(حديث عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور و الدعاء.
(12) ألا يشغل الدعاء عن أمر واجب، أو فريضة حاضرة: كأن يشتغل بالدعاء عن صلاة حاضرة كصلاة الفجر، أو الظهر، أو العصر، أو نحوها.
أو أن يترك القيام بحق الضيف إذا زاره، ويشتغل بالدعاء.
أو أن يدع خدمة الوالدين إذا احتاج إليه؛ بحجة اشتغاله بالدعاء.
فلا ينبغي الاشتغال بالدعاء عن أمر واجب، أو فريضة حاضرة.
(ولعل في قصة جريج العابد ما يشير إلى ذلك؛
ففي الصحيحين عن حميد بن هلال عن أبي رافع عن أبي هريرة أنه قال:=كان جريج يتعبد في صومعته، فجاءت أمُّه.
قال حميد: فوصف لنا أبو رافع صفة أبي هريرة لصفة رسول الله _ صلى الله عليه _ أُمَّه حين دعته كيف جعلت كفها فوق حاجبها، ثم رفعت رأسها إليه تدعوه، فقالت: يا جريج، إني أُمُّك، كلِّمْني، فصادفته يصلي فقال: اللهم أمي وصلاتي، فاختار صلاته، فقالت: اللهم إني هذا جريجٌ وهو ابني وإني كلمته فأبى أن يكلمني؛ اللهم فلا تُمِتْه حتى تريه وجوه المومسات.
قال: ولو دعت عليه أن يفتن لفتن، قال: وكان راعي ضأنٍ يأوي إلى دَيْرِه، قال: فخرجت امرأة من القرية، فوقع عليها الراعي، فحملت، فولدت غلامًا، فقيل: ما هذا؟ قالت: من صاحب هذا الدير.
قال: فجاؤوا بفؤوسهم، ومساحيهم، فنادوه، فصادفوه يصلي، فلم يكلمهم.
قال: فأخذوا يهدمون ديره، فلما رأى ذلك نزل إليهم.
فقالوا له: سل هذا، قال فتبسم، ثم مسح راس الصبي، فقال: من أبوك؟
قال: أبي راعي الضأن، فلما سمعوا ذلك منه، قالوا: نبني ما هدمنا من ديرك بالذهب والفضة.
قال: لا، ولكن أعيدوه ترابًا كما كان، ثم علاه. (1)
وفي رواية لمسلم: فتذاكر بنو إسرائيل جريجًا وعبادته، وكانت امرأة بغيٌّ يُتَمَثَّلُ بحسنها، فقالت: إن شئتم لأَفْتِنَنَّه لكم.
قال: فتعرضت له، فلم يلتفت إليها، فأتت راعيًا كان يأوي إلى صومعته، فأَمْكَنَتْه من نفسها، فوقع عليها، فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جريج، فأتوه، فاستنزلوه وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟
قالوا زنيت بهذه البغي، فحملت منك.
فقال: أين الصبي؟
__________
(1) البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله [واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها] مريم:16، (3436)، ومسلم كتاب البر والصلة باب تقديم الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها [2550، واللفظ لمسلم.(8/387)
فجاؤوا به، فقال: دعوني حتى أصلي، فصلَّى، فلما انصرف أتى الصبيَّ، فطعن في بطنه، وقال: يا غلام! من أبوك؟ قال: فلان الراعي الحديث.
[*] قال النووي رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث:
قال العلماء: هذا دليل على أنه كان الصواب في حقه إجابتها؛ لأنه كان في صلاة نفل، والاستمرار فيها تطوع لا واجب، وإجابة الأم وبرها واجب، وعقوقها حرام، وكان يمكنه أن يخفف الصلاة ويجيبها ثم يعود إلى صلاته.
فلعله خشي أنها تدعوه إلى مفارقة صومعته، والعود إلى الدنيا ومتعلقاتها وحظوظها، وتضعف عزمه فيما نواه وعاهد عليه. (1)
(13) العزمُ والجَزم ُوالجِدُّ في الدعاء:
يجب على المسلم إذا سأل ربه فإنه يجزم ويعزم بالدعاء، ولهذا نهى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الاستثناء في الدعاء.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، ارحمني إن شئت ارزقني إن شئت، وليعزم مسألته، إنه يفعل ما يشاء لا مكره له).
قال الشيخ عبد الرحمن آل الشيخ:
"بخلاف العبد؛ فإنه قد يعطي السائل مسألته لحاجته إليه، أو لخوفه أو رجائه، فيعطيه مسألته وهو كاره، فاللائق بالسائل للمخلوق أن يعلق حصول حاجته على مشيئة المسئول، مخافة أن يعطيه وهو كاره، بخلاف رب العالمين؛ فإنه تعالى لا يليق به ذلك لكمال غناه عن جميع خلقه، وكمال جوده وكرمه، وكلهم فقير إليه، محتاج لا يستغني عن ربه طرفة عين، فاللائق بمن سأل الله أن يعزم المسألة، فإنه لا يعطي عبده شيئاً عن كراهة، ولا عن عظم مسألة" - فتح المجيد (ص 471) بتصرف يسير.
[*] (آداب الدعاء:
للدعاء آداب ينبغي لطالب العلم أن يحيط بها علماً وأن يتبعها حتى يكون دعاؤه أرجى للقبول، وقد قال ابن القيم - رحمه الله - كلمة تلخص آداب الدعاء:
يقول: "ألا أدلك على دعاء لا يرد أبداً ... ادعُ الله وأنت موقن بالإجابة، بخشوع، وارفع يديك، وألح في الدعاء، وتوسل إلى الله بأسمائه، وتملق إلى الله بإنعامه، واخشع له، وذل له، وتصدق بعد أن تدعو، هذا الدعاء لا يكاد يرد".
[*] (وهاك آداب الدعاء جملةً وتفصيلا:
(أولاً آداب الدعاء جملةً:
(1) الوضوء:
(2) السواك:
(3) استقبال القبلة ورفع اليدين:
(4) حمد الله والثناء على الله قبل الدعاءِ، والصلاة على النبي:
(5) الدعاء باسم الله الأعظم:
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 16/ 82.(8/388)
(6) الإقرار بالذنب، والاعتراف بالخطيئة:
(7) الجزم في الدعاء، والعزم في المسألة:
(8) يعظم الرغبة فإن الله تعالى لا يتعاظمه شيء أعطاه:
(9) الإلحاح بالدعاء:
(10) الدعاء ثلاثًا:
(11) أن يتخير جوامع الدعاء ومحاسن الكلام:
(12) أن يقدم بين يدي دعائه عملاً صالحًا:
(13) يتوسل إلى الله تعالى بأنواع التوسل المشروعة:
(14) الطموح وعلو الهمة:
(15) أن يكون غرض الداعي جميلاً حسنًا:
(16) يخفِضُ صوته في الدعاء بين المخافتة والجهر:
(17) إظهار الداعي الشكوى إلى الله، والافتقار إليه:
(18) الخشوع والخضوع:
(19) البكاء حال الدعاء:
(20) التضرع إلى الله في الدعاء:
(21) التواضع والتبذل في اللباس والهيئة:
(22) الرغبة والرهبة:
(23) الدعاء في كل الأحوال في الشدة والرخاء، وفي المنشط والمكره:
(24) اختيار الاسم المناسب من أسماء الله الحسنى، أو الصفة المناسبة حال الدعاء:
(25) ألا يحجر رحمة الله في الدعاء:
(26) أن يسأل الله كل صغيرة وكبيرة:
(27) يدعو لوالديه مع نفسه:
(28) أن يدعو لإخوانه المؤمنين:
(29) أن يبدأ الداعي بنفسه:
(30) يترصد للدعاء الأوقات الشريفة:
(31) التأمين على الدعاء من المستمع:
(32) تجنب الدعاء على الأهل، والمال، والنفس:
(33) ألا يتكلف السجع:
(34) الإعراب بلا تكلف:
(35) أن تلقي باللوم على نفسك:
(36) الالتزام بالأدعية المأثورة:
[*] (ثانياً آداب الدعاء تفصيلا:
(1) الوضوء:
(حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فرغ النبي من حنين، وفيه قال: فدعا بماء فتوضأ ثم رفع يديه فقال: {اللهم اغفر لعبيد أبي عامر} ورأيت بياض أبطيه.
(2) السواك: ووجه ذلك أن الدعاء عبادة باللسان؛ فتنظيف الفم عند ذلك أدب حسن؛ ولهذا جاءت السنة المتواترة بمشروعية السواك للصلاة، والعلة في ذلك تنظيف المحل الذي يكون الذكر به في الصلاة. (1)
(حديث عائشة الثابت في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب)
(3) استقبال القبلة ورفع اليدين:
__________
(1) انظر تحفة الذاكرين ص44.(8/389)
(حديث عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: (اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإِسْلامِ لا تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ) فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ. . . الحديث.
[*] قال النووي رحمه الله في شرح مسلم:
فِيهِ اِسْتِحْبَاب اِسْتِقْبَال الْقِبْلَة فِي الدُّعَاء، وَرَفْع الْيَدَيْنِ فِيهِ.
(حديث سلمان في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا.
(حديث ابن عباس في صحيح أبي داوود موقوفاً) قال: المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك أو نحوهما والاستغفار أن تشير بأُصبع واحدة والابتهال أن تمد يديك جميعا.
وفي البخاري: استقبل رسول الله"الكعبة فدعا على قريش. (1)
ورفع اليدين إنما يكون في الدعاء العام، وما ورد الدليل على مشروعية رفع اليدين فيه، كرفع اليدين في الدعاء عند الصفا والمروة، وفي الاستسقاء يوم الجمعة ونو ذلك، لأن هناك أدعية لا ترفع فيها الأيدي مثل دعاء دخول المنزل، والخروج منه، ودخول الخلاء، والخروج منه.
{تنبيه}: (عند رفع اليدين بالدعاء يكون باطن الكف إلى السماء على صفة الطالب المتذلل الفقير المنتظر أن يُعْطَى (حديث مالك بن يسار رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها.
مسألة: هل يضم يديه عند رفعهما أو يجعل بينهما فرجة؟
نص الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "الشرح الممتع" (4/ 25) أنها تكون مضمومة. ونص كلامه: " وأما التفريج والمباعدة بينهما فلا أعلم له أصلا لا في السنة ولا في كلام العلماء " انتهى.
(4) حمد الله والثناء على الله قبل الدعاءِ، والصلاة على النبي:
__________
(1) البخاري (3960) المغازي، باب دعاء النبي"على كفار قريش.(8/390)
(حديث فضالة ابن عُبيد في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله تعالى و الثناء عليه ثم ليصل على النبي ثم ليدع بعد بما شاء.
(حديث عمر في صحيح الترمذي موقوفاً) قال: إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء إلى السماء حتى تصلي على نبيك - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في الأذكار ص 176:
(أجمع العلماء على استحباب ابتداء الدعاء بالحمد لله تعالى والثناء عليه، ثم الصلاة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك تختم الدعاء بهما، والآثار في هذا الباب كثيرة مرفوعة).
واعلم بأن الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها ثلاث مراتب:
" إحداها: أن يُصلى عليه قبل الدعاء، وبعد حمد الله تعالى لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(حديث فضالة ابن عُبيد في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله تعالى و الثناء عليه ثم ليصل على النبي ثم ليدع بعد بما شاء.
(حديث عمر في صحيح الترمذي موقوفاً) قال: إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء إلى السماء حتى تصلي على نبيك - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والمرتبة الثانية: أن يُصلى عليه في أول الدعاء وأوسطه وآخره.
والمرتبة الثالثة: أن يصلى عليه في أوله وآخره، ويجعل حاجته متوسطة بينهما "انتهى كلام ابن القيم بتصرف من كتاب جلاء الأفهام ص 531
(5) الدعاء باسم الله الأعظم:
(6) الإقرار بالذنب، والاعتراف بالخطيئة:
ولذلك فإن دعاء يونس _ عليه السلام_ من أعظم الأدعية إن لم يكن أعظمها، وما ذلك إلا لأنه ضمنه اعترافه بوحدانية الله _ عز وجل _ وإقراره بالذنب والخطيئة والظلم للنفس، كما قال_تعالى _ عنه: قال تعالى: (فَنَادَىَ فِي الظّلُمَاتِ أَن لاّ إِلََهَ إِلاّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّي كُنتُ مِنَ الظّالِمِينَ) [الأنبياء / 87]
وكذلك الحال بالنسبة للدعاء العظيم المسمى بسيد الاستغفار، والذي يعد أفضل صيغ الاستغفار، ومن أسباب أفضليته أنه تضمن الإقرار بالذنب، والاعتراف بالخطيئة،(8/391)
(حديث شداد بن أوس في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سيدُ الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني و أنا عبدك و أنا على عهدك و وعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي و أبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت من قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة و من قالها من الليل و هو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة.
(7) الجزم في الدعاء، والعزم في المسألة:
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شيءت اللهم ارحمني إن شيءت اللهم ارزقني إن شئت و ليعزم المسألة فإنه يفعل ما يشاء لا مكره له.
[*] قال الشيخ عبد الرحمن آل الشيخ:
"بخلاف العبد؛ فإنه قد يعطي السائل مسألته لحاجته إليه، أو لخوفه أو رجائه، فيعطيه مسألته وهو كاره، فاللائق بالسائل للمخلوق أن يعلق حصول حاجته على مشيئة المسئول، مخافة أن يعطيه وهو كاره، بخلاف رب العالمين؛ فإنه تعالى لا يليق به ذلك لكمال غناه عن جميع خلقه، وكمال جوده وكرمه، وكلهم فقير إليه، محتاج لا يستغني عن ربه طرفة عين، فاللائق بمن سأل الله أن يعزم المسألة، فإنه لا يعطي عبده شيئاً عن كراهة، ولا عن عظم مسألة" - فتح المجيد (ص 471) بتصرف يسير.
(8) يعظم الرغبة فإن الله تعالى لا يتعاظمه شيء أعطاه:
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إذا دعا أحدكم فليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه.
(9) الإلحاح بالدعاء:
الإلحاح: الإقبال على الشيء ولزوم المواظبة عليه، يقال: ألحَّ السحابُ: دام مطره، وألحَّت الناقة: لزمت مكانها، وألحَّ الجمل: لزم مكانه وحَرَن، وألحَّ فلان على الشيء: واظب عليه، وأقبل عليه (1).
فالعبد يكثر من الدعاء، ويكرره، ويلحُّ على الله بتكرير ربوبيته وإلهيته، وأسمائه وصفاته، وذلك من أعظم ما يطلب به إجابة الدعاء، والإلحاح من الآداب الجميلة، التي تدل على صدق الرغبة فيما عند الله _ عز وجل، فكن ملحاحاً في دعائك، راجياً عفو ربك، طالباً مغفرته، راغباً في جنته ونعيمه، طامعاً في عطائه وغناه فهو سبحانه يستحي أن يرد عبده خائباً إذا سأله.
__________
(1) انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 4/ 236، والمصباح المنير ص550، والقاموس المحيط ص306.(8/392)
[*] وقال ابن القيم رحمه الله في "الداء والدواء" ص 25:
ومن أنفع الأدوية: الإلحاح في الدعاء اهـ.
(الإلحاح على الله عز وجل بتكرير ذكر ربوبيته، وهو من أعظم ما يُطلب به إجابةُ الدعاء، للحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا فقال تعالى (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم) وقال (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك.
(مستفاداً من قوله (يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب).
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة، من باب كان نحو دار القضاء، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائما، ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله يغثنا. فرفع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يديه، ثم قال: (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا). قال أنس: ولا والله، ما نرى في السماء من سحاب، ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار. قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت. فلا والله ما رأينا الشمس ستا. ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة - يعني الثانية - ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائم يخطب، فاستقبله قائما، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها عنا. قال: فرفع رسول الله يديه، ثم قال: (اللهم حولينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب، وبطون الأودية ومنابت الشجر). قال: فأقلعت، وخرجنا نمشي في الشمس.
الشاهد: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا).
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دعا دعا ثلاثا وإذا سأل سأل ثلاثا.(8/393)
(وقال ابن كثير في وصف حال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة بدر: بات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى جذع شجرة ويكثر في سجوده أن يقول: يا حي يا قيوم يكرر ذلك ويلظ عليه الصلاة والسلام بقيام الليل بالبكاء حتى الصباح وهو يقول ” اللهم لا تودع منى، اللهم لا تخذلني، اللهم لا تتركني، اللهم أنشدك ما وعدتني ” يكررها حتى يسقط رداؤه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من وراءه فقال يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك .. فأنزل الله (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال: 9]
[*] وفي كتاب الزهد للإمام أحمد (305) عن قتادة:
قال مورق: ما وجدت للمؤمن مثلاً إلا رجلاً في البحر على خشبة فهو يدعو: يارب ... يارب .. لعل الله أن ينجيه.
[*] قال الأوزاعي: أفضل الدعاء الإلحاح على الله عز وجل والتضرع إليه.
[*] قال أبوالدرداء: من يُكثر قرع الباب، باب الملك يوشك أن يُستجاب له ”.
[*] قال الترمذى: والإلحاح فى الدعاء مما يفتح الإجابة، ويدل على إقبال القلب، ويحصل بتكراره مرتين أو ثلاثاً وأكثر، لكن الاقتصار على الثلاث مرات أعدل إتباعاً للحديث ” شرح سنن النسائي.
(وإنما صار المُلِّحُ محبوباً لأنه لا ينقطع رجاؤه، فهو يسأل فلا يرى إجابة، فلا يزال يُلحُّ ولا ينقطع رجاؤه، ولا يدخله اليأس، فذلك لعلمه بالله تعالى، وصحة قلبه وصدق عبوديته، واستقامة وجهته، فمن صدق الله في دعوته استعمل اللسان، وانتظر القلب مشيئته، فلا يضيق ولا ييأس، لأن قلبه صار معلقا بمشيئته فانتظار المشيئة أفضل ما يَقْدُمُ به على ربه، وهو صفوة العبودية، واستعمال اللسان عبادة لأن في السؤال اعترافاً بأنها له، وانتظار مشيئته لقضائه عبادة فهو بين عبادتين وجهتين وأفضل الدعاء من داوم عليه.
وأهل اليقين يدعون وَيُلِحُّون، فإن أجاب قبلوا، وإن تأخر صبروا، وإن منع رضوا وأحسنوا الظن، وهم في الأحوال سكنون مطمئنون ينتظرون مشيئته ”.
«اللهم اجعلنا من أهل اليقين الذين يدعون ويلحون القابلين بقضاءك الصابرين على بلاءك المحسنين الظن بك الراضين الساكنين المطمئنين المنتظرين دائماً مشيئتك راضين بها.»(8/394)
(إذاً فإذا دعوت ربك مرة أخي عند ضائقة أو كرب أو غير ذلك ولم تجد نتيجة فلا تجزع أو تيأس أو تترك الدعاء ولكن أَلِّحْ على الله فى التضرع والابتهال والدعاء لعل الله جل وعلا يحب سماع صوتك
{تنبيه}: (أما حديث إن الله يحب الملحين في الدعاء ضعفه الألباني رحمه الله في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة المجلد الثاني.
(10) الدعاء ثلاثًا:
كما جاء في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود الطويل، وفيه:=فلما قضى النبي"صلاته _ رفع صوته، ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثلاثًا، ثم قال: اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش. (1)
[*] قال النووي رحمه الله:
فِيهِ: اِسْتِحْبَاب تَكْرِير الدُّعَاء ثَلاثًا. وَقَوْله: (وَإِذَا سَأَلَ) هُوَ الدُّعَاء , لَكِنْ عَطَفَهُ لاخْتِلافِ اللَّفْظ تَوْكِيدًا اهـ.
[*] وقال البخاري رحمه الله:
بَاب تَكْرِير الدُّعَاء، ثم ذَكَرَ فِيهِ حَدِيث عَائِشَة رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا الله تعالى، وكَرَّرَ الدعاء لما سحره لبيد بن الأعصم اليهودي، قالت عائشة: حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ دَعَا ثُمَّ دَعَا. . . الحديث. رواه البخاري (6391) ومسلم (2189) واللفظ له.
__________
(1) مسلم (1794) الجهاد والهجرة، باب ما لقي النبي"من أذى المشركين.(8/395)
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة، من باب كان نحو دار القضاء، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائما، ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله يغثنا. فرفع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يديه، ثم قال: (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا). قال أنس: ولا والله، ما نرى في السماء من سحاب، ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار. قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت. فلا والله ما رأينا الشمس ستا. ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة - يعني الثانية - ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائم يخطب، فاستقبله قائما، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها عنا. قال: فرفع رسول الله يديه، ثم قال: (اللهم حولينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب، وبطون الأودية ومنابت الشجر). قال: فأقلعت، وخرجنا نمشي في الشمس.
الشاهد: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا).
(11) أن يتخير جوامع الدعاء ومحاسن الكلام:
بدلاً من التطويل، والحشو، والتفصيل الذي لا لزوم له فقد كان رسول الله"يستحب الجوامع من الدعاء، ويدع ما سوى ذلك.
(حديث عائشة في صحيح أبي داود) قالت كان رسول الله يستحب الجوامع من الدعاء وَيَدَعُ ما سوى ذلك.
(ومن المعلوم شرعاً أنه لا سبيل إلى تحصيل جوامع الدعاء إلا عن طريق الالتزام بأدعية النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه أُعطي جوامع الكلم كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي موسى في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أُعطيت الكلام وجوامعه وخواتمه.
وفي السنة الصحيحة ما تشتمل على جوامع الكلم بل تشتمل على خيري الدنيا والآخرة، منها ما يلي:
(حديث عائشة في صحيح ابن ماجة) أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمها هذا الدعاء اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله و آجله ما علمت منه و ما لم أعلم و أعوذ بك من الشر كله عاجله و آجله ما علمت منه و ما لم أعلم اللهم إني أسألك من خير ما سألك به عبدك و نبيك و أعوذ بك من شر ما عاذ به عبدك و نبيك اللهم إني أسألك الجنة و ما قرب إليها من قول أو عمل و أعوذ بك من النار و ما قرب إليها من قول أو عمل و أسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيرا.(8/396)
(حديث عمار ابن ياسر في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو بهذا الدعاء اللهم بعلمك الغيب و قدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي و توفني إذا علمت الوفاة خيرا لي، اللهم وأسألك خشيتك في الغيب و الشهادة و أسألك كلمة الحق في الرضا و الغضب و أسألك القصد في الفقر و الغنى و أسألك نعيما لا ينفد و قرة عين لا تنقطع و أسألك الرضا بالقضاء و أسألك برد العيش بعد الموت و أسألك لذة النظر إلى وجهك و الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة و لا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان و اجعلنا هداة مهتدين.
(حديث أبي هريرة في صحيح أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني وزدني علماَ.
{تنبيه}: (مما يجب التنبيه عليه اَلتَّفْصِيلُ الزائد في اَلْدُّعَاءِ (كَثْرَةُ اَلألْفَاظِ) من صور الاعتداء في الدعاء:
(حديث أبي نَعَامَةَ الثابت في صحيح أبي داود) عن ابن لِسَعْدٍ أنه قال: سَمِعَنِي أبِي وَأنَا أقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا وَبَهْجَتَهَا وَكَذَا وَكَذَا وَأعُوذُ بِكَ مِنْ النَّارِ وَسَلاسِلِهَا وَأغْلالِهَا وَكَذَا وَكَذَا فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ " فَإِيَّاكَ أنْ تَكُونَ مِنْهُمْ، إنَّكَ إِنْ أعْطِيتَ الْجَنَّةَ أعْطِيتَهَا وَمَا فِيهَا مِنْ الْخَيْرِ، وَإنْ أعِذْتَ مِنْ النَّارِ أعِذْتَ مِنْهَا وَمَا فِيهَا مِنْ الشَّرِّ.
[*] قال ابن تيمية (1):
الدُّعَاءُ ليس كُلُّهُ جائزاً، بل فيه عُدْوَانٌ مُحَرَّم، والمَشْرُوعُ (2) لا عُدْوَانَ فيه، وأن العُدْوَانَ يَكُونُ تَارَة ًبِكَثْرَةِ الألْفَاظِ، وتَارَةً في المَعَانِي، كما فَسَّرَ الصحابة ذلك 000 ثم أورد الأحاديث المذكورة سابقاً 0
[*] قال في عون المعبود بشرح سنن أبي داود:
__________
(1) الفتاوى، ج 22، ص 277 0
(2) أي الوارد في القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبوية المطهرة 0(8/397)
الْجَامِعَة لِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَة وَهِيَ مَا كَانَ لَفْظه قَلِيلاً وَمَعْنَاهُ كَثِيرًا، كما في قوله تعالى {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الآخِرَة حَسَنَة وَقِنَا عَذَاب النَّار} ومِثل الدُّعَاء بِالْعَافِيَةِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة (1)
(فمن صور الاعتداء تَكْثِيرُ الكلام الذي لا دَاعِيَّ له ولا حاجة إليه، والتَّكَلِِّفِ في ذِكْرِ التَّفَاصِيلِ، كأن يدعو ربَّهُ أن يرحمه إذا وُضِعَ في اللحد تحت التراب والثرى، وكذلك أن يرحمه إذا سالت العيون وبليت اللحوم، وأن يرحمه إذا تركه الأصحاب وتولى عنه الأهل والأحباب (2)، أو يدعو على عدوه أن يُخْرِسَ الله لسانه ويُشِلَّ يده، ويُجَمِدَ الدَّمَ في عُرُوقِه000 0
ومما لا شك فيه أن النتيجة الطبيعية لهذا الاعتداء هو إصابة اَلْمُصَلِينَ بِاَلْمَلَلِ، والملل يُذْهِِبُ التَّدَبُرَ والخُشُوعِ ويُوِديِ بِاَلْمُصَلِي إلى الغَفْلَةِ، وهي حالة مَنْهِيٌّ عنها إذ لا تتناسب ومقام التَّذَلُّلِ والطَّلَبِ من الله تعالى اَلْمُطَّّلِعِ على أحوال النُّفُوسِ وما تُكِنُّهُ الصُّدُورِ 0
فَاَلإطَالَةِ اَلْمُمِلَّةِ تُرْهِقُ اَلْمُصَلِي وَتُصِيبُهُ بَاَلْمَلَلِ وَاَلْغَفْلَةِ، وَقَدْ وَرَدَ نَهْيُ اَلْغَافِلَةُ قُلُوبُهُمُ عَنْ اَلْدُّعَاءِ:
(وكذلك يتخير لدعائه أحسن الألفاظ وأنبلها، وأجمعها للمعاني بما يليق بمناجاة الله تعالى: [*] قال الخطابي رحمه الله تعالى: ولْيَتَخَيَّرْ لدعائه، والثناء على ربه أحسن الألفاظ، وأنبلها، وأجمعها للمعاني؛ لأنه مناجاة العبد سَيِّدَ السادات، الذي ليس له مثل، ولا نظير. (3)
، ولا سبيل إلى تحصيل ذلك أيضاً إلا في الالتزام بأدعية النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه أعلم الناس بربه وأخشاهم له، وأعظمهم ثناءاً على ربه سبحانه، ومن السنة النبوية الكثير من ذلك منها منا يلي:
__________
(1) يشير إلى الحديث الشريف: " اسألوا الله العفو والعافية فإن أحدا لم يُعْطَ بعد اليقين خيرا من العافية ... "0 (رواه الترمذي، أنظر صحيح الترمذي رقم 2821) والعفو معناه التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه، والعافية: أن تسلم من الأسقام والبلايا وهو ضد المرض0
(2) ويكفيه أن يدعوا بالرَّحمة عند الممات 0
(3) شأن الدعاء ص15.(8/398)
(حديث أبي سعيدٍ في صحيح مسلم) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رفع رأسه من الركوع قال: ربنا لك الحمد ملئ السموات والأرض وما بينهما وملئ ما شيءت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحقُ ما قال العبد وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا مُعطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
(حديث علي في صحيح أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في آخر وتره: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك و بمعافاتك من عقوبتك و أعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
(حديث ابن عباس في الصحيحين) قال كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا تهجد من الليل قال: اللهم لك الحمد أنت قيمُ السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق، والنبيون والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وأخرت وأسررت وأعلنت أنت المقدِّم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت.
(12) أن يقدم بين يدي دعائه عملاً صالحًا:
أن يقدم بين يدي دعائه عملاً صالحًا: كأن يتصدق، أو يحسن إلى مسكين، أو يصلي ركعتين، أو يصوم، أو غير ذلك؛ ليكون هذا العمل وسيلة إلى الإجابة.
فإن نبي الله يونس عليه السلام لم يزل يرفع له عمل صالح ودعوة مستجابة.
(فيجئ الجواب الإلهي له:
(فَلَوْلاَ أَنّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ)
[الصافات 143، 144]
(أتاه الجواب بالنجاة (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجّيْنَاهُ مِنَ الْغَمّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ)
[الأنبياء / 88]
[*] قال الحسن البصري:
"ما كان ليونس صلاة في بطن الحوت, ولكن قدم عملاً صالحًا في حال الرخاء فذكره الله في حال البلاء, وإن العمل الصالح ليرفع صاحبه فإذا عثر وجد متكأً".
{تنبيه}: (هنا نذكر قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعلُ المعروف يقي مصارع السوء.
(حديث أبي سعيد الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (صدقةُ السر تُطفئُ غضب الرب، وصلةُ الرحم تزيدُ في العمر، وفعلُ المعروف يقي مصارع السوء)(8/399)
ويدل على ذلك حديث الثلاثة الذي انطبقت عليهم الصخرة في الغار؛ فإن النبي"حكى عنهم أن كل واحد منهم توسل بأعظم أعماله التي عملها لله _ عز وجل _ فاستجاب الله دعاءهم، وارتفعت عنهم الصخرة، وكان ذلك بحكايته"سنة لأمته.
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم، حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فناء بي في طلب شيء يوما، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي، فأدرتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله أد إلي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون).
[*] قال وهب بن منبة (رحمة الله):
العمل الصالح يبلغ الدعاء، ثم تلا قوه تعالى: (اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) [فاطر /10].
[*] وقال بعضهم: يستحب لمن وقع في شدة أن يدعو بصالح عمله.(8/400)
{تنبيه}: (التوسل بالاعمال الصالحة لا يتحقق الا أهل الطاعات ... الذين اضاءت انوار الصالحات من صحائفهم. فاؤلئك هم الذين اذا توسلوا الى الله تعالى باعمالهم الصالحة قبل توسلهم وكان العمل الصالح خير شفيع لهم. .
[*] قال وهب بن منبه:
مثل الذي يدعو بغير عمل كمثل الذي يرمي بغير وتر.
(13) يتوسل إلى الله تعالى بأنواع التوسل المشروعة:
والوسيلة لغة: القربة، والطاعة، وما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به إليه. يقال: وسَّل فلان إلى الله تعالى توسيلاً: عمل عملاً تقرب به إليه. ويقال: وسَلَ فلان إلى الله تعالى بالعمل يَسِلُ وَسْلاً وتوسُّلاً وتوسيلاً: رغب وتقرب إليه. أي: عمل عملاً تقرب به إليه (1).
[*] قال الراغب الأصفهاني:
الوسيلة: التوصل إلى الشيء برغبة، وهي أخص من الوصيلة لتضمُّنها معنى الرغبة، قال تعالى: {وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة /35]
وحقيقة الوسيلة إلى الله تعالى مراعاة سبيله بالعلم، والعبادة، وتحري مكارم الشريعة. وهي كالقربة، والواسِلُ: الراغب إلى الله تعالى (2).
ومعنى قوله تعالى: {وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه (3).
النوع الأول: التوسل في الدعاء باسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته، كأن يقول الداعي قي دعائه: اللهم إني أسألك بأنك أنت الرحمن الرحيم، اللطيف الخبير، أن تعافيني، أو يقول: أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن ترحمني وتغفر لي، ولهذا قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف /180]
ومن دعاء سليمان عليه الصلاة والسلام ما قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} ... [النمل /19]
__________
(1) انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 5/ 185، والقاموس المحيط ص1379، والمصباح المنير ص660.
(2) مفردات غريب ألفاظ القرآن ص871.
(3) تفسير ابن كثير 2/ 53، وانظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص5 - 160. والتوسل أنواعه وأحكامه للشيخ الألباني، ص8 - 156.(8/401)
(حديث أنس في صحيح السنن الأربعة) قال سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.
(حديث بريدة في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا يقول: اللهم إني أسألك أني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.
(حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوة ذي النون إذ دعا بها و هو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له.
(وذو النون: هو نبي الله يونس _ عليه السلام _،
(والنون: الحوت.
فهذا سيدنا يونس عليه السلام ألقي في اليم فالتقمه الحوت وأسدل الليل البهيم ستاره المظلم عليه، فالتجأ إلى الله {أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، فأنجاه الله، حتى إذا خرج إلى شاطئ السلامة، تلقفته يد الرحمة الإلهية والعناية الربانية فأظلته تحت شجرة اليقطين.
قال تعالى {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87 - 88].
{تنبيه}: (هذا الدعاء من أعظم أنواع الدعاء، لاشتماله على الآتي:
أولاً: على توحيد الله (لا إله إلا أنت)
وهو أعظم وسيلة إلى الله تعالى، وأعظم طاعة وأعظم وقربة.
ثم ثنى بالتنزيه (سبحانك) تنزيه الله عما لا يليق به عز وجل، فكل ما يفعل، وكل ما يقدر فله فيه الحكمة البالغة، فهو منزه عما لا يليق بجلاله وكماله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعظيم شأنه.
ثم ثلث ببيان عجزه وضعفه وفقره وظلمه لنفسه، وهكذا كل عبد بالنسبة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ينبغي له أن يكون كذلك إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87](8/402)
النوع الثاني: التوسل إلى الله تعالى بعملٍ صالح قام به الداعي، كأن يقول المسلم: اللهم بإيماني بك، أو محبتي لك، أو اتباعي لرسولك أن تغفر لي.
أو يقول: اللهم إني أسألك بمحبتي لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإيماني به أن تفرج عني. ومن ذلك أن يذكر الداعي عملاً صالحاً ذا بال، فيه خوفه من الله سبحانه، وتقواه إياه، وإيثاره رضاه على كل شيء، وطاعته له جل شأنه، ثم يتوسل به إلى الله في دعائه، ليكون أرجى لقبوله وإجابته.
ويدل على مشروعية ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران /16]
وقوله تعالى: {رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}
[آل عمران /53]
ومن ذلك ما تضمنته قصة أصحاب الغار فإن كلاً منهم ذكر عملاً صالحاً تقرب به إلى الله ابتغاء وجهه سبحانه، فتوسل بعمله الصالح فاستجاب الله له.(8/403)
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم، حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فناء بي في طلب شيء يوما، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي، فأدرتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله أد إلي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون).
النوع الثالث: التوسل إلى الله تعالى بدعاء الرجل الصالح الحي الحاضر:
كأن يقع المسلم في ضيق شديد، أو تحل به مصيبة كبيرة، ويعلم من نفسه التفريط في جنب الله تبارك وتعالى، فيحب أن يأخذ بسبب قوي إلى الله تعالى، فيذهب إلى رجل يعتقد فيه الصلاح، والتقوى، أو الفضل والعلم بالكتاب والسنة فيطلب منه أن يدعو له ربه، ليفرج عنه كربه، ويزيل عنه همه. ومن ذلك الحديث الآتي:(8/404)
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال أصابت الناس سنة على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب على المنبر يوم الجمعة قام أعرابي فقال يا رسول الله هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا أن يسقينا قال فرفع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه وما في السماء قزعة قال فثار سحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته قال فمطرنا يومنا ذلك وفي الغد ومن بعد الغد والذي يليه إلى الجمعة الأخرى فقام ذلك الأعرابي أو رجل غيره فقال يا رسول الله تهدم البناء وغرق المال فادع الله لنا فرفع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه وقال اللهم حوالينا ولا علينا قال فما جعل يشير بيده إلى ناحية من السماء إلا تفرجت حتى صارت المدينة في مثل الجوبة حتى سال الوادي وادي قناة شهرا ولم يجيء أحد من ناحية إلا حدث بالجود.
ومن ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يطلب من العباس عم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدعو لهم الله عز وجل أن يغيثهم فيغيثهم سبحانه.
(حديث عمر ابن الخطاب الثابت في صحيح البخاري) قال: كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا قال فيسقون.
ومن ذلك حديث أويس القرني الآتي:
(حديث عمر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل.
(14) الطموح وعلو الهمة:
فمن الآداب التي يحسن بالداعي أن يتحلى بها _ أن يكون طموحًا، ذا نفس كبيرة، وهمة عالية، راغبًا فيما عند الله من عظيم الثواب.
ويومىء إلى هذا المعنى _ دعاء نبي الله سليمان _ عليه السلام _ عندما قال _ كما أخبر الله عنه قال تعالى: (رَبّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاّ يَنبَغِي لأحَدٍ مّن بَعْدِيَ إِنّكَ أَنتَ الْوَهّابُ) [ص / 35]
فنبي الله سليمان _ عليه السلام _ حصل منه ما حصل عندما آلى أن يطوف على نسائه جميعًا؛ لتلد كل واحدة منهن مجاهدًا يجاهد في سبيل الله، ولم يستثنِ _ عليه السلام _ ولم يقل: إن شاء الله. (1)
__________
(1) انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/ 35_39.(8/405)
وعندما أدرك ما وقع فيه لم يكتف بأن يسأل الله المغفرة فحسب، ولكنه _ لكبر نفسه، وعلو همته، وعلمه بسعة فضل ربه _ سأله مع ذلك أن يهب له ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده!
فماذا كانت النتيجة؟
لقد استجاب الله دعاءه، وسخر له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، والشياطين كل بناء وغواص، وآخرين مقرنين في الأصفاد، ثم قال تعالى: (هََذَا عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىَ وَحُسْنَ مَآبٍ) [ص 39، 40]
وعلو الهمة موضوع غاية في الأهمية يجب على كلِ مسلم أن يحيط به علماً وهاك غيضٌ من فيض مما ورد في علو الهمة ومسائلة:
(تعريف علو الهمة:
الهمة في اللغة: ما هم به من الأمر ليفعل.
الهمة في الاصطلاح: الباعث على الفعل، وعرف بعضهم علو الهمة بأنه: استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور.
قال الشاعر مصوراً طموح المؤمن
إذا كنت في أمر مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم
[*] وعرف ابن القيم علو الهمة بقوله:
"علو الهمة ألا تقف ـ أي النفس ـ دون الله وألا تتعوض عنه بشيء سواه ولا ترضى بغيره بدلاً منه ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به والفرح والسرور والابتهاج به بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية، فالهمة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور لا يرضى بمساقطهم ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم، فإن الهمة كلما علت بعدت عن وصول الآفات إليها، وكلما نزلت قصدتها الآفات"
(الحث على علو الهمة والتحذير من سقوطها:
[*] قال الخليفة عمر الفاروق رضي الله عنه:
"لا تصغرنّ همتك فإني لم أر أقعد بالرجل من سقوط همته"
[*] وقال ابن القيم: "لا بد للسالك من همة تسيره وترقيه وعلم يبصره ويهديه"
[*] وقال ابن نباتة رحمه الله:
حاول جسيمات الأمور ولا تقل ... إن المحامد والعلى أرزاق
وارغب بنفسك أن تكون مقصرا ... عن غاية في الطلاب سباق
[*] (قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه صيد الخاطر:
من علامة كمال العقل: علو الهمة! و الراضي بالدون دنيء!!
و لم أر في عيوب الناس عيباً ... كنقص القادرين على التمام
(أقسام الهمة:
تُقَسَّم الهمة تقسيمين فتقسم من حيث الرفعة وضدها إلى عالية وساقطة.
وتقسم من حيث الاستعداد الفطري إلى وهبية ومكتسبة.
وليس معنى أن منها ما هو فطري أنها لا سبيل لزيادة رفعتها بل هي مثل باقي الصفات العقلية والخلقية كالذكاء والذاكرة وحسن الخلق.
[*] قال ابن القيم:(8/406)
"وقد عرفت بالدليل أن الهمة مولودة مع الآدمي، وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات فإذا حثثت سارت ومتى رأيت في نفسك عجزاً فَسَلِ المنعم أو كسلاً فالجأ إلى الموفق، فلن تنال خيراً إلا بطاعته، ولن يفوتك خير إلا بمعصيته"
(مراتب الهمم:
(حديث أبي كبشة الأنماري الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَحسنِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْماً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الأجرِ سَوَاءٌ، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً فَهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ لاَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلاَ يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فهو بِأَسوءِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلاَ عِلْماً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الوزر سَوَاءٌ.
وعلى نحو هذا التقسيم والتمثيل النبوي ينقسم الناس وتتفاوت منازلهم في الهمة:
(1) منهم من يطلب المعالي بلسانه وليس له همة في الوصول إليها ويصدق عليه قول الشاعر:
وما نيل المطالب بالتمني ... ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
(2) ومنهم من لا يطلب إلا سفاسف الأمور ودناياها ويجتهد في تحصيلها، وهذا -إن اهتدى- يكون سباقاً للخيرات: "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا".
(3) وفريق ساقط الهمة يهوى سفاسف الأمور ويقعد به العجز عنها، فهو من سقط المتاع وهو كمن وصف الشاعر:
إني رأيت من المكارم حسبكم ... أن تلبسوا خز الثياب وتشبعوا
فإذا تذكرت المكارم يوما ... في مجلس أنتم به فتقنعوا
(4) وأعلى الهمم همة من تسمو مطالبه إلى ما يحبه الله ورسوله فهنيئاً له ومن أمثالهم الأسلمي وعكاشة بن محصن وبين كل مرتبتين مراتب كثيرة تتفاوت فيها الناس تفاوتاً بينا.
وإذا استعرضنا التاريخ نجد أن العلية من الناس والقادة الذين تركوا أثرهم في التاريخ هم أصحاب الهمم العالية.
(نماذج من الصحابة لعلو الهمة:
(1) ربيعة ابن كعب الأسلمي: الذي سأل النبي مرافقته في الجنة.(8/407)
(حديث ربيعة ابن كعب الأسلمي الثابت في صحيح مسلم) كنت آتي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوضوئه وحاجته فقال لي سلني فقلت أسألك مرافقتك في الجنة قال أو غير ذلك قلت هو ذاك قال فأعنى على نفسك بكثرة السجود.
(حديث ربيعة ابن كعب الأسلمي الثابت في صحيح مسلم) كنت آتي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوضوئه وحاجته فقال لي سلني فقلت أسألك مرافقتك في الجنة قال أو غير ذلك قلت هو ذاك قال فأعنى على نفسك بكثرة السجود.
(2) عكاشة بن محصن بادر فقال: "الذي سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يكون من السبعين ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب.
(حديثُ ابن عباس في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: عُرِضت عليَّ الأمم فجعل يمرُ النبي معه الرجل والنبيُ معه الرجلان والنبي معه الرهط والنبي ليس معه أحد، ورأيتُ سواداً كثيراً سدَّ الأفق فرجوتُ أن تكون أمتي فقِيل هذا موسى وقومه، ثم قِيل ليَ انظر هكذا وهكذا فرأيتُ سواداً كثيراً سدَّ الأفق فقِيل هؤلاء أمتُك ومع هؤلاءِ سبعون ألفاً يدخلون الجنةَ بغيرِ حساب فتفرَّقَ الناسُ ولم يبينْ لهم، فتذاكرَ أصحابُ النبيِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا نحن وُلدنا في الشرك ولكن هؤلاء أبناؤنا، فبلغ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال {هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون} فقام عُكَّاشةُ ابن مِحصن فقال: أمنهم أنا يا رسولَ الله؟ قال: أنت منهم، فقام آخر فقال أمنهم أنا؟ قال: سبقك بها عُكَّاشة.
(حديث أَبَي أُمَامَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وعدني ربى أن يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِى سَبْعِينَ أَلْفاً لاَ حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلاَ عَذَابَ مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفاً وَثَلاَثُ حَثَيَاتٍ مِنْ حَثَيَاتِ ربيِ».
(3) أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه:
لعلوهِمَّتُهُ أراد يفعل أبواب الخير كلها ولا يقنع ببعضها دون الأخرى وذلك لأن نفسه التي بين جنبيه نفسٌ توَّاقةٌ للخير، فقد بلغت همَتُه عنان السماء وصار غارقاً في على الهمةِ إلى الأذقان، ولا عجب فإنه الصِّدِّيق صاحب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأفضل الأمة بع نبيها - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
"ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة فهل يدعي أحد من تلك الأبواب كلها، قال نعم وأرجوا أن تكون منهم.(8/408)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أنفق زوجين في سبيل الله، نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي وأمي يا رسول الله، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟. قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم.
من أنفق زوجين: اللَّهِ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ اثْنَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَدِرْهَمَيْنِ أَوْ دِينَارَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ دِينَارٌ وَدِرْهَمٌ وَمَعْنَى ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ أَقَلُّ مَا يَقَعُ بِهِ التَّكْرَارُ مِنَ الْعِبَادَةِ وَمَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ الْعَمَلَ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَنْ صَلَّى صَلَاتَيْنِ أَوْ صَامَ يَوْمَيْنِ أَوْ جَاهَدَ مَرَّتَيْنِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْإِنْفَاقِ فِيمَا قَدَّمْنَاهُ أَظْهَرُ وَلَفْظُ الْجِهَادِ وَالْغَزْوِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَظْهَرُ.
(نُودِيَ فِي الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ) يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ أَعَدَّهُ اللَّهُ لَك فَأَقْبِلْ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ هَذَا خَيْرُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ لَك لِأَنَّهُ فِي الْخَيْرِ وَالثَّوَابِ الَّذِي أُعِدَّ لَك.
فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ وَمَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ أَغْلَبَ أَعْمَالِهِ وَأَكْثَرَهَا وَقَدْ تَغْلِبُ عَلَى عَمَلِ الرَّجُلِ الصَّلَاةُ فَتَكُونُ أَكْثَرَ أَعْمَالِهِ وَيَغْلِبُ عَلَى أَعْمَالِهِ الصَّوْمُ فَيَكُونُ أَكْثَرَ أَعْمَالِهِ وَكَذَلِكَ الْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ فَمَنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَى عِبَادَتِهِ نَوْعٌ مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ نُودِيَ مِنْ الْبَابِ الْمُخْتَصِّ بِهِ(8/409)
(يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى مَنْ يُدْعَى مِنْ هَذِهِ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ ضَرُورَةٌ فِي أَنْ يُدْعَى مِنْ غَيْرِهَا وَأَنَّ الدُّعَاءَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهَا يَكْفِي فِي التَّنَاهِي فِي الْخَيْرِ وَسَعَةِ الثَّوَابِ لَكِنَّهُ مَعَ مَا فِي الدُّعَاءِ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَبْوَابِ مِنْ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ هَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ جَمِيعِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ الْخَيْرِ وَأَوْسَعُ مِنْ إنْعَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَنْ أَطَاعَهُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ وَمَنْ دُعِيَ مِنْ هَذِهِ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَهُ إِنَّ دُخُولَك مِنْ هَذَا الْبَابِ أَفْضَلُ مِنْ دُخُولِك عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَلَكِنَّهُ يُدْعَى بِأَنْ يُقَالَ لَهُ إِنَّ لَك هَاهُنَا خَيْرًا وَعَدَهُ اللَّهُ لَك لِعِبَادَتِك الْمُخْتَصَّةِ بِالدُّخُولِ عَلَى هَذَا الْبَابِ أَوْ لِعِبَادَتِك الَّتِي هِيَ سَبَبُ أَنْ تُدْعَى مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(وسؤال أبى بكر يريد به شخصا اجتمعت فيه خصال الخير من صلاة وصيام وصدقة وجهاد ونحو ذلك، بحيث يدعى من جميع تلك الأبواب.
[*] (أسباب المؤدية لعلو الهمة:
(1) الإخلاص:
فنسيان رؤية المخلوقين بدوام النظر إلي الخالق تبارك وتعالى يحث على الأخذ بمعالي الأمور؛ لأن الناقد بصير.
[*] يقول الإمام بن القيم رحمه الله:
لقاح الهمة العالية: النية الصالحة، فإذا اجتمعا بلغ العبد المراد.
(2) الصدق:
فالصادق في عزمه وفي فعله صاحب همة عالية وبصدقه في العزم والفعل يسعد في الدارين، فصدق العزيمة الجزم وعدم التردد، وصدق الفعل هو بذل الجهد واستفراغ الوسع لتحقيق ما عزم عليه، فيأمن صاحب العزم الصادق من ضعف الهمة والإرادة، و يمنعه صدقه في الفعل من الكسل والفتور.
(3) العلم:
فمن استوى عنده العلم والجهل، أو كان قانعا بحاله وما هو عليه، فكيف تكون له همة أصلا؟ فالعلم يرتقي بالهمة، ويرفع طالبه عن حضيض الجهل والتقليد ويصفي نيته.(8/410)
" والعلم يورث صاحبه الفقه بمراتب الأعمال، فتبقى فضول المباحات التي تشغله عن التعبد – كفضول الأكل والنوم – ويراعي التوازن والوسطية بين الحقوق والواجبات، امتثالا لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أعط كل ذي حقه حقه".
ويبصره بتحيل إبليس وتلبيسه عليه، كي يحول بينه وبين ما هو أعظم ثوابا ". (علو الهمة للشيخ محمد إسماعيل).
[*] قال ابن القيم رحمه الله:
إن السالك على حسب علمه بمراتب الأعمال ونفائس الكسب، تكون معرفته بالزيادة والنقصان في حاله وإيمانه.
(4) اليقظة والمسارعة:
بحيث يفارق العبد بيقظته جموع الغافلين، ويعرض عن أفعال الجاهلين ويخلع ثوب النوم والرقاد، فلا يقر له قرار حتى يسكن في جنة عرضها السموات والأرض:
فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيَّمُ
ولكننا سبيُ العدو فهل ترى نعود إلي أوطاننا ونُسَلَّمُ
فلا ينبغي لمن أراد الارتقاء بهمته أن يرتمي في أحضان الغافلين وإلا عضّ أسنة الندم.
دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذا الجوشن الضبابي بعد بدر إلى الإسلام، فقال: "هل لك إلى أن تكون من أوائل هذا الأمر؟ ". قال: لا. قال: "فما يمنعك منه؟ ". قال: رأيت قومك كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، فأنظر: فإن ظهرت عليهم آمنت بك واتبعتك، وإن ظهروا عليك لم أتبعك .. فكان ذو الجوشن يتوجع على تركه الإسلام حين دعاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذا ما علا المرء رام العلا ويقنع بالدون من كان دونا
(5) الحزم وعدم التردد:
فإن التردد يفوِّت على العبد الفوز بالخيرات، ويبقيه في مكانه في الوقت الذي يسير فيه الركب فيصل الحازم إلى مبتغاه،
وصدق القائل:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تترددا
وقال آخر:
ومشتت العزمات ينفق عمره حيران لا ظفرٌ ولا إخفاق
فلا تتوقف مترددا أو قلقا، ولا تضيع نفسك بالشكوك التي لا تلد إلا الشكوك، واستمع إلى قال تعالى: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتَوَكّلِينَ) [آل عمران / 159]
قال تعالى: (فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُواْ اللّهَ لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ) [محمد / 21]
(6) معرفة قيمة النفس وشرفها:(8/411)
وليس المقصود بهذا أن يغتر العبد أو يعجب بنفسه ويتكبر، إنما المقصود أن يعلم أنه في الخليقة شيء آخر لا يشبهه أحد، فيحرص على أن يرفع قيمته، ويغلي ثمنه بعمله الصالح، وبعلمه ونبوغه، واطلاعه ومثابرته وبحثه وتثقيف عقله، وصقل ذهنه، وإشعال الطموح في روحه، والنبل في نفسه؛ لتكون قيمته عالية وغالية.
فيا أيها الحبيب، يا من أسجد الله لك ملائكته بالأمس، وجعلهم اليوم في خدمتك، كم من ملك في السماوات ما ذاقوا غمضا ليس لهم رتبة: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع). كم من ملك في السماوات ما ذاقوا طعاما ولا شرابا ليس لهم شرف: "ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ". الملائكة تصلي عليك ما استقمت، وحملة العرش يستغفرون لك، يا هذا فتش عن نفسك، واعرف قدرها تسم بهمتك إلى العظيم.
(7) الدعاء:
وإنما جعلناه خاتمة الأسباب التي نتحدث عنها في هذا المقال لأنه الباب الأوسع والأقرب للفوز بأنواع الخيرات، وهو باب لا منازع فيه، فإنه ليس شيء أكرم على الله من الدعاء، وإن أعجز الناس من عجز عن الدعاء بنص السنة الصحيحة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أبخل الناس من بخل بالسلام وأعجز الناس من عجز عن الدعاء.
(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ليس شيء أكرم على الله من الدعاء.
فادخل على مولاك من باب الذل والافتقار، وناجه:
إلهي وسيدي ومولاي، أنت أصلحت الصالحين وأعليت هممهم فاجعلنا منهم وألحقنا بهم في عليين.
[*] (ثمرات الهمة العالية:
(1) قيق كثير من الأمور التي يعدها عامة الناس خيالاً يتحقق ومن أمثلة ذلك بناء أمة مؤمنة في الجزيرة العربية التي يشيع فيها الجهل والشرك وذلك في فترة وجيزة، وابن ياسين استطاع أن يقود بعصابة قليلة من أصحابه المربِّيين دولة انتصرت على جيوش الأسبان بعد استشهاده،
(2) الوصول إلى مراتب عليا في العبادة والزهد.
قال معاذ رضي الله عنه على فراش الموت: "اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا ولا طول المكث فيها لجري (لعله لكري) الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن كنت أحب البقاء لمكابدة الليل الطويل وظمأ الهواجر في الحر الشديد ولمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر" ... .
(3) البعد عن سفاسف الأمور ودناياها:(8/412)
لما فرَّ عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس من العباسيين أهديت إليه جارية جميلة فنظر إليها وقال: "إن هذه من القلب والعين بمكان وإن أنا اشتغلت عنها بهمتي فيما أطلبه ظلمتها، وإن اشتغلت بها عن ما أطلبه ظلمت همتي، ولا حاجة لي بها الآن وردها على صاحبها".
(4) صاحب الهمة العالية يُعْتَمَدُ عليه وتناط به الأمور الصعبة وَتُوكَلُ إليه:
وهذا أمر مشاهد معروف فإن المديرين والرؤساء عادة يطمحون للعمل مع صاحب الهمة العالية ويستعدون للتضحية معه حتى ولو كلفهم ذلك الكثير. وقد قيل: "ذو الهمة وإن حط نفسه تأبى إلا العلو، كالشعلة من النار يخفيها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعاً".
(5) صاحب الهمة العالية يستفيد من حياته أعظم استفادة وتكون أوقاته مثمرة بناءة.
[*] وقال الإمام ابن عقيل الحنبلي:
إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة وبصري عن مطالعة أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح".
[*] وكان الإمام النووي يقرأ كل يوم اثني عشر درساً شرحاً وتصحيحاً، ويقول لتلميذه بارك الله في وقتي.
ويقول د. مَارْدِن: "كل رجل ناجح لديه نوع من الشباك يلتقط به نحاتات وقراضات الزمان، ونعني بها فضلات الأيام والأجزاء الصغيرة من الساعات مما يكنسه معظم الناس بين مهملات الحياة. وإن الرجل الذي يَدَّخِرُ كل الدقائق المفردة وأنصاف الساعات والأعياد غير المنتظرة والفسحات التي بين وقت وآخر، والفترات التي تنقضي في انتظار أشخاص يتأخرون عن مواعيد مضروبة لهم، ويستعمل كل هذه الأوقات ويستفيد منها ليأتي بنتائج باهرة يدهش لها الذين لم يفطنوا لهذا السر العظيم الشأن"
(6) صاحب الهمة العالية قدوة للناس:
(7) تغيير طريقة حياة الشعوب والأفراد:
[*] يقول الشيخ محمد الخضر حسين:
"يسموا هذا الخلق بصاحبه إلى النهايات من معالي الأمور فهو الذي ينهض بالضعيف فإذا هو عزيز كريم، ويرفع القوم من السقوط ويبدلهم بالخمول نباهة وبالاضطهاد حرية وبالطاعة العمياء شجاعة أدبية ... أما صغير الهمة فإنه يَبْصُر بخصومه في قوة وسطوة فيذوب أمامهم رهبة، ويطرق إليهم رأسه حطة ثم لا يَلْبَثُ أن يسير في ركبهم ويسابق إلى حيث تحط أهواؤهم".
[*] (وسائل ترقية الهمة:
(1) المجاهدة:
قال تعالى: (وَالّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت: 69]
(2) الدعاء الصادق والالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى.
(3) اعتراف الشخص بقصور همته.(8/413)
وهذا يستلزم أيضاً أن لا ينكر أنه قادر على تغيير همته وتطويرها إلى الأحسن.
(4) قراءة سيرة السلف الصالح.
[*] يقول ابن القيم: " ... ولقد نظرت في ثبت الكتب الموقوفة في المدرسة النظامية فإذا هو يحتوي على نحو ستة آلاف مجلد وفي ثبت كتب أبي حنيفة وكتب الحميدي و ... فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم وقدر هممهم وحفظهم وعبادتهم وغرائب علومهم ما لا يعرفه من لم يطالع فصرت أستزري ما الناس فيه وأحتقر همم الطلاب ولله الحمد".
[*] وقال محمد بن علي الأسلمي: قمت ليلة سَحراً لآخذ النوبة على ابن الأَخْرَمِ فوجدت قد سبقني ثلاثون قارئاً ولم تدركني النوبة إلى العصر.
(5) مصاحبة صاحب الهمة العالية.
(6) مراجعة جدول الأعمال اليومي ومراعاة الأولويات والأهم فالمهم.
(7) التنافس والتنازع بين الشخص وهمته.
ومعنى ذلك أن على مريد تطوير همته أن يحمل نفسه أعباءً وأعمالاً يومية لم تكن موجودة في حياته بحيث يحدث نوع من التحدي داخل النفس، ويجب أن تكون هذه الإضافة مدروسة بعناية وإحكام حتى لا يصاب الشخص بالإحباط.
(8) الدأب في تحصيل الكمالات والتشوق إلى المعرفة يقول عمر بن عبد العزيز رحمهُ الله: "إن نفسي تواقة وإنها لم تعط من الدنيا شيئاً إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه ... "
(9) الابتعاد عن كل ما من شأنه الهبوط بالهمة وتضييعها مثل:
أ – كثرة الزيارات للأقارب بدون هدف شرعي صحيح ولا غرض دنيوي فيه فائدة معتبرة.
ب – كثرة الزيارات للأصحاب فيكثر المزاح وتقل الفائدة.
ج – الانهماك في تحصيل المال بدعوى التجارة وحيازة المال النافع للإسلام وأهله، ثم ينقلب الأمر إلى تحصيل محض للدنيا وانغماس فيها.
د – تكليف الموظف نفسه بعملين صباحي ومسائي دون ضرورة لذلك.
هـ - كثرة التمتع بالمباحات.
و – الاستجابة للصوارف الأسرية استجابة كلية أو شبه كلية.
[*] يقول محمد بن حسن موسى:
"وقد دخلت علينا في حياتنا الأسرية كثير من التقاليد الغريبة في أمر الاحتفاء الزائد بالأهل والأولاد ودعوى ضرورة بناء مستقبلهم وغير ذلك مما حاصله نسيان الكفالة الإلهية والضمان الرباني"
ز – التسويف قال الشاعر:
ولا أؤخر شغل اليوم عن كسلٍ ... إلى غدٍ إن يوم العاجزين غَدُ
ح – الكسل والفتور.
قال الصاحب: "إن الراحة حيث تعب الكرام أوْدَع لكنها أوضع والقعود حيث قام الكرام أسعل لكنه أسفل" (21) وقال الشاعر:
كأن التواني أنكح العجز بنته ... وساق إليها حين أنكحها مهرا(8/414)
فراشاً وطيئاً ثم قال له اتكئ ... فَقُصْراكما لا شك أن تلدا فقرا
ط – مُلاحظة الخلق وتقليدهم والاقتداء بهم، فأكثر الخلق مفرطون.
[*] (مظاهر علو الهمة:
(1) تحرقه على ما مضى من أيامه وكأنه لم يكن قط صاحب الهمة المتألق المنجز لكثير من الأمور.
(2) كثرة همومه وتألمه لحالة المسلمين.
(3) موالاته النصيحة وتقديم الحلول والاقتراحات لمن يرجو منهم التغيير والإصلاح.
(4) طلبه للمعالي دائماً.
(5) كثرة شكواه من ضيق الوقت.
(6) قوة عزمه وثبات رأيه وقلة تردده، فهو إذا قرر أمراً راشداً لا يسرع بنقضه، بل يستمر فيه ويثبت عليه حتى يقضيه ويجني ثمرته، ولا شك أن كثرة التردد ونقض الأمر من بعد إبرامه من علامات تدني الهمة.
لكل إلى شأو العُلا حركات ... ولكن قليل في الرجال الثبات
(كيفيَّة استثمار همم الناس:
للناس ثلاثة أقسام:
(1) قسم ضائع مضيع يترك إلى حين إفاقته.
(2) قسم محافظ على الفرائض.
(فهذا القسم إن كان من أهل اليسار والغنى يوجه إلى المشاركة والتنافس في أعمال الخير العامة مثل بناء المساجد وإغاثة المنكوبين ومساعدة الجمعيات والهيئات الإسلامية الخيرية.
(وإن كانوا من ذوي الدخول المتوسطة يوجهون إلى سماع الدروس والخطب التي يعدها خطباء مرموقون.
(التوضيح والتنبيه والقيام بالنصيحة وبيان أن باستطاعتهم توجيه جهودهم إلى ما هو أنفع.
(توجيههم للقراءة النافعة.
(3) قسم – وهو المعول عليه بعد الله سبحانه وتعالى – ملتزم بدينه ومحافظ عليه يطمح إلى القيام بما يجب عليه وهذا يوجه إلىالدعوة إلى الله تعالى على بصيرة وحمل هم هذا الدين.
[*] (محاذير أمام أهل الهمم العالية:
(1) صاحب الهمة العالية تحلق به همته دائماً فتأمره بإنجاز كثير من الأعمال المتداخلة في وقت واحد فليطعها بقدر ولا يستبعد ما تأمره به وفي الوقت نفسه لا يَقُمْ به كلِّها بل يأخذ منه بقدر ما يعرف من إسعاف همته له بالقيام به.
(2) صاحب الهمة العالية معرض لنصائح تثنيه عن همته وتحاول أن تذكره دائماً بأنه ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ... فالحصيف لا يلتفت إلى هذه النصائح إلا بقدر.
[*] قال ابن نباتة السعدي:
أعاذلتي على إتعاب نفسي ... ورعيي في الدجى روض السهادِ
إذا شام الفتى برق المعالي ... فأهون فائت طيب الرقادِ
(3) صاحب الهمة معرض لسهام العين والحسد فعليه بالأذكار المأثورة ليدرأ عن نفسه ما قد يصيبه.(8/415)
(4) صاحب الهمة تعتريه فترْة وضعف قليل لما يراه من تدني همم غالب الخلق فلا يحزن وليوطن نفسه على الإحسان والنصيحة.
(5) أهل الهمة العالية قد يكونون مفرطين في بعض الأمور التي ربما لا يرون فيها تعلقاً مباشراً بعلو هممهم مثل حقوق الأهل والأقارب، فعلى من أصيب بشيء من ذلك أن يصلحه ولو بالقدر الذي يبعد عنه سهام اللائمين.
(6) قد تؤدي الهمة العالية بصاحبها إلى التحمس الزائد فيستعجل ويرتكب من الأخطاء ما كان يمكن تلافيه بقليل من التعقل وحساب العواقب، وعلى من وقع في مثل هذا أن يعرف السنن الكونية، وأن الأمر لا يحسم بين عشية وضحاها.
(7) أهل الهمة العالية قد يتعرضون لإثارة الخلافات الفقهية بينهم فينتج عن ذلك الذم والمقت، ومن أصبح ذلك ديدنه فستتخلف همته وتقعد به عن معالي الأمور.
(8) قد يتعرض صاحب الهمة إلى عدم المداومة مع أن أبرز سمات صاحب الهمة العالية المداومة وعدم الانقطاع فإن أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قل بنص السنة الصحيحة.
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: خيرُ الأعمال أدومها وإن قل.
(فهمة متوسطة العلو تدوم خير من همة عزيمة متقطعة
[*] يقول أبو المواهب بن صَرْصَرَى:
لم أَرَ مِثْل أبي القاسم ابن عساكر ولا من اجتمع فيه ما اجتمع فيه من لزوم طريقة واحدة مدة أربعين سنة من لزوم الصلوات في الصف الأول إلا من عذر والاعتكاف في شهر رمضان وعشر ذي الحجة وعدم التطلع إلى تحصيل الأملاك وبناء الدور فقد أسقط عن نفسه ذلك.
[*] وقال أبو العباس ثعلبٌ:
"ما فقدت إبراهيم الحربي من مجلس لغة ولا نحو خمسين سنة"
(15) أن يكون غرض الداعي جميلاً حسنًا:
كأن يتوسل الداعي إلى الله فيما أجاب دعوته أنه سيترتب على تلك الإجابة عمل صالح، كأن يقول آمين: اللهم ارزقني مالاً؛ لأسلطه على هلكته في الحق، ولأنصر به دين الإسلام، أو: اللهم ارزقني علمًا؛ كي أعلم العباد دين الله، وأنشر الخير بينهم، أو: اللهم ارزقني زوجة؛ لأتعفف بها عن المحارم وهكذا ...(8/416)
ويشير إلى ذلك قوله _ تعالى _ عن موسى _ عليه السلام _ قال تعالى: (قَالَ رَبّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسّرْ لِيَ أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مّن لّسَانِي * يَفْقَهُواْ قَوْلِي * وَاجْعَل لّي وَزِيراً مّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِيَ أَمْرِي * كَيْ نُسَبّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً) [طه 25: 35]
فماذا كانت النتيجة؟
لقد أجاب الله سؤله، ومنَّ عليه مرة أخرى.
ويشير إليه _ أيضًا _ الحديث الآتي:
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا جاء الرجل يعود مريضا فليقل: اللهم اشف عبدك فلانا ينكأ لك عدوا أو يمش لك إلى الصلاة.
(16) يخفِضُ صوته في الدعاء بين المخافتة والجهر:
قال تعالى: (ادْعُواْ رَبّكُمْ تَضَرّعاً وَخُفْيَةً إِنّهُ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ) [الأعراف / 55]
وقال تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف / 205]
فنادِ ربك بقلب حاضر بصوت خَافِت، فهذا زكريا عليه السلام: نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً [مريم:3]، هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً [آل عمران:38]، فرزقه الله يحيى نبيا.
(حديث أبي موسى في الصحيحين) قال كنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزاةٍ فجعلنا لا نصعد شرفاً ولا نعلو شرفاً ولا نهبطُ في وادٍ إلا رفعنا صوتنا بالتكبير فدنا منا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم ل تدعون أصمَّ ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً بصيرا، ثم قال: يا عبد الله بن قيس ألا أعلمك كلمةً هي من كنوز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله.
هذا ولخفض الصوت والإسرار بالدعاء _ فوائد عديدة، وأسرار بديعة،
[*] وقد أشار العلامة ابن القيم إلى شيء منها، فمن ذلك ما يلي:
أولاً _ أنه أعظم إيمانًُا؛ لأن صاحبه يعلم أن الله يسمع دعاءه الخفي، وليس كالذي قال: إن الله يسمع إن جهرنا، ولا يسمع إن أخفينا.(8/417)
ثانيًا _ أنه أعظم في الأدب والتعظيم: ولهذا فإن الملوك لا تُخَطَبُ، ولا تُسْأَل برفع الصوت، وإنما تخفض عندهم الأصوات بمقدار ما يسمعونه، ومن رفع صوته عندهم مقتوه، ولله المثل الأعلى؛ فإذا كان يسمع الكلام الخفي _ فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت.
ثالثًا _ أنه أبلغ في التضرع والخشوع: الذي هو روح الدعاء، ولبه، ومقصوده؛ فإن الخاشع الذليل الضارع إنما يسأل مسألة مسكين ذليل، ولا يتأتى ذلك مع رفع الصوت، بل مع خفضه.
رابعًا _ أنه أبلغ في الإخلاص.
خامسًا _ أنه أبلغ في جمعية القلب على الله في الدعاء؛ فإن رفع الصوت يفرقه، ويشتته.
سادسًا _ أنه دال على قرب صاحبه من الله: وأنه لاقترابه منه، وشدة حضوره يسأله مسألة أقرب شيء إليه، فيسأله مسألة مناجاة القريب للقريب، لا مسألة نداء البعيد للبعيد.
وهذا من النكت السرية البديعة جدًا.
سابعًا _ أنه أدعى لدوام الطلب والسؤال؛ فإن اللسان _ والحالة هذه _ لا يمل، والجوارح لا تتعب، بخلاف ما إذا رفع صوته؛ فإنه قد يكل لسانه، وتضعف بعض قواه، وهذا نظير من يقرأ أو يكرر رافعًا صوته؛ فإنه لا يطول له ذلك، بخلاف من يخفض صوته.
ثامنًا _ أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع، والمشوشات، والمضعفات؛ فإن الداعي إذا أخفى دعاءه لم يَدْر به أحد، فلا يحصل هناك تشويش، ولا غيره.
وإذا جهر به تفطنت له الأرواح الشريرة، والخبيثة من الجن والإنس، فشوشت عليه ولا بد، ومانعته، وعارضته، ولو لم يكن إلا أنَّ تعلقها به يفرق عليه همته، فيضعف أثر الدعاء _ لكفى.
ومن له تجربة يعرف هذا، فإذا أسر الدعاء وأخفاه أمن هذه المفسدة.
تاسعًا _ الأمن من شر الحاسدين؛ ذلك أن أعظمَ النعم نعمةُ الإقبالِ على الله، والتعبد له، والانقطاع إليه، والتبتل إليه، ولكل نعمة حاسد على قدرها دَقَّتْ أو جَلَّتْ.
ولا نعمة أعظم من هذه النعمة؛ فأنْفُسُ الحاسدِينَ المنقطعين متعلقةٌ بها، وليس للمحسود أسلمُ من إخفاء نعمته عن الحاسد، وأن لا يقصد إظهارها له، وكم من صاحب قلب وجَمْعِيَّةٍ وحال مع الله قد تحدث بها، فسلبه إياها الأغيار، فأصبح يقلب كفيه. (1)
(17) إظهار الداعي الشكوى إلى الله، والافتقار إليه:
قال_ تعالى _ عن أيوب _ عليه السلام:
: (وَأَيّوبَ إِذْ نَادَىَ رَبّهُ أَنّي مَسّنِيَ الضّرّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ) [الأنبياء / 83]
__________
(1) انظر بدائع الفوائد 3/ 6_10، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 15/ 15_20.(8/418)
إن سيدنا أيوب عليه السلام نزل به من الضر ما غدا صبره عليه مضرب الأمثال، فالتجأ إلى ربه مناجيا، فكشف الله عنه ضره وأكرمه بزيادة فضل.
قال تعالى {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:83 - 84].
[*] قال العلامة النسفي رحمه الله في تفسيره:
" إنما شكا إليه تلذذا بالنجوى، لا منه تضررا بالشكوى، والشكاية إليه غاية القرب كما قال تعالى (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)
[يوسف /86]
، كما أن الشكاية منه غاية البعد " [تفسير النسفي 3/ 89].
وعن زكريا _ عليه السلام _ دعاءه: قال تعالى: (وَزَكَرِيّآ إِذْ نَادَىَ رَبّهُ رَبّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ) [الأنبياء / 89]
فأظهر -أيها الداعي- الشكوى إلى الله، والافتقار إليه، فهو جابر المنكسرين وإله المستضعفين، يقول يعقوب عليه السلام: إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ [يوسف:68]، فهو صاحب كل نجوى، وسامع كل شكوى، وكاشف كل بلوى، يده تعالى ملأى لا تغيضها نفقة، سحَّاء الليل والنهار، ما أُمِّل تعالى لنائبة فخيَّبها، وما رُجي لعظيم فقطعها، لا يؤمَّل لكشف الشدائد سواه، بيده مفاتيح الخزائن، بابه مفتوح لمن دعاه،
وعن موسى _ عليه السلام _ دعاءه قال تعالى: (رَبّ إِنّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص / 24]
[*] قال ابن المبارك: قدمت المدينة في عام شديد القحط، فخرج الناس يستسقون، فخرجت معهم، إذ أقبل غلام أسود، عليه قطعتا خيش، قم اتَّزر بإحداهما، وألقى الأخرى على عاتقه، فجلس إلى جنبي، فسمعته يقول: إلهي أخْلَقَتِ الوجوهَ عندك كثرةُ الذنوب، ومساوىء الأعمال، وقد حَبَسْتَ عنا غيث السماء؛ لتؤدب عبادك بذلك، فأسألك يا حليمًا ذا أناة، يا من لا يعرف عباده منه إلا الجميل _ أن تسقيهم الساعةَ الساعةَ، فلم يزل يقول: الساعة الساعة حتى اكتست السماء بالغمام، وأقبل المطر من كل جانب. (1)
__________
(1) إحياء علوم الدين، 1/ 308.(8/419)
[*] قال ابن رجب رحمه الله تعالى: وقد كان بعض الخائفين يجلس بالليل ساكناً مطرقاً برأسه ويمد يديه كحال السائل، وهذا من أبلغ صفات الذل وإظهار المسكنة والافتقار، ومن افتقار القلب في الدعاء، وانكساره لله عز وجل، واستشعاره شدة الفاقةِ، والحاجة لديه. وعلى قدر الحرقةِ والفاقةِ تكون إجابة الدعاء، قال الأوزاعي: كان يقال: أفضل الدعاء الإلحاح على الله والتضرع إليه)) [الخشوع في الصلاة ص72].
(18) الخشوع والخضوع:
قال تعالى: (إِنّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ) [الأنبياء / 90]
وقال تعالى: (ادْعُواْ رَبّكُمْ تَضَرّعاً وَخُفْيَةً إِنّهُ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ) [الأعراف / 55]
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح الترمذي) قال خرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للاستسقاء متذللاً متواضعاً متخشِّعاً متضرعا.
[*] (تعريف الخشوع:
(الخشوع في اللغة:
هو الخضوع والسكون. قال: {وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً}
[طه: 108] أي سكنت.
(والخشوع في الاصطلاح:
هو حضور القلب وخضوعه وانكساره بين يدي الله تعالى.
[*] قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله:
"أصل الخشوع لين القلب ورقته وسكونه وخضوعه وانكساره وحرقته، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء، لأنها تابعة له " [الخشوع لابن رجب، ص17] فالخشوع محله القلب ولسانه المعبر هو الجوارح. فمتى اجتمع في قلبك أخي في الله – صدق محبتك لله وأنسك به واستشعار قربك منه، ويقينك في ألوهيته وربوبيته، وحاجتك وفقرك إليه. متى اجتمع في قلبك ذلك ورثك الله الخشوع وأذاقك لذته ونعيمه تثبيتاً لك على الهدى، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17]
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69](8/420)
فاعلم أخي الكريم – أن الخشوع هو توفيق من الله جل وعلا، يوفق إليه الصادقين في عبادته، المخلصين المخبتين له، العاملين بأمره والمنتهين بنهيه. فمن لم يخشع قلبه بالخضوع لأوامر الله لا يتذوق لذة الخشوع ولا تذرف عيناه الدموع لقسوة قلبه وبعده عن الله. قال تعالى {ِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت:45]،فالذي لن تنهه صلاته عن المنكر لا يعرف إلى الخشوع سبيلاُ، ومن كان حاله كذلك، فإنه وإن صلى لا يقيم الصلاة كما أمر الله جل وعلا، قال تعالى: {َاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]
واعلم أخي المسلم بأن الخشوع واجب على كل مصل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ويدل على وجوب الخشوع قول الله جل وعلا، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2]
[الفتاوى 22/ 254]
(فضل الخشوع:
(1) إن الله سبحانه قد امتدح الخاشعين في مواضع كثيرة من كتابه فقال: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:2،1]،
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
[*] و" الخشوع: هو السكون والطمأنينة والتؤدة والوقار والتواضع والحامل عليه الخوف من الله ومراقبته. " تفسير ابن كثير ط. دار الشعب 6/ 414
وقال: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45]،
وقال: خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً [آل عمران:199]،
وقال: وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]،
وقال: وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء:109].
(ولما كان الخشوع صفه يمتدح الله بها عبادة المؤمنين، دل على فضله ومكانته عند الله، ودل على حب الله الأهل الخشوع والخضوع، لأن الله سبحانه لا يمدح أحداً بشيء إلا وهو يحبه ويحب من يتعبده به.
وقد ذكر الله الخاشعين والخاشعات في صفات عباده الأخيار وأخبر أنه أعد لهم مغفرة وأجرا عظيماً(8/421)
قال تعالى: (إِنّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصّادِقِينَ وَالصّادِقَاتِ وَالصّابِرِينَ وَالصّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدّقِينَ وَالْمُتَصَدّقَاتِ والصّائِمِينَ والصّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذّاكِرِينَ اللّهَ كَثِيراً وَالذّاكِرَاتِ أَعَدّ اللّهُ لَهُم مّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) [الأحزاب / 35]
(ولذ كان من السبعة الذين يُظِلّهُمُ الله في ظِلّهِ ظِلّ إِلاّ ظِلّهُ [وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَهُ]
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (سَبْعَةٌ يُظِلّهُمُ الله في ظِلّهِ ظِلّ إِلاّ ظِلّهُ يَوْمَ لاَ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌ نَشَأَ في ِعِبَادَةِ الله، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلّقٌ في المَسْاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابّا في الله اجْتَمعَا عَلَيه وَتَفَرّقَا عليه، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امرأة ذَاتُ منصبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنّي أَخَافُ الله، وَرَجُلٌ تَصَدّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَهُ)
(ووجه الدلالة من الحديث:
أن الخاشع في صلاته يغلب على حاله البكاء في الخلوة أكثر من غيرها, فكان بذلك ممن يظلهم الله في ظله يوم القيامة.
(ولو لم يكن للخشوع إلا فضل الانكسار بين يدي الله، وإظهار الذل والمسكنة له ,لكفى بذلك فضلاً، وذلك لأن الله جل جلاله إنما خلقنا للعبادة
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات56:]
وأفضل العبادات ما كان فيها الانكسار والذل الذي هو سرها ولبها. ولا يتحقق ذلك إلا بالخشوع.
الخشوع: يورث انكساراً بين يدي الرب، وحُرقةً من المعاصي والسيئات؛ لأن القلب إذا خشع سكنت خواطره، وترفعت عن الأمور الدنيئة همته، وتجرد من اتباع الهوى مسلكه،
الخشوع: يجعل العبد ينكسر ويخضع لله، ويزول ما فيه من التعاظم والترفع، والتعالي والترفع، والتعالي والتكبر، وتلك درجات في قلوب الناس تتفاوت بتفاوت الإيمان في قلوبهم، وسيطرة الإسلام على نفوسهم.
الخشوع: هو السكون والطمأنينة والتؤدة والوقار والتواضع والخضوع.(8/422)
والخشوع علم نافع؛ لأن العلم النافع ما أوجب خشية القلوب، لذا: كان يستعيذ من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، ودعوة لا تُسمع، فإن القلب الذي لا يخشع: علمه لا ينفع، ودعاؤه لا يسمع.
(حديث زيد ابن أرقم في صحيح مسلم) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها.
(وهذا العلم النافع نادر وجوده سريع فقده
فهو أول ما يرفع من الأمة، كما جاء في الحديث الآتي:
(حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع حتى لا ترى فيها خاشعا.
وبذهاب الخشوع تكون العبادة بغير روح، وهذا أمر يورث الخوف على القلب، وتفقده دائماً.
(3) وفضائل الخشوع كثيرة: فهو يقرب القلب من الله، فيمتلئ نوراً، فينتفع صاحبه بآيات الله الشرعية، والكونية، ويكون له في كل نظرة عِبرة، وعَبْرة. ويقي صاحبه من غوائل العجب والغرور والإدلال والرياء. وبه تُستنزل رحمة الله (تعالى)،
وأعظمها: حصول البشرى ((وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ)) [الحج: 34]،
وبه ينال الأجر العظيم، فالخشوع طريق الفلاح الموصل إلى الجنة: ((قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ)) [المؤمنون: 1، 2]، ثم قال: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ * الَذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ))
[المؤمنون: 10، 11].
(حكم الخشوع
والراجح في حكم الخشوع أنه واجب.
[*] قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:
قال تعالى: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصّبْرِ وَالصّلاَةِ وَإِنّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ)
[البقرة / 45](8/423)
وهذا يقتضي ذم غير الخاشعين .. والذم لا يكون إلا لترك واجب أو فعل محرّم وإذا كان غير الخاشعين مذمومين دلّ ذلك على وجوب الخشوع .. ويدل على وجوب الخشوع فيها أيضا قوله تعالى: (قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون .. - إلى قوله - أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون) أخبر سبحانه وتعالى أن هؤلاء هم الذين يرثون فردوس الجنة وذلك يقتضي أنه لا يرثها غيرهم .. وإذا كان الخشوع في الصلاة واجبا وهو المتضمن للسكون والخشوع (هكذا في الأصل ولعلها الخضوع) فمن نقر نقر الغراب لم يخشع في سجوده وكذلك من لم يرفع رأسه في الركوع ويستقر قبل أن ينخفض لم يسكن لأن السكون هو الطمأنينة بعينها فمن لم يطمئن لم يسكن ومن لم يسكن لم يخشع في ركوعه ولا في سجوده ومن لم يخشع كان آثما عاصيا .. ويدل على وجوب الخشوع في الصلاة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توعد تاركيه كالذي يرفع بصره إلى السماء فإنه حركته ورفعه وهو ضد حال الخاشع ..
[مجموع الفتاوى 22/ 553 - 558]
(محل الخشوع: القلب.
وثمرته: تظهر على الجوارح، ولذا قيل: إذا ضرع القلب، خشعت الجوارح، وذلك لأن القلب مَلِك البدن، وأمير الأعضاء، تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده، فالأعضاء تابعة للقلب فإذا فسد خشوعه بالغفلة والوساوس فسدت عبودية الأعضاء والجوارح فإن القلب كالملك والأعضاء كالجنود له فبه يأتمرون وعن أمره يصدرون فإذا عُزل الملك وتعطّل بفقد القلب لعبوديته ضاعت الرعية وهي الجوارح.
ولهذ قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب.
(حديث النعمان بن بشير الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الحلال بين و الحرام بين و بينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه و دينه و من وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا و إن لكل ملك حمى ألا و إن حمى الله تعالى في أرضه محارمه ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
وأجمع العارفون على أن (الخشوع) محله القلب وثمرته على الجوارح وهي تظهره.(8/424)
وقال بعض العارفين: حسن أدب الظاهر عنوان أدب الباطن ورأى بعضهم رجلا خاشع المنكبين والبدن فقال: يا فلان الخشوع ههنا وأشار إلى صدره لا ههنا وأشار إلى منكبيه.
(وكان بعض الصحابة رضي الله عنهم وهو حذيفة يقول: "إياكم وخشوع النفاق فقيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع"
(ورأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا طأطأ رقبته في الصلاة فقال: "يا صاحب الرقبة ارفع رقبتك ليس الخشوع في الرقاب إنما الخشوع في القلوب"
(ورأت عائشة رضي الله عنها "شبابا يمشون ويتماوتون في مشيتهم فقالت لأصحابها: من هؤلاء؟ فقالوا: نساك فقالت: كان عمر بن الخطاب إذا مشى أسرع وإذا قال: أسمع وإذا ضرب: أوجع وإذا أطعم: أشبع وكان هو الناسك حقا"
(وقال الفضيل بن عياض: "كان يكره أن يرى الرجل من الخشوع أكثر مما في قلبه"
(وقال حذيفة رضي الله عنه: "أول ما تفقدون من دينكم الخشوع وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة ورب مصل لا خير فيه ويوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيهم خاشعا" وقال سهل: "من خشع قلبه لم يقرب منه الشيطان". أهـ.
(منزلة الخشوع من الإيمان:
الخشوع من الإيمان؛ الذي هو في القلب، وإنما يزيد الإيمان بحياة القلب، وذلك بالاشتغال بالعلم النافع والعمل الصالح، كما أنه ينقص بمرض القلب، ويذهب بموته، وذلك بالانصراف إلى الشبهات والشهوات، فعلى المسلم أن يتعاهد قلبه في جميع أحواله ليدفع عنه القسوة؛ فإنها إذا استبدت به منعته الخشوع.
والله (عز وجل) يريد من عباده الترقي في سُلَّمِ الإيمان، ودرجات اليقين، ولذا: عاتب المؤمنين الذين لم يبلغوا قمة الخشوع؛ حيث تدل حركتهم البطيئة على ضعف لا يرضاه الله للعصبة المؤمنة حاملة المنهج الرباني، لتبليغه للناس كافة؛ عاتبهم فقال: ((أََلَمْ يَاًنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ)) [الحديد: 16]،
وفي الآية تلويح بما كان عليه أهل الكتاب من قسوة أورثتهم الفسق في الأعمال، ومن هنا كان التحذير الشديد من مآلهم، حيث طال عليهم الزمان، واستمرت بهم الغفلة، فاضمحل إيمانهم، وذهب إيقانهم.(8/425)
وقد رأينا ثمرة هذا الخشوع الإيماني في حياة سيد الخاشعين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي كان له في الانكسار لله (تعالى) والذل بين يديه أكمل الأحوال، فقد رؤي يصلي، وفي صدره أزيز كأزيز الرحى ـ أي الطاحون ـ من البكاء.
(حديث عبد الله بن الشخير الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال: أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي فسمعت لصدره أزيزاً كأزيز المرجل من البكاء.
وكذا صاحبه الصديق (رضي الله عنه) كان وجلاً رقيقاً، إذا صلى أو قرأ القرآن بكى، وأما الفاروق فيكفيك أنه مرض مرة لسماع القرآن وعاده الناس في مرضه لا يدرون ما به!، وقد أصاب سهمٌ أحدَ الصحابة وهو في صلاته فأزاله ورماه وأتمّ صلاته.
ومن السلف من كان يقوم في الصلاة كأنه عمود تقع الطيور على رأسه من شدة سكونه وإطالته، ولهم في ذلك أحوال يطول منها عجبنا؛ لأننا لا نرى ذلك في واقع حياتنا.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عطاء الخفاف، قال: ما لقيت سفيان الثوري إلا باكياً، فقلت: ما شأنك. قال: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقياً.
(إخفاء الخشوع:
التظاهر بالخشوع ممقوت، ومن علامات الإخلاص: إخفاء الخشوع
كان حذيفة رضي الله عنه يقول: إياكم وخشوع النفاق فقيل له: وما خشوع النفاق قال: أن ترى الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع.
[*] وقال الفضيل بن عياض: كان يُكره أن يُري الرجل من الخشوع أكثر مما في قلبه. ورأى بعضهم رجلا خاشع المنكبين والبدن فقال: يافلان، الخشوع هاهنا وأشار إلى صدره، لاهاهنا وأشار إلى منكبيه. [المدارج 1/ 521](8/426)
[*] وقال ابن القيم رحمه الله تعالى مبيّناً الفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق: " خشوع الإيمان هو خشوع القلب لله بالتعظيم و الإجلال و الوقار و المهابة و الحياء، فينكسر القلب لله كسرة ملتئمة من الوجل و الخجل و الحب و الحياء و شهود نعم الله و جناياته هو، فيخشع القلب لا محالة فيتبعه خشوع الجوارح. و أما خشوع النفاق فيبدو على الجوارح تصنعا وتكلفا والقلب غير خاشع، و كان بعض الصحابة يقول: أعوذ بالله من خشوع النفاق، قيل له: و ما خشوع النفاق؟ قال: أن يرى الجسد خاشعا والقلب غير خاشع. فالخاشع لله عبد قد خمدت نيران شهوته، و سكن دخانها عن صدره، فانجلى الصدر و أشرق فيه نور العظمة فماتت شهوات النفس للخوف و الوقار الذي حشي به و خمدت الجوارح و توقر القلب و اطمأن إلى الله و ذكره بالسكينة التي نزلت عليه من ربه فصار مخبتا له، و المخبت المطمئن، فإن الخبت من الأرض ما اطمأن فاستنقع فيه الماء، فكذلك القلب المخبت قد خشع واطمأن كالبقعة المطمئنة من الأرض التي يجري إليها الماء فيستقر فيها، و علامته أن يسجد بين يدي ربه إجلالا له و ذلا و انكسارا بين يديه سجدة لا يرفع رأسه عنها حتى يلقاه. فهذا خشوع الإيمان، وأما القلب المتكبر فإنه قد اهتز بتكبره و ربا فهو كبقعة رابية من الأرض لا يستقر عليها الماء.
و أما التماوت و خشوع النفاق فهو حال عند تكلف إسكان الجوارح تصنعا و مراءاة و نفسه في الباطن شابة طرية ذات شهوات و إرادات فهو يتخشع في الظاهر و حية الوادي و أسد الغابة رابض بين جنبيه ينتظر الفريسة.
[كتاب الروح ص:314 ط. دار الفكر - الأردن.]
(الطرق الموصلة الخشوع:
إن مما يحصّل به المسلم الخشوع ما يلي:
(1) تلقي أوامر الله (تعالى) بالقبول والامتثال، وعدم معارضتها بشهوة أو رأي.
(2) الحرص على الإخلاص، وإخفاء الأعمال عن الخلق قدر المستطاع، ومطالعة عيوب النفس ونقائص الأعمال ومفسداتها من الكبر والعجب والرياء وضعف الصدق، والتقصير في إكمال العمل وإتمامه.
(3) الإشفاق من رد الأعمال وعدم قبولها.
(4) مشاهدة فضل الله وإحسانه، والحياء منه؛ لإطلاعه على تفاصيل ما في القلوب، وتذكر الموقف والمقام بين يديه، والخوف منه، وإظهار الضعف والافتقار إليه والتعلق به دون غيره.
(5) طلب هدايته وتوفيقه وتسديده.(8/427)
(6) ومن أعظم الطرق: معرفة الله (جل جلاله) بأسمائه الحسنى وصفاته العلا .. والعلم النافع، وهو: العلم بآيات الله الكونية والشرعية، الذي يربط القلب بالله.
وكذلك الإكثار من ذكر الموت، والجنة والنار، والإكثار من ذكر الله تضرعاً وخِيفة، ودعائه تضرعاً وخُفية، فإن ذلك أعظم إيماناً وأبلغ في الأدب، والتعظيم، والتضرع، والخشوع، والإخلاص، وجمعية القلب على الله تعالى)
ويمكن تحصيل ذلك كله بالإقبال على كتاب الله الكريم، مع تعاهد التلاوة، وإدامة النظر، وطول التأمل وكثرة التدبر، الذي يورث الصلة بالله (تعالى)، والمسارعة في الطاعات، واستباق الخيرات، وهو الأمر الذي لأجله أنزل الله القرآن الكريم.
(آثار الخشوع
:
يضفي الخشوع على الأفراد والأمم آثاراً كثيرة، منها:
(1) أنه يبعث الحياة في العمل، فيؤتي ثمرته المرجوة وغايته المقصودة.
(2) أنه يجعل العبادة محببة للنفس، خفيفة غير ثقيلة.
(3) المسارعة إلى الإذعان للحق والدعوة إليه، وبذل غاية الوسع في التعليم والدعوة والتربية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(4) توحيد المشاعر والاتجاهات والمقاصد نحو الله (تعالى) لا شريك له، فيتوجه العمل والنشاط والعبادة نحو غاية واحدة، فيحصل من ذلك:
ـ إحياء الأمة وقوتها وانتصارها، بصلاة الخاشعين ودعائهم وإخلاصهم، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
وقد لمسنا آثار الخشوع في حياة سلف هذه الأمة الذين قاموا بأمر الله خير قيام، وحملوا لواء العلم والعبادة والدعوة، وما كان ليحصل ذلك لولا ما تحمله قلوبهم من تعظيم الله ومحبته وخشيته.
وإذا لم يكن الخشوع صفة الدعاة وحالهم، فإن الخطْب جلل، والمصيبة عظيمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(نماذج من خشوع السلف:
كان عبد الله بن الزبير يسجد حتى تنزل العصافير على ظهره ولا تحسبه إلا حائط.
لو رأيت ابن الزبير يصلي كأنه غصن شجرة تهزها الريح والمنجنيق يقع هاهنا وهاهنا وكأنه لا يبالي.
(وذكر بعضهم أن حجراً من المنجنيق وقع على شرفة المسجد فطارت فلقة منها فمرت بين لحية ابن الزبير وحلقه، وهو قائم يصلي، فما زال عن مقامه، ولا عرف ذلك في صوته، ولا قطع لها قراءته، ولا ركع دون ما كان يركع، فكان إذا دخل في الصلاة خرج من كل شيء إليها.(8/428)
(روي أن ابن الزبير كان يوماً يصلي فسقطت حية من السقف تطوقت على بطن ابنه هاشم، فصرخ النسوة وانزعج أهل المنزل، واجتمعوا على قتل الحية، فقتلوها وسَلِم الولد، فعلوا هذا كله وابن الزبير في الصلاة لم يلتفت، ولا درى بما جرى لابنه حتى سلَّم.
(وركع ابن الزبير يوماً فقرأ البقرة وآل عمران والنساء والمائدة وما رفع رأسه.
(وقال يحيى بن وثاب: (كان ابن الزبير إذا سجد وقعت العصافير على ظهره، تصعد وتنزل، ولا تراه إلا جذم حائط.
(روي عن حاتم الأصم أنه سئل عن صلاته، فقال: إذا حانت الصلاة، أسبغت الوضوء، وأتيت الموضع الذي أريد الصلاة فيه، فأقعد فيه حتى تجتمع جوارحي، ثم أقوام ‘لي صلاتي، وأجعل الكعبة بين حاجبي، والصراط تحت قدمي، والجنة عن يميني، والنار عن شمالي، وملك الموت ورائي، وأظنها آخر صلاتي، ثم أقوم يسن يدي الرجاء والخوف ,أكبر تكبيراُ بتحقيق ,وأقرأ بترتيل، وأركع وكوعاً بتواضع وأسجد سجوداً بتخشع .. وأتبعها الإخلاص، ثم لا أدري أقبلت أم لا؟.
[*] قال علي بن الفضيل: (رأيت الثوري ساجداً فطفت سبعة أسابيع - أي 49 شوطاً - قبل أن يرفع رأسه)
[*] قال ابن وهب: (رأيت الثوري في الحرم بعد المغرب صلّى ثم سجد سجدة فلم يرفع حتى نودي بالعشاء.
[*] قال أبو بكر بن عياش: (رأيت حبيب بن أبي ثابت ساجداً، فلو رأيته قلت: ميت. يعني من طول السجود.
[*] كان طلق بن حبيب لا يركع في صلاته إذا افتتح سورة (البقرة) حتى يبلغ (العنكبوت). وكان يقول: أشتهي أن أقوم حتى يشتكي صلبي.
(ومنهم: من إذا دخل في الصلاة خشع قلبه، وسكنت جوارحه، حتى يظن من رآه أنه جماد، بل إن الطير قد يظن ذلك المصلي حائطاً، فيقع على ظهره لشدة سكونه، وهذا السكون دليل على الراحة التي يجدها المصلي في صلاته، إذ لو لم يجد فيها راحة لم يسكن هذا السكون، فإن المرء إذا كان على وضع لا راحة له فيه تكثر حركته، والتفاته، وعبثه.
قال ثابت البناني: (كنتُ أَمُرُّ بعبد الله بن الزبير وهو يصلي خلف المقام، كأنه خشبة منصوبة لا يتحرك.
قال الأعمش: (كان إبراهيم إذا سجد كأنه حائط، ينزل على ظهره العصافير.
وكان مسلم بن يسار إذا صلّى كأنه وتد لا يميل لا هكذا ولا هكذا. وقيل: إذا صلى كأنه ثوب ملقى.
[*] قال ميمون بن مهران:
ما رأيت مسلم بن يسار ملتفتا في صلاة قط ولقد انهدمت ناحية من المسجد ففزع أهل السوق لهدتها وإنه لفي المسجد يصلي فما التفت.(8/429)
وعنه أيضا [أن مسلم بن يسار كان إذا دخل إلى المنزل سكتوا فإذا قام إلى الصلاة تكلموا وضحكوا.
(ومنهم: من إذا دخل في الصلاة انشغل بها عما حوله، حتى لا يشعر بما يحدث عنده وقريباً منه وإن كان عظيماً، ومتى عظمت محبة الشخص لأمر، فإنه ينشغل به حتى عن نفسه، ألم تر كيف قطع النسوة أيديهن لما رأين يوسف فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ [يوسف:31] دهشن برؤيته عن أنفسهم فلم يشعرن بتقطيع أيديهن.
من المصلين من يجد في صلاته لذة تشغله عما حوله، فمنهم من لا يشعر بوقوع شيء أصلاً، ومنهم من يشعر بذلك لكنه لا يلتفت إليه، ولا يعبأ به، فكأنه لم يشعر، لقوة حضوره في صلاته، وانصرافه لها، وعدم اهتمامه بما سواها وانشغاله عنه.
قال ميمون بن مهران: ما رأيت مسلم بن يسار ملتفتاً في صلاة قط، ولقد انهدمت ناحية من المسجد ففزع أهل السوق لهدمها، وإنه في المسجد يصلي فما التفت. ولما هنئ بسلامته عجب وقال: ما شعرت.
(ومنهم: من يصيبه في صلاته وجع شديد وألم، فلا يلتفت له، ويستمر في صلاته، قد أنسته لذة الصلاة شدة الوجع، حتى كأنه لا يحس به.
(ففي إحدى الغزوات قام رجل من الأنصار يصلى ليلاً، فرماه أحد المشركين بسهم فنزعه واستمر في صلاته، فرماه بسهم ثان فنزعه واستمر في صلاته، فرماه بسهم ثالث فنزعه وركع وسجد وأتم صلاته. ثم أنبه صاحبه، فلما رأى ما به من الدم قال: سبحان الله! ألا أنبهتني أول ما رمى؟! قال: كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها.
فانظر كيف صبر على تلك السهام، وتحمَّل ألم الجراح، ولم تطب نفسه أن يقطع قراءته لتلك السورة حتى أتمّها. فكم من لذة يجدها هذا الرجل في صلاته. وكم من راحة وسرور، نسي معه تعب السفر، ومشقة الطريق، وهون عليه ضرب السهام.
[*] الربيع ابن خيثم:
عن بكر بن ماعز قال أعطي الربيع فرساً أو اشترى فرساً بثلاثين ألفاً فغزا عليها قال ثم أرسل غلامه يحتش وقام يصلي وربط فرسه فجاء الغلام فقال يا ربيع أين فرسك قال سرقت يا يسار قال وأنت تنظر إليها قال: (نعم يا يسار أني كنت أناجي ربي عز وجل فلم يشغلني عن مناجات ربي شيء اللهم انه سرقني ولم أكن لأسرقه اللهم إن كان غنياً فاهده وإن كان فقيراً فاغنه)، ثلاث مرات
[*] عن بن فروخ قال: (كان الربيع بن خيثم إذا كان الليل ووجد غفلة الناس خرج إلى المقابر فيجول في المقابر يقول: (يا أهل القبور كنتم وكنا، فإذا أصبح كأنه نشر من أهل القبور.(8/430)
(ومن خشوعهم أنهم كانوا يتأثرون جداً بالجنائز:
قال ثابت البناني: كنا نتبع الجنازة فما نرى إلا متقنعا باكيا أو متقنعا متفكرا.
(علو الهمة في الخشوع:
[*] قال الجنيد: الخشوع تذلل القلوب لعلام الغيوب.
[*] قال ابن كثير:
والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرّغ قلبه لها .. واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون راحة له وقرة له.
[*] قال سعيد بن جبير في قوله تعالى:
(الذين هم في صلاتهم خاشعون) يعني: متواضعون. لا يعرف من عن يمينه ولا من عن شماله ولا يلتفت من الخشوع لله تعالى.
• صار لرب العرش حين صلاته ... نجيّا فيا طوباه لو كان يخشع
[*] قال بعض السلف:
الصلاة كجارية تهدى إلى ملك من الملوك، فما الظن بمن يهدى إليه جارية شلاء أو عوراء ... فكيف بصلاة العبد والتي يتقرب بها إلى الله.
[*] كان ذو النون يقول في وصف العبّاد:
لو رأيت أحدهم وقد قام إلى صلاته، فلما وقف في محرابه، واستفتح كلام سيده، خطر على قلبه أن ذلك المقام هو المقام الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين، فانخلع قلبه وذهل عقله.
[*] (تمام الخشوع:
أن يخضع القلب لله ويذل له، فيتم بذلك خضوع العبد بباطنه وظاهره لله عز وجل،
(وذلك لأن القلب أمير البدن. فإذا خشع القلب .. خشع السمع والبصر والوجه وكل الأعضاء .. حتى الكلام.
ولهذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في ركوعه: (خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي).
(حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا ركع كان كلامه في ركوعه أن يقول اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت وأنت ربي خشع سمعي وبصري ومخي وعظمي لله رب العالمين.
(حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا ركع قال اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت وعليك توكلت أنت ربي خشع سمعي وبصري ودمي ولحمي وعظمي وعصبي لله رب العالمين.
[*] قال الحسن رحمه الله:
إياك أن ينظر الله إليك وتنظر إلى غيره .. وتسأل الله الجنة وتعوذ به من النار .. وقلبك ساه لا تدري ما تقول بلسانك.
[*] كان خلف بن أيوب لا يطرد الذباب عن وجهه في الصلاة فقيل له: كيف تصبر؟. قال: بلغني أن الفسّاق يتصبرون تحت السياط ليقال: فلان صبور. وأنا بين يدي ربي، أفلا أصبر على ذباب يقع علي؟.!!
[*] (احذر خشوع النفاق:
[*] قال أبو الدرداء
:(8/431)
استعيذوا بالله من خشوع النفاق. قالوا: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع.
{تنبيه}: (الخشوع عزيزٌ في هذه الأمة وقد أخبر النبي أن أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع.
(حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع حتى لا ترى فيها خاشعا.
(19) البكاء حال الدعاء:
لقد أثنى الله في كتابة الكريم في أكثر من موضع على البكائين من خشيته
قال تعالى: (وَيَخِرّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) [الإسراء / 109]
قال تعالى: (إِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرّحْمََنِ خَرّواْ سُجّداً وَبُكِيّاً) [مريم / 58]
والسنة طافحةٌ بما يدل على فضل البكاء من خشية الله تعالى منها ما يلي:
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل و شاب نشأ في عبادة الله و رجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، و رجل دعته امرأة ذات منصب و جمال فقال: إني أخاف الله و رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه و رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه.
[*] قال القرطبي: فيض العين بحسب الذاكر وما ينكشف له فبكاؤه خشيه من الله تعالى حال أوصاف الجلال وشوقاً إليه سبحانه حال أوصاف الجمال.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال
:لا يلج النار رجل بكي من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم.
قال المباركفوري في تحفة الأحوذي:
قوله [لا يلج] من الولوج أي لا يدخل [رجل بكى من خشيه الله] فإن الغالب من الخشية امتثال الطاعة واجتناب المعصية [حتى يعود اللبن في الضرع]
هذا من باب التعليق بالمحال كقوله تعالى: (حَتّىَ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) [الأعراف / 40]
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله.
قال المباركفوري في تحفة الأحوذي:(8/432)
[عينان لا تمسهما النار] أي لا تمس صاحبهما فعبر بالجزء عن الجملة وعبر بالمس إشارة إلى امتناع ما فوقه بالأولى [عين بكت من خشيه الله] وهى مرتبه المجاهدين مع النفس التائبين عن المعصية سواء كان عالماً أو غير عالم [وعين باتت تحرس في سبيل الله] وهى مرتبة المجاهدين في العبادة وهى شاملة لأن تكون في الحج أو طلب العلم أو الجهاد أو العبادة والأظهر أن المراد به الحارس للمجاهدين لحفظهم عن الكفار.
(حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلا قول الله عز وجل في إبراهيم! < رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني >! وقال عيسى عليه السلام! < إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم >! فرفع يديه وقال اللهم أمتي أمتي وبكى فقال الله عز وجل يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يبكيك فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما قال وهو أعلم فقال الله يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك.
(نماذج من بكاء السلف:
[*] وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: لأن أدمع دمعه من خشيه الله عز وجل أحب إلى من أن أتصدق بألف دينار.
[*] كان ابن عمر إذا قرأ: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} بكى حتى يغلبه البكاء.
[*] قال حماد بن زيد: رأيت ثابتا يبكي حتى تختلف أضلاعه.
[*] وقال جعفر بن سليمان: بكى ثابت البناني حتى كادت عينه تذهب، فجاؤوا برجل يعالجها، فقال: أعالجها على أن تطيعني. قال: وأي شيء؟ قال: على أن لا تبكي.، فقال: فما خيرهما إذا لم يبكيا، وأبى أن يتعالج.
وقرأ ثابت: {تطلع على الأفئدة} قال تأكله إلى فؤاده وهو حي لقد تبلغ فيهم العذاب ثم بكى وأبكى من حوله.
وقال حماد بن سلمة: قرأ ثابت: {أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا} وهو يصلي صلاة الليل ينتحب ويرددها.
[*] وقال الثورى: جلست ذات يوم أحدث ومعنا سعيد بن السائب الطائفي فجعل سعيد يبكى حتى رحمته فقلت: يا سعيد ما يبكيك وأنت تسمعني أذكر أهل الخير وفعالهم؟ فقال: يا سفيان وما يمنعني من البكاء إذا ذكرت مناقب أهل الخير وكنت عنهم بمعزل؟ قال سفيان: حق له أن يبكى.(8/433)
[*] وقال أبو مُسهر كان الأوزاعى رحمه الله يحيى الليل صلاه وقرآنا وبكاء وأخبرنى بعض إخوانى من أهل بيروت أن أمه كانت تدخل منزل الأوزاعي وتتفقد موضع مصلاه فتجده رطباً من دموعه في الليل.
[*] وعن القاسم بن محمد البغدادى قال كنت جار معروف الكرخى فسمعته ليله في السحر ينوح ويبكى وينشد:
أي شيء تريد منى الذنوب ... شغفت بي فليس عنى تغيب
ما يضر الذنوب لو أعتقتني ... رحمةً لي فقد علاني المشيب
[*] عن بشير قال بت عند الربيع ذات ليلة فقام يصلي فمر بهذه الآية ((أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون)) قال فمكث ليلته حتى أصبح ما يجوز هذه الآية إلى غيرها ببكاء شديد.
عن نسير بن ذعلوق قال: (كان الربيع بن خيثم يبكي حتى يبل لحيته من دموعه فيقول أدركنا قوماً كنا في جنوبهم لصوصاً.
[*] عن سفيان قال بلغنا عن أم الربيع بن خيثم كانت تنادي ابنها ربيع تقول يا ربيع ألا تنام فيقول يا أمه من جن عليه الليل وهو يخاف السيئات حق له ألا ينام قال فلما بلغ ورأت ما يلقى من البكاء والسهر نادته فقالت يا بني لعلك قتلت. قتيلا قال نعم يا والدة قد قتلت قتيلا، فقالت ومن هذا القتيل يا بني حتى نتحمل إلى أهله فيغتفرك والله لو يعلمون ما تلقى من السهر والبكاء بعد لقد رحموك فقال يا والدة هو نفسي.
[*] قال الحسن البصري:
بلغنا أن الباكي من خشيه الله لا تقطر من دموعه قطره حتى تعتق رقبته من النار وقال أيضاً: لو أن باكيا بكى في ملأ من خشية الله لرحموا جميعا وليس شيء من الأعمال إلا له وزن إلا البكاء من خشية الله فإنه لا يقوم الله بالدمعة منه شيء وقال: ما بكى عبد إلا شهد عليه قلبه بالصدق أو الكذب.
[*] وقال أبو جعفر الباقر:
ما اغرورقت عين عبد بمائها إلا حرم الله وجه صاحبها على النار فإن سالت على الخدين لم يرهق وجهه قتر ولا ذله وما من شيء إلا وله جزاء إلا الدمعة فإن الله يكفر بها بحور الخطايا ولو أن باكيا بكى من خشية الله في أمه رحم الله تلك الأمة.
[*] وقال كعب الأحبار: لأن أبكى من خشية الله فتسيل دموعي على وجنتي أحب إلى من أن أتصدق بوزني ذهبا.
[*] وعن أبى معشر قال: رأيت عون بن عبد الله في مجلس أبى حازم يبكى ويمسح وجهه بدموعه فقيل له لم تمسح وجهك بدموعك؟ قال: بلغني أنه لا تصيب دموع الإنسان مكانا من جسده إلا حرم الله عز وجل ذلك المكان على النار.(8/434)
[*] روى أحمد بن سهل قال: قدم علينا سعد بن زنبور فأتيناه فحدثنا قال: كنا على باب الفضيل بن عياض فاستأذنا عليه فلم يؤذن لنا فقيل لنا إنه لا يخرج إليكم أو يسمع القرآن قال وكان معنا رجل مؤذن وكان صيتا فقلنا له: إقرأ فقرأ [ألهاكم التكاثر] ورفع بها صوته فأشرف علينا الفضيل وقد بكى حتى بل لحيته بالدموع ومعه خرقه ينشف بها الدموع من عينيه وأنشأ يقول
بلغت الثمانين أو جزتها ... فماذا أؤمل أو أنتظر
أتى ثمانون من مولدى ... وبعد الثمانين ما ينتظر
عَّلتنى السنون فأبليننى ... ......................
قال ثم خنقته العبره وكان معنا على بن خشرم فأتمه لنا يقول
علتنى السنون فأبليننى ... فرقت عظامى وكل البصر
[*] ابن المنكدر:
* كان محمد بن المنكدر: ذات ليله قائم يصلى إذ استبكى فكثر بكاؤه حتى فزع له أهله فسألوه: ما الذي أبكاك؟ فاستعجم عليهم فتمادى في البكاء فأرسلوا إلى أبى حازم وأخبروه بأمره فجاء أبو حازم إليه فإذا هو يبكى فقال: يا أخي ما الذي أبكاك؟ قد رعت أهلك فقال له إني مرت بي آيه من كتاب الله عز وجل قال: ما هي؟ قال: قول الله تعالى [وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون] قال فبكى أبو حازم معه واشتد بكاؤهما فقال بعض أهله لأبى حازم جئناك لتفرج عنه فزدته، فأخبرهم ما الذي أبكاهما.
[*] الإمام الحجة الحافظ هشام الدستوائي.
وقال شاذ بن فياض: بكى هشام الدستوائي حتى فسدت عينه، فكانت مفتوحة، وهو لا يكاد يبصر بها.
[*] قال الحارث بن سعيد كنا عند مالك بن دينار وعنده قارىء يقرأ [إذا زلزلت الأرض زلزالها] فجعل مالك ينتفض وأهل المجلس يبكون حتى انتهى القارىء إلى [فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره] فجعل مالك يبكى ويشهق حتى غشى عليه فحمل بين القوم صريعاً.
* أُتِىَ الحسن البصرى بكوز من ماء ليفطر عليه فلما أدناه إلى فيه بكى وقال ذكرت أمنية أهل النار قولهم [أن أفيضوا علينا من الماء] وذكرت ما أجيبوا به [إن الله حرمهما على الكافرين].
[*] وعن إبراهيم بن الأشعث قال كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة لا يزال يعظ ويذكر ويبكى حتى لكأنه يودع أصحابه ذاهب إلى الآخرة حتى يبلغ المقابر فيجلس فكأنه بين الموتى جلس من الحزن والبكاء حتى يقوم وكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها.(8/435)
[*] وعن عاصم قال: سمعت شقيق بن مسلمه يقول وهو ساجد رب اغفر لي رب اغفر لي إن تعف عنى تعف عنى تطولا من فضلك وإن تعذبني تعذبني غير ظالم لي قال ثم يبكى حتى أسمع نحيبه من وراء المسجد.
(ذاك والله هو الإيمان الحق الذي ليس بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقة العمل وهؤلاء هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون وإن لم يكن هؤلاء أولياء الله فليس لله ولى.
(إخفاء البكاء:
وبالتأمل في سيرة هؤلاء الصالحين الباكين من خشية الله تعالى نجد أنهم اشتركوا في صفة واحدة على تنوع عباداتهم واجتهاداتهم في طاعة الله تعالى تلك الصفة هي الإخلاص المنافي للرياء فلقد كانوا رضي الله عنهم أبعد الناس عن أن يراهم أحد حال البكاء حرصاً منهم أن لا يدخل العُجْب قلوبهم فتبطل عبادتهم وتراهم شددوا بلسان الحال والمقال على هذه الصفة ابتغاء نيل الأجر كاملاً غير منقوص من رب العالمين لا من مدح المادحين.
[*] قال الحسن البصري:
إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها فإذا خشي أن تسبقه قام.
وقال عبد الكريم بن رشيد: كنت في حلقه الحسن فجعل رجل يبكى وارتفع صوته فقال الحسن إن الشيطان ليبكى هذا الآن.
[*] وكان أيوب السختيانى في ثوبه بعض الطول لستر الحال وكان إذا وعظ فرقَّ فَرَقَ من الرياء فيمسح وجهه ويقول: ما أشد الزكام.
[*] وقال حماد بن زيد: دخلنا على محمد بن واسع في مرضه نعودة قال فجاء يحيى البكاء يستأذن عليه فقالوا: يا أبا عبد الله هذا أخوك أبو سلمه على الباب قال: من أبو سلمه؟ قالوا: يحيى قال: من يحيى؟ قالوا: يحيى البكاء قال حماد: وقد علم أنه يحيى البكاء فقال شر أيامكم يوم نسبتم فيه إلى البكاء.
[*] وعن القاسم بن محمد قال: كنا نسافر مع ابن المبارك فكثيراً ما كان يخطر ببالي فأقول في نفسي بأي شيء فضل هذا الرجل علينا حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة إن كان يصلى آنا نصلى وإن كان يصوم آنا نصوم وإن كان يغزو فآنا نغزو وإن كان يحج آنا لنحج قال فكنا في بعض مسيرتا في طريق الشام ليله نتعشى في بيت إن طفئ السراج فقام بعضنا فأخذ السراج وخرج يستصبح فمكث هنيهة ثم جاء بالسراج فنظرت إلى وجه ابن المبارك ولحيته قد ابتلت من الدموع فقلت في نفسي بهذه الخشية فضل هذا الرجل علينا ولعله حين فقد السراج فصار إلى ظلمه ذكر القيامة.
(20) التضرع إلى الله في الدعاء:
(تعريف التضرع:(8/436)
التضرع لغةً: يدو ر حول الطلب بذل وخضوع واستكانة، ومادة ضرع تدل على لينٍ في الشيء، ومن هذا الباب ضرع الشاة، فلو نظرت إلى صغير الحيوان حين يلتقم ثدي أمه، فيلح ويرتفع وينخفض ويجتهد بكل قوته كي يجذب هذا اللبن الذي به حياته لعرفت مدى الارتباط بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي للتضرع.
التضرع شرعا: هو دعاء الله وسؤاله بذل وخشوع وإظهار للفقر والمسكنة، وهذا الحالة يحبها ربنا ويرضاها، بل أمر عباده بها:
(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (الأعراف:55)
(ضرورة التضرع لله:
الإنسان لا يستغني عن ربه طرفة عين ولا أقل من ذلك، ولهذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يردد كثيرا: " لا تكلني إلى نفسي طرفة عين.
(حديث أبي بكرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين و أصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت.
ولله درُّ من قال:
لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا وبتُّ أشكو إلى مولاي ما أجد
وقلت يا أملي في كل نائبة ومن عليه لكشف الضر أعتمد
أشكو إليك أموراً أنت تعلمها مالي إلى حملها صبر ولا جلد
وقد مددت يدي بالذل مبتهلاً إليك يا خير من مدت إليه يد
فلا تردنها يا رب خائبة فبحر جودك يروي كل من يرد
(نريد أن يكون المسلمين أولياء عباداً أتقياء تتزلزل الجبال إذا رفعوا أيديهم بالدعاء نريد قلوباً مخبتة منيبة .. نريد الرجل الذي إذا رفع يديه لا يردها الله تبارك وتعالى إلا وقد حقق له ما يريد، وإن الله تعالى حيي كريم كما جاء في الحديث الآتي:
(حديث سلمان في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا.
نريد الذي يدعو على جبار فيقصمه الله عز وجل، نريد من يدعو على دولة الكفر؛ فيدمرها رب العالمين، نريد من يدعو على ظالم من الظلمة؛ فينتقم الله منه ويجعله عبرة وآية للعالمين،
ونريد مثل محمد بن واسع وهو من موالي زهران، أي أنه من هذه القبيلة الخيرة الطيبة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {مولى القوم منهم}.
إن قتيبة بن مسلم الباهلي رحمه الله، كان يعد الجيوش لحرب أكبر جبهة كانت في تاريخ العالم الإسلامي وفي تاريخ الفتوحات، وهي الجبهة الشرقية حيث الهند والصين والترك، وهي أعتى الشعوب في القتال؛(8/437)
فكان يريد أن يقاتل وأن يجاهد هؤلاء، فأعد العدة المادية كاملة وبقيت العدة الأخرى، لأنه لا ينسى أحدٌ من قادة المسلمين وصية عمر بن الخطاب لسعد بن أبي وقاص: [واعلم أن المسلمين إنما ينصرهم الله تبارك وتعالى بطاعتهم لله وبمعصية عدوهم له، فإذا استوينا نحن وهم في المعصية؛ كان لهم الفضل علينا في القوة]
أي: فنحن عدتنا الطاعة، وكفى بها عدة، ففي تلك الليلة أعد كل شيء وبيت للهجوم ثم قال: اذهبوا فالتمسوا هل في المسجد أحد -هكذا نريد مثل هؤلاء تقي خفي لا يدري عنه أحد، ولكنه يأتي بدعوة هي خير من هذه الجيوش كلها، أو رديفة ومساندة لهذه الجيوش كلها- قالوا: ما وجدنا فيه إلا محمد بن واسع رافعاً إصبعه -أي: يدعو بإصبع واحدة- قال: إصبعه تلك أحب إلي من ثلاثين ألف فارس.
(وذلك لأنه إذا قال: يارب، استُجيب له بإذن الله تبارك وتعالى؛ لأنهم يبيتون لربهم سجداً وقياماً، ويفزعون إليه تبارك وتعالى، فهم جنده، والدين دينه والدعوة دعوته، والجند جنده والعباد عبيده، والأعداء أعداؤه.
إذاً: لا بد أن يفزعوا إليه ولا بد أن ينادوه وأن يتضرعوا إليه.
[*] (واعلم أن الغاية من أخذ العباد بالبأساء والضراء أن يتضرعوا إلى الله:
إن العباد قد يغفلون في أوقات الرخاء عن هذه العبادة الجليلة لكن لا ينبغي أن يغفلوا عنها في أوقات البلاء والمحنة ولو أنهم غفلوا في الحالين لعرضوا أنفسهم لعقوبة الله:
قال تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 44،45)
إن من أعظم أسباب دفع البلاء تضرع العبد لربه جل وعلا كما بيّن الله في كتابه الكريم: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
) ... الأنعام:43،42
(فالغاية من أخذ العباد بالبأساء والضراء أن يتضرعوا إلى الله.(8/438)
إن العباد قد يغفلون في أوقات الرخاء عن هذه العبادة الجليلة لكن لا ينبغي أن يغفلوا عنها في أوقات البلاء والمحنة ولو أنهم غفلوا في الحالين لعرضوا أنفسهم لعقوبة الله: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 44،45)
(ولقد أخبر الله تعالى عن أقوام ابتلاهم وتوعدهم بالعذاب فاستكان بعضهم وتضرع إلى الله فكشف الله عنهم عذاب الدنيا، وأخبر عن آخرين ابتلاهم وتوعدهم لكنهم تكبروا وتجبروا وما استكانوا ولا تضرعوا فأخذهم العذاب.
أما الأولون الذين تضرعوا فمنهم قوم يونس عليه السلام الذين قال الله عنهم: (فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) (يونس:98)
[*] وقد ذكر بعض المفسرين:
أن قوم يونس خرجوا إلى الطرقات واصطحبوا نساءهم وأطفالهم ودوابهم ودعوا وجأروا إلى الله، وقيل: إنهم ظلوا على هذه الحالة أياما يدعون ويستغيثون ويتضرعون ويبكون فكشف الله عنهم عذاب الدنيا منةً منه وفضلا.
أما الآخرون الذين لم يظهروا الفقر والضراعة فقد قال عنهم: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ* حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) (المؤمنون: 76،77)
[*] (الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيد المتضرعين:
لقد كانت حياة رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلها لله، فكان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير من تضرع إلى الله في الشدة والرخاء، وقد رأيناه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل أحواله متضرعا خاشعا متذللا لربه تبارك وتعالى.
(في الاستسقاء:
خرج متبذلا متواضعا متضرعا حتى أتى المصلى فلم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير وصلى ركعتين كما كان يصلي في العيد.
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح الترمذي) قال خرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للاستسقاء متذللاً متواضعاً متخشِّعاً متضرعا.
(وعند رمي الجمار:(8/439)
فإنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يرمي الجمار في أيام التشريق إذا زالت الشمس، ويكبر مع كل حصاة، فإذا رمى الأولى وقف يدعوا ويتضرع، وكذا بعد الثانية، أما الثالثة فلم يكن يقف عندها.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبر على إثر كل حصاة، ثم يتقدم حتى يسهل، فيقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلا، ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل، ويقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلا، ويدعو ويرفع يديه، ويقوم طويلا، ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرف، فيقول: هكذا رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعله.
وفي الجهاد:
رأيناه يتضرع ويدعو في بدر ويستنصر ربه حتى أنزل الله المدد: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) (الأنفال:9)
وفي يوم الأحزاب:
دعا ربه وتضرع حتى صرف الله عن المسلمين الشر وكفاهم كيد أعدائهم.
وعند الكرب:
يذكر ربه ويذل له ويدعوه:
(حديث ابن عباس في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول عند الكرب لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم.
(حديث أبي بكرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين و أصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كربه أمر قال يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث.
وهكذا كان في كل أحواله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهكذا تعلم منه أصحابه وعلموا مَنْ بعدهم.
نسأل الله أن يجعلنا أفقر خلقه إليه، وأغناهم به عمن سواه.
(كيفية التضرع:
أرأيتم العجل الصغير من البقر أو من الإبل أو من أي شيء، كيف يرضع! وكيف يفعل إذا لم يرضع! أرأيتم تلك الحالة؟(8/440)
وكيف يرتفع وينزل ويحاول ويحاول ويمتص ويحرص وهكذا، فالضراعة مأخوذة من ذلك؛ فالواحد لا يرفع يده اللهم اغفر لي، ويمر منها كبعض الناس، بدون تضرع، بل اجعله دعاء ضراعة وتضرع والتمس الخير من عند الله لعله أن ينزل عليك، وبنفس الحرص والرغبة والشدة القلبية التي يفعلها هذا الصغير من الحيوان وهو يأخذ من الضرع، واطلب ذلك سواءً أكان مطراً أم غيثاً، أم رحمة أم نصراً أم رزقاً أم توفيقاً أم أي شيء.
تضرع إلى الله فبالضراعة يدفع الله تبارك وتعالى العذاب؛ ولهذا يقول سبحانه: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون:76] أي: لو أن الناس استكانوا لربهم
فما معنى الاستكانة؟
الاستكانة: هي الطمأنينة والخضوع الكامل الذي يناسب الهون، الذين يمشون على الأرض هوناً أي: مستكينين- وتضرعوا إلى الله عز وجل؛ لكشف الله تعالى عنهم العذاب كائناً ما كان.
وليس الحال كحالنا اليوم: إذا نزل العذاب جرينا وراء الأسباب، وانتقلنا من سبب إلى سبب إلى سبب، حتى نضيع في أودية لا نهاية لها، والطريق سهل والاتصال بالله تبارك وتعالى ميسور؛ ونتضرع إليه فيكون كل ما نريد بإذن الله تبارك وتعالى من خيره وفضله.
(وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً) [الفرقان: 64]
أي: وهاتان الحالتان في الصلاة؛
سُجَّداً: السجود فأقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد؛
وَقِيَاماً: القيام فأفضل الصلاة طول القنوت والقيام، وهو الذي يجعل الإنسان مثلما رأت تلك البنت أو الجارية ذلك الرجل كأنه خشبة.
فبالسجود وبالقيام وبالدعاء وبتدبر الآيات والتفكر فيها في القيام ترى العجب، وبالبكاء في السجود ترى العجب الآخر، سبحان الله العظيم!
ولهذا جاء عن بعض السلف في تدبر الآيات وفي قراءة آية واحدة من كتاب الله مواقف عجيبة جداً وكيف تفعل الآية في القلوب؛ فكيف بك إذا قرأ المئات من الآيات، حتى كان بعضهم يريد أن يصلي بعض الليل أو ثلثه، ولا يشعر إلا وقد طلع عليه الفجر، فإلى الفجر وهو ما يزال واقف لا يشعر بالوقت؛ لأنه يستغرق بعمق في هذه الآيات وفي معانيها.
وكما قرأ بعضهم قول الله تعالى: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ [سبأ:54]
فكيف حيل بينهم وبين ما يشتهون.(8/441)
فيشتهي الإنسان في هذه الدنيا، المال والراحة والزوجة والبيت وهو في هذا التعب كله ويعمل فيه، فتأتي لحظة ثم يحال بينهم وبين ما يشتهون، ولو فكر الواحد كيف يحال بينهم في لحظة واحدة يسلب هذا كله الملك، والمال، والمنصب، والسلطان، والزوجة، والبيت وكل شيء فإذا حيل بينك وبين ما تشتهي وبدأت تفكر: ماذا قدمت وماذا أمامك؟
فهذه هي العبرة، لو فكر الإنسان وتأمل، كيف أنه يحال بينه وبين ما يشتهي وبين ما تعب. فسنوات من عمرك وأنت تزين هذه العمارة، ومالك كله قضيته وأنت تتفنن في هذه الحديقة، وفي اختيار هذا المنزل، ثم يقال لك: ارجع إلى ما أترفت فيه، لماذا تركض؟
ولماذا تذهب؟
فحيل بينهم وبين ما يشتهون، أي: بنزول الموت وبنزول العذاب ينتهي كل شيء؛ ثم يحاسب عليها ويتمنى أنه سلم منها -على الأقل- حتى يخفف عليه الحساب؛ لكنه يحاسب عليها، ويتمتع بها غيره؛ وهذا من ضيق الدنيا وخستها وحقارتها إذا قورنت بالآخرة.
(أسباب التضرع إلى الله:
مسألة: ما هي أسباب التضرع إلى الله؟
الجواب:
ذكرنا أن الإنسان في كل وقت محتاج إلى أن يدعو الله، وأن يتضرع إليه، ولعلنا لو رجعنا إلى المعنى اللغوي للتضرع لأفادنا في معرفة المعنى الشرعي، فالتضرع: كلمة اشتقت من الضَرع، والضَرع معروف لذوات الخف من الحيوان، كالإبل والبقر التي يكون فيها ضَرع.
والتضرع أن يأتي صغير هذه الحيوان فيرتضع ويلتقم هذا الثدي، فتراه عند ارتضاعه يلح ويرتفع ويحاول بكل قوته أن يجذب هذا اللبن الذي لا يمكن أن يعيش إلا به، نعمة من الله وفضلاً، ففي هذه الصورة البيانية مثل هذا الضرع، من جهة أن أصل خروج المولود هو من هذه الأم، كما أن أصل نموه -بإذن الله تعالى- ناشئ عن هذه الأم، ثم هو لهذا لا يمكن أن يستغني عنها، فلو قطع عنه اللبن لما أمكن أن يعيش أبداً بهذا الشكل.
وكذلك أيضاً أصل الإنسان وجوده، هو من رحمة الله وفضله، ثم هو لذلك يحتاج أن يرفع يديه وأن يتضرع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويلح في الدعاء، ويجتهد بحرص على ما يقيم حياته ويدفع عنه الشر والسوء، كما يجتهد ويلح ويحرص ذلك الحيوان عندما يرتضع من الثدي أو الضرع، ففي كل وقت وفي كل لحظة، نحن لا نستغني عن الله، ولهذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو بقوله: {ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين.(8/442)
(حديث أبي بكرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين و أصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت.
فانظر إلى هؤلاء الكفار الذين وكلهم الله إلى أنفسهم -قديماً وحديثاً- واستدرجهم بالنعم فظنوا أنهم أقوى ما يكونون، فعندها يخذلهم الله عز وجل، فيفقدون قواهم ويكونون أحوج ما يكونون إليه، فيسقطون وإذا بهم لا شيء، وتذهب كل قوة إلا من عصمه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وحفظه بقوته، فأسباب التضرع كامنة في كل حركة من حركاتك، فأنت في كل يوم تحتاج إلى أن يرفع الله عنك البلاء، وأن يرزقك وأن يعطيك الصحة والعافية، وأن يوفقك لطاعته، فعليك أن تتمسك بدينه وألا تستغني عنه لحظة، ولذا فأسباب التضرع والدعاء قائمة.
(من لوازم التضرع الابتعاد عن المعاصي:
مسألة: هل ينفعنا التضرع الآن ولا تزال المنكرات بيننا لم تتغير؟
الجواب:
هذا من ذاك، نريد أن نغير المنكر لا أن ندعوا الله ونُصِر على المنكر، لكن التضرع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يستلزم الإقلاع عما نحن فيه من المنكر، ولا شك أن من يدعو الله صادقاً بقلب خالص، ويبتعد ويتجنب معاصي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يقرب منها أن الله يستجيب له؛ لأن التضرع إلى الله لا يقصد به مجرد الدعاء فقط، بل يقصد به -أيضاً- الإقلاع عن الذنوب وترك المعاصي.
يجب أن نصلي الصلوات الخمس جماعة حيث ينادى بهن، وأن نتلافى التقصير، ونقبل على قراءة كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن ننكر المنكرات، بل يجب أن نحيي شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيننا، في مجتمعاتنا وفي أسواقنا وفي مجالسنا وفي كل مكان.
وإنه لجدير بكل مؤمن أن يراجع نفسه مع كتاب الله، وأن ينظر فيما ابتلى الله تبارك وتعالى به الأمم من قبل، والشعوب من حولنا، وأن نعلم جميعاً أنه لا ملجأ من الله إلا إليه، ولا مفزع من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلا إليه، فلنكن صادقين في قولنا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5](8/443)
ولنكن صادقين في توكلنا على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولنكن صادقين في اعتصامنا بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولنكن صادقين في دعوى أننا نسير على عقيدة السلف، وعلى منهج السلف الصالح، وأننا متمسكون بعقيدة الحق وشريعة الحق، ولنصدق الله؛ يصدقنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولنتب إلى الله ولنجعل ما جاء أو استشرف أو استجد من الفتن سبباً لأن نكف عما حرم الله، وأن نتوب عما أجرمنا، وعما أسلفنا دولاً وأفراداً وجماعات، فهذا واجبنا جميعاً أن نعلم أن هذه المصائب والفتن والمحن، نذير من الله تعالى، فإن تبنا واستغفرنا وأصلحنا، دفعه الله تبارك وتعالى عنا بما يشاء.
(وإذا لم نقلع عن الذنوب والمعاصي فيجب أن نتوقع الابتلاء والعذاب والمصيبة، ما دمنا في هذه الذنوب والمعاصي، التي لا أرى حاجة لأن أعددها وأذكرها فهي ملء السمع والبصر ولا تخفى على أحد منا، فذنوبنا هي السبب، فما وقع بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، كما أن أسباب النجاة بين أيدينا، وأن رحمة الله تبارك وتعالى بالمؤمنين ولله الحمد غير غائبة عنا، ولكن علينا أن نأخذ بهذه الأسباب ونتضرع إلى الله بصدق، وإلا تعرضنا لعقوبة الأمن من مكر الله تعالى ما دمنا مقيمين على المعاصي، وتأمل قوله تعالى (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ *أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأعراف:97 - 98]
أي: ما المانع وما الموجب وما المقتضي للغفلة والإعراض وقسوة القلب وعدم اللجوء إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والتضرع إليه، أهو الأمن؟! فكيف يأمنون والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قادر! والله تبارك وتعالى قوي! والله تعالى عزيز ذو انتقام! كيف يأمنون أن يأتيهم بأس الله بياتاً وهم نائمون!
وكم من أمةٍ جاءها ذلك البأس فأخذهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مصبحين، كما أخذ الله قوم لوط أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [هود:81] فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ [الحجر:83] أو (مُشْرِقِينَ) هكذا أخذ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كثيراً من الأمم، أخذهم بياتاً أو مع الإشراق أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ
[الأعراف:98].(8/444)
وقد أخذ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أيضاً أمماً أخرى وأهلكها، وعذبها وهي ترى العذاب، ومن ذلك ما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن قوم عاد فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا [الأحقاف:24]
نعوذ بالله من القسوة ومن الغفلة- حتى لما رأوا العذاب قالوا: هذا عارض ممطرنا، فما ظنوه إلا استمراراً لهم في الخير واستمراراً للعطاء والنعمة، وما ظنوه إلا سيستمر، وهم لا يحسبونه استدراجاً بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف:25] فكانوا بعد ذلك كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [القمر:20]
وهكذا كل أمة يجب عليها ألا تأمن من مكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [الأعراف:100] لا يصح ولا يجوز لأي أحد أن ينسى، أو يغفل، أو يكف عن التضرع إلى الله والتوبة إليه، والأخذ بالأسباب الواقية من عذابه، والمؤدية إلى النجاة من انتقام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهكذا يجب على الناس أمماً وأفراداً.
أما من كان حاله غير ذلك، فإنما مثله مثل الذي قال: وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً [مريم:77] فرد الله عليه: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً [مريم:78]
هل أعطانا الله تبارك وتعالى عهداً وميثاقاً أن يعذب الأمم ويبتليها ولا يبتلينا؟ لا والله، ومن أين لنا ذلك؟! فقد رأينا عِبَرَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ورأينا أيام الله التي فعلها بالأمم التي قبلنا، ورأينا ما حدث في أوروبا في الحرب العالمية الثانية، وسمع الناس بذلك.
أقول: الأمة في مجموعها علمت بذلك، ثم رأى الناس ما حل بأهل لبنان مع ما كانوا فيه من الرخاء والنعمة، لكن لما طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد صب الله عليهم سوط عذاب، وجعل الفتنة فيما بينهم، وكان الهرج -القتل- حتى أن القاتل لا يدري فيما قَتل ولا المقتول فيما قُتل، ولا يخفى ذلك على أحد.
(من التضرع القنوت في الصلاة:
مسألة: هل يكون التضرع أيضاً في القنوت في الصلوات كما قنت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟
الجواب:(8/445)
نعم، القنوت من التضرع، ولا بأس به -إن شاء الله- فإذا لم يُفعل جماعةً فنستطيع أن نفعله فُرَادَى، والدعاء فُرَادَى وفي جوف الليل والإنسان خال بربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من أرجى أنواع الدعاء، وكل منا يدرك ذلك -ولله الحمد- فافعلوه، وهل يضيرنا في شيء؟!
بل هو والله خير لنا في الدنيا والآخرة، فهذا الدعاء خير لنا في معادنا وفي مآلنا بل نحتاجه، ونؤجر عليه، ونثاب عليه، كما في حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بأن نُعطى ما دعونا أو نعطى من الخير مثله أو يُصرف عنا من الشر مثله، فالدعاء كله خير، وكله بركة، فإذا دعونا الله فلنستحي بطبيعة الحال أن نعصيه، بل يجب أن يجدنا حيث أمرنا، وأن لا يجدنا حيث نهانا، والله المستعان.
(النجاة من عقوبة الله تكون بالدعاء والتضرع:
وإن مما شرعه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وجعله سبباً -بل هو من أعظم الأسباب- لاتقاء عذابه وسخطه، دعائه والتضرع إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والتوبة والاستغفار والإنابة، فنحن في هذه الأيام أحوج ما نكون إليها، وإن كنا محتاجين إليها في كل وقت وفي كل حين؛ لكن مع هذه الفتن ومع هذه الأحداث فنحن أحوج ما نكون إلى أن لا ننسى ذلك.
ولا سيما أن الذين أخاطبهم جلهم من طلبة العلم -ولله الحمد- وفيهم الدعاة والأئمة والخطباء، وبهم تتأثر الأمة -إن شاء الله- وينتشر الخير فيها، فيجب أن ننشر هذا الحق وهذا الخير، وأن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا، وأن نجتهد في دفع هذا البلاء عن الأمة ببيان أسباب الوقاية منه -بإذن الله تبارك وتعالى- وهذا من أعظمها كما بين الله عز وجل ذلك، بل إن الله تبارك وتعالى جعل التضرع غاية كما ذكرنا في الآية السابقة وهي قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ [الأعراف:94] وفي الآية الأخرى وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ [الأنعام:42](8/446)
فالأخذ بالبأساء وهي: الحروب والضراء، وهي تعم الفتن والجدب والقحط وكل ما من شأنه أن يضار الناس، الغاية منها لعلهم يضرعون -أي: كي يضرعوا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فإن الناس إن لم يعرفوا الله تبارك وتعالى في الرخاء فلا بد أن يتعرفوا إليه في الشدة، وإن من أعظم وأكثر الناس قسوة وأعظمهم غفلة الذين لا يتضرعون إلى الله لا في الرخاء ولا في الشدة، ولهذا قال عز وجل في الأنعام: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:43 - 45]
فانظروا إلى إمهال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى للأمم السابقة ففي أول الأمر أخذهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلما لم يتضرعوا وقست قلوبهم حلت ووقعت عليهم العقوبة، فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء، استدراجاً من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لهم.
ومن هنا قال لنبيه وللمؤمنين: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ [آل عمران:196] لأن هذا فتح من الله؛ يفتح الله عليهم أبواب كل شيء ثم في النهاية إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]
فيأخذهم بغتة؛ لأنه قد أنذرهم وقد خلت من قبلهم المثُلات وقد جاءتهم النذر، ولكنهم أعرضوا ونسوا ما ذكروا به، فعند ذلك يقطع دابرهم بأليم عقابه، نسأل الله العفو والعافية.
(حال من تضرع ومن أبى التضرع:
فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا [الأنعام:43] فلو أنهم تضرعوا إلى الله لكشف عنهم السوء، ولهذا استثنى الله تبارك وتعالى من الأمم قوم يونس يقول الله تعالى: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [يونس:98](8/447)
فذكر المفسرون من السلف رحمهم الله في هذه الآية أن قوم يونس خرجوا إلى الصعدات، وجأروا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وخرجوا بأطفالهم ونسائهم ودوابهم، وقيل: إنهم ظلوا على هذه الحالة أربعين ليلة وهم يستغيثون ويتضرعون ويدعون ويبكون ويستغفرون فكشف الله تبارك وتعالى عنهم العذاب في هذه الحياة الدنيا، وهذا من فضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ومن سعة رحمته.
أما الذين يصرون ويعاندون ويستكبرون على الله ولا يتضرعون إليه ولا ينيبون؛ فإنه يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وهذا ما بينه في سورة الأنعام وكما بينه أيضاً في آيات الأعراف السابقة، ويقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف:96]
فهناك ذكر أنهم فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:44] وقال هنا: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف:96] وليس أبواب كل شيء؛ ولكن بركات، والبركة في أي أمر حلت فهي خير، أما الذي لا بركة فيه فلا خير فيه. وإن كان كثيراً وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]
(21) التواضع والتبذل في اللباس والهيئة:
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح الترمذي) قال خرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للاستسقاء متبذللاً متواضعاً متخشِّعاً متضرعا.
[*] (التواضع:
قال تعالى: (وَعِبَادُ الرّحْمََنِ الّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىَ الأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً) [الفرقان / 63]
[*] قال ابن كثير رحمه الله:
القول في تأويل قوله تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا}. يقول تعالى ذكره: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا} بالحلم والسكينة والوقار غير مستكبرين , ولا متجبرين , ولا ساعين فيها بالفساد ومعاصي الله.
[*] قال القرطبي رحمه الله:
قال ابن عباس: بالطاعة والمعروف والتواضع.
وقال الحسن: حلماء إن جهل عليهم لم يجهلوا. وقيل: لا يتكبرون على الناس. قلت: وهذه كلها معان متقاربة , ويجمعها العلم بالله والخوف منه , والمعرفة بأحكامه والخشية من عذابه وعقابه ; جعلنا الله منهم بفضله ومنه.(8/448)
(حديث عِياضِ بن حمار في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد و لا يبغي أحد على أحد.
(تعريف التواضع:
التواضع هو: عقد القلب على صَغار النفس المؤثر في عواطفه وميوله وجوارحه في مقابل اللَّه سبحانه وتعالى، وفي مقابل رسله وأوليائه المعصومين، وفي مقابل المؤمنين.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض وسُئِلَ: ما التواضع؟ قال: أن تخضع للحق وتنقاد له، ولو سمعته من صبي قبلته منه، ولو سمعته من أجهل الناس قبلته منه. وسألته: ما الصبر على المصيبة? قال: أن لا تبث.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
(سئل الفضيل بن عياض عن التواضع فقال: يخضع للحق وينقاد له
ويقبله ممن قاله.
(وقيل: التواضع أن لا ترى لنفسك قيمة فمن رأى لنفسه قيمة فليس له في التواضع نصيب وهذا مذهب الفضيل وغيره.
(وقال الجنيد بن محمد: هو خفض الجناح ولين الجانب.
(وقال أبو يزيد البسطامي: هو أن لا يرى لنفسه مقاما ولا حالا ولا يرى في الخلق شراً منه.
(وقال ابن عطاء: هو قبول الحق ممن كان والعز في التواضع فمن طلبه في الكبر فهو كتطلب الماء من النار.
(وقال إبراهيم بن شيبان: الشرف في التواضع والعز في التقوي والحرية في القناعة ويذكر عن سفيان الثوري رحمه الله أنه قال: أعز الخلق خمسة أنفس: عالم زاهد وفقيه صوفي وغني متواضع وفقير شاكر وشريف سني.
(وقال عروة بن الزبير رضي الله عنهما: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء فقلت: يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك هذا فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين دخلت نفسي نخوة فأردت أن أكسرها.
(وولي أبو هريرة رضي الله عنه إمارة مرة فكان يحمل حزمة الحطب على ظهره يقول طرقوا للأمير.
(وركب زيد بن ثابت مرة فدنا ابن عباس ليأخذ بركابه فقال: مه يا ابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بكبرائنا فقال: أرني يدك فأخرجها إليه فقبلها فقال: هكذا أمرنا نفعل بأهل بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(8/449)
(وقسم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بين الصحابة رضي الله عنهم حللا فبعث إلى معاذ حلة مثمنة فباعها واشترى بثمنها ستة أعبد وأعتقهم فبلغ ذلك عمر فبعث إليه بعد ذلك حلة دونها فعاتبه معاذ فقال عمر: لأنك بعت الأولى فقال معاذ وما عليك ادفع لي نصيبي وقد حلفت لأضربن بها رأسك فقال عمر رضي الله عنه: رأسي بين يديك وقد يرفق الشاب بالشيخ.
(ومر الحسن بن علي صبيان معهم كسر خبز فاستضافوه فنزل فأكل معهم ثم حملهم إلى منزله فأطعمهم وكساهم وقال: اليد لهم لأنهم لا يجدون شيئا غير ما أطعموني ونحن نجد أكثر منه.
(ويذكر أن أبا ذر رضي الله عنه عَيَّرَ بلالا رضي الله عنه بسواده ثم ندم فألقى بنفسه فحلف: لا رفعت رأسي حتى يطأ بلال خدي بقدمه فلم يرفع رأسه حتى فعل بلال.
(وقال رجاء بن حيوة: قومت ثياب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو يخطب باثني عشر درهما وكانت قباء وعمامة وقميصا وسراويل ورداء وخفين وقلنسوة.
(ورأى محمد بن واسع ابنا له يمشي مشية منكرة فقال: تدري بكم شريت أمك بثلاثمائة درهم وأبوك لا كثر الله في المسلمين مثله أنا وأنت تمشي هذه المشية.
(وقال حمدون القصار: التواضع أن لا ترى لأحد إلى نفسك حاجة لا في الدين ولا في الدنيا.
(وقال إبراهيم بن أدهم: ما سررت في إسلامي إلا ثلاث مرات: كنت في سفينة وفيها رجل مضحاك كان يقول: كنا في بلاد الترك فأخذ العلج هكذا وكان يأخذ بشعر رأسي ويهزني لأنه لم يكن في تلك السفينة أحد أحقر مني والأخرى: كنت عليلا في مسجد فدخل المؤذن وقال: اخرج فلم أطق فأخذ برجلي وجرني إلى خارج والأخرى: كنت بالشام وعلي فرو فنظرت فيه فلم أميز بين شعره وبين القمل لكثرته فسرني ذلك وفي رواية: كنت يوما جالسا فجاء إنسان فبال علي.
(وقال بعضهم: رأيت في الطواف رجلا بين يديه شاكرية يمنعون الناس لأجله عن الطواف ثم رأيته بعد ذلك بمدة على جسر بغداد يسأل شيئا فتعجبت منه فقال لي: إني تكبرت في موضع يتواضع الناس فيه فابتلاني الله بالذل في موضع يترفع الناس فيه.
(وبلغ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: أن ابنا له اشترى خاتما بألف درهم فكتب إليه عمر: بلغني أنك اشتريت فصا بألف درهم فإذا أتاك كتابي فبع الخاتم وأشبع به ألف بطن واتخذ خاتما بدرهمين واجعل فصه حديدا صينيا واكتب عليه: رحم الله امرءا عرف قدر نفسه.
{تنبيه}: (إن من أهم الأسباب التي تعين الإنسان على التواضع أن يمقت الإنسان نفسه في جنب الله تعالى.(8/450)
[*] قال أبو الدرداء: " لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون أشد لها مقتاً ".
[*] وكان بعض السلف يقول في دعائه في عرفة (اللهم لا ترد الناس لأجلي)!،
[*] وقال محمد بن واسع: لو كان للذنوب ريحٌ ما قدر أحد أن يجلس إلىّ.
مع أنه من كبار العباد في هذه الأمة.
[*] قال يونس بن عبيد: " إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن في نفسى منها واحدة ".
[*] دخل حمّاد بن سلمة على سفيان الثوري وهو يحتضر فقال: (يا أبا عبد الله أليس قد أمنت مما كنت تخافه وتقدم على من ترجوه وهو أرحم الراحمين؟!) قال: (يا أبا سلمة أتطمع لمثلي أن ينجو من النار) قال: (إي والله إني لأرجو لك ذلك).
[*] وقال جعفر بن زيد: (خرجنا في غزاة إلى كابل وفي الجيش صلة بن أشيم فنزل الناس عند العتمة فصلوا ثم اضطجع فقلت: لأرمقنّ عمله، فالتمس غفلة الناس فانسلّ وثبا فدخل غيظة (مجموعة أشجار ملتفة) قريب منا، فدخلت على أثره فتوضأ ثم قام يصلي فجاء أسد حتى دنا منه فصعدت في شجرة فتراه التفت إليه أو عدّه جرو! فلما سجد قلت الآن يفترسه فجلس ثم سلّم ثم قال: (أيها السبع اطلب الرزق من مكان آخر)، فولّى وإن له زئيراً، فمازال كذلك يصلي حتى كان الصبح فجلس يحمد الله وقال: (اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار ومثلي يستحي أن يسألك الجنة)! ثم رجع وأصبح وكأنه بات على حشاياً، أما أنا فأصبح بي ما الله به عليم من هول ما رأيت!
[*] وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (اللهم اغفر لي ظلمي وكفري)، فقال قائل: (يا أمير المؤمنين هذا الظلم فما الكفر؟) قال: (إن الإنسان لظلوم كفّار)، فإذا تمعّن الإنسان حال السلف عرف حاله والبعد الشديد مابينه وبينهم.
[*] (أورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عن مالك بن دينار قال: «رحم الله عبدا قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله تعالى، فكان لها قائدا»
[*] (وأورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عن عن وهب بن منبه: «أن رجلا، تعبد زمانا، ثم بدت له إلى الله تبارك وتعالى حاجة، فصام تسعين سبتا، يأكل كل سبت إحدى عشرة تمرة، ثم سأل حاجته فلم يعطها، فرجع إلى نفسه، فقال: منك أوتيت، لو كان فيك خير أعطيت حاجتك، فنزل إليه عند ذلك ملك، فقال: يا ابن آدم ساعتك هذه التي أزريت فيها على نفسك خير من عبادتك التي قد مضت، وقد قضى الله حاجتك»(8/451)
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضيل بن عياض قال: كيف ترى حال من كثرت ذنوبه وضعف علمه وفني عمره ولم يتزود لمعاده.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضيل بن عياض قال: يا مسكين أنت مسيء وترى أنك محسن وأنت جاهل وترى أنك عالم وتبخل وترى أنك كريم وأحمق وترى أنك عاقل أجلك قصير وأملك طويل.
قال الذهبي رحمه الله: قلت إي والله صدق وأنت ظالم وترى أنك مظلوم وآكل للحرام وترى أنك متورع وفاسق وتعتقد أنك عدل وطالب العلم للدنيا وترى أنك تطلبه لله.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شعيب بن حرب، قال: بينا أنا أطوف بالبيت إذا رجل يمد ثوبي من خلفي فالتفت فإذا بفضيل بن عياض، فقال: لو شفع في وفيك أهل السماء كنا أهلاً أن لا يشفع فينا، قال شعيب: ولم أكن رأيته قبل ذلك بسنة، قال: فكسرني وتمنيت أني لم أكن رأيته.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال: أخذت بيد سفيان بن عيينة في هذا الوادي فقلت له: إن كنت تظن أنه بقى على وجه الأرض شر مني ومنك فبئس ما تظن.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن إبراهيم بن الأشعث قال سألت الفضيل عن التواضع قال التواضع أن تخضع للحق وتنقاد له ولو سمعته من صبي قبلته منه ولو سمعته من أجهل الناس قبلته منه.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن أبي صالح الفراء قال سمعت بن المبارك يقول رأس التواضع أن تضع نفسك عند من هو دونك في نعمة الدنيا حتى تعلمه أن ليس لك بدنياك عليه فضل وأن ترفع نفسك عمن هو فوقك في نعمة الدنيا حتى تعلمه أنه ليس له بدنياه عليك فضل.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن كعب قال ما أنعم الله عز وجل على عبد من نعمة في الدنيا فشكرها لله وتواضع بها لله إلا أعطاه الله عز وجل نفعها في الدنيا ورفع له بها درجة في الآخرة وما أنعم الله عز وجل على عبد من نعمة في الدنيا فلم يشكرها لله ولم يتواضع بها لله عز وجل إلا منعه الله عز وجل نفعها في الدنيا وفتح له طبقا من النار يعذبه به إن شاء الله أو يتجاوز عنه.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن الأصبغ بن نباتة قال كأني أنظر إلى عمر بن الخطاب معلقا لحما في يده اليسرى وفي يده اليمنى الدرة يدور في الأسواق حتى دخل رحله.(8/452)
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن صالح بياع الأكسية عن أمه أو جدته قالت رأيت عليا اشترى تمرا بدرهم فحمله في ملحفته فقلت أحمل عنك يا أمير المؤمنين قال لا أبو العيال أحق أن يحمله.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن حماد بن زيد قال ما رأيت محمد بن واسع إلا وكأنه يبكي وكان يجلس مع المساكين والبكائين.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن بكر بن عبد الله المزني أنه كان يلبس الكسوة تساوي أربعة آلاف ويجالس المساكين ومعه الصرر فيها الدراهم فيدسها إلى ذا وإلى ذا قال وكان موسرا فمات ولم يخلف شيئا فقال الحسن رحمه الله إن بكرا عاش عيش الأغنياء ومات موت الفقراء.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن مسعر قال مر الحسين بن علي على مساكين وقد بسطوا كساء وبين أيديهم كسرا فقالوا هلم يا أبا عبد الله فحول وركه وقرأ (إِنّهُ لاَ يُحِبّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) فأكل معهم ثم قال قد أجبتكم فأجيبوني فقال للرباب يعني امرأته أخرجي ما كنت تدخرين.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن صالح المري قال خرج الحسن ويونس وأيوب يتذاكرون التواضع فقال لهما الحسن وهل تدرون ما التواضع التواضع أن تخرج من منزلك فلا تلق مسلما إلا رأيت له عليك فضلا.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن يحيى بن كثير قال رأس التواضع ثلاث أن ترضى بالدون من شرف المجلس وأن تبدأ من لقيته بالسلام وأن تكره من المدحة والسمعة والرياء بالبر.
(أنواع التواضع:
التواضع نوعان هما:
(1) محمود، وهو ترك التطاول على عباد الله والإزراء بهم.
(2) مذموم، وهو تواضع المرء لذي الدنيا رغبة في دنياه.
فالعاقل يلزم مفارقة التواضع المذموم على الأحوال كلها، ولا يفارق التواضع المحمود على الجهات كلها.
(فضل التواضع:(8/453)
التواضع خلق حميد، وجوهر لطيف يستهوي القلوب، ويستثير الإعجاب والتقدير وهو من أخصّ خصال المؤمنين المتّقين، ومن كريم سجايا العاملين الصادقين، ومن شِيَم الصالحين المخبتين. التواضع هدوء وسكينة ووقار واتزان، التواضع ابتسامة ثغر وبشاشة وجه ولطافة خلق وحسن معاملة، بتمامه وصفائه يتميّز الخبيث من الطيب، والأبيض من الأسود والصادق من الكاذب، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما نقصت صدقة من مال و ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله.
إن المتواضع يبدأ من لقيه بالسلام، ويجيب دعوة من دعاه، كريم الطبع، جميل العشرة، طلق الوجه، باسم الثغر رقيق القلب، متواضعا من غير ذلة، جواداً من غير سرف.
نعم .. فاقد التواضع عديم الإحساس، بعيد المشاعر، إلى الشقاوة أقرب وعن السعادة أبعد، لا يستحضر أن موطئ قدمه قد وطأه قبله آلاف الأقدام، وأن من بعده في الانتظار، فاقد التواضع لا عقل له، لأنه بعجبه وأنفته يرفع الخسيس، ويخفض النفيس، كالبحر الخضم تسهل فيه الجواهر والدرر، ويطفو فوقه الخشاش والحشاش. فاقد التواضع قائده الكبر وأستاذه العجب، فهو قبيح النفس ثقيل الطباع يرى لنفسه الفضل على غيره.
إن التواضع لله تعالى خُلُق يتولّد من قلب عالم بالله سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله وتعظيمه ومحبته وإجلاله. إن التواضع هو انكسار القلب للرب جل وعلا وخفض الجناح والذل والرحمة للعباد، فلا يرى المتواضع له على أحد فضلاً ولا يرى له عند أحد حقاً، بل يرى الفضل للناس عليه، والحقوق لهم قبله. فما أجمل التواضع، به يزول الكِبَرُ، وينشرح الصدر، ويعم الإيثار، وتزول القسوة والأنانية والتشفّي وحب الذات.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبو جعفر الحذاء، قال: سمعت فضيل بن عياض يقول: أخذت بيد سفيان بن عيينة في هذا الوادي فقلت له: إن كنت تظن أنه بقى على وجه الأرض شر مني ومنك فبئس ما تظن.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن المبارك قال: إذا عرف الرجل قدر نفسه يصير عند نفسه أذل من الكلب.
(أنواع التواضع:
التواضع نوعان هما:
(1) محمود، وهو ترك التطاول على عباد الله والإزراء بهم.
(2) مذموم، وهو تواضع المرء لذي الدنيا رغبة في دنياه.(8/454)
فالعاقل يلزم مفارقة التواضع المذموم على الأحوال كلها، ولا يفارق التواضع المحمود على الجهات كلها.
(أمورٌ من التواضع:
(1) اتّهام النفس والاجتهاد في علاج عيوبها وكشف كروبها وزلاتها {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}
(2) مداومة استحضار الآخرة واحتقار الدنيا، والحرص على الفوز بالجنة والنجاة من النار، وإنك لن تدخل الجنة بعملك، وإنما برحمة ربك لك.
(3) التواضع للمسلمين والوفاء بحقوقهم ولين الجانب لهم، واحتمال الأذى منهم والصبر عليهم قال تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر / 88]
(4) معرفة الإنسان قدره بين أهله من إخوانه وأصحابه ووزنه إذا قُورن بهم
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما نقصت صدقة من مال و ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا و ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله.
(5) غلبة الخوف في قلب المؤمن على الرجاء، واليقين بما سيكون يوم القيامة
قال تعالى: {َوبَدَا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} [الزمر /47]
(6) التواضع للدين والاستسلام للشرع، فلا يُعارض بمعقول ولا رأي ولا هوى.
(7) الانقياد التام لما جاء به خاتم الرسل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن يُعبد الله وفق ما أمر، وأن لا يكون الباعث على ذلك داعي العادة.
(8) ترك الشهوات المباحة، والملذّات الكمالية احتساباً لله وتواضعاً له مع القدرة عليها، والتمكن منها
(حديث معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من ترك اللباس تواضعا لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها.
معنى قوله (حلل الإيمان) يعني ما يعطى أهل الإيمان من حلل الجنة
(9) التواضع في جنب الوالدين ببرّهما وإكرامهما وطاعتهما في غير معصية، والحنو عليهما والبِشْرُ في وجههما والتلطّف في الخطاب معهما وتوقيرهما والإكثار من الدعاء لهما في حياتهما وبعد مماتهما
قال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}.
[الإسراء /24]
(10) التواضع للمرضى بعيادتهم والوقوف بجانبهم وكشف كربتهم، وتذكيرهم بالاحتساب والرضا والصبر على القضاء(8/455)
(11) تفقّد ذوي الفقر والمسكنة، وتصفّح وجوه الفقراء والمحاويج وذوي التعفف والحياء في الطلب, ومواساتهم بالمال والتواضع لهم في الحَسَب، يقول بشر بن الحارث: "ما رأيت أحسن من غني جالسٍ بين يدي فقير".
(تواضع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(حديث الأسود بن يزيد الثابت في صحيح البخاري) قال: سألت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صنع في البيت؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله، تعني خدمة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم، قال أصحابه وأنت؟ فقال نعم كنت أرعاها على قراريط َ لأهل مكة.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لو دُعِيتُ إلى ذراعٍ أو كُرَاعٍ لأجبت و لو أُهْدِيَ إليَّ ذراعٍ أو كُرَاعٍ لقبلت ... .
(حديث أنس في صحيح البخاري) قال: كانت ناقةٌ لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسمى العضباء وكانت لا تُسبق، فجاء أعرابي على قَعُودٍ له فسبقها فاشتد ذلك على المسلمين فقالوا: سُبقت العضباء! قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن حقا على الله تعالى أن لا يرفع شيئا من أمر الدنيا إلا وضعه.
{تنبيه}: (وكلما زاد تواضع طالب العلم زاد مقدار الحكمة عنده وتعلم العلم ومتى تكبر قلَّت حكمته ومنع العلم
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من آدمي إلا في رأسه حكمة بيد ملك فإذا تواضع قيل للملك ارفع حكمته و إذا تكبر قيل للملك: دع حكمته.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخيط ثوبه و يخصف نعله و يعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم.
(حديث عائشة رضي الله عنهاالثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفلي ثوبه و يحلب شاته و يخدم نفسه.
(حديث عمر في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تطروني لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله و رسوله.
(حديث سهل بن حنيف رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأتي ضعفاء المسلمين و يزورهم و يعود مرضاهم و يشهد جنائزهم.(8/456)
(حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ابغوني الضعفاء فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم.
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجلس على الأرض و يأكل على الأرض و يعتقل الشاة و يجيب دعوة المملوك على خبز الشعير.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يزور الأنصار ويسلّم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم".
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كانت الأمة من إماء أهل المدينة، لتأخذ بيد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتنطلق به حيث شاءت.
(حديث أبي مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) قال أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل فكلمه فجعل ترعد فرائصه فقال له هون عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد.
(القديد): هو اللحم المملح المجفف في الشمس
(ويقابله التكبُّر:
والتكبر هو: التعالي على اللَّه سبحانه، وهذا كفر باللَّه، أو على رسوله أو الإمام، وهذا كفر بالرسول أو الإمام، أو على المؤمنين، وهذا هو التكبُّر المألوف بين المسلمين الذين لم يهذِّبوا أنفسهم، وهي معصية عظيمة.
وفرق التكبُّر عن الكِبر هو: أنّ الكِبْر مجرد تعاليه على غيره في نفسه. أمّا التكبُّر فهو: إظهار الكِبْر وإبرازه بجوارحه. وفرق الكبر عن العُجْب: أن الكِبْر يكون بالقياس إلى غيره، وهو اللَّه أو الرسول والإمام أو المؤمنون. والعُجْب ما يكون في الإنسان من رؤيته إلى نفسه بالعظمة والزهو والتبختر بذلك ولو من دون قياس بغيره، وهذا - أيضاً - من المعاصي العظيمة.
وقد ذم الله تعالى الكبر في كتابه في أكثر من موضع، قال تعالى:
قال تعالى: (وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إِنّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) [الإسراء / 37]
[*] قال ابن كثير رحمه الله:
يقول تعالى ناهيا عباده عن التجبر والتبختر في المشية
(وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً) أي متبخترا متمايلا مشي الجبارين
(إِنّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ): أي لن تقطع الأرض بمشيك
(وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) أي بتمايلك وفخرك وإعجابك بنفسك بل قد يجازى فاعل ذلك بنقيض قصده كما ثبت في الصحيح(8/457)
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: بينما رجل يمشي في حُلةٍ تُعْجِبْه نَفْسُه مُرَّجِلٍ رأسَه إذ خسف الله به فهو يتجلجلُ في الأرض إلى يوم القيامة.
وكذلك أخبر الله تعالى عن قارون أنه خرج على قومه في زينته وأن الله تعالى خسف به وبداره الأرض
وفي الحديث " من تواضع لله رفعه الله فهو في نفسه حقير وعند الناس كبير ومن استكبر وضعه الله في نفسه كبير وعند الناس حقير حتى لهو أبغض إليهم من الكلب والخنزير.
[*] قال القرطبي رحمه الله:
(وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً) هذا نهي عن الخيلاء وأمر بالتواضع. والمرح: شدة الفرح. وقيل: التكبر في المشي. وقيل: تجاوز الإنسان قدره. وقال قتادة: هو الخيلاء في المشي. وقيل: هو البطر والأشر.
(إِنّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ): يعني لن تتولج باطنها فتعلم ما فيها ويقال: خرق الثوب أي شقه , وخرق الأرض قطعها. والخرق: الواسع من الأرض. أي لن تخرق الأرض بكبرك ومشيك عليها
(وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) أي لن تساوي الجبال بطولك ولا تطاولك. " ولن تبلغ الجبال طولا " بعظمتك , أي بقدرتك لا تبلغ هذا المبلغ , بل أنت عبد ذليل , محاط بك من تحتك ومن فوقك , والمحاط محصور ضعيف , فلا يليق بك التكبر.
[*] قال الطبري رحمه الله:
(وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً): ولا تمش في الأرض مختالا مستكبرا
(إِنّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ): إنك لن تقطع الأرض باختيالك
(وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) بفخرك وكبرك
قال تعالى: (وَلاَ تُصَعّرْ خَدّكَ لِلنّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [لقمان / 18]
إن من نبذ خلق التواضع وتعالى وتكَبَّر، إنما هو في حقيقة الأمر معتدٍ على مقام الألوهية، طالباً لنفسه العظمة والكبرياء، متناسياً جاهلاً حق الله تعالى عليه، من عصاة بني البشر، متجرِّئٌ على مولاه وخالقه ورازقه، منازع إياه صفة من صفات كماله وجلاله وجماله، إذ الكبرياء والعظمة له وحده.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى: العزُ إزاري والكبرياءُ ردائي فمن نازعني عذبته.
والعُجب من جملة أسباب الكبر، فإنَّ من أُعجب بنفسه تعالى على غيره. والسنة طافحةُ بذم العجب وتشنيع فعله والتنفير منه.(8/458)
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: بينما رجل يمشي في حلةٍ تُعْجِبْه نفْسُه ... مُرَّجِلٌ رأسَه يختالُ في مِشْيته إذ خسف الله به الأرض فهو يتجَلْجَلُ في الأرض إلى يوم القيامة.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاث منجيات: خشية الله تعالى في السر و العلانية و العدل في الرضا و الغضب و القصد في الفقر و الغنى و ثلاث مهلكات: هوى متبع و شح مطاع و إعجاب المرء بنفسه.
(حديث معاوية في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من سرَّه أن يتمثل له الرجال قياماً، فليتبوأ مقعده من النار.
[*] (التبذّل فى اللباس والهيئة:
التبذل في اللباس والهيئة بالشعث والإغبار وهو أيضا من المقتضيات لإجابة الدعاء للحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك.
أشعث أغبر: علامة على الابتذال والتذلل فهو أشعث في لباسه أغبر في هيئته في شكله في شعره.
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح الترمذي) قال خرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للاستسقاء متبذللاً متواضعاً متخشِّعاً متضرعا.
[*] وكان مطرف بن عبد الله قد حبس له ابن أخ فلبس خلقان ثيابه وأخذ عكازا بيده فقيل له ما هذا قال أستكين لربي لعله أن يشفعني في ابن أخي الثالث.
{تنبيه}: (قد يوجد من لا يؤبه به لفقره وضعفه وذلته؛ لكنه عزيز على الله تعالى لا يرد له سؤالاً، ولا يخيب له دعوة فالعبرة بالصلاح لا بالقوة.
(22) الرغبة والرهبة:
وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُواْ لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء /90]
[*] قال ابن كثير رحمه الله: قال الثوري رغبا فيما عندنا ورهبا مما عندنا "
[*] قال القرطبي رحمه الله:
أي يفزعون إلينا فيدعوننا في حال الرخاء وحال الشدة. وقيل: المعنى يدعون وقت تعبدهم وهم بحال رغبة ورجاء ورهبة وخوف , لأن الرغبة والرهبة متلازمان.
[*] قال الطبري رحمه الله:(8/459)
رغبا أنهم كانوا يعبدونه رغبة منهم فيما يرجون منه من رحمته وفضله ورهبا يعني رهبة منهم من عذابه وعقابه , بتركهم عبادته وركوبهم معصيته.
(فالرغبة في الدعاء هي الاتجاه إلى الله خشوعا من الإنسان، ورفعا للأمر إليه دائما، وهذا ما يضمن الصلة الدائمة بين العبد وربه ..
فإذا أتى حسنة، دعا الله أن يتقبلها ..
وإذا أتى عملا صالحا، دعا الله أن يبارك فيه ..
وإذا أصابته شدة، دعا الله أن يخففها عنه ..
وإذا جاءه خير شكر الله، ودعاه ألا يكون فتنة ..
وإذا مشى خطوة، دعا الله أن يوفقه فيها ..
وإذا اتخذ قرار، دعا الله ألا يكون ظالما فيه ..
وهكذا هو يعيش مع الله في كل لحظة، رغبة في إرضائه، واتباع منهجه.
ثم يأتي المعنى الثاني وهو الرهبة .. أي الخوف من الله تعالى والإيمان بقدرته وقوته .. والدعاء هنا يجعل الداعي يذكر الحي القيوم القائم على ملكه، لا يتركه، ويجعل الداعي يعلم أن الله سبحانه لا تأخذه سنة ولا نوم .. ومن هنا فإنه يعرف يقينا أنه لا يستطيع أن يخدع الله، لأن المواجهة هنا ليست بين متساويين .. ولهذا فالذي يحاول أن يخدع الله فإنما يخدع نفسه .. لأن الله يملك كل القدرات بلا حدود ولا قيود.
وهذه الرهبة تجعل العبد لا يخالف منهج الله .. فهو يخشى الله حينما توسوس به نفسه من شر، فيستعيذ به .. هذه هي الرهبة هي قمة أخرى من قمم الإيمان .. تجعل الإنسان يرقب نفسه في السر والعلانية، ويعلم أن ما يخفيه في السر يعلمه الله .. ويؤمن بأنه لا يستطيع أن يخدع الله ..
ولذلك فإن الذين يخشون الناس ولا يخشون الله إنما يعتقدون أنهم بخداعهم البشر هم أذكى منهم، وأنهم حصلوا على فوز كبير .. بينما هم في الحقيقة قد عموا عن أن الله سبحانه وتعالى يعلم سرهم وجهرهم.
(23) الدعاء في كل الأحوال في الشدة والرخاء، وفي المنشط والمكره:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد و الكرب فليكثر الدعاء في الرخاء.
{تنبيه}: (إن من أهم أسباب رد الدعاء على صاحبه سوء حال الداعي فالكثير منا لا يدعو الله ولا يلجأ ولا يستغيث ولا يستنصر إلا في الشدة والضراء وعند الرخاء والسرور ننسى الله ونبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة.(8/460)
والمعنى: من أحب أن يستجيب الله له عند الشدائد، وهي الحادثة الشاقة، والكُرَب: وهي الغم الذي يأخذ النفس، فليكثر الدعاء في حالة الصحة والفراغ والعافية، لأن من شيمة المؤمن أن يلجأ إلى الله تعالى ويكون دائم الصلة به، ويلتجئ إليه قبل الاضطرار (1). قال الله تعالى في يونس عليه الصلاة والسلام حينما دعاه فأنجاه واستجاب له: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (2).
وقد حرص السلف رضوان الله عليهم على الدعاء في سائر شؤونهم فقد كانوا يسألون الله في كل شيء حتى العلف لدوابهم والملح في الطعام "
وكثير من الناس لايدعو الله إلا في الشدائد والأزمات, وهذا مسلك خطأ والمشروع للمؤمن أن يدعو الله في السراء والضراء وإذا كان دائم الاتصال بالله أجيبت دعوته في الشدائد.
(هذا يونس بن متّى نبي الله يسقط في لجج البحار فيبتلعه الحوت فهو في ظلمة جوف الحوت في ظلمة جوف البحر في ظلمة الليل, في ظلمات ثلاث, فلا أحد يعلم مكانه, ولا أحد يسمع نداءه, ولكن يسمع نداءه من لا يخفى عليه الكلام, ويعلم مكانه من لا يغيب عنه مكان, فدعا وقال وهو على هذه الحال: (وَذَا النّونِ إِذ ذّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنّ أَن لّن نّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىَ فِي الظّلُمَاتِ أَن لاّ إِلََهَ إِلاّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّي كُنتُ مِنَ الظّالِمِينَ) [الأنبياء / 87]
فسمعت الملائكة دعائه, فقالت: صوت معروف في أرض غريبة, هذا يونس لم يزل يرفع له عمل صالح ودعوة مستجابة.
{تنبيه}: (هذا الدعاء من أعظم أنواع الدعاء، لاشتماله على الآتي:
أولاً: على توحيد الله (لا إله إلا أنت)
وهو أعظم وسيلة إلى الله تعالى، وأعظم طاعة وأعظم وقربة.
ثم ثنى بالتنزيه (سبحانك) تنزيه الله عما لا يليق به عز وجل، فكل ما يفعل، وكل ما يقدر فله فيه الحكمة البالغة، فهو منزه عما لا يليق بجلاله وكماله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعظيم شأنه.
ثم ثلث ببيان عجزه وضعفه وفقره وظلمه لنفسه، وهكذا كل عبد بالنسبة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ينبغي له أن يكون كذلك إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]
(فيجئ الجواب الإلهي له:
(فَلَوْلاَ أَنّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ)
[الصافات 143، 144]
__________
(1) انظر: تحفة الأحوذي 9/ 324.
(2) سورة الصافات، الآيتان: 143، 144.(8/461)
(أتاه الجواب بالنجاة (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجّيْنَاهُ مِنَ الْغَمّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ)
[الأنبياء / 88]
[*] قال الحسن البصري:
"ما كان ليونس صلاة في بطن الحوت, ولكن قدم عملاً صالحًا في حال الرخاء فذكره الله في حال البلاء, وإن العمل الصالح ليرفع صاحبه فإذا عثر وجد متكأً".
{تنبيه}: (هنا نذكر قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفعلُ المعروف يقي مصارع السوء.
(حديث أبي سعيد الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (صدقةُ السر تُطفئُ غضب الرب، وصلةُ الرحم تزيدُ في العمر، وفعلُ المعروف يقي مصارع السوء)
هناك فرق بين من عرف الله في الرخاء ومن ضيعه, فرق بين من أطاع الله في الرخاء ومن عصاه.
فمن عامل الله بالتقوى والطاعة في حال رخائه عامله الله باللطف والإعانة في حال شدته.
أذكرك أخي خبر الثلاثة من بني إسرائيل الذين قص النبي عليه السلام قصتهم, وأخبر خبرهم, يوم أن آواهم المبيت إلى غار فتدهدهت عليهم صخرة عظيمة أغلقت فم الغار, فإذا الغار صندوق مغلق محكم الإغلاق, مقفل موثق الإقفال.
إن نادوا فلن يسمع نداؤهم, وإن استنجدوا فلا أحد ينجدهم, وإن دفعوا فسواعدهم أضعف وأعجز من أن تدفع صخرة عظيمة سدت باب هذا الغار, وكانت كربة, وكانت شدة, فلم يجدوا وسيلة يتوسلون بها في هذه الشدة إلا أن يتذكروا معاملتهم في الرخاء, فدعوا الله في الشدة بصالح أعمالهم في الرخاء. وإليك الحديث:
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: خرج ثلاثة يمشون فأصابهم المطر، فدخلوا في غار في جبل، فانحطت عليهم صخرة، قال: فقال بعضهم لبعض: ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه.
فقال أحدهم: اللهم إني كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت أخرج فأرعى، ثم أجيء فأحلب فأجيء بالحلاب، فآتي أبواي فيشربان، ثم أسقي الصبية وأهلي وامرأتي، فاحتبست ليلة، فجئت فإذا هما نائمان، قال: فكرهت أن أوقظهما، والصبية يتضاغون عند رجلي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهما، حتى طلع الفجر، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا فرجة نرى منها السماء، قال: ففرج عنهم.(8/462)
وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أني أحب امرأة من بنات عمي كأشد ما يحب الرجل النساء، فقالت: لا تنال ذلك منها حتى تعطيها مائة دينار، فسعيت حتى جمعتها، فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركتها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا فرجة، قال: ففرج عنهم الثلثين.
وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أني استأجرت أجيرا بفرق من ذرة فأعطيته، وأبى ذلك أن يأخذ، فعمدت إلى ذلك الفرق فزرعته، حتى اشتريت منه بقرا وراعيها، ثم جاء فقال: يا عبد الله أعطيني حقي، فقلت: انطلق إلى تلك البقر وراعيها فإنها لك، فقال: أتستهزئ بي؟ قال: فقلت: ما أستهزئ بك ولكنها لك، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا، فكشف عنهم).
{تنبيه}: (انظر إلى حال هؤلاء الثلاثة:
دعا أحدهم ببره والديه, يوم أتى فوجدهما نائمين، وطعامهما قدح من لبن في يده، وصبيته يتضاغون من الجوع, وكان بين خيارين إما أن يوقظ الوالدين من النوم, وإما أن يطعم الصبية!! فلم يختر أيًا من هذين الخيارين, ولكن اختار خيارًا ثالثًا وهو أن يقف والقدح على يده والصبية يتضاغون عند قدميه، ينتظر استيقاظ الوالدين الكبيرين, والوالدان يغطان في نوم عميق حتى انبلج الصبح وأسفر الفجر فاستيقظا، وبدأ بهما وأعرض عن حنان الأبوة وقدم عليه حنان البنوة على الأبوة فشرب أبواه وانتظر بنوه.
((اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه)).
ثم دعا الآخر, فتوسل إلى الله بخشيته لله ومراقبته يوم أن قدر على المعصية, وتمكن من الفاحشة ووصل إلى أحب الناس إليه، ابنة عمه, بعد أن اشتاق إليها طويلاً وراودها كثيرًا وحاول فأعيته المحاولة, حتى إذا أمكنته الفرصة واستطاع أن يصل إلى شهوته وينال لذته خاطبت فيه تلك المرأة مراقبة الله فقالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه, فارتعد القلب واقشعر الجلد, ووجفت النفس وتذكر مراقبة الله تعالى فوقه، فقام عنها, وهي أحب الناس إليه وترك المال الذي أعطاها.
((اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه)).
ودعا الثالث فتوسل بعمل صالح قربه, وهو الصدق والأمانة حيث استأجر أجراء فأعطاهم أجرهم, وبقي واحد لم يأخذ أجره فنمّاه وضارب فيه, فإذا عبيد وماشية وثمر.
ثم جاء الأجير بعد زمن طويل يقول: أعطني حقي.(8/463)
لقد كان يستطيع أن يقول: هذا حقك أصوعٌ من طعام, ولكنه كان أمينًا غاية الأمانة, نزيهًا غاية النزاهة, فقال: حقك ما تراه, كل هذا الرقيق, وكل هذه الماشية, كلها لك, فكانت مفاجأة لم يستوعبها عقل هذا الأجير الفقير, فقال: "اتق الله ولا تستهزء بي" فقال: يا عبد الله إني لا أستهزء بك, إن هذا كله لك, فاستاقه جميعًا, ولم يترك له شيئًا.
((اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه)).
وتنامت دعواتهم , وتنامت مناجاتهم، فإذا الشدة تفرج والضيق يتسع, وإذا النور يشع من جديد فيخرجون من الغار يمشون (1).
فيامن يريد جواب دعاءه أصلح حالك في الرخاء مع ربك يكن معك في حال شدتك.
(24) اختيار الاسم المناسب من أسماء الله الحسنى، أو الصفة المناسبة حال الدعاء:
كأن يقول: يا رحيم ارحمني، يا كريم أكرمني، يا شافي اشفني، رب هب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب وهكذا.
ومن السنة الصحيحة ما يدل على ذلك، منها ما يلي:
(حديث أبي بكرٍ الصديق في الصحيحين) أنه قال لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمني دعاءاً أدعو به في صلاتي قال: قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم.
(حديث عائشةَ في الصحيحين) قالت كان رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أتى مريضاً أو أُتِيَ به إليه قال: أذْهِب البأس ربِ الناس اشفِ أنت الشافي لاشفاء إلا شفاءك شفاءاً لايُغادرُ سقماً.
(25) ألا يحجر رحمة الله في الدعاء:
والمقصود بالتحجير تخصيص أناس معينين، واقتصار الدعاء لهم دون غيرهم كأن يقول: اللهم اسق مزرعتي وحدها، أو اللهم أصلح أولادي دون غيرهم، أو ربِّ ارزقني وارحمني دون سواي، فرحمت الله تعالى قريب من المحسنين، فلا يقول: اللهم اغفر لي ولا تغفر لأحد معي.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: قام رسول الله"في صلاة، وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا، فلما سلَّم النبي"قال للأعرابي: لقد حجَّرتَ واسعًا _ يريد رحمة الله.
__________
(1) رواها البخاري ح (2272)، ومسلم ح (2743(8/464)
أو يقول: اللهم لا تغفر لفلان من الناس، فرحمت الله وسعت كل شيء، ورحمته سبحانه سبقت غضبه، بل ربما أدى ذلك إلى خطورة عمل من قال به، فقد يوصله ذلك إلى أن يتآلى على الله تعالى وهذا أمرٌ خطير وشرٌ مستطير قد يكون سبب في إحباط اللهع تعالى عمل المتألي على الله تعالى إذا كان أقسم على الله تعالى عن عُجب والعياذ بالله تعالى من ذلك.
(حديث جندب بن عبد الله في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان! فقال الله تعالى من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان! إني قد غفرت له وأحبطتُ عملك.
(26) أن يسأل الله كل صغيرة وكبيرة:
وهذا الأمر يغفل عنه كثير من الناس، فتراهم لا يلجأون إلى الله ولا يسألونه إلا إذا نزلت بهم عظائمُ الأمور، وشدائدها.
أما ما عدا ذلك فلا يسألونه؛ لظنهم أنه أمر يسير لا داعي لسؤال الله من أجله.
وهذا خطأ؛ فاللائق بالمسلم أن يسأل ربه كل صغيرة؛ فلو لم ييسر الله أكل الطعام _ مثلاً _ لما استطاع الإنسان أكله، ولو لم ييسر لبس النعل لما استطاع الإنسان لبسه.
قال": سلوا الله كل شيء، حتى الشسع (1)، فإن الله _ تعالى _ لو لم ييسره لم ييسر. (2)
فقوله: حتى الشسع إشارة أن ما فوقه أولى وأولى.
(27) يدعو لوالديه مع نفسه:
أوصى الله تعالى ببر الوالدين في مواضع كثيرة من كتابه العزيز، بل وقرن حقهما بحقه مما يدل على فضل بر الوالدين وَعِظَمِ حقهما
فقال تعالى (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى) (النساء: من الآية36)
وقال تعالى (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً)
(الإسراء: من الآية23)
(وندب الله تعالى إلى الدعاء للوالدين حينما يدعو الإنسان لنفسه في غير ما موضع في كتابه العزيز منها ما يلي:
__________
(1) الشسع: أحد سيور النعل وهو الذي يدخل بين الأصبعين، ويدخل طرفه في الثقب الذي في صدر النعل. انظر لسان العرب، 8/ 180.
(2) أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (356) باب ما يقول إذا انقطع شسعه، والترمذي 4/ 292 الدعوات، وضعفه الشيخ الألباني في الضعيفة (1362)، ولكن الحديث صحيح من قول عائشة موقوفًا عليها _ رضي الله عنها _، انظر مسند أبي يعلى (4560) 8/ 45، وعمل اليوم والليلة (357)، قال الهيثمي في الحديث: رجاله رجال الصحيح غير محمد بن عبيد الله وهو ثقة. المجمع 10/ 150.(8/465)
وقال تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم /41]
وقال تعالى إخباراً عن نوح عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَارًا} [نوح /28]
إن بر الوالدين يعنى الإحسان إليهما بالمال والجاه والنفع البدني وهو واجب، ولا شك إن من أعظم أمور البر للوالدين الدعاء لهما وخاصةً بعد موتهما ولذا ندب النبي إلى الدعاء لهما بعد موتهما وبين أن الدعاء للوالدين بعد موتهما من الأمور التي يصل ثوابها لميت بعد موته كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقةٍ جارية أو علمٍ ينتفع به أو ولدٌ صالحٌ يدعو له.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الرجل لتُرْفَع درجته في الجنة فيقول: أنى لي هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك.
مسألة: هل الدعاء للوالدين بعد موتهما أفضل أم الصدقة؟
دلت السنة الصحيحة بما لا يدع مجالاً للشك أن أنفع شيء للوالدين بعد موتهما هو الدعاء لهما، فالدعاء لهما بعد موتهما أنفع من سائر أعمال البر من الصدقة وغيرها.
[*] قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدعاء بمقام التحديث عن العمل فكان هذا دليلا على أن الدعاء للوالدين بعد موتهما أفضل من الصدقة عنهما، وأفضل من العمرة لهما وأفضل من قراءة القرآن لهما وأفضل من الصلاة لهما لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يمكن أن يعدل عن الأفضل إلى المفضول، بل لابد أن يبين عليه الصلاة والسلام ما هو الأفضل، ويبين جواز المفضول، وقد بين في هذا الحديث ما هو الأفضل.
(أما بيان جواز المفضول، ففي الحديث الآتي:
(لحديث عائشة الثابت في الصحيحين) أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال * يا رسول الله إن أمي افتلتت نفسها وأظنها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها قال نعم.
{تنبيه}: (يتضح لنا من هذا الحديث فائدتان عظيمتان هما:
[1] أن الدعاء للوالدين من أعظم أمور البر بهما(8/466)
[2] أن الدعاء للوالدين بعد موتهما أفضل من التصدق عنهما وأفضل من الحج والعمرة عنهما ما داما قد أديا الفريضة من حجٍ أو عمرة، ومن هنا يتضح لنا القاعدة الذهبية التي ذكرها الحافظ بن حجر في الفتح وهي: {اتباع السنة أولة من كثرة العمل}
(28) أن يدعو لإخوانه المؤمنين:
فهذا من مقتضيات الأخوة، ومن أسباب إجابة الدعوة؛ قال تعالى: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) [محمد / 19]
وذكر عن نوح _ عليه السلام _ قوله قال تعالى: (رّبّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) [نوح / 28]
(حديث عبادة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمنٍ حسنة.
ويحسن أن يُخص بالدعاء _ الوالدان، والعلماء، والصالحون، والعبَّاد، ومن في صلاحهم صلاح لأمر المسلمين كأولياء الأمور وغيرهم ...
ويحسن به _ أيضًا _ أن يدعو للمستضعفين والمظلومين من المسلمين، وأن يدعو على الظالمين الذين في هلاكهم نصر للإسلام والمسلمين، وراحة للمستضعفين والمظلومين.
(29) أن يبدأ الداعي بنفسه:
قال تعالى (رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ) [الحشر / 10]
(حديث أبيِّ بن كعب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "كان إذا ذكر أحدًا فدعا له بدأ بنفسه.
وهذا ليس بلازم لمن أراد أن يدعو لغيره كما هو وارد في كثير من الأدعية، حيث يدعو الإنسان لغيره دون نفسه.
وقد يقال: إذا أراد الدعاء لنفسه ولغيره فليبدأ بنفسه ثم يُثَنِّي بغيره، وإذا أراد الدعاء لغيره فَحَسْب فلا يلزم أن يبدأ بنفسه، كما مر في دعاء النبي"لعبيد بن عامر؛ حيث دعا لعبيد دون أن يدعو لنفسه.
(30) يترصد للدعاء الأوقات الشريفة:
كيوم عرفة من السنة ن ورمضان من الشهور، ويوم الجمعة من الأسبوع، ووقت السحر من ساعات الليل، وقد ثيت في السنة الصحيحة بان فضل هذه الأوقات الشريفة وإليك بعض ما ورد في هذا:
(فضل يوم عرفة:
(حديث عائشة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة.
(حديث أبي قتادة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في يوم عرفة: أحتسب على الله أن يكفر السنة الماضية والمستقبلة.
(فضل رمضان:(8/467)
(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين و مردة الجن و غلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب و فتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب و ينادي مناد كل ليلة: يا باغي الخير أقبل و يا باغي الشر أقصر و لله عتقاء من النار و ذلك كل ليلة.
(فضل يوم الجمعة:
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر يوم الجمعة فقال فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه وأشار بيده يقللها
(فضل ساعة السحر:
قال الله تعالى: (وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات /18]
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ينزل ربنا تبارك و تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له.
(حديث عَن أبي أُمَامَةَ الباهلي رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قَالَ: «قِيلَ لرَسُولَ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيّ الدّعَاءِ أسْمَعُ؟ قالَ: جَوْف اللّيْلِ الاَخِرُ، وَدُبُرَ الصّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ».
(فضل الدعاء بين الآذان والإقامة:
(حديث أنس في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يُردُ الدعاء بين الآذان والإقامة.
(فضل الدعاء في السجود:
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أقربُ ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء.
(31) التأمين على الدعاء من المستمع:
كما في قصة دعاء موسى وهارون _ عليهما السلام _ على فرعون وآله.
قال المفسرون: كان موسى يدعو، وهارون يؤمن. (1)
ولهذا قال _ تعالى _: [قد أجيبت دعوتكما] يونس،89.
(32) تجنب الدعاء على الأهل، والمال، والنفس:
لأن الدعاء يقصد منه جلب النفع ودفع الضر، والدعاء على الأهل، والمال، والنفس _ لا مصلحة وراءه، بل هو ضرر محض على الداعي نفسه؛ فماذا سيجني من فساد أهله، وماله، ونفسه؟
(حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم؛ لا توافقوا من الله ساعةً يُسأل فيها عطاءً فيستجيب لكم.
(33) ألا يتكلف السجع:
__________
(1) انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/ 411.(8/468)
ذلك أن حال الداعي حال ذلة وضراعة، والتكلف لا يناسب ذلك.
قال بعضهم: ادع بلسان الذلة والافتقار، لا بلسان الفصاحة والانطلاق. (1)
[*] قال الخطابي: ويكره في الدعاء السجع، وتكلف صفة الكلام له. (2)
(فصل الخطاب في مسألة السجع:
السجع المذموم في الدعاء، هو المتكلف، لأنه يذهب بالخشوع والخضوع والإخلاص، ويلهي عن الضراعة والافتقار وفراغ القلب،
(حديث عِكْرِمَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ حَدِّثِ النَّاسَ كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّةً فَإِنْ أَبَيْتَ فَمَرَّتَيْنِ فَإِنْ أَكْثَرْتَ فَثَلَاثَ مِرَارٍ وَلَا تُمِلَّ النَّاسَ هَذَا الْقُرْآنَ وَلَا أُلْفِيَنَّكَ تَأْتِي الْقَوْمَ وَهُمْ فِي حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِهِمْ فَتَقُصُّ عَلَيْهِمْ فَتَقْطَعُ عَلَيْهِمْ حَدِيثَهُمْ فَتُمِلُّهُمْ وَلَكِنْ أَنْصِتْ فَإِذَا أَمَرُوكَ فَحَدِّثْهُمْ وَهُمْ يَشْتَهُونَهُ فَانْظُرِ السَّجْعَ مِنَ الدُّعَاءِ فَاجْتَنِبْهُ فَإِنِّي عَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا ذَلِكَ، يَعْنِي لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا ذَلِكَ الِاجْتِنَابَ ".
فلا ينبغي للداعي أن يتكلف السجع، وصنعة الكلام، ويحاول أن يأتي بكلمات لا يفهمها أغلب الناس، بل يرفق بالناس ويأتي بدعاء مفهوم معلوم، لا تعقيد فيه ولا غموض، ولا يحتاج إلى فك لرموزه،
وأما ما يحصل من ذلك بلا تكلف وإنما كان ناشئاً عن حفظ أو فصاحة وإعمال فكر ونحو ذلك فلا بأس به بل ربما كان حسناً، فلقد ثبت مثل ذلك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما في الحديث الآتي:
(حديث عَبْدَاللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، هَازِمَ الْأَحْزَابَ، اهزمهم وانصرنا عليهم "، فهذا السجع كان يصدر من غير قصد، ولأجل هذا جاء في غاية الانسجام.
والسجع هو الكلام المقفى بدون وزن، والمنهي عنه من السجع هو التكلف فيه؛ لأنه ينافي الخشوع والخضوع _ كما مر _.
(34) الإعراب بلا تكلف:
__________
(1) إحياء علوم الدين، 1/ 306.
(2) شأن الدعاء ص17.(8/469)
فالإعراب عماد الكلام، وجماله، ووشيه؛ فيحسن بالعبد وهو يناجي ربَّه أن يُعْرب عما يقول قدر المستطاع، خصوصًا إذا كان إمامًا يدعو والناس يُؤَمِّنون خلفه، على ألا يَصِلَ ذلك إلى حد التكلف، وألا يجعل همته مصروفة إلى تقويم لسانه؛ لأن ذلك يذهب الخشوع الذي هو لب الدعاء.
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ينبغي للداعي إذا لم تكن عادته الإعراب ألا يتكلف الإعراب، قال بعض السلف: إذا جاء الإعراب ذهب الخشوع.
وهذا كما يكره تكلف السجع في الدعاء، فإذا وقع بغير تكلف فلا بأس؛ فإن أصل الدعاء من القلب، واللسان تابع القلب، ومن جعل همته في الدعاء تقويم لسانه أضعف توجه قلبه. (1)
(35) أن تلقي باللوم على نفسك:
وهي من أهمها، فقد يكون سبب عدم الإجابة وقوعك أنت في بعض المعاصي، أو التقصير وإخلالك بالدعاء أو تعديك فيه، فمن أعظم الأمور أن تتهم نفسك وتنسب التقصير وعدم الإجابة لنفسك، فهذا من أعظم الذل والافتقار لله.
[*] قال ابن رجب رحمه الله يقول:
إن المؤمن إذا استبطأ الفرج ويئس منه ولا سيما بعد كثرة الدعاء وتضرعه ولم يظهر له أثر الإجابة، رجع إلى نفسه باللائمة يقول لها إنما أتيت من قبلك، ولو كان فيك خيرا لأُجبت، وهذا اللوم أحب إلى الله من كثير من الطاعات، فإنه يوجب انكسار العبد لمولاه، واعترافه له بأنه ليس بأهل لإجابة دعائه، فلذلك يسرع إليه حين إذ إجابة الدعاء، وتفريج الكرب، فإنه تعالى عند المنكسرة قلوبهم من أجله، وعلى قدر الكسر يكون الجبر. انتهى كلامه.
(36) الالتزام بالأدعية المأثورة:
وذلك لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأعلم بربه جل وعلا والأتقى لله والأخشى لله، ولأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث بجوامع الكلم:
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: جاء ثلاث رهط إلى بيوت أزواج النبي، يسألون عن عبادة النبي، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من النبي؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله أتي لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
__________
(1) مجموع الفتاواى، 22/ 489.(8/470)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، فبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي.
(كيفية الدعاء بأسماء الله الحسنى:
مسألة: كيف ندعو الله بأسماء الله الحسنى؟
قال تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْالَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْيَعْمَلُونَ" [الأعراف/ 180]
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة.
[*] قال محمد بن صالح العثيمين-رحمه الله-
ندعو الله بأسماء الله الحسنى بأن تقدمها بين يدي دعائك متوسلًا بها إلى الله، أو أن تختم بها دعاءك، مثال الأول: أن تقول: اللهم يا غفور اغفر لي، يا رحيم ارحمني، وما أشبه ذلك. ومثال الثاني أن تقول: رب اغفر لي و ارحمني إنك أنت الغفور الرحيم.
(حديث أبي بكرٍ الصديق في الصحيحين) أنه قال لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمني دعاءاً أدعو به في صلاتي قال: قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم.
(حديث عائشةَ في الصحيحين) قالت كان رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أتى مريضاً أو أُتِيَ به إليه قال: أذْهِب البأس ربِ الناس اشفِ أنت الشافي لاشفاء إلا شفاءك شفاءاً لايُغادرُ سقماً.
وكما يجوز التوسل إلى الله-تعالى-بأسمائه عند الدعاء؛ فإنه يجوز أن يتوسل الإنسان بصفات الله عند الدعاء، كما في الأحاديث الآتية:
(حديث عمار ابن ياسر في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو بهذا الدعاء اللهم بعلمك الغيب و قدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي و توفني إذا علمت الوفاة خيرا لي، اللهم و أسألك خشيتك في الغيب و الشهادة و أسألك كلمة الحق في الرضا و الغضب و أسألك القصد في الفقر و الغنى و أسألك نعيما لا ينفد و قرة عين لا تنقطع و أسألك الرضا بالقضاء و أسألك برد العيش بعد الموت و أسألك لذة النظر إلى وجهك و الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة و لا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان و اجعلنا هداة مهتدين(8/471)
(حديثُ جابر في صحيح البخاري) قال كان رسولُ الله يُعلمُنا الاستخارة في الأمورِ كلها كالسورةِ من القرآن، إذا همَّ أحدكم بالأمرِ فليركع ركعتين من غيرِ الفريضةِ ثم يقول: اللهم إني أستخِيرُك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدرُ ولا أقدرُ وتعلمُ ولا أعلمُ وأنت علاَّمُ الغيوب، اللهم إن كنت تعلمُ أن هذا الأمرَ خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبةِ أمري _ أو قال عاجل أمري وآجله _ فاقدره لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمرَ شرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبةِ أمري فاصرفْه عني واصرفني عنه ثم ارضِني به، ويُسَمِّي حاجته.
فالتوسل إلى الله تعالى في الدعاء بأسمائه أو بصفاته سواء كان ذلك على سبيل العموم أو على سبيل الخصوص هو من الأمور المطلوبة، ومن التوسل بأسماء الله على سبيل العموم ما جاء في الحديث الآتي:
(حديث ابن مسعود في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما أصاب عبداً همٌ ولا حزنٌ فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكلِ اسمٌ هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدٌ من خلقك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبي ونورَ بصري وجلاء حزني وذهاب همِّي إلا أذهب الله همَّه وأبدله مكانه فرجاً.
(فإنه ما دعا به داعٍ مهموم أو مغموم إلا فرج الله به عنه، ففيه التوسل بأسماء الله عامة اسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، لكنه لم يعددها.
{تنبيه}: (يجب على الإنسان حينما يدعو الله بأسماء الله الحسنى أن يختار الإسم الذي يُلائم حاله، فالمريض يدعو الله به، فإذا كان مريضا قال: اشف أنت الشافي، وإذا سأل مغفرة الذنوب قال يا غفور اغفر لي، وهكذا، وهاك من السنة الصحيحة ما يدل على ذلك:
(حديث أبي بكرٍ الصديق في الصحيحين) أنه قال لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمني دعاءاً أدعو به في صلاتي قال: قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم.
(حديث عائشةَ في الصحيحين) قالت كان رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أتى مريضاً أو أُتِيَ به إليه قال: أذْهِب البأس ربِ الناس اشفِ أنت الشافي لاشفاء إلا شفاءك شفاءاً لايُغادرُ سقماً.
مسألة: ما معنى من أحصاها دخل الجنة؟(8/472)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة.
(معنى من أحصاها دخل الجنة:
[*] قال ابن القيم في كتاب بدائع الفوائد:
ومراتب الإحصاء ثلاث:
المرتبه الأولى: إحصاء ألفاظها وعددها
(هو الله _ الرحمن – الرحيم - الملك – القدوس)
إلى أخر الأسماء الثابتة في كتاب الله وسنه نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
المرتبة ألثانيه من مراتب الإحصاء:
فهم معانيها: وهذا أيضا يندرج تحت معنى من أحصاها إذا الإحصاء لا يتوقف عند الحفظ فحسب، هذه مرتبه من المراتب، ثم يجب علينا الفهم لهذه الأسماء فما معنى الملك – القدوس ما معنى الرحمن، هذا يندرج تحت من حفظها وفهم معانيها
المرتبة الثالثة: هي دعاء الله بها بالأسماء والصفات امتثالا لأمره جل وعلا لقوله تعالى (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)
فيكون معنى أحصاها أي ((حفظها وفهم معانيها ودعا الله بها عز وجل)
مسألة: هل أسماء الله الحسنى محصورة في تسعةً وتسعين اسما؟
القول الصحيح الذي دلت عليه السنة الصحيحة وتجتمع فيه الأدلة أن أسماء الله غير محصورة في تسعة وتسعين اسما.
[*] قال الإمام النووي رحمه الله تعليقاً على قول النبي " إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر" متفق عليه.
قال رحمه الله: " واتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه والله، فليس معناه: أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين، وإنما مقصود الحديث أن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة، فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء، ولهذا جاء في الحديث الآخر: " أسألك بكل اسم سميت به نفسك أو استأثرت به في علم الغيب عندك ".
[*] قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
أسماء الله غير محصورة بعدد معين؛ لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الدعاء المأثور (أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحد من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك)(8/473)
(حديث ابن مسعود في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما أصاب عبداً همٌ ولا حزنٌ فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكلِ اسمٌ هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدٌ من خلقك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبي ونورَ بصري وجلاء حزني وذهاب همِّي إلا أذهب الله همَّه وأبدله مكانه فرجاً.
وما استأثر الله بعلمه فلا سبيل إلى حصره والإحاطة به. والجمع بين هذا وبين قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثابت في الصحيحين عن أبي هريرة: (إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة). أن معني هذا الحديث: إن من أسماء الله تسعة وتسعين اختصت بان من أحصاها دخل الجنة، فلا ينافي أن يكون له أسماء أخرى غيرها، ونظير ذلك أن تقول: عندي خمسون درعا أعددتها للجهاد، فلا ينافي أن يكون عندك دروع أخرى. ومعني إحصاء أسماء الله أن يعرف لفظها ومعناها، ويتعبد لله مقتضاها.
وهذا الحديث ثابت في السلسلة الصحيحة:
(حديث ابن مسعود في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما أصاب عبداً همٌ ولا حزنٌ فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكلِ اسمٌ هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدٌ من خلقك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبي ونورَ بصري وجلاء حزني وذهاب همِّي إلا أذهب الله همَّه وأبدله مكانه فرجاً.
مسألة: ما هو منهج أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته؟
منهج أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته:
طريقتهم إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.
التحريف: التحريف لغة: التغيير، واصطلاحا: تغيير لفظ النص أو معناه. مثال تغيير اللفظ تغيير قوله تعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيما) (النساء: من الآية164). من رفع الجلالة إلى نصبها فيكون التكليم من موسى لا من الله. ومثال تغيير المعني: تغيير معني استواء الله على عرشه من العلو والاستقرار إلى الاستيلاء والملك؛ لينتفي عنه معني الاستواء الحقيقي.
التعطيل لغة ً: الترك والتخلية
و التعطيل اصطلاحا: إنكار ما يجب لله من الأسماء والصفات، أما كليا كتعطيل الجهمية
،(8/474)
وأما جزئيا كتعطيل الأشعرية الذين لم يثبتوا من صفات الله إلا سبع صفات، مجموعة في قوله: ... حي عليم قدير والكلام له
إرادة وكذاك السمع والبصر
(التكييف والتمثيل والفرق بينهما:
التكييف إثبات كيفية الصفة كان يقول: استواء الله على عرشه كيفيته كذا وكذا، والتمثيل إثبات مماثل للشيء كان يقول: يد الله مثل يد الإنسان.
والفرق بينهما أن التمثيل ذكر الصفة مقيدة بمماثل، والتكييف ذكرها غير مقيدة به.
حكم هذه الأربعة المتقدمة:
كلها حرام ومنها ما هو كفر أو شرك، ومن ثم كان أهل السنة والجماعة متبرئين من جميعها.
الواجب في نصوص الأسماء والصفات:
الواجب إجراؤها على ظاهرها وإثبات حقيقتها لله على الوجه اللائق به؛ وذلك لوجهين:
(1) إن صرفها عن ظاهرها مخالف لطريقة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه.
(2) أن صرفها إلى المجاز قول على الله بلا علم وهو حرام.
أسماء الله وصفاته توقيفية، وهي من المحكم من وجه ومن المتشابه من وجه.
أسماء الله وصفاته توقيفية، والتوقيفي ما توقف إثباته أو نفيه على الكتاب والسنة، بحيث لا يجوز إثباته ولا نفيه إلا بدليل منهما، فليس للعقل في ذلك مجال لأنه شيء وراء ذلك.
وأسماء الله وصفاته من المحكم في معناها؛ فان معناها معلوم، ومن المتشابه في حقيقتها؛ لان حقائقها لا يعلمها إلا الله. والمحكم ما كان واضحا وعكسه المتشابه.
مسألة: كيف يتم الإيمان بأسماء الله؟
الجواب: إذا كان الاسم متعديا فتمام الإيمان به إثبات الاسم وإثبات الصفة التي تضمنها، وإثبات الأثر الذي يترتب عليه، مثل: (الرحيم) فتثبت الاسم وهو الرحيم، والصفة وهي الرحمة، والأثر وهو انه سبحانه يرحم بهذه الرحمة.
وان كان الاسم لازما فتمام الإيمان به إثباته وإثبات الصفة التي تضمنها، مثل: (الحي) تثبت الاسم وهو الحي والصفة وهي الحياة، وعلى هذا فكل اسم متضمن لصفة ولا عكس.
(اسم الله الأعظم:
مسألة: ما هو اسم الله الأعظم؟
الراجح من أقوال العلماء أن اسم الله الأعظم مؤلَّف من عدة أسماء، بناء على الأحاديث الواردة فيه كما في الأحاديث الآتية:
(حديث بُريدة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع رجلاً يقول اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحدُ الصمد الذي لم يلد ولم يُولد ولم يكن له كفواً أحد فقال: لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعِيَ به أجاب وإذا سُئِلَ به أعطى.
[*] وقال الحافظ ابن حجر:(8/475)
وهو أرجح من حيث السند من جميع ما ورد في ذلك.
(حديث أنس في صحيح السنن الأربعة) قال سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.
(حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) وفاتحة آل عمران: (آلم الله لا إله إلا هو الحي القيوم)
(حديث أبي أمامة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (اسم الله الأعظم في ثلاث سور من القرآن البقرة وآل عمران وطه). قال القاسم فالتمستها فإذا هي آية الحي القيوم.
[*] (أوقات فاضلة يستجاب فيها الدعاء:
(أولاً أوقات فاضلة يستجاب فيها الدعاء جملة:
(1) ليلة القدر:
(2) العشر الأوائل من ذي الحجة:
(3) الدعاء في جوف الليل ووقت السحر:
(4) دبر الصلوات المكتوبة:
(5) بين الأذان والإقامة:
(6) عند النداء للصلوات المكتوبة:
(7) عند زحف الصفوف والتحامها في المعركة:
(8) عند نزول الغيث:
(9) ساعة من الليل:
(10) الساعة التي في يوم الجمعة:
(11) عند شرب ماء زمزم:
(12) في السجود:
(13) الدعاء يوم عرفة:
(14) في شهر رمضان:
(ثانياً أوقات فاضلة يستجاب فيها الدعاء تفصيلاً:
(1) ليلة القدر:
(حديث عائشة الثابت في صحيح الترمذي) قالت: (قُلْتُ يا رَسُولَ الله أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أيّ لَيْلَةٍ لَيْلَة القَدْرِ مَاذا أقُولُ فِيهَا؟ قالَ: قُولِي اللّهُمّ إِنّكَ عَفُوّ تُحِبُ العَفْوَ فاعْفُ عَنّي)
(2) العشر الأوائل من ذي الحجة:
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (ما من أيامٍ العملُ الصالح فيها أحبُ إلى الله من هذه الأيام يعني أيام العشر قالوا ولا الجهاد في سبيل الله قال: ولا الجهادُ في سبيل الله إلا أحدُ خرج يجاهد بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء)
ومن أعظم الأعمال الصالحة التوجه إلى الله تعالى بالدعاء، فالعشر من ذي الحجة أيام فاضلة، وهي أفضل أيام العام على الإطلاق.(8/476)
{تنبيه}: (واختلف أهل العلم في أيهما أفضل: العشر الأول من ذي الحجة، أم العشر الأواخر من رمضان؟
فالعشر الأول من ذي الحجة فيها عدة مزايا: فيها يوم عرفة، يكفر الله به ذنوب سنتين، سنة ماضية، وسنة قادمة، وفيها الحج، وبه يكفر الله جميع خطايا الإنسان، وفيها يوم النحر، وفيه أيام منى، وفيها المبيت بالمزدلفة، وفيها الحلق والتقصير، وفيها ذبح الأضاحي والهدي تقرباً إلى الله تعالى.
أما أيام العشر الأواخر من رمضان، ففيها ليلة القدر، وأن الله تعالى يعتق فيها رقاب عباده من النار.
فأقول اختلف العلماء في هذه المسألة إلى قولين:
القول الأول: أن الأيام العشر الأول من ذي الحجة أفضل لما تقدم.
القول الثاني: أن الأيام العشر الأواخر من رمضان أفضل لما تقدم.
ولعل أفضل الأقوال، ما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، حيث قال: " أيام العشر من ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، وليالي العشر من رمضان أفضل من ليالي العشر من ذي الحجة ". والعلم عند الله تعالى، وإن كنت أرى رجحان القول الأول، وهو أن العشر من ذي الحجة أفضل من العشر من رمضان لما ذكر من مزايا.
(3) الدعاء في جوف الليل ووقت السحر:
قال تعالى في وصف عباده المؤمنين: (وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات / 18]
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ينزل ربنا تبارك و تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له.
(4) دبر الصلوات المكتوبة:
(حديث عَن أبي أُمَامَةَ الباهلي رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قَالَ: «قِيلَ لرَسُولَ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيّ الدّعَاءِ أسْمَعُ؟ قالَ: جَوْف اللّيْلِ الاَخِرُ، وَدُبُرَ الصّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ».
وأوصى _ عليه الصلاة والسلام _ معاذًا أن يقول في دبر كل صلاة: اللهم أعِنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
(حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و النسائي) أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ بيده وقال يا معاذ والله إني لأحبك والله إني لأحبك فقال أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
(هذا وقد اختلف في قوله دبر كل صلاة هل هو قبل السلام أو بعده؟.(8/477)
[*] قال ابن القيم: دُبُرُ الصلاة يحتمل قبل السلام وبعده، وكان شيخنا _ يعني ابن تيمية _ يرجح أن يكون قبل السلام، فراجعته فيه فقال: دبر كل شيء منه، كدبر الحيوان. (1)
[*] قال الشيخ محمد ابن عثيمين: الدبر هو آخر كل شيء منه، أو هو ما بعد آخره. (2)
ورجح أن الدعاء دبر الصلوات المكتوبة أنه قبل السلام.
وقال: ما ورد من الدعاء مقيدًا بدبر فهو قبل السلام.
وما ورد من الذكر مقيدًا بدبر فهو بعد الصلاة؛ لقوله _ تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِكُمْ) [النساء / 103]
(5) بين الأذان والإقامة:
(حديث أنس الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يردُ الدعاء بين الأذان والإقامة.
(6) عند النداء للصلوات المكتوبة:
(حديث سهل بن سعد الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثنتان لا تردان: الدعاء عند النداء وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضا.
(7) عند زحف الصفوف والتحامها في المعركة:
(حديث سهل بن سعد الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثنتان لا تردان: الدعاء عند النداء وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضا.
(8) عند نزول الغيث:
(حديث عن سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثنتان ما تردان: الدعاء عند النداء و تحت المطر.
(9) ساعة من الليل:
(حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة.
(10) الساعة التي في يوم الجمعة:
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر يوم الجمعة فقال فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه وأشار بيده يقللها.
{تنبيه}: (وقد اختلف العلماء في تحديد وقتها، فقيل: إنها وقت دخول الخطيب، وقيل: إنها بعد العصر، ورجح هذا القول ابن القيم. (3)
__________
(1) زاد المعاد 1/ 305.
(2) من إملاءات شيخنا محمد ابن عثيمين في درس زاد المعاد.
(3) انظر زاد المعاد لابن القيم، 1/ 378_396.(8/478)
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ”وعندي أن ساعة الصلاة ساعة تُرجى فيها الإجابة أيضاً، فكلاهما ساعة إجابة، وإن كانت الساعة المخصوصة هي آخر ساعة بعد العصر فهي ساعة معينة من اليوم، لا تتقدم ولا تتأخر. وأما ساعة الصلاة فتابعة للصلاة تقدمت أو تأخرت، لأن لاجتماع المسلمين وصلاتهم وتضرعهم وابتهالهم إلى الله تعالى تأثيراً في الإجابة. فساعة اجتماعهم ساعة تُرجى فيها الإجابة وعلى هذا تتفق الأحاديث كلها ... “ (1).
(11) عند شرب ماء زمزم:
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجة):أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ماء زمزم لما شُرب له.
(12) في السجود:
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أقربُ ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء.
(13) الدعاء يوم عرفة في عرفة للحاج:
(حديث عبد الله ابن عمرو الثابت في صحيح الترمذي) أن النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
(14) في شهر رمضان:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة و غلقت أبواب جهنم و سلسلت الشياطين)
(15) عند الدعاء بـ”دعوة ذي النون“:
فهذا سيدنا يونس عليه السلام ألقي في اليم فالتقمه الحوت وأسدل الليل البهيم ستاره المظلم عليه، فالتجأ إلى الله {أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، فأنجاه الله، حتى إذا خرج إلى شاطئ السلامة، تلقفته يد الرحمة الإلهية والعناية الربانية فأظلته تحت شجرة اليقطين.
قال تعالى {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87 - 88].
__________
(1) زاد المعاد بتحقيق الأرناؤوط 2/ 394.(8/479)
(حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:" ألا أخْبِرُكُمُ بِشَيْءٍ إذَا نَزَلَ بِرَجُلِ مِنْكُمُ كَرْبٌ أو بَلاَءٌ مِنْ أمْرِ الدُّنْياَ دَعَا بِهِ فَفُرِّجَ عنه؟ دُعَاءُ ذِي النُّوُنِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ أنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ".
(وذو النون: هو نبي الله يونس عليه السلام.
(والنون: الحوت.
(16) بعد زوال الشمس قبل الظهر:
(حديث عبد الله بن السائب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي أربعاً بعد أن تزول الشمس قبل الظهر، وقال: ”إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، وأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح.
[*] (أحوال وأوضاع يستجاب فيها الدعاء:
(أولاً: أحوال وأوضاع يستجاب فيها الدعاء جملةً:
(1) دعاء المسلم عقب الوضوء:
(2) عند قراءة الفاتحة واستحضار ما يقال فيها:
(3) عند رفع الرأس من الركوع وقول سمع الله لمن حمده:
(4) عند التأمين في الصلاة:
(5) بعد الصلاة على النبي"في التشهد الأخير:
(6) عند اجتماع المسلمين في مجالس الذكر0
(7) عند صياح الديكة:
(8) في حالة إقبال القلب واشتداد الإخلاص:
(9) عند الدعاء بـ:،لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين:
(10) عند الدعاء حال المصيبة بـ:،إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها:
(11) في حال دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب:
(12) دعاء الناس بعد وفاة الميت:
(13) دعوة المضطر:
(14) دعوة المظلوم:
(15) دعوة الوالد على ولده:
(16) دعوة المسافر:
(17) دعاء الوالد لولده:
(18) دعوة الصائم:
(19) دعاء الولد الصالح لوالديه:
(20) دعاء الغازي في سبيل الله:
(21) دعاء الحاج:
(22) دعاء المعتمر:
(23) الدعاء عند المريض:
(24) الدعاء عند التَّعَارّ من الليل، وقول الدعاء الوارد في ذلك:
(23) من بات طاهرا على ذكر الله:
(24) عند شرب ماء زمزم مع النية الصادقة.
(25) عند دعاء الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.
(ثانياً: أحوال وأوضاع يستجاب فيها الدعاء تفصيلا:
(1) دعاء المسلم عقب الوضوء:
(حديث عمر في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من أحدٍ يتوضأ فيبلغ أو يسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء.(8/480)
(حديث عمر صحيحي أبي داوود الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أن محمدا عبده و رسوله اللهم اجعلني من التوابين و اجعلني من المتطهرين فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء.
(2) عند قراءة الفاتحة واستحضار ما يقال فيها:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثا غير تمام فقيل لأبي هريرة رضي الله عنه إنا نكون وراء الإمام فقال اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد! < الحمد لله رب العالمين >! قال الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال! < الرحمن الرحيم >! قال الله تعالى أثنى علي عبدي وإذا قال! < مالك يوم الدين >! قال مجدني عبدي وقال مرة فوض إلي عبدي فإذا قال! < إياك نعبد وإياك نستعين >! قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال! < اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين >! قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.
* [معنى خداج أي فاسدة]
(3) عند رفع الرأس من الركوع وقول سمع الله لمن حمده:
(حديث رِفاعة بن رافعٍ الزُرْقِي الثابت في صحيح البخاري) قال: كنا نصلي وراء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما رفع رأسه من الركعة قال سمع الله لمن حمده قال رجل وراءه ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فلما انصرف قال: من المتكلم؟ قال أنا، قال: رأيت بضعةً وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أوَّل.
(حديث أبي سعيد الثابت في صحيح مسلم) قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رفع رأسه من الركوع قال: ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
(4) عند التأمين في الصلاة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه.
(5) بعد الصلاة على النبي"في التشهد الأخير:(8/481)
(حديث ابن مسعود الثابت في صحيح الترمذي) قال كنت أصلي و النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وعمر معه، فلما جلست بدأت بالثناء على الله ثم الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم دعوت لنفسي فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سل تُعطه سل تُعطه.
(6) عند اجتماع المسلمين في مجالس الذكر0
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن لله ملائكة يطوفون في الطرقات يلتمسون الذكر فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجاتكم فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا فيسألهم ربهم و هو أعلم منهم: ما يقول عبادي؟ فيقولون: يسبحونك و يكبرونك و يحمدونك و يمجدونك فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا و الله ما رأوك فيقول: كيف لو رأوني؟ فيقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة و أشد لك تمجيدا و أكثر لك تسبيحا فيقول: فما يسألوني؟ فيقولون: يسألونك الجنة فيقول: و هل رأوها؟ فيقولون: لا و الله يا رب ما رأوها فيقول: فكيف لو أنهم رأوها؟ فيقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا و أشد لها طلبا و أعظم فيها رغبة قال: فمم يتعوذون؟ فيقولون: من النار فيقول الله: هل رأوها؟ فيقولون: لا و الله يا رب ما رأوها فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارا و أشد لها مخافة فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم فيقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة! فيقول: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم.
(7) عند صياح الديكة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله، فإنها رأت ملكا، وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنه رأى شيطانا).
(8) في حالة إقبال القلب واشتداد الإخلاص:
(كما في قصة أصحاب الغار.(8/482)
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم، حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فناء بي في طلب شيء يوما، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي، فأدرتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله أد إلي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون).
(9) عند الدعاء بـ:،لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين:
(حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوة ذي النون إذ دعا بها و هو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له.
(وذو النون: هو نبي الله يونس _ عليه السلام _،
(والنون: الحوت.(8/483)
فهذا سيدنا يونس عليه السلام ألقي في اليم فالتقمه الحوت وأسدل الليل البهيم ستاره المظلم عليه، فالتجأ إلى الله {أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، فأنجاه الله، حتى إذا خرج إلى شاطئ السلامة، تلقفته يد الرحمة الإلهية والعناية الربانية فأظلته تحت شجرة اليقطين.
قال تعالى {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87 - 88].
[*] قال القرطبي في تفسير هذه الآية:
وفي الخبر في هذه الآية شرط الله لمن دعاه أن يجيبه كما أجابه، وينجيه كما أنجاه، وهو قوله: [وكذلك ننجي المؤمنين] (1)
[*] وقال ابن كثير في قوله تعالى: [وكذلك ننجي المؤمنين]: أي إذا كانوا في الشدائد، ودعونا منيبين إلينا، ولا سيما إذا دعوا بهذا الدعاء في حال البلاء؛ فقد جاء الترغيب به في الدعاء به عند سيد الأنبياء. (2)
{تنبيه}: (هذا الدعاء من أعظم أنواع الدعاء، لاشتماله على الآتي:
أولاً: على توحيد الله (لا إله إلا أنت)
وهو أعظم وسيلة إلى الله تعالى، وأعظم طاعة وأعظم وقربة.
ثم ثنى بالتنزيه (سبحانك) تنزيه الله عما لا يليق به عز وجل، فكل ما يفعل، وكل ما يقدر فله فيه الحكمة البالغة، فهو منزه عما لا يليق بجلاله وكماله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعظيم شأنه.
ثم ثلث ببيان عجزه وضعفه وفقره وظلمه لنفسه، وهكذا كل عبد بالنسبة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ينبغي له أن يكون كذلك إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]
(10) عند الدعاء حال المصيبة بـ:،إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها:
(حديث أم سلمة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول! < إنا لله وإنا إليه راجعون >! اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها قالت فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخلف الله لي خيرا منه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 11/ 334.
(2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/ 187(8/484)
فالاسترجاع ملجأ وملاذ لذوي المصائب، ومعناه باختصار: إن لله توحيد وإقرار بالعبودية والملك، وإن إليه راجعون إقرار بأن الله يهلكنا ثم يبعثنا.
إذا فالأمر كله لله، ولا ملجأ منه إلا إليه، والله عز وجل يقول: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة 155: 157]
[*] قال ابن كثير في تفسير هذه الآية:
قال عمر: نعم العدلان، ونعمت العلاوة، [أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة] فهذان العدلان.
و [أولئك هم المهتدون] فهذه العلاوة، وهي ما توضع بين العدلين، وهي زيادة في الحلم، فكذلك هؤلاء، أُعطوا ثيابهم، وزيدوا أيضًا. (1)
(11) في حال دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب:
(حديث أبي الدرداء الثابت في صحيح مسلم) النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به آمين ولك بمثل.
فلا تنسنا أخي الحبيب بدعوة منك في ظهر الغيب، واعلم بأن الله جل وعلا سيستجيب منك هذه الدعوة وسيعطيك مثلها بموعود النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(12) دعاء الناس بعد وفاة الميت:
(حديث أم سلمة الثابت في صحيح مسلم) قالت دخل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه ثم قال إن الروح إذا قبض تبعه البصر فضج ناس من أهله فقال لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون ثم قال اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبة في الغابرين واغفر لنا وله يا رب العالمين وأفسح له في قبره ونور له فيه.
(13) دعوة المضطر:
فالله _ تبارك وتعالى _ يجيب المضطر إذا دعاه ولو كان مشركًا،
(فكيف إذا كان مسلمًا عاصيًا مفرطًا في جنب الله؟
(بل كيف إذا كان مؤمنًا برًّا تقيًّا؟
قال تعالى: (أَمّن يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السّوَءَ) [النمل / 62]
[*] قال ابن كثير في تفسير الآية السابقة:
أي من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه، والذي لا يكشف ضر المضرورين سواه؟. (2)
[*] قال البغوي: المضطر: المكروب المجهود. (3)
__________
(1) تفسير ابن كثير 1/ 188.
(2) تفسير ابن كثير 3/ 358.
(3) معالم التنزيل للبغوي 6/ 173.(8/485)
[*] وقال الزمخشري: المضطر: الذي أحوجه مرض، أو فقر، أو نازلة من نوازل الدهر إلى اللجأ والتضرع إلى الله. (1)
[*] وقال القرطبي: ضَمِنَ الله _ تعالى _ إجابة المضطر إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه.
والسبب في ذلك أن الضرورة إليه باللجأ ينشأ عن الإخلاص، وقطع القلب عما سواه، وللإخلاص عنده _ سبحانه _ موقع وذِمَّة، وُجِدَ من مؤمن أو كافر، طائع أو فاجر. (2)
(ألم تر حال المشركين في الجاهلية الأولى كيف يتخلّون عن آلهتهم ويَدْعُون الله مخلصين له الدين وذلك إذا ركبوا في الفلك، واضطربت بهم الأمواج، كما في قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)
[يونس / 22].
والمشركون ما كانوا يفزعون لآلهتهم عند الشدائد، بل كانوا يلجئون إلى الله، إذ النفوس جُبلت على الالتجاء لله وحده عند حصول المكروه؛ إلا ما يكون من بعض مشركي زماننا! فإن ملجأهم ومفزعهم (الولي) أو (القطب)، فأبو جهل أفقهُ من هؤلاء!!
تأمّل قول الله تبارك وتعالى: (وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)
[لقمان / 32]
[*] قال ابن القيم – رحمه الله –:
التوحيد مَفْزَعُ أعدائه وأوليائه؛ فأما أعداؤه فينجيهم من كُرب الدنيا وشدائدها: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)
[العنكبوت / 65]
، وأما أولياؤه فينجيهم به من كربات الدنيا والآخرة وشدائدها، ولذلك فزع إليه يونس فنجّاه الله من تلك الظلمات، وفزع إليه أتباع الرسل فَنَجَوا بِهِ (3) مما عُذِّبَ به المشركون في الدنيا، وما أُعِدّ لهم في الآخرة، ولما فزع إليه فرعون عند معاينة الهلاك وإدراك الغرق له لم ينفعه؛ لأن الإيمان عند المعاينة لا يُقبل. هذه سنة الله في عباده. فما دُفِعَتْ شدائد الدنيا بمثل التوحيد ... (4).
__________
(1) الكشاف للزمخشري 3/ 149.
(2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 13/ 223.
(3) - أي بالتوحيد.
(4) - الفوائد (ص 79).(8/486)
(حديث عائشة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يغني حذر من قدر و الدعاء ينفع مما نزل و مما لم ينزل و إن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة.
وهذا الحديث يوضح أن الوقاية من المصائب تكون بالدعاء بينما لا ينجح الحذر في رد هذه المصائب ولكن مع اعتبار قول الله (وخذوا حذركم)
(جاء رجل إلى أبى الدرداء فقال يا أبى الدرداء لقد احترق بيتك فقال ما احترق ولم يكن الله ليفعل ذلك، بكلمات سمعتها من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قالها فى أول نهاره لم تصبه مصيبة حتى يمسى ومن قالها آخر النهار لم تصبه مصيبة حتى يصبح. وقد قلتها اليوم.
(اللهم أنت ربى، لا إله إلا أنت عليك توكلت وأنت رب العرش العظيم، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم أعلم أن الله على كل شىء قدير و أن الله قد أحاط بكل شىء علما، اللهم إنى أعوذ بك من شر نفسى ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إن ربى على صراط مستقيم) ثم قال انهضوا بنا، فقام وقاموا معه فانتهوا إلى داره وقد احترق ما حولها، ولم يصبها شىء) (1).
(أَمّن يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إِذَا دَعَاهُ)
من الذي يفزع إليه المكروب ويستغيث به المنكوب وتصمد إليه الكائنات وتسأله المخلوقات وتلهج بذكره الألسن وتؤلهه القلوب إنه الله لا اله إلا هو، وحق علينا أن ندعوه في الشدة والرخاء والسراء والضراء ونفزع إليه في المُلمات ونتوسل إليه في الكربات وننطرح على عتبات بابه سائلين باكين ضارعين منيبين حينها يأتي مدده ويصل عونه ويسرع فرجه ويحل فتحه
(أَمّن يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إِذَا دَعَاهُ)
فينجي الغريق ويرد الغائب ويعافي المبتلى وينصر المظلوم ويهدي الضال ويشفي المريض ويفرج عن المكروب.
إذا نزلت بك النوازل وألمَّت بك الخطوب فالهج بذكره واهتف باسمه واطلب مدده واسأله فتحه ونصره مرغ الجبين لتقديس اسمه لتحصل على تاج الحرية وأرغم الأنف في طين عبوديته لتحوز وسام النجاة مد يديك وارفع كفيك أطلق لسانك أكثر من طلبه بالغ في سؤاله ألح عليه الزم بابه انتظر لطفه ترقب فتحه اشد باسمه أحسن ظنك فيه انقطع إليه تبتل إليه تبتيلا حتى تسعد وتفلح.
(أَمّن يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إِذَا دَعَاهُ)
__________
(1) - انظر الوابل الصيب لابن القيم، الأذكار للنووى.(8/487)
يا له من رب رحيم ودود لطيف شكور ..... يتودد إلى عباده وهو الغني عنهم .... يأمرك بأن تدعوه وهو الغني عن دعائك
إنه الملك _جل وعلا_ الذي يفزع إليه المكروب ويستغيث به المنكوب وتلجا إليه كل المخلوقات.
(فاذا نزلت بك النوازل وأحاطت بك المصائب وألمَّت بك الخطوب فما عليك إلا أن ترفع أكف الضراعة لتطلب منه العون والمدد وتمرغ الجبين لتبل الحصى بدموع التوبة والندم وتنخلع من حولك وقوتك إلى حول الله وقوته وتقول بلسان الحال والمقال: اللهم إني أبرا من الثقة إلا بك ومن الأمل إلا فيك ,ومن التسليم الا لك, ومن التوكل الا عليك, ومن الرضا الا عليك ومن الامل الا فيك ومن الصبر إلا على بابك ,ومن الذل إلا في طاعتك ,ومن الرهبة إلا لجلالك العظيم ,ومن الرجاء إلا في يديك الكريمتين ..
(إذا نزلت بك المصائب فقل: يا الله
(إذا خانك الرفيق والصديق فقل: يا الله
(إذا ضاع المال والعيال فقل: يا الله
(إذا اجتمع عليك أهل الأرض فقل: يا الله
الزم بابه .... وتبتل إليه ..... وترقب فتحه ونصره .... وارفع إليه اكف الضراعة .... وأحسن
الظن به ... واطلب منه العون والمدد.
فهو الذي يشفي المريض ويعافي المبتلى ويسد الدين عن المديون وينصر كل مظلوم ويهدي كل ضال ومحروم ويرد الغائب ويفك اسر المسجون.
(أَمّن يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إِذَا دَعَاهُ)
يا صاحب الهم إن الهمَّ مُنْفَرِج
أبشر بخير فان الفارجَ الله
اليأس يقطع أحيانا بصاحبه
لا تيأسن فان الكافي الله
إذا بُلِيْتَ فاتق بالله وارضَ به
فان الذي يكشف البلوى هو الله
الله يحدث بعد العسر ميسرة
لا تعجزن فان الصانع الله
والله ما لك غير الله من احد
فحسبك الله في كل لك الله
(أَمّن يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إِذَا دَعَاهُ)
عندما تغلق جميع الأبواب بوجهك!!!!!
عندما لا يوجد أي منفذ لحل المعضلة!!!!!
عندما تغدوا مضطرا ولا حيلة لك!!!!!
عندما لا تستطيع فتح الأقفال وإزالة الحواجز عن طريقك!!!!!
ألا نعرف كلنا بان هناك نور يشرق وبصيص أمل ينتظرنا ويفتح لنا أبواب الرحمة الإلهية
بوجه المتحيرين ألا وهو الله عز وجل،،،،،،
هذه حقيقة يدركها الكل حتى المشركين لأن وجود الله عز وجل موجود بالفطرة
وفي النفس الإنسانية!!!! لا ترى عند تتلاطم أمواج البحر ينسى الإنسان كل
شيء ويتوجه نحو الله عز وجل؟؟؟؟؟(8/488)
وهذه حالة الاضطرار التي يعيشها الإنسان يكون مغمضاً عينيه عن عالم الماديات ويكون قلبه وروحه بين يدي الله عز وجل وكل شيء له ومنه فعند تحقق هذا الإدراك يكون الإنسان في حالة الاضطرار ويوفر لنفسه شرط من شروط استجابة الدعاء!!!!!
(أَمّن يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إِذَا دَعَاهُ)
(وهاك قصصاً تبكي الصخور لمن استجاب الله تعالى لهم حال الاضطرار:
[*] يقول الشيخ على الطنطاوي:
«أسرد عليكم قصة أسرة أمريكية فيها ستة أولاد، أبوهم فلاح متين البناء قويّ الجسد ماضي العزم، وأمهم امرأة عاقلة مدبّرة حازمة، فتربى الأولاد على الصبر والاحتمال حتى صاروا رجالاً قبل أوان الرجولة. وخرج الصغير يومًا يلعب، وكان في الثالثة عشرة، فقفز من فوق صخرة عالية قفزة وقع منها على ركبته، وأحس بألم فيها، ألم شديد لا يصبر عليه ولد مثله، ولكنه احتمله وصبر عليه، ولم يخبر أحدًا وأصبح فغدا على مدرسته يمشي على رجله، والألم يزداد وهو يزداد صبرًا عليه، حتى مضى يومان فظهر الورم في رجله وازرقَّ، وعجز أن يخطو عليها خطوة واحدة، فاضطربت أمه وجزع أبوه وسألاه عن خبره؟ فأخبرهما الخبر فأضجعوه في فراشه وجاءوا بالطبيب فلما رآها علم أنه قد فات أوان العلاج وأنها إن لم تُقطع فورًا مات الولد من تسمم الدم، فانتحى بأبيه ناحية وخبّره بذلك همسًا، يحاذر أن يسمع الولد قوله، ولكنّ الولد سمع، وعرف أنها ستقطع رجله، فصرخ: لا، لا تقطعوا رجلي، لا تقطعوا رجلي، أبي أنقذني، حاول أن يقفز على رجل واحدة ويهرب منهم فأمسك به أبوه وردَّه إلى فراشه، فنادى أمه نداء يقطع القلوب: أمي، أمي، أنقذيني، أمي ساعديني، لا يقطعوا رجلي، ووقفت الأم المسكينة حائرة تحس كأن كبدها تتمزق؛ قلبها يدعوها إلى نجدة ابنها ويفيض حنانًا عليه وحبًا له، وعقلها يمنعها ويناديها أن تفتدي حياته برجله، ولم تدر ماذا تصنع؟(8/489)
فوقفت وقلبها يتفطر ودمعها يتقاطر، وهو ينظر إليها نظر الغريق إلى من ظن أنه سينقذه، فلما رآها لا تتحرك، يئس منها، كما يئس من أبيه من قبل، وجعل ينادي أخاه [إِدغار] بصوت يختلط فيه النداء بالبكاء والعويل: إِدغار إِدغار، أين أنت يا إِدغار؟ أسرع فساعدني، إنهم يريدون أن يقطعوا رجلي، إدغار إدغار، وسمع أخوه إدغار ـ وهو أكبر منه بقليل ـ صراخه، فأقبل مسرعًا، فشد قامته ونفخ صدره، ووقف دون أخيه متنمِّرًا مستأسدًا، وفي عينيه بريق من عزيمة لا تُقهر، وأعلن أنه لن يدع أحدًا يقترب منه، وكلمه أبوه، ونصحته أمه، وهو يزداد حماسة، وأخوه يختبئ وراءه ويتمسك به، فيشدّ ذلك من عزمه، وحاول أبوه أن يزيحه بالقوّة، فهجم على أبيه وعلى الطبيب الذي جاء يساعده، واستأسد واستيأس، والإنسان إذا استيأس صنع الأعاجيب. ألا ترون الدجاجة إذا هجم أحد على فراخها كيف تنفش ريشها وتقوم دون فراخه؟ والقطة إذا ضويقت كيف تكشِّر عن أنيابها وتبدي مخالبها؟ إن الدجاجة تتحول صقرًا جارحًا، والقطة تغدو ذئبًا كاسرًا، و [إدغار] صار رجلا قويًا، وحارسًا ثابتًا، يتزحزح الجدار ولا يتزحزح عن مكانه. وتركوه آملين أن يملَّ أو يكلَّ، فيبعد عن أخيه ولكنه لم يتزحزح، وبقي يومين كاملين واقفًا على باب غرفة أخيه يحرسه، لم يأكل في اليومين إلا لقيمات، قربوها إليه، ولم ينم إلا لحظات، والطبيب يجئ ويروح، ورجل الولد تزداد زرقة وورمًا، فلما رأى الطبيب ذلك نفض يده وأعلن أنها لم تبق فائدة من العملية الجراحية وأن الولد سيموت وانصرف، ووقفوا جميعًا أمام الخطر المحدق.
ماذا يصنع الناس في ساعة الخطر؟!
إن كل إنسان مؤمنًا كان أو كافرًا يعود ساعة الخطر إلى الله؛ لأن الإيمان مستقر في كل نفس حتى في نفوس الكفار، ولذلك قيل له: [كافر]، والكافر في لغة العرب [الساتر] ذلك أنه يستر إيمانه ويغطيه، بل يظن هو نفسه أن الإيمان قد فقد من نفسه، فإذا هزّته الأحداث ألقت عن غطاءه فظهر. قريش التي كانت تعبد هُبل واللات والعزى، إنما كانت تعبدها ساعة الأمن، تعبدها هزلا منها، فإذا جدَّ الجدُّ، وركب القرشيون السفينة، وهاج البحر من حولها بموج كالجبال، وصارت سفينتهم بيد الموج كريشة في كفّ الرياح، وظهر الخطر، وعمّ الخوف، بدأ الإيمان الكامن في أعماق النفس، فلم تُدْعَ اللات والعزى ولا هاتيك(8/490)
[المَسْخرات]، ولكن دعت الله رب الأرض والسماوات، وعندما تغرق السفينة وتبقى أنت على لوح من الخشب بين الماء والسماء، لا تجد ما تصنع إلا أن تنادي: يا الله. هذا فرعون الذي طغى وبغى، وتكبّر وتجبر، حتى قال أحمق مقالة قالها إنسان قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} ... [النازعات:24] لما أدرك الغرقُ فرعون قال: {آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ... [يونس:90].
وعندما تضل في الصحراء، ويحرق العطش جوفك، وترى الموت يأتيك من كل مكان، لا تجد ما تصنع إلا أن تنادي: يا الله!، وعندما تتعاقب سنوات القحط، ويمتد انقطاع المطر. وفي غمرة المعركة العابسة التي يرقص فيها الموت، وعندما يشرف المريض ويعجز الأطباء يكون الرجوع إلى الله. هنالك ينسى الملحد إلحاده، والماديُّ ماديته، والشيوعيّ شيوعيّته ويقول الجميع: يا الله!.لما ذهب الطبيب واستحكم اليأس وملأ قلوب الجميع: قلب الولد الخائف، وأخيه المستأسد المتنمّر، وأبيه وأمه، واستشعروا العجز، ولم تبق في أيديهم حيلة، وبلغوا مرتبة [المضطر]، مدّوا أيديهم إلى الله يطلبون منه الشفاء وحده، ويطلبونه بلا سبب يعرفونه. لأنها قد تقطعت بهم الأسباب،(8/491)
(والله الذي يشفي بسبب الدواء والطبّ، قادر على أن يشفي بلا طب ولا دواء. مدّوا أيديهم وجعلوا يقولون: يا الله!! يدعون دعاء المضطر، والله يجيب دعوة المضطر ولو كان فاسقًا، ولو كان كافرًا، ما دام قد التجأ إليه، واعتمد عليه، ووقف ببابه، وعلق أمله به وحده، يُجيب دعوته إن طلب الدنيا، أما الآخرة فلا تُجاب فيها دعوته لأنه كافر لا يؤمن بالآخرة. هؤلاء كفار قريش لما دعوا الله مخلصين له الدين استجاب دعاءهم ونجاهم إلى البر، بل هذا شرّ الخلق إبليس لمّا دعا دعاء المضطر، قال: {رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} ... [الحجر:36]، قال له: {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ} ... [الحجر:37].ولو أمعنتم النظر في أسلوب القرآن لوجدتم أن الله لم يخبر في القرآن إِخبارًا أنه يجيب دعوة المضطر، لأن ذلك مشاهد معلوم، ولكن ذكره حجة على المشركين فقال: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ {60} أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ {61} أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} ... [النمل: 60 - 62].
(يا أيها القراء إنهم لما دعوا نظروا فإذا الورم بدأ يخف والزُّرقة تمحى والألم يتناقص، ثم لم يمض يومان حتى شفيت الرِجل تمامًا، وجاء الطبيب فلم يكد يصدق ما يراه!!.(8/492)
(ستقولون هذه قصة خيالية أنت اخترعتها وتخيلتها، فما قولكم إن دللتكم على صاحبها، إن هذا الولد صار مشهورًا ومعروفًا في الدنيا كلها، وهو الذي روى القصة بلسانه، هذا الولد هو: أيزنهاور القائد العام لجيوش الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، ورئيس أمريكا بعد ذلك!!.وقد وقعت لي أنا حوادث رأيتُها وعشتُها، أو وقعت لمن كان حولي سمعتُها وتحققت منها. سنة 1957، مرضت مرضة طويلة لخيانة من طبيب شاب شيوعي، وضع لي جرثومة يسمونها العصيّات الزرقاء، قليلة نادرة في بلادنا، وكانت شكواي من حصاة في الكلية أقاسي من نوباتها آلامًا لا يعرف مداها إلا من قاساها، فانضممت إليها أمراض أخرى لم يكن لي عهد بها، وقضيت في المستشفى؛ مستشفى الصحة المركزي الكبير في دمشق، ثم في مستشفى كلية الطب بضعة عشر شهرًا، أقيم فيه، ثم أخرج منه ثم أعود إليه، وكانوا كل يوم يفحصون البول مرتين، وينظرون ما فيه،
فلما طال بي الأمر، وضاق مني الصدر، توجهت إلى الله فسألته إحدى الراحتين، الشفاء إن كان الشفاء خيرًا لي، أو الموت إن كان في الموت خيرٌ لي ـ وكان يدعو لي كثير ممن يحبني وإن كنت لا أستحق هذا الحب من الأقرباء ومن الأصدقاء ـ فلما توجهت ذلك اليوم إلى الله مخلصًا له نيتي، واثقًا بقدرته على شفائي، سكن الألم، وتباعدت النوبات، وفحصوا البول كما كانوا يفحصونه كل يوم، فإذا به قد صفا، وزال أكثر ما كان فيه وعجب الأطباء واندهشوا، اجتمعوا يبحثون.
فقلت لهم: لا تتعبوا أنفسكم فهذا شيء جاء من وراء طِبِّكم، إن الله الذي أمرنا أن نطلب الشفاء من الطب ومن الدواء، قادر على أن يشفي بلا طب ولا دواء.(8/493)
ولما قدمت المملكة سنة 1382هـ أقمت سنة في الرياض، ثم جئت مكة فلبثت فيها إلى الآن، كان معنا فيها رجل من الشام لا أسميه، كان مقيمًا في الرياض هو وأمه، فعرض له عمل اقتضى سفره إلى لبنان، كرهت أمه هذا السفر لئلا تبقى وحدها، فلما حلّ موعده حمل ثقله [أي حقائبه وأشياءه] إلى المطار فسلمه إلى الشركة وذهب إلى بيته على أن يأتي الفجر ليسافر. ورجا أمه أن توقظه قبيل الفجر، فلم توقظه حتى بقى لموعد قيام الطيارة ثلاث أرباع الساعة، فقام مسرعًا وأخذ سيارة وحثَّ السائق على أن يبلغ به المطار ويضاعف له الأجر، وجعل يدعو الله أن يلحق بالطيارة قبل أن تطير، ولما وصل وجد أنه لا يزال بينه وبين الموعد ربع ساعة، فدخل المقصف وقعد على الكرسي فنام، ونودي من المكبر على ركاب الطائرة أن يذهبوا إليها، فلم يسمع هذا النداء وما صحا حتى كانت الطيارة قد علت في الجو، وكنت معه، فجعل يعجب كيف دعا الله بهذا الإخلاص دعاء المضطر ولم يستجب له؟.
وجعلت أهون الأمر عليه، وأقول له: إن الله لا يردّ دعوة داعٍ مخلص مضطر أبدًا، ولكن الإنسان يدعو بالشر دعاءه بالخير، والله أعلم بمصلحته منه، وأهمّ الغضب والحزن عن إدراك ما أقول.
أفتدرون ماذا كانت خاتمة هذه القصة؟
لعل منكم من يذكر طيارة شركة الشرق الأوسط التي سقطت تلك السنة، وهلك من كان فيها؟ هذه هي الطيارة التي حزن على أنها فاتته. إن الإنسان قد يطلب من الله ما يضره، ولكن الله أرحم به من نفسه، وإذا كان الأب يأخذ ولده الصغير إلى السوق فيرى اللعبة فيقول: أريدها، فيشتريها له، ويبصر الفاكهة الجميلة، فيوصله إليه، ويطلب الشُّكولاته فيشتري له ما يطلبه فإذا مرَّ على الصيدلية ورأى الدواء الملفوف بالورقة الحمراء، فأعجبه لونه، فطلبه، هل يشتريه له وهو يعلم أنه يضره؟ إذا كان الأب وهو أعرف بمصلحة ولده لا يعطيه كل ما يطلب لأنه قد يطلب ما لا يفيده، فالله أرحم بالعباد من آبائهم ومن أمهاتهم ومن ذويهم» .... [كتاب الباب الذي لا يغلق في وجه سائل ص 1 – 20: الشيخ على الطنطاوي
(هذه قصه واقعيه حدثت في وقتنا الحاضر لمعلمة في مكه المكرمه 0(8/494)
كان هناك مجموعه من المعلمات تعاقدنا مع سائق يوصلهن من منازلهن للمدرسه والعكس وكان هذا السائق يعرف وقت صرف الرواتب وفي يوم ركبنا المعلمات معه ويعرف أنهن استلمن رواتبهن فأخذ السائق بتوصيل المعلمات واحد تلو الأخرى وبقيت معلمه واحده تنظر دورها أن يوصلها الى منزلها ولكنها تفأجأت أن السائق غير من طريق البيت واخذ يتجه إلى طريق جدة أخذت المعلمه تناديه يافلان يا فلان هذا ليس طريق المنزل لكن لم يرد عليها وبعد محاولات فاشله لاستعطافه أيقنت انه طمع فيها، أثناء قيادته السياره سجدت المعلمه على أرضية السياره وأخذت تدعو يامغيث 0000000
وخرجت هذه الدعوه من قلب مكروب.
وفجأه!!
ضرب السائق فرامل لأن هناك سياره اعترضته رفعت المعلمه رأسها تخيلوا من كان في السياره المعترضه، إنه أبوها وأخوها فرحت لوهله ثم انتابها خوف لوجودها في هذا المكان مع السائق ماذا سيقول أباها وأخاها عنها!!!
وفتح أبوها الباب واخذ بيد ابنته إلى السياره و انطلق مباشره دون التكلم مع السائق ولا مع ابنته ودارت الأفكار برأس المعلمه؟؟ وصلوا إلى البيت نزلت المعلمه مسرعه نحو أمها حتى تشرح لها الوضع قبل دخول والدها تفأجأت بوجود والدها و اخوها على مائدة الغداء أماه م م م متى كيف اشلون كانو في السياره يامههههه وانا سبقتهم في الدخول
أجابت الأم هم موجودون منذ ساعتين.؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ إذن من الذين كانوا في السياره؟؟؟
هل تعرفون من هم؟؟
إنهم الملائكة ومن رحمة الله بها انه جعلهم على صورة والدها واخوها حتى لا تخاف 0
يا الله انك أرحم بنا من امهاتنا0
) (وهذه قصةٌ مُبْكِيَة
هذة قصة حقيقية حصلت أحداثها ما بين الرياض وعفيف لأن صاحبة القصة أقسمت على كل من يسمعها أن ينشرها للفائدة فتقول:
لقد كنت فتاة مستهترة اصبغ شعري بالأصباغ الملونة كل فترة وعلى الموضة وأضع المناكير ولا أكاد أزيلها إلا للتغيير، أضع عبايتي على كتفي أريد فقط فتنة الشباب لا إغوائهم، أخرج إلى الأسواق متعطرة متزينة ويزين إبليس لي المعاصي ما كبر منها وما صغر وفوق هذا كلة لم اركع لله ركعة واحدة بل لا اعرف كيف اصلي والعجيب أني مربية
أجيال معلمة يشار لها بعين احترام فقد كنت ادرس في احد المدارس البعيدة من مدينة الرياض فقد كنت اخرج من منزلي مع صلاة الفجر ولا أعود حتى صلاة العصر المهم أننا كنا مجموعة من المعلمات وكنت أنا الوحيدة التي لم أتزوج.(8/495)
فمنهن المتزوجة حديثا ومنهن الحامل ومنهن التي أخذت أجازة أمومة وأيضا كنت أنا الوحيدة التي نزع مني الحياء فقد كنت أحدث السائق وأمازحه كأنة أحد أقاربي ومرت الأيام وما زلت على طيشي وضلالي وفي صباح احد الايام استيقظت متأخرة وخرجت بسرعة وركبت السيارة وعندما التفتت لم أجد سواي في المقاعد الخلفية سألت السائق فقال فلانة مريضة وفلانة قد ولدت و. و. فقلت في نفسي ما دام الطريق طويل سأنام حتى نصل فنمت ولم استيقظ إلا من وعرة الطريق فنهضت خائفة ورفعت الستار ما هذا الطريق وما الذي صار؟؟؟؟ فلان أين تذهب بي؟؟؟؟؟؟؟ قال لي بكل وقاحة الآن ستعرفين فقد عرفت مخططة قلت له وكلي خوف يا فلان أما تخاف الله أتعلم عقوبة ما تنوي فعلة وكلام كثير أريد أن أثنية عما يريد فعلة وكنت اعلم أني هالكة لا محالة فقال بثقة إبليسية لعينة أما خفتي الله أنتي؟
وأنتي تضحكين بغنج وميوعة وتمازحينني؟؟؟؟ ولا تعلمين أنك فتنتيني وأني لن أتركك حتى آخذ ما أريد بكيت صرخت ولكن المكان بعيد ولا يوجد سوى أنا وهذا الشيطان المارد مكان صحراوي مخيف ... مخيف ... رجوتة وقد أعياني البكاء وقلت بيأس واستسلام إذاً دعني أصلي لله ركعتين لعل اللة يرحمني فوافق بعد أن توسلت علية نزلت من السيارة وكأني أقاد إلى ساحة الإعدام صليت ولأول مرة في حياتي صليتها بخوف وبرجاء والدموع تملأ مكان سجودي توسلت لله تعالى أن يرحمني ويتوب علي وصوتي الباكي يقطع هدوء المكان وفي لحظة وأنا أنهي صلاتي
تتوقعون مالذي حدث؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
وكانت المفاجأة ما الذي أراه؟
إنني أرى سيارة أخي قادمة نعم إنه أخي وقد قصد المكان بعينة لم أفكر بلحظة كيف عرف مكاني ولكني فرحت بجنون وأخذت اقفز ... وأنادي ... وذلك السائق ينهرني ولكني لم أبالي به .... من أرى أنه أخي الذي يسكن الشرقية وأخي الآخر الذي يسكن معنا فنزل أحدهما وضرب السائق بعصا غليظة وقال اركبي مع احمد في السيارة وأنا سآخذ هذا السائق واضعة في سيارة بجانب الطريق ... ركبت مع احمد والذهول يعصف بي وسألته هاتفةً كيف عرفتما بمكاني وكيف جئت من الشرقية؟ ومتى؟(8/496)
قال في البيت تعرفين كل شيء وركب محمد معنا وعدنا للرياض وأنا غير مصدقة لما يحدث وعندما وصلت إلى المنزل ونزلت من السيارة قالا لي أخوتي اذهبي إلى أمنا واخبريها الخبر وسنعود بعد قليل ونزلت مسرعة اخبر أمي دخلت عليها في المطبخ واحتضنتها وأنا ابكي واخبرها بالقصة قالت لي بذهول وأحمد فعلا في الشرقية وأخوك محمد ما زال نائما فذهبنا إلى غرفة محمد فوجدناه فعلا نائم أيقظته كالمجنونة لأساله ما الذي يحدث فأقسم بالله العظيم أنة لم يخرج من غرفتة ولا يعلم بالقصة؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
ذهبت إلى سماعة الهاتف تناولتها وأنا أكاد أجن فسالت أخي الآخر فقال ولكنني في عملي الآن *********** بعدها بكيت
وعرفت كل إلي حصل إنهما ملكين أرسلهما ربي لينقذني فحمدت الله تعالى على ذلك وكانت هي سبب هدايتي ولله الحمد والمنة بعدها انتقلت الى منطقة عفيفة وابتعدت عن كل ما يذكرني بالماضي المليء بالمعاصي والذنوب.
[*] قال مالك بن دينار:
خرجت إلى الحج وفيما أنا سائر في البادية، إذ رأيت غراباً فى فمه رغيف، فقلت: هذا غراب يطير وفى فمه رغيف، إن له لشأناً، فتتبعته حتى نزل عند غار، فذهبت إليه فإذا بي أرى رجلا مشدوداً لا يستطيع فكاكاً، والرغيف بين يديه، فقلت للرجل: من تكون؟ قال: أنا من الحجاج وقد أخذ اللصوص مالي و متاعي وشدوني و ألقوني في هذا الموضع، كما ترى وصبرت على الجوع أياماً ثم توجهت إلى ربى بقلبي وقلت: يا من قال في كتابه العزيز (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء (فأنا مضطر فارحمني فأرسل الله إلى هذا الغراب بطعامي في هذا الموقف نرى حال الداعي قد أثر في إجابة دعوته فقد كان مضطراً فقد كل الأسباب ولم يبق له إلا باب السماء .. والله حرمه من الأسباب ليتعلم أن يتعلق قلبه برب الأسباب لا بالأسباب حتى إذا عاد للحياة الطبيعية و أصبحت الأسباب فى يده لم يلتفت إليها.
((قصة الحسن البصري مع الحجاج بن يوسف الثقفي)
بنى الحجاج بن يوسف الثقفى داراً بواسط بالعراق فدعا الناس للفرجة والدعاء بالبركة ..(8/497)
فذهب الحسن البصرى رضى الله عنه إلى هناك فوقف خطيباً في الناس ليلفت الناس عن الانبهار بالزخارف إلى كراهية الظلم الذى يمارسه الحجاج بن يوسف وقال فيه كلاما غليظا، فلما أشفق الناس عليه من بطش الحجاج قال: لقد أخذ الله ميثاق أهل العلم لتبيننه للناس ولا تكتمونه ... ثم انصرف ولما بلغ الحجاج ما حدث استشاط غيظاً ولام أتباعه على عدم الرد عليه و أخبرهم أنه سيجعله عبرة للناس و أرسل فى طلبه وأعد فى مجلسه النطع والسياف فظن الناس أنه قاتله وقبل أن يدخل الحسن البصرى إلى مجلس الحجاج
تمتم بكلمات فلما دخل عليه فوجىء الناس بأن الحجاج يحسن استقباله وأجلسه بجواره وطيب لحيته وسأله فى بعض المسائل ثم أذن له بالإنصراف ..
وما أن غادرالحسن البصرى المجلس حتى جرى الحاجب خلفه وسأله ناشدتك الله ما هذه الكلمات التى كنت تتمتم بها فإن الحجاج ما استدعاك ليطيب لحيتك؟
فقال الحسن: قلت: اللهم ياولى نعمتى وملاذى عند كربتى، اللهم اجعل عقوبته لى برداً وسلاما كما جعلت الناربردا وسلاماًً على إبراهيم.
((قصة لمريض شفاه الله تعالى بالدعاء)
والقصة لصديق يعمل مهندسا كان قد أصيب بالتهاب رئوي أدى إلى خراج على الرئة ..
حاول الأطباء علاجه مدة شهرين كاملين وأعطوه كل أنواع المضادات بلا فائدة، حتى فقد وزنه واقترب من نهايته ..
وفى يوم من الأيام وبعد مغادرة الأطباء للمستشفى الذى كان يقيم فيه توجه إلى ربه وقال: يا من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء اشفني وعافني، وأخذ يبتهل ويردد الدعاء حتى شعر أن شيئاً في صدره يريد أن يخرج وبعد سعال خفيف خرجت كرة من الصديد وضعها في إناء بجواره وشعر بتحسن تام بعدها لقد أصبح قادراً على الحركة مرة أخرى، وكانت المفاجأة حينما جاء الأطباء فى الغد ..
ووضع الطبيب سماعته على صدره فلم يسمع شيئا مما كان يسمعه ووجد ابتسامته تعلو وجهه وقبل أن ينطق الطبيب قال صديقي: لقد شفاني الله بالدعاء.
فكم من مرضى أقرباء لنا حاروا مع العلاجات والأطباء فلابد من أن ننصحهم مع أخذهم بأسباب الشفاء ومع استمرارهم فى الدواء أن يتضرعوا ويلجأوا إلى ربهم عز وجل بالدعاء (دعاء المضطر) والله هو الذى يجيب فهو قادر على كل شىء سبحانه ...
(14) دعوة المظلوم:(8/498)
(حديث ا بن عباس في الصحيحين) قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذٍ ابن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتُردُ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائمَ أموالهم، واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب.
(حديث خزيمة بن ثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اتقوا دعوة المظلوم فإنها تُحْمَلُ على الغمام يقول الله: و عزتي و جلالي لأنصرنك و لو بعد حين.
(حديث ابن عمر في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوة المظلوم مستجابة و إن كان فاجرا ففجوره على نفسه.
(والشواهد على إجابة دعوة المظلوم لا تكاد تحصر، ومنها ما جاء في قصة سعد بن أبي وقاص مع أهل الكوفة لما شكوه إلى عمر بن الخطاب.
قال أبو عوانة، وجماعة: حدثنا عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال:=شكا أهل الكوفة سعدًا إلى عمر فقالوا: إنه لا يحسن أن يصلي، فقال سعد: أما أنا فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله، صلاتي العشيِّ لا أخرم منها، أركد في الأوليين، وأحذف في الأخريين.
فقال عمر: ذلك الظن بك يا أبا إسحاق.
فبعث رجلاً يسألون عنه بالكوفة، فكانوا لا يأتون مسجدًا من مساجد الكوفة إلا قالوا خيرًا، حتى أتوا على مسجد لبني عبسٍ، فقال رجل يقال له أبو سعد: أما إذا نشدتمونا بالله فإنه كان لا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية، ولا يسير بالسرية.
(فقال سعد: اللهم إن كان كاذبًا فأعم بصره، وأطل عمره، وعَرِّضْهُ للفتن.
قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد يتعرض للإماء في السكك، فإذا قيل له: كيف أنت؟ قال: كبير مفتون أصابتني دعوة سعد. (1)
[*] وقال الذهبي:
يقال إن رجلاً وشى على بسر بن سعيد عند الوليد بن عبد الملك بأنه يعيبكم.
__________
(1) رواه أحمد 1/ 175_180، والبخاري (755)، في الأذان، باب وجوب قراءة الإمام والمأموم في الصلوات كلها، ومسلم (453) في الصلاة، باب القراءة في الظهر والعصر، والنسائي 2/ 217 باب الركود في الأوليين.(8/499)
قال: فأحضره وسأله، فقال: لم أَقُلْهُ؛ اللهم إن كنتُ صادقًا فأرني به آية، فاضطرب الرجل فمات. (1)
[*] (فيا أيها المظلوم (يا صاحب الحقِ المهضوم (يا من صار مَغْمُومَاً من جُرْحِهِ المَكْلُوم (يا من كان غَيْظُهُ من الظلم مَكْتُوم (يا من صار وَجُهُ من الأسى مَحْمُوم (هَوِّنْ عَلَيْك يا أخي، فإن الدنيا أمرها معلوم، فهي للظالم لا تدوم، (سيقتَصُ الله لك من فِعلهم المشئوم (وعند الله تَجْتَمِعُ الخصوم ويُقْتَصُ من الظَالِم للمَظلوم.
(15) دعوة الوالد على ولده:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاث دعوات مستجابات: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده.
وهذه النقطة من أخطر النقاط، وأفرد لها أسطراً، وجزءاً خاصاً لأهميتها، فهي تتعلق بانتكاسة الأولاد وفسادهم، من هدايتهم وصلاحهم، حيث يدور عليها صلاح الأبناء من عدمه، وهدايتهم من غوايتهم، فكم من الآباء والأمهات من لا يخاف الله تعالى في أبنائه وبناته، فلا تسمعه إلا داعياً عليهم، لاعناً لهم، مغضباً مزمجراً، عبوساً مكشراً، فربما أدى ذلك إلى انحرافهم عن جادة الطريق، وربما كان نتيجة لذلك بعدهم عن منهج الله تعالى، وبالتالي تتلقفهم أيدي العابثين، فيصبحوا في زمرتهم وينقلب الحال إلى أسوأ مما يُتصور ويُتوقع، ولا سيما ونحن في عصر انفتحت فيه الآفاق العلمية والعقدية والدينية والأسرية، بسبب انتشار الفضائيات ووسائل الإعلام المختلفة، حتى أصبح العالم وكأنه حجرة واحدة، فلا يُسَوِّغُ لولي الأمر أن يدعو على أبنائه، بل الواجب عليه أن يُكثر من الدعاء لهم، حتى يكونوا صلحاء علماء دعاة يستفيد منهم مجتمعهم، وتستفيد منهم أمتهم.
__________
(1) سير أعلام النبلاء للذهبي 4/ 595.(8/500)
وهناك آباء على العكس من ذلك يحبون أبناءهم ويعاملونهم معاملة الأخ والصديق، لكن لا يخلو لسانه من دعاء عليهم حال غضبه، وهذه هي الطامة الكبرى، والفاجعة العظمى، فكم من ابنٍ ضل طريق الصواب، وأخطأ سبيل الهداية بسبب دعاء والده أو والدته عليه، وكذلك الفتاة، ويدل على خطورة الدعاء على الأبناء، وأنه قد يكون فتنة لهم، هذا الحديث، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَانَ جُرَيْجٌ يَتَعَبَّدُ فِي صَوْمَعَةٍ فَجَاءَتْ أُمُّهُ، قَالَ حُمَيْدٌ: فَوَصَفَ لَنَا أَبُو رَافِعٍ صِفَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ لِصِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّهُ حِينَ دَعَتْهُ كَيْفَ جَعَلَتْ كَفَّهَا فَوْقَ حَاجِبِهَا ثُمَّ رَفَعَتْ رَأْسَهَا إِلَيْهِ تَدْعُوهُ، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ أَنَا أُمُّكَ كَلِّمْنِي فَصَادَفَتْهُ يُصَلِّي فَقَالَ اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلَاتِي فَاخْتَارَ صَلَاتَهُ فَرَجَعَتْ ثُمَّ عَادَتْ فِي الثَّانِيَةِ فَقَالَتْ يَا جُرَيْجُ أَنَا أُمُّكَ فَكَلِّمْنِي قَالَ اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلَاتِي فَاخْتَارَ صَلَاتَهُ فَقَالَتِ اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا جُرَيْجٌ وَهُوَ ابْنِي وَإِنِّي كَلَّمْتُهُ فَأَبَى أَنْ يُكَلِّمَنِي اللَّهُمَّ فَلَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ الْمُومِسَاتِ قَالَ وَلَوْ دَعَتْ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتَنَ لَفُتِنَ قَالَ وَكَانَ رَاعِي ضَأْنٍ يَأْوِي إِلَى دَيْرِهِ قَالَ فَخَرَجَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْقَرْيَةِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا الرَّاعِي فَحَمَلَتْ فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَقِيلَ لَهَا مَا هَذَا قَالَتْ مِنْ صَاحِبِ هَذَا الدَّيْرِ قَالَ فَجَاءُوا بِفُؤُوسِهِمْ وَمَسَاحِيهِمْ فَنَادَوْهُ فَصَادَفُوهُ يُصَلِّي فَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ قَالَ فَأَخَذُوا يَهْدِمُونَ دَيْرَهُ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ نَزَلَ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُ سَلْ هَذِهِ قَالَ فَتَبَسَّمَ ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَ الصَّبِيِّ فَقَالَ مَنْ أَبُوكَ قَالَ أَبِي رَاعِي الضَّأْنِ فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْهُ قَالُوا نَبْنِي مَا هَدَمْنَا مِنْ دَيْرِكَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قَالَ لَا وَلَكِنْ أَعِيدُوهُ تُرَابًا كَمَا كَانَ ثُمَّ عَلَاهُ " [أخرجه البخاري ومسلم واللفظ له].(8/501)
وللفائدة: فالذين تكلموا في المهد خمسة، منهم من ذُكر في الحديث التالي:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ عِيسَى وَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ كَانَ يُصَلِّي جَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ فَقَالَ أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي فَقَالَتِ اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ فَتَعَرَّضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ وَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَقَالَتْ مِنْ جُرَيْجٍ فَأَتَوْهُ فَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ وَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى ثُمَّ أَتَى الْغُلَامَ فَقَالَ مَنْ أَبُوكَ يَا غُلَامُ قَالَ الرَّاعِي قَالُوا نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ لَا إِلَّا مِنْ طِينٍ وَكَانَتِ امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنًا لَهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ فَقَالَتِ اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ فَتَرَكَ ثَدْيَهَا وَأَقْبَلَ عَلَى الرَّاكِبِ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهَا يَمَصُّهُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَصُّ إِصْبَعَهُ ثُمَّ مُرَّ بِأَمَةٍ فَقَالَتِ اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ فَتَرَكَ ثَدْيَهَا فَقَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا فَقَالَتْ لِمَ ذَاكَ فَقَالَ الرَّاكِبُ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ وَهَذِهِ الْأَمَةُ يَقُولُونَ سَرَقْتِ زَنَيْتِ وَلَمْ تَفْعَلْ " [متفق عليه واللفظ للبخاري].
(فخطر الدعاء على الأبناء عظيم، فهو مستجاب وباب القبول له مفتوح.
وكم هم الآباء الذين يشتكون من مشاكل أبنائهم من انحراف وسوء خلق، وضعف دين، وعدم توفيق في العمل والدراسة إلى غير ذلك من الأمور، وإذا سألناه: هل تدعو لهم أم تدعو عليهم؟ قال: أدعو عليهم.(8/502)
فكيف يريد مثل هذا الأب، أو تلك الأم السعادة والهناء والتوفيق والصلاح للأبناء وهم يدعون عليهم، وقد سبقت الإشارة إلى التحذير من الدعاء على الولد لأن الدعاء والحالة تلك مستجاب، ألا فليتق الله أولئك الآباء والأمهات الذين لا تفتر ألسنتهم من الدعاء على أبنائهم، وليعلموا أنهم سبب من أسباب ضياع أبنائهم، وسبب لفسادهم، وسبب لانتكاستهم، بل ربما كانوا سبباً في سوء خاتمتهم والعياذ بالله.
جاء رجل إلى عبد الله بن المبارك رحمه الله، يشكو إليه سوء خلق ولده، فقال له: أدعوت عليه، قال الأب: نعم، قال: أنت أفسدته.
وقصة الرجل الذي جاء إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يشكو أن ولده صفعه على وجهه، فقال: هل علمته القرآن؟ قال: لا، قال: هل علمته السنة؟ قال: لا، قال: هل علمته ألاق العلماء والصالحين، قال: لا، قال: حسبك ثور فضربك.
فالتربية السليمة الصحيحة وفق منهج الله تعالى، ووفق سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي المخرج، وهي الملجأ بإذن الله تعالى من هذه الكوارث والفتن التي تحدث في البيوت جراء انحراف الأبناء والبنات، فيجب على كل أب وأم، أن يكون لهم جلسة مع الأبناء جميعاً صغيرهم وكبيرهم، يتم فيها تداول الأحاديث حول التربية الإسلامية، وقراءة سير العلماء والصالحين والمربين، والاستفادة من الكتب الخاصة بهذا الشأن.
(30) دعوة المسافر:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاث دعوات مستجابات: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده.
[*] قال ابن رجب:
"والسفر بمجرده يقتضي إجابة الدعاء ... ومتى طال السفر كان أقرب إلى إجابة الدعاء؛ لأنه مظنة حصول انكسار النفس بطول الغربة عن الأوطان وتحمل المشاق، والانكسار من أعظم أسباب إجابة الدعاء" (1).
(16) دعاء الوالد لولده:
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاث دعوات لا تُرَدُّ: دعوة الوالد لولده، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر.
(17) دعوة المظلوم:
__________
(1) - جامع العلوم والحكم (1/ 269).(8/503)
(حديث ا بن عباس في الصحيحين) قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذٍ ابن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتُردُ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائمَ أموالهم، واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب.
(حديث خزيمة بن ثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اتقوا دعوة المظلوم فإنها تُحْمَلُ على الغمام يقول الله: و عزتي و جلالي لأنصرنك و لو بعد حين.
(حديث ابن عمر في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوة المظلوم مستجابة و إن كان فاجرا ففجوره على نفسه.
(والشواهد على إجابة دعوة المظلوم لا تكاد تحصر، ومنها ما جاء في قصة سعد بن أبي وقاص مع أهل الكوفة لما شكوه إلى عمر بن الخطاب.
قال أبو عوانة، وجماعة: حدثنا عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال:=شكا أهل الكوفة سعدًا إلى عمر فقالوا: إنه لا يحسن أن يصلي، فقال سعد: أما أنا فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله، صلاتي العشيِّ لا أخرم منها، أركد في الأوليين، وأحذف في الأخريين.
فقال عمر: ذلك الظن بك يا أبا إسحاق.
فبعث رجلاً يسألون عنه بالكوفة، فكانوا لا يأتون مسجدًا من مساجد الكوفة إلا قالوا خيرًا، حتى أتوا على مسجد لبني عبسٍ، فقال رجل يقال له أبو سعد: أما إذا نشدتمونا بالله فإنه كان لا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية، ولا يسير بالسرية.
(فقال سعد: اللهم إن كان كاذبًا فأعم بصره، وأطل عمره، وعَرِّضْهُ للفتن.
قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد يتعرض للإماء في السكك، فإذا قيل له: كيف أنت؟ قال: كبير مفتون أصابتني دعوة سعد. (1)
__________
(1) رواه أحمد 1/ 175_180، والبخاري (755)، في الأذان، باب وجوب قراءة الإمام والمأموم في الصلوات كلها، ومسلم (453) في الصلاة، باب القراءة في الظهر والعصر، والنسائي 2/ 217 باب الركود في الأوليين.(8/504)
(وعن سعد أيضاً: أن رجلاً قام يسب علياً رضي الله عنه، فدافع سعد عن علي، واستمر الرجل في السب والشتم، فقال سعد: اللهم اكفنيه بما شئت.
فانطلق بعيرٌ من الكوفة فأقبل مسرعاً، لا يلوي على شيء، وأخذ يدخل من بين الناس حتى وصل إلى الرجل، ثم داسه بخفيه، حتى قتله أمام مشهد ومرأى من الناس.
[*] وقال الذهبي:
يقال إن رجلاً وشى على بسر بن سعيد عند الوليد بن عبد الملك بأنه يعيبكم.
قال: فأحضره وسأله، فقال: لم أَقُلْهُ؛ اللهم إن كنتُ صادقًا فأرني به آية، فاضطرب الرجل فمات. (1)
(18) دعوة الوالد على ولده:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاث دعوات مستجابات: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده.
(19) دعوة المسافر:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاث دعوات مستجابات: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده.
[*] قال ابن رجب:
"والسفر بمجرده يقتضي إجابة الدعاء ... ومتى طال السفر كان أقرب إلى إجابة الدعاء؛ لأنه مظنة حصول انكسار النفس بطول الغربة عن الأوطان وتحمل المشاق، والانكسار من أعظم أسباب إجابة الدعاء" (2).
(20) دعاء الوالد لولده:
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاث دعوات لا تُرَدُّ: دعوة الوالد لولده، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر.
(21) من بات طاهرا على ذكر الله:
(حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من مسلم يبيت على ذكر الله طاهرا، فيتعار من الليل، فيسأل الله خيرا من الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه.
(22) عند شرب ماء زمزم مع النية الصادقة.
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجة):أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ماء زمزم لما شُرب له.
(23) عند دعاء الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.
__________
(1) سير أعلام النبلاء للذهبي 4/ 595.
(2) - جامع العلوم والحكم (1/ 269).(8/505)
(حديث أنس في صحيح السنن الأربعة) قال سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.
(حديث بريدة في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا يقول: اللهم إني أسألك أني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.
[*] (الأماكن الفاضلة التي يستجاب فيها الدعاء:
(أولاً الأماكن الفاضلة التي يستجاب فيها الدعاء جملةً:
(1) الملتَزَم وهو بجوار الحجر الأسود:
(2) التعلق بأستار الكعبة من غير تمسح أو طلب تبرّك:
(3) الدعاء في الطواف:
(4) الدعاء على الصفا والمروة:
(5) والدعاء يوم عرفة بعرفة:
(6) الدعاء عند المشعر الحرام:
(7) الدعاء عند رمي الجمرة الدنيا والوسطى:
(8) المسجد الحرام على وجه الخصوص، ومكة على وجه العموم.
(ثانياً الأماكن الفاضلة التي يستجاب فيها الدعاء تفصيلاً:
(1) الملتَزَم وهو بجوار الحجر الأسود:
الملتَزَم وهو بجوار الحجر الأسود، وسمي كذلك لأن الناس يلتزمونه بصدورهم وأيديهم، وهو ما بين الحجر الأسود إلى باب الكعبة.
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) قال: كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يُلزِق صدره ووجهه بالمُلتَزَم ... .
[*] وقال ابن عباس – رضي الله عنهما –:
الملتَزم ما بين الركن والباب (1).
وعنه – رضي الله عنه – أنه كان يَلْزَمُ ما بين الركن والباب، وكان يقول: ما بين الركن والباب يدعى المُلْتَزَم، لا يَلْزَم ما بينهما أحد يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه (2).
[*] وعن مجاهد أنه قال:
كانوا يَلْتَزِمُون ما بين الركن والباب ويَدْعُون (3).
[*] وقال محمد بن عبد الرحمن العبدي:
رأيت عكرمة بن خالد، وأبا جعفر وعكرمة مولى ابن عباس، يلتزمون ما بين الركن وباب الكعبة (4)
(2) التعلق بأستار الكعبة من غير تمسح أو طلب تبرّك:
__________
(1) - رواه عبد الرزاق (5/ 76) و ابن أبي شيبة (3/ 236)، ورواه مالك في الموطأ (1/ 424) بلاغاً.
(2) - رواه البيهقي في الكبرى (5/ 164)
(3) - رواه ابن أبي شيبة (3/ 236).
(4) - رواه ابن أبي شيبة (3/ 236).(8/506)
التعلق بأستار الكعبة من غير تمسح أو طلب تبرّك فلا حرج فيه، وكان التعلّق معروفاً، وهو يدلّ على اللجوء والاستعاذة بالله.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: دخل رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاء رجل فقال: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة! فقال: اقتلوه ... .
وذلك أنه قتل رجلاً من الأنصار ثم ارتد ولحق بالمشركين (1)
وقال – عليه الصلاة والسلام – في أربعة نفر: اقتلوهم وأن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة (2)
(وهذا يدلّ على أن التعلّق بأستار الكعبة له أصل، وكان معروفاً، ولم يُنكره النبي صلى الله عليه على آله وسلم.
إلا أنه لا يُتعلّق بأستار الكعبة تبركاً.
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله –:
ولما كانت الكعبة بيت الله الذي يُدعى ويُذكر عنده، فإنه سبحانه يستجار به هناك، وقد يُستمسك بأستار الكعبة ... (3).
(3) الدعاء في الطواف:
الطواف صلاة إلا أن الله أباح فيه الأكل والكلام، فهو يشبه الصلاة من حيث الخشوع والخضوع لله تعالى، واحترام الموقف الذي يقفه العبد أمام الله عز وجل، فيقضي وقت الطواف بقراءة القرآن، والأذكار، والدعاء.
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الطوافُ حول البيت مثلُ الصلاة إلا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير.
__________
(1) - يُنظر لذلك التمهيد لابن عبد البر (6/ 167).
(2) - رواه النسائي (7/ 105) والضياء في المختارة (3/ 248) والحاكم (2/ 62) وابن أبي شيبة (7/ 404)
(3) - مجموع الفتاوى (15/ 227).(8/507)
وهنا أنبه إخواني المسلمين بأن يحذروا من تلك الكتيبات التي تحتوي على أدعية خاصة بكل شوط من أشواط الطواف أو السعي، وكذلك الحذر من استخدام واستئجار المطوفين، فكل تلك الأعمال بدعية لا أصل لها في الشريعة، فالإنسان يدعو الله عز وجل بما شاء من الدعاء، وهل هناك أعظم من سؤال الله الجنة، والاستعاذة به من النار، وأن يثبت الله العبد على هذا الدين حتى يلقى ربه تبارك وتعالى، ولا داعي أبداً لاستعمال كتبات أو مطوفين، فلن يكون المطوف أحرص من العبد على نفسه، ولن يكون المطوف أخلص في الدعاء للعبد من نفسه، فلا بد من أخذ الحيطة والحذر من ذلك، ويدعو العبد بما فتح الله عليه من الدعاء وليس بلازم أن يحفظ أدعية يدعو بها، بل ربما كان بعضها غير مفهوم ولا معلوم، فلربما دعا المسلم على نفسه، أو أمن على دعاء هو عليه وليس له.
(4) الدعاء على الصفا والمروة:
الدعاء على الصفا والمروة: يكون باستقبال البيت في الدعاء بعد التكبير ثلاثاً، ثم يقول الذكر الوارد في السنة ثلاثاً، ويدعو بين ذلك.
[*] قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:
يقول الله أكبر وهو رافع يديه كرفعهما في الدعاء ثلاث مرات، ويقول ما ورد ومنه: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده " ثم يدعو بما أحب، ثم يعيد الذكر مرة ثانية، ثم يدعو بما أحب، ثم يعيد الذكر مرة ثالثة، وينزل متجهاً إلى المروة. " الشرح الممتع " (7/ 268).
ويكون الدعاء في ابتداء الأشواط لا في انتهائها، إذ ليس ثمة دعاء على المروة عند نهاية الأشواط.
[*] قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:
وبه نعرف أيضاً أن الدعاء على الصفا والمروة يكون في ابتداء الأشواط لا في انتهائها، وأن آخر شوط على المروة ليس فيه دعاء؛ لأنه انتهى السعي، وإنما يكون الدعاء في مقدمة الشوط كما كان التكبير أيضاً في الطواف في مقدمة الشوط، وعليه فإذا انتهى من السعي عند المروة ينصرف، وإذا انتهى من الطواف عند الحجر ينصرف، ولا حاجة إلى التقبيل، أو الاستلام، أو الإشارة، والذي نعلل به دون أن يعترض معترض أن نقول هكذا فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم. " الشرح الممتع " (7/ 352)(8/508)
(حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال: فلما دنا من الصفا قرأ! < إن الصفا والمروة من شعائر الله >! أبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا.
[*] قال ابن عبد البر:
وفيه - أي حديث جابر- أن الصفا والمروة موضع دعاء تُرجى فيه الإجابة (1).
بالإضافة إلى عرفة فإنها من المواطن التي يستجاب فيها الدعاء، فهي جمعت بين الزمان والمكان.
(5) الدعاء يوم عرفة بعرفة:
(الدعاء يوم عرفة بعرفة يستمر إلى غروب الشمس، وعلى الحاج أن يكثر من الدعاء في هذا اليوم.
(حديث عبد الله ابن عمرو الثابت في صحيح الترمذي) أن النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
(6) الدعاء عند المشعر الحرام:
وذلك بمزدلفة، قال تعالى: " فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين " [البقرة 198]،
(حديث بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أنه كَانَ يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ، فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِاللَّيْلِ، فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ مَا بَدَا لَهُمْ، ثُمَّ يَدْفَعُونَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ، وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ مِنًى لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا قَدِمُوا رَمَوُا الْجَمْرَةَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: " أَرْخَصَ فِي أُولَئِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
(حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال جابر رضي الله عنه عن حجة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة، فدعاه وكبَّره، وهلَّله، ووحَّده فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس“ الحديث.
__________
(1) - التمهيد (2/ 91).(8/509)
والدعاء عند المشعر الحرام يكون بعد صلاة الفجر ليلة عيد الأضحى لمن كان حاجاً، كما مرّ في حديث جابرِ بنِ عبدِ اللّهِ – رضي الله عنهما –قال: ثُمّ ركبَ القصواءَ حتّى وقفَ على المَشعرِ الحرامِ، واستقبلَ القبلةَ، فدعا اللّهَ، وكبّرَهُ، وهلّلَهُ، ووحّدَهُ، حتى أسفر جداً
(7) الدعاء عند رمي الجمرة الدنيا والوسطى:
ويكون ذلك في أيام التشريق، ولا يشرع الدعاء بعد رمي الجمرة الكبرى لا في يوم النحر ولا بعده.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبر على إثر كل حصاة، ثم يتقدم حتى يسهل، فيقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلا، ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل، ويقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلا، ويدعو ويرفع يديه، ويقوم طويلا، ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرف، فيقول: هكذا رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعله.
(8) المسجد الحرام على وجه الخصوص، ومكة على وجه العموم.
مكة – شرّفها الله وحرسها – هي البلد الأمين، وفيها بيت الله، ولذا تُضاعف الحسنات في الحرم، وتعظم السيئات فيه.
وكانت قريش تُعظِّم البيت والدعاء عنده.(8/510)
ولذا لما صلّى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يجيء بِسَلَى جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم (1) فجاء به فنظر حتى إذا سجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضعه على ظهره بين كتفيه. قال ابن مسعود: وأنا أنظر لا أغني شيئا لو كانت لي مَنَعَة. قال: فجعلوا يضحكون ويحيل (2) بعضهم على بعض ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ساجد لا يرفع رأسه، حتى جاءته فاطمة فطرحت عن ظهره فرفع رأسه ثم قال: اللهم عليك بقريش – ثلاث مرات – فشقّ عليهم إذ دعا عليهم. قال: وكانوا يَرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة (3). ثم سمّى: اللهم عليك بأبي جهل وعليك بعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط – وعد السابع فلم نحفظه – قال ابن مسعود: فوالذي نفسي بيده لقد رأيت الذين عد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صرعى في القليب قليب بدر (4).
[*] قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله –:
وفي الحديث تعظيم الدعاء بمكة عند الكفار، وما ازدادت عند المسلمين إلاّ تعظيماً، وفيه معرفة الكفار بِصِدْقِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لخوفهم من دعائه، ولكن حملهم الحسد على ترك الانقياد له (5).
وأما بقية المساجد فللأحاديث الواردة في فضل الدعاء بين الأذان والإقامة، والغالب في حال المسلم أنه يكون في المسجد في هذا الوقت.
والذي يظهر أن الوقت والمكان اجتمعا في الدعاء بين الأذان والإقامة. والله أعلم.
(استحباب الدعاء للإمام:
__________
(1) - هو عقبة بن أبي مُعيط - لعنه الله -.
(2) - قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/ 417): " ويُحيل بعضهم " كذا هنا بالمهملة من الإحالة، والمراد أن بعضهم ينسب فعل ذلك إلى بعض بالإشارة تهكما، أي يثب بعضهم على بعض من المرح والبطر، ولمسلم من رواية زكريا " ويَميل " بالميم، أي من كثرة الضحك.
(3) - قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/ 418): ويمكن أن يكون ذلك مما بقي عندهم من شريعة إبراهيم عليه السلام.
(4) - رواه البخاري. كتاب الوضوء. باب إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته ... (1/ 65).
(5) - فتح الباري (1/ 419)(8/511)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض، قال: لو أن لي دعوة مستجابة ما صيرتها إلا في الإمام، قيل له: وكيف ذلك يا أبا علي؟ قال: متى ما صيرتها في نفسي لم تجزني، ومتى صيرتها في الإمام فصلاح الإمام صلاح العباد والبلاد، قيل: وكيف ذلك يا أبا علي؟ فسر لنا هذا، قال: أما صلاح البلاد فإذا أمن الناس ظلم الإمام عمروا الخرابات ونزلوا الأرض، وأما العباد فينظر إلى قوم من أهل الجهل فيقول: قد شغلهم طلب المعيشة عن طلب ما ينفعهم من تعلم القرآن وغيره فيجمعهم في دار خمسين خمسين أقل أو أكثر، يقول للرجل: لك ما يصلحك، وعلم هؤلاء أمر دينهم، وأنظر ما أخرج الله وعز وجل من فيهم مما يزكي الأرض فرده عليهم. قال: فكان صلاح العباد والبلاد، فقبل ابن المبارك جبهته وقال: يا معلم الخير من يحسن هذا غيرك.
(أسباب إجابة الدعاء:
لإجابة الدعاء أسباب عديدة، وهاك أسباب إجابة الدعاء جملةً وتفصيلا:
[*] (أولاً أسباب إجابة الدعاء جملةً:
(1) الإخلاص لله تعالى حال الدعاء:
(2) قوة الرجاء، وشدة التحري في انتظار الفرج:
(3) التوبة من المعاصي:
(4) السلامة من الغفلة:
(5) اغتنام الفرص:
(6) كثرة الأعمال الصالحة:
(7) التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض:
(8) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
(9) بر الوالدين:
(10) الصبر وعدم الاستعجال:
(11) أن يتحرى الحلال في مطعمه:
(12) حسن الظن بالله تعالى:
(13) حضور القلب:
(14) اليقين والثقة بالله تعالى:
[*] (ثانيا أسباب إجابة الدعاء تفصيلا:
(1) الإخلاص لله تعالى حال الدعاء:
فهو السبب الأعظم لإجابة الدعاء، فكلما اشتد الإخلاص وقوي كلما كانت الإجابة أولى وأحرى، ولا أدل على ذلك من دعاء نبي الله ذي النون _ عليه السلام _ وهو في بطن الحوت، ودعاء أصحاب الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة.
[*] قال ابن عقيل:
يقال: لا يستجاب الدعاء بسرعة إلا لمخلص أو مظلوم. (1)
(فالإخلاص هو الذي تدور عليه دوائر الإجابة.
قال تعالى: (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) [الأعراف / 29]
فمن دعا ربه غير مخلص له فهو حقيق بأن لا يجاب إلا أن يتفضل الله عليه وهو ذو الفضل العظيم.
__________
(1) كتاب الفنون لابن عقيل الحنبلي 2/ 750.(8/512)
والإخلاص فيه ألا يدعو إلا الله سبحانه، فإن الدعاء عبادة من العبادات، بل هو من أشرف الطاعات وأفضلِ القربات، ولا يقبل الله من ذلك إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم، قال الله تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً)
[الجن /18]
، وقال تعالى: (فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [غافر /14]، و عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)) (1).
[*] قال ابن رجب:
"هذا منزع من قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة /5]
، فإن السؤال هو دعاؤه والرغبة إليه، والدعاء هو العبادة".
وقال: "واعلم أن سؤال الله عز وجل دون خلقه هو المتعين, لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار، وفيه الاعتراف بقدرة المسئول على رفع هذا الضر ونيل المطلوب، وجلب المنافع ودرء المضار، ولا يصلح الذل والافتقار إلا لله وحده لأنه حقيقة العبادة" (2).
{تنبيه}: (إن الدعاء حال الإخلاص أبلغُ في حصول المقصود، وأقرب إلى انكسار القلب، وصدقِ اللجؤ إلى الله سبحانه وتعالى. لذا كانت دعوة المضطر مستجابَة:
(أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) [النمل /62].
(2) قوة الرجاء، وشدة التحري في انتظار الفرج:
فكلما قوي الرجاء، واشتدت الحاجة، وتطلعت النفوس للإجابة، وبلغ بها انتظار الفرج ذروته كلما جاء الفرج، وأقبل اليسر، وزالتالغموم، وانجابت الهموم؛ فإن مع العسر يسرًا، وإن مع الشدة فرجًا.
فهذا نبي الله يعقوب _ عليه السلام _ قال أول ما صنع أبناؤه بأخيهم يوسف _ عليه السلام _ ما صنعوا: (بَلْ سَوّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىَ مَا تَصِفُونَ) [يوسف / 18]
(وعندما فقد بنيامين أخا يوسف، وفقد ابنه الأكبر الذي قال
(فَلَنْ أَبْرَحَ الأرْضَ حَتّىَ يَأْذَنَ لِيَ أَبِيَ أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) [يوسف / 80]
__________
(1) رواه أحمد (1/ 293، 307)، والترمذي (2511)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7957).
(2) - جامع العلوم والحكم (ص180، 181)(8/513)
قال: [بَلْ سَوّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [يوسف / 83]
(وعندما اشتد به البلاء، وبلغ به الكرب المنتهى، وعوتب على تذكر يوسف _ عليه السلام _ وطُلِبَ منه أن يسلو عنه، ويترك ما هو فيه _ قال: (إِنّمَآ أَشْكُو بَثّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)
[يوسف / 86]
(وعندما عظم بلاؤه، واشتد رجاؤه قال:
(يَبَنِيّ اذْهَبُواْ فَتَحَسّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رّوْحِ اللّهِ إِنّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رّوْحِ اللّهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف / 87]
فماذا كانت النتيجة؟
(قد أجاب الله دعاء عبده، وكان عند حسن ظنه به؛ فلقد عجل فرجه، ونفس كربته، وأفرح قلبه، وجمعه بأحبته، وفلذات كبده، هذا في الدنيا، وإن له في الآخرة للحسنى.
[*] قال الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي معلقًا على تلك القصة:
وفي هذا دليل على أن أصفياء الله إذا نزلت بهم الكوارث والمصيبات _ قابلوها في أول الأمر بالصبر، والاستعانة بالمولى، وعندما ينتهي، وتبلغ الشدة منتهاها _ يقابلونها بالصبر، والطمع في الفرج والرجاء، فيوفقهم الله للقيام بعبوديته في الحالتين.
ثم إذا كشف عنهم البلاء قابلوا ذلك بالشكر والثناء على الله، وزيادة المعرفة بلطفه. (1)
(3) التوبة من المعاصي:
كما قال تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبّكُمْ إِنّهُ كَانَ غَفّاراً * يُرْسِلِ السّمَآءَ عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لّكُمْ جَنّاتٍ وَيَجْعَل لّكُمْ أَنْهَاراً) [نوح 10: 12]
قيل لسفيان: لو دعوت الله؟ قال: إن ترك الذنوب هو الدعاء. (2)
أخي: إن أكثر أولئك الذي يشكون من عدم إجابة الدعاء آفتهم المعاصي فهي خلف من كل مصيبة. .
[*] قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه):
بالورع عما حرم الله يقبل الله الدعاء والتسبيح.
[*] قال بعض السلف:
لا تستبطئ الاجابة وقد سددت طرقها بالمعاصي.
__________
(1) فوائد مستنبطة من قصة يوسف لابن سعدي، 1/ 142 من المجموعة الخامسة من مؤلفات ابن سعدي.
(2) جامع العلوم والحكم 1/ 276.(8/514)
[*] وذكر الإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل رضي الله عنهما في كتاب الزهد لأبيه: أن بني إسرائيل قد أصابهم بلاء، فخرجوا إلى الصعيد يسألون الله جل وعلا، فأوحى الله إلى نبيهم وقال: قل لهم: الآن خرجتم إلى الصعيد بأبدان نجسة -نجستها المعاصي والذنوب- ورفعتم إلي أكفاً قد سفكتم بها الدماء، وملأتم بيوتكم من الحرام، الآن وقد اشتد غضبي عليكم، فلن تزدادوا مني إلا بعداً.
اخي المسلم: ها هي المعاصي قد عمت وتطاير شررها في كل مكان. وقد غفل الغافلون .. وهم في غيهم منهمكون.
ولكن اذا نزلت المصيبة صاروا يجارون بدعاء الله تعالى فما اتعسهم وما اقل نصيبهم من اجابة الدعوات.
اخي المسلم: فالتوبة ... . التوبة ... .. ولتنظف طريق الدعاء من الأوساخ.
ليجد دعاؤك طريقه الى الاستجابة ... والا كيف ترجو اخي الاجابة اذا كنت ممن يبارز ربه تعالى في ليلك ونهارك؟
أخي: إن مثل العاصي في دعائه كمثل رجل حارب ملكا من ملوك الدنيا ونابذه العداوة زمنا طويلا، وجاءه مرة يطلب إحسانه ومعروفة. فما ظنك أخي بهذا الرجل؟ اتراه يُدرك مطلوبه؟ كلا فانه لن يدرك مطلوبه الا اذا صفا الود بينه وبين ذلك الملك.
فذاك أخي مثل العاصي الذي يبيت ويصبح وهو في معصية الله، ثم اذا وقعت به شده يرجو من الله ان يجيب دعاءه. فاحذر اخي عاقبة المعاصي ... فانك لن تسعين على إدراك الدعاء المستجاب بشيء أقوى من ترك المعاصي .. فترك المعاصي مفتاح لباب الدعاء المستجاب ..
أعانني الله وإياك لطاعته ... و عصمني وإياك من معاصية ومساخطه
{تنبيه}: (قد يكون العبد مثقلاً بالذنوب والمعاصي، فيرى أنه من العار عليه، ومن التعدي على ربه أن يدعوه، وهذا خطأ محض، فأكثر العباد افتقاراً إلى الله تعالى أهل الذنوب والمعاصي، هم أكثر من يحتاج إلى اللجوء إلى الله عز وجل بأن ينقذهم منها قبل أن يموتوا على فعلها فتكون الخاتمة سيئة والعاقبة وخيمة.
فقد يأتي الشيطان إلى العبد ويسول له ويلقي في روعه أنه مثقل بالذنوب، وأن نفسه أحقر من أن يسأل الله تعالى أن يثبته ويعصمه من ذلك، وهذا تلبيس من إبليس، يريد به القضاء على العبد وأن يغرقه في لجج المعاصي والآثام، حتى يلقى الله تعالى وهو مثقل بها، فمن عرف ذلك فعليه أن يدحر عدوه ويخذله ولا يمكنه من نفسه، بل عليه أن يجد في الدعاء ويكثر منه، ولا تثنيه معاصيه وذنوبه عن الدعاء والإلحاح إلى الله عز وجل في ذلك،
[*] قال سفيان بن عيينة رحمه الله:(8/515)
" لا يمنعن أحداً من الدعاء من الدعاء ما لم يعلم في نفسه ـ يعني من التقصير ـ فإن الله قد أجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين قال: " رب أنظرني إلى يوم يبعثون "، ولهذا جاء في الحديث القدسي:" أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني " [أخرجه مسلم].
(4) السلامة من الغفلة:
وذلك بحضور القلب وخشوعه، واستحضاره لمعاني الدعاء، فذلك من أعظم أسباب الإجابة.
أما استيلاء الغفلة، واستحكام الشهوة فمن أعظم موانع الإجابة.
[*] قال يحيى بن معاذ:
من جمع الله عليه قلبه في الدعاء لم يردَّه. (1)
[*] قال ابن القيم تعليقًا على ذلك:
قلت: إذا اجتمع عليه قلبه، وصدقت ضرورته وفاقته، وقوي رجاؤه _ لا يكاد يرد دعاؤه. (2)
(5) اغتنام الفرص:
وذلك بتحري أوقات الإجابة، والمبادرة لاغتنام الأحوال، والأوضاع، والأماكن التي هي مظان إجابة الدعاء.
(6) كثرة الأعمال الصالحة:
فالأعمال الصالحة سبب عظيم لرفع الدعاء وتقبله؛ فالدعاء من الكلمِ الطيب، والكلمُ الطيب يصعد إلى الله، ويحتاج إلى عمل صالح يرفعه.
قال تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطّيّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر / 10]
وكما في قصة أصحاب الغار؛ فإن أعمالهم الصالحة شفعت لهم، وكانت سببًا في إجابة دعائهم.
[*] قال وهب بن منبه:
مثل الذي يدعو بغير عمل كمثل الذي يرمي بغير وتر.
وعنه قال: العمل الصالح يبلغ الدعاء، ثم تلا قوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطّيّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر / 10]
(7) التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلىَّ عبدي بشيءٍ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليِّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله الذي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنَّه، وما ترددتُ عن شيءٍّ أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته.
(8) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
فهذا من أعظم أسباب إجابة الدعاء؛ لأنه من أعظم الأعمال الصالحة، ولأن تركه موجب لرد الدعاء وعدم الإجابة.
__________
(1)، (4) ... الفوائد لابن القيم ص73.(8/516)
(حديث حذيفة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لتأمُرنّ بالمعروف و لتنهَوْنَّ عن المنكر أو يبعث الله عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لهم.
[*] قال أهل العلم:
"لذا يمكن الجزم بأن ترك القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مانع من موانع إجابة الدعاء، فعلى كل مسلم يرغب بصدق أن يكون مستجاب الدعوة القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب طاقته وجهده" (1).
(9) بر الوالدين:
وقد مر بنا قصة أصحاب الغار وأن فيهم رجلاً كان بارًّا بوالديه، وكذلك دعاء الولد البار لوالديه.
هذه بعض أسباب إجابة الدعاء، وبالجملة فالإتيان بشرائط الدعاء، وآدابه، وتجنب ما يخالف ذلك كفيل _ بإذن الله _ بإجابة الدعاء.
وكذلك عكس هذه الأمور يعد من أسباب رد الدعاء؛ فاستبطاء الإجابة، وأكل الحرام، والاعتداء في الدعاء، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكثرة الذنوب والمعاصي وغيرها _ كل ذلك من موانع إجابة الدعاء.
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
والأدعية والتعويذات بمنزلة السلاح، والسلاحُ بضاربه، لا بحَدِّه فقط؛ فمتى كان السلاح سلاحًا تامًّا لا آفة به، والساعد ساعدًا قويًّا، والمانع مفقودًا _ حصلت النكاية في العدو.
ومتى تخلَّف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير.
فإن كان في نفسه غير صالح، أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء، أو كان ثمَّ مانعٌ من الإجابة _ لم يحصل الأثر. (2)
(10) الصبر وعدم الاستعجال:
فلا ينبغي للعبد أن يستعجل الإجابة إذا دعا، وألا يستبطئ الإجابة إذا تأخرت؛ فإن الاستعجال من الآفات التي تمنع أثر الدعاء.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يستجاب أحدكم ما لم يعجل، يقول دعوت فلم يُستَجِبْ لي.
[*] قال ابن حجر رحمه الله تعالى: "وفي هذا الحديث أدب من آداب الدعاء، وهو أن يلازم الطلب، ولا ييأس من الإجابة؛ لما في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار" (3) -
[*] وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
"ومن الآفات التي تمنع أثر الدعاء أن يتعجل العبد ويستبطئ الإجابة فيستحسر ويدع الدعاء، وهو بمنزلة من بذر بذراً أو غرس غرساً فجعل يتعاهده ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله" (4).
ومعنى يستحسر: ينقطع.
__________
(1) - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لصالح الدرويش (ص 34).
(2) الجواب الكافي ص14.
(3) - الفتح (11/ 141)
(4) - الجواب الكافي (ص 10)(8/517)
فلا تستبطئ الإجابة وألِحَّ على الله في المسألة، فالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكث يدعو على رعل وذكوان شهراً، وربك حييّ كريم يستحي من عبده إذا رفع يده إليه، أن يردها صفراً، فادع وَرَبُّكَ الأَكْرَم، وألق نفسك بين يديه، وسلّم الأمر كله إليه، واعزم المسألة، وأعظم الرغبة فما رَدَّ سائله، ولا خاب طالبه، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالخلق لم تسدَّ فاقته، ومن أنزلها بالرب فنِعْم الرزاق هو، فلازم الطلب فالمعطي كريم، والكاشف قدير، ولا تستعجل الإجابة إذا دعوت، ولا تستبطئها إذا تأخَّرت، ومن يُكثر قرع الأبواب يوشك أن يفتح له.
ولله درُّ من قال:
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
إن الأمور إذا انسدت مسالكها ... فالصبر يفتح منا كل ما ارتجا
لا تيأسن وإن طالت مطالبة ... إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
[*] قال ابن القيم رحمه الله:
"قلت: إذا اجتمع عليه قلبه وصدقت ضرورته وفاقته وقوي رجاؤه فلا يكاد يرد دعاؤه". وصدق رحمه الله أليس أرحم الراحمين هو القائل: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوء وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء الأرْضِ أَءلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ) (1).
(حديث سلمان في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا.
__________
(1) - النمل:62(8/518)
الله أكبر، فما نعدم والله خيراً من رب حيي كريم بل الخير كل بيديه لا تأتي ذرة من الخير فما فوقها إلا بإذنه وفضله وعلمه، وهو الذي بيده خزائن السماوات والأرض فسبحان من عظم جوده وكرمه أن يحيط به الخلائق، فارفع يديك يا عبد الله آناء الليل وأطراف النهار، والزم قرع باب الملك الوهاب، فما خاب والله من أمله، وما خاب من أنزل به حوائجه وصدق في الطلب وألح في السؤال، وتمسكن بين يديه وأظهر فقرك وحاجتك إلى ربك، فباب الذل والانكسار أوسع الأبواب، ولا مزاحم فيه وهو ثمرة العبودية، فلله ما أحلى قول العبد وهو يناجي سيده بذل وانكسار وحاجة وفقر: اللهم إني أسألك بعزك وذلي إليك إلا رحمتني، يا من لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، هذه ناصيتي الخاطئة الكاذبة بين يديك، عبيدك سواي كثير، وليس لي سيد سواك، أدعوك دعاء الخائف الضرير، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، أدعوك دعاء من ذلت لك رقبته ورغم لك أنفه وفاضت لك عيناه، اللهم ارحم من لا راحم له سواك، ولا مؤوي له سواك، ولا مغيث له سواك، فما الظن يا عباد الله بمن هو أرحم بعباده من الوالدة بولدها.
إذا انكسر العبد بين يديه وبكى وتذلل وأشهد الله فقره إلى ربه في كل ذراته الظاهرة والباطنة عندها فليبشر بنفحات ونفحات من فضل الله ورحمته وجوده وكرمه
أخي: أفهم هذا جيدا فانه سر من اسرار الدعاء المستجاب جهله الكثيرون .. فتنبه ولا تكن من الغافلين.
[*] قال مُورِّقٌ العجلي: ((ما امتلأت غضباً قط، ولقد سألت الله حاجة منذ عشرين سنة فما شفعني فيها وما سئمت من الدعاء)) [نزهة الفضلاء ص 398].
(11) أن يتحرى الحلال في مطعمه:
من أسباب إجابة الدعاء: أن يكون الداعي ممن يحرصون على اللقمة الحلال: فلا يدخل بطنه حراما ... .
وإذا اتصف العبد بذلك لمس اثر الإجابة في دعائة ووجد آثارا طيبة لذلك
أخي: لقد عم البلاء بأكل الحرام أو المشتبه في حله.
فكان ذلك سببا في عدم إجابة دعاء الكثيرين ... فيا غافلين عن أسباب إجابة الدعاء تنبهوا إلى ما يدخل جيوبكم من المال .. وتنبهوا الى ما يدخل بطونكم من الطعام ... ..
ولا يقولن أحدكم: دعوت ولم أر إجابة للدعاء! وهو قد ملا يده وبطنه من الحرام!!
[*] قال بعض السلف: لا تستبطئ الإجابة، وقد سَددْتَ طُرقَها بالمعاصي. وقد أخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال:"نحن ندعو الإلهَ في كل كرب ثم ننساهُ عند كشف الكروب
كيف نرجو إجابةَ لدعاء قد سددنا طريقَها بالذنوب؟(8/519)
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا فقال تعالى (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم) وقال (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فأنى يستجاب لذلك) وهو استفهام واقع على وجه التعجب والاستبعاد. أي كيف يدعو هذا الآكل للحرام وينتظر الإجابة مع تيقنه من سوء فعاله، نسأل الله أن يطعمنا الحلال ويجنبنا مهاوي الضلال إنه ولى ذلك والقادر عليه.
[*] قال سهل بن عبد الله (رحمة الله): من أكل العبد يحبس عن السماوات بسوء المطعم!
[*] وقال الإمام ابن رجب (رحمة الله):
فأكل الحلال وشربه ولبسه والتغذي به سبب موجب لإجابة الدعاء
أخي المسلم: ولك في سلفك الصالح ـ رضي الله عنهم ـ قدوة صالحة
فهذا سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه) اشتهر بإجابة الدعاء ... فكان إذا دعا ارتفع دعاؤه واخترق الحجب فلا يرجع إلا بتحقيق المطلوب!.
فكان رضي الله عنه مثالا حيا لمن أراد ان يعرف طريق إجابة الدعاء ... وها هو رضي الله عنه يسأله بعضهم تستجاب دعوتك من بين أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
فقال: ما رفعت إلى فمي لقمة إلا وأنا عالم من اين مجيئها؟! ومن أين خرجت.
أخي ذاك هو سر استجابة دعاء سعد بن أبى وقاص ـ رضي الله عنه ـ اللقمة الطيبة الحلال
أخي: فلنحاسب نفسك في أكلها وشربها وملبسها من أين هذا؟ وكيف جاء؟
فإذا كان حلالا ... فكل وأنت معافى .. وادع الله تعالى رازقك ... . فأنت يومها القريب من طريق الإجابة؟.
(12) حسن الظن بالله تعالى:
والله تعالى يعطي عبده على قدر ظنه به؛ فإن ظن أن ربه غني كريم جواد، وأيقن بأنه تعالى لا يخيب من دعاه ورجاه، مع التزامه بآداب الدعاء أعطاء الله تعالى كل ما سأل وزيادة، ومن ظن بالله غير ذلك فبئس ما ظن.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملٍ خيرٌ منهم، وإن تقَّرب إليَّ شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إليَّ ذراعا تقربت إليه باعا و إن أتاني مشيا أتيته هَرْوَلَةً.
[*] قال الشوكاني رحمه الله:(8/520)
"فيه ترغيب من الله لعباده بتحسين ظنونهم، وأنه يعاملهم على حسبها؛ فمن ظن به خيراً أفاض عليه جزيل خيراته، وأسبل عليه جميع تفضلاته، ونثر عليه محاسن كراماته وسوابغ عطياته، ومن لم يكن في ظنه هكذا لم يكن الله تعالى له هكذا" (1)
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ادعوا الله و أنتم موقنون بالإجابة و اعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلبٍ غافلٍ لاه.
(13) حضور القلب:
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ادعوا الله و أنتم موقنون بالإجابة و اعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلبٍ غافلٍ لاه.
[*] قال النووي:
"واعلم أن مقصود الدعاء هو حضور القلب كما سبق بيانه، والدلائل عليه أكثر من أن تحصر والعلم به أوضح من أن يذكر" (2)
[*] قال الإمام ابن رجب رحمه الله تعالى (3)، وقد جاء في حديث أبي هريرة عند الإمام الترمذي: ”ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاهٍ“ (4). وقد أمر الله تعالى بحضور القلب والخشوع في الذكر والدعاء، فقال سبحانه: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف /205]
(14) اليقين والثقة بالله تعالى:
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ادعوا الله و أنتم موقنون بالإجابة و اعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلبٍ غافلٍ لاه.
__________
(1) - تحفة الذاكرين (ص12).
(2) - الأذكار (ص356).
(3) جامع العلوم والحكم 2/ 403.
(4) الترمذي برقم 3479، وله شاهد عند أحمد 2/ 177 من حديث عبد الله بن عمر ولكنه من طريق ابن لهيعة، والحديث حسنه الألباني في الأحاديث الصحيحة برقم 594، وفي صحيح سنن الترمذي برقم 2766.(8/521)
فلابد أن يكون الداعي على يقين وثقة بالله جل وعلا لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادعوا الله و أنتم موقنون بالإجابة يا له من دواء، وكم استمعت إلى شكاوى كثير من المسلمين، يشتكون من طول الدعاء وما ذاك إلا لأن قلوبهم لاهية؛ لأن قلوبهم قد انشغلت وهامت في كل وادٍ، ما تحرك قلبه وما خشع قلبه، وما اقشعر جلده، وما دمعت عينه، وما أحس باللذة في مناجاته لله جل وعلا، فلو استمع إلى خمس دعوات أو عشر دعوات لأحس بالملل والضجر والطول، لماذا؟ لأنه والله لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من مناجاة ربنا جل وعلا، كيف وأنت تناجي القوي العزيز الكريم: (والله لا يقبل دعاء من قلب غافلٍ لاه).
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الجواب الكافي:
والأدعية والتعوذات بمنزلة السلاح والسلاح بضاربه لا بحده فقط فمتى كان السلاح سلاحا تاما لا آفة به والساعد ساعد قوي والمانع مفقود حصلت به النكاية في العدو ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير فإن كان الدعاء في نفسه أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء أو كان ثم مانع من الإجابة لم يحصل الأثر.
وقال أيضاَ رحمه الله تعالى:
وإذا اجتمع مع الدعاء حضور القلب وجمعيته بكليته على المطلوب وصادف وقتا من أوقات الإجابة الستة وهي الثلث الأخير من الليل وعند الأذان وبين الأذان والإقامة وأدبار الصلوات المكتوبات وعند صعود الإمام يوم الجمعة على المنبر حتى تقضى الصلاة وآخر ساعة بعد العصر من ذلك اليوم وصادف خشوعا في القلب وانكسارا بين يدي الرب وذلاله وتضرعا ورقة واستقبل الداعي القبلة وكان على طهارة ورفع يديه إلى الله تعالى وبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم ثنى بالصلاة على محمد عبده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قدم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار ثم دخل على الله وألح عليه في المسألة وتملقه ودعاه رغبة ورهبة وتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده وقدم بين يدي دعائه صدقة فان هذا الدعاء لا يكاد يرد أبدا ولا سيما إن صادف الأدعية التي أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها مظنة الإجابة أو أنها متضمنة للاسم الأعظم فمنها ما يلي:(8/522)
(حديث أنس في صحيح السنن الأربعة) قال سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.
(حديث بريدة في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا يقول: اللهم إني أسألك أني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.
[*] (الدعاء الذي لا يكاد يرد أبدا:
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
إذا جمع الداعي مع الدعاء حضور القلب وصادف وقتاً من أوقات الإجابة الستة وهي:-الثلث الأخير من الليل، وعند الأذان، وبين الأذان والإقامة، وأدبار الصلوات المكتوبة، وعند صعود الإمام المنبر يوم الجمعة حتى تقضى الصلاة، وآخر ساعة بعد عصر يوم الجمعة أيضاً) وصادف خشوعاً في القلب وانكساراً بين يدي الرب وذلاً وتضرعاً ورِِقة واستقبل الداعي القبلة وكان على طهارة ورفع يديه إلى الله وبدأ بحمد الله والثناء عليه وثنى بالصلاة على عبده ورسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قدّم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار ثم دخل على الله وألحّ عليه في المسألة وتملقه ودعاه رغبة ورهبة وتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده وقدم بين يدي دعائه صدقة؛ فإن هذا الدعاء لا يكاد يُرد أبداً ..
ولا سيما إذا صادف الأدعية التي أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها مظنة الإجابة أو متضمنة للاسم الأعظم (وهو:-الحي القيوم، وقيل:- الله، قال ابن حجر وأرجحها من حيث السند:"الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفُواً أحد".
الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي
(مسألة في إجابة الدعاء من عدمها:
(مما ينبغي أن يُعلم أن استجابة الدعاء _ في الأصل _ دليل على صلاح المرء، وتقواه.
[*] قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-:
أنا لا أحمل همَّ الإجابة ولكن أحمل همَّ الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء فإن معه الإجابة.
والمعنى: لا يهمني الإجابة، ما أهتم الإجابة-؛ ولكن أحمل همّ الدعاء، فإذا وُفقت للدعاء جاءت الإجابة. وهذا من عظيم فقه الصحابة رضوان الله عليهم.(8/523)
فكن في دعائك راجياً عفو ربك، طالباً مغفرته، راغباً في جنته ونعيمه، طامعاً في عطائه وغناه فهو سبحانه يستحي أن يرد عبده خائباً إذا سأله.
(ولكنها لا تدل أحيانًا على ذلك؛ فقد تكون استدراجًا، أو لحكمة كما قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ الّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لاُوتَيَنّ مَالاً وَوَلَداً * أَطّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتّخَذَ عِندَ الرّحْمََنِ عَهْداً * قال تعالى: (كَلاّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً)
[مريم 77: 80]
(وَمِنْ قَبْلُ استجاب الله تعالى دعاء الشيطان.
قال تعالى: (قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِي إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَىَ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) [الحجر 36: 38]
فكونه _ عز وجل _ أجاب إبليس سؤله، وأنظره إلى يوم القيامة _ ليس ذلك إكرامًا لإبليس، بل إهانة له؛ ليزداد إثمًا فتعظم عقوبته، ويتضاعف شقاؤه وعذابه، إضافة إلى ذلك فإن الله _ عز وجل _ جعله مَحكًّا يتميز به الخبيث من الطيب، وما دام أن الخلق مستمر إلى يوم القيامة _ فإن هذا يقتضي بقاءه ببقاء خلق البشر والله أعلم. (1)
(كذلك عدم استجابة الدعاء لا تدل على فساد الداعي في كل الأحوال؛ فهناك سؤال منعه الله نبينا محمدًا"قال _ عليه الصلاة والسلام _:=سألت ربي ثلاثًا فأعطاني ثنتين، ومنعني واحدة، سألت ربي ألا يهلك أمتي بالسَّنة فأعطانيها، وسألته ألا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها. (2)
فالله _ عز وجل _ منع نبيه محمدًا"الدعوة الثالثة، وليس ذلك دليلاً على أن الرسول"لا مكانة له عند ربه، أو أنه غير مستجاب الدعوة، بل هو سيد البشر، ودعاؤه مستجاب، ولكن الله _ عز وجل _ منعه تلك الدعوة لحكم عظيمة؛ منها أن يُعْلَمَ أن الرسول"بشر، ليس له من الأمر شيء، وأن الأمر كله لله، بيده الضر والنفع، والعطاء والنفع.
__________
(1) انظر: شفاء العليل لابن القيم، ص364_412 و 445_460، وطريق الهجرتين لابن القيم، ص181_183، ومقدمة مفتاح دار السعادة، ص3 فما بعدها، والفوائد لابن القيم، ص136_140، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز، ص252_256، والذكر والدعاء للقحطاني، ص119_121.
(2) رواه مسلم (2890) الفتن وأشراط الساعة، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض.(8/524)
ومنها أن هذه الأمة تعصي، والله _ عز وجل _ يقول: (لّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ وَلآ أَمَانِيّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوَءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً) [النساء / 123]
(فإذا عصيت عوقبت؛ لتؤوب إلى رشدها، وتنيب إلى ربها، فتستقيم أحوالها، وتصلح أمورها، فتسعد، وتفلح.
وهذا من رحمة الله بها؛ إذ يُؤَدِّبها بهذه العقوبات.
ثم إن من رحمته بها أنه _ عز وجل _ لا يعاقبها عقوبة استئصال، بحيث تستأصل جميعها، كما حصل ذلك للأمم السابقة كعاد وثمود.
هذا وستتضح بعض الحكم من تأخر إجابة الدعاء أو عدمها في المبحث التالي زيادة على ما مضى.
(موانع إجابة الدعاء:
المانع: لغة: الحائل بين الشيئين، واصطلاحاً: ما يلزم من وجوده العدم ولا يلزم من عدمه وجود، ولا عدم لذاته، عكس الشرط (1).
وكما أن للدعاء مواطن يستجاب فيها فكذلك له موانع تمنع من إجابته، فيجب على العبد أن يحذرها ويجتنبها حتى يسلم له دعاؤه، لأن هذه الموانع تقف سداً منيعاً، وحصناً حصيناً في عدم القبول، وعدم الإجابة.
[*] قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
والأدعية والتعوذات بمنزلة السلاح، والسلاح بضاربه، لا بحده فقط، فمتى كان السلاح سلاحا تاما لا آفة به، والساعد ساعد قوي، والمانع مفقود، حصلت به النكاية في العدو. ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير. [الداء والدواء ص35]
فيتبين من ذلك أن هناك أحوالا و آدابا و أحكاما يجب توفرها في الدعاء و في الداعي، و أن هناك موانع و حواجب تحجب وصول الدعاء و استجابته يجب انتفاؤها عن الداعي و عن الدعاء، فمتى تحقق ذلك تحققت الإجابة.
[*] (وهاك موانع الدعاء جملةً وتفصيلا ً:
(أولاً: موانع الدعاء جملةً:
(1) أكل الحرام:
(2) ارتكاب المعاصي والمحرمات:
(3) ترك الأوامر، وإهمال الواجبات التي أمر الله بها وأوجبها على عباده:
(4) استعجال الإجابة:
(5) ومن موانع الإجابة الدعاء بالإثم وقطع الرحم:
(6) ومن موانع إجابة الدعاء عدم الصلاة على النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(7) وقوع الظلم حتى من الذي يدعو على الظالمين:
(ثانياً: موانع الدعاء تفصيلاًً:
(1) أكل الحرام:
__________
(1) الفوائد الجلية في المباحث الفرضية لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ص12، وعدة الباحث في أحكام التوارث للشيخ عبد العزيز الناصر الرشيد ص7.(8/525)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إنّ الله طَيّبٌ ولاَ يَقْبَلُ إلاّ طَيّباً، وَإِنّ الله أمَرَ المُؤْمِنِينَ بِمَا أمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ، قال تعالى: (يَا أَيّهَا الرّسُلُ كُلُوا مِنَ الطّيّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إني بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وَقالَ تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للّهِ إِن كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ) ثم َذَكَرَ الرّجُلَ يُطِيلُ السّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ يَمُدّ يَدَيه إلَى السّمَاءِ يارب يارب وَمَطْعَمُهُ حَرَامُ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَانّى يُسْتَجَابُ له.
[*] ذكر ابن رجب رحمه الله تعالى في معنى هذا الحديث:(8/526)
إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيباً طاهراً من المفسدات كلها: كالرياء، والعجب، ولا من الأموال إلا ما كان طيباً حلالاً، فإن الطيب توصف به الأعمال، والأقوال، والاعتقادات (1) والمراد بهذا أن الرسل وأممهم مأمورون بالأكل من الطيبات والابتعاد عن الخبائث والمحرمات، ثم ذكر في آخر الحديث استبعاد قبول الدعاء مع التوسع في المحرمات: أكلاً، وشرباً، ولبساً، وتغذيةً. ولهذا كان الصحابة والصالحون يحرصون أشد الحرص على أن يأكلوا من الحلال ويبتعدوا عن الحرام، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ”كان لأبي بكر غلامٌ يُخرج له الخراجَ وكان أبو بكر يأكل من خراجه (2)، فجاء يوماً بشيء فأكله أبو بكر فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنتُ تكهَّنتُ لإنسانٍ في الجاهلية وما أُحسِنُ الكِهانةَ إلا أني خَدعتُهُ فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلتَ منه، فأدخل أبو بكر يده (3) فقاءَ كلَّ شيء في بطنه“ (4). ورُوي في رواية لأبي نُعيم في الحلية وأحمد في الزهد ”فقيل له يرحمك الله كلُّ هذا من أجل هذه اللقمة؟ قال: لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ”كلُّ جسد نبت من سُحْتٍ فالنارُ أولى به“ فخشيت أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة (5).
(ففي حديث الباب أن هذا الرجل الذي قد توسع في أكل الحرام قد أتى بأربعة أسباب من أسباب الإجابة:
الأول: إطالة السفر،
والثاني: حصول التبذل في اللباس والهيئة، ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ”ربَّ أشْعَثَ (6) مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره“ (7).
__________
(1) جامع العلوم والحكم 1/ 259.
(2) أي يأتيه بما يكسبه والخراج ما يقرره السيد على عبده من مال يحضره له من كسبه. الفتح 7/ 154.
(3) فأدخل أبو بكر يده: أي أدخلها في حلقه.
(4) البخاري برقم 3842، مع الفتح 7/ 149.
(5) أخرجه أبو نعيم في الحلية 1/ 31، وأحمد في الزهد بمعناه ص164، وصححه الألباني في صحيح الجامع عن جابر عند أحمد والدارمي والحاكم. انظر: صحيح الجامع 4/ 172.
(6) الأشعث: الملبد الشعر المغبر غير مدهون ولا مرجل.
(7) مسلم برقم 2622.(8/527)
والثالث: يمد يديه إلى السماء ”إن الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين“ (1).
والرابع: الإلحاح على الله بتكرير ذكر ربوبيته وهو من أعظم ما يطلب به إجابة الدعاء ومع ذلك كله قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ”فأنى يستجاب لذلك“ وهذا استفهام وقع على وجه التعجب والاستبعاد (2).
وروى عكرمة بن عمار حدثنا الأصفر قال قيل لسعد بن أبي وقاص تستجاب دعوتك من بين أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ما رفعت إلى فمي لقمة إلا وأنا عالم من أين مجيئها ومن أين خرجت.
[*] قال عن وهب بن منبه:
من سره أن يستجيب الله دعوته فليطيب طعمته
[*] قال عن سهل بن عبد الله:
من أكل الحلال أربعين صباحا أجيبت دعوته
[*] قال عن يوسف بن أسباط:
بلغنا أن دعاء العبد يحبس عن السموات بسوء المطعم.
ويقول ابن رجب في جامع العلوم
(2) ارتكاب المعاصي والمحرمات:
وهذه من أعظم موانع الدعاء، وهي من المدلهمات التي ربما لا يفطن لها كثير من الناس، إذ المعصية سبب لبغض الخالق للمخلوق، وسفول منزلته عند ربه، فلا يأبه به، وربما لا يستجيب له دعوة، ولا شك أن الغفلة والوقوع في الشهوات المحرمة من أسباب الحرمان من الخيرات. وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} [الرعد /11].
قال الشاعر:
نحن ندعو الإله في كل كرب ... ثم ننساه عند كشف الكروب
كيف نرجو إجابة لدعاء ... قد سددنا طريقها بالذنوب
(3) ترك الأوامر، وإهمال الواجبات التي أمر الله بها وأوجبها على عباده:
فكم هم الذين أهملوا في ترك الصلاة، وكم هم الذين باعوا ينهم وعقيدتهم لأعدائهم، فتقمصوا هيئاتهم، ولبسوا ثياباً غير ثيابهم، وكم هي المنكرات التي تعج بها بلاد المسلمين اليوم ولا منكر ولا مستمع إلا ما رحم ربي، فكل ذلك سبب لعدم قبول الدعاء،
__________
(1) أبو داود 2/ 78 برقم 1488، والترمذي 5/ 557، وابن ماجه 2/ 1271، والبغوي في شرح السنة 5/ 185، وصححه الألباني في صحيح الترمذي 3/ 179 وصحيح ابن ماجه برقم 3865.
(2) جامع العلوم والحكم 1/ 269، 275 و1/ 269 - 275.(8/528)
فترك الواجبات يمنع استجابة دعاء الأخيار وفعل الطاعات يكون موجبا لاستجابة الدعاء ولهذا لما توسل الذين دخلوا الغار وانطبقت الصخرة عليهم بأعمالهم الصالحة التي أخلصوا فيها لله تعالى ودعوا الله بها أجيبت دعوتهم.
(حديث حذيفة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لتأمُرنّ بالمعروف و لتنهَوْنَّ عن المنكر أو يبعث الله عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لهم.
[*] قال وهب ابن منبه مثل الذي يدعو بغير عمل كمثل الذي يرمي بغير وتر وعنه قال العمل الصالح يبلغ الدعاء ثم تلا قوله تعالى إليه (يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) (1)
[*] قال أبي ذر رضي الله عنه:
يكفي مع البر من الدعاء مثل ما يكفي الطعام من الملح وقال محمد بن واسع: يكفي من الدعاء مع الورع اليسير
[*] وقيل لسفيان لو دعوت الله قال إن ترك الذنوب هو الدعاء.
[*] وقال الليث رأى موسى عليه الصلاة والسلام رجلا رافعا يديه وهو يسأل الله مجتهدا فقال موسى عليه السلام أي رب عبدك دعاك حتى رحمته وأنت أرحم الراحمين فما صنعت في حاجته فقال يا موسى لو رفع يديه حتى ينقطع ما نظرت في حاجته حتى ينظر في حقي
[*] وقال بعض السلف لا تستبطيء الإجابة وقد سددت طرقها بالمعاصي
نحن ندعو الإله في كل كرب ... ثم ننساه عند كشف الكروب
كيف نرجو إجابة لدعاء ... قد سددنا طريقها بالذنوب
(4) استعجال الإجابة:
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يستجاب أحدكم ما لم يعجل، يقول دعوت فلم يُستَجِبْ لي.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يزالُ يستجاب للعبد ما لم يدعُ بإثم أو قطيعةِ رحمٍ ما لم يستعجل“. قيل: يا رسول الله! ما الاستعجال؟ قال: ”يقول قد دعوتُ، وقد دعوتُ فلم أرَ يستجيبُ لي فيستحسر (2) عند ذلك ويدعُ الدعاءَ“ (3).
وفي هذا الحديث أدب من آداب الدعاء، وهو أن يلازم الطلب، ولا ييأس من الإجابة؛ لما في ذلك من الانقياد، والاستسلام، وإظهار الافتقار. (4)
__________
(1) - فاطر
(2) ومعنى يستحسر: أي ينقطع عن الدعاء ومنه قوله تعالى: {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} أي لا ينقطعون عنها. انظر: شرح النووي، والفتح 11/ 141.
(3) مسلم 4/ 2096.
(4) فتح الباري 11/ 141.(8/529)
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن الآفات التي تمنع أثر الدعاء عليه أن يستعجل العبد، ويستبطئ الإجابة، فيستحسر، ويدع الدعاء.
وهو بمنزلة من بذر بذرًا، أو غرس غرسًا، فجعل يتعاهده، ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله. (1)
فلا تستبطئ الإجابة وألِحَّ على الله في المسألة، فالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكث يدعو على رعل وذكوان شهراً، وربك حييّ كريم يستحي من عبده إذا رفع يده إليه، أن يردها صفراً، فادع وَرَبُّكَ الأَكْرَم، وألق نفسك بين يديه، وسلّم الأمر كله إليه، واعزم المسألة، وأعظم الرغبة فما رَدَّ سائله، ولا خاب طالبه، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالخلق لم تسدَّ فاقته، ومن أنزلها بالرب فنِعْم الرزاق هو، فلازم الطلب فالمعطي كريم، والكاشف قدير، ولا تستعجل الإجابة إذا دعوت، ولا تستبطئها إذا تأخَّرت، ومن يُكثر قرع الأبواب يوشك أن يفتح له.
وهذا موسى عليه السلام وقف داعياً يقول: (رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى الْحياةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ) [يونس / 88]
وأخوه هارون عليه السلام يؤمن على الدعاء، فاستجاب الله دعاءهما وقال سبحانه: (قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا) [يونس / 89]
[*] قال العلماء: كان بين الدعاء والإجابة أربعون سنة.
(فعلى المؤمن أن يدعو الله، وأن يلح على الله في الدعاء، ولا يعجل في الإجابة، وينتظر الفرج من الله، واللائق بالعبد أن يلازم الدعاء ويستمر فيه، ولا ييأس ولا يستعجل، لأنه لا يدري أين المصلحة، فقد تكون المصلحة في تأخير إجابة الدعاء، وقد تكون المصلحة في ادخار الأجر له في الآخرة، وقد تكون المصلحة في دفع بلاءٍ عنه بقدر دعائه، فعلى العبد أن لا يسأم من الدعاء، ولا يكل من ذلك، وأيضاً يجب عليه ألا يتعجل بل يكل الأمر لله تعالى فهو أرحم بالعبد من نفسه، فيترك الأمر لله عز وجل العالم بخفايا الأمور، العالم بحقائقها سبحانه، فهو عالم الغيب والشهادة،
وكما قال الشاعر اليمني الموحد في قصيدته التي سماها الجوهرة:
لطائف الله وإن طال المدى ... كلمح الطرف إذا الطرف سجى
كم فَرَج بعد إياس أتى ... وكم إياس قد أتى بعد النوى
__________
(1) الجواب الكافي ص10.(8/530)
[*] قال مُورِّقٌ العجلي: ((ما امتلأت غضباً قط، ولقد سألت الله حاجة منذ عشرين سنة فما شفعني فيها وما سئمت من الدعاء)) [نزهة الفضلاء ص 398].
(5) ومن موانع الإجابة الدعاء بالإثم وقطع الرحم:
والدعاء بالإثم كمن يدعو على شخص معين بأن يكون مدمناً للخمر، أو أن يدعو على إنسان بالزنا، أو أن يكون سارقاً، أو يكون كافراً، أو يدعو الله أن ييسر له فعل الفساد، وهكذا دواليك.
ولا شك أن ذلك خطأ في الدعاء فقد يستجيب الله تعالى دعوة الداع فيموت على الكفر أو على المعصية فيبوء بإثم دعوته والعياذ بالله.
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب له فإما أن يعجل له في الدنيا و إما أن يدخر له في الآخرة ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل.
(6) ومن موانع إجابة الدعاء عدم الصلاة على النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(حديث عمر في صحيح الترمذي موقوفاً) قال: إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء إلى السماء حتى تصلي على نبيك - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[*] سئل إبراهيم بن أدهم عن قول الحق سبحانه: (ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر /60]
، قالوا: فإنا ندعو الله فلا يستجيب لنا؟!! فقال: لأن قلوبكم ماتت بعشرة أشياء:
1 - ... عرفتم الله ولم تؤدوا حقه.
2 - ... وتأكلون رزق الله ولا تشكرونه.
3 - ... وقرأتم كتاب الله ولم تعملوا به.
4 - ... وادعيتم عداوة الشيطان وواليتموه.
5 - ... وادعيتم حب رسول الله وتركتم أثره وسنته.
6 - ... وادعيتم حب الجنة ولم تعملوا لها.
7 - ... وادعيتم خوف النار ولم تنتهوا عن الذنوب.
8 - ... واشتغلتم بعيوب غيركم وتركتم عيوب أنفسكم.
9 - ... وادعيتم أن الموت حق ولم تستعدوا له.
10 - وتدفنون موتاكم ولا تعتبرون. فكيف يستجاب لكم؟!
(7) وقوع الظلم حتى من الذي يدعو على الظالمين:
والله لا يحب الظالمين، وكل وضع للشيء في غير موضعه فهو ظلم، فتخيلوا كم من الظلم نمارسه نحن، ونحن غافلون لاهون.
[*] قال المقريزي:(8/531)
جاءني أحد الصالحين، سنة ثلاث عشرة وثماني مائة، والناس إذ ذاك من الظلم في أخذ الأموال منهم ومعاقبتهم إذا لم يؤدوا أجرة مساكنهم التي يسكنوها حتى ولو كانت ملكاً لهم، بحال شديدة، وأخذنا نتذاكر ذلك فقال لي: مالسبب في تأخر إجابة دعاء الناس في هذا الزمان، وهم قد ظلموا غاية الظلم، بحيث أن امرأة شريفة عوقبت لعجزها عن القيام بما ألزمت به من أجرة سكنها الذي هو ملكها، فتأخرت إجابة الدعاء مع قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اتق دعوة المظلوم, فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) وها نحن نراهم منذ سنين يدعون على من ظلمهم، ولا يستجاب لهم.
[*] قال المقريزي:
سبب ذلك أن كل أحد صار موصوفا بأنه ظالم، لكثرة ما فشا من ظلم الراعي والرعي، وإنه لم يبق مظلوم في الحقيقة، لأنا نجد عند التأمل كل أحد من الناس في زماننا وإن قل، يظلم في المعني الذي هو فيه من قدر على ظلمه، ولا نجد أحداً يترك الظلم إلا لعجزه عنه، فإذا قدر عليه ظلم، فبان أنهم لا يتركون ظلم من دونهم، إلا عجزاً لا عفة.
هل عرفتم تفكروا، وليفتش كل منا عن نفسه، وعن الظلم الذي يمارسه في حياته،.
(الحِكَم من تأخُرِ إجابة الدعاء:
(من البلاء على المؤمن أن يدعو فلا يجاب، فيكرر الدعاء، ويبالغ فيه، وتطول المدة، فلا يرى أثرًا للإجابة.
(ومن هنا يجد الشيطان فرصته، فيبدأ بالوسوسة له، وإساءة ظنه بربه، وإيقاعه بالاعتراض على حكمته.
فينبغي لمن وقعت له هذه الحال ألا يختلج في قلبه شيء مما يلقيه الشيطان؛ ذلك أن تأخر الإجابة مع المبالغة في الدعاء يحمل في طياته حِكَمَاً باهرةً، وأسرارًا بديعة، لو تدبرها الداعي لما دار في خَلَدِه تضجر من تأخر الإجابة.
[*] (وفيما يلي ذكر لبعض تلك الحكم والأسرار، والتي يجمل بالداعي أن يتدبرها، ويحسن به أن يستحضرها، الحِكَم من تأخُرِ إجابة الدعاء، وهاك الحِكَم من تأخُرِ إجابة الدعاء جملةً وتفصيلا:
[*] (أولاً الحِكَم من تأخُرِ إجابة الدعاء جملةً:
(1) أن تأخر الإجابة من البلاء الذي يحتاج إلى صبر:
(2) أن الله تعالى هو مالك الملك:
(3) أنه لا حق للمخلوق على الخالق:
(4) أن الله تعالى له الحكمة البالغة:
(5) قد يكون في تحقق المطلوب زيادة في الشر:
(6) أن اختيار الله للعبد خير من اختيار العبد لنفسه:
(7) أن الإنسان لا يعلم عاقبة أمره:
(8) الدخول في زمرة المحبوبين لله تعالى:
(9) أن المكروه قد يأتي بالمحبوب والعكس بالعكس:(8/532)
(10) تأخر الإجابة سبب لتفقد العبد لنفسه:
(11) قد تكون الدعوة مستجابة دون علم الداعي:
(12) قد يكون الدعاء ضعيفًا فلا يقاوم البلاء:
(13) قد يكون الإنسان سد طريق الإجابة بالمعاصي:
(14) ظهورآثار أسماء الله تعالى:
(15) تكميل مراتب العبودية للأولياء:
[*] (ثانياً الحِكَم من تأخُرِ إجابة الدعاء تفصيلا:
(1) أن تأخر الإجابة من البلاء الذي يحتاج إلى صبر:
فتأخر الإجابة من الابتلاء، كما أن سرعة الإجابة من الابتلاء.
قال تعالى: (وَنَبْلُوكُم بِالشّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء / 35]
فالابتلاء بالخير يحتاج إلى شكر، والابتلاء بالشر يحتاج إلى صبر؛ فإياك أن تستطيل زمان البلاء، وتَضْجَرَ من كثرة الدعاء؛ فإنك ممتحن بالبلاء، مُتَعَبَّدٌ بالصبر والدعاء.
فلا تيأسن من روح الله وإن طال البلاء؛ فإن الله _ عز وجل _ يبتليك؛ ليبلو أخبارك، وهل الابتلاء إلا الإعراض وعكس المقاصد؟
[*] قال عمر بن عبد العزيز:
أصبحت ومالي سرور إلا في انتظار مواقع القدر؛ إن تكن السراء فعندي الشكر، وإن تكن الضراء فعندي الصبر. (1)
(2) أن الله تعالى هو مالك الملك:
فله التصرف المطلق بالعطاء والمنع، فلا راد لفضله، ولا معقب لحكمه، ولا اعتراض على عطائه ومَنْعِه؛ إن أعطى فبفضل، وإن منع فبعدل.
[*] قال ابن ناصر الدين الدمشقي:
فإنه ليس لأحد مفر عن أمر الله وقضائه، ولا محيد له عن حكمه النافذ وابتلائه، إنَّا لله ملكه وعبيده، يتصرف فينا كما يشاؤه وما يريده. (2)
(3) أنه لا حق للمخلوق على الخالق:
فالمخلوق مربوب، مملوك، مقهور، مُدَبَّر، والخالق ربٌّ، قاهر، مُدَبِّر.
والمملوك العاقل مطالب بأداء حق المالك، ويعلم أنه لا يجب على المالك تبليغه ما يهوى؛ فكيف يُقَصِّر المملوك ثم يطلب حقه كاملاً مع أنه لا حق له أصلاً؟!
[*] قال ابن القيم رحمه الله:
__________
(1) الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز الخليفة الخائف الخاشع لعمر بن محمد الخضر المعروف بالملاء، تحقيق د. محمد صدقي البورنو 2/ 432_433، وانظر سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم ص97.
(2) برد الأكباد عند فقد الأولاد لابن ناصر الدين الدمشقي ص38.(8/533)
فمن أنفع ما للقلب النظرُ في حق الله على العباد؛ فإن ذلك يورث مقت نفسه، والإزراء عليها، ويخلصه من العجب ورؤية العمل، ويفتح له باب الخضوع والذل، والانكسار بين يدي ربه، واليأس من نفسه، وأن النجاة لا تحصل إلا بعفو الله، ومغفرته، ورحمته؛ فإن حقه أن يطاع ولا يعصى، وأن يذكر ولا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.
فمن نظر في هذا الحق الذي لربه عَلِمَ عِلْمَ اليقين أنه غير مؤدٍ له كما ينبغي، وأنه لا يسعه إلا العفو والمغفرة، وأنه إن أحيل على عمله هلك.
فهذا محل نظر أهل المعرفة بالله _ تعالى _ وبنفوسهم، وهذا الذي أيأسهم من أنفسهم، وعلق رجاءهم كله بعفو الله ومغفرته. (1)
ثم قال: وإذا تأملت حال أكثر الناس وجدتهم بضد ذلك؛ ينظرون في حقهم على الله، ولا ينظرون في حق الله عليهم.
ومن ههنا انقطعوا عن الله، وحُجبت قلوبهم عن معرفته، ومحبته، والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره.
وهذا غاية جهل الإنسان بربه وبنفسه. (2)
(4) أن الله تعالى له الحكمة البالغة:
فلا يعطي إلا لحكمة، ولا يمنع إلا لحكمة، وقد ترى الشيء مصلحة ظاهرة، ولكن الحكمة لا تقتضيه؛ فقد يخفى في الحكمة فيما يفعله الطبيب من أشياء تؤذي في الظاهر يقصد بها المصلحة؛ فلعل هذا من ذاك.
ثم إن الله تعالى له الحكمة البالغة، فأسماؤه الحسنى وأفعاله تمنع نسبة الظلم إليه، وتقتضي ألا يفعل إلا ما هو مطابق للحكمة، موافق لها؛ فتأخر الإجابة قد يكون عين المصلحة للداعي كما سيأتي بيانه في الفقرات التالية.
(5) قد يكون في تحقق المطلوب زيادة في الشر:
فربما تحقق للداعي مطلوبه، وأجيب له سؤله، فكان ذلك سببًا في زيادة إثم، أو تأخر عن مرتبة، أو كان ذلك حملاً على الأشر والبطر؛ فكان التأخير أو المنع أصلح.
(وقد روي عن بعض السلف أنه كان يسأل الله الغزو، فهتف به هاتف: إنك إن غزوت أُسِرْتَ، وإن أسرت تَنَصَّرْتَ. (3)
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
فقضاؤه لعبده المؤمن عطاء وإن كان في صورة المنع، ونعمة وإن كان في صورة محنة، وبلاؤه عافية وإن كان في صورة بلية.
ولكن لجهل العبد وظلمه لا يعد العطاء والنعمة والعافية إلا ما التذ به في العاجل، وكان ملائمًا لطبعه.
__________
(1)، (2) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن القيم تحقيق مجدي السيد ص97_98.
(3) صيد الخاطر 1/ 109.(8/534)
ولو رزق من المعرفة حَظًّا وافرًا لعدَّ المنع نعمة، والبلاء رحمة، وتلذذ بالبلاء أكثر من لذته بالعافية، وتلذذ بالفقر أكثر من لذته بالغنى، وكان في حال القلة أعظم شكرًا من حال الكثرة. (1)
(6) أن اختيار الله للعبد خير من اختيار العبد لنفسه:
وهذا سر بديع يحسن بالعبد أن يتفطن له حال دعائه لربه؛ ذلك أن الله _ عز وجل _ أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، فهو أعلم بمصالح عباده منهم، وأرحم بهم من أنفسهم وآبائهم وأمهاتهم.
وإذا أنزل بهم ما يكرهون كان خيرًا لهم من ألا ينزل بهم؛ نظرًا منه لهم، وإحسانًا إليهم، ولطفًا بهم.
ولو مُكِّنُوا من الاختيار لأنفسهم لعجزوا عن القيام بمصالحهم علمًا، وإرادةً، وعملاً.
لكنه تعالى تولى تدبير أمورهم بموجب علمه، وعدله، وحكمته، ورحمته أَحَبُّوا أم كرهوا.
فإذا سلَّم العبد لله، وأيقن بأن الملك ملكه، والأمر أمره، وأنه أرحم به من نفسه _ طاب قلبه، قضيت حاجته أو لم تُقضَ.
وإذا فوض العبد ربه، ورضي بما يختاره له _ أَمَدَّه فيما يختاره له بالقوة عليه، والعزيمة، والصبر، وصرف عنه الآفات التي هي عرضة اختيار العبد لنفسه، وأراه من حسن عواقب اختياره له ما لم يكن ليصل إلى بعضه بما يختاره هو لنفسه.
وهذا يريحه من الأفكار المتعبة في أنواع الاختيارات، ويفرغ قلبه من التقديرات والتدبيرات التي يصعد منها في عقبة، وينزل في أخرى.
ومع هذا فلا خروج له عما قدر عليه، فلو رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به، وإلا جرى عليه القدر وهو مذموم غير ملطوف به.
ومتى صح تفويضه ورضاه اكتنفه في المقدور العطفُ عليه، واللطف فيه، فيصير بين عطفه ولطفه؛ فعطفه يقيه ما يحذره، ولطفه يُهَوِّن عليه ما قدر له.
[*] قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى:
منعه عطاء؛ وذلك أنه لم يمنع عن بخل ولا عدم، وإنما نظر في خير العبد فمنعه اختيارًا وحسن نظر. (2)
(7) أن الإنسان لا يعلم عاقبة أمره:
فربما يطلب ما لا يَحْمد عاقبته، وربما كان فيه ضرره، كمثل طفل محموم يطلب الحلوى وهي لا تناسبه.
والمدبر للإنسان أعلم بمصالحه، وعاقبةِ أمره، كيف وقد قال تعالى: (وَعَسَىَ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لّكُمْ) [البقرة / 216]
(ومن أسرار هذه الآية أنها تقتضي من العبد التفويض إلى من يعلم عواقب الأمور، والرضا بما يقضيه عليه؛ لما يرجوه من حسن العاقبة.
__________
(1) مدارج السالكين 2/ 215_216.
(2) مدارج السالكين 2/ 215.(8/535)
(ومن أسرارها ألا يقترح على ربه، ولا يسأله ما ليس له به علم؛ فلعل فيه مضرَّتَه وهو لا يعلم؛ فلا يختار على ربه، بل يسأله حسن العاقبة فيما يختار له؛ فلا أنفع له من ذلك.
(ولهذا من لطف الله _ تعالى _ لعبده أنه ربما طمحت نفسه لسبب من الأسباب الدنيوية، التي يظن بها إدراك بغيته، فيعلم الله أنها تضره، وتصده عما ينفعه، فيحول بينه وبينها، فيظل العبد كارهًا، ولم يدْرِ أن ربه قد لطف به؛ حيث أبقى له الأمر النافع، وصرف عنه الأمر الضار. (1)
(8) الدخول في زمرة المحبوبين لله تعالى:
فالذين يدعون ربهم، ويبتلون بتأخر الإجابة عنهم _ يدخلون في زمرة المحبوبين، المُشَرَّفِين بمحبة رب العالمين؛ فهو _ سبحانه _ إذا أحب قومًا ابتلاهم. (2)
وقد جاء في السنة ما يشير إلى أن الابتلاء دليل على محبة الله للعبد؛
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن عظم الجزاء مع عظم البلاء و إن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا و من سخط فله السخط.
(حديث سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه و إن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض و ما عليه خطيئة.
(9) أن المكروه قد يأتي بالمحبوب والعكس بالعكس:
فإذا صحت معرفة العبد بربه علم يقينًا أن المكروهات التي تصيبه، والمحن التي تنزل به، والتي منها تأخر إجابة الدعاء _ أنها تحمل في طياتها ضروبًا من المصالح والمنافع لا يحصيها علمه، ولا تحيط بها فكرته.
بل إن مصلحة العبد فيما يكره أعظم منها فيما يحب؛ فعامة مصالح النفوس في مكروهاتها، كما أن عامة مضارها وأسباب هلكتها في محبوباتها.
قال تعالى: (فَعَسَىَ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) [النساء / 19]
قال تعالى: (وَعَسَىَ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لّكُمْ وَعَسَىَ أَن تُحِبّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرّ لّكُمْ) [البقرة / 216]
__________
(1) المواهب الربانية من الآيات القرآنية للشيخ ابن سعدي، اعتنى بها سمير الماضي ص151.
(2) انظر برد الأكباد ص39.(8/536)
فإذا علم العبد أن المكروه قد يأتي بالمحبوب، وأن المحبوب قد يأتي بالمكروه _ لم يأمن أن توافيه المضرة من جانب المسرة، ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة؛ فإن الله يعلم ما لا يعلمه العبد.
وما أجمل قول من قال:
كم نعمةٍ لا تستقلُّ بشكرها ... لله في طيِّ المكاره كامنه (1)
ومن قال:
تجري الأمور على حكم القضاء وفي ... طيِّ الحوادث محبوب ومكروه
وربما سرني ما كنت أحذره ... وربما ساءني ما كنت أرجوه (2)
[*] قال سفيان بن عيينه:
ما يكره العبد خير له مما يحب؛ لأن ما يكرهه يهيجه للدعاء، وما يحبه يلهيه. (3)
[*] وقال ابن ناصر الدين الدمشقي:
إذا اشتدت البوى تحَفَّفْ بالرضا ... عن الله قد فاز الرَّضيُّ المراقبُ
وكم نعمةٍ مقرونة ببلية ... على الناس تخفى والبلايا مواهب (4)
(10) تأخر الإجابة سبب لتفقد العبد لنفسه:
فقد يكون امتناع الإجابة لآفة في الداعي؛ فربما كان في مطعومه شبهة، أو في قلبه وقت الدعاء غفلة، أو كان متلبسًا بذنوب مانعة.
[*] وسُئِلَ إبراهيم بن أدهم -رحمه الله-: ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا؟
فقال: لأن قلوبكم ماتت بعشرة أشياء: عرفتم الله فلم تطيعوه، وعرفتم الرسول ولم تتبعوا سنته، وعرفتم القرآن ولم تعملوا به، وأكلتم نِعَم الله ولم تؤدوا شكرها، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها، وعرفتم النار ولم تهربوا منها، وعرفتم الشيطان ولم تحاربوه، وعرفتم الموت فلم تستعدوا له، ودفنتم الأموات ولم تعتبروا بها، وانتبهتم من نومكم فاشتغلتم بعيوب الناس وتركتم عيوبكم.
وتأخر الإجابة قد يبعث الداعي إلى تفقد نفسه، والنظر في حاله مع ربه، فيحصل له من جراء ذلك المحاسبةُ، والتوبةُ، والأوبةُ.
ولو عجلت له دعوته لربما غفل عن نفسه، فظن أنه على خير وهدى، فأهلكه العجب، وفاتته هذه الفائدة.
(11) قد تكون الدعوة مستجابة دون علم الداعي:
__________
(1) جنة الرضا في التسليم لما قدر الله وقضى للغرناطي، تحقيق د. صلاح جرار 3/ 52.
(2) جنة الرضا في التسليم لما قدر الله وقضى للغرناطي، تحقيق د. صلاح جرار 3/ 52.
(3) الفرج بعد الشدة لابن أبي الدنيا ص22.
(4) برد الأكباد عند فقد الأولاد لابن ناصر الدين الدمشقي ص37.(8/537)
فقد مر بنا عند الحديث عن فضائل الدعاء أن ثمرة الدعاء مضمونة إذا أتى الإنسان بأسباب الإجابة، وسلممن موانعها؛ فالداعي لا يخلو من أن يستجاب له دعاؤه فيرى أثره في الدنيا، أو لا يستجاب له لوجود أحد الموانع، فلا يرى أثرًا لدعائه في الدنيا، أو أن يستجاب له ولكن لا يرى أثرًا للإجابة في الدنيا وإنما يؤخر له من الأجر مثل دعوته يوم القيامة، أو أن يستجاب له الدعاء فلا يرى أثرًا للإجابة، ولكن يصرف الله عنه من السوء مثل دعوته وهو لا يعلم. (1)
إذا تقرر هذا فكيف يستبطئ الداعي الإجابة طالما أن الثمرة مضمونة؟ ولماذا لا يحسن العبد ظنه بربه ويقول: لعله استجيب لي من حيث لا أعلم؟.
(12) قد يكون الدعاء ضعيفًا فلا يقاوم البلاء:
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
وله (2) مع البلاء ثلاث مقامات:
أحدها: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه.
الثاني: أن يكون أضعف من البلاء، فيصاب به العبد، ولكن قد يخففه وإن كان ضعيفًا.
الثالث: أن يتقاوما، ويمنع كل واحد منهما صاحبه. (3)
(13) قد يكون الإنسان سد طريق الإجابة بالمعاصي:
فلو فتحها بالتقوى لحصل على مراده؛ فكيف يستبطئ الإجابة وقد سد طريقها بالمعاصي؟.
أما علم أن التقوى سبب الراحة، وأنها مفتاح كل خير؟
أما سمع قوله قال تعالى: (وَمَن يَتّقِ اللّهَ يَجْعَل لّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ) [الطلاق 2، 3]
أَوَ ما فهم أن العكس بالعكس؟.
[*] قال بعض السلف: لا تستبطئ الإجابة، وقد سَددْتَ طُرقَها بالمعاصى. وقد أخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال
:"نحن ندعو الإلهَ في كل كرب ثم ننساهُ عند كشف الكروب
كيف نرجو إجابةَ لدعاء قد سددنا طريقَها بالذنوب؟
__________
(1) علق سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز في هذا الموضوع فقال:=وقد صح عن رسول الله"أنه قال: ما من مسلم يدعو ليس بإثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدَّخرها له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها، قالوا: يا رسول الله، إذًا نكثر؟ قال: الله أكثر أ هـ. والحديث مضى تخريجه عند الحديث عن فضائل الدعاء.
(2) يعني الدعاء.
(3) الجواب الكافي ص9 _ 10.(8/538)
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا فقال تعالى (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم) وقال (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فأنى يستجاب لذلك) وهو استفهام واقع على وجه التعجب والاستبعاد. أي كيف يدعو هذا الآكل للحرام وينتظر الإجابة مع تيقنه من سوء فعاله، نسأل الله أن يطعمنا الحلال ويجنبنا مهاوى الضلال إنه ولى ذلك والقادر عليه.
(14) ظهورآثار أسماء الله تعالى:
فمن أسماء الله _ عز وجل _ المعطي، المانع، الحكم، العدل، الكريم، العليم، البر، الرحيم، المالك، الحكيم.
وهذه الأسماء تستدعي متعلقات تظهر فيها أحكامها، ومقتضياتها، وآثارها؛ فتأخر الإجابة من أسباب ظهور تلك الآثار، والمقتضيات والأحكام.
فقد يمنع _ عز وجل _ أحدًا من الناس؛ لحكمته، وعدله، وعلمه.
وقد يعطي برحمته _ عز وجل _، وحكمته، وبره، وعلمه.
(15) تكميل مراتب العبودية للأولياء:
فالله تعالى يحب أولياءه، ويريد أن يكمل لهم مراتب العبودية، فيبتليهم بأنواع من البلاء، ومنها تأخر إجابة الدعاء؛ كي يتَرَقَّوا في مدارج الكمال ومراتب العبودية؛ فكمال المخلوق في تحقيق عبوديته، وكلما ازداد العبد تحقيقًا للعبودية ازداد كماله، وعلت درجته. (1)
فأنفع الأشياء للعبد على الإطلاق طاعته لربه بظاهره وباطنه، وأضر الأشياء عليه معصيته لربه بظاهره وباطنه.
فإذا قام بطاعته وعبوديته مخلصًا له _ فكل ما يجري عليه مما يكرهه يكون خيرًا له.
وإذا تخلى عن طاعته وعبوديته _ فكل ما هو فيه من محبوبٍ شرٌّ له.
فإذا تدبر العبد ذلك تشاغل بما هو أنفع له من حصول ما فاته.
[*] (هذا ومن تلك العبوديات التي تحصل من جراء تأخر إجابة الدعاء ما يلي:
(أ) انتظار الفرج:
فانتظار الفرج من أجل العبوديات وأعظمها، فكلما اشتد انتظار الفرج كلما ازدادت ثقة العبد بربه، فيزداد بذلك قربًا من الله، وأُنْسًا به _عز وجل _.
ولو عجلت له الإجابة لربما فاتته هذه العبودية.
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
__________
(1) العبودية لابن تيمية ص80.(8/539)
انتظار روح الفرج يعني راحته، ونسيمه، ولذته؛ فإن انتظاره، ومطالعته، وترقبه يخفف حمل المشقة ولاسيما عند قوة الرجاء، أو القطع بالفرج؛ فإنه يجد في حشو البلاء من روح الفرج ونسيمه وراحته _ ما هو من خفي الألطاف، وما هو فرج معجل. (1)
(ب) حصول الاضطرار والافتقار إلى الله:
فهذا لب العبادة ومقصودها الأعظم؛ فالافتقار إلى الله دون سواه هو عين الغنى، والتذللُ له _ عز وجل _ هو العز الذي لا يدانيه عز.
ثم إن حاجة الإنسان بل ضرورته إلى الافتقار والاضطرار إلى الله _ لا تدانيها حاجة أو ضرورة.
ولو أجيب دعاؤه مباشرة لربما أصابه التيه بالنفس، والإدلال على الله بالعمل، ولربما شعر بالغنى عن الله _ تبارك وتعالى _.
وبذلك يخرج العبد عن وصفه الذي لا ينفك عنه، والذي فيه جماله وكماله ألا وهو افتقاره إلى ربه.
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
والعبد هو فقير دائمًا إلى الله من كل وجه؛ من جهة أنه معبوده، وأنه مستعانه، فلا يأتي بالنعم إلا هو، ولا يَصْلُح حال العبد إلا بعبادته.
وهو مذنب _ أيضًا _ لا بد له من الذنوب فهو دائمًا فقير مذنب؛ فيحتاج دائمًا إلى الغفور الرحيم؛ الغفور الذي يغفر ذنوبه، والرحيم الذي يرحمه فينعم عليه، ويحسن إليه؛ فهو دائمًا بين إنعام ربه وذنوب نفسه. (2)
(ج) حصول عبودية الرضا:
فالرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، وبستان العارفين. (3)
فمن رضي عن الله وبالله رضي الله عنه وأرضاه؛ فالمؤمن حين تنزل به النازلة يدعو ربه، ويبالغ في ذلك، فلا يرى أثرًا للإجابة، فإذا قارب اليأس نُظِرَ حينئذٍ في قلبه، فإن كان راضيًا بالأقدار، غير قنوط من فضل الله فالغالب تعجيل الإجابة؛ فهناك يصلح الإيمان، ويهزم الشيطان، وتتبين مقادير الرجال.
وقد أشير إلى هذا في قوله _ تعالى: (حَتّىَ يَقُولَ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىَ نَصْرُ اللّهِ أَلآ إِنّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) [البقرة / 214]
وكذلك جرى ليعقوب _ عليه السلام _ مع أولاده كما مر قريبًا.
أما الاعتراض وقلة الرضا عن الله فخروج عن صفة العبودية.
__________
(1) مدارج السالكين 2/ 167.
(2) جامع الرسائل لابن تيمية 1/ 116.
(3) جامع العلوم والحكم 2/ 476.(8/540)
قال بعضهم: ارض عن الله في جميع ما يفعله بك؛ فإنه ما منعك إلا ليعطيك، ولا ابتلاك إلا ليعافيك، ولا أمرضك إلا ليشفيك، ولا أماتك إلا ليحييك؛ فإياك أن تفارق الرضا عنه طرفة عين، فتسقط من عينه. (1)
[*] قال ابن ناصر الدين الدمشقي:
يجري القضاءُ وفيه الخير نافلة ... لمؤمن واثق بالله لا لاهي
إن جاءه فرح أو نابه ترح ... في الحالتين يقول الحمد لله (2)
(د) الانكسار بين يدي جبار السماوات والأرض:
فالله تعالى يحب المنكسرين بين يديه، فيدنيهم، ويقرب منهم، بل هو تعالى عند المنكسرة قلوبهم.
ذكر عن عمران بن موسى القصير قال: قال موسى _ عليه السلام _:=يا رب، أين أبغيك؟
قال: ابغني عند المنكسرة قلوبهم؛ فإني أدنو منهم كل يوم باعًا، ولولا ذلك انهدموا. (3)
فربما كان تأخر الإجابة سببًا لإطالة الوقوف على باب الله، وانكسار العبد بين يديه، وكثرة اللجأ إليه، والاعتصام به.
بدليل أنه لولا هذه النازلة لم يُرَ على باب اللجأ والمسكنة؛ فالله _ عز وجل _ علم من الخلق اشتغالهم بالبر عنه، فابتلاهم من خلال النعم بعوارض تدفعهم إلى بابه يستغيثون به.
فهذا من النعم في طي البلاء، وإنما البلاء المحض ما يشغلك عن ربك، وأما ما يقيمك بين يديه _ عز وجل _ ففيه جمالك، وكمالك، وعزك، وفلاحك.
(هـ) التمتع بطول المناجاة:
فقد مرَّ بنا عند الحديث عن فضائل الدعاء أن العبد قد يقوم لمناجاة ربه، وإنزال حاجاته ببابه، فيُفتح على قلبه حال السؤال والدعاء من محبة الله، ومعرفته، والخضوع له، والتذلل بين يديه _ ما ينسيه حاجته، فيكون ما فتح له من ذلك أحبَّ إليه من قضاء حاجته التي سألها، فيحب أن تدوم له تلك الحال، وتكون عنده آثر من حاجته، ويكون فرحه بها أعظم من فرحه بحاجته لو عجلت له وفاتته تلك الحال.
وعلى هذا فكلما تأخرت الإجابة كلما طالت المناجاة، وحصلت اللذة، وزاد القرب.
ولو عجلت الإجابة لربما فاتت تلك الثمرة.
[*] قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى:
لقد أنعم الله على عبد في حاجة أكثر من تَضَرُّعه إليه فيها. (4)
(و) مجاهدة الشيطان ومراغمته:
فالشيطان عدو مبين للإنسان، يتربص به الدوائر، ويسعى في إضلاله وصدِّه عن صراط الله المستقيم، فإذا صادف منه غرة أصابه من خلالها.
__________
(1) مدارج السالكين 2/ 216.
(2) برد الأكباد ص9.
(3) أخرجه أحمد في الزهد ص95 وأورده ابن القيم في إغاثة اللهفان ص97.
(4) عدة الصابرين لابن القيم ص161.(8/541)
فالعبد إذا دعا ربه، وتأخر وقت الإجابة _ بدأ الشيطان يجول في خاطره؛ ليسيء ظنه بربه، وصار يُلقي في رُعِه أن لا فائدة من دعائه.
فإذا جاهده العبد، وراغمه، وأغاظه بكثرة الدعاء، وإحسان الظن بالله _ حصل على أجر عظيم؛ فمجاهدة الشيطان ومراغمته من أجل العبوديات.
ولو لم يأت العبد من تأخر الإجابة إلا هذه الفائدة _ لكان حريًا به ألا ينزعج من تأخرها.
هذه بعض الحكم المتلمسة من جراء تأخر الدعاء، والتي يجدر بالعبد أن يستحضرها إذا دعا وتأخرت إجابة الدعاء.
[*] (الدعوات المستجابات:
(كل من عمل بالشروط، وابتعد عن الموانع، وعمل بالآداب، وتحرّى أوقات الإجابة، والأماكن الفاضلة فهو ممن يستجيب الله دعاءه، وقد بينت السنة أنواعاً وأصنافاً ممن طبق هذه الشروط واستجاب الله دعاءهم ومنهم ما يلي:
(1) دعوة المسلم لأخيه المسلم بظهر الغيب:
(حديث أبي الدرداء الثابت في صحيح مسلم) النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به آمين ولك بمثل.
(2) دعوة المظلوم:
(حديث ا بن عباس في الصحيحين) قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذٍ ابن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتُردُ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائمَ أموالهم، واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب.
(حديث خزيمة بن ثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اتقوا دعوة المظلوم فإنها تُحْمَلُ على الغمام يقول الله: و عزتي و جلالي لأنصرنك و لو بعد حين.
(حديث ابن عمر في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوة المظلوم مستجابة و إن كان فاجرا ففجوره على نفسه.
(والشواهد على إجابة دعوة المظلوم لا تكاد تحصر، ومنها ما جاء في قصة سعد بن أبي وقاص مع أهل الكوفة لما شكوه إلى عمر بن الخطاب.(8/542)
قال أبو عوانة، وجماعة: حدثنا عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال:=شكا أهل الكوفة سعدًا إلى عمر فقالوا: إنه لا يحسن أن يصلي، فقال سعد: أما أنا فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله، صلاتي العشيِّ لا أخرم منها، أركد في الأوليين، وأحذف في الأخريين.
فقال عمر: ذلك الظن بك يا أبا إسحاق.
فبعث رجلاً يسألون عنه بالكوفة، فكانوا لا يأتون مسجدًا من مساجد الكوفة إلا قالوا خيرًا، حتى أتوا على مسجد لبني عبسٍ، فقال رجل يقال له أبو سعد: أما إذا نشدتمونا بالله فإنه كان لا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية، ولا يسير بالسرية.
(فقال سعد: اللهم إن كان كاذبًا فأعم بصره، وأطل عمره، وعَرِّضْهُ للفتن.
قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد يتعرض للإماء في السكك، فإذا قيل له: كيف أنت؟ قال: كبير مفتون أصابتني دعوة سعد. (1)
[*] وقال الذهبي رحمه الله:
يقال إن رجلاً وشى على بسر بن سعيد عند الوليد بن عبد الملك بأنه يعيبكم.
قال: فأحضره وسأله، فقال: لم أَقُلْهُ؛ اللهم إن كنتُ صادقًا فأرني به آية، فاضطرب الرجل فمات. (2)
(وخاصمت أروى بنت أويس سعيد بن زيد رضي الله عنه عند مروان ابن الحكم أمير المدينة وادَّعت عليه أنه أخذ من أرضها، فقال: أنا كنت آخذ من أرضها شيئاً بعد الذي سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: وما سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ”من أخذ شبراً من الأرض بغير حقه طُوِّقه إلى سبع أرضين“
ثم قال: اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها، واجعل قبرها في دارها، قال: فرأيتها عمياء تتلمس الجدر تقول: أصابتني دعوة سعيد بن زيد، فبينما هي تمشي في الدار مرت على بئر في الدار فوقعت فيها فكانت قبرها (3).
(3) الإمام العادل:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في سلسلة الأحاديث الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاثة لا يُردُّ دعاؤُهم: الذاكر لله كثيراً، ودعوة المظلوم، والإمام المُقسِط“.
(4) دعوة الذاكر لله كثيراً:
__________
(1) رواه أحمد 1/ 175_180، والبخاري (755)، في الأذان، باب وجوب قراءة الإمام والمأموم في الصلوات كلها، ومسلم (453) في الصلاة، باب القراءة في الظهر والعصر، والنسائي 2/ 217 باب الركود في الأوليين.
(2) سير أعلام النبلاء للذهبي 4/ 595.
(3) مسلم برقم 1610، 2/ 1230.(8/543)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في سلسلة الأحاديث الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاثة لا يُردُّ دعاؤُهم: الذاكر لله كثيراً، ودعوة المظلوم، والإمام المُقسِط“.
(5) دعوة المضطر:
قال الله تعالى: {أمَّن يُجيبُ المضطَرَّ إذا دعَاهُ ويكشِفَ السُّوءَ} [النمل /62]
ومما يدل على أن من أقوى أسباب الإجابة الاضطرار حديث الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار فانحطت على فم الغار صخرة من الجبل أغلقت الغار عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها صالحة لله تعالى واسألوا الله بها لعله يفرجها عنكم، فدعوا الله تعالى بصالح أعمالهم فارتفعت الصخرة فخرجوا يمشون (1).
__________
(1) البخاري، كتاب الأدب، باب إجابة دعاء من بر والديه، برقم 5974، ومسلم 4/ 2099.(8/544)
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم، حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فناء بي في طلب شيء يوما، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي، فأدرتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله أد إلي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون).
(6) دعوة من دعا بدعوة ذي النون:
(حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوة ذي النون إذ دعا بها و هو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له.(8/545)
(حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:" ألا أخْبِرُكُمُ بِشَيْءٍ إذَا نَزَلَ بِرَجُلِ مِنْكُمُ كَرْبٌ أو بَلاَءٌ مِنْ أمْرِ الدُّنْياَ دَعَا بِهِ فَفُرِّجَ عنه؟ دُعَاءُ ذِي النُّوُنِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ أنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ".
(وذو النون: هو نبي الله يونس عليه السلام.
(والنون: الحوت.
(حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوة ذي النون إذ دعا بها و هو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له.
(وذو النون: هو نبي الله يونس _ عليه السلام _،
(والنون: الحوت.
فهذا سيدنا يونس عليه السلام ألقي في اليم فالتقمه الحوت وأسدل الليل البهيم ستاره المظلم عليه، فالتجأ إلى الله {أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، فأنجاه الله، حتى إذا خرج إلى شاطئ السلامة، تلقفته يد الرحمة الإلهية والعناية الربانية فأظلته تحت شجرة اليقطين.
قال تعالى {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87 - 88].
[*] قال القرطبي في تفسير هذه الآية:
وفي الخبر في هذه الآية شرط الله لمن دعاه أن يجيبه كما أجابه، وينجيه كما أنجاه، وهو قوله: [وكذلك ننجي المؤمنين] (1)
[*] وقال ابن كثير في قوله تعالى: [وكذلك ننجي المؤمنين]: أي إذا كانوا في الشدائد، ودعونا منيبين إلينا، ولا سيما إذا دعوا بهذا الدعاء في حال البلاء؛ فقد جاء الترغيب به في الدعاء به عند سيد الأنبياء. (2)
{تنبيه}: (هذا الدعاء من أعظم أنواع الدعاء، لاشتماله على الآتي:
أولاً: على توحيد الله (لا إله إلا أنت)
وهو أعظم وسيلة إلى الله تعالى، وأعظم طاعة وأعظم وقربة.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 11/ 334.
(2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/ 187(8/546)
ثم ثنى بالتنزيه (سبحانك) تنزيه الله عما لا يليق به عز وجل، فكل ما يفعل، وكل ما يقدر فله فيه الحكمة البالغة، فهو منزه عما لا يليق بجلاله وكماله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعظيم شأنه.
ثم ثلث ببيان عجزه وضعفه وفقره وظلمه لنفسه، وهكذا كل عبد بالنسبة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ينبغي له أن يكون كذلك إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]
(7) دعوة من دعا بالاسم الأعظم:
(حديث أنس في صحيح السنن الأربعة) قال سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.
(حديث بريدة في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا يقول: اللهم إني أسألك أني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.
(8) دعوة الولد البار بوالديه:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقةٍ جارية أو علمٍ ينتفع به أو ولدٌ صالحٌ يدعو له.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الرجل لتُرْفَع درجته في الجنة فيقول: أنى لي هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك.
ومن ذلك حديث الثلاثة الذين انحدرت عليهم الصخرة، فإن منهم رجلاً كان برَّاً بوالديه فتوسل بذلك العمل الصالح فاستجاب الله دعاءه(8/547)
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم، حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فناء بي في طلب شيء يوما، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي، فأدرتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله أد إلي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون).
(ومن ذلك: قصة أويس القرني
إخبار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أفضل التابعين، وأنه لو أقسم على الله لأبره، والسبب أن له والدة هو بها برٌ.
(حديث عمر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل.
(9) دعوة من أحبه الله ورضي عنه:(8/548)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلىَّ عبدي بشيءٍ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليِّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله الذي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنَّه، وما ترددتُ عن شيءٍّ أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته.
وهذا المحبوب المقرب الذي له عند الله منزلة عظيمة إذا سأل الله شيئاً أعطاه، وإن استعاذ به من شيء أعاذه، وإن دعاه أجابه، فيصير مجاب الدعوة لكرامته على ربه عز وجل.
(قصص لمستجابي الدعاء:
[*] (سعد ابن أبي وقاص:
كان سعد ابن أبي وقاص مجاب الدعوة فكذب عليه رجل فقال اللهم إن كان كاذبا فاعم بصره وأطل عمره وعرضه للفتن فأصاب الرجل ذلك كله فكان يتعرض للجواري في السكك ويقول شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد ودعا علي رجل سمعه يشتم عليا فما برح من مكانه حتى جاء بعير ناد فخبطه بيديه ورجليه حتى قتله.
[*] (سعيد بن زيد:
(وخاصمت أروى بنت أويس سعيد بن زيد رضي الله عنه عند مروان ابن الحكم أمير المدينة وادَّعت عليه أنه أخذ من أرضها، فقال: أنا كنت آخذ من أرضها شيئاً بعد الذي سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: وما سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ”من أخذ شبراً من الأرض بغير حقه طُوِّقه إلى سبع أرضين“
ثم قال: اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها، واجعل قبرها في دارها، قال: فرأيتها عمياء تتلمس الجدر تقول: أصابتني دعوة سعيد بن زيد، فبينما هي تمشي في الدار مرت على بئر في الدار فوقعت فيها فكانت قبرها (1).
[*] (أُبَيُّ ابن كعب:
وكان أُبَيُّ رضي الله عنه مستجاب الدعوة فيحكي ابن عباس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لجمع من الصحابه:
أخرجوا بنا إلى أرض قومنا فكان ابن عباس مع أبى بن كعب في مؤخرة الناس, فهاجت سحابه, فدعا أُبَىّ قائلاً: اللهم اصرف عنا أذاها. فلحق ابن عباس وأبى الناس, فوجدوا إن رحالهم ابتلت: فقال عمر ما أصابكم؟ (أى: كيف لم تبل رحالكما؟) فقال ابن عباس: إن أبيّا قال: اللهم اصرف عنا أذاها. فقال عمر فهلا دعوتم لنا معكم.
__________
(1) مسلم برقم 1610، 2/ 1230.(8/549)
[*] (عبد الله بن جحش:
عبد الله بن جحش قال يوم أحد يارب إذا لقيت العدو غدا فلقني رجلا شديدا بأسه شديدا حرده أقاتله فيك ويقتلني ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني فإذا لقيتك غدا قلت يا عبد الله من جدع أنفك وأذنك فأقول فيك وفي رسولك فتقول صدقت قال سعيد لقد لقيته آخر النهار وإن أنفه وأذنه لمعلقتان في خيط.
[*] (قصة حصلت في عهد أبي موسى الأشعري:
احترقت خصاص بالبصرة في زمن أبي موسي الأشعري وبقي في وسطها خص لم يحترق فقال أبو موسي لصاحب الخص ما بال خصك لم يحترق فقال إني أقسمت على ربي أن لا يحرقه فقال أبو موسي إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في أمتي رجال طلس رؤوسهم دنس ثيابهم لو أقسموا على الله لأبرهم.
[*] (العلاء بن الحضرمي:
كان العلاء بن الحضرمي في سرية فعطشوا فصلي ثم قال اللهم ياعليم ياحكيم ياعلي ياعظيم إنا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوك فاسقنا غيثا نشرب منه ونتوضأ ولا تجعل لأحد فيه نصيبا غيرنا فساروا قليلا فوجدوا نهرا من ماء السماء يتدفق فشربوا وملأوا أوعيتهم ثم ساروا فرجع بعض أصحابه إلى موضع النهر فلم ير شيئا وكأنه لم يكن في موضعه ماء قط وشكا أنس بن مالك عطش أرضه في البصرة فتوضأ وخرج إلى البرية وصلي ركعتين ودعا فجاء المطر وسقا أرضه ولم يجاوز المطر أرضه إلا يسيرا.
[*] (أبو مسلم الخولاني:
كان أبو مسلم الخولاني مشهورا بإجابة الدعوة فكان يمر به الضب فيقول له الصبيان ادع الله لنا أن يحبس علينا هذا الضب فيدعو الله فيحبسه حتى يأخذوه بأيديهم ودعا على امرأة أفسدت عليه عشرة امرأة له بذهاب بصرها فذهب بصرها في الحال فجاءته فجعلت تناشده بالله وتطلب من الله فرحمها ودعا الله تعالى فرد عليها بصرها ورجعت امرأته إلى حالها معه.
[*] (مطرف ابن عبد الله بن الشخير:
وكذب رجل على مطرف ابن عبد الله بن الشخير فقال له إن كنت كاذبا فعجل الله حتفك فمات الرجل مكانه.
[*] (عطاء السليمي:
كان عطاء السليمي لا يكاد يدعو، إنما يدعو لبعض أصحابة ويؤمن، قال: فحبس بعض أصحابة فقيل له: ألك حاجة؟ قال: دعوة من عطاء إن يفرج الله عني. قال صالح فانتبه فقلت: يا أبا محمد، أما تحب أن يفرج الله عنك؟ قال(8/550)
بلى والله أني لا حب ذاك قلت: فان جليسك فلان قد حبس فادع الله أن يفرج عنه فرفع يديه وبكى وقال الهي تعلم حاجتنا قبل أن نسألكها فاقضها لنا قال صالح فو الله مابرحنا من البيت حتى دخل الرجل. (1)
[*] (صلة بن أشيم:
وكان صلة بن أشيم في سرية فذهبت بغلته بثقلها وارتحل الناس فقام يصلي فقال اللهم إني أقسم عليك أن ترد على بغلتي وثقلها فجاءت حتى قامت بين يديه وكان مرة في برية فقرأ فجاع فاستطعم الله وجبة خلفه فإذا هو بثوب أو منديل فيه دوخلة رطب طري فأكل منه وبقي الثوب عند امرأته معاذة العدوية وكانت من الصالحات.
[*] (محمد بن المنكدر:
وكان محمد بن المنكدر في غزاة فقال له رجل من رفقائه اشتهي رطبا جنيا فقال ابن المنكدر استطعموا الله يطعمكم فإنه القادر فدعا القوم فلم يسيروا إلا قليلا حتى رأوا مكتلا مخيطا فإذا هو خير رطب فقال بعض القوم لو كان عسلا فقال ابن المنكدر إن الذي أطعمكم رطبا جنيا ها هنا قادر على أن يطعمكم عسلا فاستطعموه فدعوا فساروا قليلا فوجدوا ظرف عسل على الطريق فنزلوا وأكلوا.
[*] (الحسن البصري:
كان رجل من الخوارج يغشي مجلس الحسن البصري فيؤذيهم فلما ازداد أذاه قال الحسن اللهم قد عملت أذاه لنا فاكفناه بما شئت فخر الرجل من قامته فما حمل إلى أهله إلا ميتا على سريره.
[*] (حبيب العجمي:
كان حبيب العجمي أبو محمد معروفا بإجابة الدعوة دعا لغلام أقرع الرأس وجعل يبكي ويمسح بدموعه رأس الغلام فما قام حتى اسود رأسه وعاد كأحسن الناس شعرا.
وكان مرة عند مالك بن دينار فجاء رجل فأغلظ لمالك من أجل دراهم قسمها مالك فلما طال ذلك من أمره رفع حبيب يده إلى السماء فقال اللهم إن هذا قد شغلنا عن ذكرك فأرحنا منه كيف شئت فسقط الرجل على وجهه ميتا.
[*] (صفوان بن محرز:
__________
(1) - مجابي الدعوة لابن ابي الدنيا ص 54(8/551)
اخذ عبيد الله بن زياد ابن أخي لصفوان بن محرز فحبسه في السجن فلم يدع صفوان شريفا بالبصرة يرجوا منفعة إلا تجمل به عليه فلم ير لحاجته نجاحا فغاب في مصلاة حزينا فإذا آت قد أتاه في منامه فقال: يا صفوان قم فاطلب حاجتك من وجهها. قال: فانتبه فزعا فقام وتوضأ ثم صلى ثم دعا. فأرق ابن زياد (الذي سجن ابن أخيه ولم يستطع النوم) فقال: علي بابن أخي صفوان بن محرز فجاء الحراس وجيء بالنيران وفتحت تلك الأبواب الحديد في جوف الليل فقيل: أين ابن أخي صفوان بن محرز؟ أخرجوه فاني قد منعت من النوم منذ الليلة فاخرج فأتى به إلى زياد فكلمه ثم قال: انطلق بلا كفيل ولا شيء فما شعر صفوان حتى ضرب عليه أخيه بابه، قال صفوان من هذا؟ قال: أنا فلان. (1)
[*] (أبو قلابة:
وخرج أبو قلابة صائما حاجا فتقدم أصحابه في يوم صائف فأصابه عطش شديد فقال اللهم إنك قادر على أن تذهب عطشي من غير فطر فأظلته سحابة فأمطرت عليه حتى بلت ثوبه وذهب العطش عنه فنزل فحوض حياضا فملأها فانتهي إليه أصحابه فشربوا وما أصاب أصحابه من ذلك المطر شيء. (2)
[*] (قصة عبد الواحد بن زيد:
خرجت في بعض غزواتي في البحر، ومعي غلام لي له فضل، فمات الغلام فدفنته في جزيرة فنبذته الأرض ثلاث مرات في ثلاثة مواضع، فبينا نحن وقوف نتفكر ما نصنع له إذ انتقضت النسور والعقيان فمزقوه حتى لم يبق منه شيء فلما قدمنا البصرة أتيت أم الغلام فقلت لها: " ما كانت حال ابنك؟ قالت: خيرا كنت اسمعه: يقول: " اللهم احشرني من حواصل الطير " (3).
[*] (حبيب بن أبي ثابت:
جيء بحبيب بن أبي ثابت وسعيد بن حبيب وطلق بن حبيب يراد بهم الحجاج ـ قال: فأصابهم عطش وخوف فقال سعيد لحبيب: ادع الله فقال له حبيب أني أراك أوجه مني قال: فدعا سعيد وأمن أصحابه فرفعت سحابة فمطروا وشربوا وسقوا واستقوا. (4)
__________
(1) - كتاب مجابي الدعوة لابن ابي الدنيا بتصرف ص 53.
(2) - جامع العلوم والحكم ص525 - 527
(3) - مجابي الدعوة لابن أبي الدنيا ص 55 - 56
(4) - كتاب مجابي الدعوة لابن أبي الدنيا ص 88(8/552)
[*] (عن أصبغ ابن زيد قال: مكثت أنا ومن عندي ثلاثا لم نطعم شيئا من الجوع، فخرجت إلي ابنتي الصغيرة وقالت يا أبتي الجوع، تشكو الجوع، قال فأتيت مكان الوضوء – انظروا إلى من اللجاءة، انظروا إلى من يلجئون- فتوضأت وصليت ركعتين، وألهمت دعاء دعوت به وفي آخره: اللهم افتح علي رزقا لا تجعل لأحد علي فيه منة، ولا لك علي فيه في الآخرة تبعة برحمتك يا أرحم الراحمين، ثم انصرفت إلى البيت فإذا بابنتي الكبيرة قامت إلي وقالت: يا أبه جاء رجل يقول أنه عمي بهذه الصرة من الدراهم وبحمال عليه دقيق وحمال عليه من كل شيء في السوق، وقال: أقرءوا أخي السلام وقول له إذا احتجت إلى شيء فأدعو بهذا الدعاء تأتيك حاجتك.
قال أصبغ ابن زيد والله ما كان لي أخو قط، ولا أعرف من كان هذا القائل، ولكن الله على كل شيء قدير.
فقلت للفكر لما صار مضطربا ....... وخانني الصبر والتفريط والجلد
دعها سماوية تمشي على قدر ........ لا تعترضها بأمر منك تنفسد
فحفني بخفي اللطف خالقنا ........ نعم الوكيل ونعم العون والمدد
[*] (وعن شقيق البلخي قال: كنت في بيتي قاعدا فقال لي أهلي قد ترى ما بهؤلاء الأطفال من الجوع، ولا يحل لك أن تحمل عليهم ما لا طاقة لهم به، قال فتوضأت – نرجع إلى السبب الذي كانوا يدورون حوله رضوان الله عليهم- فتوضأت وكان لي صديق لا يزال يقسم علي بالله إن يكون لي حاجة أعلمه بها ولا أكتمها عنه، فخطر ذكره ببالي، فلما خرجت من المنزل مررت بالمسجد، فذكرت ما روي عن أبي جعفر قال: من عرضت له حاجة إلى مخلوق فليبدأ فيها بالله عز وجل، قال فدخلت المسجد فصليت ركعتين، فلما كنت في التشهد أفرغ علي النوم، فرأيت في منامي أنه قيل: يا شقيق أتدل العباد على الله ثم تنساه، يا شقيق أتدل العباد على الله ثم تنساه، قال فاستيقظت وعلمت أن ذلك تنبيه نبهني فيه ربي، فلم أخرج من المسجد حتى صليت العشاء الآخرة، ثم تركت الذهاب لصاحبي وتوكلت على الله، ثم انصرفت إلى المنزل فوجدت الذي أردت أن اقصد قد حركه الله وأجرى لأهلي على يديه ما أغناهم.
[*] قال مالك بن دينار:(8/553)
خرجت إلى الحج وفيما أنا سائر في البادية، إذ رأيت غراباً فى فمه رغيف، فقلت: هذا غراب يطير وفى فمه رغيف، إن له لشأناً، فتتبعته حتى نزل عند غار، فذهبت إليه فإذا بي أرى رجلا مشدوداً لا يستطيع فكاكاً، والرغيف بين يديه، فقلت للرجل: من تكون؟ قال: أنا من الحجاج وقد أخذ اللصوص مالي و متاعي وشدوني و ألقوني في هذا الموضع، كما ترى وصبرت على الجوع أياماً ثم توجهت إلى ربى بقلبي وقلت: يا من قال في كتابه العزيز: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء (فأنا مضطر فارحمني فأرسل الله إلى هذا الغراب بطعامي:
في هذا الموقف نرى حال الداعي قد أثر في إجابة دعوته فقد كان مضطراً فقد كل الأسباب ولم يبق له إلا باب السماء .. والله حرمه من الأسباب ليتعلم أن يتعلق قلبه برب الأسباب لا بالأسباب حتى إذا عاد للحياة الطبيعية و أصبحت الأسباب فى يده لم يلتفت إليها. .....
((قصة الحسن البصري مع الحجاج بن يوسف الثقفي)
بنى الحجاج بن يوسف الثقفى داراً بواسط بالعراق فدعا الناس للفرجة والدعاء بالبركة ..
فذهب الحسن البصرى رضى الله عنه إلى هناك فوقف خطيباً في الناس ليلفت الناس عن الانبهار بالزخارف إلى كراهية الظلم الذى يمارسه الحجاج بن يوسف وقال فيه كلاما غليظا، فلما أشفق الناس عليه من بطش الحجاج قال: لقد أخذ الله ميثاق أهل العلم لتبيننه للناس ولا تكتمونه ... ثم انصرف ولما بلغ الحجاج ما حدث استشاط غيظاً ولام أتباعه على عدم الرد عليه و أخبرهم أنه سيجعله عبرة للناس و أرسل فى طلبه وأعد فى مجلسه النطع والسياف فظن الناس أنه قاتله وقبل أن يدخل الحسن البصرى إلى مجلس الحجاج
تمتم بكلمات فلما دخل عليه فوجىء الناس بأن الحجاج يحسن استقباله وأجلسه بجواره وطيب لحيته وسأله فى بعض المسائل ثم أذن له بالإنصراف ..
وما أن غادرالحسن البصرى المجلس حتى جرى الحاجب خلفه وسأله ناشدتك الله ما هذه الكلمات التى كنت تتمتم بها فإن الحجاج ما استدعاك ليطيب لحيتك؟
فقال الحسن: قلت: اللهم ياولى نعمتى وملاذى عند كربتى، اللهم اجعل عقوبته لى برداً وسلاما كما جعلت الناربردا وسلاماًً على إبراهيم.
[*] روى غيلان بن جرير البصري:
أن رجلا كذب على مطرف بن عبد الله الحافظ البصري المتوفى سنة 95 فقال مطرف، اللهم إن كان كاذبا فأمته فخر مكانه ميتا.
طبقات الحفاظ الذهبي 1: 60، دول الاسلام 1: 47، الإصابة 3: 479، تهذيب التهذيب 1: 173.(8/554)
((امرأة تلد بدعاء مالك ابن أربع سنين)
أخرج البيهقي في السنن الكبرى 7: 443 بإسناده عن هاشم المجاشعي قال: بينما مالك بن دينار - المتوفى 123 وقيل غير ذلك - يوما جالس إذ جاءه رجل فقال: يا أبا يحيى! ادع لامرأة حبلى منذ أربع سنين قد أصبحت في كرب شديد، فغضب مالك و أطبق المصحف ثم قال: ما يرى هؤلاء القوم إلا أنا أنبياء، ثم دعا فقال: أللهم هذه المرأة إن كان في بطنها ريح فأخرجها عنها الساعة، وإن كان في بطنها جارية فأبدلها بها غلاما، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب، ثم رفع مالك يده ورفع الناس أيديهم، وجاء الرسول إلى الرجل فقال: أدرك امرأتك، فذهب الرجل، فما حط مالك يده حتى طلع الرجل من باب المسجد على رقبته غلام جعد قطط ابن أربع سنين قد استوت أسنانه ما قطعت أسراره.
(السختياني ينبع الماء:
أخرج أبو نعيم في (حلية الأولياء) 3: 5 بالإسناد عن عبد الواحد بن زيد قال: كنت مع أيوب السختياني (4) على حراء فعطشت عطشا شديدا حتى رأى ذلك في وجهي فقال. ما الذي أرى بك؟ قلت: العطش، وقد خفت على نفسي،
قال: تستر علي؟ قلت: نعم.
قال: فاستحلفني فحلفت له أن لا أخبر عنه ما دام حيا، قال: فغمز برجله على حراء فنبع الماء فشربت حتى رويت وحملت معي من الماء قال: فما حدثت به أحدا حتى مات.
وفي [الروض الفائق] ص 126: كان جماعة مع أيوب السختياني في سفر فأعياهم طلب الماء فقال أيوب: أتسترون علي ما عشت؟
فقالوا: نعم.
فدور دائرة فنبع الماء قال: فشربنا فلما قدموا البصرة أخبر به حماد بن زيد. قال عبد الواحد بن زيد: شهدت معه ذلك اليوم.
(حضور غائب بدعاء معروف الكرخي:
ذكر الإمام أبو محمد ضياء الدين الشيخ أحمد الوتري الشافعي المتوفى بمصر في عشر الثمانين والتسعمائة في كتابه (روضة الناظرين) ص 8 نقلا عن خليل بن محمد الصياد إنه قال: غاب أبي فتألمت فجئت إلى معروف - الكرخي المتوفى 200/ 1 / 4 - فقلت: غاب أبي فقال: ما تريد؟ قلت: رجوعه. قال: أللهم إن السماء سماؤك، والأرض أرضك وما بينهما لك ائت بمحمد، فأتيت باب الشام فإذا هو واقف فقلت: أين كنت؟(8/555)
[*] (أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في بحر الدموع عن ابن المبارك: قدمت مكة، فإذا الناس قد قحطوا من المطر، وهم يستسقون في المسجد الحرام، وكنت في الناس من باب بني شيبة، إذ أقبل غلام أسود قطعتاه خيش، قد ائتزر بإحداهما، وألقى الأخرى على عاتقيه، فصار في موضع خفي إلى جانبي، فسمعته يقول: إلهي، أخلقت الوجوه كثرة الذنوب ومساوئ العيوب، وقد منعتنا غيث السماوات لتؤدب الخليقة بذلك، فأسألك يا حليم، يا من لا يعرف عباده منه إلا الجميل، اسقهم الساعة الساعة.
قال ابن المبارك: فلم يزل يقول: اسقهم الساعة الساعة، حتى انسدّ الجو بالغمام، وأقبلت قطرات الركام تهطل كأفواه القرب، وجلس مكانه يسبّح الله تعالى، فأخذت في البكاء، حتى قام فاتبعته حتى عرفت موضعه.
فجئت إلى الفضيل بن عيّاض، فقال لي: ما لي أراك كئيبًا؟ فقلت له: سبقنا إليه غيرنا، فولاه دوننا. قال: وما ذلك؟ فقصصت عليه القصة وسقط في الأرض، وقال: ويحك ابن المبارك، خذني إليه، فقلت: قد ضاق الوقت، سأبحث عن شأنه.
فلما كان من الغد، صليت الغداة، وخرجت أريد الموضع، فإذا بشيخ على باب، وقد بسط له وهو جالس، فلما رآني عرفني، وقال: مرحبًا بك يا أبا عبد الرحمن، ما حاجتك؟ فقلت: احتجت إلى غلام، فقال: نعم عندي عدّة، اختار أيهم شئت، فصاح يا غلام، فقال: هذا محمود العاقبة، أرضاه لك، فقلت: ليس هذا حاجتي، فما زال يخرج واحدًا بعد واحد، حتى أخرج إلى الغلام، فلما أبصرته بدرت عيناي بالدموع، فقال: هذا؟ فقلت: نعم، فقال: ليس لي إلى بيعه سبيل. فقلت: ولم؟!. قال: قد تبرّكت بموضعه في هذه الدار، فقلت له: ومن أين طعامه؟ فقال: يكسب من فتل الشريط نصف دانق أو أقل أو أكثر، فهو قوته إن باعه في يومه، وإلا طوى ذلك اليوم.
وأخبرني الغلمان عنه أنه لا ينام في الليل الطويل ولا يختلط بأحد منهم، مهتم بنفسه، وقد أحبه قلبي.
فقلت له: انصرف إلى الفضيل بن عياض وسفيان الثوري بغير قضاء حاجة، ثم رجعت إليه، وسألت فيه بإلحاح، فقال: إن ممشاك عندي كبير، خذه بما شئت.
قال: فاشتريته، وسرت معه نحو دار الفضيل، فمشيت ساعة فقال لي: يا مولاي.
فقلت له: لبيك.
فقال: لا تقل لبيك، فإن العبد أولى بأن يلبي من المولى.
قلت: وما حاجتك يا حبيبي.(8/556)
قال: أنا ضعيف البدن، لا أطيق الخدمة، وقد كان لك في غيري سعة، قد أخرج لك من هو أجلد مني وأثبت. فقلت له: لا يراني الله تعالى أستخدمك، ولا كان اشترائي لك إلا أنزلك منزلة الأولاد، ولأزوّجك، وأخدمك أنا بنفسي. قال: فبكى، فقلت له: وما يبكيك؟.
قال لي: أنت لم تفعل هذا، إلا وقد رأيت بعض اتصلاتي بالله تعالى، وإلا، فلم أخذتني من أولئك الغلمان؟.
فقلت له: ليس لي بك حاجة إلا هذا.
فقال لي: سألت بالله إلا أخبرتني.
فقلت له: بإجابة دعوتك.
فقال لي: إني أحسبك إن شاء الله رجلًا صالحًا، إن لله عز وجل خيرة من خلقه، لا يكشف شأنهم إلا لمن أحب من عباده، ولا يظهر عليهم إلا من ارتضى.
ثم قال لي: ترى أن تقف عليّ قليلا، فإنه قد بقي عليّ ركعات من البارحة.
قلت: هذا منزل الفضيل.
قال: لا هاهنا أحبّ إليّ. إن أمر الله تعالى لا يؤخر، فدخل المسجد، فما زال يصلي حتى أتى على ما أراد، فالتفت إليّ وقال: يا أبا عبد الرحمن، هل لك من حاجة؟.
قلت: ولم.
قال: لأني أريد الانصراف.
قلت: إلى أين.
قال: إلى الآخرة.
قلت: لا تفعل دعني أنتفع بك.
فقال لي: إنما كانت تطيب الحياة حيث كانت المعاملة بيني وبين الله تعالى، فأما إذا اطلعت عليها أنت، سيطّلع عليها غيرك، فلا حاجة لي في ذلك، ثم خرّ على وجهه، وجعل يقول: إلهي اقبضني الساعة الساعة، فدنوت منه، فإذا هو قد مات. فوالله ما ذكرته قط إلا طال حزني، وصغرت الدنيا في عيني، وحقرت عملي.
رحمه الله ورحمنا به.
[*] (وأورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في بحر الدموع عن إبراهيم ابن أدهم أنه ركب البحر فتحرك ريح عاصف فوضع إبراهيم رأسه ونام، فقال أصحابه: أما ترى ما نحن فيه من الشدة، فقال: أوهذه شدة؟ قالوا: نعم، قال: لا، وإنما الشدة الحاجة للناس، ثم قال: إلهي، أريتنا قدرتك، فأرنا عفوك، فصار البحر كأنه قدح زيت.
[*] (ومن المواقف الجميلة الطريفة في فضل الدعاء أنه كان لسعيد ابن جبير ديكا، كان يقوم من الليل بصياحه، فلم يصح ليلة من الليالي حتى أصبح، فلم يصلي سعيد قيام الليل تلك الليلة فشق عليه ذلك، فقال ماله قطع الله صوته –يعني الديك-؟
وكان سعيد مجاب الدعوة، فما سمع للديك صوت بعد ذلك الدعاء، فقالت أم سعيد: يا بني لا تدعو على شيء بعدها.(8/557)
((وليس معنى أن الدعوة المجابة إقتصرت عليهم بل إن القصص المعاصرة لمن أستجيب دعاءهم كثيرة فهذا يدعو بالشفاء عندما استعصى الاطباء فيشفى وهذه تدعو بحفظ ولدها فيحفظه الله وهذا يدعو بالتيسير في الحج مع شدة الحال فيسر الله له ومثل هذا كثير جعلنا الله وإياكم من أولياءه وأحبابه ووأصفياءه.
(هذه قصه واقعيه حدثت في وقتنا الحاضر لمعلمة في مكه المكرمه:
كان هناك مجموعه من المعلمات تعاقدنا مع سائق يوصلهن من منازلهن للمدرسه والعكس وكان هذا السائق يعرف وقت صرف الرواتب وفي يوم ركبنا المعلمات معه ويعرف أنهن استلمن رواتبهن فأخذ السائق بتوصيل المعلمات واحد تلو الأخرى وبقيت معلمه واحده تنظر دورها أن يوصلها الى منزلها ولكنها تفأجأت أن السائق غير من طريق البيت واخذ يتجه إلى طريق جدة أخذت المعلمه تناديه يافلان يا فلان هذا ليس طريق المنزل لكن لم يرد عليها وبعد محاولات فاشله لاستعطافه أيقنت انه طمع فيها، أثناء قيادته السياره سجدت المعلمه على أرضية السياره وأخذت تدعو يامغيث 0000000
وخرجت هذه الدعوه من قلب مكروب!!!
وفجأه!!!!
ضرب السائق فرامل لأن هناك سياره اعترضته رفعت المعلمه رأسها تخيلوا من كان في السياره المعترضه إنه أبوها وأخوها فرحت لوهله ثم انتابها خوف لوجودها في هذا المكان مع السائق ماذا سيقول أباها وأخاها عنها!!!
وفتح أبوها الباب واخذ بيد ابنته إلى السياره و انطلق مباشره دون التكلم مع السائق ولا مع ابنته ودارت الأفكار برأس المعلمه؟؟ وصلوا إلى البيت نزلت المعلمه مسرعه نحو أمها حتى تشرح لها الوضع قبل دخول والدها تفأجأت بوجود والدها و اخوها على مائدة الغداء أماه م م م متى كيف اشلون كانو في السياره يامههههه وانا سبقتهم في الدخول
أجابت الأم هم موجودون منذ ساعتين.؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ إذن من الذين كانوا في السياره؟؟؟
هل تعرفون من هم؟؟
إنهم الملائكة ومن رحمة الله بها انه جعلهم على صورة والدها واخوها حتى لا تخاف 0
يا الله انك أرحم بنا من امهاتنا0
((قصة لمريض شفاه الله تعالى بالدعاء)
والقصة لصديق يعمل مهندسا كان قد أصيب بالتهاب رئوي أدى إلى خراج على الرئة ..
حاول الأطباء علاجه مدة شهرين كاملين وأعطوه كل أنواع المضادات بلا فائدة، حتى فقد وزنه واقترب من نهايته ..
وفى يوم من الأيام وبعد مغادرة الأطباء للمستشفى الذى كان يقيم فيه توجه إلى ربه وقال: يا من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء اشفني وعافني.(8/558)
وأخذ يبتهل ويردد الدعاء حتى شعر أن شيئاً في صدره يريد أن يخرج وبعد سعال خفيف خرجت كرة من الصديد وضعها في إناء بجواره وشعر بتحسن تام بعدها لقد أصبح قادراً على الحركة مرة أخرى، وكانت المفاجأة حينما جاء الأطباء فى الغد ..
ووضع الطبيب سماعته على صدره فلم يسمع شيئا مما كان يسمعه ووجد ابتسامته تعلو وجهه وقبل أن ينطق الطبيب قال صديقي: لقد شفاني الله بالدعاء.
فكم من مرضى أقرباء لنا حاروا مع العلاجات والأطباء فلابد من أن ننصحهم مع أخذهم بأسباب الشفاء ومع استمرارهم فى الدواء أن يتضرعوا ويلجأوا إلى ربهم عز وجل بالدعاء (دعاء المضطر) والله هو الذى يجيب فهو قادر على كل شىء سبحانه ...
) (وهذه قصةٌ مُبْكِيَة
هذة قصة حقيقية حصلت أحداثها ما بين الرياض وعفيف لأن صاحبة القصة أقسمت على كل من يسمعها أن ينشرها للفائدة فتقول:
لقد كنت فتاة مستهترة اصبغ شعري بالأصباغ الملونة كل فترة وعلى الموضة وأضع المناكير ولا أكاد أزيلها إلا للتغيير، أضع عبايتي على كتفي أريد فقط فتنة الشباب لا إغوائهم، أخرج إلى الأسواق متعطرة متزينة ويزين إبليس لي المعاصي ما كبر منها وما صغر وفوق هذا كلة لم اركع لله ركعة واحدة بل لا اعرف كيف اصلي والعجيب أني مربية
أجيال معلمة يشار لها بعين احترام فقد كنت ادرس في احد المدارس البعيدة من مدينة الرياض فقد كنت اخرج من منزلي مع صلاة الفجر ولا أعود حتى صلاة العصر المهم أننا كنا مجموعة من المعلمات وكنت أنا الوحيدة التي لم أتزوج.
فمنهن المتزوجة حديثا ومنهن الحامل ومنهن التي أخذت أجازة أمومة وأيضا كنت أنا الوحيدة التي نزع مني الحياء فقد كنت أحدث السائق وأمازحه كأنة أحد أقاربي ومرت الأيام وما زلت على طيشي وضلالي وفي صباح احد الايام استيقظت متأخرة وخرجت بسرعة وركبت السيارة وعندما التفتت لم أجد سواي في المقاعد الخلفية سألت السائق فقال فلانة مريضة وفلانة قد ولدت و. و. فقلت في نفسي ما دام الطريق طويل سأنام حتى نصل فنمت ولم استيقظ إلا من وعرة الطريق فنهضت خائفة ورفعت الستار ما هذا الطريق وما الذي صار؟؟؟؟ فلان أين تذهب بي؟؟؟؟؟؟؟ قال لي بكل وقاحة الآن ستعرفين فقد عرفت مخططة قلت له وكلي خوف يا فلان أما تخاف الله أتعلم عقوبة ما تنوي فعلة وكلام كثير أريد أن أثنية عما يريد فعلة وكنت اعلم أني هالكة لا محالة فقال بثقة إبليسية لعينة أما خفتي الله أنتي؟(8/559)
وأنتي تضحكين بغنج وميوعة وتمازحينني؟؟؟؟ ولا تعلمين أنك فتنتيني وأني لن أتركك حتى آخذ ما أريد بكيت صرخت ولكن المكان بعيد ولا يوجد سوى أنا وهذا الشيطان المارد مكان صحراوي مخيف ... مخيف ... رجوتة وقد أعياني البكاء وقلت بيأس واستسلام إذاً دعني أصلي لله ركعتين لعل اللة يرحمني فوافق بعد أن توسلت علية نزلت من السيارة وكأني أقاد إلى ساحة الإعدام صليت ولأول مرة في حياتي صليتها بخوف وبرجاء والدموع تملأ مكان سجودي توسلت لله تعالى أن يرحمني ويتوب علي وصوتي الباكي يقطع هدوء المكان وفي لحظة وأنا أنهي صلاتي تتوقعون مالذي حدث؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
وكانت المفاجأة ما الذي أراه؟
إنني أرى سيارة أخي قادمة نعم إنه أخي وقد قصد المكان بعينة لم أفكر بلحظة كيف عرف مكاني ولكني فرحت بجنون وأخذت اقفز ... وأنادي ... وذلك السائق ينهرني ولكني لم أبالي به .... من أرى أنه أخي الذي يسكن الشرقية وأخي الآخر الذي يسكن معنا فنزل أحدهما وضرب السائق بعصا غليظة وقال اركبي مع احمد في السيارة وأنا سآخذ هذا السائق واضعة في سيارة بجانب الطريق ... ركبت مع احمد والذهول يعصف بي وسألته هاتفةً كيف عرفتما بمكاني وكيف جئت من الشرقية؟ ومتى؟
قال في البيت تعرفين كل شيء وركب محمد معنا وعدنا للرياض وأنا غير مصدقة لما يحدث وعندما وصلت إلى المنزل ونزلت من السيارة قالا لي أخوتي اذهبي إلى أمنا واخبريها الخبر وسنعود بعد قليل ونزلت مسرعة اخبر أمي دخلت عليها في المطبخ واحتضنتها وأنا ابكي واخبرها بالقصة قالت لي بذهول وأحمد فعلا في الشرقية وأخوك محمد ما زال نائما فذهبنا إلى غرفة محمد فوجدناه فعلا نائم أيقظته كالمجنونة لأساله ما الذي يحدث فأقسم بالله العظيم أنة لم يخرج من غرفتة ولا يعلم بالقصة؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
ذهبت إلى سماعة الهاتف تناولتها وأنا أكاد أجن فسالت أخي الآخر فقال ولكنني في عملي الآن *********** بعدها بكيت وعرفت كل إلي حصل إنهما ملكين أرسلهما ربي لينقذني فحمدت الله تعالى على ذلك وكانت هي سبب هدايتي ولله
الحمد والمنة بعدها انتقلت الى منطقة عفيفة وابتعدت عن كل ما يذكرني بالماضي المليء بالمعاصي والذنوب.(8/560)
(وذكر أحد الدعاة في بعض رسائله أن رجلا من العباد كان مع أهله في الصحراء في جهة البادية، وكان عابدا قانتا منيبا ذاكرا لله، قال فانقطعت المياه المجاورة لنا وذهبت التمس ماء لأهلي فوجدت أن الغدير قد جف، فعدت إليهم ثم التمسنا الماء يمنة ويسرة فلم نجد ولو قطرة، وأدركنا الظمأ واحتاج أطفالي للماء، فتذكرت رب العزة سبحانه القريب المجيب، فقمت وتيممت واستقبلت القبلة وصليت ركعتين، ثم رفعت يدي وبكيت وسالت دموعي وسألت الله بإلحاح وتذكرت قوله:
(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) [النمل /62]
قال وما هو والله إلا أن قمت من مقامي وليس في السماء من سحاب ولا غيم، وإذا بسحابة قد توسطت مكاني ومنزلي في الصحراء، واحتكمت على المكان ثم أنزلت ماءها فامتلأت الغدران من حولنا وعن يميننا وعن يسارنا فشربنا واغتسلنا وتوضئنا وحمدنا الله سبحانه وتعالى، ثم ارتحلت قليلا خلف هذا المكان وإذا الجدب والقحط، فعلمت أن الله ساقها لي بدعائي، فحمدت الله عز وجل:
(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) [الشورى /28]
(وذكر أيضا أن رجلا مسلما ذهب إلى إحدى الدول والتجأ بأهله إليها، وطلب بأن تمنحه جنسية، قال فأغلقت في وجهه الأبواب، وحاول هذا الرجل كل المحاولة وستفرغ جهده وعرض الأمر على كل معارفه، فبارت الحيل وسدت السبل، ثم لقي عالما ورعا فشكا إليه الحال، فقال له عليك بالثلث الأخير من الليل فأدعو مولاك، إنه الميسر سبحانه وتعالى، قال هذا الرجل: ووالله فقد تركت الذهاب إلى الناس وطلب الشفاعات، وأخذت أداوم على الثلث الأخير كما أخبرني ذلك العالم، وكنت أهتف لله في السحر وأدعوه، وما هو إلا بعد أيام وتقدمت بمعروض عادي ولم اجعل بيني وبينهم واسطة فذهب هذا الخطاب وما هو إلا أيام وفوجئت وأنا في بيتي أني ادعى وأسلم الجنسية، وكنت في ظروف صعبة.
إن الله سميع مجيب، ولطيف قريب، لكن التقصير منا، لابد أن نلج على الله وندعوه، وابشروا:
(إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ).
(أسباب تأخير إجابة دعاء المظلومين على الظالمين:(8/561)
من أسباب تأخير إجابة دعاء المظلومين على الظالمين ما قاله الله جل وعلا: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء) [إبراهيم 42، 43]
قيل لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كان أهل الجاهلية يدعون على الظالم، وتعجل عقوبته، حتى إنهم كانوا يقولون: عش رجباً ترى عجباً، أي أن الظالم تأتيه عقوبته في شهر رجب، كناية عن قرب نزول العقوبة به، قالوا له: ونحن اليوم مع الإسلام ندعو على الظالم فلا نجاب في أكثر الأمر، فقال عمر رضي الله عنه: هذا حاجز بينهم وبين الظلم، إن الله عز وجل لم يعجل العقوبة لكفار هذه الأمة، ولا لفساقها، فإنه تعالى يقول: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) [القمر /46]
وقد يكون من سبب تأخير استجابة الدعاء عليهم أن الله عز وجل أراد لهم أشد العذاب، ولما يبلغوا درجته الآن، فيمهلهم الله حتى يبلغوا تلك الدرجة من البغي والطغيان، حتى يستحقوا ذلك الدرك من النار الذي أعده الله لهم.
(وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) [آل عمران /178]
(ومن أسباب تأخير استجابة الدعاء على الظالمين، أننا نحن الذين نظن أن الاستجابة قد تأخرت لأن الأيام في منظور البشر طويلة، بينما هي في عين الله قصيرة، وقد قال الله جل وعلا: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ) [الحج /47]
ولكن يتساءل الناس متى ثم تأتي الإجابة (وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَىَّ الْمَصِيرُ) [الحج /47، 48]
قال بعض أهل التفسير كان بين دعاء موسى على فرعون، وبين إهلاك فرعون بالغرق أربعون سنة.
(الاعتداء في الدعاء:
(هناك أخطاء عديدة تقع في الدعاء، وهذه الأخطاء داخلة في باب الاعتداء في الدعاء.
(حديث عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور و الدعاء.(8/562)
فكل سؤال يناقض حكمة الله، أو يتضمن مناقضة شرعه وأمره، أو يتضمن خلاف ما أخبر به _ فهو اعتداء لا يحبه الله، ولا يحب سائله. (1)
(تَعْرِيَفُ الاِعْتِدَاءِ في الدعاء:
[*] قال القرطبي رحمه الله تعالى: اَلْمُعْتَدِيِ هو اَلْمُجَاوِزُ لِلْحَدِّ ومُرْتَكِبُ اَلْحَظْرِ 0
وقال الفخر الرازي {اَلْمُعْتَدِينَ} أي: اَلْمُجَاوِزِينَ ما أمِرُوا بِهِ0
وقال ابن منظور (2): يُقَالُ: تَعَدَّيْتُ الحَقَّ، واِعْتَدَيْتُهُ، وعَدَوْتهُ، أي: جَاوُزْتهُ، وفي الحديث: " سيكون قوم يعتدون في الدُّعَاءِ "،
هو الخُرُوجُ فيه عن الوضع الشَّرْعِيِّ والسُّنَّةُ المأثورة 000وقال: أصل هذا كلِّه: مُجَاوَزَةُ اَلْحَدِّ، وَاَلْقَدْرِ، وَاَلْحَقِّ 0
(اَلْقُرْآنُ اَلْكَرِيم يَنْهَى عَنْ اَلاِعْتِدَاءِ فِيِ اَلْدُّعَاءِ:
قال عَزَّ وَجَلَّ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتدِينَ} (الأعراف/55)
[*] عَنْ اِبْن عَبَّاس رضي الله عنهما قال: {إِنَّهُ لا يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ} فِي الدُّعَاء وَلا فِي غَيْره (3)
[*] وعن قتادة قال: تَعَلَّمُوا أنَّ في بَعْضِ الدُّعَاءِ اِعْتِدَاءٌ فَاجْتَنِبُوا العُدْوَانَ وَالاِعْتِدَاءَ إنْ اسْطَعَتْمُ ولا قُوَّةَ إلاَّ بالله (4)
[*] وقال الطبري: وأمَّا قوله عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّهُ لا يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ} مَعْنَاهُ: إِنَّ رَبّكُمْ لا يُحِبّ مَنْ اِعْتَدَى فَتَجَاوَزَ حَدّه الَّذِي حَدَّهُ لِعِبَادِهِ فِي دُعَائِهِ وَمَسْألَته رَبّه (5)
(واَلْسُّنَّةُ اَلْمُطَّهَرَةُ تَنْهَى عَنْ اَلاِعْتِدَاءِ فِيِ اَلْدُّعَاءِ:
نَهَتْ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ المُطَهَرِّةُ وحَذَرَتْ مِنَ الاِعْتِدَاءِ في الدُّعَاءِ،
(حديث عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور و الدعاء.
(الاِعْتِدَاءِ فِيِ اَلْدُّعَاءِ يَمْنَعُ مِنَ اَلإجَابَةِ وَاَلْقَبُولِ:
__________
(1) بدائع الفوائد، 3/ 13.
(2) أنظر لسان العرب مادة: عدا، ج 2، ص 711 0
(3) أنظر تفسير ابن كثير على الآية (55 ـ الأعراف)
(4) أنظر الدُّرِّ المَنْثُورِ في التفسير بالمأثور على الآية (55 ـ الأعراف)
(5) أنظر تفسير الطبري على الآية (55 ـ الأعراف)(8/563)
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب له فإما أن يعجل له في الدنيا و إما أن يدخر له في الآخرة ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل.
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلاَّ أعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاث: ٍ إِمَّا أنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أنْ يَصْرِف عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا" قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ:" اللَّهُ أكْثَرُ "0
[*] قال القرطبي تعليقاُ على الحديث:
وحديث أبي سعيد الخدري وإنْ كان إذناً بالإجابة في إحدى ثلاث، فقد دَلَّكَ على صِحَةِ اِجْتِنَابِ الاعْتِدَاء الْمَانِع مِنْ الإجَابَة حيث قال فيه: " لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلا قَطِيعَةُ رَحِمٍ " (1)
[*] وقال القُرْطِبِيُّ في موضع آخر عن الاعتداء في الدعاء هو: أن يَدْعُو بما ليس في الكِتَابِ والسُّنَّةِ؛ فَيَتَخَيْرَ ألفاظا مُفْقِرَةٍ وكلمات مُسَّجَعَةٍ قد وجدها في كراريس لا أصل لها ولا مُعَوَلٍ عليها، فيجعلها شعاره ويترك ما دَعَا به رسوله عليه السلام، وكُلُّ هذا يَمْنَعُ مِنْ اِسْتَجَابَةِ الدُّعَاءِ (2).
[*] وقال البغوي: إن للدعاء آدابا وشرائط، وهي أسباب الإجابة، فمن استكملها كان من أهل الإجابة، ومن أخَلَّ بها فهو من أهل الاعتداء في الدعاء فلا يستحق الإجابة (3)
[*] (وفيما يلي ذكر لبعض صور الاعتداء في الدعاء اَلْمَنْهِيُّ عَنْهَا جملةً وتفصيلا:
(أولاً صور الاعتداء في الدعاء اَلْمَنْهِيُّ عَنْهَا جملةً:
(1) أن يشتمل الدعاء على شيء من التوسلات الشركية:
(2) أن يشتمل على شيء من التوسلات البدعية:
(3) تمني الموت وسؤال ذلك:
(4) الدعاء بتعجيل العقوبة:
(5) الدعاء بما هو مستحيل، أو بما هو ممتنع عقلاً أو عادةً، أو شرعًا:
(6) الدعاء بأمر قد فرغ منه:
(7) أن يدعو بما دل الشرع على عدم وقوعه:
(8) الدعاء على الأهل والأموال والنفس:
__________
(1) أنظر تفسير القرطبي على الآية (186 ـ البقرة)
(2) أنظر تفسير القرطبي على الآية (55 ـ الأعراف)
(3) أنظر تفسير البغوي على الآية (186 ـ البقرة)(8/564)
(9) كأن يدعو على شخص أن يكون مدمنًا للخمر، أو أن يميته الله كافرًا، أو أن يبتلى بالزنا أو غير ذلك، أو أن يدعو الله أن ييسر له الفساد والفجور.
(10) الدعاء بقطيعة الرحم:
(11) الدعاء بانتشار المعاصي:
(12) تحجير الرحمة:
(13) ترك الأدب في الدعاء:
(14) الدعاء على وجه التجربة والاختبار لله تعالى:
(15) أن يكون غرض الداعي فاسدًا:
(16) أن يعتمد العبد على غيره في الدعاء:
ْ (17) اِسْتِبْدَالِ لَفْظٍ وَارِدٍ (مَأثُور) بِغَيْرِهِ:
(18) اَلتَّغَنِي وَاَلتَّمْطِيطِ (تَحْرِيرُ النَّغَمِ):
(19) اَلتَّفْصِيلُ في اَلْدُّعَاءِ (كَثْرَةُ اَلألْفَاظِ):
(20) تَكَلُّفُ اَلْسَّجْعِ وَاَلإعْرَابِ:
(21) اَلنَّهْيُ عَنْ تَكَلِّفِ الإعْرَابِ:
(22) رَفْعُ اَلْصَّوْتِ فَوْقَ اَلْحَاجَةِ وَاَلْنَّوْحُ وَاَلبُكَاءُ:
(23) كثرة اللحن: خصوصًا إذا كان يحيل المعنى، أو كان ناتجًا عن قلة مبالاة، أو كان ناتجًا من إمام يُؤَمِّنُ الناس خلفه.
(24) قلة الاهتمام باختيار الاسم المناسب أو الصفة المناسبة:
(25) اليأس أو قلة اليقين من إجابة الدعاء:
(26) أن يفصل الداعي تفصيلاً لا لزوم له:
(27) دعاء الله بأسماء لم ترد في الكتاب والسنة:
(28) المبالغة في رفع الصوت:
(29) الدعاء بـ: اللهم إني لا أسألك رد القضاء، ولكن أسألك اللطف فيه:
(30) تعليق الدعاء على المشيئة:
(31) الإدلال على الله وترك التضرع:
(32) تصنع البكاء ورفع الصوت بذلك:
(33) تركُ الإمامِ رفعَ يديه إذا استسقى في خطبة الجمعة:
(34) الإطالة بالدعاء حال القنوت، والدعاء بما لا يناسب المقصود فيه:
(35) أن يكون الدعاء فيه طلب يناقض حكمة الله تعالى:
(36) أن يكون الدعاء مشتملاً على مناقضة شرع أمر الله به:
(37) أن يكون الدعاء محتوياً مسألة لا يليق طلبها:
(ثانياً صور الاعتداء في الدعاء اَلْمَنْهِيُّ عَنْهَا تفصيلا:
(1) أن يشتمل الدعاء على شيء من التوسلات الشركية:
كأن يُدعى غير الله _ تبارك وتعالى _ من بشر، أو حجر، أو شجر، أو جن، أو غير ذلك، فهذا أقبح أنواع الاعتداء في الدعاء؛ لأن الدعاء عبادة، وصرفه لغير الله شرك، والشرك أعظم ذنب عصى الله به.
(2) أن يشتمل على شيء من التوسلات البدعية:(8/565)
كالتوسل بذات النبي"، أو بجاهه _ عليه الصلاة والسلام _، فهذا التوسل توسل بدعي، والدين مبناه على الاتباع لا الابتداع، والبدعة بريد الكفر. (1)
(3) تمني الموت وسؤال ذلك:
ومن مكروهات الدعاء تمني الموت، وهنا يتبين صدق المؤمن وثباته، من كذبه وضعف دينه، فبعض الناس ما إن تصيبه مصيبة، أو بلاء، إلا وتراه يسأل الله الموت، فلا يصبر ولا يحتسب، بل تراه جزعاً يريد الخروج من دوامة الابتلاء والفتنة، ولا ريب أن ذاك خطأ في الدعاء، بل لا بد من الصبر لتمحيص الذنوب والخطايا، ورفعة الدرجات، وهذا هو شأن المؤمن مع ربه جل وعز.
(لحديث أنس الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان لا بد متمنيا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي و توفني إذا كانت الوفاة خيرا لي.
[*] قال الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي في شرحه لهذا الحديث:
هذا نهي عن تمني الموت؛ للضر الذي ينزل بالعبد، من مرض، أو فقر، أو خوف، أو وقوع في شدة أو مهلكة أو نحوها من الأشياء؛ فإن في تمني الموت لذلك مفاسدَ منها: أنه يؤذن بالتسخط والتضجر من الحالة التي أصيب بها، وهو مأمور بالصبر، والقيام بوظيفته، والصبر ينافي ذلك.
ومنها أنه يضعف النفس، ويحدث الخور والكسل، ويوقع في اليأس.
والمطلوب من العبد مقاومة هذه الأمور، والسعي في إضعافها وتخفيفها بحسب اقتداره، وأن يكون معه من قوة القلب وقوة الطمع في زوال ما نزل به.
وذلك موجب لأمرين: اللطف الإلهي لمن أتى بالأسباب المأمور بها، والسعي النافع الذي يوجبه قوة القلب ورجاؤه.
ومنها أن تمني الموت جهل وحمق؛ فإنه لا يدري ما يكون بعد الموت؛ فربما كان كالمستجير من الضر إلى ما هو أفظع منه، من عذاب البرزخ وأهواله.
ومنها أن الموت يقطع على العبد الأعمال الصالحة التي هو بصدد فعلها، والقيامِ بها، وبقية عمر المؤمن لا قيمة له؛ فكيف يتمنى انقطاعَ عملٍ الذَّرَّةُ منه خير من الدنيا وما عليها؟!.
وخصّ من هذا العموم قيامه بالصبر على الضر الذي أصابه؛ فإن الله يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب. (2)
(4) الدعاء بتعجيل العقوبة:
__________
(1) انظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية، ص160 و 170.
(2) بهجة قلوب الأبرار للسعدي ص 251_252 شرح الحديث رقم 77.(8/566)
كأن يقول الإنسان: اللهم عجل عقوبتي في هذه الدنيا؛ لأدخل الجنة يوم القيامة، وأسلم من عذاب النار! فهذا خطأ، وأولى لهذا ثم أولى له أن يسأل الله السلامة في الدارين.
فلا يجوز له أن يدعو أن يعجل الله له العقوبة في الدنيا، ويعفو عنه يوم القيامة، هذا أمر لا يجوز، بل على العبد أن يسأل الله التوبة والمغفرة والرحمة وأن يتجاوز عنه، ويكفر عنه سيئاته، فالله تعالى غفور رحيم، يقبل توبة عبده وإنابته ورجوعه إليه.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاد رجلا من المسلمين قد خفت فصار مثل الفرخ فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه قال نعم كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبحان الله لا تطيقه أو لا تستطيعه أفلا قلت اللهم! < آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار >! قال فدعا الله له فشفاه.
[*] قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم:
في هذا الحدِيث: النَّهْي عَنْ الدُّعَاء بِتَعْجِيلِ الْعُقُوبَة، وَفِيهِ: فَضْل الدُّعَاء بِاَللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الآخِرَة حَسَنَة وَقِنَا عَذَاب النَّار، وَفِيهِ: جَوَاز التَّعَجُّب بِقَوْلِ: سُبْحَان اللَّه، وَفِيهِ: اِسْتِحْبَاب عِيَادَة الْمَرِيض وَالدُّعَاء لَهُ، وَفِيهِ: كَرَاهَة تَمَنِّي الْبَلاء لِئَلاَّ يَتَضَجَّر مِنْهُ وَيَسْخَطهُ، وَرُبَّمَا شَكَا (1)، وَأظْهَرُ الأقْوَال فِي تَفْسِير الْحَسَنَة فِي الدُّنْيَا أنَّهَا الْعِبَادَة وَالْعَافِيَة، وَفِي الآخِرَة الْجَنَّة وَالْمَغْفِرَة (2)
فالأصل الدعاء بالعافية في الدين والدنيا كما في الحديث الآتي:
(حديث ابن عمر في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) قال لم يكن رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الله يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح { ... اللهم إني أسألك العفو و العافية الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي و أهلي و مالي، اللهم استر عوراتي و آمن روعاتي و احفظني من بين يدي و من خلفي و عن يميني و عن شمالي و من فوقي و أعوذ بك أن اغتال من تحتي.
__________
(1) يعني شكَا الخالق عزَّ وجَلَّ إلى المخلوقين 0
(2) أنظر صحيح مسلم بشرح الإمام النووي حديث رقم: 4853 0(8/567)
(وفي الحديث أيْضًا فَائِدَةٌ هَامَةٍ وَجَلِيلَةٌ، وَهِيَ: أنَّ اَلْدُّعَاءَ اَلْمَشْرُوعَ إنَّمَا يَكُونُ فِيِ طَلَبِ اَلآخِرَةِ وَاَلْدُّنْيَا:
قال تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (البقرة /200، 201)
[*] قال الفَخْرُ الرَّازِي في تفسيره على الآية الكريمة: بَيَّنَ الله تعالى أن الذين يَدْعُونَ الله فريقان، أحدهما: يكون دُعَاؤهُمُ مَقْصُوراً على طَلَبِ الدُّنْيَا، والثاني: الذين يَجْمَعُونَ في الدُّعَاءِ بين طَلَبِ الدُّنْيَا وطَلَبِ الآخِرَةِ، وقد كان في التَّقْسِيمِ قِسْمٌ ثالث، وهو من يكون دُعَاؤهُ مَقْصُوراً على طَلَبِ الآخِرَةِ، واختلفوا في هذا القسم هل مَشْرُوعٌ أمْ لاَ؟ والأكثرون على أنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ 0
وتحدث د. مراد هوفمان عن التوازن الكامل والدقيق بين الجسد والروح في الإسلام فقال: ما الآخرة إلا جزاء العمل في الدُّنْياَ، ومن هنا جاء الاهتمام في الدُّنْياَ، فالقرآن يُلْهِمُ المسلم الدُّعَاءُ لِلْدُّنْياَ، وليس الآخرة فقط {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (1)
(5) الدعاء بما هو مستحيل، أو بما هو ممتنع عقلاً أو عادةً، أو شرعًا:
كأن يدعو بأن يخلد في الدنيا، أو أن يعطى النبوة، أو ألا يقيم الله الساعة، أو ألا يمر الناس على الصراط، أو أن يسأل الله أن يحيي الموتى، أو أن يسأل رؤية الله في الدنيا، أو أن ترفع عنه لوازم البشرية، فيستغني عن الطعام والشراب، والنَّفَس، أو أن يطلب الولد دون زواج أو تسَرٍّ، أو يسأل الثمر دون زرع أو حراثة، أو أن يعطى جبلاً من ذهب، أو أن يكون متواجدًا في مكانين في آن واحد، وهكذا دواليك ...
(6) الدعاء بأمر قد فرغ منه:
وهذا قريب مما قبله، فهذا الدعاء من باب تحصيل الحاصل؛ فالشيء إذا فرغ منه لم يتعلق بالدعاء فيه فائدة.
كمن يسأل الله ألا تهلك هذه الأمة بسنة بعامة، وألا يسلط الله عليها عدوًّا من سوى أنفسها فيستبيح بيضتها، فهذان أمران دعا بهما النبي"وأجيبت دعوته. (2)
__________
(1) أنظر كتاب الإسلام كبديل لمراد هوفمان، ص 55 وما بعدها 0
(2) انظر صحيح مسلم (2889).(8/568)
ومن ذلك أن يدعو ألا يدخل الكفار الجنة إن ماتوا على كفرهم، أو أن يدخلوا النار، أو أن يخلدوا فيها، أو بألا يخلد المؤمن في النار، فالدعاء بمثل هذه الأمور وما شاكلها _ تحصيل حاصل؛ لأنه دعاء بأمور قد فرغ منها.
(7) أن يدعو بما دل الشرع على عدم وقوعه:
كأن يدعو على مسلم ألا يدخل الجنة، أو أن يدعو لكافر بدخول الجنة بعد أن مات على الكفر.
(8) الدعاء على الأهل والأموال والنفس:
(حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم؛ لا توافقوا من الله ساعةً يُسأل فيها عطاءً فيستجيب لكم.
[*] قال في عون المعبود:
" ((لا تدعوا)) أي دعاء سوء ((على أنفسكم)) أي بالهلاك، ومثله ((ولا تدعوا على أولادكم)) أي بالعمى ونحوه، ((ولا تدعوا على أموالكم)) أي من العبيد والإماء بالموت وغيره، ((لا توافقوا)) نهي للداعي، وعلة النهي أي لا تدعوا على من ذكر لئلا توافقوا ((من الله ساعة نيل)) أي عطاء ((فيها عطاء فيستجيب لكم)) أي لئلا تصادفوا ساعة إجابة ونيل فتستجاب دعوتكم السوء" - (1).
(9) كأن يدعو على شخص أن يكون مدمنًا للخمر، أو أن يميته الله كافرًا، أو أن يبتلى بالزنا أو غير ذلك، أو أن يدعو الله أن ييسر له الفساد والفجور.
(10) الدعاء بقطيعة الرحم:
كأن يقول: اللهم فرق بين فلان وأمه، أو أقاربه أو زوجته، أو يقول: اللهم فرق شمل المسلمين، وخالف بين كلمتهم.
(11) الدعاء بانتشار المعاصي:
كما تفعل الرافضة؛ فهم يدعون، ويتمنون أن ينتشر الفساد، وتكثر المعاصي في الأرض؛ حتى يخرج المهدي _ بزعمهم _ فيملأ الأرض عدلاً وقسطًا كما ملئت جورًا وظلمًا!.
(12) تحجير الرحمة:
وقد مر بنا قريبًا، كحال من يقول: اللهم أنزل الغيث على بلادنا فحسب، أو اللهم اشفني وحدي ووفقني، وارزقني وحدي، أو نحو ذلك.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاة وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً. فلما سلم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للأعرابي: (لقد حجرت واسعاً). يريد رحمة الله.
(13) ترك الأدب في الدعاء:
__________
(1) - عون المعبود (2/ 274 - 275(8/569)
وذلك بأن يدعو بما لا يليق، وبما ينافي الأدب مع الله _ عز وجل _ كأن يقول: اللهم يا خالق الحيَّات، والعقارب، والحمير، ونحو ذلك.
[*] قال الخطابي:
ولا يحسن أن يقال: يا ربَّ الكلاب، ويا ربَّ القردة والخنازير ونحوها من سفل الحيوان، وحشرات الأرض، وإن كانت جميع المكَوَّنات إليه من جهة الخلق لها، والقدرة عليها شاملة لجميع أصنافها. (1)
ولهذا فاللائق بالعبد حال دعائه لربه أن يتأدب غاية ما يمكنه، وأن يتجنب كل ما ينافي كمال الأدب؛ ذلك أن مقامه بين يدي ربه مقام ذلة وخضوع؛ فلا يليق به إلا كمال الأدب.
[*] قال الخطابي:
ولو تقدم بعض خدم ملوك أهل الدنيا إلى صاحبه ورئيسه في حاجة يرفعها إليه، أو معونة يطلبها منه _ لَتَخَيَّر له محاسن الكلام، ولَتَخَلَّص إليه بأجود ما يقدر عليه من البيان.
ولئن لم يستعمل هذا المذهب في مخاطبته إياه، ولم يسلك هذه الطريقة فيها معه _ أوشك أن ينبو سمعُه عن كلامه، وألا يحظى بطائل من حاجته عنده.
فما ظنك برب العزة _ سبحانه _ وبمقام عبده الذليل بين يديه، ومن عسى أن يبلغ بجهد بيانه كُنْهَ الثناء عليه؟!.
وهكذا رسوله وصفيه"قد أظهر العجز، والانقطاع دونه، فقال في مناجاته: وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
فسبحان من جعل عجز العاجزين عن شكره والثناء عليه شكرًا لهم. (2)
(14) الدعاء على وجه التجربة والاختبار لله تعالى: كأن يقول: سأجرب وأدعو؛ لأرى أيستجاب لي أم لا!.
(15) أن يكون غرض الداعي فاسدًا: كأن يسأل الله أن يرزقه مالاً؛ ليتكثر به ويفتخر على الناس، أو ليستعين به على المعاصي، أو أن يسأل الله ملكًا أو سلطانًا؛ ليحارب من خلاله أولياء الله، ويتسلط عليهم.
(16) أن يعتمد العبد على غيره في الدعاء: فتجد من الناس من لا يدعو الله بنفسه؛ بحجة أنه مذنب، فتجده دائمًا يطلب من العلماء، والعباد، والصالحين أن يدعوا له.
ْ (17) اِسْتِبْدَالِ لَفْظٍ وَارِدٍ (مَأثُور) بِغَيْرِهِ:
__________
(1) شأن الدعاء ص153.
(2) شأن الدعاء ص 15_16.(8/570)
(حديث البراء رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوئك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل: اللهم إني أسلمت نفسي إليك وألجأت ظهري إليك وفوضتُ أمري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تتكلمُ به.
[*] قال ابن حجر في فتح الباري بشرح صحيح البخاري:
الْحِكْمَة فِي رَدِّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى من قال (الرَّسُول) بَدَل (النَّبِيِّ) أنَّ ألْفَاظ الأذْكَار تَوْقِيفِيَّة، وَلَهَا خَصَائِص وَأسْرَار لا يَدْخُلهَا الْقِيَاس فَتَجِب الْمُحَافَظَة عَلَى اللَّفْظ الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ (1)
[*] ونقل الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم (2) عن مجموعة من العلماء أنَّ سَبَب الإِنْكَار (3) أنَّ هَذَا ذِكْر وَدُعَاء، فَيَنْبَغِي فِيهِ الاقْتِصَار عَلَى اللَّفْظ الْوَارِد بِحُرُوفِهِ، وَقَدْ يَتَعَلَّق الْجَزَاء بِتِلْكَ الْحُرُوف، وَلَعَلَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْكَلِمَات، فَيَتَعَيَّن أدَاؤُهَا بِحُرُوفِهَا، ثم قال: وهذا القول حَسَن 0
__________
(1) أنظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري حديث رقم: 5836 0
(2) أنظر صحيح مسلم بشرح الإمام النووي حديث رقم: 4884 0
(3) أي إنكار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الصحابي رضي الله عنه عندما استبدل لفظة " نبيك " بلفظة رسولك 0(8/571)
(وعليه نعلم جَلِيًّا خطأ من يَزَيِدُ أو يُنْقِصَ في الأدعية المأثورة، مع الاحتفاظ بصحة المعنى، فهو مَنْهِيٌّ عنه، وأقَلُّ ما فيه أنه يُفَوِّتَ على الدَّاعِي تَحْصِيلُ أجْرِ وثواب الاِتباع في الدُّعَاءِ، فمثلاً دُعَاءُ القُنُوتِ في صلاة الوتر الذي علّمه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما هو: " اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ" (1)، فعندما يدعوا إمام في صلاة الوتر قائلاً: اللهم اهدني يا مولاي فيمن هديت، ويأتي آخر فيقول: اللهم اهدني يا مولاي بفضلك فيمن هديت، وثالث فيقول: اللهم اهدني يا مولاي بفضلك ومنّك وكرمك فيمن هديت و000، نقول له قف! لقد اِعْتَدَيْتَ وتَجَاوَزْتَ الدُّعَاءَ المأثور بإضافتك لألفاظ من عندك حَتْمًا هي ليست بأفضل وأكمل مما قاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي علّم أمته في شخص الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما دعاء كاملاً لا ينقصه شيء، ومن هنا يتضح وضوحاً جلياً أن «اتباع السنة أولى من كثرة العمل»
(ثم إن الالتزام بالدُّعَاءِ المأثور فيه الجمع بين فضيلتين: فَضِيلَةُ الدُّعَاءِ، وفَضِيلَةُ اِتْبَاعِ السُّنَّةِ المُطَهَرَةِ، مِمَّا يَجْعَلُ الدُّعَاءَ أقْرَبُ مِنِ القَبُولِ وأدُعَى للإجَابَةِ 0
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
__________
(1) الحديث رواه أبو داود (أنظر صحيح أبو داود: 1263) ونصه: عن أبي الحوراء قال: قال الحسن بن علي رضي الله عنهما: علمني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلمات أقولهن في الوتر: " اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت"، وقال الترمذي: لانعرف عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القنوت في الوتر شيئاً أحسن من هذا 0(8/572)
المَشْرُوعُ للإنسان أن يدعو بالأدعية المأثورة؛ فإن الدُّعَاءَ من أفضل العبادات، وقد نَهَانَا الله عن الاِعْتِدَاءِ فيه، فينبغي لنا أن نَتَبِعَ ما شُرِّعَ وسُنَّ، كما أنه ينبغي لنا ذلك في غيره من العبادات، والذي يَعْدِلُ عن الدُّعَاءِ المُشْرُوعِ إلى غيره، الأحْسَنُ له أن لا يَفُوتَهُ الأكْمَلُ والأفْضَلُ، وهي الأدْعِيَةِ النَّبَوِيَّةِ، فإنَّها أفْضَلُ وأكْمَلُ باتفاق المسلمين من الأدعية التي ليست كذلك وإن قالها بعض الشيوخ، فكيف وقد يكون في عَيْنِ الأدعية ما هو خطأ أو إثم أو غير ذلك؟!
ومن أشَدِّ الناس عَيْباً من يَتَّخِذُ حِزْباَ ليس بمأثور عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَدَعُ الأحزاب النَّبَوِيَّة التي كان يقولها سَيُّدُ بَنِي آدَمَ وإمَامُ الخَلْقِ وحُجَّةُ الله على عباده (1)
[*] لذا شَدَّدَ الإمام أحمد على من يزيد في ألفاظ القنوت ولو حرفاً واحداً فقال: وقد كان المسلمون يُصَلُّونَ خلف من يَقْنُتُ وخلف من لا يَقْنُتُ، فإذا زَادَ في القُنُوتُ حَرْفاً 00 فإن كنت في الصلاة فاقطعها (2)
وكذلك في الدُّعَاءِ المشهور الذي علّمه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للسيدة عائشة رضي الله عنها لكي تدعو به إذا وافقت ليلة القدر " اللَّهُمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي " (3)، فيأتي أحدهم ويدعوا قائلاً: اللهم إنك عَفُوٌ غَفُورٌ تحب العفو فاعف عني، وثاني فيقول: اللهم إنك عفو غفور شكور تحب العفو فاعف عني، وثالث يدعوا فيقول: اللهم إنك عفو غفور شكور جواد رحيم تحب العفو فاعف عني و000، لا شك أن هذا تَعَدِّي مَنْهِيٌ عنه،
(والتَّعَدِّي يعني: تَجَاوُزُ مَا يَنْبَغِي أنْ يُقْتَصَرَ عَلَيْهِ (4)، فهذا التَّعْدِي يمنع أجر وفضيلة الاتباع عند الدُّعَاءِ المأثور عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل وربما يمنع قَبُوَل الدُّعَاءِ كما أسلفنا 0
__________
(1) أنظر مجموع الفتاوى، ج 22، ص 308 0
(2) أنظر رسالة الصلاة لابن القيم ص 171 0 (نقلا عن كتاب الدعاء لجيلان العروسي ص 584)، وتصفح موقع: arabic.islamicweb.com/Books على الشبكة العنكبوتية 0
(3) أنظر صحيح ابن ماجه رقم: 3105، وورد في سنن الترمذي: " اللَّهُمَّ إنَّكَ عُفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي " بزيادة لفظة " كريم " 0
(4) أنظر معجم مقاييس اللغة ج 4، ص 349 (نقلا عن كتاب الدعاء لجيلان العروسي ص 173)(8/573)
فجاهد نفسك أن تتعلم وتحفظ الأدعية المأثورة بِنَصِّهَا، حتى تَدْعُوا بها كاملة كما وردت دون نقص فيها ولا زيادة، فتنال فضيلة الدُّعَاءِ والاِتِّباَعِ 0
(18) اَلتَّغَنِي وَاَلتَّمْطِيطِ (تَحْرِيرُ النَّغَمِ):
[*] قال المناوي (1):
قال الكمال ابن الهمام: ما تعارفه الناس في هذه الأزمان من التَّمْطِيطِ، والمبالغة في الصِّيَاحِ، والاشتغال بِتَحْرِيرَاتِ النَّغَمِ إظهاراً للصناعة النَّغَمِيَةِ، لا إقَامَةً لِلْعُبُودِيَّةِ، فإنه لا يَقْتَضِي الإجابة، بل هو من مُقْتَضَيَاتِ اَلْرَدِّ، وهذا معلوم إن كان قَصْدُهُ إعْجَابُ الناس به، فكأنه قال إعْجَبُوا مِنْ حُسْنِ صَوْتِي وتَحْرِيرِي، ولا أرى تَحْرِيرَ النَّغَمِ في الدُّعَاءِ كما يفعله القرّاء في هذا الزمان يصدر ممن يفهم معنى الدُّعَاء والسؤال إذ مقام طلب الحاجة: التَّضَرُّع، لا التَّغَنِي، فاستبان أن ذاك ـ أي التَّغَنِي والتَّمْطِيطُ ـ من مقتضيات اَلْخَيْبَةِ واَلْحِرْمَانِ0أ0هـ
وللأسف احترف بعض الأئمة اَلتَّغَنِي وَاَلتَّمْطِيطِ في الدُّعَاءِ، حتى أنه يَهْتَمُّ بالدُّعَاءِ أكثر من اهتمامه بقراءة القرآن في الصلاة، فتراه يُفْرِغَ جُهْدَهُ في اَلتَّغَنِي بالدُّعَاءِ وتحسين صوته وتَمْطِيطِ الكلام، وربما أجرى على الدُّعَاءِ أحكام تلاوة القرآن الكريم من مَدٍّ وإخْفَاءٍ وإدْغَامٍ، كل هذا لِيَسْتَدِرَّ دموع المصلين ويُرْضِي نفسه بأنه استطاع أن يَصِلَ بهم إلى مرحلة الخشوع وذرف الدموع0
فالتَّغَنِي وتَحُسِينِ الصَّوْتِ هو من خصائص القرآن الكريم، أمَّا الدَّعَاء فالمشروع فيه أن يكون على السَّجِيِةِ بلا تَكَلُّفٍ ولا تَغَنِي0
(19) اَلتَّفْصِيلُ في اَلْدُّعَاءِ (كَثْرَةُ اَلألْفَاظِ):
__________
(1) أنظر فيض القدير حديث رقم: 316، ج1، ص 291 0(8/574)
(حديث أبي نَعَامَةَ الثابت في صحيح أبي داود) عن ابن لِسَعْدٍ أنه قال: سَمِعَنِي أبِي وَأنَا أقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا وَبَهْجَتَهَا وَكَذَا وَكَذَا وَأعُوذُ بِكَ مِنْ النَّارِ وَسَلاسِلِهَا وَأغْلالِهَا وَكَذَا وَكَذَا فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ " فَإِيَّاكَ أنْ تَكُونَ مِنْهُمْ، إنَّكَ إِنْ أعْطِيتَ الْجَنَّةَ أعْطِيتَهَا وَمَا فِيهَا مِنْ الْخَيْرِ، وَإنْ أعِذْتَ مِنْ النَّارِ أعِذْتَ مِنْهَا وَمَا فِيهَا مِنْ الشَّرِّ.
[*] قال ابن تيمية (1):
الدُّعَاءُ ليس كُلُّهُ جائزاً، بل فيه عُدْوَانٌ مُحَرَّم، والمَشْرُوعُ (2) لا عُدْوَانَ فيه، وأن العُدْوَانَ يَكُونُ تَارَة ًبِكَثْرَةِ الألْفَاظِ، وتَارَةً في المَعَانِي، كما فَسَّرَ الصحابة ذلك 000 ثم أورد الأحاديث المذكورة سابقاً 0
(حديث عائشة في صحيح أبي داود) قالت كان رسول الله يستحب الجوامع من الدعاء وَيَدَعُ ما سوى ذلك.
[*] قال في عون المعبود بشرح سنن أبي داود:
الْجَامِعَة لِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَة وَهِيَ مَا كَانَ لَفْظه قَلِيلاً وَمَعْنَاهُ كَثِيرًا، كما في قوله تعالى {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الآخِرَة حَسَنَة وَقِنَا عَذَاب النَّار} ومِثل الدُّعَاء بِالْعَافِيَةِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة (3)
(فمن صور الاعتداء تَكْثِيرُ الكلام الذي لا دَاعِيَّ له ولا حاجة إليه، والتَّكَلِِّفِ في ذِكْرِ التَّفَاصِيلِ، كأن يدعو ربَّهُ أن يرحمه إذا وُضِعَ في اللحد تحت التراب والثرى، وكذلك أن يرحمه إذا سالت العيون وبليت اللحوم، وأن يرحمه إذا تركه الأصحاب وتولى عنه الأهل والأحباب (4)، أو يدعو على عدوه أن يُخْرِسَ الله لسانه ويُشِلَّ يده، ويُجَمِدَ الدَّمَ في عُرُوقِه000 0
__________
(1) الفتاوى، ج 22، ص 277 0
(2) أي الوارد في القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبوية المطهرة 0
(3) يشير إلى الحديث الشريف: " اسألوا الله العفو والعافية فإن أحدا لم يُعْطَ بعد اليقين خيرا من العافية ... "0 (رواه الترمذي، أنظر صحيح الترمذي رقم 2821) والعفو معناه التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه، والعافية: أن تسلم من الأسقام والبلايا وهو ضد المرض0
(4) ويكفيه أن يدعوا بالرَّحمة عند الممات 0(8/575)
ومما لا شك فيه أن النتيجة الطبيعية لهذا الاعتداء هو إصابة اَلْمُصَلِينَ بِاَلْمَلَلِ، والملل يُذْهِِبُ التَّدَبُرَ والخُشُوعِ ويُوِديِ بِاَلْمُصَلِي إلى الغَفْلَةِ، وهي حالة مَنْهِيٌّ عنها إذ لا تتناسب ومقام التَّذَلُّلِ والطَّلَبِ من الله تعالى اَلْمُطَّّلِعِ على أحوال النُّفُوسِ وما تُكِنُّهُ الصُّدُورِ 0
فَاَلإطَالَةِ اَلْمُمِلَّةِ تُرْهِقُ اَلْمُصَلِي وَتُصِيبُهُ بَاَلْمَلَلِ وَاَلْغَفْلَةِ، وَقَدْ وَرَدَ نَهْيُ اَلْغَافِلَةُ قُلُوبُهُمُ عَنْ اَلْدُّعَاءِ:
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ادعوا الله و أنتم موقنون بالإجابة و اعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلبٍ غافلٍ لاه.
[*] قال الإمام المناوي (1):
أي لا يَعْبَأ ـ سبحانه ـ بسؤال سائلٍ غَافِلٍٍ عن الحضور مع مولاه، مَشْغُوفٌ بما أهَمَّهُ من دُنْيَاهُ 000والتَّيَقُظُ والجَدُّ في الدُّعَاءِ من أعظم آدابه، ثم نقل عن الفخر الرازي أنه قال: أجمعت الأمَّةُ على أن الدُّعَاءَ اَلْلِسَانِيّ الخَالِي عَنْ الطَّلَبِ النَّفْسَانِي قَلِيلُ النَّفْعِ عَدِيمُ الأثَرِ 0
[*] وقال النووي (2):
اعلم أن مقصود الدُّعَاء هو حضور القلب، والدلائل عليه أكثر من أن تُحْصَرَ والعلم به أوضح من أن يُذْكَرَ0
[*] وقال البيهقي في شُعَبِ الإيمان:
أنَّ الدُّعَاءَ له أركان منها أن يَسْألَ مَا يَسْألَ بِجِدٍ وحَقِيَقةٍ، ولا يأخذ دُعَاءً مُؤلَفاً يَسْرُدُهُ سَرْداً وهو عن حَقَائِقِهِ غَافِلٌ (3)
وأورد في الشُّعَبِ عن أبي بكر الشَّلَبي أنه قال في قوله عَزَّ وَجَلَّ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ} (60 ـ غافر) قال: اُدْعُونِي بِلاَ غَفْلَةٍ أسْتَجِبْ لَكُمُ بِلاَ مُهْلَةٍ (4)
[*] وقال ابن رجب الحنبلي (5):
الدُّعَاءُ سَبَبٌ مُقْتَضٍٍ للإجابة مع استكمال شرائطه وانتفاء موانعه، وقد تَتَخَلَّف إجابته لانتفاء بعض شروطه أو وجود بعض موانعه، ومن أعظم شرائطه حضور القلب، ورجاء الإجابة من الله تعالى 0 أ 0 هـ 0
__________
(1) أنظر فيض القدير حديث رقم: 316، ج1، ص 291 0
(2) أنظر الأذكار ص 561، طبعة دار الفكر 1403هـ 0
(3) أنظر شعب الإيمان، ج 2، ص 44 0
(4) المصدر السابق ص 54 0
(5) جامع العلوم والحكم، ج 2، ص 402 0(8/576)
ولا شك أن الإطْنَابَ والاسْتِرْسَالَ في الدُّعَاءِ يُصِيبَانِ المُصَلِّي بالمَلَلِ ويُذْهِبَانِ اَلْخُشُوعَ ويجعلان هَمَّ المُصَلِي وجُلَّ تفكيره لا التَّدَبُرِ والتَّفَكُرِ في معاني الدُّعَاء بل متى سينتهي الإمام من الدُّعَاء0
ولطالما أوصى العلماء والفقهاء بعدم الإطالة المملة في دُعَاءِ القنوت حتى لا يُصَابَ المُصَلِي بالسَّأمِ والمَلَلِ، جاء عن الإمام مالك أنه قال: لَعْنُ الْكَفَرَةَ فِي رَمَضَانَ إذَا أوْتَرَ النَّاسُ فَصَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَامَ بِهِ الثَّالِثَةَ فَرَكَعَ فَإذَا رَفَعَ رَأسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَقَفَ يَدْعُو عَلَى الْكَفَرَةِ وَيَلْعَنُهُمْ وَيَسْتَنْصِرُ لِلْمُسْلِمِينَ وَيَدْعُو، قَالَ وَكُلُّ ذَلِكَ شَيْءٌ خَفِيفٌ غَيْرُ كَثِيرٍ (1)
[*] ومن وصايا الشيخ عبد العزيز بن باز قال:
الأفضل للإمام في دُعَاءِ القُنُوتِ تحري الكلمات الجامعة وعدم التَّطْوِيلِ على النَّاس، ويقرأ: اللهم اهدنا فيمن هديت الذي ورد في حديث الحسن في القنوت ويزيد معه ما يتيسر من الدَّعَوَاتِ الطَّيِبَةِ كما زاد عُمر، ولا يَتَكَلَّفُ ولا يُطَوِّلُ عَلَى النَّاسِ ولا يَشُقَ عليهم (2)
(والمُتَأمِلُ في هَدْيِهِ وسُنَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حال الدُّعَاءِ يعلم جلياً أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يُطِيلُ ويُكْثِرُ من الألفاظ والكلام في الدُّعَاءِ، فعندما سألته أحَبُّ الناس إليه السيدة عائشة رضي الله عنها أن يُعَلِّمَهَا دُعَاءً تدعوا به إذا وافَقَتْ ليلة القدر فعلمها دُعَاءً خفيفا قليلاً في ألفاظه كثيرا عظيما في معانيه "اللَّهُمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي "، فَلْنَتَعَلَّمَ هَدْيَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حال الدُّعَاءِ، فكلمات مأثورة قليلة خير من جُمَلٍ وعِبَارَاتٍ مُخْتَرَعَةٍ طَوِيلَةٍ مُمِلَّةٍ0
[*] قال ابن قُدَامَة اَلْمَقْدِسِيُّ:
في اِتْبَاعِ السُّنَّةِ بَرَكَةُ مُوَافَقَةُ الشَّرْعِ، وَرِضَى الرَّبِّ سبحانه، وَرَفْعُ الدَّرَجَاتِ، وَرَاحَةُ القَلْبِ، ودَعَةُ البَدَنِ، وتَرْغِيمُ الشَّيْطَانِ، وسُلُوكُ الصِّراطُ المُسْتَقِيمِ (3)
(اِنْتَبه: لَيْسَ مَنَ الاِعْتِدَاء:
__________
(1) أنظر المنتقى شرح موطأ مالك رقم: 234 0
(2) المرجع: فتاوى التراويح عبر موقع www.al-islam.com على الشبكة العنكبوتية 0
(3) أنظر كتاب ذمّ الموسوسين ص 41 0(8/577)
[*] قال الخطَّابي (1):
ليس معنى الاعتداء الإكثار من الدعاء.
(حديث عائشة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا سأل أحدكم فليكثر فإنما يسأل ربه.
(20) تَكَلُّفُ اَلْسَّجْعِ وَاَلإعْرَابِ:
السَّجْعُ هو: الكلام اَلْمُسْتَوِي على نَسَقٍ وَاحِدٍ (2)، وهو مَكْرُوهٌ في الدُّعَاءِ إنْ تَعَمَّدَهُ وتَكَلَّفَهُ الدَّاعِي لأنه يُشْغِلُ عَقْلَهُ ويُشَتِّتُ قَلْبَهُ عن التَّدَبُرِ والتَّفَكُرِ، وقد عَنْوَنَ البخاري في صحيحه (3) فقال: ما يُكْرَهُ من السَّجْعِ في الدُّعَاءِ، ثم أورد الخبر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: 000 فانظر السَّجْعَ من الدُّعَاءِ فَاجُتَنِبْهُ فإني عَهِدُتُ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك، يعني لا يفعلون إلا ذلك الاجُتَنَاب 0
[*] قال ابن حجر في فتح الباري بشرح صحيح البخاري:
(وانظر السَّجْعَ مِنَ الدُّعَاءِ فَاجْتَنِبْهُ) أي: لا تَقْصِدَ إليه ولا تُشْغل فِكْرَكَ به لما فيه من التَّكَلُّفِ المانع للخشوع المطلوب في الدُّعَاءِ، و قوله (لا يفعلون إلا ذلك): أي تَرْكُ السَّجْعِ0
ثم نقل عن الإمام الغزالي أنه قال:
المكروه من السَّجْعِ هو اَلْمُتَكَلَّف لأنه لا يلائم الضَّراعة والذِلَّة، وإلاَّ ففي الأدعية المأثورة كلمات متوازية لكنها غير مُتَكَلَّفَة 0
ونقل في عون المعبود شرح سنن أبي داود:
عن الغزالي في الإحياء أنه قال: إن المراد بالاعتداء أن يَتَكَلَّفَ السَّجْعَ في الدُّعَاءِ 0
[*] وقال الإمام النووي في كتابه الأذكار في باب آداب الدعاء:
أن لا يَتَكلَّفَ السَّجْعَ وقد فُسِّر به الاعتداء في الدُّعَاءِ، والأولى أن يقتصر على الدعوات المأثورة، فما كل أحد يُحْسِنُ الدُّعَاء فيُخَافُ عليه الاعتداء، ثم قال: وقال بعضهم: اُدْعُ بِلَسَانِ الذِلَّةِ والافْتِقَارِ، لا بلسان الفصاحة والانطلاق0
[*] وأورد الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم:
__________
(1) أنظر كتاب: سلاح المؤمن في الدعاء ج1، ص 148 0
(2) انظر لسان العرب ج 2، ص 101، مادة: سجع 0
(3) انظر حديث رقم: 5862 0(8/578)
أن السَّجْعَ المذموم في الدُّعَاءِ هو اَلْمُتَكَلَّفُ، فإنه يُذهب الخشوع والخضوع والإخلاص، ويُلْهِي عن الضَّراعة والافْتِقَارِ وفراغ القلب، فأمَّا ما حصل بلا تَكَلِّف ولا إعْمَالِ فِكْرٍ لِكَمَالِ الفَصَاحَةِ ونحو ذلك، أو كان محفوظا فلا بأس به، بل هو حَسَنٌ (1)
(21) اَلنَّهْيُ عَنْ تَكَلِّفِ الإعْرَابِ:
ومثل النهي عن تَكَلُّفِ السَّجْعِ، مَنْهِيٌ عن تَكَلِّفِ الإعراب في الدُّعَاءِ لأنَّهما يَصْرِفَانِ القلب عن الخشوع،
[*] قال ابن تيمية:
ينبغي للدَّاعِي إذا لم تكن عادته الإعراب ألاَّ يِتِكِلَّفَ الإعراب، قال بعض السلف: إذا جاء الإعراب ذهب الخشوع، وهذا كما يُكره تَكَلُّف السَّجْعِ في الدُّعَاءِ، فإذا وقع بغير تَكَلُّفٍ فلا بأس به، فإن أصل الدُّعَاء من القلب، واللسان تابع للقلب، ومن جعل هِمَتُهُ في الدُّعَاءِ تَقْوِيمَ لِسَانِهِ، أضْعَفَ تَوَجُهَ قَلْبِهِ، ثم قال: والله ـ سبحانه ـ يَعْلَمُ قَصْدَ الدَّاعِيَ ومُرَادَهُ، وإن لم يُقوِّم لسانه، فإنه يعلم ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تنوع الحاجات (2)
(22) رَفْعُ اَلْصَّوْتِ فَوْقَ اَلْحَاجَةِ وَاَلْنَّوْحُ وَاَلبُكَاءُ:
[*] قال اِبْنُ حَجَرَ العَسْقَلاَنِيُّ (3):
الاِعْتِدَاءُ في الدُّعَاءِ يَقَعُ بزيادة الرَّفْعِ فَوْقَ الحَاجَةِ أو بِطَلَبِ ما يَسْتَحِيلُ حُصُولُهُ شَرْعاً أو بِطَلَبِ مَعْصِيَةٍ أو يدعو بما لم يَؤْثَرْ خصوصا ما وَرَدَتْ كَرَاهَتُهُ كالسَّجْعِ اَلْمُتَكَلَّفِ0
[*] وقال قَتَادَة (4):
إنَّ الله إنَّمَا يُتَقَرَّبُ إليه بطاعته، فما كان من دُعَائِكُمُ الله فَلْيَكُنْ في سَكِينَةٍ وَوَقَارٍ وَحُسْنِ سَمْتٍ وَهُدَيً وَحُسْنِ دَعَةٍ 0
[*] وعن الحسن (5) قال:
لقد كان المسلمون يَجْتَهِدُونَ في الدُّعَاءِ وما يُسْمَعُ لهم صَوْتٌ، إنْ كان إلا هَمْسًا بينهم وبين ربِّهِمُ، وذلك أن الله تعالى يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} وذلك أن الله تعالى ذَكَرَ عَبْداً صَالِحاً فَرَضِيَّ له قَوْلُهُ، فقال: {إذْ نَادَىَ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًا} (2 ـ مريم)
__________
(1) أنظر صحيح مسلم بشرح النووي، حديث رقم: 4899 0
(2) أنظر مجموع الفتاوى، ج 22، ص 287 0
(3) أنظر فتح الباري، ج 8، ص 198 0
(4) أنظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور (54 ـ 55 ـ الأعراف)
(5) أنظر تفسير ابن كثير على الآية (55 ـ الأعراف)(8/579)
[*] قال ابن مفلح: "يكره رفع الصوت بالدعاء مطلقا، قال المروزي سمعت أبا عبد الله يقول: ينبغي أن يسرَّ دعاءه لقوله تعالى: (وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً) [الإسراء /110]
[*] وعن ابن جريج (1) قال:
إن من الدُّعَاءِ اِعْتِدَاء، يُكره رفع الصوت والنداء والصياح بالدعاء، ويؤمر بالتضرع والاستكانة 0
[*] وعن زيد بن أسلم:
كان يَرَىَ أن الجَهْرَ بالدُّعَاءِ اِعْتِدَاءٌ (2)
[*] وعن سعيد بن جبير في قوله عَزَّ وَجَلَّ {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا} يعني: مُسْتَكِينًا، {وَخُفْيَةً} يعني: في خَفْضٍ وَسُكُونٍ في حاجاتكم من أمْرِ الدُّنيا والآخرة (3)
[*] وعن الأوزاعي قال:
ليس في القنوت رَفْعٌ، ويُكره رَفْعُ الأصوات في الدُّعَاءِ (4)
[*] وقيل للحسن البصري:
إنَّهم يَضُجُونُ في القنوت، فقال: أخطأوا السُّنَّة، كان عُمر يَقْنُتُ ويُؤَمِّنُ مَنْ خَلْفَهُ (5)
[*] وفي عون المعبود بشرح سنن أبي داود، قال:
المراد بالاعتداء فيه ـ أي الدُّعَاءُ ـ مُجَاوَزَةُ الحَدِّ، وقيل: الدُّعَاءُ بما لا يجوز ورفع الصوت به والصِّيَاحُ، وقيل: سؤال مَنَازِلَ الأنبياء عليهم السلام 0
[*] وقال النووي (6):
يُستحب أن يَخْفِضَ صوته بالدُّعَاءِ، ويُكْرَهُ الإفْرَاطُ في رَفْعِ الصَّوْتِ 0
ومثل رفع الصوت فوق الحاجة، البُّكَاءُ والصُّرِاخُ والعَوِيلُ كلُّ ذلك مِنْهِيٌّ عنه، فهو فضلاً عن أنه إزعاج وتشويش على الآخرين، فإنه يُنَافِي آداب التَّضَرُّعِ والسُّؤَالِ، فالأدب أن يَمْتَثِلَ الدَّاعِي لأمْرِ الله عِزَّ وَجِلَّ {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}، ولنا في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأسوة الحسنة فقد كان يُصَلِّي وَلِجَوْفِهِ أزِيزٌ كَأزِيزِ الْمِرْجَلِ يَعْنِي من البكاء.
(لحديث عبد الله بن الشخير الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال: أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي فسمعت لصدره أزيزاً كأزيز المرجل من البكاء.
وأزيز المرجل أي: صوت الماء عندما يَغْلِيِ في الإناء0
__________
(1) أنظر تفسير الطبري على الآية (55 ـ الأعراف)
(2) المرجع السابق 0
(3) المرجع السابق 0
(4) نقلا عن كتاب رهبان الليل د0 سيد العفّاني، ج 3، ص 239 0
(5) المرجع السابق، ج 3، ص 239 0
(6) أنظر المجموع للنووي، وهو يتحدث عن دُعَاءِ الحَاجِّ بعرفة، ج 8، ص 126 0(8/580)
فَنبينا محمد صَلَى الله عليه وسلم مع تدبره وخشوعه وبكاءه لم يَكُنْ يَرْفَعُ صوته ويُزْعِجُ أو يُشَوُشُ على أحد0
[*] قال في تفسير البحر المحيط (1):
قال العلماء: الاعتداء في الدعاء على وجوه منها الجَهْرُ الكثير والصِّياحُ 0
[*] وقال الشوكاني (2):
ومن الاعتداء في الدعاء أن يرفع صوته بالدعاء صارخاً به.
اَلْغَفْلَةُ عِنْدَ تِلاَوَةِ اَلْقُرْآنِ اَلْكَرِيمِ وَاَلتَّأثُّرِ عِنْدَ سَمِاعِ اَلْدُّعَاءِ:
قال تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله} (21ـ الحشر) قال الفخر الرازي: المعنى أنه لو جُعِلَ في الجبل عَقْلٌ كما جُعِلَ فيكم، ثم أنزل عليه القرآن لَخَشَعَ وَخَضَعَ وَتَشَقَقَ مِنْ خَشْيَةِ الله (3)
[*] وقال القرطبي في تفسيره:
حَثَّ تعالى على تأمل مواعظ القرآن وبين أنه لا عُذْرَ في ترك التَّدَبُر؛ فإنه لو خُوطِبَ بِهَذَا القرآن الجبال مع تركيب العقل فيها لانقادت لمواعظه، ولرأيتها على صلابتها ورزانتها خاشعة متصدعة؛ أي: مُتَشِقِقَة من خشية الله، والخاشع: الذليل، والمُتَّصَدِعِ: المُتَّشَقِقِ (4).
[*] وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
يقول تعالى: لو أني أنزلت هذا القرآن على جبل حملته إياه تصدع وخشع من ثقله ومن خشية الله، فأمر الله عز وجل الناس إذا أنزل عليهم القرآن أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع (5)
فالعَجَبُ كل العَجَبِ من مُصَلٍّ عظمة غفلته أثناء قراءة الإمام للقرآن الكريم، ومن فَلْتَتِهِ ويَقَظَتِهِ عندما يشرع الإمام في الدُّعَاء، فهل كلام البشر أشَّدُ أثراَ في نفسه من كلام الله تعالى؟!
[*] ومن فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز عندما سُئِلَ: من يبكي في الدُّعَاءِ ولا يبكي عند سماع كلام الله تعالى؟
__________
(1) أنظر تفسير البحر المحيط على الآية (55 ـ الأعراف)
(2) أنظر تفسير فتح القدير على الآية (55 ـ الأعراف)
(3) تفسير الرازي على الآية (21 ـ الحشر)
(4) تفسير القرطبي على الآية (21 ـ الحشر)
(5) تفسير الطبري على الآية (21 ـ الحشر)(8/581)
أجاب: هذا ليس باختياره فقد تتحرك نفسه في الدعاء ولا تتحرك في بعض الآيات، لكن ينبغي له أن يعالج نفسه ويخشع في قراءته أعظم مما يخشع في دعائه، لأن الخشوع في القراءة أهم، وإذا خشع في القراءة وفي الدعاء كان ذلك كله طيبا لأن الخشوع في الدعاء أيضا من أسباب الإجابة، لكن ينبغي أن تكون عنايته بالقراءة أكثر لأنه كلام الله فيه الهدى والنور (1)
(23) كثرة اللحن: خصوصًا إذا كان يحيل المعنى، أو كان ناتجًا عن قلة مبالاة، أو كان ناتجًا من إمام يُؤَمِّنُ الناس خلفه.
[*] قال الخطابي: ومما يجب أن يراعى في الأدعية الإعراب الذي هو عماد الكلام، وبه يستقيم المعنى، وبعدمه يختل ويفسد.
وربما انقلب المعنى باللحن حتى يصير كالكفر إن اعتقده صاحبه، كدعاء من دعا، أو قراءة من قرأ [إياك نعبد وإياك نستعين] بتخفيف الياء من إيَّاك؛ فإن الأيا ضياء الشمس، فيصير كأنه يقول: شمسك نعبد، وهذا كفر. (2)
وقال: وأخبرني أحمد بن أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل قال: حدثنا بن المرزبان عن الرَّياسيِّ قال: مَرَّ الأصمعي برجل يقول في دعائه: يا ذو الجلال والإكرام، فقال: ما اسمك؟ قال: ليث، فأنشأ يقول:
ينادي ربّه باللحن ليثٌ ... لذاك إذا دعاه لا يجيب (3)
والمقصود أن الإعراب مطلوب حال الدعاء _ كما مر _.
(أما إذا كان الإنسان غير قادر على الإعراب فلا شيء عليه؛ إذ لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
(24) قلة الاهتمام باختيار الاسم المناسب أو الصفة المناسبة:
فتجد بعض الداعين، أو كثيرًا منهم لا يهتم بهذا الأمر، فمن ذلك قول بعضهم: اللهم ارحمني يا شديد العقاب، أو اللهم عليك بالكفار يا أرحم الراحمين، أو نحو ذلك ...
(25) اليأس أو قلة اليقين من إجابة الدعاء:
فكثير من الناس إذا أصيب بمرض عضال يغلب على الظن أنه لا يبرأ، وأن المصاب به لا يشفى _ تجده يَدَعُ الدعاء، ويترك اللجوء إلى الله؛ ليأسه، وقلة يقينه بأن الله قادر على تبديل الحال.
__________
(1) المرجع: فتاوى التراويح عبر موقع www.al-islam.com على الشبكة العنكبوتية 0
(2) شأن الدعاء ص19.
(3) شأن الدعاء ص20.(8/582)
وربما ألقى الشيطان في رَوْعِه أن الدعاء لا داعي له في هذه الحالة، ولا فائدة وراءه حِيال هذا الأمر، كحال من يصاب بمرض السرطان _ عياذًا بالله _ فتجد تلك الحال تغلب عليه، بل ربما غلبي على أقاربه وذويه، فتراهم يتركون الدعاء لهذا المريض؛ بحجة أن هذه الحالة خطيرة، وأنها تنتهي بالوفاة في الأعم الأغلب؛ لذا لا فائدة من الدعاء لهذا المريض، ولا داعي له _ بزعمهم _!.
فهذا خطأ في باب الدعاء، وجهل بالله، وما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه.
فيا سبحانه الله! أما علم أولئك أن الله على كل شيء قدير؟ وأن أزمَّة الأمور بيده _ تبارك وتعالى _ وأنه يقول للشيء كن فيكون؟ وأن الذي كتب الضر قادر على كشفه؟
بل ما علموا أن الدعاء _ بحد ذاته _ عبادة عظمى؟ وأن انتظار الفرج من أجل العبادات؟ وأن الافتقار إلى الله واللجوء إليه عين الفلاح ورأس العز؟.
بل ما علموا أن الله قد يشفيه؟، أو يخفف عنه بعض ما يعانيه؟، أو يرزقه _ بفضل ذلك الدعاء _ من الثبات والطمأنينة والرضا ما لا يجده لو كان سليمًا معافى؟.
وكذلك الحال بالنسبة لبعض من يبتلى بالعقم، أو تأخر الإنجاب عنه، فمنهم من يرغب عن دعاء الله، وسؤاله الذرية الصالحة؛ بحجة أن الأمر قد كتب وقدر، فلا داعي للدعاء في ذلك الأمر، إذ لا فائدة من وراءه بزعمه!.
فهذا الكلام لا ينبغي أن يصدر من مسلم؛ فالله _ عزَّ وجل _ هو الذي قدر العقمَ وتَأَخُّرَ الإنجاب، وهو القادر على أن يمد الإنسان بالأولاد؛ فالأمر أمره، والقدر قدره، والكون كله ملك له؛ فكيف تيأس _ أيها المسلم _ من روح الله، أو تقنط من رحمته؟
(فهذا زكريا _ عليه السلام _ عندما قال: (رَبّ هَبْ لِي مِن لّدُنْكَ ذُرّيّةً طَيّبَةً إِنّكَ سَمِيعُ الدّعَآءِ) [آل عمران / 38]
(أجاب الله دعاءه،: (فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي فِي الْمِحْرَابِ أَنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَىَ مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مّنَ اللّهِ وَسَيّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مّنَ الصّالِحِينَ) [آل عمران / 39]
(كل ذلك مع أن زكريا قد بلغ من الكبر عتيًّا، وأن امرأته كانت عاقرًا!.
وقل مثل ذلك في شأن بعض الوالدين الذين يَدَعُون الدعاء لأولادهم؛ يأسًا من صلاحهم، وذلك إذا رأوا منهم تمردًا وتماديًا في الغواية والضلال.
فتجد هذا الوالد يقول:
أنا يئست من صلاح ولدي، وتركت الدعاء له!(8/583)
سبحان الله! أتيئس من روح الله؟ أم تحجر رحمة الله؟ أما علمت أن دعاء الوالد مستجاب، وأن الدعوة الصالحة قد تدركه ولو بعد حين، إما أن يكون ذلك في حياتك فترى صلاحه واستقامته، أو بعد مماتك وفراقك الدنيا، فتسعد ببركة دعائه.
ثم ماذا يضيرك من الدعاء؟
ثم إن الولد ولدك مهما كان، والعرب تقول: أنفك منك وإن ذَنَّ (1)، وعيص (2) منك وإن كان أشَبًا (3). (4)
وكذلك الحال بالنسبة لبعض المسلمين؛ فما أن يشاهد ما عليه المسلمون من التمزق، والتخلف والتفرق _ إلا ويدِب اليأس إلى قلبه، وإذا قيل له: ادع للمسلمين بأن يصلح الله أحوالهم، هز عطفيه، وأومأ برأسه موحيًا بأن لا أمل في الإصلاح؛ فلا داعي _ إذًا _ للدعاء.
كل ذلك خطأ، ومنافٍ للثقة بالله _ عز وجل _ والتصديق بوعده الصادق الذي لا يختلف.
(26) أن يفصل الداعي تفصيلاً لا لزوم له:
كما يقول بعض الناس: اللهم اغفر لآبائنا، وأمهاتنا، وأجدادنا، وجداتنا، وأخوالنا، وخالاتنا، وأعمامنا، وعماتنا، ثم يمضي في تعداد أقاربه، وينتقل بعد ذلك إلى الدعاء لجيرانه، وزملائه، وهكذا يستغرق وقتًا ليس باليسير في هذه التفاصيل.
وكان يغنيه أن يقول: اللهم اغفر لنا، ولإخواننا وأحبابنا، وأقاربنا، أو اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، ورحمةُ الله واسعة.
أما إذا لم يصل التفصيل إلى مبالغة وتطويل _ فلا بأس به؛ فقد ورد في السنة ما يدل على ذلك.
(27) دعاء الله بأسماء لم ترد في الكتاب والسنة:
كقول بعض الناس: يا سلطان، يا غفران، يا سبحان، يا برهان، ونحوها؛ فإنها ليست من أسماء الله _ تعالى _.
[*] قال الخطابي رحمه الله:
ومما يسمع على ألسنة العامة وكثير من القُصَّاص قولهم: يا سبحان، يا برهان، يا غفران، يا سلطان، وما أشبه ذلك.
وهذه الكلمات _ وإن كان يتوجه بعضها في العربية على إضمار النسبة بذي _ فإنه مستهجن، مهجور؛ لأنه لا قدوة فيه. (5)
وكذلك قول بعضهم: يا ربَّ القرآن.
[*] قال الخطابي رحمه الله: وأول من أنكر ابن عباس فإنه سمع رجلاً يقول عند الكعبة: يا ربَّ القرآن فقال: مَهْ! إن القرآن لا ربَّ له؛ إن كل مربوب مخلوق. (6)
(28) المبالغة في رفع الصوت:
__________
(1) ذن: سال مخاطه.
(2) عيصك: العيص الشجر الكثيف الملتف.
(3) أشبًا: الأشب شدة التفاف الشجر.
(4) عيون الأخبار، 3/ 89.
(5)، (2) شأن الدعاء ص17(8/584)
وهذا الأمر قد انتشر في زماننا هذا بخاصة، لوجود مكبرات الصوت، فربما سمعت الداعي إمامًا في شرق المدينة وأنت في غربها.
وهذا خطأ؛ إذ لا داعي للتزيد في رفع الصوت؛ فإنه اعتداء، وباب من أبواب الرياء؛ فالأولى بالداعي إذا كان إمامًا أن يرفع صوته بقدر ما يسمعه المصلون إذا كانوا يؤمنون وراءه.
أما إذا كان الداعي وحده _ فليكن دعاؤه سِرًّا.
(29) الدعاء بـ: اللهم إني لا أسألك رد القضاء، ولكن أسألك اللطف فيه:
فهذا الدعاء يكثر على الألسنة، وهو خطأ؛ ذلك لأنه شُرِع لنا أن نسأل الله رد القضاء،
(حديث سلمان في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لا يرد القضاء إلا الدعاء و لا يزيد في العمر إلا البر.
(وكل ما يصيب الإنسان من بلاء فهو من القضاء، فهل يستسلم الإنسان لذلك ويدع الدعاء، أم ينازع قدر الله بقدر الله؟.
بل إن الله _ عز وجل _ أمرنا بذلك كما في قوله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ * مِن شَرّ مَا خَلَقَ) [الفلق: 1، 2]
فالله _ عز وجل _ أمرنا في هذه السورة أن نستعيذ به من شرِّ ما خلق، وشرُّ ما خلق داخل في القضاء.
وكذلك في قوله _ تعالى (مِن شَرّ مَا خَلَقَ * مَلِكِ النّاسِ * إِلََهِ النّاسِ * مِن شَرّ الْوَسْوَاسِ الْخَنّاسِ * الّذِى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاسِ * مِنَ الْجِنّةِ وَالنّاسِ) [سورة: الناس]
(وكما في الدعاء المشهور: وقني شر ما قضيت
(حديث الحسن بن علي في صحيح السنن الأربعة) قال علمني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلمات أقولهن في الوتر {اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت}
(ولهذا بوب البخاري في صحيحه بابًا قال فيه: باب من تعوذ بالله من درك الشقاء وسوء القضاء:
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتعوذ من جَهْدِ البلاء ودَرَكِ الشقاءِ وسوءِ القضاءِ وشماتةِ الأعداء.
(30) تعليق الدعاء على المشيئة:(8/585)
كأن يقول: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت؛ فهذا مناف للجزم بالدعاء، ودليل على قلة الرغبة، فعلى العبد أن يعزم المسألة و يجد في الطلب ويلح في دعائه، فالله تعالى يحب الملح في الدعاء، ولهذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة بدر يلح على ربه في الدعاء ويكثر من ذلك، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّه عَنْهمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ يَوْمَ بَدْرٍ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ اللَّهُمَّ إِنْ تَشَأْ لَا تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ "، فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ وَهُوَ يَثِبُ فِي الدِّرْعِ فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: " سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ".
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، ارحمني إن شئت ارزقني إن شئت، وليعزم مسألته، إنه يفعل ما يشاء لا مكره له.
(31) الإدلال على الله وترك التضرع:
كمن يدعو دعاء المستغني بما عنده، المُدِلِّ على ربه؛ فلا يدعو دعاء الخاشع المتضرع، المتذلل.
فهذا ضرب من ضروب الكبر والعياذ بالله، وباب من أبواب الاعتداء.
(32) تصنع البكاء ورفع الصوت بذلك:
كحال من يرفع صوته بالبكاء أثناء دعاء القنوت في شهر رمضان، فهذا خطأ، ومناف للإخلاص، ومدعاة للرياء، ومخالف لهدي النبي"وأصحابه _ رضي الله عنهم _.
فالبكاء المطلوب هو ما كان عن خشوع، وإخبات وتأثر بعيدًا عن رفع الصوت بذلك، إلا من غُلِب على نفسه، ولم يستطع أن يتمالك زمام أمره _ فإنه لا حرج عليه؛ فالله _ عز وجل _ لا يؤاخذه بذلك.
(33) تركُ الإمامِ رفعَ يديه إذا استسقى في خطبة الجمعة:
فبعض الأئمة إذا استسقى أثناء خطبة الجمعة _ لا يرفع يديه، وهذا خلاف السنة؛ فالسنة أن يرفع الإمام يديه إذا استسقى في خطبة الجمعة كما جاء ذلك في حديث الأعرابي الذي جاء والنبي"يخطب يوم الجمعة، فشكا لهم ما هم فيه من الشدة.(8/586)
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال أصابت الناس سنة على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب على المنبر يوم الجمعة قام أعرابي فقال يا رسول الله هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا أن يسقينا قال فرفع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه وما في السماء قزعة قال فثار سحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته قال فمطرنا يومنا ذلك وفي الغد ومن بعد الغد والذي يليه إلى الجمعة الأخرى فقام ذلك الأعرابي أو رجل غيره فقال يا رسول الله تهدم البناء وغرق المال فادع الله لنا فرفع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه وقال اللهم حوالينا ولا علينا قال فما جعل يشير بيده إلى ناحية من السماء إلا تفرجت حتى صارت المدينة في مثل الجوبة حتى سال الوادي وادي قناة شهرا ولم يجيء أحد من ناحية إلا حدث بالجود.
(34) الإطالة بالدعاء حال القنوت، والدعاء بما لا يناسب المقصود فيه:
فالقنوت يشرع عند النوازل للدعاء لقوم وللدعاء على آخرين. (1)
وهناك من الأئمة من يطيل في دعاء القنوت حال النوازل إطالة مفرطة، ويدعو بما خطر له من الأدعية، وربما بلغ ببعضهم أن يجعل دعاء القنوت ضعف مدة الصلاة ثلاث مرات أو أكثر.
وهذا خطأ، وخلاف السنة؛ فالسنة أن يقتصد بالدعاء، وأن يدعو بما يناسب تلك النازلة؛ فذلك هو السنة، وذلك أجمع للقلب، وأبعد عن المشقة على المأمومين.
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
وينبغي للقانت أن يدعو عند كل نازلة بالدعاء المناسب لتلك النازلة، وإذا سمى من يدعو لهم من المؤمنين، ومن يدعو عليهم من الكافرين المحاربين _ كان ذلك حسنًا. (2)
(35) أن يكون الدعاء فيه طلب يناقض حكمة الله تعالى:
كمن يطلب أن يخرج الله الشمس من مغربها قبل أوانها، أو يطلب من الله أن لا يقيم الساعة ومعلوم أن الساعة آتية لا ريب فيها.
(36) أن يكون الدعاء مشتملاً على مناقضة شرع أمر الله به:
كمن يسأل الله أن يحلل الربا أو الزنا مثلاً، أو كمن يدعو الله أن يدخل إبليس الجنة أو يعفو عن كافر محكوم بكفره، وأنه من أهل النار، كفرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف وأبو لهب وأبو جهل وأمثال ذلك.
(37) أن يكون الدعاء محتوياً مسألة لا يليق طلبها:
__________
(1) انظر: زاد المعاد 1/ 272_273.
(2) مجموع الفتاوى، 22/ 271(8/587)
كمن يطلب أن تكون منزلته مثل منزلة الأنبياء، أو يكون من العشرة المبشرين بالجنة، وقد تم تحديدهم فكيف يليق به أن يطلب طلباً لا يحق له، بل أن يسأل الله تعالى أن يكون من أهل الجنة مطلقاً بدون تخصيص.
(دعوة العلماء إلى الالتزام بالدعاء المأثور:
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
ينبغي للخَلْقِ أن يَدْعُوا بالأدعية المشروعة التي جاء بِهَا الكتاب والسُّنَّة، فإنَّ ذلك لاريب في فضله وحُسْنه، وأنَّه الصراط المستقيم، صراط الذين أنْعَمَ الله عليهم من النَّبِيينَ والصِّدِيِقينَ والشُّهَدَاءِ والصَّالِحِيَن، وحَسُنَ أولئك رفيقا (1)
[*] وقال القاضي عياض:
أذِن الله في دعائه، وعَلَّمَ الدُّعَاءَ في كتابه لِخَلِيقَتِهِ، وعَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءَ لأمَّتِهِ، واجتمعت فيه ثلاثة أشياء: العِلْمُ بالتَّوْحِيدِ، والعِلْمُ باللُّغَةِ، والنَّصِيحَةُ للأمَّةِ، فلا ينبغي لأحد أن يَعْدِلَ عن دُعَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد احتال الشَّيطَانُ للناس من هذا المقام فَقَيَّضَ لهم قَوْمَ سُوءٍ يَخْتَرِعُونَ لهم أدْعِيَةً يشتغلون بِهَا عن الاقتداء بالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأشَدُّ ما في الإحالة أنَّهم يَنْسِبُونَهَا إلى الأنبياء والصالحين، فيقولون: دعاء نوح، دعاء يونس، دعاء أبي بكر، فاتقوا الله في أنفسكم، لا تَشْتَغِلُوا من الحديث إلا بالصحيح (2)
[*] وقال الإمام الغزالي:
والأولى أن لا يُجَاوُزُ الدَّعَوَاتُ المأثورة (3)، فإنه قد يَعْتَدِي في دُعَائِهِ، فيسأل ما لا تَقْتَضِيهِ مصلحته، فما كُلُّ أحَدِ يُحْسِنُ الدُّعَاءَ (4)
[*] وقال صاحب كتاب قواعد الأحكام:
الاِقْتِصَارُ على الدَّعَوَاتِ الصَّحِيحَةِ المَشْرُوعَةِ أوِلَى من الدَّعَوَاتِ المَجْمُوعَاتِ (5)
__________
(1) أنظر: مجموع الفتاوى (1/ 336) - القاعدة الجليلة -.نقلا عن موقع: www.alminbar.net من الشبكة العنكبوتية 0
(2) انظر: الفتوحات الربانية (1/ 17) نقلا عن موقع: www.alminbar.net من الشبكة العنكبوتية 0
(3) المأثورة أي الواردة في القرآن الكريم والسُّنَّة المطهرة 0
(4) إحياء علوم الدين (1/ 554) نقلا عن موقع: www.alminbar.net.
(5) قواعد الأحكام: 2/ 171 (نقلاً عن كتاب الدعاء لأبي عبد الرحمن جيلان العروسي، ص 570)(8/588)
ومن لطيف ما قاله القرطبي في تفسيره على قوله تعالى {وَكَأيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ، وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسْرَافَنَا فِي أمْرِنَا وَثَبِّتْ أقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (146 ـ 147 ـ آل عمران) قال: فَعَلَى الإِنْسَان أن يَسْتَعْمِل ما في كِتَاب اللَّه وَصَحِيح السُّنَّة من الدُّعَاء وَيَدَع ما سِوَاهُ، وَلا يَقُول أخْتَار كَذَا، فَإنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ اِخْتَارَ لِنَبِيِّهِ وَأوْلِيَائِهِ وَعَلَّمَهُمْ كَيْفَ يَدْعُونَ 0
[*] وقال في مطالب أولي النهى:
الْمُخْتَارُ: الدُّعَاءُ بِالْمَأْثُورِ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَلَمْ يَدْعُ حَاجَةً إلَى غَيْرِهِ 0
[*] وقال الشيخ علي الحذيفي:
لِيَحْرِِصَِ المسلم على حِِفْظِ دُعَاءِِ رَسُولِ الله بِقَدَرِ اِسْتِطَاعَتِهِ، فقد شَرَعَ عليه الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ لِكُلِّ حَالٍٍ دُعَاءً وذِكْراً (1)
[*] وقال الشيخ يوسف القرضاوي:
الأدعية التي يَضَعَهَا البشر ويَخْتَرِعُونَهَا كثيرًا ما تكون قَاصِرةً عن أداء المعنى، بل قد تكون مُحَرَّفَةً ومَغْلُوطَةً ومُتَنَاقِضَةً، إنه ليس أفٍضَلُ من الأدْعَيَةِ المأثُورَةِ، ففيها الرَّوْعَةُ والبَّلاَغَةُ وحُسْنُ الأدَاءِ والمَعَانِي الجَامِعَةِ في ألفاظ قليلة، فليس هناك أفضل مما ورد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أدعية مأثورة، لأنه يترتب عليها أجران: أجْرُ الاِتِّباَعِ، وأجْرُ الذِّكْرِ، فعلينا دَائِمًا أن نَحْفَظَ هذه الأدْعِيَةِ النَّبَوِيَّةِ وأن نَدْعُو بِهَا (2)
[*] وقال ابن تيمية:
__________
(1) من خطبة الجمعة في المسجد النبوي بالمدينة النبوية لفضيلة الشيخ: علي الحذيفي بتاريخ: 13 - 4 - 1424هـ وهي بعنوان: فضل الدعاء وآدابه، يمكن قراءتها أو الاستماع إليها عبر موقع: www.alminbar.net على الإنترنت 0
(2) نقلاً عن موقع: www.islamonline.net(8/589)
لا رَيْبَ أن الأذْكَارَ والدَّعَواتَ من أفضل العبادات، والعبادات مَبْنَاهَا على التَّوقِيفِ والاِتِّباَعِ لا على الهَوَىَ والاِبْتِدَاعِ، فالأدعية والأذْكَارُ النَّبَوِيَّةِ هي أفضل ما يَتَحَرَّاهُ المُتَحَرْيِ من الذِّكْرِ والدُّعَاءِ، وسَالِكُهَا على سَبِيلِ أمَانٍ وسَلاَمَةٍ، والفوائد والنتائج التي تحصل لا يُعَبِرُ عنه لِسَانٌ، ولا يُحِيطُ بِهِ إنْسَانٌ000 ففي الأدعية الشَّرْعِيَةِ والأذْكَارِ الشَّرْعِيَةِ غَايَةُ المَطَالِب الصحيحة ونِهَايَةُ المَقَاصِدِ العَلِيَّةِ، ولا يَعْدِلُ عنها إلى غيرها من الأذْكَارِ المُحْدَثَةِ المُبْتَدَعَةِ إلا جَاهِلٌ أو مُفَرِّطٌ أو مٌتَعَدٍّ (1)
اَلْصَحَابَةِ رِضْوَانُ الله تَعَالَىَ عَلَيْهِم أجْمَعِينَ يِطْلُبُونَ مِنَ اَلْنَّبِيِّ صَلَىَ الله عَلَيْهِ وَسَلَمَ أنْ يُعَلِمَهُمُ اَلْدُّعَاءَ:
__________
(1) مجموع الفتاوى، ج 22، ص 299 وما بعدها 0(8/590)
عن أبي بَكْرٍ الصِّديق رضي الله عنه قال لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي دُعَاءً أدْعُو بِهِ فِي صَلاتِي، قَالَ: " قُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أنْتَ فَاغْفِرْ لِي مِنْ عِنْدِكَ مَغْفِرَةً إنَّكَ أنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ "0 (رواه البخاري)، نقل في الفتح عن ابن أبي حمزة قال: في الحدِيث مَشْرُوعِيَّة الدُّعَاء في الصَّلاة، وَفَضْلُ الدُّعَاء الْمَذْكُور عَلَى غَيْره، وَطَلَب التَّعْلِيم من الأعْلَى وإِن كَانَ الطَّالِب يَعْرِف ذَلِكَ النَّوْع، وَخَصَّ الدُّعَاء بِالصَّلاةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أقْرَب مَا يَكُون الْعَبْد مِنْ رَبّه وَهُوَ سَاجِد" وفيه أنَّ الْمَرْءَ يَنْظُر فِي عِبَادَته إلى الأرْفَع فَيَتَسَبَّب فِي تَحْصِيله، وَفِي تَعْلِيم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَبِي بَكْر هذا الدُّعَاء إشَارَة إِلَى إِيثَار أمْر الآخِرَة على أمْر الدُّنْيَا (1)
فَهُمُ رضي الله تعالى عنهم أجمعين رغم أنَّهم أهْلُ اللغة وأرْبَابُ الفصاحة والبيان إلا أنَّهم طلبوا من النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُعَلِّمَهُم الدُّعَاء لِيَقِينِهِم أن دُعَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقْرَبُ لِلْقَبُولِ وأدْعَىَ لِلإجَابَةِ، فما بَالُ أقْوَاماً لا فَصَاحَةَ ولا بَيَانٍ لَدَيْهِمُ يَعْدِلُونَ عَنْ دُعَاءِ خَيْرِ البشر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أدعية مُخْتَرَعَةٍ فَيَحْرِمُونَ أنفسهم بَرَكَةَ وثَوَابَ الدُّعَاء بالمأثور، فضلاً عن وقوعهم بالاعتداء المحظور 0
اَلإتْبَاعِ في اَلْدُّعَاءِ أيْسَرُ فِيِ اَلْذِّكُرِ وِأفْضَلُ فِيِ اَلأجْر:
__________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، حديث رقم: 5851، ونقل فيه كلام جميل وتعليق لطيف عن الْكَرْمَانِيُّ قال: هذا الدُّعَاء من الْجَوَامِع، لأَنَّ فِيهِ الاعْتِرَاف بِغَايَةِ التَّقْصِير وَطَلَب غَايَة الإِنْعَام، فَالْمَغْفِرَة سَتْر الذُّنُوب وَمَحَوْهَا، وَالرَّحْمَة إِيصَال الْخَيْرَات، فَفِي الأوَّل طَلَب الزَّحْزَحَة عَنْ النَّار وَفِي الثَّانِي طَلَب إدْخَال الْجَنَّة، وَهَذَا هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم0(8/591)
عن جُوَيْرِيَةَ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أنْ أضْحَى وَهِيَ جَالِسَةٌ فَقَالَ: " مَا زِلْتِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟ " قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أرْبَعَ كَلِمَاتٍ ثَلاثَ مَرَّاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ " (رواه مسلم والنسائي والترمذي (1)
[*] نقل الإمام السيوطي في شرحه لسنن النسائي على الحديث عِزّ الدِّين بْن عَبْد السَّلَام فِي فَتَاوَاهُ قال: قَدْ يَكُون بَعْض الأذْكَار أفْضَل مِنْ بَعْض لِعُمُومِهَا وَشُمُولهَا وَاشْتِمَالهَا عَلَى جَمِيع الأوْصَاف السَّلْبِيَّة وَالذَّاتِيَّة وَالْفِعْلِيَّة فَيَكُون الْقَلِيل مِنْ هَذَا النَّوْع أَفْضَل مِنْ الْكَثِير مِنْ غَيْره (2)
[*] وقال في تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
__________
(1) رواية الترمذي: " قد قُلْتُ بَعْدَكِ أرْبَعُ كَلِمَاتٍ ثَلاَثَ مَرَاتٍ لو وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ لَوَزَنَتَهُنَّ: سُبْحَانَ الله وبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ ورِضَا نَفْسِهِ وزِنَةَ عَرْشِهِ ومِدَادَ كَلِمَاتِهِ "، ورواية النسائي: " قال: ألا أعلمك – يعني كلمات – تقولينهن: سُبْحَانَ الله عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ الله عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ الله عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ الله رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ الله رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ الله رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ الله زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ الله زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ الله زِنَةَ عَرْشِه، ِ، سُبْحَانَ الله مِدَادَ كَلِمَاتِهِ، سُبْحَانَ الله مِدَادَ كَلِمَاتِهِ، سُبْحَانَ الله مِدَادَ كَلِمَاتِهِ ". (انظر صحيح سنن الترمذي رقم: 1574، وصحيح سنن النسائي رقم: 1281)
(2) أنظر شرح سنن النسائي بشرح السيوطي، حديث رقم: 1335 0(8/592)
والحديث دَلِيلٌ على فَضْلِ هذِه الكلِمات وأنَّ قَائِلَهَا يُدْرِكُ فَضِيلَةَ تَكْرَارِ الْقَوْلِ بِالْعَدَدِ الْمَذْكُور، ِ وَلا يُتَّجَهُ أنَّ يُقَالَ إنَّ مَشَقَّةَ مَنْ قال هكذا أخَفُّ مِنْ مَشَقَّةِ مَنْ كَرَّرَ لَفْظَ الذِّكْرِ حَتَّى يَبْلُغَ إلى مِثْلِ ذَلِكَ العَدَدِ فَإِنَّ هَذَا بَابٌ مَنَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِبَادِ اللَّهِ وَأرْشَدَهُمْ وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ تَخْفِيفًا لَهُمْ وَتَكْثِيرًا لأجُورِهِمْ مِنْ دُونِ تَعَبٍ ولا نَصَبٍ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ (1)
فالإتباع في قليل من ألفاظ الذِّكْرِ والدُّعَاءِ أثْوَبُ عند الله تعالى من الكثير من الأدعية والأذْكَارِ المُخْتَرَعَةِ، والإتِّباَعُ في الذِّكْرِ والدُّعَاءِ وإن كان أيْسَرُ وأخَفُّ إلا أنه أفْضَلُ في الأجْرِ والثَّوابِ كما في الحديث أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ألاَّ أخْبِرُكِ بِمَا هُوَ أيْسَرُ عَلَيْكِ مِنْ هَذَا أو أفْضَلُ " (2)، أي أيْسَرُ في الذِّكْرِ وأفْضَلُ في الأجْرِ، وأيضاُ هو أدْعَىَ للإجَابَةِ وأقْرَبُ لِلْقَبُول 0
{تنبيه}: (اَلْدُّعَاءُ بِاَلْمَأثُورِ أفْضَلُ:
لا خلاف بين العلماء في جواز أن يدعوا الإنسان في بعض أحيانه بما ألَمَّ به من تقلبات الدَّهْرِ وحوائج الدنيا دون التقييد بالمأثور، إنما النَّهْيُ عن أن يَهْجُرَ المأثور إلى أدْعِيَةٍ أخرى يَجْعَلْهَا دَيْدَنَهُ وشِعَارَهُ، واَلْدُّعَاءُ بِاَلْمَأثُورِ أفْضَلُ لسببين جوهريين هما:
__________
(1) انظر تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي حديث رقم: 3478 0
(2) الحديث بتمامه عن عَائِشَةَ بنت سَعْدِ بِن أبِي وَقَّاصٍ عن أبِيها أنَّه دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى امْرَأةٍ وَبَيْنَ يَدَيْهَا نَوًى أوْ قَالَ حَصًى تُسَبِّحُ بِهِ فَقَالَ: " ألا أخْبِرُكِ بِمَا هُوَ أيْسَرُ عَلَيْكِ مِنْ هَذَا أَوْ أَفْضَلُ: سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي السَّمَاءِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي الأرْضِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا هُوَ خَالِقٌ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ " 0 (رواه الترمذي)(8/593)
أفضل الدعاء وأعظم الدعاء هو ما كان يدعو به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أولاً: لأنه الأعلم بربه جل وعلا والأتقى لله والأخشى لله كما صح عنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: جاء ثلاث رهط إلى بيوت أزواج النبي، يسألون عن عبادة النبي، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من النبي؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله أتي لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
والثاني: أنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أوتي جوامع الكلم، جوامع الكلم يعني كلمات وجيزة لكن فيها كل الخير كل ما تحتاجه تجده في دعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، فبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي).
فالإنسان إذا أراد الأفضل وأراد الأتقى وأراد الأخشى وإذا أراد الاتباع وإذا أراد السنة وهذا كله مطلوب للإمام أن يتبعه فإنه يهتم بما جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أدعية.
(وإليك أقوال علماء الدين وأئمة المسلمين في هذا:
[*] قال الإمام المناوي في فيض القدير:
ويُسَنُّ لهم الدعاء له بحضرته وفي غَيْبَتِهِ (يعني المسافر) بالمأثور وبغيره، والمأثور أفْضَل (1)
[*] سئل الإمام مالك عن الداعي يقول: يا سيدي فقال: ((يعجبني دعاء الأنبياء: ربنا ربنا)) [نزهة الفضلاء 621].
[*] وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في الدعاء:
الوَارِدُ هو الذي يَنْبَغِي، والدُّعَاءُ بغيرها جائز، إلا أنه لا يَجُوزُ الاِعْتِدَاءُ، أما الذي ليس فيه اِعْتِدَاءٌ فَبَابُ اَلْرَّبِّ مفتوح لعباده يسألونه حوائجهم، إلا أنه ينبغي أن تكون له رَغْبَةٌ لِصَلاَحِ القَلْبِ والنِّيَّةِ والدُّعَاءِ لِنَصْرَةِ المسلمين وأئمة الدِّيِنِ (2)
__________
(1) حديث رقم: 572، ج 1، ص 420 0
(2) أنظر فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ، فتوى رقم: 1290 بعنوان: الذكر الوارد هنا وغير الوارد، ص 244، ج 5 0(8/594)
[*] وقال الشيخ عبد الله ابن باز:
والاعْتِنَاء بالدُّعَاءِ المأثور أفضل، لكن الحاجات الأخرى التي تَعْرِضُ له يَدْعُو فيها بما يُنَاسِبُهَا (1).
[*] وقال الشيخ محمد ابن عثيمين وقد سُئِلَ هل تجوز الزيادة على ما عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للحسن بن علي رضي الله عنهما أوْ لاَ تَجُوزُ؟ فأجاب فضيلته: إن الزيادة على ذلك لا بأس بِهَا لأنه إذا ثَبَتَ أن هذا موضع دُعَاءٍ ولم يُحَدَدُ هذا الدُّعَاء بِحَدٍ يُنْهَى عَنْ الزِيَادَةِ عنه، فالأصل أن الإنسان يَدْعُوا بما شَاءَ، ولكن المحافظة على ما ورد هو الأوْلَى فَنُقَدُمَ الوارد، وإن شئنا أن نَزَيِدَ فلا حَرَج (2)
وجاء في الموسوعة الفقهية:
ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز كل دُعَاءٍ دُنْيَوِيٍ وأخْرَوِيٍ، ولكن الدُّعَاءُ بالمأثور أفْضَلُ من غيره (3)
{تنبيه}: (اَلْدُّعَاءُ اَلْنَّبَوِيِّ اَلْشَرِيِفِ يُغَطِي كَافَةِ تَقَلُّبَاتِكَ اَلْنَّفْسِيَة وأحْوَالَكَ وَظُروفِكَ المَعِيشِيَّةِ:
المتأمل في دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي عَلَّمَهُ لأمَّتِهِ يَجِدُ أنَّهُ يُغَطِي كَافَةِ التَّقَلُّبَاتِ النَّفْسِيَةِ وتغيرات الأحوال التي تَعْتَرِي كل مسلم، وقد قَدَّمْناَ مَقُولَة الشيخ علي الحذيفي: لِيَحْرِِصَِ المُسْلِمُ على حِِْفظِ دُعَاءِِ رسول الله بِقَدَرِ اِسْتِطَاعَتِهِ، فقد شَرَع عليه الصلاة والسلام لِكُلِّ حَالٍٍ دُعَاءً وذِكْراً (4)
(فَجَاهِد نفسك وأرْغِمِ الشَّيْطَان واحفظ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
__________
(1) المرجع: فتاوى التراويح عبر موقع www.al-islam.com على الشبكة العنكبوتية 0
(2) أنظر فتاوى الشيخ محمد صالح العثيمين ج 1، ص 383 وما بعده 0
(3) الموسوعة الفقهية ـ وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية / الكويت ـ ج20، ص 265.
(4) من خطبة الجمعة في المسجد النبوي بالمدينة النبوية لفضيلة الشيخ: علي الحذيفي وهي بعنوان: فضل الدعاء وآدابه، يمكن قراءتها أو الاستماع إليها عبر موقع: www.alminbar.net(8/595)
[*] قال ابن أبي جَمْرَةَ مُعَلِّقاً على حديث عن جابر رضي الله عنه: كان النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا الاِسْتِخَارَةَ في الأمور كُلِّهَا كالسَّوُرَةِ من القرآن، قال: ِالتَّشْبِيه (1) فِي تَحَفُّظ حُرُوفه وَتَرَتُّب كَلِمَاته وَمَنْع الزِّيَادَة وَالنَّقْص مِنْهُ وَالدَّرْس لَهُ (2) وَالْمُحَافَظَة عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مِنْ جِهَة الاهْتِمَام بِهِ وَالتَّحَقُّق لِبَرَكَتِهِ، وَالاحْتِرَام لَهُ، وَيَحْتَمِل أنْ يَكُون مِنْ جِهَة كَوْن كُلّ مِنْهُمَا عَلِمَ بِالْوَحْيِ (3)
{تنبيه}: (اَلْدُّعَاءُ فِيِ اَلْسُّجُودِ أفْضَلُ مِنَ اَلْدُّعَاءِ حَالَ اَلْقِيَامِ فِيِ اَلْصَّلاَةِ:
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أقربُ ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء.
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ألا وإني نهيت أن اقرأ القرآن راكعا أو ساجدا فأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم.
[*] قال ابن تيمية في الفتاوى:
والدُّعَاءُ في السُّجُودِ أفْضَلُ من غيره، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة (أورد الحديثين المذكورين)، ثم قال: وقد ثَبَتَ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءٌ في السُّجُودِ في عدة أحاديث، وفي غير حديث تُبَيِّنُ أن ذلك في صلاته بالليل، فعُلِمَ أن قوله تعالى {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمُ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَهُمُ خَوْفاً وطَمَعًا} وإن كان يتناول الدُّعَاءَ في جميع أحوال الصَّلاَةِ، فَاَلْسُّجُودُ له مَزِيَةٌ على غيره (4)
وقال مُعَلِّقاً على حديث: " يَكْشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ فَيَبْقَى كُلُّ مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاءً وَسُمْعَةً فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا " (رواه البخاري)،
قال: أمِرُوا بالسُّجُودِ في عُرُصَاتِ القيامة دون غيره من أجزاء الصلاة، فَعُلِمَ أنه أفضل من غيره (5)
__________
(1) يعني تشبيه جابر الدعاء بالقرآن في الحفظ والتعليم 0
(2) وَالدَّرْس لَهُ أي: النَّقص أو الحذف منه 0
(3) أنظر فتح الباري، حديث رقم 5903 الدعاء عند الاستخارة 0
(4) أنظر مجموع الفتاوى، ج 23، ص 48 0
(5) المرجع السابق ص 46 0(8/596)
[*] وقال الإمام المنَّاوي في فيض القدير (1):
للعبد حالتين في العبادة، حالة كونه ساجداً وحالة كونه مُتَلَبِّسًا بغير السُّجُودِ، فهو في حالة سُجُودِهِ أقْرَبُ إلى ربِّه ... " فأكثروا الدُّعَاء " أي في السُّجُودِ لأنَّها حَالَةُ غَايَةِ التَّذَلُلِ، وإذا عَرَفَ العبد أن ربَّه هو اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ، اَلْمُتَكَبُّرُ اَلْجَبَارُ، فالسُّجُودُ لذلك مَظَنَّةُ الإجابة0
(فالسجود ووضع أشْرَفَ ما في الإنسان وهي جَبْهَتُهُ مَكَانَ الأقْدَامِ خُضُوعًا وتَذَلُّلاًً لله اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّار، يَرْتَقِي بالمسلم إلى مَرْتَبَةٍ رَفِيعَةٍ عَالِيَةٍ لا يَصِلُهَا إلاَّ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ (2)،
__________
(1) أنظر فيض القدير حديث رقم: 1348 0
(2) جاء في الحديث عن مَعْدَانُ بن أبي طَلْحَةَ الْيَعْمَرِيُّ قال: لَقِيتُ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ أخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي اللَّهُ بِهِ الْجَنَّةَ أَوْ قَالَ قُلْتُ بِأَحَبِّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ فَسَكَتَ، ثُمَّ سألتُه فَسَكَتَ، ثُمَّ سَألتُهُ الثَّالِثَةَ فقال: سَألْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ، فَإِنَّكَ لا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلاَّ رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً " 0 (رواه مسلم)
قال الإمام النَّووي معلقا على الحديث: فِيهِ الْحَثّ عَلَى كَثْرَة السُّجُود، وَالتَّرْغِيب، وَالْمُرَاد بِهِ السُّجُود فِي الصَّلاة، وَفِيهِ دَلِيل لِمَنْ يَقُول تَكْثِير السُّجُود أَفْضَل مِنْ إِطَالَة الْقِيَام، وَسَبَب الْحَثّ عَلَيْهِ الْحَدِيث " أقْرَب مَا يَكُون الْعَبْد مِنْ رَبّه وَهُوَ سَاجِد" وَهُوَ مُوَافِق لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} وَلأنَّ السُّجُود غَايَة التَّوَاضُع وَالْعُبُودِيَّة لِلَّهِ تَعَالَى، وَفِيهِ تَمْكِين أَعَزِّ أعْضَاء الإِنْسَان وَأعْلَاهَا وَهُوَ وَجْهه مِنْ التُّرَاب الَّذِي يُدَاس وَيُمْتَهَن0
رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الأسْلَمِيُّ رضي الله عنه قال: كُنْتُ أبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: "سَلْ" فَقُلْتُ أسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قَال: " أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ" قُلْتُ هُوَ ذَاكَ، قال: " فَأعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ "0 (رواه مسلم)
وعَنْوِنَ الإمام مسلم للباب الذي أورد فيه الحديثين فقال: بَاب فَضْلِ السُّجُودِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ0(8/597)
وهذه المَرْتَبة سَبَباَ في أن تكون دَعْوَتُهُ مُسْتَجَابَةٌ0
وفي هذا رَدّاً بَلِيغاً على من أهْمَلَ دُعَاءَ السُّجُودِ، وفَضَّلَ عليه دُعَاءَ القيام، فَتَرَاهُ يختصر من وقت السُّجُودِ لصالح دُعَاءِ القيام، وهذا خلاف الأولى والأفضل والأكمل وهو إطالة السُّجُودِ وكثرة الدُّعَاءِ فيه 0
كما أن هناك أدعية مأثورة مخصوصة لا تُقَالُ إلا في موضع السُّجُودِ فَعَلَى الإمام أن يُمْهِلَ المُصَلِّينَ في سُجُودِهِمُ حتى يَدْعُوا بِهَا، ولا يَعْجَلَ فَيَجْرِمَهُم أجْرَهَا وبِرِكَتَهَا بِدَعْوَى أنَّهُ سَيَدْعُوا لهم في القُنُوتِ، فَلَيْسَ الدُّعَاءُ حَالَ القِيَامِ كالدُّعَاءِ حَالَ السُّجُودِ0
(طلب الإنسان الدعاءَ من غيره:
طلب الإنسان الدعاءَ من غيره _ وإن كان جائزًا في الأصل _ فيه عدة محاذير منها:
1 - أن فيه نوع مسألة، فكونك تطلب الدعاء من غيرك، فيه نوع من الذلة والمسكنة له، فأنت ستلين له القول وتخضع له، وهذا نوع مسكنة، فلا ينبغي ذلك.
(2) أن ذلك مدعاة لترك الدعاء، والاعتماد على الآخرين، ومن اعتمد على غيره في الدعاء، فهذا يجعله يهمل دعاءه لنفسه، بل قد لا يبحث في أمور الدعاء المهمة، كأسباب الإجابة، وموانعها، وغير ذلك من الأمور المتعلقة بالدعاء، والمصيبة أنه قد ينسى كيفية الثناء على الله تعالى، وقد يترك الخشوع والانكسار حال دعائه، لأنه لم يعتد مثل هذا الأمر بل وكل فيه غيره، بل وقد يترك الدعاء بالكلية لأنه فقد حلاوته.
(3) الأصل في الدعاء أن يدعو الإنسان لنفسه، ولا يطلب من غيره أن يدعو له، لأنه أعلم بحقائق أموره من غيره، وهو أعلم الناس بما يريد من دعائه، وما يطلبه من ربه، فليس من المعقول أن يذهب لإنسان من الناس ويطلب منه أن يدعو له ويقول: أذكر في دعائك لي كذا وكذا، فالأصل أن يتضرع العبد لربه ويتعرض لنفحاته ويدعو لنفسه.
(4) أن طلب الدعاء من الغير، قد يدخل العُجب إلى من طُلب منه الدعاء، فيظن في نفسه أنه قد بلغ منزلة الأولياء، وأن دعاءه لا يُرد، فيهلك عند ذلك.(8/598)
فعلى ما ذُكر من أسباب فالواجب على العبد أن يدعو بنفسه، ولا يشغل غيره، ولا يوقعه في الحرج والضيق، ولا يورده المهالك، ومتى ما خلصت النية لله تعالى حال الدعاء، وكان العبد صادقاً مع ربه موقناً بإجابته، فالله تعالى لن يرده خائباً، بإذنه سبحانه، فالله عز وجل قد أجاب أهل الشرك أثناء عند الاضطرار، بل وأجاب إبليس كما ذكرنا، أفلا يستجيب الله لعبده المسلم، قال تعالى: " أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء. .
(جاء رجل إلى مالك بن دينار رحمه الله، فقال: أنا أسألك بالله أن تدعو لي، فأنا مضطر، قال: إذاً فاسأله، فإنه يجيب المضطر إذا دعاه، وقال عبيد الله بن أبي صالح، دخل علي طاووس يعودني، فقلت له: ادع الله لي يا أبا عبد الرحمن، فقال: ادع لنفسك، فإنه يجيب المضطر إذا دعاه.
فعلى المسلم أن يجاهد ويجتهد في الدعاء فقمن أن يستجاب له، قال تعالى: " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون "، وقال تعالى: " وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ".
{تنبيه}: (لا ينبغي للعبد أن يدع الدعاء، أو أن يعتمد فيه على غيره؛ بحجة أنه مذنب، وأنه ليس أهلاً لأن يجاب دعاؤه.
بل عليه أن يكثر من دعاء ربه، وأن يحسن الظن به، وينظر إلى عظيم جوده ورحمته؛ فمهما كان متماديًا بالمعصية فإن رحمة الله تَسَعُهُ؛ فإذا كان جلَّ وعلا _ يجيب دعاء المشركين عند الاضطرار فإن إجابته للمؤمنين _ مع تقصيرهم _ من باب أولى. (1)
(ولهذا جاء رجل إلى مالك بن دينار فقال: أنا أسألك بالله أن تدعو لي؛ فأنا مضطر.
قال: إذًا فاسأله؛ فإنه يجيب المضطر إذا دعاه. (2)
[*] وعن عبيد الله بن أبي صالح قال: دخل عليَّ طاووس يعودني، فقلت له: ادع الله لي يا أبا عبد الرحمن.
فقال: ادع لنفسك؛ فإنه يجيب المضطر إذا دعاه. (3)
وقال: فالسنة أن يقنت عند النازلة ويدعو فيها بما يناسب أولئك القوم المحاربين. (4)
__________
(1) انظر تحفة المريض د. عبد الله الجعيثن ص99.
(2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 13/ 223.
(3) تفسير بن كثير 3/ 358.
(4) مجموع الفتاوى، 21/ 155.(8/599)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينيرفع رأسه من الركوع يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد يدعو لرجالٍ فيسميهم بأسمائهم فيقول: اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم كسني يوسف وأخل المشرق يومئذٍ من مُضر مخالفون له.
[*] (اَلْدُّعَاءُ اَلْمَأثُورِ مِنَ الكتاب والسنة:
أولاً: الدُّعَاءُ مِنَ القُرْآنِ الكَرِيمِ:
(دعاء سيدنا آدم عليه السلام:
قال تعالى: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
[الأعراف /23]
فغفر الله لهما كما قال سبحانه: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة /37]
ثم أكرمه الله بالاصطفاء فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران /33]
وخصه بالاجتباء فقال تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه /122]
(دعاء سيدنا نوح عليه السلام:
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ، وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}
[الصافات /76،75]
وقال: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَآ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء /77،76]
وقال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ، فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ، فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَآءٍ مُّنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَآءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ، وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ} (1). [القمر /14:9]
__________
(1) سورة القمر، الآيات: 9 - 14.(8/600)
وقال تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا، إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلا يَلِدُواْ إِلاّ فَاجِرًا كَفَّارًا، رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاّ تَبَارًا} [نوح /28:26]
فائدة: قال العلماء: يُسْتَفَادُ من دُعَاءِ سيدنا نُوحٌ عليه السلام أن المسلم يَدْعُوا لنفسه أولاً، ثم المُتَصِلِينَ به من وَالِدٍ وَوَلَدٍ وِأرْحَامٍ وَأقْرِبَاءٍ لأنهم أوْلَى وَأحَقُ بِدْعَائِهِ، ثُمَّ يَعُمَّ المسلمين والمسلمات 0
[*] قال ابن كثير في تفسيره على الآية الكريمة: وقوله تعالى {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} دُعَاءٌ لجميع المؤمنين والمؤمنات، وذلك يَعُمُّ الأحْيَاءَ منهم والأمْوَات، ولهذا يُسْتَحَبُ مثل هذا الدُّعَاءِ إقْتِدَاءً بِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ 0
وفي الآية الكريمة جَوَازُ الدُّعَاءِ على الظَّالِمِينَ اَلْمُعْتَدِينَ بِاَلْدَّمَارِ وَاَلْهَلاَكِ 0
(دُعَاءُ سَيِّدُنَا إبراهيم عَلَيْهِ اَلْسَّلاَمُ:
قال الله تعالى عن دعائه: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ، وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [الشعراء /85:83]
فاستجاب الله له فقال في طلبه الأول: {فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا} [النساء54]
وقال في قوله: {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة /30]
وقال في قوله: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ، سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}
[الصافات /111:108]
(دُعَاءُ سَيِّدُنَا مُوسَى عَلَيْهِ اَلْسَّلاَمُ:(8/601)
قال الله عن دعائه: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي، يَفْقَهُواْ قَوْلِي، وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا، وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا، إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا، قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى}
[طه /36:25]
وقال الله تعالى عن موسى وهارون: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ، قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [يونس /89،88]
وقال تعالى عن موسى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ} [القصص /17،16]
(دعوة سيدنا يونس عليه السلام:
قال تعالى: {وَذَا النُّونِ (1) إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا (2) فَظَنَّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ (3) عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} (87 ـ 88 ـ الأنبياء)
[*] قال ابن كثير {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} أي: إذَا كَانُوا فِي الشَّدَائِد وَدَعَوْنَا مُنِيبِينَ إلَيْنَا ولا سِيَّمَا إذَا دَعَوْا بِهَذَا الدُّعَاء فِي حَال الْبَلاء 0
__________
(1) النَّوُنُ تعني: الحوت، وذَا النَّوِنِ أي: صاحب الحوت، وهو سيدنا يونس عليه السلام0
(2) نقل القرطبي في تفسيره عن جَمْعٍ من المفسرين قالوا: مٌغَاضِبًا لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ 0
(3) نقل ابن كثير في تفسيره عن جَمْعٍ من المفسرين قالوا: {فظن أن لن نقدر عليه} أي: نُضَيِّقَ عليه، واستشهد عليه بقوله تعالى {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أي: وَمَنْ ضُيِّقَ عَلَيْهِ رِزْقه فَلَمْ يُوَسَّع عَلَيْهِ أ0هـ0 قال العلماء: وهذا من حُسْنِ الظَّن بالله تعالى0(8/602)
[*] وقال الطبري المعنى: كما أنْجَيْنَا يُونُس مِنْ كَرْب الْحَبْس فِي بَطْن الْحُوت فِي الْبَحْر إذْ دَعَانَا، كَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْ كَرْبهمْ إِذَا اِسْتَغَاثُوا بِنَا وَدَعَوْنَا0
(حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوة ذي النون إذ دعا بها و هو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له.
(وذو النون: هو نبي الله يونس _ عليه السلام _،
(حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:" ألا أخْبِرُكُمُ بِشَيْءٍ إذَا نَزَلَ بِرَجُلِ مِنْكُمُ كَرْبٌ أو بَلاَءٌ مِنْ أمْرِ الدُّنْياَ دَعَا بِهِ فَفُرِّجَ عنه؟ دُعَاءُ ذِي النُّوُنِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ أنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ".
(والنون: الحوت.
فهذا سيدنا يونس عليه السلام ألقي في اليم فالتقمه الحوت وأسدل الليل البهيم ستاره المظلم عليه، فالتجأ إلى الله {أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، فأنجاه الله، حتى إذا خرج إلى شاطئ السلامة، تلقفته يد الرحمة الإلهية والعناية الربانية فأظلته تحت شجرة اليقطين.
قال تعالى {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87 - 88].
{تنبيه}: (هذا الدعاء من أعظم أنواع الدعاء، لاشتماله على الآتي:
أولاً: على توحيد الله (لا إله إلا أنت)
وهو أعظم وسيلة إلى الله تعالى، وأعظم طاعة وأعظم وقربة.
ثم ثنى بالتنزيه (سبحانك) تنزيه الله عما لا يليق به عز وجل، فكل ما يفعل، وكل ما يقدر فله فيه الحكمة البالغة، فهو منزه عما لا يليق بجلاله وكماله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعظيم شأنه.
ثم ثلث ببيان عجزه وضعفه وفقره وظلمه لنفسه، وهكذا كل عبد بالنسبة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ينبغي له أن يكون كذلك إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]
(دُعَاءُ سَيِّدُنَا أيِّوُبٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ:(8/603)
قال تعالى: {وَأيُّوبَ إذْ نَادَى رَبَّهُ أنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأنْتَ أرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (الأنبياء/83)
[*] قال القرطبي رحمه الله:
قال العلماء: ولم يكن قوله {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} جَزَعًا؛ لأن الله تعالى قال: {إنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} (ص/44) بَلْ كَانَ ذلك دُعَاءٌ منه، والجَزَعُ في الشَّكْوَى إلى الخَلْقِ، لا إلى الله تعالى، والدُّعَاءُ لا يُنَافِي الرِّضَا 0
[*] وقال ابن القيم في الفوائد:
جُمِعَ في هذا الدُّعَاء بين حقيقة التَّوْحِيدِ، وإظهار الفَقْرِ والفَاقَةِ إلى ربَّهِ، وَوَجُودِ طَعْمُ المَحَبَّةِ في التَّمَلُّقِ لَهُ سُبْحَانَه، والإقْرَارِ لَهُ بِصِفَةِ الرَّحْمَةِ، وأنَّه أرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، والتَّوْسُلُ إليه بصفاته سبحانه، وشِدَّةِ حَاجَتِهِ هُوَ وَفَقْرِهِ، وَمَتَى وَجَدَ اَلْمُبْتَلَى هذا كُشِفَتْ بَلْوَاهُ
(دعاء سيدنا زكريا عليه السلام:
قال الله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ، فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران /39،38]
وقال تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُواْ لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء /90،89]
(دعاء سيدنا لوط عليه السلام:
{قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} (العنكبوت/30)
(دعاء سيدنا سليمان عليه السلام:
{رَبِّ أوْزِعْنِي (1) أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأنْ أعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} (النمل/19)
(دعاء سيدنا يوسف عليه السلام:
قال الله في قصة يعقوب مع أبنائه: {وَجَآءُواْ عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف /18]
__________
(1) أوزعني أي: ألهمني 0(8/604)
وقال الله تعالى عنهم: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف /64]
وقال يعقوب: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَآ أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ، قَالُواْ تَاللَّهِ تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ، قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُواْ بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَاْيْئَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَاْيْئَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}
[يوسف /87:83]
ثم استجاب الله دعاءه ورد عليه يوسف وأخيه قال الله: {قَالُواْ أَإِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَآ أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَآ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ، قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ، وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ، قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ، فَلَمَّآ أَن جَآءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، قَالُواْ يَآ أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ، قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يوسف /98:90](8/605)
قال الله تعالى عنه وعن النسوة: {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ ءَامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ، قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ، فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف /34:32]
{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا (1) وَألْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف/101)
[*] قال الفَخْرُ الرَّازي:
من أراد الدُّعَاءَ فلا بد أن يُقَدِّمَ عليه ذِكْرُ الثَّنَاءِ على الله تعالى، فَهَهُنَا يوسف عليه السلام لما أراد أن يَذْكُرَ الدُّعَاء قَدَّمَ عليه الثَّنَاء وهو قوله {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} ثم ذَكَرَ عَقِبَهُ الدُّعَاء وهو قوله {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَألْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} 0
(دعاء سيدنا زكريا عليه السلام:
{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً (2) إنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}
(آل عمران/38)
[*] قال القرطبي:
دَلَّتْ هذِهِ الآيَة على طَلَب الْوَلَد، وهي سُنَّة الْمُرْسَلِينَ وَالصِّدِّيقِينَ .. الْوَاجِب عَلَى الإنسان أنْ يَتَضَرَّع إلى خَالِقه في هِدَايَة وَلَده وَزَوْجه بِالتَّوْفِيقِ لَهُمَا وَالْهِدَايَة وَالصَّلاح وَالْعَفَاف وَالرِّعَايَة، وأنْ يَكُونَا مُعِينِينَ لَهُ عَلَى دِينه وَدُنْيَاهُ حَتَّى تَعْظُم مَنْفَعَته بِهِمَا فِي أولاهُ وَأخْرَاهُ 0
وعَنَّوَنَ الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الدَّعَوَاتِ فقال: باب الدُّعَاءِ بِكَثْرَةِ الوَلَدِ مع البَّرَكَةِ0
__________
(1) قال القرطبي في تفسيره: إن يوسف لم يَتَمَنَ الموت، وإنما تمنى الوفاة على الإسلام؛ أي إذا جاء أجلي توفني مسلما؛ وهذا قول الجمهور 0
(2) ذرية طيبة أي: نسلاُ صالحاً مباركاً 0(8/606)
(حديث أنَسٍ رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: قَالَتْ أمِّي يَارَسُولَ اللَّهِ خَادِمُكَ أنَسٌ ادْعُ اللَّهَ لَهُ قال: " اللَّهُمَّ أكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أعْطَيْتَهُ"0
{تنبيه}: (يجب الدُّعاء بالكثرة مع البَرَكَة، ذلك أن الكثرة دون بَرَكَةٍ لا فائدة منها0
(من دعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام:
{رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إنَّكَ أنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الممتحنة /5)
[*] عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
{لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أي: لاَ تُسَلِّطهُمْ عَلَيْنَا فَيَفْتِنُونَا (1)
{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ، رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} (إبراهيم/40، 41)
(دعاء محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه:
__________
(1) نقلا عن تفسير الطبري وابن كثير على الآية (5 ـ الممتحنة)(8/607)
قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1). وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ، بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (2). وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران /174،173]
(دعاء المؤمنين من قوم موسى عليه السلام:
{فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (يونس /85، 86)
(دعاء عِباَدُ الرحمن:
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (الفرقان/74)
ومعنى {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}: أي قُدْوَةً يُقْتَدَى بِنَا في 0 [الفرقان /74]
(دعاء أصحاب الكهف:
{إذْ أوَى الْفِتْيَةُ إلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أمْرِنَا رَشَدًا} (الكهف/10)
(دعاء المجاهدين في سبيل الله تعالى:
__________
(1) سورة الأنفال، الآيتان: 9، 10.
(2) سورة آل عمران، الآيات: 123 - 126.(8/608)
{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسْرَافَنَا فِي أمْرِنَا وَثَبِّتْ أقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (آل عمران/147)
[*] نقل الفخر الرازي في تفسيره عن القاضي عياض قال:
يَجْبُ تقديم التَّوْبَةِ والاِسْتِغْفَارِ على طَلَبِ النُّصْرَةِ، فَبَيَّنَ تعالى أنَّهم بَدَأو بالتَّوْبَةِ عن كل المعاصي، ثم سألوا ربَّهُمُ أن يُثَبِتَ أقدامهم، ثم سألوا بعد ذلك أن يَنْصُرَهُم على القوم الكافرين، ثم قال: وهذا تأديب من الله تعالى في كيفية الطَّلَبِ بالأدعية عند النَّوَائِبِ واَلْمِحَنِ سواء كان في الجهاد وغيره (1)
(الدعاء للمؤمنين بالمغفرة وللنفس بسلامة الصدر:
{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (الحشر/10)
(حديث عبادة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمنٍ حسنة.
ثانياً: الدعاء من السنة الصحيحة:
(أكثر دعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(حديث أنَسٍ رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: كان أكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ "0
[*] نقل المنَّاوي في فَيْضِ القَدِيرِ عن الطِيِبِي أنه قال:
إنَّمَا كان يُكْثُرْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هذا الدُّعَاء لأنه من الجَوَامِعِ التي تَحُوزُ جميع الخَيْرَاتِ الدُّنيوية والأخْرَوِيَةِ (2)
[*] ونقل ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى:
__________
(1) نقلا عن تفسير الرازي على الآية (آل عمران/147) بتصرف يسير 0
(2) أنظر فيض القدير حديث رقم: 6826 0(8/609)
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (البقرة /201) عن أبي طالوت (1) قال: كنت عند أنَس بْن مالك فقال لَهُ ثابت إنَّ إخْوَانك يُحِبُّونَ أنْ تَدْعُو لَهُمْ فَقَالَ: اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الآخِرَة حَسَنَة وَقِنَا عَذَاب النَّار، وَتَحَدَّثُوا سَاعَة حَتَّى إذَا أرَادُوا الْقِيَام قال أبَا حَمْزَة: إنَّ إخْوَانك يُرِيدُونَ الْقِيَام فَادْعُ اللَّه لَهُمْ، فقال: أتُرِيدُونَ أنْ أشْقُقَ لَكُمْ الأمُور إذَا آتَاكُمْ اللَّه فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الآخِرَة حَسَنَة وَوَقَاكُمْ عَذَاب النَّار فَقَدْ آتَاكُمْ الْخَيْر كُلّه (2)
(حديث شَهْرُ بن حَوْشَبٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قال: قُلْتُ لأمِّ سَلَمَةَ: يَا أمَّ الْمُؤْمِنِينَ مَا كَانَ أكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ عِنْدَكِ؟ قَالَتْ: كَانَ أكْثَرُ دُعَائِهِ " يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ " قالت: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أكْثَرَ دُعَاءَكَ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ؟ قال: " يَا أمَّ سَلَمَةَ إِنَّهُ لَيْسَ آدَمِيٌّ إِلاَّ وَقَلْبُهُ بَيْنَ أصْبُعَيْنِ مِنْ أصَابِعِ اللَّهِ فَمَنْ شَاءَ أقَامَ وَمَنْ شَاءَ أزَاغَ، فَتَلا مُعَاذٌ (3) {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إنَّكَ أنْتَ الْوَهَّابُ} (آل عمران/8)
(حديث أنَسٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أنْ يقول: " يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ "0
(دعاء القنوت في الوتر:
(حديث الحسن بن علي في صحيح السنن الأربعة) قال علمني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلمات أقولهن في الوتر {اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت}
(سؤال العمل النافع:
__________
(1) اسمه: عَبْد السَّلام بْن شَدَّاد 0
(2) انظر تفسير ابن كثير على الآية (201 ـ البقرة)، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري رقم: 5910 0(8/610)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي، وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي، وَزِدْنِي عِلْمًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَأعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ " 0
(الاستعاذة من المنكرات:
(حديث عن قطبة بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء 0
(الاستعاذة من الأمراض والأسقام:
(حديث أنس في صحيح أبي داوود) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: اللهم إني أعوذ بك من البرص والجنون والجذام ومن سيئِ الأسقام.
(دعاء لإذهاب الهم:
(حديث ابن مسعود في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما أصاب عبداً همٌ ولا حزنٌ فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكلِ اسمٌ هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدٌ من خلقك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبي ونورَ بصري وجلاء حزني وذهاب همِّي إلا أذهب الله همَّه وأبدله مكانه فرجاً.
(دعوات المكروب:
(حديث أبي بكرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين و أصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت.
(حديث ابن عباس في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول عند الكرب لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كربه أمر قال يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث.(8/611)
[*] قال المناوي رحمه الله تعالى: في تأثير هذا الدعاء في دفع هذا الهم والغم مناسبة بديعة فإن صفة الحياة متضمنة لجميع صفات الكمال مستلزمة لها وصفة القيمومية متضمنة لجميع صفات الأفعال، ولهذا قيل إن اسمه الأعظم هو الحي القيوم والحياة التامة تضاد جميع الآلام والأجسام الجسمانية والروحانية، ولهذا لما كملت حياة أهل الجنة لم يلحقهم هم ولا غم ونقصان الحياة يضر بالأفعال وينافي القيمومية فكمال القيمومية بكمال الحياة فالحي المطلق التام الحياة لا يفوته صفة كمال البتة والقيوم لا يتعذر عليه فعل ممكن البتة فالتوصل بصفة الحياة والقيمومية له تأثير في إزالة ما يضاد الحياة وتغير الأفعال فاستبان أن لاسم الحي القيوم تأثيراً خاصاً في كشف الكرب وإجابة الرب. اهـ.
(نسألك الهدى والتقى:
(حديث ابن مسعود في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
(ادخر هذه الكلمات فهي خير لك من الذهب والفضة:
(حديث شداد بن أوس الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له:" يا شداد بن أوس إذا رأيت الناس قد اكتنزوا الذهب والفضة؛ فأكثر هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسْألُكَ الثَّباتَ في الأمْرِ، والعَزِيمَةَ على الرُّشْدِ، وأسْألُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وأسْألُكَ شُكْرِ نِعْمَتِكَ، وحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وأسْألُكَ قَلْبًا سَلِيمًا، ولِسَانًا صَادِقًا، وأسْألُكَ مِنْ خَيْرِ ما تَعْلَم، وأعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَم، وأسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَم؛ إنَّكَ أنْتَ عَلاَمُ الغُيُوبِ "
(سؤال المغفرة والبركة:
(حديث أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أنَّ رَجُلاً قَالَ يَارَسُولَ اللَّهِ سَمِعْتُ دُعَاءَكَ اللَّيْلَةَ فَكَانَ الَّذِي وَصَلَ إِلَيَّ مِنْهُ أنَّكَ تَقُولُ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، وَوَسِّعْ لِي فِي دَارِي، وَبَارِكْ لِي فِيمَا رَزَقْتَنِي " قال: " فَهَلْ تَرَاهُنَّ تَرَكْنَ شَيْئًا "0
ومعنى " فَهَلْ تَرَاهُنَّ تَرَكْنَ شَيْئًا " أي: من خَيْرَيِ الدُّنيا والآخِرَة0
(الاستعاذة من العجز والكسل:
(حديث أنس في الصحيحين) قال كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم و الحزن و العجز و الكسل و الجبن و البخل و ضلع الدين و غلبة الرجال.(8/612)
[*] قال في فتح الباري: الْفَرْق بَيْن الْعَجْز وَالْكَسَل أنَّ الْكَسَل تَرْك الشَّيْء مَعَ الْقُدْرَة عَلَى الأخْذ فِي عَمَله، وَالْعَجْز عَدَم الْقُدْرَة (1)
(الاستعاذة من سخط الله تعالى:
(حديث ابن عمر في صحيح مسلم) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحوِّل عافيتك وفُجاءة نقمتك وجميع سخطك.
والفُجَاءَةُ: أي الْبَغْتَةُ0
(اجعل ثأرنا على من ظلمنا:
(حديث ابن عمر في صحيح الترمذي) قال قلما كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقوم من مجلسٍ حتى يدعو بهؤلاء الكلمات: اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا و بين معاصيك و من طاعتك ما تبلغنا به جنتك و من اليقين ما تُهوِّنُ به علينا مصيبات الدنيا و متعنا بأسماعنا و أبصارنا و قوتنا ما أحييتنا و اجعله الوارث منا و اجعل ثأرنا على من ظلمنا و انصرنا على من عادانا و لا تجعل مصيبتنا في ديننا و لا تجعل الدنيا أكبر همنا و لا مبلغ علمنا و لا تسلط علينا من لا يرحمنا.
(الاستعاذة من الجوع والخيانة:
(حديث هريرة في صحيحي أبي د اود والنسائي) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع و أعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة.
(طلب المغفرة والرحمة والهداية والرزق:
(حديث عن أبي مَالِكٍ الأشْجَعِيُّ عن أبِيهِ الثابت في صحيح مسلم) قال كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ مَنْ أسْلَمَ يَقُولُ:" اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَارْزُقْنِي"0
(الجوامع من الدعاء:
(حديث عائشة في صحيح ابن ماجة) أن رسول الله علمها هذا الدعاء اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله و آجله ما علمت منه و ما لم أعلم و أعوذ بك من الشر كله عاجله و آجله ما علمت منه و ما لم أعلم اللهم إني أسألك من خير ما سألك به عبدك و نبيك و أعوذ بك من شر ما عاذ به عبدك و نبيك اللهم إني أسألك الجنة و ما قرب إليها من قول أو عمل و أعوذ بك من النار و ما قرب إليها من قول أو عمل و أسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيرا.
__________
(1) أنظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري، حديث رقم: 2611 0(8/613)
(حديث عمار ابن ياسر في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو بهذا الدعاء اللهم بعلمك الغيب و قدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي و توفني إذا علمت الوفاة خيرا لي، اللهم و أسألك خشيتك في الغيب و الشهادة و أسألك كلمة الحق في الرضا و الغضب و أسألك القصد في الفقر و الغنى و أسألك نعيما لا ينفد و قرة عين لا تنقطع و أسألك الرضا بالقضاء و أسألك برد العيش بعد الموت و أسألك لذة النظر إلى وجهك و الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة و لا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين.
(حديث أبي هريرة في صحيح أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني وزدني علماَ.
(الاستعاذة من الفقر والقِلَة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:" اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ الْفَقْرِ وَالْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْ أنْ أظْلِمَ أوْ أُظْلَمَ "0
قال العلماء: المقصود بالفقر أي فَقْرُ النَّفْسِ الذي يُقَابِلُ غِنَى النَّفْسِ وهو: القَنَاعَة، والقِلَةُ أي: في أبواب البِّرِّ وخِصَالِ الخَيْرِ 0
(الاستعاذة من التَّخَبُطِ عند الموت:
(حديث هريرة في صحيحي أبي د اود والنسائي) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع و أعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة.
" وَأعُوذُ بِكَ أنْ يَتَخَبَّطَنِي الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ " فَسَّرَهُ الْخَطَّابِيّ بِأنْ يُسْتَوْلَى عَلَيْهِ عِنْد مُفَارَقَة الدُّنيا فَيُضِلّهُ ويَحْولُ بَيْنه وَبَيْن التَّوْبَة أوْ يُعَوِّقهُ عن إصلاح شأنه والخروج من مَظْلِمَة تَكُون قَبْله أوْ يُؤَيِّسهُ من رَحْمَة اللَّه أوْ يُكَرِّه لَهُ الْمَوْت وَيُؤْسِفهُ على حَيَاة الدُّنيا فلا يَرْضَى بِمَا قَضَاهُ اللَّه عَلَيْهِ مِنْ الْفَنَاء وَالنَّقْلَة إِلَى دَار الآخِرَة فَيُخِْتَمُ لَهُ وَيَلْقَى اللَّه وَهُوَ سَاخِط عَلَيْهِ (1)
(الدُّعاءُ بِتَزْكِيَّةِ النَّفْسِ:
__________
(1) أنظر شرح سنن النسائي للسندي والسيوطي، حديث رقم: 5436(8/614)
(حديث زيد ابن أرقم في صحيح مسلم) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها.
(الدُّعَاءُ بِاَلْعَافِيَةِ:
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعمه: أكْثِرْ اَلْدُّعَاءَ بِاَلْعَافِيَةِ " 0
(حديث ابن عمر في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) قال لم يكن رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الله يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح { ... اللهم إني أسألك العفو و العافية الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي و أهلي و مالي، اللهم استر عوراتي و آمن روعاتي و احفظني من بين يدي و من خلفي و عن يميني و عن شمالي و من فوقي و أعوذ بك أن اغتال من تحتي.
(الاستعاذة من أربع مهلكات:
(حديث زيد ابن أرقم في صحيح مسلم) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها.
(الاستعاذة بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَمِلْتُ:
(حديث فَرْوَةَ بن نَوْفَلٍ الأشْجَعِيِّ الثابت في صحيح مسلم) قال سَألْتُ عَائِشَةَ عَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو بِهِ اللَّهَ، قالت كان يقول: " اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَمِلْتُ وَمِنْ شَرِّ مَا لَمْ أعْمَلْ "0
(سؤال ستر العورة وتأمين الروعة:
(حديث ابن عمر في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) قال لم يكن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح اللهم إني أسألك العفو و العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو و العافية في ديني و دنياي و أهلي و مالي، اللهم استر عورتي و آمن روعتي و احفظني من بين يدي و من خلفي و عن يميني و عن شمالي و من فوقي و أعوذ بك أن اغتال من تحتي.
(الاستعاذة من الضلال:(8/615)
(حديث ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: "اللَّهُمَّ لَكَ أسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِعِزَّتِكَ لا إِلَهَ إِلاَّ أنْتَ أنْ تُضِلَّنِي، أنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لا يَمُوتُ، وَالْجِنُّ وَالإنْسُ يَمُوتُونَ " 0
(اسم الله الأعظم:
(حديث أنس في صحيح السنن الأربعة) قال سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.
(حديث بريدة في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا يقول: اللهم إني أسألك أني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.
(اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي:
(حديث أبِي موسى الأشْعَرِيِّ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أمْرِي وَمَا أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي وَخَطَئِي وَعَمْدِي وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أخَّرْتُ وَمَا أسْرَرْتُ وَمَا أعْلَنْتُ وَمَا أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأنْتَ الْمُؤَخِّرُ وَأنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "0
(التعوذ من جهد البلاء:
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتعوذ من جَهْدِ البلاء ودَرَكِ الشقاءِ وسوءِ القضاءِ وشماتةِ الأعداء.
والجَهْد أي: الضَّيِقِ والمَشَّقَةِ،
ودَرَكِ الشَّقَاءِ أي: الوُقُوعُ في المَصَائِبِ والمُهْلِكَاتِ0
(الاستعاذة من جار السوء:(8/616)
(حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَارِ السَّوْءِ فِي دَارِ الْمُقَامِ فَإِنَّ جَارَ الْبَادِيَةِ يَتَحَوَّلُ عَنْكَ"0
(دعاء يُفرَّج همَّ الدَّيْن:
(حديث علي في صحيح الترمذي) «أنَّ مُكَاتَبًا (1) جَاءَهُ فقال: إِنِّي قَدْ عَجَزْتُ عَنْ كِتَابَتِي فَأعِنِّي، قال ألا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كان عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ صِيرٍ (2) دَيْنًا أدَّاهُ اللَّهُ عَنْكَ؟ قال: قُلْ: " اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِحَلالِكَ عن حَرَامِكَ وَأغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ " 0
[*] قال العلماء: طلب المُكَاتِبُ المَالَ، فَعَلَّمَهُ الدُّعَاء إمَّا لأنه لم يَكُنْ عنده من المَالِ لِيُعِينَهُ فَرَدَّه أحْسَنَ رَدٍّ عملا بقوله تعالى {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ} أو أرْشَدَهُ إلى أنَّ الأوْلَىَ والأصْلَحَ له أن يَسْتَعيِنَ بالله لأدَائِهَا ولا يَتَكِلَ على اَلْغَيْرِ (3)
(الاستعاذة من ضلع الدَّيْن وغلبة الرجال:
(حديث أنس في الصحيحين) قال كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم و الحزن و العجز و الكسل و الجبن و البخل و ضلع الدين و غلبة الرجال.
(استغاثة الزمها وأكثر منها:
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " ألِظُّوا بِيَا ذَا الْجَلالِ وَالإكْرَام "0
" أَلِظُّوا " أي: الزموا هذه الدعوة وأكثروا منها0
(اللهم احفطني بالإسلام:
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو: " اللهم احفظني بالإسلام قائماً، واحفظني بالإسلام قاعداً، واحفظني بالإسلام راقداً، ولا تُشَمِت بي عدواً حاسداً، اللهم إني أسألك مِنْ كُلِّ خَيْرٍ خَزَائِنُهُ بِيَدِكَ، وأعُوُذُ بِكَ مِنْ كُلِّ شَرِّ خَزَائِنُهُ بِيَدِكَ "
(سؤال صلاح الدين والدنيا:
__________
(1) المُكاتب هو العبد يُكاتب سيده أي يتفق معه على مبلغ من المال متى ما أداه إليه أصبح حرا 0
(2) صِيْر: اسم جبل لقبيلة طئ 0
(3) أنظر تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي حديث رقم: 3486 0(8/617)
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري و أصلح لي دنياي التي فيها معاشي و أصلح لي آخرتي التي فيها معادي و اجعل الحياة زيادة لي في كل خير و اجعل الموت راحة لي من كل شر.
(الدعاء عَلَى اَلْكَافِرِينَ وَاَلْمُنَافِقِينَ:
قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (البقرة/10)
[*] قال القرطبي في تفسيره على الآية الكريمة:
قوله تعالى {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} قيل: هو دُعَاء عليهم، ويكون معنى الكلام: زَادَهُمْ اللَّه شَكًّا وَنِفَاقًا جَزَاء على كُفْرهمْ وَضَعْفًا عَنْ الانْتِصَار وَعَجْزًا عَنْ الْقُدْرَة، وعلى هذا يكون فِي الآيَة دَلِيل على جَوَاز الدُّعَاء على الْمُنَافِقِينَ وَالطَّرْد لَهُمْ، لأنَّهُمْ شَرّ خَلْق اللَّه0أ0هـ0
[*] وكان معاذ بن الحارث الأنصاري إذا انتصف رمضان لَعَنَ الكَفَرَةَ (1)
[*] وقال الأعرج: ما أدْرَكْتُ النَّاسَ إِلاَّ وَهُمْ يَلْعَنُونَ الْكَفَرَةَ فِي رَمَضَانَ0 (رواه مالك في الموطأ)
[*] قال في المنتقى شرح الموطأ:
قوله: (ما أدْرَكْت النَّاسَ إِلاَّ وَهُمْ يَلْعَنُونَ الْكَفَرَةَ فِي رَمَضَانَ) يُرِيدُ بِالنَّاسِ الصَّحَابَةَ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أنَّهُمْ كَانُوا يَقْنُتُونَ فِي رَمَضَانَ بِلَعْنِ الْكَفَرَةِ، وَمَحَلُّ قُنُوتِهِمْ الْوِتْرُ 0
[*] وقال الحافظ ابْنُ عَبْدِ البَّرِّ في شرحه لحديث الأعرج:
فيه إبَاحَةُ لَعْنُ الكَفَرَةِ، كانت لهم ذِمَّةٌ أوْلَمْ تَكُنْ، وليس ذلك بِوَاجِبٍ، ولكنه مُبَاحٌ لِمَنْ فَعَلَهُ غَضًَبا لله في جَحْدِهِمُ الحَقَّ وعَدَاوَتِهِم لِلْدِّيِنِ وأهله (2)
وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} (المائدة /78)
[*] قال القرطبي في تفسيره على الآية الكريمة:
فيه مسألة واحدة وهي: جَوَاز لَعْن الْكَافِرِينَ 0
[*] وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
__________
(1) نقلا عن عون المعبود شرح سنن أبي داود، حديث رقم: 1217 0
(2) الاستذكار، ج2، ص 73 وما بعدها 0(8/618)
الدُّعَاءُ على جِنْسِ الظَّالِمِينَ الكُفَّار مَشْرُوعٌ مَأمُورٌ بِهِ، وشُرِعَ القُنُوتُ والدُّعَاءُ للمؤمنين، والدُّعَاءُ على الكَافِرِين (1)
[*] قال ابن العربي:
دَعَا نُوحٌ على الكافرين أجمعين، ودَعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على من تَحَزَّبَ على المؤمنين وألَّبَ عليهم، وكان هذا أصلا في الدُّعَاءِ على الكافرين في الجملة، فأمَّا كافر مُعَيَّنٌ لَمْ تُعْلَمُ خَاتِمَتُهُ فلا يُدْعَى عليه؛ لأنَّ مَآلُهُ عندنا مجهول، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسَّعادة، وإنما خَصَّ الَّنِبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالدُّعَاءِ عُتَّبَةٌ وشَيَّبَةٌ وأصْحَابِهِمَا (2) لِعِلْمِهِ بِمَآلِهِم وما كُشِفَ له من الغِطَاءِ عن حَالِهِم، والله أعلم (3)
(أفضل الدعاء الحمد لله:
(حديث جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " أفْضَلُ الذِّكْرِ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ "
[*] قال القرطبي في تفسيره:
يُستحب للداعي أن يقول في آخر دعائه كما قال أهل الجنَّة {وآخر دعواهم أن الحمد لله ربِّ العالمين} (يونس/ 10)
(الدعاء على الظالمين:
الظلم داء خطير وشرُّه مستطير، يعصف بالظالم قبل المظلوم، وينذر بالخراب المحتوم، ومن بشاعة الظلم أن الجبار -جل جلاله- حرّمه على نفسه كما في الحديث الآتي:
(حديث ابن عمر في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الظلم ظلماتٌ يوم القيامة.
__________
(1) نقلا عن فتوى لفضيلة الشيخ / د0 علي بن بخيت الزهراني، اطلع عليها عبر موقع: www.almokhtsar.com على الشبكة المعلوماتية 0
(2) يعني دعاؤه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم عليك بقريش ثلاث مرات، اللهم عليك بأبي جهل بن هشام وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وعقبة بن أبي مُعيط حتى عد سبعة من قريش " قال عبد الله ـ راوي الحديث ـ فوالذي أنزل عليه الكتاب لقد رأيتهم صرعى يوم بدر في قَلِيبٍ واحد 0 (رواه النسائي ـ أنظر صحيح سنن النسائي رقم: 296)
(3) أنظر أحكام القرآن لابن العربي، سورة نوح الآية رقم: 26 0(8/619)
(حديث أبي ذرٍ في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي و جعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل و النهار و أنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني و لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله و من وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه. فالظلم من كبائر الذنوب، ومن أشنع المحرمات وأبشعها، ما أحله دين من الأديان، ولم تقره شريعة من الشرائع، ولم يبحه عرف من الأعراف؛ لأن عاقبته وخيمة في الدنيا قبل الآخرة، فالظلم سبب لنزول النقم، وسلب النعم، ومدعاة للمحق والبغض من الرب جل جلاله.
ولخطورة هذا الشر المستطير، وشناعة آثاره، وبشاعة نتائجه، وخبث ثماره، لم يمهل الرب -جل وعلا- فاعله إلى الدار الآخرة ليذيقه الهوان العظيم، والعذاب الأليم، والنكال المبين، بل يعجل له العقوبة والعذاب في الدنيا، ويريه شر ما جنت يداه ليشفي صدور قوم مظلومين مقهورين، فوضوا الأمر إلى رب العالمين.
(حديث أنس في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا:
البغي و العقوق.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشافعي قال: بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد.
فالظالم خاسر مغبون؛ لأن الله هو الذي يقتص منه، فمهما أوتي الظالم من قوة وجبروت، فهذا كله لا يمنعه من عقاب الله جل وعلا(8/620)
قال تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنّ اللّهَ غَافِلاً عَمّا يَعْمَلُ الظّالِمُونَ إِنّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ)
[إبراهيم:42، 43]
وقد تواترت الأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة على تحريم الظلم والتحذير منه والنهي عنه، وبيان عواقبه الوخيمة، فمن ذلك ما يلي:
قال تعالى: (وَالظّالِمُونَ مَا لَهُمْ مّن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ) [الشورى: 8]
قال تعالى: (مَا لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ) [غافر: 18]
قال تعالى: (إِنّ الّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىَ ظُلْماً إِنّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) [النساء: 10]
(حديث ابن عمر في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الظلم ظلماتٌ يوم القيامة.
(حديث أبي ذرٍ في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي و جعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل و النهار و أنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني و لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله و من وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه.(8/621)
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ و صيام و زكاة و يأتي وقد شتم هذا و قذف هذا و أكل مال هذا و سفك دم هذا و ضرب هذا فيُعطِى هذا من حسناته و هذا من حسناته فإن فنيت حسناتُه قبل أن يُقضَى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طُرح في النار.
(حديث ابن عمر في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أخذ من الأرض شيئا بغير حقه خُسِفَ به يوم القيامة إلى سبع أرضين.
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله تعالى لَيملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه.
[*] (أضرار الظلم وعواقبه:
1 - الظلم ظلمات يوم القيامة:
(حديث ابن عمر في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الظلم ظلماتٌ يوم القيامة.
[*] قال القاضي عياض:
"قيل: ظاهره أنه ظلمات على صاحبه حتى لا يهتدي يوم القيامة سبيلاً حيث يسعى نور المؤمنين بين أيديهم وبأيمانهم. وقد تكون الظلمات هنا الشدائد، وقد تكون الظلمات ها هنا عبارة عن الاتكال بالعقوبات عليه، وقابل بهذه اللفظة قوله: ((الظلم)) لمجانسة الكلام".
[*] وقال ابن الجوزي:
"وإنما ينشأ الظلم عن ظلمة القلب، لو استنار بنور الهدى لاعتبر، فإذا سعى المتقون بنورهم الذي حصل لهم بسبب التقوى اكتنفت ظلمات الظلم الظالم حيث لا يغني عنه ظلمه شيئاً".
2 - الظلم سبب هلاك الأمم:
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ} [يونس:13].
[*] قال ابن سعدي:
"يخبر تعالى أنه أهلك الأمم الماضية بظلمهم وكفرهم، بعدما جاءتهم البينات على أيدي الرسل تبين الحق فلم ينقادوا لها ولم يؤمنوا، فأحل بهم عقابه الذي لا يرد عن كل مجرم متجرئ على محارم الله، وهذه سننه في جميع الأمم".
3 - قبول دعوة المظلوم على الظالم:(8/622)
(حديث ا بن عباس في الصحيحين) قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذٍ ابن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك
فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتُردُ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاث دعوات مستجابات: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده.
[*] قال ابن عثيمين:
"فيه دليل على أن دعوة المظلوم مستجابة لقوله: ((فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)).
وفيه دليل على أنه يجب على الإنسان أن يتقي الظلم ويخاف من دعوة المظلوم، لأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بذلك".
4 - اللعن للظالمين:
قال تعالى: {أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18].
[*] قال ميمون بن مهران:
إن الرجل يقرأ القرآن وهو يلعن نفسه، قيل له: وكيف يلعن نفسه؟! قال: يقول: {أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} وهو ظالم.
5 - إملاء الله للظالم حتى يأخذه:
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله تعالى لَيملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: {وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ} [هود:102].
[*] قال القرطبي رحمه الله:
"يملي: يطيل في مدّته، ويصحّ بدنه، ويكثر ماله وولده ليكثر ظلمُه، كما قال تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً} [آل عمران:128]، وهذا كما فعل الله بالظلمة من الأمم السالفة والقرون الخالية، حتى إذا عمّ ظلمهم وتكامل جرمهم أخذهم الله أخذة رابية، فلا ترى لهم من باقية، وذلك سنة الله في كلّ جبار عنيد".
6 - حال الظالمين في الآخرة:
قال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} [إبراهيم:42، 43].
[*] قال ابن كثير:(8/623)
"يقول الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ} يا محمد {غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} أي: لا تسحبنه إذا أنظرهم وأجّلهم أنه غافلٌ عنهم مهمِل لهم لا يعاقبهم على صنعهم، بل هو يحصِي ذلك عليهم ويعدّه عليهم عداً، {إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ} أي: من شدّة الأهوال يوم القيامة. ثم ذكر تعالى كيفية قيامهم من قبورهم وعجلتهم إلى قيام المحشر فقال: {مُهْطِعِينَ} أي: مسرعين، {مُقْنِعِى رُءوسِهِمْ} قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: رافعي رؤوسهم، {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} أي: أبصارهم ظاهرة شاخصة مديمون النظر لا يطرفون لحظة لكثرة ما هم فيه من الهول والفكرة والمخافة لما يحلّ بهم، عياذاً بالله العظيم من ذلك، ولهذا قال: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} أي: وقلوبهم خاوية خالية ليس فيها شيء لكثرة الوجل والخوف".
7 - حرمان الفلاح:
قال تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:21].
[*] قال ابن سعدي:
"فكلّ ظالم وإن تمتّع في الدنيا بما تمتّع به فنهايته فيه الاضمحلال والتلف".
8 - حرمان الهداية والتوفيق:
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50].
وطلب هداية التوفيق من الأدعية التي أوجبها الله علينا في أعظم مقام نقف فيه بين يدي الله عز وجل، وهو في الصلاة، حيث نقول في كل ركعة: {اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}. فالظلم ـ أعاذنا الله منه ـ يكون سبباً لحرمان هداية التوفيق، وهذا يستلزم البعد عن مقامات الظلم حتى يستجيب الله دعاءنا في صلاتنا.
9 - حرمان حبّ الله تعالى:
قال تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى:40].
[*] قال ابن سعدي:
"أي: الذين يجنون على غيرهم ابتداء، أو يقابلون الجاني بأكثر من جنايته، فالزيادة ظلم".
10 - حلول المصائب في الدنيا والعذاب في القبر:
قال تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الطور:47].
[*] قال ابن سعدي:
"لما ذكر الله عذاب الظالمين في القيامة أخبر أن لهم عذاباً دون عذاب يوم القيامة، وذلك شامل لعذاب الدنيا بالقتل والسبي والإخراج من الديار، ولعذاب البرزخ والقبر".
11 - العذاب الأليم:(8/624)
قال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى:42].
[*] قال ابن سعدي:
"أي: إنما تتوجه الحجة بالعقوبة الشرعية {عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ}، وهذا شامل للظلم والبغي على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: موجع للقلوب والأبدان، بحسب ظلمهم وبغيهم".
12 - خذلان الظالم عند الله تعالى:
قال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18].
[*] قال ابن عثيمين:
"أي: أنه يوم القيامة لا يجد الظالم حميماً، أي: صديقاً ينجيه من عذاب الله، ولا يجد شفيعاً يشفع له فيطاع، لأنه منبوذ بظلمه وغشمه وعدوانه".
وقال تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [البقرة:270].
[*] قال ابن عثيمين:
"يعني: لا يجدون أنصاراً ينصرونهم ويخرجونهم من عذاب الله سبحانه".
مسألة: هل دعاء المظلوم على الظالم مكروها؟
الجواب: دُعاء المظلوم على مَن ظَلَمه ليس مكروها، إلا أن يتعدّى المظلوم في دُعائه، كأن يدعو بأكثر مما ظُلِم، أو أن يَدعو بإثم أو بِقطيعة رَحِم.
وقد أذِن الله للمظلوم أن يدعو على مَن ظَلَمَه.
قال تعالى: (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ ([النساء /148]
[*] قال ابن عباس في الآية:
يقول: لا يُحِبّ الله أن يَدعو أحَد على أحَد إلاَّ أن يكون مَظلوما، فإنه قد أرْخص له أن يَدعو على مَن ظَلَمه، وذلك قوله: (إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ)، وإن صَبَر فَهو خَيْر له.
وقال أيضا: لا بأس لمن ظُلم أن ينتصر ممن ظَلمه بمثل ظُلْمِه.
وقال تعالى: (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) [الشورى /41]
ثم قال تبارك وتعالى بعد ذلك: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ).
[*] قال الحسن البصري:
دعاؤه عليه أن يقول: اللهم أعِنِّي عليه، اللهم اسْتَخْرِج حَقّي منه.
وقيل: إن شُتِم جاز أن يَشْتِم بمثله لا يَزيد عليه. نَقَله البغوي.
[*] وقال ابن كثير في قوله تعالى:
(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) ما نصه:
أي: ليس عليهم جناح في الانتصار ممن ظَلَمهم. اهـ.(8/625)
فيجوز للمظلوم أن يَدعو على مَن ظَلَمه بِقَدْر مَظْلَمَتِه، وإن صَبر فهو أفضل له، لأن أجْر ذلك يُدَّخَر له يوم القيامة. وأفضل مِنه أن يصبر ويَغفر، فيَعظُم أجره.
والله تعالى أعلم.
فينبغي للمظلوم أن يفوض أمره إلى الله ويقول: "وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد"، ويكثر من قوله: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، وعليه أن يكثر من الدعاء على من ظلمه ويبشر بالخير؛ فقد أخذ الجبار -جل جلاله- بإجابة دعوة المظلوم؛ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" متفق عليه.
على المظلوم أن يستعين على الظالم بسهام الليل، فما هي سهام الليل؟ إنها الدعاء .. وقف أحد الرعية أمام أحد الطغاة، وقد أوقع عليه ظلماً شديداً، فقال الرجل للطاغية لاستعين عليك بسهام الليل! قال الطاغية: ما سهام الليل؟ قال الرجل: الدعاء.
فيا أيها المظلوم أبشر بنصر الله لك في الدنيا قبل الآخرة.
إن المتأمل في أحوال الناس اليوم يجد الكثير من الناس لا يتوقّى الظُّلم ولا دعوة المظلوم
ويتناسى أن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب.
وأن الله يرفعها فوق الغمام، ويقول: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين
فـ لله كم هلك بسببها من هالك
وكم شقي بسببها من سعيد
وكم افتقر بسببها من غني
وكم زال بسببها من مُلك
(إنها دعوات المظلومين، فدعوة المظلوم قد تصيبك في نفسك، دعوة المظلوم قد تصيبك في مالك، دعوة المظلوم قد تصيبك في ولدك، دعوة المظلوم تقلب صحتك سقمًا, دعوة المظلوم تقلب سعادتك شقاء، دعوة المظلوم تجعلك بعد العز والغنى ذليلاً حقيرًا فقيرًا.
(قيل لما حبس خالد بن برمك و ولده قال:
يا أبتي بعد العز صرنا في القيد و الحبس فقال: يا بني دعوة المظلوم سرت بليل غفلنا عنها و لم يغفل الله عنها و كان يزيد بن حكيم يقول: ما هبت أحدا قط هيبتي رجلا ظلمته و أنا أعلم أن لا ناصر له إلا الله يقول لي: حسبي الله: الله بيني و بينك.
ولله درُّ من قال:
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا ... فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبهٌ ... يدعو عليك وعين الله لم تنم
و حبس الرشيد أبا العتاهية الشاعر فكتب إليه من السجن هذين البيتين شعرا:
أما و الله إن الظلم شؤم ... و ما زال المسيء هو المظلوم
ستعلم يا ظلوم إذا التقينا ... غدا عند المليك من الملوم
ولله درُّ من قال:
توق دعا المظلوم إن دعاءه ... ليرفع فوق السحب ثم يجاب(8/626)
توق دعا من ليس بين دعائه ... و بين إله العالمين حجاب
و لا تحسبن الله مطرحا له ... و لا أنه يخفى عليه خطاب
فقد صحَّ أن الله قال و عزتي ... لأنصر المظلوم و هو مثاب
فمن لك يصدق ذا الحديث فإنه ... جهول و إلا عقله فمصاب
دخل طاوس اليماني على هشام بن عبد الملك فقال له: اتق الله يوم الأذان قال هشام: وما يوم الأذان؟ قال: قال الله تعالى: {فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين} فصعق هشام فقال طاوس: هذا ذا الصفة فكيف بذل المعاينة؟ يا راضيا باسم الظالم كم عليك من المظالم؟ السجن جهنم و الحق الحاكم!
أخي هل تعتقد أن الإنسان المظلوم يعيش مثل الإنسان الطبيعي؟
هل يحس بما نحس به نحن الآن؟ هل تعتقد بأن حياته طبيعية وشعوره عادي؟ إذا كنت تعتقد ذلك فأعد النظر يا صديقي!
الإنسان المظلوم لا يعيش حياته كغيره من البشر .. لا يعيش ولا يحس كالأشخاص الطبيعيين .. لا يحس بطعم الشراب ولا الطعام! لا يستطيع أن يستمتع بحياته! بل لا يستطيع حتى أن يبتسم مثلي ومثلك!!! الإنسان المظلوم يصاب بالإكتئاب .. الإنسان المظلوم باختصار يحس بأن هنالك صخرة بحجم الكرة الأرضية .. بل بحجم العالم كله .. تجثم على صدره!
وعندما يحاصَر المظلوم من كل جهة، ويضيّق عليه الخناق، فلا يستطيع الانتصار لنفسه ممن ظلمه، ولا يقدر على التخلص من الظلم الصارخ الذي أحاط به من كل جانب، يرفع يديه إلى السماء، فتَفتح له السماء أبوابها، وتأتيه منافذ الفرج، ويتنزل عليه المدد، إنه مدد السماء، من رب الأرباب، وخالق الأسباب، مهلك الجبابرة، وقاصم القياصرة، الذي أهلك عاداً الأولى، وثمود فما أبقى، وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى.
إن رحمة الله - تبارك وتعالى - تتجلى في هذا السلاح الفتاك الذي منحه الله للمظلومين، بل إن الظلمة مهما بلغوا من الطغيان أفراداً كانوا أو دولاً، قد يسقطون بسبب الدعاء.
(ولهذا دعا نوح _ عليه السلام _ على قومه عندما استضعفوه، وكذَّبوه، وردُّا دعوته.
(وكذلك موسى _ عليه السلام _ دعا على فرعون عندما طغى، وتجبر، وتسلط، ورفض الهدى ودين الحق؛ فاستجاب الله لهما، وحاق بالظالمين الخزي في الدنيا، وسوء العذاب في العقبى.
وكذلك الحال بالنسبة لكل من ظُلِم، واستُضْعِف؛ فإنه إن لجأ إلى ربه، وفزع إليه بالدعاء _ أجابه الله، وانتصر له وإن كان فاجرًا.
ولله درُّ من قال:
أما والله إن الظلم شؤم ... ومازال المسيء هو الظلوم(8/627)
إلى ديّان يوم الدين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم
هل يظن الظالم بأن الله غافل عنه، لا يعلم عنه، لا يقدر عليه؟ إن الله يمهل الظالم لكن لا يهمله، يصبر - عز وجل- على الظلمة ولكن إذا أخذهم لم يفلتهم. قال الله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [سورة النحل/ 61]
فيا أيها الظالم: اتق دعوة المظلوم، لا تعرض نفسك لدعائه؛ لأن دعوة المظلوم مستجابة. اتق دعوة المظلوم فإنها تُحمل على الغمام ويقول الله تعالى: ((وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين)). اتق دعوة المظلوم وإن كان كافراً، فإنه ليس دونها حجاب، فكيف بالمظلوم إن كان مسلماً، كيف بالمظلوم إن كان صالحاً تقياً.
والسنة الصحيحة طافحةٌ بما يدل على شناعة الظلم وأن الله تعالى يستجيب دعوة المظلوم وإن كان فاجرا، وهاك غيضٌ من فيض مما ورد في هذا:
(حديث ا بن عباس في الصحيحين) قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذٍ ابن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتُردُ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائمَ أموالهم، واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب.
(حديث خزيمة بن ثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اتقوا دعوة المظلوم فإنها تُحْمَلُ على الغمام يقول الله: و عزتي و جلالي لأنصرنك و لو بعد حين.
(حديث ابن عمر في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوة المظلوم مستجابة و إن كان فاجرا ففجوره على نفسه.
(ولذا وجب علينا تذكير الظالم برد المظالم
احذر أن تأتي يوم القيامة مفلساً وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد. ((8/628)
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ و صيام و زكاة و يأتي وقد شتم هذا و قذف هذا و أكل مال هذا و سفك دم هذا و ضرب هذا فيُعطِى هذا من حسناته و هذا من حسناته فإن فنيت حسناتُه قبل أن يُقضَى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طُرح في النار.
فاحذر يا مسكين من نار تلظى لا يصلاها إلا الأشقى.
فما هو الحل إذاً؟
الحل هو التحلل من المظالم وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه.
{تنبيه}: (واعلموا بأن الله تعالى لا يرد دعوة المظلوم ولو كانت من كافر، لا تقولوا بأن هذا كافر لا حرمة له، نعم. لا حرمة له؛ لأنه كافر نجس، ولكن لا تظلمه، ولا تأكل عليه حقه، ولا تأخذ منه حقه، أعطه حقه كاملاً موفوراً غير منقوص ولا تظلمه، فلو دعا عليك وهو كافر لاستجاب الله دعوته، وكفره على نفسه، وفجوره على نفسه، أما دعوة المظلوم فيرفعها الله فوق الغمام، ويقول لها: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) وكانت وصية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذ وهو ذاهب إلى اليمن: (واتق دعوة المظلوم -وكم من الناس لا يهتم بها، ولا يأبه لها- فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
اعلم بأن الله يمهلك ولا ينساك ولا يغفل عنك، فإن كنت ظالماً لأحد من عباد الله ولأحد من خلق الله كافراً كان أو مسلماً، فرد إليه المظلمة قبل أن يأتي يوم لا درهم فيه ولا دينار، ولا مناصب ولا كراسي ولا وزارات، ويؤخذ من حسناتك -يا عبد الله- فتعطى لمن ظلمت، حتى إذا ما فنيت حسناتك أُخذ من سيئات من ظلمتهم في الدنيا فطرحت عليك، فطرح صاحب المظالم على وجهه في النار، وهذا هو المفلس، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
[*] قال الإمام الشافعي وما أجمل ما قال:(8/629)
وربَّ ظلومٍ قد كفيت بحربه ... فأوقعه المقدور أيَّ وقوعِ
فما كان لي الإسلامُ إلا تعبدًا ... وأدعيةً لا تُتَّقى بدروع
وحسبك أن ينجو الظلومُ وخلفه ... سهامُ دعاءٍ من قِسيِّ ركوع
مُرَيَّشة بالهدب من كل ساهرٍ ... منهلة أطرافها بدموع (1)
وقال:
أتهزأ بالدعاء وتزدريه ... وما تدري بما صنع الدعاءُ
سهام الليل لا تخطي ولكن ... له أمدٌ وللأمد انقضاءُ (2)
(وإذا تقطعت بك -أيها المظلوم- الأسباب، وأُغلقت في وجهك الأبواب، فاقرع أبواب السماء، وُبثَّ إلى الجبار اللأواء، فهو مفزع المظلومين، وملجأ المستضعفين، وَعَدَ بنصرة الملهوف، وإجابة المظلوم، ظَلَم رجل سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- فقال سعد: (اللهم أعم بصره، وأطل عمره، عرضه للفتن)،
(قال الراوي: فأنا رأيته بعد قد عمي بصره، وقد سقط حاجبه على عينيه من الكبر، ويقول: كبير مفتون أصابته دعوة سعد.
(فيا ويل من وجهت له سهام المظلومين، ورفعت عليه أيدي المستضعفين، فاصبر -أيها المصاب- على ما قدر، فالنصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، واليسر مع العسر، والبلاء المحض هو ما يشغلك عن ربك، وأما ما يقيمك بين يديه ففيه كمالك وعزك، وإذا أقبل اليسر، وحل الفرج، وزالت الغموم، وما أقربَ الأمر، فاحمد الله على ما كشف، ففي الحمد شكر وزيادة نِعَم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر:60].
(والشواهد على إجابة دعوة المظلوم لا تكاد تحصر، ومنها ما جاء في قصة سعد بن أبي وقاص مع أهل الكوفة لما شكوه إلى عمر بن الخطاب.
قال أبو عوانة، وجماعة: حدثنا عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال:=شكا أهل الكوفة سعدًا إلى عمر فقالوا: إنه لا يحسن أن يصلي، فقال سعد: أما أنا فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله، صلاتي العشيِّ لا أخرم منها، أركد في الأوليين، وأحذف في الأخريين.
فقال عمر: ذلك الظن بك يا أبا إسحاق.
فبعث رجلاً يسألون عنه بالكوفة، فكانوا لا يأتون مسجدًا من مساجد الكوفة إلا قالوا خيرًا، حتى أتوا على مسجد لبني عبسٍ، فقال رجل يقال له أبو سعد: أما إذا نشدتمونا بالله فإنه كان لا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية، ولا يسير بالسرية.
__________
(1) ديوان الشافعي، تحقيق: د. محمد عبد المنعم خفاجي، ص109.
(2) ديوان الشافعي، ص75.(8/630)
(فقال سعد: اللهم إن كان كاذبًا فأعم بصره، وأطل عمره، وعَرِّضْهُ للفتن.
قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد يتعرض للإماء في السكك، فإذا قيل له: كيف أنت؟ قال: كبير مفتون أصابتني دعوة سعد. (1)
(وعن سعد أيضاً: أن رجلاً قام يسب علياً رضي الله عنه، فدافع سعد عن علي، واستمر الرجل في السب والشتم، فقال سعد: اللهم اكفنيه بما شئت.
فانطلق بعيرٌ من الكوفة فأقبل مسرعاً، لا يلوي على شيء، وأخذ يدخل من بين الناس حتى وصل إلى الرجل، ثم داسه بخفيه، حتى قتله أمام مشهد ومرأى من الناس.
[*] وقال الذهبي رحمه الله:
يقال إن رجلاً وشى على بسر بن سعيد عند الوليد بن عبد الملك بأنه يعيبكم.
قال: فأحضره وسأله، فقال: لم أَقُلْهُ؛ اللهم إن كنتُ صادقًا فأرني به آية، فاضطرب الرجل فمات. (2)
{تنبيه}: (ومِن حق من يدعو على الآخرين أن يذكر أولاً سبب الدعاء عليهم لئلا يتوهم السامع أن الدعاء دون سبب ولا ذنب، ولهذا قدّم موسى عليه السلام السبب والجناية التي استحق فرعون وقومه والملأ منهم دعوة نبيّهم بالهلاك "
قال تعالى: (وَقَالَ مُوسَىَ رَبّنَآ إِنّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا رَبّنَا لِيُضِلّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبّنَا اطْمِسْ عَلَىَ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتّىَ يَرَوُاْ الْعَذَابَ الألِيمَ) [سورة: يونس - الأية: 88] قال تعالى: (وَقَالَ مُوسَىَ رَبّنَآ إِنّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا رَبّنَا لِيُضِلّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبّنَا اطْمِسْ عَلَىَ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتّىَ يَرَوُاْ الْعَذَابَ الألِيمَ) [يونس / 88] "
(الدعاء بلفظ إن كان:
أحياناً يتهم الإنسان شخصاً بأنه أساء إليه، فهل له أن يدعو الله عز وجل على هذا المتّهم أو يقيّد الدعاء فيقول اللهم إن كان فلان ظلمنى أو أساء إلى في كذا ويذكر دعوته؟
[*] (يجيب عن التساؤل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى قائلا:
__________
(1) رواه أحمد 1/ 175_180، والبخاري (755)، في الأذان، باب وجوب قراءة الإمام والمأموم في الصلوات كلها، ومسلم (453) في الصلاة، باب القراءة في الظهر والعصر، والنسائي 2/ 217 باب الركود في الأوليين.
(2) سير أعلام النبلاء للذهبي 4/ 595.(8/631)
المظلوم له أن يدعو الله عز وجل على ظالمه بقدر ظلمه ودليل ذلك قول النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اتقي دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» أحياناً لا يتمكن المظلوم من الرد على ظالمه ومصارحته إما لأنه قريب له أو صديق أو زعيمٌ لا يمكن أن نتكلم معه فى هذا .. فحينئذٍ لا ملجأ له إلا الدعاء لكن أحياناً يتهم الإنسان شخصاً بأنه أساء إليه، فهل له أن يدعو الله عز وجل على هذا المتّهم أو يقيّد الدعاء فيقول اللهم إن كان فلان ظلمنى أو أساء إلى فى كذا ويذكر دعوته؟ الثانى أو الأول؟ الثانى .. يعني أحياناً يتهم القريب مثلاً بأنه أصاب شخصاً بعين أو أصاب شخصاً بسره لكن ما يستطيع الإنسان أن يتكلم لأنه ما عنده بينة ولا عنده دليل إلا أن القرائن القوية تدل على أن هذا أساء فهنا رب العالمين يعلم سبحانه وتعالى قل اللهم إن كان فلان هو الذى أصابني وتدعو (بما ترى أنك ستدعوه)
{تنبيه}: (وهذا المسلك سلكه من أصحاب النبي سعد ابن أبي وقاص وسعيد ابن زيد وكلاهما مبشرٌ بالجنة:
((قصة سعد ابن أبي وقاص):
أرسل عمر إلى الكوفة من يسأل عن سعد فكَانَ النَّاس يثنون عَلَيْهِ خيرًا حتى سئل عَنْهُ رجل من بني عبس.
فَقَالَ: أما إذا أنشدتمونا عن سعد فإنه كَانَ لا يخَرَجَ في السرية ولا يعدل بالرعية ولا يقسم بالسوية.
فَقَالَ سعد: اللَّهُمَّ إن كَانَ كاذبًا قام رياءً وسمعةً فاطل فأطل عمره وعظم فقره وعرضه للفتن.
فكَانَ يُرى وَهُوَ شيخ كبير قَدْ تدلى حاجباه من الكبر يتعرض للجواري يغمزهن في الطرقات وَيَقُولُ: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد.
((قصة سعيد بن زيد):
(وخاصمت أروى بنت أويس سعيد بن زيد رضي الله عنه عند مروان ابن الحكم أمير المدينة وادَّعت عليه أنه أخذ من أرضها، فقال: أنا كنت آخذ من أرضها شيئاً بعد الذي سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: وما سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ”من أخذ شبراً من الأرض بغير حقه طُوِّقه إلى سبع أرضين“
ثم قال: اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها، واجعل قبرها في دارها، قال: فرأيتها عمياء تتلمس الجدر تقول: أصابتني دعوة سعيد بن زيد، فبينما هي تمشي في الدار مرت على بئر في الدار فوقعت فيها فكانت قبرها (1).
(وممن سلك هذا المسلك أبو موسى الخولاني رحمه الله وكان مُجاب الدعوة:
((قصة أبو مسلم الخولاني)
__________
(1) مسلم برقم 1610، 2/ 1230.(8/632)
كان أبو مسلم الخولاني إذا انصرف من المسجد إلى منزله كبَّر على باب منزله فتكبر امرأته، فإذا كان في صحن داره كبَّر فتجيبه امرأته فإذا بلغ باب بيته كبَّر فتجيبه امرأته فانصرف ذات ليلة فكبَّر عند باب داره فلم يجبه أحد فلما كان في الصحن كبَّر فلم يجبه أحد فلما كان في باب بيته كبَّر فلم يجبه أحد وكان إذا دخل بيته أخذت امرأته رداءه ونعليه ثم أتته بطعامه.
قال فدخل فإذا البيت ليس فيه سراج وإذا امرأته جالسة في البيت منكسة تنكت بعود معها.
فقال لها: مَالَك؟
فقالت: أنت لك منزلة من معاوية وليس لنا خادم فلو سألته فأخدمنا وأعطاك فقال: اللهم من أفسد علي امرأتي فاعم بصره.
قال وقد جاءتها امرأة قبل ذلك فقالت زوجك له منزلة من معاوية فلو قلت له يسأل معاوية يخدمه ويعطيه عشتم.
قال: فبينا تلك المرأة جالسة في بيتها إذ أنكرت بصرها فقالت ما لسراجكم طفئ قالوا لا فعرفت ذنبها فأقبلت إلى أبي مسلم تبكي تسأله أن يدعو الله عز و جل لها يرد عليها بصرها.
قال: فرحمها أبو مسلم فدعا الله عز و جل لها فرد عليها بصرها.
((قصة مطرف بن عبد الله بن الشخير)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء عن حميد بن هلال، قال: كان بين مطرف وبين رجل من قومه شيء، فقال له مطرف: إن كنت كاذباً فأماتك الله أو تعجل الله بك قال: فخر ميتاً مكانه، قال: فاستعدى أهله زياداً وهو على البصرة فقال لهم زياد: هل ضربه هل مسه؟ فقالوا: لا، فقال زياد: هي دعوة رجل صالح وافقت قدر الله.
(ومن ذلك قصة الثلاثة الذين ابتلاهم الله في بني إسرائيل:(8/633)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن ثلاثة في بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمى، بدا لله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكا، فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، قد قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب عنه، فأعطي لونا حسنا، وجلدا حسنا، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: الإبل - أو قال البقر، هو شك في ذلك: أن الأبرص والأقرع: قال أحدهما الإبل، وقال الأخر البقر - فأعطي ناقة عشراء، فقال: يبارك لك فيها. وأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن، ويذهب عني هذا، قد قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب، وأعطي شعرا حسنا، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر، قال: فأعطاه بقرة حاملا، وقال يبارك لك فيها. وأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: يرد الله إلي بصري، فأبصر به الناس، قال: فمسحه فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطاه شاة والدا، فأنتج هذان وولد هذا، فكان لهذا واد من إبل، ولهذا واد من بقر، ولهذا واد من غنم، ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين، تقطعت
بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال، بعيرا أتبلغ عليه في سفري. فقال له: إن الحقوق كثيرة، فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرا فأعطاك الله؟ فقال: لقد ورثت لكابر عن كابر، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت. وأتى الأقرع في صورته وهيئته، فقال له مثل ما قال لهذا، فرد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذبا صيرك الله إلى ما كنت. وأتى الأعمى في صورته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل، وتقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى فرد الله بصري، وفقيرا فقد أغناني، فخذ ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخدته لله، فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك).
(أهم ما يسأل العبد ربه:
العبد يسأل ربه كل شيء يحتاجه في أمر دينه ودنياه، لأن الخزائن كلها بيده سبحانه وتعالى، قال سبحانه: {وإنْ من شيءٍ إلا عندَنا خزآئِنُهُ وما نُنَزِّلهُ إلا بقدَرٍ مَّعلومٍ}
[الحجر /21](8/634)
وهو سبحانه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ”اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ“ (1). أي لا ينفع ذا الغنى منك غناه وإنما ينفعه الإيمان والطاعة (2).
والله تعالى يحب أن يسأله العباد جميع مصالح دينهم ودنياهم، من المطاعم والمشارب، كما يسألونه الهداية، والمغفرة، والعفو والعافية (3) في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: {وسئَلُواْ اللهَ من فضلِهِ إنَّ اللهَ كانَ بكلِّ شيءٍ عليماً} [النساء /32]
ولكن العبد يهتم اهتماماً عظيماً بالأمور المهمة العظيمة التي فيها السعادة الحقيقية ومن أهم ذلك ما يأتي:
(1) سؤال الله الهداية:
لقوله تعالى: {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} [الكهف /17]
والهداية نوعان: هداية مجملة، وهي الهداية للإيمان والإسلام وهي حاصلة للمؤمن، وهداية مفصلة، وهي هدايته إلى معرفة تفاصيل أجزاء الإيمان والإسلام، وإعانته على فعل ذلك، وهذا يحتاج إليه كل مؤمن ليلاً ونهاراً، ولهذا أمر الله عباده أن يقرأوا في كل ركعة من صلاتهم قوله تعالى: {إيَّاكَ نعبُدُ وإيَّاكَ نستَعينُ} [الفاتحة /6]
(حديث ابن مسعود في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
(حديث علي في صحيح مسلم) قال، قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللهم إني أسألك الهدى والسداد.
وعلم الحسن بن علي رضي الله عنهما أن يقول في قنوت الوتر: ”اللهم اهدني فيمن هديت“
(حديث الحسن بن علي الثابت في صحيح السنن الأربعة) قال علمني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلمات أقولهن في الوتر {اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت}
(2) سؤال الله مغفرة الذنوب:
لأن من أهم ما يسأل العبد ربه مغفرة ذنوبه أو ما يستلزم ذلك كالنجاة من النار ودخول الجنة (4).
__________
(1) أخرجه مسلم 1/ 415.
(2) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 1/ 244.
(3) انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب 2/ 38 - 40.
(4) جامع العلوم والحكم 2/ 41، 404.(8/635)
والعبد محتاج إلى الاستغفار من الذنوب، وطلب مغفرة ذنوبه من الله تعالى، لأنه يخطئ بالليل والنهار، والله يغفر الذنوب جميعاً.
والكتاب والسنة الصحيحة طافحان بما يشحذ الهمم العالية إلى أن تنهل من كنوز الاستغفار بقدر ما تستطيع.
قال تعالى: (وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ) [المزمل / 20]
وتارةٌ يمدح أهله كقوله تعالى (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ) [سورة: آل عمران - الآية: 17]
وتارة يذكر الله تعالى أنه يغفر لمن يستغفره كقوله تعالى: (وَمَن يَعْمَلْ سُوَءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رّحِيماً) [سورة: النساء - الآية: 110]
وقال: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه /82]
(حديث الأغرِّ المُزني في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يا أيها الناس! توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة.
(حديث عبد الله بن بُسر في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال طوبى لمن وُجد في صحيفته استغفارا كثيرا.
(حديث أنس في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى: يا ابنَ آدَمَ إِنّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى ما كانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِي. يا ابنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَت ذُنُوبُكَ عَنَانَ السّمَاءِ ثُمّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِي. يا ابنَ آدَمَ إنّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرْضِ خَطَايَا ثُمّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بي شَيْئاً لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً».
(حديث أبي سعيد في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن إبليس لعنه الله قال وعزتك وجلالك لا أبرح أُغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم، فقال الله عز وجل: وعزتي وجلالي لا ابرح أغفر لهم ما استغفروني.(8/636)
(حديث شداد بن أوس في صحيح البخاري) سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني و أنا عبدك و أنا على عهدك و وعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي و أبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت من قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة و من قالها من الليل و هو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة.
(حديث زيد بن حارثة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له وإن كان فر من الزحف.
(وكثيراً ما يُقْرَنُ الاستغفار بذكر التوبة فيكون الاستغفار حينئذ عبارة عن طلب المغفرة باللسان، والتوبة عبارة عن الإقلاع عن الذنوب بالقلوب والجوارح، وقد وعد الله في سورة آل عمران (1) بالمغفرة لمن استغفر من ذنوبه ولم يصر على ما فعله فتحمل النصوص المطلقة في الاستغفار كلها على هذا المقيد، وأما استغفار اللسان مع إصرار القلب على الذنب فهو دعاء مجرد إن شاء الله أجابه وإن شاء رده، وقد يكون الإصرار مانعاً من الإجابة (2)،
(حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الثابت في صحيح الأدب المفرد) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ارحموا تُرحموا، واغفروا يغفر الله لكم، ويل لأقماع القول (3) ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون.
(وإن قال أستغفر الله وأتوب إليه فله حالتان:
الحالة الأولى: أن يقول ذلك وهو مصر بقلبه على المعصية فهذا كاذب في قوله: وأتوب إليه، لأنه غير تائب، فهو يخبر عن نفسه بأنه تائب وهو غير تائب.
والثانية: أن يكون مقلعاً عن المعصية بقلبه، ويسأله توبة نصوحاً ويعاهد ربه على أن لا يعود إلى المعصية، فإن العزم على ذلك واجب عليه فقوله ”وأتوب إليه“ يخبر بما عزم عليه في الحال (4).
(3) سؤال الله الجنة والاستعاذة به من النار:
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 135.
(2) جامع العلوم والحكم 2/ 407 - 411.
(3) جمع: قمع كضلع وهو الإناء الذي يترك في رؤوس الظروف لتملأ بالمائعات من الأشربة والأدهان شبه أسماع اللذين يستمعون القول ولا يعونه ولا يحفظونه ولا يعملون كالأقماع التي لا تعي شيئاً مما يفرغ فيها فكأنه يمر عليها مجازاً كما يمر الشراب في الأقماع اجتيازاً.
(4) انظر: جامع العلوم والحكم 2/ 410 - 412.(8/637)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجلٍ: ”ما تقول في الصلاة“؟ قال: أتشهد ثم أسأل الله الجنة، وأعوذ به من النار. أما والله ما أحسن دندنتك، ولا دندنة مُعاذ. فقال: ”حولها ندندنُ.
يعني حول سؤال الجنة والنجاة من النار.
(حديث أ أنس بن مالك بي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من سأل الله الجنة ثلاث مرات قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، ومن استجار من النار ثلاث مرات قالت النار: اللهم أجره من النار.
(4) سؤال الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة:
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعمه: أكْثِرْ اَلْدُّعَاءَ بِاَلْعَافِيَةِ " 0
(حديث ابن عمر في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) قال لم يكن رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الله يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح {اللهم إني أسألك العفو و العافية الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي و أهلي و مالي، اللهم استر عوراتي و آمن روعاتي و احفظني من بين يدي و من خلفي و عن يميني و عن شمالي و من فوقي و أعوذ بك أن اغتال من تحتي.
(5) سؤال الله تعالى الثبات على دينه:
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اللهم مُصَرِّفَ القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك.
(حديث أنَسٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أنْ يقول: " يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ "0
(6) سؤال الله تعالى دوام النعمة والاستعاذة به من زوالها:
وأعظم النعم نعمة الدين:
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري و أصلح لي دنياي التي فيها معاشي و أصلح لي آخرتي التي فيها معادي و اجعل الحياة زيادة لي في كل خير و اجعل الموت راحة لي من كل شر.
(حديث ابن عمر في صحيح مسلم) قال كان رسول الله يقول اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحوِّل عافيتك وفُجاءة نقمتك وجميع سخطك.
(7) الاستعاذة بالله من جهد البلاء ودرك الشقاء، وسوء القضاء وشماتة الأعداء:(8/638)
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتعوذ من جَهْدِ البلاء ودَرَكِ الشقاءِ وسوءِ القضاءِ وشماتةِ الأعداء.
(نموذج للدعاء عملياً:
1) نموذج لحمد الله تعالى والثناء عليه:
(اللهم لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ومنه ملئ السموات والأرض وما بينهما وملئ ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
(سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخرُ فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء، ليس كمثلك شيء وأنت السميع البصير.
(يا سامعا لكل شكوى، ويا عالما بكل نجوى.
يا سابغ النعم، ويا دفع النقم، ويا فارج الغم، ويا كاشف الهم يا مجيب دعوة المضطرين، يا من يقول للشيء كن فيكون، يا من لا حول ولا قوة إلا بك، يا من لا يتعاظمه شيءٌ أعطاه، يا أعدل من حكم، ويا حسيب من ظلم، ويا ولي من ظُلم.
يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيره الحوادث ولا الدهور، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما يظلم عليه الليل ويشرق عليه النهار.
كم من نعمة أنعمت بها علينا قل لك عندها شكرنا، وكم من بلية ابتليتنا بها قل عندها صبرنا، فيا من قل عند نعمته شكرنا فلم يحرمنا، ويا من قل عند بلائه صبرنا فلم يخذلنا أقذف في قلوبنا رجائك، اللهم اقذف في قلوبنا رجائك، اللهم اقذف في قلوبنا رجائك حتى لا نرجو أحدا غيرك.
يا سامعا لكل شكوى، ويا عالما بكل نجوى، يا كاشف كربتنا، ويا مستمع دعوتنا، ويا راحم عبرتنا، ويا مقيل عثرتنا، يا كاشف كل ضر وبلية، ويا عالم كل سر وخفية، يا عالم الخفيات ويارفيع الدرجات، يا قاضي الحاجات ويا مجيب الدعوات افتح لدعائنا باب القبول والإجابة وارزقنا التوبة وحسن الإنابة.
يا رب البيت العتيق أكشف عنا وعن المسلمين كل شدة وضيق، واكفنا والمسلمين ما نطيق وما لا نطيق، اللهم فرج عنا وعن المسلمين كل هم غم، وأخرجنا والمسلمين من كل حزن وكرب.
يا فارج الهم، يا كاشف الغم، يا منزل القطر، يا مجيب دعوت المضطر، يا سامعا لكل نجوى احفظ إيمان وأمن بلادنا، ووفق ولاة الأمر لما فيه صلاح الإسلام والعباد.
2) الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:(8/639)
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد.
(3) الدعاء باسم الله الأعظم أن يستجيب دعاءنا ولا يردنا خائبين:
اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم أن تستجيب دعاءنا ولا تردنا خائبين ولا عن بابك مطرودين ولا من رحمتك محرومين يا مجيب دعوة المضطرين، اللهم لا تحرمنا بذنوبنا ولا تطردنا بعيوبنا ويسِّر لنا أمورنا واختم بالصالحات أعمالنا، اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة واجعلنا ممن كتبت لهم الحسنى وزيادة.
اللهم يا عالم الخفيات ويا رفيع الدرجات ويا مجيب الدعوات ويا قاضى الحاجات افتح لدعائنا القبول والإجابة وارزقنا التوبة وحسن الإنابة.
اللهم إنك قلت وقولك الحق (أدعوني أستجب لكم)، ها نحن ندعوك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا
[*] (نموذج للدعاء من القرآن الكريم:
(اللهم اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضّآلّينَ) {الفاتحة/6،7}
(رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) {البقرة/286}
(رَبّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لّدُنْكَ رَحْمَةً إِنّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ {آل عمران/8}
ربّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِيَ أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) {آل عمران/ 147}
(رَبّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصّلاَةِ وَمِن ذُرّيَتِي رَبّنَا وَتَقَبّلْ دُعَآءِ، رَبّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) {إبراهيم / 40، 41}
(رَبّنَا اصْرِفْ عَنّا عَذَابَ جَهَنّمَ إِنّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً، إِنّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً) {الفرقان/66،65}(8/640)
(رَبّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرّيّاتِنَا قُرّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتّقِينَ إِمَاماً {الفرقان/74}
رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاّ لّلّذِينَ آمَنُواْ رَبّنَآ إِنّكَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ) {{الحشر / 10}
({رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف 23].
({رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [هود 47].
({رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح 28].
({رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
{وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة 127، 128].
({رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء} [إبراهيم 40].
({رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم 41].
({رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ، وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ، وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ، وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء 83 - 87].
({رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات 100].
({رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة 4].
({رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الممتحنة 5].
({رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل 19].
({رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء} [آل عمران 38].
({رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء 89].
({لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء 87].(8/641)
({رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه 25 - 28].
({رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص 16].
({رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران 53].
({رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس 85، 86].
({ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران 147].
({رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف 10].
({رَبِّ زِدْنِي عِلْمَاً} [طه 114].
({رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} [المؤمنون 97 - 98].
({رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون 118].
({رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة 201].
({سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة 285].
({رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة 286].
({رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران 8].(8/642)
({رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ، رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ، رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران 191 - 194].
({رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون 109].
{رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا، إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان 65، 66].
({رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف 15].
({رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر 10].
({رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم 8].
({رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران 16].
({رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة 83].
({رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم 35].
({رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص 24].
({رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} [العنكبوت 30].
({رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف 47].
({حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة 129].
42 - {عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ} [القصص 22].
({رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص 21].
[*] (نموذج للدعاء من السنة:(8/643)
* (حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري و أصلح لي دنياي التي فيها معاشي و أصلح لي آخرتي التي فيها معادي و اجعل الحياة زيادة لي في كل خير و اجعل الموت راحة لي من كل شر.
* (حديث الحسن بن علي في صحيح السنن الأربعة) قال علمني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلمات أقولهن في الوتر {اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت}
(حديث علي في صحيح أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في آخر وتره: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك و بمعافاتك من عقوبتك و أعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
(حديث ابن عمر في صحيح مسلم) قال كان رسول الله يقول اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحوِّل عافيتك وفُجاءة نقمتك وجميع خلقك.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتعوذ من جَهْدِ البلاء ودَرَكِ الشقاءِ وسوءِ القضاءِ وشماتةِ الأعداء.
(حديث ابن مسعود في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
(حديث علي في صحيح مسلم) قال، قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللهم إني أسألك الهدى والسداد.
(حديث أنس في الصحيحين) قال كان أكثر دعاء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (اللهم آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار.
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اللهم مُصَرِّفَ القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك.
(حديث أنس في الصحيحين) قال كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم و الحزن و العجز و الكسل و الجبن و البخل و ضلع الدين و غلبة الرجال.
(حديث عائشة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في دعائه: اللهم إني أعوذ بك من شرِ ما عملت ومن شرِ ما لم أعمل.
(حديث زيد ابن أرقم في صحيح مسلم) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها.(8/644)
(حديث زياد ابن علاقة عن عمه قُطبة ابن مالك في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء.
(حديث شَكَل ابن حُمَيد في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال قلت يا رسول الله علمني دعاءاً، قال: قل اللهم إني أعوذ بك من شرِّ بصري ومن شر لساني ومن شر قلبي ومن شر منيِّي.
(حديث أنس في صحيح أبي داوود) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: اللهم إني أعوذ بك من البرص والجنون والجذام ومن سيئِ الأسقام.
(حديث أبي البسر في صحيحي أبي داوود والنسائي) أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو اللهم إني أعوذ بك من التردي و الهدم و الغرق و الحرق و أعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت و أعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرا و أعوذ بك أن أموت لديغا.
(حديث هريرة في صحيحي أبي د اود والنسائي) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع و أعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة.
(حديث ابن عمر في صحيح الترمذي) قال قلما كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقوم من مجلسٍ حتى يدعو بهؤلاء الكلمات: اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا و بين معاصيك و من طاعتك ما تبلغنا به جنتك و من اليقين ما تُهوِّنُ به علينا مصيبات الدنيا و متعنا بأسماعنا و أبصارنا و قوتنا ما أحييتنا و اجعله الوارث منا و اجعل ثأرنا على من ظلمنا و انصرنا على من عادانا و لا تجعل مصيبتنا في ديننا و لا تجعل الدنيا أكبر همنا و لا مبلغ علمنا و لا تسلط علينا من لا يرحمنا.
(حديث عمار ابن ياسر في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو بهذا الدعاء اللهم بعلمك الغيب و قدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي و توفني إذا علمت الوفاة خيرا لي، اللهم و أسألك خشيتك في الغيب و الشهادة و أسألك كلمة الحق في الرضا و الغضب وأسألك القصد في الفقر و الغنى و أسألك نعيما لا ينفد و قرة عين لا تنقطع و أسألك الرضا بالقضاء و أسألك برد العيش بعد الموت و أسألك لذة النظر إلى وجهك و الشوق إلى لقاءك في غير ضراء مضرة و لا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان و اجعلنا هداة مهتدين.(8/645)
(حديث عائشة في صحيح ابن ماجة) أن رسول الله علمها هذا الدعاء اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله و آجله ما علمت منه و ما لم أعلم و أعوذ بك من الشر كله عاجله و آجله ما علمت منه و ما لم أعلم اللهم إني أسألك من خير ما سألك به عبدك و نبيك و أعوذ بك من شر ما عاذ به عبدك و نبيك اللهم إني أسألك الجنة و ما قرب إليها من قول أو عمل و أعوذ بك من النار و ما قرب إليها من قول أو عمل و أسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيرا.
(حديث أبي هريرة في صحيح أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني وزدني علماَ.
(حديث ابن عمر في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) قال لم يكن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح اللهم إني أسألك العفو و العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو و العافية في ديني و دنياي و أهلي و مالي، اللهم استر عورتي و آمن روعتي و احفظني من بين يدي و من خلفي و عن يميني و عن شمالي و من فوقي و أعوذ بك أن اغتال من تحتي.
(حديث ابن مسعود في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما أصاب عبداً همٌ ولا حزنٌ فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكلِ اسمٌ هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدٌ من خلقك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبي ونورَ بصري وجلاء حزني وذهاب همِّي إلا أذهب الله همَّه وأبدله مكانه فرجاً.
{تنبيه}: (يستحب للمسلم أن يدعو للمؤمنين والمؤمنات فإنه من كنوز الحسنات
(حديث عبادة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمنٍ حسنة.
[*] (نموذج لأدعية ليست من الكتاب والسنة ولكنها نافعة وتوافق الكتاب والسنة:
(اللهم ارزقنا الإخلاص قولاً وعملاً سراً وعلانية
(اللهم طهر قلوبنا من النفاق وأعمالنا من الرياء وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة إنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور
(اللهم ارزقنا الثبات على الدين وحسن الخاتمة
(اللهم وّسِّع في أرزاقنا من المال والعلم ولا تفتنا بهم وفقنا إلى الإحسان لإلى الناس بهم
(اللهم افتح علينا رزقاً لا تجعل لأحدٍ علينا فيه منة ولا لك علينا في الآخرة تبعة(8/646)
(اللهم إنا نُنزل فاقتنا بك ولا ننزلها بأحدٍ سواك فاغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك.
(اللهم فَرِّج هم المهمومين ونفِّس كرب لمكروبين واقض الدين عن المدينين وارحم موتانا وموتى المسلمين، اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم وأكرم نزلهم ووسع مدخلهم واغسلهم بالماء والثلج والبرد ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدلهم داراً خيراً من دارهم وأهلاً خيراً من أهلهم وزوجاً خيراً من زوجهم وأعذهم ن عذاب القبر وعذاب النار، اللهم اغفر لهم في المهديين واخلفهم في عقبهم في الغابرين واغفر لنا ولهم يا رب العالمين، ووسِّع لهم في قبورهم ونوِّر لهم فيها، اللهم وجازهم بالحسنات إحساناً وبالسيئات عفواً وغفراناً حتى يكونوا في بطون الألحاد مطمئنين وعند قيام الأشهاد آمنين، اللهم انقلهم من ضيق اللحود ومراتع الدود إلى جنات الخلود في سدرٍ مخضود وطلحٍ منضود وظلٍ ممدود وماءٍ مسكوب، اللهم وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه.
(اللهم يا رحيم يا رحمن ارزقنا الغفران والعفو عما سلف وكان من الذنوب والعصيان، وارزقنا خشية الرحمن وامتثال القرآن وجنبنا العصيان واستحواذ الشيطان وارزقنا التوبة الصالحة قبل فوات الأوان
(اللهم يا رحيم يا غفار ألزِم قلوبنا السكينة والوقار والفكرة والاعتبار والتوبة والاستغفار
واجعلنا من عبادك الصادقين الأبرار وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
(اللهم يا رحيم يا تواب وفقنا للحق والصواب وموافقة السنة والكتاب وارزقنا التوبة وحسن المآب قبل أن يمر العمر مر السحاب
(اللهم يا عزيز يا غفور ارحم غربتنا في القبور وما فيها من الدواهي والأمور تحت الجنادل والصخور وحوِّل ظلمتها إلى نور، وآمنَّا يوم البعث والنشور، ووفقنا لفعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور وعملٍ متقبلٍ مبرور، إنك سبحانك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
(اللهم يا عليُّ يا كبير يا من لا يظلم الفتيل والنقير تجاوز عن الخطأ والتقصير والطُف بنا فيما جرت به المقادير، إنك سبحانك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير، وأنت حسبنا ونعم الوكيل، وآخر دعونا أن لحمد لله ر العالمين.(8/647)
(اللهم يا فالق الحب والنوى ويا مُنشيء الأجساد بعد البِلى وفقنا لحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى وأن نتذكر الموت والبلى فنستحي من الله حق الحيا.
(اللهم يا ذا القوة المتين يا رجاء السائلين ويا مجيب دعوة المضطرين اجعلنا من حزبك المفلحين وعبادك المتقين وآمنَّا من الفزع الأكبر يوم الدين واغفر لنا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين.
(اللهم يا فعَّالاً لما تريد يا ذا الحبل الشديد والأمرِ الرشيد نسألك الأمن يوم الوعيد والجنة دار الخلود مع المقربين الشهود الرُكَّعِ السجُود الموفين بالعهود يا غفور يا ودود.
(اللهم وفق الرعاةَ والرعية وأصلح لهم النية ونجهم من كلِ بلِّية، اللهم وفقهم بتوفيقك وأيدهم بتأييدك، اللهم اهدهم بهداك واجعل عملهم في رضاك، وقيض لهم البطانة الصالحة التي تعينهم على مصالح العباد والبلاد، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءاً رخاءاً وسائر بلاد المسلمين ووفقهم للعمل بالدين يا قوي يا متين.
(سادساً قيام الليل:
(فضل قيام الليل:
لقيام الليل فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم، له منافع عظيمة وفوائد عميمة في الدارين، والكتاب والسنة طافحين بما يدل على فضل قيام الليل، وإليك غيضٌ من فيض وقليلٌ من كثير مما ورد في الوحيين في فضل قيام الليل.
- أولاً: الكتاب:
(1) أمر الله تعالى نبيه بقيام الليل فقال: (وَمِنَ الْلّيْلِ فَتَهَجّدْ بِهِ نَافِلَةً لّكَ عَسَىَ أَن يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقَاماً مّحْمُوداً) [الإسراء / 79]
وهذا الأمر وإن كان خاصاً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا أن عامة المسلمين يدخلون فيه بحكم أنهم مطالبون بالإقتداء به - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من جهة، ولأنه ليس من الأشياء الخاصة بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من جهةٍ أخرى،
(2) بين الله تعالى أن قيام الليل من صفات المحسنين.
وقال تعالى: (إِنّ الْمُتّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبّهُمْ إِنّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُواْ قَلِيلاً مّن اللّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) [الذاريات/17:15]
(3) مدحهم الله تعالى وأثنى عليهم ونظمهم في جملة عباده الأبرار؛
وقال تعالى: (وَعِبَادُ الرّحْمََنِ الّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىَ الأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً * وَالّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجّداً وَقِيَاماً)
[الفرقان/64،63](8/648)
(4) نفى التسوية بينهم وبين غيرهم ممن لم يتصف بوصفهم:
قال تعالى: (أَمّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اللّيْلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الاَخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنّمَا يَتَذَكّرُ أُوْلُو الألْبَابِ) [الزمر/ 9]
(5) بين الله تعالى أن قيام الليل أشدُ موافقةً للحفظ وأبلغ، وطلب من نبيه أن ينقطع له انقطاعاً جزءاً من الوقت؛
قال تعالى: (يَأَيّهَا الْمُزّمّلُ * قُمِ الْلّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً * نّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً *
إِنّ نَاشِئَةَ اللّيْلِ هِيَ أَشَدّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنّ نَاشِئَةَ اللّيْلِ هِيَ أَشَدّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ وَتَبَتّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) (المزمل /8:1)
(6) قال الله تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِاللأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (الذاريات: الآية: 17 - 18). وهى فى وصف المحسنين.
[*] عن قتادة ومجاهد قالا: كانوا لاينامون ليلة حتى الصباح.
[*] وعن ابن عباس: لم تكن تمضى عليهم ليلة إلا يأخذوا منها شيئاً.
(7) وقال تعالى في وصف عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا}
[الفرقان:64]
(8) وذكر الله تعالى هذه العبادة الجليلة ثم عقبها بالجزاء فقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (السجدة: الآية: 16).
ثم عقب بقوله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة: الآية: 17).
ولما أخفوا العمل واستتروا بجنح الظلام أخفى الله عز وجل لهم الأجر.
- ثانياً السنة:
(1) بينت السنة الثابتة الصحيحة أن أفضل صلاة بعد الفريضة صلاةُ الليل.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضلُ الصلاة بعد الفريضة صلاةُ الليل)
(2) قيام الليل عادة قديمة للصالحين، وهو سبب في تكفير السيئات واغتنام الحسنات وهو مطردة للداء عن الجسد؛(8/649)
(حديث أبي أمامة الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: عليكم بقيامِ الليل فإنه دأبٌ الصالحين قبلكم، و قربةٌ إلى ربكم، و منهاةٌ عن الإثم و تكفيرٌ للسيئات، و مطردةٌ للداءِ عن الجسد)
(3) قيام الليل من أسباب دخول الجنة:
(حديث عبد الله بن سلام الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يأيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام.
(4) قيام الليل يكون سبباً في النجاة من الفتن، ومما يُستعدُّ به من الحسنات للآخرة:
(حديث أم سلمة الثابت في صحيح البخاري) قالت: استيقظ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلةً فزعاً يقول: سبحان الله ماذا أنزل الله من الخزائن وماذا أنزل من الفتن، من يوقظُ صواحبٌ الحجرات، يريد أزواجه لكي يصلين، ربَّ كاسيةٍ في الدنيا عاريةٍ في الآخرة)
الشاهد:
أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ما قال ماذا أنزل الله من الفتن، عقب بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من يوقظ صواحب الحجرات، فدلَّ على أن صلاة الليل تنجي من الفتن، ثم عقب بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ربَّ كاسية الملابس في الدنيا عارية من الحسنات يوم القيامة فدلَّ على أنه مما يستعد به من الحسنات.
(5) قيام الليل سبب النشاط:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يعقدُ الشيطانُ على قافيةِ رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عُقد يَضربُ على مكانِ كلِ عُقدة، عليك ليلٌ طويلٌ فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عُقدة فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان.
(6) كره النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ينام الرجل الليل كله،
(حديث ابن مسعود الثابت في الصحيحين) قال: ذُكر عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلٌ فقيل ما زال نائماً حتى أصبح، ما قام إلى الصلاة. فقال: بال الشيطانُ في أذنه.
(7) أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الإمام علي وابنته فاطمة بقيام الليل لحرصه عليهما،(8/650)
(حديث علي الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طرقَهُ وفاطمة بنت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلةً فقال: ألا تصليان؟ فقلتُ يا رسول الله أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع اليَّ شيئاً، ثم سمعته وهو مٌوَلٍّ يضرب فَخِذه وهو يقول: وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً.
(8) قيام الليل شرفُ المؤمن.
(حديث سهل بن سعد الثابت الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أتاني جبريل فقال: يا محمدُ عِش ما شئت فإنك ميت و أحبب من شئت فإنك مفارِقُه، و اعمل ما شئت فإنك مجزيٌ به، و اعلم أن شرفَ المؤمن قيامُهُ بالليل و عزَّه استغناؤه عن الناس.
(9) حث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على التعاون بين الزوجين على قيام الليل،
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود والنسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى و أيقظ امرأته فصلت فإن أبتْ نضح في وجهها الماء، و رحم الله امرأةً قامت من الليل فصلت و أيقظت زوجَها فصلى فإن أبى نضحت في وجهه الماء.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا أيقظ الرجلُ أهله من الليل فصليا ركعتين جميعاً كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.
- الآثار في فضل قيام الليل:
[*] كان ابن مسعود - رضي الله عنه - إذا هدأت العيون قام فيسمع له دوىّ كدوىّ النحل حتى يصبح.
[*] قيل للحسن: ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوهاً؟ قال: " لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نوراً من نوره ".
[*] وقال: " إن الرجل ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل ".
[*] وقال رجل لأحد الصالحين: لا أستطيع قيام الليل فصف لى دواءاً، فقال: لا تعصه بالنهار وهو يقيمك بين يديه بالليل.
[*] ويروى عن سفيان الثورى أنه قال: " حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أصبته ".
[*] وقال ابن المبارك:
إذا ما الليل أظلم كابدونه ... فيسفر عنهم وهم هجوع
أطار الخوف نومهم فقاموا ... وأهل الأمن فى الدنيا هجوع
[*] وقال أبو سليمان: " أهل الليل فى ليلهم ألذ من أهل اللهو فى لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء فى الدنيا ".
[*] قال ابن المنكدر: " ما بقى من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، وصلاة الجماعة ".(8/651)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال: أدركت أقواماً يستحيون من الله سواد الليل، من طول الهجعة، إنما هو على الجنب، فإذا تحرك قال: ليس هذا لك، قومي خذي حظك من الآخرة.
(لله درُ أقوامٍ أزعجهم الهم عن أوطانهم، وثبتت الأحزان في أسرارهم، فهممهم إليه سائرة، وقلوبهم إليه من الشوق طائرة، فقد أضجعهم الخوف على فرش الأسقام، وذبحهم الرجاء بسيف الانتقام، وقطع نياط قلوبهم كثرة بكائهم عليه، وزهقت أرواحهم من شدة الوله إليه، قد هد أجسامهم الوعيد، وغير ألوانهم السهر الشديد،
قوماً أزعجهم الهم عن أوطانهم، وثبتت الأحزان في أسرارهم، فهممهم إليه سائرة، وقلوبهم إليه من الشوق طائرة، فقد أضجعهم الخوف على فرش الأسقام، وذبحهم الرجاء بسيف الانتقام، وقطع نياط قلوبهم كثرة بكائهم عليه، وزهقت أرواحهم من شدة الوله إليه، قد هد أجسامهم الوعيد، وغير ألوانهم السهر الشديد،
(أفضلُ وقت لصلاة الليل:
مسألة: ما هو أفضلُ وقت لصلاة الليل؟
أفضل وقته الثلث الأخير:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ينزل ربنا عز وجل ... كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له.
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أحبُ
الصيام إلى الله صيام داود عليه السلام، وأحبُ الصلاة إلى الله صلاة داود، وكان داود ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً.
(آداب قيام الليل:
(1) أن ينوي عند نومه قيام الليل، فإن غلبه النوم كُتب له الأجر وكان نومه صدقة عليه، ولم يُعدُّ مفرطاً.
(حديث عائشة الثابت في صحيح أبي داوود والنسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من امرئ تكون له صلاة بليل يغلبه عليه نوم إلا كتب له أجر صلاته وكان نومه صدقةً عليه.
(حديث أبي قتادة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقتها الأخرى.
(حديث أبي قتادة الثابت في صحيح السنن الأربعة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ليس في النوم إنما التفريط في اليقظة، فإذا نسيَ أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها ولوقتها من الغد.
(2) يدعو بالدعاء الوارد عند استيقاظه بالليل للصلاة:(8/652)
(حديث عبادة بن الصامت الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من تعارَّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير، سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر و لا حول و لا قوة إلا بالله ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا استجيب له، فإن فتوضأ و صلى قُبلت صلاته.
(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا قام من الليل يتهجد قال: اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيمُ السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وأخرت وأسررت وأعلنت أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت.
{تنبيه}: (لا يُشترط في قيام الليل أن يسبق بنوم ولكن الأفضل أن يسبق بنوم.
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أحب الصيام إلى الله صيام داود، و أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، و كان داود ينام نصف الليل و يقوم ثلثه و ينام سدسه، ويصوم يوما و يفطر يوما.
(3) يفتتح الصلاة بركعتين خفيفتين:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح الصلاة بركعتين خفيفتين.
(4) أن يوقظ أهله لقيام الليل:
(حديث أم سلمة الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استيقظ من الليل فزعاً فقال: ماذا أُنزل الليلة من الخزائن و: ماذا أُنزل من الفتن، من يُوقظ صواحب الحجرات – لكي يصلين - رُبَّ كاسيةٍ في الدنيا عاريةٍ في الآخرة.
(حديث علي الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طرقه وفاطمة فقال ألا تصليان؟ فقلت يا رسول الله أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إليَّ شيئا ثم سمعته وهو مولٍ يضرب فخذه وهو يقول وكان الإنسان أكثر شيء جدلا >!(8/653)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود والنسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: رحم الله رجلا قام من الليل فصلى و أيقظ امرأته فصلت فإن أبت نضح في وجهها الماء و رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت و أيقظت زوجها فصلى فإن أبى نضحت في وجهه الماء.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا أيقظ الرجل أهله فصليا ركعتين جميعا كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات
(5) أن يترك الصلاة ويرقد إذا غلبه النعاس:
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذاصلى أحدكم وهو ناعسٌ فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لعله يستغفر فيسب نفسه.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدر ما يقول فليضطجع.
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال: دخل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسجد فإذا حبلٌ ممدود بين ساريتين فقال ما هذا؟ قالوا هذا حبلٌ لزينب فإذا فترت تعلقت، قال حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد.
(6) أن يطوِّل القيام إن كان يستطيع:
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال: صليت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلةً فلم يزل قائماً حتى هممتُ بأمرِ سَوْءٍ، قيل وما هممت؟ قال هممتُ أن أقعد وأذر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين و من قام بمائة آية كتب من القانتين و من قام بألف آية كتب من المقنطرين.
{تنبيه} معنى من المقنطرين: الذين يوفون أجورهم بالقنطار
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء الحواري بن أبي الحواري أبو عيسى، قال: رأيت سفيان الثوري يصلي قائماً حتى تغلبه عيناه، ثم يصلي قاعداً حتى يعي فيضطجع فيصلي مضطجعاً.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفربي، قال: كان سفيان الثوري يصلي ثم يلتفت إلى الشباب. فيقول: إذا لم تصلوا اليوم فمتى.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن يمان، قال: رأيت سفيان يخرج يدور بالليل وينضح في عينيه الماء حتى يذهب عنه النعاس.(8/654)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الرحمن بن مهدي يقول: ما عاشرت في الناس رجلاً هو أرق من سفيان، قال: وقال ابن مهدي: وكنت ارامقه الليلة بعد الليلة فما كان ينام إلا في أول الليل ثم ينتفض فزعاً مرعوباً ينادي: النار شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات، كأنه يخاطب رجلاً في البيت، ثم يدعو بماء إلى جانبه فيتوضأ ثم يقول على إثر وضوئه: اللهم إنك عالم بحاجتي غير معلم بما أطلب، وما أطلب إلا فكاك رقبتي من النار، اللهم إن الجزع قد أرقني من الخوف فلم يؤمني، وكل هذا من نعمتك السابغة علي، وكذلك فعلت بأوليائك وأهل طاعتك، إلهي قد علمت أن لو كان لي عذر في التخلي ما أقمت مع الناس طرفة عين، ثم يقبل على صلاته، وكان البكاء يمنعه من القراءة حتى إني كنت لا أستطيع سماع قراءته من كثرة بكاءه، قال ابن مهدي وما كنت أقدر أن أنظر إليه استحياء وهيبة منه.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء إسحاق بن إبراهيم الحنيني، يقول: كنا في مجلس الثوري وهو يسأل رجلاً رجلاً عما يصنع في ليله فيخبره حتى دار القوم فقالوا: يا أبا عبد الله قد سألتنا فأخبرناك فأخبرنا أنت كيف تصنع في ليلك. فقال لها عندي أول نومة تنام ما شاءت لا أمنعها، فإذا استيقظت فلا أقيلها والله.
(7) ألا يشق على نفسه وأن يصلي بقدر طاقته فإن خيرُ الأعمال أدومها وإن قل.
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: خيرُ الأعمال أدومها وإن قل.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ألم أُخبر أنك تقوم الليل وتصومُ النهار؟ قال إني أفعلُ ذلك، قال فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينك ونَفَهَتْ نفسك وإن لنفسك حقاً ولأهلك حقاً فصم وأفطر وقم ونم.
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال: دخل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسجد فإذا حبلٌ ممدود بين ساريتين فقال ما هذا؟ قالوا هذا حبلٌ لزينب فإذا فترت تعلقت، قال حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد.
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) كانت عندي امرأةٌ من بني أسد فدخل عليَّ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال من هذه؟ قلت فلانة لا تنام من الليل – تذكر من صلاتها - فقال مَهْ؟ عليكم ما تطيقون من الأعمال فإن الله لا يمل الله حتى تملوا.
مَهْ: كلمة نهي وزجر بمعنى ما هذا؟(8/655)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الدين يسر و لن يُشادَّ الدين أحد إلا غلبه فسددوا و قاربوا و أبشروا و استعينوا بالغدوة و الروحة و شيء من الدلجة.
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) جاء ثلاثةُ رهطٍ إلى بيوت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسألون عن عبادة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما أخبروا كأنهم تقاُّلوها وقالوا: أين نحن من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أما أنا أصلي الليل أبداً، وقال آخر: وأنا أصوم الدهر أبداً، وقال آخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني.
(حديث أنس الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن هذا الدين متينٌ فأوغلوا فيه برفق.
(حديث ابن مسعود الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: هلك المتنطعون، قالها ثلاثاً.
{تنبيه}:المتنطعون المتعمقون المتشددون في غير موضع التشديد.
(حديث حنظلة بن الربيع الأُسيدي الثابت في صحيح مسلم) قال لقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة قال قلت نافق حنظلة قال سبحان الله ما تقول قال قلت نكون عند رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأى عين فإذا خرجنا من عند رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا قال أبو بكر فوالله إنا لنلقى مثل هذا فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قلت نافق حنظلة يا رسول الله فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما ذاك؟ قلت يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأى عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات.
معنى عافسنا: أي عالجنا ولاعبنا
ومعنى الضيعات أي المعايش
(8) أن يواظب على القيام ولا ينقطع عنه:(8/656)
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قال: قال لي سول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل.
(9) إذا كان قيام الليل في جماعة يستحب أن يصلي مع الإمام حتى ينصرف:
(حديث أبي ذر الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حُسِب له قيام ُ ليلة.
- كيفية صلاة الليل:
صلاة الليل مثنى مثنى بنص السنة الثابتة الصحيحة
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن رجلاً أتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأله عن صلاة الليل فقال: صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشِيَ أحدكم الصبح صلى ركعةً واحدةً تُوتر له ما قد صلى.
مسألة: هل يجوز صلاة الليل جالساً؟
الجواب: أن الذي دلت عليه السنة الثابتة الصحيحة أن صلاة التطوع عموماً يجوز للإنسان أن يصلي جالساً وإن كان يستطيع القيام ولكن له نصف أجر القائم.
(حديث عمران بن حُصين الثابت في الصحيحين) وكان مبسوراً فسأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة فقال: إن صلى قائماً فهو أفضل، وإن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم وإن صلى نائماُ فله نصف أجر القاعد.
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في شيء من صلاة الليل جالسا حتى إذا كبر قرأ جالسا حتى إذا بقي عليه من السورة ثلاثون أو أربعون آية قام فقرأهن ثم ركع.
{تنبيه}: (إذا صلى الإنسان قاعداً لعجزه عن القيام وعليه يُحمل الحديث الأتي:
(حديث أبي قتادة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمله وهو الثابت في صحيح مقيم.
{تنبيه}: (أما بالنسبة لصلاة الفريضة فلا يجوز للإنسان أن يصلي قاعداً إلا إذا كان لا يستطيع أن يصلي قائما وعليه يحمل الحديث الأتي:
(حديث عمران بن حُصين الثابت في الصحيحين) قال: كانت بي بواسير فسألت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة؟ فقال: صلِّ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب.
و إذا صلى الإنسان قاعداً لعجزه عن القيام وعليه يُحمل الحديث الأتي:
(حديث أبي قتادة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمله وهو الثابت في صحيح مقيم.
(عدد ركعات قيام الليل:
مسألة: ما هو عدد ركعات قيام الليل؟(8/657)
الجواب: أن الذي دلت عليه السنة الثابتة الصحيحة أن الذي دلت عليه السنة الثابتة الصحيحة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يزد في رمضان ولا في غيره عن إحدى عشرة ركعة:
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أنها قالت: ما كان رسول الله النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثا فقالت عائشة فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن توتر فقال يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي.
مسألة: هل كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يواظب على إحدى عشرة ركعة؟
الجواب: لم يكن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يواظب على إحدى عشرة ركعة ولكن كان يصلي بحسب نشاطه سبعٌ وتسعٌ وإحدى عَشْرةَ سوى ركعتي الفجر.
(حديث مسروق الثابت في صحيح البخاري) قال: سألت عائشة عن صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالليل فقالت: سبعٌ وتسعٌ وإحدى عَشْرةَ سوى ركعتي الفجر.
(قضاء قيام الليل:
مسألة: هل يجوز قضاء قيام الليل؟
نعم يجوز قضاء قيام الليل بنص السنة الثابتة الصحيحة:
(حديث عمر الثابت في صحيح مسلم): أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر و صلاة الظهر كتب كأنما قرأه من الليل.
(مشروعية قيام رمضان:
مسألة: ما هي مشروعية قيام رمضان؟
الجواب: قيام رمضان آكد من غيره
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قام رمضان إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)
مسألة: هل تُشرع الجماعة في قيام رمضان؟
الجواب: تُشرع الجماعة في قيام رمضان
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس ثم صلى من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة فلم يخرج إليهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما أصبح قال قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم قال وذلك في رمضان.
(حديث أبي ذر الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حُسِب له قيام ُ ليلة.
(هل القراءة في صلاة الليل هل هي سرية أم جهرية:
مسألة: هل القراءة في صلاة الليل هل هي سرية أم جهرية؟(8/658)
الجواب: الذي دلت عليه السنة الثابتة الصحيحة أن الأمر في ذلك واسع إن شاء أسَّر و إن شاء جهر.
(حديث عبد الله ابن قيس الثابت في صحيح مسلم) قال سألت عائشة رضي الله تعالى عنها كيف كانت قراءة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالليل، كان يُسِرُّ بالقراءة أم يجهر؟ فقالت: كل ذلك كان يفعله ربما أسرَّ وبما جهر فقلت الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة.
مسألة: من جهر بالقراءة في قيام الليل كيف تكون قراءته؟
الجواب: من جهر بالقراءة تكون قراءته وسطاً
(حديث أبي قتادة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأبي بكر مررت بك وأنت تقرأ وأنت تخفض من صوتك قال إني أسمعت من ناجيت قال: ارفع قليلا، وقال لعمر مررت بك وأنت تقرأ وأنت ترفع صوتك فقال إني أوقظ الوسْنَان وأطرد الشيطان قال: اخفض قليلا.
مسألة: هل صلاة الليل في المسجد أفضل أم في البيت؟
الجواب: الذي دلت عليه السنة الثابتة الصحيحة وتجتمع فيه الأدلة أن المسألة على التفصيل الأتي:
[1] إذا كان في المسجد جماعة لصلاة الليل ويخشى أنه إذا فاتته كسل عن قيام الليل أو نسيَ أو انشغل كان الأفضل أن يصلي مع الإمام إلى آخرها حتى يحسب له قيام ليلة
(حديث أبي ذر الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حُسِب له قيام ُ ليلة.
[2] أما إذا كان لا يخشى على نفسه كسلاً وجرّب نفسه في ذلك فالأفضل أن يصليها في بيته لأن صلاة التطوع في البيت أفضل
(حديث زيد بن ثابت الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: صلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة.
(حديث زيد بن ثابت الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة.
(هل تخص ليلةً معينة بالقيام:
لا يجوز أن تخص ليلةً معينة بالقيام
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي و لا تختصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم.
- صلاة الوتر:
(حكم صلاة الوتر:
قال بعض أهل العلم أنه واجب والصحيح أنه سنة مؤكدة:(8/659)
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي على راحلته حيث توجهت به يومئُ إيماءاً صلاة الليل إلا الفرائض ويوترُ على راحلته.
الشاهد: أن صلاة الفريضة من أركانها استقبال القبلة، وكون النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الوتر على راحلته حيث توجهت به يدل على أنه سنة وليس واجب.
(حديث طلحة بن عبيد الله الثابت في الصحيحين) قال، جاء رجلٌ إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أهل نجد ثائرُ الرأس يُعْرَفُ دَويُ صوتهِ ولايُفْقَه ما يقول حتى دنا فإذا هو يسألُ عن الإسلام؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمسُ صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل عليَّ غيرُها؟ قال لا إلا أن تطوَّع. قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصيام رمضان. فقال هل عليَّ غيره؟ فقال لا إلا أن تطوع. قال: وذكر له رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزكاة فقال هل عليَّ غيرُها؟ قال لا إلا أن تطوَّع. قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيدُ على هذا ولا أنقص، قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفلح إن صدق.
الشاهد: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر الرجل بأن فرض الصلوات خمس صلوات فسأله الرجل عليَّ غيرُها؟ قال لا إلا أن تطوَّع.
(فضل صلاة الوتر:
لصلاة الوتر فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم والسنة الصالحة طافحةٌ بما يدل على ذلك:
(1) (حديث عائشة الثابت في الصحيحين) قالت: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وأن معترضةٌ على فراشه فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت.
الشاهد: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوقظ عائشة رضي الله تعالى عنها لصلاة الوتر خاصة فدَّل ذلك على عظيم فضل الوتر عن سائر صلاة الليل.
(2) حث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على صلاة الوتر وأوصى بها أصحابه
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال أوصاني خليلي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بثلاثٍ لا أدعهن حتى أموت: صوم ثلاثة أيام من كل شهر وصلاة الضحى ونومٍ على وتر.
(حديث عليّ الثابت في صحيح السنن الأربعة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يا أهل القرآن أوتروا فإن الله وِترٌ يحب الوتر.
(وقت الوتر:
(حديث خارجة بن حُذافة الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الوتر جعله الله فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر.(8/660)
(حديث أبي سعيد الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أوتروا قبل أن تصبحوا.
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) قالت: كلُ الليل أوتر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وانتهى وِتره إلى السحر.
مسألة: من كانت له صلاة ليل فمتى يصلي الوتر؟
الجواب: يستحب أن يكون الوتر آخر صلاة ليلية
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً.
مسألة: هل يستحب للإنسان أن يؤخر صلاة الوتر إلى آخر الليل أم يصليها أول الليل؟
الجواب: القول الذي دلت عليه السنة الثابتة الصحيحة أن الإنسان فيها بحسب حاله فإن خاف ألا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم من آخر الليل فليوتر من آخر الليل.
(حديث أبي سعيد الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله و من طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل فإن صلاة آخر الليل مشهودة و ذلك أفضل.
(حديث أبي قتادة الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأبي بكر متى توتر قال أوتر من أول الليل وقال لعمر متى توتر قال آخر الليل فقال لأبي بكر أخذ هذا بالحذر وقال لعمر أخذ هذا بالقوة.
(عدد ركعات الوتر:
(أقل الوتر ركعة واحدة
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن رجلاً أتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأله عن صلاة الليل فقال: صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشِيَ أحدكم الصبح صلى ركعةً واحدةً تُوتر له ما قد صلى.
(ويجوز الوتر بخمسٍ وبسبع وثلاثٍ وتسع:
(حديث أم سلمة الثابت في صحيح مسلم) قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوتر بخمسٍ وبسبعٍ لا يفصل بينهما بسلامٍ ولا بكلام.
(حديث أبي أيوب الثابت في صحيحي أبي داوود والنسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الوتر حق فمن شاء أوتر بسبع و من شاء أوتر بخمس و من شاء بثلاث و من شاء أوتر بواحدة.
مسألة: من أوتر بثلاثٍ فما هي صفة صلاته؟
من أوتر بثلاثٍ فلصلاة الوتر صفتان مشروعتان هما:
[الأولى] أن يصلي الثلاث بتشهد واحد أخير حتى لا يشبه صلاة المغرب.
[الثانية] أن يسلم من ركعتين ثم يوتر بواحدة، والأفضل أن يفعل هذه مرة وهذه مرة لأن العبادة التي ورد فيها اختلاف تنوع الأفضل فيها أن نأتي بها على هذا الوجه تارة وعلى الوجه الآخر تارة.(8/661)
مسألة: من أوتر بخمسٍ أو بسبع فما هي صفة صلاته؟
يصلي بتشهدٍ واحدٍ في آخر ركعة
(حديث أم سلمة الثابت في صحيح مسلم) قالت: كان رسول الله يوتر بخمسٍ وبسبعٍ لا يفصل بينهما بسلامٍ ولا بكلام.
مسألة: من أوتر بتسعٍ فما هي صفة صلاته؟
(حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم) قالت: ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة فيذكر الله ويحمده ويدعوه وينهض ولا يسلم ثم يقوم فيصلي التاسعة ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم يسلِّم تسليماً يسمعنا.
{تنبيه}: (معنى يذكر الله ويحمده ويدعوه: أي يقول التشهد فإنه يشتمل على ذكرٍ وحمدٍ ودعاء.
مسألة: من أوتر بإحدى عشرة ركعة فما صفة صلاته؟
يسلم كل ركعتين ويوتر بواحدةٍ.
مسألة: ما هو أدنى الكمال في الوتر؟
أدنى الكمال في الوتر أن يصلي الثلاث بتشهد واحد أخير حتى لا يشبه صلاة المغرب يقرأ في الأولى بـ (سبح اسم ربك الأعلى) وفي الثانية (قل يا أيها الكافرون) وفي الثالثة قل هو الله أحد والمعوذتين.
(حديث عائشة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أنها لما سُئِلت بأي شيءٍ كان يوتر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: كان يقرأ في الأولى بـ (سبح اسم ربك الأعلى) وفي الثانية (قل يا أيها الكافرون) وفي الثالثة قل هو الله أحد والمعوذتين.
(قضاء الوتر:
مسألة: هل يُشرع قضاء الوتر لمن فاته؟
القول الذي دلت عليه السنة الصحيحة وتجتمع فيه الأدلة أن المسألة على التفصيل الآتي:
[1] من فاته الوتر لعذرٍ يجوز قضاؤه وعليه تحمل الأحاديث الآتية
(حديث أبي ذر الثابت في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.
(حديث أبي سعيد الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من نام عن وتره أو نسيه فليصلِّه إذا ذكره.
[2] أما من تعمد ترك الوتر حتى خرج وقته فلا يجوز قضاؤه لأن الوتر صلاة مؤقتة بوقت (حديث خارجة بن حُذاقة الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الوتر جعله الله فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر.
فلا تقبل في غير وقتها إلا لعذر لأنه إذا أتى بها في غير وقتها من غير عذر يكون قد عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله.
(حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد.
(لا وتران في ليلة:(8/662)
مسألة: هل يجوز للرجل أن يوتر مرتين في ليلة؟
لا يجوز للرجل أن يوتر مرتين في ليلة بنص السنة الثابتة الصحيحة
(حديث طلق بن علي الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا وتران في ليلة.
(القنوت في الوتر:
مسألة: هل يُشرع القنوت في الوتر؟
نعم يُشرع القنوت في الوتر
(حديث الحسن بن علي الثابت في صحيح السنن الأربعة) قال علمني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلمات أقولهن في الوتر {اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت}
(حديث علي الثابت في صحيح أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في آخر وتره: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك و بمعافاتك من عقوبتك و أعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
مسألة: هل يُشرع القنوت في الفرائض أو النوافل الأخرى غير الوتر؟
لا يُشرع القنوت إلا عند النوازل لأن القنوت دعاء خاص في مكان خاص في عبادةٍ خاصة، وقد ثبت في السنة الثابتة الصحيحة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقنت عند النوازل ويكون دعاؤه عند النازلة بما يناسب النازلة وليس أن يقول اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت.
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال: قنت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهراً يدعو على رِعْلٍ وذكوان.
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال: بعث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سريةً يُقال لهم القراء فأُصيبوا فما رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَدَ على شيءٍ ما وجد عليهم فقنت شهراً في صلاة الفجر ويقول: إن عُصَيَّة عصوا الله ورسوله.
(محل القنوت:
مسألة: ما هو محل القنوت هل هو قبل الركوع أم بعده؟
القول الذي دلت عليه السنة وتجتمع فيه الأدلة هو ما يلي:
[1] القنوت الذي في الوتر يكون قبل الركوع:
(حديث أبي بن كعب الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت في الوتر قبل الركوع.
[2] القنوت الذي في الفريضة عند النازلة يكون بعد الركوع:(8/663)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينيرفع رأسه من الركوع يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد يدعو لرجالٍ فيسميهم بأسمائهم فيقول: اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم كسني يوسف وأخل المشرق يومئذٍ من مُضر مخالفون له.
(الذكر بعد الوتر:
مسألة: ما هو الذكر الذي يقوله الإنسان بعد الوتر؟
(حديث أبي بن كعب الثابت في صحيحي أبي داوود والنسائي) قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سلم في الوتر قال: سبحان الملك القدوس.
(أدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه:
(القرآن الكريم هو الشفاء التام لأمراض القلوب:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان:
قال تعالى: (يَأَيّهَا النّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مّوْعِظَةٌ مّن رّبّكُمْ وَشِفَآءٌ لّمَا فِي الصّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ) [يونس: 57](8/664)
وقال تعالى: (وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء: 82] وقد تقدم أن جماع أمراض القلب هي «أمراض الشبهات والشهوات» والقرآن شفاء للنوعين ففيه من البينات والبراهين القطعية ما يبين الحق من الباطل فتزول أمراض الشبه المفسدة للعلم والتصور والإدراك بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه وليس تحت أديم السماء كتاب متضمن للبراهين والآيات على المطالب العالية من التوحيد وإثبات الصفات وإثبات المعاد والنبوات وَرَدِ النِحَلِ الباطلة والآراء الفاسدة مثل القرآن فإنه كفيل بذلك كله متضمن له على أتم الوجوه وأحسنها وأقربها إلى العقول وأفصحها بيانا فهو الشفاء على الحقيقة من أدواء الشبه والشكوك ولكن ذلك موقوف على فهمه ومعرفة المراد منه فمن رزقه الله تعالى ذلك أبصر الحق والباطل عيانا بقلبه كما يرى الليل والنهار وعلم أن ما عداه من كتب الناس وآرائهم ومعقولاتهم: بين علوم لا ثقة بها وإنما هي آراء وتقليد وبين ظنون كاذبة لا تغني عن الحق شيئا وبين أمور صحيحة لا منفعة للقلب فيها وبين علوم صحيحة قد وعروا الطريق إلى تحصيلها وأطالوا الكلام في إثباتها مع قلة نفعها فهي لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل وأحسن ما عند المتكلمين وغيرهم فهو في القرآن أصح تقريرا وأحسن تفسيرا فليس عندهم إلا التكلف والتطويل والتعقيد كما قيل: لولا التنافس في الدنيا لما وضعت كتب التناظر لا المغني ولا العمد، يحللون بزعم منهم عقدا وبالذي وضعوه زادت العقد فهم يزعمون أنهم يدفعون بالذي وضعوه الشبه والشكوك والفاضل الذكي يعلم أن الشبه والشكوك زادت بذلك ومن المحال أن لا يحصل الشفاء والهدى والعلم واليقين من كتاب الله تعالى وكلام رسوله.
(علاج قسوة القلب:
إن الذي يمعن النظر في السنة الصحيحة يعلم علم اليقين الذي لا يخاطه شك أن إطعام المسكين والمسح على رأس اليتيم من أنفع الأدوية في علاج قسوة القلب، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أردت أن يلين قلبك فأطعم المسكين و امسح رأس اليتيم.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:(8/665)
(إن أردت أن يلين قلبك) أي لقبول امتثال أوامر اللّه وزاجره
(فأطعم المسكين) المراد به ما يشمل الفقير ومن كلمات إمامنا البديعة إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا
(وامسح رأس اليتيم) أي من خلف إلى قدام عكس غير اليتيم أي افعل به ذلك إيناساً وتلطفاً به فإن ذلك يلين القلب ويرضي الرب. أهـ
(ومن أنفع الأدويةأيضاً في علاج قسوة القلب ذكر الله تعالى فأن في القلب قسوة لا يذيبها إلا ذكر الله تعالى فينبغي للعبد أن يداوي قسوة قلبه بذكر الله تعالى.
[*] (أورد ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه الوابل الصيب عن المعلى ابن زياد أن رجلا قال للحسن يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي قال أذبه بالذكر، وهذا لأن القلب كلما اشتدت به الغفلة اشتدت به القسوة فإذا ذكر الله تعالى ذابت تلك القسوة كما يذوب الرصاص في النار فما أذيبت قسوة القلوب بمثل ذكر الله عز وجل.
(زكاة القلب:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان:
الزكاة في اللغة: هي النماء والزيادة في الصلاح، وكمال الشيء، يقال: زكا الشيء إذا نما، قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103].
فجمع بين الأمرين: الطهارة والزكاة، لتلازمهما. فإن نجاسة الفواحش والمعاصي في القلب بمنزلة الأخلاط الرديئة في البدن، وبمنزلة الدَغَل في الزرع، وبمنزلة الخَبَثِ في الذهب والفضة والنحاس والحديد، فكما أن البدن إذا استفرغ من الأخلاط الرديئة تخلصت القوة الطبيعية منها فاستراحت، فعملت عملها بلا معوق ولا ممانع، فنما البدن، فكذلك القلب إذا تخلص من الذنوب بالتوبة فقد استفرغ من تخليطه، فتخلصت إرادة القلب وإرادته للخير، فاستراح من تلك الجواذب الفاسدة والمواد الرديئة: زكا ونما، وقوى واشتد، وجلس على سرير ملكه، ونفذ حكمه في رعيته، فسمعت له وأطاعت. فلا سبيل له إلى زكاته إلا بعد طهارته كما قال تعالى: {قُلْ لِلمُؤْمِنِينَ يغُضُّوا مِنْ أبْصَارِهْمِ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أزْكَى لَهُمْ إنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يصْنَعُونَ} [النور: 30].
فجعل الزكاة بعد غض البصر وحفظ الفرج.
(ولهذا كان غض البصر عن المحارم يوجب ثلاث فوائد عظيمة الخطر، جليلة القدر:(8/666)
(إحداها: حلاوة الإيمان ولذته، التي هي أحلى وأطيب وألذ مما صرف بصره عنه وتركه لله تعالى فإن من ترك شيئا لله عوضه الله عز وجل خيرا منه، والنفس مولعة بحب النظر إلى الصور الجميلة، والعين رائد القلب. فيبعث رائده لنظر ما هناك، فإذا أخبره بحسن المنظور إليه وجماله، تحرك اشتياقا إليه، وكثيرا ما يتعب ويتعب رسوله ورائده كما قيل:
وَكُنْتَ مَتَى أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِدًا لِقلبكَ يَوْماً أتْعَبَتْكَ المنَاظِرُ
رَأَيْتَ الذي لا كُلَّهُ أَنْتَ قَادِرٌِ عَلَيْه وَلا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابرُ
فإذا كف الرائد عن الكشف والمطالعة استراح القلب من كلفة الطلب والإرادة، «فمن أطلق لحظاته دامت حسراته»، فإن النظر يولد المحبة. فتبدأ علاقة يتعلق بها القلب بالمنظور إليه. ثم تقوى فتصير صبابة. ينصب إليه القلب بكليته. ثم تقوى فتصير غراما يلزم القلب، كلزوم الغريم الذي لا يفارق غريمه. ثم يقوى فيصير عشقا. وهو الحب المفرط. ثم يقوى فيصير شغفا. وهو الحب الذي قد وصل إلى شَغاف القلب وداخله. ثم يقوى فيصير تتيماً. والتتيم التعبد ومنه تيمه الحب إذا عَبَّده. وتيم الله عبد الله. فيصير القلب عبدا لمن لا يصلح أن يكون هو عبدا له. وهذا كله جناية النظر فحينئذ يقع القلب في الأسر. فيصير أسيرا بعد أن كان ملكا، ومسجونا بعد أن كان مطلقا. يتظلم من الطرْف ويشكوه. والطرْف يقول: أنا رائدك ورسولك، وأنت بعثتني، «وهذا إنما ابتُلى به القلوب الفارغة من حب الله والإخلاص له»، فإن القلب لا بد له من التعلق بمحبوب. فمن لم يكن الله وحده محبوبه وإلهه ومعبوده فلا بد أن ينعقد قلبه لغيره. قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام:
{كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ} [يوسف: 24].
فامرأة العزيز لما كانت مشركة وقعت فيما وقعت فيه، مع كونها ذات زوج، ويوسف عليه السلام لما كان مخلصا لله تعالى نجا من ذلك مع كونه شابا عزَبا غريبا مملوكا.
(الفائدة الثانية في غض البصر: نور القلب وصحة الفراسة.
[*] (قال أبو شجاع الكرماني: «من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وكف نفسه عن الشهوات، وغض بصره عن المحارم، واعتاد أكل الحلال لم تخطئ له فراسة» وقد ذكر الله سبحانه قصة قوم لوط وما ابتلوا به، ثم قال بعد ذلك:
{إِنَّ فِى ذلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75].(8/667)
وهم المتفرسون الذين سلموا من النظر المحرم والفاحشة، وقال تعالى عقيب أمره للمؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم:
{اللهُ نُورُ السَّمواتِ وَالأرْضِ} [النور: 35].
وسر هذا الخبر: أن الجزاء من جنس العمل. فمن غض بصره عما حرم الله عز وجل عليه عوضه الله تعالى من جنسه ما هو خير منه، فكما أمسك نَوَّرَ بصره عن المحرمات أطلق الله نور بصيرته وقلبه، فرأى به ما لم يره من أطلق بصره ولم يغضه عن محارم الله تعالى، وهذا أمر يحسه الإنسان من نفسه. فإن القلب كالمرآة، والهوى كالصدأ فيها. فإذا خلصت المرآة من الصدأ انطبعت فيها صورة الحقائق كما هي عليه. وإذا صدئت لم ينطبع فيها صورة المعلومات. فيكون علمه وكلامه من باب الخرص والظنون.
(الفائدة الثالثة:
قوة القلب وثباته وشجاعته، فيعطيه الله تعالى بقوته سلطان النُصْرَة، كما أعطاه بنوره سلطان الحجة، فيجمع له بين السلطانين، ويهرب الشيطان منه، كما في الأثر:
"إنَّ الذي يُخَالِفُ هَوَاهُ يَفْرَقُ الشَّيْطَانُ مِنْ ظِلِّهِ".ولهذا يوجد في المُتَبِعِ هواه من ذل النفس وضعفها ومهانتها ما جعله الله لمن عصاه، فإنه سبحانه جعل العز لمن أطاعه والذل لمن عصاه. قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] وقال تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأنْتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُريِدُ الْعِزَّةَ فَللَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} [فاطر: 10].
أي «من كان يطلب العزة فليطلبها بطاعة الله: بالكلم الطيب، والعمل الصالح»، وقال بعض السلف: "الناس يطلبون العز بأبواب الملوك ولا يجدونه إلا في طاعة الله"
وقال الحسن: "وإن هَمْلَجَتْ بهم البراذين، وطقطقت بهم البغال إن ذل المعصية لفي قلوبهم، «أبى الله عز وجل إلا أن يُذِلَّ من عصاه»، وذلك أن من أطاع الله تعالى فقد والاه، ولا يذل من والاه الله، كما في دعاء القنوت: "إِنَّهُ لا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ وَلا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ".
والمقصود: أن زكاة القلب موقوفة على طهارته، كما أن زكاة البدن موقوفة على استفراغه من أخلاطه الرديئة الفاسدة، قال تعالى: {وَلوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21].(8/668)
وذكر ذلك سبحانه عقيب تحريم الزنا والقذف ونكاح الزانية، فدل على أن التزكى هو باجتناب ذلك.
وكذلك قوله تعالى فى الاستئذان على أهل البيوت: {وَإنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور: 28].
فإنهم إذا أمروا بالرجوع لئلا يطلعوا على عورة لم يحب صاحب المنزل أن يطَّلع عليها كان ذلك أزكى لهم، كما أن رد البصر وغضه أزكى لصاحبه، وقال تعالى:
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14 - 15].
وقال تعالى عن موسى عليه السلام في خطابه لفرعون: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات: 18] وقال تعالى {وَوَيلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ} [فصلت: 6 - 7].
قال أكثر المفسرين من السلف ومن بعدهم: هي التوحيد: شهادة أن لا إله إلا الله، والإيمان الذي به يزكو القلب، فإنه يتضمن نفى إلهية ما سوى الحق من القلب، وذلك طهارته، وإثبات إلهيته سبحانه؛ وهو أصل كل زكاة ونماء، فإن التزكي ـ وإن كان أصله النماء والزيادة والبركة ـ فإنما يحصل بإزالة الشر. فلهذا صار التزكي ينتظم الأمرين جمعياً. فأصل ما تزكو به القلوب والأرواح. هو التوحيد: والتزكية جعل الشيء زكيا، إما في ذاته، وإما في الاعتقاد والخبر عنه، كما يقال: عدَّلته وفسَّقته، إذا جعلته كذلك في الخارج، أو في الاعتقاد والخبر.
وعلى هذا فقوله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] هو على غير معنى {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9].
أي «لا تخبروا بزكاتها وتقولوا: نحن زاكون صالحون متقون»،ولهذا قال عقيب ذلك: {هُوَ أَعْلُم بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32].
وكان اسم "زينب" "برة" فقال: "تُزَكِّى نَفْسهَا؟ " فسماها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "زينب" وقال: "الله أَعْلمُ بِأَهْلِ الْبِرِّ مِنْكُمْ" وكذلك قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلى الّذِينَ يُزَكُّونَ أنْفُسَهُم} [النساء: 49].
أي يعتقدون زكاءها ويخبرون به، كما يزكى المزكي الشاهد، فيقول عن نفسه ما يقول المزكي فيه، كما قال الله تعالى:
{بَلِ اللهُ يُزَكِّى مَنْ يَشَاءُ} [النساء: 49].
أي هو الذي يجعله زاكيا، ويخبر بطاعة الله فيصير زاكياً، وهذا بخلاف قوله:(8/669)
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9] فإنه من باب قوله: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات: 18] أي «تعمل بطاعة الله تعالى، فتصير زاكيا»، ومثله قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14].
(طهارة القلب من أدرانه ونجاساته:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان:
أن الزكاة لا تحصل إلا بالطهارة
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبّكَ فَكَبِّرْ * وَثِياَبَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 1 - 4] وقال تعالى: {أُولئِكَ الّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41].
وجمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم على أن المراد بالثياب هاهنا القلب، والمراد بالطهارة إصلاح الأعمال والأخلاق.
(وقال أيضاً: وسألت شيخ الإسلام عن معنى دعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الّلهُمَّ طَهِّرْنِى مِنْ خَطَايَاىَ بِالمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ".
كيف يطهر الخطايا بذلك؟ وما فائدة التخصيص بذلك؟ وقوله في لفظ آخر "والماء البارد" والحار أبلغ في الإنقاء؟.
فقال:
الخطايا توجب للقلب حرارة ونجاسة وضعفا، فيرتخي القلب وتضطرم فيه نار الشهوة وتنجسه، فإن الخطايا والذنوب له بمنزلة الحطب الذي يمد النار ويوقدها ولهذا كلما كثرت الخطايا اشتدت نار القلب وضعفه، والماء يغسل الخبث ويطفئ النار، فإن كان باردا أورث الجسم صلابة وقوة، فإن كان معه ثلج وبرد كان أقوى في التبريد وصلابة الجسم وشدته، فكان أذهب لأثر الخطايا. هذا معنى كلامه.
(وقال أيضاً: فاعلم أن هاهنا أربعة أمور: أمران حسيان، وأمران معنويان. فالنجاسة التي تزول بالماء هي ومزيلها حسيان، وأثر الخطايا التي تزول بالتوبة والاستغفار هي ومزيلها معنويان، وصلاح القلب وحياته ونعيمه لا يتم إلا بهذا وهذا. فذكر النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من كل شطر قسما نبه به على القسم الآخر. فتضمن كلامه الأقسام الأربعة في غاية الاختصار، وحسن البيان. كما في حديث الدعاء بعد الوضوء:
"اللّهُمَّ اجعلني مِنَ التَّوَّابِينَ واجعلني مِنَ المُتَطَهِّرِينَ".
فإنه يتضمن ذكر الأقسام الأربعة. ومن كمال بيانه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وتحقيقه لما يخبر به، ويأمر به: تمثيله الأمر المطلوب المعنوي بالأمر المحسوس.
وهذا كثير في كلامه، كقوله في حديث على بن أبى طالب:(8/670)
"سَلِ اللهَ الهُدَى وَالسَّدَادَ، وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطّرِيقَ، وَبِالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْم".
هذا من أبلغ التعليم والنصح، حيث أمره أن يذكر إذا سأل الله الهدى إلى طريق رضاه وجنته: كونه مسافرا، وقد ضل عن الطريق، ولا يدرى أين يتوجه، فطلع له رجل خبير بالطريق عالم بها،
فسأله أن يدله على الطريق، فهكذا شأن طريق الآخرة تمثيلا لها بالطريق المحسوس للمسافر. وحاجة المسافر إلى الله سبحانه: إلى أن يهديه تلك الطريق، أعظم من حاجة المسافر إلى بلد من يدله على الطريق الموصل إليها. وكذلك السداد، وهو إصابة القصد قولا وعملا، فمثله مثل رامي السهم، إذا وقع سهمه في نفس الشيء الذي رماه، فقد سدد سهمه وأصاب ولم يقع باطلا، فهكذا المصيب للحق في قوله وعمله بمنزلة المصيب في رميه.
وكثيرا ما يقرن في القرآن هذا وهذا. فمنه قوله تعالى:
{وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197].
أمر الحاج بأن يتزودوا لسفرهم، ولا يسافروا بغير زاد، ثم نبههم على زاد سفر الآخرة، وهو التقوى. فكما أنه لا يصل المسافر إلى مقصده إلا بزاد يبلغه إياه، فكذلك المسافر إلى الله تعالى والدار الآخرة لا يصل إلا بزاد من التقوى، فجمع بين الزادين،
ومنه قوله تعالى: {يَا بَنِى آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِى سَوْءاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوَى ذلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26].
فجمع بين الزينتين: زينة البدن باللباس، وزينة القلب بالتقوى، زينة الظاهر والباطن، وكمال الظاهر والباطن.
(امتحان القلوب:
(أخي الحبيب:
قلوبنا ممتحنة صباح مساء، تمتحن في كل لحظة من لحظات حياتنا، فهل نحن منتبهون لهذا، فغلطة واحدة قد تودي بحياة هذا القلب، وتحبط ذلك العمل.
قال -تعالى-: (وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [سورة آل عمران، الآية: 154].
وقال -سبحانه وتعالى-: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) [سورة الحجرات، الآية: 3].
فمن هؤلاء الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى؟
هذه الآية نزلت في الصحابيين الجليلين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- عندما رفعا صوتيهما عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الحديث الآتي: ((8/671)
(حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) قال: قدم ركب من تميم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال أبو بكر: أمِّر القعقاع بن معبد ابن زرارة، فقال عمر: بل أمَّر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، قال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزلت في ذلك: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الحجرات: 1]،حتى انقضت.
نعم! لا مجاملة في هذا الدين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) ثم ماذا؟ (أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) [سورة الحجرات، الآية: 2].
سبحان الله! موقف في نظر الكثيرين لا يستحق.
من الذي يهدَّد في هذه الآية؟ أبو بكر الصديق وعمر، وهاك بعض مناقبهما لتعلم علم اليقين من هو أبو بكرٍ الصديق ومن هو عمر رض الله تعالى عنهما:
(أولاً مناقب أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -:
ما حاز رجل الفضائل مثل ما حاز أبو بكر رضي الله عنه، فقد سبق إلى الإيمان، وصحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصدّقه، واستمر معه في مكة طول إقامته رغم ما تعرّض له من الأذى، ورافقه في الهجرة، وهاك غيضاً من فيض ونقطةً من بحر مما ورد في مناقبه - رضي الله عنه - جملةً وتفصيلاً:
(أولاً مناقب أبي بكر جملة ً:
(1) إنه أفضل هذه الأمة بعد نبيها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنص السنة الصحيحة:
(2) أبو بكر أول من أظهر الإسلام بعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(3) دعوة أبي بكر - رضي الله عنه -:
(4) وهو ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ:
(5) وهو أول الخلفاء الراشدين الذي أمرنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نقتدي بهم:
(6) ورع أبي بكرٍ الصديق - رضي الله عنه -:
(7) تفقده لأحوال الناس ومحتاجيهم:
(8) وكان أبو بكر ممن يُفتي على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(9) إنفاق أبي بكر رضي الله عنه ماله كله عند الهجرة:
(10) وأنفق ماله كله لما حث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على النفقة:
(11) ومن مناقبه أنه أحب الناس إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(12) ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتخذه أخاً له:
(13) ومن مناقبه رضي الله عنه أن الله زكّاه:(8/672)
(14) ومن مناقبه رضي الله عنه أنه يُدعى من أبواب الجنة كلها:
(15) ومن مناقبه أنه جمع خصال الخير في يوم واحد:
(16) ومن مناقبه رضي الله عنه أن وصفه رجل المشركين بمثل ما وصفت خديجة رضي الله عنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(17) وجمع بيت أبي بكر وآل أبي بكر من الفضائل الجمة الشيء الكثير الذي لم يجمعه بيت في الإسلام.
(18) غضبه إذا انتهكت حرمات الله تعالى:
(19) حفظ سر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(20) الصديق وآية صلاة الجمعة:
(21) رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينفي الخيلاء عن أبي بكر:
(22) أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر:
(23) إكرامه للضيوف:
(24) ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر:
(25) انتصار النبي للصديق رضي الله عنه:
(26) قل: غفر الله لك يا أبا بكر:
(27) مسابقته في الخيرات:
(28) كظمه للغيظ:
(29) بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي:
(30) غيرة الصديق - رضي الله عنه - وتزكية النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لزوجه:
(31) خوفه من الله تعالى:
(32) رسوخ إيمانه بالله تعالى:
(33) علمه رضي الله تعالى عنه:
(34) دعاؤه وشدة تضرعه - رضي الله عنه -:
(35) دفاعه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(36) أنه أول العشرة المبشرين بالجنة وأفضلهم:
(37) ومن أعظم مناقبه - رضي الله عنه - أن أحق الناس بالخلافة بالكتاب والسنة والإجماع:
(38) أعماله العظيمة:
(39) إكرامه لأهل البيت:
(ثانياً مناقب أبي بكر تفصيلا ً:
(1) إنه أفضل هذه الأمة بعد نبيها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنص السنة الصحيحة:
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) قال: كنا في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا نعدل بأبي بكر أحدا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا نفاضل بينهم.(8/673)
(حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: كنت جالساً مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أما صاحبكم فقد غامر) (1)، فسلم، وقال: يارسول الله إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إلي ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبي علي، فأقبلت إليك. فقال: يغفر الله لك ياأبابكر ثلاثاً. ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل: أثم أبو بكر؟ قالوا: لا. فأتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسلم عليه، فجعل وجه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتمعر (2)، حتى أشفق أبو بكر (3) فجثى على ركبتيه فقال يا رسول الله: والله أنا كنت أظلم مرتين (4)، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبوبكر: صدق، وواساني بنفسه وماله (5)، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي مرتين. فما أوذي بعدها.
وفي هذه القصة دروس وعبر كثيرة منها؛ الطبيعة البشرية للصحابة وما يحدث بينهم من خلاف، وسرعة رجوع المخطئ وطلب المغفرة والصفح من أخيه، تواد الصحابة فيما بينهم، مكانة الصديق الرفيعة عند رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم أصحابه ....... الخ.
(2) أبو بكر أول من أظهر الإسلام بعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(حديث بن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) قال كان أول من أظهر إسلامه سبعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد فأما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمنعه الله بعمه أبي طالب وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه وأما سائرهم فأخذهم المشركون وألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم في الشمس فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله وهان على قومه فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول أحد أحد.
(3) دعوة أبي بكر - رضي الله عنه -:
__________
(1) غامر: خاصم. أي دخل في غمرة الخصومة.
(2) يتمعر: تذهب نضارته من الغضب.
(3) أن يكون لعمر من الرسول مايكره.
(4) لأنه هو الذي بدأ.
(5) المراد به أن صاحب المال يجعل يده ويد صاحبه في ماله سواء.(8/674)
قال ابن إِسحاق: فلمَّا أسلم أبو بكر رضي الله عنه وأظهر إِسلامه دعا إلى الله عزّ وجلّ، وكان أبو بكر رجلاً مأْلَفاً لقومه ومحبَّباً سَهْلاً، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بما كان فيها من خير وشر. وكان رجلاً تاجراً ذا خُلُق ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر: لعله، وتجارته، وحسن مجالسته. فجعل يدعو إلى الله وإلى الإِسلام من وثق به من قومه ممَّن يَغْشاه ويجلس إِليه. فأسلم على يديه فيما بلغني: الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنهم، فانطلقوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعهم أبو بكر فعرض عليهم الإِسلام، وقرأ عليهم القرآن، وأنبأهم بحقِّ الإِسلام فآمنوا، وكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا في الإِسلام صدّقوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآمنوا بما جاء من عند الله، كذا في البداية.
(4) وهو ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ:
قال تعالى: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (سورة التوبة، آية:40).
[*] قال السهيلي: ألا ترى كيف قال: لا تحزن ولم يقل لا تخف؟ لأن حزنه على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شغله عن خوفه على نفسه.
(حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: قلت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: (ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما).
ولما أراد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدخل الغار دخل قبله لينظر في الغار لئلا يُصيب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيء.(8/675)
(ولذا لما ذكر رجال على عهد عمر رضي الله عنه فكأنهم فضّلوا عمر على أبي بكر رضي الله عنهما، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فقال: والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر، وليوم من أبي بكر خير من آل عمر، لقد خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لينطلق إلى الغار ومعه أبو بكر، فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه، حتى فطن له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا أبا بكر مالك تمشي ساعة بين يدي وساعة خلفي؟ فقال: يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك. فقال: يا أبا بكر لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني؟ قال: نعم والذي بعثك بالحق ما كانت لتكون من مُلمّة إلا أن تكون بي دونك، فلما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: مكانك يا رسول الله حتى استبرئ الجحرة، فدخل واستبرأ، قم قال: انزل يا رسول الله، فنزل. فقال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر. رواه الحاكم والبيهقي في دلائل النبوة.
(5) وهو أول الخلفاء الراشدين الذي أمرنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نقتدي بهم: كما في الحديث الآتي:
(حديث العرباض بن سارية في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أوصيكم بتقوى الله و السمع و الطاعة و أن أمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة.
واستقر خليفة للمسلمين دون مُنازع، ولقبه المسلمون بـ " خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(حديث حذيفة رضي الله عنه الثابت صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اقتدوا باللذين بعدي أبي بكر وعمر.
[*] قال لعلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
فقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اقتدوا باللذين من بعدي) أي: بالخليفتين اللذين يقومان من بعدي وهما أبوبكر وعمر وحث على الا قتداء بهما لحسن سيرتهما وصدق سريرتهما، وفي الحديث إشارة لأمر الخلافة (1).
(6) ورع أبي بكرٍ الصديق - رضي الله عنه -:
__________
(1) تحفة الاحوذي بشرح الترمذي (10/ 147).(8/676)
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري)، قالت: كان لأبي بكرٍ الصديق رضي الله عنهُ، غلام يخرجُ لهُ الخرج وكان أبو بكرٍ يأكلُ من خراجه، فجاء يوماً بشيءٍ، فأكل منه أبو بكرٍ، فقال له الغلامُ: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكرٍ؟ وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسانٍ في الجاهلية وما أحسنُ الكهانةَ إلا أني خدعتهُ، فلقيني فأعطاني بذلك هذا الذي أكلت منهُ، فأدخل أبو بكرٍ يده فقاء كلَّ شيءٍ في بطنهِ.
وكان أبو بكر يخارجه: يعني يدعه يشتغل ويضرب عليه خراجاً معيناً، يقول: أئتِ لي كل يوم بكذا وكذا، وما زاد فهو لك.
وهذه المخارجة جائزة بالنسبة للعبيد، إذا كان الإنسان عنده عبيد وقال لهم: اذهبوا اشتغلوا وأتوني كل يوم بكذا وكذا من الدراهم وما زاد فهو لكم؛ فإن هذا جائز؛ لأن العبيد ملك للسيد، فما حصَّلوه فهو له سواء خارجهم على ذلك أم لم يخارجهم.
لكن فائدة المخارجة أن العبد إذا حصَّل ما اتفق عليه مع سيده فإن له أن يبقى من غير عمل، أن يبقى في طلب العلم، أن يبقى مستريحاً في بيته أو أن يشتغل ويأخذ ما زاد.
أما بالنسبة للعمال الذين يجلبهم الإنسان إلى البلاد ويقول: اذهبوا وعليكم كل شهر كذا وكذا من الدراهم، فإن هذا حرامٌ وظلم ومخالف لنظام الدولة، والعقد على هذا الوجه باطل، فليس لصاحب العمل شيء مما فرضه على هؤلاء العمال؛ لأن العامل ربما يكدح ويتعب ولا يحصل ما فرضه عليه كفيله، وربما لا يحصل شيئاً أبداً، فكان في هذا ظلم.
أما العبيد فهم عبيد الإنسان، مالهم وما في أيديهم فهو له.
هذا الغلام لأبي بكر، كان أبو بكر قد خارجه على شيء معين يأتي به إليه كل يوم، وفي يوم من الأيام قدّم هذا الغلام طعاماً لأبي بكر فأكله فقال: أتدري ما هذا؟ قال: وما هو؟ قال: هذا عوض عن أجرة كهانة تكهنت بها في الجاهلية وأنا لا أحسن الكهانة، لكنى خدعت الرجل فلقيني فأعطاني إياها.
وعوض الكهانة حرام، سواء كان الكاهن يحسن صنعة الكهانة أو لا يحسن؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن ((حُلوان الكاهن)) كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال:
نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحُلوان الكاهن.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:(8/677)
(نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن) أي ما يأخذه على كهانته عن إخباره عن الكائنة المستقبلة بزعمه وهو بضم الحاء وسكون اللام من حلوت الرجل حبوته بشيء أعطيته إياه أو من الحلاوة شبه ما يعطى الكاهن بشيء حلو لأخذه إياه سهلاً بلا كلفة يقال حلوته أطعمته الحلو والنهي يشمل الآخذ والمعطي وفي الأحكام السلطانية ينهى المحتسب من يتكسب بالكهانة واللهو ويؤدَّب عليه الآخذ والمعطي.
فلما قال لأبي بكر هذه المقالة، أدخل أبو بكر يده في فمه فقاء كلّ ما أكل، كل ما أكل قاءه وأخرجه من بطنه لماذا؟ لئلا يتغذى بطنه بحرام. وهذا مال حرام؛ لأنه عوض عن حرام، وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إن الله إذا حرَّم شيئاً حرَّم ثمنه)).
فالأجرة على فعل الحرام حرام، ومن ذلك تأجير بعض الناس دكاكينهم على الحلاقين الذين يحلقون اللحى، فإن هذه الأجرة حرام ولا تحل لصاحب الدكان؛ لأنه استؤجر منه لعمل محرم.
ومن ذلك أيضاً تأجير البنوك في المحلات، فإن تأجير البنوك حرام؛ لأن البنك معاملته كلها أو غالبها حرام، وإذا وجد فيه معاملة حلال؛ فهي خلاف الأصل الذي من أجله أنشأ هذا البنك، الأصل في إنشاء البنوك أنها للربا، فإذا أجرَّ الإنسان بيته أو دكانه للبنك فتعامل فيه بالربا فإن الأجرة حرامٌ ولا تحل لصاحب البيت أو صاحب الدكان.
وكذلك من أجَّر شخصاً يبيع المجلات الخليعة أو المفسدة في الأفكار الرديئة ومصادمة الشرع؛ فإنه لا يجوز تأجير المجلات لمن يبيع هذه المحلات؛ لأن الله تعالى قال (وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة:2)، وتأجير المحلات لهؤلاء معونة لهم، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إن الله إذا حرَّم شيئاً حرَّم ثمنه)).
وفي هذا الحديث دليلٌ على شدة ورع أبي بكر رضي الله عنه، فهو جدير بهذا؛ لأنه الخليفة الأول على هذه الأمة بعد نبيها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا كان قول أهل السنة والجماعة إن أبا بكر رضي الله عنه أفضل هذه الأمة؛ لأنه الخليفة الأول.
لقد ضرب أبي بكر - رضي الله عنه - أروع المثل في تحرى الحلال في مطعمه ومشربه، ويتجنب الشبهات، وهذه الخصلة تدل على بلوغه درجات عُليا في التقوى، ولا يَخفَى أهمية طيب المطعم والمشرب والملبس في الدين، وعلاقة ذلك بإجابة الدعاء (1)، كما في الحديث الآتي:
__________
(1) التاريخ الاسلامي للحميدي (19/ 13).(8/678)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إنّ الله طَيّبٌ ولاَ يَقْبَلُ إلاّ طَيّباً، وَإِنّ الله أمَرَ المُؤْمِنِينَ بِمَا أمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ، قال تعالى: (يَا أَيّهَا الرّسُلُ كُلُوا مِنَ الطّيّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إني بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وَقالَ تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للّهِ إِن كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ) ثم َذَكَرَ الرّجُلَ يُطِيلُ السّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ يَمُدّ يَدَيه إلَى السّمَاءِ يارب يارب وَمَطْعَمُهُ حَرَامُ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَانّى يُسْتَجَابُ له.
(ورع أبي بكر في مال المسلمين:
رد أبي بكر الصديق رضي الله عنه المال قصة ردِّه رضي الله عنه وظيفته من بيت المال
أخرج البيهقي عن الحسن أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنَّ أكيسَ الكَيْس التقوى ـ فذكر الحديث، وفيه: فلما أصبح غدا إِلى السوق فقال له عمر رضي الله عنه: أين تريد؟ قال: السوق، قال: قد جاءك ما يشغلك عن السوق، قال: سبحان الله، يشغلني عن عيالي قال: نفرض بالمعروف؛ قال: ويحَ عمر إِني أخاف أن لا يسعني أن آكل من هذا المال شيئاً. قال: فأنفقَ في سنتين وبعض أخرى ثمانية آلاف درهم، فلما حضره الموت قال: قد كنت قلت لعمر: إني أخاف أن لا يسعَني أن آكل من هذا المال شيئاً، فغلبني؛ فإذا أنا متُّ فخذوا من مالي ثمانية آلاف درهم وردوها في بيت المال قال: فلما أُتي بها عمر قال: رحم الله أبا بكر، لقد أتعب من بعده تعباً شديداً.
(ما وقع بينه وبين أم المؤمنين عائشة في هذا الأمر:
وأخرج ابن سعد عن أبي بكر بن حفص بن عمر قال: جاءت عائشة رضي الله عنها إلى أبي بكر رضي الله عنه وهو يعالج ما يعالج الميت ونَفَسُه في صدره، فتمثَّلَتْ هذا البيت:(8/679)
لعمرُك ما يغني الثراءُ عنِ الفتى إذا حَشْرجَتْ يوماً وضاق بها الصدر، فنظر إليها كالغضبان ثم قال: ليس كذاك يا أم المؤمنين ولكن {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} (ق: 19)، إنِّي قد كنت نحلتك حائطاً، وإِن في نفسي منه شيئاً، فردِّيه إلى الميراث. قالت: نعم، فرددته؛ فقال: أما إنَّا منذ وُلِّينا أمر المسلمين لم نأكل لهم ديناراً ولا درهماً، ولكنَّا قد أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا من فَيء المسلمين قليل ولا كثير إلا هذا العبد الحبشي، وهذا البعير الناضح، وجَرْد هذه القطيفة؛ فإذا متُّ فابعثي بهنَّ إِلى عمر وابرئي منهن، ففعلت. فلما جاء الرسول عمر بكى حتى جعلت دموعه تسيل في الأرض ويقول: رحم الله، أبا بكر، لقد أتعب من بعده رحم الله أبا بكر، لقد أتعب من بعده يا غلام إرفعهنَّ. فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: سبحان الله، تسلُب عيال أبي بكر عبداً حبشياً وبعيراً ناضحاً وجَرْدَ قطيفة ثمنَ خمسة الدراهم؟ قال: فما تأمر؟ قال: تردهنَّ على عياله، فقال: لا والذي بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحق ـ أو كما حلف ـ لا يكون هذا في ولايتي أبداً، ولا خرج أبو بكر منهنَّ عند الموت وأردهن (أنا) على عياله الموت أقرب من ذلك.
(7) تفقده لأحوال الناس ومحتاجيهم:
أخرج الخطيب عن أبي صالح الغِفاري أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يتعاهد عجوزاً كبيرة عمياء في حواشي المدينة من الليل، فيستسقي لها ويقوم بأمرها، وكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها فأصلح ما أرادت. فجاءها غير مرّة فلا يُسبق إليها، فرصده عمر فإذا هو بأبي بكر الصديق ـ رضي الله عنهما ـ الذي يأتيها وهو خليفة. فقال لعمر: أنت لعمري كذا في منتخب الكنز.
(8) وكان أبو بكر ممن يُفتي على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
ولذا بعثه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أميراً على الحج في الحجّة التي قبل حجة الوداع
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: بعثني أبو بكر في تلك الحجة، في مؤذنين يوم النحر، نؤذن بمنى: ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، قال حميد بن عبد الرحمن: ثم أردف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليا، فأمره أن يؤذن بـ "براءة". قال أبو هريرة: فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.(8/680)
(9) إنفاق أبي بكر رضي الله عنه ماله كله عند الهجرة:
أخرج ابن إسحاق عن أسماء رضي الله عنها قالت: لمَّا خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخرج أبو بكر رضي الله عنه معه إحتمل أبو بكر مالَه كله معه ـ خمسة آلاف درهم، أو ستة آلاف درهم ـ، فانطلق بها معه. قالت: فدخل علينا جدِّي أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأُراه قد فجعكم بماله مع نفسه. قالت: قلت: كلا يا أبت، إِنه قد ترك لنا خيراً كثيراً. قالت: وأخذت أحجاراً فوضعتها في كوّة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوباً ثم أخذت بيده فقلت: يا أبت ضع يدك على هذا المال. قالت: فوضع يده عليه فقال: لا بأس، إذا كان قد ترك لكم هذا فقد أحْسَن، وفي هذا بَلاغٌ لكم؛ ولا ـ والله ـ ما ترك لنا شيئاً، ولكن أردت أن أُسَكِّن الشيخ بذلك، كذا في البداية. وأخرجه أحمد والطبراني بنحوه. قال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق، وقد صرح بالسماع. انتهى.
(10) وأنفق ماله كله لما حث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على النفقة:
علم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصحابه كيف ينفقون الأموال وما أعطاهم الله تبارك وتعالى في سبيل الله ومواقع رضاء الله، وكيف كان ذلك أحبَّ إليهم من الإِنفاق على أنفسهم، وكيف كانوا يُؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وقد ضرب أبو بكر أروع المثل في ذلك يوم أنفق ماله كله.
(حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) قال: أمرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوما أن نتصدق، فوافق ذلك مالا عندي فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما، فجئت بنصف مالي، فقال [لي] رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "" ما أبقيت لأهلك؟ "" فقلت: مثله، قال: وأتى أبو بكر [رضي الله عنه] بكل ما عنده، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "" ما أبقيت لأهلك؟ "" قال: أبقيت لهم الله ورسوله قلت: لا أسابقك إلى شىء أبدا.
[*] قال صاحب تحفة الأحوذي:
قَوْلُهُ: (أَنْ نَتَصَدَّقَ) أَيْ: فِي بَعْضِ الْجِهَاتِ
(وَوَافَقَ ذَلِكَ عِنْدِي مَالًا) أَيْ: صَادَفَ أَمْرُهُ بالتَّصَدُّقِ حُصُولَ مَالٍ عِنْدِي، فَعِنْدِي حَالٌ مِنْ مَالٍ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِمَّا قَبْلَهُ يَعْنِي: وَالْحَالُ أَنَّهُ كَانَ لِي مَالٌ كَثِيرٌ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ
(الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ من مناقبه) أَيْ: بِالْمُبَارَزَةِ، أَوْ بِالْمُبَالَغَةِ(8/681)
(إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا) أَيْ: مِنَ الْأَيَّامِ وَإِنْ شَرْطِيَّةٌ دَلَّ عَلَى جَوَابِهَا مَا قَبْلَهَا، أَوِ التَّقْدِيرُ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا فَهَذَا يَوْمُهُ، وَقِيلَ: إِنْ نَافِيَةٌ أَيْ: مَا سَبَقْتُهُ يَوْمًا قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ (قَالَ) أَيْ: عُمَرُ (قُلْتُ مِثْلَهُ) أَيْ: أَبْقَيْتُ مِثْلَهُ يَعْنِي نِصْفَ مَالِهِ
(بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ) أَيْ: مِنَ الْمَالِ (اللَّهَ وَرَسُولَهُ) مَفْعُولُ: أَبْقَيْتُ أَيْ: رِضَاهُمَا
(لا أسابقك إلى شىء أبدا) أَيْ: مِنَ الْفَضَائِلِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُغَالَبَتِهِ حِينَ كَثْرَةِ مَالِهِ وَقِلَّةِ مَالِ أَبِي بَكْرٍ فَفِي غَيْرِ هَذَا الْحَالِ أَوْلَى أَنْ لَا يَسْبِقَهُ. أهـ
كان فعل عمر فيما فعله من المنافسة والغبطة مباحاً ولكن حال الصديق - رضي الله عنه - أفضل منه لأنه خال من المنافسة مطلقاً ولا ينظر إلى غيره (1).
(11) ومن مناقبه أنه أحب الناس إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: (عائشة). فقلت: من الرجال؟ فقال: (أبوها). قلت: ثم من؟ قال: (عمر بن الخطاب). فعد رجالا.
(12) ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتخذه أخاً له:
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: خطب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: (إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله). فبكى أبو بكر رضي الله عنه، فقلت في نفسي: ما يبكي هذا الشيخ؟ إن يكن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله، فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا، قال: يا أبا بكر لا تبك، إن أمنَّ الناس علي في صحبته وماله أبي بكر، ولو كنت متخذا خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر.
(13) ومن مناقبه رضي الله عنه أن الله زكّاه:
__________
(1) الفتاوى لابن تيمية (10/ 72،73).(8/682)
أنزل الله تعالى في شأن الصديق قرآناً يتلى الى يوم القيامة قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى - وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى - وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى - وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى - وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى - إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى - وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى - فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى - لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى - الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى - وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى - الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى - وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى - إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى - وَلَسَوْفَ يَرْضَى -} (1) (سورة الليل، الآيات: 5 - 21).
لقد كان الصديق من أعظم الناس إنفاقاً لماله فيما يرضي الله ورسوله. وهو من السابقين الأولين بل هو أول السابقين:
قال تعالى: (وَالسّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 100]
(قد زكّاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(حديث ابن عمر في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من جر ثوبه خُيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة فقال أبو بكر: يا رسول اللّه إن أحد شِقَي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه فقال له: إنك لست تصنع ذلك خُيلاء.
(14) ومن مناقبه رضي الله عنه أنه يُدعى من أبواب الجنة كلها:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أنفق زوجين في سبيل الله، نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي وأمي يا رسول الله، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟. قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم.
(15) ومن مناقبه أنه جمع خصال الخير في يوم واحد:
__________
(1) تفسير الآلوسي (30/ 152).(8/683)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أصبح منكم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن أطعم منكم مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا.
فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة.
(16) ومن مناقبه رضي الله عنه أن وصفه رجل المشركين بمثل ما وصفت خديجة رضي الله عنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(8/684)
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري) قالت: لما ابتلي المسلمون في مكة واشتد البلاء خرج أبو بكر مهاجراً قِبل الحبشة حتى إذا بلغ بَرْك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارَة، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأنا أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي. قال ابن الدغنة: إن مثلك لا يخرج ولا يخرج فإنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكَلّ وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار فارجع فاعبد ربك ببلادك، فارتحل ابن الدغنة فرجع مع أبي بكر فطاف في أشراف كفار قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يَخرج مثله ولا يُخرج، أتُخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق؟! فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وآمنوا أبا بكر وقالوا لابن الدغنة: مُر أبا بكر فليعبد ربه في داره فليصل وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا قال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره ولا يستعلن بالصلاة ولا القراءة في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وبرز فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون وينظرون إليه وكان أبو بكر رجلاً بكّاءً لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا له: إنا كنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره وإنه جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره وأعلن الصلاة والقراءة وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا فأته فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل وإن أبى إلاّ أن يعلن ذلك فَسَلْهُ أن يرد إليك ذمتك فإنا كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان. قالت عائشة فأتى ابن الدغنة أبا بكر فقال: قد علمت الذي عقدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترد إلي ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له قال أبو بكر: إني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله. رواه البخاري.
(17) وجمع بيت أبي بكر وآل أبي بكر من الفضائل الجمة الشيء الكثير الذي لم يجمعه بيت في الإسلام.
فقد كان بيت أبي بكر رضي الله عنه في خدمة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما في الاستعداد للهجرة، وما فعله عبد الله بن أبي بكر وأخته أسماء في نقل الطعام والأخبار لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاحبه في الغار(8/685)
وعائشة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي بنت أبي بكر رضي الله عنه وعنها
[*] قال ابن الجوزي رحمه الله:
أربعة تناسلوا رأوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أبو قحافة وابنه أبو بكر وابنه عبد الرحمن وابنه محمد
(18) غضبه إذا انتهكت حرمات الله تعالى:
(موقفه من فنحاص الحبر اليهودي:
ذكر غير واحد من كتّاب السيّر والمفسرين أن أبا بكر - رضي الله عنه - دخل بيت المدارس (1)، على يهود، فوجد منهم ناساً قد اجتمعوا إلى رجل منهم، يقال له فنحاص، وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حبر من أحبارهم، يقال له أشيع (2)، فقال أبو بكر لفنحاص: ويحك! اتق الله وأسلم، فوالله إنك تعلم أن محمداً لرسول الله، قد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل، فقال فنحاص لأبي بكر: والله يا أبا بكر، ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء وما هو عنا بغني، ولو كان عنا غنياً ما استقرضنا أموالنا، كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان غنياً ما أعطانا الربا فغضب أبوبكر، فضرب وجه فنحاص ضرباً شديداً، وقال: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت رأسك، أي عدو الله، فذهب فنحاص إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك. فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بكر: ما حملك على ما صنعت؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن عدو الله قال قولاً عظيماً، إنه يزعم أن الله فقير وأنهم أغنياء فلما قال ذلك غضبت لله مما قال، وضربت وجهه، فجحد ذلك فنحاص وقال: ما قلت ذلك، فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص رداً عليه، وتصديقاً لأبي بكر: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} (سورة آل عمران، الآية: 181).
__________
(1) مكان يتلى فيه التوارة.
(2) السيرة النبوية لابن هشام (1/ 558 - 559).(8/686)
ونزل في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، وما بلغه في ذلك من الغضب (1) قوله تعالى {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (سورة آل عمران، الآية:186).
(19) حفظ سر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(حديث ا بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) يحدث: أن عمر بن الخطاب، حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله، فتوفي بالمدينة، فقال عمر ابن الخطاب: أتيت عثمان بن عفان، فعرضت عليه حفصة، فقال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا. قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إلي شيئا، وكنت أوجد عليه مني على عثمان، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئا؟ قال عمر: قلت: نعم، قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي، إلا أني كنت علمت أن رسول الله قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله، ولو تركها رسول الله قبلتها.
(20) الصديق وآية صلاة الجمعة:
(حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قال: بينما نحن نصلي مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذ أقبلت عير تحمل طعاما، فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا اثنا عشر رجلا، فنزلت هذه الآية: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما}. (سورة الجمعة، الآية 11) أهـ
وقال: في الإثنىعشر الذين ثبتوا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبوبكر وعمر (2).
(21) رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينفي الخيلاء عن أبي بكر:
__________
(1) تفسير القرطبي (4/ 295).
(2) الإحسان في تقريب صحيح بن حيان (15/ 300)؛ مسلم رقم 863.(8/687)
(حديث ابن عمر في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من جر ثوبه خُيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة فقال أبو بكر: يا رسول اللّه إن أحد شِقَي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه فقال له: إنك لست تصنع ذلك خُيلاء.
(22) أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر:
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) قالت: دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بُعاث قالت وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذلك في يوم عيد؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا.
ففي الحديث بيان: أن هذا لم يكن من عادة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه الاجتماع عليه، ولهذا سماه الصديق مزمار الشيطان، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقر الجواري عليه معللاً ذلك بأنه يوم عيد، والصغار يرخص لهم في اللعب في الأعياد، كما جاء في الحديث: لتعلم يهود أن في ديننا فسحة.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لتعلم يهود أن في ديننا فسحة , إني أرسلت بحنيفية سمحة "
وكان لعائشة لُعَب تلعب بهن ويجئن صواحباتها من صغار النسوة يلعبن معها، وليس في حديث الجاريتين أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استمع إلى ذلك، والأمر والنهي إنما يتعلق بالاستماع لا بمجرد السماع (1). ومن هذا نفهم أنه يرخص لمن يصلح له اللعب أن يلعب في الأعياد، كالجاريتين الصغيرتين من الأنصار اللتين تغنيان في العيد في بيت عائشة (2).
ومن مظاهر أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر أيضاً الحديث الآتي:
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) أن فاطمة عليها السلام، ابنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن يقسم لها ميراثها، ما ترك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما أفاء الله عليه، فقال أبو بكر: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لا نورث، ما تركنا صدقة).فغضبت فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت.
__________
(1) نفس المصدر (30/ 118).
(2) المصدر السابق (30/ 118).(8/688)
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) قالت: إن أزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حين توفى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أردن أن يبعثن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - إلى أبي بكر، يسألنه ميراثهن، فقالت عائشة: أليس قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا نورث ماتركنا صدقة.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يقتسم ورثتي ديناراً، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة.
وهذا ما فعله أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - مع فاطمة رضي الله عنها امتثالا لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لذلك قال الصديق: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله يعمل به إلا عملت به (1)، وقال: والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصنعه فيه إلا صنعته (2).
وقد تركت فاطمة رضي الله عنها منازعته بعد احتجاجه بالحديث وبيانه لها وفيه دليل على قبولها الحق واذعانها لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
[*] قال ابن قتيبة (3)، وأما منازعة فاطمة أبا بكر رضي الله عنهما في ميراث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فليس بمنكر، لأنها لم تعلم ما قاله رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وظنت أنها ترثه كما يرث الأولاد آباءهم فلما أخبرها بقوله كفت (4).
[*] وقال القاضي عياض: وفي ترك فاطمة منازعة أبي بكر بعد احتجاجه عليها بالحديث التسليم للإجماع على قضية، وأنها لما بلغها الحديث وبين لها التأويل تركت رأيها ثم لم يكن منها ولا من ذريتها بعد ذلك طلب ميراث ثم ولي علي الخلافة فلم يعدل بها عما فعله أبو بكر وعمر رضي الله عنهم (5).
__________
(1) مسلم رقم 1758.
(2) البخاري رقم 6726.
(3) عبد الله بن مسلم بن قتيبة ت 276هـ (شذرات الذهب (2/ 169).
(4) تأويل مختلف الحديث، ص189.
(5) شرح صحيح مسلم للنووي (12/ 318).(8/689)
[*] وقال حماد بن إسحاق: والذي جاءت به الروايات الصحيحة فيما طلبه العباس وفاطمة وعلي لها وأزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أبي بكر رضي الله عنهم جميعاً إنما هو الميراث حتى أخبرهم أبو بكر والأكابر من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: (لانورث ماتركنا صدقة) فقبلوا بذلك وعلموا أنه الحق ولو لم يقل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك كان لأبي بكر وعمر فيه الحظ الوافر بميراث عائشة وحفصة رضي الله عنهما فآثروا أمر الله وأمر رسوله، ومنعوا عائشة وحفصة، ومن سواهما ذلك، ولو كان رسول، يورث، لكان لأبي بكر وعمر أعظم الفخر به أن تكون ابنتاهما وارثتي محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1).
وأما ما ذكره من الرواة في كون فاطمة رضي الله عنها غضبت وهجرت الصديق حتى ماتت فبعيد جداً لعدة أدلة منها:
أ-مارواه البيهقي من طريق الشعبي: أن أبا بكر عاد فاطمة، فقال لها علي: هذا أبو بكر يستأذن عليك فقالت: أتحب أن آذن له قال: نعم فأذنت له فدخل عليها فترضاها حتى رضيت (2)، وبهذا يزول الإشكال الوارد في تمادي فاطمة رضي الله عنها لهجر أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، كيف وهو القائل: والله لقرابة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أحب إليّ أن أصل من قرابتي (3)، ومافعل - رضي الله عنه - إلا امتثالاً وإتباعاً لأمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (4).
ب-لقد انشغلت عن كل شيء بحزنها لفقدها أكرم الخلق، وهي مصيبة تزري بكل المصائب، كما أنها انشغلت بمرضها الذي ألزمها الفراش عن أي مشاركة في أي شأن من الشؤون، فضلاً عن لقاء خليفة المسلمين المشغول -لكل لحظة من لحظاته- بشؤون الأمة، وحروب الردة وغيرها، كما أنها كانت تعلم بقرب لحوقها بأبيها، فقد أخبرها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأنها أول من يلحق به من أهله -ومن كان في مثل علمها لايخطر بباله أمور الدنيا، وما أحسن قول المهلب الذي نقله العيني: ولم يرو أحد، أنهما ألتقيا وامتنعا عن التسليم، وإنما لازمت بيتها، فعبر الراوي عن ذلك بالهجران (5).
__________
(1) البداية والنهاية (5/ 252 - 253) وقال إسناده جيد قوي.
(2) اباطيل يجب أن تمحى من التاريخ، ص109.
(3) البخاري رقم 4036.
(4) العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط، د. سالم السحيمي، ص291.
(5) أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ، ص108.(8/690)
هذا ومن الثابت تاريخياً أن أبابكر دام أيام خلافته يعطي أهل البيت حقهم في فيء رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المدينة، ومن أموال فدك وخمس خيبر، إلا أنه لم ينفذ فيها أحكام الميراث، عملاً بما سمعه من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد روي عن محمد بن علي بن الحسين المشهور بمحمد الباقر، وعن زيد بن علي أنهما قالا: إنه لم يكن من أبي بكر -فيما يختص بآبائهم- شيء من الجور أو الشطط، أو مايشكونه من الحيف أو الظلم (1).
ولما توفيت فاطمة رضي الله عنها بعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بستة أشهر على الأشهر، وقد كان صلوات الله وسلامه عليه عهد إليها أنها أول أهله لحوقاً به، وقال لها مع ذلك: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة (2)، وذلك ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من رمضان سنة إحدى عشرة، عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده علي بن الحسين، قال: ماتت فاطمة بين المغرب والعشاء، فحضرها أبوبكر وعمر وعثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف، فلما وُضِعت ليُصلى عليها، قال علي: تقدم ياأبابكر، قال أبوبكر: وأنت شاهد ياأبا الحسن؟ قال: نعم تقدم، فوالله لا يصلي عليها غيرك؛ فصلى عليها أبوبكر ودفنت ليلاً، وجاء في رواية: صلى أبوبكر الصديق على فاطمة بنت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكبر عليها أربعاً (3) وفي رواية مسلم صلى عليها علي بن أبي طالب (4).
هذا وقد كانت صلة سيدنا أبي بكر الصديق خليفة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأعضاء أهل البيت، صلة ودية تقديرية تليق به وبهم، وقد كانت هذه المودة والثقة متبادلتين بين أبي بكر وعلي، فقد سمَّى علي أحد أولاده بأبي بكر (5)، وقد احتضن علي ابن أبي بكر محمداً بعد وفاة الصديق وكفله بالرعاية ورشحه للولاية في خلافته حتى حسب عليه، وانطلقت الألسنة بانتقاده من أجله (6).
(23) إكرامه للضيوف:
__________
(1) المرتضى لأبي الحسن الندوي، ص90،91 نقلاً عن نهج البلاغة شرح أبي الحديد.
(2) المرتضى للندوي، ص94.
(3) المرتضى للندوي، ص94 نقلاً عن الطبقات الكبرى (7/ 29).
(4) مسلم رقم 1759.
(5) المرتضى للندوي، ص98.
(6) نفس المصدر، ص98.(8/691)
(حديث عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين): رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجاء بعد ما مضى من الليل ما شاء الله قالت له امرأته ما حبسك عن أضيافك أو قالت ضيفك قال أو ما عشيتهم قالت أبوا حتى تجيء قد عرضوا عليهم فغلبوهم قال فذهبت أنا فاختبأت وقال يا غنثر (1) - فجدع وسب وقال كلوا لا هنيئا وقال والله لا أطعمه أبدا قال فأيم الله ما كنا نأخذ من لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها قال حتى شبعنا وصارت أكثر مما كانت قبل ذلك فنظر إليها أبو بكر فإذا هي كما هي أو أكثر قال لامرأته يا أخت بني فراس ما هذا قالت لا وقرة عيني لهي الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرار قال فأكل منها أبو بكر وقال إنما كان ذلك من الشيطان يعني يمينه ثم أكل منها لقمة ثم حملها إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأصبحت عنده قال وكان بيننا وبين قوم عقد فمضى الأجل فعرفنا اثنا عشر رجلا مع كل رجل منهم أناس الله أعلم كم مع كل رجل إلا أنه بعث معهم فأكلوا منها أجمعون (2).
(24) ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر:
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري) قالت: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء - أو بذات الجيش- انقطع عقد لي فأقام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على التماسه، وأقام الناس معه، وليس على ماء وليس معهم ماء فأتى الناس أبابكر فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبالناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فجاء أبو بكر ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واضع رأسه على فَخِذِي قد نام فقال: حِبَستٍ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء قلت: فعاتبين وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على فخذي فنام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمم: { .... فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (سورة النساء، الآية43) فقال أسيد بن حضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر فقالت عائشة: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته.
__________
(1) غنثر: الثقيل الوخيم وقيل الجاهل.
(2) مسلم، كتاب الأشربة رقم 2057.(8/692)
وفي هذه القصة يظهر حرص الصديق على التأدب مع رسوله، وحساسيته الشديدة على أن يضايقه شيئاً ولا يقبل ذلك ولو كان من أقرب الناس وأحبهم الى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كعائشة رضي الله عنهم، فقد كان - رضي الله عنه - قدوة للدعاة في الأدب الجم مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومع نفسه ومع المسلمين (1).
(25) انتصار النبي للصديق رضي الله عنه:
لقد ثبت من الأحاديث الصحيحة ما يدل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينتصر لأبي بكر وينهى الناس عن معارضته،
(حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: كنت جالساً مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ أقبل ابوبكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أما صاحبكم فقد غامر) (2)، فسلم، وقال: يارسول الله إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إلي ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبي علي، فأقبلت إليك. فقال: يغفر الله لك ياأبابكر ثلاثاً. ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل: أثم أبوبكر؟ قالوا: لا. فأتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسلم عليه، فجعل وجه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتمعر (3)، حتى أشفق أبوبكر (4) فجثى على ركبتيه فقال يارسول الله: والله أنا كنت أظلم مرتين (5)، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبوبكر: صدق، وواساني بنفسه وماله (6)، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي مرتين. فما أوذي بعدها.
وفي هذه القصة دروس وعبر كثيرة منها؛ الطبيعة البشرية للصحابة وما يحدث بينهم من خلاف، وسرعة رجوع المخطئ وطلب المغفرة والصفح من أخيه، تواد الصحابة فيما بينهم، مكانة الصديق الرفيعة عند رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم أصحابه ....... الخ.
(26) قل: غفر الله لك يا أبا بكر:
__________
(1) تاريخ الدعوة الاسلامية، ص402،403.
(2) غامر: خاصم. أي دخل في غمرة الخصومة.
(3) يتمعر: تذهب نضارته من الغضب.
(4) أن يكون لعمر من الرسول مايكره.
(5) لأنه هو الذي بدأ.
(6) المراد به أن صاحب المال يجعل يده ويد صاحبه في ماله سواء.(8/693)
(حديث ربيعة الأسلمي رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) قال: كنت أخدم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... وذكر حديثاً ثم قال: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطاني بعد ذلك أرضا وأعطى أبوكر أرضاً وجاءت الدنيا فاختلفنا في عذق نخلة، فقلت أنا: هي في حدِّي، وقال أبوكر، هي في حدي، فكان بيني وبين أبي بكر كلام، فقال أبو بكر كلمة كرهها وندم فقال لي: يا ربيعة رد عليها مثلها حتى تكون قصاصاً، قال: قلت: لا أفعل، فقال أبو بكر: لتقولن أو لاستعدين عليك رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت: ما أنا بفاعل، قال: ورفض الأرض (1)، وأنطلق أبو بكر - رضي الله عنه - إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وانطلقت أتلوه، فجاء ناس من أسلم فقالوا لي: رحم الله أبا بكر، في أي شيء يستعدي عليك رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو قد قال لك ما قال، قلت: أتدرون من هذا؟ هذا أبو بكر الصديق، هذا ثاني أثنين، وهذا ذو شيبة المسلمين، إياكم لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب، فيأتي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيغضب لغضبه فيغضب الله عز وجل لغضبهما فيهلك ربيعة، قال: ما تأمرنا؟ قال: ارجعوا، قال: فانطلق أبو بكر - رضي الله عنه - إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتبعته وحدي حتى أتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فحدثه الحديث كما كان، فرفع إليّ رأسه فقال: يا ربيعة ما لك وللصديق؟ قلت: يا رسول الله كان كذا كان كذا، قال لي كلمة كرهها فقال: قل لي كما قلت حتى يكون قصاصاً فأبيت، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أجل فلا ترد عليه، ولكن قل: غفر الله لك يا أبا بكر، فقلت: غفر الله لك يا أبا بكر. قال الحسن (البصري): فولىَّ أبو بكر - رضي الله عنه - وهو يبكي.
{تنبيه}: (لله درُّ أبي بكر ٍ الصديق رضي الله تعالى عنه: أي وجدان هذا الوجدان، وأي نفس تلك النفس، بادرة بدرت منها لمسلم فلم ترض إلا اقتصاصه منها، وصفحه عنها، تناهيا بالفضيلة، واستمساكاً بالأدب وشعوراً تمكن من الجوانح، وأخذ بمجامع القلوب، فكانت عنده زلة اللسان ولو صغيرة ألما يتململ منه الضمير فلا يستريح إلا بالقصاص منه، ورضا ذلك المسلم عنه).
__________
(1) أي فارق أبوبكر الأرض.(8/694)
كانت كلمة هينة، ولكنها أصابت من ربيعة مَوجعاً .. فإذا أبو بكر يُزَلزلُ من أجلها، ويأبى إلا القصاص عليها، مع أنه يومئذ كان الرجل الثاني في الإسلام بعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي كلمة لا يمكن أن تكون من فُحش القول أبداً: لأن أخلاقه لم تسمع بهذا، ولم يؤثر عنه حتى في الجاهلية شيء من هذا (1).
لقد خشي الصديق مغبة تلك الكلمة، ولهذا اشتكى لرسول الله، وهذا أمر عجيب فإن أبا بكر قد نسى أرضه ونسى قضية الخلاف، وشغل باله أمر تلك الكلمة لأن حقوق العباد لابد فيها من عفو صاحب الحق (2)، وفي هذا درس للشيوخ والعلماء والحكام والدعاة في كيفية معالجة الأخطاء ومراعاة حقوق الناس وعدم الدوس عليها بالأرجل.
وقد استنكر قوم ربيعة أن يذهب أبو بكر يشتكي إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو الذي قال ما قال، ولم يعلموا ما علمه أبو بكر من لزوم إنهاء قضايا الخصومات، وإزالة ما قد يعلق في القلوب من الوجدة في الدنيا قبل أن يكتب ذلك في الصحف ويترتب عليه الحساب يوم القيامة.
وبالرغم مما ظهر من رضي ربيعة وتوجيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الى عدم الرد على أبي بكر فإن أبا بكر قد بكى من خشية الله تعالى، وهذا دليل على قوة إيمانه، ورسوخ يقينه.
وأخيراً موقف يذكر لربيعة بن كعب الأسلمي - رضي الله عنه -، حيث قام بإجلال أبي بكر - رضي الله عنه -، وأبى أن يرد عليه بالمثل، وهذا من تقدير أهل الفضل والتقدم والمعرفة بحقهم، وهو دليل على قوة الدين ورجاحة العقل (3).
(27) مسابقته في الخيرات:
اتصف الصديق - رضي الله عنه - بالأخلاق الحميدة، والصفات الرفيعة ومسابقته في الخيرات حتى صار في الخير قدوة، وفي مكارم الأخلاق أسوة، وكان حريصاً أشد الحرص على الخيرات، فقد أيقن أن ما يمكن أن يقوم به المرء اليوم، قد يكون غير ممكن في الغد، فاليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل ولذلك كان من المسارعين في الخيرات،
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أصبح منكم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن أطعم منكم مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا.
__________
(1) خلفاء الرسول، خالد محمد خالد، ص103.
(2) التاريخ الاسلامي (19/ 16).
(3) نفس المصدر (19/ 16).(8/695)
فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة.
(28) كظمه للغيظ:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن رجلاً شتم أبا بكر، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالس، فجعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعجب ويبتسم، فلما أكثر الرجل، رد عليه أبوبكر بعض قوله، فغضب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقام فلحقه أبوبكر، وقال: يارسول الله، كان يشتمني وأنت جالس، فلما أكثر رددت عليه بعض قوله، غضبت وقمت!! فقال عليه الصلاة والسلام: إنه كان معك ملك يرد عنك، فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان، فلم أكن لأقعد مع الشيطان ثم قال: يا أبا بكر ثلاث كلهنّ حق: ما من عبد ظلم بمظلمة، فيغضي عنها لله عز وجل إلا أعز الله بها نصره، وما فتح رجل باب عطية، يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة، وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله بها قلة (1).
إن الصديق - رضي الله عنه - اتصف بكظم الغيظ ولكنه رد ما ظن أنه به يسكت هذا الرجل، فرغبه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحلم والأناة، وأرشده الى ضرورة تحليه بالصبر في مواطن الغيظ فإن الحلم وكظم الغيظ مما يزيد المرء ويحمله في أعين الناس، ويرفع قدره عند الله تعالى.
ويتبين لنا كذلك من هذا الموقف حرص الصديق - رضي الله عنه - على عدم إغضاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسارعة إلى إرضائه وفي الحديث ذم الغضب للنفس، والنهي عنه، والتحذير منه، واعتزال الأنبياء للمجالس التي يحضرها الشيطان، وبيان الفضل للمظلوم، الصابر، المحتسب للأجر والثواب، وفيه حث على العطايا، وصلة الأرحام، وذم للمسألة وأهلها.
وظل الصديق متمسكاً بالحلم، وكظم الغيظ، حتى عُرف بالحلم والأناة، ولين الجانب، والرفق، وهذا لا يعني أن أبا بكر لم يكن يغضب، وإنما كان غضبه لله تعالى، فإذا رأى محارم الله قد انتهكت غضب لذلك غضباً شديداً (2).
(29) بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي:
__________
(1) الدر المنثور للسيوطي (2/ 74؛ مجمع الزوائد (8/ 190) حديث مرسل.
(2) سيرة وحياة الصديق، مجدي فتحي السيد، ص145.(8/696)
كان أبو بكر - رضي الله عنه - يَعُول مِسْطَحَ ابن أُثَاثَة، فلما قال في عائشة رضي الله عنها ما قال، في حديث الإفك المشهور - أقسم بالله أبو بكر ألا ينفعه أبداً، فلما أنزل الله عز وجل: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (سورة النور، الآية22). قال أبو بكر: والله إني أحب أن يغفر الله لي فرجع الى النفقة التي كان ينفق عليه وقال: والله لا أنزعها منه أبداً.
(حديث عائشة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قالت: قال أبو بكر الصديق، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا، بعد الذي قال لعائشة ما قال. فأنزل الله: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (سورة النور، الآية22). قال أبو بكر الصديق: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا.
*لقد فهم الصدِّيق من الآية بأن على المؤمن التخلق بأخلاق الله، فيعفو عن الهفوات والزلات والمزالق، فإن فعل، فالله يعفو عنه ويستر ذنوبه، وكما تدين تدان، والله سبحانه قال: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} أي كما تحبون عفو الله عن ذنوبكم فكذلك اغفروا لمن دونكم (1) وكما أن في الآية من حلف على شيء ألا يفعله، فرأى أن فعله أولى من تركه، أتاه وكفّر عن يمينه، وقال بعض العلماء: هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى، من حيث لطف الله بالقذفة العصاة بهذا اللفظ (2).
__________
(1) تفسير المنير (18/ 190).
(2) نفس المصدر (18/ 190).(8/697)
لقد دلت هذه الآية على أن أبا بكر أفضل الناس بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لأن الله وصفه بصفات عجيبة في هذه الآية، دالة على علو شأنه في الدين، أورد الرازي في تفسيره أربع عشرة صفة مستنبطة من هذه الآية: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} منها أنه وصفه بأنه صاحب الفضل على الإطلاق من غير تقييد لذلك بشخص دون شخص، والفضل يدخل فيه الإفضال، وذلك يدل على أنه - رضي الله عنه -، كان فاضلاً على الإطلاق كان مفضلاً على الإطلاق. ومنها أنه لما وصفه تعالى بأنه أولوا الفضل والسعة بالجمع لا بالواحد وبالعموم لابالخصوص على سبيل المدح، وجب أن يقال: إنه كان خالياً عن المعصية لأن الممدوح إلى هذا الحد لايكون من أهل النار (1).
(30) غيرة الصديق - رضي الله عنه - وتزكية النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لزوجه:
(حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أن نفرا من بني هاشم دخلوا على أسماء بنت عميس فدخل أبو بكر الصديق وهي تحته يومئذ فرآهم فكره ذلك فذكر ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال لم أر إلا خيرا فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن الله قد برأها من ذلك ثم قام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المنبر فقال لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان.
(31) خوفه من الله تعالى:
إن الخوف من الله عز وجل فضيلة تدفع العبد إلى الحذر من المعاصي، ومراقبة الله تعالى في السر والعلن، فتزكو أفعاله، وتجمل أعماله وقد أمر المؤمنين بالخوف منه فقال: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (سورة البقرة، آية:40). وقال: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (سورة هود، آية:112). وجعل للعبد الخائف منه أجراً عظيماً فقال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} (سورة الرحمن، آية:46).
والسنة الصحيحة طافحة بوجوب الخوف من الله تعالى منها ما يلي:
__________
(1) تفسير الرازي (18/ 351)(8/698)
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: خطب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطبة ما سمعت مثلها قط قال: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا). قال فغطى أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجوههم لهم خنين.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ أَلاَ إِنّ سِلْعَةَ الله غَالِيَةٌ أَلاَ إِنّ سِلْعَةَ الله الْجَنّةُ».
(حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى و جبريل كالحِلْسِ البَالِي من خشية الله تعالى.
(حديث شداد بن أوس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى: و عزتي و جلالي لا أجمع لعبدي أمنين و لا خوفين إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمعُ عبادي و إن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمعُ عبادي.
وقد كان الصديق - رضي الله عنه - على جانب من الخوف والرجاء عظيم جعله قدوة عملية لكل مسلم سواء حاكماً أو محكوماً قائداً أو جندياً، يريد النجاح والفلاح في الآخرة (1)،
[*] فعن محمد بن سيرين قال: لم يكن أحد أهيب لما يعلم بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أبي بكر.
[*] وعن قيس قال: رأيت أبا بكر آخذ بطرف لسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد (2)،
[*] وقد قال أبو بكر - رضي الله عنه -: ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا (3)
[*] وعن ميمون بن مهران قال: أتى أبو بكر بغراب وافر الجناحين فقلبه ثم قال: ما صيد من صيد ولاعضدت من شجرة إلا بما ضيعت من التسبيح (4)،
[*] وعن الحسن قال: قال أبو بكر: والله لوددت أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتعضد (5)،
[*] وقال أبو بكر: لوددت أني كنت شعرة في جنب عبد مؤمن (6)، وكان رضي الله عنه يتمثل بهذا البيت من الشعر:
لا تزال تنعي حبيباً حتى تكونه
وقد يرجوا الرجا يموت دونه (7)
__________
(1) تاريخ الدعوة الى الاسلام، يسري محمد، ص396.
(2) صفة الصفوة (2/ 253).
(3) الزهد، للامام أحمد، باب زهد أبي بكر، ص108.
(4) الزهد للامام أحمد، باب زهد أبي بكر، ص110.
(5) نفس المصدر، ص112.
(6) المصدر السابق، ص112.
(7) الزهد للامام أحمد، باب زهد أبي بكر، ص108.(8/699)
وأخرج ابن أبي شيبة، وهنَّاد، والبيهقي عن الضحاك قال: رأى أبو بكر الصديق رضي الله عنه طيراً واقفاً على شجرة فقال: طوبى لكَ يا طير والله لوددتُ أني كنت مثلك، تقع على الشجر، وتأكل من الثمر، ثم تطير وليس عليك حساب ولا عذاب والله لوددت أنِّي كنت شجرة إلى جانب الطريق مرّ عليَّ جمل فأخذني، فأدخلني فاه، فلاكني ثم ازدردني، ثم أخرجني بعراً ولم أكُ بشراً. وعند ابن فَتْحَويه في الوَجَل عن الضحَّاك بن مزاحم قال: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ـ ونظر إلى عصفور ـ: طوبى لك يا عصفور تأكل من الثمار، وتطير في الأشجار، لا حساب عليك ولا عذاب والله لوددتُ أني كبش يسمِّنني أهلي، فإذا كنت أعظم ما كنت وأسمنه يذبحوني، فيجعلون بعضي شواء، وبعضي قديداً، ثم أكلوني، ثم ألقوني عَذِرَةً في الحش، وأني لم أكن خُلقت بشراً. وعند أحمد في الزهد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن. كذا في منتخب الكنز.
(32) رسوخ إيمانه بالله تعالى:
كان إيمان الصديق بالله عظيماً، فقد فهم حقيقة الإيمان وتغلغلة كلمة التوحيد في نفسه وقلبه وانعكست آثارها على جوارحه وعاش بتلك الآثار في حياته، فتحلى بالأخلاق الرفيعة، وتطهر من الأخلاق الوضيعة وحرص على التمسك بشرع الله والاقتداء بهديه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان إيمانه بالله تعالى باعثاً له على الحركة والهمة والنشاط والسعي، والجهد والمجاهدة، والجهاد والتربية، والاستعلاء والعزة، وكان في قلبه من اليقين والإيمان شيء عظيم لا يساويه فيه أحد من الصحابة.
[*] قال أبو بكر بن عياش: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام ولكن بشيء وقر في قلبه (1)، ولهذا قيل: لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح، كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي بكرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم: "" من رأى منكم رؤيا؟ "" فقال رجل: أنا، رأيت كأن ميزانا نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبي بكر، ووزن عمر وأبو بكر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان، فرأينا الكراهية في وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
(1) فضائل الصحابة للامام أحمد (1/ 173).(8/700)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: صلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الصبح، ثم أقبل على الناس فقال: (بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها، فقالت: إنا لم نخلق لهذا، إنما خلقنا للحرث). فقال الناس: سبحان الله بقرة تكلم، فقال: (فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر - وما هما ثم - وبينما رجل في غنمه إذ عدا الذئب فذهب منها بشاة، فطلب حتى كأنه استنقذها منه، فقال له الذئب هذا: استنقذتها مني، فمن لها يوم السبع، يوم لا راعي لها غيري). فقال الناس: سبحان الله ذئب يتكلم، قال: (فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر). وما هما ثم.
ومن شدة إيمانه والتزامه بشرع الله تعالى وصدقه وإخلاصه للإسلام أحبه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأصبحت تلك المحبة مقدمة عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على غيره من الصحابة كما في الحديث الآتي:
(حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه الثابت في الصحيحين): أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعثه على جيش ذات السلاسل، قال: فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة. فقلت من الرجال؟ قال: أبوها. قلت ثم من؟ قال عمر بن الخطاب فعد رجالاً.
(وبسبب هذا الإيمان العظيم والتزامه بشرع الله القويم ولجهوده التي بذلها لنصرة دين رب العالمين استحق بشارة رسول الله بالجنة وأنه يدعى من جميع أبوابها،
(حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعليٌ في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعدُ ابن أبي وقاص في الجنة وسعيدُ ابن زيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أنفق زوجين في سبيل الله، نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي وأمي يا رسول الله، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟. قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم.
- ومما يدل على رسوخ إيمانه موقفة عندما مات النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:(8/701)
فارق رسول الله الدنيا وهو يحكم جزيرة العرب ويرهبه ملوك الدنيا، ويفديه أصحابه بنفوسهم وأولادهم وأموالهم، وما ترك عند موته ديناراً ولادرهماً، ولاعبداً، ولا أمة، ولاشيئاً، إلا بغلته البيضاء، وسلاحه وأرضا جعلها صدقة (1) وتوفي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير (2)، وكان ذلك يوم الاثنين 12 ربيع الأول سنة 11هـ للهجرة بعد الزوال (3)، وله ثلاث وستون سنة (4)، وكان أشد الأيام سواداً ووحشة ومصاباً على المسلمين، ومحنة كبرى للبشرية، كما كان يوم ولدته أسعد يوم طلعت فيه الشمس (5)، يقول أنس - رضي الله عنه -: كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان الذي مات فيه أظلم منها كل شيء (6) وبكت أم أيمن فقيل لها مايبكيك على النبي قالت: إني قد علمت أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سيموت ولكن إنما أبكي على الوحي الذي رفع عنا (7).
(هول الفاجعة وموقف أبي بكر منها:
[*] قال ابن رجب رحمه الله:
ولما توفي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اضطرب المسلمون، فمنهم من دُهش فخولط ومنهم من أقعد فلم يُطق القيام، ومنهم من أعتُقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية (8).
[*] والمصيبة برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أعظم المصائب المصيبة في الدين بنص السنة الصحيحة:
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها من أعظم المصائب.
وصدق رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لأن المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة، انقطع الوحي، وماتت النبوة، وكان أول ظهور الشر بارتداد العرب وغير ذلك، وكان أول انقطاع الخير وأول نقصانه (9).
__________
(1) البخاري، كتاب المغازي رقم 4461.
(2) السيرة النبوية للندوي، ص403.
(3) البداية والنهاية (4/ 223).
(4) مسلم، كتاب الفضائل (4/ 825).
(5) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص404.
(6) الترمذي (5/ 549) رقم 3618.
(7) مسلم (4/ 1907).
(8) لطائف المعارف، ص114.
(9) تفسير القرطبي (2/ 176).(8/702)
[*] وقال ابن اسحاق: ولما توفي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عظمت به مصيبة المسلمين، فكانت عائشة فيما بلغني تقول: لما توفي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ارتدت العرب، واشرأبت اليهودية، والنصرانية ونجم النفاق، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم (1).
[*] وقال القاضي أبو بكر بن العربي: ... واضطربت الحال .. فكان موت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاصمة الظهر، ومصيبة العمر، فأما علي فاستخفى في بيت فاطمة، وأما عثمان فسكت، وأما عمر فأهجر وقال: ما مات رسول الله وإنما واعده ربه كما واعد موسى، وليرجعن رسول الله، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم (2)
واسمع إلى الحديث الآتي لتعلم مدى ثبات أبي بكرٍ في الشدائد ورسوخ إيمانه وفضله على سائر الصحابة رضوان الله عنهم أجمعين:
(حديث عائشة الثابت في صحيح البخاري) أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مات وأبو بكرٍ بالسُّنحِ فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال عمر ـ والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك ـ وليبعثنه الله فليقطعنَّ أيدي رجالٍ وأرجلهم، فجاء أبو بكرٍ فكشف عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقبَّله فقال بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبداً ثم خرج فقال: أيها الحالف على رَسْلِك، فلما تكلم جلس عمر، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال: ألا من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت وقال: (إِنّكَ مَيّتٌ وَإِنّهُمْ مّيّتُونَ) وقال: (وَمَا مُحَمّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفإِنْ مّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىَ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ)
__________
(1) ابن هشام (4/ 323).
(2) القواصم من العواصم، ص38.(8/703)
وبهذه الكلمات القلائل، واستشهاد الصديق بالقرآن الكريم خرج الناس من ذهولهم وحيرتهم ورجعوا إلى الفهم الصحيح رجوعاً جميلاً، فالله هو الحي وحده الذي لايموت، وأنه وحده الذي يستحق العبادة، وأن الإسلام باق بعد موت محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1)، كما جاء في رواية من قول الصديق: إن دين الله قائم، وإن كلمة الله تامة وإن الله ناصر من نصره، ومعز دينه، وإن كتاب الله بين اظهرنا، وهو النور والشفاء وبه هدا الله محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفيه حلال الله وحرامه، والله لانبالي من أجلب علينا من خلق الله، إن سيوف الله لمسلولة ماوضعناها بعد، ولنجاهدنَّ من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله فلا يبغين أحد إلا على نفسه (2).
كان موت محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مصيبة عظيمة، ابتلاءاً شديداً، ومن خلاها وبعدها ظهرت شخصية الصديق كقائد للأمة فذ لا نظير له ولامثيل (3)، فقد أشرق اليقين في قلبه وتجلى ذلك في رسوخ الحقائق فيه فعرف حقيقة العبودية، والنبوة، والموت، وفي ذلك الموقف العصيب ظهرت حكمته - رضي الله عنه -، فانحاز بالناس إلى التوحيد (من كان يعبد الله فإن الله حي لايموت) ومازال التوحيد في قلوبهم غضاً طرياً، فما أن سمعوا تذكير الصديق لهم حتى رجعوا إلى الحق (4) تقول عائشة رضي الله عنها فوالله لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر - رضي الله عنه - فتلقاها منه الناس، فما يسمع بشر إلا يتلوها (5).
(33) علمه رضي الله تعالى عنه:
كان الصديق من أعلم الناس بالله وأخوفهم له (6)، وقد اتفق أهل السنة على أن أبا بكر أعلم الأمة، وحكى الإجماع على ذلك غير واحد (7)، وكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يُسَلمنو بذلك وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
__________
(1) استخلاف ابوبكر الصديق، جمال عبد الهادي، ص160.
(2) دلائل النبوة للبيهقي (7/ 218).
(3) أبوبكر رجل الدولة، مجدي حمدي، ص25،26.
(4) استخلاف ابوبكر الصديق، ص160.
(5) البخاري، كتاب الجنائز رقم 1241، 1242.
(6) تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص59.
(7) الفتاوى (13/ 127).(8/704)
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: خطب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: (إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله). فبكى أبو بكر رضي الله عنه، فقلت في نفسي: ما يبكي هذا الشيخ؟ إن يكن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله، فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا، قال: يا أبا بكر لا تبك، إن أمنَّ الناس علي في صحبته وماله أبي بكر، ولو كنت متخذا خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر.(8/705)
وسبب تقدمه على كل الصحابة في العلم والفضل ملازمته للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقد كان أدوم اجتماعاً به ليلاً ونهاراً، وسفراً وحضراً، وكان يسمر عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد العشاء، يتحدث معه في أمور المسلمين، دون غيره من أصحابه، وكان إذا استشار أصحابه أول من يتكلم أبو بكر في الشورى، وربما تكلم غيره، وربما لم يتكلم غيره، فيعمل برأيه وحده، فإذا خالفه غيره اتبع رأيه دون رأي من يخالفه (1)، وقد استعمله النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أول حجة حجت من مدينة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلم المناسك أدق ما في العبادات، ولولا سعة علمه لم يستعمله، وكذلك الصلاة استخلفه عليها ولولا علمه لم يستخلفه ولم يستخلف غيره لا في حج ولا في صلاة، وكتاب الصدقة التي فرضها رسول الله أخذه أنس من أبي بكر وهو أصح ما روى فيها (2) وعليه اعتمد الفقهاء وغيرهم في كتابة ما هو متقدم منسوخ، فدل على أنه أعلم بالسنة الناسخة، ولم يحفظ له قول يخالف فيه نصاً، وهذا يدل على غاية البراعة والعلم، وفي الجملة لا يعرف لأبي بكر مسألة في الشريعة غلط فيها، وقد عرف لغيرة مسائل كثيرة (3)، وكان - رضي الله عنه - يقضي ويفتي بحضرة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويقره، لقد تربى الصديق على يدي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحفظ كتاب الله تعالى وعمل به في حياته وتأمل فيه كثيراً وكان لا يتحدث بغير علم، فعندما سئل عن آية لايعرفها أجاب بقوله: أي أرض تسعني أو أي سماء تُظِلنُّي إذا قلت في كتاب الله مالم يُرد الله (4) ومن أقواله التي تدل على تدبره وتفكره في القرآن الكريم قوله: (إن الله ذكر أهل الجنة، فذكرهم بأحسن أعمالهم وغفر لهم سيئها، فيقول الرجل: أين أنا من هؤلاء؟! يعني: حسنها، فيقول قائل: لست من هؤلاء، يعني: وهو منهم (5)،
__________
(1) ابو بكر الصديق، محمد مال الله، ص334،335.
(2) البخاري رقم 1448.
(3) أبوبكر الصديق أفضل الصحابة وأحقهم بالخلافة، ص60.
(4) تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص117 هذه الرواية فيها انقطاع.
(5) الفتاوى لابن تيمية (6/ 212) ..(8/706)
وكان يسأل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما استشكل عليه بأدب وتقدير واحترام، فلما نزل قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} (سورة النساء، الاية:123) قال أبوبكر يارسول الله، قد جاءت قاصمة الظهر، وأينا لم يعمل سوءاً؟ فقال: ياأبابكر، ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأوى؟ فذلك مما تجزون به (1).
(حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنه قال يا رسول الله كيف الصلاح بعد هذه الآية (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) الآية وكل شيء عملناه جزينا به فقال: غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض ألست تحزن ألست يصيبك اللأواء قال فقلت بلى قال هو ما تجزون به.
وقد فسر الصديق بعض الآيات مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلَائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (سورة فصلت، الآية: 30) قال فيها: فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة، فلم يلتفتوا بقلوبهم إلى ماسواه لا بالحب ولا بالخوف، ولا بالرجاء ولا بالسؤال ولا بالتوكل عليه، بل لا يحبون إلا الله ولا يحبون معه أنداداً، ولايحبون إلا إياه، لا لطلب منفعة، ولا لدفع مضرة، ولا يخافون غيره كائناً من كان، ولا يسألون غيره ولا يتشرفون بقلوبهم الى غيره (2)، وغير ذلك من الآيات.
(وكان رضي الله تعالى عنه أعلم الصحابة بالأنساب:
فهو عالم من علماء الأنساب وأخبار العرب، وله في ذلك باع طويل جعله أستاذ الكثير من النسابين كعقيل بن أبي طالب وغيره، وكانت له مزية حببته إلى قلوب العرب وهي: أنه لم يكن يعيب الأنساب، ولايذكر المثالب بخلاف غيره (3)، فقد كان أنسب قريش لقريش وأعلم قريش بها، وبما فيها من خير وشر (4)، بدلالة الحديث الآتي:
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها.
__________
(1) احمد (1/ 11) وقال الشيخ شاكر اسانيدها ضعاف. وهو صحيح بطرقه وشواهده. انظر: مسند الامام احمد رقم 68.
(2) الفتاوى (28/ 22).
(3) التهذيب (2/ 183).
(4) الإصابة (4/ 146).(8/707)
ومع كونه - رضي الله عنه - من أعلم الصحابة إلا أنه من أبعد الناس عن التكلف، فعن ابراهيم النخعي قال: قرأ أبو بكر الصديق {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} (سورة عبس: آية31) فقيل ماالأب: فقيل كذا وكذا فقال أبو بكر: إن هذا لهو التكلف، أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله مالا أعلم (1).
(34) دعاؤه وشدة تضرعه - رضي الله عنه -:
إن الدعاء باب عظيم، فإذا فتح للعبد تتابعت عليه الخيرات وانهالت عليه البركات، ولذلك حرص الصديق على حسن الصلة بالله وكثرة الدعاء، كما أن الدعاء من أعظم وأقوى عوامل النصر على الأعداء قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (سورة غافر، آية:60). وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (سورة البقرة، آية:186).
ولقد لازم الصديق رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورأى كيف كان رسول الله يستغيث بالله ويستنصره ويطلب المدد منه وقد حرص الصديق على أن يتعلم هذه العبادة من رسول الله، وأن يكون دعاؤه وتسبيحه على الصيغة التي يأمر بها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويرتضيها، إذ ليس للمسلم أن يفضل على الصيغة المأثورة في الدعاء والتسبيح والصلاة على النبي صيغاً أخرى، مهما كانت في ظاهرها حسنة اللفظ، جيدة المعنى، لأن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو معلم الخير، والهادي إلى الصراط المستقيم، وهو أعرف بالأفضل والأكمل (2)،
وكان الصديق رضي الله عنه يسأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعلمه دعاءاً يدعو به كما في الأحاديث الآتية:
(حديث أبي بكر الصديق الثابت في الصحيحين) أنه قال لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كبيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم.
__________
(1) فتح الباري (13/ 285) فيه انقطاع بين ابراهيم النخعي وأبي بكر.
(2) أبوبكر الصديق، علي طنطاوي، ص207.(8/708)
ففي هذا الدعاء وصف العبد لنفسه المقتضى حاجته إلى المغفرة، وفيه وصف ربه الذي يوجب، أنه لا يقدر على هذا المطلوب غيره، وفيه التصريح بسؤال العبد لمطلوبه، وفيه بيان المقتضى للإجابة، وهو وصف الرب بالمغفرة، والرحمة، فهذا ونحوه أكمل أنواع الطلب (1)
(حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أنه قال: يا رسول الله، مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت، وإذا أمسيت قال: "" قل: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شىء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، وشر الشيطان وشركه "" قال: "" قلها إذا أصبحت وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعك.
فقد تعلم الصديق من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه ليس لأحد أن يظن استغناءه عن التوبة إلى الله والاستغفار من الذنوب، بل كل أحد محتاج إلى ذلك دائماً قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا - لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا -} (سورة الأحزاب، آية:72 - 73) فالإنسان ظالم جاهل وغاية المؤمنين والمؤمنات التوبة، وقد أخبر الله تعالى في كتابه بتوبة عباده الصالحين ومغفرته لهم. وثبت في الصحيحين عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: (لن يدخل الجنة أحد بعلمه) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) (2) وهذا لا ينافي قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} (سورة الحاقة، آية:24) فإن الرسول نفيى باء المقابلة والمعادلة والقرآن أثبت باء السبب، وقول من قال: إذا أحب الله عبداً لم تضره الذنوب، معناه: أنه إذا أحب عبداً ألهمه التوبة والاستغفار فلم يصر على الذنوب، ومن ظن أن الذنوب لا تضر من أصر عليها فهو ضال مخالف للكتاب والسنة، وإجماع السلف والأئمة، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره (3).
__________
(1) الفتاوى (9/ 146).
(2) البخاري في الرقاق رقم 6463.
(3) الفتاوى (11/ 142).(8/709)
كان أبو بكر دائم الذكر لله تعالى شديد التضرع كثير التوجه لله، لا ينفك عن الدعاء في كل أحيانه وقد نقل إلينا بعض أدعيته وتضرعاته ومنها:
أ-أسألك تمام النعمة في الأشياء كلها، والشكر لك عليها حتى ترضى، وبعد الرضى، والخيرة في جميع ما تكون إليه الخَيَرةُ، بجميع ميسور الأمور كلها، لابمعسورها ياكريم (1).
ب- وكان يقول في دعائه: اللهم إني أسألك الذي هو خير لي في عاقبة الخير، اللهم اجعل آخر ما تعطيني من الخير رضوانك والدرجات العلا من جنات النعيم (2).
جـ-وكان يقول في دعائه: اللهم اجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيامي يوم ألقاك (3).
د-وكان إذا سمع أحداً يمدحه من الناس يقول: (اللهم أنت أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم أجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون) (4).
(35) دفاعه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
من صفات الصديق التي تميز بها: الجرأة والشجاعة، فقد كان لا يهاب أحداً في الحق، ولا تأخذه لومة لائم في نصرة دين الله والعمل له والدفاع عن رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(حديث عروة بن الزبير رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) قال: سألت عبد الله بن عمرو عن أشد ما صنع المشركون برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: رأيت عقبة بن أبي معيط، جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يصلي، فوضع رداءه في عنقه فخنقه به خنقا شديدا، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه، فقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم. [غافر:28].
__________
(1) الشكر لابن أبي الدنيا رقم 109 نقلاً عن خطب ابي بكر، ص39.
(2) خطب أبي بكر الصديق، ص139.
(3) كنز العمال رقم 5030 نقلاً عن خطب أب بكر، ص39.
(4) أسد الغابة (3/ 324).(8/710)
وأما في حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقد قام خطيباً وقال: يا أيها الناس من أشجع الناس؟ فقالوا: أنت يا أمير المؤمنين فقال: أما إني مابارزني أحد إلا انتصفت منه، ولكن هو أبو بكر، إنا جعلنا لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عريشاً فقلنا من يكون مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لئلا يهوي عليه أحد من المشركين، فوالله مادنا منه أحد إلا أبو بكر شاهراً بالسيف على رأس رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لايهوي إليه أحد إلاّ أهوى إليه فهذا أشجع الناس. قال ولقد رأيت رسول الله وأخذته قريش فهذا يُحادُه، وهذا يتلتله ويقولون أنت جعلت الآلهة إلهاً واحداً فوالله مادنا منه أحد إلا أبو بكر يضرب ويجاهد هذا ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ثم رفع على بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم قال: أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون خير أم هو؟ فبكت القوم، فقال عليّ: فوالله لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض من مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه وهذا رجل أعلن إيمانه (1).
هذه صورة مشرقة تبين طبيعة الصراع بين الحق والباطل والهدى والضلال، والإيمان والكفر، وتوضح ما تحمله الصديق من الألم والعذاب في سبيل الله تعالى كما تعطي ملامح واضحة عن شخصيته الفذة، وشجاعته النادرة التي شهد له بها الإمام علي - رضي الله عنه - في خلافته أي بعد عقود من الزمن، وقد تأثر علي - رضي الله عنه - حتى بكى وأبكى.
__________
(1) البداية والنهاية (3/ 271 - 272).(8/711)
إن الصديق - رضي الله عنه - أول من أوذي في سبيل الله بعد رسول الله، وأول من دافع عن رسول الله، وأول من دعا الى الله (1)، وكانت الذراع اليمنى لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتفرغ للدعوة وملازمة رسول الله وإعانته على من يدخلون الدعوة في تربيتهم وتعليمهم وإكرامهم، فهذا ابوذر - رضي الله عنه - يقص لنا حديثه عن إسلامه ففيه: ( ... فقال أبوبكر: ائذن لي يارسول الله في طعامه الليلة - وأنه أطعمه من زبيب الطائف (2)، وهكذا كان الصديق في وقوفه مع رسول الله يستهين بالخطر على نفسه، ولا يستهين بخطر يصيب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قل أو كثر حيثما رآه واستطاع أن يذود عنه العادين عليه، وانه ليراهم آخذين بتلابيبه فيدخل بينهم وبينه وهو يصيح بهم: (ويلكم أتقتلون رجلاً ان يقول ربي الله؟) فينصرفون عن النبي وينحون عليه يضربونه، ويجذبونه من شعره فلا يدعونه إلا وهو صديع) (3).
(36) أنه أول العشرة المبشرين بالجنة وأفضلهم:
(حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعليٌ في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعدُ ابن أبي وقاص في الجنة وسعيدُ ابن زيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة.
(37) ومن أعظم مناقبه - رضي الله عنه - أن أحق الناس بالخلافة بالكتاب والسنة والإجماع:
- الآيات الدالة على خلافة أبي بكر - رضي الله عنه -:
وردت آيات في كتاب الله عز وجل فيها الإشارة إلى أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - أحق الناس في هذه الأمة بخلافة سيد الأولين والآخرين وتلك الآيات هي:
__________
(1) انظر: ابوبكر الصديق، محمد عبد الرحمن قاسم، ص29،30،32.
(2) الفتح (7/ 213)؛ الخلافة الراشدة، يحيى اليحيى، ص156.
(3) عبقرية الصديق للعقاد، ص87؛ صديع: المشقوق الثوب.(8/712)
أ-قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ - صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ -} (سورة الفاتحة، آية:6 - 7). ووجه الدلالة أن أبا بكر - رضي الله عنه - فيمن أمر الله -جلا وعلا- عباده أن يسألوه أن يهديهم طريقهم وأن يسلك بهم سبيلهم وهم الذين أنعم الله عليهم وذكر منهم الصديقين في قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (سورة النساء، آية:69). وقد أخبر المصطفى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أبا بكر - رضي الله عنه - من الصديقين، فدل ذلك على أنه واحد منهم بل هو المقدم فيهم ولما كان أبو بكر - رضي الله عنه - ممن طريقهم هو الصراط المستقيم فلا يبقى أي شك لدى العاقل في أنه أحق خلق الله في هذه الأمة بخلافة المصطفى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1). [*] قال محمد بن عمر الرازي: قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ - صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ -} يدل على إمامة أبي بكر - رضي الله عنه - لأنا ذكرنا أن تقدير الآية: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم والله تعالى قد بين في آية أخرى أن الذين أنعم الله عليهم من هم؟ فقال: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} الآية ولا شك أن رأس الصديقين ورئيسهم أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - فكان معنى الآية أن الله أمرنا أن نطلب الهداية التي كان عليها أبو بكر الصديق وسائر الصديقين ولو كان أبو بكر ظالاً لما جاز الاقتداء به فثبت بما ذكرناه دلالة هذه الآية على إمامة أبي بكر - رضي الله عنه - (2).
[*] وقال محمد الأمين الشنقيطي: يؤخذ من هذه الآية الكريمة صحة إمامة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - لأنه داخل فيمن أمرنا الله في السبع المثاني والقرآن العظيم
__________
(1) عقيدة أهل السنّة والجماعة في الصحابة، ناصر حسن الشيخ (2/ 532).
(2) تفسير الرازي (1/ 260).(8/713)
-أعني الفاتحة- بأن نسأله أن يهدينا صراطهم فدل على أن صراطهم هو الصراط المستقيم وذلك في قوله تعالى {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم} وقد بين الذين أنعم عليهم فعد منهم الصديقين وقد بين - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أبا بكر - رضي الله عنه - من الصديقين فاتضح أنه داخل في الذين أنعم الله عليهم الذين أمرنا الله أن نسأله الهداية إلى صراطهم فلم يبق لبس في أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - على الصراط المستقيم وإن إمامته حق (1).
ب-قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (سورة المائدة، آية:54).
هذه الصفات المذكورة في هذه الآية الكريمة أول من تنطبق عليه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وجيوشه من الصحابة الذين قاتلوا المرتدين فقد مدحهم الله بأكمل الصفات ووجه دلالة الآية على خلافة الصديق أنه (كان في علم الله سبحانه وتعالى ما يكون بعد وفاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ارتداد قوم فوعد سبحانه -ووعده صدق- أنه يأتي بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، فلما وجد ما كان في علمه من ارتداد من ارتد بعد وفاة رسول الله وجد تصديق وعده بقيام أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - بقتالهم فجاهد بمن أطاعه من الصحابة من عصاه من الأعراب، ولم يخف في الله لومة لائم حتى ظهر الحق وزهق الباطل وصار تصديق وعده بعد وفاة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آية للعالمين ودلالة على صحة خلافة الصديق - رضي الله عنه - (2).
__________
(1) أضواء البيان (1/ 36).
(2) الاعتقاد للبيهقي، ص173 - 174.(8/714)
جـ-قال تعالى: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (سورة التوبة، آية:40).
[*] قال أبو عبد الله القرطبي: قال بعض العلماء في قوله تعالى: {ثاني اثنين إذ هما في الغار} ما يدل على أن الخليفة بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - لأن الخليفة لا يكون أبداً إلا ثانياً وسمعت شيخنا أبا العباس أحمد بن عمر يقول: إنما استحق أن يقال ثاني اثنين لقيامه بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالأمر كقيام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به أولاً، وذلك أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما مات ارتدت العرب كلها ولم يبقى الإسلام إلا بالمدينة وجواثا (1)، فقام أبو بكر يدعو الناس إلى الإسلام ويقاتلهم على الدخول في الدين كما فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستحق من هذه الجهة أن يقال في حقه ثاني اثنين (2).
{تنبيه}: (هذه الآية الكريمة دلالة على أفضلية الصديق من سبعة أوجه ففي الآية الكريمة من فضائل أبي بكر - رضي الله عنه -:
1 - أن الكفار أخرجوه:
الكفار أخرجوا الرسول (ثاني أثنين) فلزم أن يكونوا أخرجوهما، وهذا هو الواقع.
2 - أنه صاحبه الوحيد:
الذي كان معه حين نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا هو أبوبكر، وكان ثاني أثنين الله ثالثهما.
قوله {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} ففي المواضع التي لا يكون مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أكابر الصحابة إلا واحد يكون هو ذلك الواحد مثل سفره في الهجرة ومقامه يوم بدر في العريش لم يكن معه فيه إلا أبوبكر، ومثل خروجه الى قبائل العرب يدعوهم الى الإسلام كان يكون معه من أكابر الصحابة أبوبكر، وهذا اختصاص في الصحبة لم يكن لغيره باتفاق أهل المعرفة بأحوال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
3 - أنه صاحبه في الغار:
الفضيلة في الغار ظاهرة بنص القرآن والسنة الصحيحة:
__________
(1) جواثا: قرية بالبحرين. انظر: معجم البلدان (2/ 174).
(2) تفسير القرطبي (8/ 147 - 148).(8/715)
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن أبا بكر حدثه فقال: قلت للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في الغار: لو أن أحدهم نظر الى قدميه لأبصرنا تحت قدميه!! فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ياأبابكر ماظنك باثنين الله ثالثهما).
وهذا الحديث مع كونه مما اتفق أهل العلم على صحته وتلقيه بالقبول فلم يختلف في ذلك اثنان منهم فهو مما دل القرآن على معناه (1).
4 - أنه صاحبه المطلق:
قوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} لايختص بمصحابته في الغار، بل هو صاحبه المطلق الذي عمل في الصحبة كما لم يشركه فيه غيره -فصار مختصاً بالأكملية من الصحبة، وهذا مما لا نزاع فيه بين أهل العلم بأحوال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولهذا قال من قال من العلماء: إن فضائل الصديق خصائص لم يشركه فيها غيره (2).
5 - أنه المشفق عليه:
قوله {لا تَحْزَنْ} يدل على أن صاحبه كان مشفقاً عليه محباً له ناصراً له حيث حزن، وإنما بحزن الإنسان حال الخوف على من يحبه، وكان حزنه على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لئلا يقتل ويذهب الإسلام، ولهذا لما كان معه في سفر الهجرة كان يمشي أمامه تارة، ووراءه تارة، فسأله النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فقال: أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون وراءك (3)، وفي رواية أحمد في كتاب فضائل الصحابة: ... فجعل أبوبكر يمشي خلفه ويمشي أمامه فقال له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مالك؟ قال: يارسول الله أخاف أن تؤتى من أمامك فأتقدم، قال: فلما انتهينا الى الغار قال أبوبكر: يارسول الله كما أنت حتى أيمه ... فلما رأى أبوبكر حجراً في الغار فألقمها قدمه، وقال يارسول الله إن كانت لسعة أو لدغة كانت بي (4). فلم يكن يرضى بمساواة النبي؛ بل كان لا يرضى بأن يقتل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يعيش؛ بل كان يختار أن يفديه بنفسه وأهله وماله. وهذا واجب على كل مؤمن، والصديق أقوم المؤمنين بذلك (5).
6 - المشارك له في معية الاختصاص:
__________
(1) منهاج السنّة (4/ 240،241).
(2) منهاج السنّة (4/ 252،245).
(3) ابوبكر الصديق أفضل الصحابة وأحقهم بالخلافة، ص43.
(4) منهاج السنّة (4/ 262،263).
(5) نفس المصدر (4/ 263).(8/716)
قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} صريح في مشاركة الصديق للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذه المعية التي اختص بها الصديق لم يشركه فيها أحد من الخلق ... وهي تدل على أنه معهم بالنصر والتأييد والإعانة على عدوهم - فيكون النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أخبر أن الله ينصرني وينصرك يا أبابكر، ويعيننا عليهم، نصر إكرام ومحبة كما قال الله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} (سورة غافر، الآية 51). وهذا غاية المدح لأبي بكر؛ إذ دل على أنه ممن شهد له الرسول بالايمان المقتضي نصر الله له مع رسوله في مثل هذه الحال التي يخذل فيها عامة الخلق إلا من نصره الله (1).
[*] وقال الدكتور عبد الكريم زيدان عن المعية في هذه الآية الكريمة وهذه المعية الربانية المستفادة من قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} أعلى من معيته للمتقين والمحسنين في قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} لأن المعية هنا لذات الرسول وذات صاحبه، غير مقيدة بوصف هو عمل لهما، كوصف التقوى والإحسان بل هي خاصة برسوله وصاحبه مكفولة هذه المعية بالتأييد بالآيات وخوارق العادات (2).
7 - أنه صاحبه في حال إنزال السكينة والنصر:
قال تعالى {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ... } (سورة التوبة، الآية 40) فإن من كان صاحبه في حال الخوف الشديد فلأن يكون صاحبه في حضور النصر والتأييد أولى وأحرى، فلم يحتج أن يذكر صحبته له في هذه الحال لدلالة الكلام والحال عليها. وإذا علم أنه صاحبه في هذه الحال علم أنما حصل للرسول من إنزال السكينة والتأييد بالجنود التي لم يرها الناس لصاحبه فيها أعظم مما لسائر الناس. وهذا من بلاغة القرآن وحسن بيانه (3).
ح- قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (سورة التوبة، آية:100) الآية
__________
(1) منهاج السنّة (4/ 242،243).
(2) المستفاد من قصص القرآن (2/ 100).
(3) منهاج السنّة (4/ 272).(8/717)
ووجه دلالة الآية على أحقية الصديق بالإمامة بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الهجرة فعل شاق على النفس ومخالف للطبع فمن أقدم عليه أولاً صار قدوة لغيره في هذه الطاعة وكان ذلك مقوياً لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام وسبباً لزوال الوحشة عن خاطره وكذلك السبق في النصرة فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة فلاشك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة فازوا بمنصب عظيم وإذا ثبت هذا فإن أسبق الناس إلى الهجرة أبو بكر الصديق فإنه كان في خدمة المصطفى عليه الصلاة والسلام وكان مصاحباً له في كل مسكن وموضع فكان نصيبه من هذا المنصب أعلى من نصيب غيره وإذا ثبت هذا صار محكوماً عليه بأنه رضي الله عنه ورضي هو عن الله وذلك في أعلى الدرجات من الفضل، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون إماماً حقاً بعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصارت هذه الآية من أدل الدلائل على فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وعلى صحة إمامتهما (1).
خ- قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور آية:55).
هذه الآية منطبقة على خلافة الصديق - رضي الله عنه - وعلى خلافة الثلاثة بعده فلما وجدت هذه الصفة من الاستخلاف والتمكين في أمر أبي بكر وعمر وعثمان وعلي دل ذلك على أن خلافتهم حق (2)، وقال الحافظ بن كثير: وقال بعض السلف خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حق في كتاب الله ثم تلا هذه الآية (3).
__________
(1) تفسير الرازي (16/ 168 - 169).
(2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (5/ 121).
(3) نفس المصدر (5/ 121).(8/718)
د-قال تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (سورة الفتح، آية:16) قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى: (وقد دل على إمامة أبي بكر في سورة براءة فقال للقاعدين عن نصرة نبيه عليه السلام والمتخلفين عن الخروج معه: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} (سورة التوبة، آية:83). وقال في سورة أخرى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} يعني الى قوله: {لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا} ثم قال الله تعالى {كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلا} وقال تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} -يعني تعرضوا عن إجابة الداعي لكم الى قتالكم- كما {تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (سورة الفتح، آيتان:
15 - 16). والداعي لهم إلى ذلك غير النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الله -عزوجل- له {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} وقال في سورة الفتح: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} فمنعهم عن الخروج مع نبيه عليه السلام وجعل خروجهم معه تبديلاً لكلامه فوجب بذلك أن الداعي الذي يدعوهم إلى القتال داع يدعوهم بعد نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1)،
__________
(1) الإبانة عن أصول الديانة، ص67؛ مقالات الاسلاميين (2/ 144).(8/719)
[*] وقد قال مجاهد في قوله: {أُولِي بَأْسٍ شَدِيد}. هم فارس والروم وبه قال الحسن البصري. قال عطاء: هم فارس وهو أحد قولي ابن عباس - رضي الله عنه -، وفي رواية أخرى عنه أنهم بنو حنيفة يوم اليمامة فإن كانوا أهل اليمامة فقد قوتلوا في أيام أبي بكر: وهو الداعي إلى قتال مسيلمة وبني حنيفة من أهل اليمامة، وإن كانوا أهل فارس والروم (1)، فقد قوتلوا في أيام أبي بكر وقاتلهم عمر من بعده وفرغ منهم وإذا وجبت إمامة عمر وجبت إمامة أبي بكر كما وجبت إمامة عمر لأنه العاقد له الإمامة فقد دل القرآن على إمامة الصديق والفاروق رضي الله عنهما، وإذا وجبت إمامة أبي بكر بعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجب أنه أفضل المسلمين - رضي الله عنه - (2).
هـ- قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (سورة الحشر، الآية: 8).
وجه دلالة هذه الآية على خلافته - رضي الله عنه - أن الله عز وجل سماهم (صادقين) ومن شهد له الرب - جل وعلا- بالصدق فإنه لا يقع في الكذب ولا يتخذه خلقاً بحال وقد أطبق هؤلاء الموصوفون بالصدق على تسمية الصديق - رضي الله عنه - (خليفة رسول الله) (3) - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن هنا كانت الآية دالة على ثبوت خلافته - رضي الله عنه - (4).
الأحاديث الدالة على خلافة أبي بكر - رضي الله عنه -:
وأما الأحاديث النبوية التي جاء التنبيه فيها على خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - فكثيرة شهيرة متواترة ظاهرة الدلالة إما على وجه التصريح أوالإشارة ولاشتهارها وتواترها صارت معلومة من الدين بالضرورة بحيث لا يسع أهل البدعة إنكارها (5) ومن تلك الأحاديث.
__________
(1) جامع البيان للطبري (26/ 82 - 84)؛ الاعتقاد للبيهقي، ص173.
(2) الإبانة في أصول الديانة، ص67.
(3) منهاج السنّة (1/ 135)؛ الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/ 107).
(4) عقيدة أهل السنّة والجماعة (2/ 538)، ناصر حسن الشيخ.
(5) عقيدة أهل السنّة والجماعة في الصحابة (2/ 539).(8/720)
(1) (جبير بن مطعم رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: أتت امرأة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمرها أن ترجع إليه قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك - كأنها تقول الموت- قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن لم تجديني فأتي أبابكر.
[*] قال ابن حجر رحمه الله: وفي الحديث أن مواعيد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت على من يتولى الخلافة بعده تنجيزها وفيه رد على الشيعة في زعمهم أنه نص على استخلاف علي والعباس (1).
(2) (حديث حذيفة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اقتدوا باللذين بعدي أبي بكر وعمر.
[*] قال لعلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
فقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اقتدوا باللذين من بعدي) أي: بالخليفتين اللذين يقومان من بعدي وهما أبوبكر وعمر وحث على الاقتداء بهما لحسن سيرتهما وصدق سريرتهما، وفي الحديث إشارة لأمر الخلافة (2).
(3) (حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: بينا أنا نائم، رأيتني على قليب عليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة، فنزع بها ذنوبا أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف، والله يغفر له ضعفه، ثم استحالت غربا، فأخذها ابن الخطاب، فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع عمر، حتى ضرب الناس بعطن).
[*] قال الشافعي رحمه الله: رؤيا الأنبياء وحي وقوله: وفي نزعه ضعف قصر مدته وعجلة موته وشغله بالحرب لأهل الردة عن الافتتاح والتزيد الذي بلغه عمر في طول مدته (3).
(4) (حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح مسلم) قالت: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ * في مرضه ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى اكتب كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر.
دل هذا الحديث دلالة واضحة على فضل الصديق - رضي الله عنه - حيث أخبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما سيقع في المستقبل بعد التحاقه بالرفيق الأعلى وأن المسلمين يأبون عقد الخلافة لغيره - رضي الله عنه - وفي الحديث إشارة أنه سيحصل نزاع ووقع كل ذلك كما أخبر عليه الصلاة والسلام ثم اجتمعوا على أبي بكر - رضي الله عنه - (4).
__________
(1) فتح الباري (7/ 24).
(2) تحفة الاحوذي بشرح الترمذي (10/ 147).
(3) الاعتقاد للبيهقي، ص171.
(4) عقيدة أهل السنّة والجماعة في الصحابة (2/ 542).(8/721)
(5) (حديث أبي موسى الثابت في الصحيحين) قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس قالت عائشة إنه رجل رقيق إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس. قال مروا أبا بكر فليصل بالناس، فعادت فقال مُري أبا بكر فليصل بالناس فإنكن صواحب يوسف، فأتاه فصلى بالناس في حياة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(ولذا قال عمر رضي الله عنه: أفلا نرضى لدنيانا من رضيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لديننا؟!
هذا الحديث اشتمل على فوائد عظيمة منها: فضيلة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وترجيحه على جميع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وتفضيله، وتنبيه على أنه أحق بخلافة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غيره ومنها أن الإمام إذا عرض له عذر عن حضور الجماعة استخلف من يصلي بهم وأنه لا يستخلف إلا أفضلهم، ومنها فضيلة عمر بعد أبي بكر - رضي الله عنه - لأن أبابكر - رضي الله عنه - لم يعدل الى غيره (1).
مسألة: ما المراد بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صواحب يوسف؟
[*] قال الإمام ابن حجر رحمه الله والمراد أنهن مثل صواحب يوسف في إظهار خلاف ما في الباطن.
ووجه المشابهة بينهما في ذلك أن زليخا استدعت النسوة وأظهرت لهن الإكرام بالضيافة ومرادها زيادة على ذلك وهو أن ينظرن إلى حسن يوسف ويعذرنها في محبته وأن عائشة أظهرت أن سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها كونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه ومرادها زيادة على ذلك وهو أن لا يتشاءم الناس به. أهـ
(ومن هنا يتبين أن من صفات المرأة أنها تظهر شيئاً لا تريده وتُخْفي في نفسها وبين جنبيها شيئاً آخر هو الذي تريده.
(6) (حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: خطب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: (إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله). فبكى أبو بكر رضي الله عنه، فقلت في نفسي: ما يبكي هذا الشيخ؟ إن يكن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله، فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا، قال: يا أبا بكر لا تبك، إن أمنَّ الناس علي في صحبته وماله أبي بكر، ولو كنت متخذا خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر.
__________
(1) شرح النووي (4/ 137).(8/722)
(7) قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: لما قبض رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير قال: فأتاهم عمر - رضي الله عنه - فقال: يامعشر الأنصار، ألستم تعلمون أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أمر أبابكر يؤم الناس فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبابكر - رضي الله عنه - فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبابكر (1).
(8) روى ابن سعد بإسناده الى الحسن قال: قال علي: لما قبض النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد قدم أبابكر في الصلاة فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لديننا فقدمنا أبابكر (2).
[*] وقد علق أبو الحسن الأشعري على تقديم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بكر في الصلاة فقال: وتقديمه له أمر معلوم بالضرورة من دين الاسلام قال: وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة وأقرؤهم لما ثبت في الخبر المتفق على صحته بين العلماء: أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنّة، فإن كانوا في السنّة سواء فأكبرهم سناً، فإن كانوا في السن سواء فأقدمهم إسلاماً) - قال ابن كثير- وهذا من كلام الأشعري رحمه الله مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب ثم قد اجتمعت هذه الصفات كلها في الصديق - رضي الله عنه - وأرضاه (3).
(انعقاد الإجماع على خلافة الصديق - رضي الله عنه -:
__________
(1) المستدرك (3/ 67).
(2) الطبقات لابن سعد (3/ 183).
(3) البداية والنهاية (5/ 265).(8/723)
أجمع أهل السنّة والجماعة سلفاً وخلفاً على أن أحق الناس بالخلافة بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - لفضله وسابقته ولتقديم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إياه في الصلوات على جميع الصحابة وقد فهم أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مراد المصطفى عليه الصلاة والسلام من تقديمه في الصلاة فأجمعوا على تقديمه في الخلافة ومتابعته ولم يتخلف منهم أحد ولم يكن الرب جل وعلا ليجمعهم على ضلالة فبايعوه طائعين وكان لأوامره ممتثلين ولم يعارض أحد في تقديمه (1)، فعندما سئل سعيد بن زيد متى بويع أبو بكر؟ قال: يوم مات رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة (2)، وقد نقل جماعة من أهل العلم المعتبرين إجماع الصحابة ومن جاء بعدهم من أهل السنّة والجماعة على أن أبابكر - رضي الله عنه - أولى بالخلافة من كل أحد (3) وهذه بعض أقوال أهل العلم:
[*] قال الخطيب البغدادي -رحمه الله- أجمع المهاجرون والأنصار على خلافة أبي بكر قالوا له: ياخليفة رسول الله ولم يسم أحد بعده خليفة، وقيل: إنه قبض النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ثلاثين ألف مسلم كل قال لأبي بكر: ياخليفة رسول الله ورضوا به من بعده رضي الله عنهم (4).
[*] وقال ابو الحسن الأشعري: أثنى الله -عز وجل- على المهاجرين والأنصار والسابقين الى الاسلام، ونطق القرآن بمدح المهاجرين والأنصار في مواضع كثيرة وأثنى على أهل بيعة الرضوان فقال عز وجل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (سورة الفتح، الآية 18). قد أجمع هؤلاء الذين أثنى الله عليهم ومدحهم على إمامة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وسموه خليفة رسول الله وبايعوه وانقادوا له وأقروا له بالفضل وكان أفضل الجماعة في جميع الخصال التي يستحق بها الإمامة من العلم والزهد وقوة الرأي وسياسة الأمة وغير ذلك (5).
__________
(1) عقيدة أهل السنة في الصحابة (2/ 550).
(2) أباطيل يجب أن تمح من التاريخ، ابراهيم شعوط، ص101.
(3) عقيدة أهل السنّة والجماعة في الصحابة (2/ 550).
(4) تاريخ بغداد (10/ 130 - 131).
(5) الإبانة عن أصول الديانة، ص66.(8/724)
[*] قال ابن تيمية رحمه الله: والتحقيق أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دل المسلمين على استخلاف أبي بكر وأرشدهم إليه بأمور متعددة من أقوله وأفعاله وأخبر بخلافته إخبار رضي بذلك حامد له وعزم على أن يكتب بذلك عهداً ثم علم أن المسلمين يجتمعون عليه فترك الكتاب اكتفاء بذلك ... فلو كان التعيين مما يشتبه على الأمة لبينه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بياناً قاطعاً للعذر ولكن لما دلهم دلالات متعددة على أن أبابكر هو المتعين وفهموا ذلك حصل المقصود ولهذا قال عمر بن الخطاب في خطبته التي خطبها بمحضر من المهاجرين والأنصار: وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر ... ) الى أن قال: (فخلافة أبي بكر الصديق دلت النصوص الصحيحة على صحتها وثبوتها ورضا الله ورسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له بها وانعقدت بمبايعة المسلمين له واختيارهم إياه اختياراً استندوا فيه الى ما عملوه من تفضيل الله ورسوله فصارت ثابتة بالنص والإجماع جميعاً لكن النص دل على رضا الله ورسوله بها وأنها حق وأن الله أمر بها وقدرها وأن المؤمنين يختارونها وكان هذا أبلغ من مجرد العهد بها لأنه حينئذ كان يكون طريق ثبوتها مجرد العهد، وأما إذا كان المسلمون قد اختاروه من غير عهد ودلت النصوص على صوابهم فيما فعلوه ورضا الله ورسوله بذلك كان ذلك دليلاً على أن الصديق كان فيه من الفضائل التي بان بها عن غيره ما علم المسلمون به أنه أحقهم بالخلافة فإن ذلك لايحتاج فيه الى عهد خاص (1).
{تنبيه}: (على الرغم من أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - كان أحق الناس بالخلافة بالكتاب والسنة والإجماع إلا أنه لم يكن حريصاً على الخلافة ولا يوماً واحداً فقد ضرب أروع المثل في الزهد في الدنيا والعزوف عنها والرغبة في الآخرة والإقبال عليها إقبال الظامئ على المورد العذب:
__________
(1) منهاج السنّة (1/ 139 - 141)؛ مجموع الفتاوى (35/ 47 - 49).(8/725)
وعند العُشّاري عن أبي الجحَّاف قال: لما بُويع أبو بكر رضي الله عنه أغلق بابه ثلاثة أيام يخرج إليهم في كل يوم فيقول: أيها الناس، قد أقلتكم بيعتكم فبايعوا من أحببتم. وكل ذلك يقوم إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيقول: لا نُقيلك ولا نستقيلك وقد قدّمك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمن ذا يؤخرك؟ كذا في الكنز. وأخرجه ابن النجار عن زيد بن علي عن آبائه رضي الله عنهم قال: قام أبو بكر رضي الله عنه على منبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: هل من كاره فأقيله؟
ثلاثاً يقول ذلك
فعند ذلك يقوم علي بن أبي طالب فيقول: لا والله لا نُقيلك ولا نستقيلك، من ذا الذي يؤخرك وقد قدّمك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كذا في الكنز.
وأخرج ابن راهَوَيْه، والعدَني، والبَغَوي، وابن خُزيمة عن رافع بن أبي رافع قال: لما استخلف الناس أبا بكر رضي الله عنه قلت: يا صاحبي الذي أمرني أن لا أتأمر على رجلين، فارتحلت فانتهيت إلى المدينة فتعرَّضت لأبي بكر فقلت له: يا أبا بكر أتعرفني؟ قال: نعم. قلت: أتذكر شيئاً قلته لي؛ أن لا أتأمَّر على رجلين وقد وَلِيتَ أمر الأمة؟ فقال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبض والناس حديثو عهد بكفر، فخفت عليهم أن يرتدوا وأن يختلفوا؛ فدخلت فيها وأنا كاره، ولم يزل بي أصحابي. فلم يزل يعتذر حتى عذرته. كذا في الكنز.
(الحزن على قبول الخلافة قول أبي بكر لعمر: أنت كلفتني هذا الأمر:
وأخرج ابن راهَوَيْه، وخيثمة في فضائل الصحابة وغيرهُما عن رجل من آل ربيعة أنه بلغه: أن أبا بكر رضي الله عنه حين استُخلف قعد في بيته حزيناً، فدخل عليه عمر رضي الله عنه، فأقبل عليه يلومه وقال: أنت كلّفتني هذا الأمر، وشكا إليه الحُكْمَ بين الناس. فقال له عمر: أوَ ا علمت أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الوالي إذا اجتهد فأصاب الحق فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ الحق فله أجر واحد»؛ فكأنه سهَّل على أبي بكر رضي الله عنه، كذا في الكنز.
(38) أعماله العظيمة:
من أعظم أعمال الصديق - رضي الله عنه - سبقه إلى الإسلام وهجرته مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن أعماله قبل الهجرة أنه أعتق سبعة كلهم يُعذّب في الله، وهم: بلال بن أبي رباح، وعامر بن فهيرة، وزنيرة، والنهدية وابنتها، وجارية بني المؤمل، وأم عُبيس.
- ومن أعظم أعماله التي قام بها بعد تولّيه الخلافة حرب المرتدين:(8/726)
فقد كان رجلا رحيما رقيقاً ولكنه في ذلك الموقف، في موقف حرب المرتدين كان أصلب وأشدّ من عمر رضي الله عنه الذي عُرِف بالصلابة في الرأي والشدّة في ذات الله
وقد أشار بعض الصحابة ومنهم عمر على الصديق بأن يترك مانعي الزكاة ويتألفهم حتى يتمكن الإيمان من قلوبهم ثم هم بعد ذلك يزكون فامتنع الصديق عن ذلك وأباه (1)،
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: لمَّا توفي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان أبو بكر، وكفر من كفر من العرب، قال عمر: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله). فقال: والله لأقاتلنَّ من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حقُّ المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدُّونه إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر فعرفت أنه الحق.
(عناقاً): صغير الماعز.
ثم قال عمر بعد ذلك؛ والله لقد رجح إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة جميعاً في قتال أهل الردة (2)، وبذلك يكون أبو بكر قد كشف لعمر (وهو يناقشه) عن ناحية فقهية مهمة أجلاها له، وكانت قد غابت عنه وهي أن جملة جاءت في الحديث النبوي الشريف الذي احتج به عمر هي الدليل على وجوب محاربة من منع الزكاة حتى وإن نطق بالشهادتين وهي قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها (3)، وفعلاً كان رأي أبو بكر في حرب المرتدين رأياً ملهماً، وهو الرأي الذي تمليه طبيعة الموقف لمصلحة الإسلام والمسلمين، وأي موقف غيره سيكون فيه الفشل والضياع والهزيمة والرجوع إلى الجاهلية، ولولا الله ثم هذا القرار الحاسم من أبي بكر لتغير وجه التاريخ وتحولت مسيرته، ورجعت عقارب الساعة إلى الوراء، ولعادت الجاهلية تعيث في الأرض فساداً (4).
__________
(1) البداية والنهاية (6/ 315).
(2) حروب الردة، محمد أحمد باشميل، ص24.
(3) مسلم رقم 21.
(4) الشورى بين الأصالة والمعاصرة، ص86.(8/727)
لقد تجلى فهمه الدقيق للإسلام، وشدة غيرته على هذا الدين، وبقائه على ما كان عليه في عهد نبيه في الكلمة التي فاض بها لسانه ونطق بها جنانه، وهي الكلمة التي تساوي خطبة بليغة طويلة وكتاباً حافلاً، وهي قوله عندما امتنع كثير من قبائل العرب أن يدفعوا الزكاة الى بيت المال، أو منعوها مطلقاً وأنكروا فرضيتها: قد انقطع الوحي وتم الدين، أينقص وأنا حي (1) وفي رواية قال عمر: فقلت يا خليفة رسول الله تألف الناس وأرفق بهم، فقال لي: أجبّار في الجاهلية خوَّار في الإسلام، قد انقطع الوحي، وتم الدين أينقص وأنا حي (2).
لقد سمع أبو بكر وجهات نظر الصحابة في حرب المرتدين وما عزم على خوض الحرب إلا بعد أن سمع وجهات النظر بوضوح، إلا أنه كان سريع القرار حاسم الرأي فلم يتردد لحظة واحدة بعد ظهور الصواب له وعدم التردد كان سمة بارزة من سمات أبي بكر -هذا الخليفة العظيم- في حياته كلها (3)، ولقد اقتنع المسلمون بصحة رأيه ورجعوا إلى قوله واستصوبوه.
لقد كان أبو بكر - رضي الله عنه - أبعد الصحابة نظراً، وأحقهم فهماً، وأربطهم جناناً في هذه الطامة العظيمة (4)، والمفاجئة المذهلة، ومن هنا أتى قول سعيد بن المسيب رحمه الله: وكان أفقهم، يعني الصحابة، وأمثلهم رأياً (5). من خطباء الإيمان.
لقد سُجِّل هذا الموقف الصلب القوي لأبي بكر رضي الله عنه حتى قيل: نصر الله الإسلام بأبي بكر يوم الردّة، وبأحمد يوم الفتنة.
فحارب رضي الله عنه المرتدين ومانعي الزكاة، وقتل الله مسيلمة الكذاب في زمانه.
ومع ذلك الموقف إلا أنه أنفذ جيش أسامة الذي كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد إنفاذه نحو الشام.
وفي عهده فُتِحت فتوحات الشام، وفتوحات العراق.
-:ومن أجَّلِ أعماله جمع القرآن الكريم:
__________
(1) المرتضى لأبي الحسن الندوي، ص70.
(2) مشكاة المصابيح، كتاب المناقب رقم 6034.
(3) الشورى بين الأصالة والمعاصرة، ص87.
(4) حركة الردة، ص165.
(5) البدر والتاريخ للمقدسي (5/ 153).(8/728)
(حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: بعث إليَّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر، فقال أبو بكر: إنَّ عمر أتاني فقال: إنَّ القتل قد استحرَّ يوم اليمامة بقرَّاء القرآن، وإني أخشى أن يستحرَّ القتل بقرَّاء القرآن في المواطن كلِّها، فيذهب قرآن كثير، و إني أرى أن تأمر بجمع القرآن، قلت: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل عمر يراجعني في ذلك حتَّى شرح الله صدري للذي شرح له صدر عمر، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: وإنك رجل شابّ عاقل لا نتَّهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتتبَّع القرآن فاجمعه. قال زيد: فوالله لو كلَّفني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل عليَّ ممَّا كلَّفني من جمع القرآن. قلت كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال أبو بكر: هو والله خير، فلم يزل يحثُّ مراجعتي حتى شرح الله صدري للَّذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر، ورأيت في ذلك الذي رأيا، فتتبَّعت القرآن أجمعه من العُسُبِ والرقاع و اللخاف وصدور الرجال، فوجدت في آخر سورة التوبة: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم}. إلى آخرها مع خزيمة، أو أبي خزيمة، فألحقتها في سورتها، فكانت الصحف عند أبي بكر حياته حتى توفاه الله عز وجل، ثم عند عمر حياته حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر.
اللخاف: يعني الخزف.
إنَّ القتل قد استحرَّ: أي اشتد وكثر(8/729)
(كان من ضمن شهداء المسلمين في حرب اليمامة كثير من حفظة القرآن، وقد نتج عن ذلك أن قام أبو بكر - رضي الله عنه - بمشورة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بجمع القرآن حيث جمع من الرقاع والعظام والسعف ومن صدور الرجال (1)، وأسند الصديق هذا العمل العظيم المشروع الحضاري الضخم إلى الصحابي الجليل زيد بن ثابت الأنصاري - رضي الله عنه -، يروي زيد بن ثابت - رضي الله عنه - فيقول: بعث إليّ أبو بكر - رضي الله عنه - لمقتل أهل اليمامة (2)، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر - رضي الله عنه -: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر (3) يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل استحر (4) يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن (5)، كلها فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن قلت لعمر: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (6)؟!! فقال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر عمر، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: وإنك رجل شاب عاقل، لا نتهمك (7)، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتتبع القرآن فاجمعه (8) قال زيد: فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل عليّ مما كلفني به من جمع القرآن، فتتبعت القرآن من العسب (9)، واللخاف (10)، وصدور الرجال، والرقاع (11)، والأكتاف (12). قال: حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره.
__________
(1) حروب الردة وبناء الدولة الاسلامية، احمد سعيد، ص145.
(2) يعني واقعة يوم اليمامة ضد مسيلمة الكذاب وأعوانه.
(3) استحر: كثر واشتد.
(4) استحر: كثر واشتد.
(5) أي في الأماكن التي يقع فيها القتال مع الكفار.
(6) يحتمل أن يكون - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما لم يجمع القرآن في المصحف، لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألهم الله الخلفاء الراشدين بذلك. (سيرة وحياة الصديق، ص120).
(7) هذه الصفات جعلت زيداً يتقدم على غيره في هذا العمل.
(8) أي: من الاشياء التي عندي وعند غيرك.
(9) العسب: هو جريد النخل.
(10) اللخاف: جمع لخفة: وهي صفائح الحجارة.
(11) الرقاع: جمع رقعة وهي قطع الجلود.
(12) الأكتاف: جمع كتف، وهو العظم الذي للبعير او الشاة.(8/730)
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (سورة التوبة، آية:128) حتى خاتمة براءة وكانت الصحف عند أبي بكر حياته حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهم (1) وعلق البغوي على هذا الحديث فقال: فيه البيان الواضح أن الصحابة -رضي الله عنهم- جمعوا بين الدفتين القرآن الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير أن يزادوا فيه أو ينقصوا منه شيئاً والذي حملهم على جمعه ما جاء في الحديث وهو أنه كان مفرقاً في العسب، واللخاف، وصدور الرجال، فخافوا ذهاب بعضه بذهاب حفظته، ففزعوا فيه إلى خليفة رسول الله، ودعوه إلى جمعه، فرأى في ذلك رأيهم فأمر بجمعه في موضع واحد باتفاق من جميعهم، فكتبوه كما سمعوا من رسول الله من غير أن قدموا شيئاً أو أخروا، أو وضعوا له ترتيباً لم يأخذوه من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُلقى أصحابه، ويعلمهم ما ينزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبريل صلوات الله عليه، إياه على ذلك، وإعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية تكتب عقيب آية كذا في السور التي يذكر فيها كذا (2)، وهكذا يتضح للقارئ الكريم أن من أوليات أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -: أنه أول مَنْ جمع القرآن الكريم، يقول صعصعة بن صوحان رحمه الله: أول من جمع بين اللوحين، وورت الكلالة (3): أبو بكر (4).
وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: يرحم الله أبا بكر هو أول من جمع بين اللوحين (5).
وقد اختار أبو بكر - رضي الله عنه - زيد بن ثابت لهذه المهمة العظيمة، وذلك لأنه رأى فيه المقومات الأساسية للقيام بها وهي:
1 - كونه شاباً، حيث كان عمره 21 سنة، فيكون أنشط، لما يطلب منه.
__________
(1) البخاري رقم 4986.
(2) شرح السنّة (4/ 522) للبغوي.
(3) الكلالة في رأي ابوبكر الصديق من لا ولد له ولا والد، فقد قال - رضي الله عنه -: رأيت في الكلالة رأياً فإن يك صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ من قِبَلي والشيطان، الكلالة ماعدا الولد والوالد، أي هم الأخوة. انظر: موسوعة فقه أبي بكر الصديق، ص36.
(4) إسناده صحيح: اخرجه ابن أبي شيبة (7/ 196).
(5) أسناده صحيح: اخرجه ابن أبي شيبة (7/ 196).(8/731)
2 - كونه أكثر تأهيلاً، فيكون أوعى له، إذ من وهبه الله عقلا راجحاً فقد يسر له سبيل الخير.
3 - كونه ثقة، فليس هو موضعاً للتهمة، فيكون عمله مقبولاً، وتركن إليه النفس، ويطمئن إليه القلب.
4 - كونه كاتباً للوحي، فهو بذلك ذو خبرة سابقة في هذا الأمر، وممارسة عملية له فليس غريباً عن هذا العمل، ولا دخيلاً عليه (1).
هذه الصفات الجليلة جعلت الصديق يُرشِّح زيداً لجمع القرآن، فكان به جديراً، وبالقيام به خبيراً.
5 - ويضاف لذلك أنه أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما في الحديث الآتي:
(حديث قتادة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه: من جمع القرآن على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ ابن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد.
وأما الطريقة التي اتبعها زيد في جمع القرآن فكان لا يثبت شيئاً من القرآن، إلا إذا كان مكتوباً بين يدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومحفوظاً من الصحابة، فكان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة، خشية أن يكون في الحفظ خطأ أو وهم، وأيضاً لم يقبل من أحد شيئاً جاء به إلا إذا أتى معه شاهدان يشهدان أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه من الوجوه التي نزل بها القرآن (2)، وعلى هذا المنهج استمر زيد - رضي الله عنه - في جمع القرآن حذراً متثبتاً مبالغاً في الدقة والتحري.
-:ومن أجل استخلاف الصديق لعمر بن الخطاب:
في شهر جمادي الآخرة من العام الثالث عشر للهجرة النبوية مرض الخليفة أبو بكر - رضي الله عنه -، واشتد به المرض (3) فلما ثقل واستبان له من نفسه -جمع الناس إليه فقال: إنه قد نزل بي ما قد ترون ولا أظنني إلا ميت لما بي وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم فأمَّروا عليكم من أحببتم فإنكم إن أمرتم في حياة منِّي كان أجدر أن لا تختلفوا بعدي (4).
وقد قام أبو بكر - رضي الله عنه - بعدة إجراءات لتتم عملية اختيار الخليفة القادم:
1 - استشارة أبي بكر كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار:
__________
(1) التفوق والنجابة على نهج الصحابة، حمد العجمي، ص73.
(2) التفوق والنجابة على نهج الصحابة، ص74.
(3) البداية والنهاية (7/ 18)؛ تاريخ الطبري (4/ 238).
(4) التاريخ الاسلامي (9/ 258).(8/732)
وتشاور الصحابة رضي الله عنهم، وكل يحاول أن يدفع الأمر عن نفسه ويطلبه لأخيه إذ يرى فيه الصلاح والأهلية، لذا رجعوا إليه، فقالوا: رأينا يا خليفة رسول الله رأيك، قال: فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده، فدعا أبو بكر عبد الرحمن بن عوف فقال له: أخبرني عن عمر بن الخطاب فقال له: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني: فقال أبو بكر: وإن فقال عبد الرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه، ثم دعا عثمان بن عفان. فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب. فقال: أنت أخبرنا به. فقال: على ذلك يا أبا عبد الله فقال عثمان: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله. فقال أبو بكر: يرحمك الله والله لو تركته ما عَدَتْك ثم دعا أسيد بن حضير فقال له: مثل ذلك، فقال أسيد: اللهم أعلمه الخيرة بعدك، يرضى للرضا، ويسخط للسخط، والذي يسر خير من الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه، وكذلك استشار سعيد بن زيد وعدداً من الأنصار والمهاجرين، وكلهم تقريباً كانوا برأي واحد في عمر إلا طلحة بن الله خاف من شدته، فقد قال لأبي بكر ما أنت قائل لرَبِّك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني أبالله تخوفوني؟ خاب من تزوَّدَ من أمركم بظلم أقول اللهم استخلفت عليهم خيْرَ أهْلكَ (1).
وبين لمن نبهه إلى غلظة عمر وشدته فقال: ذلك لأنه يراني رقيقاً ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيراً مما عليه (2).
2 - ثم كتب عهداً مكتوباً يقرأ على الناس في المدينة وفي الأنصار عن طريق أمراء الأجناد فكان نص العهد:
بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني أستخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاستمعوا له وأطيعوا، وإني لم آلُ الله ورسوله ودينه ونفسي، وإياكم خيراً، فإن عَدَلَ فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب، والخير أردت ولا أعلم الغيب {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (3) (سورة الشعراء، آية:227).
__________
(1) الكامل لابن الأثير (2/ 79)؛ التاريخ الاسلامي، محمود شاكر، ص101 الخلفاء الراشدون.
(2) الكامل لابن الأثير (2/ 79).
(3) تاريخ الاسلام للذهبي - عهد الخلفاء- ص116 - 117.(8/733)
إن عمر هو نصح أبي بكر الأخير للأمة، فقد أبصر الدنيا مقبلة تتهادى وفي قومه فاقة قديمة يعرفها، فإذا ما أطلوا لها استشرفتهم شهواتها، فنكلت بهم واستبدت، وذاك ما حذرهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إياه (1)، قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فو الله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بُسِطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم (2). لقد أبصر أبو بكر الداء فأتى لهم - رضي الله عنه - بدوء ناجع .. جبل شاهق، إذا ما رأته الدنيا أيست وولت عنهم مدبرة، إنه الرجل الذي قال فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده مالقيك الشيطان سالكا فجاً قط إلا سلك فجّاً غير فجّك (3). إن الأحداث الجسام التي مرت بالأمة، قد بدأت بقتل عمر، هذه القواصم خير شاهد على فراسة أبي بكر وصدق رؤيته في العهد لعمر، فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: أفرس الناس ثلاثة صاحبة موسى التي قالت: يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين، وصاحب يوسف حيث قال: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا، وأبو بكر حين استخلف عمر (4)، فقد كان عمر هو سد الأمة المنيع الذي حال بينها وبين أمواج الفتن (5).
(ما وقع بين أبي بكر وبين عبد الرحمن وعثمان في إستخلاف عمر:
وسمع بعض أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدخول عبد الرحمن، وعثمان على أبي بكر ـ رضي الله عنهم ـ وخَلْوتهما به، فدخلوا على أبي بكر فقال له قائل منهم: ما أنت قائل لربك إذا سألك عن إستخلافك عمر علينا وقد ترى غِلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني، أبالله تُخوِّقوني، خاب من تزوَّد من أمركم بظلم أقول: اللهم إستخلفت عليهم خير أهلك. أبلغ عني ما قلت لك مَنْ وراءك، ثم اضطجع ودعا عثمان بن عفان، فقال أكتب:
__________
(1) أبوبكر رجل الدولة، ص99.
(2) البخاري، كتاب الجزية والموادعة رقم 3158.
(3) البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي رقم 3683
(4) مجمع الزوائد (10/ 268) قال الهيثمي رواه الطبراني بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح، وأخرجه الحاكم (3/ 90) وصححه ووافقه الذهبي.
(5) أبوبكر رجل الدولة، ص100.(8/734)
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده من الدنيا خارجاً منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدُق الكاذب: إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا وإِني لم آلُ الله ورسولَ ودينَه ونفسي وإِياكم خيراً، فإن عدل فذلك ظنِّي به، وعلمي فيه؛ وإن بدّل فلكل امرىء ما اكتسب (من الإِثم). الخيرَ أردتُ، ولا أعلم الغيب {ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ} (الشعراء: 227) والسلام عليكم ورحمة الله.
ثم أمر بالكتاب فختمه. ثم قال بعضهم: لما أملَى أبو بكر رضي الله عنه صَدْر هذا الكتاب بقي ذِكْرُ عمر، فذُهب به قبل أن يُسمّي أحداً. فكتب عثمان رضي الله عنه: إني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب. ثم أفاق أبو بكر فقال: إقرأ عليّ ما كتبت. فقرأ عليه ذكر عمر، فكبَّر أبو بكر وقال: أراك خفت إن أقبلت نفسي في غشيتي تلك فتختلف، فجزاك الله عن الإِسلام وأهله خيراً، والله إِنْ كنت لها لأهلاً. ثم أمره فخرج بالكتاب مختوماً ومعه عمر بن الخطاب وأُسَيد بن سعيد القرظي، فقال عثمان للناس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا: نعم. وقال بعضهم: قد علمنا به ـ قال ابن سعد: عليٌّ القائل ـ وهو عمر. فأقرُّوا بذلك جميعاً. ورضوا به وبايعوا.
ثم دعا أبو بكر عمر خالياً وأوصى به بما أوصاه به، ثم خرج من عنده فرفع أبو بكر يديه مدّاً فقال؛ اللهمَّ إني لم أُرِدْ بذلك إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة، فعملت فيهم بما أنت أعلم به واجتهدت لهم رأيي، فولَّيت عليهم خيرهم، وأقواهم عليهم، وأحصرهم على ما أرشدهم، وقد حضرني من أمرك ما حضر فأخلفني فيهم، فهم عبادك ونواصيهم بيدك أصلِحْ لهم وإليَهم، واجعله من خلفائك الراشدين يتبع هَدْي نبي الرحمة وهَدْي الصالحينَ بعده، وأصلح له رعيته. وكذا في الكنز.
(جواب أبي بكر لطلحة إذ خالفه في استخلاف عمر:(8/735)
وعند الّلكالئي عن عثمان بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهم ـ قال: لما حضرت أبا بكر الصديق الوفاةُ دعا عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ فأملى عليه عهده، ثم أُغمِي على أبي بكر قبل أن يملي أحداً، فكتب عثمان: عمر بن الخطاب، فأفاق أبو بكر فقال لعثمان: كتبتَ أحداً؟ فقال: ظننتك لمآبك وخشيت الفُرقة فكتبت عمر بن الخطاب. فقال: يرحمك الله أما لو كتبت نفسك لكنت لها أهلاً. فدخل عليه طلحة بن عبيد الله فقال: أنا رسول مَنْ ورائي إليك، يقولون: قد علمت غِلظة عمر علينا في حياتك فكيف بعد وفاتك إذا أفضيت إليه أُمورنا؟ والله سائلك عنه، فانظر ما أنت قائل. فقال: أجلسوني. أبالله تخوِّقوني، قد خاب أمرؤ ظنَّ من أمركم وهماً، إذا سألني الله قلت: إستخلفت على أهلك خيرهم لهم، فأبلْغهم هذا عنِّي.
(وصية أبي بكر لعمر لما أراد أن يستخلفه:
أخرج ابن عساكر عن سالم بن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهم ـ قال: لما حضر أبا بكر رضي الله عنه الموتُ أوصى:
«بسم الله الرحمن الرحيم. هذا عهد من أبي بكر الصدِّيق، عند آخر عهده بالدنيا، خارجاً منها، وأول عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، ويتَّقي الفاجر، ويصدّق الكاذب: إني استخلفت من بعدي عمر بن الخطاب. فإن عدل فذلك ظنِّي فيه، وإِن جار وبدَّل فالخيرَ أردت، ولا أعلم الغيب.(8/736)
ثم بعث إلى عمر رضي الله عنه فدعاه فقال: «يا عمر، أبغضك مبغض، وأحبك محب، وقِدْماً يُبغض الخير ويُحب الشر ـ قال: فلا حاجة لي فيها ـ قال: لكن لها بك حاجة، وقد رأيتَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحبتَه، ورأيت أثرته أنفسنا على نفسه، حتى إِن كنا لنهدي لأهله فضل ما يأتينا منه، ورأيتني وصحبتني وإِنما اتبعت أثر من كان قبلي، والله ما نمت فحلمت، ولا شهدت فتوهَّمت، وإِني لعلى طريق ما زغت، تَعَلَّم يا عمر، إِنَّ لله حقاً في الليل لا يقبله بالنهار، وحقاً بالنهار لا يقبله بالليل، وإِنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتَّباعهم الحق، وحُقَّ الميزان أن يثقل لا يكون فيه إِلا الحق، وإِنما خفَّت موازين من خفَّت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل، وحُقَّ لميزان أن يخفَّ لا يكون فيه إلا الباطل. إنَّ أول ما أحذرك نفسك، وأحذرك الناس فإنَّهم قد طمحت أبصارهم، وانتفخت أهواؤهم، وأن لهم الخيرة عن زلّة تكون، فإياه تكونه، فإنهم لن يزالوا خائفين لك فرقين منك ما خفت الله وفرقته. وهذه وصيتي، وأقرأُ عليك السلام».
كذا في الكنز.(8/737)
وعند ابن المبارك، وابن أبي شيبة، وهَنَّاد، وابن جرير، وأبي نُعَيم في الحلية عن عبد الرحمن بن سابط، وزيد بن زبيد بن الحارث، ومجاهد قالوا: لما حضر أبا بكر الموتُ دعا عمر - رضي الله عنه - وقال له: «إتَّق الله يا عمر، واعلم أن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل، وعملاً بالليل لا يقبله بالنهار، وأنه لا يقبل نافلة حتى تُؤدى الفريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في دار الدنيا وثقله عليهم، وحُقّ لميزان يوضع فيه الحق غداً أن يكون ثقيلاً، وإنما خفَّت موازين من خفَّت موازينه يوم القيامة باتَّباعهم الباطل في الدنيا وخفَّته عليهم، وحُقّ لميزان يوضع فيه الباطل غداً أن يكون خفيفاً. وأن الله تعالى ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم، وتجاوز عن سيئته، فإذا ذكرتهم قلت: إِني لأخاف أن لا ألحق بهم؛ وأن الله تعالى ذكر أهل النار فذكرهم بأسوأ أعمالهم، وردَّ عليهم أحسنه؛ فإذا ذكرتهم قلت: إِني أخاف أن أكون مع هؤلاء
وذكر آية الرحمة وآية العذاب ـ فيكون العبد راغباً راهباً، ولا يتمنَّى على الله غير الحق، ولا يقنط من رحمته، ولا يُلقي بيديه إلى الهلكة. فإن أنت حفظت وصيتي فلا يكُ غائب أحب إليك من الموت وهو آتيك وإن أنت ضيَّعت وصيتي فلا يكُ. غائب أبغض إليك من الموت، ولست بمعجِزِه».
كذا في منتخب الكنز.
(39) إكرامه لأهل البيت:
أخرج أبو نُعيم والجابري في جزئه عن عبد الرحمن بن الأصبهاني قال: جاء الحسن بن علي إلى أبي بكر رضي الله عنهم وهو على منبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: انزل عن مجلس أبي، قال: صدقت، إنه مجلس أبيك، وأجلسه في حجره وبكى. فقال علي رضي الله عنه: والله ما هذا عن أمري. فقال: صدقتَ والله ما اتهمتك. وعند ابن سعد عن عروة أن أبا بكر خطب يوماً فجاء الحسن فصعد إليه المنبر، فقال: انزل عن منبر أبي، فقال علي: إن هذا شيء من غير ملأ منا. كذا في الكنز.
وأخرج ابن سعد وأحمد والبخاري والنسائي والحاك عن عقبة بن الحارث قال: خرجت مع أبي بكر رضي الله عنه من صلاة العصر بعد وفات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بليال، وعلي رضي الله عنه يمشي إلى جنبه. فمر بحسن بن علي يلعب مع غِلمان، فاحتمله على رقبته وهو يقول: بأبي شبيهُ بالنبي ليس شبيهاً بعلي وعلي يضحك. كذا في الكنز.
(ثانياً مناقب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:(8/738)
هو الخليفة الثاني وأفضل الصحابة الكرام بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنهم جميعاً وقد حثنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمرنا باتباع سنتهم والاهتداء بهديهم كما في الحديث الآتي:
(حديث العرباض بن سارية في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أوصيكم بتقوى الله و السمع و الطاعة و أن أمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة.
فعمر - رضي الله عنه - خير الصالحين بعد الأنبياء والمرسلين وأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وقد قال فيهما رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اقتدوا باللذين من بعدي، أبي بكر وعمر كما في الحديث الآتي:
(حديث حذيفة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اقتدوا باللذين بعدي أبي بكر وعمر.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
فقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اقتدوا باللذين من بعدي) أي: بالخليفتين اللذين يقومان من بعدي وهما أبوبكر وعمر وحث على الاقتداء بهما لحسن سيرتهما وصدق سريرتهما، وفي الحديث إشارة لأمر الخلافة (1).
والسنة طافحةٌ بما يدل على فضائل الفاروق وهذا غيضٌ من فيض ونقطةٌ من بحر مما ورد في ذلك جملةً وتفصيلاً:
(أولاً مناقب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جملة ً:
(1) إيمانه وعلمه ودينه:
(2) هيبة عمر وخوف الشيطان منه:
(3) عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مُلْهَمُ هذه الأمة:
(4) لم أر عبقرياً ينزع نزع عمر:
(5) غَيْرَةُ عمر رضي الله وبشرى رسول الله له بقصر في الجنة:
(6) عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أحب أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليه بعد أبي بكر:
(7) بشرى لِعُمَرَ بالجنة:
(8) موافقات عمر للقرآن الكريم:
(9) إلمام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بأسباب النزول:
(10) تفسير عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لبعض الآيات وبعض تعليقاته:
(11) ملازمة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(12) من صدقات عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ووقفه:
(13) دعاء رسول الله لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:
(14) زواج حفصة بنت عمر رضي الله عنهما من رسول الله:
__________
(1) تحفة الاحوذي بشرح الترمذي (10/ 147).(8/739)
(15) فراسة عمر الصادقة في أبي مسلم الخولاني:
(16) مشورة عمر على أبي بكر بجمع القرآن:
(17) تفقد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لأحوال أمراءه:
(18) (قبول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - للحق إذا سمعه من الرعية وعدم استنكافه من ذلك:
(19) تحقيقه للعدل والمساواة رضي الله عنه:
(20) شدة خوف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من الله تعالى بمحاسبته لنفسه:
(21) لين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وشدته:
(22) رحمة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:
(23) ومن أعظم مناقب عمر - رضي الله عنه - اعترافه بفضل أبي بكرٍ عليه إذعاناً للحق:
(24) شجاعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
(25) حكم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على الناس بظاهر الأعمال مما يدل على رسوخ العلم والإيمان في قلبه - رضي الله عنه -:
(26) ورع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:
(27) كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقافاً عند حدود الله تعالى:
(28) إكرام عمر لأهل البيت:
(29) توقير عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - للصحابه:
(30) تواضع عمر:
(31) غيرة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على أعراض المسلمين:
(ثانياً مناقب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - تفصيلا ً:
(1) إيمان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وعلمه ودينه:
(حديث عمر في صحيح البخاري) أن عمر رضي الله عنه للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنك لأحب إلى من كل شيء إلا من نفسي. قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك. قال: الآن والله لأنت أحب إلى من نفسي. فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الآن يا عمر "
(وأما علمه:
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن، فشربت منه، حتى إني لأرى الرِّيَّ يخرج من أظفاري، ثم أعطيت فضلي - يعني - عمر). قالوا: فما أوَّلته يا رسول الله؟ قال: (العلم).
وجه التعبير:(8/740)
وجه التعبير بذلك من جهة اشتراك اللبن والعلم في كثرة النفع وكونهما سبباً للصلاح، فاللبن للغذاء البدني والعلم للغذاء المعنوي وفي الحديث فضيلة – ومنقبة لعمر رضي الله عنه – وإن الرؤيا من شأنها أن لا تحمل على ظاهرها وإن كانت رؤيا الأنبياء من الوحي لكن منها ما يحتاج إلى تعبير ومنها ما يحمل على ظاهره .. والمراد بالعلم – في الحديث – سياسة الناس بكتاب الله وسنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واختص عمر بذلك لطول مدته بالنسبة إلى أبي بكر وباتفاق الناس على طاعته بالنسبة إلى عثمان فإن مدة أبي بكر كانت قصيرة فلم تكثر فيها الفتوح التي هي أعظم الأسباب في الاختلاف ومع ذلك فساس عمر فيها مع طول مدته الناس بحيث لم يخالفه أحد ثم ازدادت اتساعاً في خلافة عثمان فانتشرت الأقوال واختلفت الآراء ولم يتفق له ما اتفق لعمر في طواعية الخلق له فنشأت من ثم الفتن إلى أن أفضى الأمر إلى قتله واستخلف عليُّ فما ازداد الأمر إلا اختلافاً والفتن إلا انشاراً.
(وأما دينه:
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (بينا أنا نائم، رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره). قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: (الدين).
(2) هيبة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وخوف الشيطان منه:
(حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إيه يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً (1) قط إلا سلك فجاً غير فجك.
__________
(1) الفج: الطريق الواسع ويطلق على المكان المنخرق بين الجبلين.(8/741)
[*] قال ابن حجر: فيه فضيلة لعمر تقتضي أن الشيطان لا سبيل له عليه لا أن ذلك يقتضي وجود العصمة إذ ليس فيه إلا فرار الشيطان منه أن يشاركه في طريق يسلكها، ولا يمنع ذلك من وسوسته له بحسب ما تصل إليه قدرته، فإن قيل عدم تسليطه عليه بالوسوسة يؤخذ بطريق مفهوم الموافقة لأنه إذا منع من السلوك في طريق فأولى أن لا يلابسه بحيث يتمكن من وسوسته له فيمكن أن يكون حفظ من الشيطان، ولا يلزم من ذلك ثبوت العصمة له لأنها في حق النبي واجبة وفي حق غيره ممكنة ووقع في حديث حفصة عند الطبراني في الأوسط بلفظ: إن الشيطان لا يلقى عمر منذ أسلم إلا فر لوجهه. وهذا دال على صلابته في الدين، واستمرار حاله على الجد الصرف والحق المحض، وقال النووي: هذا الحديث محمول على ظاهره وأن الشيطان يهرب إذا رآه: وقال عياض: يحتمل أن يكون ذاك على سبيل ضرب المثل وأن عمر فارق سبيل الشيطان وسلك طريق السداد فخالف كل
ما يحبه الشيطان قال ابن حجر والأول أولى (1).
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: رأيت شياطين الإنس و الجن فروا من عمر.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(رأيت شياطين الإنس والجن فروا من عمر) بن الخطاب لأن القلب إذا كان مطهراً عن مرعى الشيطان وقوته وهو الشهوات وكان له حظ من سلطان الجلال والهيبة لم يثبت لمقاومته شيء وهابه كل من رآه قال ابن عباس: كانت درته أهيب عند الناس من سيوف غيره وكانوا إذا أرادوا أن يكلموه رفعوا إلى بنته حفصة هيبة له.
(3) عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مُلْهَمُ هذه الأمة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لقد كان فيما كان قبلكم من الأمم ناس مُحَدَثُون، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم)
__________
(1) فتح الباري (7/ 47 - 48)، شرح النووي (15/ 165 - 167).(8/742)
(أناس مُحَدَثُون) قال القرطبي: الرواية بفتح الدال اسم مفعول جمع محدث بالفتح أي ملهم أو صادق الظن وهو من ألقى في نفسه شيء على وجه الإلهام والمكاشفة من الملأ الأعلى أو من يجري الصواب على لسانه بلا قصد أو تكلمه الملائكة بلا نبوّة أو من إذا رأى رأياً أو ظنّ ظناً أصاب كأنه حدث به وألقى في روعه من عالم الملكوت فيظهر على نحو ما وقع له وهذه كرامة يكرم اللّه بها من شاء من صالح عباده وهذه منزلة جليلة من منازل الأولياء
(فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر) هذا شأنه وفي رواية بدله وإن يك في أمتي من أحد(8/743)
(فإنه عمر) كأنه جعله في انقطاع قرينه في ذلك كأنه نبيّ فلذلك أتى بلفظ إن بصورة الترديد قال القاضي: ونظير هذا التعليق في الدلالة على التأكيد والاختصاص قولك إن كان لي صديق فهو زيد فإن قائله لا يريد به الشك في صداقته بل المبالغة في أن الصداقة مختصة به لا تتخطاه إلى غيره وقال القرطبي: قوله فإن يكن دليل على قلة وقوعه وندرته وعلى أنه ليس المراد بالمحدثين المصيبون فيما يظنون لأنه كثير في العلماء بل وفي العوام من يقوى حدسه فتصح إصابته فترتفع خصوصية الخبر وخصوصية عمر ومعنى الخبر قد تحقق ووجد في عمر قطعاً وإن كان النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يجزم بالوقوع وقد دلّ على وقوعه لعمر أشياء كثيرة كقصة الجبل يا سارية الجبل وغيره وأصح ما يدلّ على ذلك شهادة النبي صلى اللّه عليه وسلم له بذلك حيث قال: إن اللّه جعل الحق على لسان عمر وقلبه وليس لك أن تقول [ص 508] هذا كالصريح في تفضيل الفاروق على الصديق لأنا نمنعه بأن الصديق لا يتلقى عن قلبه بل عن مشكاة النبوة وهي معصومة والمحدث تارة يتلقى عنها وتارة عن قلبه وهو غير معصوم ولهذا كان عمر يزن الوارد بميزان الشرع فإن وافق وإلا لم يلتفت إليه قال ابن حجر: وقد كثر هؤلاء المحدثون بعد العصر الأول وحكمته زيادة شرف هذه الأمة بوجود أمثالهم فيها ومضاهاة بني إسرائيل في كثرة الأنبياء فلما فات هذه الأمة المحمدية كثرة الأنبياء لكون نبيهم خاتم الأنبياء عوضوا تكثير الملهمين ومما تقدم عرف أنه ليس لأحد من الأولياء العمل بالوارد حتى يزنه بالميزان فإن وافق انتفع به هو ومن كاشفه به ممن يعتقد صدقة وزادهم إيماناً (تنبيه) قال الغزالي: قال بعض العارفين سألت بعض الأبدال عن مسألة من مشاهد النفس فالتفت إلى شماله وقال ما تقول رحمك اللّه ثم إلى يمينه كذلك ثم أطرق إلى صدره فقال ما تقول ثم أجاب فسألته عن التفاته فقال لم يكن عندي علم فسألت الملكين فكل قال لا أدري فسألت قلبي فحدثني بما أجبت فإذا هو أعلم منهما قال الغزالي: وكأن هذا معنى الحديث.
(4) لم أر عبقرياً ينزع نزع عمر:(8/744)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: بينا أنا نائم، رأيتني على قليب عليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة، فنزع بها ذَنُوبَا أو ذَنُوبَيْن، وفي نزعه ضعف، والله يغفر له ضعفه، ثم استحالت غربا، فأخذها ابن الخطاب، فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع عمر، حتى ضرب الناس بعطن).
[*] قال الشافعي رحمه الله: رؤيا الأنبياء وحي وقوله: وفي نزعه ضعف قصر مدته وعجلة موته وشغله بالحرب لأهل الردة عن الافتتاح والتزيد الذي بلغه عمر في طول مدته (1).
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
__________
(1) الاعتقاد للبيهقي، ص171.(8/745)
رأيتني على قليب عليها دلو: أما القليب فهي البئر غير المطوية والدلو يذكر ويؤنث، والذنوب: بفتح الذال الدلو المملوءة، والغرب بفتح الغين المعجمة وإسكان الراء وهي الدلو العظيمة، والنزع الاستقاء، والضعف بضم الضاد وفتحها لغتان مشهورتان الضم أفصح، ومعنى استحالت صارت وتحولت من الصغر إلى الكبر، وأما العبقري فهو السيد وقيل الذي ليس فوقه شيء، ومعنى ضرب الناس بعطن أي أرووا إبلهم ثم آووها إلى عطنها وهو الموضع الذي تساق إليه بعد السقي لتستريح. قال العلماء: هذا المنام مثال واضح لما جرى لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما في خلافتهما وحسن سيرتهما وظهور آثارهما وانتفاع الناس بهما، وكل ذلك مأخوذ من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن بركته وآثار صحبته، فكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو صاحب الأمر، فقام به أكمل قيام، وقرر قواعد الإسلام، ومهد أموره وأوضح أصوله وفروعه ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وأنزل الله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} ثم توفي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخلفه أبو بكر رضي الله عنه سنتين وأشهراً وهو المراد بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذنوباً أو ذنوبين وهذا شك من الراوي والمراد ذنوبان كما صرح به في الرواية الأخرى، وحصل في خلافته قتال أهل الردة وقطع دابرهم واتساع الإسلام ثم توفي فخلفه عمر رضي الله عنه فاتسع الإسلام في زمنه، وتقرر لهم من أحكامه ما لم يقع مثله، فعبر بالقليب عن أمر المسلمين لما فيها من الماء الذي به حياتهم وصلاحهم وشبه أميرهم بالمستقى لهم وسقيه هو قيامه بمصالحهم وتدبير أمورهم. وأما قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أبي بكر رضي الله عنه وفي نزعه ضعف فليس فيه حط من فضيلة أبي بكر ولا إثبات فضيلة لعمر عليه وإنما هو إخبار عن مدة ولايتهما وكثرة انتفاع الناس في ولاية عمر لطولها ولاتساع الإسلام وبلاده والأموال وغيرها من الغنائم والفتوحات ومصر الأمصار ودون الدواوين. وأما قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والله يغفر له فليس فيه تنقيص له ولا إشارة إلى ذنب وإنما هي كلمة كان المسلمون يدعمون بها كلامهم ونعمت الدعامة، وقد سبق في الحديث في صحيح مسلم أنها كلمة كان المسلمون يقولونها افعل كذا والله يغفر لك. قال العلماء: وفي كل هذا إعلام بخلافة أبي بكر وعمر وصحة ولايتهما وبيان صفتها وانتفاع المسلمين بها.(8/746)
قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فجاءني أبو بكر فأخذ الدلو من يدي ليروحني" قال العلماء: فيه إشارة إلى نيابة أبي بكر عنه وخلافته بعده وراحته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوفاته من نصب الدنيا ومشاقها كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مستريح ومستراح منه الحديث، والدنيا سجن المؤمن، ولا كرب على أبيك بعد اليوم. قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريه" أما يفري فبفتح الياء وإسكان الفاء وكسر الراء، وأما فريه فروي بوجهين: أحدهما فريه بإسكان الراء وتخفيف الياء والثانية كسر الراء وتشديد الياء وهما لغتان صحيحتان، وأنكر الخليل التشديد وقال هو غلط اتفقوا على أن معناه لم أر سيداً يعمل عمله ويقطع قطعه، وأصل الفري بالإسكان القطع يقال فريت الشيء أفريه فرياً قطعته للإصلاح فهو مفري وفرى وأفريته إذا شققته على جهة الإفساد، وتقول العرب: تركته يفري الفرى إذا عمل العمل فأجاده، ومنه حديث حسان لأفرينهم فري الأديم أي أقطعهم بالهجاء كما يقطع الأديم. قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حتى ضرب الناس بعطن" سبق تفسيره، قال القاضي: ظاهره أنه عائد إلى خلافة عمر خاصة، وقيل يعود إلى خلافة أبي بكر وعمر جميعاً لأن بنظرهما وتدبيرهما وقيامهما بمصالح المسلمين تم هذا الأمر وضرب الناس بعطن لأن أبا بكر قمع أهل الردة وجمع شمل المسلمين وألفهم وابتدأ الفتوح ومهد الأمور وتمت ثمرات ذلك وتكاملت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
(5) غَيْرَةُ عمر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وبشرى رسول الله له بقصر في الجنة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) بينا نحن عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ قال: (بينا أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب، فذكرت غيرته، فوليت مدبرا). فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله.
هذا الحديث يشتمل على فضيلة ظاهرة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث أخبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برؤيته قصراً في الجنة للفاروق وهذا يدل على منزلته عند الله تعالى (1).
(6) عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أحب أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليه بعد أبي بكر:
__________
(1) عقيدة أهل السنة والجماعة والصحابة (1/ 245).(8/747)
(حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: (عائشة). فقلت: من الرجال؟ فقال: (أبوها). قلت: ثم من؟ قال: (عمر بن الخطاب). فعد رجالا.
(7) بشرى لِعُمَرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - بالجنة:
(حديث أبي موسى رضي الله عنه قال الثابت في صحيح البخاري): كنت مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حائط من حيطان المدينة، فجاء رجل فاستفتح، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (افتح له وبشره بالجنة). ففتحت له، فإذا هو أبو بكر، فبشرته بما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحمد الله، ثم جاء رجل فاستفتح، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (افتح له وبشره بالجنة). ففتحت له فإذا هو عمر، فأخبرته بما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحمد الله، ثم استفتح رجل، فقال لي: (افتح له وبشره بالجنة، على بلوى تصيبه). فإذا عثمان، فأخبرته بما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحمد الله، ثم قال: الله المستعان.
(حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعليٌ في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعدُ ابن أبي وقاص في الجنة وسعيدُ ابن زيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة.
(8) موافقات عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - للقرآن الكريم:
(حديث عمر رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: وافقت ربي في ثلاث: فقلت: يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فأنزلت: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}. وآية الحجاب، قلت: يا رسول الله، لو أمرت نساءك أن يحتجبن، فإنه يكلمهن البر والفاجر، فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الغيرة عليه، فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن، أن يبدله أزواجا خيرا منكن، فأنزلت هذه الآية.
(ومن موافقته في ترك الصلاة على المنافقين:(8/748)
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قال: لما توفي عبد الله، جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليصلي، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله تصلي عليه، وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنما خيرني الله فقال: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة}. وسأزيده على السبعين). قال: أنه منافق، قال: فصلى عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل الله: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره}.
(موافقته في أسرى بدر:
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي بكر وعمر ما ترون في هؤلاء الأسارى فقال أبو بكر يا نبي الله هم بنو العم والعشيرة أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم للإسلام فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما ترى يا بن الخطاب قلت لا والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه وتمكني من فلان نسيبا لعمر فأضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها فهوى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر قاعدين يبكيان قلت يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة شجرة قريبة من نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنزل الله عز وجل! < ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض >! إلى قوله! < فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا >! الأنفال فأحل الله الغنيمة لهم (موافقته في الاستئذان:(8/749)
أرسل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غلاماً من الأنصار إلى عمر بن الخطاب. وقت الظهيرة ليدعوَه، فدخل عليه وكان نائماً وقد انكشف بعض جسده، فقال: اللهم حرّم الدخول علينا في وقت نومنا وفي (رواية) قال: يا رسول الله وددت لو أن الله أمرنا ونهانا في حال الاستئذان (1) فنزلت {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ} (النور، آية:58) (2).
(عمر ودعاؤه في تحريم الخمر:
(حديث عمر رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) قال: لما نزل تحريم الخمر قال عمر اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في البقرة فدعي عمر فقرئت عليه فقال عمر اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في النساء يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى فكان منادي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أقام الصلاة نادى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى فدعي عمر فقرئت عليه فقال اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في المائدة فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ فهل أنتم منتهون قال عمر رضي الله عنه انتهينا انتهينا.
(9) إلمام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بأسباب النزول:
حفظ عمر القرآن كله (3)، في الفترة التي بدأت بإسلامه، وانتهت بوفاة الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد حفظه مع أسباب التنزيل إلا ما سبق نزوله قبل إسلامه، فذلك مما جمعه جملة ولا مبالغة إذا قلنا: أن عمر كان على علم بكثير من أسباب التنزيل، وبخاصة في الفترة الإسلامية من حياته، ثم لشدة اتصاله بالتلقي عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم هو قد حفظ منه ما فاته، فإن يلم بأسباب النزول والقرآن بكر التنزيل، والحوادث لا تزال تترى فذلك أمر يسير (4).
وقد كان عمر سبباً في التنزيل لأكثر من آية، بعضها متفق على مكيته، وبعضها مدني، بل كان بعض الآيات يحظى من عمر بمعرفة زمانه ومكانه على وجه دقيق، منها ما يلي:
__________
(1) الرياض النضرة ص332 سنده ضعيف ذكره الواقدي بدون إسناد.
(2) الفتاوى (28/ 10).
(3) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (1/ 72)
(4) عمر بن الخطاب د. علي الخطيب ص90،91،92.(8/750)
(حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن رجلا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلتـ لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال: أي آية؟ قال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}. قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو قائم بعرفة يوم جمعة.
، وقد كان عمر – وحده أو مع غيره – سبباً مباشراً في تنزيل بعض الآيات منها، قول الله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)} (التوب22:19).
(النعمان بن بشير رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال: كنت عند منبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال رجل * ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج وقال آخر ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام وقال آخر الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم فزجرهم عمر وقال لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه فأنزل الله عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:19].(8/751)
ولما نزل قول الله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)} (القمر، آية:45). قال عمر: أي جمع يهزم؟ أي جمع يغلب؟ قال عمر: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يثبت في الدرع وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} فعرفت تأويلها يومئذ (1).
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال وهو في قبة يوم بدر: "" اللهم أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن تشأ لا تعبد بعد اليوم "" فأخذ أبو بكر بيده فقال حسبك يا رسول الله! ألححت على ربك فخرج وهو يثب في الدرع وهو يقول: "" [سيهزم الجمع ويولون الدبر].
(10) تفسير عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لبعض الآيات وبعض تعليقاته:
كان عمر يتحرّج في تفسير القرآن برأيه ولذلك لما سئل عن قوله تعالى
{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} قال: هي الرياح، ولولا أني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقوله ما قلته، قيل: {فَالْحَامِلاَتِ وِقْرًا}. قال: السحاب، ولولا أني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقوله ما قلته، قيل: {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا}؟ قال: السفن، ولولا أني سمعت رسول الله يقوله ما قلته، قيل: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا}؟ قال: هي الملائكة، ولولا أني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقوله ما قلته (2)، وكان رضي الله عنه له منهج في تفسيره للآيات، فإنه رضي الله عنه إذا وجد لرسول الله تفسيراً أخذ به، وكان هو الأفضل مثل ما مرّ معنا من تفسيره وإذا لم يجد طلبه في مظانه عند بعض الصحابة مثل: ابن عباس، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود ومعاذ وغيرهم - رضي الله عنهم _ وهذا مثال على ذلك
__________
(1) تفسير ابن كثير (4/ 266).
(2) أخبار عمر بن الخطاب الطنطاويان ص308 نقلاً عن الرياض النظرة.(8/752)
فقد قال عمر رضي الله عنه يوماً لأصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فيم ترون هذه الآية نزلت {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الأيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)} (البقرة، آية:266)، قالوا: الله أعلم. فغضب عمر فقال: قولوا نعلم أولا نعلم. فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين. قال عمر: يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك. قال ابن عباس: ضربت مثلاً لعمل، قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعمل. قال عمر: لرجل غني يعمل بطاعة الله عز وجل، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله (1)، وفي رواية قال ابن عباس: عني بها العمل، ابن آدم أفقر ما يكون إلى جنته إذا كبر سنه وكثر عياله، وابن آدم أفقر ما يكون إلى عمله يوم يبعث، فقال عمر: صدقت يا ابن أخي (2).
(وكانت له بعض التعليقات على بعض الآيات مثل قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ (157)} (البقرة، آية:156،157). فقال: نعم العدلان ونعم العلاوة (3)، ويقصد بالعدلين الصلاة والرحمة والعلاوة الاهتداء (4).
وسمع القارئ يتلو قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الأنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)} (الانفطار، آية:6). فقال عمر: الجهل (5). وفسر قول الله تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)} (التكوير، آية:7). بقوله: الفاجر مع الفاجر والطالح مع الطالح (6)، وفسر قول الله تعالى: {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (التحريم، آية:8). بقوله: أن يتوب ثم لا يعود، فهذه التوبة الواجبة التامة (7)
__________
(1) فتح الباري (8/ 49).
(2) الخلافة الراشدة والدولة الأموية، د. يحيى اليحيى ص305.
(3) المستدرك (2/ 270).
(4) الخلافة الراشدة والدولة الأموية ص305.
(5) تفسير ابن كثير (4/ 513).
(6) الفتاوى (7/ 44).
(7) الفتاوى (11/ 382).(8/753)
وذات يوم مر بدير راهب فناداه يا راهب فأشرف الراهب، فجعل عمر ينظر إليه ويبكي فقيل له يا أمير المؤمنين: ما يبكيك من هذا؟ قال ذكرت قول الله عز وجل في كتابه {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4)} (الغاشية، آية:4،3). فذاك الذي أبكاني (1)، وفسر الجبت بالسحر، والطاغوت بالشيطان في قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} (2) (النساء، آية:51).
(11) ملازمة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
إن الرافد القوي الذي أثر في شخصية عمر وصقل مواهبه، وفجر طاقاته وهذب نفسه هو مصاحبته لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتتلمذه على يديه في مدرسة النبوة، ذلك أن عمر لازم الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مكة بعد إسلامه كما لازمه كذلك في المدينة المنورة – حيث سكن العوالي – وهي ضاحية من ضواحي المدينة، وإن كانت قد اتصلت بها الآن وأصبحت ملاصقة لمسجد الرسول، حيث امتد العمران، وتوسعت المدينة، وزحفت على الضواحي، في هذه الضاحية نظم عمر نفسه، وحرص على التلمذة في حلقات مدرسة النبوة في فروع شتى من المعارف والعلوم على يدي معلم البشرية وهاديها، والذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، وقد كان لا يفوته علم من قرآن، أو حديث أو أمر أو حدث أو توجيه وإن لم يحدث بنفسه تناوب هو وأحدٌ من أصحابه فيحضر هذا مرة ويأتيه بما يكون من رسول الله ويحضر الآخر مرة ويأتيه بما يكون من رسول الله.
قال عمر: كنت أنا وجار لي من الأنصار من بني أمية بن زيد – وهي من عوالي المدينة – وكنا نتناوب النزول على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئت بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك (3).
(حديث عمر في صحيح البخاري) قال: وكان رجلاً من الأنصار إذا غاب عن رسول الله وشهدته أتيته بما يكون من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
__________
(1) تفسير ابن كثير (4/ 537).
(2) تفسير ابن كثير (1/ 524).
(3) نفس المصدر ص87.(8/754)
وهذا الخبر يوقفنا على الينبوع المتدفق، الذي استمد منه عمر علمه وتربيته وثقافته، وهو كتاب الله الحكيم، الذي كان ينزل على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منجماً على حسب الوقائع والأحداث، وكان الرسول يقرأه على أصحابه، الذين وقفوا على معانيه، وتعمقوا في فهمه، وتأثروا بمبادئه، وكان له عميق الأثر في نفوسهم وعقولهم وقلوبهم وأرواحهم وكان عمر واحداً من هؤلاء الذين تأثروا بالمنهج القرآني في التربية والتعليم، وظل عمر ملازماً للرسول يتلقى عنه ما أنزل عليه، حتى تم له حفظ جميع آياته وسوره، وقد أقرأه الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعضه وحرص على الرواية التي أقرأه بها الرسول (1) وكان لعمر أحياناً شرف السبق إلى سماع بعض آياته فور نزوله كما عني بمراجعة محفوظه منه (2)، فقد تربى عمر رضي الله عنه على المنهج القرآني وكان المربي له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، و كان عمر شديد الحرص على ملازمة رسول الله وكان رضي الله عنه إذا جلس إلى رسول الله لم يترك المجلس حتى ينفض، فهو واحد من الجمع القليل الذي لم يترك رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يخطب حين قدمت عير إلى المدينة (3)، وكان يجلس في حلقات ودروس ومواعظ رسول الله نشطاً يستوضح، ويستفهم، ويلقي الأسئلة بين يدي رسول الله في الشؤون الخاصة والعامة (4)، ولذلك فقد روى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمسمائة حديث وتسعة وثلاثين حديثاً (5)، وفي رواية: خمسمائة وسبعة وثلاثين حديثاً (6)، اتفق الشيخان في صحيحيهما على ستة وعشرين منها، وانفرد البخاري بأربعة وثلاثين ومسلم بواحد وعشرين (7)، والبقية في كتب الأحاديث الأخرى (8)،
__________
(1) نفس المصدر ص88.
(2) نفس المصدر ص88.
(3) الإحسان في تقريب صحيح بن حبان (15/ 300) مسلم رقم 863.
(4) انظر: عمر بن الخطاب، د. علي الخطيب ص 108.
(5) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص133.
(6) انظر: عمر بن الخطاب، د. علي الخطيب ص 109.
(7) دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (1/ 40).
(8) عمر بن الخطاب د. علي الخطيب ص 109 ..(8/755)
وقد وفقه الله إلى رواية أحاديث لها قيمتها الأولوية في حقيقة الإيمان والإسلام والإحسان والقضاء والقدر، وفي العلم والذكر والدعاء وفي الطهارة والصلاة والجنائز، والزكاة والصدقات، والصيام، والحج، وفي النكاح والطلاق والنسب، والفرائض، والوصايا والاجتماع، وفي المعاملات والحدود، وفي اللباس والأطعمة والأشربة والذبائح، وفي الأخلاق والزهد والرقاق والمناقب والفتن والقيامة، وفي الخلافة والإمارة والقضاء، وقد أخذت هذه الأحاديث مكانها في مختلف العلوم الإسلامية، ولا تزال رافداً يمد هذه العلوم (1)
(وإليك بعض المواقف التعليمية والتربوية والاجتماعية من حياة الفاروق مع رسول الله في المدينة.
أولاً: رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن السائل:
(حديث عمر بن الخطاب الثابت في صحيح مسلم) قال: بينما نحن عند رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا قال صدقت قال فعجبنا له يسأله ويصدقه قال فأخبرني عن الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره قال صدقت قال فأخبرني عن الإحسان قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال فأخبرني عن الساعة قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل قال فأخبرني عن إمارتها قال أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان قال ثم انطلق فلبثت مليا ثم قال لي يا عمر أتدري من السائل قلت الله ورسوله أعلم قال فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم.
وهذا الحديث يبين أن الفاروق تعلم معاني الإسلام والإيمان والإحسان بطريقة السؤال والجواب من أفضل الملائكة وأفضل الرسل.
ثانياً: نهي رسول الله عن الحلف بالآباء وحثه على التوكل على الله:
__________
(1) عمر بن الخطاب د. علي الخطيب ص 112.(8/756)
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أدرك عمر بن الخطاب في ركب وهو يحلف بأبيه، فقال: (ألا، إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله، أو ليصمت).
قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «لئن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً»
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك.
ثالثاُ: رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً:
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري): أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج، فقام عبد الله بن حذافة فقال: من أبي؟ فقال: (أبوك حذافة). ثم أكثر أن يقول: (سلوني). فبرك عمر على ركبتيه فقال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبيا، فسكت.
رابعاً: حكم العائد في صدقته:
(حديث عمر رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنه قال: حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه، وظننت أنه يبيعه برخص، فسألت النبي فقال: (لا تشتره، ولا تعد في صدقتك، وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه).
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ليس لنا مثل السوء العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه.
(12) من صدقات عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ووقفه:
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري): أن عمر بن الخطاب أصاب أرضا بخيبر، فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضا بخيبر، لم أصب مالا قط أنفس عندي منه، فما تأمر به؟ قال: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها). قال: فتصدق بها عمر: أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث، وتصدق بها في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم غير متمول.(8/757)
هذا الموقف العمري فيه فضيلة ظاهرة للفاروق رضي الله عنه ورغبته في المسارعة للخيرات، وإيثاره الحياة الآخرة على الحياة الفانية.
(قصة بنت خفاف بن إِيماء الغفاري مع عمر رضي الله عنهم:
أخرج البخاري، والبيهقي عن أسلم قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى السوق، فلحقت عمر إمرأة شابة فقالت: يا أمير المؤمنين، هلك زوجي، وترك صبية صغاراً. والله ما يُنضحون كراعاً ولا هم زرع ولا ضرع، وخشيت أن يأكلهم الضَّبعُ وأنا بنت خَفاف بن أيماء الغِفاري، وقد شهد أبي الحديبية مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوقف معها عمر ولم يمضِ، ثم قال: مرحباً بنسب قريب. ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطاً في الدار، فحمل عليه غِرارتين ملأهما طعاماً، وجعل بينها نفقة وثياباً، ثم ناولها خِطامه، ثم قال: إقتاديه فلن يفنى حتى يأتيَكم الله بخير. فقال رجل: يا أمير المؤمنين، أكثرت لها فقال عمر: ثكلتك أمك شهد أبها الحديبية مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والله إِني لأرى أبا هذه وأخاها وقد حاصرا حصناً زماناً فافتتحناه، ثم أصبحنا نستفيء سهمانَنا فيه. كذا في الكنز.
(صنيع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عام الرمادة في ضيافة العرب:
وأخرج ابن سعد عن أسلم قال: لمَّا كان عام الرمادة تجلَّبت العرب من كل ناحية فقدموا المدينة. فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أمر رجالاً يقومون عليهم ويقسمون عليهم أطعمتهم وإدامهم، فكان يزيد بن أخت النمر، وكان المِسْوَر بن مَخْرَمة، وكان عبد الرحمن بن عبد القاريّ، وكان عبد الله بن عتبة بن مسعود رضي الله عنهم، فكانوا إذا أمسَوا إجتمعوا عند عمر فيخبرونه بكل ما كانوا فيه، وكان كل رجل منهم على ناحية من المدينة؛ وكان الأعراب حلولاً فيما بين رأس الثنية إلى راتج، إلى بني حارثة، إلى بني عبد الأشهل، إلى البقيع، إلى بني قريظة، ومنهم طائفة بناحية بني سَلِمة؛ هم محدقون بالمدينة. فسمعت عمر يقول ليلة ـ وقد تعشَّى الناس عنده ـ أحصُوا من تعشَّى عندنا. فأحصَوهم من القابلة فوجدوهم سبعة آلاف رجل. وقال: أحصوا العيالات الذين لا يأتون والمرضى والصبيان فأحصَوا فوجدوهم أربعين ألفاً.(8/758)
ثم مكثنا ليالي فزاد الناس، فأمر بهم، فأُحصوا، فوجدوا من تعشَّى عنده عشرة آلاف الآخرين خمسين ألفاً. فما برحوا حتى أرسل الله السماء، فلما مطرت رأيت عمر قد وكل كل قوم من هؤلاء النفر بناحيتهم يُخرجونهم إلى البادية، ويعطونهم قوتاً وحُمْلاناً إلى باديتهم؛ ولقد رأيت عمر يخرجهم هو بنفسه. قال أسلم: وقد كان وقع فيهم الموت فأراه مات ثلثاهم وبقي ثلث، وكانت قدور عمر يقوم إليها العمال في السَّحَر يعملون الكركور حتى يصبحوا، ثم يطعمون المرضى منهم، ويعملون العصائد وكان عمر يأمر بالزيت فيفار في القدور الكبار على النار حتى يذهب حمته وحره، ثم يُثْرَد الخبز ثم يؤدَم بذلك الزيت. t فكانت العرب يُحمُّون من الزيت. وما أكل عمر في بيت أحد من ولده ولا بيت أحد من نسائه ذَواقاً زمان الرمادة؛ إِلا ما يتعشَّى مع الناس حتى أحيا الله الناس أول ما أُحْيَوا.
(قصة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه مع أهل البيت جياع:(8/759)
وأخرج الدِينَوَري، وابن شاذان، وابن عساكر عن أسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه طاف ليلة، فإذا هو بامرأة في جوف دار له وحولَها صبيان يبكون. وإذا قِدْر على النار قد ملأتها ماءً، فدنا عمر من الباب فقال: يا أمةَ الله، ما بكاء هؤلاء الصبيان؟ قالت: بكاؤهم من الجوع، قال: فما هذا القدر التي على النار؟ قالت: قد جعلت ماءً هو ذا أعلِّلهم به حتى يناموا وأوهمهم أن فيها شيئاً. فبكى عمر، ثم جاء إلى دار الصَّدَقة، وأخذ غِرارة، وجعل فيها شيئاً من دقيق وشحم وسمن وتمر وثياب ودراهم حتى ملأ الغِرارة، ثم قال: يا أسلم إحملْ عليَّ. فقلت: يا أمير المؤمنين أنا أحمله عنك، فقال لي: لا أمَّ لك يا أسلم أنا أحمله لأني أنا المسؤول عنهم في الآخرة؛ فحمله حتى أتى به منزل المرأة، فأخذ القدر فجعل فيها دقيقاً وشيئاً من شحم وتمر وجعل يحركه بيده وينفخ تحت القِدْر، فرأيت الدخان يخرج من خَلَل لحيته حتى طبخ لهم، ثم جعل غرف بيده ويطعمهم حتى شبعوا. ثم خرج وربض بحذائهم كأنه سُبُع خفت أن أكلّمه، فلم يزل كذلك حتى لعب الصبيان وضحكوا. ثم قام فقال: يا أسلم تدري لم ربضت بحذائهم؟ قلت: لا، قال: رأيتهم يبكون، فكرهت أن أذهب وأدعهم حتى أراهم يضحكون، فلما ضحكوا طابت نفسي. كذا في منتخب الكنز. وذكر في البداية عن أسلم قال: خرجت ليلة مع عمر إلى حرَّة وأقِم حتى إذا كنا بصرار إِذا بنار، فقال: يا أسلم ها هنا رَكُب قد قَصَّر بهم الليل، إنطلق بنا إليهم. فأتيناهم، فإذا إمرأة معها صبيان لها ـ فذكره بمعناه. وأخرجه الطبري بمعناه مع زيادات.
(كتاب عمر إلى عمرو بن العاص رضي الله عنهما عام الرمادة وجوابه إليه:
وأخرج ابن عبد الحَكَم عن الليث بن سعد أن الناس بالمدينة أصابهم جَهْد شديد في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سنة الرمادة، فكتب إِلى عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو بمصر:
«من عبد الله عمر أمير المؤمنين إِلى العاصي بن العاصي، سلام، أما بعد: فلعمري ـ يا عمرو ـ ما تبالي إِذا شبعت أنت ومن معك أن أهلك (أنا) ومن معي، فيا غوثاه، ثم يا غوثاه». يردّد قوله.
فكتب إليه عمرو بن العاص:
«لعبد الله عمر أمير المؤمنين من عمرو بن العاص أما بعد: فيا لبيك، ثم يا لبيك، وقد بعثت إِليك بعيرٍ أولها عندك وآخرها عندي. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته».
(تقسيم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الطعام الذي أرسله عمرو بين سكان المدينة المنوّرة:(8/760)
وبعث عمرو بعيرٍ عظيمة، فكان أولها بالمدينة وآخرها بمصر، يتبع بعضها بعضاً، فلما قدمت على عمر وسَّع بها على الناس، ودفع إلى أهل كل بيت بالمدينة وما حولها بَعيراً بما عليه من الطعام، وبعث عبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم يقسمونها على الناس، فدفعوا إلى أهل كل بيت بعيراً بما عليه من الطعام أن يأكلوا الطعام وينحروا البعير، فيأكلوا لحمه ويأتدموا شحمه، ويحتذوا جلده، وينتفعوا بالوعاء الذي كان فيه الطعام لما أرادوا من لحاف أو غيره؛ فوسَّع الله بذلك على الناس ـ فذكر الحديث بطوله في حفر الخليج من النيل إلى القلزُم لحمل الطعام إلى المدينة ومكة. كذا في المنتخب.
(قصة عمر رضي الله عنه مع سبطي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك:
وأخرج ابن سعد عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قدم على عمر رضي الله عنه حُلَلٌ من اليمن فكسا الناس، فراحوا في الحلل وهو بين القبر والمنبر جالس، والناس يأتونه فيسلِّمون عليه ويدعُون له، فخرج الحسن، والحسين رضي الله عنهما من بيت أمهما فاطمة رضي الله عنها يتخطَّيان الناس، وليس عليهما من تلك الحلل شيء، وعمر قاطب صارٌّ بين عينيه، ثم قال: والله ما هنأ لي ما كسوتكم، قالوا: يا أمير المؤمنين، كسوت رعيتك فأْسنت، قال: من أجل الغلامين يتخطَّيان الناس وليس عليهما منها شيء، كَبُرت عنهما وصغرا عنها، ثم كتب إلى اليمن: أن أبعث بحلَّتين لحسنٍ، وحسينٍ وعجِّل. فبعث إليه بحلَّتين فكساهما، كذا في كنز العمال.
(13) دعاء رسول الله لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:
(حديث ابن عمر في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى على عمر قميصاً أبيضاً فقال: ثوبك هذا غسيلٌ أم جديد؟ قال لا بل غسيل، قال: البس جديدا و عش حميدا و مت شهيدا.
(14) زواج حفصة بنت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عنهما من رسول الله:(8/761)
(حديث ا بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) يحدث: أن عمر بن الخطاب، حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله، فتوفي بالمدينة، فقال عمر ابن الخطاب: أتيت عثمان بن عفان، فعرضت عليه حفصة، فقال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا. قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إلي شيئا، وكنت أوجد عليه مني على عثمان، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئا؟ قال عمر: قلت: نعم، قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي، إلا أني كنت علمت أن رسول الله قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله، ولو تركها رسول الله قبلتها.
(15) فراسة عمر الصادقة في أبي مسلم الخولاني:
كان عمر رضي الله عنه يتمتع بفراسة يندر وجودها في هذه الحياة فقد روى الذهبي: أن الأسود العنسي تنبأ باليمن – ادعى النبوة – فبعث إلى أبي مسلم الخولاني، فأتاه بنار عظيمة، ثم إنه ألقى أبا مسلم فيها، فلم تضره ... فقيل للأسود: إن لم تنف هذا عنك أفسد عليك من اتبعك، فأمره بالرحيل، فقدم المدينة، فأناخ في راحلته، ودخل المسجد فبصر به فقام إليه، فقال: ممن الرجل؟ قال: من اليمن قال: وما فعل الذي حرقه الكذاب بالنار؟ قال: ذاك عبد الله بن ثُوَب. قال نشدتك بالله، أنت هو؟ قال: اللهم نعم. فأعتنقه عمر، وبكى، ثم ذهب به حتى أجلسه فيما بينه وبين الصديق، فقال: الحمد لله الذي لم يُمتني حتى أراني في أمة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من صنُع به كما صُنع بإبراهيم الخليل (1).
(16) مشورة عمر على أبي بكر بجمع القرآن:
__________
(1) سير أعلام النبلاء (4/ 8+9)، أصحاب الرسول (1/ 137).(8/762)
قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر (1) يوم اليمامة بقراء القرآن الكريم، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن (2)، كلها فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن قلت لعمر: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟!! فقال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر عمر، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر، قال زيد: قال
أبو بكر: وإنك رجل شاب عاقل، لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتتبع القرآن فاجمعه (3). قال زيد: فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل عليَّ مما كلفني به من جمع القرآن (4).
(17) تفقد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لأحوال أمراءه:
أخرج البيهقي عن الأسود (بن يزيد) قال: كان عمر رضي الله عنه إذا قدم عليه الوفد سألهم عن أميرهم: أيعود المريض؟ أيجيب العبد؟ كيف صنيعه؟ من يقوم على بابه؟، (فإن قالوا لخصلةٍ منها لا؛ عزله). كذا في الكنز. وأخرجه الطبري عن الأسود بمعناه.
وعند هَنَّاد عن إبراهيم قال: كان عمر رضي الله عنه إذا استعمل عاملاً فقدم إِليه الوفد من تلك البلاد قال: كيف أميركم؟ أيعود المملوك؟ أيتبع الجنازة؟ كيف بابه؟ ألَينٌ هو؟ فإن قالوا: بابه لين، ويعود المملوك، تركه، وإلا بعث إليه بنزعه. كذا في كنز العمال.
(شرائط عمر على العمال:
وأخرج البيهقي عن عاصم بن أبي النُّجُود أنِّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا بعث عماله شرط عليهم أن لا تركبوا بِرْذوناً، ولا تأكلوا نقيّاً، ولا تلبسوا رقيقاً، ولا تغلقوا أبوابكم دون حوائج الناس، فإن فعلتم شيئاً من ذلك فقد حلّت بكم العقوبة؛ ثم يُشيِّعهم. فإذا أراد أن يرجع قال: إني لم أسلطكم على دماء المسلمين، ولا على أبشارهم، ولا على أعراضهم، ولا على أموالهم، ولكني بعثتكم لتقيموا بهم الصلاة، وتقسموا فيهم فَيْئهم، وتحكموا بينهم بالعدل، فإذا أشكل عليكم شيء فارفعوه إليّ. ألا فلا تضربوا العرب فتذلّوها، ولا تحمِّروها فتفتنوا، ولا تَعْتَلوا عليها فتُحرَموها، جرِّدوا القرآن. كذا في الكنز.
__________
(1) استحر: كثر واشتد.
(2) أي في الأماكن التي يقع فيها القتال مع الكفار.
(3) أي من الأشياء التي عندي وعند غيرك.
(4) البخاري رقم 4986.(8/763)
وأخرجه الطبري عن أبي حُصَين بمعناه مختصراً، وزاد: جرِّدوا القرآن، وأقلِّوا الرواية عن محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا شريككم، وكان يُقِصُّ من عماله، وإذا شُكِي إِليه عامل له جمع بينه وبين من شكاه، فإن صحَّ عليه أمرٌ يجب أخذُه به أخذه به.
(قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في فرائض الأمير:
وأخرج ابن سعد، وابن عساكر عن عبد الرحمن بن سابط قال: أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعيد بن عامر الجمحي فقال: إِنا مستعملوك على هؤلاء تسير بهم إلى أرض العدو فتجاهد بهم، فقال: يا عمر لا تفتيِّ. فقال عمر: والله لا أدعكم، جعلتموها في عنقي ثم تخلَّيتم عني، إِنا أبعثك على قوم لست أفضلهم، ولست أبعثك لتضرب أبشارهم، ولتنتهك أعراضهم؛ ولكن تجاهد بهم عدوهم، وتقسم بينهم فيْئَهم. كذا في الكنز.
(كتاب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إِلى عمرو بن العاص في كسر المنبر:
وأخرج ابن عبد الحكم عن أبي تميم الجيشاني رضي الله عنه قال: كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص - رضي الله عنه -:
«أما بعد: فإنه بلغني أنك اتخذت منبراً ترقى به على رقاب الناس، أو ما بحسبك أن تقوم قائماً والمسلمون تحت عقبيك. فعزمت عليك لما كسرته».
كذا في الكنز.
(كتاب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إِلى عتبة بن فرقد في أن لا يترفع عن الرعية:
وأخرج مسلم عن أبي عثمان رضي الله عنه قال؛ كتب إِلينا عمر رضي الله عنه ونحن بأذربيجان:
«يا عتبة بن فرقد، إنَّه ليس من كدِّك ولا من كدِّ أبيك ولا من كدِّ أمك، فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رَحْلك؛ وإياكم والتنعّم وزيّ أهل الشرك ولبوس الحرير».
(مؤاخذة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أمير حمص على بنائه العِلَيَّة:(8/764)
وأخرج ابن عساكر عن عروة بن رُوَيم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تصفَّح الناس، فمر به أهل حمص، فقال: كيف أميركم؟ قالوا: خير أمير إلا أنّه بني عِلِيَّة يكون فيها. فكتب كتاباً وأرسل بريداً، وأمره أن يحرقها. فلما جاءها جمع حطباً وحرق بابها. فأخبر بذلك فقال: دعوه فإنه رسول؛ ثم ناوله الكتاب، فلم يضعه من يده حتى ركب إِليه. فلما رآه عمر رضي الله عنه قال: إلحقني إلى الحرَّة ـ وفيها إبل الصدقة ـ. قال: إنزع ثيابك، فألقى إِليه نمرة من أوبار الإِبل، ثم قال: إفتح واسق هذه الإِبل، فلم يزل ينزل حتى تعب، ثم قال: متى عهدك بهذا؟ قال: قريب يا أمير المؤمنين، قال: فلذلك بنيت العِلِّيَّة وارتفعت بها على المسكين، والأرملة، واليتيم. إرجع إلى عملك لا تَعُدْ. كذا في كنز العمال.
(مؤاخذة عمر سعداً إذا اتخذ قصرا:
وأخرج ابن المبارك، وابن راهَوَيْه، ومسدَّد عن عَتّاب بن رِفاعة قال: بلغ عمر بن الخطاب أنَّ سعداً ـ رضي الله عنه ـ إتخذ قصراً وجعل عليه باباً، وقال: إنقطع الصوت. فأرسل عمر محمد بن مسلمة رضي الله عن ـ وكان عمر إذا أحب أن يُؤتى بالأمر كما يريد بعثه ـ فقال: إئتِ سَعْداً وأحرق عليه بابه. فقدم الكوفة، فلما أتى الباب أخرج زَنْده فاستوَى ناراً ثم أحرق الباب، فأُتي سعدٌ فأُخبر، ثم وُصِف له صفته، فعرفه. فخرج إليه سعد، فقال محمد: إنه بلغ أمير المؤمنين عنك أنك قلت: إنقطع الصوت. فحلف سعد بالله ما قال ذلك، فقال محمد: نفعل الذي أمرنا ونؤدِّي عنك ما تقول.
وأقبل يعرض عليه أن يزوّده فأبى، ثم ركب راحلته حتى قدم المدينة. فلما أبصره عمر رضي الله عنه قال: لولا حسن الظن بك ما رأينا أنك أدَّيت، وذكر أنه أسرع السير، وقال: قد فعلتُ، وهو يعتذر ويحلف بالله ما قال فقال عمر: هل أمر لك بشيء؟ قال: ما كرهت من ذلك إنَّ أرض العراق أرض رقيقة، وإنَّ أهل المدينة يموتون حولي من الجوع، فخشيت أن آمر لك فيكون لك البارد ولي الحار) أما سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا يشبع المؤمن دون جاره». كذا في الكنز
(ما وقع بين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وجماعة من الصحابة في الشام:(8/765)
وأخرج ابن عساكر، واليشكري عن جُوَيرية رضي الله عنها ـ قال بعضه عن نافع، وبعضه عن رجل من ولد أبي الدرداء ـ قال: إستأذن أبو الدرداء عمرَ في أن يأتي الشام. فقال: لا آذن لك إلا أن تعمل. قال: فإني لا أعمل. قال: فإني لا آذن لك. قال: فأنطلقُ، فأُعلّمُ الناس سنّة نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصلِّي بهم، فأذن له. فخرج عمر رضي الله عنه إلى الشام، فلما كان قريباً منهم أقام حتى أمسى. فلما جنّه الليل قال: يا يرفأ إنطلق إلى يزيد ابن (أبي) سفيان، أبصره عنده سُمَّار، ومصباح، مفترشاً ديباجاً، وحريراً من فيء المسلمين، فتسلِّم عليه فيرد عليك السلام، وتستأذن فلا يأذن لك حتى يعلم من أنت. فانطلقنا حتى انتهينا إلى بابه فقال: السلام عليكم. فقال: وعليكم السلام. قال: أدخل؟ قال: ومن أنت؟ قال يرفأ: هذا من يسوءك، هذا أمير المؤمنين. ففتح الباب. فإذا سمّار، ومصباح، وإذا هو مفترش ديباجاً وحريراً. فقال: يا يرفأ، الباب، الباب. ثم وضع الدِّرَّة بين أذنيه ضرباً، وكوَّر المتاع فوضعه وسط البيت، ثم قال للقوم: لا يبرح منكم أحد حتى أرجع إليكم.
ثم خرجا من عنده ثم قال: يا يرفأ إنطلق بنا إلى عمرو بن العاص أبصر عنده سمّار، ومصباح، مفترش ديباجاً من فيء المسلمين، فتسلِّم عليه فيرد عليك، وتستأذن عليه فلا يأذن لك حتى يعلم من أنت. فانتهينا إلى بابه، فقال عمر: السلام عليكم. قال: وعليكم السلام. قال: أدخل؟ قال: ومن أنت؟ قال يرفأ: هذا من يسوءك، هذا أمير المؤمنين. ففتح الباب. فإذا سُمّار ومصباح، وإذا هو مفترش ديباجاً وحريراً. قال: يا يرفأ، الباب، الباب. ثم وضع الدِّرَّة بين أذنيه ضرباً، ثم كوَّر المتاع فوضعه في وسط البيت. ثم قال للقوم: لا تبرحُنَّ حتى أعود إِليكم.
فخرجا من عنده فقال: يا يرفأ إنطلق بنا إلى أبي موسى أبصره عنده سُمّار، ومصباح، مفترشاً صوفاً من مال فيء المسلمين، فتستأذن عليه، فلا يأذن لك حتى يعلم من أنت. فانطلقنا إليه وعنده سُمَّار ومصباح مفترشاً صوفاً، فوضع الدِّرَّة بين أذنيه ضرباً وقال: أنت أيضاً يا أبا موسى؟ فقال: يا أمير المؤمنين هذا وقد رأيت ما صنع أصحابي، أما والله لقد أصبت مثل ما أصابوا. قال: فما هذا؟ قال: زعم أهل البلد أنه لا يصلح إلا هذا. فكوَّر المتاع فوضعه في وسط البيت وقال للقوم: لا يخرجنَّ منكم أحد حتى أعود إليكم.(8/766)
فلما خرجنا من عنده قال: يا يرفأ إنطلق بنا إلى أخي لنبصرنه، ليس عنده سمّار، ولا مصباح، وليس لبابه غَلَق، فتسلِّم عليه فيرد عليك السلام، وتستأذن فيأذن لك من قبل أن يعلم من أنت. فانطلقنا حتى إذا قمنا على بابه قال: السلام عليكم. قال: وعليك السلام. قال: أأدخل؟ قال: أدخل. فدفع الباب فإذا ليس له غَلَق. فدخلنا إلى بيت مظلم، فجعل عمر رضي الله عنه يلمسه حتى وقع عليه، فجسّ وساده فإذا برذعة، وجسّ فراشه فإذا بطحاء، وجسّ دثاره فإذا كساء رقيق. فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: من هذا أمير المؤمنين؟ قال: نعم. قال: أما ـ والله ـ لقد إستبطأتك منذ العام. قال عمر رضي الله عنه: رحمك الله، ألم أوسع عليك؟ ألم أفعل بك؟ فقال له أبو الدرداء رضي الله عنه: أتذكر حديثاً حدَّثناه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا عمر؟ قال: أيّ حديث؟ قال: «لِيَكُنْ بَلاغُ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب». قال: نعم. قال: فماذا فعلنا بعده يا عمر؟ قال: فما زالا يتجاوبان بالبكاء حتى أصبحا. كذا في كنز العمال.
(رعاية الأمير المسلمين فيما نزل بهم قصة عمر وأبي عبيدة في ذلك في طاعون عَمَواس
أخرج ابن عساكر عن طارق بن شهاب عن أبي موسى أن أمير المؤمنين كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح ـ رضي الله عنه ـ حيث سمع بالطاعون الذي أخذ الناس بالشام: إنِّي بدت لي حاجة إليك فلا غنى لي عنك فيها، فإن أتاك كتابي ليلاً فإني أعزم عليك أن تصبح حتى تركب إليّ، وإِن أتاك نهاراً فإِني أعزم عليك أن تمسي حتى تركب إليّ. فقال أبو عبيدة رضي الله عنه: قد علمت حاجة أمير المؤمنين التي عرضت، وإنه يريد أن يستبقي من ليس بباقٍ. فكتب إِليه: إِني في جند من المسلمين لن أرغب بنفسي عنهم، وإِني قد علمت حاجتك التي عرضت لك، وإنك تستبقي من ليس بباقٍ، فإذا أتاك كتابي هذا فحلِّلني من عزمك، وائذن لي في الجلوس.(8/767)
فلما قرأ عمر رضي الله عنه كتابه فاضت عيناه وبكى. فقال له من عنده: يا أمير المؤمنين، مات أبو عبيدة؟ قال: لا، وكأنْ قد. فكتب إِليه عمر رضي الله عنه أن الأردن أرض وبئة وكان قد كتب عمقه، وأن الجابية أرض نَزِهة، فاظهرْ بالمهاجرين إليها. قال أبو عبيدة حين قرأ الكتاب: أمّا هذا فنسمع فيه أمر أمير المؤمنين ونطيعه، فأمرني أن أركب وأبوّىء الناس منازلهم. فطُعنت إمرأتي، فجئت أبا عبيدة فانطلق أبو عبيدة يبوىء الناس منازلهم، فطُعن فتوفي، وانكشف الطاعون. قال أبو الموجِّه: زعموا أن أبا عبيدة كان في ستة وثلاثين ألفاً من الجند، فماتوا فلم يبقَ إلا ستة آلاف رجل. وروى سفيان بن عيينة أخصر منه. كذا في الكنز.
(تفقده لأحوال سعيد ابن عامر حين استعمله على حمص:
أخرج أبو نعيم في الحلية عن خالد بن معدان قال: إستعمل علينا عمر بن الخطاب بحمص سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي ـ رضي الله عنه ـ. فلما قدم عمر بن الخطاب حمص قال: يا أهل حمص، كيف وجدتم عاملكم؟ فشكوه إليه ـ وكان يقال لأهل حمص الكُوَيفة الصغرى لشكايتهم العمال ـ قالوا: نشكوا أربعاً: لا يخرج إِلينا حتى يتعالَى النهار. قال: أعْظِم بها. قال: وماذا قالوا: لا يجيب أحداً بليل. قال: وعظيمة. قال: وماذا؟ قالوا: وله يوم في الشهر لا يخرج فيه إلينا. قال: عظيمة. قال: وماذا؟ قالوا: يغنظ الغنظة بين الأيام ـ يعني تأخذه مُوتَة ـ.(8/768)
قال: فجمع عمر رضي الله عنه بينهم وبينه وقال: اللهمّ لا تفل رأيي فيه اليوم، ما تشْكون منه؟ قالوا: لا يخرج إِلينا حتى يتعالى النهار. قال: والله إن كنت لأكره ذكره؛ ليس لأهلي خادم، فأعجن عجيني، ثم أجلس حتى يختمر، ثم أخبز خبزي، ثم أتوضأ ثم أخرج إليهم. فقال: ما تشْكون منه؟ قالوا: لا يجيب أحداً بليل. قال ما تقول؟ قال: إن كنت لأكره ذكره؛ إنِّي جعلت النهار لهم، وجعلت الليل لله عزّ وجلّ. قال: وما تشكون؟ قالوا: إنَّ له يوماً في الشهر لا يخرج إلينا فيه. قال: ما تقول؟ قال: ليس لي خادم يغسل ثيابي ولا لي ثياب أبلها. قال: ما تشكون منه؟ قالوا: يغنظ الغنظة بين الأيام. قال: ما تقول؟ قال: شهدت مصرع خُبَيب الأنصاري رضي الله عنه بمكة، وقد بضَّعت قريش لحمه، ثم حملوه على جذعة فقالوا؛ أتحب أن محمداً مكانك؟ فقال: والله ما أحب أنِّي في أهلي وولدي وأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِيك بشوكة، ثم نادى: يا محمد، فما ذكرت ذلك اليوم، وتَرْكي نُصرته في تلك الحال، وأنا مشرك لا أؤمن بالله العظيم؛ إلا ظننت أن الله عزّ وجلّ لا يغفر لي بذلك الذنب أبداً. قال: فتصيبني تلك الغنظة. فقال عمر: الحمد لله الذي لم يفل فراستي.
فبعث إليه بألف دينار وقال: إستعن بها على أمرك، فقالت إمرأته: الحمد لله الذي أعنانا عن خدمتك، فقال لها: فهل لك في خير من ذلك؟ ندفعها إِلى من يأتينا بها أحوج ما نكون إليها، قالت: نعم. فدعا رجلاً من أهل بيته يثق به فصرَّرها صرراً، ثم قال: إنطلق بهذه إلى أرملة آل فلان، وإِلى يتيم آل فلان، وإِلى مسكين آل فلان، وإِلى مُبتَلى آل فلان. فبقيت منها ذُهيبة. فقال: أنفقي هذه، ثم عاد إلى عمله. فقالت: ألا تشتري لنا خادماً؟ ما فعل ذلك المال. قال: سيأتيك أحوج ما تكونين.
(18) (قبول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - للحق إذا سمعه من الرعية وعدم استنكافه من ذلك:
أخرج ابن راهَوَيْه عن الحسن أنَّ عمر بن الخطاب ردّ عن أُبيّ بن كعب ـ رضي الله عنهما ـ قراءة آية، فقال أبيّ: لقد سمعتها من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنت يلهيك ـ يا عمر ـ الصَّفْق بالبقيع. فقال عمر رضي الله عنه: صدقت إنما أردت أن أجربكم هل منكم من يقول الحق؟ فلا خير في أمير لا يُقال عنده الحق ولا يقوله. كذا في كنز العمال.(8/769)
وعند عبد بن حُمَيد، وابن جرير، وابن عديّ عن أبي مِجْلَزم أن أُبي بن كعب قرأ: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الاْوْلَيَانِ} [المائدة: 107] فقال عمر رضي الله عنه: كذبت. قال: أنت أكذب. فقال رجل: تكذِّب أمير المؤمنين؟ قال: أنا أشد تعظيماً لحقِّ أمير المؤمنين منك، ولكن كذَّبه في تصديق كتاب الله، ولم أُصدِّق أمير المؤمنين في تكذيب كتاب الله. فقال عمر: صدق. كذا في الكنز.
(قول بشير بن سعد لعمر: لو فعلت ذلك قوَّمناك تقويم القدح:
وأخرج ابن عساكر، وأبو ذر الهَرَوِي في الجامع عن النعمان بن بشير أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال في مجلس وحوله المهاجرين والأنصار: أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمور ما كنتم فاعلين؟ فسكتوا. فقال ذلك مرتين وثلاثاً، فقال بشير بن سعد: لو فعلت ذلك قوَّمناك تقويم القِدْح. فقال عمر: أنتم إذاً، أنتم إذاً كذا في الكنز.
(قصة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ومحمد بن مسلمة في ذلك:
وعند ابن المبارك عن موسى بن أبي عيسى قال: أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه مَشْرَبة بني حارثة فوجد محمد بن مسلمة، فقال عمر: كيف تراني يا محمد؟ قال: أراك ـ والله ـ كما أحب وكما يحب من يحب لك الخير، أراك قوياً على جمع المال، عفيفاً عنه، عَدْلاً في قَسْمه، ولو مِلْتَ عدَّلْناك كما يعدل السهم في الثِّقاب. فقال عمر رضي الله عنه: هاه وقال: لو ملت عدَّلناك كما يعدل السهم في الثقاب. فقال: الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا مِلْت عدَّلوني. كذا في منتخب كنز العمال.
(نصيحة سعيد بن عامر لأمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -:
أخرج ابن سعد، وابن عساكر عن مكحول أنَّ سعيد بن عامر بن جِذْيم الجُمحي من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إِني أريد أن أوصيك يا عمر، قال: أجل فأوصني، قال: «أوصيك أن تخشى الله في الناس، ولا تخشَ الناس في الله، ولا يختلف قولك وفعلك، فإن خير القول ما صدَّقه الفعل، لا تقض في أمر واحد بقضاءين فيختلف عليك أمرك وتزيغ عن الحق، وخُذْ بالأمر ذي الحجة تأخذ بالفَلْج، ويعينك الله ويصلح رعيتك على يديك، وأقم وجهك وقضاءك لمن ولاك الله أمره من بعيد المسلمين وقريبهم، وأحبّ لهم ما تحب لنفسك وأهل بيتك، واكره لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك، وخُضْ الغمراتِ إلى الحق، ولا تخف في الله لومة لائم».(8/770)
فقال عمر: من يستطيع ذلك؟ فقال سعيد: مثلك، من ولاه الله أمر أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم لم يحل بينه وبين الله أحد. كذا في منتخب الكنز.
(كتاب أبي عبيدة ومعاذ إلى عمر وكتابه إليهما:
وأخرح أبو نعيم في الحلية عن محمد بن سُوقة قال: أتيت نُعيم بن أبي هند فأخرج إليّ صحيفة فإذا فيها:
من أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل إِلى عمر بن الخطاب: سلام عليك، أما بعد: فإن عهدناك وأمر نفسك لك مهمٌّ، فأصبحت قد وُليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها، يجلس بين يديك الشريف والوضيع، العدو والصديق، ولكل حصتُه من العدل، فانظر كيف أنت عند ذلك يا عمر. فإنا نحذِّرك يوماً تَعْنا فيه الوجوه، وتجفّ فيه القلب، وتنقطع فيه الحجج لحجة ملك قهرهم بجبروته؛ فالخلق داخرون له، يرجون رحمته، ويخافون عقابه. وإِنّا نُحدَّث أنَّ أمر هذه الأمة سيرجع في آخر زمانها إِلى أن يكونوا إِخوان العلانية، أعداء السريرة؛ وإنا نعوذ بالله أن ينزل كتابنا إِليك سوى المنزل الذي نزل من قلوبنا، فإنما كتبنا به نصيحة لك، والسلام عليك».
فكتب إِليهما عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه:
«من عمر بن الخطاب إِلى أبي عبيدة، ومعاذ، سلام عليكما. أما بعد: أتاني كتابما، تَذْكران أنكما عهدتماني وأمر نفسي لي مهم، فأصبحت قد وُلِّيت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها، يجلس بين يديَّ الشريف والوضيع، والعدو والصديق، ولكل حصته من العدل؛ كتبتما: فانظر كيف أنت عند ذلك يا عمر. وإنَّه لا حول ولا قوة لعمر عند ذلك إلا بالله عزّ وجلّ. وكتبتما تحذِّراني ما حُذِّرت منه الأمم قبلنا، وقديماً كان إختلاف الليل والنهار بآجال الناس يقرِّبان كل بعيد، ويبليان كل جديد، ويأتيان بكل موعود حتى يصير الناس إلى منازلهم من الجنة والنار. كتبتما تحذراني: أنَّ أمر هذه الأمة سيرجع في آخر زمانها إلى أن يكونوا إِخوان العلانية أعداء السريرة، ولستم بأولئك، وليس هذا بزمان ذاك، وذلك زمان تظهر فيه الرغبة والرهبة، تكون رغبة الناس بعضهم إلى بعض لصلاح دنياهم. كتبتما تعوذاني بالله أن أُنزل كتابكما سوى المنزل الذي نزل من قلوبكما؛ وإنكما كتبتما به نصيحة لي وقد صدَقتُما، فلا تَدَعا الكتاب إِليَّ فإنه لا غنى بي عنكما، والسلام عليكما».
{تنبيه}: (كان عمر - رضي الله عنه - يقبل الحق بتسليم تام لعلمه علم اليقين بالحديث الآتي فتأمله بعين البصيرة: ((8/771)
(حديث معاوية رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ستكون أئمة من بعدي يقولون فلا يرد عليهم قولهم يتقاحمون في النار كما تقاحم القردة.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(ستكون أئمة من بعدي يقولون فلا يرد عليهم قولهم يتقاحمون في النار) أي يقعون فيها كما يقتحم الإنسان الأمر العظيم وتقحمه رمى نفسه بلا روية وتثبت
(كما تقاحم القردة) قال بعضهم: إذا اتصف القلب بالمكر والخديعة والفسق وانصبغ بذلك صبغة تامة صار صاحبه على خلق الحيوان الموصوف بذلك من القردة والخنازير وغيرهما ثم لا يزال يتزايد ذلك الوصف فيه حتى يبدو على صفحات وجهه بدواً خفياً ثم يقوى ويتزايد حتى يصير ظاهراً جلياً عند من له فراسة فيرى على صور الناس مسخاً من صور الحيوانات التي تخلقوا بأخلاقها باطناً فقل أن ترى محتالاً مكاراً مخادعاً إلا على وجهه مسخة قرد وأن ترى شرهاً نهماً إلا على وجهه مسخة كلب فالظاهر [ص 101] مرتبط بالباطن أتم ارتباط. (1).
(19) تحقيقه للعدل والمساواة رضي الله عنه:
كان عمر رضي الله عنه آيةً في العدل، وهاك بعض مواقفه في إقامته للعدل والقسط بين الناس: وهاك بعض المواقف الدالة على عدله - رضي الله عنه -:
(أخرج ابن عساكر، وسعيد بن منصور، والبيهقي عن الشَّعْبي قال: كان بين عمر وبين أُبيّ بن كعب ـ رضي الله عنهما ـ خصومة. فقال عمر: أجلع بيني وبينك رجلاً، فجعلا بينهما زيد بن ثابت رضي الله عنه. فأتياه فقال عمر: أتيناك لتحكم بيننا وفي بيته يُؤتى الحَكَمُ. فلما دخلا عليه وسَّع له زيد عن صدر فراشه فقال: ها هنا أمير المؤمنين. فقال له عمر: هذا أول جَوْر جُرْت في حكمك، ولكن أجلس مع خصمي، فجلسا بين يديه. فادّعى أُبيّ وأنكر عمر، فقال زيد لأُبيّ: أعفِ أمير المؤمنين من اليمين وما كنت لأسألها لأحد غيره، فحلف عمر، ثم أقسم: لا يدرك زيدٌ القضاءَ حتى يكون عمرُ ورجلٌ من عُرْض المسلمين عنده سواء. وعند ابن عساكر عن الشَّعْبي قال: تنازع في جعذاذ نخل أبيّ بن كعب، وعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ، فبكى أبيّ ثم قال: أفي سلطانك يا عمر؟ فقال عمر: إجعل بيني وبينك رجلاً من المسلمين. قال أبيّ: زيد، قال: رِضًى، فانطلقا حتى دخلا على زيد ـ فذكر الحديث كما في كنز العمال.
(قصة العباس وعمر في توسيع المسجد النبوي:(8/772)
وأخرج عبد الرزاق عن زيد بن أسلم قال: كان للعباس بن عبد المطلب ـ رضي الله عنه ـ دار إلى جنب مسجد المدينة، فقال له عمر رضي الله عنه: بِعْنيها، فأراد عمر أن يزيدها في المسجد، فأبى العباس أن يبيعها إِيّاه. فقال عمر: فهَبْها لي، فأبى. فقال: فوسِّعْها أنت في المسجد، فأبى. فقال عمر: لا بدّ لك من إِحداهنّ، فأبى عليه. فقال: خذ بيني وبينك رجلاً، فأخذ أبيّ بن كعب رضي الله عنه، فاختصما إليه. فقال أبيّ لعمر: ما أرى أن تخرجه من داره حتى ترضيَه. فقال له عمر: أرأيت قضاءك هذا في كتاب الله وجدته أم سنّةً من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال أبيّ: بل سنّة من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال عمر: وما ذاك؟ فقال: إِني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إن سليمان بن داود ـ عليهما الصلاة والسلام ـ لما بنى بيت المقدس جعل كلّما بني حائطاً أصبح منهدماً، فأوحى الله إليه أن لا تبني في حقِّ رجل حتى ترضيَه». فتركه عمر، فوسَّعها العباس بعد ذلك في المسجد.
(قصة عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب وأبي سَرْوعة:
وأخرج عبد الرزاق، والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: شرب أخي عبد الرحمن، وشرب معه أبو سَرْوَعة عُقْبة بن الحارث ـ وهما بمصر ـ في خلافة عمر رضي الله عنه، فسكرا. فلما أصبحا إنطلقا إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه ـ وهو أمير مصر ـ فقالا: طهِّرنا، فإن قد سكرنا من شرب شربناه. قال عبد الله؛ فذكر لي أخي أنه سكر، فقلت: أدخل الدار أطهرك لم أشعر أنها قد أتيا عَمْراً، فأخبرني أخي أنه قد أخبر أمير المؤمنين بذلك. فقلت لا تُحلق اليوم على رؤوس الناس، أدخل الدار أحلقك، وكانوا إِذْ ذاك يحلقون مع الحد، فدخلا الدار. قال عبد الله فحلقت أخي بيدي ثم جلدهم عمرو. فسمع بذلك عمر فكتب إِلى عمرو رضي الله عنهما: أن أبعث إليّ بعبد الرحمن على قَتَب، ففعل ذلك. فلما قدم على عمر رضي الله عنه جلده وعاقبه لمكانه منه. ثم أرسله فلبث شهراً صحيحاً ثم أصابه قدره فمات، فيحسب عامة الناس إنما مات من جلد عمر، ولم يمت من جلد عمر. قال في منتخب كنز العمال: وسنده صحيح.
(حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وامرأة مغيبة:(8/773)
وأخرج عبد الرزاق، والبيهقي عن الحسن قال: أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى إمرأة مُغَيِّبة كان يُدخل عليها، فأنكر ذلك، فأرسل إليها فقيل له: أجيبي عمر؛ فقالت: يا ويلها ما لها ولعمر فبينما هي في الطرق فزعت فضربها الطَّلْق، فدخلت داراً؛ فألقت ولدها؛ فصاح الصبي صيحتين ثم مات: فاستشار عمر أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأشار عليه بعضهم أن ليس عليك شيء، إنما أنت والٍ ومؤدب؛ وصمت علي رضي الله عنه، فأقبل على علي فقال: ما تقول؟ قال: إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم، وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوا لك، أرى أنَّ ديته عليك فإنك أنت أفزعتها، وألقت ولدها في سببك؛ فأمر علياً رضي الله عنه أن يقسم عَقْله على قريش يعني يأخذ عقله من قريش لأنه خطأ كذا في كنز العمال.
(ما كان يعمله عمر رضي الله عنه في الموسم للعدل بين الناس:
وأخرج ابن سعد عن عطاء: قال كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر عماله أن يوافوه بالمَوْسم، فإذا اجتمعوا قال: «يا أيها الناس، إني لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم، ولا من أموالكم، (ولا من أعراضكم) إِنما بعثتهم ليحجزوا بينكم، وليقسموا فيئكم بينكم، فمن فعل به غير ذلك فليقم».
فما قام أحد إلا رجل، قام فقال: يا أمير المؤمنين إِنَّ عاملك فلاناً ضربني مائة سوط. قال: فيم ضربته؟ قم فاقتص منه. فقام عمرو بن العاص رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن فعلت هذا يكثر عليك، وتكن سنّة يأخذ بها مَنْ بعدك. فقال: أنا لا أُقيد وقد رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقيد في نفسه؟ قال: فدعنا لنرضيه. قال: دونكم فأرضوه، فافتدى منه بمائتي دينار عن كل سَوْط بدينارين. وأخرجه أيضاً ابن راهويه؛ كما في منتخب الكنز.
(قصة مصري وابن عمرو بن العاص:(8/774)
وأخرج ابن عبد الحكم عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين عائذ بك من الظلم. قال: عذتَ معَاذاً. قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين. فكتب عمر إلى عمرو ـ رضي الله عنهما ـ يأمره بالقدوم ويقدَم بابنه معه. فقدم فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط ضرب. فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر: إضرب ابن الألأمَينْ. قال أنس: فضرب والله لقد ضربه ونحن نحب ضربه؛ فلما أقلع عنه حتى تمنينا أنه يرفع عنه. ثم قال للمصري: ضَعْ على صلعة عمرو. فقال: يا أمير المؤمنين إِنّما ابنه الذي ضربني وقد استَقَدْت منه. فقال عمر لعمرو؛ مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ قال: يا أمير المؤمنين لم أعلم ولم يأتني. كذا في منتخب كنز العمال.
(قصة أبي موسى ورجل وكتاب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في ذلك:
وأخرج البيهقي عن جرير أنَّ رجلاً كان مع أبي موسى - رضي الله عنه - فغنموا مغنماً، فأعطاه أبو موسى نصيبه ولم يُوَفِّه، فأبى أن يأخذه إلا جميعه، فضربه أبو موسى عشرين سوطاً وحلق رأسه. فجمع شعره وذهب به إلى عمر رضي الله عنه. فأخرج شَعَراً من جيبه فضرب به صدر عمر. قال: ما لك؟ فذكر قصته. فكتب عمر إلى أبي موسى: «سلام عليك، أما بعد، فإن فلان بن فلان أخبرني بكذا وكذا، وإني أقسم عليك إن كنت فعلت ما فعلت في ملأ من الناس (إلا) جلست له في ملأ فاقتصَّ منك، وإِن كنت فعلت ما فعلت في خلأ فاقعد له في خلأ فليقتص منك».
فلما دُفع إليه الكتاب قعد للقصاص. فقال الرجل: قد عفوت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذا في كنز العمال.
(قصة جارية وعدل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رضي الله عنه:(8/775)
وأخرج الطبراني في الأوسط، وابن عساكر، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت جارية إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالت إن سيدي إتهمني فأقعدني على النار حتى احترق فرجي. فقال لها عمر: هل رأى ذلك عليك؟ قالت: لا. قال: فهل اعترفت له بشيء؟ قالت: لا. فقال عمر: عليَّ به. فلما رأى عمر الرجل قال: أتعذِّب بعذاب الله؟ قال: يا أمير المؤمنين إتهمتها في نفسها. قال: أرأيت ذلك عليها؟ قال: لا. قال: فاعترفت لك به؟؟ قال: لا. قال: والذي نفسي بيده لو لم أسمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «لا يُقاد مملوك من مالكه، ولا ولد من والده» لأقدتها منك، وضربه مائة سوط، وقال للجارية: إذهبي فأنت حرة لوجه الله، وأنت مولاة الله ورسوله؛ أشهد لسمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «من حُرِق بالنار أو مُثِّل به فهو حرٌّ، وهو مولى الله ورسوله». كذا في الكنز.
(قصة عوف بن مالك الأشجعي مع يهودي وعدل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:(8/776)
وأخرج أبو عُبيد، والبيهقي، وابن عساكر عن سُوَيد بن غَفْلة رضي الله عنه قال: لما قدم عمر رضي الله عنه الشام قام إليه رجل من أهل الكتاب فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّ رجلاً من المؤمنين صنع بي ما ترى، فقال: ـ وهو مشجوج مضروب ـ. فغضب عمر رضي الله عنه غضباً شديداً، ثم قال لصهيب رضي الله عنه: إنطلق وانظر مَنْ صاحبه فأتني به. فانطلق صهيب فإذا هو عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه، فقال: إن أمير المؤمنين قد غضب عليك غضباً شديداً فأتِ معاذ بن جبل فلْيكلِّمْه، فإنِّي أخاف أن يَعْجَل إليك. فلما قضى عمر الصلاة قال: أين صهيب؟ أجئت بالرجل؟ قال: نعم. وقد كان عوف أتى معاذاً فأخبره بقصته، فقام معاذ فقال: يا أمير المؤمنين، إنه عوف بن مالك فاسمع منه ولا تَعْجَل إليه. فقال له عمر: ما لك ولهذا؟ قال: يا أمير المؤمنين، رأيت هذا يسوق بامرأة مسلمة على حمار، فنخس بها ليصرع بها، فلم يصرع بها، فدفعها فصُرِعت فغَشِيَها أو أكب عليها. فقال له: إئتني بالمرأة فلتصدِّق ما قلت. فأتاها عوف فقال له أبوها وزوجها: ما أردت إلى صاحبتنا قد فضحتنا. فقالت: والله لأذهبنَّ معه، فقال أبوها وزوجها: نحن نذهب فنبلِّغ عنك. فأتيا عمر رضي الله عنه فأخبراه بمثل قول عوف، وأمر عمر باليهودي فصُلِب. وقال: ما على هذا صالحناكم، ثم قال: أيها الناس، اتقوا الله في ذمَّة محمد، فمن فعل منهم هذا فلا ذمَّة له. قال سويد: فذلك اليهودي أول مصلوب رأيته في الإِسلام. كذا في الكنز. وأخرجه الطبراني عن عوف بن مالك رضي الله عنه مختصراً. قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح. انتهى.
(إجراء عمر من بيت المال على شيخ من أهل الذمة:
وأخرج ابن عساكر، والواقدي عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي رضي الله عنهما قال: لما قدمنا مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجابية؛ إِذا هو بشيخ من أهل الذمة يستطعم، فسأل عنه فقال: هذا رجل من أهل الذمة كبر وضعف. فوضع عنه عمر رضي الله عنه الجزية التي في رقبته، وقال: كلّفتموه الجزية حتى إذا ضعف تركتموه يستطعم؟؟ فأجرى عليه من بيت المال عشرة دراهم وكان له عيال. وعند أبي عُبيد، وابن زنجويه، والعُقَيلي عن عمر رضي الله عنه أنه مرَّ بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب المساجد. فقال: ما أنصفناك. كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك ثم ضيعناك في كبرك، ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه. كذا في الكنز (2301 ـ 302).(8/777)
(قصة رجل من أهل الذمة مع عمر رضي الله عنه:
وأخرج أبو عبيد عن يزيد بن أبي مالك قال: كان المسلمون بالجابية وفيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأتاه رجل من أهل الذمة يخبره أنَّ الناس قد أسرعوا في عنبه. فخرج عمر رضي الله عنه حتى لقي رجلاً من أصحابه يحلم ترساً عليه عنب، فقال عمر: وأنت أيضاً؟ فقال: يا أمير المؤمنين أصابتنا مجاعة، فانصرف عمر رضي الله عنه وأمر لصاحب الكرم بقيمة عنبه. كذا في كنز العمال.
(قصة قضائه رضي الله عنه ليهودي خلاف مسلم:
وأخرج مالك عن سعيد بن المسيِّب أنَّ مسلماً ويهودياً إختصما إلى عمر رضي الله عنه، فرأى الحق لليهودي فقضى له مر به. فقال له اليهودي: والله لقد قضيت بالحق، فضربه عمر بالدِّرة وقال: وما يدريك؟ فقال اليهودي: والله إنا نجد في التوراة: ليس قاض يقضي بالحق إلا كان عن يمينه مَلَك وعن شماله ملك يسدِّدانه ويوفقانه ما دام مع الحق، فإذا ترك الحق عرجا وتركاه. كذا في الترغيب.
(قصة عمر وإياس بن سلمة:
وأخرج الطبري عن إياس بن سلمة عن أبيه قال: مر عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في السوق ومعه الدِّرَّة، فخفقني بها خفقة فأصاب طرف ثوبي فقال: أمط عن الطريق. فلما كان في العام المقبل لقيني فقال: يا سلمة تريد الحج؟ فقلت: نعم. فأخذ بيدي فانطلق بي إلى منزله فأعطاني ست مائة درهم وقال: إستعن بها على حجَّك، واعلم أنها بالخفقة التي خفقتك. قلت: يا أمير المؤمنين ما ذكرتها. قال: وأنا ما نسيتها.
(قصة عدل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في طائر:(8/778)
أخرج الإِمام الشافعي في مسنده (ص 47) عن نافع بن عبد الحارث قال: قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه مكة، فدخل دار النَّدْوة في يوم الجمعة، وأراد أن يستقرب منها الرواح إِلى المسجد، فألقى رداءه على واقف في البيت، فنقع عليه طير من هذا الحمام فأطاره، فانتهزته حيّة فقتلته. فلما صلَّى الجمعة دخلت عليه أنا وعثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: إحكما عليّ في شيء صنعته اليوم: إني دخلت هذه الدار وأردت أن أستقرب منها الرواح إلى المسجد، فألقيت ردائي على هذا الواقف، فوقع عليه طير من هذا الحمام، فخشيت أن يطلخه بسَلْحه فأَطرته عنه، فوقع على (ظهر) هذا الواقف الآخر، فانتهزته حيّة فقتلته. فوجدت في نفسي أني أطرته من منزل كان فيه آمناً إِلى موقعة كان فيها حتفه. فقلت لعثمان بن عفان رضي الله عنه: كيف ترى في عنزٍ ثنيةٍ عفراء تحكم بها على أمير المؤمنين؟ فقال: إني أرى ذلك، فأمر بها عمر رضي الله عنه.
(قصة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع عربية ومولاة لها:
وأخرج البيهقي عن عيسى بن عبد الله الهاشمي عن أبيه عن جده قال: أتت علياً رضي الله عنه إمرأتان تسألانه عربية ومولاة لها، فأمر لكل واحدة منهما بُكُرَ من طعام، وأربعين درهماً، أربعين درهماً. فأخذت المولاة الذي أعطيت وذهبت. وقالت العربية: يا أمير المؤمنين تعطيني مثل الذي أعطيت هذه وأنا عربية وهي مولاة؟ قال لها علي رضي الله عنه: إِني نظرت في كتاب الله عزَّ وجلَّ فلم أرَ فيه فضلاً لولد إِسماعيل على ولد إِسحاق.
لقد قامت دولة الخلفاء الراشدين على مبدأ العدل وما أجمل ما قاله ابن تيمية: إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة، ... بالعدل تستصلح الرجال وتستغزر الأموال (1).
(قصة جلد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عامله قدامة خال حفصة:
وأخرج عبد الرزاق عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عمر رضي الله عنه استعمل قُدامة بن مظعون رضي الله عنه على البحرين وهو خال حفصة وعبد الله بني عمر ـ رضي الله عنهم، فقدم الجارود ـ رضي الله عنه ـ سيد عبد القيس على عمر من البحرين فقال: يا أمير المؤمنين، إن قدامة شرب فسكر، وإني رأيت حدّاً من حدود الله حقاً عليَّ أن أرفعه إليك. قال: من يشهد معك؟ قال: أبو هريرة، فدعا أبا هريرة فقال: بم تشهد؟ قال: لم أره شرب ولكني رأيته سكران يقيء. فقال: لقد تنطَّعت في الشهادة
__________
(1) السياسة الشرعية ص10.(8/779)
ثم كتب إلى قدامة أن يقدم عليه من البحرين، فقدم، فقال الجارود: أقم على هذا كتاب الله، فقال عمر: أخصم أنت أم شهيد؟ فقال: شهيد، فقال: قد أدَّيت شهادتك. قال: فصمت الجارود ثم غدا على عمر فقال: أقم على هذا حد الله، فقال عمر: ما أراك إلاَّ خصماً وما شهد معك إلاَّ رجل واحد، فقال الجارود: أنشدك الله، فقال عمر: لتمسكنَّ لسانك أو لأسوأنَّك، فقال: يا عمر، ما ذلك بالحق أن يشرب ابن عمك الخمر وتسوؤني؟ فقال أبو هريرة: يا أمير المؤمنين، إن كنت تشك في شهادتنا فأرسل إلى ابنة الوليد فاسألها وهي امرأة قُدامة. فأرسل عمر إلى هند بنت الوليد ينشدها، فأقامت الشهادة على زوجها. فقال عمر لقُدامة: إني حادُّك، فقال: لو شربت كما تقول ما كان لكم أن تحدُّوني، فقال عمر: لم؟ قال قدامة: قال الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ} (سورة المائدة، الآية: 93) ـ الآية. فقال عمر: أخطأت التأويل إنك إذا اتَّقيت الله اجتنبت ما حرم الله، ثم أقبل عمر على الناس فقال: ما ترون في جلد قُدامة؟ فقالوا: لا نرى أن تجلده ما دام مريضاً. فسكت على ذلك أياماً ثم أصبح وقد عزم على جلده، فقال: ما ترون في جلد قدامة؟ فقالوا: لا نرى أن تجلده ما دام وَجِعاً. فقال عمر: لأن يلقى الله تحت السياط أحب إليَّ من أن ألقاه وهو في عنقي، ائتوني بسوط تام، فأمر به فجُلد.
فغاضب عمر قُدامة، وهجره، فحج عمر وحج قُدامة وهو مغاضِب له. فلما قفلا من حجهما ونزل عمر بالسُّقْيا نام. فلما استيقظ من نومه قال: عجِّلوا بقدامة، فوالله لقد أتاني آتٍ في منامي فقال لي: سالِمْ قدامة فإنه أخوك، فعجِّلوا عليَّ به، فلما أتَوه أبى أن يأتي، فأمر به عمر أن يجروه إليه؛ فكلمه واستغفر له. وأخرجها أبو علي ابن السَّكَن. كذا في الإِصابة.
(وأما المساواة:
وأما مبدأ المساواة الذي اعتمده الفاروق في دولته، فيعد أحد المبادئ العامة التي أقرها الإسلام قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} (الحجرات، آية:13).(8/780)
إن الناس جميعاً في نظر الإسلام سواسية، الحاكم والمحكوم، الرجال والنساء، العرب والعجم، الأبيض والأسود، لقد ألغى الإسلام الفوارق بين الناس بسبب الجنس واللون أو النسب أو الطبقة، والحكام والمحكومون كلهم في نظر الشرع
سواء (1)، وجاءت ممارسة الفاروق لهذا المبدأ خير شاهد وهذه بعض المواقف التي جسدت مبدأ المساواة في دولته:
__________
(1) فقه التمكين في القرآن الكريم ص501.(8/781)
ـ أصاب الناس في إمارة عمر رضي الله عنه سَنَة (جدب) بالمدينة وما حولها، فكانت تسقي إذا ريحت (1) تراباً كالرماد، فسمي ذلك العام عام الرمادة، فآلى (حلف) عمر ألا يذوق سمناً ولا لبناً ولا لحماً حتى يحي الناس من أول الحياء، فقدمت السوق عُكَّة من سمن، ووطب من لبن، فاشتراهما غلام لعمر بأربعين، ثم أتى عمر فقال: يا أمير المؤمنين، قد أبر الله يمينك، وعظم أجرك، قدم السوق وطب من لبن، وعكة من سمن، فابتعناهما بأربعين، فقال عمر: أغليت بهما، فتصدق بهما، فإني أكره أن آكل إسرافاً، وقال عمر: كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسني ما مسهم (2)، هذا موقف أمير المؤمنين عام القحط الذي سمي عام الرمادة، ولم يختلف موقفه عام الغلاء، فقد: أصاب الناس سنة غلاء، فغلا السمن، فكان عمر يأكل الزيت، فتقرقر بطنه، فيقول: قرقر ما شئت، فو الله لا تأكل السمن حتى يأكله الناس (3)، ولم يقتصر مبدأ المساواة في التطبيق عند خلفاء الصدر الأول على المعاملة الواحدة للناس كافة، وإنما تعداه إلى شؤون المجتمع الخاصة، ومنها ما يتعلق بالخادم والمخدوم، فعن ابن عباس أنه قال: قدم عمر بن الخطاب حاجاً، فصنع له صفوان بن أمية طعاماً، فجاؤوا بجفنه يحملها أربعة، فوضعت بين يدي القوم يأكلون وقام الخُدّام فقال عمر: أترغبونه عنهم؟ فقال سفيان بن عبد الله: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكنا نستأثر عليهم، فغضب عمر غضباً شديداً، ثم قال: ما لقوم يستأثرون على خدامهم، فعل الله بهم وفعل، ثم قال للخدام: اجلسوا فكلوا، فقعد الخدام يأكلون، ولم يأكل أمير المؤمنين (4)، وكذلك فإن عمر رضي الله عنه لم يأكل من الطعام ما لا يتيسر لجميع المسلمين، فقد كان يصوم الدهر، فكان زمن الرمادة إذا أمسى أتى بخبز قد ثُرد بالزيت، إلى أن نحروا يوماً من الأيام جزوراً (5)، فأطعمها الناس وغرفوا له طيبها فأتي به، فإذا قديد من سنام ومن كبد، فقال: أنى هذا؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، من الجزور التي نحرناها اليوم.
__________
(1) فقه التمكين في القرآن الكريم ص501.
(2) تاريخ الطبري (4/ 98) نقلاً عن نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي (1/ 87).
(3) مناقب أمير المؤمنين لابن الجوزي ص101.
(4) مناقب أمير المؤمنين لابن الجوزي ص101.
(5) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي (1/ 87).(8/782)
فقال: بخ بخ، بئس الوالي أنا إن أكلت طيبها، وأطعمت الناس كرادسها، ارفع هذه الجفنة، هات غير هذا الطعام، فأتي بخبز وزيت، فجعل يكسر بيده ويثرد ذلك الخبز (1) ولم يكن عمر ليطبق مبدأ المساواة في المدينة وحدها، من غير أن يعلمه لعماله في الأقاليم، حتى في مسائل الطعام والشراب (2) فعندما قدم عتبة بن فرقد أذربيجان أتى بالخبيص، فلما أكله وجد شيئاً حلواً طيباً، فقال: والله لو صنعت لأمير المؤمنين من هذا، فجعل له سفطين عظيمين، ثم حملهما على بعير مع رجلين، فسرّح بهما إلى عمر. فلما قدما عليه فتحهما، فقال: أي شيء هذا؟ قالوا: خبيص فذاقه، فإذا هو شيء حلو. فقال: أكل المسلمين يشبع من هذا في رحله؟ قال: لا. قال: أما لا فارددهما. ثم كتب إليه: أما بعد، فإنه ليس من كد أبيك ولا من كد أمك. أشبع المسلمين مما تشبع منه في رحلك (3).
(20) شدة خوف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من الله تعالى بمحاسبته لنفسه:
كان رضي الله عنه يقول: أكثروا من ذكر النار، فإن حرّها شديد، وقعرها بعيد، ومقامها حديد (4)، وجاء ذات يوم أعرابي، فوقف عنده وقال:
يا عمر الخير جزيت الجنة ... جهِّز بُنيَّاتي وأمهنَّه
أقسم بالله لتفعلنه
قال: فإن لم أفعل ماذا يكون يا أعرابي؟ قال:
أقسم أني سوف أمضينه
قال: فإن مضيت ماذا يكون يا أعرابي؟ قال:
والله عن حالي لتسألنه ... ثم تكون المسألات ثمّه
والواقف المسئول بينهنّه ... إما إلى نار وإما جنة
__________
(1) نفس المصدر (1/ 188).
(2) نفس المصدر (1/ 188).
(3) مناقب أمير المؤمنين لابن الجوزي ص147.
(4) فرائد الكلام للخلفاء الكرام ص155.(8/783)
فبكى عمر حتى اخضلت لحيته بدموعه، ثم قال: يا غلام أعطه قميصي هذا لذلك اليوم، لا لشعره، والله ما أملك قميصاً غيره (1)، وهكذا بكى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه بكاءً شديداً تأثراً بشعر ذلك الأعرابي الذي ذكّره بموقف الحساب يوم القيامة، مع أنه لا يذكر أنه ظلم أحداً من الناس، ولكنه لعظيم خشيته وشدة خوفه من الله تعالى تنهمر دموعه أمام كل من يذكّره بيوم القيامة (2)، وكان رضي الله عنه من شدة خوفه من الله تعالى يحاسب نفسه حساباً عسيراً، فإذا خيل إليه أنه أخطأ في حق أحد طلبه، وأمره بأن يقتص منه، فكان يقبل على الناس يسألهم عن حاجاتهم، فإذا أفضوا إليه بها قضاها، ولكنه ينهاهم عن أن يشغلوه بالشكاوى الخاصة إذا تفرغ لأمر عام، فذات يوم كان مشغولاً ببعض الأمور العامة (3)، فجاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، انطلق معي فأعني على فلان، فإنه ظلمني، فرفع عمر الدرة، فخفق بها رأس الرجل، وقال: تتركون عمر وهو مقبل عليكم، حتى إذا اشتغل بأمور المسلمين أتيتموه، فانصرف الرجل متذمراً، فقال عمر علَيَّ بالرجل: فلما أعادوه ألقى عمر بالدرة إليه، وقال، أمسك الدرة، واخفقني كما خفقتك قال الرجل: لا يا أمير المؤمنين، أدعها لله ولك قال عمر: ليس كذلك: إما أن تدعها لله وإرادة ما عنده من الثواب، أو تردها عليّ، فأعلم ذلك، فقال الرجل: أدعها لله يا أمير المؤمنين، وانصرف الرجل، أما عمر فقد مشى حتى دخل بيته (4) ومعه بعض الناس منهم الأحنف بن قيس الذي حدثنا عمّا رأى: ... فافتتح الصلاة فصلى ركعتين ثم جلس، فقال: يا ابن الخطاب كنت وضيعاً فرفعك الله، وكنت ضالاً فهداك الله، وكنت ذليلاً فأعزك الله، ثم حملك على رقاب المسلمين، فجاء رجل يستعديك، فضربته، ما تقول لربك غداً إذا أتيته؟ فجعل يعاتب نفسه معاتبة ظننت أنه خير أهل الأرض (5)، وعن إياس بن سلمة عن أبيه قال: مر عمر رضي الله عنه وأنا في السوق، وهو مار في حاجة، ومعه الدرة، فقال: هكذا أمِطْ (6)
__________
(1) تاريخ بغداد (4/ 312).
(2) التاريخ الإسلامي (19/ 46).
(3) الفاروق للشرقاوي ص222.
(4) نفس المصدر ص222.
(5) محض الصواب (2/ 503).
(6) ماطه وأماطه: نحّاه ودفعه ..(8/784)
عن الطريق يا سلمة، قال: ثم خفقني بها خفقة فما أصاب إلا طرف ثوبي، فأمطت عن الطريق، فسكت عني حتى كان في العام المقبل، فلقيني في السوق، فقال: يا سلمة أردت الحج العام؟ قلت نعم يا أمير المؤمنين، فأخذ بيدي، فما فارقت يدي يده حتى دخل بيته، فأخرج كيساً في ست مائة درهم فقال: يا سلمة استعن بهذه واعلم أنها من الخفقة التي خفقتك عام أول، قلت والله يا أمير المؤمنين، ما ذكرتها حتى ذكرتنيها قال: والله ما نسيتها بعد (1)، وكان رضي الله عنه يقول في محاسبة النفس ومراقبتها: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا، وتهيئوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)} (2)، وكان من شدة خشيته لله ومحاسبته لنفسه يقول: لو مات جدْي بطف (3) الفرات لخشيت أن يحاسب الله به عمر (4)، وعن علي رضي الله عنه قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على قتب يعدو، فقلت: يا أمير المؤمنين أين تذهب؟ قال: بعير ندَّ (5) من إبل الصدقة أطلبه فقلت: أذللت الخلفاء بعدك، فقال يا أبا الحسن لا تلمني فوالذي بعث محمداً بالنبوة لو أن عناقاً (6) أخذت بشاطئ الفرات لأخذ بها عمر يوم القيامة (7)، وعن أبي سلامة قال: انتهيت إلى عمر وهو يضرب رجالاً ونساء في الحرم على حوض يتوضئون منه، حتى فرق بينهم، ثم قال: يا فلان، قلت: لبيك، قال لا لبيك ولا سعديك، ألم آمرك أن تتخذ حياضاً للرجال وحياضاً للنساء، قال: ثم اندفع فلقيه علي رضي الله عنه فقال: أخاف أن أكون هلكت قال: وما أهلكك؟ قال ضربت رجالاً ونساءً في حرم الله –عز وجل- قال: يا أمير المؤمنين أنت راع من الرعاة، فإن كنت على نصح وإصلاح فلن يعاقبك الله، وإن كنت ضربتهم على غش فأنت الظالم (8)
__________
(1) تاريخ الطبري (4/ 244) وإسناده ضعيف.
(2) مختصر منهاج القاصدين ص372، فرائد الكلام ص143.
(3) طف: الشاطئ.
(4) مناقب عمر ص160، 161.
(5) ندَّ: شرد وهرب.
(6) العناق: الأنثى من المعز ما لم يتم له سنة.
(7) مناقب عمر ص161.
(8) مصنف عبد الرزاق (1/ 75، 76) وإسناده حسن، محض الصواب (2/ 622).(8/785)
[*] وعن الحسن البصري أنه قال: بينما عمر رضي الله عنه يجول في سكك المدينة إذ عرضت له هذه الآية {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} فانطلق إلى أبي بن كعب فدخل عليه بيته وهو جالس على وسادة فانتزعها أبي من تحته وقال: دونكها يا أمير المؤمنين قال: فنبذها برجله وجلس، فقرأ عليه هذه الآية وقال: أخشى أن أكون أنا صاحب الآية، أوذي المؤمنين، قال: لا تستطيع إلا أن تعاهد رعيتك، فتأمر وتنهى فقال عمر: قد قلت والله أعلم (1)،
وكان عمر رضي الله عنه ربما توقد النار ثم يدلي يده فيها، ثم يقول: ابن الخطاب هل لك على هذا صبر (2).
وأخرج هنَّاد، وأبو نُعيم في الحلية، والبيهقي عن الضحاك قال: قال عمر رضي الله عنه: يا ليتني كنت كبش أهلي، يسمِّنوني ما بدا لهم، حتى إذا كنت أسمن ما أكون زارهم بعض من يحبون، فجعلوا بعضي شِواء، وبعضي قديداً، ثم أكلوني، فأخرجوني عَذِرَةً، ولم أكن بشراً.
وعند ابن المبارك، وابن سعد، وابن أبي شيبة، ومسدِّد، وابن عساكر عن عامر بن ربيعة قال: رأيت عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أخذ تبنة من الأرض فقال: يا ليتني كنت هذه التبنة، ليتني لم أُخلق، ليتني لم أكن شيئاً، ليت أُمي لم تلدني، ليتني كنت نَسْياً مَنْسياً.
وعند أبي نُعيم في الحلية عن عمر رضي الله عنه قال: لو نادى منادٍ من السماء: يا أيها الناس، إنكم داخلون الجنة كلكم إلا رجلاً واحداً لخفتُ أن أكون أنا هو. ولو نادى منادٍ: أيها الناس، إِنكم داخلون النار إلا رجلاً واحداً لرجوت أن أكون أن هو.
وعند ابن عساكر عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر لقي أبا موسى الأشعري رضي الله عنه، فقال له: يا أبا موسى، أيسرك أنَّ عملك الذي كان مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَص لك، وأنك خرجت من عملك كفافاً، خيره بشره، وشره بخيره كفافاً، لا لك، ولا عليك؟ قال: لا يا أمير المؤمنين. والله قدمت البصرة وإن الجفاء فيهم لفاشٍ، فعلَّمتهم القرآن والسنّة، وغزوت بهم في سبيل الله، وإني لأرجو بذلك فضله. قال عمر رضي الله عنه: لكن وددتُ أني خرجت من عملي خيره بشره، وشره بخيره كفافاً، لا علي ولا لي، وخَلَص لي عملي مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المخلص. كذا في منتخب الكنز.
__________
(1) مناقب عمر ص162، محض الصواب (2/ 623).
(2) نفس المصدر ص62.(8/786)
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما طُعن مر رضي الله عنه دخلت عليه فقلت له: أبشر يا، فإن الله قد مصَّر بك الأمصار، ودفع بك النفاق، وأفشَى بك الرزق. قال: أفي الإِمارة تثني عليّ يا ابن عباس؟ فقلت: وفي غيرها. قال: والذي نفسي بيده، لوددت أني خرجت منها كما دخلت فيها، لا أجر ولا وزر.
وأخرجه الطبراني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما في حديث طويل، وأبو يَعْلى كذلك عن أبي رافع كما في المجمع. وأخرجه ابن سعد عن ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه. وأخرج أيضاً من طريق آخر عنه ـ فذكر الحديث، وفيه: فقلت: أبشر بالجنة. صاحبت رسول الله فأطلت صحبته؛ ووُلِّيتَ أمر المؤمنين فقويت، وأديت الأمانة. فقال: أما تبشيرك إياي بالجنة فو الله الذي لا إِله إلا هو، لو أنّ لي الدنيا وما فيها لافتديت به من هول ما أمامي قبل أن أعلم الخبر. وأما قولك في بإمرة المؤمنين، فو الله لوددتُ أن ذلك كفاف لا لي ولا عليَّ. وأما ما ذكرت من صحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذاك. وأخرجه أيضاً من حديث عبد الله بن عبيد بن عُمَير مطوَّلاً، وزاد فيه: فقال عمر رضي الله عنه: أجلسوني. فلما جلس قال لابن عباس رضي الله عنه: أعد عليَّ كلامك، فلما أعاد عليه قال: أتشهد بذلك عند الله يوم تلقه؟ فقال ابن عباس رضي الله عنه: نعم. قال: ففرح عمر رضي الله عنه بذلك وأعجبه.
وعند أبي نعيم في الحلية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رأس عمر على فخذي في مرضه الذي مات فيه. فقال لي: ضَعْ رأسي على الأرض. قال: فقلت: وما عليك، كان على فخذي أم على الأرض؟ قال: ضعه على الأرض. قال: فوضعته على الأرض، فقال: ويلي وويلَ أمي إن لم يرحمني ربي. وعن المِسْوَر قال: لما طُعن مر رضي الله عنه قال: والله لو أنَّ لي طِلاعَ الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله من قبل أن أراه.
(بكاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على مجاهدة راهب:
وأخرج البيهقي وابن المنذر والحاكم عن أبي عمران الجوني قال: مرّ عمر رضي الله عنه براهب فوقف ونودي بالراهب فقيل له: هذا أمير المؤمنين، فاطَّلَع فإذا إنسان به من الضر والاجتهاد وترْكِ الدنيا، فلما رآه عمر بكى، فقيل له: إنه نصراني، فقال عمر: قد علمت ولكني رحمته، ذكرت قول الله عزّ وجلّ: {عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} (الغاشية: 3، 4) رحمتُ نصبَه واجتهاده وهو في النار، كذا في كنز العمال.(8/787)
(خوف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وبكاؤه على بسط الدنيا:
أخرج البيهقي عن المِسْوَر بن مخرمة رضي الله عنه قال: أُتيَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بغنائم من غنائم القادسية، فجعل يتصفَّحها وينظر إليها وهو يبكي معه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فقال له عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين، هذا يوم فرح وهذا يوم سرور، قال: فقال: أجل، ولكن لم يُؤتَ هذا قوم قطُّ إلا أورثهم العداوة والبغضاء. وأخرجه الخرائطي أيضاً عن المِسْوَر مثله، كما في الكنز.
وعند البيهقي أيضاً عن الحسن أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُتي بفروة كسرى، فوضعت بين يديه وفي القوم سُراقة بن مالك بن جُعْشُم رضي الله عنه، قال: فألقى إليه سِوارَيْ كسرى بن هرمز، فجعلها في يده فبلغا مَنكبيه، فلما رآهما في يدي سراقة قال: الحمد لله سواري كسرى بن هرمز في يدِ سُراقة بن مالك بن جُعْشُم، أعرابيَ من بني مُدْلج ثم قال: اللهمَّ إني قد علمت أن رسولك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يحب أن يصيب مالاً فينفقَه في سبيلك وعلى عبادك، وزويت ذلك عنه نظراً منك له وخياراً، ثم قال: اللهَّم إِني قد علمت أن أبا بكر رضي الله عنه كان يحب أن يصيب مالاً فينفقِ في سبيلك وعلى عبادك، فزويت ذلك عنه عنه نظراً منك له وخياراً، اللهمَّ إِني أعوذ بك أن يكون هذا مكراً منك بعمر، ثم تلا: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الْخَيْراتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} (المؤمنون: 55، 56). وأخرجه عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن عساكر عن الحسن مثله، كما في منتخب الكنز.(8/788)
وأخرج الحُميدي وابن سعد والبزَّار، وسعيد بن منصور، والبيهقي وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنها قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا صلَّى صلاة جلس للناس، فمن كان له حاجة كلَّمه، وإن لم يكن لأحد حاجة قام، فصلَّى صلوات للناس لا يجلس فيهن، فقلت: يا يرفأ أبأمير المؤمنين شَكاة؟ فقال: ما بأمير المؤمنين شكو، فجلست فجاء عثمان بن عفان رضي الله عنه فجلس، فخرج يَرْفأ فقال: قم يا ابن عفان، قم يا ابن عباس. فدخلنا على عمر فإذا بين يديه صُبَرٌ من مال على كل صُبْرة منها كتف، فقال: إِني نظرت إِلى أهل المدينة فوجدتكما من أكثر أهلها عشيرة، فخذا هذا المال فاقتسماه، فما كان من فَضْل فردّا. فأمّا عثمان فجثا، وأما أنا فجثوت لركبتي وقلت: وإن كان نقصاناً رددت علينا؟ فقال عمر: شِنْشِنَةٌ من أخشن ـ (قال سفيان): يعني حجراً من جبل ـ أما كان هذا عند الله إذ محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه يأكلون القِد: فقلت؛ بلى، والله لقد كان هذا عند الله ومحمد حيّ، ولو عليه فُتِح لصنع فيه غير الذي تصنع؛ فغضب عمر وقال: إذن صنع ماذا؟ قلت: إذاً لأكل وأطعمنا. فنشج عمر حتى اختلفت أضلاعه، ثم قال: وددتُ أني خرجت منها كفافاً لا لي ولا عليّ. كذا في الكنز؛ وقال الهيثمي: رواه البزّار وإسناده جيد. ا هـ.
عن ابن عباس رضي الله عنها قال: دعاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأتيته، فإذا بين يديه نِطَعٌ فيه الذهب منثور. قال: هلمَّ فاقسم هذا بين قومك، فالله أعلم حيث زوى هذا عن نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن أبي بكر فأُعطيته، لخير أعطيته أم لشر؟ ثم بكى وقال: كلا والذي نفسي بيده، ما حبسه عن نبيه وعن أبي بكر إِرادة الشرِّ لهما وأعطاه عمر إرادة الخير له. كذا في الكنز.(8/789)
وأخرج أبو عُبَيد العدني عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: بعث إليَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأتيته، فلما بلغت الباب سمعت نحيبه، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون أعتُري ـ والله ـ أمير المؤمنين، فدخلت فأخذت بمنكبه وقلت: لا بأس لا بأس يا أمير المؤمنين. قال: بل أشد البأس، فأخذ بيدي فأدخلني الباب، فإذا حقائق بعضها فوق بعض فقال: الآن هان آل الخطاب على الله، إنَّ الله لو شاء لجعل هذا إلى صاحبيَّ ـ يعني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر ـ فسنَّا لي فيه سُنّة أقتدي بها، قلت: إجلس بنا نفكر، فجعلنا لأمهات المؤمنين أربعة آلاف أربعة آلاف، وجعلنا للمهاجرين أربعة آلاف أربعة آلاف، ولسائر الناس ألفين ألفين، حتى وزعنا ذلك المال. كذا في الكنز.
(21) لين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وشدته:
أخرج الحاكم عن سعيد بن المسيِّب رضي الله عنه قال: لما وَلي عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ خطب الناس على منبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فد الله وأثنى عليه ثم قال:(8/790)
يا أيها الناس، إِني قد علمت أنكم تؤنسون مني شدة وغلظة، وذلك أني كنت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكنت عبده وخادمه، وكان كما قال الله تعالى: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة: 128). فكنت بين يديه كالسيف المسلول إلا أن يغمدني أو ينهاني عن أمر فأكفَّ، وإلا قدمت على الناس لمكان لينه، فلم أزل مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك حتى توفاه الله وهو عني راضٍ، والحمد لله على ذلك كثيراً، وأنا به أسعد. ثم قمت ذلك المقام مع أبي بكر خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعده. وكان قد علمتم في كرمه، ودَعته ولينه، فكنت خادمه كالسيف بين يديه أخلط شدتي بلينه؛ إِلا أن يتقدم إليّ فأكف وإِلا قدمت. فلم أزل على ذلك حتى توفاه الله وهو عني راضٍ، والحمد لله على ذلك كثيراً، وأنا به أسعد. ثم صر أمركم إِليَّ اليوم، وأنا أعلم فسيقول قائل: كان يشتد علينا والأمر إِلى غيره فكيف به إِذا صار إليه؟ واعلموا أنكم لا تسألون عني أحداً، قد عرفتموني، وجربتموني، وعرفتم من سنّة نبيكم ما عرفت، وما أصبحت نادماً على شيء أكون أحب أن أسأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه إلا وقد سألته.” فاعلموا أن شدَّتي التي كنتم ترون قد ازدادت أضعافاً إِذا صار الأمر إليّ على الظالم، والمعتدي، والأخذ للمسلمين لضعيفهم من قويهم، وإني بعد شدتي تلك واضع خدِّي بالأرض لأهل العفاف والكفّ منكم والتسليم، وإني لا آبى إن كان بيني وبين أحد منكم شيء من أحكامكم أن أمشي معه إلى من أحببتم منكم، فلينظر فيما بيني وبينه أحد منكم. فاتَّقوا الله عباد الله، وأعينوني على أنفسكم بكفّها عني، وأعينوني على نفسي (بالأمر) بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإحضاري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم ثم نزل كذا في كنز العمال.(8/791)
وأخرج ابن سعد وابن عساكر عن محمد بن زيد رضي الله عنه قال: إجتمع عليّ، وعثمان، والزبير، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد ـ رضي الله عنهم ـ وكان أجرأهم على عمر عبدُ الرحمن بن عوف قالوا: يا عبد الرحمن، لو كلمتَ أمير المؤمنين للناس فإنَّه يأتي الرجل طالب الحاجة فتمنعه هيبتك أن يكلمك في حاجته حتى يرجع ولم يقضِ حاجته، فدخل عليه فكلَّمه. فقال: يا أمير المؤمنين، لِنْ للناس فإنه يقدم القادم فتمنعه هيبتك أن يكلمك (في حاجته حتى يرجع ولم يكلمك). قال: يا عبد الرحمن، أنشدك الله أعلي، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد أمروك بهذا؟ قال: اللهمّ نعم. قال: يا عبد الرحمن، والله لقد لنت للناس حتى خشيت الله في اللِّين، ثم اشتددت عليهم حتى خشيت الله في الشدّة، فأين المخرج؟ فقام عبد الرحمن يبكي يجرّ رداءه يقول بيده: أفَ لهم بعدك (أفَ لهم بعدك).
وعند ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما ولِيَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له رجل: لقد كاد بعض الناس أن يحيد هذا الأمر عنك. قال عمر: وما ذاك؟ قال: يزعمون أنك فظ. قال عمر: الحمد لله (الذي) ملأ قلبي لهم رُحْماً، وملأ قلوبهم لي رُعْباً. كذا في منتخب الكنز.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يزيد بن الأصم: أن رجلاً كان ذا بأس وكان يوفد على عمر لبأسه وكان من أهل الشام، وأن عمر فقده فسأل عنه فقيل له: تتابع في هذا الشراب فدعا كاتبه فقال اكتب: من عمر بن الخطاب إلى فلان، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، ثم دعا وأمن من عنده ودعوا له أن يقبل الله بقلبه وأن يتوب عليه، فلما أتت الصحيفة الرجل جعل يقرأ ويقول: غافر الذنب قد وعدني الله أن يغفر لي، وقابل التوب شديد العقاب. قد حذرني الله عقابه، ذي الطول والطول الخير الكثير، لا إله إلا هو إليه المصير، فلم يزل يرددها على نفسه ثم بكى ثم نزع فاحسن النزع، فلما بلغ عمر أمره، قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخاً لكم زل فسددوه ووفقوه وادعوا الله أن يتوب عليه.
(22) رحمة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:(8/792)
وأخرج ابن المنذر، والحاكم، والبيهقي عن بُرَيدة قال: كنت جالساً عند عمر رضي الله عنه إِذ سمع صائحة، فقال: يا يَرْفأ أنظر ما هذا الصوت؟ فنظر ثم جاء فقال: جارية من قريش تبع أمها. فقال عمر رضي الله عنه: أدع لي المهاجرين والأنصار، فلم يمكث إلا ساعة حتى امتلأ الدار والحجرة. فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
«أما بعد: فهل تعلمونه كان فيما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القطيعة؟ قالوا: لا. فإنها أصبحت فيكم فاشية ثم قرأ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ} (محمد: 22) ثم قال: وأي قطيعة أقطع من أن تباع أم إمرأة فيكم وقد أوسع الله لكم؟. قالوا: فاصنع ما بدا لك. فكتب في الآفاق أن لا تباع أمُّ حرَ فأنها قطيعة رحم وإنه لا يحل». كذا في كنز العمال.
وأخرج البيهقي وهَنَّاد عن أبي عثمان النَّهْدي قال: إستعمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً من بني أسد على عمل، فجاء يأخذ عهده، (قال فأُتي عمرُ ببعض ولده فقبّله. فقال الأسديّ: أتقبل هذا يا أمير المؤمنين؟ والله ما قبّلت ولداً قط قال عمر رضي الله عنه: فأنت ـ والله ـ بالناس أقل رحمة، هاتِ عهدنا، لا تعمل لي عملاً أبداً، فردّ عهده. كذا في الكنز.
وأخرجه الدِّينَوَري عن محمد بن سلام وفي حديثه؛ قال عمر: فما ذنبي إن كان نزع من قلبك الرحمة، إنَّ الله لا يرحم من عباده إلا الرحماء، ونزعه عن عمله فقال: أنت لا ترحم ولدك فكيف ترحم الناس. كذا في الكنز.
(23) ومن أعظم مناقب عمر - رضي الله عنه - اعترافه بفضل أبي بكرٍ عليه إذعاناً للحق:
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) قال لما قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: الأنصار منا أمير ومنكم أمير فأتاهم عمر فقال ألستم تعلمون أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أمر أبا بكر أن يصلي بالناس فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر قالوا نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر.(8/793)
وأخرج البيهقي عن ابن سِيرين قال: ذكر رجال على عهد عمر رضي الله عنه فكأنهم فضَّلوا عمر على أبي بكر، فبلغ ذلك عمر فقال: والله لليلةٌ من أبي بكر خيرٌ من آل عمر، وليومٌ من أبي بكر خيرٌ من آل عمر. لقد خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة انطلق إلى الغار ومعه أبو بكر، فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه، حتى فطن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «يا أبا بكر، مالك تمشي ساعة خلفي وساعة بين يدي؟» فقال: يا رسول الله، أذكر الطَلَب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرَّصَد، فأمشي بين يديك. فقال: «يا أبا بكر، لو كان شيء لأحببتَ أن يكون بك دوني؟» قال: نعم، والذي بعثك بالحق. فلما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: مكانك ـ يا رسول الله ـ حتى استبرىء لك الغار. فدخل فاستبرأه، حتى إذا كان ذكر أنه لم يستبرىء الجِحَرَةَ، فقال: مكانك ـ يا رسول الله ـ حتى أستبرأ، فدخل فاستبرأ، ثم قال: إنزل يا رسول الله، فنزل. ثم قال عمر: والذي نفسي بيده، لتلك الليلة خيرٌ من آل عمر. كذا في البداية. وأخرجه الحاكم أيضاً كما في منتخب كنز العمال. وأخرجه البغوي عن ابن مُلَيكة مرسلاً بمعناه. قال ابن كثير: هذا مرسل حسن كما في كنز العمال.
(إنكار عمر على من فضَّله على أبي بكر وتهديده في ذلك:
وأخرج أبو نعيم في فضائل الصحابة عن جبير بن نُفير أن نفراً قالوا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: والله ما رأينا رجلاً أقضى بالقسط، ولا أقولَ بالحق، ولا أشد على المنافقين منك يا أمير المؤمنين فأنت خير الناس بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال عوف بن مالك رضي الله عنه: كذبتم ـ والله ـ لقد رأينا خيراً منه بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: من هو يا عوف؟ فقال: أبو بكر، فقال عمر: صدق عوف وكذبتم، والله لقد كان أبو بكر أطيب من ريح المسك وأنا أضل من بعير أهلي. قال ابن كثير: إسناده صحيح. كذا في منتخب الكنز.
(24) شجاعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
أخرج ابن عساكر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ما علمت أحداً هاجر إلا مختفياً إلا عمرَ بن الخطاب فإنه لما همّ بالهجرة تقلّد سيفه، وتنكّب قوسه، وانتضى في يده أسهُماً، وأتى الكعبة ـ وأشراف قريش بفِنائها ـ فطاف سبعاً، ثم صلَّى ركعتين عند المَقام، ثم أتى حِلَقهم واحدة واحدة فقال: شاهت الوجوه. من أراد أن تثكله أمه، ويُؤتَم ولده، وتَرْمُل زوجته؛ فليقني وراء هذا الوادي. فما تبعه منهم أحد. كذا في منتخب كنز العمال.(8/794)
(25) حكم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على الناس بظاهر الأعمال مما يدل على رسوخ العلم والإيمان في قلبه - رضي الله عنه -:
(حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة.
وأخرج ابن سعد والبيهقي عن الحسن قال: إن أول خطبة خطبها عمر رضي الله عنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد: فقد ابتليت بكم، وابتليتم بي، وخلفت فيكم بعد صاحبيَّ؛ فمن كان بحضرتنا باشرناه بأنفسنا؛ ومهما غاب عنا ولّيناه أهل القوة والأمانة. فمن يحسن نزده حسناً، ومن يسيء نعاقبه؛ ويغفر الله لنا ولكم». كذا في الكنز.
(26) ورع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:
أخرج مالك والبيهقي عن زيد بن أسلم قال: شرب عمر رضي الله عنه لبناً فأعجبه فسأل الذي سقاه: من أين لك هذا اللبن؟ فأخبره أنه ورد على ماء فإذا نَعَم من نعم الصدقة وهم يسقون، فحلبوا لنا من ألبانها فجعلته في سقائي هذا، فأدخل عمر أصبعه فاستقاءه. كذا في المنتخب وأخرج ابن سعد عن المِسْوعر بن مَخْرمة رضي الله عنه قال: كنا نلزم عمر بن الخطاب نتعلم منه الورع.
(ما وقع بين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وابنته حفصة في شأن مال المسلمين:
وأخرج أحمد في الزهد عن الحسن قال: جيء إلى عمر رضي الله عنه بمال، فبلغ ذلك حفصة إبنة عمر رضي الله عنهما، فجاءت فقالت: يا حقُّ أقربائك من هذا المال، قد أوصى الله عزّ وجلّ بالأقربين، فقال لها: يا بنيَّة حقُّ أقربائي في مالي، فأما هذا ففيء المسلمين، غَشَشْتِ أباك، قومي، فقامت تجرُّ ذَيلَها. كذا في منتخب الكنز.(8/795)
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وابن أبي الدنيا، وابن أبي حاتم، وابن عساكر عن أسلم قال: رأيت عبد الله بن الأرقم جاء إلى عمر رضي الله عنهما فقال: يا أمير المؤمنين، عندنا حِلية من حِلية جَلُولاء آنية فضة، فانظر أن تفرغ يوماً فيها فتأمرنا بأمرك، فقال: إِذا رأيتني فارغاً فذنِّي، فجاء يوماً فقال: إني أراك اليوم فارغاً، قال: أجل، أبسُط لي نِطْعاً فأر بذلك المال فأُفيض عليه، ثم جاء حتى وقف عليه فقال: اللهمَّ إنك ذكرت هذا المال فقلت: {زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ} (آل عمران: 14) ـ حتى فرغ من الآية ـ وقلت: {لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ ءاتَاكُمْ} (الحديد: 23)، وإنَّ لا نستطيع إلا أن نفرح بما زيَّنت لنا. اللهمَّ فجعلنا ننفقه في حقَ، وأعوذ بك من شره. قال: فأُتي بابن له يُحمل يقال له عبد الرحمن بن بهية، فقال: يا أبت هَبْ لي خاتَماً، قال: إذهب إِلى أمك تسقيك سَوِيقاً، قال: فوالله ما أعطاه شيئاً. كذا في منتخب الكنز.
(قصة قَسْم المسك والعنبر الذي جاء من البحرين:
أخرج أحمد في الزند عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقّاص قال: قدم على عمر رضي الله عنه مسك وعنبر من البحرين، فقال عمر: والله لوددتُ أنِّي وجدت إمرأة حسنة الوزن تزن لي هذا الطيب حتى أقسمه بين المسلمين، فقالت له إمرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنهما: أنا جيّدة الوزن فهلمَّ أزن لك؟ قال: لا، قلت: لِمَ؟ قال: إني أخشى أن تأخذيه فتجعليه هكذا ـ أدخل أصابعه في صدغيه وتمسحين به عنقك، فأصبت فَضْلاً على المسلمين. كذا في منتخب الكنز.
(قصة ابن عمر مع أبيه رضي الله عنها في بنت ابن عمر:
وأخرج ابن سعد، وابن أبي شيبة، وابن عساكر عن الحسن أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى جارية تطيش هزالاً، فقال: من هذه الجارية؟ فقال عبد الله رضي الله عنه: هذه إحدى بناتك، قال: وأيّ بناتي هذه قال: إبنتي، قال: ما بلغ بها ما أرى؟ قال: عملك، لا تنفق عليها، قال: إني ـ والله ـ ما أغرك من ولدك، فأَوسع على ولدك أيها الرجل. كذا في المنتخب.
(قصة عاصم بن عمر في هذا الأمر:(8/796)
وأخرج ابن سعد، وأبو عبيد في الأموال عن عاصم بن عمر رضي الله عنهما قال: لما زوجني عمر أنفق عليَّ من مال الله شهراً، ثم أرسل إليّ عمر يرفأ فأتيته فقال: والله ما كنت أرى هذا المال يحلُّ لي من قبل أن ألِيَه إِلا بحقِّه، وما كان قط أحرم عليّ منه إِذ وليته فعاد أمانتي، وقد أنفقت عليك شهراً من مال الله ولست بزائدك ولكني معينك بثمر مالي بالغابة، فأجْدُدْه فبِعْه، ثم إئتِ رجلاً من قومك من تجّارهم فقم إلى جنبه، فإِذا اشترى فاستشركه فاستنفق وأنفق على أهلك. كذا في المنتخب.
(قصة إمرأة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - معه في هذا الأمر:
وأخرج الدِّينوَري في المجالسة عن مالك بن أوس بن الحَدَثان قال: قدم بريد ملك الروم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فاستقرضت إمرأة عمر بن الخطاب ديناراً، فاشترت به عطراً، وجعلته في قوارير، وبعثت به مع البريد إلى إمرأة ملك الروم. فلما أتاها فرَّغتهن وملأتهن جواهر، وقالت: إذهب إلى إمرأة عمر بن الخطاب. فلما أتاها فرغتهن على البساط، فدخل عمر بن الخطاب فقال: ما هذا؟ فأخبرته بالخبر، فأخذ عمر الجواهر فباعه، ودفع إلى إمرأته ديناراً، وجعل ما بقي من ذلك في بيت المال للمسلمين. كذا في منتخب الكنز.
(قصة إبل بن عمر مع والده عمر في ذلك:
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إشتريت إِبلاً وارتجعتها إلى الحِمَى، فلمّا سمنت قدمت بها، فدخل عمر السوق فرأى إبلاً سماناً، فقال: لمن هذه الإِبل؟ فقيل: لعبد الله بن عمر، فجعل يقول: يا عبد الله بن عمر، بَخٍ بخٍ، ابن أمير المؤمنين، فجئت أسعى فقلت: ما لك يا أمير المؤمنين؟ قال: ما هذه الإِبل؟ قلت: بل اشتريتها وبعثت بها إلى الحِمَى أبتغي ما يبتغي المسلمون، فقال: أرعوا إبل ابن أمير المؤمنين أسقوا إبل ابن أمير المؤمنين يا عبد الله بن عمر أُغْدُ على رأس مالك واجعل الفَضْل في بيت مال المسلمين. كذا في المنتخب.
(زجر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لصهره حين طلب من بيت المال شيئا:
وأخرج ابن سعد وابن جرير، وابن عساكر عن محمد بن سيرين أنَّ صِهْراً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه قدم على عمر، فعرَّض له أن يعطيه من بيت المال، فانتهره عمر وقال: أردتَ أن ألقى الله مَلِكاً خائناً؟ فلما كان بعد ذلك أعطاه من صُلْب ماله عشرة آلاف درهم. كذا في كنز العمال.(8/797)
(قصة إِعطاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رجلا أصابته ضربة في سبيل الله:
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: بينما الناس يأخذون أَعطِيتهم بين يدي عمر إذ رفع رأسه فنظر إلى رجل في وجهه ضربة، قال: فسأله فأخبره أنه أصابته في غزاة كان فيها، فقال: عُدُّوا له ألفاً، فأعطى الرجل ألف درهم، ثم حول المال ساعة، ثم قال: عدُّوا له ألفاً، فأعطى الرجل ألفاً أخرى؛ قال له أربع مرات كل ذلك يعطيه ألف درهم. فاستحيَى الرجل من كثرة ما يعطيه فخرج، قال: فسأل عنه فقيل له: إنا رأينا أنه استحيَى من كثرة ما أُعطي فخرج؛ فقال عمر: أما ـ والله ـ لو أنه مكث ما زلت أعطيه ما بقي من المال درهم، رجل ضُرب ضربة في سبيل الله خضَّرت وجهه.
(قَسْم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جميع ما في بيت المال:
أخرج البيهقي عن يحيى بن سعيد عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب لعبد الله بن الأرقم رضي الله عنهما: إقسم بيت مال المسلمين في كل شهر مرة، إقسم مال المسلمين في كل جمعة مِرة، ثم قال: إقسم بيت المال في كل يوم مرة، قال: فقال رجل من القوم: يا أمير المؤمنين، لو أبقيت في بيت مال المسلمين بقية تعدّها لنائبة أو صوت ـ يعني خارجة ـ قال: فقال عمر للرجل الذي كلَّمه: جرى الشيطان على لسانك، لقَّنني لله حجتها ووقاني شرها، أعدّ لها ما أعدّ لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طاعة الله عزّ وجلّ ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعند أبي نعيم في الحلية عن ابن عمر رضي الله عنها قال: قدم على عمر مال من العراق فأقبل يقسمه، فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين لو أبقيت من هذا المال لعدو إن حصر أو نائبة إن نزلت. فقال عمر: ما لك قاتلك الله؟ نطق بها على لسانك شيطان، لقَّاني الله حجَّتها، والله لا أعصينَّ الله اليوم لغدٍ، لا، ولكن أعدُّ لهم ما أعدَّ لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(8/798)
وعند ابن عساكر عن سَلَمة بن سعيد قال: أُتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمال، فقام إِليه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين لو حبست من هذا المال في بيت المال لنائبة تكون أو أمر يحدث، فقال: كلمة ما عرض بها إلا شيطان، لقَّاني الله حجَّتها ووقاني فتنتها، أعصي الله العام مخافة قابل؟ أعدّ لهم تقوى الله، قال الله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مّنكُمْ وَأَقِيمُواْ الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْراً} (الطلاق: 2، 3)؛ ولتكون فتنة على من يكون بعدي. كذا في منتخب الكنز.
(كتاب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى أبي موسى الأشعري في ذلك:
وأخرج ابن سعد وابن عساكر كما في الكنز عن الحسن قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى رضي الله عنهما:
«أما بعد: فأعلم يوماً من السنة لا يبقى في بيت المال درهم، حتى يكتسح إكتساحاً، حتى يعلم الله أني قد أدَّيت إِلى كل ذي حقَ حقَّه».
(كتاب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إِلى حذيفة في ذلك:
وأخرج ابن سعد عن الحسن قال: كتب عمر إلى حذيفة رضي الله عنهما أن أعطِ الناس أعطيتهم وأرزاقهم فكتب إليه: إنَّا قد فعلنا وبقي شيء كثير. فكتب إليه عم: إنَّه فيئهم الذي أفاء الله عليهم، ليس هو لعمر ولا لآل عمر؛ إقسمه بينهم.
(رأي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في حق المسلمين في المال:(8/799)
أخرج البيهقي عن أسلم قال: سمعت عمر رضي الله عنه يقول: إجتمعوا لهذا المال فانظروا لمن ترونه. ثم قال لهم: إني أمرتكم أن تجتمعوا لهذا المال فتنظرا لمن ترونه، وإِني قد قرأت آيات من كتاب الله سمعت الله يقول: {مَّآ أَفَآء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاْغْنِيَآء مِنكُمْ وَمَآ ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِلْفُقَرَآء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحشر: 7، 8) والله ما هو لهؤلاء وحدهم {وَالَّذِينَ تَبَوَّءوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ} (الحشر: 9) ـ الآية ـ. والله ما هو لهؤلاء وحدهم {وَالَّذِينَ جَآءوا مِن بَعْدِهِمْ} (الحشر: 10) ـ الآية ـ، والله ما من أحد من المسلمين إلا وله حق في هذا المال أُعطي منه أو مُنع حتى راعٍ بعَدَن.(8/800)
وأخرج أيضاً عن مالك بن أوس بن الحَدَثان رضي الله عنه في قصة ذكرها قال: ثم تلا: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآء وَالْمَسَاكِينِ} (التوبة: 60) ـ إلى الآية ـ، فقال: هذه لهؤلاء، ثم تلا: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} (الأنفال: 41) ـ إلى آخر الآية ـ، ثم قال: هذ لهؤلاء، ثم تلا: {مَّآ أَفَآء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} ـ إلى آخر الآية ـ، ثم قرأ: {لِلْفُقَرَآء الْمُهَاجِرِينَ} ـ إلى آخر الآية ـ، ثم قال: هؤلاء المهاجرون، ثم تلا: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ} ـ إلى آخر الآية ـ، فقال: هؤلاء الأنصار، قال: وقال: {والذين جاؤوا من بعدم يقولون ربنا إغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} ـ إلى آخر الآية ـ. قال: فهذه إستوعبت الناس، ولم يبق أحد من المسلمين إلا وله في هذا المال حق إلا ما تملكون من رقيقكم، فإن أعِشْ ـ إن شاء الله ـ لم يبقَ أحد من المسلمين إلا سيأتيه حقُّه حتى الراعي بسروِ حمير يأتيه حقه ولم يعرق فيه جبينه. وأخرجه أيضاً ابن جرير عن مالك بن أوس نحوه، كما في التفسير لابن كثير.
(27) كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقافاً عند حدود الله تعالى:
أخرج عبد الرزاق وعبد بن حُمَيد والخرائطي عن المِسْور بن مَخْرَمة عن عبد الرحمن بن عوف أنه حرس مع عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ ليلةً المدينة، فبينما هم يمشون شبَّ لهم سراج في بيت، فانطلقوا يؤمونه، فلما دنوا منه إذاباب مُجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولَغَط. فقال عمر ـ وأخذ بيد عبد الرحمن بن عوف ـ: أتدري بيت من هذا؟ قال: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خَلَف وهم الآن شَرْب فما ترى؟ قال: أرى أن قد أتينا ما نهى الله عنه، قال الله: {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} (سورة الحجرات: الآية: 12) فقد تجسسنا فانصرف عنهم عمر رضي الله عنه وتركهم.
(قصة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع رجل ومع جماعة في هذا الشأن:(8/801)
وأخرج ابن المنذر وسعيد بن منصور عن الشَّعْبي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد رجلاً من أصحابه، فقال لابن عوف رضي الله عنه: انطلق بنا إلى منزل فلان فننظر، فأتيا منزله فوجدا بابه مفتوحاً وهو جالس وامرأته تصب له في الإناء فتناوله إياه، فقال عمر لابن عوف: هذا الذي شغله عنا. فقال ابن عوف لعمر: وما يُدريك ما في الإِناء؟ فقال عمر: أتخاف أن يكون هذا هو التجسس؟ قال: بل هو التجسس. قال: وما التوبة من هذا؟ قال: لا تُعلمه بما اطَّلعت عليه من أمره، ولا يكونَنَّ في نفسك إلاَّ خيراً، ثم انصرفا. كذا في الكنز.
(تسوّر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على المُغَنِّي بيته:
وأخرج الخرائطي عن ثَوحر الكندي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يَعُس بالمدينة من الليل، فسمع صوت رجل في بيت يتغنَّى، فتسوَّر عليه فقال: يا عدو الله، أظننت أن الله يسترك وأنت في معصية فقال: وأنت يا أمير المؤمنين لا تعجل عليَّ؛ إن أكن عصيت الله واحدة فقد عصيت الله في ثلاث قال: «ولا تجسسوا» وقد تجسست. وقال: {وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِهَا} (سورة البقرة، الآية: 189) وقد تسوَّرت عليَّ، ودخلت عليَّ بغير إذن وقال الله تعالى: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا} (سورة النور، الآية: 27) قال عمر: فهل عندك من خير إن عفوت عنك؟ قال: نعم، فعفا عنه وخرج وتركه. كذا في الكنز.
(قصة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع شيخ كبير في هذا الشأن:(8/802)
وأخرج أبو الشيخ عن السُّدِّي قال: خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإذا هو بضوء نار ومعه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فأتْبَع الضوء حتى دخل داراً فإذا بسراج في بيت، فدخل وذلك في جوف الليل، فإذا شيخ جالس وبين يديه شراب وقَيْنة تغنِّيه، فلم يشعر حتى هجم عليه عمر، فقال عمر: ما رأيت كالليلة منظراً أقبح من شيخ ينتظر أجله فرفع رأسه إليه، فقال: بلى، يا أمير المؤمنين ما صنعت أنت أٌبح أتجسست وقد نُهي عن التجسس، ودخلت بغير إذن؟ فقال عمر: صدقت. ثم خرج عاضاً على ثوبه يبكي وقال: ثكلت عمر أمه إن لم يغفر له ربه، يجد هذا كان يستخفي به من أهله فيقول الآن رآني عمر فيتتابع فيه. وهجر الشيخ مجلس عمر حيناً، فبينا عمر بعد ذلك جالس إذ به قد جاء شبه المستخفي حتى جلس في أخريات الناس، فرآه عمر فقال: عليَّ بهذا اشيخ، فأُتي فقيل له: أجب، فقام وهو يرى أن عمر سيسوءه بما رأى منه، فقال عمر: ادنُ مني، فما زال يدنيه حتى أجلسه بجنبه، فقال: إدنِ مني أذنك، فالتقم أذنه فقال: أما والذي بعث محمداً بالحق رسولاً ما أخبرت أحداً من الناس بما رأيت منك ولا ابن مسعود فإنه كان معي، فقال: يا أمير المؤمنين أدنِ مني أذنك، فالتقم أذنه فقال: ولا أنا والذي بعث محمداً بالحق رسولاً ما عدت إليه حتى جلست مجلسي هذا، فرفع عمر صوته يكبِّر، فما يدري الناس من أي شيء يكبر. كذا في الكنز.
(قصة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع أبي محجن الثقفي:
وأخرج الطبراني عن أبي قِلابة أن عمر رضي الله عنه حُدِّث أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر في بيته هو وأصحاب له، فانطلق عمر حتى دخل عليه، فإذا ليس عنده إلا رجل، فقال أبو محجن: يا أمير المؤمنين إن هذا لا يحل لك قد نهاك الله عن التجسس؛ فقال عمر: ما يقول؟ فقال له زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن الأرقم ـ رضي الله عنهما ـ: صدق يا أمير المؤمنين، هذا من التجسس، فخرج عمر وتركه. كذا في الكنز.(8/803)
أخرج البخاري وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم عيينة بن حصن (بن حذيفة) بن بدر رضي الله عنه فنزل على ابن أخيه الحرِّ بن قيس رضي الله عنه ـ وكان من النفر الذين يُدينهم عمر رضي الله عنه، وكان القرّاء أصحاب مجلس عمر ومشورته كهولاً كانوا أو شباناً ـ، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه، فاستأذن له فأذن له (عمر)، فلما دخل عليه قال: هِي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجَزْل، ولا تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتى همَّ أن يُوقع به، فقال الحر: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {خُذِ الْعَفْوَ} {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} {وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ} (سورة الأعراف، الآية: 119). وإنَّ هذا من الجاهلين. فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله عز وجل. كذا في المنتخب. وعند ابن سعد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ما رأيت عمر غضب قط فذُكر الله عنده أو خُوِّف، أو قرأ عنده إنسان آية من القرآن إلا رقد عما كان يريد.
وعند أسلم قال قال بلاد رضي الله عنه: يا أسلم كيف تجدون عمر؟ قلت: خير، إذا غضب فهو أمر عظيم، فقال بلال: لو كنت عنده إذا غضب قرأت عليه القرآن حتى يذهب غضبه. وعن مالك الدار قال: صاح عليَّ عمر رضي الله عنه يوماً وعلاني بالدِّرَّة فقلت: أذكِّرك بالله، فطرحها فقال: لقد ذكرتني عظيماً. كذا في المنتخب.
(28) إكرام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لأهل البيت:
أخرج ابن سعد وابن راهَوَيه والخطيب عن حسين بن علي رضي الله عنهما قال: صعدت إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه المنبر فقلت له: انزل عن منبر أبي واصعد منبر أبيك، فقال: إن أبي لم يكن له منبر، فأقعدني معه. فلما نزل ذهب إلى منزله فقال: أيْ بني من علَّمك هذا؟ قلت: ما علمنيه أحد. قال: أيْ بني لو جعلت تأتينا وتغشانا، فجئت يوماً وهو خالٍ بمعاوية، وابنُ عمر بالباب لم يُؤذن له فجرعت. فلقيني بعد فقال: يا بني لم أرَك أتيتنا؟ قلت: جئت وأنت خالٍ بمعاوية، فرأيت ابن عمر رجع فرجعت. فقال: أنت أحق بالإِذن من عبد الله بن عمر، إنما أنبت في رؤوسنا ما ترى الله، ثم أنتم، ووضع يده على رأسه. كذا في الكنز. قال في الإِصابة: سنده صحيح.
(عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يخطب أم كلثوم بنت علي لشرف النسب:(8/804)
وأخرج البيهقي عن حسن بن حسن عن أبيه أن عمر بن الخطاب خطب أم كلثوم، فقال له علي ـ رضي الله عنه ـ إنها تصغر عن ذلك، فقال عمر: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي» فأحبُّ أن يكون لي من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبب ونسب، فقال علي للحسن والحسين رضي الله عنهم: زوِّجا عمكما، فقالا: هي امرأة من النساء تختار لنفسها. فقام علي مُغْضباً، فأمسك الحسن بثوبه وقال: لا صبر لي على هجرانك يا أبتاه، قال: فزوَّجاه. كذا في الكنز.
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور عن أبي جعفر رضي الله عنه قال: خطب عمر رضي الله عنه إلى علي رضي الله عنه ابنته، فقال: أبعث بها إليك فإن رضيت فهي امرأتك، فبعث إليه فكشف عن ساقها فقالت له: أرسل فلولا أنك أمير المؤمنين لصككتُ عينك. كذا في الكنز. وأخرجه ابن عمر المقدسي عن محمد بن علي نحون، كما في الإصابة. وعند ابن سعد عن محمد أن عمر خطب أم كلثوم رضي الله عنها إلى علي، فقال: إنما حسبت بناتي على بني جعفر. فقال: زوِّجنيها ـ فوالله ـ ما على ظهر الأرض رجل يُرْصد من كرامتها ما أرصد، قال: قد فعلت، فجاء عمر إلى المهاجرين فقال: زُفُّوني فزفُّوه، فقالوا: بمن تزوجت؟ قال: بنت علي، إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «كل نسب وسبب سيقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي» وكنت قد صاهرت فأحببت هذا أيضاً. ومن طريق عطاء الخراساني أن عمر أمهرها أربعين ألفاً. كذا في الإصابة.
(29) توقير عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - للصحابه:
(ضرب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رجلين لأجل ابن مسعود:
وأخرج ابن عساكر عن أبي وائل أن ابن مسعود رضي الله عنه رأى رجلاً قد أسبل فقال: ارفع إزارك، فقال: وأنت يا ابن مسعود ارفع إزارك، فقال له عبد الله: إني لست مثلك إن بساقيَّ حُموشةً وأنا أؤم الناس. فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه، فجعل يضرب الرجل ويقول: أتردُّ على ابن مسعود؟ كذا في الكنز.
وأخرج يعقوب بن سفيان وابن عساكر عن العلاء عن أشياخ لهم قال: كان عمر على دار لابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ بالمدينة ينظر إلى بنائها. فقال رجل من قريش: يا أمير المؤمنين إنك تُكفى هذا، فأخذ لبنة فرمى بها، وقال: أترغب بي عن عبد الله؟ كذا في الكنز.
(ضرب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رجلاً لأجل أم سلمة:(8/805)
وأخرج أبو عبيد في الغريب وسفيان بن عيينة واللألكائي عن أبي وائل أن رجلاً كان له حقٌّ على أم سَلَمة رضي الله نها، فأقسم عليها، فضربه عمر رضي الله عنه ثلاثين سوطاً تَبضَع وتَحدِر. كذا في المنختب.
(إنكار عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على رجل نال من علي:
وأخرج ابن عساكر عن عروة رضي الله عنه أن رجلاً وقع في علي بمحضر من عمر رضي الله عنهما. فقال عمر: تعرف صاحب هذا القبر؛ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب بن عبد المطلب لا تذكر علياً إلا بخير، فإنك إن آذيته آذيت هذا في قبره. كذا في المنتخب.
وأخرج أبو يَعْلَى عن أبي بكر بن خالد بن عُرْفْطة أنه أتى سعد بن مالك رضي الله عنه فقال: بلغني أنكم تُعرَضون على سبِّ علي بالكوفة فهل سببته؟ قال: مَعاذ الله والذي نفس سعد بيده لقدسمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في علي شيئاً لو وُضع المنشار على مفرقي ما سببته أبداً. قال الهيثمي: إسناده حسن.
(30) تواضع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:
أخرج ابن أبي حاتم والدارمي والبيهقي عن أبي يزيد قال: لقي عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأة يقال لها خولة ـ رضي الله عنها ـ وهي تسير مع الناس، فاستوقفته فوقف لها، ودنا منها وأصغى إليها رأسه، ووضع يديه على مَنْكبيها حتى قضت حاجتها وانصرفت. فقال له رجل: يا أمير المؤمنين حبست رجالات قريش على هذا العجوز؟ قال: ويك أتدري من هذه؟ قال: لا، قال: هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت حتى تُقضي حاجتها.
وعند البخاري في تاريخه وابن مَرَدَوَيه عن ثُمامة بن حَزْن رضي الله عنه قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسير على حماره لقيته امرأة فقالت: قف يا عمر، فوقف فأغلظت له القول، فقال رجل: يا أمير المؤمنين ما رأيت كاليوم، قال: وما يمنعني أن أسمع لها وهي التي سمع الله لها وأنزل فيها ما أنزل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا} (سورة المجادلة، الآية: 1). كذا في الكنز.(8/806)
وأخرج ابن سعد عن الشَّعبي قال: جاءت امرأة إلى عمر بن الخطاب فقالت: أشكو إليك خير أهل الدنيا إلا رجلاً سبقه بعمل أو عمل مثل عمله. يقوم الليل حتى يصبح، ويصوم النهار حتى يمسي، ثم تجلاّها الحياء، فقالت: أقِلْني يا أمير المؤمنين، فقال: جزاك الله خيراً؛ فقد أحسنت الثناء. قد أقتلك، فلما ولّت قال كعب بن سخور: يا أمير المؤمنين لقد أبلغت إليك في الشكوى، فقال: ما اشتكت؟ قال: زوجَها، قال: عليَّ المرأة (فأرسل إلى زوجها فجاء)، فقال لكعب: اقضِ بينهما، قال: أقضي وأنت شاهد قال: إنك قد فطنت إلى ما لم أفطن له، قال: فإن الله تعال يقول: (فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَآءِ مَثْنَىَ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ) [النساء: 3] صم ثلاثة أيام وأفطر عندها يوماً، وقم ثلاث ليالٍ وبتْ عندها ليلة. فقال عمر: لهَذا أعجب إليَّ من الأول؛ فبعثه قاضياً لأهل البصرة.
(أخرج أبو عبيد وابن عساكر عن عبد الله بن قيس أو ابن أبي قيس قال: كنت فيمن تلقَّى عمر رضي الله عنه مع أي عبيدة رضي الله عنه مَقْدَمه الشام، فبينا عمر يسير إذ لقيه المقلَّسون من أهل أذرعات بالسيوف فقال: مَهْ، ردُّوهم وانعوهم، فقال: أبو عبيد رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين هذه سنة العجم، فإنَّك إن تمنعهم منها يروا أن في نفسك نقضاً لعهدهم، فقال عمر: دعوهم (عمر وآل عمر) في طاعة أبي عبيدة، كذا في الكنز. وأخرج المحاملي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر سابق الزبير رضي الله عنه فسبقه الزبير، فقال: سبقتك ورب الكعبة، ثم إن عمر سابقه مرة أخرى فسبقه عمر فقال عمر: سبقتك ورب الكعبة كذا في الكنز.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشعبي، قال: غزا رجل من المسلمين من الأنصار وأوصى جاراً له بأهله، قال: فكان يهودي يأتي أهله، فذكر ذلك للرجل فرصده ليلة فإذا هو مستلق على فراش الرجل واضعاً إحدى رجليه على الأخرى وهو يقول:
وأشعث غره الإسلام مني ... خلوت بعرسه يوم التمام
أبيت على ترائبها ويضحي ... على قباء لا حقة الحزام
كأن مجامع الربلات منها ... ثمام قد جمعن إلى ثمام
قال: فنزل الرجل فقمصه بسيفه حتى قتله، فلما أصبح ذكر ذلك لعمر رضي الله تعالى عنه، فقال: اعزم على من كان يعلم من هذا شيئاً إلا قام، فقام الرجل فقال: كان من أمره كيت وكيت، فخبره بالقصة، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: إن عادوا فعد.
-
ولكن! ماذا نقول عن أحوالنا؟(8/807)
كم من امتحان رسبنا فيه ونحن لا نشعر.
وهنا سرّ بديع في هذه الآية: (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (1)؛ لأنه قد يحبط عمل الإنسان وهو لا يشعر، فهو لا يتصور أن يحبط عمله بذلك العمل، أو لا يلقي لعمله بالا.
وكم من عملٍ أو كلمةٍ أودت بصاحبها وهو لا يشعر.
وإذا كان رفع الصوت عند رسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كاد أن يحبط عمل أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، فما سيكون حال من يرفع صوته فوق صوت الحق؟ أولئك الذين يقدمون شريعة الطاغوت على شريعة الله، أولئك الذين يعادون ويوالون في سبيل الشيطان.
وحتى نزيد في إيضاح معنى (امتحان القلوب) لنتأمل الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث حذيفة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودا عُودا، فَأَيّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْل الصّفَا، فَلاَ تَضُرّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادا كَالْكُوزِ مُجَخّيا لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرا، إِلاّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن العبد إذا أخطاء خطيئة نُكِتَت في قلبه نكته سوداء فإن هو نزع و استغفر و تاب صقل قلبه وإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه و هو الران الذي ذكر الله تعالى فذلك الران الذي ذكره الله في كتابه (كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ مّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) [المطففين: 14].
جعل الله قلوبنا بيضاء، وطهرها من المعاصي والرذائل والشبهات. ففي الحديث التعبير بالفعل المضارع (تعرض)، وهو هنا يدل على استمرار البلاء والامتحان: كما أن هذه الفتن لا تأتي دفعة واحدة، وإنما شيئا فشيئا حتى يصبح القلب أسود -والعياذ بالله- أو يسلمه الله فينجح في الامتحان فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض.
__________
(1) - سورة الحجرات آية: 2.(8/808)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فالنفس تدعو إلى الطغيان، وإيثار الحياة الدنيا. والرب -جل وعلا- يدعو عبده إلى خوفه، ونهي النفس عن الهوى، والقلب بين الداعيين (1) وهذا هو موضع الفتنة والابتلاء.
{تنبيه}: (إن بعض المشتغلين بالدعوة وطلب العلم يظنون أن غاية الابتلاء والامتحان هو الأذى الجسدي: من سجن وتعذيب وأسر وقتل، وغيرها، أو أذىً معنوي من: مقاطعة الناس له، أو عدم استجابة، أو سخرية واستهزاء به، وغيرها، وهذا قصر لمفهوم الابتلاء على بعض أنواعه، وإلا فإن أشد أنواع الابتلاء هو «ابتلاء هذا القلب وامتحانه»، وكم رأينا ممن نجح في امتحان الأذى. والتعذيب، لكنهم أخفقوا في امتحان القلب! ولذلك كان من دعاء الراسخين في العلم: (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [سورة آل عمران، الآية: 8].
ونختم هذه المقدمة في معنى امتحان القلب وابتلائه بهذه الدعوة الربانية للمؤمنين متضمنة تحذيرا مخيفا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [سورة الأنفال، الآية: 24].
نسأل الله - سبحانه وتعالى- أن يوفقنا ويعيننا على الاستجابة لله وللرسول، وأن يحي قلوبنا، وألا يحال بيننا وبين قلوبنا بمعاصينا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
(مواطن امتحان القلوب:
ومواطن امتحان القلوب كثيرة، وحسبنا أن نشير إشارات سريعة إلى جملة منها. وإنما أشرنا إلى هذه المجالات لأن كثيرا من الناس يتصور أن القلب إنما يمتحن بالشهوات والمعاصي، ولكننا سوف نرى أن هذا من المواطن التي يمتحن فيها القلب، والله -سبحانه وتعالى- يقول: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [سورة الأنبياء، الآية: 35].
فمن المواطن التي يمتحن فيها القلب ما يلي:
(1) العبادة:
__________
(1) - انظر رسالة مرض القلب وصحته.(8/809)
فالعبادة مثل: الصلاة والصدقة والصيام والحج وغيرها موضع امتحان وابتلاء، ففيها ابتلاء في تحقيق الإخلاص لله وابتغاء وجه الله تعالى بها وأن لا يشوبها شائبةٍ من رياء والعياذ بالله، يقول الله -تعالى-: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً) [سورة الفرقان، الآية: 23]. قال تعالى: (قُلْ إِنّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَىَ إِلَيّ أَنّمَآ إِلََهُكُمْ إِلََهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ) [الكهف /110]
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديثُ أبي هريرةَ الثابت صحيح مسلم): أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال - قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاءِ عن الشرك، من عمل عملاً أشركَ فيه معي غيري تركته وشركه.
((حديثُ جندب ابن عبد الله الثابت في الصحيحين): أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من سمَّعَ سمَّعَ الله به ومن يُرائي يُرائي الله به.
((حديثُ أبي أُمامة الثابت في صحيح النسائي): أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن الله تعالى لا يقبلُ من العملِ إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وَجهُهُ.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار.(8/810)
وفي العبادة ابتلاء بتصحيحها، وأدائها كما جاءت عن النبي الأمن، وابتلاء بتحقيق التقوى فيها، يقول- تعالى-: (وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) [سورة الحج، الآية: 37]. وهذا جزء يسير من الابتلاء الذي يحدث في هذا الموطن.
(2) العلم:
وهذا موطن خصب لامتحان القلوب، وكم فشل أناس في هذا الامتحان، فطائفة طلبوا العلم لله، ثم تحولت النية إلى الشهوة الخفية، حب الرئاسة، الشهرة، التصدر، التعالي على الأقران، المراء والجدل، القدح في الخصوم .. وغيرها.
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة.
((حديث جابر الثابت في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا تماروا به السفهاء و لا لتخيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار.
((حديث أبي أمامة الثابت في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وجهه.(8/811)
((حديث أبي سعيد الثابت في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ ". قالوا: بلي. قال: " الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته، لما يري من نظر رجل.
(3) الدعوة:
وهذا المجال من أشد مجالات امتحان القلوب. وأصحاب الدعوة المشتغلون بها من أشد الناس معاناة لهذا الامتحان. فشهوة توجيه الآخرين، والشهرة، والتعالي على الخلق كلها امتحانات قد تجعل الدعوة وبالا على صاحبها -والعياذ بالله- وفتنة النكوص عن الدعوة، أو توجيهها إلى غير رضى الله داء عضال.
(4) الخلاف والجدل:
وهو مرتع من مراتع الشيطان. ومزرعة من مزارعه، ولذلك نبهنا الله جل وعلا إلى الأسلوب الأمثل في المجادلة فقال: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [سورة النحل، الآية: 125]. ولأنه قد يكون الباعث للجدال هو الانتصار للحق، ثم يتحول إلى انتصار للنفس، وهنا مكمن الداء قال - سبحانه-: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [سورة العنكبوت، الآية: 46].
وصدق ابن مسعود رضي الله عنه حيث قال: إن الخلاف شر كله.
(5) الشهوات:
وإنما أخرتها قصدا؛ لأن كثيرا من الناس يقصر امتحان القلوب على الشهوات: المال، والمركب، والنساء، والبنين، والبنيان، وهذه لا شك أنها فتنة وابتلاء (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [سورة التغابن، الآية: 15].
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بنى إسرائيل كانت في النساء.
لكن ما سبق أعظم أثرا وأوقع في أمراض هذا القلب، وسلبه عافيته.
(6) الشبهات والفتن:
وهما مجال رحب من مجالات مرض القلب وسبب لكثير من العلل كما سيأتي بيانه.
(7) الرياسة والمناصب:
فكم تغيرت من نفوس، وتباغضت من قلوب بسبب هذا الموطن الذي قل أن يسلم منه أحد، فالحسد والغيرة والحقد والغل أمراض مبعثها هذا الأمر في غالب الأحوال والأحيان.
(8) النسب والحسب والجاه:(8/812)
وهو أرض مثمرة لأمراض القلوب وأدوائه، فالتعالي والتفاخر والكبر وغيرها من أمراض القلوب تنطلق من هذه الأرض، ففيها تنبت ومنها تثمر.
ولعلنا الآن نبين شيئا من الأمراض والأدواء التي يكثر امتحان القلب بها، إلا إننا سنقدم لها تنبيهات مهمة:
{تنبيهات مهمة}:
أولا: الحذر، الحذر من قيام الأخ إذا علم بهذه الأمراض والعلل بتصنيف الناس وينزل هذه الأمراض عليهم، فإن فعل ذلك أحد فهو أول الراسبين، فإن أعمال القلوب لرب القلوب -جل وعلا- يقول الله -سبحانه وتعالى- مخاطبا نبيه في حق المنافقين: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) [سورة النساء، الآية: 63]. وإنما الصواب في أن نعرفها، فنصحح قلوبنا، ونقيها هذه الأدواء.
ثانيا: وكما يحذر الإنسان مما سبق، فينبغي ألا ينشغل بقلوب الناس عن قلبه، ولنتدبر أيها الإخوة هذه القصة المعبرة بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) بعثنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الحرقة من جهينة، قال: فصبَّحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، قال: فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، قال: فكف عنه الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فقال لي: (يا أسامة، أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله). قال: قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوذاً، قال: (أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله). قال: فما زال يكررها علي، حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم.
والله -سبحانه وتعالى- يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) [سورة النساء، الآية: 94]. فلا ينبغي التمادي في ذلك، والتساهل فيه.(8/813)
ثالثا: أن نعنى ببيان هذه الأمراض للناس، وندلهم على سبل الوقاية منها، فكثير منهم يعيش في غفلة تامة، ويحرصون على الوقاية من الأمراض الحسية، أكثر من اهتمامهم بأمراض قلوبهم.
رابعا: هناك أسباب كثيرة لأمراض القلوب وفسادها من أهمها:
1 - الجهل.
2 - الفتن.
3 - الشهوات والمعاصي.
4 - الشبهات.
5 - الغفلة عن ذكر الله.
6 - الهوى.
7 - الرفقة السيئة.
8 - أكل الحرام كالربا والرشوة وغيرهما.
9 - إطلاق البصر فيما حرم الله.
10 - الغيبة والنميمة.
11 - الانشغال بالدنيا وجعلها جل همه وقصده.
(ذكر ما يصدأ به القلب:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن العبد إذا أخطاء خطيئة نُكِتَت في قلبه نكته سوداء فإن هو نزع و استغفر و تاب صقل قلبه وإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه و هو الران الذي ذكر الله تعالى فذلك الران الذي ذكره الله في كتابه (كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ مّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) [المطففين: 14].
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(نُكِتَت) بنون مضمومة وكاف مكسورة ومثناة فوقية مفتوحة
(في قلبه) لأن القلب كالكف يقبض منه بكل ذنب أصبع ثم يطبع عليه
(نكتة) أي أثر قليل كنقطة
(سوداء) في صقيل كمرآة وسيف وأصل النكتة نقطة بياض في سواد وعكسه قال الحرالي: وفي إشعاره إعلام بأن الجزاء لا يتأخر عن الذنب وإنما يخفى لوقوعه في الباطن وتأخره عن معرفة ظهوره في الظاهر
(فإن هو نزع) أي قلع عنه وتركه
(واستغفر اللّه وتاب) إليه توبة صحيحة ونص على الإقلاع والاستغفار مع دخولهما في مسمى التوبة إذ هما من أركانهما اهتماماً بشأنهما
(صقل قلبه) أي رفع اللّه تلك النكتة فينجلي بنوره كشمس خرجت عن كسوفها فتجلت (وإن عاد) إلى ذلك الذنب أو غيره
(زيد) بالبناء للمفعول
(فيها) نكتة أخرى وهكذا(8/814)
(حتى تعلو على قلبه) أي تغطيه وتغمره وتستر سائره كمرآة علاها الصدأ فستر سائرها وتصير كمنخل وغربال لا يعي خيراً ولا يثبت فيه خير ومن ثم قال بعض السلف المعاصي بريد الكفر أي رسوله باعتبار أنها إذا أورثت القلب هذا السواد وعمته يصير لا يقبل خيراً قط فيقسو ويخرج منه كل رأفة ورحمة وخوف فيرتكب ما شاء ويفعل ما أراد ويتخذ الشيطان ولياً من دون اللّه فيضله ويغويه ويعده ويمنيه ولا يقنع منه بدون الكفر ما وجد إليه سبيلاً {ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون اللّه فقد خسر خسراناً مبيناً}
(رهو الران) أي الطبع
(الذي ذكره اللّه) تعالى في كتابه بقوله عز قائلاً
(كلا بل ران) أي غلب واستولى
(على قلوبهم) الصدأ والدنس(8/815)
(ما كانوا يكسبون) من الذنوب قال القاضي: المعنى بالقصد الأول في التكليف بالعمل الظاهر والأمر بتحسينه والنهي عن قبيحه هو ما تكتسب النفس منه من الأخلاق الفاضلة والهيئات الذميمة فمن أذنب ذنباً أثر ذلك في نفسه وأورث لها كدورة فإن تحقق قبحه وتاب عنه زال الأثر وصارت النفس صقيلة صافية وإن انهمك وأصر زاد الأثر وفشي في النفس واستعلى عليها فصار طبعاً وهو الران، وأدخل التعريف على الفعل لما قصد به حكاية اللفظ فأجرى مجرى النفس وشبه ثائر النفس باقتراف الذنوب بالنكتة السوداء من حيث كونهما يضادان الجلاء والصفاء وأنث الضمير الذي في كانت العائد لما دل عليه أذنب لتأنيثها على تأول السيئة. إلى هنا كلامه، قال الطيبي: وروي نكتة بالرفع على أن كان تامة فلا بد من الراجع أي حدث نكتة منه أي من الذنب قال المظهري: وهذه الآية نازلة في حق الكفار لكن ذكرها في الحديث تخويفاً للمؤمنين ليحترزوا عن كثرة الذنوب لأن المؤمن لا يكفر بكثرتها لكن يسود قلبه بها فيشبه الكفار في اسوداده فقط وقال الحكيم: الجوارح مع القلب كالسواقي تصب في بركة وهي توصل إلى القلب ما يجري فيها فإن أجري فيها ماء الطاعة وصل إلى القلب فصفا، [ص 372] أو ماء المعصية كدر وأسود فلا يسلم القلب إلا بكف الجوارح وأعظمها غض البصر عما حرم وقال الغزالي: القلب كالمرآة ومنه الآثار المذمومة كدخان مظلم يتصاعد إلى مرآة القلب فلا يزال يتراكم عليه مرة بعد أخرى حتى يسود ويظلم ويصير محجوباً عن اللّه تعالى وهو الطبع والرين ومهما تراكمت الذنوب طبع على القلب وعند ذلك يعمى عن إدراك الحق وصلاح الدين ويستهين بالآخرة ويستعظم أمر الدنيا ويهتم بها وإذا قرع سمعه أمر الآخرة وأخطارها دخل من أذن وخرج من أخرى ولم يستقر في القلب ولم يحركه إلى التوبة {أولئك يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور} (تنبيه) قيل لحكيم: لم لا تعظ فلاناً قال ذاك على قلبه قفل ضاع مفتاحه فلا سبيل لمعالجة فتحه
(فائدة) قال حجة الإسلام: لا يذنب العبد ذنباً إلا ويسود وجه قلبه فإن كان من السعداء ظهر السواد على ظاهره لينزجر وإلا أخفى عنه لينهمك ويستوجب النار. أهـ
[*] (أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى عن عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول الرين أيسر من الطبع والطبع أيسر من الأقفال والأقفال أشد من ذلك.
مسألة: ما هي أنفع الأدوية في ترقيق القلب؟(8/816)
[*] (أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى عن المعلى بن زياد قال: قال رجل للحسن يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي قال أذبه من الذكر وقد روى أن رجلا سأل عائشة ما دواء قسوة القلب فأمرته بعيادة المرضى وتشييع الجنائز وتوقع الموت وشكا ذلك رجل إلى مالك بن دينار فقال أدمن الصيام فإن وجدت قسوة فأطل القيام فإن وجدت قسوة فأقل الطعام وسئل ابن المبارك ما دواء القلب فقال قلة الملاقاة.
(ذكر الواعظ من القلب:
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعن جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعند رأس الصراط يقول استقيموا على الصراط ولا تعوجوا، وفوق ذلك داع يدعو كلما هم عبد أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه ثم فسره فأخبر أن الصراط هو الإسلام وأن الأبواب المفتحة محارم الله وأن الستور المرخاة حدود الله والداعي على رأس الصراط هو القرآن والداعي من فوقه هو واعظ الله في قلب كل مؤمن.
فهلا استجبت ـ أخي المسلم ـ لواعظ الله في قلبك؟ وهلا حفظت حدود الله ومحارمه؟ وهلا انتصرت على عدو الله وعدوك، قال تعالى: إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير [فاطر:6]
[*] قال خالد بن معدان - رضي الله عنه - قال: ما من من عبد إلا وله عينان في وجهه يبصر بهما أمر الدنيا، وعينان في قلبه يبصر بهما أمر الآخرة، فإذا أراد الله بعبد خيراً، فتح عينيه اللتين في قلبه، فأبصر بهما ما وعد الله بالغيب، وإذا أراد به غير ذلك، تركه على ما فيه ثم قرأ: أم على قلوب أقفالها [محمد:24]
(أمراض القلب:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان:
فالأول مرض الشبهة والثاني مرض الشهوة.(8/817)
والصحة تحفظ بالمثل والشبه والمرض يدفع بالضد والخلاف وهو يقوى بمثل سببه ويزول بضده والصحة تحفظ بمثل سببها وتضعف أو تزول بضده، ولما كان البدن المريض يؤذيه ما لا يؤذي الصحيح: مِنْ يسير الحر والبرد والحركة ونحو ذلك فكذلك القلب إذا كان فيه مرض آذاه أدنى شيء: من الشبهة أو الشهوة حيث لا يقوى على دفعهما إذا وردا عليه والقلب الصحيح القوي يطرقه أضعاف ذلك وهو يدفعه بقوته وصحته، وبالجملة فإذا حصل للمريض مثل سبب مرضه زاد مرضه وضعفت قوته وترامى إلى التلف ما لم يتدارك ذلك بأن يحصل له ما يقوى قوته ويزيل مرضه.
(علامات مرض القلب وصحته:
(علامات مرض القلب:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان:
كل عضو من أعضاء البدن خلق لفعل خاص، به كماله في حصول ذلك الفعل منه، ومرضه أن يتعذر عليه الفعل الذي خلق له، حتى لا يصدر منه، أو يصدر مع نوع من الاضطراب، فمرض اليد: أن يتعذر عليها البطش، ومرض العين: أن يتعذر عليها النظر والرؤية، ومرض اللسان: أن يتعذر عليه النطق، ومرض البدن: أن يتعذر عليه حركته الطبيعية أو يضعف عنها، ومرض القلب: «أن يتعذر عليه ما خلق له من المعرفة بالله ومحبته والشوق إلى لقائه، والإنابة إليه، وإيثار ذلك على كل شهوته»، «فلو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربه، فكأنه لم يعرف شيئا»، ولو نال كل حظ من حظوظ الدنيا ولذاتها وشهواتها ولم يظفر بمحبة الله، والشوق إليه، والأنس به، فكأنه لم يظفر بلذة ولا نعيم ولا قرة عين.
(وقال أيضاً: وكل من عرف الله أحبه، وأخلص العبادة له ولا بد، ولم يؤثر عليه شيئا من المحبوبات، فمن آثر عليه شيئا من المحبوبات فقلبه مريض.
(وقال أيضاً: وقد يمرض القلب ويشتد مرضه، ولا يعرف به صاحبه، لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته، وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح، ولا يوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة، فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه، وتألم بجهله بالحق بحسب حياته.
وَمَا لِجُرْحٍ بَمِّيتٍ إيلامُ.
(وقال أيضاً: علامات أمراض القلوب عدولها عن الأغذية النافعة الموافقة لها إلى الأغذية الضارة، وعدولها عن دوائها النافع إلى دوائها الضار، فهنا أربعة أمور: غذاء نافع، ودواء شاف، وغذاء ضار، ودواء مهلك.
فالقلب الصحيح يؤثر النافع الشافي على الضار المؤذى، والقلب المريض بضد ذلك.(8/818)
وأنفع الأغذية غذاء الإيمان، وأنفع الأدوية دواء القرآن، وكل منهما فيه الغذاء والدواء.
(علامات صحة القلب:
إن للقلب الصحيح علامات واضحة بينة
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان:
من علامات صحته أيضا: أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة، ويحل فيها حتى يبقى كأنه من أهلها وأبنائها، جاء إلى هذه الدار غريبا يأخذ منها حاجته، ويعود إلى وطنه،
(ثم ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله الحديث الآتي:
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) قال: أخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
(ثم قال رحمه الله تعالى:
فَحَى عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنهَا مَنَازِلُكَ الأولَى وَفِيهَا المُخَيّمُ
وَلكِنَّنَا سَبْىُ العَدُوِّ، فَهَلْ تَرَى نَعُودُ إلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلَّمُ؟
[*] (أورد ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه التبصرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان اتباع الهوى وطول الأمل فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق وأما طول الأمل فينسي الآخرة ألا وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة ألا وإن الدنيا قد ولت مدبرة ولكل واحدة منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل.
«وكلما صح القلب من مرضه ترحل إلى الآخرة وقرب منها حتى يصير من أهلها»، وكلما مرض القلب واعتل آثر الدنيا واستوطنها، حتى يصير من أهلها.(8/819)
(ومن علامات صحة القلب أنه لا يزال يضرب على صاحبه حتى ينيب إلى الله ويخبت إليه، ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه، الذي لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه والأنس به، فبه يطمئن، وإليه يسكن، وإليه يأوي، وبه يفرح، وعليه يتوكل، وبه يثق، وإياه يرجو، وله يخاف. فذكره قوته وغذاؤه ومحبته، والشوق إليه حياته ونعيمه ولذته وسروره، والالتفات إلى غيره والتعلق بسواه داؤه، والرجوع إليه دواؤه، فإذا حصل له ربه سكن إليه واطمأن به وزال ذلك الاضطراب والقلق، وانسدت تلك الفاقة، فإن في القلب فاقة لا يسدها شيء سوى الله تعالى أبدا، وفيه شعث لا يلمه غير الإقبال عليه، وفيه مرض لا يشفيه غير الإخلاص له، وعبادته وحده، فهو دائما يضرب على صاحبه حتى يسكن ويطمئن إلى إلهه ومعبوده، فحينئذ يباشر روح الحياة، ويذوق طعمها، ويصير له حياة أخرى غير حياة الغافلين المعرضين عن هذا الأمر الذي له خلق الخلق، ولأجله خلقت الجنة والنار، وله أرسلت الرسل ونزلت الكتب، ولو لم يكن جزاء إلا نفس وجوده لكفى به جزاء وكفى بفوته حسرة وعقوبة.
قال بعض العارفين: "مساكين أهل الدنيا، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها"، وقال آخر "إنه ليمر بي أوقات أقول فيها إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب".
وقال آخر: "والله ما طابت الدنيا إلا بمحبته وطاعته، ولا الجنة إلا برؤيته ومشاهدته".
وقال أبو الحسين الوراق: "حياة القلب في ذكر الحي الذي لا يموت، والعيش الهنى الحياة مع الله تعالى لا غير".
ولهذا كان الفَوْتُ عند العارفين بالله أشد عليهم من الموت؛ لأن الفوت انقطاع عن الحق، والموت انقطاع عن الخلق، فكم بين الانقطاعين؟،.
وقال آخر: "من قرت عينه بالله تعالى قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطع قلبه على الدنيا حسرات".
وقال يحيى بن معاذ: "من سر بخدمة الله سرت الأشياء كلها بخدمته، ومن قرت عينه بالله قرت عيون كل واحد بالنظر إليه".
(ومن علامات صحة القلب: أن لا يفتر عن ذكر ربه، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره، إلا بمن يدله عليه، ويذكره به، ويذاكره بهذا الأمر.
(ومن علامات صحته: أنه إذا فاته وِرْدُه وجد لفواته ألما أعظم من تألم الحريص بفوات ماله وفقده.
(ومن علامات صحته: أنه يشتاق إلى الخدمة، كما يشتاق الجائع إلى الطعام والشرب.
(ومن علامات صحته: أن يكون همه واحدا، وأن يكون في الله.(8/820)
(ومن علامات صحته: أنه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همه وغمه بالدنيا، واشتد عليه خروجه منها، ووجد فيها راحته ونعيمه، وقرة عينه وسرور قلبه.
(ومن علامات صحته: أن يكون أشح بوقته أن يذهب ضائعا من أشد الناس شحا بماله.
(ومنها: أن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل، فيحرص على الإخلاص فيه والنصيحة والمتابعة والإحسان، ويشهد مع ذلك منة الله عليه فيه وتقصيره في حق الله.
(من أمراض القلوب:
من أمراض القلوب ما يلي:
(1) النفاق:
(2) الرياء:
(3) مرض الشبهة والشك والريبة:
(4) سوء الظن:
(5) الحسد والغيرة:
(6) الكبر والإعجاب بالنفس واحتقار الآخرين والاستهزاء بهم:
(7) الحقد والغل:
(8) اليأس:
(9) الهوى ومحبة غير الله:
(10) الخشية والخوف من غير الله:
(11) الوسواس:
(12) قسوة القلوب:
(13) التحزب لغير الحق:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(1) مرض النفاق:
وهو من أخطر هذه الأمراض، وأشدها فتكا بالإنسان، وأفظعها عاقبة في الآخرة.
ولا يتصور أحد أن النفاق قد انتهى بنهاية عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونهاية شخصياته البارزة كعبد الله بن أبي بن سلول وغيره، بل إن النفاق الآن لا يقل خطورة عنه في الماضي.
ولقد كان السلف الصالح من أشد الناس خوفا من النفاق، وهذا عمر بن الخطاب -وهو من هو صحبة وعلما وعملا وإخلاصا- يناشد حذيفة: هل عدني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المنافقين؟ فقال: لا، ولا أزكي أحدا بعدك (1).
وهذا ابن أبي مليكة -رحمه الله- وهو سيد من سادات التابعين يقول: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي، كلهم يخشى النفاق على نفسه (2).
ونحن الآن نقول: هل نجد ثلاثين يخافون النفاق على أنفسهم، ومن تأمل صفات المنافقين مما ذكره الله في كتابه في مواضع كثيرة، وما ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم أن الأمر جد خطير، خاصة ونحن نرى تساهل الناس في الاتصاف بصفاتهم، مع أمنهم من ذلك، ومن ذلك:
أن بعض الناس يتحدث عن القضاة وأخطائهم، ومثالبهم بحق وبغير حق، ويتعدى الحديث إلى أقضيتهم وأحكامهم. ثم هو يحسن للناس أحوال الغربيين وأحكامهم ومساواتهم، جاهلا أو متجاهلا ما هم فيه من شقاء وتبرم وضياع، بتركهم شرع الله وكفرهم بآياته.
__________
(1) - نسبه في كنز العمال (13/ 344) إلى رسته.
(2) - رواه البخاري تعليقا عنه (1/ 109) وقال ابن حجر: أخرجه المروزي مطولا في كتاب الإيمان، وأبو زرعة في تاريخه.(8/821)
والله -سبحانه وتعالى- يقول: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [سورة النساء، الآية: 65].
وهذا أمر أصبح حديث بعض المجالس، فالله الله من التشبه بصفات المنافقين، والسير في ركابهم، من كره الدين وبغض المتدينيين ونحو ذلك.
(2) الرياء:
وهذا مرض جد خطير لخفائه، ولأثره في إفساد العمل، وقلة من يسلم منه، داء ٌ عضال ومرض قتَّال أمره خطير وشره مستطير أشر من البرص وأضر من الجرب كالسرطان يأكل الخلايا، ومثل السوس الذي ينخر عظامهم من الداخل، وهو مسلك خطر، وموطئ زلق، غوائله لا تؤمن، وضحاياه لا تحصى، وأضراره لا يحاط بها، لأن شرطي قبول العمل المتلازمين هما الإخلاص والمتابعة، وتأمل في النصوص الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
قال تعالى: (قُلْ إِنّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَىَ إِلَيّ أَنّمَآ إِلََهُكُمْ إِلََهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ) [الكهف /110]
قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالأذَىَ كَالّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النّاسِ) [البقرة / 264]
وقال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20]
وقال تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} [الإسراء: 18]
وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]
قال تعالى: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا) [الكهف / 110](8/822)
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى: " أنا أغني الشركاء عن الشرك، ومن عمل عملاً أشرك معي فيه غيري، تركته وشِركَه ".
((حديث جندب بن عبد الله الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من سمَّع سمَّع الله به ومن يرائي يرائي الله به.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة.
((حديث جابر الثابت في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا تماروا به السفهاء و لا لتخيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار.
((حديث أبي أمامة الثابت في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وجهه.
((حديث أبي سعيد الثابت في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ ". قالوا: بلي. قال: " الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته، لما يري من نظر رجل.(8/823)
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: تعس عبد الدينار، و عبد الدرهم، و عبد الخميصة،، إن أُعطِيَ؛ رضي، وإن لم يُعط، سخط، تعس وأنتكس، وإذا شيك فلا انتقش. طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعثٌ رأسُه، مغبَّرةٌ قدماه، إن كان في الحراسة، كان في الحراسة، وإن كان في الساقة، كان في الساقة، إن أستأذن، لم يؤذن له، وأن شفع، لم يشفع "
(3) سوء الظن:
وسوء الظن بالله من أعظم أمراض القلب ولعلنا هنا نقف وقفة يسيرة حوله، للتحذير منه، وبيان خطورته.
فمن الناس من يسيء الظن بالله -تعالى-، حيث يسيء الظن بوعده، ونصره لعباده المؤمنين، ولدعاته المجاهدين.
ومن الناس من يسيء الظن بربه أن يرزقه، فتجده يثق بما في أيدي الناس أعظم من ثقته بما عند الله، ويظن أن رزقه إنما هو بيد الحكومة أو الشركة أو الناس. وتجده يضع لذلك الحسابات، ناسيا التوكل على الله والثقة به، (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) [سورة هود، الآية: 6].
وقد ذم الله -سبحانه وتعالى- من يسيئون الظن به، وجعله من أمر الجاهلية (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) [سورة آل عمران، الآية: 154].
وقال سبحانه: (وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) [سورة الفتح، الآية: 12]. (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [سورة فصلت، الآية: 23]. (وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) [سورة الأحزاب، الآية: 10]. (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ) [سورة الفتح، الآية: 6]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [سورة الحجرات، الآية: 12].
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد. ((8/824)
((حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخواناً.
وعلينا أن نحسن الظن بالله، فالله عند ظن عبده به كما في الحديثين الآتيين:
((حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملٍ خيرٌ منهم، وإن تقَّرب إليَّ شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إليَّ ذراعا تقربت إليه باعا و إن أتاني مشيا أتيته هَرْوَلَةً.
((حديث واثلة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء.
(5) الحسد والغيرة:
إن الحسد والغيرة داء ٌ عضال ومرض قتَّال أمره خطير وشره مستطير أشر من البرص وأضر من الجرب كالسرطان يأكل الخلايا، ومثل السوس الذي ينخر عظامهم من الداخل، وهو مسلك خطر، وموطئ زلق، غوائله لا تؤمن، وضحاياه لا تحصى، وأضراره لا يحاط بها، ومن منا ينجو منهما. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والحسد مرض من أمراض النفس، وهو مرض غالب، فلا يخلص منه إلا القليل من الناس، ولهذا يقال: ما خلا جسد من حسد. لكن اللئيم يبديه، والكريم يخفيه (1) ولذلك يقول الله -جل وعلا-: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) [سورة النساء، الآية: 54]. وأمرنا بالتعوذ صباح مساء (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) [سورة الفلق، الآية: 5] ..
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تحاسدوا و لا تناجشوا و لا تباغضوا و لا تدابروا و لا يبع بعضكم على بيع بعض و كونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يخْذُلُه و لا يَحْقره التقوى هاهنا - و أشار إلى صدره - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه و ماله وعرضه.
__________
(1) - انظر رسالة أمراض القلوب وشفاؤها لشيخ الإسلام.(8/825)
((حديث الزبير بن العوام الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دَبَّ إليكم داءُ الأممِ من قبلِكم: الحسدُ و البغضاء، والبُغْضةُ هي الحالقة، لا أقول حالقة الشعر ولكن حالقةَ الدين، و الذي نفس محمد بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا و لن تؤمنوا حتى تحابوا ألا أنبئكم بما يُثّبتُ ذلك أفشوا السلام بينكم.
(دب إليكم: سار إليكم.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(دَبَّ إِلَيْكُمْ) بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ سَرَى وَمَشَى بِخُفْيَةٍ (الْحَسَدُ) أَيْ فِي الْبَاطِنِ (وَالْبَغْضَاءُ) أَيِ الْعَدَاوَةُ فِي الظَّاهِرِ وَرَفْعُهُمَا عَلَى أَنَّهُمَا بَيَانٌ لِلدَّاءِ أَوْ بَدَلٌ وَسُمِّيَا دَاءً لِأَنَّهُمَا دَاءُ الْقَلْبِ (وَهِيَ) أَيِ الْبَغْضَاءُ وَهُوَ أَقْرَبُ مَبْنًى وَمَعْنًى أَوْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا (لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ) أَيْ تَقْطَعُ ظَاهِرَ الْبَدَنِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ سَهْلٌ (وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ) وَضَرَرُهُ عَظِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيِ الْبَغْضَاءُ تَذْهَبُ بِالدِّينِ كَالْمُوسَى تَذْهَبُ بِالشَّعْرِ وَضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ رَاجِعٌ إِلَى الْبَغْضَاءِ.
َلِأَنَّ الْبَغْضَاءَ أَكْثَرُ تَأْثِيرًا فِي ثُلْمَةِ الدِّينِ وَإِنْ كَانَتْ نَتِيجَةَ الْحَسَدِ (لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) كَذَا فِي النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ بِحَذْفِ النُّونِ، وَلَعَلَّ الْوَجْهَ أَنَّ النَّهْيَ قَدْ يُرَادُ بِهِ النَّفْيُ كَعَكْسِهِ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَهُ الْقَارِي (وَلَا تُؤْمِنُوا) أَيْ إِيمَانًا كَامِلًا (حَتَّى تَحَابُّوا) بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ الْفَوْقِيَّتَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ يُحِبَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا (أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ) مِنَ التَّثْبِيتِ (ذَلِكَ) أَيِ التَّحَابُبَ (أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ) أَيْ أَعْلِنُوهُ وَعُمُّوا بِهِ مَنْ عَرَفْتُمُوهُ وَغَيْرَهُ، فَإِنَّهُ يُزِيلُ الضَّغَائِنَ وَيُورِثُ التَّحَابُبَ.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:"لا يجتمع في جوف عبد الإيمان والحسد".(8/826)
يقول الحسن البصري: عمه في صدرك، فإنه لا يضرك، ما لم تعتد به يد أو لسان (1).
وأما عن علاجه، فقد ذكر شيخ الإسلام كلاما طيبا في علاجه، حيث يقول: "من وجد في نفسه حسدا لغيره، فعليه أن يستعمل معه التقوى، والصبر، فيكره ذلك من نفسه". (2).
{تنبيه}: (ولما كان الحسد لا يسلم منه أحد خاصة النساء والعوام، أحببت أن أنبه على الفرق بين الحسد والغبطة، فالحسد مذموم كما سبق-، والغبطة غير مذموم.
فالحسد: يتمنى أن تزول النعمة من صاحبه.
وأما الغبطة: فهو يحب أن يعطاها دون أن يتمنى زوالها من أخيه، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجلٌ علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جارٌ له فقال: ليتني أوتيتُ مثل ما أُوتيَ فلانٌ فعملتُ مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالاً فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيتُ مثل ما أُوتيَ فلانٌ فعملتُ مثل ما يعمل)
(4) الكبر والإعجاب بالنفس واحتقار الآخرين والاستهزاء بهم:
قال تعالى: (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ) [سورة غافر، الآية: 56].
ويقول -جل وعلا-: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) [سورة الأعراف، الآية: 146].
ويقول -جل وعلا-: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [سورة القصص، الآية: 83]. وقال -سبحانه-: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) [سورة غافر، الآية: 35]. وقال: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) [سورة النحل، الآية: 23]. وقال - سبحانه-: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) [سورة التوبة، الآية: 25].
__________
(1) - انظر رسالة أمراض القلوب وشفاؤها لشيخ الإسلام.
(2) - انظر رسالة أمراض القلوب وشفاؤها لشيخ الإسلام.(8/827)
ومن وصايا لقمان لابنه: (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) [سورة لقمان، الآية: 18]. وتزكية النفس بلاء وأي بلاء: قال -جل وعلا-: (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) [سورة النجم، الآية: 32].
وقال: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ) [سورة النساء، الآية: 49]. ونهى - سبحانه- عن السخرية فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ) [سورة الحجرات، الآية: 11]. والاستهزاء مرض مهلك: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) [سورة التوبة، الآيتان: 65 - 66]. (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ) [سورة المطففين، الآية: 29].
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تحاسدوا و لا تناجشوا و لا تباغضوا و لا تدابروا و لا يبع بعضكم على بيع بعض و كونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخْذُلُه و لا يَحْقره التقوى هاهنا - و أشار إلى صدره - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه و ماله و عرضه.
((حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمْ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الْخَبَالِ.
((حديث جندب بن عبد الله الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان! فقال الله تعالى من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان! إني قد غفرت له وأحبطتُ عملك.(8/828)
((حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمْ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الْخَبَالِ.
((حديث جندب بن عبد الله الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان! فقال الله تعالى من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان! إني قد غفرت له وأحبطتُ عملك.
((حديث حارثة بن وهب رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ جعظري مستكبر.
((حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أهل النار كل جعظري جواظ مستكبر، جماع مناع، وأهل الجنة الضعفاء المغلوبون.
(العتل): الغليظ الجافي.
(الجواظ): الذي جمع ومنع،
(المستكبر): المتعاظم في نفسه، الذي يرد الحق، ويحتقر الناس كما في الحديث الآتي:
((حديث ابن مسعود في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبر فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبُه حسنا و نعله حسنة قال: إن الله جميل يحب الجمال الكبر بَطَرُ الحقِ و غمطُ الناس.
بَطَرُ الحقِ: التكبر على الحق وعدم قبوله
غمطُ الناس: احتقارهم وازدرائهم
وقد كثر في زماننا احتقار الآخرين، والتعالي والتكبر عليهم، فتجد أحدهم يحتقر فلانا لأنه دونه في العلم، أو لأنه دونه في المرتبة أو الوظيفة، أو لأنه فقير، أو لأنه من قبيلة كذا ... وهلم جرا.
وبعض الناس يتأفف من أن ينادي من هو أقل منه درجة أو رتبة باسم الأخوة، بل يصدر إليه الأمر دون تهذيب أو حسن أسلوب، ودون مراعاة لنفسيته، كل ذلك بدعوى المحافظة على الهيبة والهيمنة.
وما روى المسكين أنه ربما أن يكون من يراه فراشا أحب عند الله وأفضل بآلاف المرات،
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد. ((8/829)
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره.
((حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك.
((حديث ثوبان رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: حَوْضِي مِنْ عَدَنَ إِلَى عَمَّانَ الْبَلْقَاءِ مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ وَأَكَاوِيبُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا أَوَّلُ النَّاسِ وُرُودًا عَلَيْهِ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ «الشُّعْثُ رُءُوسًا الدُّنْسُ ثِيَابًا» الَّذِينَ لَا يَنْكِحُونَ الْمُتَنَعِّمَاتِ وَلَا تُفْتَحُ لَهُمْ السُّدَدُ.
(ومما ينبغي التنبيه عليه أيضا قضية الاستهزاء بالصالحين، وهي قضية خطيرة.
يقول الله -تعالى-: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) [سورة التوبة، الآيتان: 65 - 66].
وكذلك الاستهزاء ببعض الشعائر كاللحية والحجاب وتقصير الثوب مما يخشى على من يستهزئ بها من الردة -والعياذ بالله- فلننتبه ولننبه إخواننا، فالأمر جد خطير.
(7) الحقد والغل:
إن الحقد والغل داء ٌ عضال ومرض قتَّال أمره خطير وشره مستطير أشر من البرص وأضر من الجرب كالسرطان يأكل الخلايا، ومثل السوس الذي ينخر عظامهم من الداخل، وهو مسلك خطر، وموطئ زلق، غوائله لا تؤمن، وضحاياه لا تحصى، وأضراره لا يحاط بها.
فمن دعاء المؤمنين التابعين بإحسان: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا) [الحشر: 10].
ويقول تعالى مخبرا عن إكرامه لأهل الجنة: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) [سورة الحجر، الآية: 47]. (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ) [سورة الأعراف، الآية: 43].(8/830)
إن المتأمل في السنة الصحيحة بعين البصيرة يعلم أن التشاحن والحقد والغل يرفع الخير ويحرم الإنسان منه والعياذ بالله،
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصوم الاثنين والخميس فقيل يا رسول الله إنك تصوم الاثنين والخميس فقال إن يوم الاثنين والخميس يغفر الله فيهما لكل مسلم إلا مهتجرين يقول دعهما حتى يصطلحا.
((حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري): أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج يخبر بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين فقال: (إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلان وفلان، فرفعت، وعسى أن يكون خيرا لكم، التمسوها في السبع والتسع والخمس).
تلاحى رجلان: أي تخاصما والملاحاة الخصومة.
وقد ذكر الأطباء أن الغل يؤدي بصاحبه في الدنيا لأثره السيء على صحة الإنسان وسلامته، وهذه هي العقوبة العاجلة والآجلة أشد وأنكى.
(8) اليأس:
وهو مرض ينشأ عند استحكام البلاء، واستبطاء نصر الله، فييأس بعض الناس من نصر الله ووعده (1) بما يؤدي عند بعضهم إلى ترك الدعوة والعمل، وأعظم من ذلك اعتقاد تخلف وعد الله أو وعيده في الدنيا أو الآخرة.
ولا نزال نسمع أن بعض الناس تخلفوا عن الطريق لاعتقادهم ـ مثلا ـ أنه في ضوء هذا الواقع المر، واستحكام أعداء الله، وقبضتهم على زمام الأمور، وسيطرتهم على الأوضاع السياسية والاقتصادية، لا يمكن أن ينتصر الإسلام أو تقوم له قائمة.
وهذه قصة أخبرني بها أحد الأصدقاء عن رجل صالح خير مارس الدعوة إلى الله، ثم تخلى عن ذلك. فجاءه محبوه، وسألوه عن ذلك، فقال: هل نستطيع أن ندعو إلى الله في غفلة عن أمريكا، وأجهزة تصنتها ومخابراتها، فهل يخفى عليها شيء، وعلى هذا فلن نستطيع عمل شيء- هكذا قال.
وقد نسي هذا المسكين أن الله (غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [سورة يوسف، الآية: 21].
__________
(1) - وتحسن الإشارة هنا إلى أن معنى قوله تعالى: (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم كذبوا جاءهم نصرنا) [يوسف: 110]، أي حتى استيأسوا من قومهم، أي يئسوا من إسلامهم وإجابة دعوتهم، وهذا تفسير عائشة- رضي الله عنها- كما في صحيح البخاري.(8/831)
وهذه قصة موسى ـ مثلا ـ تحكي في كل مرحلة من مراحل حياته أو دعوته عناية الله به وبالدعوة، وإملاء الله للظالمين، والتمكين لهذه الدعوة ولنتأمل قوله -تعالى-: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) [سورة القصص، الآية: 8]. وقوله -تعالى-: (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [سورة القصص، الآية: 13]. وقوله - عز وجل -: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) [سورة القصص، الآية: 20]. ولما قال بعض قومه (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [سورة الشعراء، الآية: 61]. قال لهم واثقا: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [سورة الشعراء، الآية: 62]. وهكذا قصص الأنبياء تبين حفظ الله لدعوته، وإملاءه للطغاة الظلمة، حتى تتمكن هذه الدعوة الربانية (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) [سورة القصص، الآية: 5].
ويعجبني أن أذكر هنا قصة مشهورة تبين نقاء النظرة، وصفاء السريرة لرجل من عامة الناس، فإن آباءنا يذكرون أنه في أثناء حصار إحدى المدن، حدث أن بدء الناس يتحدثون عن الطائرات التي قد يستخدمها العدو، ففزع بعض الناس وخافوا، ولم يكونوا رأوا الطائرات بعد، فجاء هذا الأعرابي، وسأل الناس عن هذه الطائرات؟ قالوا: شيء يأتي من فوق يرمينا بالقنابل، فقال: بفطرته السليمة - أهي فوق الله أم الله فوقها؟! فلما أجابوه بأن الله أعلى منها، قال: لا تهمكم. وما أحوجنا إلى أمثال أصحاب هذه الفطر السليمة.
وهذه قصة أخرى تتميما للفائدة، إلا إن صاحبها شاعر فاسق ماجن وهي أنه لما قام أحد رؤساء الدول العربية، وقال: إن (99%) من أوراق القضية الفلسطينية بيد أمريكا، ومعنى هذا: أن نستسلم لأمريكا، ونسلمها مقاليد الأمور، فرد عليه هذا الشاعر الفاسق قائلا:
ولتعلم أمريكا أنها ليست هي الله العزيز القدير:
ولن تمنع الطائر من أن يطير
(وصدق وهو كذوب).(8/832)
فلننتبه إلى هذا المرض، ولنستشعر قوله -تعالى-: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً) [سورة المائدة، الآية: 3].
وأخيرا فلنتأمل قوله -تعالى-: (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [سورة يوسف، الآية: 87].
(9) الهوى ومحبة غير الله:
فإنه آفة الآفات، والسم الزعاف لهذا القلب، يوم أن تكون محبة الشخص لغير الله، وموالاته ومعاداته في سبيل دنياه، وأهوائه، وأطماعه الشخصية. وهذا لا شك موصل صاحبه إلى الهلاك والبوار وتأمل معي في هذه الآيات: (1) (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى) [سورة النجم، الآية: 23] (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ) [سورة الأنعام، الآية: 71] (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً) [سورة القصص، الآية: 50] (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ) [سورة الجاثية الآية: 23] (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) [سورة محمد، الآية: 16] (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [سورة الأنعام، الآية: 119] والهوى مرض من أمراض القلب سواء أكان الهوى بمعناه العام أو الخاص.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في بيان كون الحب يعمي ويصم: " .. ولذلك قال الشاعر:
عدو لمن عادت, وسلم لأهلها: ومن قربت ليلى أحب وأقربا (2)
فهذا جعل الولاء والبراء في ليلى، وليس في الله.
وذكر شيخ الإسلام أيضا قصة رجل أحب امرأة سوداء حبا عجيبا، أخذت عليه مجامع قلبه، فيقول هذا الرجل:
أحب لحبها السودان حتى: أحب لحبها سود الكلاب
والواجب أن يكون حبنا وبغضنا، وعطاؤنا ومنعنا، وفعلنا وتركنا لله -سبحانه وتعالى- لا شريك له، ممتثلين قوله، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديثين الآتيين:
__________
(1) - دلالة هذه الآيات أعم مما ذكر فينتبه لذلك.
(2) - انظر رسالة أمراض القلوب وشفاؤها لشيخ الإسلام.(8/833)
((حديث أبي أُمامة الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أحب لله و أبغض لله و أعطى لله و منع لله فقد استكمل الإيمان.
((حديث ابن عباس الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله و المعاداة في الله و الحب في الله و البغض في الله عز و جل.
وأسوأ أنواع الحب محبة أعداء الله.
(10) الخشية والخوف من غير الله:
يقول تعالى: (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) [سورة المائدة، الآية: 44] ويقول- عز وجل-: (فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [سورة التوبة، الآية: 13].
ومن صفات الذين في قلوبهم مرض أنهم يقولون (يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ) [سورة المائدة، الآية: 52] ومن صفات الذين سلمت قلوبهم وآمنت (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [سورة آل عمران، الآية: 173].
وهناك خوف جبلي لا يقدح في المعتقد كخوف الإنسان من عدوه إنسانا أو حيوانا، أما الخشية فلا تكون إلا من الله.
وعدم الخوف دليل على قوة القلب وجسارته، كما أنه دليل على الإيمان، قال الإمام أحمد: "لو صححت لم تخف أحدا"، أي من المخلوقين.
(11) الوسواس:
إن الوسواس بلاء عمّ وطمّ وانتشر انتشار النار في الهشيم، هو داء ٌ عضال ومرض قتَّال أمره خطير وشره مستطير أشر من البرص وأضر من الجرب كالسرطان يأكل الخلايا، ومثل السوس الذي ينخر عظامهم من الداخل، وهو مسلك خطر، وموطئ زلق، غوائله لا تؤمن، وضحاياه لا تحصى، وأضراره لا يحاط بها. وصار يلعب بكثير من الناس، ويضيع عليهم فرائضهم وعباداتهم، يقول الشيخ السعدي -في جواب له عن دواء الوسواس: ليس له دواء إلا سؤال الله العافية، والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والاجتهاد في دفع الوساوس، وأن يتلهى عنها ولا يجعلها تشغل فكره، فإنه إذا تمادت فيه الوساوس اشتدت واستحكمت، وإذا حرص على دفعها والتلهي عن الذي يقع في القلب اضمحلت شيئا فشيئا، والله أعلم (1).
__________
(1) - ينصح في هذا المجال الرجوع إلى كتاب العلامة ابن القيم إغاثة اللهفان، وكذلك محاضرة: "رسالة إلى موسوس" للشيخ سلمان العودة.(8/834)
وقد أمرنا بالتعوذ منه كما في سورة الناس: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) (1) [الناس: 1 - 6].
(12) قسوة القلب:
وهو مرض تنشأ عنه أمراض، وتظهر له أعراض ولا يسلم من ذلك إلا من سلمه الله وأخذ بالأسباب: وتظهر خطورة هذا الداء من خلال هذه الآيات:
(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [سورة البقرة، الآية: 74] (وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة الأنعام، الآية: 43] (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) [الزمر: 22] (فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) [سورة الحديد، الآية: 16].
وأبعد القلوب من الله القلب القاسي.
(13) التحزب لغير الحق:
إن التحزب لغير الحق بلاء عمّ وطمّ وانتشر انتشار النار في الهشيم، هو داء ٌ عضال ومرض قتَّال أمره خطير وشره مستطير أشر من البرص وأضر من الجرب كالسرطان يأكل الخلايا، ومثل السوس الذي ينخر عظامهم من الداخل، وهو مسلك خطر، وموطئ زلق، غوائله لا تؤمن، وضحاياه لا تحصى، وأضراره لا يحاط بها، وهو مرض خطير، وداء يقتل ويهلك الأفراد والأمة على حد سواء، وهو على نوعين:
1 - التحزب لبعض المبادئ الأرضية:
كالقومية والوطنية والعلمانية وغيرها من المبادئ الضالة، وهذه قد راج سوقها وكثر، خاصة في هذه الأيام، ونحن نسمع عما يسمى (الوحدة الوطنية)، وهي الحب على أساس المواطنة، فما كان من وطنك تحبه سواء كان مسلما أو فاسقا أو كافرا، فالمهم أنه مواطن مثلك، بينما لا تحمل هذا الشعور لأخ مسلم من غير وطنك، ولو كان من أتقى الناس.
فهي موالاة ومعاداة على أساس الوطن. حتى قال أحدهم -فض الله فاه-: كل حب يذهب ويتلاشى إلا حب الوطن. يعني إلا حب التراب، حب الأرض، ملأ الله جوفه قيحا وصديدا، هكذا: كل حب يذهب حتى حب الله - عز وجل - ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا حب الوطن، فهو شرك من نوع جديد.
__________
(1) - سورة الناس آية: 1 - 6.(8/835)
وما دري هذا المسكين أننا لا نزال نقرأ في القرآن: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) (1) وقد نزلت في عم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبي لهب، ونحن نتبرأ منه ونبغضه. ونحن لا نزال نثني على بلال الحبشي وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، ونترضى عنهم، ونسأل الله أن نحشر في زمرتهم.
ولا يفهم من هذا الكلام أننا لا نحب الوطن، كلا، فهو أمر جبلي مركوز في النفس، لكن حب الوطن لا بد أن يكون خاضعا لحب الله ورسوله. وهل هاجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من وطنه وأفضل بقاع الأرض (مكة) إلا لما كان في ذلك مرضاة لله ورسوله، وهكذا المهاجرون وغيرهم.
2 - التحزب من بعض المسلمين ضد بعض:
فنجد بعض الدعاة يتحزبون ضد بعض، وبعض طلبة العلم يتحزبون ضد بعض، فيحب هذا أكثر من هذا لأن الأول من حزبه، ولو كان الثاني أتقى منه وأفضل. وهذا خطأ كبير، وهذا يحب ذاك لأنه يتبع شيخه أو إمامه، ويعادي الآخر لأنه يتبع إماما أو شيخا آخر.
فالواجب موالاة المسلمين لإيمانهم، ومعاداة الكفار لكفرهم، ولا يجوز التحزب لغير الحق، فإنه يورث الأمة التفرق والتشتت (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [سورة آل عمران، الآية: 105] وهناك فرق كبير بين التحزب وبين التنافس في الخير فالتنافس مطلوب ومحمود (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ) [سورة آل عمران، الآية: 133] (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ) [سورة الحديد، الآية: 21] أما التحزب فمذموم، وكم أودى بأمم وجماعات وأفراد. حتى صار حال بعضهم كما قال الشاعر:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت: وإن ترشد غزية أرشد
وعلاج التحزب بالتجرد لله -جل وعلا-، والسلامة من الهوى والتحري في المنهج، وأن نعرف الرجال بالحق، لا الحق، بقول الرجال.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث جابر الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب وركن في التحريش بينهم.
معنى أيس: أي يأس.
(علاج أمراض القلوب:
(علاج أمراض القلوب:
إن أساس صحة القلب وسلامته في إيمانه بالله ويتفرع عنه ما يأتي:
__________
(1) - سورة المسد آية: 1.(8/836)
أولاً كمال محبة الله: بأن يكون حبه لله، وفي الله، وأن يكون بغضه ومعاداته لله، وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية أن من أعظم وسائل علاج القلب: أن يمتلئ قلب الإنسان بحب الله، (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ) [سورة البقرة، الآية: 165] وأما وسائل محبة الله فكثيرة، منها:
قراءة القرآن وتدبره وفهم معانيه، والتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، ودوام ذكر الله على كل حال، وإيثار محابه على هوى نفسك ومحابها، ومطالعة القلب لأسماء الله وصفاته، ومشاهدتها ومعرفتها، وانكسار القلب بين يدي الله - عز وجل - وغيرها من الوسائل (1).
ثانيا: الإخلاص:
قال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [سورة الأنعام، الآيتان: 162 - 163].
أخلصوا لله - عز وجل - في أعمالكم، وستجدون راحة في صدوركم، ولذلك يقول الله - عز وجل - (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) (2).
ثالثا: حسن المتابعة:
بأن يكون عمله واعتقاده وفق ما أمر الله ورسوله. يقول الله -تعالى-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) [سورة آل عمران، الآية: 31].
ويقول - عز وجل - (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [سورة الحشر، الآية: 7].
(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [سورة الأحزاب، الآية: 36].
فلو سألنا أنفسنا: هل ننطلق في كل تصرفاتنا وأعمالنا ونياتنا وفق ما شرع الله؟
إن بعض الناس ينطلق في تصرفاته من هوى زوجته، وبعضهم من هوى رئيسه، وبعضهم أعراف قبيلته أو نظام جماعته وهكذا، ولو خالف أمر الله ورسوله.
ولو ناقشت أحدهم مرة، فقلت له: لم يا أخي تعمل هذا العمل؟ لقال: رئيسي هو الذي أمرني به، فقلت: ولكنه حرام، لأجاب: أعرف أنه حرام، ولكن ماذا أعمل؟ لو لم أفعل لما رشحني للترقية، أو لفصلني من الوظيفة أو ... الخ. فأين المتابعة لله ولرسوله من هذا الذي قدم هوى رئيسه على مرضاة ربه؟
__________
(1) - انظر مدارج السالكين (3/ 18) لابن القيم ج 1 دار النفائس.
(2) - سورة البينة آية: 5.(8/837)
إننا بحاجة إلى مراجعة أعمالنا، وتحقيق صدق المتابعة للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد.
(مفسدات القلب:
أعلم أن المعاصي كلها مفسدة للقلب وأسباب لمرضه وهلاكه، وهى منتجة لمرض القلب وإرادته غير إرادة الله عز وجل، وسبب لزيادة مرضه.
[*] قال ابن المبارك رحمه الله:
رأيت الذنوب تُميت القلوب ... وقد يورث الذل إدمانُها
وترك الذنوب حياة القلوب ... وخيرُ لنفسك عصيانُها
فمن أراد سلامة قلبه وحياته فعليه بتخليص قلبه من آثار تلك السموم، ثم بالمحافظة عليه بعدم تعاطى سموم جديدة، وإذا تناول شيئاً من ذلك خطأ سارع إلى محو أثرها بالتوبة والاستغفار، والحسنات الماحية.
وهاك مفسدات القلب جملةً وتفصيلا:
(أولاً: مفسدات القلب جملةً:
(أولاً: فضول الكلام:
(ثانياً: فضول النظر:
(ثالثاً: فضول الطعام:
(رابعاً: فضول المخالطة:
(خامساً: كثرة النوم:
(سادساً: ركوب بحر التمني:
(سابعاً: التعلق بغير الله تعالى:
(ثانياً: مفسدات القلب تفصيلا:
(أولاً: فضول الكلام:
الحمد لله الذي أحسن خلق الإنسان وعدّله، وألهمه نور الإيمان فزينه به وجملهُ وعلمه البيان فقدمه به وفضله، وأمده بلسان يترجم به عما حواه القلب وعقله، فاللسان من نعم الله العظيمة ولطائف صنعه الغريبة، فإنه صغير جرمُهُ عظيم طاعته وجُرمه، إذ لا يستبين الكفر والإيمان إلا بشهادة اللسان وهما غاية الطاعة والعصيان، ومن أطلق عذبة اللسان وأهمله مرخى العنان سلك به الشيطان في كل ميدان وساقه إلى شفا جرف هارٍ إلى أن يضطره إلى البوار، إن من أعظم الخِلال المفسدة لصحة السرائر والمُذْهِبُة لصلاح الضمائر الإكثار من الكلام، ولا يكب الناس فى النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:(8/838)
(حديث معاذ في صحيحي الترمذي وابن ماجة) قال قلت يا رسول الله أخبرني بعملٍ يُدخلني الجنة ويباعدني من النار؟ قال لقد سألتني عن عظيم و إنه ليسير على من يسره الله عليه تعبد الله لا تشرك به شيئا و تقيم الصلاة المكتوبة و تؤتي الزكاة المفروضة و تصوم رمضان و تحج البيت ; ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة و الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار و صلاة الرجل في جوف الليل ; ألا أخبرك برأس الأمر وعموده و ذروة سنامه؟ رأس الأمر الإسلام و عموده الصلاة و ذروة سنامه الجهاد ; ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ كف عليك هذا - و أشار إلى لسانه - قال: يا نبي الله! و إنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم.
والمراد بحصائد الألسنة: جزاء الكلام المحرم وعقوباته فإن الإنسان يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيئات، ثم يحصد يوم القيامة ما زرع، فمن زرع خيراً من قولٍ أو عملٍ حصد الرامة، من زرع عشراً من قول أو عمل حصد الندامة.
فمن ذلك قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق:18).
(حديث عقبة بن عامر في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قلت يا رسول الله ما النجاة؟ قال أملك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك.
(حديث أبي سعيدٍ في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا و إن اعوججت اعوججنا.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات و إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم.
(حديث سهل بن سعد في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من يضمن لي ما بين لحييه و ما بين رجليه أضمن له الجنة.
(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: تقوى الله وحسن الخلق , وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ قال الفم والفرج.(8/839)
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت.
(وهو من جوامع كلمه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فالكلام إما أن يكون خيراً فيكون العبد مأمورا بقوله، وإما أن يكون غير ذلك فيكون مأموراً بالصمت عنه.
(حديث ابن مسعود في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ليس المؤمن بالطعان و لا اللعان و لا الفاحش و لا البذيء.
[*] وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: " والله الذى لا إله إلا هو ليس شىء أحوج إلى طول سجن من لسانى ".
وكان يقول: "يا لسان قل خيراً تغنم، واسكت عن شر تسلم من قبل أن تندم ".
[*] وعن أبى الدرداء - رضي الله عنه - قال: " أنصف أذنيك من فيك وإنما جعل لك أذنان وفم واحدٌ لتسمع أكثر مما تتكلم ".
[*] وعن الحسن البصري قال: كانوا يقولون: إن لسان المؤمن وراء قلبه فإذا أراد أن يتكلم بشيء تدبره بقلبه ثم أمضاه، وإن لسان المنافق أمام قلبه، فإذا هم بشيء أمضاه بلسانه ولم يتدبره بقلبه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أحمد ابن بديل، قال: سمعت أبا عبيد يقول: دخلنا على محمد بن سوقة، قال: ألا أحدثكم بحديث لعله ينفعكم. فإنه نفعني؟ قال لنا عطاء بن أبي رباح: يا ابن أخي إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام، وكانوا يعدون فضول الكلام ما عدا كتاب الله تعالى أن يقرأ، أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر، أو تنطق في حاجتك في معيشتك التي لا بد لك منها، أتنكرون؟ قال تعالى: (وَإِنّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ) [الإنفطار 10: 11]. قال تعالى: (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ * مّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [: ق 17: 18]؟ أما يستحي أحدكم لو نشرت عليه صحيفته التي أملاها صدر نهاره أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه?.
[*] (أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن الفضيل بن عياض يقول شيئان يقسيان القلب كثرة الكلام وكثرة الأكل.
فإذا قلت: فهذا الفضل الكبير للصمت ما سببه؟(8/840)
فاعلم أن سببه كثرة آفات اللسان من الخطأ والكذب والغيبة والنميمة والفحش والمراء وتزكية النفس والخوض في الباطل والخصومة والفضول والتحريف والزيادة والنقصان وإيذاء الخلق وهتك العورات فهذه آفات كثيرة وهى سياقة إلى اللسان لا تثقل عليه ولها حلاوة في القلب وعليها بواعث من الطبع ومن الشيطان، فلذلك عظمت فضيلة الصمت، مع ما فيه من جمع الهم، ودوام الوقار والفراغ للفكر والذكر والعبادة، والسلامة من تبعات القول في الدنيا، ومن حسابه فى الآخرة فقد قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق: الآية: 18).
ولذا كان النجاة في الصمت إلا إذا ترجحت المسألة، فلا ينبغي للمسلم أن يتكلم لغير حاجة فيكون أمره دائرٌ بين أمرين إذا تكلم غنم أو سكت سلم، لأن من كثر كلامه كثر خطؤه وأن الثرثارون أبعد الناس مجلساً من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من صمت نجا.
(حديث جابر بن سمرة في صحيح الترمذي) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طويل الصمت قليل الضحك.
(حديث عائشة في صحيح مسلم) قالت كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحدِّث بحديثٍ لو عدَّه العادُّ لأحصاه.
(حديث أنس في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: رحم الله امرءاً تكلم فغنم أو سكت فسلم.
(حديث جابر في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن من أحبكم إلي و أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا و إن من أبغضكم إلي و أبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون و المتشدقون و المتفيهقون قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون.
*معنى الثرثارون: كثيري الكلام
*معنى المتشدقون: الذي يتشدَّقُ على الناس في الكلام ويبذو عليهم
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن بشار قال: اجتمعنا ذات يوم في مسجد فما منا أحد إلا تكلم، إلا إبراهيم بن أدهم فإنه ساكت، فقلت: لم لا تتكلم؟ فقال: الكلام يظهر حمق الأحمق، وعقل العاقل، فقلت: لا نتكلم إذا كان هكذا الكلام، فقال: إذا اغتممت بالسكوت فتذكر سلامتك من زلل اللسان.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم ابن أدهم، قال: كان يقال ليس شيء أشد على إبليس من العالم الحليم، إن تكلم تكلم بعلم، وإن سكت سكت بحلم.(8/841)
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال: المؤمن قليل الكلام كثير العمل، والمنافق كثير الكلام قليل العمل، كلام المؤمن حكم، وصمته تفكر، ونظره عبرة، وعمله بر، وإذا كنت كذا لم تزل في عبادة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال: لا حج ولا جهاد ولا رباط أشد من حبس اللسان، لو أصبحت يهمك لسانك أصبحت في غم شديد، وسجن اللسان سجن المؤمن، وليس أحد أشد غما ممن سجن لسانه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضيل بن عياض قال: خصلتان تقسيان القلب كثرة الكلام وكثرة الأكل.
(ثانياً: فضول النظر:
فضول النظر: هو إطلاقه بالنظر إلى الشيء بملء العين، والنظر إلى ما لا يحل النظر إليه وهو على العكس من غض البصر.
والغض: هو النقص وقد أمر الله عز وجل به فقال: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} (النور: الآية: 30 –وجزء من 31).
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كُتب على ابن آدم نصيبه من الزنا، فهو مدرك ذلك لا محالة فالعينان زناهما النظر و الأذنان زناهما الاستماع و اللسان زناه الكلام و اليد زناها البطش و الرجل زناها الخطا و القلب يهوى و يتمنى و يصدق ذلك الفرج أو يكذبه.
(حديث جرير بن عبد الله البجلي في صحيح مسلم) قال: سألت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري.
(حديث بُريدة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعلي يا علي لا تتبع النظرةَ النظرة فإن لك الأولى وليس لك الآخرة.
وفضول النظر يدعو إلى الاستحسان، ووقوع صور المنظور فى قلب الناظر، فيحدث أنواعاً من الفساد فى قلب العبد منها ما يلي:
منها: أن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن غضّ بصره لله أورثه حلاوة يجدها فى قلبه إلى يوم يلقاه.
ومنها: دخول الشيطان مع النظرة، فإنه ينفذ معها أسرع من نفوذ الهواء في المكان الخالي، ليزين صورة المنظور، ويجعلها صنماً يعكف عليه القلب ُ، ثم يعده ويمنيه، ويوقد على القلب نار الشهوات ويلقى حطب المعاصي التي لم يكن يتوصل إليها بدون تلك الصورة.(8/842)
ومنها: أنه يشغل القلب، وينسيه مصالحه، ويحول بينه وبينها، فينفرط عليه أمره، ويقع في اتباع الهوى والغفلة.
قال الله تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (الكهف: من الآية: 28)
(وإطلاق البصر يوجب هذه الأمور الثلاثة:
وقال أطباء القلوب: بين العين والقلب منفذ وطريق، فإذا خربت العين وفسدت خرب القلب وفسد وصار كالمزبلة التى هى محل النجاسات والقاذورات والأوساخ، فلا يصلح لسكن معرفة الله ومحبته، والإنابة إليه، والأنس به، والسرور بقربه، وإنما يسكن فيه أضداد ذلك.
وإطلاق البصر معصية لله عز وجل لقوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (النور: الآية: 30)
وما سعد من سعد فى الدنيا إلا بامتثال أمر الله، ولا نجاة للعبد فى الآخرة إلا بامتثال أوامر الله عز وجلَ.
وإطلاق البصر كذلك يُلبس القلب ظلمة، كما أن غضّ البصر لله عزّ وجلَ يُلبسه نوراً.
وقد ذكر الله عزّ وجل آية النور: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فيهَا مِصبَاحٌ} (النور: من الآية: 35)، بعد قوله عز وجل: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ..... } (النور: من الآية: 30)
وإذا استنار القلب، أقبلت وفود الخيرات إليه من كل ناحية، كما أنه إذا أظلم، أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان.
وإطلاق البصر كذلك يعمى القلب عن التمييز بين الحق والباطل، والسنة والبدعة، وغضهُ لله عزّ وجل يورثه فراسة صادقة يميز بها.
[*] قال أحد الصالحين: " من عمّر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكفّ نفسه عن الشبهات، واغتذى بالحلال لم تخطيء له فراسة ".
والجزاء من جنس العمل، فمن غضّ بصره عن محارم الله أطلق الله نور بصيرته.
(ثالثاً: فضول الطعام:
قلة الطعام توجب رقة القلب، وقوة الفهم، وانكسار النفس، وضعف الهوى والغضب، وكثرة الطعام توجد ضد ذلك.
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد. ((8/843)
(حديث مِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مَا مَلأَ آدَمِىٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لاَ مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ»
(حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قَالَ تَجَشَّأَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِىِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ «كُفَّ عَنَّا جُشَاءَكَ فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ شِبَعاً فِى الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ جُوعاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
(حديث معاذ رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إياك والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين.
(حديث فاطمة الزهراء رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم الذين يأكلون ألوان الطعام و يلبسون ألوان الثياب و يتشدقون في الكلام.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن رجلاً كان يأكل أكلاً كثيراً، فأسلم، فكان يأكل أكلاً قليلاً، فذُكر ذلك للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: (إن المؤمن يأكل في مِعًى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء.
(حديث مِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مَا مَلأَ آدَمِىٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لاَ مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِه ِوَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ»
(وفضول الطعام داع إلى أنواع كثيرة من الشر، فإنه يحرك الجوارح إلى المعاصي، ويثقلها عن الطاعات والعبادات، وحسبك بهذين شراً، فكم من معصية جلبها الشبعُ وفضولُ الطعام، وكم من طاعة حال دونها، فمن وقى شرّ بطنه فقد وقى شراً عظيماً، والشيطان أعظم ما يتحكم في الإنسان إذا ملأ بطنه من الطعام،
(ولهذا جاء في بعض الآثار: إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة.
[*] وقال بعض السلف: كان شباب يتعبدون من بنى إسرائيل، فإذا كان فطرهم قام عليهم قائم فقال: " لا تأكلوا كثيراً، فتشربوا كثيراً، فتناموا كثيراً فتخسروا كثيراً ".(8/844)
[*] (أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن الفضيل بن عياض يقول شيئان يقسيان القلب كثرة الكلام وكثرة الأكل.
(ولله درُ من قال:
يا طالب العلم باشر الورعا ... وباين النوم واهجر الشبعا
ما ضر عبدا صحت إرادته ... أجاع يوما في الله أو شبعا
{تنبيه}: (وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه يجوعون كثيراً- وإن كان ذلك لعدم وجود الطعام – إلا أن الله لا يختار لرسوله إلا أكمل الأحوال وأفضلها، ولهذا كان ابن عمر يتشبه به في ذلك مع قدرته على الطعام، وكذلك كان أبوه من قبله.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) قالت: " ما شبع آل محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منذ قدم المدينة من خبز بُرٍ ثلاث ليال تباعاً حتى قبض ".
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا.
قوتاً: أي شيءٌ يسدُ الرمق.
[*] قال الإمام ابن حجر في الفتح:
قوتاً: أي اكفهم من القوت بما لا يرهقهم الى ذل المسألة ولا يكون فيه فضول تبعث على الترفه والتبسط في الدنيا وفيه حجة لمن فضل الكفاف لأنه إنما يدعو لنفسه وآله بأفضل الأحوال.
(وكان يربط الحجر على بطنه من الجوع:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يربط الحجر على بطنه من الغرث.
الغرث: الجوع
، ويمر على أهله الهلال ثم الهلال ثم الهلال لا يوقد في بيتهم النار، طعامهم الأسودان: التمر والماء
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) أنها قالت لعروة: ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نار. فقلت: يا خالة، ما كان يُعَيِّشُكُم؟ قالت: الأسودان التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جيران من الأنصار، كانت لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ألبانهم فيسقينا.
[*] قال الإمام ابن حجر في الفتح:
إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين: المراد بالهلال الثالث هلال الشهر الثالث وهو يرى عند انقضاء الشهرين وبرؤيته يدخل أول الشهر الثالث.
وما أوقدت في أبيات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نار: لا يوقد في شيء من بيوته نار لا لخبز ولا لطبخ.
ما كان يُعَيِّشُكُم؟ بضم أوله يقال أعاشه الله أي أعطاه العيش.(8/845)
الأسودان التمر والماء: قال الصغاني الاسودان يطلق على التمر والماء والسواد للتمر دون الماء فنعتا بنعت واحد تغليبا وإذا اقترن الشيئان سميا باسم أشهرهما.
منائح: جمع منيحة بنون وحاء مهملة
وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عن الشبع كما في الأحاديث الآتية:
(حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قَالَ تَجَشَّأَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِىِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ «كُفَّ عَنَّا جُشَاءَكَ فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ شِبَعاً فِى الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ جُوعاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
(حديث معاذ رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إياك والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن رجلاً كان يأكل أكلاً كثيراً، فأسلم، فكان يأكل أكلاً قليلاً، فذُكر ذلك للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: (إن المؤمن يأكل في مِعًى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء).
[*] قال إبراهيم بن أدهم: " من ضبط بطنه ضبط دينه، ومن ملك جوعه ملك الأخلاق الصالحة، وإن معصية الله بعيدة من الجائع قريبة من الشبعان ".
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مكحول، قال: أفضل العبادة بعد الفرائض الجوع والظمأ، قال بكر: وكان يقال: الجائع الظمآن أفهم للموعظة، وقلبه إلى الرقة أسرع، وكان يقال: كثرة الطعام تدفع كثيرا من الخير.
[*] (أورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عن ثابت البناني قال: «بلغنا أن إبليس ظهر ليحيى بن زكريا، فرأى عليه معاليق من كل شيء، فقال: ما هذه التي أراها عليك؟ قال: هذه الشهوات، أصيد بها بني آدم. قال له: لي فيها شيء؟ قال: لا. قال: فهل تصيب مني من شيء؟ قال: ربما شبعت فثقلت عن الصلاة والذكر. قال: غير هذا؟ قال: لا. قال: لا جرم لا أشبع أبدا»
لا جرم: هذه كلمة تَرِد بمعْنى تَحْقِيق الشَّيء. وقد اخْتُلف في تقديرها، فقِيل: أصْلُها التَّبْرِئة بمعنى لا بُدَّ، ثم اسْتُعْمِلت في معْنى حَقًّا. وقيل جَرَم بمعْنى كسَبَ. وقيل بمعْنى وجَبَ وحُقَّ.
(رابعاً: فضول المخالطة:(8/846)
هي الداء العضال الجالب لكل شر، وكم سَلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة، وكم زرعت من عداوة، وكم غرست في القلب من حزازات تزول الجبال الراسياتُ وهى في القلوب لا تزول، ففي فضول المخالطة خسارة الدنيا والآخرة، وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بقدر الحاجة، ويجعل الناس فيها أربعة أقسام متى خلط أحد الأقسام بالآخر ولم يميز بينها دخل عليه الشر:
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال: إذا خالطت فخالط حسن الخلق فإنه لا يدعو إلا إلى خير، وصاحبه منه في راحة، ولا تخالط سيىء الخلق فإنه لا يدعو إلا إلى شر وصاحبه منه في عناء.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يونس بن عبد الأعلى الصدفي، يقول: سمعت الشافعي يقول: يا يونس الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة، والانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء، فكن بين المنقبض والمنبسط.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شقيق البلخي قال: اصحب الناس كما تصحب النار، خذ منفعتها واحذر أن تحرقك.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الشافعي قال:
ليت الكلاب لنا كانت مجاورة ... وليتنا لا نرى مما نرى أحدا
إن الكلاب لتهدأ في مواطنها ... والناس ليس بهاد شرهم أبدا
فاهرب بنفسك واستأنس بوحدتها ... تبقى سعيداً إذا ما كنت منفردا
احدهما: مَن مخالطته كالغذاء لا يستغني عنه في اليوم والليلة فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة، ثم إذا احتاج إليه خالطه، هكذا على الدوام، هُم العلماء بالله وأمره ومكايد عدوه، وأمراض القلوب وأدويتها الناصحون لله ولكتابه ولرسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولخلقه فهذا الضرب في مخالطتهم الربح كلّ الربح.
القسم الثاني: مَن مخالطته كالدواء، يحتاج إليه عند المرض، فما دُمتَ صحيحاً فلا حاجة لك في خلطته، وهم من لا يستغنى عن مخالطتهم في مصلحة المعاش وما أنت تحتاج إليه من أنواع المعاملات والاستشارة ونحوها، فإذا قضت حاجتك من مخالطة هذا الضرب بقيت مخالطتهم من:(8/847)
القسم الثالث: وهم مَنْ مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه، فمنهم من مخالطته كالداء العضال والمرض المزمن، وهو من لا تربح عليه دين ولا دنيا، ومع ذلك فلا بد أن تخسر عليه الدين والدنيا أو أحدهما، فهذا إذا تمكنت منك مخالطته واتصلت فهى مرضُ الموت المخوف، ومنهم الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك، ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك، ولا يعرف نفسه فيضعها فى منزلتها، بل إذا تكلم فكلامه كالعصا تنزل على قلوب السامعين مع إعجابه بكلامه وفرحه به، فهو يُحدث من فيه كلما تحدث ويظن أنه مسك يطيب به المجلس، وإذا سكت فأثقل من نصف الرحا العظيمة التي لا يطاق حملها ولا جرها على الأرض.
وبالجملة فمخالطة كل مخالف حمى للروح فعرضية ولازمة، ومن نكد الدنيا على العبد أن يبتلى بواحد من هذا الضرب وليس له بد من معاشرته، فليعاشره بالمعروف ويعطيه ظاهره ويبخل عليه بباطنه حتى يجعل الله له من أمره فرَجاً، ومخرجاً.
القسم الرابع: من مخالطته الهلاك كله، فهي بمنزلة أكل السم، فإذا اتفق لآكله ترياق وإلا فأحسن الله العزاء، وما أكثر هذا الضرب في الناس – لا كثَّرهم الله – وهم أهل البدع والضلالة، الصادون عن سنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الداعون إلى خلافها، فيجعلون السنة بدعة والبدعة سنة، وهذا الضرب لا ينبغي للعاقل أن يجالسهم أو يخالطهم، وإن فعل فإما الموت لقلبه أو المرض.
نسأل الله لنا ولهم العافية والرحمة.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان بن عيينة: رأيت الثوري في المنام فقلت: أوصني، قال: أقلل من مخالطة الناس، قلت: زدني، قال: سترد فتعلم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم قال: حب لقاء الناس من حب الدنيا، وتركهم من ترك الدنيا.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سهل بن هاشم، قال: قال لنا إبراهيم ابن أدهم: أقلوا من الإخوان والأخلاء.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شقيق البلخي قال: اصحب الناس كما تصحب النار، خذ منفعتها واحذر أن تحرقك.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال: إني لأسمع صوت حلقة الباب فأكره ذلك قريباً كان أم بعيداً، ولوددت أنه طار في الناس أني قدمت حتى لا أسمع له بذكر، ولا يسمع لي بذكر، وإني لأسمع صوت أصحاب الحديث فيأخذني البول فرقاً منهم.(8/848)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله الحذاء يقول: وقفنا للفضيل بن عياض على باب المسجد الحرام ونحن شبان علينا الصوف، فخرج علينا، فلما رآنا، قال: وددت أني لم أركم و لم تروني، أتروني سلمت منكم أن أكون ترسا لكم حيث رأيتكم وتراءيتم لي، لأن أحلف عشراً إني مرائي وإني مخادع أحب إلي من أن أحلف واحدة أنى لست كذلك.
(الآثار السيئة لكثرة الخلطة:
إن امتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم حتى يسود، ويوجب له تشتتا وتفرقا وهما وغما، وضعفا، وحملا لما يعجز عن حمله من مؤنة قرناء السوء، وإضاعة مصالحه، والاشتغال عنها بهم وبأمورهم، وتقسم فكره في أودية مطالبهم وإراداتهم. فماذا يبقى منه لله والدار الآخرة؟
هذا، وكم جلبت خلطة الناس من نقمة، ودفعت من نعمة، وأنزلت من محنة، وعطلت من منحة، وأحلت من رزية، وأوقعت في بلية. وهل آفة الناس إلا الناس؟
وهذه الخلطة التي تكون على نوع مودة في الدنيا، وقضاء وطر بعضهم من بعض، تنقلب إذا حقت الحقائق عداوة، ويعض المخلط عليها يديه ندما، كما قال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي [الفرقان:27 - 29] وقال تعالى: الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]، وقال خليله إبراهيم لقومه: إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ [العنكبوت:25]، وهذا شأن كل مشتركين في غرضك يتوادون ما داموا متساعدين على حصوله، فإذا انقطع ذلك الغرض، أعقب ندامة وحزناً وألماً وانقلبت تلك المودة بغضاً ولعنة، وذماً من بعضهم لبعض.
(الضابط النافع في أمر الخلطة:
أن يخالط الناس في الخير كالجمعة والجماعة، والأعياد والحج، وتعلم العلم، والجهاد، والنصيحة، ويعتزلهم في الشر وفضول المباحات.(8/849)
فإن دعت الحاجة إلى خلطتهم في الشر، ولم يمكنه اعتزالهم: فالحذر الحذر أن يوافقهم، وليصبر على أذاهم، فإنهم لابد أن يؤذوه إن لم يكن له قوة ولا ناصر. ولكن أذى يعقبه عز ومحبة له، وتعظيم وثناء عليه منهم، ومن المؤمنين، ومن رب العالمين، وموافقتهم يعقبها ذل وبغض له، ومقت، وذم منهم، ومن المؤمنين، ومن رب العالمين. فالصبر على أذاهم خير وأحسن عاقبة، وأحمد ما لا.
وان دعت الحاجة إلى خلطتهم في فضول المباحات، فليجتهد أن يقلب ذلك المجلس طاعة لله إن أمكنه.
(خامساً: كثرة النوم:
كثرة النوم تميت القلب، ويثقل البدن، ويضيع الوقت، ويورث كثرة الغفلة والكسل. ومنه المكروه جدا، ومنه الضار غير النافع للبدن.
(وأنفع النوم: ما كان عند شدة الحاجة إليه، ونوم أول الليل أحمد وأنفع من آخره، ونوم وسط النهار أنفع من طرفيه. وكلما قرب النوم من الطرفين قل نفعه، وكثر ضرره، ولاسيما نوم العصر. والنوم أول النهار إلا لسهران.
(ومن المكروه عندهم: النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس؟ فإنه وقت غنيمة، وللسير ذلك الوقت عند السالكين مزية عظيمة حتى لو ساروا طول ليلهم لم يسمحوا بالقعود عن السير ذلك الوقت حتى تطلع الشمس، فإنه أول النهار ومفتاحه، ووقت نزول الأرزاق، وحصول القسم، وحلول البركة. ومنه ينشأ النهار، وينسحب حكم جميعه علي حكم تلك الحصة. فينبغي أن يكون نومها كنوم المضطر.
(بالجملة فأعدل النوم وأنفعه: نوم نصف الليل الأول، وسدسه الأخير، وهو مقدار ثماني ساعات. وهذا أعدل النوم عند الأطباء، وما زاد عليه أو نقص منه أثر عندهم في الطبيعة انحرافا بحسبه.
(ومن النوم الذي لا ينفع أيضا: النوم أول الليل، عقيب غروب الشمس حتى تذهب فحمة العشاء. وكان رسول الله يكرهه. فهو مكروه شرعا وطبعا. والله المستعان، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكره النوم قبل العشاء، والحديث بعدها.
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح:
هذه الكراهة مخصوصة بما إذا لم يكن في أمر مطلوب وقيل الحكمة فيه لئلا يكون سببا في ترك قيام الليل أو للاستغراق في الحديث ثم يستغرق في النوم فيخرج وقت الصبح.
(سادساً: ركوب بحر التمني:(8/850)
وهو بحر لا ساحل له. وهو البحر الذي يركبه مفاليس العالم، كما قيل: إن المنى رأس أموال المفاليس. فلا تزال أمواج الأماني الكاذبة، والخيالات الباطلة، تتلاعب براكبه كما تتلاعب الكلاب بالجيفة، وهي بضاعة كل نفس مهينة خسيسة سفلية، ليست لها همة تنال بها الحقائق الخارجية، بل اعتاضت عنها بالأماني الذهنية. وكل بحسب حاله: من متمن للقدوة والسلطان، وللضرب في الأرض والتطواف في البلدان، أو للأموال والأثمان، أو للنسوان والمردان، فيمثل المتمني صورة مطلوبة في نفسه وقد فاز بوصولها والتذ بالظفر بها، فبينا هو على هذا الحال، إذ استيقظ فإذا يده والحصير!!
وصاحب الهمة العلية أمانيه حائمة حول العلم والإيمان، والعمل الذي يقربه إلى الله، ويدنيه من جواره. فأماني هذا إيمان ونور وحكمة، وأماني أولئك خداع وغرور.
وقد مدح النبي متمني الخير، وربما جعل أجره في بعض الأشياء كأجر فاعله، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي كبشة الأنماري الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَحسنِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْماً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الأجرِ سَوَاءٌ، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً فَهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ لاَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلاَ يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فهو بِأَسوءِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلاَ عِلْماً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الوزر سَوَاءٌ.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ) أَيْ إِنَّمَا حَالُ أَهْلِهَا حَالٌ أَرْبَعَةٌ:
(عَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا) مِنْ جِهَةِ حِلٍّ
(وَعِلْمًا) أَيْ شَرْعِيًّا نَافِعًا(8/851)
(فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ) أَيْ فِي الْإِنْفَاقِ مِنَ الْمَالِ وَالْعِلْمِ
(وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ) أَيْ بِالصِّلَةِ مِنَ الْمَالِ وَبِالْإِسْعَافِ بِجَاهِ الْعِلْمِ
(وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا) مِنْ وَقْفٍ وَإِقْرَاءٍ وَإِفْتَاءٍ وَتَدْرِيسٍ
(فَهَذَا) أَيِ الْعَبْدُ الْمَوْصُوفُ بِمَا ذَكَرَ
(بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ) أَيْ بِأَفْضَلِ الدَّرَجَاتِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى
(وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا) أَيْ شَرْعِيًّا نَافِعًا
(وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا) يُنْفِقُ مِنْهُ فِي وُجُوهِ الْقُرْبِ
(فَهُوَ يَقُولُ) فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ
(بِعَمَلِ فُلَانٍ) أَيِ الَّذِي لَهُ مَالٌ يُنْفِقُ مِنْهُ فِي الْبِرِّ
(فَهُوَ بِنِيَّتِهِ) أَيْ يُؤْجَرُ عَلَى حَسَبِهَا
(وهما في الأجرِ سَوَاءٌ) أَيْ فَأَجْرُ مَنْ عَقَدَ عَزْمَهُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ أَنْفَقَ مِنْهُ فِي الْخَيْرِ, وَأَجْرُ مَنْ لَهُ مَالٌ يُنْفِقُ مِنْهُ سَوَاءٌ وَيَكُونُ أَجْرُ الْعِلْمِ زِيَادَةً لَهُ (يَخْبِطُ فِي مَالِهِ) بِكَسْرِ الْبَاءِ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَيْ يَصْرِفُهُ فِي شَهَوَاتِ نَفْسِهِ
(لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ) أَيْ لِعَدَمِ عِلْمِهِ فِي أَخْذِهِ وَصَرْفِهِ
(وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ) أَيْ لِقِلَّةِ رَحْمَتِهِ وَعَدَمِ حِلْمِهِ وَكَثْرَةِ حِرْصِهِ وَبُخْلِهِ
(وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا) وَفِي الْمِشْكَاةِ: وَلَا يَعْمَلُ فِيهِ بِحَقٍّ، قَالَ الْقَارِي رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْ بِنَوْعٍ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاللَّهِ وَبِعِبَادِهِ
(فَهُوَ بِأَسوءِ الْمَنَازِلِ) عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ أَخَسِّهَا وَأَحْقَرِهَا
(لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ) أَيْ مِنْ أَهْلِ الشَّرِّ
(فَهُوَ بِنِيَّتِهِ) أَيْ فَهُوَ مُجْزَى بِنِيَّتِهِ. أهـ
(وهما في الوزر سَوَاءٌ)
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
أي من رزق مالاً فأنفق منه في وجوه القرب ومن علم اللّه منه أنه لو كان له مال لعمل فيه ذلك العمل فيكونان بمنزلة واحدة في الآخرة لا يفضل أحدهما على صاحبه من هذه الجهة.
(سابعاً: التعلق بغير الله تعالى:
وهذا أعظم مفسدات القلب على الإطلاق.(8/852)
فليس عليه أضر من ذلك، ولا أقطع له عن مصالحه وسعادته منه، فإنه إذا تعلق بغير الله وكله الله إلى ما تعلق به. وخذله من جهة ما تعلق به، وفاته تحصيل مقصوده من الله عز وجل بتعلقه بغيره، والتفاته إلى سواه. فلا على نصيبه من الله حصل، ولا إلى ما أمله ممن تعلق به وصل. قال الله تعالى: وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً [مريم:82،81]، وقال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ [يس:75،74]
فأعظم الناس خذلانا من تعلق بغير الله. فإن ما فاته من مصالحه وسعادته وفلاحه أعظم مما حصل له ممن تعلق به، وهو معرض للزوال والفوات. ومثل المتعلق بغير الله: كمثل المستظل من الحر والبرد ببيت العنكبوت، أوهن البيوت.
(حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ أَبِي مَعْبَدِ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا) أَيْ مَنْ عَلَّقَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِنَ التَّعَاوِيذِ وَالتَّمَائِمِ وَأَشْبَاهِهَا مُعْتَقِدًا أَنَّهَا تَجْلُبُ إِلَيْهِ نَفْعًا أَوْ تَدْفَعُ عَنْهُ ضَرًّا حكمه، قَالَهُ فِي النِّهَايَةِ
(وُكِلَ إِلَيْهِ) بِضَمِّ وَاوٍ وَتَخْفِيفِ كَافٍ مَكْسُورَةٍ أَيْ خُلِّيَ إِلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ وَتُرِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَالْحَدِيثُ اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ بِكَرَاهِيَةِ تَعْلِيقِ التَّمَائِمِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ.
مسألة: ما حكم من تعلق تميمةً لرفع البلاءِ أو دفعه؟
المسألة على التفصيلِ الآتي:
1) إن اعتقد أن التميمةَ تؤثر بنفسها دون الله تعالى وأنها تملك الضرَ والنفع فقد أشرك شركاً أكبر لأنه لا يملكُ الضر والنفع إلا الله تعالى
2) وإن اعتقد أن التميمةَ لا تؤثر بنفسها ولكنها سبب فقد أشرك شركاً أصغر لأنه حكم على كونها سبب في حين أن الله تعالى لم يقلْ أنها سبب، فهو بذلك جعل نفسه شركاً مع الله في الحكم على أنها سبب(8/853)
(حديثُ عقبة ابن عمر في السلسلةِ الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من تعلَّق تميمةً فقد أشرك.
[*] قال الشيخُ حافظ الحكمي:
ومنْ يثقْ بِودْعَةٍ أو نابِ ... أو حلْقَةٍ أو أعينِ الذئاب
أو خيطٍ أو عضوٍ من النسورِ ... : أو وتَرٍ أو تُرْبَةِ القبور
لأي أمرٍ كائنٍ تعلَّقه ... وكَلَه الله إلى ما علَّقه
مسألة: ما هي التميمة
التميمةُ: خرزةٌ كان العربُ يُعَلِقُونها لدفعِ البلاءِ فأبطل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعلهم وجعله شركاً.
مسألة: ما حكم تعليقِ التميمةِ إن كانت من القرآن؟
(للسلفِ في هذه المسألةِ قولين:
(الأول) يجوز تعليقُ التميمةِ إن كانت من القرآن وحملوا حديث عقبة ابن عامر (من تعلق تميمةً فقد أشرك) على التمائم التي فيها شرك
(الثاني) _ وهو الراجح _ أن ذلك لا يجوز للأسبابِ الآ تيه:
(1) عمومُ النهي في حديثِ عقبةَ ابن عامر (من تعلَّقَ تميمةَ فقد أشرك)
(2) سداً للذريعةِ لئلا يُفضي ذلك إلى تعليقِ ما ليس كذلك
(3) ثم إنه إذا تعلَّق التميمةَ التي فيها قرآن لابدأن يمتهنها بحملها معه في حالِ قضاءِ الحاجة والاستنجاء وما شابه ذلك
{تنبيه}: (إذا كانت التميمةُ من سوى الوحيين فإنها شرك قولاً واحداً لحديثِ عقبةَ ابن عامر (من تعلَّق تميمةً فقد أشرك)
[*] قال الشيخُ حافظ الحكمي:
وفي التمائمِ المعلَّقاتِ ... إن تكُ آياتٍ مبيناتِ
فالاختلافُ واقِعٌ بين السلف ... فبعضهم أجازها والبعضُ كف
وإن تكن مما سوى الوحيينِ ... فإنها شركٌ بغيرِ مَيْن
بل إنها قسيمةُ الأزلامِ ... في البُعدِعن سيما أوي الإسلام
وبالجملة: فأساس الشرك وقاعدته التي بني عليها: التعلق بغير الله. ولصاحبه الذم والخذلان، كما قال تعالى: لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً [الإسراء:22] مذموما لا حامد لك، مخذولا لا ناصر لك. إذ قد يكون بعض الناس مقهوراً محموداً كالذي قهر بباطل، وقد يكون مذموماً منصوراً كالذي قهر وتسلط بباطل، وقد يكون محموداً منصوراً كالذي تمكن وملك بحق. والمشرك المتعلق بغير الله قسمه أردأ الأقسام الأربعة، لا محمود ولا منصور.
فصلٌ في أقسام النفس:
[*] (عناصر الفصل:
(أقسام الناس في سياستهم لأنفسهم:
(تقسيم الناس من حيث القوة العلمية والعملية:
(مدة السفر إلى الله:
(أقسام النفس:
أولاً: النفس المطمئنة:
ثانياً: النفس اللوامة:
ثالثاً: النفس الأمارة السوء:
(علاج مرض «استيلاء النفس على القلب»:(8/854)
ودونك تفصيل ذلك في إيجازٍ غير مُخِّل:
(أقسام الناس في سياستهم لأنفسهم:
اتفق السالكون إلى الله على أن الناس على قسمين:
قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته، وصار طوعاً لها تحت أوامرها، وقسمٌ ظفروا بنفوسهم فقهروها فصارت طوعاً لهم، منقادة لأوامرهم.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه طريق الهجرتين:
الناس قسمان: علية وسفلة. فالعلية من عرف الطريق إلى ربه وسلكها قاصداً الوصول إليه، وهذا هو الكريم على ربه. والسفلة من لم يعرف الطريق إلى ربه ولم يتعرفها، فهذا هو اللئيم الذي قال الله تعالى فيه: {وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مَكْرِمٍ} * [الحج: 18].
والطريق إلى الله في الحقيقة واحد لا تعدد فيه، وهو صراطه المستقيم الذي نصبه موصلاً لمن سلكه إليه، قال الله تعالى: {وأَنَّ هذا صِرَاطِى مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُل} * [الأنعام: 153]، فوحد سبيله لأنه في نفسه واحد لا تعدد فيه، وجمع السبل المخالفة لأنها كثيرة متعددة، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجه) قال كنا عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخط خطا وخط خطين عن يمينه وخط خطين عن يساره ثم وضع يده في الخط الأوسط فقال هذا سبيل الله ثم تلا هذه الآية (وَأَنَّ هذا صِرَاطِى مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سبِيلِهِ) [الأنعام:153]
ومن هذا قوله تعالى: {اللهُ وَلَى الَّذِينَ آمَنُوا يَخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} * [البقرة: 257]، فوحد النور الذي هو سبيله وجمع الظلمات التي هي سبيل الشيطان.
ومن فهم هذا فهم السر في إفراد النور وجمع الظلمات في قوله تعالى: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} * [الأنعام:1](8/855)
مع أن فيه سراً أَلطف من هذا يعرفه من يعرف منبع النور ومن أَين فاض وعن ماذا حصل وأن أَصله كله واحد، وأَما الظلمات فهي متعددة بتعدد الحجب المقتضية لها، وهى كثيرة جداً، لكل حجاب ظلمة خاصة، ولا ترجع الظلمات إلى النور الهادي جل جلاله أصلاً لا وصفاً ولا ذاتاً ولا اسماً ولا فعلاً، وإِنما ترجع إلى مفعولاته سبحانه، فهو جاعل الظلمات ومفعولاتها متعددة متكثرة، بخلاف النور فإنه يرجع إلى اسمه وصفته جل جلاله، تعالى أن يكون كمثله شيء وهو نور السموات والأرض.
(والمقصود أن الطريق إلى الله تعالى واحد، فإنه الحق المبين والحق واحد، مرجعه إلى واحد. وأما الباطل والضلال فلا ينحصر، بل كل ما سواه باطل، وكل طريق إلى الباطل فهو باطل، فالباطل متعدد، وطرقه متعددة.
[*] قال بعض العارفين: انتهى سفر الطالبين إلى الظفر أنفسهم، فمن ظفر بنفسه أفلح وأنجح، ومن ظفرت به نفسه خسر وهلك، قال الله تعالى:
{فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعات: الآية: 37 - 41).
والنفس تدع إلى الطغيان، وإيثار الحياة الدنيا والربّ يدعو عبده إلى خوفه ونهى النفس عن الهوى، والقلبُ بين الداعيين، يميل إلى هذا الداعي مرة , وإلى هذا مرة، وهذا موضع المحنة والابتلاء، وقد وصف الله سبحانه النفس في القرآن بثلاث صفات: المطمئنة، واللوامة، والأمارة بالسوء فاختلف الناس: هل النفس واحدة وهذه أوصاف لها، أم للعبد ثلاثة أنفس؟.
فالأول قول الفقهاء والمفسرين، والثاني قول كثير من أهل التصوف، والتحقيق: أنه لا نزاع بين الفريقين، فإنها واحدة باعتبار ذاتها وثلاثة باعتبار صفاتها.
(تقسيم الناس من حيث القوة العلمية والعملية:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه طريق الهجرتين:
من الناس من يكون له القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ومنازلها وأعلامها وعوارضها ومعاثرها، وتكون هذه القوة أَغلب القوتين عليه، ويكون ضعيفاً في القوة العملية يبصر الحقائق ولا يعمل بموجبها، ويرى المتالف والمخاوف والمعاطب ولا يتوقاها، فهو فقيه ما لم يحضر العمل فإذا حضر العمل شارك الجهال في التخلف وفارقهم فى العلم وهذا هو الغالب على أَكثر النفوس المشتغلة بالعلم، والمعصوم من عصمة الله ولا قوة إلا بالله.(8/856)
ومن الناس من تكون له القوة العملية الإرادية وتكون أغلب القوتين عليه وتقتضى هذه القوة السير والسلوك والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة والجد والتشمير في العمل، ويكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد والانحرافات في الأَعمال والأقوال والمقامات كما كان الأول ضعيف العقل عند ورود الشهوات، فداءُ هذا من جهله وداءُ الأَول من فساد إرادته وضعف عقله، وهذا حال أَكثر أرباب الفقر والتصوف السالكين على غير طريق العلم، بل على طريق الذوق والوجد والعادة، يرى أحدهم أَعمى عن مطلوبه لا يدرى من يعبد ولا بماذا يعبده، فتارة يعبده بذوقه ووجده، وتارة يعبده بعادة قومه وأصحابه من لبس معين أو كشف رأْس أو حلق لحية ونحوها، وتارة يعبده بالأوضاع التي وضعها بعض المتحذلقين وليس له أصل في الدين، وتارة يعبده بما تحبه نفسه وتهواه كائناً ما كان.
وهنا طرق ومتاهات لا يحصيها إلا رب العباد، فهؤلاء كلهم عمى عن ربهم وعن شريعته ودينه لا يعرفون شريعته ودينه الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه ولا يقبل من أحد ديناً سواه، كما أنهم لا يعرفون صفات ربهم التي تعرف بها إلى عباده على ألسنة رسله ودعاهم إلى معرفته ومحبته من طريقها، فلا معرفة له بالرب ولا عبادة له.
ومن كانت له هاتان القوتان استقام له سيره إلى الله تعالى ورجيَ له النفوذ وقوى على رد القواطع والموانع بحول الله وقوته، فإِن القواطع كثيرة شأْنها شديد لا يخلص من حبائلها إلا الواحد بعد الواحد، ولولا القواطع والآفات لكانت الطريق معمورة بالسالكين، ولو شاءَ الله لأَزالها وذهب بها، ولكن الله يفعل ما يريد، والوقت كما قيل سيف فإن قطعته وإلا قطعك.
فإذا كان السير ضعيفاً والهمة ضعيفة والعلم بالطريق ضعيفاً، والقواطع الخارجة والداخلة كثيرة شديدة فإنه جهد البلاء ودرك الشقاءِ وسوء القضاء وشماتة الأعداءِ إِلا أن يتداركه الله برحمة منه من حيث لا يحتسب فيأْخذ بيده ويخلصه من أيدي القواطع. والله ولى التوفيق. (مدة السفر إلى الله:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه طريق الهجرتين:(8/857)
العبد من حين استقرت قدمه في هذا الدار فهو مسافر فيها إلى ربه، «ومدة سفره هي عمره» الذي كتب له فالعمر هو مدة سفر الإنسان في هذه الدار إلى ربه تعالى، ثم قد جعلت الأيام والليالي مراحل لسفره: فكل يوم وليلة مرحلة من المراحل، فلا يزال يطويها مرحلة بعد مرحلة حتى ينتهي السفر. فالكيس الفَطنِ هو الذي يجعل كل مرحلة نصب عينيه فيهتم بقطعها سالماً غانماً، فإِذا قطعها جعل الأُخرى نصب عينيه، ولا يطول عليه الأمد فيقسو قلبه ويمتد أمله ويحضر بالتسويف والوعد والتأْخير والمطل، بل يعد عمره تلك المرحلة الواحدة فيجتهد في قطعها بخير ما بحضرته، فإنه إذا تيقن قصرها وسرعة انقضائها هان عليه العمل وطوَّعت له نفسه الانقياد إلى التزود، فإذا استقبل المرحلة الأخرى من عمره استقبلها كذلك فلا يزال هذا دأبه حتى يطوى مراحل عمره كلها فيحمد سعيه ويبتهج بما أَعده ليوم فاقته وحاجته، فإذا طلع صبح الآخرة وانقشع ظلام الدنيا، فحينئذ يحمد سراه وينجل عنه كراه، فما أَحسن ما يستقبل يومه وقد لاح صباحه واستبان فلاحه.
ثم الناس في قطع هذه المراحل قسمان:
قسم قطعوها مسافرين فيها إلى دار الشقاءِ والعياذ بالله، فكلما قطعوا مرحلة منها قربوا من تلك الدار وبعدوا عن ربهم وعن دار كرامته فقطعوا تلك المراحل بمساخط الرب ومعاداة رسله وأَوليائه ودينه والسعي في إِطفاءِ نوره وإٍبطال دعوته وإِقامة دعوة غيرها، فهؤلاء جعلت أيامهم يسافرون فيها إلى الدار التي خلقوا لها واستعملوا بها، فهم مصحبون فيها بالشياطين الموكلة بهم يسوقونهم إلى منازلهم سوقاً كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تُؤُزُّهُمْ أَزَّاً} * [مريم: 83]، أي تزعجهم، إلى المعاصي والكفر إزعاجاً وتسوقهم سوقاً.
القسم الثاني: قطعوا تلك المراحل سائرين فيها إلى الله وإلى دار السلام. وهم ثلاثة أقسام: «ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات بإذن الله».
وهؤلاء كلهم مستعدون للسير موقنون بالرجعّ إلى الله، ولكن متفاوتون في التزود وتعبئة الزاد واختياره، وفى نفس السير وسرعته وبطئه.
فالظالم لنفسه مقصر في الزاد غير آخذ منه ما يبلغه المنزل لا في قدره ولا في صفته، بل مفرط في زاده الذي ينبغي له أن يتزوده، ومع ذلك فهو متزود ما يتأَذى به في طريقه، ويجد غب أذاه إذا وصل المنزل بحسب ما تزود من ذلك المؤذى الضار.(8/858)
والمقتصد اقتصر من الزاد على ما يبلغه، ولم يشدَّ مع ذلك أحمال التجارة الرابحة، ولم يتزود ما يضره، فهو سالم غانم لكن فاتته المتاجر الرابحة وأنواع المكاسب الفاخرة. والسابق بالخيرات همه في تحصيل الأَرباح وشد أَحمال التجارات لعلمه بمقدار الربح الحاصل، فيرى خسراناً أن يدخر شيئاً مما بيده ولا يتجر به، فيجد ربحه يوم يغتبط التجار بأَرباح تجاراتهم، فهو كرجل قد علم أَن أمامه بلدة يكسب الدرهم فيها عشرة إلى سبعمائة وأكثر، وعنده حاصل وله خبرة بطريق ذلك البلد وخبرة بالتجارة، فهو لو أَمكنه بيع ثيابه وكل ما يملك حتى يهيء به تجارة إِلى ذلك البلد لفعل، فهكذا حال السابق بالخيرات بإِذن ربه يرى خسراناً بيناً أن يمر عليه وقت في غير متجر.
مسألة: كيف يستقبل الظالم لنفسه يومه وليلته، وكيف يستقبلها المقتصد، وكيف يستقبلها السابق بالخيرات؟
(الظالم لنفسه إذا استقبل مرحلة يومه وليلته استقبلها، وقد سبقت حظوظه وشهواته إِلى قلبه فحركت جوارحه طالبة لها ساعية فيها، فإِذا زاحمها حقوق ربه فتارة وتارة فمرة يأْخذ بالرخصة ومرة بالعزيمة، ومرة يقدم على الذنب وترك الحق تهاوناً ووعداً بالتوبة. فهذا حال الظالم لنفسه مع حفظ التوحيد والإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر والتصديق بالثواب والعقاب فمرحلة هذا مقطوعة بالربح والخسران وهو للأغلب منهما، فإِذا ورد القيامة ميز ربحه من خسرانه وحصل ربحه وحده وخسرانه وحده، وكان الحكم للراجح منهما، وحكم الله من وراءِ ذلك لا يعدم عباده منه فضله وعدله.
(وأما المقتصدون فأدوا وظيفة تلك المرحلة ولم يزيدوا عليها ولم ينقصوا منها، فلا حصلوا على أرباح التجار ولا بخسوا الحق الذي عليهم. فإذا استقبل أحدهم مرحلة يومه استقبلها بالطهور التام والصلاة التامة في وقتها بأركانها وواجباتها وشرائطها، ثم ينصرف منها إلى مباحاته ومعيشته وتصرفاته التي أذن الله له فيها مشتغلاً بها قائماً بأعيانها مؤدياً واجب الرب فيها، غير متفرغ لنوافل العبادات وأوراد الأذكار والتوجه، فإذا حضرت الفريضة الأُخرى بادر إليها كذلك، فإذا أكملها انصرف إلى حاله الأول فهو كذلك سائر يومه، فإذا جاءَ الليل فكذلك إلى حين النوم يأْخذ مضجعه حتى ينشق الفجر فيقوم إلى غذائه وظيفته فإذا جاء الصوم الواجب ويقوم بحقه، وكذلك الزكاة الواجبة والحج الواجب، وكذلك المعاملة مع الخلق يقوم فيها بالقسط، لا يظلمهم ولا يترك حقه لهم.(8/859)
(وأما السابقون بالخيرات فهم نوعان: أبرار ومقربون. وهؤلاء الأَصناف الثلاثة هم أَهل اليمين، وهم المقتصدون والأَبرار والمقربون. وأَما الظالم لنفسه فليس من أَصحاب اليمين عند الإِطلاق وإِن كان مآله إلى أصحاب اليمين كما أنه لا يسمى مؤمناً عند الإطلاق وإن كان مصيره ومآله مصير المؤمنين بعد أخذ الحق منه.
(أقسام النفس:
أولاً: النفس المطمئنة:
إذا سكنت النفس إلى الله عزّ وجلّ واطمأنت بذكره، وأنابت إليه، واشتاقت إلى لقائه، وأنست بقربه، فهي مطمئنة، وهى التي يقال لها عند الوفاة.
{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّة} (الفجر: 27 - 28).
[*] قال ابن عباس - رضي الله عنه -: المطمئنة المصدقة.
[*] وقال قتادة: هو المؤمن اطمأنت نفسه إلى ما وعد الله، وصاحبها يطمئن في باب معرفة أسمائه وصفاته إلى خبره الذي أخبر عن نفسه وأخبر به عند رسوله ص ثم يطمئن إلى خبره عما بعد الموت من أمور البرزخ وما بعده من أحوال القيامة حتى كأنه يشاهد ذلك كله عياناً، ثم يطمئن إلى قدر الله عزّ وجلّ فيسلم له ويرضى ن فلا يسخط، ولا يشكو، ولا يضطرب إيمانه، فلا يأسى على ما فاته، ولا يفرح بما آتاه، لأن المصيبة فيه مقدرة قبل أن تصل إليه، وقبل أن يخلق، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إلاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (التغابن: من الآية 11).
[*] قال غير واحد من السلف: هو العبد تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.
وأما طمأنينة الإحسان فهي الطمأنينة إلى أمره امتثالاً وإخلاصاً ونصحاً، فلا يقدم على أمره إرادة ولا هوى، ولا تقليداً، ولا يساكن شبهة تعارض خبره، ولا شهوة تعارض أمره، بل إذا مرّت به أنزلها منزلة الوساوس التي لئن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يجدها، فهذا صريح الإيمان بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال * جاء ناس من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال وقد وجدتموه؟ قالوا نعم قال: ذاك صريح الإيمان.
[*] قال صاحب عون المعبود في شرح سنن أبي داوود:
نجد في أنفسنا: أي الشيء القبيح.(8/860)
ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به: من الأعظام أي نجد التكلم به عظيما لغاية قبحه والمعنى نجد في أنفسنا الشيء القبيح نحو من خلق الله وكيف هو ومن أي شيء هو ونحو ذلك مما يتعاظم النطق به فما حكم جريان ذلك في خواطرنا.
وقد وجدتموه؟ الهمزة للاستفهام التقريري والواو المقرونة بها للعطف على مقدر أي احصل ذلك وقد وجدتموه.
ذاك صريح الإيمان: معناه أن صريح الإيمان هو الذي يمنعكم من قبول ما يلقيه الشيطان في أنفسكم والتصديق به حتى يصير ذلك وسوسة لا يتمكن من قلوبكم ولا تطمئن إليه نفوسكم وليس معناه أن الوسوسة نفسها صريح الإيمان وذلك أنها إنما تتولد من فعل الشيطان وتسويله فكيف يكون إيمانا صريحا.
(وكذلك يطمئن من قلق المعصية، وانزعاجها إلى سكون التوبة وحلاوتها.
فإذا اطمأن من الشكّ إلى اليقين، ومن الجهل إلى العلم، ومن الغفلة إلى الذكر، ومن الخيانة إلى التوبة ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الكذب إلى الصدق، ومن العجز إلى الكيس، ومن صولة العجب إلى ذلة الإخبات، ومن التيه إلى التواضع، فعند ذلك تكون نفسه مطمئنة.
(وأصل ذلك كله هي اليقظة، التي كشفت عن قلبه سِنة الغفلة وأضاءت له قصور الجنة، فصاح قائلاً:
ألا يا نفس ويحك ساعديني ... بسعى منك في ظلم الليالي
لعلك في القيامة أن تفوزي ... بطيب العيش في تلك العلالي
فرأى فى ضوء هذه اليقظة ما خلق له، وما سيلقاه بين يديه من حين الموت إلى دخول دار القرار، ورأى سرعة انقضاء الدنيا، وقلة وفائها لبنيها وقتلها لعشاقها، وفعلها بهم أنواع المثلات، فنهض في ذلك الضوء على ساق عزمه قائلاً: {يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} (الزمر: من الآية 56).
فاستقبل بقية عمره مستدركاً ما فات، محيياً ما مات، مستقبلاً ما تقدم له من العثرات، منتهزاً فرصة الإمكان التي إن فاتت فاته جميع الخيرات، ثم يلحظ في نور تلك اليقظة وفور نعمة ربه عليه، ويرى أنه آيسٌ من حصرها وإحصائها، عاجزٌ عن آداء حقها، ويرى في تلك اليقظة عيوب نفسه، وآفات عمله، وما تقدم له من الجنايات والإساءات والتقاعد عن كثير من الحقوق والواجبات، فتنكسر نفسه وتخشع جوارجه، ويسير إلى الله ناكس الرأس بين مشاهدة نعمه، ومطالعة جناياته، وعيوب نفسه، ويرى أيضاً في ضوء تلك اليقظة عزة وقته، وخطره، وأنه رأس مال سعادته فيبخل به فيما لا يقربه إلى ربه، فإن في إضاعته الخسران والحسرة، وفى حفظه الربح والسعادة.(8/861)
فهذه آثار اليقظة وموجباتها، وهى أول منازل النفس المطمئنة التي ينشأ منها سفرها إلى الله والدار الآخرة.
ثانياً: النفس اللوامة:
[*] قالت طائفة: هي التي لا تثبت على حال واحدة، فهي كثيرة التقلب والتلون، فتذكر وتغفل، وتقبل وتعرض، وتحب وتبغض، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، وتطيع وتتقى.
[*] وقالت أخرى: هي نفس المؤمن، قال الحسن البصري: إن المؤمن لا تراه إلا يلوم نفسه دائماً يقول: ما أردت هذا؟ لم فعلت هذا؟ كان هذا أولى من هذا؟ أو نحو هذا الكلام.
[*] وقالت أخرى: اللوم يوم القيامة، فإن كلّ أحد يلوم نفسه إن كان مسيئاً على إساءته، وإن كان محسناً على تقصيره.
[*] يقول الإمام ابن القيّم: وهذا كله حق.
واللوامة نوعان: لوامة ملومة، ولوامة غير ملومة.
اللوامة الملومة: هي النفس الجاهلة الظالمة، التي يلومها الله وملائكته.
اللوامة غير الملومة: وهي التي لا تزال تلوم صاحبها على تقصيره في طاعة الله - مع بذله جهده – فهذه غير ملومة وأشرف النفوس من لامت نفسها في طاعة الله، واحتملت ملام اللوام في مرضاته، فلا تأخذها في الله لومة لائم، فهذه قد تخلصت من لوم الله، وأما من رضيت بأعمالها ولم تلم نفسها، ولم تحتمل في الله ملام اللوام، فهي التي يلومها الله عز وجلّ.
ثالثاً: النفس الأمارة السوء:
وهذه النفس المذمومة، فإنها تأمر بكل سوء، وهذا من طبيعتها، فما تخلص أحد من شرها إلا بتوفيق الله، كما قال تعالى حاكياً عن أمرأة العزيز:
{وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (يوسف: الآية 53).
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
تقول المرأة: ولست أبرئ نفسي، فإن النفس تتحدث وتتمنى؛ ولهذا راودته لأنها أمارة بالسوء،
{إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي} أي: إلا من عصمه الله تعالى، {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} أهـ
وقال عز وجل: {ولولاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا} (النور: من الآية 21).
وكان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلمهم خطبة الحاجة: كما في الحديث الآتي: ((8/862)
(حديث ابن مسعود الثابت في صحيح السنن الأربعة) علمنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطبة الحاجة (الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ثم يقرأ ثلاث آيات
*يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون >!! <
* يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا >!! <
* يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون >!! < يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما >!
فالشر كامنٌ في النفس، وهو يوجب سيئات الأعمال، فإذا خلى الله بين العبد وبين نفسه هلك بين شرها، وما تقتضيه من سيئات الأعمال وإن وفقه الله وأعانه نجا من ذلك كله.
فنسأل الله العظيم أن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
وخلاصة القول: إن النفس واحدة تكون: أمارة، ثم لوامة، ثم مطمئنة وهي غاية كمالها وصلاحها.
والنفس المطمئنة قرينها الملك، يليها، ويسددها، ويقذف فيها الحق، ويرغبها فيه، ويريها حسن صورته ويزجرها عن الباطل ويزهدها فيه، ويريها قبح صورته، وبالجملة فما كان لله وبالله فهو من عند النفس المطمئنة، وأما النفس الأمارة فجعل الشيطان قرينها، وصاحبها الذي يليها، فهو يعدها، ويمنيها، ويقذف فيها الباطل، ويأمرها السوء، ويزينه لها، ويطيل في الأمل، ويريها الباطل في صورة تقبلها وتستحسنها.
فالنفس المطمئنة والملك يقتضيان من النفس المطمئنة: التوحيد، والإحسان والبر والتقوى، والتوكل والتوبة، والإنابة والإقبال على الله، وقصر الأمل، والإستعداد للموت وما بعده.(8/863)
والشيطان وجنده من الكفرة يقتضيان من النفس الأمارة ضد ذلك وأصعب شيء على النفس المطمئنة تخليص الأعمال من الشيطان ومن الأمارة فلو وصل منها عمل واحد لنجا به العبد، ولكن أبت الأمارة والشيطان أن يدعا له عملاً واحداً يصل إلى الله، كما قال بعض العارفين بالله وبنفسه " والله لو أعلم أن لى عملاً واحداً وصل إلى الله لكنت أفرح بالموت من الغائب يقدم على أهله"، وقال عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -: " لو أعلم أن الله قبل منى سجدة واحدة لم يكن غائب أحب إلى من الموت ".
وقد انتصبت الأمارة في مقابلة المطمئنة، فكلما جاءت به تلك من خير ضاهتها هذه وجاءت من الشر بما يقابله حتى تفسده عليها، وتريه حقيقة الجهاد في صور تقتيل النفس، وتنكح الزوجة، ويصير الأولاد يتامى ويقسم المال وتريه حقيقة الزكاة والصدقة في صورة مفارقة المال ونقصه، وخلو اليد منه، واحتياجه إلى الناس، ومساواته للفقير.
(علاج مرض «استيلاء النفس على القلب»:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان:
إن سائر أمراض القلب إنما تنشأ من جانب النفس، فالمواد الفاسدة كلها إليها تنصب، ثم تنبعث منها إلى الأعضاء. وأول ما تنال القلب.
وقد كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول فى خطبة الحاجة:
"الحمدُ لله نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَهدِيهِ، وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا".
وقد استعاذ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شرها عموما، ومن شر ما يتولد منها من الأعمال، ومن شر ما يترتب على ذلك من المكاره والعقوبات، وجمع بين الاستعاذة من شر النفس وسيئات الأعمال.
(حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أنه قال: يارسول الله، مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت، وإذا أمسيت قال: "" قل: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شىء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، «أعوذ بك من شر نفسي، وشرِ الشيطان وَشِرْكِهِ»، وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِى سُوءًا أَوْ أَجرهُ إِلَى مُسْلِمٍ،"" قال: "" قُلْهُ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ.
(وقال أيضاً: وقد اتفق السالكون إلى الله على اختلاف طرقهم، وتباين سلوكهم على أن «النفس قاطعة بين القلب وبين الوصول إلى الرب»، وأنه لا يدخل عليه سبحانه ولا يوصل إليه إلا بعد إماتتها وتركها بمخالفتها والظفر بها.(8/864)
فإن الناس على قسمين:
(قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته وصار طوعا لها تحت أوامرها.
(وقسم ظفروا بنفوسهم فقهروها، فصارت طوعا لهم منقادة لأوامرهم.
قال بعض العارفين: انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بأنفسهم. فمن ظفر بنفسه أفلح وأنجح، ومن ظفرت به نفسه خسر وهلك. قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الحياةَ الُّدنْيَا * فَإنَّ الجحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى وَأمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنّ الجنَّةَ هِىَ المَأْوَى} [النازعات: 37 - 41].
فالنفس تدعو إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا، والرب يدعو عبده إلى خوفه ونهي النفس عن الهوى. «والقلب بين الداعيين»، يميل إلى هذا الداعي مرة وإلى هذا مرة وهذا موضع المحنة و الابتلاء.
(وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
وله علاجان: محاسبتها، ومخالفتها، وهلاك القلب من إهمال محاسبتها، ومن موافقتها واتباع هواها،
[*] (وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وَتَزَيَّنوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية".
[*] (وذكر أيضا عن الحسن قال: "لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه: وماذا أردت
تعملين؟ وماذا أردت تأكلين؟ وماذا أردت تشربين؟. والفاجر يمضى قدما قدما لا يحاسب نفسه".
وقال قتادة فى قوله تعالى:
{وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف: 28].
أضاع نفسه وغبن، مع ذلك تراه حافظا لماله مضيعا لدينه.
[*] (وقال الحسن: "إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همته".
[*] (وقال ميمون بن مهران: "لا يكون العبد تقيا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوَّان، إن لم تحاسبه ذهب بمالك".
(وقال ميمون بن مهران أيضاً: "إن التقى أشد محاسبة لنفسه من سلطان عَاصٍ، ومن شريك شحيح".(8/865)
[*] (وذكر الإمام أحمد عن وهب بن منبه قال: "مكتوب في حكمة آل داود: حق على العاقل أن لا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجى فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلى فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل، فإن في هذه الساعة عونا على تلك الساعات، وإجماماً للقلوب" وقد روى هذا مرفوعًا من كلام النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رواه أبو حاتم وابن حبان وغيره.
[*] (وكان الأحنف بن قيس يجيء إلى المصباح، فيضع أصبعه فيه، ثم يقول: حس يا حنيف ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ويبكى.
[*] (وكتب عمر بن الخطاب إلى بعض عماله: "حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة".
[*] (وقال الحسن: "المؤمن قوام على نفسه، يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة. إن المؤمن يفاجئه الشيء ويعجبه، فيقول: والله إني لأشتهيك. وإنك لمن حاجتي، ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات هيهات، حيل بيني وبينك، ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه، فيقول: ما أردت إلى هذا؟ مالي ولهذا؟ والله لا أعود إلى هذا أبدا، إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئا حتى يلقى الله، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وفى بصره، وفى لسانه، وفى جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كله".
[*] (قال مالك بن دينار: "رحم الله عبدا قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم زمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل، فكان لها قائدا".
(وقال أيضاً رحمه الله تعالى:(8/866)
فحق على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر أن لا يغفل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها فى حركاتها وسكناتها وخطراتها وخطواتها، فكل نَفَس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا حظ لها يمكن أن يشترى بها كنز من الكنوز لا يتناهى نعيمه أبد الآباد. فإضاعة هذه الأنفاس، أو اشتراء صاحبها بها ما يجلب هلاكه: خسران عظيم لا يسمح بمثله إلا أجهل الناس وأحمقهم وأقلهم عقلا. وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران: 30].
باب حسن الظن بالله:
[*] (عناصر الباب:
(حسن الظن بالله يستلزم حسن العمل:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(حسن الظن بالله يستلزم حسن العمل:
[*] قال ابن القيم رحمه الله:
ولا ريب أن حسن الظن بالله إنما يكون مع الإحسان، فإن المحسن حسن الظن بربه، أنه يجازيه على إحسانه، ولا يخلف وعده، ويقبل توبته، وأما المسيء المصر على الكبائر والظلم والمخالفات فإن وحشة المعاصي والظلم والحرام تمنعه من حسن الظن بربه، وهذا موجود في الشاهد فإن العبد الآبق المسيء الخارج عن طاعة سيده لا يحسن الظن به، ولا يجامع وحشة الإساءة إحسان الظن أبداً، فإن المسيء مستوحش بقدر إساءته، وأحسن الناس ظناً بربه أطوعهم له. كما قال الحسن البصري: (إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل، وأن الفاجر أساء الظن بربه فأساء العمل.
وكيف يكون محسن الظن بربه من هو شارد عنه، حال مرتحل في مساخطه وما يغضبه، متعرض لِلَعْنَتِه، قد هان حقه وأمره عليه فأضاعه، وهان نهيه عليه فارتكبه وأصر عليه، وكيف يحسن الظن بربه من بارزه بالمحاربة، وعادى أولياءه، ووالى أعداءه، وجحد صفات له، وأساء الظن بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله وظن بجهله أن ظاهر ذلك ضلال وكفر.
وكيف يحسن الظن بمن يظن أنه لا يتكلم ولا يأمر ولا ينهى ولا يرضى ولا يغضب، وقد قال الله تعالى في حق من شك في تعلق سمعه ببعض الجزئيات، وهو السر من القول وَذَلِكُمُ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُم أَردَاكُم فَأَصبَحتُم مِنَ الخَاسِرِينَ [فصلت:23](8/867)
فهؤلاء لما ظنوا أن الله سبحانه لا يعلم كثيراً مما يعلمون كان هذا إساءة لظنهم بربهم، فأرداهم ذلك الظن. وهذا شأن كل من جحد صفات كماله ونعوت جلاله، ووصفه بما لا يليق به، فإذا ظن هذا أنه يدخله الجنة كان هذا غروراً وخداعاً من نفسه، وتسويلاً من الشيطان، لا إحسان ظنٍ بربه.
فتأمل هذا الموضع، وتأمل شدة الحاجة إليه، وكيف يجتمع في قلب العبد تيقنه بأنه ملاق الله، وأن الله يسمع كلامه ويرى مكانه، ويعلم سره وعلانيته، ولا يخفى عليه خافية من أمره، وأنه موقوف بين يديه ومسئول عن كل ما عمل، وهو مقيم على مساخطه مضيع لأوامره معطل لحقوقه، وهو مع هذا يحسن الظن به، هذا أمرٌ مُحال، بل هو فوق ما يخطر ببالٍ أو يدور في الخيال، نعوذ بالله من الخبال، وهل هذا إلا من خدع النفوس وغرور الأماني.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي سهل ابن حنيف رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير على عائشة رضي الله عنها فقالت: لو رأيتما رسول الله في مرض له، وكانت عنده ستة دنانير، أو سبعة دنانير. فأمرني رسول الله أن أفرقها، فشغلني وجع رسول الله حتى عافاه الله، ثم سألني عنها، ما فعلت أكنت فرقت الستة دنانير، فقلت لا والله، لقد كان شغلني وجعك، قالت: فدعا بها فوضعها في كفه، فقال: ما ظن نبي الله لو لقي الله وهذه عنده.
(فبالله ما ظن أصحاب الكبائر والظلمة بالله إذا لقوه ومظالم العباد عندهم، فإن كان ينفعهم قولهم: حسناً ظنوننا بك إنك لم تعذب ظالماً ولا فاسقاً، فليصنع العبد ما شاء، وليرتكب كل ما نهاه الله عنه، وليحسن ظنه بالله، فإن النار لا تمسه، فسبحان الله، ما يبلغ الغرور بالعبد، وقد قال إبراهيم لقومه: أَئِفكاً ءَالِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ [الصافات:87،86] أي ما ظنكم به أن يفعل بكم إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره.
(ومن تأمل هذا الموضع حق التأمل علم أن حسن الظن بالله هو حسن العمل نفسه، فإن العبد إنما يحمله على حسن العمل حسن ظنه بربه أن يجازيه على أعماله ويثيبه عليها ويتقبلها منه، فالذي حمله على حسن العمل حسن الظن، فكلما حسن ظنه بربه حسن عمله.(8/868)
وإلا فحسن الظن مع اتباع الهوى عجز، وإن أكيس المؤمنين أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم لما بعده استعدادا بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجة) قال: أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت عليك السلام، فقال لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الميت، قلت يا رسول الله أي المؤمنين أفضل قال أحسنهم خلقا قال فأي المؤمنين أكيس قال أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم لما بعده استعدادا أولئك الأكياس.
وبالجملة فحسن الظن إنما يكون مع انعقاد أسباب النجاة، وأما مع انعقاد أسباب الهلاك فلا يتأتى إحسان الظن.
(ومن أوفى الأدلة التي تُفَرِّقُ بين بين حسن الظن بالله وبين الغرور به قال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرجُونَ رَحمَتَ اللَّهُ [البقرة:218]، فجعل هؤلاء أهل الرجاء، لا البطالين والفاسقين، وقال تعالى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [النحل:110] فأخبر سبحانه أنه بعد هذه الأشياء غفور رحيم لمن فعلها، فالعالم يضع الرجاء مواضعه، والجاهل المغتر يضعه في غير مواضعه.
(باب غربة الدين:
[*] (عناصر الباب:
(المقصود بغربة الدين:
(أيام الصبر:
(غربة الدين ستزول وسينتشر الإسلام:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(المقصود بغربة الدين:
غربة أهل الله وأهل سنة رسوله بين هذا الخلق: وهي الغربة التي مدح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهلها وأخبر عن الدين الذي جاء به أنه بدأ غريبا وأنه سيعود غريبا كما بدأ وأن أهله يصيرون غرباء وهذه الغربة قد تكون في مكان دون مكان ووقت دون وقت وبين قوم دون قوم ولكن أهل هذه الغربة هم أهل الله حقا فإنهم لم يأووا إلى غير الله ولم ينتسبوا إلى غير رسوله ولم يدعوا إلى غير ما جاء به وهم الذين فارقوا الناس أحوج ما كانوا إليهم فإذا انطلق الناس يوم القيامة مع آلهتهم بقوا في مكانهم فيقال لهم ألا تنطلقون حيث انطلق الناس فيقولون فارقنا الناس ونحن أحوج إليهم منا اليوم وإنا ننتظر ربنا الذي كنا نعبده فهذه الغربة لا وحشة على صاحبها بل «هو آنس ما يكون إذا استوحش الناس» وأشد ما تكون وحشته إذا استأنسوا فوليه الله ورسوله والذين آمنوا وإن عاداه أكثر الناس وجفوه.(8/869)
وقال الحسن رحمه الله تعالى: المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها ولا ينافس في عزها للناس حال وله حال، الناس منه في راحة وهو من نفسه في تعب.
(ومن صفات هؤلاء الغرباء الذين غبطهم النبي صلى اله عليه وسلم التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله لا شيخ ولا طريقة ولا مذهب ولا طائفة بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقا وأكثر الناس بل كلهم لائم لهم.
وكان الإسلام في أول ظهوره غريبا وكان من أسلم منهم واستجاب لله ولرسوله غريبا في حيه وقبيلته وأهله وعشيرته فكان المستجيبون لدعوة الإسلام نزاعا من القبائل بل آحادا منهم تغربوا عن قبائلهم وعشائرهم ودخلوا في الإسلام فكانوا هم الغرباء حقا حتى ظهر الإسلام وانتشرت دعوته ودخل الناس فيه أفواجا فزالت تلك الغربة عنهم ثم أخذ في الاغتراب والترحل حتى عاد غريبا كما بدأ بل الإسلام الحق الذي كان عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه هو اليوم أشد غربة منه في أول ظهوره وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهورة معروفة فالإسلام الحقيقي غريب جدا وأهله غرباء أشد الغربة بين الناس «وكيف لا تكون فرقة واحدة قليلة جدا غريبة بين اثنتين وسبعين فرقة» ذات أتباع ورئاسات ومناصب وولايات ولا يقوم لها سوق إلا بمخالفة ما جاء به الرسول فإن نفس ما جاء به يضاد أهواءهم ولذاتهم وما هم عليه من الشبهات والبدع التي هي منتهى فضيلتهم وعملهم والشهوات التي هي غايات مقاصدهم وإراداتهم فكيف لا يكون المؤمن السائر إلى الله على طريق المتابعة غريبا بين هؤلاء الذين قد اتبعوا أهواءهم وأطاعوا شحهم وأعجب كل منهم برأيه. وهذه مهلكات ثلاثة كما في الحديث الآتي:
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاث منجيات: خشيةُ الله تعالى في السر و العلانية والعدلُ في الرضا والغضب والقصد في الفقر و الغنى و ثلاث مهلكات: هوى متبع و شحٌ مطاع وإعجاب المرء بنفسه.
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد. ((8/870)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء. قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس.
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " طوبى للغرباء , قيل: و من الغرباء يا رسول الله؟ قال: ناسٌ صالحون قليلٌ في ناسٍ سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ".
مسألة: ما معنى قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا؟
(قال ابن رجب رحمه الله تعالى في كشف الكربة في وصف أهل الغربة:
قوله: (بدأ الإسلام غريباً) يريد به أن الناس كانوا قبل مبعثه على ضلالة عامة كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث عياض بن حمار الذي أخرجه مسلم: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب).
فلما بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعا إلى الإسلام لم يستجب له في أول الأمر إلا الواحد بعد الواحد من كل قبيلة، وكان المستجيب له خائفاً من عشيرته وقبيلته، يؤذى غاية الأذى، وينال منه وهو صابر على ذلك في الله عز وجل، وكان المسلون إذ ذاك مستضعفين يشردون كل مشرد ويهربون بدينهم إلى البلاد النائية كما هاجروا إلى الحبشة مرتين ثم هاجروا إلى المدينة، وكان منهم من يعذب في الله ومنهم من يقتل، فكان الداخلون في الإسلام حينئذ غرباء، ثم ظهر الإسلام بعد الهجرة إلى المدينة وعز وصار أهله ظاهرين كل الظهور، ودخل الناس بعد ذلك في دين الله أفواجاً، وأكمل الله لهم الدين وأتم عليهم النعمة، وتوفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأمر على ذلك، وأهل الإسلام على غاية من الاستقامة في دينهم، وهم متعاضدون متناصرون، وكانوا على ذلك في زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم أعمل الشيطان مكائده على المسلمين وألقى بأسهم بينهم، وأفشى بينهم فتنة الشبهات والشهوات، ولم تزل هاتان الفتنتان تتزايدان شيئاً فشيئاً حتى استحكمت مكيدة الشيطان وأطاعه أكثر الخلق، فمنهم من دخل في طاعته في فتنة الشبهات، ومنهم من دخل في فتنة الشهوات، ومنهم من جمع بينهما، وكل ذلك مما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوقوعه.(8/871)
فأما فتنة الشبهات: فقد روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غير وجه أن أُمته ستفترق على أزيد من سبعين فرقة على اختلاف في الروايات في عدد الزيادات على السبعين، وأن جميع تلك الفرق في النار إلا فرقة واحدة، وهي ما كانت على ما هو عليه وأصحابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأما فتنة الشهوات: ففي " صحيح مسلم " عن عبد الله بن عمرو عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (كيف أنتم إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم. أي قوم أنتم؟ قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله. قال: أو غير ذلك؟ تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون).
وفي " صحيح البخاري " عن عمرو بن عوف عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم).
وفي " الصحيحين " من حديث عقبة بن عامر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معناه أيضاً.
ولما فتحت كنوز كسرى على عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكى فقال: إن هذا لم يفتح على قوم قط إلا جعل الله بأسهم بينهم. أو كما قال.
وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخشى على أمته هاتين الفتنتين كما في " مسند الإمام أحمد بن حنبل " عن أبي برزة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إنما أخشى عليكم الشهوات التي في بطونكم وفروجكم ومضلات الفتن). وفي رواية: (ومضلات الفتن).
فلما دخل أكثر الناس في هاتين الفتنتين أو إحداهما أصبحوا متقاطعين متباغضين بعد أن كانوا إخواناً متحابين متواصلين، فإن فتنة الشهوات عمت غالب الخلق ففتنوا بالدنيا وزهرتها وصارت غاية قصدهم، لها يطلبون، وبها يرضون، ولها يغضبون، ولها يوالون، وعليها يعادون، فتقطعوا لذلك أرحامهم وسفكوا دماءهم وارتكبوا معاصي الله بسبب ذلك.
وأما فتنة الشبهات والأهواء المضلة فبسببها تفرق أهل القبلة وصاروا شيعاً وكفر بعضهم بعضاً، وأصبحوا أعداءً وفرقاً وأحزاباً بعد أن كانوا إخواناً قلوبهم على قلب رجل واحد، فلم ينج من هذه الفرق إلا الفرقة الواحدة الناجية، وهم المذكورون في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تزال طائفة من أُمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).(8/872)
وهم في آخر الزمان الغرباء المذكورون في هذه الأحاديث: الذين يُصلحون إذا فسد الناس، وهم الذين يُصلحون ما أفسد الناس من السنة، وهم الذين يفرون بدينهم من الفتن، وهم النزاع من القبائل، لأنهم قلوا، فلا يوجد في كل قبيلة منهم إلا الواحد والاثنان، وقد لا يوجد في بعض القبائل منهم أحدٌ كما كان الداخلون إلى الإسلام في أول الأمر كذلك، وبهذا فسر الأئمة هذا الحديث.
قال الأوزاعي في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ): أما إنه ما يذهب الإسلام ولكن يذهب أهل السنة حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجل واحد.
ولهذا المعنى يوجد في كلام السلف كثيراً مدح السنة ووصفها بالغربة ووصف أهلها بالقلة، فكان الحسن - رحمه الله - يقول لأصحابه: يا أهل السنة! ترفقوا - رحمكم الله - فإنكم من أقل الناس.
وقال يونس بن عبيد: ليس شيء أغرب من السنة وأغرب منها من يعرفها.
وروي عنه أنه قال: أصبح من إذا عرف السنة فعرفها غريباً وأغرب منه من يعرفها.
وعن سفيان الثوري قال: استوصوا بأهل السنة فإنهم غرباء.
ومراد هؤلاء الأئمة بالسنة: طريقة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي كان عليها هو وأصحابه السالمة من الشبهات والشهوات.
ولهذا كان الفضيل بن عياض يقول: أهل السنة من عرف ما يدخل في بطنه من حلال.
وذلك لأن أكل الحلال من أعظم خصال السنة التي كان عليها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه رضي الله عنهم.
ثم صار في عرف كثير من العلماء المتأخرين من أهل الحديث وغيرهم السنة عبارة عما سَلِمَ من الشبهات في الاعتقادات خاصة في مسائل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكذلك في مسائل القدر وفضائل الصحابة، وصنفوا في هذا العلم باسم السنة لأن خطره عظيم والمخالف فيه على شفا هلكة.
وأما السنة الكاملة فهي الطريق السالمة من الشبهات والشهوات كما قال الحسن ويونس بن عبيد وسفيان والفضيل وغيرهم، ولهذا وُصِفَ أهلُها بالغربة في آخر الزمان لقلتهم وغربتهم فيه، ولهذا ورد في بعض الروايات كما سبق في تفسير الغرباء: (قوم صالحون قليل في قوم سوء كثير، من يعصهم أكثر ممن يطيعهم) وفي هذا إشارة إلى قلة عددهم وقلة المستجيبين لهم والقابلين منهم وكثرة المخالفين لهم والعاصين لهم.
ولهذا جاء في أحاديث متعددة مدح المتمسك بدينه في آخر الزمان وأنه كالقابض على الجمر، وأن للعامل منهم أجر خمسين ممن قبلهم، لأنهم لا يجدون أعواناً في الخير. أهـ(8/873)
(أيام الصبر:
هي تلك الأيام التي جُعِلَ للمسلم الصادق في هذا الوقت إذا تمسك بدينه أجر خمسين من الصحابة.
هي أيام الابتلاء في الدين والشهوات المستعرة والشبهات المستحكمة ومع ذلك المرء صابر لدينه. فسماها أيام الصبر لأنه لا يستعمل فيها إلا الصبر ولا حلّ إلا الصبر والصبر هو القائد وهو الملاذ والحصن الحصين، الذي من دخله عُصِم ..
وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي ثعلبة الخُشَنِّي رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن من ورائكم أيام الصبر، للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم. قالوا: يا نبي الله! أو منهم؟ قال: بل منكم.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن من ورائكم زمان صبر للمتمسك فيه أجر خمسين شهيدا منكم.
مسألة: ما هو سر هذا الأجر العظيم في أيام الصبر؟
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:(8/874)
وهذا الأجر العظيم إنما هو لغربته بين الناس والتمسك بالسنة بين ظلمات أهوائهم وآرائهم فإذا أراد المؤمن الذي قد رزقه الله بصيرة في دينه وفقها في سنة رسوله وفهما في كتابه وأراه ما الناس فيه من الأهواء والبدع والضلالات وتنكبهم عن الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه فإذا أراد أن يسلك هذا الصراط «فليوطن نفسه على قدح الجهال وأهل البدع فيه وطعنهم عليه وإزرائهم به وتنفير الناس عنه وتحذيرهم منه» كما كان سلفهم من الكفار يفعلون مع متبوعه وإمامه فأما إن دعاهم إلى ذلك وقدح فيما هم عليه فهنالك تقوم قيامتهم ويبغون له الغوائل وينصبون له الحبائل ويجلبون عليه بخيل كبيرهم ورجله فهو غريب في دينه لفساد أديانهم غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم غريب في صلاته لسوء صلاتهم، غريب في طريقه لضلال وفساد طرقهم غريب في نسبته لمخالفة نسبهم غريب في معاشرته لهم لأنه يعاشرهم على ما لا تهوى أنفسهم وبالجملة فهو غريب في أمور دنياه وآخرته لا يجد من العامة مساعدا ولا معينا فهو عالم بين جهال صاحب سنة بين أهل بدع داع إلى الله ورسوله بين دعاة إلى الأهواء والبدع آمر بالمعروف ناه عن المنكر بين قوم المعروف لديهم منكر والمنكر معروف.
فصل النوع الثاني من الغربة غربة مذمومة وهي غربة أهل الباطل.
وأهل الفجور بين أهل الحق فهي غربة بين حزب الله المفلحين وإن كثر أهلها فهم غرباء على كثرة أصحابهم وأشياعهم أهل وحشة على كثرة مؤنسهم يعرفون في أهل الأرض ويخفون على أهل السماء.
(غربة الدين ستزول وسينتشر الإسلام:
غربة الدين ستزول وسينتشر الإسلام انتشار النار في الهشيم قطعاً حتى يترك الله بيت مَدَر ولا وَبَر إِلا أدخله الله هذا الدين بعزِّ عزيز أو بذلِّ ذليل:
(حديث تميم ابن أوس الداريِّ رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليبلغنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليلُ والنهارُ، ولا يترك الله بيت مَدَر ولا وَبَر إِلا أدخله الله هذا الدين بعزِّ عزيز أو بذلِّ ذليل، عزّاً يعز الله به الإِسلامَ وأهلَه وذلا يذل الله به الكفر»
(مَدَر) تراب ملبد أو قطع طين يابسة أو نحو ذلك
(وَبَر) صوف.
[*] قال الألباني رحمه الله تعالى:
ومما لا شك فيه أن تحقيق هذا الانتشار يستلزم أن يعود المسلمون أقوياء في معنوياتهم و مادياتهم و سلاحهم حتى يستطيعوا أن يتغلبوا على قوى الكفر
و الطغيان.
وفي هذا الحديث بيان أن الظهور المذكور في الآية لم يتحقق بتمامه، وإنما يتحقق في المستقبل، ومما لا شك فيه أن دائرة الظهور اتسعت بعد وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زمن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، ولا يكون التمام إلا بسيطرة الإسلام على جميع الكرة الأرضية، وسيتحقق هذا قطعاً لإخبار الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك.(8/875)
كتاب الآداب
إن الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرورِ أنفسنا وسيئاتِ أعمالنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَ لَه ومَنْ يُضْلِلْ فلا هَادِيَ لَه، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار شهادةٌ أدخرها ليومٍ تذهل فيه العقول وتشخصُ فيه الأبصار شهادةٌ أرجو بها النجاةَ من دار البوار وأؤمل بها جناتٍ تجري من تحتها الأنهار، هو الأولُ فليس قبله شيء والآخرُ فليس بعده شيء والظاهر فليس فوقه شيء والباطن فليس دونه شيء، ليس كمثلهِ شيءٌ وهو السميع البصير، وأشهد أن محمد عبده ورسوله المصطفى المختار الماحي لظلام الشرك بثواقب الأنوار صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار صلاةً تدوم بتعاقب الليل والنهار.
(يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]
(يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتّقُواْ اللّهَ الّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء/ 1]
(يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب 70 - 71]
أما بعد(9/1)
لما كان الداعية إلى الله تعالى يحتاج إلى الزهد حاجةً مُلِّحَةً مَاسَّةً لأن الزهد ليس من نافلة القول، بل هو أمر لازم لكل من أراد رضوان الله تعالى والفوز بجنته، فالزهد طريق النجاة، وسلم الوصول، ومنهاج القاصدين، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين، وطريق السالكين إلى مرضاة رب العالمين، والزهد في الدنيا مقام شريف من مقامات السالكين ودربُ من دروب عباد الله الصالحين، وهو مسلكٌ شريف لنيل حب الله تعالى الذي هو منتهى أمل العبد وأقصى غايته لأنه من نال حب الله تعالى نال السعادة في الدارين، فنيل محبة الله تعالى هو الغاية القصوى وغايةُ النهاية من المقامات، والذروة العليا من الدرجات، فما بعد إدراك المحبة مقام إلا وهو ثمرة من ثمارها، وتابع من توابعها، وهو مسلك للتأسي بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إمام العابدين وسيد الزاهدين، والزهد كذلك هو سبيل النجاة من حب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة ومصدر كل شر وأساس كل بلية، وهو أكبر عَوْنٍ بعد الله تعالى في الرغبة في الآخرة إذ لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، فالدنيا دار سفر لا دار إقامة، ومنزل عبور لا موطن حبور، وينبغي للمؤمن أن يكون فيها على جناح سفر، يهيئ زاده ومتاعه للرحيل المحتوم، والسعيد من وُفَّق لرؤية الأشياء على حقيقتها واتخذ لهذا السفر زاداً يبلغه إلى رضوان الله تعالى والفوز بالجنة والنجاة من النار.(9/2)
(ولما كان المسلمون بأسرهم المتعلم منهم والأمي والمتحضر والبدوي والمدنَّي والقروِّي يحتاجون حاجةً مُلًّحةً ماسَّة إلى ما يُرَقَّق قلوبهم ويتسبب في خشوعها وإنابتها إلى ربها في زمن قست فيه القلوب، وظهرت فيه الذنوب، ولم يستحي الكثير من علام الغيوب فطفقوا يبارزونه بالإثم والحوب، وفي وقت كثرت فيه الدعوات الأرضية المضلة، واشتد فيه الظلام وظهر الباطل على الحق ظهورا آنيا، وسيطرت فيه المادية حتى تغيرت كثير من القيم السامية، فما أشد حاجة العبد المسلم إلى الرقائق التي تثبت قلبه في زمن حار فيه الكثير من الناس فانغمسوا في القيم الهابطة التي غزت العقول والقلوب والمجتمعات، فقد أصبحنا نعيش في مجتمع طغت عليه المادية وانتشرت الشهوات بكل لون وفي كل وقتٍ وحين حتى صار الإنسان غارقاً في الشهوات إلى الأذقان وبلغ فسقه عنان السماء ـ إلا ما رحم ربي ـ، فأصبحنا في أيام الصبر الذي أخبر عنها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الآتي:
(حديث أبي ثعلبة الخُشَنِّي رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن من ورائكم أيام الصبر، للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم. قالوا: يا نبي الله! أو منهم؟ قال: بل منكم.(9/3)
ـ وأيام الصبر هي أيام الإبتلاء في الدين والشهوات المستعرة والشبهات المستحكمة ومع ذلك المرء صابر لدينه. فسماها أيام الصبر لأنه لا يستعمل فيها إلا الصبر ولا حلّ إلا الصبر، والصبر هو القائد وهو الملاذ والحصن الحصين، الذي من دخله عُصِم ـ بخلاف من كان قبلنا كانوا يعيشون في محيطٍ إسلامي والمنكرات تُسْتَتَر، أما الآن فالمنكرات كثرة مما يزيد من احتمال تأثر المؤمن بها من حيث لا يريد، فتكون الرقائق بمثابة الوقود التي تعطي المسلم طاقة في مواجهة هذه المنكرات، لأن الرقائق تعطي قوة دفع للمسلم لامتثال ما يؤمر به والانتهاء عما ينهى عنه، فمثلا كان أول ما أنزل ذكر الجنة والنار وما فيهما وما أعد لأهلهما، ثم نزلت الأحكام بعد أن تهيأت النفوس للقبول، تقول عائشة: "أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ولو نزل أول ما نزل لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمرة أبدا"، فالرقائق تقوي الإيمان الذي يعين المسلم على الثبات في مواجهة الشهوات، ومن المعلوم أن الشهوات سببت ضعف إيمان كثير من المسلمين لأن مخاطبة العقل وحده قد لا تكفي ما لم تكن ممزوجة بإثارة العاطفة، إذ أن مخاطبة العقل وحده قد لا تنتج إلا معلومات نظرية جافة لا حياة فيها، أما مخاطبة العقل والعاطفة فتؤدي إلى الإقناع والتطبيق العملي، ثم إن العناية بالرقائق تجنب طالب العلم بإذن الله الإصابة بالأمراض الفتاكة التي تفتك بدين المسلم كآفة العجب أو الحسد أو الهوى أو غيرها والعياذ بالله.(9/4)
(ولما كان المسلم بحاجة ماسةٍ إلى سلوك الأدب وتحقيقه بين الأفراد لأن الناس إذا تحلوا بمراعاة الأدب بينهم حصل الاطمئنان والأمن بينهم، فحقوقهم مكفولة وسمعتهم محترمة ومكانتهم محفوظة، فيطمئنون على أنفسهم لأن الأدب ينزع الأحقاد من صدور الناس وإذا التزم الناس بالآداب الشرعية صَفت النفوس فسادت الأخوّة والمحبة والألفة المجتمع، ثم إن الداعيةُ إلى الله تعالى يحتاجُ إلى التحلي بالآداب سيراً على منهج السلفِ الصالحِ في التعلم حيث كان منهجهم في التعلم (أن يتلقوْا العلمَ مع الأدب) لأن العلمَ بلا أدبٍ يجني على صاحبه ويُهلكه لأن الأدب طريقُ العلم النافع: فطالب العلم لن ينال العلم وبركته بدون أدب لأن العلمَ بلا أدبٍ يجني على صاحبه ويُهلكه، وقد حذّر السلف كثيراً من طلب العلم بدون أدب، فقال الإمام البوشنجي الفقيه المالكي (ت:291هـ) (من أراد العلم والفقه بغير أدب فقد اقتحم أن يكذب على الله ورسوله) سير أعلام النبلاء (13/ 586) للذهبي، وأورد الإمام بن الجزري في غاية النهاية في طبقات القُراء عن ابن المبارك قال: طلبت الأدب ثلاثين سنة، وطلبت العلم عشرين سنة، وكانوا يطلبون الأدب ثم العلم، أورد ابن الجوزي في صفة الصفوة عن ابن المبارك قال: كاد الأدب يكون ثلثي العلم،،وقال بكر أبو زيد في حلية طالب العلم صـ6 (لقد تواردت موجبات الشرع على أن التحلّي بمحاسن الأدب ومكارم الأخلاق سِمةُ أهل الإسلام وأن العلم لا يصل إليه إلا المُتحلي بآدابه المتخلي عن آفاته) أهـ، فالحاصل أن الأدب مهم جداً للفرد وللمجتمع وخاصةً طالب العلم، وإنما أعني بالآداب أدب الدين والدنيا لأن َأَعْظَمُ الأمور خَطَرًا وَقَدْرًا وَأَعُمُّهَا نَفْعًا وَرِفْدًا مَا اسْتَقَامَ بِهِ الدِّينُ وَالدُّنْيَا وَانْتَظَمَ بِهِ صَلاَحُ الآخرة والأولى؛ لِأَنَّ بِاسْتِقَامَةِ الدِّينِ تَصِحُّ الْعِبَادَةُ، وَبِصَلاَحِ الدُّنْيَا تَتِمُّ السَّعَادَةُ.(9/5)
لهذه الأسبابِ الثلاثةِ مجتمعة رأيت أن أقدم هذا الجهدَ المُقل المسمى (فَصْلُ الخِطَابِ في الزُهْدِ والرَقَائِقِ والآداب) مبتدأ بـ (الزهد) ثم (الرقائق)، ثم أنتقل إلى (الآداب) ليتحلى بها طالب فيكون الداعيةُ إلى الله بعد دراسته لهذا الكتاب قد عمل على تزكية نفسه وتهذيبها فيكون زاهداً رقيقَ القلبِ متحلياً بالآداب مما يُؤهله إلى الدعوة إلى الله على بصيرة امتثالاً لقوله تعالى: (قُلْ هََذِهِ سَبِيلِيَ أَدْعُو إِلَىَ اللّهِ عَلَىَ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [سورة: يوسف - الآية: 108].
(عملي في هذا الكتاب:
(1) إيراد لُباب النقول من الكتب الفحول في الزهد والرقائق والآداب، بادئاً بكتاب الزهد فأقدم زُبْدَةَ مسائله في إيجازٍ غيرِ مُخِّل فَأُبَيِّنُ حقيقة الدنيا وذم التنافس على الدنيا ثم أقسام الناس في حبهم للدنيا وبيان أضرار حب الدنيا ثم بيان حقيقة الموت ثم أورد تعريف الزهد وبيان حقيقة الزهد ودرجات الزهد وأقسامه وحكم الزهد وفضائل الزهد وحاجة الناس إلى الزهد وبيان كيف يزهد العبد في الدنيا ويرغب في الآخرة وما هي خصال الزهد وعلامات الزهد و متعلقات الزهد وما ليس بزهد وَيُتَوَهَمُ أنه زهد ثم أختم كتاب الزهد ببيان الأسباب المعينة على الزهد في الدنيا.
(ثم أنتقل إلى كتاب الرقائق فأقدم زُبْدَةَ مسائله تعريفاً وَحُكْمَاً في إيجازٍ غيرِ مُخِّل، فأقوم بتعريف الرقائق ثم بيان حاجة الناس إلى الرقائق، ثم بيان الأشياء التي تسبب رقة القلب من معرفة الله ومعرفة أسمائه وصفاته واقتضاء هذه المعرفة لآثار هذه الأسماء الحسنى والصفات العلا من العبودية، وذكر الجنة والنار، وذكر الموت وما بعده من عذاب القبر ونعيمه، والتفكر في أهوال يوم القيامة، وزيارة القبور وما لها من أثر بالغ في ترقيق القلوب، واستحضار سوء الخاتمة وحسنها، وتذكر الذنوب السابقة، ومعرفة الدنيا وما جُبِلَت عليه من التقلب، والتفكر في آيات الله الكونية، ومجالسة الصالحين، والاستكثار من الأعمال الصالحة، ثم أتطرق إلى تزكية النفوس وهو من أعظم أبواب الرقائق لأنه يحصل بتزكية النفس تطهيرها وتطييبها، حتى تستجيب لربها وتفلح فى دنياها وآخرتها كما قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس: 9،10).(9/6)
مما يعمل على ترقيق القلب لا محالة، فأورد صفوة مسائل تزكية النفوس مبتدأً بشرطي قبول العمل، ثم فضل العلم والعلماء، وحكم تعلم العلم و آداب طالب العلم، ثم أنواع القلوب وأقسامها، و سموم القلب الأربعة، و أسباب حياة القلب وأغذيته النافعة من ذكر الله عز وجل وتلاوة القرآن والاستغفار والصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والدعاء، ثم قيام الليل وفضله، ثم أحوال النفس ومحاسبتها، ثم التفكر، ثم الصبر والشكر، ثم التوكل، ثم مقامات الإيمان من المحبة والخوف والرجاء، ثم التوبة، ثم التقوى، ثم الورع وترك الشبهات، وغيرها.(9/7)
(ثم أنتقل إلى كتاب الآداب فأقدم زُبْدَةَ مسائله تعريفاً وَحُكْمَاً في إيجازٍ غيرِ مُخِّل، فأقوم بتعريف الأدب، ثم بيان منزلته وفضله، وبيان حاجتنا إلى الأدب، وما هي مراتبه وأنواعه وكيف نكتسب الأدب الشرعي، وإنما أعني بالآداب أدب الدين والدنيا لأن َأَعْظَمُ الأمور خَطَرًا وَقَدْرًا وَأَعُمُّهَا نَفْعًا وَرِفْدًا مَا اسْتَقَامَ بِهِ الدِّينُ وَالدُّنْيَا وَانْتَظَمَ بِهِ صَلاَحُ الآخرة والأولى؛ لِأَنَّ بِاسْتِقَامَةِ الدِّينِ تَصِحُّ الْعِبَادَةُ، وَبِصَلاَحِ الدُّنْيَا تَتِمُّ السَّعَادَةُ، ثم أقوم بشرح كل أدب على حدة في إيجازٍ غير مُخِل، وما أحَسَنَ تقسيم الإمام الماوردي رحمه الله تعالى في ذلك في كتاب أدب الدين والدنيا، فإنه كتاب عظيم النفع جداً في الآداب فقد جذبني إليه إنجذاب الحديد للمغناطيس مما جعلني أصنف كتاب الآداب على تصنيفه على أبواب خمسة هي: الْبَابُ الأوَّلُ فَضْلُ الْعَقْلِ وَذَمُّ الْهَوَى، الْبَابُ الثَّانِي أَدَبُ الْعِلْمِ، الْبَابُ الثَّالِثُ أَدَبُ الدِّينِ، الْبَابُ الرَّابِعُ أَدَبُ الدُّنْيَا، الْبَابُ الْخَامِسُ أَدَبُ النَّفْسِ، غير أني لم أقتصر على ما فيه من علم رغم سعة علمه وغزارة فهمه ودقة استنباطه بل أضفت إليه زُبدة كتب الآداب مثل الآداب الشرعية لابن مفلح، لباب الآداب لأسامة بن منقذ رحمه الله توفي سنة (584)، الأدب المفرد للإمام البخاري رحمه الله، وأخلاق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآدابه للحافظ بن حيان الأصبهاني (توفي 369هـ) محقق في أربعة مجلدات، وكتاب الآداب لفؤاد بن عبد العزيز الشلهوب، وزاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم (توفي 751هـ)، وغيرها فاجتمع عندي لُباب النقول من الكتب الفحول، أسأل الله تعالى أن يُلْبسها حُلل القبول وأن يرزقني وإياكم الثواب المأمول إنه ولي ذلك والقادر عليه.(9/8)
(2) إن هذا الكتاب خلاصةٌ انتَخَلْتها وزبدةٌ استخلصتها بفضل الله تعالى ومعونته وَمِنَتِه من صفوة الكتب في الزهد والرقائق والآداب، عدا كتب التفسير والحديث والفقه ونحوها، جمعت منها غرر الفوائد، ودرر الفرائد، وأخذتُ منها لباب النقول من الكتب الفحول، أهديها لكل ِلسَانٍ سَؤوْلٍ وَقَلْبٍ عَقُولٍ، سائلاً الله تعالى أن يُلْبِسَها حُلَل القبول وأن يرزقني وإياكم الثواب المأمول، وهآنذا أضع هذا الجهد المُقِل بين يدي القارئ الكريم من باب الذكرى لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد، يجد فيه وصايا ذهبية صادرة عن إخلاصٍ وحُسنِ طوية لكل من أراد أن تكون نفسه زاكيَةً عليَّةً، تقيةً نقيةً عفيفةً حييًّةً حرةً أبيَّة مُشَمِّراً في الطاعة حتى تأتيه المَنِيِّة، راجياً منه أن يُعِرْها سمعه وَفِكْرَه وأن تجد له في سمعه مسمعاً وفي قلبه موقِعاً عسى الله أن ينفعه بها ويُوَفِقْه إلى تطبيقها.
(3) أنني لا أورد حديثاً إلا عزوته إلى بعض الكتب الصحيحة على المنهج الآتي: ((9/9)
ما كان في الصحيحين أو أحدهما أكتفي بتخريجه منهما أو من أحدهما لتلقي الأمة لهما بالقبول، وما لم يكن في الصحيحين أو أحدهما أعزوه إلى صحيح السنن الأربعة إن كان موجوداً بها كلها، وإن كان موجوداً في بعضها فإنني أعزوه إلى كتابين فقط منهم وإن كان موجوداً في ثلاث، وإن كان موجوداً في كتاب واحد منهم أعزوه إليه، وهكذا تجدني أيها القارئ الكريم أُقَدِّمُ الكتبَ الستةَ على غيرها لأنها عماد طالب العلم في الحديث ـ بعد الله تعالى ـ، وما لم يكن في الكتب الستة فإنني أعزو الحديث إلى غيرها من الكتب الصحيحة مثل صحيح الجامع، صحيح الأدب المفرد، السلسلة الصحيحة، صحيح الترغيب والترهيب، صحيح السيرة النبوية، كما أنك تجدني أيها القارئ الكريم أحيل في تصحيح الحديث وتضعيفه على العلامةِ الضياءِ اللامعِ والنجم الساطع الشيخ الألباني رحمه الله، ونحن حينما نحيل على الشيخ الألباني فإننا ـ ولاشك ـ نُحِيْلُُ على مليٍّ لأنه كوكبُ نظائره وزهرةُ إخوانه في هذا الشأن في زماننا، هذا العالم الجليل الذي وسَّع دائرةَ الاستفادةِ من السنة بتقديمه مشروع (تقريب السنة بين يدي الأمة) ذلك المشروع الذي بذل فيه أكثر من أربعين سنة، ومن أراد أن يعرف هذه الفائدة العظيمة فلينظر على سبيل المثال إلى السنن الأربعة التي ظلَّت مئات السنين محدودة الفائدة جداً حيث كانت الاستفادة منها مقتصرة على من كان له باع في تصحيح الحديث وتضعيفه ولكن بعد تقديم الشيخ الألباني لصحيح السنن الأربعة اتسعت دائرة الاستفادة حتى تعم كل طالب أراد أن يستفيد، وهذا ولا شك فائدة عظيمة جداً عند من نور الله بصيرته وأراد الإنصاف، ومن المؤسف في زماننا هذا أن نرى بعض طلبة العلم ممن لا يقام لهم وزناً في العلم يتطاولون على الشيخ الألباني ويجترئون عليه ويترقبون له الهفوات ويتصيدون له الأخطاء ويلتمسون العثرات ليشهروا به، وهذا ـ ولا شك ـ يدل على فسادِ النية وسوء الطوية وسقامةِ الضمائر ولؤم السرائر ويدل كذلك على أن قلبه أخلى من جوف البعير، إذ لو تعلم العلم لَعَلِمَ أن من أدب العلم التوادَ فيه، ولقد كان ابن عباس – رضي الله عنهما ـ يأخذ بركاب زيد ابن ثابت ـ رضي الله عنه ... ـ ويقول هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء، وكان الشافعي رحمه الله يقول لعبد الله ابن الإمام أحمد: أبوك من الستة الذين أدعو لهم كل يوم عند السحر، ولا أدري كيف سوَّلت لهم أنفسهم أن يتطاولوا على عالمٍ صاحب حديث(9/10)
رسول الله أكثر من نصف قرن؟!، أما كان يجب عليهم أن يدعوا له في كل سجدةٍ يسجدونها لله تعالى جزاءاً لما وفقه الله تعالى في هذا العمل الجليل تجاه السنة المُشَرَّفة بدلاً من أن يتجرئوا عليه، نعوذ بالله تعالى من الخبال!، ثم ماذا ينقمون عليه؟! فقد كان رحمه الله تعالى من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء وحراس العقيدة وحماة السنة وأشياع الحق وأنصار دين الله عز وجل، حاملُ لواء السنة وناصرها وقامع البدعة ودامغها، صدر الزمان، محيي الدين، قطب الإسلام، كان الكتاب والسنة له كالجناحين للطائر يتمسك بهما ويعضُ عليهما بالنواجذ، وكان رحمه الله تعالى شهاباً ثاقباً ونجماً ساطعاً وبدراً طالعاً وسهماً نافذاً، وكان كوكبَ نُظَرَائه وزهرةَ إخوانه، تفوح منه علامات اليُمْنِ وأمارات الخير ورائحة التوفيق والسداد، واحد زمانه، وإمام عصره وأوانه، العالم الحبر، ذو الأحلام والصبر، العلم حليفه، والزهد أليفه، وكان رحمه الله تعالى خزانة علم فكان علمه واسعاً مباركا كالغيث من السماء أينما حل نفع، يتفجَّرُ العلمُ من جوانبه، وتنطِق الحكمةُ من نواحيه، لا يُشَقُ له غُبارٌ في غزارة علمه ودقة استنباطه للفوائد والأحكام وسعة فقهه ومعرفته بأسرار اللغة العربية وبلاغتها، وكان رحمه الله ذا همةٍ عاليةٍ تناطح السحاب في طلب العلم فكان يُقْبِلُ على طلب العلم إقبالَ الظامئ على الموردِ العذب فقد أفنى جلَّ عمره في طلب العلم فكان إماماً يقتدى به في ذلك وكان مناراً عظيماً من منارات العلم، مناراً راسيَ القواعد مُشَيَّدَ الأركان ثابتَ الوطائد، الإمام اللبيب، ذو اللسان الخطيب، الشهاب الثاقب، والنصاب العاقب، صاحب الإشارات الخفية، والعبارت الجلية، ذوالتصانيف المفيدة، والمؤلفات الحميدة، الصوَّام القوَّام، الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة، صاحب الأخلاق الرضية، والمحاسن السنية، العالم الرباني المتفق على علمه وإمامته وجلالته وزهده وورعه وعبادته وصيانته في أقواله وأفعاله وحالاته، كان رحمه الله تعالى سراج العباد، ومنار البلاد، رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً تعمُ أرجائه، وتغمده برحمةٍ فوق ما يخطر ببال أو يدور في الخيال، وأنعم عليه برضا الكبير المتعال إنه وليُ ذلك والقادرُ عليه.
،(9/11)
ولا أدري كيف يتطاولون على العالم والكتاب والسنة طافحين بما يدل على احترام أهل العلم وتوقيرهم، ألا فليحذر طالب العلم من أن يكون سيئ الخلق ناطحاً للسحاب يترقب للعالم الهفوات ويلتمس العثرات لِيُشَهِّرَ به فإن ذلك ينقصُ من مقدار التقوى عنده مما يكون سبباً في حرمانه من العلم، بل ينبغي لطالب العلم أن يكون كريمَ الطباع حميدَ السجايا مهذبَ الأخلاق سليمَ الصدر مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر إذا تكلم غَنِم وإذا سكت سَلِم وينبغي له أن يعرف أن العالم مع جلالته وسعة علمه قد يخطأ في اجتهاده فإن لكل جوادٍ كبوة ولكل عالمٍ هَفْوَة وسبحان من له الكمال، فلا يكن خطأ العالم سبب لانتقاصك لحقه أو فرصة للنيلِ منه، وليكن نصب عينيك ومحط نظرك وقِبْلة قلبك أن العالم مثابٌ على اجتهاده سواء أصاب أم أخطأ وحسبُك حديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثابت في الصحيحين عن عبد الله ابن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر.، ثم عليك بعد ذلك أن تترك العالم هو الذي يحكم على العالم واخرج من بين النسور ولا تناطح السحاب.
(4) أنا أقدم هذا الكتاب كتمرين لطالب العلم على حفظ المسألة بأدلتها من الكتاب والسنة الصحيحة حتى ينشأ طالب العلم على هذا النحو وحتى يصل إلى أن يكون ذلك طبعاً له لا تكلفاً ويكون الكتاب والسنة له كالجناحين للطائر يتمسك بهما ويعض عليهما بالنواجذ، لأن ذلك سبيل النجاةِ من الضلال لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما ثبت في صحيح الجامع عن أبى هريرة رضي الله عنه (تركتُ فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض)
ولسان حاله يقول: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا خالفت الوحيين الشريفيين الكتاب والسنة الصحيحة.(9/12)
ويجب التنبيه على طالب العلم أن يتمسك بالوحيين كليهما (الكتاب والسنة) وليس الكتاب فقط لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما ثبت في صحيح أبي داوود عن المقدام ابن معد يكرب رضي الله عنه (ألا وإني أوتيتُ القرآنَ ومثلَه معه) ومن المؤسف فى زماننا هذا تجرئ بعض الجهلة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيقولون إنه بشر مثلنا هات الدليل من القرآن فقط ـ وهذا يدل ولا شك ـ على أن قائل هذه العبارة جاهل جهلا مركباً بل هو أضل من حمار أهله، وقد أخبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن هذا سيقع في أمته فقال فيما ثبت في صحيح ابن ماجة عن المقدام ابن معد يكرب رضي الله عنه (يوشك الرجل متكئاً على أريكته يُحَدَثُ بحديثٍ من حديثٍ فيقول بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلالٍ استحللناه وما وجدنا فيه من حرامٍ حرمناه، ألا وإن ما حرَّم رسول الله مثل ما حرم الله)
ولقد كان السلف الصالح رحمهم الله تعالى يدعون إلى التمسك بالوحيين كليهما ويُضَلِلُون من يتمسك بالكتاب فقط، قال أبو قلابة: إذا رأيت رجل يقول هات الكتاب ودعنا من السنة فاعلم أنه ضال.
[*] وقال الإمام احمد رحمه الله:
دين النبي محمدٍ أخبارُ ... نعم المطيةُ للفتى الآثارُ
لا ترغبَّنَّ عن الحديثِ وأهله ... فالرأيُ ليلٌ والحديثُ نهارُ
[*] وقال الشافعي رحمه الله
كُلُ العلومِ سوى القرآنِ مشغلةٌ ... إلا الحديثِ وعلم الفقه في الدين
العلمُ ما كان فيه قال حدثنا ... وما سوى ذاك وسواسِ الشياطين
(5) أختم الكتاب بفهرس مزود بأرقام الصفحات لسهولة الحصول على العنصر المراد من الكتاب.(9/13)
«فيا أيها الناظر فيه لك غُنمه وعلى مؤلفه غُرمه ن ولك صفوه وعليه كَدره، وهذه بضاعته المزجاة تُعْرَضُ عليك وبناتُ أفكاره تزف إليك، فإن صادفت كفؤا كريما لم تعدم منه أمساكاً بمعروف أو تسريحاً بإحسان، وإن كان غيره فالله المستعان، وما كان منه من صواب فمن الواحد المنان وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان والله برئ منه ورسوله وأنا راجعٌ عنه بإذن الله، هذا والله أسأل أن أن يُعلِّمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما عَلَّمنا، وأن يزيدنا عِلمًا، وأن يجعل هذا الكتاب حجةً لنا لا علينا وأن يتقبله عنده بقبولٍ حسن وأن ينفع به من انتهى إليه إنه خير مسئول وأكرم مأمول، وأن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم وسبباً لنيلِ جناتِ النعيم وأن يعصمني وقارئه من الشيطان الرجيم، كما أسأله سبحانه الله أن يحملنا على فضله ولا يحملنا على عدله إنه سبحانه على من يشاءُ قدير وبالإجابة جدير وهو حسبنا ونعم الوكيل وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه»
أبو رحمة / محمد نصر الدين محمد عويضة
المدرس بالجامعة الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بجدة فرع مدركة ورهاط وهدى الشام
22/ 10/1418 هجرية
highsneakers@gmail.com
highsneakers@hotmail.com
+2124795825(9/14)
مقدمة في فضل علم الآداب:
إن علم الآداب له فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم، وهو نعمةٌ عظيمة، وَمِنَّةٌ جسيمة، نعمة كبرى، ومنحة عظمى، شأنه عظيم، ونفعه عميم، له فضائل لا تحصى، وثمرات لا تعد، وله أهمية كبرى، وثمرات جليلة، وفضائل عظيمة، وأسرار بديعة، وهو طريق النجاة، وسلم الوصول، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين، ثم إن الناس إذا تحلوا بمراعاة الأدب بينهم حصل الاطمئنان والأمن بينهم، فحقوقهم مكفولة وسمعتهم محترمة ومكانتهم محفوظة، فيطمئنون على أنفسهم لأن الأدب ينزع الأحقاد من صدور الناس وإذا التزم الناس بالآداب الشرعية صَفت النفوس فسادت الأخوّة والمحبة والألفة المجتمع، والناس جميعهم يحتاجون حاجَّةً ماسة إلى التحلي بالآداب وخاصةً الداعيةُ إلى الله تعالى يحتاجُ إلى التحلي بالآداب سيراً على منهج السلفِ الصالحِ في التعلم حيث كان منهجهم في التعلم (أن يتلقوْا العلمَ مع الأدب) لأن العلمَ بلا أدبٍ يجني على صاحبه ويُهلكه لأن الأدب طريقُ العلم النافع: فطالب العلم لن ينال العلم وبركته بدون أدب لأن العلمَ بلا أدبٍ يجني على صاحبه ويُهلكه، وقد حذّر السلف كثيراً من طلب العلم بدون أدب، فقال الإمام البوشنجي الفقيه المالكي (ت:291هـ) (من أراد العلم والفقه بغير أدب فقد اقتحم أن يكذب على الله ورسوله) سير أعلام النبلاء (13/ 586) للذهبي، وأورد الإمام بن الجزري في غاية النهاية في طبقات القُراء عن ابن المبارك رحمه الله تعالى قال: طلبت الأدب ثلاثين سنة، وطلبت العلم عشرين سنة، وكانوا يطلبون الأدب ثم العلم، أورد ابن الجوزي رحمه الله تعالى في صفة الصفوة عن ابن المبارك قال: كاد الأدب يكون ثلثي العلم، وأورد ابن مفلح رحمه الله تعالى في الآداب الشرعية عن ابْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ لَا يَنْبُلُ الرَّجُلُ بِنَوْعٍ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يُزَيِّنْ عَمَلَهُ بِالْأَدَبِ، وقال أيضاً: قَالَ لِي مَخْلَدَةُ بْنُ الْحُسَيْنِ نَحْنُ إلَى كَثِيرٍ مِنْ الْأَدَبِ أَحْوَجُ مِنَّا إلَى كَثِيرٍ مِنْ الْحَدِيثِ، وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في مدارج السالكين (الأدب هو الدين كله) فمنزلة الأدب هي منزلة الدين عند العبد،
وقال رحمه الله (أدب المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقلة أدبه عنوان شقاوته وبواره، فما استُجلب خيرُ الدنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استجلب حرمانها بمثل قلة الأدب، فتأمل أحوال كل شقيٍّ ومُدبِرٍ كيف تجد قلة الأدب هي التي ساقته إلى الحرمان).(9/15)
*فمنزلة الأدب عظيمة ولذلك قال عبد الله ابن المبارك رحمه الله (من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السُنن ومن تهاون بالسنن عوقب بحرمان الفرائض) ذكره ابن القيم في مدارج السالكين، وقال بكر أبو زيد في حلية طالب العلم صـ6 (لقد تواردت موجبات الشرع على أن التحلّي بمحاسن الأدب ومكارم الأخلاق سِمةُ أهل الإسلام وأن العلم لا يصل إليه إلا المُتحلي بآدابه المتخلي عن آفاته) أهـ، وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مالك بن أنس، يقول لفتى من قريش: يا ابن أخي تعلم الأدب قبل أن تتعلم العلم، فالحاصل أن الأدب مهم جداً للفرد وللمجتمع وخاصةً طالب العلم، وإنما أعني بالآداب أدب الدين والدنيا لأن َأَعْظَمُ الأمور خَطَرًا وَقَدْرًا وَأَعُمُّهَا نَفْعًا وَرِفْدًا مَا اسْتَقَامَ بِهِ الدِّينُ وَالدُّنْيَا وَانْتَظَمَ بِهِ صَلاَحُ الآخرة والأولى؛ لِأَنَّ بِاسْتِقَامَةِ الدِّينِ تَصِحُّ الْعِبَادَةُ، وَبِصَلاَحِ الدُّنْيَا تَتِمُّ السَّعَادَةُ.
الآداب أكثر من أن تحصى
(قال الماوردي رحمه الله تعالى في أدب الدين والدنيا:
اعْلَمْ أَنَّ الادَابَ مَعَ اخْتِلاَفِهَا بِتَنَقُّلِ الأحْوَالِ وَتَغَيُّرِ الْعَادَاتِ لاَ يُمْكِنُ اسْتِيعَابُهَا، وَلاَ يُقْدَرُ عَلَى حَصْرِهَا، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ كُلُّ إنْسَانٍ مَا بَلَغَهُ الْوُسْعُ مِنْ آدَابِ زَمَانِهِ، وَاسْتَحْسَنَ بِالْعُرْفِ مِنْ عَادَاتِ دَهْرِهِ، وَلَوْ أَمْكَنَ ذَلِكَ لَكَانَ الأوَّلُ قَدْ أَغْنَى الثَّانِيَ عَنْهَا، وَالْمُتَقَدِّمُ قَدْ كَفَى الْمُتَأَخِّرَ تَكَلُّفَهَا، وَإِنَّمَا حَظُّ الاخِيرِ أَنْ يَتَعَانَى حِفْظَ الشَّارِدِ وَجَمْعَ الْمُفْتَرِقِ. ثُمَّ يَعْرِضَ مَا تَقَدَّمَ عَلَى حُكْمِ زَمَانِهِ، وَعَادَاتِ وَقْتِهِ، فَيُثْبِتَ مَا كَانَ مُوَافِقًا، وَيَنْفِيَ مَا كَانَ مُخَالِفًا، ثُمَّ يَسْتَمِدَّ خَاطِرَهُ فِي اسْتِنْبَاطِ زِيَادَةٍ وَاسْتِخْرَاجِ فَائِدَةٍ فَإِنْ أَسْعَفَ بِشَيْءٍ فَازَ بِدَرَكِهِ، وَحَظِيَ بِفَضِيلَتِهِ، ثُمَّ يُعَبِّرُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَا كَانَ مَأْلُوفًا مِنْ كَلاَمِ الْوَقْتِ وَعُرْفِ أَهْلِهِ فَإِنَّ لِأَهْلِ كُلِّ وَقْتٍ فِي الْكَلاَمِ عَادَةً تُؤْلَفُ، وَعِبَارَةً تُعْرَفُ؛ لِيَكُونَ أَوْقَعَ فِي النُّفُوسِ وَأَسْبَقَ إلَى الافْهَامِ.
تعريف الأدب
(تعريف الأدب:(9/16)
قال السيوطي في لسان العرب (الأدب: الذي يتأدب به الأديب من الناس، سُميَ أدباً لأنه يأدب (يدعو) الناس إلى المحاميد وينهاهم عن المقابح).
وقال ابن القيم في مدارج السالكين (الأدب: اجتماع خصال الخير في العبد ومنه المأدبة وهي الطعام الذي يجتمع عليه الناس)
وقال أيضاً (وحقيقة الأدب استعمال الخُلق الجميل)
(ثم قال (قال بعض العلماء: الأدب هو استعمال ما يجمل من الأقوال والأعمال والأحوال) وقال بعضهم (الأدب هو أن تكون على تعاليم الكتاب والسنة ظاهراً وباطناً)
وقال ابن القيم رحمه الله (الأدب هو الدين كله فإنّ سِتر العورة من الأدب، والوضوء وغسل الجنابةِ من الأدب، والتطهر من الخبث من الأدب ... ) مدارج السالكين.
(وفصل الخطاب في تعريف الأدب: أن الأدب هو اجتماع خِصال الخير في العبد وفق الكتاب والسنة ظاهراً وباطناً.
فإذا أراد المسلم أن يكون مؤدباً فعليه أن يلتزم بالكتاب والسنة في عقيدته ومنهجه وعبادته واخلاقه وأفعاله وأقواله وصفاته ظاهراً وباطناً.
الباب الأول فضل العقل وذم الهوى
[*] (عناصر الباب:
(فضل العقل:
(تعريف العقل:
(محل العقل:
(أقسام العقل:
(ما يزداد به العاقل من نماء عقله:
(أول شعب العقل هو لزوم تقوى الله وإصلاح السريرة:
(ذم الهوى:
(تعريف الهوى:
(الفَرْقُ مَا بَيْنَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ:
(ذم الهوى وأتباعه:
(مدح مخالفة الهوى:
(استحباب مخالفة الهوى وإن كان مباحاً:
(صرف ما يقع بالقلب من غلبة الشهوة:
(أحوال الإنسان مع الهوى:
(أهمية علاج الهوى:
(كيفية علاج الهوى:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(فضل العقل:
من أعظم نعم الله على عباده أن وهبهم العقل الذي يميزون به بين الأمور، ويسيّرون أمورهم به.
((قال الماوردي رحمه الله تعالى في أدب الدين والدنيا:(9/17)
اعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ فَضِيلَةٍ أُسًّا وَلِكُلِّ أَدَبٍ يَنْبُوعًا، وَأُسُّ الْفَضَائِلِ وَيَنْبُوعُ الآداب هُوَ الْعَقْلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلدِّينِ أَصْلاً وَلِلدُّنْيَا عِمَادًا، فَأَوْجَبَ الدِّينَ بِكَمَالِهِ وَجَعَلَ الدُّنْيَا مُدَبَّرَةً بِأَحْكَامِهِ، وَأَلَّفَ بِهِ بَيْنَ خَلْقِهِ مَعَ اخْتِلاَفِ هِمَمِهِمْ وَمَآرِبِهِمْ، وَتَبَايُنِ أَغْرَاضِهِمْ وَمَقَاصِدِهِمْ، وَجَعَلَ مَا تَعَبَّدَهُمْ بِهِ قِسْمَيْنِ: قِسْمًا وَجَبَ بِالْعَقْلِ فَوَكَّدَهُ الشَّرْعُ، وَقِسْمًا جَازَ فِي الْعَقْلِ فَأَوْجَبَهُ الشَّرْعُ فَكَانَ الْعَقْلُ لَهُمَا عِمَادًا.
(وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: أَصْلُ الرَّجُلِ عَقْلُهُ، وَحَسَبُهُ دِينُهُ، وَمُرُوءَتُهُ خُلُقُهُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: مَا اسْتَوْدَعَ اللَّهُ أَحَدًا عَقْلاً الا اسْتَنْقَذَهُ بِهِ يَوْمًا مَا.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْعَقْلُ أَفْضَلُ مَرْجُوٍّ، وَالْجَهْلُ أَنْكَى عَدُوٍّ.
وَقَالَ بَعْضُ الادَبَاءِ: صَدِيقُ كُلِّ امْرِئٍ عَقْلُهُ وَعَدُوُّهُ جَهْلُهُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: خَيْرُ الْمَوَاهِبِ الْعَقْلُ، وَشَرُّ الْمَصَائِبِ الْجَهْلُ.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ، وَهُوَ إبْرَاهِيمُ بْنُ حَسَّانَ: يَزِينُ الْفَتَى فِي النَّاسِ صِحَّةُ عَقْلِهِ وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ مَكَاسِبُهْ يَشِينُ الْفَتَى فِي النَّاسِ قِلَّةُ عَقْلِهِ وَإِنْ كَرُمَتْ أَعْرَاقُهُ وَمَنَاسِبُهْ يَعِيشُ الْفَتَى بِالْعَقْلِ فِي النَّاسِ إنَّهُ عَلَى الْعَقْلِ يَجْرِي عِلْمُهُ وَتَجَارِبُهْ وَأَفْضَلُ قَسْمِ اللَّهِ لِلْمَرْءِ عَقْلُهُ فَلَيْسَ مِنْ الأشْيَاءِ شَيْءٌ يُقَارِبُهْ إذَا أَكْمَلَ الرَّحْمَنُ لِلْمَرْءِ عَقْلَهُ فَقَدْ كَمُلَتْ أَخْلاَقُهُ وَمَآرِبُهْ. أهـ
(قيل لعطاء بن أبي رباح ما أفضل ما أعطى الإنسان؟ قال العقل عن الله تعالى.
وقال معاوية بن قرة إن القوم ليحجون ويعتمرون ويجاهدون ويصلون ويصومون وما يعطون يوم القيامة إلا على قدر عقولهم.
(أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى عن يوسف بن اسباط قال: العقل سراج ما بطن وملاك ما علن وسائس الجسد وزينة كل أحد ولا تصلح الحياة إلا به ولا تدور الأمور إلا عليه.(9/18)
وسئل ابن المبارك رحمه الله تعالى ما خير ما أعطى الرجل قال غريزة عقل قيل فإن لم يكن قال أدب حسن قيل فإن لم يكن قال أخ صالح يستشيره قيل فإن لم يكن قال صمت طويل قيل فإن لم يكن قال موت عاجل.
[*] (قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى في ذكر فضيلة العقل:
إنما تتبين فضيلة الشيء بثمرته وفائدته وقد عرفت ثمرة العقل وفائدته فإنه هو الذي دل على الإله وأمر بطاعته وامتثال أمره وثبت معجزات الرسل وأمر بطاعتهم وتلمح العواقب فاعتبرها فراقبها وعمل بمقتضى مصالحها وقاوم الهوى فرد غربه وأدرك الأمور الغامضة ودبر على استخدام المخلوقات فاستخدمها وحث على الفضائل ونهى عن الرذائل وشد أسر الحزم وقوى أزر العزم واستجلب ما يزين ونفى ما يشين فإذا ترك وسلطانه أسر فضول الهوى فحصرها في حبس المنع وكفى بهذه الأوصاف فضل.
(أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن حبيب الجلاب قال قيل لابن المبارك ما خير ما أعطى الرجل؟ قال غريزة عقل، قيل فإن لم يكن قال أدب حسن، قيل فإن لم يكن قال أخ صالح يستشيره قيل فإن لم يكن قال صمت طويل قيل فإن لم يكن قال موت عاجل.
(أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن ابن المبارك قال سئل عقيل ما أفضل ما أعطى العبد قال غريزة عقل قال فإن لم يكن قال فأدب حسن قال فإن لم يكن قال فأخ شقيق يستشيره قال فإن لم يكون فطول الصمت قال فإن لم يكن قال فموت عاجل.
[*] (وأورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن ابن عامر قال قلت لعطاء بن أبي رباح يا أبا محمد ما أفضل ما أعطى العبد قال العقل عن الله.
(ثم قال رحمه الله تعالى:
قال أبو حاتم:
فالواجب على العاقل أن يكون بما أحيا عقله من الحكمة أكلف منه بما أحيا جسده من القوت لأن قوت الأجساد المطاعم وقوت العقل الحكم فكما أن الأجساد تموت عند فقد الطعام والشراب وكذلك العقول إذا فقدت قوتها من الحكمة ماتت 0
والتقلب في الأمصار والأعتبار بخلق الله مما يزيد المرء عقلا وإن عدم المال في تقلبه 0
(ثم قال رحمه الله تعالى:
قال أبو حاتم العقل دواء القلوب ومطية المجتهدين وبذر حراثة الآخرة، وتاج المؤمن في الدنيا وعدته في وقوع النوائب ومن عُِدمَ العقل لم يزده السلطان عزا ولا المال يرفعه قدرا ولا عقل لمن أغفله عن أخراه ما يجد من لذة دنياه فكما أن أشد الزمانه الجهل كذلك أشد الفاقه عدم العقل.(9/19)
والعقل والهوى متعاديان فالواجب على المرء أن يكون لرأيه مسعفا ولهواه مسوفا فإذ أشتبه عليه أمران اجتنب أقربهما من هواه لأن في مجانبته الهوى إصلاح السرائر وبالعقل تصلح الضمائر 0
(أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن المداينى قال قال معاوية بن أبي سفيان لرجل من العرب عمر دهرا أخبرني بأحسن شيء رأيته قال عقل طلب به مروءة مع تقوى الله وطلب الآخرة.
(ولله درُ من قال:
إذا تم عقل المرء تمت أموره ... وتمت أياديه وتم بناؤه
فإن لم يكن عقل تَبَيَنَ نَقْصُه ... ولو كان ذا مال كثيرا عطاؤه
(أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن عمران بن خالد الخزاعي قال سمعت الحسن يقول ما تم دين عبد قط حتى يتم عقله.
{تنبيه}: (مما يحسن التنبيه عليه أن كل ما ورد في فضل العقل من الأحاديث لا يصح منها شيء , و هي تدور بين الضعف و الوضع.
وقد قال العلامة ابن القيم في " المنار " (ص 25): أحاديث العقل كلها كذب. و انظر الحديث (370 و 5644).
(تعريف العقل:
((قال الماوردي رحمه الله تعالى في أدب الدين والدنيا:(9/20)
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ وَفِي صِفَتِهِ عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى. فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ جَوْهَرٌ لَطِيفٌ يُفْصَلُ بِهِ بَيْنَ حَقَائِقِ الْمَعْلُومَاتِ. وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِي مَحَلِّهِ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَحَلُّهُ الدِّمَاغُ؛ لِأَنَّ الدِّمَاغَ مَحَلُّ الْحِسِّ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْهُمْ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ مَعْدِنُ الْحَيَاةِ وَمَادَّةُ الْحَوَاسِّ. وَهَذَا الْقَوْلُ فِي الْعَقْلِ بِأَنَّهُ جَوْهَرٌ لَطِيفٌ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: إنَّ الْجَوَاهِرَ مُتَمَاثِلَةٌ فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يُوجِبَ بَعْضُهَا مَا لاَ يُوجِبُ سَائِرُهَا. وَلَوْ أَوْجَبَ سَائِرُهَا مَا يُوجِبُ بَعْضُهَا لاَسْتَغْنَى الْعَاقِلُ بِوُجُودِ نَفْسِهِ عَنْ وُجُودِ عَقْلِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْجَوْهَرَ يَصِحُّ قِيَامُهُ بِذَاتِهِ. فَلَوْ كَانَ الْعَقْلُ جَوْهَرًا لَجَازَ أَنْ يَكُونَ عَقْلٌ بِغَيْرِ عَاقِلٍ كَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ جِسْمٌ بِغَيْرِ عَقْلٍ فَامْتَنَعَ بِهَذَيْنِ أَنْ يَكُونَ الْعَقْلُ جَوْهَرًا. وَقَالَ آخَرُونَ: الْعَقْلُ هُوَ الْمُدْرِكُ لِلْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ حَقَائِقِ الْمَعْنَى. وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ مِمَّا قَبْلَهُ فَبَعِيدٌ مِنْ الصَّوَابِ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ الإدْرَاكَ مِنْ صِفَاتِ الْحَيِّ، وَالْعَقْلُ عَرَضٌ يَسْتَحِيلُ ذَلِكَ مِنْهُ كَمَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُتَلَذِّذًا أَوْ آلِمًا أَوْ مُشْتَهِيًا.
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ الْعَقْلُ هُوَ جُمْلَةُ عُلُومٍ ضَرُورِيَّةٍ وَهَذَا الْحَدُّ غَيْرُ مَحْصُورٍ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الإجْمَالِ، وَيَتَأَوَّلُهُ مِنْ الاحْتِمَالِ. وَالْحَدُّ إنَّمَا هُوَ بَيَانُ الْمَحْدُودِ بِمَا يَنْفِي عَنْهُ الإجْمَالَ وَالاحْتِمَالَ.(9/21)
وَقَالَ آخَرُونَ، وَهُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ: «إنَّ الْعَقْلَ هُوَ الْعِلْمُ بِالْمُدْرَكَاتِ الضَّرُورِيَّةِ». وَذَلِكَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا مَا وَقَعَ عَنْ دَرَكِ الْحَوَاسِّ. وَالثَّانِي: مَا كَانَ مُبْتَدِئًا فِي النُّفُوسِ. فَأَمَّا مَا كَانَ وَاقِعًا عَنْ دَرَكِ الْحَوَاسِّ فَمِثْلُ الْمَرْئِيَّاتِ الْمُدْرَكَةِ بِالنَّظَرِ، وَالأصْوَاتِ الْمُدْرَكَةِ بِالسَّمْعِ، وَالطُّعُومِ الْمُدْرَكَةِ بِالذَّوْقِ، وَالرَّوَائِحِ الْمُدْرَكَةِ بِالشَّمِّ، وَالأجْسَامِ الْمُدْرَكَةِ بِاللَّمْسِ، فَإِذَا كَانَ الإنْسَانُ مِمَّنْ لَوْ أَدْرَكَ بِحَوَاسِّهِ هَذِهِ الأشْيَاءَ ثَبَتَ لَهُ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُ فِي حَالِ تَغْمِيضِ عَيْنَيْهِ مِنْ أَنْ يُدْرِكَ بِهِمَا وَيَعْلَمَ لاَ يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَامِلَ الْعَقْلِ مِنْ حَيْثُ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَ لَعَلِمَ. وَأَمَّا مَا كَانَ مُبْتَدِئًا فِي النُّفُوسِ فَكَالْعِلْمِ بِأَنَّ الشَّيْءَ لاَ يَخْلُو مِنْ وُجُودٍ أَوْ عَدَمٍ، وَأَنَّ الْمَوْجُودَ لاَ يَخْلُو مِنْ حُدُوثٍ أَوْ قِدَمٍ، وَأَنَّ مِنْ الْمُحَالِ اجْتِمَاعَ الضِّدَّيْنِ، وَأَنَّ الْوَاحِدَ أَقَلُّ مِنْ الاثْنَيْنِ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعِلْمِ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْ الْعَاقِلِ مَعَ سَلاَمَةِ حَالِهِ، وَكَمَالِ عَقْلِهِ، فَإِذَا صَارَ عَالِمًا بِالْمُدْرَكَاتِ الضَّرُورِيَّةِ مِنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ فَهُوَ كَامِلُ الْعَقْلِ «وَسُمِّيَ بِذَلِكَ تَشْبِيهًا بِعَقْلِ النَّاقَةِ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ يَمْنَعُ الإنْسَانَ مِنْ الإقْدَامِ عَلَى شَهَوَاتِهِ إذَا قَبُحَتْ»، كَمَا يَمْنَعُ الْعَقْلُ النَّاقَةَ مِنْ الشُّرُودِ إذَا نَفَرَتْ. وَلِذَلِكَ قَالَ عَامِرُ بْنُ قَيْسٍ: «إذَا عَقْلُك عَقَلَك عَمَّا لاَ يَنْبَغِي فَأَنْتَ عَاقِلٌ».
(وقال أيضاً رحمه الله تعالى:(9/22)
وَكُلُّ مَنْ نَفَى أَنْ يَكُونَ الْعَقْلُ جَوْهَرًا أَثْبَتَ مَحَلَّهُ فِي الْقَلْبِ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ مَحَلُّ الْعُلُومِ كُلِّهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الارْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46]. فَدَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّ الْعَقْلَ عِلْمٌ، وَالثَّانِي: أَنَّ مَحَلَّهُ الْقَلْبُ. وَفِي قوله تعالى: {يَعْقِلُونَ بِهَا}، تَأْوِيلاَنِ: أَحَدُهُمَا: يَعْلَمُونَ بِهَا، وَالثَّانِي يَعْتَبِرُونَ بِهَا. فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي الْعَقْلِ الْغَرِيزِيِّ. وَقَدْ قِيلَ: الْعَاقِلُ مَنْ عَقَلَ عَنْ اللَّهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ حَتَّى قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه فِيمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِأَعْقَلِ النَّاسِ أَنَّهُ يَكُونُ مَصْرُوفًا فِي الزُّهَّادِ؛ لِأَنَّهُمْ انْقَادُوا لِلْعَقْلِ وَلَمْ يَغْتَرُّوا بِالأمَلِ. أهـ
(وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:
اختلف الناس في ماهية العقل اختلافا كثيرا، فقال قوم هو ضرب من العلوم الضرورية.
وقال آخرون هو غريزة يتأتى معها درك العلوم.
وقال آخرون هو قوة يفصل بها بين حقائق المعلومات.
وقال آخرون هو جوهر بسيط وقال قوم هو جسم شفاف.
وقال الحارث المحاسبي هو نور.
وبهذا قال أبو الحسن التميمي من أصحابنا وروى إبراهيم الحربي عن أحمد أنه قال العقل غريزة وقد روى عن المحاسبي أيضا مثله.
والتحقيق في هذا أن يقال العقل غريزة كأنها نور يقذف في القلب فيستعد لإدراك الأشياء فيعلم جواز الجائزات واستحالة المستحيلات ويتلمح عواقب الأمور.
وذلك النور يقل ويكثر وإذا قوى ذلك النور قمع بملاحظة العواقب عاجل الهوى. أهـ
(وقال ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء:
والعقل اسم يقع على المعرفة بسلوك الصواب والعلم باجتناب الخطأ فإذا كان المرء في أول درجته يسمى أديبا ثم أريبا ثم لبيبا ثم عاقلا كما أن الرجل إذا دخل في أول حد الدهاء قيل له شيطان فإذا عتا في الطغيان قيل مارد فإذا زاد على ذلك قيل عبقري فإذا جمع إلى خبثه شدة شر قيل عفريت.
وكذلك الجاهل يقال له في أول درجته المائق ثم الرقيع ثم الأنوك ثم الأحمق 0(9/23)
وأفضل مواهب الله لعباده العقل ولقد أحسن الذي يقول ... وأفضل قسم الله للمرء عقله ... فليس من الخيرات شيء يقاربه ... إذا أكمل الرحمن للمرء عقله ... فقد كملت أخلاقه ومآربه ... يعيش الفتى في الناس بالعقل إنه ... على العقل يجري علمه وتجاربه ... يزيد الفتى في الناس جودة عقله ... وإن كان محظورا عليه مكاسبه. أهـ ...
(محل العقل:
(قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:
أكثر أصحابنا يقولون محله القلب وهو مروي عن الشافعي
رحمه الله تعالى، ودليلهم قوله تعالى قال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ) [الحج: 46]
وقوله تعالى: (إِنّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىَ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)
[ق: 37] قلب قالوا المراد لمن كان له عقل فعبر بالقلب عن العقل لأنه محله.
ونقل الفضل بن زياد عن أحمد رضي الله عنه أن محله الدماغ.
وهو اختيار أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه.
(أقسام العقل:
ينقسم العقل إلى قسمين: غريزي ومكتسب.
(فالغريزي هو العقل الحقيقي.
وله حد يتعلق به التكليف لا يجاوزه إلى زيادة ولا يقصر عنه إلى نقصان.
وبه يمتاز الإنسان عن سائر الحيوان، فإذا تم في الإنسان سمي عاقلاً وخرج به إلى حد الكمال، كما قال صالح بن عبد القدوس: إذا تم عقل المرء تمت أموره وتمت أمانيه وتم بناؤه.
(وأما العقل المكتسب فهو نتيجة العقل الغريزي وهو نهاية المعرفة، وصحة السياسة، وإصابة الفكرة. وليس لهذا حد؛ لأنه ينمو إن استعمل وينقص إن أهمل.
(حكى الأصمعي رحمه الله قال: قلت لغلام حدث من أولاد العرب كان يحادثني فأمتعني بفصاحة وملاحة: أيسرك أن يكون لك مائة ألف درهم، وأنت أحمق؟ قال: لا والله. قال: فقلت: ولم؟ قال: أخاف أن يجني علي حمقي جناية تذهب بمالي ويبقى علي حمقي.
فانظر إلى هذا الصبي كيف استخرج بفرط ذكائه، واستنبط بجودة قريحته ما لعله يدق على من هو أكبر منه سنا، وأكثر تجربة. وأحسن من هذا الذكاء والفطنة
(حكى ابن قتيبة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بصبيان يلعبون وفيهم عبد الله بن الزبير فهربوا منه إلا عبد الله.
فقال له عمر رضي الله عنه: ما لك؟ لم لا تهرب مع أصحابك؟ فقال: يا أمير المؤمنين لم أكن على ريبة فأخافك، ولم يكن الطريق ضيقا فأوسع لك.
فانظر ما تضمنه هذا الجواب من الفطنة وقوة المنة وحسن البديهة.(9/24)
كيف نفى عنه اللوم، وأثبت له الحجة فليس للذكاء غاية، ولا لجودة القريحة نهاية.
((قال الماوردي رحمه الله تعالى في أدب الدين والدنيا:
وَاعْلَمْ أَنَّ بِالْعَقْلِ تُعْرَفُ حَقَائِقُ الأمُورِ وَيُفْصَلُ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَقَدْ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: غَرِيزِيٍّ وَمُكْتَسَبٍ. فَالْغَرِيزِيُّ هُوَ الْعَقْلُ الْحَقِيقِيُّ. وَلَهُ حَدٌّ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ لاَ يُجَاوِزُهُ إلَى زِيَادَةٍ وَلاَ يَقْصُرُ عَنْهُ إلَى نُقْصَانٍ. وَبِهِ يَمْتَازُ الإنْسَانُ عَنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ، فَإِذَا تَمَّ فِي الإنْسَانِ سُمِّيَ عَاقِلاً وَخَرَجَ بِهِ إلَى حَدِّ الْكَمَالِ كَمَا قَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ: «إذَا تَمَّ عَقْلُ الْمَرْءِ تَمَّتْ أُمُورُهُ وَتَمَّتْ أَمَانِيهِ وَتَمَّ بِنَاؤُهُ» وَرَوَى الضَّحَّاكُ فِي قوله تعالى: {لِيُنْذَرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} [يس: 70] أَيْ مَنْ كَانَ عَاقِلاً.
(العلاقة بين العقل الغريزي والمكتسب:
((قال الماوردي رحمه الله تعالى في أدب الدين والدنيا:
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَقْلَ الْمُكْتَسَبَ لاَ يَنْفَكُّ عَنْ الْعَقْلِ الْغَرِيزِيِّ؛ لِأَنَّهُ نَتِيجَةٌ مِنْهُ. وَقَدْ يَنْفَكُّ الْعَقْلُ الْغَرِيزِيُّ عَنْ الْعَقْلِ الْمُكْتَسَبِ فَيَكُونَ صَاحِبُهُ مَسْلُوبَ الْفَضَائِلِ، مَوْفُورَ الرَّذَائِلِ، كَالأنْوَكِ الَّذِي لاَ يَجِدُ لَهُ فَضِيلَةً، وَالأحْمَقُ الَّذِي قَلَّ مَا يَخْلُو مِنْ رَذِيلَةٍ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْحَاجَةُ إلَى الْعَقْلِ أَقْبَحُ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى الْمَالِ،
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: دَوْلَةُ الْجَاهِلِ عِبْرَةُ الْعَاقِلِ،
وَقَالَ أَنُوشِرْوَانَ لِبَزَرْجَمْهَرَ: أَيُّ الاشْيَاءِ خَيْرٌ لِلْمَرْءِ؟ قَالَ: عَقْلٌ يَعِيشُ بِهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟ قَالَ: فَإِخْوَانٌ يَسْتُرُونَ عَيْبَهُ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟ قَالَ: فَمَالٌ يَتَحَبَّبُ بِهِ إلَى النَّاسِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟ قَالَ: فَعِيٌّ صَامِتٌ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟ قَالَ: فَمَوْتٌ جَارِفٌ.(9/25)
وَقَالَ سَابُورُ بْنُ أَرْدَشِيرَ: الْعَقْلُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا مَطْبُوعٌ، وَالآخَرُ مَسْمُوعٌ. وَلاَ يَصْلُحُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلا بِصَاحِبِهِ، فَأَخَذَ ذَلِكَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ: رَأَيْتُ الْعَقْلَ نَوْعَيْنِ فَمَسْمُوعٌ وَمَطْبُوعُ وَلاَ يَنْفَعُ مَسْمُوعٌ إذَا لَمْ يَكُ مَطْبُوعُ كَمَا لاَ تَنْفَعُ الشَّمْسُ وَضَوْءُ الْعَيْنِ مَمْنُوعُ.
وَقَدْ وَصَفَ بَعْضُ الأدَبَاءِ الْعَاقِلَ بِمَا فِيهِ مِنْ الْفَضَائِلِ، وَالأحْمَقَ بِمَا فِيهِ مِنْ الرَّذَائِلِ، فَقَالَ: الْعَاقِلُ إذَا وَالَى بَذَلَ فِي الْمَوَدَّةِ نَصْرَهُ، وَإِذَا عَادَى رَفَعَ عَنْ الظُّلْمِ قَدْرَهُ، فَيُسْعِدُ مَوَالِيَهُ بِعَقْلِهِ، وَيَعْتَصِمُ مُعَادِيهِ بِعَدْلِهِ. إنْ أَحْسَنَ إلَى أَحَدٍ تَرَكَ الْمُطَالَبَةَ بِالشُّكْرِ، وَإِنْ أَسَاءَ إلَيْهِ مُسِيءٌ سَبَّبَ لَهُ أَسْبَابَ الْعُذْرِ، أَوْ مَنَحَهُ الصَّفْحَ وَالْعَفْوَ. وَالأحْمَقُ ضَالٌّ مُضِلٌّ إنْ أُونِسَ تَكَبَّرَ، وَإِنْ أُوحِشَ تَكْدَرَ، وَإِنْ اُسْتُنْطِقَ تَخَلَّفَ، وَإِنْ تُرِكَ تَكَلَّفَ. مُجَالَسَتُهُ مِهْنَةٌ، وَمُعَاتَبَتُهُ مِحْنَةٌ، وَمُحَاوَرَتُهُ تَعَرٍّ، وَمُوَالاتُهُ تَضُرُّ، وَمُقَارَبَتُهُ عَمَى، وَمُقَارَنَتُهُ شَقَا. وَكَانَتْ مُلُوكُ الْفُرْسِ إذَا غَضِبَتْ عَلَى عَاقِلٍ حَبَسَتْهُ مَعَ جَاهِلٍ.
وَالأحْمَقُ يُسِيءُ إلَى غَيْرِهِ وَيَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ أَحْسَنَ إلَيْهِ فَيُطَالِبُهُ بِالشُّكْرِ، وَيُحْسِنُ إلَيْهِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ أَسَاءَ فَيُطَالِبُهُ بِالْوَتَرِ. فَمَسَاوِئُ الأحْمَقِ لاَ تَنْقَضِي وَعُيُوبُهُ لاَ تَتَنَاهَى وَلاَ يَقِفُ النَّظَرُ مِنْهَا إلَى غَايَةٍ إلا لَوَّحَتْ مَا وَرَاءَهَا مِمَّا هُوَ أَدْنَى مِنْهَا، وَأَرْدَى، وَأَمَرُّ، وَأَدْهَى. فَمَا أَكْثَرَ الْعِبْرَ لِمَنْ نَظَرَ، وَأَنْفَعَهَا لِمَنْ اعْتَبَرَ. وَقَالَ الأحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُحْفَظُ الأحْمَقُ إلا مِنْ نَفْسِهِ.(9/26)
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: إنَّ الدُّنْيَا رُبَّمَا أَقْبَلَتْ عَلَى الْجَاهِلِ بِالاتِّفَاقِ، وَأَدْبَرَتْ عَنْ الْعَاقِلِ بِالاسْتِحْقَاقِ. فَإِنْ أَتَتْك مِنْهَا سُهْمَةٌ مَعَ جَهْلٍ، أَوْ فَاتَتْك مِنْهَا بُغْيَةٌ مَعَ عَقْلٍ، فَلاَ يَحْمِلَنَّكَ ذَلِكَ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي الْجَهْلِ، وَالزُّهْدِ فِي الْعَقْلِ. فَدَوْلَةُ الْجَاهِلِ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ، وَدَوْلَةُ الْعَاقِلِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ. وَلَيْسَ مَنْ أَمْكَنَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ، كَمَنْ اسْتَوْجَبَهُ بِآلَتِهِ، وَأَدَوَاتِهِ. وَبَعْدُ فَدَوْلَةُ الْجَاهِلِ كَالْغَرِيبِ الَّذِي يَحِنُّ إلَى النُّقْلَةِ، وَدَوْلَةُ الْعَاقِلِ كَالنَّسِيبِ الَّذِي يَحِنُّ إلَى الْوَصْلَةِ. فَلاَ يَفْرَحُ الْمَرْءُ بِحَالَةٍ جَلِيلَةٍ نَالَهَا بِغَيْرِ عَقْلٍ، وَمَنْزِلَةٍ رَفِيعَةٍ حَلَّهَا بِغَيْرِ فَضْلٍ. فَإِنَّ الْجَهْلَ يُنْزِلُهُ مِنْهَا، وَيُزِيلُهُ عَنْهَا، وَيَحُطُّهُ إلَى رُتْبَتِهِ، وَيَرُدُّهُ إلَى قِيمَتِهِ، بَعْدَ أَنْ تَظْهَرَ عُيُوبُهُ، وَتَكْثُرَ ذُنُوبُهُ، وَيَصِيرَ مَادِحُهُ هَاجِيًا، وَوَلِيُّهُ مُعَادِيًا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ بِحَسَبِ مَا يُنْشَرُ مِنْ فَضَائِلِ الْعَاقِلِ، كَذَلِكَ يَظْهَرُ مِنْ رَذَائِلِ الْجَاهِلِ، حَتَّى يَصِيرَ مَثَلاً فِي الْغَابِرِينَ، وَحَدِيثًا فِي الآخِرِينَ، مَعَ هَتْكِهِ فِي عَصْرِهِ،(9/27)
وَاسْتَعْمَلَ مُعَاوِيَةُ رَجُلاً مِنْ كَلْبٍ فَذُكِرَ الْمَجُوسُ يَوْمًا عِنْدَهُ فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْمَجُوسَ يَنْكِحُونَ أُمَّهَاتِهِمْ، وَاَللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ عَشْرَةَ الآفِ دِرْهَمٍ مَا نَكَحْت أُمِّي. فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: ـ قَبَّحَهُ اللَّهُ ـ أَتَرَوْنَهُ لَوْ زَادُوهُ فَعَلَ؟ وَعَزَلَهُ وَوَلَّى الرَّبِيعَ الْعَامِرِيَّ ـ وَكَانَ مِنْ النَّوْكَى ـ عَلَى سَائِرِ الْيَمَامَةِ فَأَقَادَ كَلْبًا بِكَلْبٍ فَقَالَ فِيهِ الشَّاعِرُ: شَهِدْت بِأَنَّ اللَّهَ حَقًّا لِقَاؤُهُ وَأَنَّ الرَّبِيعَ الْعَامِرِيَّ رَقِيعُ أَقَادَ لَنَا كَلْبًا بِكَلْبٍ وَلَمْ يَدَعْ دِمَاءَ كِلاَبِ الْمُسْلِمِينَ تَضِيعُ وَلَيْسَ لِمَعَارِّ الْجَهْلِ غَايَةٌ، وَلاَ لِمَضَارِّ الْحُمْقِ نِهَايَةٌ. قَالَ الشَّاعِرُ: لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ يُسْتَطَبُّ بِهِ إلا الْحَمَاقَةَ أَعْيَتْ مَنْ يُدَاوِيهَا. أهـ
(ما يزداد به العاقل من نماء عقله:
(قال ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء:
والذي يزداد به العاقل من نماء عقله هو التقرب من أشكاله والتباعد من أضداده0
(أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن أبى مالك الغزي قال سمعت أبي يقول جالسوا الألباء أصدقاء كانوا أو أعداء فإن العقول تلقح العقول.
قال أبو حاتم مجالسة العقلاء لا تخلو من أحد معنيين إما تذكر الحالة التي يحتاج العاقل إلى الانتباه لها أو الإفادة بالشيء الخطير الذي يحتاج الجاهل إلى معرفتها0
فقرب العاقل غنم لأشكاله وعبره لأضداده على الأحوال كلها ولا يجب لمن تسمى به أن يتدلل إلا على من يحتمل دلاله ويقبل إلا على من يحب إقباله ولو كان للعقل أبوان لكان أحدهما الصبر والأخر التثبت0
جعلنا الله ممن ركب فيه حسن وجود العقل فسلك بتمام النعم مسلك الخصال التي تقربه إلى ربه في دارى الأمد والأبد إنه الفعال لما يريد0
(أول شعب العقل هو لزوم تقوى الله وإصلاح السريرة:
أول شعب العقل هو لزوم تقوى الله وإصلاح السريرة لأن من أصلح سريرته أصلح الله علانيته0
(ولله درُ من قال:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل ... خلوت ولكن قل على رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ... ولا أن ما يخفى عليه يغيب
(أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن مالك بن دينار قال اتخذ طاعة الله تجارة تأتك الأرباح من غير بضاعة0(9/28)
(أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن عون بن عبد الله قال قال عمر بن الخطاب جالسوا التوابين فإنهم أرق أفئدة 0
(أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن عطاء الأزرق قال قال رجل للحسن يا أبا سعيد كيف أنت وكيف حالك قال كيف حال من أمسى وأصبح ينتظر الموت ولا يدري ما يصنع به.
(ذم الهوى:
(تعريف الهوى:
مسألة: ما هو الهوى؟
[*] (قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:
الهوى: ميل الطبع إلى ما يلائمه، وهذا الميل قد خُلِقَ في الإنسان لضرورة بقائه فإنه لولا ميله إلى المطعم ما أكل وإلى المشرب ما شرب وإلى المنكح ما نكح، وكذلك كل ما يشتهيه فالهوى مستجلب له ما يفيد كما أن الغضب دافع عنه ما يؤذى فلا يصلح ذم الهوى على الإطلاق وإنما يذم المُفْرِطُ من ذلك وهو ما يزيد على جلب المصالح ودفع المضار.
ولما كان الغالب من موافق الهوى أنه لا يقف منه على حد المنتفع أطلق ذم الهوى والشهوات لعموم غلبة الضرر لأنه يبعد أن يفهم المقصود من وضع الهوى في النفس وإذا فهم تعذر وجود العمل به وندر مثاله أن شهوة المطعم إنما خلقت لاجتلاب الغذاء فيندر من يتناول بمقتضى مصلحته ولا يتعدى فإن وجد ذلك انغمر ذكر الهوى في حق هذا الشخص وصار مستعملا للمصالح وأما الأغلب من الناس فإنهم يوافقون الهوى فإن حصلت مصلحة حصلت ضمنا وتبعا فلما كان هذا هو الغالب ذكرت في هذا الباب ذم الهوى والشهوات مطلقا ووسمت كتابي ب (ذم الهوى) لذلك المعنى.
وقد روى عن ابن عباس أنه قال ما ذكر الله تعالى الهوى في موضع من كتابه إلا ذمه وقال الشعبي إنما سمي هوى لأنه يهوى بصاحبه.
(وقال أيضاً: واعلم أن الهوى يسري بصاحبه في فنون ويخرجه من دار العقل إلى
دائرة الجنون.
وقد يكون الهوى في العلم فيخرج بصاحبه إلى ضد ما يأمر به العلم.
وقد يكون في الزهد فيخرج إلى الرياء.
(الفَرْقُ مَا بَيْنَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ:
((قال الماوردي رحمه الله تعالى في أدب الدين والدنيا:(9/29)
فَأَمَّا فَرْقُ مَا بَيْنَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ مَعَ اجْتِمَاعِهِمَا فِي الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ، وَاتِّفَاقِهِمَا فِي الدَّلاَلَةِ وَالْمَدْلُولِ، فَهُوَ أَنَّ الْهَوَى مُخْتَصٌّ بِالأرَاءِ وَالاعْتِقَادَاتِ، وَالشَّهْوَةَ مُخْتَصَّةٌ بِنَيْلِ اللَّذَّةِ. «فَصَارَتْ الشَّهْوَةُ مِنْ نَتَائِجِ الْهَوَى وَهِيَ أَخَصُّ»، وَالْهَوَى أَصْلٌ هُوَ أَعَمُّ. وَنَحْنُ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَكْفِيَنَا دَوَاعِيَ الْهَوَى، وَيَصْرِفَ عَنَّا سُبُلَ الرَّدَى، وَيَجْعَلَ التَّوْفِيقَ لَنَا قَائِدًا، وَالْعَقْلَ لَنَا مُرْشِدًا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كُنَاسَةَ:
مَا مَنْ رَوَى أَدَبًا فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ: وَيَكُفَّ عَنْ زَيْغِ الْهَوَى بِأَدِيبِ
حَتَّى يَكُونَ بِمَا تَعَلَّمَ عَامِلاً: مِنْ صَالِحٍ فَيَكُونَ غَيْرَ مَعِيبِ
وَلَقَلَّمَا تُغْنِي إصَابَةُ قَائِلٍ أَفْعَالُهُ: أَفْعَالُ غَيْرِ مُصِيبِ
وَقَالَ آخَرُ:
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ: هَلاَ لِنَفْسِك كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ
تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ وَذِي الضَّنَى: كَيْمَا يَصِحَّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ
ابْدَأْ بِنَفْسِك فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا: فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ
فَهُنَاكَ تُعْذَرُ إنْ وَعَظْتَ وَيُقْتَدَى: بِالْقَوْلِ مِنْك وَيُقْبَلُ التَّعْلِيمُ
لاَ تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ: عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْت عَظِيمُ(9/30)
حَكَى أَبُو فَرْوَةَ أَنَّ طَارِقًا صَاحِبَ شُرْطَةِ خَالِدٍ الْقَسْرِيِّ مَرَّ بِابْنِ شُبْرُمَةَ وَطَارِقٍ فِي مَوْكِبِهِ فَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: أَرَاهَا وَإِنْ كَانَتْ تَخُبُّ كَأَنَّهَا سَحَابَةُ صَيْفٍ عَنْ قَرِيبٍ تَقَشَّعُ اللَّهُمَّ لِي دِينِي وَلَهُمْ دُنْيَاهُمْ. فَاسْتُعْمِلَ ابْنُ شُبْرُمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْقَضَاءِ فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ: أَتَذْكُرُ قَوْلَك يَوْمَ كَذَا إذْ مَرَّ بِك طَارِقٌ فِي مَوْكِبِهِ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إنَّهُمْ يَجِدُونَ مِثْلَ أَبِيك وَلاَ يَجِدُ أَبُوك مِثْلَهُمْ. «إنَّ أَبَاك أَكَلَ مِنْ حَلاَوَتِهِمْ، فَحَطَّ فِي أَهْوَائِهِمْ». أَمَا تَرَى هَذَا الدَّيِّنَ الْفَاضِلَ كَيْفَ عُوجِلَ بِالتَّقْرِيعِ وَقُوبِلَ بِالتَّوْبِيخِ مِنْ أَخَصِّ ذَوِيهِ، وَلَعَلَّهُ مِنْ أَبَرِّ بَنِيهِ. فَكَيْفَ بِنَا وَنَحْنُ أَطْلَقُ مِنْهُ عَنَانًا، وَأَقْلَقُ مِنْهُ جَنَانًا. إذَا رَمَقَتْنَا أَعْيُنُ الْمُتَتَبِّعِينَ، وَتَنَاوَلَتْنَا أَلْسُنُ الْمُتَعَتِّبِينَ. هَلْ نَجِدُ غَيْرَ تَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى مَلاَذًا، وَسِوَى عِصْمَتِهِ مَعَاذًا؟ أهـ
(ذم الهوى وأتباعه:
((قال الماوردي رحمه الله تعالى في أدب الدين والدنيا:
وَأَمَّا الْهَوَى فَهُوَ عَنْ الْخَيْرِ صَادٌّ، وَلِلْعَقْلِ مُضَادٌّ؛ لِأَنَّهُ يُنْتِجُ مِنْ الأخْلاَقِ قَبَائِحَهَا، وَيُظْهِرُ مِنْ الأفْعَالِ فَضَائِحَهَا، وَيَجْعَلُ سِتْرَ الْمُرُوءَةِ مَهْتُوكًا، وَمَدْخَلَ الشَّرِّ مَسْلُوكًا.
(قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «الْهَوَى إلَهٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ». ثُمَّ تَلاَ: {أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]
وَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي قوله تعالى: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} يَعْنِي بِالشَّهَوَاتِ {وَتَرَبَّصْتُمْ} يَعْنِي بِالتَّوْبَةِ {وَارْتَبْتُمْ} يَعْنِي فِي أَمْرِ اللَّهِ {وَغَرَّتْكُمْ الامَانِيُّ} يَعْنِي بِالتَّسْوِيفِ {حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} يَعْنِي الْمَوْتَ {وَغَرَّكُمْ بِاَللَّهِ الْغَرُورُ} يَعْنِي الشَّيْطَانَ.(9/31)
(وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: اقْدَعُوا هَذِهِ النُّفُوسَ عَنْ شَهَوَاتِهَا فَإِنَّهَا طَلاَعَةٌ تَنْزِعُ إلَى شَرِّ غَايَةٍ. إنَّ هَذَا الْحَقَّ ثَقِيلٌ مَرِيٌّ، وَإِنَّ الْبَاطِلَ خَفِيفٌ وَبِيٌّ، وَتَرْكُ الْخَطِيئَةِ خَيْرٌ مِنْ مُعَالَجَةِ التَّوْبَةِ وَرُبَّ نَظْرَةٍ زَرَعَتْ شَهْوَةً، وَشَهْوَةِ سَاعَةٍ أَوْرَثَتْ حُزْنًا طَوِيلاً.
(وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: أَخَافُ عَلَيْكُمْ اثْنَيْنِ: اتِّبَاعَ الْهَوَى وَطُولَ الأمَلِ. فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يَصُدُّ عَنْ الْحَقِّ وَطُولَ الأمَلِ يُنْسِي الاخِرَةَ.
(وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إنَّمَا سُمِّيَ الْهَوَى هَوًى؛ لِأَنَّهُ يَهْوِي بِصَاحِبِهِ.
(وَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: الْهَوَى هَوَانٌ وَلَكِنْ غَلِطَ بِاسْمِهِ، فَأَخَذَهُ الشَّاعِرُ وَقَالَ: إنَّ الْهَوَانَ هُوَ الْهَوَى قُلِبَ اسْمُهُ فَإِذَا هَوِيتَ فَقَدْ لَقِيت هَوَانَا وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: مَنْ أَطَاعَ هَوَاهُ، أَعْطَى عَدُوَّهُ مُنَاهُ.
(وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: «الْعَقْلُ صَدِيقٌ مَقْطُوعٌ، وَالْهَوَى عَدُوٌّ مَتْبُوعٌ».
(وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: أَفْضَلُ النَّاسِ مَنْ عَصَى هَوَاهُ، وَأَفْضَلُ مِنْهُ مَنْ رَفَضَ دُنْيَاهُ.
(وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ: إذَا أَنْتَ لَمْ تَعْصِ الْهَوَى قَادَك الْهَوَى إلَى كُلِّ مَا فِيهِ عَلَيْك مَقَالُ قَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ رحمه الله: لَمْ يَقُلْ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ سِوَى هَذَا الْبَيْتِ.
(قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: «الْهَوَى مَلِكٌ غَشُومٌ، وَمُتَسَلِّطٌ ظَلُومٌ».
(وَقَالَ بَعْضُ الادَبَاءِ: الْهَوَى عَسُوفٌ، وَالْعَدْلُ مَأْلُوفٌ.
(وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَفْضَلُ الْجِهَادِ جِهَادُ الْهَوَى.
(وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: أَعَزُّ الْعِزِّ الامْتِنَاعُ مِنْ مِلْكِ الْهَوَى.
(وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: الْهَوَى عَمًى.(9/32)
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: رَكَّبَ اللَّهُ الْمَلاَئِكَةَ مِنْ عَقْلٍ بِلاَ شَهْوَةٍ، وَرَكَّبَ الْبَهَائِمَ مِنْ شَهْوَةٍ بِلاَ عَقْلٍ، وَرَكَّبَ ابْنَ آدَمَ مِنْ كِلَيْهِمَا؛ فَمَنْ غَلَّبَ عَقْلَهُ عَلَى شَهْوَتِهِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ، وَمَنْ غَلَبَتْ شَهْوَتُهُ عَلَى عَقْلِهِ فَهُوَ شَرٌّ مِنْ الْبَهَائِمِ.
(قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: إيَّاكُمْ وَتَحْكِيمَ الشَّهَوَاتِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّ «عَاجِلَهَا ذَمِيمٌ، وَآجِلَهَا وَخِيمٌ»، فَإِنْ لَمْ تَرَهَا تَنْقَادُ بِالتَّحْذِيرِ وَالإرْهَابِ، فَسَوِّفْهَا بِالتَّأْمِيلِ وَالإرْغَابِ، فَإِنَّ الرَّغْبَةَ وَالرَّهْبَةَ إذَا اجْتَمَعَا عَلَى النَّفْسِ ذَلَّتْ لَهُمَا وَانْقَادَتْ.
(وَقَدْ قَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ: كُنْ لِهَوَاك مُسَوِّفًا، وَلِعَقْلِك مُسْعِفًا، وَانْظُرْ إلَى مَا تَسُوءُ عَاقِبَتُهُ فَوَطِّنْ نَفْسَك عَلَى مُجَانَبَتِهِ فَإِنَّ تَرْكَ النَّفْسِ وَمَا تَهْوَى دَاؤُهَا، وَتَرْكَ مَا تَهْوَى دَوَاؤُهَا، فَاصْبِرْ عَلَى الدَّوَاءِ، كَمَا تَخَافُ مِنْ الدَّاءِ.
(«الْهَوَى عاجِلُه ذميم وآجِلُه وخيم»، «الْهَوَى مَطِيَّةُ الْفِتْنَةِ، وَدَارُ الْمِحْنَةِ»
(أخي الحبيب:
(احذر أفاعي الهوى وعقارب اللذات وارجع إلى ربك قبل الممات، قبل أن تتمنى المهلة وهيهات. وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي برزة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى.
الغي: الضلال والانهماك في الشر.
المضلات: كل ما يبعد الناس عن الحق ويميلهم إلى الباطل ويهلكهم
الهوى: كل ما يريده الإنسان ويختاره ويرضاه ويشتهيه ويميل إليه.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاث منجيات: خشيةُ الله تعالى في السر و العلانية والعدلُ في الرضا والغضب والقصد في الفقر و الغنى و ثلاث مهلكات: هوى متبع و شحٌ مطاع وإعجاب المرء بنفسه.
(قال بعض الحكماء: إذا اشتبه عليك أمران، فانظر أقربهما من هواك فاجتنبه.
(مدح مخالفة الهوى:(9/33)
[*] (قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه المواعظ:
لله درُّ نفس تطهرت من أجناس هواها، وتجلببت جلباب الصَّبر عند دنياها، وشغلها ما رأى قلبها عما رأت عيناها، وإن مالت إلى الدنيا نهاها نُهاها، وإن مالت إلى الهوى شفاها شفاها، سهرت تطلب رضا المولى فرضي عنها وأرضاها، وقامت سوق المجاهدة على سوق هداها، فباعت حرصها بالقناعة فظفرت بغناها، وفوقت سهام العزائم إلى أهداف المحارم تبتغي علاها، ورمت نجائب الأسحار فساقها حادي الاستغفار إذ عناها، وقطعت بيداء الجد بآلة المستعد فبلغت مُنَاها، فمن أجلها ينزل القطر وينبت الزرع من جزاها، ولولاها لم تثبت الأرض بأهل دنياها، وما أعطَى الصَبابَة ما استَحقَت عَليهِ ولا قَضَى حق المنازل ملاحظها بعين غُرِّى غيري وزائراها بجسم غير ناحل.
(مدح الله تعالى مخالفة الهوى فقال تعالى: (وَأَمّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النّفْسَ عَنِ الْهَوَىَ * فَإِنّ الْجَنّةَ هِيَ الْمَأْوَىَ) [النازعات 40: 41]
قال المفسرون: هو نهي النفس عما حرم الله عليها.
وقال مقاتل: هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه للحساب فيتركها.
قال تعالى: (وَاتّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث) [الأعراف: 176] وقال تعالى: (وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) [الكهف: 28]
وقال تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتّخَذَ إِلََهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) [الفرقان: 43] وقال تعالى: (بَلِ اتّبَعَ الّذِينَ ظَلَمُوَاْ أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلّ اللّهُ) [الروم: 29]
وقال تعالى: (فَإِن لّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنّمَا يَتّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلّ مِمّنْ اتّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ اللّهِ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ) [القصص: 50]
قال بعض الحكماء: «الهوى ملك عسوف وسلطان ظالم دانت له القلوب وانقادت له النفوس.»
وقال آخر: إن لكل شيء أبا جاد وإن أبا جاد الحكمة طرد الهوى ووزن الأعمال.
[*] (قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه اللطائف:
الناسُ مِنَ الهَوى عَلى أَصنافِ هَذا ناقِضُ العَهدِ وَهَذا وافي، هَيهَات مِنً الكُدورِ تَبغي الصافي، ما يَصلُحُ لِلحَضرَةِ قَلبٌ جافي.(9/34)
[*] (وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه المواعظ:
قال تعالى: (وَأَمّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النّفْسَ عَنِ الْهَوَىَ * فَإِنّ الْجَنّةَ هِيَ الْمَأْوَىَ) [النازعات 40: 41]
والمراد بالهوى هنا: ما يهوى العبد من المحارم فيذكر مقامه للحسنات.
واعلم: أن من تفكر عند إقدامه على الخطيئة في نظر الحق إليه رده فكره خجلاً مما هم به، فالناس في ذلك على مراتب فمنهم من يتفكر عند جولان الهم بالذنب فيستحي من مساكنة ذلك الخاطر وهذا مقام أهل الصفا، ومنهم من قويت أسباب غفلته فهو ساكن ذلك الهم إلا أنه لا يعزم عليه، ومنهم من يعزم لقوة غفلته فهو يستسقي إقدامه فيما عزم عليه ومنهم من زاد على ذلك بمقارنته المحظور ومداناته ثم تدركه اليقظة وإنما يكون هذا على مقدار تكاثف الغفلة وقلتها فيفكر عند خاطره في عظمته من قد علم وعند يقظه في جلال من قد سمع وعند فعله في عزة من قد رأى وهذا الفكر إنما نبت عن إصرار راسخ من الإيمان في القلب راعاه الحق إليه حذار علته ومعاملة صادقة في الخلوة.
مسألة: ما هو التفسير الشرعي للغفلة عن التذكرة والسعي على جادة الهوى؟
[*] (قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه المواعظ:
الغفلة عن التذكرة والسعي على جادة الهوى غشي على القلب وران عليه، فإذا هم بخطيئة أو قاربها اقتلب مراعاة الحق إليه: خذ مراعاته بحق الحق قبل ذلك كما قال تعالى: (فَلَوْلاَ أَنّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات 143: 144]
وقال (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً) [الكهف: 82] وكما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة.
فما ينفر طائر قلبه من (وسخ العزم على الذنب) ثم عام في (بحر الحياة) خجلاً مما هَمَّ به يخرج نقياً بعد الوسخ طاهراً بعد النجس لأن الأصل محفوظ بالصدق ومرهون بالإيمان، ولولا لطف الحق لكشف حجب الغفلة لبراقع الذنب غير أنه أراه برهان الهدى فرجع وأقام له هاتف التقوى فخشع، والقلوب تحن إلى ما اعتادت وألفت وتنازع إلى ما مرنت عليه وعرفت 0
[*] (وأورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عن وهب بن منبه قال: «قالت امرأة العزيز ليوسف: القيطون، فادخل معي. قال: إن القيطون لا يسترني من ربي»(9/35)
[*] (أورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عن محمد بن يحيى قال: سمعت شيخا يكنى أبا عبد الرحمن العتبي يحدث عن أعرابي قال: «خرجت في بعض ليالي الظلام، فإذا أنا بجارية كأنها علم، فأردتها عن نفسها، فقالت: ويلك أما كان لك زاجر من عقل، إذ لم يكن لك ناه من دين؟ فقلت: إنه والله ما يرانا إلا الكواكب. قالت: فأين مكوكبها؟»
(استحباب مخالفة الهوى وإن كان مباحاً:
[*] (قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى: قد كان أهل الحزم يعودون أنفسهم مخالفة هواها وإن كان مباحا، ليقع التمرين للنفس على ترك الهوى مطلقا وليطلب الأرباح في المعاملة بترك المباح.
[*] (أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى عن عبد الله بن أبي عثمان قال كان عبد الله بن عمر اعتق جاريته التي يقال لها رميثة وقال إني سمعت الله قال في كتابه (لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىَ تُنْفِقُواْ مِمّا تُحِبّونَ) [آل عمران: 92] وإني والله إن كنت لأحبك في الدنيا اذهبي فأنت لوجه الله.
[*] (أورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عن ثابت البناني قال: «بلغنا أن إبليس ظهر ليحيى بن زكريا، فرأى عليه معاليق من كل شيء، فقال: ما هذه التي أراها عليك؟ قال: هذه الشهوات، أصيد بها بني آدم. قال له: لي فيها شيء؟ قال: لا. قال: فهل تصيب مني من شيء؟ قال: ربما شبعت فثقلت عن الصلاة والذكر. قال: غير هذا؟ قال: لا. قال: لا جرم لا أشبع أبدا»
لا جرم: هذه كلمة تَرِد بمعْنى تَحْقِيق الشَّيء. وقد اخْتُلف في تقديرها، فقِيل: أصْلُها التَّبْرِئة بمعنى لا بُدَّ، ثم اسْتُعْمِلت في معْنى حَقًّا. وقيل جَرَم بمعْنى كسَبَ. وقيل بمعْنى وجَبَ وحُقَّ.(9/36)
[*] (وأورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عن عن الهيثم بن عدي قال: كانت لفاطمة ابنة عبد الملك بن مروان زوجة عمر بن عبد العزيز جارية ذات جمال فائق، وكان عمر رحمه الله معجبا بها قبل أن تقضى إليه الخلافة، فطلبها منها وحرص فأبت دفعها إليه، وغارت من ذلك، فلم تزل في نفس عمر بن عبد العزيز، فلما استخلف أمرت فاطمة بالجارية فأصلحت ثم حليت، فكانت حديثا في حسنها وجمالها، ثم دخلت فاطمة على عمر فقالت: «يا أمير المؤمنين، إنك كنت بفلانة جاريتي معجبا وسألتنيها فأبيت ذلك عليك، وإن نفسي قد طابت لك بها اليوم، فدونكها، فلما قالت ذلك استبان الفرح في وجهه، ثم قال: ابعثي بها إلي، ففعلت، فلما دخلت عليه نظر إلى شيء أعجبه، فازداد بها عجبا، فقال لها: ألقي ثوبك، فلما همت أن تفعل قال: على رسلك (1)، اقعدي، أخبريني لمن كنت؟ ومن أين أنت لفاطمة؟ قالت: كان الحجاج بن يوسف أغرم عاملا كان له من أهل الكوفة مالا، وكنت في رقيق ذلك العامل، فاستصفاني عنه مع رقيق له وأموال، فبعث بي إلى عبد الملك بن مروان وأنا يومئذ صبية، فوهبني عبد الملك لابنته فاطمة. قال: وما فعل العامل؟ قالت: هلك. قال: وما ترك ولدا؟ قالت: بلى. قال: وما حالهم؟ قالت: سيئة. قال: شدي عليك ثوبك. ثم كتب إلى عبد الحميد عامله (2) أن شرح إلى فلان ابن فلان على البريد، فلما قدم قال له: ارفع إلي جميع ما أغرم الحجاج إياك. فلم يرفع إليه شيئا إلا دفعه إليه، ثم أمر بالجارية فدفعت إليه، فلما أخذ بيدها قال: إياك وإياها فإنك حديث السن، ولعل أباك أن يكون قد وطئها (3). فقال الغلام: يا أمير المؤمنين، هي لك. قال: لا حاجة لي فيها. قال: فابتعها مني. قال: لست إذا ممن ينهى النفس عن الهوى. فمضى بها الفتى، فقالت له الجارية: فأين موجدتك بي يا أمير المؤمنين؟ فقال: إنها لعلى حالها، ولقد ازدادت، فلم تزل الجارية في نفس عمر حتى مات»
(صرف ما يقع بالقلب من غلبة الشهوة:
((حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه.
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:(9/37)
ومعنى الحديث أنه يستحب لمن رأى امرأة فتحركت شهوته أن يأتي امرأته أو جاريته إن كانت له فليواقعها ليدفع شهوته وتسكن نفسه ويجمع قلبه على ما هو بصدده. قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان" قال العلماء: معناه الإشارة إلى الهوى والدعاء إلى الفتنة بها لما جعله الله تعالى في نفوس الرجال من الميل إلى النساء وإِلالتذاذ بنظرهن وما يتعلق بهن، فهي شبيهة بالشيطان في دعائه إلى الشر بوسوسته وتزيينه له، ويستنبط من هذا أنه ينبغي لها أن لا تخرج بين الرجال إلا لضرورة، وأنه ينبغي للرجال الغض عن ثيابها والإعراض عنها مطلقاً.
((حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن المرأة إذا أقبلت أقبلت في صورة شيطان فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله فإن معها مثل الذي معها.
(أحوال الإنسان مع الهوى:
للإنسان مع الهوى ثلاثة أحوال كما يقول أحد السلف:
(الحالة الأولى: أن يغلبه الهوى، فيملكه، ولا يستطيع له خلافاً، وهو حال أكثر الخلق، وهو الذي قال الله فيه: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23].
(الحالة الثانية: أن يكون الحرب بينهما سجالاً، تارةً له اليد، وتارةً عليه اليد، تارةً يغلب الهوى، وتارةً يغلب الإنسان هواه.
(الحالة الثالثة: أن يغلب الإنسان هواه، فيصير مستولياً عليه؛ مستولياً على هذا الهوى لا يقهره بحال من الأحوال، وهذا هو الملك الكبير والنعيم الحاضر، قال عليه الصلاة والسلام: (ما من أحدٍ إلا وله شيطان) أي: يأمر بالشر، حتى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمره بالشر، الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في الحديث الصحيح: (إلا أن الله أعانني عليه فأسلم)
((حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح مسلم) أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج من عندها ليلاً قالت: فغِرت عليه، فجاء فرأى ما أصنع فقال: «ما لك يا عائشة أغِرْتِ» فقلت: ما لي لا يغار مثلي على مثلك؟ فقال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لقد جاءك شيطانك»، قلت: يا رسول الله أمعي شيطان؟ قال: «نعم»، قلت: ومعك يا رسول الله؟ قال: «نعم»، ولكن أعانني الله حتى أسلم»(9/38)
قيل: إن هذا الشيطان أسلم أي: صار مسلماً، وقيل: المعنى: فأسلم أنا من شره، أي: حتى الشيطان للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسلم، فصار الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا أحد يأمره بالشر. فإذاً هذا منتهى النعيم العظيم أن الإنسان يسيطر على هواه، فلا يدخل الهوى عليه، ولا يجد عليه سبيلاً.
(أهمية علاج الهوى:
إن علاج الهوى هو لب الموضوع، وهي الثمرة والفائدة المراد معرفتها من طرق هذا الموضوع، وإن كان جزءٌ كبيرٌ من العلاج يكون في اكتشاف الحالات التي يقع فيها الهوى، لأنه كثيراً من الأحيان لا يدري الإنسان أن هذا التصرف الذي وقع به هو عبارة عن هوى، قال الشاطبي رحمه الله تعالى: مخالفة ما تهوى الأنفس شاقٌ عليها، وصعبٌ خروجها عنه، ولذلك بلغ الهوى بأهله مبالغ لا يبلغها غيرهم، وكفى شاهداً على ذلك حال المحبين، وحال من بعث إليهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المشركين وأهل الكتاب، وغيرهم ممن صمم على ما هو عليه حتى رضوا بإهلاك النفوس والأموال، كفار قريش خرجوا في معركة بدر وأهلكوا النفوس والأموال في سبيل الهوى الذي استقر في نفوسهم، وتمكن من قلوبهم، فحرمهم الاستفادة والاستجابة لدعوة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الهوى سواءً كان عند أبي جهل وغيره هو: حب الرئاسة، وسواءً كان عند سدنة الأصنام هو: حب الأصنام، وسواءً عند الغوغائيين والتبع هو: حب من يعتقدون أنه قدوتهم وأنه من أئمتهم وهم من أئمة النار في الحقيقة. فإذاً هؤلاء رضوا بإهلاك النفوس والأموال، ولم يرضوا بمخالفة الهوى، أليس كذلك؟ حتى قال الله تعالى في شأنهم: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) [الجاثية:23]
وقال تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) [محمد:14]
(قال ابن القيم رحمه الله مبيناً أهمية تخليص الأعمال من الهوى، يقول في شأن القلب وحال الإنسان: ولا تتم له سلامته مطلقاً حتى يسلم من خمسة أشياء: من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد والإخلاص.
(كيفية علاج الهوى:
علاج الهوى يكون بالرجوع إلى الكتاب والسنة وترك مناهج أهل الضلال:(9/39)
ونحن في علاجنا للهوى يجب أن نتوجه إلى دين الله نستمد من نوره نورا ومن ضيائه لمعاناً يضيء لنا الطريق في سيرنا إلى الله تعالى، وإلا فلو أننا تركنا لأنفسنا من أن نضع منهجاً لعلاج الهوى، فإننا لن نحل المعضلة، بل سنزيدها تعقيداً، لذلك كان لا بد من الذهاب إلى القرآن والسنة لمعرفة المنهج الذي على أساسه نحارب الهوى ونسيطر عليه. وقد وضع أقوامٌ من البشر مناهج يعالجون فيها الهوى، فضلوا أيما ضلال، وارتكبوا أخطاء شنيعة، ومن هؤلاء الأقوام الصوفية ومن نحا منحاهم في طريقة علاجهم للهوى، فإنهم أتوا بأشياء لم ينزل الله بها من سلطان، وابتدعوا في دين الله أشياء عجيبة، فمن ذلك أن أحدهم قال لمريد تابع له: إن أردت استخراج الهوى من نفسك، واستخراج الكبر، والاستعلاء على البشر، فعليك أن تفعل هذا الذي آمرك به، ما هو هذا الشيء؟ قال له: اذهب الساعة إلى الحجام، واحلق رأسك ولحيتك، وانزع عنك هذا اللباس، وابرز بعباءة، وعلق في عنقك حقيبة، واملأها جوزاً، واجمع حولك صبياناً، وقل بأعلى صوتك: يا صبيان! من يصفعني صفعةً فأعطيه جوزةً، وادخل إلى سوقك الذي تعظم فيه، هذا هو علاج الهوى عند هذا الرجل، حلق الرأس واللحية، ولبس الثياب البالية، ويعطي الأطفال جوزاً، ويقول: من يصفعني صفعة أعطيه جوزة.(9/40)
فهذا المنهج الضال الذي لم ينزل الله به سلطاناً ليس هو المنهج الصحيح في علاج الهوى، وهذا آخر من البشر غلبه هواه فنظر إلى جارية، فلم يفعل ما يأمره الله به من التوبة والاستغفار، وإنما ماذا حصل؟ قلع عينه التي نظر بها إلى المحرم، هذا هو العلاج!! أن يقلع عينه التي نظر بها إلى المحرم، هل هذا هو العلاج الذي أمر الله به من ينظر إلى المحرمات؟! فإذاً أيها الإخوة! الناس إذا ابتعدوا عن منهج الله، يأتون بأشياء مبتدعة غير صحيحة وهذه من جملتها، لذلك كان لا بد من التمعن في طريقة القرآن والسنة في علاج الهوى، ولما امتحن المكلف بالهوى من بين سائر البهائم، وكان كل وقت تحدث عليه الحوادث من هذا الهوى جعل فيه حاكمان: حاكم العقل، وحاكم الدين وهما لا يتناقضان، ولا يتعارضان، إذ أن الصحيح من الشرع لا يعارض الصريح من العقل مطلقاً كما دلت على ذلك قواعد القرآن والسنة، معرفة أن هذا الهوى ابتلاء من الله عز وجل مهم جداً، معرفة أن هذا الذي تميل إليه نفسك من المحرمات أنه ابتلاء يبتليك الله به حتى يعلم مدى صمودك، ومدى ثباتك، ومدى مقاومتك لنفسك في سلوك الطريق المحرم.
(وهاك طرق علاج الهوى:
(1) الاستعانة بالله عز وجل وربط القلب به سبحانه:
أول ما يحتاج الإنسان في معالجته الاستعانة بمولاه على هذا الأمر، من هو مولانا الذي نستعين به على الشدائد وعلى الأهواء التي نكابدها ونلاقيها؟ إنه الله عز وجل، ولذلك كان لا بد من فتح الطريق مباشرةً بين العبد وبين ربه في استعانته بمولاه على هذا الهوى الذي يصيبه، ومن ضمن الأشياء التي يشتمل عليها هذا المنهج في الاتصال بين العبد وربه الدعاء؛ فإنه من أنفع الأمور التي تنفع العبد في التغلب على الهوى، ولذلك كان من دعاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق، والأعمال، والأهواء،)
كما في الحديث الآتي:
((حديث قطبة بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء "(9/41)
فهذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أسلم شيطانه، فسلم من شره، ولم يعد أحدٌ يوسوس إليه بالشر، وهو المعصوم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يستعيذ من الأهواء، فما بالنا نحن الضعفاء الذين لا يقارن حالنا بحال رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وربط القلب بالله عز وجل خوفاً وطمعاً، ورهبةً ورغبةً، والوقوف بين يدي الله تعالى من أكبر الأشياء التي تنفع في مقاومة الهوى، والدليل على ذلك قال الله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40 - 41]
قال مجاهد: هو العبد يهوى المعصية، فيذكر مقام ربه عليه في الدنيا ومقامه بين يديه في الآخرة، فيتركها لله: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40 - 41]. إذاً من أين أتى نهي النفس عن الهوى؟ كيف حصل للإنسان أن ينهى نفسه عن الهوى؟ حصل له هذا الشيء بالخوف من الله عز وجل، لأن الله قال: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40 - 41] ولذلك كان نهي النفس عن الهوى هي نقطة الارتكاز في دائرة الطاعة، فالهوى هو الدافع القوي لكل طغيان، وكل تجاوز، وكل معصية، وهو سبب البلوى، وينبوع الشر، وقلَّ أن يؤتى الإنسان إلا من قبل الهوى.
(2) العزيمة والخوف من الله:(9/42)
خوف الإنسان من الله عز وجل، خوفه من عقاب الله في الدنيا، ومن عذاب الله في الآخرة هو الوسيلة حقيقةً لأن ينهى الإنسان نفسه عن الهوى، وقد عقد العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى عليه في كتابه: روضة المحبين، فصلاً في آخر الكتاب ذكر فيه أموراً كثيرةً من الأشياء التي تعين على مقاومة الهوى، ولخص بعضها من كتاب: ذم الهوى لابن الجوزي رحمه الله تعالى، فقال: ويمكن التخلص منه بأمور بعون الله وتوفيقه: أولاً: عزيمة حرٍ يغار لنفسه وعليها. والمشكلة أن قوانا تضعف وتخور أمام مواجهة الأهواء والشهوات، فلا بد من العزيمة التي تملأ النفس صموداً وثباتاً ومقاومةً لهذه الأهواء والشهوات، ولا بد من جرعة صبر يصبر نفسه على مرارتها تلك الساعة، لأن امتناع الإنسان عن ولوج المعصية وقت المعصية طعمه مر، وقت حصول المعصية وأنت تواجهها لا تستطيع أن تنزع نفسك بسهولة، بمشقة شديدة جداً، ولكن عندما تطعم نفسك هذا الصبر الذي يكون علقماً في بعض الأحيان مثل: الدواء للمريض، يكون الدواء في بعض الأحيان مراً، ولكن لا بد منه وهو علاجٌ نافعٌ، فلا بد من تناوله، فأنت حين تقاوم وتجاهد، ستشعر بمرارة فراق المعصية، ولكن إذا تجاوزت هذه المرحلة، فإن الله يعقب في نفسك حلاوةً عظيمةً تجدها في نفسك بعد انتصارك على نفسك. لحظات المعركة يكون الوقع شديداً ليس سهلاً، لا تأتي الفرحة مباشرةً، ويأتي السرور مباشرة، لا بد من لحظات مجاهدة شديدة على النفس وشاقة وصعبة، بعد الانتصار يعقب الله في نفس العبد حلاوة الطاعة وحلاوة ترك المعصية، فالذي يصبر على العلقم في البداية يجد الحلاوة في النهاية، ولا بد من قوة نفس تشجعه على شرب تلك الجرعة، ولا بد من ملاحظة حسن موقع العاقبة والشفاء بتلك الجرعة، أنت تعرف أن مقاومة الهوى ليست سهلة، تعرف أن الامتناع عن المعصية صعب، لكن أنت إذا جلست تفكر في العاقبة التي ستكون لك بعد امتناعك عن الوقوع في هذه المحرمات وفي هذه الشهوات، هذا يسهل عليك الأمر، وإذا جلست تفكر في الحلاوة التي ستجدها بعد المرارة، وفي النعيم الذي ستجده في الآخرة، سيسهل عليك الأمر، وكذلك يتفكر الإنسان أنه لم يخلق للهوى، وإنما هو لأمرٍ عظيمٍ لا يناله إلا بمعصيته للهوى كما قال الشاعر:
قد هيئوك لأمرٍ لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ(9/43)
لما يفكر الإنسان أنه ما خلق من أجل أن يتبع أهواءه، وإنما خلق من أجل طاعة ربه. هناك هدف عظيم، هناك من الناس من لا يختلفون مطلقاً عن الدواب، يمشي كالبهيمة يتبع شهواته وأهواءه، لما يفكر الإنسان أنه وجد على هذه الأرض لا لاتباع الهوى، وإنما لاتباع شيء آخر.
قد هيئوك لأمرٍ لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ
قد هيئوك: أنت أيها العبد المسلم قد هيئت لأمر عظيم وهو عبادة الله. لو فطنت له: المشكلة أن أكثر الناس لا يفطنون له. فاربأ بنفسك: ارتفع بنفسك. أن ترعى مع هذا الهمل، ومع هذه الحيوانات التي ليس لها همٌّ إلا اتباع الهوى والشهوات.
(3) ألا يختار لنفسه أن تكون الحيوانات أحسن منه:(9/44)
وكذلك ألا يختار لنفسه أن يكون الحيوان أحسن حالاً منه، ولهذا تساق الحيوانات إلى منحرها وهي منهمكة في شهواتها، أنت الآن عندما تنظر إلى حال رعاة الغنم تجد أنهم يسوقون القطعان إلى المنحر وإلى المجزرة، القطيع وهو يمشي على الأرض إلى المنحر، ويكون في الطريق أعشاب ماذا يحدث؟ يأكل من هذه الأعشاب وهو يمشي إلى المنحر، وإلى المكان الذي ستزهق فيه روحه، ويذبح ويهلك فيه وهو يأكل حتى آخر لحظة من هذه الحشائش الموجودة في الأرض. إذاً: لا نريد أن نساق إلى جهنم، ونحن قد جعلت على أعيننا غشاوة الهوى والمسكرات من المنكرات؛ لأن الشهوات والمنكرات تسكر، فلا يعيش الإنسان في حالة وعي؛ فيساق إلى جهنم، فلا يكون الحيوان أحسن حالاً من الإنسان، يجب على الإنسان أن يرتفع فوق مستوى البهائم، ولو فكر العاقل لحظة قضاء وطره وقارنها بما سيعقب بعد ذلك من الحسرة التي سيقضي فيها بقية عمره؛ لما اقترب من هذا الوطر ولو أعطي الدنيا، والطريق الأعظم في الحذر ألا يتعرض لسبب الفتنة ولا يقاربه، كم من معصية مضت في ساعتها كأنها لم تكن، ثم بقيت آثارها، ولذلك فإنه لا بد للمسلم أن يسير بقلبه في عواقب الهوى، فيتأمل كم فوتت هذه المعصية من فضيلة! وكم أوقعت في رذيلة! وكم أكلة منعت أكلات!! الآن بعض الناس يأكلون بغير حساب؛ فيضر كثرة الأكل أجسامهم، فيذهب إلى الطبيب يشتكي، فيمنعه الطبيب من قائمة كثيرة من الأكلات، ويحدد له أكلات قصيرة، أكلات ضئيلة قليلة، يحرمه من تلك الأكلات، ما الذي منعه من هذه الأكلات الطيبات؟ إنه كان يأكل بغير نظام في الماضي، فلذلك كم من شهوةٍ كسرت جاهاً، ونكست رأساً، وأورثت ذماً، وأعقبت ذلاً، وألزمت عاراً لا يغسله الماء غير أن عين صاحب الهوى عمياء!! هذه المعاصي أيها الإخوة! الله عز وجل جعل سنته في الكون أن العاصي لا بد أن يعاقب في الدنيا، فكم من شهوةٍ كسرت جاهاً بسبب هذه المعاصي، حتى أن الإنسان وأمام الناس ليس له وجه، المعصية كسرت جاهه، وأوقعته من مكانته أمام الناس، ونكست رأسه، فلا يستطيع أن يرفع رأسه أمام الناس، وأورثت له ذماً، وأعقبت له ذلاً، وألزمته عاراً لا يغسله الماء بسبب الغشاوة التي على أعين متبعي الهوى.
(4) التأمل في العاقبة:(9/45)
وكذلك مما يعين على علاج الهوى: أن يتصور العاقل انقضاء غرضه ممن يهواه، ثم يتصور حاله بعد قضاء الوطر، هب أن رجلاً أراد أن يزني وجاءه هوى الشهوة، فعليه أن يفكر قبل أن يقع في الزنا، يفكر لو أنه قضى وطره من هذه المرأة المحرمة، ماذا سيكون بعد ذلك؟ تأمل العاقبة مهم جداً؛ لأنه هو الذي يمنعك من الوقوع في البداية، والله سبحانه وتعالى قد شبه من يتبعون أهواءهم بأخس الحيوانات وأذلها وأحقرها ألا وهو الكلب، فقال عز وجل عن الرجل الذي أعرض عن آيات الله عز وجل: (وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) [الأعراف:176] فالرجل الذي يتبع الهوى عندما يتصور بأن حاله مثل حال الكلب، هل يا ترى يقدم على هذه الجريمة، وعلى هذه الشهوة؟! وشبههم الله تعالى مرة بالحمير، فقال: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر:50 - 51].
(5) أن يتأمل آيات الله عز وجل:
وكذلك إذا تأمل متبع الهوى حاله من بعض الآيات كقول الله عز وجل: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة:124] لو تأمل هذه الآية سيجد أن عز وجل حرم الإمامة على متبع الهوى، لماذا؟ لأن الله يقول في آية أخرى: (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الروم:29] وهناك قال: (قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة:124] فالظالم يتبع الهوى، والظالم قد حرم من الإمامة، فمتبع الهوى قد حرم من الإمامة في الدين، فلا يمكن أن يجعله الله عز وجل إماماً يؤتم به في الدين وهو متبع للهوى، فهو ليس بأهل لأن يطاع، ولا أن يكون إماماً ولا متبوعاً في الخير. وجعل الله متبع الهوى بمثابة عابد الوثن، فقال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) [الجاثية:23] وجعل الله حظار جهنم ـ الشيء الذي يحوط جهنم ـ الهوى والشهوات، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره) كما في الحديث الآتي
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره.(9/46)
وجعل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتباع الهوى من المهلكات، كما في الحديث الآتي
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاث منجيات: خشية الله تعالى في السر و العلانية و العدل في الرضا و الغضب و القصد في الفقر و الغنى و ثلاث مهلكات: هوى متبع و شح مطاع و إعجاب المرء بنفسه.
ولو تأمل صاحب الهوى، أو الذي يأتيه الهوى ما له من العاقبة الحسنة إذا خالفه هواه، ومن النور الذي يدخله الله في قلبه، لثبت عند هذا ووقف، قال بعض السلف: الغالب لهواه أشد من الذي يفتح المدينة وحده. تأمل! الغالب لهواه أشد من الذي يفتح المدينة وحده، فتح مدينة بأكملها من شخص واحد أمر عسير جداً، لكن أعسر منه أن يخالف الإنسان هواه. وكذلك جهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفار فليس بدونه، قال ابن القيم رحمه الله: وسمعت شيخنا يقول: جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين؛ فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولاً، ثم يخرج إليهم.
(6) المجاهدة والصبر على مقاومة الهوى:(9/47)
وكذلك الذي يمتنع عن الهوى كأنه سيأخذ دواءً مراً، ولا بد أن يصبر على هذا الدواء، ولا بد أن يتبع نظاماً في الحمية من الهوى كما يتبع الرجل الذي يأكل الأكل المضر نظاماً في الحمية، ولذلك قال عبد الملك بن قريب: مررت بأعرابي به رمد شديد في عينيه، ودموعه تسيل على خديه، فقلت: ألا تمسح عينيك؟ قال: نهاني الطبيب عن ذلك، وقال لي: إذا مسحت عينيك، يزداد الألم، ويزداد المرض شدة. ولا خير فيمن إذا زجر لا ينزجر، وإذا أمر لا يأتمر، فعلاً الآن الذين يصيبهم الرمد هذا مثل حرق العين يريد أن يحك عينه، وقد يكون الطبيب نهاه عن هذا الفعل، وأخبره إن هو حك عينه، أن المرض سينتشر وسيشتد، فماذا يفعل؟ تجد الإنسان قوي الإرادة كأنه قد ربط بحبل يقاوم يده أن تمتد إلى عينه مع أنها تحرقه جداً، لكنه يقاوم أن يمد يده إلى عينه، قد يصيب جلد الإنسان حساسية أو حبوب , فيخبره الطبيب ألا يحك جلده مطلقاً؛ لأنه إذا حكها سينتشر، ماذا يكون شعور الإنسان في تلك الحالة؟ الشخص العاقل يحس بأن هناك دافعاً قوياً لأن يحك جلده، لكنه يصبر على الحك، لأن الحك سيجعل الأمر أسوأ من ذي قبل، كذلك حال الذي يأتيه الهوى، إذا اتبع الهوى سيكون الأمر أسوأ، ولذلك هو يصبر كما يصبر هذا الرجل الذي به رمد شديد وحرقة في عينيه، فلا يحك عينه لأنه أمر بهذا، يقول عبد الملك بن قريب: فقلت لهذا الأعرابي: ألا تشتهي شيئاً؟ قال: بلى، ولكني أحتمي، عندي نظام في الحمية، الطبيب نهاني عن أكلات، يقول الأعرابي: إن أهل النار غلبت شهوتهم حميتهم فهلكوا، الله عز وجل أمرهم أن يمتنعوا عن أشياء، يتبعوا نظام الحمية من أشياء معينة، فغلبت شهوتهم حميتهم فهلكوا.
(قال الفضيل بن عياض في كلام على أن اتباع الهوى يحرم العبد من إصابة الحق، ومن معرفة الدليل، ومن التوفيق في أمور الدنيا والآخرة، يقول: من استحوذ عليه الهوى واتباع الشهوات، انقطعت عنه موارد التوفيق، فالذي ينغمس في الهوى لا يكاد الله يوفقه إلى خيرٍ أبداً، بل تجد بأن الطرق بينه وبين الخير مسدودة، والعوائق موجودة، لا يستطيع أن يصل إلى الخير؛ لأنه متبع للشهوات والهوى، ما اتخذ الأسباب فكيف يهديه الله؟! (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت:69] والذين لم يجاهدوا فينا، ماذا ستكون عاقبتهم؟ وكذلك كان بعضهم يطوف في البيت، فنظر إلى امرأة جميلة، فمشى إلى جانبها، ثم قال:(9/48)
أهوى هوى الدين واللذات تعجبني ... فكيف لي بها واللذات والدين
قال: أنا أهوى الدين، لكن اللذات التي أراها تعجبني، فكيف أجمع بين هوى اللذات وبين الدين؟ فقالت المرأة: دع أحدهما تنل الآخر، فعلاً دع الدين تنل الهوى، الإنسان عنده هذه الإرادة: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد:1] طريق الخير وطريق الشر، أنت مخير، لا أحد يرغمك على سلوك أحد الطريقين، دَعْ أحدهما تنل الآخر، وهذا ترك الهوى، الآن لحظات تمر على الإنسان يعاين فيها مواقفاً من الشهوات والهوى، فإذا هو قاوم نفسه هذه المقاومة فإن هذه المواقف في الدنيا التي يقاوم فيها الهوى لا تنسى عند الله يوم القيامة مطلقاً، في ذلك الموقف الذي تزل فيه الأقدام، والذي تدنو فيه الشمس من الخلائق، لا ينسى الله تعالى لعبده أبداً هذه المواقف التي وقفها في الدنيا. أحدهم ترك شهوات وأهواء ولذائذ كثيرة في الدنيا محرمة من أجل الله عز وجل، فلا ينساها الله تعالى له يوم القيامة،(9/49)
(قال عبد الرحمن بن مهدي: رأيت سفيان الثوري رحمه الله تعالى في المنام ـ بعض المنامات التي ترى للصالحين لا بأس من حكايتها، إذا لم يرد فيها مخالفات شرعية، فبعض المنامات أو الرؤى التي رآها صالحون لأناس صالحين، كان السلف رحمهم الله يدرجونها في كتبهم، ويكتبونها وينشرونها، لأنها تؤثر، الرؤيا الصالحة عاجل بشرى المؤمن ـ فقال عبد الرحمن بن مهدي وهو من كبار أئمة الدين: رأيت سفيان الثوري رحمه الله تعالى في المنام، فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: لم يكن إلا أن وضعت في لحدي حتى وقفت بين يدي الله تبارك وتعالى، فحاسبني حساباً يسيراً، ثم أمر بي إلى الجنة، فبينا أنا أدور بين أشجارها وأنهارها لا أسمع حساً ولا حركةً إذ سمعت قائلاً يقول: سفيان بن سعيد؟ فقلت: سفيان بن سعيد، فقال: تحفظ أنك آثرت الله عز وجل على هواك يوماً؟ فقلت: إي والله، فأخذني النثار من كل جانب ـ النثار في اللغة: هو ما يرش على العروس في ليلة العرس من الزينة، أو الذهب، أو الزهور، إلى آخر ذلك. نسأل الله تعالى أن تكون هذه من الرؤى الصالحة التي رئيت لسفيان الثوري رحمه الله، فإنه كان من المجاهدين في الله حق جهاده في العلم والتقوى، ونال الإمامة في الدين. يقول ابن القيم رحمه الله في حديث: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) كيف نالوا هذا الظل؟ يقول: إذا تأملت السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله وجدتهم نالوا ذلك الظل بمخالفة الهوى، فإن الإمام المسلط القادر لا يتمكن من العدل إلا بمخالفة هواه؛ لأن عنده من القوة والنفوذ والسيطرة ما يستطيع به بسهولة أن يتابع هواه، فلما قاوم نفسه وقاوم هواه، وحكم شرع الله تعالى، ولم يتبع شهواته، وعدل بين الرعية كان له الظل يوم أن تدنو الشمس من رءوس العباد. والشاب المؤثر عبادة الله على داعي الشباب لولا مخالفة هواه لم يقدر على ذلك، لولا أن هذا الشاب الذي نشأ في طاعة الله خالف هواه لما نشأ في طاعة الله، والرجل الذي قلبه معلقٌ بالمساجد إنما حمله على ذلك مخالفة هواه الداعي له إلى أماكن اللذات، خالف الهوى الذي يدعوه إلى الذهاب إلى أماكن اللذات، وصار يذهب إلى أماكن العبادة والمساجد، أعقب الله عز وجل له الأجر الجزيل بأن أظله في ظل عرشه.(9/50)
والمتصدق المخفي لصدقته عن شماله لولا قهره لهواه (هوى الرياء) وهوى أن يشاهده الناس، وأن يتحدثوا عن كرمه لم يقدر على ذلك، لو ما خالف هذا الهوى لما صار في هذا المكان يوم القيامة. والذي دعته المرأة الشريفة الجميلة، فخاف الله عز وجل وخالف هواه، نال نفس الكرامة. والذي ذكر الله خالياً ففاضت عيناه من خشيته، إنما أوصله إلى ذلك مخالفة هواه، فلم يكن لحر الموقف وعرقه وشدته سبيلاً عليهم يوم القيامة.
(7) تأمل اللذة التي تنتج عن مخالفة الهوى:
ومن الأشياء التي تعين في علاج الهوى: تأمل اللذة التي تنتج عن مخالفة الهوى، فإن في قهر الهوى لذة تزيد على كل لذة، وغالب الهوى يكون قوي القلب عزيزاً؛ لأنه قهر هواه، بينما الذي يتبع الهوى يكون ذليلاً؛ لأنه اتبع هواه، فالحذر الحذر من رؤية المشتهى بعين الحسن. أحياناً يُزَين الشيطانُ المعصيةَ للإنسان، فيراها جميلة جداً، فينظر إلى المعاصي بعين الحسن، المفروض أن ينظر إلى المعاصي بعين الاستقباح وعين الكراهية لهذا الأمر، كما أن اللص يرى لذة أخذ المال من الحرز الذي يأخذه بكل يسر وسهوله، لكنه لا يرى بعين الفكر قطع اليد، فلذلك يسرق. وما مثل الهوى إلا كسبع في عنقه سلسلة، فإن استوثق منه ضابطه كفه، الهوى مثل السبع، ومثل الأسد، إذا ربطته بسلسلة قوية، ما ينفلت منك. يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر: على أن من الناس من يكف هواه بسلسلة، ومنهم من يكفه بخيط.
(8) أنه إذا جاءك الهوى فخالفه:
ومن الأمور المهمة في معالجة الهوى: أنه إذا جاءك الهوى في مسألة فخالفه، النفس الأمارة بالسوء، أو الشيطان يأمرك أن تفعل هذا الأمر، فعليك بمخالفته فوراً،
(قال أحد السلف: «اعلم أن البلاء كله في الهوى، والشفاء كله في مخالفتك إياه»(9/51)
(وقال بعض الحكماء: إذا اشتبه عليك أمران، فانظر أقربهما من هواك فاجتنبه. مثلاً: الإنسان موقفه من الأحكام الشرعية يحتار هل هذا هو الصحيح، أم هذا هو الصحيح؟ أحياناً يكون الإنسان صادقاً ومخلصاً ويريد أن يصل إلى الحق، فيحتار ما هو الحل؟ فمن ضمن الأشياء التي ترجح قولاً على آخر أن ينظر الإنسان ويدقق ويفتش في نفسه، فينظر أي القولين أقرب إلى هواه فيخالفه ويأخذ الآخر، لماذا؟ لأن النفس في العادة تميل إلى المحرمات، وتميل إلى الخطأ، تميل إلى الأسهل، تميل إلى ما يشبع رغبتها، تميل إلى الحكم الذي لا يكلف الإنسان عناءً ولا مشقةً، لذلك ترى كثيراً من الناس يتبعون أهواءهم في الأحكام الفقهية، فيأخذ الحكم الذي لا يكلفه، لنفترض أن رجلاً من الناس قد وقف أمام حكمين في مسألة فقهية لم يستطع أن يرجح أحدهما على الآخر، فما هي أحد المرجحات التي يستطيع أن يستخدمها؟ أن ينظر نفسه إلى أي قول من هذه الأقوال تميل، فينظر القول الذي تلين له نفسه، ثم يتركه ويأخذ الآخر، إذا اشتبه عليك أمران، فانظر أقربهما من هواك فاجتنبه. أحياناً في بعض التصرفات الإنسان قد يشتبه عليه أكلة من الأكلات، هل هذه الأكلة فيها شيء محرم، أم ليس فيها شيء محرم؟ وليس عنده دليل يقطع فيها بأنها محرمة، فهل يأكل، أو لا يأكل؟ ينظر ماذا تميل إليه نفسه، غالباً يجد أن نفسه تميل إلى الأكل، فإذاً يخالف الهوى ولا يأكل؛ لأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (اتقوا الشبهات) وغالباً ما تهوى النفس الوقوع في الشبهات، فلذلك لا بد من المخالفة، وهذا من أكبر العلاجات، ويقول ابن الجوزي رحمه الله: تأملت أمراً عجيباً وهو انهيال الابتلاء على المؤمن، وعرض صور اللذات عليه مع قدرته على فعلها، فقلت: سبحان الله! هاهنا يتبين أثر الإيمان لا في صلاة ركعتين، عندما تقف أمام الهوى أو الشهوة. كما أرجو -أيها الإخوة- عندما أذكر في كلامي الشهوة، لا يعني شهوة الجنس فقط، لا فقد تكون شهوة المال، وقد تكون شهوة الوقوع في الغيبة والنميمة، وقد تكون شهوة الجور في الحكم بين الأولاد، أو بين الناس، أشياء كثيرة كلها شهوات في الحقيقة، شهوة الجاه والمنصب.(9/52)
أقول: سبحان الله! هاهنا يبين أثر الإيمان فعلاً عند الوقوف أمام المحك، أمام المنعطف، هنا يبين أثر الإيمان، لا يبين في صلاة ركعتين مثلما يبين في هذا الموقف، والله ما صعد يوسف عليه السلام ولا سعد إلا في مثل ذلك المقام، تأملوا حاله لو كان وافق هواه، فعلاً، تأمل حال يوسف وفكر لما دعته امرأة العزيز وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ [يوسف:23] يوسف الآن أمام هذا الموقف، امرأة جميلة وصاحبة منصب وهي سيدة، وهو عبدٌ, وهو غريبٌ عن بلده وشابٌ، وهو أعزبٌ، وقد غلقت الأبواب، وغاب الرقيب، وسيدها ليس له غيرة، لأنه قال بعد ذلك: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ [يوسف:29] ليس للسيد غيرة، وليس هناك أحدٌ يشاهد، واجتمعت دواعي وقوع الفاحشة أمام يوسف عليه السلام مما لا يجتمع مثله بين رجل وامرأة قط، لما حدث هذا الأمر تأمل لو أن يوسف عليه السلام وافق هواه ووقع على تلك المرأة، هل سيصبح نبياً صديقاً؟! ولكن وقوف يوسف عليه السلام في تلك المحنة أمام شهوته هو الذي أوصله إلى ذلك المقام: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24] .. قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:23]. ولذلك كان سؤال الله الصراط المستقيم في الصلاة أكثر من مرة دائماً: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] فيه تذكير للإنسان بألا يتبع الهوى، ويسأل الله أن يهديه الصراط المستقيم: الطريق المستقيم لا طريق الهوى.
الباب الثاني أدب العلم
[*] (عناصر الباب:
(المقصود بالعلم:
(فضل العلم:
(حكم تعلم العلم:
(ماذا نعني بالعلم، وكيف يطلب؟
(آداب طالب العلم:
(فضل بعض العلوم التي يجب على طالب العلم أن يتحلى بها:
ودونك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(المقصود بالعلم:
مسألة: ما المقصود بالعلم؟
العلم هو ما قام عليه الدليل ويقصد به علم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة - رضي الله عنهم -، فالعلم مسائل ودلائل بفهم سلف الأمة - رضي الله عنهم -:
العلم قال الله قال رسوله ... قال الصحابة ليس بالتمويه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة ... بين الرسول وبين قول فقيه
(فضل العلم:(9/53)
للعلم فضلٌ عظيم، وأجرٌ جسيم، العلم أثمن درة في تاج الشرع المطهر ولا يخفى على كل مسلم أن العلم مهم، حتى إن كل إنسان يدعيه لنفسه حتى الجاهل لا يرضى أن يقال عنه جاهل، ويفرح أن يقال عنه عالم!
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من لا يحسنه ويفرح به إذا نسب إليه وكفى بالجهل ذمّاً أن يتبرأ منه من هو فيه، العلم أشرف ما رغب فيه الراغب، وأفضل ما طلب وجدَّ فيه الطالب، وأنفع ما كسبه واقتناه الكاسب.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة العلم
وهذه المنزلة إن لم تصحب السالك من أول قدم يضعة في الطريق إلى آخر قدم ينتهي إليه: فسلوكه على غير طريق وهو مقطوع عليه طريق الوصول مسدود عليه سبل الهدى والفلاح مغلقة عنه أبوابها وهذا إجماع من الشيوخ العارفين ولم ينه عن العلم إلا قطاع الطريق منهم ونواب إبليس وشرطه.
(قال سيد الطائفة وشيخهم الجنيد بن محمد رحمه الله: الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى آثار الرسول وقال: «من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر» لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة وقال: مذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة.
(وقال أبو حفص رحمه الله: من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة ولم يتهم خواطره فلا يعد في ديوان الرجال.
(وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياما فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة.
(وقال سهل به عبد الله رحمه الله: كل فعل يفعله العبد بغير اقتداء طاعة كان أو معصية فهو عيش النفس وكل فعل يفعله العبد بالاقتداء: فهو عذاب على النفس.
(وقال السري: التصوف اسم لثلاثة معان: لا يطفيء نور معرفته نور ورعه ولا يتكلم بباطن في علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب ولا تحمله الكرامات على هتك أستار محارم الله(9/54)
(وقال أبو يزيد: عملت في المجاهدة ثلاثين سنة فما وجدت شيئا أشد علي من العلم ومتابعته ولولا اختلاف العلماء لبقيت واختلاف العلماء رحمة إلا في تجريد التوحيد وقال مرة لخادمه: قم بنا إلى هذا الرجل الذي قد شهر نفسه بالصلاح لنزوره فلما دخلا عليه المسجد تنخع ثم رمى بها نحو القبلة فرجع ولم يسلم عليه وقال: هذا غير مأمون على أدب من آداب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكيف يكون مأمونا على ما يدعيه وقال: لقد هممت أن أسأل الله تعالى أن يكفيني مؤنة النساء ثم قلت: كيف يجوز لي أن أسأل الله هذا ولم يسأله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم أسأله ثم إن الله كفاني مؤنة النساء حتى لا أبالي استقبلتني امرأة أو حائط وقالوا: لو نظرتم إلى رجل أعطى من الكرامات إلى أن يرتفع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء الشريعة.
(وقال أحمد بن أبي الحواري رحمه الله: «من عمل عملا بلا اتباع سنة فباطل عمله»
(وقال أبو عثمان النيسابوري رحمه الله: الصحبة مع الله بحسن الأدب ودوام الهيبة والمراقبة، والصحبة مع الرسول باتباع سنته ولزوم ظاهر العلم ومع أولياء الله: بالاحترام والخدمة، ومع الأهل: بحسن الخلق ومع الإخوان: بدوام البشر ما لم يكن إثما ومع الجهال: بالدعاء لهم والرحمة زاد غيره: ومع الحافظين: بإكرامهما واحترامهما وإملائهما ما يحمدانك عليه ومع النفس: بالمخالفة ومع الشيطان: بالعداوة وقال أبو عثمان أيضا: «من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة» «ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة»
قال الله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]
(وقال أبو الحسين النووي: من رأيتموه يدعي مع الله عز وجل حالة تخرجه عن حد العلم الشرعي فلا تقربوا منه.
(وقال محمد بن الفضل البامجي من مشايخ القوم الكبار: ذهاب الإسلام من أربعة: لا يعملون بما يعلمون ويعملون بما لا يعلمون ولا يتعلمون ما يعملون ويمنعون الناس من التعلم والتعليم.
(وقال عمرو بن عثمان المكي: العلم قائد والخوف سائق والنفس حرون بين ذلك جموح خداعة رواغة فاحذرها وراعها بسياسة العلم وسقها بتهديد الخوف يتم لك ما تريد.
(وقال أبو سعيد الخراز: كل باطن يخالفه الظاهر فهو باطل.(9/55)
(وقال ابن عطاء: «من ألزم نفسه آداب السنة نور الله قلبه بنور المعرفة» ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب في أوامره وأفعاله وأخلاقه وقال: كل ما سألت عنه فاطلبه في مفازة العلم فإن لم تجده ففي ميدان الحكمة فإن لم تجده فزنه بالتوحيد فإن لم تجده في هذه المواضع الثلاثة فاضرب به وجه الشيطان وألقى بنان الحمال بين يدي السبع فجعل السبع يشمه ولا يضره فلما أخرج قيل له: ما الذي كان في قلبك حين شمك السبع قال: كنت أتفكر في اختلاف العلماء في سؤر السباع
(وقال أبو حمزة البغدادي من أكابر الشيوخ وكان أحمد بن حنبل يقول له في المسائل: ما تقول يا صوفي من علم طريق الحق سهل عليه سلوكه ولا دليل على الطريق إلى الله إلا متابعة الرسول في أحواله وأقواله وأفعاله.
(ومر الشيخ أبو بكر محمد بن موسى الواسطي يوم الجمعة إلى الجامع فانقطع شسع نعله فأصلحه له رجل صيدلاني فقال: تدري لم انقطع شسع نعلي فقلت: لا فقال: لأني ما اغتسلت للجمعة فقال: ههنا حمام تدخله فقال: نعم فدخل واغتسل.
(وقال أبو إسحاق الرقي من أقران الجنيد: علامة محبة الله: إيثار طاعته ومتابعة رسوله.
(وقال أبو يعقوب النهرجوري: أفضل الأحوال ما قارن العلم.
(وقال أبو بكر الطمستاني من كبار شيوخ الطائفة: الطريق واضح والكتاب والسنة قائم بين أظهرنا وفضل الصحابة معلوم لسبقهم إلى الهجرة ولصحبتهم فمن صحب الكتاب والسنة وتغرب عن نفسه وعن الخلق وهاجر بقلبه إلى الله: فهو الصادق المصيب.
(وقال أبو عمرو بن نجيد: كل حال لا يكون عن نتيجة علم فإن ضرره على صاحبه أكثر من نفعه. أهـ.
[*] وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ لكميل: " احفظ ما أقول لك: الناس ثلاثة، فعالم رباني، وعالم متعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو على العمل، والمال ينقصه النفقة، ومحبة العالم دين يدان بها باكتساب الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد موته وصنيعه، وصنيعة المال تزول بزوال صاحبه، مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة ".
فللعلم مقام عظيم في شريعتنا الغراء، فأهل العلم هم ورثة الأنبياء، وفضل العالم على العابد كما بين السماء والأرض.(9/56)
فعن قيس بن كثير قال: قدم رجل من المدينة على أبي الدرداء وهو بدمشق فقال ما أقدمك يا أخي؟ فقال: حديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال: أما جئت لحاجة؟! قال: لا.
قال: أما قدمت لتجارة؟! قال: لا.
قال: ما جئت إلا في طلب هذا الحديث.
قال: فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، إنَّ الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر
(والعلماء هم أمناء الله على خلقه، وهذا شرف للعلماء عظيم، ومحل لهم في الدين ... خطير؛ لحفظهم الشريعة من تحريف المبطلين، وتأويل الجاهلين، والرجوع والتعويل في أمر الدين عليهم، فقد أوجب الحق سبحانه سؤالهم عند الجهل.
قال تعالى: " فاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ " [النحل/ 43]
(وهم أطباء الناس على الحقيقة، إذ مرض القلوب أكثر من الأبدان، فالجهل داء، ودواؤه العلم (لحديث جابر في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " فإنما شفاء العي السؤال.
ومرضى القلوب لا يعرفون مرضهم، كما أن من ظهر على وجهه برص ولا مرآة له لا يعرف برصه ما لم يعرفه غيره، والدنيا دار مرض؛ فكما أنَّه ليس في بطن الأرض إلا ميت، فكذلك ليس على ظهرها إلا سقيم، والأسقام تتفاوت وتتنوع، والعلم هو ترياقهم فتدبر في (حديث أسامة بن شريك في صحيح السنن الأربعة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تداووا فإِنَّ اللّه تعالى لم يضع داءً إلا وضع له دواءً غير داءٍ واحدٍ: الهرم.
(والكتاب والسنة طافحان بما يدل على فضل العلم
ومن ذلك ما يلي:
1) قال الله تعالى: " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائمًا بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم " [آل عمران / 18]
فأهل العلم هم الثقات العدول الذين استشهد الله بهم على أعظم مشهود، وهو توحيده جل وعلا، وهذا هو العلم الحقيقي، العلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته، وموجب ذلك ومقتضاه من الإيمان برسله وكتبه والإيمان بالغيب حتى كأنه مشاهد محسوس.(9/57)
فهذه المزية الكبرى للعلم وأهله، أنَّه يدل على صراط الله المستقيم، أنَّه الوسيلة العظمى للقرب من الله تعالى، وموجب لإحاطة محبته بالقلب، فمتى عرفت الله اجتمع قلبك على محبته وحده جل وعلا؛ لأنَّ له وحده الأسماء الحسنى والصفات العلا.
فهذا هو العلم وهذه هي ثمرته. رزقنا الله وإياك الشجرة والثمرة إنه جواد كريم
2) وقد بوَّب الإمام البخاري بابًا فقال: " باب العلم قبل القول والعمل" لقوله تعالى: " فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك " [محمد/19]
سئل سفيان بن عيينة عن فضل العلم فقال: ألم تسمع قوله حين بدأ به " فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك " [محمد/19] فأمر بالعمل بعد العلم.
فالعلم مقدم على القول والعمل، فلا عمل دون علم، وأول ما ينبغي تعلمه " التوحيد " و "علم التربية " أو ما يُسمَّى بعلم " السلوك " فيعرف الله تعالى ويصحح عقيدته، ويعرف نفسه وكيف يهذبها، وأنت تلحظ هذا الارتباط بين العلم بالتوحيد " فاعلم أنَّه لا إله إلا الله " وبين التربية والتزكية التي من ثمارها المراقبة ودوام التوبة " واستغفر لذنبك "
3) والعلم نور يبصر به المرء حقائق الأمور، وليس البصر بصر العين، ولكن بصر القلوب، " فإنَّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " [الحج/46]؛ ولذلك جعل الله الناس على قسمين: إمَّا عالم أو أعمى فقال الله
تعالى: " أ فمن يعلم أنَّما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى " [الرعد/19].
ولذلك عبَّر الله تعالى بفعل " رأى " دلالة على العلم في قوله تعالى: ويرى الذين أوتوا العلم الذي أُنزل إليك من ربك هو الحق " [سبأ /6] فلم يقل: " ويعلم " وهذا ـ والله أعلم ـ إشارة إلى العلم وأثره في القلوب، التي صارت به تبصر وترى الحق، ولا يلتبس عليها بالباطل.
وهذا واضح في (حديث حذيفة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودا عُودا، فَأَيّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْل الصّفَا، فَلاَ تَضُرّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادا كَالْكُوزِ مُجَخّيا لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرا، إِلاّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ.
4) والعلم يورث الخشية:(9/58)