكن هذا لا يمنع أن يكون بعضهم أولى بالحق، وأقرب إليه من بعض، وأن يكون منهم فاضل ومفضول، وقد يكون اعتزال المعتزلين لعدم تبين الأمر لهم، وقتال المقاتلين لقناعتهم بأن الحق فى القتال، ومما يدل على ذلك قول سعد السابق، والذى شبه المتوقفين عن القتال فيه بمن هاجت عليهم عجابة فضيعوا الطريق، فوقفوا حيث هم حتى يستبين لهم الأمر.
[*] يقول الحافظ ابن حجر فى شرح حديث أبي بكرة الآتي: (حديث أبي بكرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المنبر، والحسن بن علي إلى جنبه، وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى، ويقول: (إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين.
يقول الحافظ ابن حجر: واستدل به على امتثال قوله تعالى (وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىَ الاُخْرَىَ فَقَاتِلُواْ الّتِي تَبْغِي حَتّىَ تَفِيَءَ إِلَىَ أَمْرِ اللّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوَاْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ) [الحجرات: 9]،ففيها الامر بقتال الفئة الباغية، وقد ثبت أن من قاتل علياً كانوا بغاة.
وهؤلاء ـ مع هذا التصويب ـ متفقون أنه لا يُذَمُ واحد من هولاء، بل يقولون اجتهدوا فاخطاوا .. "
كيف تكون العزلة فى الفتنة؟
اتتضح من الأحاديث التى سبقت وضوحاً جلياً أن العزلة فى الفتنة تكون على احد وجهين:
الأول: العزلة التامة، فى مكان بعيد عن الناس، بحيث يشتغل المعتزل بغنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، أو إبل يرعاها، أو أرض يزرعها ويصلحها، أو غير ذلك مما يحقق له العزلة الكلبة التامة عن الناس.
الثاني: العزلة الجزئية، بحيث يعتزل الفتنة وأهلها، ولا يدخل فيها أو يشترك فى قتالها، وإن كان مقيما بين ظهراني الناس.
وقد تنوعت مواقف المعتزالين للفتنة من الصحابة وغيرهم، فمنهم من اعتزل اعتزالا كليا كسعد بن ابى وقاص، ومحمد بن مسلمة.
ومنهم من تجنب الخوض فى الفتنة، ولم يعتزل الناس كأسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر، وأبي مسعود الأنصارى، وأبى موسى الأشعري والذى يحدد هذا النوع من العزلة او ذاك أمران هما:(10/399)
أولهما: الحاجة والمصلحة، فقد لا يستطيع المرء اعتزال الفتنة إلا باعتزال الناس كلهم، او يخشى ان يُقْحَمَ فيها فَيُنْطَلَق به حتى يكون بين الصفين، وقد يرى أن العزلة الكلية عن القتال أو الاختلاف هي بلوغ السلامة.
وثانيهما: القدرة والاستطاعة، فقد لا يستطيع المرء اعتزال الناس لحاجته اليهم، فى أمور دينه أو فى أمور دنياه، ولذلك أمر النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من لم يكن له إبل ولاغنم ولا أرض أن يعمد الى سيفه فيدقه بحجر، ثم يبحث عن النجاة ما استطاع، وقال سلامة الرجل في الفتنة أن يلزم بيته.
الحالة الثالثة اعتزال السلطان عند فساده:
إن السلطان لابد له من أعوان ومستشارين وعمال ووزراء، يعينونه على ما تولى من شئون رعاياه الخاصة والعامة، الدينية والدنيوية.
وقد كان وجوه الصحابة من المهاجرين والأنصار هم بطانة الخلفاء الأربعة، وما زال كثير من الفقهاء الذين يرون فى أنفسهم القدرة على توجيه السلطان والتأثير عليه، ولا يخشون من فتنة وضرر، يغشون مجالسهم أمرين بالمعروف والعدل، ناهين عن المنكر والظلم، قاضين لحوائج الناس، ولهم فى ذلك كله مواقف مشهورة.
أما حين يكون غشيان السلاطين طلبا لنفع دنيوى عاجل، أو لتحقيق مصالح شخصية، وتزول منه نية الاحتساب ,والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه يكون فتنة على صاحبه.
وقد غلبت على أحوال السلاطين ـ بعد عصر الراشدين ـ وجود شيء من الظلم والجور وإيثار العاجل على الآجل، حتى لا يكاد مخالطهم والملازم لهم يسلم من رؤيه منكر لا يستطيع له تغيرا، أو ظلم لا يستطيع له رفعا، أو حق مسلوب لا يستطيع له ردا.
وقد حذر النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من إتيان السلاطين وملازمتهم فى مثل تلك الحال، حيث يفوته من الخير أعظم مما حقق، بل ربما لم يحقق نفعا بالكلية.
وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث بن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من سكن البادية جفا ومن اتبع الصيد غفل ومن أتى السلطان افتتن.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:(10/400)
(ومن أتى السلطان افتتن) لأنه إن وافقه في مرامه فقد خاطر بدينه وإن خالفه فقد خاطر بروحه ولأنه يرى سعة الدنيا فيحتقر نعمة اللّه عليه وربما استخدمه فلا يسلم من الإثم في الدنيا والعقوبة في العقبى.
(حديث رجلٍ من سليم في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إياكم و أبواب السلطان فإنه قد أصبح صعبا هبوطا.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إياكم وأبواب السلطان) أي اجتنبوها ولا تقربوا باباً منها
(فإنه) يعني باب السلطان الذي هو واحد الأبواب
(قد أصبح صعباً) أي شديداً
(هبوطاً) أي منزلاً لدرجة من لازمه مذلاً له في الدنيا والآخرة ثم إن لفظ هبوطاً بالهاء وهو ما وقفت عليه في نسخ هذا الجامع والذي وقفت عليه في نسخ البيهقي والطبراني حبوطاً بحاء مهملة أي يحبط العمل والمنزلة عند اللّه تعالى. قال الديلمي: وروي خبوطاً بخاء معجمة والخبط أصله الضرب والخبوط البعير الذي يضرب بيده على الأرض اهـ وإنما كان كذلك لأن من لازمها لم يسلم من النفاق ولم يصب من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من دينه أغلا منه وهذه فتنة عظيمة للعلماء وذريعة صعبة للشيطان عليهم سيما من له لهجة مقبولة وكلام عذب وتفاصح وتشدق إذ لا يزال الشيطان يلقي إليه أن في دخولك لهم ووعظهم ما يزجرهم عن الظلم ويقيم الشرع ثم إذا دخل لم يلبث أن يداهن ويطري وينافق فيهلك ويهلك. أهـ
والحاصل أن الفتنة التى تعرض لملازم السلطان هى فتنة الدين أو الدنيا، فإنه إن وافقه فيما يأتي وما يذر فقد خاطر بدينه، وإن خالفه خاطر بروحه، وهى فتنة السراء بتعرضه للدنيا وزينتها، وفتنة الضراء بتعرضه للإهانة والضرب والقتل وسائر المخاطر.
وهذا الضرر الحاصل لمن دخل عليه ولازمه، قد يكون ضرر محضا لا يقابله تحصيل مصلحة شرعية، سواء كان الضرر دينيا او دنيويا، بالخير وبالشر.
وقد تقابله مصلحة شرعية أقل منه، أو مثله، او أعظم منه، وتندرج هذه المسألة تحت قاعدة المصالح والمفاسد.
ولذلك يقول الامام الفتنى فى شرحه للحديث السابق:"وهذا لمن دخل مداهنة، ومن دخل آمرا وناهيا وناصحاً كان دخوله افضل".
أي: لأنه يدخل فى هذه الحال فى باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن تعرض للقتل كان مخاطرا بنفسه فى ذات الله، وقد بين الرسول، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن افضل الجهاد كلمة عدل أو حق عند سلطان جائر.
مسألة: هل يجوز الخروج على الحاكم إذا وُجِد منه فساداً أو انحرافاً عن العدل؟(10/401)
الذي دلت عليه السنة الصحيحة وتجتمع فيه الأدله أنه لا يجوز الخروج عن الحاكم مالم نرى منه كفراً بواحاً عندنا من الله فيه برهان، بل يجب علينا السمع والطاعة لهم ما داموا مسلمين مُصَلِيْن، وعدم قتالهم أو الخروج عليهم حتى نرى منهم الكفر البواح الذى عندنا من الله فيه برهان، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ستكون أثرة وأمور تنكرونها. قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم.
(حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: دعانا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحاً، عندكم من الله فيه برهان.
فلابد من السمع والطاعة فى المنشط والمكره، والعسر واليسر، وفى حال الاستئثار وحجب بعض الحقوق عن أهلها، ولا تجوز منازعة الحاكم أو الوالى إلا فى حالة الكفر البواح الصراح، أما فيما يتعلق بكراهية ما هم عليه، والإنكار عليهم، وقول كلمة الحق أمامهم، ونصحهم، والبراءة من انحرافهم فجاء فيه أحاديث كثيرة منها ما يلي:
(حديث أم سلمة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنه سيكون عليكم أئمة تعرفون وتنكرون فمن أنكر فقد بريء ومن كره فقد سلم ولكن من رضي وتابع فقيل يا رسول الله أفلا نقاتلهم قال: لا ما صلوا.
فأشار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى فساد السلطان، بوجود الأثرة التى يحجب فيها الحق عن أصحابه الذين هم أولى به من غيرهم، ووجود المنكرات المتعلقة بالولاة من الظلم، والتوسع فى الأكل والمشارب والمساكن وغيرها، وما شابه ذلك من المعاصي التى لا تصل الى الكفر البواح.
وبين قدراً من الواجب تجاه هذا الانحراف، وهو أداء الحقوق المتعلقة بهم للسلاطين من السمع والطاعة والمناصحة والجهاد ونحوها، سواء تعلقت هذه الحقوق بالنفس أو المال.(10/402)
والصبر على فوات الحقوق الواجبة الراعية، والمتمثلة فى الاستئثار عليهم بالمال والحكم وغيرها، بحيث يسألونها الله عز وجل بأن يصرف قلوبهم الى العدل والانصاف فى الرعية، وإسناد الأمور إلى أهلها، أو يبدلهم خيراً منهم، ممن هو أحق بهذا الأمر وأولى به.
معنى التقية وأقسامها:
مسألة: ما معنى التقية؟
قال تعالى: (لاّ يَتّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاّ أَن تَتّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذّرْكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَىَ اللّهِ الْمَصِيرُ) [آل عمران: 28]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
نهى الله تبارك وتعالى، عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين، وأن يتخذوهم أولياء يُسِرُّون إليهم بالمودة من دون المؤمنين، ثم توعد على ذلك فقال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} أي: من يرتكب نهى الله في هذا فقد برئ من الله.
وقوله: {إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} أي: إلا من خاف في بعض البلدان أو الأوقات من شرهم، فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته، كما حكاه البخاري عن أبي الدرداء أنه قال: "إنَّا لَنَكْشرُ فِي وُجُوهِ أقْوَامٍ وَقُلُوبُنَا تَلْعَنُهُمْ".
وقال الثوري: قال ابن عباس، رضي الله عنهما: ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان، وكذا رواه العوفي عن ابن عباس: إنما التقية باللسان، وكذا قال أبو العالية، وأبو الشعثاء والضحاك، والربيع بن أنس. ويؤيد ما قالوه قول الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] (7)} [النحل: 106]. أهـ
وعن الضحاك قال: التقية باللسان، من حمل على أمر يتكلم به، وهو لله معصية، فتكلم مخافة على نفسه، وقلبه مطمئن بالإيمان، فلا إثم عليه إنما التقية باللسان، وورد نحو هذا المعنى عن جمع من السلف.
وهذه الآثار تدل على أنه يدخل فى الآية الكتمان والاستسرار وعدم الجهر بالدين والحق، ويدخل يها ـ أيضا ـ مصانعة المشركين ومخالفتهم وإظهار موالاتهم باللسان دون العمل إذا تحققت شروط الإكراه.(10/403)
وفى آية النحل ذكر الله تعالى الكفر بعد الايمان، وتوعد فاعليه بالغضب والعذاب العظيم، واستتثنى من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان قال تعالى: (مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بِالإِيمَانِ وَلََكِن مّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النحل: 106]
فهذه الآية نص فى رفع الحرج عن المكره على النطق بكلمة الكفر، مع اطمئنان قلبه بالإيمان.
وسبب نزولها يؤكد هذا المعنى ويجليه، حيث نزلت فى عمار بن ياسر حين ضربه المشركون حتى باراهم فى بعض ما يريدون، ونال من النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكر آلهتهم بخير.
وقد نقل الحافظ ابن عبد البر، والحافظ ابن حجر إجماع العلماء على ان هذا هو سبب النزول.
فإن عمارا - رضي الله عنه - أكره على النطق بكلمة الكفر، وسب النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد عذره الله تعالى فى هذه الآية، وبين أنه غير داخلٍ فى الوعيد.
[*] أقسام التقية:
القسم الأول من أقسام التقية (المدارة):
فقد عد قوم من باب التقية مدارة الكفار والفسقة والظلمة، وإلانة الكلام، والتبسم فى وجوهم، والانبساط معهم، وإعطائهم، لِكَفِ أذاهم، وقطع لسانهم، وصيانة العرض منهم، ولتألف قلوبهم على الإسلام والاتباع.
والمدارة لا تعارض النصح الرفيق البعيد عن الإغلاظ والشدة.
[*] قال ابن بطال رحمه الله تعالى: "المدارة من أخلاق المؤمنين، وهى خفض الجناح للناس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم فى القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة، وهى الرفق بالجاهل فى التعليم، وبالفاسق فى النهى عن فعله، وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولاسيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك"
وقد عقد الإمام البخاري رحمه الله تعالى فى كتاب الأدب من صحيحه بابا بعنوان" باب المدارة مع الناس "،وساق تحته أثرا معلقا عن أبي الدرداء رضى الله عنه قال " إنا لَنَكْشُرُ في وجوه أقوام، وإن قلوبنا لتلعنهم. ثم ساق الحديث الآتي:
(حديث عائشة في الصحيحين) قالت استأذن رجل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال ائذنوا له بئس أخو العشيرة أو بن العشيرة فلما دخل ألان له الكلام قلت يا رسول الله قلت الذي قلت ثم ألنت له الكلام قال أي عائشة إن شر الناس من تركه الناس أو ودعه الناس اتقاء فحشه.(10/404)
ومن هذا ـ وغيره ـ يتضح أن المداراة هى التلطف فى المعاملة، ومحاذرة آثارة سخط الناس، بقصد جلب مصلحة شرعية، أو دفع مفسدة شرعية.
وقد تكون المداراة بالقول، كلين الكلام، وقد تكون بالفعل تفويت مصلحة شرعية_ وقد تصبح واجبة إذا ترتب على تركها مفسدة من ردة أو فسق، أو ظلم مسلم، أو نحو ذلك.
وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عمرو بن تغلب رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: أعطى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوما ومنع آخرين، فكأنهم عَتَبُوا عليه، فقال: (إني أعطي قوما أخاف ظلعهم وجزعهم، وَأَكِلُ أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغناء، منهم عمرو بن تغلب). فقال عمرو بن تغلب: ما أحب أن لي بكلمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حمر النعم.
(حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: أعطى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رهطا وأنا جالس فيهم، قال: فترك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم رجلا لم يعطه، وهو أعجبهم إلي، فقمت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فساررته، فقلت: مالك عن فلان، والله إني لأراه مؤمنا؟ قال: (أو مسلما). قال فسكت قليلا، ثم غلبني ما أعلم فيه، فقلت: يا رسول الله، مالك عن فلان، والله إني لأراه مؤمنا؟ قال: (أو مسلما). قال: فسكت قليلا، ثم غلبني ما أعلم فيه، فقلت: يا رسول الله، مالك عن فلان، والله إني لأراه مؤمنا قال: (أو مسلما). يعني: فقال: (إني لأعطي الرجل، وغيره أحب إلي منه، خشية أن يكب في النار على وجهه).
ومن الظاهر ان النبي، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يكن ليمنع المال من هو أحق به وأولى من أهل السابقة الفقراء، ويعطيه من كان إلى وقت قريب حرباً على الإسلام، إلا لسببٍ يوجب ذلك، من تألف قلوبهم على الإسلام، وتثبيتهم عليه لئلا يرتدوا، ودفع أذاهم عن المسلمين، أو طعما في الإسلام من وراءهم من قومهم.
وَيُلْحَظُ فى المداراة أنها قد تكون في حالات ضعف المسلمين وخوفهم، وقد تكون في بداية مرحلة التمكين، وقد تكون في أثناء التمكين، والأمثلة السابقة توضح ذلك.
القسم الثانى من أقسام التقية (الكتمان والاستسرار):
هذا القسم من أولى الأقسام دخولا فى معنى التقية، ولكن لا يلزم من ذلك حصر معنى التقية فيه.(10/405)
وقد ساق الله تعالى فى كتابه قصة مؤمن ءال فرعون، وطريقته فى مواجهة بعض المواقف الصعبة المحرجة، قال تعالى: (وَقَالَ رَجُلٌ مّؤْمِنٌ مّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّيَ اللّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيّنَاتِ مِن رّبّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الّذِي يَعِدُكُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ * يَقَومِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللّهِ إِن جَآءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاّ مَآ أَرَىَ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرّشَادِ) [غافر 28: 29] الى قوله تعالى: (وَقَالَ الّذِيَ آمَنَ يَقَوْمِ اتّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرّشَادِ * يَقَوْمِ إِنّمَا هََذِهِ الْحَيَاةُ الدّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنّ الاَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ* مَنْ عَمِلَ سَيّئَةً فَلاَ يُجْزَىَ إِلاّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلََئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَيَقَوْمِ مَا لِيَ أَدْعُوكُمْ إِلَى النّجَاةِ وَتَدْعُونَنِيَ إِلَى النّارِ * تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بِاللّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفّارِ * لاَ جَرَمَ أَنّمَا تَدْعُونَنِيَ إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدّنْيَا وَلاَ فِي الاَخِرَةِ وَأَنّ مَرَدّنَآ إِلَى اللّهِ وَأَنّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوّضُ أَمْرِيَ إِلَى اللّهِ إِنّ اللّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوقَاهُ اللّهُ سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوَءُ الْعَذَابِ * قال تعالى: (النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوَاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدّ الْعَذَابِ) [غافر 38: 46]
لقد أشار هذا القبطى يستتر بإيمانه بين ملئه وقومه، ويكاتمهم إياه، ولذلك كان منهم بحيث يحضر ناديهم، ويطارحهم الرأى فيه، ولم يبين السياق ما إذا كان دافعه إلى الكتمان الخوف من بطشهم وفتنتهم، أو الرغبة فى حماية موسى والمؤمنين، والدفاع عنهم، أو الأمرين معا.(10/406)
وحين وصل الحال إلى فرعون هَمَّ بقتل موسى وقف هذا الرجل وقفته العظيمة مدافعا محذرا، دون أن يكون فى موقفه هذا ما يدل دلالة صريحة على إعلانه للإيمان، بل كان اعتماده على المنطق الذى يقتضى أن هذا الرجل ـ موسى عليه السلام ـ إما أن يكون كاذبا، أو صادقا، فإن كان كاذبا فهو يتحمل مغبة كذبه على ربه فى الدنيا والآخرة، وإن كان صادقا فأنتم حريون بالعقوبة على عصيانكم له وإقامتكم على ما أنتم عليه، فكيف إذا أزتم على ذلك قتله؟.
وما يزال هذا المؤمن يحاور ويداور ويلمح ويعرض حتى جهر ـ أخيرا ـ بما هو عليه من اتباع موسى واليمان به، وواجه طغيان فرعون القائل (مَآ أُرِيكُمْ إِلاّ مَآ أَرَىَ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرّشَادِ) [غافر: 29] الى قوله (َ يَقَوْمِ اتّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرّشَادِ) [غافر: 38] وحينئذ مكر به آل فرعون (فَوقَاهُ اللّهُ سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوَءُ الْعَذَابِ) [غافر: 45]
وهذه الحادثة الفردية التى عاشها مؤمن آل فرعون، عاشها جميع من المؤمنين الأولين بدعوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكانوا يكتمون إيمانهم من قومهم ويستسرون به.
وقد فصل القول فى حكم هذه التقية السيد محمود شكرى الألوسى رحمه الله تعالى فقال: كل مؤمن وقع فى محل لا يمكن له أن يظهر دينه لتعرض المخالفين، وجب عليه الهجرة إلى محل يقدر فيه على إظهار دينه، ولا يجوز له أصلا أن يبقى هناك، ويخفي دينه، ويتشبث بعذر الاستضعاف، فإن أرض الله واسعة".
نعم إن كان له ممن له عذر شرعى فى ترك الهجرة كالصبيان، والنساء، والعميان، والمحبوسين، والذين يخوفهم بالقتل، أو قتل الأولاد، أو الآباء، أو أمهات، تخويفا يظن معه إيقاع ما خوفوا غالبا، سواء كان هذا القتل بضرب العنق، أو بحبس القوت، أو بنحو ذلك، فإنه يجوز له المكث مع المخالف، والموافقة بقدر الضرورة، ويجب عليه أن يسعى فى الحلية للخروج والفراربدينه.
وإن كان التخويف بفوات المنفعة، أو بلحوق المشقة التي يمكنه تحملها، كالحبس مع القوت، والضرب القليل غير المهلك، فإنه لايجوز له موافقتهم.
فعلى هذا يجوز للمسلم أن يكتم إسلامه اذا كان مقيما فى محل لا يقدر فيه على إظهار دينه، ولا يستطيع الخروج أو الهجرة من هذا المحل، أو لا يجد مكانا يهاجر اليه ويأمن فيه على دينه، ويخشى لو جهر بدينه من الفتنة أو القتل، أو إلحاق الضرر البالغ به، أو بأقاربه، أو بمن يلوذ به.(10/407)
على أن يقصر فى ذلك إلى قدر الضرورة، فلا يكتم حيث يسعه الإعلان، وعلى أن يسعى للهجرة ما استطاع إلا إذا كان مقيما بين أظهر المشركين، وفى البلاد التي لا يقدر فيها على الجهر بدينه، لأغراض مشروعة، تخدم الأمة المسلمة والجماعة المسلمة كالاغراض العسكرية، ونحوها فهو ـ حينئذ مأذون بالبقاء بينهم حتى يحقق الغرض الذى انتدب من أجله وحكم هذه الحالة الخاصة يؤخذ ـ بطريق الأولى ـ من اذن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لبعض أصحابه الذين بعثهم فى مهمات خاصة، أن يقولوا فيه شيئا، وأن يظهروا الموافقة للكافرين فى بعض أمرهم.
القسم الثالث من أقسام التقية (إظهار الموافقة للمشركين على دينهم):
وهذا القسم هو أشد الأقسام وأخطرها، وفيه يتعدى الأمر مجرد السكوت والكتمان والاستسرار إلى إظهار الدين الباطل، وموافقة المشركين عليه، وفى تعريف السرخسى للتقية قال:"والتقية أن يقي نفسه من العقوبة بما يظهره، وإن كان يُضْمِرُ خلافه"،فقصر التقية على هذا المعنى.
وقد أجمع العلماء قاطبة على أن الإنسان إذا واجه ضغطا وتخويفا وتهديدا إن أصَرَّ على إيمانه، فلم يلتفت إلى هذا التخويف، وثبت على إعلان دينه، إنه فعل الأفضل، وإن قتل في هذا السبيل فهو شهيد، وقد ترك الرخصة الى العزيمة.
كما أجمعوا على أن ما أكره على الكفر حتى خشى على نفسه القتل، أنه لا إثم عليه إن أظهر الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تبين منه زوجته، ولا يحكم عليه بحكم الكفر.
ولكن يشترط للاكراه شروط:
الأول: أن يكون المُهَدِدُ قادراَ على إيقاع ما يُهَدِدُ به، والمأمور عاجز عن الدفع عن نفسه، ولو بالفرار والهرب.
الثاني: أن يغلب على ظنه أنه إذا امتنع عن فعل ما يؤمر به ذلك.
الثالث: أن يكون التهديد بأمر فوري، كأن يهدده بالقتل، اما لو قال: افعل كذا، وإلا ضربتك غداً لم يكن مُكْرَها، إلا إذا كان الزمن المحدد قريبا جدا فيكون فى حكم الأمر الفوري.
الرابع: ألا يظهر من المأمور المكره ما يدل على نوع من الرضا والاختيار والموافقة القلبية.
وقد خص بعض السلف الرخصة بالقول فحسب، دون الفعل، ونقل عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه ومكحول، وغيرهما أن القول والفعل سواء، وهو مذهب مالك وطائفة من اهل العراق.(10/408)
ولكن هذه التقية غير جائزة حين يترتب عليها ضياع الحق وخفاؤه، والتباسه بالباطل، كما اذا كان المكره من العلماء المرموقين الذي ينتظر الناس كلمتهم ليدينوا بها ويعتقدوها، ومن الزعماء المتبوعين الذين يقتدى الناس بهم، ويعتبرون بمواقفهم.
[*] يقول الشيخ احمد شاكر بعد ذكر بعض شروط التقية:" .. على ألا يكون ممن يقتدى به، فيخشى أن يخفى الحق على الجاهلين، وأن يضعف إيمانهم، ويحجموا عن نصرة حقهم احتجاجا بمن أجاب عند الاكراه تقية، وهم غافلون.
وهذا هو الذى أضعف المسلمين فى القرون الأخيرة: "أن أحجم علماؤهم وزعماؤهم وقادتهم عن الضرب على أيدى الظالمين، وعن الحق فى مواطن الصدق، فتهافت الناس، وضعفت قلوبهم، وملئوا من عدوهم فكانوا لا غناء لهم وكانوا غثاء كغثاء السيل".
وقال رحمه الله فى تعليق له على موقف الإمام أحمد ورفضه التقية لما يترتب عليها من التلبس على الجهال:" .. أما أولو العزم من الأئمة الهداة، فإنهم يأخذون بالعزيمة، ويحتملون الأذى ويثبتون، وفى سبيل الله ما يلقون، ولو أنهم أخذوا بالتقية، واستساغوا لضل الناس من ورائهم، يقتدون بهم، ولا يعلمون أن هذه تقية.
وقد أتى المسلمون من ضعف علمائهم فى مواقف الحق، لا يصدعون بمال يؤمرون، يجاملون فى دينهم وفى الحق، لا يجاملون الملوك والحكام فقط، بل يجاملون كل من طلبوا منه نفعا، أو خافوا ضراً فى الحقير والجليل من أمر الدنيا، وكل أمر الدنيا حقير، فكان من ضعف المسلمين بضعف ما نرى "
وهناك حالة استثنائية خاصة يجوز فيها اظهار الموافقة، أو يشرع لغرض تحقيق مصلحة شرعية تجسسية، أو عسكرية، على ألا يتعدى بها القدر الضرورى اللازم، وقد ورد فى السنة ما يشهد لذلك الحديث الآتي:(10/409)
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله). فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله، أتحب أن أقتله؟ قال: (نعم). قال: فائذن لي أن أقول شيئا، قال: (قل) فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنانا، وإني قد أتيتك أستسلفك، قال: وأيضا والله لتملنه، قال: إنا قد اتبعناه، فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين؟ - وحدثنا عمرو غير مرة، فلم يذكر وسقا أو وسقين، أو: فقلت له: فيه وسقا أو وسقين؟ فقال: أرى فيه وسقا أو وسقين - فقال: نعم، ارهنوني، قالو: أي شيء تريد؟ قال: أرهنوني نساءكم، قالوا كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب، قال: فارهنوني أبناءكم، قالوا: كيف نرهنك أبناءنا، فيسب أحدهم، فيقال: رهن بوسق أو وسقين، هذا عار علينا، وكنا نرهنك اللأمة - قال سفيان: يعني السلاح - فواعده أن يأتيه، فجاءه ليلا ومعه أبو نائلة، وهو أخو كعب من الرضاعة، فدعاهم إلى الحصن، فنزل إليهم، فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة؟ فقال: إنما هو محمد بن مسلمة وأخي أبو نائلة، وقال غيرعمرو، قالت أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم، قال: إنما هو أخي محمد بن مسلمة، ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دعي إلى طعنة بليل لأجاب. قال ويدخل محمد بن مسلمة معه رجلين - قيل لسفيان: سماهم عمرو؟ قال: سمى بعضهم - قال عمرو: جاء معه برجلين، وقال غير عمرو: أبو عبس بن جبر والحارث بن أوس وعباد بن بشر. قال عمرو: جاء معه برجلين، فقال: إذا ما جاء فإني قائل بشعره فأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه. وقال مرة ثم أشمكم، فنزل إليهم متوشحا وهو ينفح منه ريح الطيب، فقال: ما رأيت كاليوم ريحا، أي أطيب، وقال غير عمرو: قال عندي أعطر نساء العرب وأكمل العرب. قال عمرو: فقال أتأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم، فشمه ثم أشم أصحابه، ثم قال: أتأذن لي؟ قال: نعم، فلما استمكن منه، قال: دونكم، فقتلوه، ثم أتوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبروه.(10/410)
{تنبيه}: وسواء كان كلام محمد بن مسلمة رضى الله عنه ومن معه من الصحابة لكعب على سبيل التورية التى فهم منها المخاطب غير ما أراد المتكلم كما يدل عليه كلام بعض الشراح، أو كان الأمر بخلاف ذلك، كما تدل عليه بعض روايات أهل السير التي فصلت القول في أنهم صرحوا له بإرادتهم خذلان النبي صلى اله عليه وسلم، والتنحي عنه، فإن إذن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، له أن يقول هو إذنٌ عام مقيد بالتورية، ولذلك بوب عليه الامام البخارى:"باب الكذب فى الحرب"،وكذلك الامام النسائى فى سننه الكبرى.
هذه هي "التقاة"عند أهل السنة، وهي استثناء من أصل عام مطرد، هو إحقاق الحق وإظهاره وإعلانه، وإبطال الباطل وإخماده، وازهاقه، وهى فى قسميها الآخرين رخصة جائزة، والعزيمة بخلافها.
والرخصة كما عرفها الأئمة: هى ما شرع لعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضى المنع، مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه.
وقد روعي فى إباحة هذة الرخصة وغيرها ما جبل عليه كثيرا من البشر من الضعف والعجز عن مقاومة الضغوط والشدائد، وتلك رحمه من الله قال تعالى: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: 78]
وروعي فى مشروعية الثبات والعزيمة ما اختص به بعض الناس من العزائم الصلبة، والهمم الرفيعة، والقلوب القوية الشجاعة، والنفوس الصابرة، التى خلقت لتكون معالم فى طريق الحق يهتدى بضوئها السائرون، ويستصبح بنورها الدالجون، وبهم يدفع الله عن الحق الغوائل والمحن، ويقيم لأهل الحجة السنن.
ولا يزال فى هذه الامة من لدن بعثة محمد، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الى يوم الناس هذا، وإلى أن يأتي أمر الله، من رجالات الطائفة المنصورة من يرفع راية الحق ويبذل مهجته دونها.
وسطية أهل السنة فى باب التَقِيَّة:
التقاة والتقية مصدران لفعل واحد، وقد قرئت الآية بالوجهين، فقرأها الجمهور (إِلاّ أَن تَتّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً)،وقرأها ابن عباس، والحسن، وحميد بن قيس، ويعقوب الحضرمي، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وأبو رجاء، والجحدرى، وأبو حيوة: تَقِيَّة بفتح التاء، وتشديد الياء على وزن فعيلة، وكذلك روى المفضل، عن عاصم.
وقد اشتهر لدى أهل السنة استعمال التقاة بضم التاء، وفتح القاف، والألف المدودة، كما هي قراءة الجمهور، مع استعمال اللفظ الآخر. واشتهر لدى الرافضة استعمال التقية بفتح التاء، وكسر القاف، والياء المشددة المفتوحة ـ كما هي القراءة الآخرى ـ هذا من حيث اللفظ.(10/411)
أما من حيث حكم التَقِيَّة، والتطبيق العملي لها، فإن ثمت فروقا عظيمة بينها يمكن إجمال أهمها فيما يلي:
الفرق الاول:
أن التقية عند أهل السنة استثناء مؤقت من أصل كلي عام، لظرفٍ خاص يمر به الفرد المسلم، أو الفئة المسلمة، وهى مع ذلك رخصة جائزة.
أما الرافضة فالتَقِيَّة عندهم واجب مفروض حتى يخرج قائمهم، وهى بمنزلة الصلاة، حتى نقلوا عن الصادق قوله:"لو قلت أن تارك التَقِيَّة كتارك الصلاة لكنت صادقا".
بل إن التَقِيَّة عندهم تسعة أعشار الدين كله، ولذلك قالوا:"لا دين لمن لا تَقِيَّة له"
فالتَقِيَّة فى المذهب الشيعي أصل ثابت مطرد، وليست حالة عارضة مؤقتة. بل من غلوهم فى التَقِيَّة أن اعتبروا تركها ذنبا لا يغفر، فهي على حد الشرك بالله، ولذلك جاء فى أحاديثهم:"يغفر الله للمؤمنين كل ذنب، ويطهر منه فى الدنيا والآخرة، ما خلا ذنبين: ترك التَقِيَّة، وتضيع حقوق الإخوان".
وبهذا يتبن الفرق فى الحكم بين نظرة أهل السنة، ونظرة الرافضة، فهي عند أهل السنة استثناء مباح للضرورة، وعند الرافضة أصل من اصول المذهب.
الفرق الثانى:
إن التَقِيَّة عند أهل السنة ينتهي العمل بها بمجرد زوال السبب الداعي لها من الإكراه ونحوه، ويصبح الاستمرار عليها ـ حينئذ ـ دليلاً على أنها لم تكن تَقِيَّة ولاخوفا، بل كانت ردة ونفاقا.
وفى الأزمنة التي تعلو فيها كلمة الإسلام، وتقوم دولته، ينتهي العمل بالتَقِيَّة ـ غالبا ـ وتصبح حالة فردية نادرة.
أما عند الرافضة، فهى واجب جماعي مستمر، لا ينتهي العمل به، حتى يخرج مهديهم المنتظر الذي لن يخرج أبدا.
ولذلك ينسبون إلى بعض أئمتهم قوله:"من ترك التَقِيَّة قبل خروج قاءمنا فليس منا"
الفرق الثالث:
أن تُقَاة أهل السنة تكون مع الكفار ـ غالبا ـ كما هو نص قوله تعالى: (لاّ يَتّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاّ أَن تَتّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذّرْكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَىَ اللّهِ الْمَصِيرُ) [آل عمران: 28]
وقد تكون مع الفساق والظلمة الذين يخشى الإنسان شرهم، ويحاذر بأسهم وسطوتهم، أما تَقِيَّة الروافض فهي أصلا مع المسلمين.
وهم يسمون الدولة المسلمة"دولة الباطل"ويسمون دار الإسلام:"دار التَقِيَّة "ويرون أن ترك التَقِيَّة في دولة الظالمين فقد خالف دين الإمامية وفارقة.(10/412)
بل تعدى الأمر عندهم إلى حد العمل بالتَقِيَّة فيما بينهم حتى يعتادوها ويحسنوا العمل بها أمام أهل السنة.
وفى هذا يقول بعض أئمتهم ـ فيما زعموا ـ:"عليكم بالتَقِيَّة، فإنه ليس منا من لم يجعلها شعاره ودثاره مع من يأمنه، لتكون سجية مع من يحذره"
الفرق الرابع:
أن التُقَاة عند أهل السنة حالة مكروهة ممقوتة، يُكْرَه عليها المسلم إكراها، وَيُلْجَأ إليها إلجاء، ولا يداخل قلبه ـ خلال عمله بالتقاة ـ أدنى شيء من الرضا أو الاطمئنان، وكيف يهدأ باله، ويرتاح ضميره، وهو يظهر أمرا يناقض عقد قلبه؟
أما الرافضة، فلما للتَقِيَّة عندهم من المكانة، ولما لها فى دينهم من المنزلة، ولما لها فى حياتهم العلمية الواقعية من التأثير، فقد عملوا على "تطبيعها"وتعويد اتباعهم عليها، وأصبحوا يتوارثون التمدح بها كابراً عن كابر.
ومن نصوصهم فى ذلك ما نسبوه لبعض أئمتهم من قوله لابنه:"يابني ما خلق الله شيئا أقر لعين أبيك من التَقِيَّة.
ونسبوا لجعفر الصادق قوله"لا والله ما على وجه الأرض أحب اليّ من التَقِيَّة "
هذه أبرز الفروق التى تميز تقاة أهل السنة عن تَقِيَّة الرافضة، والمحك العملي لهذه الفروق هو الواقع العملي عبر القرون والأجيال، وإلى يوم الناس هذا.
فإن أهل السنة تميزوا بالوضوح والصدق فى أقوالهم، وأعمالهم، ومواقفهم بل إنهم سجلوا مواقف بطولية خالدة في مقارعة الظالمين، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصدع بكلمة الحق، ولا زالت قوافل شهدائهم تتوالى جيلا بعد جيل، ورعيلا بعد رعيل، ولا زالت أصداء مواقفهم الشجاعة حية يرويها الأحفاد عن الأجداد، ويتلقنون منها دروس البطولة والفدائية والاسشهاد.
فى حين يحفل تاريخ الروافض بصور الخيانة والتأمر والغدر الخفي، فهم في الوقت الذي يصافحون به أهل السنة باليمين ـ تَقِيَّةً ونفاقا ـ يطعنونهم باليد الأخرى من وراء ظهورهم، وكثير من المصائب التي بالمسلمين كان للرافضة فيها يد ظاهرة، وكانوا من أسعد الناس بها، حتى ليصدق عليهم وصف الله للمنافقين (إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا) [آل عمران: 120] ومع هذا بلغت بهم التَقِيَّة أن قال قائلهم:"من صلى وراء سني تَقِيَّة فكأنما صلى وراء نبي "(10/413)
ويقابل غلوالشيعة فى النفاق الذى يسمونه تَقِيَّة، غلو الخوارج الذين يذهبون إلى أنه لا يجوز التَقِيَّة بحالٍ من الأحوال، وأنه لا يُراعى حفظ المال أو النفس، أو العرض، أو غيرها من الضروريات، فى مقابلة الدين أصلا.
ولهم فى ذلك تشديدات عجيبة، منها أن من كان يصلي، وجاء سارق أو غاصب ليسرق ماله، فإنه ليس له قطع الصلاة، ولا مقاومة هذا اللص فى أثنائها، مهما كان المال من العظم والكثرة، ولهم مواقف مع الصحابة وغيرهم فى هذا.
وبهذا تتحقق وسطية أهل السنة فى باب التَقِيَّة بين الرافضة المغالين، وبين الخوارج المفرطين، كما تحققت وسطيتهم فى سائر أبواب العمل والاعتقاد، مصداقا لقول الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً لّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة: 143]
(56) الإحسان إلى من يعمل تحت يديه:
ومن أفضل آداب معاشرة الإخوان الإحسان إلى من يعمل تحت يديه.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه قد كفاه علاجه و دُخَانه فليجلسه معه فإن لم يجلسه معه فليناوله أكله أو أكلتين.
(إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه) ليأكله.
(قد كفاه علاجه) أي تحمل المشقة من تحصيل آلاته ومزاولة عمله
(ودخانه) بالتخفيف مقاساة شم لهب النار حال الطبخ نص عليه مع شمول ما قبله له لعظم مشقته.
(فليجلسه معه) ندباً ليأكل مكافأة له على كفايته حره وعلاجه وسلوكاً لسبيل التواضع المأمور به في الكتاب والسنة هذا هو الأفضل.
(فإن لم يجلسه معه) لعذر كقلة طعام أو لكون نفسه تعاف ذلك قهراً عليه ويخشى من إكراهها محذوراً أو لغير ذلك كمحبته للاختصاص بالنفيس أو لكون الخادم يكره ذلك حياء منه أو تأدباً.
(فليناوله أُكلة أو أُكلتين) من الطعام بضم الهمزة ما يؤكل دفعة واحدة كلقمة ... ما يؤكل كذلك بحسب حال الطعام والخادم ليرد ما في نفسه من شهوة الطعام وتنكسر سورة الجوع.
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال: قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة ليس له خادم، فأخذ أبو طلحة بيدي، فانطلق بي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، إن أنسا غلام كيس فليخدمك، قال: فخدمته في السفر والحضر، ما قال لي لشيء صنعته لم صنعت هذا هكذا، ولا لشيء لم أصنعه لم تصنع هذا هكذا.(10/414)
(حديث المعرور في الصحيحين) قال لقيتُ أبا ذرٍ بالرَّبذة وعليه حُلة وعلى غُلامه حُلة فسألته عن ذلك فقال إني ساببتُ رجلاً فعيّرته بأُمه فقال لي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يا أبا ذر! إنك امرؤ فيك جاهلية إخوانكم خَوَلكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فّلْيُطْعِمْه مما يأكل ولْيُلبِسْه مما يلبس ولا تُكَلفوهم ما يغلبهم، فإذا كلفتموهم فأعينوهم.
(حديث ابن مسعود في صحيح مسلم) قال: كنت أضربُ غلاماً لي فسمعتُ من خلفي صوتاً: اعلم أبا مسعود للهُ أقدر عليك منك عليه، فالتفتُ فإذا هو رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت ي رسول الله هو حرٌ لوجه الله فقال: أما لو لم تفعل للفحتك النار.
(57) التخلي عن شهوة الخصومة:
ويجب على المسلم أن يتخلى عن شهوة الخصومة ويحترز منها وألا يحوم حولها ولا يقترب منها فإنها خلقٌ شرٌ كله فهي تحمل على الحقد والكراهية والحسد وصاحبها ممقوت عند الله تعالى بنص الكتاب والسنة الصحيحة.
قال تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ ِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ {البقرة 206:204}
(حديث عائشة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أبغض الرجال إلى الله: الألدُّ الخَصِم.
معنى الألدُّ: شديد اللدودة أي الجدال معنى الخَصِم: شديد الخصومة
{تنبيه}: ويجب على المسلم أن يتجنب الخصومة بينه وبين أخيه لأن هذا هو هدف الشيطان وبغيته عليه لعنة الله، فالشيطان عليه لعائن الله المتتابعة تترى من غير انفصال يُحَرِّش بين الناس ويوقع بينهم الخصومات والعياذ بالله.
(حديث جابر في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم.
معنى أيس: أي يأس
ولكن في التحريش بينهم:
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
في التحريش بينهم" هذا الحديث من معجزات النبوة، ومعناه أيس أن يعبده أهل جزيرة العرب ولكنه سعى في التحريش بينهم بالخصومات والشحناء والحروب والفتن ونحوها.(10/415)
(58) الاحتراز من رذيلة الحرص والطمع:
من الصفات الرذيلة التي يجب على المسلم أن يحترز منها رذيلة الحرص والطمع فإن الحرص على المال يفسد الدين بقدر أكبر من الفساد الحاصل من إرسال ذئبين جائعين على غنم، أي يفسد فساداً بيناً بلا روية
(حديث كعب بن مالك في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسدَ لها من حرص المرء على المال و الشرف لدينه.
مقصود الحديث أن الحرص على المال والشرف أكثر إفساداً للدين من إفساد الذئبين للغنم لأن ذلك الأشر والبطر يستفز صاحبه ويأخذ به إلى ما يضره وذلك مذموم لاستدعائه العلو في الأرض والفساد المذمومين شرعاً ذلك الأشر والبطر يستفز صاحبه ويأخذ به إلى ما يضره وذلك مذموم لاستدعائه العلو في الأرض والفساد المذمومين شرعاً.
وقد حذرنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من فتنة المال في سنته المشرفة، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة
(حديث كَعْبِ بْنِ عِيَاضٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:
إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ.
قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
قَوْلُهُ: (إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً) أَيْ ضَلَالًا وَمَعْصِيَةً.
(وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ) أَيِ اللَّهْوُ بِهِ لِأَنَّهُ يُشْغِلُ الْبَالَ عَنِ الْقِيَامِ بِالطَّاعَةِ وَيُنْسِي الْآخِرَةَ.
(حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:
إنَّ هَذَا الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ أَهْلَكَا مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَهُمَا مُهْلِكَاكُمْ.
أورد ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية عن الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ قَالَ: لِكُلِّ أُمَّةٍ صَنَمٌ يَعْبُدُونَهُ وَصَنَمُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ.
{تنبيه}: من أجل ذلك نهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الحرص على المال وأمر بالاقتصاد فيه وعدم الانكباب عليه واليقين بأن نفساً لن تموت وحتى تستوفي رزقها و إن أبطأ عنها وأن الرزق
(حديث جابر في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أيها الناس اتقوا الله و أجملوا في الطلب فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها و إن أبطأ عنها فاتقوا الله و أجملوا في الطلب خذوا ما حل و دعوا ما حرُم.(10/416)
(أيها الناس اتقوا اللّه وأجملوا في الطلب) ترفقوا في السعي في طلب حظكم من الرزق
(فإن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها) فهو لا بد يأتيها فلا فائدة للانهماك والاستشراف والرزق لا ينال بالجد ولا بالاجتهاد وقد يكدح العاقل الذكي في طلبه فلا يجد مطلوبه والغر الغبي يتيسر له ذلك المطلوب، وهذه المطالب إنما تحصل وتسهل بناء على قسمة قسَّام لا يمكن منازعته ومغالبته {نحن قسمنا بينهم معيشتهم} فقد ترى أحمقاً مرزوقاً وعالماً محروماً، وقرن ذلك بالأمر بالتقوى لأنها من الأوامر الباعثة على جماع الخير إذ معها تنكف النفس عن أكثر المطالب وترتدع عن الشهوات وتندفع عن المطامع ومن ثم كرر لك فقال
(فاتقوا اللّه وأجملوا في الطلب) أي اطلبوا الرزق طلباً رفيقاً وبين كيفية الإجمال بقوله فيه
(خذوا ما حل) لكم تناوله
(ودعوا) أي اتركوا
(ما حرم)
(حديث أبي الدرداء في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الرزق أشد طلبا للعبد من أجله.
(الرزق أشد طلباً للعبد من أجله) لأن اللّه تعالى وعد به بل ضمنه ووعده لا يتخلف وضمانه لا يتأخر ومن علم أن ما قدر له من رزقه لا بد له منه علم أن طلبه لما لا يقدر له عناء لا يفيد ولهذا قال بعض الأنجاب: الرزق يطرق على صاحبه الباب وقال بعضهم: الرزق يطلب المرزوق وبسكون أحدهما يتحرك الآخر.
والسقيم عاجز والعمر الذي أعطى به يقوم العبادة والصحة مع الفقر خير من الغنى مع العجز والعاجز كالميت.
(وطيب النفس من النعيم) لأن طيبها من روح اليقين وهو النور الوارد الذي أشرق على الصدر فإذا استنار القلب ارتاحت النفس من الظلمة والضيق والضنك فإنها لشهواتها في ظلمة والقلب مرتبك فيها فالسائر إلى مطلوبه في ظلمة يشتد عليه السير ويضيق صدره ويتنكد عيشه ويتعب جسمه فإذا أضاء له الصبح ووضح له الطريق وذهبت المخاوف وزالت العسرة ارتاح القلب واطمأنت النفس وصارت في نعيم
(حديث عبيد الله ابن محصن في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها.
(من أصبح منكم آمنا في سِربه) أي في بيته
(معافى في جسده) أي صحيحاً بدنه
(عنده قوت يومه) أي غذاؤه وعشاؤه الذي يحتاجه في يومه ذلك
يعني من جمع اللّه له بين عافية بدنه وأمن قلبه حيث توجه وكفاف عيشه بقوت يومه وسلامة أهله(10/417)
(فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) كأنما أعطي الدنيا بأسرها
{تنبيه}: ويجوز الاستكثار من المال الحلال ما لم ينكب الإنسان عليه مع صلاح النية من إعطاء حق الله تعالى فيه وصلة الرحم ومساعدة المحتاجين.
(حديث عمرو بن العاص في صحيح الأدب المفرد) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: نعم المال الصالح للمرء الصالح.
(حديث يسار بن عُبيد في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا بأس بالغنى لمن اتقى و الصحة لمن اتقى خير من الغنى و طيب النفس من النعيم.
(لا بأس بالغنى لمن اتقى) فالغنى بغير تقوى هلكة، يجمعه من غير حقه ويمنعه ويضعه في غير حقه فإذا كان مع صاحبه تقوى فقد ذهب البأس وجاء الخير قال محمد بن كعب: الغني إذا اتقى آتاه اللّه أجره مرتين لأنه امتحنه فوجده صادقاً وليس من امتحن كمن لا يمتحن
(والصحة لمن اتقى خير من الغنى) فإن صحة البدن عون على العبادة فالصحة مال ممدود:
(حديث أبي كبشة الأنماري في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَحسنِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْماً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الأجرِسَوَاءٌ، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً فَهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ لاَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلاَ يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فهو بِأَسوءِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلاَ عِلْماً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الوزر سَوَاءٌ.
[*] قال سعيد ابن المسيب رحمه الله تعالى: لا خيرَ فيمن لا يريد المال من حِله يكفُ به وجهه عن الناس، ويصل فيه رحمه ويعطي منه حقه.
[*] وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: المال في زماننا هذا سلاحُ المؤمنين
[*] وقال الفُضَيلُ ابن عِياض لابن المبارك رحمها الله تعالى: أنت تأمرنا بالزهد والتقلل والبُلغة ونراك تأتي بالبضائع من بلاد خُرسان إلى البلد الحرام كيف ذاك؟(10/418)
فقال ابن المبارك رحمه الله تعالى: يا أبا علي إنما أفعل ذلك لأصون به وجهي وأكرم به عرضي وأستعين به على طاعة ربي، لا أرى لله حقاً إلا سارعت إليه حتى أقوم به، فقال الفضيل: ما أحسن ذا إذا تم ذا.
[*] وقال ابن المبارك مرةً للفضيل: لولا أنت وأصحابك ما اتجَّرت.
[*] وقال ابن المبارك مرةً: لولا خمسةٌ ما اتجَّرت، السفيانان وفضيل وابن السماك وابن علية.
(59) صحبة من يُسْتَحْيَا منه ليزجره ذلك من المخالفات:
قال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة:
ومن آدابها: صحبة من يُسْتَحْيَا منه ليزجره ذلك من المخالفات.
(حديث سعيد بن يزيد بن الأزور رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أوصيك أن تستحي من الله تعالى كما تستحي من الرجل الصالح من قومك.
أورد أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: " أحبوا الطاعات بمجالسة من يُسْتَحْيَا منه "
وأورد أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: " ما أوقعني في بلية (1) إلا صحبة من لا أحتشمه "
وأورد أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة عن إسماعيل بن نجيد رحمه الله يقول: " عاشر من تحتشمه، ولا تعاشر من لا تحتشمه "
(60) المشورة مع الإخوان وقبول ما يشيرون به عليه:
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ) [آل عمران: 159]
(61) قلة مخالفة الإخوان في أسباب الدنيا:
قال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة:
ومن آدابها: قلة مخالفة الإخوان في أسباب الدنيا، فإن الدنيا أقل خطرا من أن يخالف فيها أخ من الإخوان.
أورد أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة عن يحيى بن معاذ يقول: " الدنيا بأجمعها لا تسوى غم ساعة، فكيف بغم طول عمرك فيها، وقطع إخوانك بسببها مع قليل نصيبك منها؟ "
(62) الحرص على اجتماع الكلمة والحذر من الخلاف:
__________
(1) البلية: الشدة والمصيبة والفتنة(10/419)
(حديث ابن مسعود في صحيح البخاري) قال سمعت رجلاً قرأ آيةً سمعت من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلافها فأخذت بيده فأتيت به رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: كلاكما محسن، لا تختلفوا فإنه من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا.
(حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعثه ومعاذا إلى اليمن فقال يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا.
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح:
وتطاوعا: أي توافقا في الحكم ولا تختلفا لأن ذلك يؤدي الى اختلاف اتباعكما فيفضى إلى العداوة ثم المحاربة والمرجع في الاختلاف إلى ما جاء في الكتاب والسنة كما قال تعالى قال تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء: 59]
قال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة:
ومن آدابها: قلة الخلاف على الإخوان، ويتحرى موافقتهم فيما يرون، ما لم يكن مخالف للدين والسنة.
أورد أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى في آداب الصحبة عن جويرة بن إسماعيل قال: " دعوت الله أربعين سنة أن يعصمني من مخالفة الإخوان "
أخرج عبد الرزاق عن قتادة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر، وعمر، وعثمان ـ صَدْراً من خلافته ـ كانوا يصلُّون بمكة ومِنى ركعتين، ثم إن عثمان صلاها أربعاً، فبلغ ذلك ابن مسعود، فاسترجع ثم قام فصلَّى أربعاً. فقيل له: إسترجعت ثم صليت أربعاً؟ قال: الخلاف شر. كذا في الكنز.
وأخرج البخاري عن علي رضي الله عنه قال: اقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الاختلاف، حتى يكون للناس جماعة، أو أموت كما مات أصحابي.
وأخرج العسكري عن سليم بن قيس العامري قال: سأل ابن الكوَّاء علياً رضي الله عنه عن السُّنة، والبِدعة، وعن الجماعة، والفُرقة. فقال: يا ابن الكواء، حفظت المسألة فأفهم الجواب: السنة ـ والله ـ سنّة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البدعة ما فارقها، والجماعة ـ والله ـ مجامعة أهل الحق وإِنْ قلّوا، والفُرقة مجامعة أهل الباطل وإِن كثروا. كذا في الكنز.
(63) أن يلزم التجارة والصناعة ويستغني بالله عن الناس:
(حديث أبي بردة بن نيار رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:(10/420)
أَفْضَلُ الْكَسْبَِْ بَيْعٌ مَبْرُورٌ وَعَمَلُ الرَجُلِ بِيَدِه.
(حديث أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ.
(التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ إِلَخْ) أَيْ: مَنْ تَحَرَّى الصِّدْقَ وَالْأَمَانَةَ في البيع كَانَ فِي زُمْرَةِ الْأَبْرَارِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ.
(حديث المقدام بن معد يكرب الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (ما أكل أحدٌ طعامٌ قط، خيرٌ من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكلُ من عمل يده)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (والذي نفسي بيده، لأن يأخذ أحدكم حَبْله، فيحتطبَّ على ظهره، خيرٌ له من أن يأتيَ رجلاً فيسألَه، أعطاهُ أو مَنَعه)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (كان زكرياء نجاراً)
(حديث عُمَرَ بنِ الْخَطّابِ رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لَوْ أَنّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكّلُونَ عَلَى الله حَقّ تَوَكّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطّيْرُ تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً ".
(حديث أبي بردة بن نيار رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:
أَفْضَلُ الْكَسْبَِْ بَيْعٌ مَبْرُورٌ وَعَمَلُ الرَجُلِ بِيَدِه.
قال الإمام المناوي رحمه الله في فيض القدير:
(أفضل الكسب بيع مبرور) أي لا غش فيه ولا خيانة أو معناه مقبول في الشرع بأن لا يكون فاسداً أو مقبول عند اللّه بأن يكون مثاباً عليه.
(عمل الرجل بيده) من نحو صناعة أو زراعة وقيد العمل باليد لكون أكثر مزاولته بها وخص الرجل لأنه المحترف غالباً لا لإخراج غيره وظاهر الحديث تساويهما في الأفضلية قال بعضهم وقد قيل له لا تتبع التكسب فيدنيك من الدنيا فقال لئن أدناني من الدنيا فقد صانني عنها.
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (ليستغن أحدكم عن الناس بقضيب سواك)(10/421)
وبين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن العبد إذا رزقه الله مالاً وعلما فهو بأحسن المنازل عند الله بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي كبشة الأنماري الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَحسنِ الْمَنَازِلِ عند الله، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْماً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الأجرِ سَوَاءٌ، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً فَهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ لاَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلاَ يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فهو بِأَسوءِ الْمَنَازِلِ عند الله، وَرجلٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلاَ عِلْماً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الوزر سَوَاءٌ.
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية:
قَالَ الْمَرْوَزِيُّ: سَمِعْت رَجُلًا يَقُولُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ إنِّي فِي كِفَايَةٍ قَالَ الْزَمْ السُّوقَ تَصِلُ بِهِ الرَّحِمَ وَتَعُودُ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ. وَقَالَ أَحْمَدُ لِلْمَيْمُونِيِّ اسْتَغْنِ عَنْ النَّاسِ فَلَمْ أَرَ مِثْلَ الْغَنِيِّ عَنْ النَّاسِ وَقَالَ رَجُلٌ لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَعَدَ فِي بَيْتِهِ وَزَعَمَ أَنَّهُ يَثِقُ بِاَللَّهِ فَيَأْتِيه بِرِزْقِهِ قَالَ: إذَا وَثِقَ بِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنْ قَدْ وَثِقَ بِهِ لَمْ يَمْنَعْهُ شَيْء أَرَادَهُ وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا الْأَنْبِيَاءُ وَلَا غَيْرُهُمْ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}.
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن مجاهد، في قوله تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للّهِ إِن كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة: 172] قال: التجارة.(10/422)
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن مجاهد (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ أَنْفِقُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) [البقرة: 267] قال: التجارة.
أورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن أبي بكر المروذي قال: سمعت رجلا يقول لأبي عبد الله رحمه الله: إني في كفاية، فقال: " الزم السوق تصل به الرحم وتعود به "
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن الفضل بن زياد قال: سمعت أبا عبد الله، يأمر بالسوق ويقول: " ما أحسنَ الاستغناءَ عن الناس "
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن أن أبا عبد الله رحمه الله تعالى قال: قال رجل للسري بن يحيى وكان يتجر في البحر: تركب البحر في طلب الدنيا؟ قال: " أحب أن أستغني عن ضربك من الناس "
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن عبيد الله بن موسى، قال: سمعت سفيان الثوري، يقول: المال في هذا الزمان سلاح.
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن محمد بن ثور قال: كان سفيان الثوري يمر بنا ونحن جلوس في المسجد الحرام، فيقول " ما يُجْلِسِكُم؟ " فنقول: فما نصنع؟ قال: " اطلبوا من فضل الله، ولا تكونوا عيالا على المسلمين "
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة أن إبراهيم بن أدهم كان إذا قيل له: كيف أنت؟ قال: بخير ما لم يتحمل مؤنتي غيري.
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن الفيض بن إسحاق، قال: سألت الفضيل بن عياض، قلت: لو أن رجلا قعد في بيته، زعم أنه يثق بالله فيأتيه برزقه؟ قال: يعني إذا وثق به حتى يعلم أنه قد وثق به، لم يمنعه شيء أراده، ولكن لم يفعل هذا الأنبياء ولا غيرهم، وقد كانت الأنبياء يؤاجرون أنفسهم، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آجر نفسه، وأبو بكر وعمر، ولم يقولوا: نقعد حتى يرزق الله عز وجل، وقد قال الله تعالى في كتابه: قال تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللّهِ) [الجمعة: 10]. فلابد من طلب المعيشة
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن الحسن بن الربيع، يقول: لأن أكسب قيراطا (1) أحب إلي من أن يصلني أحد بعشرة دراهم.
__________
(1) القيراط: عشر الدينار(10/423)
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن مجاهد، في قوله تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للّهِ إِن كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة: 172] (1) قال: التجارة.
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن سعيد بن المسيب، قال: لا خير في من لا يطلب المال يقضي به دينه، ويصون به عرضه، ويقضي به ذمامه، وإن مات تركه ميراثا لمن بعده.
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن سعيد بن المسيب، أنه ترك دنانير، فقال: اللهم إنك تعلم أني لم أجمعها إلا لأصون بها ديني وحسبي، لا خير فيمن لا يجمع المال فيقضي دينه، ويكف به وجهه.
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن عائشة، قالت: كان أبو بكر رضي الله عنه أتجر قريش حتى دخل في الإمارة.
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن عبد الله بن عمرو، أنه قال لقيم له في شهر رمضان: هل كلت لأهلنا قوت شهرهم هذا؟ قال: نعم، قال عبد الله بن عمرو: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت "
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَتْرُكُ التِّجَارَةَ وَيُقْبِلُ عَلَى الصَّلَاةِ يَعْنِي وَرَجُلٌ يَشْتَغِلُ بِالتِّجَارَةِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ قَالَ التَّاجِرُ الْأَمِينُ.
وَتَرَكَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ دَنَانِيرَ: فَقَالَ اللَّهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَجْمَعْهَا إلَّا لِأَصُونَ بِهَا دِينِي وَحَسَبِي , لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَجْمَعُ الْمَال فَيَقْضِي دَيْنَهُ وَيَصِلُ رَحِمَهُ وَيَكُفُّ بِهِ وَجْهَهُ. أهـ
وقال أيضاً رحمه الله تعالى:(10/424)
َقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قِيلَ لِأَحْمَدَ: مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ جَلَسَ فِي بَيْتِهِ أَوْ مَسْجِدِهِ وَقَالَ: لَا أَعْمَلُ شَيْئًا حَتَّى يَأْتِي رِزْقِي؟ فَقَالَ أَحْمَدُ هَذَا رَجُلٌ جَهِلَ الْعِلْمَ أَمَا سَمِعَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ جَعَلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي} وَقَالَ حِينَ ذَكَرَ الطَّيْرَ {تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا} وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَّجِرُونَ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَيَعْمَلُونَ فِي نَخْلِهِمْ , وَالْقُدْوَةُ بِهِمْ.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَيْسَ الْعِبَادَةُ عِنْدَنَا أَنْ تَصُفَّ قَدَمَيْك وَغَيْرُك يَتْعَبُ لَك وَلَكِنْ ابْدَأْ بِرَغِيفِك فَاحْرُزْهُمَا ثُمَّ تَعَبَّدْ.
أورد ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية عن سفيان الثَّوْرِيُّ قَالَ لَأَنْ أَخْلُفَ عَشْرَةَ آلَاف دِرْهَمٍ يُحَاسِبُنِي اللَّهُ عَلَيْهَا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْتَاجَ إلَى النَّاسِ.
أورد الزركشي رحمه الله في الغرر السافر فيما يحتاج إليه المسافر أن رجلاً قال لمعروف الكرخي: يا أبا محفوظ! أتحرك لطلب الرزق أم أجلس؟ قال: لا بل تحرك، فإنه أصلح لك، فقال له أتقول هذا؟! فقال: وما أنا قلت، ولكن الله عز وجل أمر به، قال الكريم: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} [مريم:25] ولو شاء أن ينزله عليها (1).
أورد الزركشي رحمه الله في الغرر السافر فيما يحتاج إليه المسافر عن ابن عبد ربه قال: هل يجوز في عقل، أو يمثل في وهم، أو يصح في قياس أن يحصد زرع بغير بذر، أو يجني ثمر بغير غرس، أو يورى زند بغير قدح، أو ينموا مال بغير طلب.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن جريج، قال: قال لي عطاء: جاءني طاووس فقال لي: يا عطاء إياك أن ترفع حوائجك إلى من أغلق دونك بابه وجعل دونك حجاباً، وعليك بطلب حوائجك إلى من بابه مفتوح إلى يوم القيامة، طلب منك أن تدعوه ووعدك بالإجابة.
__________
(1) تاريخ بغداد: (13/ 199)، طبعة دار الفكر.(10/425)
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي الأحوص سلام بن سليمل قال: قال لي سفيان الثوري: عليك بعمل الأبطال، الكسب من الحلال، والإنفاق على العيال، قال: وكان سفيان الثوري إذا أعجبه تجر الرجل، قال: نعم الفتى إن عوجل.
الحجة على الذين يزعمون أنهم يتوكلون فيتركون العمل:
أورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن أبي بكر المروذي، قال: قلت لأبي عبد الله: هؤلاء المتوكلة (1) الذين لا يتجرون ولا يعملون، يحتجون بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زوج على سورة من القرآن، فهل كان معه شيء من الدنيا قال: وما علمهم أنه كان لا يعمل؟ قال: قلت: يقولون: نقعد وأرزاقنا على الله عز وجل، قال: " ذا قول رديء خبيث"، الله تبارك وتعالى يقول (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا نُودِيَ لِلصّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَىَ ذِكْرِ اللّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ) [الجمعة: 9]
فأيش هذا إلا البيع والشراء.
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الحث على التجارة والصناعة عن صالح، أنه سأل أباه رحمه الله عن التوكل، فقال: " التوكل حسن، ولكن ينبغي للرجل أن لا يكون عيالا على الناس، ينبغي أن يعمل حتى يغني نفسه وعياله، ولا يترك العمل ". قال: وسئل أبي رحمه الله - وأنا شاهد - عن قوم لا يعملون، ويقولون: نحن متوكلون، فقال: " هؤلاء مبتدعة "
(64) النهي عن إغضاب المسلم:
(حديث عائذ بن عمرو رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر فقالوا والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها قال فقال أبو بكر أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره فقال يا أبا بكر لعلك أغضبتهم لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك فأتاهم أبو بكر فقال يا أخوتاه أغضبتكم قالوا لا يغفر الله لك يا أخي.
(65) إكرام ضعفاء المسلمين وفقرائهم:
(حديث سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) قَالَ
__________
(1) التوكل: يقال تَوَكَّلَ بالأمرِ، إذا ضَمِنَ القِيام به ووكَلْتُ أمري إلى فلان: أي ألْجأته إليه واعتَمَدْتُ فيه عليه. ووكَّل فلانٌ فلاناً، إذا اسْتكْفاه أمرَه ثقةً بكفايَتِه، أو عَجْزاً عن القِيام بأمر نفسِه.(10/426)
نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا سِتَّةٍ فِيَّ وَفِي ابْنِ مَسْعُودٍ وَصُهَيْبٍ وَعَمَّارٍ وَالْمِقْدَادِ وَبِلَالٍ قَالَ قَالَتْ قُرَيْشٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا لَا نَرْضَى أَنْ نَكُونَ أَتْبَاعًا لَهُمْ فَاطْرُدْهُمْ عَنْكَ قَالَ فَدَخَلَ قَلْبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدْخُلَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الأنعام: 52]
إكرام النبي عليه السلام لابن أم مكتوم بعدما عوتب فيه:
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الترمذي) قَالَتْ: أُنْزِلَ
{عَبَسَ وَتَوَلَّى} فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلَ يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْشِدْنِي وَعِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ مِنْ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْرِضُ عَنْهُ وَيُقْبِلُ عَلَى الْآخَرِ وَيَقُولُ أَتَرَى بِمَا أَقُولُ بَأْسًا فَيَقُولُ لَا فَفِي هَذَا أُنْزِلَ}
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(أَرْشِدْنِي) أَيْ عَلِّمْنِي
(يُعْرِضُ عَنْهُ) أَيْ عَنِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ
(وَيَقُولُ) أَيْ لِلرَّجُلِ الْمُشْرِكِ
(أَتَرَى بِمَا أَقُولُ) أَيْ مِنَ التَّوْحِيدِ
(بَأْسًا) أَيْ ضَرَرًا وَحَرَجًا
(فَيَقُولُ لَا) وَفِي رِوَايَةِ الْمُوَطَّأِ: وَيَقُولُ " يَا أَبَا فُلَانٍ هَلْ تَرَى بِمَا أَقُولُ بَأْسًا "؟ فَيَقُولُ لَا وَالدِّمَاءِ مَا أَرَى بِمَا تَقُولُ بَأْسًا. وَالدِّمَاءُ جَمْعُ دُمْيَةٍ وَهِيَ الصُّورَةُ يُرِيدُ بِهَا الْأَصْنَامَ.
(66) إكرام اليتيم:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أردت أن يلين قلبك فأطعم المسكين و امسح رأس اليتيم.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إن أردت أن يلين قلبك) أي لقبول امتثال أوامر اللّه وزاجره
(فأطعم المسكين) المراد به ما يشمل الفقير ومن كلمات إمامنا البديعة إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا(10/427)
(وامسح رأس اليتيم) أي من خلف إلى قدام عكس غير اليتيم أي افعل به ذلك إيناساً وتلطفاً به فإن ذلك يلين القلب ويرضي الرب.
(67) الاقتصاد في الحب والكره:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما.
هونا: مقتصدا بلا إفراط.
البغيض: المكروه
[*] أورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عن الحسن قال: " تنقوا الإخوان والأصحاب والمجالس، وأحبوا هونا، وأبغضوا هونا، فقد أفرط أقوام في حب أقوام فهلكوا، وأفرط أقوام في بغض أقوام فهلكوا، فلا تفرط في حبك، ولا تفرط في بغضك، وإن رأيت دون أخيك سترا فلا تكشفه "
[*] وأورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " لا يكن حبك كلفا، ولا بغضك صلفا "
[*] وأورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عن قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " عليك بإخوان الصدق فكن في اكتسابهم؛ فإنهم زين في الرخاء وعزة عند البلاء "
وأنشد علي رضي الله عنه في ذلك قائلا:
وأحبب إذا أحببت حبًّا مقاربًا ....... فإنَّك لا تدري متى أنت نازع
وأبغض إذا أبغضت بغضًا مقاربًا ....... فإنَّك لا تدري متى الحبُّ راجع
سرعة تقلب القلب:
(حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: مَثَلُ القلب مَثَلُ الريشة تقلبها الرياح بفلاة.
الفلاة: الصحراء والأرض الواسعة التي لا ماء فيها.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(مثل القلب مثل الريشة) وفي رواية كريشة، قال الطيبي: المثل هنا بمعنى الصفة لا القول السائر والمعنى صفة القلب العجيبة الشأن وورود ما يرد من عالم الغيب وسرعة تقلبه كصفة ريشة يعني أن القلب في سرعة تقلبه لحكمة الابتلاء بخواطر ينحرف مرة إلى حق ومرة إلى باطل وتارة إلى خير وتارة إلى شر وهو في مقره لا ينقلب في ذاته غالباً إلا بقاهر مزعج من خوف مفرط(10/428)
(تقلبها الرياح بفلاة) لفظ رواية أحمد بأرض فلاة أي بأرض خالية من العمران فإن الرياح أشد تأثيراً فيها منها في العمران وجمع الرياح لدلالتها على التقلب ظهراً لبطن إذ لو استمر الريح لجانب واحد لم يظهر التقلب كما يظهر من الرياح المختلفة. ولفظه بفلاة مقحمة فهو كقولك أخذت بيدي ونظرت بعيني تقريراً ودفعاً للتجوز، قال: وتقلبها صفة أخرى لريشة وقال المظهر: ظهراً بدل بعض من الضمير في تقلبها واللام في بعض بمعنى إلى ويجوز أن يكون ظهراً لبطن مفعولاً مطلقاً أي تقلبها تقليباً مختصاً وأن يكون حالاً أي تقلبها مختلفة أي وهي مختلفة ولهذا الاختلاف سمي القلب قلباً وقال الراغب: قلب الشيء صرفه عن وجه إلى وجه وسمي قلباً لكثرة تقلبه ويعبر بالقلب عن المعاني التي تختص به من الروح والعلم والشجاعة وغيرها. وقال الغزالي: إنما كان كثير التقلب لأنه منزله الإلهام [ص 509] والوسوسة وهما أبداً يقرعانه ويلقنانه وهو معترك المسكرين الهوى وجنوده والعقل وجنوده فهو دائماً بين تناقضهما وتحاربهما والخواطر له كالسهام لا تزال تقع فيه كالمطر لا يزال يمطر عليه ليلاً ونهاراً وليس كالعين التي بين جفنين تغمض وتستريح أو تكون في ليل أو ظلمة أو اللسان الذي هو من وراء حجابين الأسنان والشفتين وأنت تقدر على تسكينه بل القلب عرش الخواطر لا تنقطع عنه بحال والآفات إليه أسرع من جميع الأعضاء فهو إلى الانقلاب أقرب ولهذا خاف الخواص على قلوبهم وبكوا عليها وصرفوا عنايتهم إليها ومقصود الحديث أن يثبت العبد عند تقلب قلبه وينظر إلى همومه بنور العلم فما كان خيراً أمسك القلب عليه وما كان شراً أمسكه عنه.
ما يكره من النفاق والتصنع بالود:
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: تجد من شرار الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه.
(حديث عمار ابن ياسر في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار.
(حديث أبي هريرة في صحيح الأدب المفرد) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أميناً.
[*] أورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عن ابن مسعود قال: " لا يكونن أحدكم إمعة، قالوا: وما الإمعة؟ قال: يجري مع كل ريح "
(68) الاحتراز من الشح والبخل:
مسألة: ما الفرق بين الشح والبخل:(10/429)
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
"الشح: هو شدّة الحرص على الشيء، والإحفاء في طلبه، والاستقصاء في تحصيله، وجشع النفس عليه. والبخل: منع إنفاقه بعد حصوله، وحبه وإمساكه، فهو" شحيح قبل حصوله، بخيل بعد حصوله".
فالبخل ثمرة الشح، والشح يدعو إلى البخل، والشح كامن في النفس؛ فمن بخل فقد أطاع شحه، ومن لم يبخل فقد عصى شحه ووُقِي شره، وذلك هو المفلح {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
وقال أيضاً: "الاقتصاد خلق محمود، يتولد من خلقين: عدل وحكمة ... وهو وسط بين طرفين مذمومين، .... والشح: خلق ذميم يتولد من سوء الظن وضعف النفس، ويمده وعد الشيطان حتى يصير هلعاً، والهلع: شدة الحرص على الشيء والشره به .... "ا. هـ (1)
الترهيب من الشح والبخل:
قال تعالى: (وَأَمّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىَ، وَكَذّبَ بِالْحُسْنَىَ، فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَىَ) [سورة: الليل - الآية: 10]
و قال تعالى: (وَمَن يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [سورة: التغابن - الآية: 16]
(حديث جابر في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم و حملهم على أن سفكوا دماءهم و استحلوا محارمهم.
(حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالشُّحِّ أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هِيَ قَالَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالشُّحُّ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ.
__________
(1) "الوابل الصيب" (ص64)، "الروح" (ص353 - 354)، كلاهما لابن القيم.(10/430)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الْآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا.
(حديث أنس في الثابت صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاث منجيات: خشية الله تعالى في السر و العلانية و العدل في الرضا و الغضب و القصد في الفقر و الغنى و ثلاث مهلكات: هوى متبع و شح مطاع و إعجاب المرء بنفسه.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يجتمع غبار في سبيل الله و دخان جهنم في جوف عبد أبدا و لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: شر ما في رجل شح هالع وجبن خالع.
(حديث جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ النَّاسُ مَقْفَلَهُ مِنْ حُنَيْنٍ فَعَلِقَهُ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ فَوَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَعْطُونِي رِدَائِي لَوْ كَانَ لِي عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا وَلَا كَذُوبًا وَلَا جَبَانًا.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح:
حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ: أي ألجؤه إلى شجرة من شجر البادية ذات شوك.
لَوْ كَانَ لِي عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا: الْعِضَاهِ بكسر المهملة بعدها معجمة خفيفة وفي آخره هاء هو شجر ذو شوك.
وقال بعض الحكماء: "من كان بخيلاً ورث ماله عدوه" (1).
ومن كلام الحكماء: "الرزق مقسوم، والحريص محروم، والحسود مغموم، والبخيل مذموم" (2).
وقال أبو حاتم: "البخل شجرة في النار، أغصانها في الدنيا؛ ومن تعلَّق بغصن من أغصانها جرَّه إلى النار" (3).
__________
(1) "مختصر منهاج القاصدين" لابن قدامة (ص229).
(2) "الآداب الشرعية" لابن مفلح (ج3)، (ص307).
(3) "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء" لابن حبان (ص195).(10/431)
وقال أيضاً: "وما اتزر رجل بإزار أهتك لعرضه ولا أثلم لدينه من البخل" (1).
وقال أيضاً: "البخل بئس الشعار في الدنيا والآخرة، وشر ما يُدّخر من الأعمال في العُقْبى" (2).
وقال ابن تيمية: "المؤمنون يتمادحون بالشجاعة والكرم، وكذلك يتذامّون بالبخل والجبن" (3).
(69) أن يكون مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر:
(حديث أنس الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن من الناس ناساً مفاتيحٌ للخير مغاليقٌ للشر و إن من الناس ناساً مفاتيحٌ للشر مغاليقٌ للخير فطوبى لمن جعل الله مفاتيحَ الخير على يديه و ويل لمن جعل الله مفاتيحَ الشر على يديه.
(حديث خالد بن أبي عمران الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: رحم الله عبدا قال خيرا فغنم أو سكت عن سوء فسلم.
(حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ جَاءَ مِنْهُمْ الْأَحْمَرُ وَالْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ.
قال الخطابي رحمه الله في آداب العزلة:
بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا القول أن الناس أصناف وطبقات وأنهم إلى تفاوت في الطباع والأخلاق: فمنهم الخير الفاضل الذي ينتفع بصحبته ومنهم الرديء الناقص الذي يتضرر بقربه وعشرته، كما أن الأرض مختلفة الأجزاء والتراب: فمنها العذاة الطيبة التي يطيب نباتها ويزكو ريعها ومنها السباخ الخبيثة التي يضيع بزرها ويبيد زرعها وما بين ذلك على حسب ما يوجد منها حسا ويشاهد عيانا. أهـ
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: النَّاسُ مَعَادِنُ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا.
قال الخطابي رحمه الله في آداب العزلة:
__________
(1) "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء" لابن حبان (ص196).
(2) "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء" لابن حبان (ص198).
(3) "مجموع فتاوى ابن تيمية" (ج28)، (ص154).(10/432)
وفي هذا القول أيضا بيان أن اختلاف الناس غرائز فيهمن كما أن المعادن ودوائع مركوزة في الأرض: فمنها الجوهر النفيس ومنها الفلز الخسيس وكذلك جواهر الناس وطبائعهم: منها الزكي الرضي ومنها الناقص الدني. أهـ
(70) التخلي عن رزيلة هجر المسلم:
(حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ.
(حديث أبي خراش السلمي رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا.
جواز هجر أهل المعاصي أكثر من ثلاث:
(حديث أم سلمة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حلف أن لا يدخل على بعض أهله شهرا، فلما مضى تسعة وعشرون يوما غدا عليهن أو راح، فقيل له: يا نبي الله حلفت أن لا تدخل عليهن شهرا؟. فقال: (إن الشهر يكون تسعة وعشرين يوما).
(حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الثابت في صحيح الترغيب والترهيب)
أَنَّهُ اعْتَلَّ بَعِيرٌ لِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ وَعِنْدَ زَيْنَبَ فَضْلُ ظَهْرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْنَبَ أَعْطِيهَا بَعِيرًا فَقَالَتْ أَنَا أُعْطِي تِلْكَ الْيَهُودِيَّةَ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَجَرَهَا ذَا الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمَ وَبَعْضَ صَفَرٍ.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن الحسن قال: هجران الأحمق قربة إلى الله عز وجل.
(71) ترك الاستكثار من الأصدقاء وما يستحب من قلة الالتقاء:(10/433)
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) قال: أخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّمَا النَّاسُ كَالْإِبِلِ الْمِائَةِ لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً.
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح:
المعنى لا تجد في مائة إبل راحلة تصلح للركوب لان الذي يصلح للركوب ينبغي أن يكون وطيئاً سهل الانقياد وكذا لا تجد في مائة من الناس من يصلح للصحبة بأن يعاون رفيقه ويلين جانبه.
قال الخطابي رحمه الله في آداب العزلة:
الراحلة البعير الذلول الذي يرحل ويركب فاعل بمعنى مفعول كقولهم سر كاتم أي مكتوم وماء دافق بمعنى مدفوق يريد والله أعلم ليعلم أن غير الواحد من المائة من الناس لا يصلح أن يصحب كما أن غير الواحد من هذه المائة من الإبل لا يصلح أن يركب يشير به إلى الإقلال من صحبة الناس والتحذير منهم.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن عمرو بن العاص أنه قال: (إذا كثر الأخلاء كثر الغرماء).
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن سفيان الثوري: كثرة أصدقاء المرء من سخافة دينه.
وذلك لأن الرجل إذا كان صلب الدين لم يصحب إلا الأبرار الأتقياء وفيهم قلة.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن ابن عون قال: أسىء ظنك بالناس تقع قريبا وأقل معرفة الناس تسلم.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن عمر بن عبد العزيز أنه قال لمحمد بن كعب القرظي: أي خصال الرجل أوضع له قال: كثرة كلامه وإفشاؤه سره والثقة بكل أحد.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن أبي الدرداء رحمه الله: إنك لن تتفقه كل الفقه حتى تمقت الناس في جنب الله ثم ترجع إلى نفسك فتجدها أمقت من سائر الناس.(10/434)
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن إبراهيم بن شماس قال قال لي جعفر بن حميد الأكاف: يا إبراهيم صحبت الناس خمسين سنة فلم أجد أخا منهم ستر لي عورة ولا وصلني إذا قطعته ولا أمنته إذا غضب فالاشتغال بهؤلاء حمق كثير.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن شبيب بن شبة قال: إن من إخواني من لا يأتيني في السنة إلا اليوم الواحد هم الذين أعدهم للمحيا والممات، ومنهم من يأتيني كل يوم فيقبلني وأقبله ولو قدرت أن أجعل مكان قبلتي إياه عضة لعضضته.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن اسحاق بن إبراهيم قال: كان بين عبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان مودة وإخاء وكانت السنة تمر عليهما لا يلتقيان فقيل لأحدهما في ذلك فقال: "إذا تقاربت القلوب لم يضر تباعد الأجسام".
(72) تركُهُ ما لا يعنيه:
من أجلِّ الآداب في معاشرة الإخوان " ترك ما لا يعني ورفض الاشتغال بما لا يجدي"
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من حسن إسلامِ المرء تركُهُ ما لا يعنيه.
قال الخطابي رحمه الله في آداب العزلة:
قال بعض الحكماء: من اشتغل بما لا يعنيه ومن لم يستغن بما يكفيه فليس في الدنيا شيء يغنيه.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة أن ابن عباس أوصى رجلا فقال: لا تتكلم بما لا يعنيك فإن ذلك فضل ولست آمن عليك الحذر ودع الكلام في كثير مما يعنيك حتى تجد له موضعا فرب متكلم في غير موضعه قد عنث، ولا تمار حليما ولا سفيها فإن الحليم يقليك والسفيه يؤذيك، وأذكر أخاك إذا توارى عنك بما تحب أن يذكرك به إذا تواريت عنه ودعه مما تحب أن يدعك منه فإن ذلك العدل واعمل عمل امرىء يعلم أنه مجزى بالاحسان مأخوذ بالاجرام.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن مؤرق العجلي قال: أمرٌ أنا اطلبه منذ عشرين سنة لم أنله ولست بتاركه فيما أستقبل قيل: وما هو يا أبا المعتمر؟ قال: الصمت عما لا يعنيني.
أورد الخطابي رحمه الله في آداب العزلة عن الأعمش عن أبي راشد قال: جاء رجل من أهل البصرة إلى عبيد الله بن عمر فقال إني رسول إخوانك من أهل البصرة إليك فإنهم يقرؤونك السلام ويسألونك عن أمر هذين الرجلين: علي وعثمان وما قولك فيهما فقال: هل غير قال: لا.
قال: جهزوا الرجل.(10/435)
فلما فرغ من جهازه قال: اقرأ عليهم السلام وأخبرهم أن قولي فيهم (تِلْكَ أُمّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [البقرة: 134]
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مالك أنه بلغه أن لقمان الحكيم قيل له: ما بلغ بك ما نرى؟ قال: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وتركي ما لا يعنيني.
(73) التحلي بالقناعة:
[*] عناصر التحلي بالقناعة:
العلاقة بين القناعة والرضا:
حاجتنا إلى القناعة:
سوء عاقبة الطامعين:
تعريف القناعة:
قناعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لا قناعة في فعل الخير:
فضل القناعة:
مراتب القناعة (للماوردي):
آثار القناعة:
من الأسباب المؤدية للقناعة:
من أروع قصص القناعة:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
العلاقة بين القناعة والرضا:
القناعة متعلقة بالرضا، فإذا رضي العبد عن ربه قنع بما قسم الله له وقلبه مطمئن مرتاح لذلك. والقناعة تناقض التكالب على الدنيا سعيا وراء متاعها الزائل، سواء كان حلالا أم حراما. فالمؤمن يقنع بالحلال ولو كان قليلا، ويمقت الحرام ولو كان كثيرا. وقناعته لا تقعده عن الكسب ولا عن أخذ ما هو صالح من غيره، لكنها تناقض الحسد لمن آتاه الله رزقا وفيرا، وتناقض تكليف النفس فوق طاقتها طمعا في المزيد من متاع الدنيا، وتناقض الكسب مع التفريط بفرائض الله وعبادته.
حاجتنا إلى القناعة:
القناعة يحتاجها الغني والفقير وكذلك يحتاجها من كان رزقه كفافا بين الغنى والفقر، لأن القناعة في القلب ولا علاقة لها بما في اليد من مال.
ومن قنع بما آتاه الله وجد طمأنينة القلب والسعادة، قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنّهُ حَيَاةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [النحل: 97]
قال كثير من أهل التفسير: الحياة الطيبة في الدنيا هي القناعة. وقيل أيضا في قوله تعالى: " (إِنّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ) [الإنفطار: 13] هو القناعة، وفي قوله تعالى " قال تعالى: (وَإِنّ الْفُجّارَ لَفِي جَحِيمٍ) [الإنفطار: 14] هو الحرص في الدنيا.(10/436)
وقد ذم الله تعالى التكاثر في متاع الدنيا وعدّه من الملهيات: " قال تعالى: (أَلْهَاكُمُ التّكّاثُرُ * حَتّىَ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) [التكاثر 1، 2] وهكذا يفلح من قنع بما آتاه الله تعالى وكان رزقه كفافا على قدر حاجته، وسطا بين الغنى والفقر، وهو أفضل من كليهما، لأن خير الأمور أوسطها، فرب غني ألهاه غناه عن معرفة ربه ورب فقير شغله فقره وإكتساب قوته عن عبادة ربه.
سوء عاقبة الطامعين:
يحكى أن ثلاثة رجال ساروا في طريق فعثروا على كنز، واتفقوا على تقسيمه بينهم بالتساوي، وقبل أن يقوموا بذلك أحسوا بالجوع الشديد، فأرسلوا أحدهم إلى المدينة ليحضر لهم طعامًا، وتواصوا بالكتمان، حتى لا يطمع فيه غيرهم، وفي أثناء ذهاب الرجل لإحضار الطعام حدثته نفسه بالتخلص من صاحبيه، وينفرد هو بالكنز وحده، فاشترى سمًّا ووضعه في الطعام، وفي الوقت نفسه، اتفق صاحباه على قتله عند عودته؛ ليقتسما الكنز فيما بينهما فقط، ولما عاد الرجل بالطعام المسموم قتله صاحباه، ثم جلسا يأكلان الطعام؛ فماتا من أثر السم .. وهكذا تكون نهاية الطامعين وعاقبة الطمع.
*أُهْدِيَتْ إلى السيدة عائشة -رضي الله عنها- سلالا من عنب، فأخذت تتصدق بها على الفقراء والمساكين، وكانت جاريتها قد أخذت سلة من هذه السلال وأخفتها عنها، وفي المساء أحضرتها، فقالت لها السيدة عائشة -رضي الله عنها-: ما هذا؟ فأجابت الجارية: ادخرتُه لنأكله. فقالت السيدة عائشة -رضي الله عنها-: أما يكفي عنقود أو عنقودان؟
*كان سلمان الفارسي -رضي الله عنه- واليا على إحدى المدن، وكان راتبه خمسة آلاف درهم يتصدق بها جميعًا، وكان يشتري خوصًا بدرهم، فيصنع به آنية فيبيعها بثلاثة دراهم؛ فيتصدق بدرهم، ويشتري طعامًا لأهله بدرهم، ودرهم يبقيه ليشتري به خوصًا جديدًا.
تعريف القناعة:
"القناعة هي الرضا بما قسم الله، ولو كان قليلا"، وهي عدم التطلع إلى ما في أيدي الآخرين، وهي علامة على صدق الإيمان.
قال الشوكاني رحمه الله في السلوك الإسلامي القويم:
فهي في اللغة: الرضا بالقسم، فمن رضي بما قسم له فقد قنع؛ لأن من تيقن أن ذلك بتقدير الخالق الرازق، وأن ليس في قدره فعند الزيادة عليه طاب عيشه وزال همه وكان كما قيل.
أَمْطِري لُؤلُؤاً جِبالَ سَرَنْدي ... بَ وفيضي آبارَ تَكْرورَ تِبْرا
أَنا إنْ عِشْتُ لَسْتُ أَعْدَمُ قوتاً ... وَإذا مِتُّ لَسْتُ أَعُدَمُ قَبْرا(10/437)
وما أحسن ما قاله بعض السلف: ثلاث آيات غنيت بهن عن جميع الخلائق الأولى: (وَما مِنْ داَّبةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلى اللهِ رِزْقُهَا) [هود: 6].
الثانية: (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها)) [فاطر: 2].
الثالثة: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إَلاَّ هُوَ)) [الأنعام: 17].أهـ
والقناعة صفة كريمة، تعرب عن عزة النفس، وشرف الوجدان وكرم الأخلاق.
إنما صار القانع من أغنى الناس، لأن حقيقة الغنى هي: عدم الحاجة إلى الناس، والقانع راض ومكتف بما رزقه الله، لا يحتاج ولا يسأل سوى الله.
قناعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرضى بما عنده، ولا يسأل أحدًا شيئًا، ولا يتطلع إلى ما عند غيره، فكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعمل بالتجارة في مال السيدة
خديجة -رضي الله عنها- فيربح كثيرًا من غير أن يطمع في هذا المال، وكانت تُعْرَضُ عليه الأموال التي يغنمها المسلمون في المعارك، فلا يأخذ منها شيئًا، بل كان يوزعها على أصحابه.
وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينام على الحصير، فرآه الصحابة وقد أثر الحصير في جنبه، فأرادوا أن يعدوا له فراشًا لينًا يجلس عليه؛ فقال لهم: (ما لي وما للدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها. كما في الحديثين الآتيين:
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) قال نام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حصير فقام وقد أثر في جنبه قلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء فقال ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها.
(حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) قال: دخلت على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على حصير قال فجلست فإذا عليه إزاره وليس عليه غيره وإذا الحصير قد أثر في جنبه وإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع وقرظ في ناحية في الغرفة وإذا إهاب معلق فابتدرت عيناي فقال ما يبكيك يا ابن الخطاب فقال يا نبي الله وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى وذاك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار وأنت نبي الله وصفوته وهذه خزانتك قال: يا ابن الخطاب أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟ قلت بلى.
لا قناعة في فعل الخير:(10/438)
المسلم يقنع بما قسم الله له فيما يتعلق بالدنيا، أما في عمل الخير والأعمال الصالحة فإنه يحرص دائمًا على المزيد من الخيرات، مصداقًا لقوله تعالى: (وَتَزَوّدُواْ فَإِنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَىَ) [البقرة: 197].
وقوله تعالى: (وَسَارِعُوَاْ إِلَىَ مَغْفِرَةٍ مّن رّبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُهَا السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدّتْ لِلْمُتّقِينَ) [آل عمران: 133]
فضل القناعة:
للقناعة أهمية كبرى، وأثر بالغ في حياة الإنسان، وتحقيق رخائه النفسي والجسمي، فهي تحرره من عبودية المادة، واسترقاق الحرص والطمع، وعنائهما المرهق، وهوانهما المذل، وتنفخ فيه روح العزة، والكرامة، والإباء، والعفة، والترفع عن الدنايا، واستدرار عطف اللئام.
والقانع بالكفاف أسعد حياة، وأرخى بالا، وأكثر دعة واستقرارا، من الحريص المتفاني في سبيل أطماعه وحرصه، والذي لا ينفك عن القلق والمتاعب والهموم.
والقناعة بعد هذا تمد صاحبها بيقظة روحية، وبصيرة نافذة، وتحفزه على التأهب للآخرة، بالأعمال الصالحة، وتوفير بواعث السعادة فيها.
والإنسان القانع يحبه الله ويحبه الناس، والقناعة تحقق للإنسان خيرًا عظيمًا في الدنيا والآخرة، ومن فضائل القناعة ما يلي:
(1) القناعة سبب البركة: فهي كنز لا ينفد، وقد أخبرنا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها أفضل الغنى، كما في الحديثين الآتيين:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (ليس الغنى عن كثرةِ العرض ولكن الغنى غنى النفس)
والعَرَضُ: هو متاع الدنيا، ومعنى الحديث: الغِنَى المحمودُ هو غنى النَّفْس وشبعها، وقلَّة حرصها، لا كثرة المال مع الحرص على الزيادة؛ لأن مَنْ كان طالبًا للزيادة، لم يَسْتَغْنِ بما عنده؛ فليس له غِنًى.
وما أجمل حديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الآتي:
(حديث عبيد الله بن محصن الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في جسده عنده قوتُ يومه فكأنما حيزت له الدنيا)
وأرشد النبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المؤمنَ إلى أن ينظر إلى مَنْ هو أسفل منه؛ حتى يشعر بكثرة نِعَم الله عليه؛ كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله.(10/439)
قال ابنُ جريرٍ وغيره: "هذا حديثٌ جامعٌ لأنواعٍ من الخير؛ لأنَّ الإنسان إذا رأى من فُضِّلَ عليه في الدنيا، طَلَبَتْ نفسُه مثل ذلك، واستصغر ما عنده من نعمة الله، وحَرَص على الازدياد؛ ليلحق بذلك أو يقاربه؛ هذا هو الموجود في غالب الناس، وأمَّا إذا نَظَرَ في أمور الدنيا إلى مَنْ هو دونه فيها، ظهرت له نعمةَ الله - تعالى - عليه، فشكرها، وتواضع، وفعل فيه الخير". اهـ
فالمسلم عندما يشعر بالقناعة والرضا بما قسمه الله له يكون غنيا عن الناس، عزيزًا بينهم، لا يذل لأحد منهم.
أما طمع المرء، ورغبته في الزيادة يجعله ذليلاً إلى الناس، فاقدًا لعزته، ولذا قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ارْضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس"
كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اتق المحارم تكن أعبد الناس و ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس و أحسن إلى جارك تكن مؤمنا و أحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما و لا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب.
والإنسان الطمَّاع لا يشبع أبدًا، ويلح في سؤال الناس، ولا يشعر ببركة في الرزق، ولذا نهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الإلحاف في المسألة كما في الحديث الآتي:
(حديث معاوية رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تلحفوا في المسألة فوالله لا يسألني أحد منكم شيئا فتخرج له مسألته مني شيئا وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته.
لا تُلْحِفُوا: أي لا تلحوا.
(2) القناعة طريق الجنة: بَيَّن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن المسلم القانع الذي لا يسأل الناس ثوابُه الجنة، كما في الحديث الآتي:
(حديث ثوبان في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من يكفل لي أن لا يسأل الناس شيئاً وأتكفل له بالجنة؟ فقال ثوبان أنا، فكان لا يسأل الناس شيئاً.
(3) القناعة عزة للنفس: القناعة تجعل صاحبها حرًّا؛ فلا يتسلط عليه الآخرون، أما الطمع فيجعل صاحبه عبدًا للآخرين. وقد قال الإمام علي-رضي الله عنه-: الطمع رق مؤبد (عبودية دائمة)
وقال أحد الحكماء: من أراد أن يعيش حرًّا أيام حياته؛ فلا يسكن قلبَه الطمعُ. وقيل: عز من قنع، وذل من طمع. وقيل: العبيد ثلاثة: عبد رِقّ، وعبد شهوة، وعبد طمع.(10/440)
(4) القناعة سبيل للراحة النفسية: المسلم القانع يعيش في راحة وأمن واطمئنان دائم، أما الطماع فإنه يعيش مهمومًا، ولا يستقر على حال، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله تعالى يقول يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك وإلا تفعل ملأت يديك شغلا ولم أسد فقرك.
[*] قال الإمام المنذري رحمه الله تعالى في الترغيب والترهيب:
يا بن آدم تفرغ لعبادتي: أي فرغ قلبك وأقبل علي وحدي، فتكون في كل أحوالك ناظراً إلى ربك سبحانه، مراقباً له، خائفاً منه، تعمل ما يرضيه سبحانه وتعالى، فهذا هو التفرغ لعبادة رب العالمين، فإذا فعلت هذا فالنتيجة هي ما جاء في الحديث حيث قال: أملأ صدرك غنى وأسد فقرك. فإذا امتلأ القلب غنى فلا يحتاج الإنسان إلى شيء بعد ذلك؛ لأن الغنى هو غنى القلب، فالإنسان إذا كان مفلساً لا شيء معه وقلبه غني فإنه سيشعر أنه ملك، وأنه أفضل من جميع من معه مال؛ لأن من معه مال يحتاج إلى أن يحرس ماله، أما هذا فلا يحتاج أن يحرس شيئاً؛ لأن القلب ممتلئ غنى، أما إذا ملأ الله قلب الإنسان فقراً وحاجة، فإنه سيشعر أنه فقير ولو كان من أغنى الناس؛ لأنه يحس أن ماله سينفد، وأن هناك أمراضاً يمكن أن تصيبه، فيظل يكنز ويكنز ولا يشبع أبداً. إذاً: الغنى هو غنى القلب والفقر هو فقر القلب، وربنا يعدك أنك إذا تفرغت للعبادة وأحسنت فيها فإنه سوف يملأ قلبك غنى، ولم ينته الأمر عند غنى القلب فقط، بل وفوق ذلك قال: أملأ صدرك غنى وأسد فقرك. أي: سأملأ القلب واليدين.
وإلا تفعل ملأت يديك شغلا: فالإنسان الذي يتباعد عن الله فيسمع المؤذن يؤذن فيقول: أنا لست فارغاً، بل ورائي شغل .. أريد أن آكل .. أو أريد أن أشرب، كيف أترك العمل وأنا محتاج إليه؟ فمثل هذا سوف يظل محروماً طول حياته.
ولم أسد فقرك: أي ستحس أنك فقير دائماً مهما كان معك من أموال كثيرة،(10/441)
سبحان الله! البعيد عن طاعة الله سبحانه وتعالى يحدث له عكس ما يحدث للمتفرغ لطاعة الله سبحانه، فتجده كثير العمل، يشتغل هنا وهناك، وفي النهاية لا يجد معه شيئاً من الأموال؛ لأن الله يبتليه بالأمراض وبالإنفاق على العمال وغير ذلك، فلا يبقى معه شيء؛ لأنه ابتعد عن الله تبارك وتعالى.
وقال أحد الحكماء: سرور الدنيا أن تقنع بما رُزِقْتَ، وغمها أن تغتم لما لم ترزق.
ولله درُ من قال:
هي القناعة لا تبغي بها بلا ... فيها النعيمُ وفيها راحةُ البدن
انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها ... هل راح منها بغيرِ القطن والكفن
وأجمل ما قيل في فضل القناعة:
دع الحرص على الدنيا وفي العيش لا تطمع
ولا تجمع من المال لا تدري لمن تجمع
ولا تدري أفي أرضك أم في غيرها تصرع؟
فإن الرزق مقسوم و سوء الظن لا ينفع
فقير كل من يطمع غني كل من يقنع.
تعريف القناعة:
القناعة الرضا بالقسم (أي النصيب و الحظ). قاله ابن السني في كتابه القناعة.
في كتاب موسوعة نضرة النعيم: (قال الراغب: القناعة الاجتزاء باليسير من الأغراض المحتاج إليها. قال الجاحظ: القناعة هي: الاقتصار على ما سنح من العيش و الرضا بما تسهل من المعاش و ترك الحرص على اكتساب الأموال و طلب المراتب العالية مع الرغبة في جميع ذلك و إيثاره و الميل إليه وقهر النفس على ذلك و التقنع باليسير منه.
قال المناوي رحمه الله تعالى: القناعة عرفاً: الاقتصار على الكفاف، و قيل الاكتفاء بالبُلغة، وقيل سكون الجأش عند وعدم امألوفات، و قيل الوقوف عند الكفاية).
مراتب القناعة (للماوردي):
المرتبة الأعلى: أن يقتنع بالبُلغة من دنياه و يصرف نفسه عن التعرض لما سواه.
المرتبة الأوسط: أن تنتهي به القناعة إلى الكفاية ويحذف الفضول والزيادة.
المرتبة الأدنى: أن تنتهي به القناعة إلى الوقوف على ما سنح، فلا يكره ما أتاه و إن كان كثيراً، و لا يطلب ما تعذر و إن كان يسيراً.
آثار القناعة:
(1) امتلاء القلب بالإيمان بالله سبحانه وتعالى و الثقة به والرضا بما قدر و قسم.
(2) الحياة الطيبة.
(3) تحقيق شكر المنعم سبحانه و تعالى.
(4) الفلاح و البشرى لمن قنع
(5) الوقاية من الذنوب التي تفتك بالقلب و تذهب الحسنات كالحسد و الغيبة و النميمة و الكذب.
(6) حقيقة الغنى في القناعة.
(7) العز في القناعة و الذل في الطمع.(10/442)
(8) القانع تعزف نفسه عن حطام الدنيا رغبةً فيما عند الله.
(9) القنوع يحبه الله و يحبه الناس.
(10) القناعة تشيع الألفة و المحبة بين الناس.
من الأسباب المؤدية للقناعة:
(1) الاستعانة بالله والتوكل عليه و التسليم لقضائه و قدره.
(2) قدر الدنيا بقدرها و إنزالها منزلتها.
(3) جعل الهمّ للآخرة و التنافس فيها.
(4) النظر في حال الصالحين و زهدهم و كفافهم و إعراضهم عن الدنيا و ملذاتها.
(5) تأمل أحوال من هم دونك.
(6) مجاهدة النفس على القناعة و الكفاف.
(7) معرفة نعم الله تعالى و التفكر فيها.
(8) أن يعلم أن لبعض النعيم ترة و مفسدة.
(9) أن يعلم أن في القناعة راحة النفس و سلامة الصدر و اطمئنان القلب.
(10) الدعاء.
(11) تقوية الإيمان بالله تعالى، و ترويض القلب على القناعة و الغنى.
(12) اليقين بأن الرزق مكتوب و الإنسان في رحم أمه.
(13) تدبر آيات القرآن العظيم لا سيما ما تتحدث عن الرزق و الاكتساب.
(14) معرفة حكمة الله تعالى في تفاوت الأرزاق و المراتب بين العباد.
(15) العلم بأن الرزق لا يخضع لمقاييس البشر من قوة الذكاء و كثرة الحركة و سعة المعارف.
(16) العلم بأن عاقبة الغنى شر و وبال على صاحبه إذا لم يكن الاكتساب و الصرف منه بالطرق المشروعة.
(17) النظر في التفاوت البسيط بين الغني و الفقير على وجه التحقيق.
من أروع قصص القناعة:
أن الخليل بن أحمد الفراهيدي كان يقاسي الضر بين أخصاص البصرة، وأصحابه يقتسمون الرغائب بعلمه في النواحي.
ذكروا أن سليمان بن علي العباسي، وجه إليه من الأهواز لتأديب ولده، فأخرج الخليل إلى رسول سليمان خبزا يابسا، وقال: كل فما عندي غيره، وما دمت أجده فلا حاجة لي إلى سليمان. فقال الرسول: فما أبلغه. فقال:
أبلغ سليمان أني عنه في سعة وفي غنى غير أني لست ذا مال
والفقر في النفس لا في المال فاعرفه ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال
فالرزق عن قدر لا العجز ينقصه ولا يزيدك فيه حول محتال.
وفي كشكول البهائي (أنه ارسل عثمان بن عفان مع عبد له كيسا من الدراهم إلى أبي ذر وقال له: إن قبل هذا فأنت حر، فأتى الغلام بالكيس إلى أبي ذر، وألح في قبوله، فلم يقبل، فقال له: أقبله فإن فيه عتقي. فقال: نعم ولكن فيه رقي)(10/443)
وكان ديوجانس الكلبي من أساطين حكماء اليونان، وكان متقشفا، زاهدا، لا يقتني شيئا، ولا يأوي إلى منزل، دعاه الإسكندر إلى مجلسه. فقال للرسول قل له: إن الذي منعك من المسير إلينا، هو الذي منعنا من المسير إليك، منعك استغناؤك عنا بسلطانك، ومنعني استغنائي عنك بقناعتي)
في حجرة صغيرة فوق سطح أحد المنازل , عاشت الأرملة الفقيرة مع طفلها الصغير حياة متواضعة في ظروف صعبة. . ... إلا أن هذه الأسرة الصغيرة كانت تتميز بنعمة الرضا و تملك القناعة التي هي كنز لا يفنى. . . لكن أكثر ما كان يزعج الأم هو سقوط الأمطار في فصل الشتاء ,
فالغرفة عبارة عن أربعة جدران , و بها باب خشبي , غير أنه ليس لها سقف!. . و كان قد مر على الطفل أربعة سنوات منذ ولادته لم تتعرض المدينة خلالها إلا لرخات قليلة و ضعيفة , إلا أنه ذات يوم تجمعت الغيوم و امتلأت سماء المدينة بالسحب الداكنة. . . . . و مع ساعات الليل الأولى هطل المطر بغزارة على المدينة كلها , فاحتمى الجميع في منازلهم , أما الأرملة و الطفل فكان عليهم مواجهة موقف عصيب!!. .
نظر الطفل إلى أمه نظرة حائرة و اندسّ في أحضانها , لكن جسد الأم مع ثيابها
كان غارقًا في البلل. . . أسرعت الأم إلى باب الغرفة فخلعته و وضعته
مائلاً على أحد الجدران , و خبأت طفلها خلف الباب لتحجب عنه سيل المطر المنهمر.
فنظر الطفل إلى أمه في سعادة بريئة و قد علت على وجهه ابتسامة الرضا , و قال لأمه: " ماذا يا ترى يفعل الناس الفقراء الذين ليس عندهم باب حين يسقط عليهم المطر؟!! " لقد أحس الصغير أنه ينتمي إلى طبقة الأثرياء. .
وما أحلى قول أبي فراس الحمداني في القناعة:
إن الغني هو الغني بنفسه ولو أنه عار الناكب حاف *
ما كل ما فوق البسيطة كافيا فإذا قنعت فكل شيء كاف.
(74) إقالة ذوي الهيئات عثراتهم:
(حديث عائشة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود.
ذوو الهيئات: أهل المروءة والخصال الحميدة.
العثرة: الزلة والسقطة.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(أقيلوا) أيها الأئمة: من الإقالة، وهي الترك.(10/444)
(ذوي الهيئات) جمع هيئة، قال القاضي: وهي في الأصل صورة أو حالة تعرض لأشياء متعددة فتصير بسببها مقول عليها أنها واحدة ثم أطلق على الخصلة فيقال لفلان هيئات أي خصال، والمراد هنا أهل المروءة والخصال الحميدة التي تأتي عليهم الطباع وتجمع بهم الإنسانية والألفة أن يرضوا لأنفسهم بنسبة الفساد والشر إليها
(عثراتهم) زلاتهم: أي ذنوبهم. وهل هي الصغائر أو أول زلة ولو كبيرة صدرت من مطيع؟ وجهان للشافعية وكلام ابن عبد السلام مصرح بترجيح الأول، فإنه عبر بالصغائر، ويقال لا يجوز تعزير الأولياء على الصغائر، وزعم سقوط الولاية بها جهل قبيح، ونازعه الأذرعي بما ليس بصحيح
(إلا الحدود) أي إلا ما يوجب الحدود، إذا بلغت الإمام وإلا الحقوق البشرية فإن كلاً منهما يقام فالمأمور بالعفو عنه هفوة أو زلة لا حدّ فيها وهي من حقوق الحق فلا يعزر عليها وإن رفعت إليه. نعم يندب لمن جاءه نادم أقرّ بموجب حد أن يأمره بستر نفسه ويشير إليه بالكتم كما أمر المصطفى صلى اللّه عليه وسلم ماعزاً والغامدية، وكما لم يستفصل من قال: أصبت حداً فأقمه علي. قال البيضاوي: وقوله إلا الحدود إن أريد بالعثرات صغائر الذنوب وما يندر عنهم من الخطايا، فالاستثناء منقطع، أو الذنوب مطلقاً وبالحدود ما يوجبها فالاستثناء متصل. وخرج بذوي الهيئات من عرف بالأذى والعناد بين العباد فلا يقال له عثار بل تضرم عليه النار.
آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
لللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آداب ينبغي لطالب العلم أن يحيط بها علماً وأن يتبعها حتى يكون متأسياً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهاك آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جملةً وتفصيلا:
أولاً آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جملةً:
(1) فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
(2) الشرع هو الأصل في تقرير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
(3) العلم والبصيرة بحقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
(4) معرفة شروط إنكار المنكر:
(5) معرفة مراتب إنكار المنكر:
(6) تقديم الأهم على المهم:
(7) اعتبار المصالح ودرء المفاسد:
(8) التثبت في الأمور وعدم العجلة:
(9) متى يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟(10/445)
(10) مَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ الْآمِرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنْ الْمُنْكَر:
(11) يكره أن يُعْرَضَ أحدٌ على السلطان في الإنكار:
(12) الرجل يغير المنكر الذي يقوى أن ينكر عليه:
(13) ما يُوَسَّعُ على الرجل في ترك الأمر والنهي إذا رأى قوما سفهاء:
(14) يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إن كان يظن أنه يقبل منه:
(15) يكره للرجل دخول مواضع النكرة:
(16) خطر التقاعس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
ثانيا آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تفصيلا:
(1) فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل عظيم من أصول الإسلام، ولا شك أن صلاح العباد في معاشهم ومعادهم متوقف على طاعة الله - عز وجل - وطاعة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتمام الطاعة متوقف على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهاك بعض فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
(1) بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ مّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) [آل عمران: 110]
(2) في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحقيق الولاية بين المؤمنين، قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلََئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [سورة: التوبة - الأية: 71]
(3) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب النصر على الأعداء، والتمكين في الأرض.(10/446)
قال تعالى: (الّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاّ أَن يَقُولُواْ رَبّنَا اللّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لّهُدّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنّ اللّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنّ اللّهَ لَقَوِيّ عَزِيزٌ * الّذِينَ إِنْ مّكّنّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُواْ الصّلاَةَ وَآتَوُاْ الزّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلّهِ عَاقِبَةُ الاُمُورِ) [الحج 40، 41]
(4) في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأمن من الهلاك، والمحافظة على صلاح المجتمعات بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا).
(5) في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دفع العذاب عن العباد:
قال تعالى: (لُعِنَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيَ إِسْرَائِيلَ عَلَىَ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) [المائدة 78،79]
(6) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلب مهم لمن أراد النجاة لنفسه:
قال تعالى: (فَلَماّ نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُوَءِ وَأَخَذْنَا الّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ) [الأعراف: 165]
(7) في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التوفيق للدعاء والاستجابة:
(حديث حذيفة الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لتأمُرنّ بالمعروف و لتنهَوْنَّ عن المنكر أو يبعث الله عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لهم.
(8) القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مكفرات الذنوب والخطايا بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:(10/447)
(حديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - الثابت في صحيح الترمذي) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ يُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ.
(9) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب الظفر بعظيم الأجور، وتكثير الحسنات: قال تعالى: (لاّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مّن نّجْوَاهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَآءَ مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) [النساء: 114]
(10) وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحيا السنن وتموت البدع، ويضعف أهل الباطل والأهواء، وهو من أبرز صفات المؤمنين وسماتهم، ومن أعظم الوسائل لقوتهم وتماسكهم، والغفلة عنه أو التهاون فيه، أو تركه، يجر من المفاسد الكثيرة، والأضرار الجسيمة. إلى غير ذلك من الفوائد والثمرات الكثيرة المترتبة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(2) الشرع هو الأصل في تقرير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
إن الميزان في كون الشيء معروفًا أو منكرًا هو كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وسنة رسوله الثابتة عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما كان عليه السلف الصالح لهذه الأمة، وليس المراد ما يتعارف عليه الناس أو يصطلحون عليه مما يخالف الشريعة الإسلامية.
فما جاء الأمر به في الكتاب والسنة، أو الندب إليه والحث عليه، أو الثناء على أهله، أو الإخبار بأنه مما يحبه الله تعالى ويرضاه، ويكرم أهله بالثواب العاجل والآجل، فهو من المعروف الذي يؤمر به. وما ورد النهي عنه في الكتاب والسنة، والتحذير منه، وبيان عظيم ضرره، وكبير خطره في الدنيا والآخرة، أو جاء ذم أهله ووعيد فاعله بالسخط والعذاب والخزي والعار، ودخول النار ونحو ذلك فهو من المنكر الذي ينهى عنه (1).
قال ابن منظور: (وقد تكرر ذكر المعروف في الحديث، وهو اسم جامع لكل ما عُرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع) (2).
__________
(1) تذكرة أولي الغير بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص 12 - 13 بتصرف.
(2) لسان العرب، 9/ 240، وانظر النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير، 3/ 216.(10/448)
وقال ابن الأثير: (والمنكر ضد المعروف وهو كل ما قبحه الشرع وحرمه وكرهه فهو منكر) (1).
وذكر ابن حجر عن أبي جمرة (2) (يطلق اسم المعروف على ما عرف بأدلة الشرع من أعمال البر، سواء جرت به العادة أم لا) (3).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
(الأمر والنهي من لوازم وجود بني آدم، فمن لم يأمر بالمعروف الذي أمر الله به ورسوله، وينه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله، ويُؤمر بالمعروف الذي أمر الله به .. ورسوله، ويُنهى عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله، وإلا فلا بد أن يأمر وينهى، ويُؤمر ويُنهى، إما بما يضاد ذلك، وإما بما يشترك فيه الحق الذي أنزله الله بالباطل الذي لم ينزله الله، وإذا اتخذ ذلك دينا: كان مبتدعا ضالا باطلا) (4).
وقال ابن حجر الهيثمي: (المراد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الأمر بواجب الشرع، والنهي عن محرماته) (5).
ويصف الإمام الشوكاني رحمه الله أفراد الأمة الإسلامية بقوله:
إنهم يأمرون بما هو معروف في هذه الشريعة، وينهون عما هو منكر، فالدليل على كون ذلك الشيء معروفا أو منكرا هو الكتاب والسنة (6).
ومن هذا يتبين لنا أن كون الشيء معروفا أو منكرا ليس من شأن الآمر والناهي، وإنما يعود ذلك إلى ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على فهم السلف الصالح لهذه الأمة من اعتقاد أو قول أو فعل.
(3) العلم والبصيرة بحقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
__________
(1) النهاية في غريب الحديث، 5/ 115.
(2) هو عبد الله بن أبي جمرة الأزدي الأندلسي، من علماء الحديث، من كتبه جمع النهاية اختصر به صحيح البخاري توفي بمصر، سنة 695 هـ، انظر الأعلام للزركلي، 4/ 221.
(3) فتح الباري، لابن حجر، 10/ 448.
(4) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص 42 - 43.
(5) الزواجر عن اقتراف الكبائر، 2/ 146.
(6) إرشاد الفحول، ص 77.(10/449)
من القواعد العامة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أن يكون الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر عالما بما يأمر به وبما ينهى عنه، .. يعلم ما هو المنهي عنه شرعا حتى ينهى عنه، ويعلم ما هو المأمور به شرعا حتى يأمر الناس به، فإنه إن أمر ونهى بغير علم فإن ضرره يكون أكثر من نفعه، لأنه قد يأمر بما ليس بمشروع، وينهى عما كان مشروعا وقد يحلل الحرام ويحرم الحلال وهو لا يعلم (1).
ولأهمية العلم النافع أمر الله به، وأوجبه قبل القول والعمل، قال تعالى: (فَاعْلَمْ أَنّهُ لاَ إِلََهَ إِلا اللّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ) [محمد: 19]
وقد بوب الإمام البخاري رحمه الله لهذه الآية بقوله: (باب العلم قبل القول والعمل) (2).
وذلك أن الله أمر نبيه بأمرين: بالعلم، ثم بالعمل، والمبدوء به العلم في قوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنّهُ لاَ إِلََهَ إِلا اللّهُ) [محمد: 19]
، ثم أعقبه بالعمل في قوله: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ) [محمد: 19]
، فدل ذلك على أن مرتبة العلم مقدمة على مرتبة العمل، وأن العمل شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو مقدم عليهما، لأنه مصحح للنية المصححة للعمل (3).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
عند حديثه عن شروط الأمر والنهي: (ولا يكون عمله صالحا إن لم يكن بعلمٍ وَفِقْه .. وهذا ظاهر فإن العمل إن لم يكن بعلم كان جهلًا وضلالا، واتباعا للهوى وهذا هو الفرق بين أهل الجاهلية وأهل الإسلام فلا بد من العلم بالمعروف والمنكر والتمييز بينهما، ولا بد من العلم بحال المأمور وحال المنهي) (4).
وأضاف يقول: وهذا كما جاء في الأثر عن بعض السلف ورووه مرفوعًا ذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد (لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيها فيما يأمر به، فقيها فيما ينهى عنه، رفيقًا فيما يأمر به، رفيقا فيما ينهى عنه، حليما فيما يأمر به، حليما فيما ينهى عنه) (5).
__________
(1) انظر محاضرات في العقيدة والدعوة، للدكتور صالح الفوزان، 2/ 328.
(2) صحيح البخاري مع الفتح، 1/ 159، كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل.
(3) انظر فتح الباري، 1/ 160، وحاشية الأصول الثلاثة، للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص15.
(4) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص 17.
(5) المرجع السابق، ص18، وانظر مختصر منهاج القاصدين، لابن قدامة، ص 131.(10/450)
ويقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله مخاطبا الداعية إلى الله الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر: (أن تكون على بينة في دعوتك أي على علم، لا تكن جاهلا بما تدعو إليه قال تعالى: (قُلْ هََذِهِ سَبِيلِيَ أَدْعُو إِلَىَ اللّهِ عَلَىَ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف: 108]
فلا بد من العلم، فالعلم فريضة، فإياك أن تدعو على جهالة، وإياك أن تتكلم فيما لا تعلم، فالجاهل يهدم ولا يبني ويفسد ولا يصلح، وإياك أن تقول على الله بغير علم، لا تدع إلى شئ إلا بعد العلم به، والبصيرة بما قاله الله ورسوله والبصيرة هي العلم، فعلى طالب العلم وعلى الداعية أن يتبصر فيما يدعو إليه، وأن ينظر فيما يدعو إليه ودليله، فإن ظهر له الحق وعرفه دعا إلى ذلك، سواء كان ذلك فعلا أو تركا، يدعو إلى الفعل إذا كان طاعة لله ورسوله، ويدعو إلى ترك ما نهى الله عنه ورسوله على بينة وبصيرة) (1).
وأكد فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله على أهمية العلم والبصيرة للداعية إلى الله الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر فقال: وإن أول زاد يتزود به الداعية إلى الله - عز وجل - أن يكون على علم مستمد من كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصحيحة المقبولة، وأما الدعوة بدون علم فإنها دعوة على جهل، والدعوة على جهل ضررها أكبر من نفعها، لأن الداعية قد نصب نفسه موجها ومرشدا، فإذا كان جاهلا، فإنه يكون ضالا مضلا، والعياذ بالله.
ثم قال: تأمل أيها الداعية إلى لله قول الله تعالى (قُلْ هََذِهِ سَبِيلِيَ أَدْعُو إِلَىَ اللّهِ عَلَىَ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف: 108]
أي على بصيرة في ثلاثة أمور:
1 - على بصيرة فيما يدعو إليه بأن يكون عالما بالحكم الشرعي فيما يدعو إليه، لأنه قد يدعو إلى شئ يظنه واجبا وهو في شرع الله غير واجب، فيلزم عباد الله بما لم يلزمهم الله به، وقد يدعو إلى ترك شئ يظنه محرما وهو في دين الله غير محرم، فيحرم على عباد الله ما أحل الله لهم.
__________
(1) الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وأخلاق الدعاة، ص 35، بتصرف.(10/451)
2 - على بصيرة من حالة المدعو، ولهذا لما بعث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معاذا إلى اليمن قال له: {إنك ستأتي قوما أهل كتاب} (1)
(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ ابْنِ جَبَلٍ حِيْنَ بَعَثَهُ إِلَى اليَمَنِ: إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ.
3 - على بصيرة في كيفية الدعوة قال تعالى: (ادْعُ إِلِىَ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنّ رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [النحل: 125]
وإذا كان تزود الداعية بالعلم الصحيح المبني على كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو مدلول النصوص الشرعية، فإنه كذلك مدلول العقول الصريحة التي ليس فيها شبهات ولا شهوات، لأنك كيف تدعو إلى الله - عز وجل - وأنت لا تعلم الطريق الموصل إليه، وإذا كنت لا تعرف شريعته فكيف يصح أن تكون داعية؟
فإذا لم يكن الإنسان ذا علم فإن الأولى به أن يتعلم أولا ثم يدعو ثانيا، قد يقول قائل: هل قولك هذا يعارض قول الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {بلغوا عني ولو آية} (2) (3)؟
__________
(1) البخاري الزكاة (1425)، مسلم الإيمان (19)، الترمذي الزكاة (625)، النسائي الزكاة (2435)، أبو داود الزكاة (1584)، ابن ماجه الزكاة (1783)، أحمد (1/ 233)، الدارمي الزكاة (1614).
(2) البخاري أحاديث الأنبياء (3274)، الترمذي العلم (2669)، أحمد (2/ 159)، الدارمي المقدمة (542).
(3) صحيح البخاري مع الفتح، 6/ 496، كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني اسرائيل، رقم 3461، عن عبد الله بن عمرو.(10/452)
فالجواب: لا، لأن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: {بلغوا عني} (1) إذا فلا بد أن يكون ما نبلغه قد صدر عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا ما نريده ولسنا عندما نقول إن الداعية محتاج إلى العلم لسنا نقول إنه لا بد أن يبلغ شوطا بعيدًا في العلم، ولكننا نقول لا يدعو إلا بما يعلم فقط، ولا يتكلم بما لا يعلم أ. هـ (2).
(4) معرفة شروط إنكار المنكر:
إنَّ لإنكار المنكر شروطا يجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يعرفها ويراعيها عند إزالته للمنكر، حتى لا يقع أثناء تغييره للمنكر في منكر مساوٍ أو أكبر منه، وهذه الشروط هي (3):
(أولاً) التحقق من كونه منكرا:
والمنكر كل ما نهى عنه الشارع سواء كان محرما أو مكروها، وكلمة المنكر في باب الحسبة (4) تطلق على كل فعل فيه مفسدة أو نهت عنه الشريعة، وإن كان لا يعتبر معصية في حق فاعله إما لصغر سنه أو لعدم عقله، ولهذا إذا زنا المجنون أو هم بفعل الزنا، وإذا شرب الصبي الخمر كان ما فعلاه منكرا يستحق الإنكار، وإن لم يعتبر معصية في حقهما لفوات شرطي التكليف وهما البلوغ والعقل (5).
ويندرج في المنكر جميع المنكرات سواء من صغائر الذنوب أم من كبائرها، وسواء أكانت تتعلق بحق الله تعالى أم بحق خلقه. ولكن ما يجب معرفته أن الذي يملك الحكم على الشئ بأنه منكر أو غير منكر هو الشرع، فليس هناك مجال للأهواء أو العواطف، أو الأغراض الشخصية، ودور العلماء في ذلك إنما هو استنباط الأحكام الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية، والأصول والقواعد المستوحاة منهما، ومن ثم الحكم على هذا الأمر بأنه منكر أو غير منكر بالدليل القاطع والحجة البينة.
(ثانياً) أن يكون المنكر موجودا في الحال:
وله ثلاث حالات:
__________
(1) البخاري أحاديث الأنبياء (3274)، الترمذي العلم (2669)، أحمد (2/ 159)، الدارمي المقدمة (542).
(2) انظر زاد الداعية، ص 6 - 10، باختصار وتصرف.
(3) انظر الكنز الأكبر، ص 217 - 220.
(4) الحسبة: هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله. انظر الأحكام السلطانية للماوردي ص 299 والأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء، ص 284.
(5) انظر أصول الدعوة للدكتور عبد الكريم زيدان، 179، بتصرف.(10/453)
الحالة الأولى: أن يكون المنكر متوقعا كالذي يتردد مرارا على أسواق النساء، ويصوب النظر إلى واحدة بعينها، أو كشاب يقف كل يوم عند باب مدرسة بنات ويصوب النظر إليهن، أو كالذي يتحدث بهاتف الشارع بصوت مرتفع مع امرأة ويحاول أن يرتبط معها بموعد، أو يسأل بكثرة عن كيفية تصنيع الخمر وطريقة تركيبه. فعلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر في هذه الحالات الوعظ، والنصح، والإرشاد، والتخويف بالله سبحانه وتعالى من عذابه وبطشه.
الحالة الثانية: أن يكون متلبسًا بالمنكر كمن هو جالس وأمامه كأس الخمر يشرب منه، أو كمن أدخل امرأة أجنبية إلى داره وأغلق الباب عليهما ونحو ذلك، ففي هذه الحال يجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الإنكار عليه ونهيه من ذلك طالما أنه قادر على إزالة المنكر ولم يخف على نفسه ضررا أو أذى.
الحالة الثالثة: أن يكون فاعل المنكر قد فعله وانتهى منه ولم يبق إلا آثاره، كمن شرب الخمر وبقيت آثاره عليه أو من عرف أنه ساكن أعزب وخرجت من عنده امرأة أجنبية عنه، ونحو ذلك. ففي هذه الحال فليس هناك وقت للنهي أو التغيير، وإنما هناك محل للعقاب والجزاء على فعل المعصية. وهذا الأمر ليس من شأن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر المتطوع وإنما هو من شأن ولي الأمر أو نائبه، فيرفع أمره للحاكم ليصدر فيه الحكم الموافق للشرع (1).
وقد أشار الغزالى إلى هذه الحالات بقوله: (المعصية لها ثلاثة أحوال: أحدها: أن تكون متصرمة، فالعقوبة على ما تصرم منها حد أو تعزير، وهو إلى الولاة لا إلى الآحاد.
الثانية: أن تكون المعصية راهنة، وصاحبها مباشر لها، كلبسه الحرير، وإمساك العود والخمر، فإبطال هذه المعصية واجب بكل ما يمكن ما لم تؤد إلى معصية أفحش منها أو مثلها، وذلك للآحاد والرعية.
__________
(1) انظر إحياء علوم الدين، 2/ 414، والكنز الأكبر ص 219، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، د عبد العزيز المسعود 1/ 213 - 215.(10/454)
والثالثة: أن يكون المنكر متوقعا، كالذي يستعد بكنس المجلس وتزيينه وجمع الرياحين لشرب الخمر وبعد لم يحضر الخمر، فهذا مشكوك فيه، إذ ربما يعوق عنه عائق فلا يثبت للآحاد سلطة على العازم على الشرب إلا بطريق الوعظ والنصح، فأما التعنيف والضرب فلا يجوز .. إلا إذا كانت المعصية علمت منه بالعادة المستمرة، وقد أقدم على السبب المؤدي إليها، ولم يبق لحصول المعصية إلا ما ليس له فيه إلا الانتظار) (1).
ويقول العلامة ابن نجيم في بحث التعزير: (قالوا لكل مسلم إقامته حال مباشرة المعصية، وأما بعد الفراغ منها ـ أي المعصبة ـ فليس ذلك لغير الحاكم) (2).
(ثالثاً) أن يكون ظاهرا من غير تجسس ما لم يكن مجاهرا:
وذلك أن الإسلام ضمن للإنسان أن يعيش في المجتمع آمنا مطمئنا محترما موقرا طالما أنه سلك الطريق الصحيح المستقيم، أما إذا حاد عن الطريق فإن الإسلام جعل لكل أمر معوج ما يناسبه من الإصلاح والتقويم، ومن الأمور التي شرعها الإسلام لاحترام الإنسان وأمنه النهي عن التجسس عليه، فلا يجوز للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يتسور الجدران أو يكسر الأبواب ليطلع على بيوت الناس ويتجسس عليهم ما لم يظهر شيء من ذلك، إذ إن الله تعالى نهانا أن ندخل البيوت إلا بأذن من أصحابها، والأصل في هذا قول الله تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّىَ تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَىَ أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ) [النور: 27]
بل إن الإسلام حرم النظر إلى داخل البيوت من أحد الثقوب أو الفتحات، وأسقط الشارع الحكيم حد القصاص والدية عمن فعل ذلك، كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:
لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِعَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ.
وإذا كان الإسلام حرم الدخول إلى بيوت الناس والنظر إلى داخلها بغير إذن، فإنه ـ أيضا ـ حرم التجسس، وتأمل في النصوص الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
__________
(1) إحياء علوم الدين، 2/ 413، 414.
(2) انظر البحر الرائق، شرح كنز الدقائق، 5/ 45.(10/455)
قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظّنّ إِنّ بَعْضَ الظّنّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ تَوّابٌ رّحِيمٌ) [الحجرات:12]
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخواناً.
(حديث معاوية الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم.
أورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن يوسف بن موسى أن أبا عبد الله، سئل عن الرجل يسمع صوت الطبل، والمزمار، ولا يعرف مكانه؟ فقال: " وما عليه إذا لم يعرف مكانه؟ "
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن عبد الكريم بن الهيثم العاقولي، قال: سمعت أبا عبد الله، سئل عن الرجل " يسمع حس الطبل والمزمار، ولا يعرف مكانه؟ فقال: وما عليك؟ وقال: ما غاب فلا تفتش عليه "
أورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن أحمد بن الحسين، أن أبا عبد الله، سئل عن الرجل، يرى القنينة يرى أن فيها، مسكرا؟ قال: " دعه ـ يعني لا تفتشه "
أما إذا جاهر الشخص بمعصيته سواء كانت مرئية كأن يخرج عند بابه ويضع الفيديو إلى جواره وفيه أفلام خليعة .. أو كانت مسموعة كأن يضع بآلة التسجيل شريطا به غناء ماجن أو موسيقى وغير ذلك، أو كانت مشمومة كأن تظهر رائحة الخمر والمسكر بحيث يشمها من هو خارج المنزل أو قريبا منه، ويتكلم معه، فإنه إذا فعل ذلك يكون قد أضاع الحق الذي أعطاه الإسلام له، ويكون بذلك قد عرض نفسه للإهانة والردع (1).
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:
__________
(1) انظر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، د عبد العزيز المسعود، 1/ 221 بتصرف.(10/456)
كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ.
قال ابن بطال رحمه الله: (في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم .. ) (1).
ومن خلال ما تقدم من أدلة يبدو لي ـ والله أعلم ـ أن الأدلة الواردة في النهي عن التجسس إنما هي خاصة بمن لم يجاهر بالمعصية، أما من يعلن معصيته ويجاهر بها، فإنه يشرع للمحتسب الاحتساب عليه، وذلك لردعه وكف شره.
ويؤيد ذلك الحديث الآتي:
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله تعالى عنها فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله و ليتب إلى الله فإنه من يبد لنا صفحته نُقِمْ عليه كتاب الله.
(رابعاً) أن يكون الإنكار في الأمور التي لا خلاف فيها:
من الأمور اللازمة لنجاح الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يتسع صدره لقبول الخلاف "فيما يسوغ فيه الخلاف". وهناك مسائل فرعية ليست من الأصول يختلف فيها الناس كثيرا، وتتباين أقوالهم فيها، وهي في الحقيقة مما يجوز فيه الخلاف، فمثل هذه المسائل لا يكفر من خالف فيها، ولا يُنكر عليه، لأنها مما وسع الله فيها على عباده، قال تعالى: (وَلَوْ شَآءَ رَبّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاّ مَن رّحِمَ رَبّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ لأمْلأنّ جَهَنّمَ مِنَ الْجِنّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود 118، 119]
ذكر الإمام الغزالى رحمه الله من شروط الحسبة (أن يكون كونه منكرًا معلوما بغير اجتهاد، فكل ما هو محل الاجتهاد فلا حسبة فيه) (2).
وروى أبو نعيم بسنده عن الإمام سفيان الثوري رحمه الله قوله: (إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه) (3).
__________
(1) فتح الباري، لابن حجر، 10/ 487.
(2) إحياء علوم الدين، 2/ 286، وانظر مختصر منهاج القاصدين، لابن قدامة، ص 128.
(3) الأحكام السلطانية، لأبي يعلى الحنبلي، ص 297.(10/457)
ويستثني القاضي أبو يعلى من ذلك إذا كان الخلاف ضعيفًا في مسألة من المسائل، وقد يؤدي عدم الإنكار إلى محظور متفق عليه، إذ يقول: (ما ضُعف الخلاف فيه، وكان ذريعة إلى محظور متفق عليه كربا النقد .. فيدخل في إنكار المحتسب بحكم ولايته) (1).
وقال النووي في الروضة: (ثم إن العلماء إنما ينكرون ما أجمع على إنكاره، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأن كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد ولا نعلمه، ولم يزل الخلاف بين الصحابة والتابعين في الفروع ولا ينكر أحد على غيره وإنما ينكرون ما خالف نصا أو إجماعا أو قياسا جليا) (2).
وبهذا يتبين لنا أن الخلاف على نوعين:
"إما أن يكون سائغا، وإما أن يكون غير سائغ"، فالخلاف السائغ يمنع من الاحتساب على رأي بعض العلماء، وأما الخلاف غير السائغ، أو الشاذ، كمن يخالف ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو ما أجمعت عليه الأمة، أو ما عُلم من الدين بالضرورة، فهذا خلاف لا يُعتد به ولا يلتفت إليه لعدم قيامه على الدليل، ويُنكر على من أتى به.
فالإنكار إنما يكون فيما يكون فيه الحق واضحا، والأدلة بينة من الكتاب والسنة والإجماع، أما إذا خلت المسألة من ذلك، فإنه ليس للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الإنكار في المسائل المختلف فيها، كما أنه لا التفات إلى الخلاف الشاذ.
وأن الواجب في الأمور الاجتهادية لزوم البيان والمناصحة، من قبل من تبين له وجه الحق في شيء من تلك المسائل.
(5) معرفة مراتب إنكار المنكر:
من القواعد العامة التي تحكم القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معرفة مراتب إنكار المنكر وضوابطها:
وذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون بقدر الاستطاعة، فإن استطاع المسلم تغيير المنكر باليد كان ذلك هو الواجب في حقه، فإن كان عاجزا عن التغيير باليد، وكان بمقدوره النهي باللسان كان ذلك هو الواجب عليه، وإن كان عاجزا عن التغيير باللسان وجب عليه الإنكار بالقلب وكراهية المنكر، وهذا في مقدور كل إنسان.
والأصل في ذلك الحديثيين الآتيين:
__________
(1) الآداب الشرعية، 1/ 190.
(2) روضة الطالبين، 10/ 219 - 220، ط 3، 1412 هـ - 1991 م، المكتب الإسلامي.(10/458)
(حديث أبي سعيد في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ.
(حديث ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ.
وفيما يلي مراتب إنكار المنكر:
المرتبة الأولى: الإنكار باليد وشروطه:
وهي أقوى مراتب الإنكار وأعلاها، وذلك كإراقة الخمر، وكسر الأصنام المعبودة من دون الله، ومنع من أراد الشر بالناس وظلمهم من تنفيذ مراده، وكإلزام الناس بالصلاة، وبحكم الله الواجب اتباعه ونحو ذلك.
وذلك لمن كان له ولاية على مرتكب المنكر كالسلطان أو من ينيبه عنه كوالي الحسبة وموظفيه كل بحسب اختصاصه وكذا المسلم مع أهله وولده، يلزمهم بأمر الله، ويمنعهم مما حرم الله، باليد إذا لم ينفع فيهم الكلام يقوم بهذا حسب الوسع والطاقة (1).
وقد جاء في القرآن الكريم عن إبراهيم ـ عليه السلام ـ: قال تعالى: (وَتَاللّهِ لأكِيدَنّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلّواْ مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاّ كَبِيراً لّهُمْ لَعَلّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) [الأنبياء57، 58]
فإبراهيم - عليه السلام- كسر الأصنام بيده.
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى، 15/ 329، والكنز الأكبر، ص 245، وطبقات الحنابلة، 2/ 280، والآداب الشرعية، 1/ 185 ووجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-، ص 16 - 17 وتذكرة أولي الغير بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لعبد الله القصير، ص45.(10/459)
وقال تعالى: (قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنّ لَكَ مَوْعِداً لّن تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَىَ إِلََهِكَ الّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لّنُحَرّقَنّهُ ثُمّ لَنَنسِفَنّهُ فِي الْيَمّ نَسْفاً) [طه: 97]
فأخبر سبحانه عن كليمه موسى عليه السلام أنه أحرق العجل الذي عبد من دون الله ونسفه في اليم.
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي سعيد في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ.
(حديث ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ.
(حديث ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الثابت في صحيح البخاري) قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَسِتُّونَ نُصُبًا فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَجَعَلَ يَقُولُ {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} الْآيَةَ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ.(10/460)
(حديث أبي الهياج الأسدي الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ.
(حديث ابن عباي رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فِي يَدِ رَجُلٍ فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ وَقَالَ يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ فَقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذْ خَاتِمَكَ انْتَفِعْ بِهِ قَالَ لَا وَاللَّهِ لَا آخُذُهُ أَبَدًا وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(حديث أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَنْ لَا يَبْقَيَنَّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلَادَةٌ مِنْ وَتَرٍ أَوْ قِلَادَةٌ إِلَّا قُطِعَتْ.
وعنها -رضي الله عنها - أَنَّهَا كَانَتْ اتَّخَذَتْ عَلَى سَهْوَةٍ (1) لَهَا سِتْرًا فِيهِ تَمَاثِيلُ فَهَتَكَهُ (2) النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاتَّخَذَتْ مِنْهُ نُمْرُقَتَيْنِ فَكَانَتَا فِي الْبَيْتِ يَجْلِسُ عَلَيْهِمَا.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح أبي داوود) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَتْرُكُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصْلِيبٌ إِلَّا قَضَبَهُ.
قَضَبَهُ: أي قطعه.
فهذه بعض الأدلة ونظيرها كثير تدل على تغيير المنكر باليد، بالقول والفعل من الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصحابته الكرام رضوان الله عليهم ومن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
__________
(1) السهوة: صفة، وقيل خزانة، وقيل رف، وقيل طاق يوضع فيه الشيء. انظر فتح الباري، لابن حجر، 5.
(2) هتكه: أي شقه، والذي يظهر أنه نزعه ثم هي بعد ذلك قطعته انظر المرجع السابق، ونفس الصفحة.(10/461)
{تنبيه}: يجب التنبيه أن التغيير للمنكر باليد لا يصلح لكل أحد وفي كل منكر، لأن ذلك يجر من المفاسد والإضرار الشئ الكثير، وإنما يكون ذلك لولي الأمر أو من ينيبه، مثل رجال الهيئات والحسبة، الذين نصبهم ولي الأمر للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكالرجل في بيته يغير على أولاده، وعلى زوجته وعلى خدمه، فهؤلاء يغيرون بأيديهم بالطريقة الحكيمة المشروعة (1).
ضوابط تغيير المنكر باليد:
(1) أن لا يحل بسبب تغيير المنكر باليد منكراً أعظم وأكبر منه، أو تفويت معروف أعظم منه، والقاعدة الشرعية أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ولهذا فيل ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
(وليس لأحد أن يزيل المنكر بما هو أنكر منه، مثل أن يقوم واحد من الناس يريد أن يقطع يد السارق ويجلد الشارب، ويقيم الحدود، لأنه لو فعل ذلك لأفضى إلى الهرج والفساد، لأن كل واحد يضرب غيره ويدعي أنه استحق ذلك، فهذا ينبغي أن يقتصر فيه على ولي الأمر) (2).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى:
إذا تزاحمت المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة، فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأموراً به، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة فمتى قدر الإنسان على إتباع النصوص لم يعدل عنها وإلا اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيراً بها وبدلالتها على الأحكام.
وعلى هذا إذا كان الشخص والطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن ينهوا عن منكر، بل ينظر فإن كان المعروف أكثر أمر به، وإن استلزم ما هو دونه من منكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله، والسعي في زوال طاعته، وطاعة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وزوال فعل الحسنات.
وإن كان المنكر أغلب نهى عنه وإن استلزم فوات ما هو دونه من المنكر ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمراً بمنكر وسعياً في معصية الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
(1) انظر مراجعات في فقه الواقع السياسي والفكري على ضوء الكتاب والسنة، ص 29، 53.
(2) مختصر الفتاوى المصرية، ص580.(10/462)
وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما، فتارة يصلح الأمر وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح أمر ولا نهي حيث كان المعروف والمنكر متلازمين وفي الفاعل الواحد والطائفة الواحدة يؤمر بمعروفهما، وينهى عن منكرها، ويحمد محمودها، ويذم مذمومها بحيث لا يتضمن الأمر بالمعروف فوات معروف أكبر منه أو حصول منكر فوقه، ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول ما هو أنكر منه أو فوات معروف أرجح منه، وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق، فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية، وإذا تركها كان عاصياً.
فترك الواجب معصية وفعل ما نهى عنه من الأمر معصية (1).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين:
فإنكار المنكر له أربع درجات:
الأولى: أن يزول ويخلفه ضده.
الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته.
الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.
الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه.
فالدرجتان الأوليان مشروعتان والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة (2).
وقال ابن عقيل في آخر "الإرشاد ": من شروط الإنكار أن يعلم أو يغلب على ظنه أنه لا يفضي إلى مفسدة (3).
(2) أن يكون إنكار المنكر باليد سراً إذا كان صاحب المنكر متستراً ليس معلناً له.
وأما إذا أظهر النكر فيجب الإنكار عليه علانية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم وأبنه، (28/ 129)، طبعة مجمع الملك فهد بالمدينة المنورة، نشر وزارة الشئون الإسلامية، 1416 هـ.
(2) إعلام الموقعين، الإمام محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي المعروف بابن قيم الجوزية، ( ... )، تحقيق بشير عيون، طبع ونشر مكتبة دار البيان بدمشق، الطبعة الأولى، 1421 هـ.
(3) الآداب الشرعية، الإمام أبي عبد الله محمد بن مفلح المقدسي، نشر مؤسسة الرسالة لبنان، الطبعة الثالثة، صفحة (217)، 1421 هـ.(10/463)
من فعل شيئاً من المنكرات، كالفواحش، والخمر، والعدوان، وغير ذلك، فإنه يجب الإنكار عليه بحسب القدرة، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان "، فإن كان الرجل متستراً بذلك، وليس معلناً له أنكر عليه سراً وستر عليه، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من ستر عبداً ستره الله في الدنيا والآخرة " على أن لا يتعدى ضرره، والمتعدي لابد من كف عدوانه، وإذا نهاه المرء سراً فلم ينته فعل ما ينكف به من هجر وغيره، إذا كان ذلك أنفع في الدين.
وأما إذا أظهر الرجل المنكرات، وجب الإنكار عليه علانية، ولم نبق له غيبة، ووجب أن يعاقب علانية بما يردعه عن ذلك من هجر وغيره، فلا يسلم عليه، ولا يرد عليه السلام (1).
(3) أن لا يتجاوز الحد المشروع إن كان المنكر من المنكرات التي يمكن إتلاف بعضها وترك البعض الآخر فمثلاً: إذا كان فيه كتاب فيه فصول جيدة ولكن فيه فصل خبيث، فتمزق أوراق هذا الفصل ويترك الباقي، وكذلك الحال لو كان فيه مجلة فيها مقالات طيبة ولكن فيها صورة خليعة فتمزق هذه الصورة ويترك الباقي، ولكن ينبغي أن يعلم إذا كانت المصلحة تقتضي إتلاف الذي جمع بين المنكر والمعروف فإنه يتلف ولا ضمان (2).
مع العلم أن جمع من أهل العلم ذهبوا إلى أن المنكر لا يضمن ما أتلفه.
قال ابن قدامة رحمه الله: وإن كسر صليباً ِأو مزماراً أو طنبوراً أو صنماً لم يضمنه (3).
وقال الشافعي: إن كان ذلك إذا فصل يصل لنفع مباح، وإذا كسر لم يصلح لنفع مباح لزمه ما بين قيمته منفصلاً ومكسوراً، لأنه اتلف بالكسر ما له قيمة، وإن كان لا يصلح لمنفعة مباحة لم يلزمه ضمانه (4).
والأصل في إتلاف الأشياء العينية المحرمة الحديث الآتي:
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم وأبنه، (28/ 217 ـ 218)، طبعة مجمع الملك فهد بالمدينة المنورة، نشر وزارة الشئون الإسلامية، 1416 هـ.
(2) انظر كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثرهما في حفظ الأمة، تأليف د. عبد العزيز المسعود، دار الحرمين للطباعة، القاهرة، الطبعة الثانية، 1415هـ، (ن. ش).
(3) المغني وشرح الكبير، لأبن قدامة، تحقيق د. عبد الله التركي، نشر وزارة الشئون الإسلامية، طبع عالم الكتب، الطبعة الثالثة، 1417 هـ.
(4) صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب الأمر بتسوية القبر (830)، حديث رقم (2243).(10/464)
(حديث أبي الهياج الأسدي الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ.
(4) المنكر الذي يجب إنكاره هو المنكر المجمع عليه وكذلك المنكر الذي ضعف فيه الخلاف وكان ذريعة إلى المحرم متفق على تحريمه.
قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم: والمنكر الذي يجب إنكاره: ما كان مجمعاً عليه، فأما المختلف فيه، فمن أصحابنا من قال: لا يجب إنكاره على من فعله مجتهداً فيه، أو مقلداً لمجتهد تقليداً سائغاً.
واستثنى القاضي في "الأحكام السلطانية " ما ضعف فيه الخلاف وكان ذريعة إلى محظور متفق عليه، كرباً النقد الخلاف فيه ضعيف، وهو ذريعة إلى ربا النَّسّاء المتفق على تحريمه، وكنكاح المتعة، فإنه ذريعة إلى الزنا، وذكر عن أبي إسحاق بن شاقلا أنه ذكر أن المتعة هي الزنا صراحة (1).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
(إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع والاجتهاد فيها مساغ فلا ينكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً) (2).
وقال الإمام النووي رحمه الله: (إن المختلف فيه لا إنكار فيه لكن إن ندبه على النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله يرفق) (3).
(5) الرفق عند إنكار المنكر وأن يكون المُنكر عالماً بما ينهى عنه.
وقال سفيان الثوري: لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إِلا من كان فيه خصال ثلاث: رفق بما يأمر، رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر، عدل بما ينهى، علام بما يأمر، عالم بما ينهى.
وقال أحمد: الناس محتاجون إلى مدارة ورفق الأمر بالمعروف بلا غلظة إلا رجل معلن بالفسق فلا رحمة له، قال: وكان أصحاب بان مسعود إذا مروا بقوم يرون منهم ما يكرهون، يقولون: مهلا رحمكم الله، مهلا رحمكم الله.
__________
(1) جامع العلوم والحكم، لأبي الفرج عبد الرحمن البغدادي الشهير بابن رجب الحنبلي، تحقيق طارق عوض الله، نشر وطباعة دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى 1415 هـ، (2/ 270).
(2) الأحكام السلطانية، لأبي يعلى الفراء، تحقيق محمد الفقي، طبعة دار الوطن، نشر هيئة المعروف والنهي عن المنكر بالدلم (د. ت)، صفحة (297).
(3) الآداب الشرعية، محمد بن مفلح الحنبلي، تحقيق مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة،1422 هـ (1/ 3)،صفحة (232).(10/465)
وقال أحمد يأمر بالرفق والخضوع، فإن أسمعوه ما يكره، لا يغضب، فيكون يريد ينتصر لنفسه) (1).
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ.
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (ولا بد أن يكون عالماً بالمنكر، أي: عالماً بأن هذا منكر، فإن لم يكن عالماً بذلك، فلا ينه عنه؛ لأنه قد ينهى عن شيء غريب هو معروف فيترك المعروف بسببه، أو ينهى عن شيء وهو مباح فيضيّق على عباد الله، بمنعهم مما أباح الله لهم، فلابد أن يكون عالماً بأن هذا منكر، وقد يتسرع كثير من أخواننا الغيورين، فينهون عن أمور مباحة يظنونها منكراً فيضيقون على عباد الله.
فالواجب أن لا تأمر بشيء إلا وأنت تدري أنه معروف، وأن لا تنه عن شيء إلا وأنت تدري أنه منكر) (2).
وأخيراً يجب مراعاة أن الرجل الذي اجتمع فيه طاعة ومعصية وخير وشر يوالى ويحب بما فيه من طاعة ويبغض ويعادى بما فيه من معصية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
(وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، ومعصية وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام و الإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص فالفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته.
__________
(1) جامع العلوم والحكم، لأبي الفرج عبد الرحمن البغدادي الشهير بابن رجب الحنبلي، تحقيق طارق عوض الله، نشر وطباعة دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى 1415 هـ صفحة 272.
(2) شرح رياض الصالحين، الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، طبع مؤسسة ابن عثيمين الخيرية، نشر مدار الوطن للنشر، الرياض، الأولى عام 1425 هـ، صفحة (404).(10/466)
هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه، فلم يجعلوا الناس لا مستحقاً للثواب فقط، ولا مستحقاً للعقاب فقط. وأهل السنة يقولون: إن الله يعذب بالنار من أهل الكبائر من يعذبه، ثم يخرجه منها بشفاعة من يأذن له في الشفاعة بفضل رحمته، كما استفاضت بذلك السنة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) (1)
كيفية التغيير باليد:
أورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن المروذي، قال: قلت لأبي عبد الله: كيف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: " باليد واللسان وبالقلب، وهو أضعف الإيمان، قلت: كيف باليد قال: تفرق بينهم "
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن المروذي أنه قال: كنت مع أبي عبد الله في طريق، فرأى صبيانا يقتتلون، فعدل إليهم ففرق بينهم.
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن صالح، أن أباه، قال: " التغيير باليد ليس بالسيف والسلاح "
المرتبة الثانية: الإنكار باللسان وضوابطه:
وذلك حينما لا يستطيع من رأى المنكر تغييره بيده لعدم سلطته على مرتكبه، أو لما يترتب عليه من المفسدة المساوية أو الراجحة، فإنه ينتقل إلى التغيير باللسان، وذلك بتعريف الناس بالحكم الشرعي بأن هذا محرم ومنهي عنه، فقد يرتكب المنكر لجهله به، فيمكن تغيير المنكر عن طريق الوعظ، والنصح، والإرشاد، والترغيب، والترهيب، والتقريع، والتعنيف ونحو ذلك من البيان.
وهذه المرتبة يلتقي فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالدعوة إلى الله، فكلاهما بيان للحق وترغيب فيه، وتنبيه على الباطل، وتحذير منه، وتخويف وترهيب عنه، بما يناسب حال المخاطب ويقتضيه المقام (2).
خطوات تغيير المنكر باللسان:
ولتغيير المنكر باللسان أربع خطوات:
الخطوة الأولى: التعريف باللين واللطف:
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم وأبنه، (28/ 129)، طبعة مجمع الملك فهد بالمدينة المنورة، نشر وزارة الشئون الإسلامية، 1416 هـ، (28/ 208).
(2) انظر إحياء علوم الدين، للإمام الغزالي، 2/ 402، وتذكرة أولي الغير بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص 46.(10/467)
وذلك بأن يعرف مرتكب المنكر ـ إما بالإشارة أو التعريض حسب الموقف ـ بأن هذا العمل لا ينبغي أو حرام، وأنت لستَ ممن يفعل ذلك بالقصد، فأنت أرفع من ذلك، فإن الجاهل يقدم على الشيء لا يظنه منكرا، فإذا عرف أنه منكر تركه وأقلع عنه، فيجب تعريفه باللطف والحكمة والرفق واللين، حتى يقبل ولا ينفر. ويقال له مثلا: إن الإنسان لا يولد عالما ولقد كنا جاهلين بأمور الشرع حتى عَلَمَنَا العلماء .. وهكذا يتلطف به ليحصل التعريف من غير إيذاء (1).
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ.
(حديث جرير ابن عبد الله الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ يُحْرَمْ الرِّفْقَ يُحْرَمْ الْخَيْرَ
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ.
(حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ.
(حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ.
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى، 15/ 339، و28/ 127، ومختصر منهاج القاصدين، لابن قدامة، ص، 28. والكنز الأكبر ص236.(10/468)
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أَنَّ الْيَهُودَ أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكَ قَالَ وَعَلَيْكُمْ فَقَالَتْ عَائِشَةُ السَّامُ عَلَيْكُمْ وَلَعَنَكُمْ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْكُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْلًا يَا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ أَوْ الْفُحْشَ قَالَتْ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ.
(حديث عائشة الثابت في صحيح أبي داود) قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا بَلَغَهُ عَنْ الرَّجُلِ الشَّيْءُ لَمْ يَقُلْ مَا بَالُ فُلَانٍ يَقُولُ وَلَكِنْ يَقُولُ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا.
أورد الخلال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن أحمد بن حنبل: كان أصحاب ابن مسعود إذا مروا بقوم يرون منهم ما يكرهون، يقولون: مهلًا رحمكم الله (1).
فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الموفق هو الذي يتحرى الرفق والعبارات المناسبة، والألفاظ الطيبة عندما يعظ وينصح الناس، في المجلس، أو في الطريق، أو في أي مكان، يدعوهم بالرفق والكلام الطيب، حتى ولو جادلوه في شيء خفي عليهم، أو كابروا فيه، فيجادلهم بالتي هي أحسن، كما قال تعالى: (ادْعُ إِلِىَ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنّ رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [النحل: 125]
وقال تعالى: (وَلاَ تُجَادِلُوَاْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاّ الّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُوَاْ آمَنّا بِالّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلََهُنَا وَإِلََهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [العنكبوت: 46]
فهذا الأسلوب مع أهل الكتاب ـ وهم اليهود والنصارى وهم كفار ـ فما بالك مع المؤمنين؟ فإذا كان المقام مقام تعليم ودعوة وإيضاح للحق، فإنه يكون بالتي هي أحسن، لأن هذا هو أقرب إلى الخير، وأدعى لتقبل النصيحة كما كان يفعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في دعوته.
__________
(1) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، للخلال، ص 47.(10/469)
فهذه طريقة السلف رحمهم الله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تحري الرفق مع العلم والحلم والبصيرة والعمل بما يدعون إليه، وترك ما ينهون عنه، وهذه هي القدوة الصالحة.
الخطوة الثانية: النهي بالوعظ والنصح والتخويف من الله تعالى:
وهذه الخطوة تتعلق غالبا في " مرتكب المنكر العارف بحكمه في الشرع " بخلاف الخطوة الأولى، فهي في الغالب تستعمل للجاهل في الحكم.
وأما العارف بالحكم فيستعمل معه أسلوب الوعظ والنصح والتخويف من الله تعالى، ويذكر له بعض النصوص من القرآن والسنة المشتملة على الترهيب والوعيد، كما يذكر له بعض أقوال السلف في ذلك، ويكون بأسلوب الحكمة والموعظة الحسنة .. وحتى لو كان عارفا لهذه النصوص فلها تأثيرها، لأن ذلك من قبل الذكرى، والله تعالى يقول: (وَذَكّرْ فَإِنّ الذّكْرَىَ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات: 55] ويبين له ما أعده الله للطائعين من عباده، ويذكره بالموت، وأنه ليس لمجيئه وقت محدد، بل يأتي بغتة، وربما يأتي إلى الإنسان وهو واقع في المعصية، فتكون خاتمته سيئة والعياذ بالله.
يا مَنْ بدنياهُ اشتغلْ ... وغرَّه طولُ الأمل
الموتُ يأتي بغتةً ... والقبرُ صندوقُ العملْ
ويبين له أن هدفه من نصحه وإرشاده إنما هو من أجل حبه له، وخوفه عليه من العقاب، وأنه ما فعل ذلك إلا شفقة عليه ورحمة به، وليحرص كل الحرص، أن تكون الموعظة سرا بينه وبين المنصوح، حتى لا تأخذه العزة بالإثم فيرفض قبولها، وحتى يطمئن له وتتقبل نفسه لسماع النصيحة، وحتى يعلم بحق أنه ليس للناهي هدف سوى النصيحة وإرادة الخير له.
قال سليمان الخواص: من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما فضحه.
وعن عبد الله بن المبارك قال: (كان الرجل إذا رأى من أخيه ما يكره أمره في ستر، ونهاه في ستر، فيُؤجر في ستره ويُؤجر في نهيه، فأما اليوم فإذا رأى أحد من أحد ما يكره استغضب أخاه، وهتك ستره) (1).
ورحم الله الإمام الشافعي إذ يقول (2):
تَعمدني بنصحكَ في انفرادٍ ... وجنبني النصيحةَ في الجماعةْْ
فإنَّ النصحَ بينَ الناسِ نوعٌ ... من التوبيخِ لا أرضى استَماعه
فإنْ خَالفتني وعصيتَ أمْري ... فلا تجزعْ إذا لم ُتعطَ طاعةْ
الخطوة الثالثة: الغلظة بالقول:
__________
(1) روضة العقلاء، لأبي حاتم محمد بن حبان البستي، 158.
(2) ديوان الإمام الشافعي، ص 96.(10/470)
وهذه الخطوة يلجأ إليها المُنكر بعد عدم جدوى أسلوب اللطف واللين، فحينئذ يغلظ له القول، ويزجره مع مراعاة قواعد الشرع في ذلك. وعليه ألا ينطق إلا بالصدق، ولا يطيل لسانه بما لا يحتاج إليه بل على قدر الحاجة.
وقد استعمل أبو الأنبياء إبراهيم ـ عليه السلام ـ هذا الأسلوب، قال تعالى حكاية عنه: (أُفّ لّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) [الأنبياء: 67]
الخطوة الرابعة: التهديد والتخويف:
وهذه الخطوة هي آخر المحاولات في النهي باللسان، ويعقبها بعد ذلك إيقاع الفعل كأن يقال لمرتكب المنكر: إن لم تنته عن هذا الفعل لأفعلنَّ بك كذا وكذا. أو لأخبرن بك السُلطات لتسجنك وتعاقبك على فعلك.
ولكن ينبغي أن يكون هذا التهديد والتخويف في حدود المعقول عقلًا وشرعا حتى يعرف أن المنكر صادق في تهديده، لأنه لو هدده بأمور غير جائزة شرعا وغير معقولة عرف أنه غير جاد في كلامه (1).
المرتبة الثالثة: الإنكار بالقلب:
إذا عجز المؤمن عن الإنكار باليد واللسان، انتهى إلى الإنكار بالقلب فيكره المنكر بقلبه، ويبغضه، ويبغض أهله ـ يعلم الله ذلك منه ـ إذا عجز عن تغييره بيده ولسانه ـ وهذا الواجب لا يسقط عن المؤمن بوجه من الوجوه، إذ لا عذر يمنعه ولا شئ يحول بينه وبينه، وليس هناك شيء من التغيير ما هو أقل منه، كما جاء في حديث أبي سعيد المتقدم {وذلك أضعف الإيمان} (2) يعني أقل ما يمكن به تغيير المنكر.
وكذلك الحديث الآخر عن ابن مسعود - رضي الله عنه - {وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل} أي لم يبق بعد هذا من الإنكار ما يدخل في الإيمان حتى يفعله المؤمن ويثاب عليه، بل الإنكار بالقلب آخر حدود الإيمان.
قيل لابن مسعود - رضي الله عنه - من ميت الأحياء؟ فقال: الذي لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا (3).
__________
(1) انظر إحياء علوم الدين، 2/ 420 - 422، والكنز الأكبر، ص 234 - 143، وفقه الدعوة في إنكار المنكر ص 69 - 71، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لعبد العزيز المسعود، 1/ 521 - 525.
(2) مسلم الإيمان (49)، الترمذي الفتن (2172)، النسائي الإيمان وشرائعه (5009)، أبو داود الصلاة (1140)، ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275)، أحمد (3/ 10).
(3) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لابن تيمية ص 9.(10/471)
وهذا هو المفتون الموصوف في حديث (حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - عند مسلم بأنه لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أُشرب من هواه).
(حديث حذيفة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودا عُودا، فَأَيّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْل الصّفَا، فَلاَ تَضُرّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادا كَالْكُوزِ مُجَخّيا لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرا، إِلاّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ.
وإذا لم يستطع الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، تغيير المنكر بيده، ولا بلسانه، فإنه يجب عليه حينئذ إنكاره بقلبه ـ كما سبق بيانه ـ وعليه أن يهجر المنكر وأهله، فإن عجزه عن الإنكار ليس عذرا يبيح له مشاهدة ذلك المنكر أو مجالسة أهله.
قال تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الّذِينَ يَخُوضُونَ فِيَ آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتّىَ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمّا يُنسِيَنّكَ الشّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذّكْرَىَ مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ) [الأنعام: 68]
وقال تعالى: (وَقَدْ نَزّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتّىَ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ إِنّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنّمَ جَمِيعاً) [النساء: 140]
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - عند هذه الآية (وكذلك يدخل فيه حضور مجالس المعاصي والفسوق التي يُستهان فيها بأوامر الله ونواهيه، وتقتحم حدوده التي حدها لعباده .. ) (1).
وبهذا يتبين لنا أن الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر الداعي إلى الله على علم وبصيرة، لا بد له من معرفة مراتب إنكار المنكر وضوابطها وخطواتها، والالتزام بالعمل بها، حتى ينجح في دعوته، وتؤتي ثمارها الطيبة.
من رأى منكرا فلم يستطع له تغييرا أن يُعْلِمَ الله من قلبه أنه له كاره.
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن، 2/ 93 - 94.(10/472)
أورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن أبا عبد الله قال، له رجل: لي جار يشرب ويعتدي، ترى لي أن أنهاه عن ذلك؟ قال: ما أحسن ما تفعل، قال له الرجل: فإن لم أفعل؟ قال: تخافه؟ قال: نعم، قال: " أنكر بقلبك، وليعلم الله ذلك منك ".
أورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن إسحاق بن إبراهيم أنه سأل أبا عبد الله قال: قلت رجل تكلم بكلامٍ سوء يجب علي فيه أن أغيره في ذلك الوقت فلا أقدر على تغييره، وليس لي أعوان يعينونني عليه؟ قال: " إذا علم الله من قلبك أنك منكر لذلك فأرجو أن لا يكون عليك شيء "
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن إسحاق قال: سألت أبا عبد الله قلت: متى يجب على الرجل الأمر والنهي؟ قال: " ليس هذا زمان نهي إذا غيرت بلسانك، فإن لم تستطع فبقلبك، وذلك أضعف الإيمان. . . وقال لي: لا تتعرض للسلطان، فإن سيفه مسلول "
وأورد أبو بكر الخلال رحمه الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن المروذي، أنه شكا إلى أحمد بن حنبل جارا لهم يؤذيهم بالمنكر، فقال: مره بينك وبينه، قلت: تقدمت إليه مرارا كأنه يضحك، قال: وأي شيء عليك، إنما هو يضحك على نفسه، أنكر بقلبك، ودعه، فقلت لأبي عبد الله: فمن كان له جار يسمع منه المنكر؟ قال: يغيره مرة ومرتين وثلاثة، فإن قبل وإلا ترك، قلت: فإن كان سمعه؟ قال: " وأي شيء تقدر أن تصنع، أنكر بقلبك ودعه.
(6) تقديم الأهم على المهم:
إن البدء بالأهم فالأهم من القواعد التي تحكم القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك بأن يبدأ الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر بإصلاح أصول العقيدة، فيأمر بالتوحيد وإخلاص العبادة لله وحده، وينهى عن الشرك والبدع والشعوذة، ثم يأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم بقية الفرائض وترك المحرمات، ثم أداء السنن وترك المكروهات.
والبدء بالدعوة إلى التوحيد وإخلاص العبادة لله - عز وجل - هو منهج الرسل جميعا، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلّ أُمّةٍ رّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطّاغُوتَ فَمِنْهُم مّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُمْ مّنْ حَقّتْ عَلَيْهِ الضّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ) [النحل: 36](10/473)
وقال تعالى: (وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُولٍ إِلاّ نُوحِيَ إِلَيْهِ أَنّهُ لآ إِلََهَ إِلاّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 25]
وقال تعالى: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرّحْمََنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) [الزخرف: 45]
وقد تكررت مقولة الأنبياء عليهم السلام في الدعوة إلى التوحيد كما يلي:
قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىَ قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ إِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الأعراف: 59]
وقال تعالى: (وَإِلَىَ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتّقُونَ) [الأعراف: 65]
وقال تعالى: (وَإِلَىَ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيّنَةٌ مّن رّبّكُمْ) [الأعراف: 73]
وقال تعالى: (وَإِلَىَ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيّنَةٌ مّن رّبّكُمْ) [الأعراف: 85]
وقال تعالى: (وَإِلَىَ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ مُفْتَرُونَ) [هود: 50]
قال تعالى: (وَإِلَىَ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرْضِ) [هود: 61]
قال تعالى: (وَإِلَىَ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ) [هود: 84]
وقد سار خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على نهج إخوانه المرسلين -عليهم السلام- فقد بدأ بما بدأ به أنبياء الله، وانطلق من حيث انطلقوا، إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له وحده، قال تعالى: (قُلْ إِنّنِي هَدَانِي رَبّيَ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مّلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام 161،162](10/474)
واستمر - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاث عشرة سنة في مكة، وهو يدعو الناس إلى التوحيد، وينهاهم عن الشرك، قبل أن يأمرهم بالصلاة والزكاة والصوم والحج، وقبل أن ينهاهم عن الربا والزنا والسرقة وقتل النفوس بغير حق.
اللهم ما كان يأمر به قومه من معالي الأخلاق، كصلة الرحم، والصدق، والعفاف، وأداء الأمانة، وحسن الجوار ونحو ذلك، {ولكن الأمر الأساسي، والمحور الأهم، إنما هو الدعوة إلى التوحيد، والتحذير من الشرك} (1).
ولما بعث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معاذا إلى اليمن أمره بالدعوة إلى التوحيد كما في الحديث الآتي:
(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ ابْنِ جَبَلٍ حِيْنَ بَعَثَهُ إِلَى اليَمَنِ: إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ.
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح:
(وأما قول الخطابي إن ذكر الصدقة أُخر عن ذكر الصلاة لأنها إنما تجب على قوم دون قوم. وأنها لا تكرر الصلاة فهو حسن، وتمامه أن يقال بدأ بالأهم فالأهم، وذلك من التلطف في الخطاب، لأنه لو طالبهم بالجميع في أول مرة لم يأمن النفرة) (2).
__________
(1) انظر مقدمة فضيلة الدكتور صالح الفوزان، على كتاب منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة والعقل للدكتور ربيع المدخلي ص 5. بتصرف.
(2) فتح الباري، لابن حجر، 3/ 359.(10/475)
لذا فإن المطلوب من الداعين إلى الله تعالى الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، أن يوجهوا جهودهم ويولوا اهتمامهم بمنهج الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ في الدعوة إلى الله تعالى، فيدعوا الناس إلى التوحيد أولًا وقبل أي شيء وليكن شغلهم الشاغل هو تصحيح العقيدة، وتصفيتها من شوائب الشرك والبدع والمعاصي، ولا يعني من هذا الكلام إهمال الجوانب الأخرى بحال من الأحوال، ولكن ما أريد تقريره هو أن الاهتمام بأمور العقيدة يجب أن ينال الأولوية في الدعوة إلى الله - عز وجل - والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم الأهم فالأهم.
(7) اعتبار المصالح ودرء المفاسد:
إن الشريعة الإسلامية مبنية على تحصيل المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتعطيلها أو تقليلها، ولذا فإن من القواعد المهمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اعتبار المصالح، فيشترط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
"أن لا يؤدي إلى مفسدة أعظم من المنكر أو مثله"، فإن كان إنكار المنكر يستلزم حصول منكر أعظم منه، فإنه يسقط وجوب الإنكار، بل لا يسوغ الإنكار في هذه الحالة.
الأدلة من القرآن الكريم:
ومن الأدلة على ذلك من القرآن الكريم:
(1) قال تعالى: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتّىَ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتّىَ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للّهِ فَإِنِ انْتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاّ عَلَى الظّالِمِينَ) [: البقرة 191: 193]
فالقتال في سبيل الله تعالى يحقق مصلحة عظيمة وهي إعلاء كلمة الله تعالى، وإذلال الشرك وأهله، وفيه مفسدة إزهاق الأرواح، إلا إن المصلحة في بقاء الدين وإعلاء التوحيد وإذلال الشرك ورفع الفتنة لا تقاومها المضرة في إزهاق الأرواح، كما أن {حفظ الدين مقدم على حفظ النفوس} 0(10/476)
(2) قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَيَاتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ) [البقرة: 219]
فشارب الخمر يترك العبادة، ويتعدى على الآخرين بالضرب والشتم والقتل وغير ذلك، وهذه المفاسد العظيمة لا تقاومها أي مصلحة أو منفعة مزعومة.
(3) قوله تعالى: (وَلاَ تَسُبّواْ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيّنّا لِكُلّ أُمّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمّ إِلَىَ رَبّهِمْ مّرْجِعُهُمْ فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 108]
في هذه الآية نهانا الله تعالى عن سب آلهة المشركين، وذلك للمفسدة الكبيرة المترتبة على ذلك، وهي سبهم لله تعالى مع أن سب آلهتهم وتحقيرها فيه مصلحة، إلا أن درء المفاسد مقدم على جلب المنافع 0
الأدلة من السنة النبوية:
ومن الأدلة من السنة النبوية:
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا: لَوْلَا قَوْمُكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ ـ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِكُفْرٍ ـ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ فَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ بَابٌ يَدْخُلُ النَّاسُ وَبَابٌ يَخْرُجُونَ فَفَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ.
وقد ترجم البخاري لهذا الحديث بقوله: (باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يَقْصُرَ فهمُ بعض الناس عنه فيقعوا في أشدَّ منه).
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح:
(وفي الحديث معنى ما تُرْجِمَ له لأن قريشا كانت تعظم أمر الكعبة جدا، فخشيَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يظنوا لأجل قرب عهدهم بالإسلام أنه غيّر بناءها لينفرد بالفخر عليهم في ذلك، ويُستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة، ومنه ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه) (1).
(حديث أبن مسعودٍ الثابت في الصحيحين) قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الْأَيَّامِ كَرَاهِيَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا.
فترك - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كثرة الوعظ والتعليم لدفع مفسدة النفور والفتور والانقطاع.
__________
(1) فتح الباري، 1/ 225.(10/477)
(حديثُ أنس الثابت في الصحيحين): أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُعاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ قَالَ يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ قَالَ يَا مُعَاذُ قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ثَلَاثًا قَالَ مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا قَالَ إِذًا يَتَّكِلُوا وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا.(10/478)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: كُنَّا قُعُودًا حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي نَفَرٍ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا فَأَبْطَأَ عَلَيْنَا وَخَشِينَا أَنْ يُقْتَطَعَ دُونَنَا وَفَزِعْنَا فَقُمْنَا فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَزِعَ فَخَرَجْتُ أَبْتَغِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَيْتُ حَائِطًا لِلْأَنْصَارِ لِبَنِي النَّجَّارِ فَدُرْتُ بِهِ هَلْ أَجِدُ لَهُ بَابًا فَلَمْ أَجِدْ فَإِذَا رَبِيعٌ يَدْخُلُ فِي جَوْفِ حَائِطٍ مِنْ بِئْرٍ خَارِجَةٍ وَالرَّبِيعُ الْجَدْوَلُ فَاحْتَفَزْتُ كَمَا يَحْتَفِزُ الثَّعْلَبُ فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقُلْتُ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَا شَأْنُكَ قُلْتُ كُنْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فَقُمْتَ فَأَبْطَأْتَ عَلَيْنَا فَخَشِينَا أَنْ تُقْتَطَعَ دُونَنَا فَفَزِعْنَا فَكُنْتُ أَوَّلَ مِنْ فَزِعَ فَأَتَيْتُ هَذَا الْحَائِطَ فَاحْتَفَزْتُ كَمَا يَحْتَفِزُ الثَّعْلَبُ وَهَؤُلَاءِ النَّاسُ وَرَائِي فَقَالَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَأَعْطَانِي نَعْلَيْهِ قَالَ اذْهَبْ بِنَعْلَيَّ هَاتَيْنِ فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيتُ عُمَرُ فَقَالَ مَا هَاتَانِ النَّعْلَانِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَقُلْتُ هَاتَانِ نَعْلَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَنِي بِهِمَا مَنْ لَقِيتُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ بَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ فَضَرَبَ عُمَرُ بِيَدِهِ بَيْنَ ثَدْيَيَّ فَخَرَرْتُ لِاسْتِي فَقَالَ ارْجِعْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجْهَشْتُ بُكَاءً وَرَكِبَنِي عُمَرُ فَإِذَا هُوَ عَلَى أَثَرِي فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قُلْتُ لَقِيتُ عُمَرَ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي بَعَثْتَنِي بِهِ فَضَرَبَ بَيْنَ(10/479)
ثَدْيَيَّ ضَرْبَةً خَرَرْتُ لِاسْتِي قَالَ ارْجِعْ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ يَا عُمَرُ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَبَعَثْتَ أَبَا هُرَيْرَةَ بِنَعْلَيْكَ مَنْ لَقِيَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ بَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَلَا تَفْعَلْ فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ عَلَيْهَا فَخَلِّهِمْ يَعْمَلُونَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَلِّهِمْ.
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح:
(فكأن قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ ((إِذًا يَتَّكِلُوا)) كان بعد قصة أبي هريرة، فكان النهي للمصلحة لا للتحريم، فلذلك أخبر به معاذ لعموم الآية بالتبليغ أ. هـ (1).
ولاطلاعه - رضي الله عنه - على أنه لم يكن المقصود من المنع التحريم كما هو ظاهر من قصة أبي هريرة - رضي الله عنه -.
فتبليغ الناس بهذه البشارة وإدخال السرور عليهم بذلك مصلحة، واتكالهم على ذلك وعدم فهمهم وتركهم العمل مفسدة عظيمة، لذا اعتمد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما رآه عمر - رضي الله عنه - في ذلك (2).
(حديث علي - رضي الله عنه - الثابت في صحيح البخاري موقوفا) قَالَ: حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح:
(وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يُذكر عند العامة) (3).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
__________
(1) فتح الباري، 1/ 228.
(2) الأدلة على اعتبار المصالح والمفاسد في الفتاوى والأحكام، جمع وترتيب أبو عاصم هشام عبد القادر، ص 18.
(3) فتح الباري، 1/ 225.(10/480)
( .. إذا تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات، أو تزاحمت فإنه يجب ترجيح الراجح منها، فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة، فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح، أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورا به، بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقلَّ أن تعوز النصوص من يكون خبيرا بها وبدلالتها على الأحكام، وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعا، أو يتركوهما جميعا، لم يجز أن يؤمروا بمعروف، ولا أن ينهوا عن منكر، بل ينظر، فإن كان المعروف أكثر أمر به، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله، وزوال فعل الحسنات، وإن كان المنكر أغلب نهى عنه، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمرا بمنكر، وسعيا في معصية الله ورسوله، وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما، فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي، حيث كان المعروف والمنكر متلازمين، وذلك في الأمور المعينة الواقعة (1).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى، 28/ 129 - 130.(10/481)
(إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله ... ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل، وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عَزَمَ على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، ومنَعه من ذلك - مع قدرته عليه - خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر) أ. هـ (1).
وقال الشيخ حمد بن ناصر: (لكن إن خاف حصول منكر أعظم سقط الإنكار، وأنكر بقلبه، وقد نص العلماء على أن المنكر إذا لم يحصل إنكاره إلا بحصول منكر أعظم منه أنه لا ينبغي، وذلك لأن مبنى الشريعة على تحصيل المصالح وتقليل المفاسد) (2).
وقال فضيلة الشيخ عبد العزيز بن محمد إبراهيم آل الشيخ: (مما ينبغي أن يُعلم أنه متى كانت مفسدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أعظم من مصلحته لم يكن مما أمر الله به ورسوله وإن كان ذلك في ترك واجب أو فعل محرم، فالمؤمن عليه أن يتقي الله في عباده وليس عليه هداهم، وليعلم أن الاهتداء إنما يتم بأداء الواجب، فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قام بغيره من الواجبات لم يضره ضلال الضال .. ) (3)
__________
(1) إعلام الموقعين، 3/ 4.
(2) انظر الدرر السنية في الأجوبة النجدية، 8/ 61.
(3) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الماضي والحاضر، ص 33.(10/482)