(حديث سلمان في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا.
الله أكبر، فما نعدم والله خيراً من رب حيي كريم بل الخير كل بيديه لا تأتي ذرة من الخير فما فوقها إلا بإذنه وفضله وعلمه، وهو الذي بيده خزائن السماوات والأرض فسبحان من عظم جوده وكرمه أن يحيط به الخلائق، فارفع يديك يا عبد الله آناء الليل وأطراف النهار، والزم قرع باب الملك الوهاب، فما خاب والله من أمله، وما خاب من أنزل به حوائجه وصدق في الطلب وألح في السؤال، وتمسكن بين يديه وأظهر فقرك وحاجتك إلى ربك، فباب الذل والانكسار أوسع الأبواب، ولا مزاحم فيه وهو ثمرة العبودية، فلله ما أحلى قول العبد وهو يناجي سيده بذل وانكسار وحاجة وفقر: اللهم إني أسألك بعزك وذلي إليك إلا رحمتني، يا من لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، هذه ناصيتي الخاطئة الكاذبة بين يديك، عبيدك سواي كثير، وليس لي سيد سواك، أدعوك دعاء الخائف الضرير، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، أدعوك دعاء من ذلت لك رقبته ورغم لك أنفه وفاضت لك عيناه، اللهم ارحم من لا راحم له سواك، ولا مؤوي له سواك، ولا مغيث له سواك، فما الظن يا عباد الله بمن هو أرحم بعباده من الوالدة بولدها.
إذا انكسر العبد بين يديه وبكى وتذلل وأشهد الله فقره إلى ربه في كل ذراته الظاهرة والباطنة عندها فليبشر بنفحات ونفحات من فضل الله ورحمته وجوده وكرمه
أخي: أفهم هذا جيدا فانه سر من اسرار الدعاء المستجاب جهله الكثيرون .. فتنبه ولا تكن من الغافلين.
[*] قال مُورِّقٌ العجلي: ((ما امتلأت غضباً قط، ولقد سألت الله حاجة منذ عشرين سنة فما شفعني فيها وما سئمت من الدعاء)) [نزهة الفضلاء ص 398].
(11) أن يتحرى الحلال في مطعمه:
من أسباب إجابة الدعاء: أن يكون الداعي ممن يحرصون على اللقمة الحلال: فلا يدخل بطنه حراما ... .
وإذا اتصف العبد بذلك لمس اثر الإجابة في دعائة ووجد آثارا طيبة لذلك
أخي: لقد عم البلاء بأكل الحرام أو المشتبه في حله.
فكان ذلك سببا في عدم إجابة دعاء الكثيرين ... فيا غافلين عن أسباب إجابة الدعاء تنبهوا إلى ما يدخل جيوبكم من المال .. وتنبهوا الى ما يدخل بطونكم من الطعام ... ..
ولا يقولن أحدكم: دعوت ولم أر إجابة للدعاء! وهو قد ملا يده وبطنه من الحرام!!(7/404)
[*] قال بعض السلف: لا تستبطئ الإجابة، وقد سَددْتَ طُرقَها بالمعاصي. وقد أخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال:
"نحن ندعو الإلهَ في كل كرب ثم ننساهُ عند كشف الكروب
كيف نرجو إجابةَ لدعاء قد سددنا طريقَها بالذنوب؟
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا فقال تعالى (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم) وقال (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فأنى يستجاب لذلك) وهو استفهام واقع على وجه التعجب والاستبعاد. أي كيف يدعو هذا الآكل للحرام وينتظر الإجابة مع تيقنه من سوء فعاله، نسأل الله أن يطعمنا الحلال ويجنبنا مهاوي الضلال إنه ولى ذلك والقادر عليه.
[*] قال سهل بن عبد الله (رحمة الله): من أكل العبد يحبس عن السماوات بسوء المطعم!
[*] وقال الإمام ابن رجب (رحمة الله):
فأكل الحلال وشربه ولبسه والتغذي به سبب موجب لإجابة الدعاء
أخي المسلم: ولك في سلفك الصالح ـ رضي الله عنهم ـ قدوة صالحة
فهذا سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه) اشتهر بإجابة الدعاء ... فكان إذا دعا ارتفع دعاؤه واخترق الحجب فلا يرجع إلا بتحقيق المطلوب!.
فكان رضي الله عنه مثالا حيا لمن أراد ان يعرف طريق إجابة الدعاء ... وها هو رضي الله عنه يسأله بعضهم تستجاب دعوتك من بين أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
فقال: ما رفعت إلى فمي لقمة إلا وأنا عالم من اين مجيئها؟! ومن أين خرجت.
أخي ذاك هو سر استجابة دعاء سعد بن أبى وقاص ـ رضي الله عنه ـ اللقمة الطيبة الحلال
أخي: فلنحاسب نفسك في أكلها وشربها وملبسها من أين هذا؟ وكيف جاء؟
فإذا كان حلالا ... فكل وأنت معافى .. وادع الله تعالى رازقك ... . فأنت يومها القريب من طريق الإجابة؟.
(12) حسن الظن بالله تعالى:
والله تعالى يعطي عبده على قدر ظنه به؛ فإن ظن أن ربه غني كريم جواد، وأيقن بأنه تعالى لا يخيب من دعاه ورجاه، مع التزامه بآداب الدعاء أعطاء الله تعالى كل ما سأل وزيادة، ومن ظن بالله غير ذلك فبئس ما ظن.(7/405)
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملٍ خيرٌ منهم، وإن تقَّرب إليَّ شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إليَّ ذراعا تقربت إليه باعا و إن أتاني مشيا أتيته هَرْوَلَةً.
[*] قال الشوكاني:
"فيه ترغيب من الله لعباده بتحسين ظنونهم، وأنه يعاملهم على حسبها؛ فمن ظن به خيراً أفاض عليه جزيل خيراته، وأسبل عليه جميع تفضلاته، ونثر عليه محاسن كراماته وسوابغ عطياته، ومن لم يكن في ظنه هكذا لم يكن الله تعالى له هكذا" (1)
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ادعوا الله و أنتم موقنون بالإجابة و اعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلبٍ غافلٍ لاه.
(13) حضور القلب:
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ادعوا الله و أنتم موقنون بالإجابة و اعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلبٍ غافلٍ لاه.
[*] قال النووي:
"واعلم أن مقصود الدعاء هو حضور القلب كما سبق بيانه، والدلائل عليه أكثر من أن تحصر والعلم به أوضح من أن يذكر" (2)
[*] قال الإمام ابن رجب رحمه الله تعالى (3)، وقد جاء في حديث أبي هريرة عند الإمام الترمذي: ”ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاهٍ“ (4). وقد أمر الله تعالى بحضور القلب والخشوع في الذكر والدعاء، فقال سبحانه: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف /205]
(14) اليقين والثقة بالله تعالى:
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ادعوا الله و أنتم موقنون بالإجابة و اعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلبٍ غافلٍ لاه.
__________
(1) - تحفة الذاكرين (ص12).
(2) - الأذكار (ص356).
(3) جامع العلوم والحكم 2/ 403.
(4) الترمذي برقم 3479، وله شاهد عند أحمد 2/ 177 من حديث عبد الله بن عمر ولكنه من طريق ابن لهيعة، والحديث حسنه الألباني في الأحاديث الصحيحة برقم 594، وفي صحيح سنن الترمذي برقم 2766.(7/406)
فلابد أن يكون الداعي على يقين وثقة بالله جل وعلا لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادعوا الله و أنتم موقنون بالإجابة يا له من دواء، وكم استمعت إلى شكاوى كثير من المسلمين، يشتكون من طول الدعاء وما ذاك إلا لأن قلوبهم لاهية؛ لأن قلوبهم قد انشغلت وهامت في كل وادٍ، ما تحرك قلبه وما خشع قلبه، وما اقشعر جلده، وما دمعت عينه، وما أحس باللذة في مناجاته لله جل وعلا، فلو استمع إلى خمس دعوات أو عشر دعوات لأحس بالملل والضجر والطول، لماذا؟ لأنه والله لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من مناجاة ربنا جل وعلا، كيف وأنت تناجي القوي العزيز الكريم: (والله لا يقبل دعاء من قلب غافلٍ لاه).
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الجواب الكافي:
والأدعية والتعوذات بمنزلة السلاح والسلاح بضاربه لا بحده فقط فمتى كان السلاح سلاحا تاما لا آفة به والساعد ساعد قوي والمانع مفقود حصلت به النكاية في العدو ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير فإن كان الدعاء في نفسه أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء أو كان ثم مانع من الإجابة لم يحصل الأثر.
وقال أيضاَ رحمه الله تعالى:
وإذا اجتمع مع الدعاء حضور القلب وجمعيته بكليته على المطلوب وصادف وقتا من أوقات الإجابة الستة وهي الثلث الأخير من الليل وعند الأذان وبين الأذان والإقامة وأدبار الصلوات المكتوبات وعند صعود الإمام يوم الجمعة على المنبر حتى تقضى الصلاة وآخر ساعة بعد العصر من ذلك اليوم وصادف خشوعا في القلب وانكسارا بين يدي الرب وذلاله وتضرعا ورقة واستقبل الداعي القبلة وكان على طهارة ورفع يديه إلى الله تعالى وبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم ثنى بالصلاة على محمد عبده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قدم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار ثم دخل على الله وألح عليه في المسألة وتملقه ودعاه رغبة ورهبة وتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده وقدم بين يدي دعائه صدقة فان هذا الدعاء لا يكاد يرد أبدا ولا سيما إن صادف الأدعية التي أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها مظنة الإجابة أو أنها متضمنة للاسم الأعظم فمنها ما يلي:(7/407)
(حديث أنس في صحيح السنن الأربعة) قال سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.
(حديث بريدة في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا يقول: اللهم إني أسألك أني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.
[*] (الدعاء الذي لا يكاد يرد أبدا:
[*] قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى:
إذا جمع الداعي مع الدعاء حضور القلب وصادف وقتاً من أوقات الإجابة الستة وهي:-الثلث الأخير من الليل، وعند الأذان، وبين الأذان والإقامة، وأدبار الصلوات المكتوبة، وعند صعود الإمام المنبر يوم الجمعة حتى تقضى الصلاة، وآخر ساعة بعد عصر يوم الجمعة أيضاً) وصادف خشوعاً في القلب وانكساراً بين يدي الرب وذلاً وتضرعاً ورِِقة واستقبل الداعي القبلة وكان على طهارة
ورفع يديه إلى الله وبدأ بحمد الله والثناء عليه وثنى بالصلاة على عبده ورسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قدّم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار ثم دخل على الله وألحّ عليه في المسألة وتملقه ودعاه رغبة ورهبة وتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده وقدم بين يدي دعائه صدقة؛ فإن هذا الدعاء لا يكاد يُرد أبداً ..
ولا سيما إذا صادف الأدعية التي أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها مظنة الإجابة أو متضمنة للاسم الأعظم (وهو:-الحي القيوم، وقيل:- الله، قال ابن حجر وأرجحها من حيث السند:"الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفُواً أحد".
الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي
(مسألة في إجابة الدعاء من عدمها:
(مما ينبغي أن يُعلم أن استجابة الدعاء _ في الأصل _ دليل على صلاح المرء، وتقواه.
[*] قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-:
أنا لا أحمل همَّ الإجابة ولكن أحمل همَّ الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء فإن معه الإجابة.
والمعنى: لا يهمني الإجابة، ما أهتم الإجابة-؛ ولكن أحمل همّ الدعاء، فإذا وُفقت للدعاء جاءت الإجابة. وهذا من عظيم فقه الصحابة رضوان الله عليهم.(7/408)
فكن في دعائك راجياً عفو ربك، طالباً مغفرته، راغباً في جنته ونعيمه، طامعاً في عطائه وغناه فهو سبحانه يستحي أن يرد عبده خائباً إذا سأله.
(ولكنها لا تدل أحيانًا على ذلك؛ فقد تكون استدراجًا، أو لحكمة كما قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ الّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لاُوتَيَنّ مَالاً وَوَلَداً * أَطّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتّخَذَ عِندَ الرّحْمََنِ عَهْداً * قال تعالى: (كَلاّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً)
[مريم 77: 80]
(وَمِنْ قَبْلُ استجاب الله تعالى دعاء الشيطان.
قال تعالى: (قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِي إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَىَ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) [الحجر 36: 38]
فكونه _ عز وجل _ أجاب إبليس سؤله، وأنظره إلى يوم القيامة _ ليس ذلك إكرامًا لإبليس، بل إهانة له؛ ليزداد إثمًا فتعظم عقوبته، ويتضاعف شقاؤه وعذابه، إضافة إلى ذلك فإن الله _ عز وجل _ جعله مَحكًّا يتميز به الخبيث من الطيب، وما دام أن الخلق مستمر إلى يوم القيامة _ فإن هذا يقتضي بقاءه ببقاء خلق البشر والله أعلم. (1)
(كذلك عدم استجابة الدعاء لا تدل على فساد الداعي في كل الأحوال؛ فهناك سؤال منعه الله نبينا محمدًا"قال _ عليه الصلاة والسلام _:=سألت ربي ثلاثًا فأعطاني ثنتين، ومنعني واحدة، سألت ربي ألا يهلك أمتي بالسَّنة فأعطانيها، وسألته ألا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها. (2)
فالله _ عز وجل _ منع نبيه محمدًا"الدعوة الثالثة، وليس ذلك دليلاً على أن الرسول"لا مكانة له عند ربه، أو أنه غير مستجاب الدعوة، بل هو سيد البشر، ودعاؤه مستجاب، ولكن الله _ عز وجل _ منعه تلك الدعوة لحكم عظيمة؛ منها أن يُعْلَمَ أن الرسول"بشر، ليس له من الأمر شيء، وأن الأمر كله لله، بيده الضر والنفع، والعطاء والنفع.
__________
(1) انظر: شفاء العليل لابن القيم، ص364_412 و 445_460، وطريق الهجرتين لابن القيم، ص181_183، ومقدمة مفتاح دار السعادة، ص3 فما بعدها، والفوائد لابن القيم، ص136_140، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز، ص252_256، والذكر والدعاء للقحطاني، ص119_121.
(2) رواه مسلم (2890) الفتن وأشراط الساعة، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض.(7/409)
ومنها أن هذه الأمة تعصي، والله _ عز وجل _ يقول: (لّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ وَلآ أَمَانِيّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوَءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً) [النساء / 123]
(فإذا عصيت عوقبت؛ لتؤوب إلى رشدها، وتنيب إلى ربها، فتستقيم أحوالها، وتصلح أمورها، فتسعد، وتفلح.
وهذا من رحمة الله بها؛ إذ يُؤَدِّبها بهذه العقوبات.
ثم إن من رحمته بها أنه _ عز وجل _ لا يعاقبها عقوبة استئصال، بحيث تستأصل جميعها، كما حصل ذلك للأمم السابقة كعاد وثمود.
هذا وستتضح بعض الحكم من تأخر إجابة الدعاء أو عدمها في المبحث التالي زيادة على ما مضى.
(موانع إجابة الدعاء:
المانع: لغة: الحائل بين الشيئين، واصطلاحاً: ما يلزم من وجوده العدم ولا يلزم من عدمه وجود، ولا عدم لذاته، عكس الشرط (1).
وكما أن للدعاء مواطن يستجاب فيها فكذلك له موانع تمنع من إجابته، فيجب على العبد أن يحذرها ويجتنبها حتى يسلم له دعاؤه، لأن هذه الموانع تقف سداً منيعاً، وحصناً حصيناً في عدم القبول، وعدم الإجابة.
[*] قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
والأدعية والتعوذات بمنزلة السلاح، والسلاح بضاربه، لا بحده فقط، فمتى كان السلاح سلاحا تاما لا آفة به، والساعد ساعد قوي، والمانع مفقود، حصلت به النكاية في العدو. ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير. [الداء والدواء ص35]
فيتبين من ذلك أن هناك أحوالا و آدابا و أحكاما يجب توفرها في الدعاء و في الداعي، و أن هناك موانع و حواجب تحجب وصول الدعاء و استجابته يجب انتفاؤها عن الداعي و عن الدعاء، فمتى تحقق ذلك تحققت الإجابة.
[*] (وهاك موانع الدعاء جملةً وتفصيلا ً:
(أولاً: موانع الدعاء جملةً:
(1) أكل الحرام:
(2) ارتكاب المعاصي والمحرمات:
(3) ترك الأوامر، وإهمال الواجبات التي أمر الله بها وأوجبها على عباده:
(4) استعجال الإجابة:
(5) ومن موانع الإجابة الدعاء بالإثم وقطع الرحم:
(6) ومن موانع إجابة الدعاء عدم الصلاة على النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(7) وقوع الظلم حتى من الذي يدعو على الظالمين:
(ثانياً: موانع الدعاء تفصيلاًً:
(1) أكل الحرام:
__________
(1) الفوائد الجلية في المباحث الفرضية لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ص12، وعدة الباحث في أحكام التوارث للشيخ عبد العزيز الناصر الرشيد ص7.(7/410)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إنّ الله طَيّبٌ ولاَ يَقْبَلُ إلاّ طَيّباً، وَإِنّ الله أمَرَ المُؤْمِنِينَ بِمَا أمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ، قال تعالى: (يَا أَيّهَا الرّسُلُ كُلُوا مِنَ الطّيّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إني بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وَقالَ تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للّهِ إِن كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ) ثم َذَكَرَ الرّجُلَ يُطِيلُ السّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ يَمُدّ يَدَيه إلَى السّمَاءِ يارب يارب وَمَطْعَمُهُ حَرَامُ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَانّى يُسْتَجَابُ له.
[*] ذكر ابن رجب رحمه الله تعالى في معنى هذا الحديث:(7/411)
إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيباً طاهراً من المفسدات كلها: كالرياء، والعجب، ولا من الأموال إلا ما كان طيباً حلالاً، فإن الطيب توصف به الأعمال، والأقوال، والاعتقادات (1) والمراد بهذا أن الرسل وأممهم مأمورون بالأكل من الطيبات والابتعاد عن الخبائث والمحرمات، ثم ذكر في آخر الحديث استبعاد قبول الدعاء مع التوسع في المحرمات: أكلاً، وشرباً، ولبساً، وتغذيةً. ولهذا كان الصحابة والصالحون يحرصون أشد الحرص على أن يأكلوا من الحلال ويبتعدوا عن الحرام، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ”كان لأبي بكر غلامٌ يُخرج له الخراجَ وكان أبو بكر يأكل من خراجه (2)، فجاء يوماً بشيء فأكله أبو بكر فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنتُ تكهَّنتُ لإنسانٍ في الجاهلية وما أُحسِنُ الكِهانةَ إلا أني خَدعتُهُ فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلتَ منه، فأدخل أبو بكر يده (3) فقاءَ كلَّ شيء في بطنه“ (4). ورُوي في رواية لأبي نُعيم في الحلية وأحمد في الزهد ”فقيل له يرحمك الله كلُّ هذا من أجل هذه اللقمة؟ قال: لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ”كلُّ جسد نبت من سُحْتٍ فالنارُ أولى به“ فخشيت أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة (5).
(ففي حديث الباب أن هذا الرجل الذي قد توسع في أكل الحرام قد أتى بأربعة أسباب من أسباب الإجابة:
الأول: إطالة السفر،
والثاني: حصول التبذل في اللباس والهيئة، ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ”ربَّ أشْعَثَ (6) مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره“ (7).
__________
(1) جامع العلوم والحكم 1/ 259.
(2) أي يأتيه بما يكسبه والخراج ما يقرره السيد على عبده من مال يحضره له من كسبه. الفتح 7/ 154.
(3) فأدخل أبو بكر يده: أي أدخلها في حلقه.
(4) البخاري برقم 3842، مع الفتح 7/ 149.
(5) أخرجه أبو نعيم في الحلية 1/ 31، وأحمد في الزهد بمعناه ص164، وصححه الألباني في صحيح الجامع عن جابر عند أحمد والدارمي والحاكم. انظر: صحيح الجامع 4/ 172.
(6) الأشعث: الملبد الشعر المغبر غير مدهون ولا مرجل.
(7) مسلم برقم 2622.(7/412)
والثالث: يمد يديه إلى السماء ”إن الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين“ (1).
والرابع: الإلحاح على الله بتكرير ذكر ربوبيته وهو من أعظم ما يطلب به إجابة الدعاء ومع ذلك كله قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ”فأنى يستجاب لذلك“ وهذا استفهام وقع على وجه التعجب والاستبعاد (2).
وروى عكرمة بن عمار حدثنا الأصفر قال قيل لسعد بن أبي وقاص تستجاب دعوتك من بين أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ما رفعت إلى فمي لقمة إلا وأنا عالم من أين مجيئها ومن أين خرجت.
[*] قال عن وهب بن منبه:
من سره أن يستجيب الله دعوته فليطيب طعمته
[*] قال عن سهل بن عبد الله:
من أكل الحلال أربعين صباحا أجيبت دعوته
[*] قال عن يوسف بن أسباط:
بلغنا أن دعاء العبد يحبس عن السموات بسوء المطعم.
ويقول ابن رجب في جامع العلوم
(2) ارتكاب المعاصي والمحرمات:
وهذه من أعظم موانع الدعاء، وهي من المدلهمات التي ربما لا يفطن لها كثير من الناس، إذ المعصية سبب لبغض الخالق للمخلوق، وسفول منزلته عند ربه، فلا يأبه به، وربما لا يستجيب له دعوة، ولا شك أن الغفلة والوقوع في الشهوات المحرمة من أسباب الحرمان من الخيرات. وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} [الرعد /11].
قال الشاعر:
نحن ندعو الإله في كل كرب ... ثم ننساه عند كشف الكروب
كيف نرجو إجابة لدعاء ... قد سددنا طريقها بالذنوب
(3) ترك الأوامر، وإهمال الواجبات التي أمر الله بها وأوجبها على عباده:
فكم هم الذين أهملوا في ترك الصلاة، وكم هم الذين باعوا ينهم وعقيدتهم لأعدائهم، فتقمصوا هيئاتهم، ولبسوا ثياباً غير ثيابهم، وكم هي المنكرات التي تعج بها بلاد المسلمين اليوم ولا منكر ولا مستمع إلا ما رحم ربي، فكل ذلك سبب لعدم قبول الدعاء،
__________
(1) أبو داود 2/ 78 برقم 1488، والترمذي 5/ 557، وابن ماجه 2/ 1271، والبغوي في شرح السنة 5/ 185، وصححه الألباني في صحيح الترمذي 3/ 179 وصحيح ابن ماجه برقم 3865.
(2) جامع العلوم والحكم 1/ 269، 275 و1/ 269 - 275.(7/413)
فترك الواجبات يمنع استجابة دعاء الأخيار وفعل الطاعات يكون موجبا لاستجابة الدعاء ولهذا لما توسل الذين دخلوا الغار وانطبقت الصخرة عليهم بأعمالهم الصالحة التي أخلصوا فيها لله تعالى ودعوا الله بها أجيبت دعوتهم.
(حديث حذيفة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لتأمُرنّ بالمعروف و لتنهَوْنَّ عن المنكر أو يبعث الله عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لهم.
[*] قال وهب ابن منبه مثل الذي يدعو بغير عمل كمثل الذي يرمي بغير وتر وعنه قال العمل الصالح يبلغ الدعاء ثم تلا قوله تعالى إليه (يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) (1)
[*] قال أبي ذر رضي الله عنه:
يكفي مع البر من الدعاء مثل ما يكفي الطعام من الملح وقال محمد بن واسع: يكفي من الدعاء مع الورع اليسير
[*] وقيل لسفيان لو دعوت الله قال إن ترك الذنوب هو الدعاء.
[*] وقال الليث رأى موسى عليه الصلاة والسلام رجلا رافعا يديه وهو يسأل الله مجتهدا فقال موسى عليه السلام أي رب عبدك دعاك حتى رحمته وأنت أرحم الراحمين فما صنعت في حاجته فقال يا موسى لو رفع يديه حتى ينقطع ما نظرت في حاجته حتى ينظر في حقي
[*] وقال بعض السلف لا تستبطيء الإجابة وقد سددت طرقها بالمعاصي
نحن ندعو الإله في كل كرب ... ثم ننساه عند كشف الكروب
كيف نرجو إجابة لدعاء ... قد سددنا طريقها بالذنوب
(4) استعجال الإجابة:
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يستجاب أحدكم ما لم يعجل، يقول دعوت فلم يُستَجِبْ لي.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يزالُ يستجاب للعبد ما لم يدعُ بإثم أو قطيعةِ رحمٍ ما لم يستعجل“. قيل: يا رسول الله! ما الاستعجال؟ قال: ”يقول قد دعوتُ، وقد دعوتُ فلم أرَ يستجيبُ لي فيستحسر (2) عند ذلك ويدعُ الدعاءَ“ (3).
وفي هذا الحديث أدب من آداب الدعاء، وهو أن يلازم الطلب، ولا ييأس من الإجابة؛ لما في ذلك من الانقياد، والاستسلام، وإظهار الافتقار. (4)
__________
(1) - فاطر
(2) ومعنى يستحسر: أي ينقطع عن الدعاء ومنه قوله تعالى: {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} أي لا ينقطعون عنها. انظر: شرح النووي، والفتح 11/ 141.
(3) مسلم 4/ 2096.
(4) فتح الباري 11/ 141.(7/414)
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن الآفات التي تمنع أثر الدعاء عليه أن يستعجل العبد، ويستبطئ الإجابة، فيستحسر، ويدع الدعاء.
وهو بمنزلة من بذر بذرًا، أو غرس غرسًا، فجعل يتعاهده، ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله. (1)
فلا تستبطئ الإجابة وألِحَّ على الله في المسألة، فالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكث يدعو على رعل وذكوان شهراً، وربك حييّ كريم يستحي من عبده إذا رفع يده إليه، أن يردها صفراً، فادع وَرَبُّكَ الأَكْرَم، وألق نفسك بين يديه، وسلّم الأمر كله إليه، واعزم المسألة، وأعظم الرغبة فما رَدَّ سائله، ولا خاب طالبه، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالخلق لم تسدَّ فاقته، ومن أنزلها بالرب فنِعْم الرزاق هو، فلازم الطلب فالمعطي كريم، والكاشف قدير، ولا تستعجل الإجابة إذا دعوت، ولا تستبطئها إذا تأخَّرت، ومن يُكثر قرع الأبواب يوشك أن يفتح له.
وهذا موسى عليه السلام وقف داعياً يقول: (رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى الْحياةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ) [يونس / 88]
وأخوه هارون عليه السلام يؤمن على الدعاء، فاستجاب الله دعاءهما وقال سبحانه: (قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا) [يونس / 89]
[*] قال العلماء: كان بين الدعاء والإجابة أربعون سنة.
(فعلى المؤمن أن يدعو الله، وأن يلح على الله في الدعاء، ولا يعجل في الإجابة، وينتظر الفرج من الله، واللائق بالعبد أن يلازم الدعاء ويستمر فيه، ولا ييأس ولا يستعجل، لأنه لا يدري أين المصلحة، فقد تكون المصلحة في تأخير إجابة الدعاء، وقد تكون المصلحة في ادخار الأجر له في الآخرة، وقد تكون المصلحة في دفع بلاءٍ عنه بقدر دعائه، فعلى العبد أن لا يسأم من الدعاء، ولا يكل من ذلك، وأيضاً يجب عليه ألا يتعجل بل يكل الأمر لله تعالى فهو أرحم بالعبد من نفسه، فيترك الأمر لله عز وجل العالم بخفايا الأمور، العالم بحقائقها سبحانه، فهو عالم الغيب والشهادة،
وكما قال الشاعر اليمني الموحد في قصيدته التي سماها الجوهرة:
لطائف الله وإن طال المدى ... كلمح الطرف إذا الطرف سجى
كم فَرَج بعد إياس أتى ... وكم إياس قد أتى بعد النوى
__________
(1) الجواب الكافي ص10.(7/415)
[*] قال مُورِّقٌ العجلي: ((ما امتلأت غضباً قط، ولقد سألت الله حاجة منذ عشرين سنة فما شفعني فيها وما سئمت من الدعاء)) [نزهة الفضلاء ص 398].
(5) ومن موانع الإجابة الدعاء بالإثم وقطع الرحم:
والدعاء بالإثم كمن يدعو على شخص معين بأن يكون مدمناً للخمر، أو أن يدعو على إنسان بالزنا، أو أن يكون سارقاً، أو يكون كافراً، أو يدعو الله أن ييسر له فعل الفساد، وهكذا دواليك.
ولا شك أن ذلك خطأ في الدعاء فقد يستجيب الله تعالى دعوة الداع فيموت على الكفر أو على المعصية فيبوء بإثم دعوته والعياذ بالله.
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب له فإما أن يعجل له في الدنيا و إما أن يدخر له في الآخرة ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل.
(6) ومن موانع إجابة الدعاء عدم الصلاة على النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(حديث عمر في صحيح الترمذي موقوفاً) قال: إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء إلى السماء حتى تصلي على نبيك - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[*] سئل إبراهيم بن أدهم عن قول الحق سبحانه: (ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر /60]
، قالوا: فإنا ندعو الله فلا يستجيب لنا؟!! فقال: لأن قلوبكم ماتت بعشرة أشياء:
1 - ... عرفتم الله ولم تؤدوا حقه.
2 - ... وتأكلون رزق الله ولا تشكرونه.
3 - ... وقرأتم كتاب الله ولم تعملوا به.
4 - ... وادعيتم عداوة الشيطان وواليتموه.
5 - ... وادعيتم حب رسول الله وتركتم أثره وسنته.
6 - ... وادعيتم حب الجنة ولم تعملوا لها.
7 - ... وادعيتم خوف النار ولم تنتهوا عن الذنوب.
8 - ... واشتغلتم بعيوب غيركم وتركتم عيوب أنفسكم.
9 - ... وادعيتم أن الموت حق ولم تستعدوا له.
10 - وتدفنون موتاكم ولا تعتبرون. فكيف يستجاب لكم؟!
(7) وقوع الظلم حتى من الذي يدعو على الظالمين:
والله لا يحب الظالمين، وكل وضع للشيء في غير موضعه فهو ظلم، فتخيلوا كم من الظلم نمارسه نحن، ونحن غافلون لاهون.
[*] قال المقريزي:(7/416)
جاءني أحد الصالحين، سنة ثلاث عشرة وثماني مائة، والناس إذ ذاك من الظلم في أخذ الأموال منهم ومعاقبتهم إذا لم يؤدوا أجرة مساكنهم التي يسكنوها حتى ولو كانت ملكاً لهم، بحال شديدة، وأخذنا نتذاكر ذلك فقال لي: مالسبب في تأخر إجابة دعاء الناس في هذا الزمان، وهم قد ظلموا غاية الظلم، بحيث أن امرأة شريفة عوقبت لعجزها عن القيام بما ألزمت به من أجرة سكنها الذي هو ملكها، فتأخرت إجابة الدعاء مع قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اتق دعوة المظلوم, فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) وها نحن نراهم منذ سنين يدعون على من ظلمهم، ولا يستجاب لهم.
[*] قال المقريزي:
سبب ذلك أن كل أحد صار موصوفا بأنه ظالم، لكثرة ما فشا من ظلم الراعي والرعي، وإنه لم يبق مظلوم في الحقيقة، لأنا نجد عند التأمل كل أحد من الناس في زماننا وإن قل، يظلم في المعني الذي هو فيه من قدر على ظلمه، ولا نجد أحداً يترك الظلم إلا لعجزه عنه، فإذا قدر عليه ظلم، فبان أنهم لا يتركون ظلم من دونهم، إلا عجزاً لا عفة.
هل عرفتم تفكروا، وليفتش كل منا عن نفسه، وعن الظلم الذي يمارسه في حياته،.
(الحِكَم من تأخُرِ إجابة الدعاء:
(من البلاء على المؤمن أن يدعو فلا يجاب، فيكرر الدعاء، ويبالغ فيه، وتطول المدة، فلا يرى أثرًا للإجابة.
(ومن هنا يجد الشيطان فرصته، فيبدأ بالوسوسة له، وإساءة ظنه بربه، وإيقاعه بالاعتراض على حكمته.
فينبغي لمن وقعت له هذه الحال ألا يختلج في قلبه شيء مما يلقيه الشيطان؛ ذلك أن تأخر الإجابة مع المبالغة في الدعاء يحمل في طياته حِكَمَاً باهرةً، وأسرارًا بديعة، لو تدبرها الداعي لما دار في خَلَدِه تضجر من تأخر الإجابة.
[*] (وفيما يلي ذكر لبعض تلك الحكم والأسرار، والتي يجمل بالداعي أن يتدبرها، ويحسن به أن يستحضرها، الحِكَم من تأخُرِ إجابة الدعاء، وهاك الحِكَم من تأخُرِ إجابة الدعاء جملةً وتفصيلا:
[*] (أولاً الحِكَم من تأخُرِ إجابة الدعاء جملةً:
(1) أن تأخر الإجابة من البلاء الذي يحتاج إلى صبر:
(2) أن الله تعالى هو مالك الملك:
(3) أنه لا حق للمخلوق على الخالق:
(4) أن الله تعالى له الحكمة البالغة:
(5) قد يكون في تحقق المطلوب زيادة في الشر:
(6) أن اختيار الله للعبد خير من اختيار العبد لنفسه:
(7) أن الإنسان لا يعلم عاقبة أمره:
(8) الدخول في زمرة المحبوبين لله تعالى:
(9) أن المكروه قد يأتي بالمحبوب والعكس بالعكس:(7/417)
(10) تأخر الإجابة سبب لتفقد العبد لنفسه:
(11) قد تكون الدعوة مستجابة دون علم الداعي:
(12) قد يكون الدعاء ضعيفًا فلا يقاوم البلاء:
(13) قد يكون الإنسان سد طريق الإجابة بالمعاصي:
(14) ظهورآثار أسماء الله تعالى:
(15) تكميل مراتب العبودية للأولياء:
[*] (ثانياً الحِكَم من تأخُرِ إجابة الدعاء تفصيلا:
(1) أن تأخر الإجابة من البلاء الذي يحتاج إلى صبر:
فتأخر الإجابة من الابتلاء، كما أن سرعة الإجابة من الابتلاء.
قال تعالى: (وَنَبْلُوكُم بِالشّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء / 35]
فالابتلاء بالخير يحتاج إلى شكر، والابتلاء بالشر يحتاج إلى صبر؛ فإياك أن تستطيل زمان البلاء، وتَضْجَرَ من كثرة الدعاء؛ فإنك ممتحن بالبلاء، مُتَعَبَّدٌ بالصبر والدعاء.
فلا تيأسن من روح الله وإن طال البلاء؛ فإن الله _ عز وجل _ يبتليك؛ ليبلو أخبارك، وهل الابتلاء إلا الإعراض وعكس المقاصد؟
[*] قال عمر بن عبد العزيز:
أصبحت ومالي سرور إلا في انتظار مواقع القدر؛ إن تكن السراء فعندي الشكر، وإن تكن الضراء فعندي الصبر. (1)
(2) أن الله تعالى هو مالك الملك:
فله التصرف المطلق بالعطاء والمنع، فلا راد لفضله، ولا معقب لحكمه، ولا اعتراض على عطائه ومَنْعِه؛ إن أعطى فبفضل، وإن منع فبعدل.
[*] قال ابن ناصر الدين الدمشقي:
فإنه ليس لأحد مفر عن أمر الله وقضائه، ولا محيد له عن حكمه النافذ وابتلائه، إنَّا لله ملكه وعبيده، يتصرف فينا كما يشاؤه وما يريده. (2)
(3) أنه لا حق للمخلوق على الخالق:
فالمخلوق مربوب، مملوك، مقهور، مُدَبَّر، والخالق ربٌّ، قاهر، مُدَبِّر.
والمملوك العاقل مطالب بأداء حق المالك، ويعلم أنه لا يجب على المالك تبليغه ما يهوى؛ فكيف يُقَصِّر المملوك ثم يطلب حقه كاملاً مع أنه لا حق له أصلاً؟!
[*] قال ابن القيم رحمه الله:
__________
(1) الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز الخليفة الخائف الخاشع لعمر بن محمد الخضر المعروف بالملاء، تحقيق د. محمد صدقي البورنو 2/ 432_433، وانظر سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم ص97.
(2) برد الأكباد عند فقد الأولاد لابن ناصر الدين الدمشقي ص38.(7/418)
فمن أنفع ما للقلب النظرُ في حق الله على العباد؛ فإن ذلك يورث مقت نفسه، والإزراء عليها، ويخلصه من العجب ورؤية العمل، ويفتح له باب الخضوع والذل، والانكسار بين يدي ربه، واليأس من نفسه، وأن النجاة لا تحصل إلا بعفو الله، ومغفرته، ورحمته؛ فإن حقه أن يطاع ولا يعصى، وأن يذكر ولا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.
فمن نظر في هذا الحق الذي لربه عَلِمَ عِلْمَ اليقين أنه غير مؤدٍ له كما ينبغي، وأنه لا يسعه إلا العفو والمغفرة، وأنه إن أحيل على عمله هلك.
فهذا محل نظر أهل المعرفة بالله _ تعالى _ وبنفوسهم، وهذا الذي أيأسهم من أنفسهم، وعلق رجاءهم كله بعفو الله ومغفرته. (1)
ثم قال: وإذا تأملت حال أكثر الناس وجدتهم بضد ذلك؛ ينظرون في حقهم على الله، ولا ينظرون في حق الله عليهم.
ومن ههنا انقطعوا عن الله، وحُجبت قلوبهم عن معرفته، ومحبته، والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره.
وهذا غاية جهل الإنسان بربه وبنفسه. (2)
(4) أن الله تعالى له الحكمة البالغة:
فلا يعطي إلا لحكمة، ولا يمنع إلا لحكمة، وقد ترى الشيء مصلحة ظاهرة، ولكن الحكمة لا تقتضيه؛ فقد يخفى في الحكمة فيما يفعله الطبيب من أشياء تؤذي في الظاهر يقصد بها المصلحة؛ فلعل هذا من ذاك.
ثم إن الله تعالى له الحكمة البالغة، فأسماؤه الحسنى وأفعاله تمنع نسبة الظلم إليه، وتقتضي ألا يفعل إلا ما هو مطابق للحكمة، موافق لها؛ فتأخر الإجابة قد يكون عين المصلحة للداعي كما سيأتي بيانه في الفقرات التالية.
(5) قد يكون في تحقق المطلوب زيادة في الشر:
فربما تحقق للداعي مطلوبه، وأجيب له سؤله، فكان ذلك سببًا في زيادة إثم، أو تأخر عن مرتبة، أو كان ذلك حملاً على الأشر والبطر؛ فكان التأخير أو المنع أصلح.
(وقد روي عن بعض السلف أنه كان يسأل الله الغزو، فهتف به هاتف: إنك إن غزوت أُسِرْتَ، وإن أسرت تَنَصَّرْتَ. (3)
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
فقضاؤه لعبده المؤمن عطاء وإن كان في صورة المنع، ونعمة وإن كان في صورة محنة، وبلاؤه عافية وإن كان في صورة بلية.
ولكن لجهل العبد وظلمه لا يعد العطاء والنعمة والعافية إلا ما التذ به في العاجل، وكان ملائمًا لطبعه.
__________
(1)، (2) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن القيم تحقيق مجدي السيد ص97_98.
(3) صيد الخاطر 1/ 109.(7/419)
ولو رزق من المعرفة حَظًّا وافرًا لعدَّ المنع نعمة، والبلاء رحمة، وتلذذ بالبلاء أكثر من لذته بالعافية، وتلذذ بالفقر أكثر من لذته بالغنى، وكان في حال القلة أعظم شكرًا من حال الكثرة. (1)
(6) أن اختيار الله للعبد خير من اختيار العبد لنفسه:
وهذا سر بديع يحسن بالعبد أن يتفطن له حال دعائه لربه؛ ذلك أن الله _ عز وجل _ أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، فهو أعلم بمصالح عباده منهم، وأرحم بهم من أنفسهم وآبائهم وأمهاتهم.
وإذا أنزل بهم ما يكرهون كان خيرًا لهم من ألا ينزل بهم؛ نظرًا منه لهم، وإحسانًا إليهم، ولطفًا بهم.
ولو مُكِّنُوا من الاختيار لأنفسهم لعجزوا عن القيام بمصالحهم علمًا، وإرادةً، وعملاً.
لكنه تعالى تولى تدبير أمورهم بموجب علمه، وعدله، وحكمته، ورحمته أَحَبُّوا أم كرهوا.
فإذا سلَّم العبد لله، وأيقن بأن الملك ملكه، والأمر أمره، وأنه أرحم به من نفسه _ طاب قلبه، قضيت حاجته أو لم تُقضَ.
وإذا فوض العبد ربه، ورضي بما يختاره له _ أَمَدَّه فيما يختاره له بالقوة عليه، والعزيمة، والصبر، وصرف عنه الآفات التي هي عرضة اختيار العبد لنفسه، وأراه من حسن عواقب اختياره له ما لم يكن ليصل إلى بعضه بما يختاره هو لنفسه.
وهذا يريحه من الأفكار المتعبة في أنواع الاختيارات، ويفرغ قلبه من التقديرات والتدبيرات التي يصعد منها في عقبة، وينزل في أخرى.
ومع هذا فلا خروج له عما قدر عليه، فلو رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به، وإلا جرى عليه القدر وهو مذموم غير ملطوف به.
ومتى صح تفويضه ورضاه اكتنفه في المقدور العطفُ عليه، واللطف فيه، فيصير بين عطفه ولطفه؛ فعطفه يقيه ما يحذره، ولطفه يُهَوِّن عليه ما قدر له.
[*] قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى:
منعه عطاء؛ وذلك أنه لم يمنع عن بخل ولا عدم، وإنما نظر في خير العبد فمنعه اختيارًا وحسن نظر. (2)
(7) أن الإنسان لا يعلم عاقبة أمره:
فربما يطلب ما لا يَحْمد عاقبته، وربما كان فيه ضرره، كمثل طفل محموم يطلب الحلوى وهي لا تناسبه.
والمدبر للإنسان أعلم بمصالحه، وعاقبةِ أمره، كيف وقد قال تعالى: (وَعَسَىَ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لّكُمْ) [البقرة / 216]
(ومن أسرار هذه الآية أنها تقتضي من العبد التفويض إلى من يعلم عواقب الأمور، والرضا بما يقضيه عليه؛ لما يرجوه من حسن العاقبة.
__________
(1) مدارج السالكين 2/ 215_216.
(2) مدارج السالكين 2/ 215.(7/420)
(ومن أسرارها ألا يقترح على ربه، ولا يسأله ما ليس له به علم؛ فلعل فيه مضرَّتَه وهو لا يعلم؛ فلا يختار على ربه، بل يسأله حسن العاقبة فيما يختار له؛ فلا أنفع له من ذلك.
(ولهذا من لطف الله _ تعالى _ لعبده أنه ربما طمحت نفسه لسبب من الأسباب الدنيوية، التي يظن بها إدراك بغيته، فيعلم الله أنها تضره، وتصده عما ينفعه، فيحول بينه وبينها، فيظل العبد كارهًا، ولم يدْرِ أن ربه قد لطف به؛ حيث أبقى له الأمر النافع، وصرف عنه الأمر الضار. (1)
(8) الدخول في زمرة المحبوبين لله تعالى:
فالذين يدعون ربهم، ويبتلون بتأخر الإجابة عنهم _ يدخلون في زمرة المحبوبين، المُشَرَّفِين بمحبة رب العالمين؛ فهو _ سبحانه _ إذا أحب قومًا ابتلاهم. (2)
وقد جاء في السنة ما يشير إلى أن الابتلاء دليل على محبة الله للعبد؛
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن عظم الجزاء مع عظم البلاء و إن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا و من سخط فله السخط.
(حديث سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه و إن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض و ما عليه خطيئة.
(9) أن المكروه قد يأتي بالمحبوب والعكس بالعكس:
فإذا صحت معرفة العبد بربه علم يقينًا أن المكروهات التي تصيبه، والمحن التي تنزل به، والتي منها تأخر إجابة الدعاء _ أنها تحمل في طياتها ضروبًا من المصالح والمنافع لا يحصيها علمه، ولا تحيط بها فكرته.
بل إن مصلحة العبد فيما يكره أعظم منها فيما يحب؛ فعامة مصالح النفوس في مكروهاتها، كما أن عامة مضارها وأسباب هلكتها في محبوباتها.
قال تعالى: (فَعَسَىَ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) [النساء / 19]
قال تعالى: (وَعَسَىَ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لّكُمْ وَعَسَىَ أَن تُحِبّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرّ لّكُمْ) [البقرة / 216]
__________
(1) المواهب الربانية من الآيات القرآنية للشيخ ابن سعدي، اعتنى بها سمير الماضي ص151.
(2) انظر برد الأكباد ص39.(7/421)
فإذا علم العبد أن المكروه قد يأتي بالمحبوب، وأن المحبوب قد يأتي بالمكروه _ لم يأمن أن توافيه المضرة من جانب المسرة، ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة؛ فإن الله يعلم ما لا يعلمه العبد.
وما أجمل قول من قال:
كم نعمةٍ لا تستقلُّ بشكرها ... لله في طيِّ المكاره كامنه (1)
ومن قال:
تجري الأمور على حكم القضاء وفي ... طيِّ الحوادث محبوب ومكروه
وربما سرني ما كنت أحذره ... وربما ساءني ما كنت أرجوه (2)
[*] قال سفيان بن عيينه:
ما يكره العبد خير له مما يحب؛ لأن ما يكرهه يهيجه للدعاء، وما يحبه يلهيه. (3)
[*] وقال ابن ناصر الدين الدمشقي:
إذا اشتدت البوى تحَفَّفْ بالرضا ... عن الله قد فاز الرَّضيُّ المراقبُ
وكم نعمةٍ مقرونة ببلية ... على الناس تخفى والبلايا مواهب (4)
(10) تأخر الإجابة سبب لتفقد العبد لنفسه:
فقد يكون امتناع الإجابة لآفة في الداعي؛ فربما كان في مطعومه شبهة، أو في قلبه وقت الدعاء غفلة، أو كان متلبسًا بذنوب مانعة.
[*] وسُئِلَ إبراهيم بن أدهم -رحمه الله-: ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا؟
فقال: لأن قلوبكم ماتت بعشرة أشياء: عرفتم الله فلم تطيعوه، وعرفتم الرسول ولم تتبعوا سنته، وعرفتم القرآن ولم تعملوا به، وأكلتم نِعَم الله ولم تؤدوا شكرها، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها، وعرفتم النار ولم تهربوا منها، وعرفتم الشيطان ولم تحاربوه، وعرفتم الموت فلم تستعدوا له، ودفنتم الأموات ولم تعتبروا بها، وانتبهتم من نومكم فاشتغلتم بعيوب الناس وتركتم عيوبكم.
وتأخر الإجابة قد يبعث الداعي إلى تفقد نفسه، والنظر في حاله مع ربه، فيحصل له من جراء ذلك المحاسبةُ، والتوبةُ، والأوبةُ.
ولو عجلت له دعوته لربما غفل عن نفسه، فظن أنه على خير وهدى، فأهلكه العجب، وفاتته هذه الفائدة.
(11) قد تكون الدعوة مستجابة دون علم الداعي:
__________
(1) جنة الرضا في التسليم لما قدر الله وقضى للغرناطي، تحقيق د. صلاح جرار 3/ 52.
(2) جنة الرضا في التسليم لما قدر الله وقضى للغرناطي، تحقيق د. صلاح جرار 3/ 52.
(3) الفرج بعد الشدة لابن أبي الدنيا ص22.
(4) برد الأكباد عند فقد الأولاد لابن ناصر الدين الدمشقي ص37.(7/422)
فقد مر بنا عند الحديث عن فضائل الدعاء أن ثمرة الدعاء مضمونة إذا أتى الإنسان بأسباب الإجابة، وسلممن موانعها؛ فالداعي لا يخلو من أن يستجاب له دعاؤه فيرى أثره في الدنيا، أو لا يستجاب له لوجود أحد الموانع، فلا يرى أثرًا لدعائه في الدنيا، أو أن يستجاب له ولكن لا يرى أثرًا للإجابة في الدنيا وإنما يؤخر له من الأجر مثل دعوته يوم القيامة، أو أن يستجاب له الدعاء فلا يرى أثرًا للإجابة، ولكن يصرف الله عنه من السوء مثل دعوته وهو لا يعلم. (1)
إذا تقرر هذا فكيف يستبطئ الداعي الإجابة طالما أن الثمرة مضمونة؟ ولماذا لا يحسن العبد ظنه بربه ويقول: لعله استجيب لي من حيث لا أعلم؟.
(12) قد يكون الدعاء ضعيفًا فلا يقاوم البلاء:
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
وله (2) مع البلاء ثلاث مقامات:
أحدها: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه.
الثاني: أن يكون أضعف من البلاء، فيصاب به العبد، ولكن قد يخففه وإن كان ضعيفًا.
الثالث: أن يتقاوما، ويمنع كل واحد منهما صاحبه. (3)
(13) قد يكون الإنسان سد طريق الإجابة بالمعاصي:
فلو فتحها بالتقوى لحصل على مراده؛ فكيف يستبطئ الإجابة وقد سد طريقها بالمعاصي؟.
أما علم أن التقوى سبب الراحة، وأنها مفتاح كل خير؟
أما سمع قوله قال تعالى: (وَمَن يَتّقِ اللّهَ يَجْعَل لّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ) [الطلاق 2، 3]
أَوَ ما فهم أن العكس بالعكس؟.
[*] قال بعض السلف: لا تستبطئ الإجابة، وقد سَددْتَ طُرقَها بالمعاصى. وقد أخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال:
"نحن ندعو الإلهَ في كل كرب ثم ننساهُ عند كشف الكروب
كيف نرجو إجابةَ لدعاء قد سددنا طريقَها بالذنوب؟
__________
(1) علق سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز في هذا الموضوع فقال:=وقد صح عن رسول الله"أنه قال: ما من مسلم يدعو ليس بإثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدَّخرها له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها، قالوا: يا رسول الله، إذًا نكثر؟ قال: الله أكثر+ أ_هـ. والحديث مضى تخريجه عند الحديث عن فضائل الدعاء.
(2) يعني الدعاء.
(3) الجواب الكافي ص9 _ 10.(7/423)
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا فقال تعالى (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم) وقال (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فأنى يستجاب لذلك) وهو استفهام واقع على وجه التعجب والاستبعاد. أي كيف يدعو هذا الآكل للحرام وينتظر الإجابة مع تيقنه من سوء فعاله، نسأل الله أن يطعمنا الحلال ويجنبنا مهاوى الضلال إنه ولى ذلك والقادر عليه.
(14) ظهورآثار أسماء الله تعالى:
فمن أسماء الله _ عز وجل _ المعطي، المانع، الحكم، العدل، الكريم، العليم، البر، الرحيم، المالك، الحكيم.
وهذه الأسماء تستدعي متعلقات تظهر فيها أحكامها، ومقتضياتها، وآثارها؛ فتأخر الإجابة من أسباب ظهور تلك الآثار، والمقتضيات والأحكام.
فقد يمنع _ عز وجل _ أحدًا من الناس؛ لحكمته، وعدله، وعلمه.
وقد يعطي برحمته _ عز وجل _، وحكمته، وبره، وعلمه.
(15) تكميل مراتب العبودية للأولياء:
فالله تعالى يحب أولياءه، ويريد أن يكمل لهم مراتب العبودية، فيبتليهم بأنواع من البلاء، ومنها تأخر إجابة الدعاء؛ كي يتَرَقَّوا في مدارج الكمال ومراتب العبودية؛ فكمال المخلوق في تحقيق عبوديته، وكلما ازداد العبد تحقيقًا للعبودية ازداد كماله، وعلت درجته. (1)
فأنفع الأشياء للعبد على الإطلاق طاعته لربه بظاهره وباطنه، وأضر الأشياء عليه معصيته لربه بظاهره وباطنه.
فإذا قام بطاعته وعبوديته مخلصًا له _ فكل ما يجري عليه مما يكرهه يكون خيرًا له.
وإذا تخلى عن طاعته وعبوديته _ فكل ما هو فيه من محبوبٍ شرٌّ له.
فإذا تدبر العبد ذلك تشاغل بما هو أنفع له من حصول ما فاته.
[*] (هذا ومن تلك العبوديات التي تحصل من جراء تأخر إجابة الدعاء ما يلي:
(أ) انتظار الفرج:
فانتظار الفرج من أجل العبوديات وأعظمها، فكلما اشتد انتظار الفرج كلما ازدادت ثقة العبد بربه، فيزداد بذلك قربًا من الله، وأُنْسًا به _عز وجل _.
ولو عجلت له الإجابة لربما فاتته هذه العبودية.
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
__________
(1) العبودية لابن تيمية ص80.(7/424)
انتظار روح الفرج يعني راحته، ونسيمه، ولذته؛ فإن انتظاره، ومطالعته، وترقبه يخفف حمل المشقة ولاسيما عند قوة الرجاء، أو القطع بالفرج؛ فإنه يجد في حشو البلاء من روح الفرج ونسيمه وراحته _ ما هو من خفي الألطاف، وما هو فرج معجل. (1)
(ب) حصول الاضطرار والافتقار إلى الله:
فهذا لب العبادة ومقصودها الأعظم؛ فالافتقار إلى الله دون سواه هو عين الغنى، والتذللُ له _ عز وجل _ هو العز الذي لا يدانيه عز.
ثم إن حاجة الإنسان بل ضرورته إلى الافتقار والاضطرار إلى الله _ لا تدانيها حاجة أو ضرورة.
ولو أجيب دعاؤه مباشرة لربما أصابه التيه بالنفس، والإدلال على الله بالعمل، ولربما شعر بالغنى عن الله _ تبارك وتعالى _.
وبذلك يخرج العبد عن وصفه الذي لا ينفك عنه، والذي فيه جماله وكماله ألا وهو افتقاره إلى ربه.
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
والعبد هو فقير دائمًا إلى الله من كل وجه؛ من جهة أنه معبوده، وأنه مستعانه، فلا يأتي بالنعم إلا هو، ولا يَصْلُح حال العبد إلا بعبادته.
وهو مذنب _ أيضًا _ لا بد له من الذنوب فهو دائمًا فقير مذنب؛ فيحتاج دائمًا إلى الغفور الرحيم؛ الغفور الذي يغفر ذنوبه، والرحيم الذي يرحمه فينعم عليه، ويحسن إليه؛ فهو دائمًا بين إنعام ربه وذنوب نفسه. (2)
(ج) حصول عبودية الرضا:
فالرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، وبستان العارفين. (3)
فمن رضي عن الله وبالله رضي الله عنه وأرضاه؛ فالمؤمن حين تنزل به النازلة يدعو ربه، ويبالغ في ذلك، فلا يرى أثرًا للإجابة، فإذا قارب اليأس نُظِرَ حينئذٍ في قلبه، فإن كان راضيًا بالأقدار، غير قنوط من فضل الله فالغالب تعجيل الإجابة؛ فهناك يصلح الإيمان، ويهزم الشيطان، وتتبين مقادير الرجال.
وقد أشير إلى هذا في قوله _ تعالى: (حَتّىَ يَقُولَ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىَ نَصْرُ اللّهِ أَلآ إِنّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) [البقرة / 214]
وكذلك جرى ليعقوب _ عليه السلام _ مع أولاده كما مر قريبًا.
أما الاعتراض وقلة الرضا عن الله فخروج عن صفة العبودية.
__________
(1) مدارج السالكين 2/ 167.
(2) جامع الرسائل لابن تيمية 1/ 116.
(3) جامع العلوم والحكم 2/ 476.(7/425)
قال بعضهم: ارض عن الله في جميع ما يفعله بك؛ فإنه ما منعك إلا ليعطيك، ولا ابتلاك إلا ليعافيك، ولا أمرضك إلا ليشفيك، ولا أماتك إلا ليحييك؛ فإياك أن تفارق الرضا عنه طرفة عين، فتسقط من عينه. (1)
[*] قال ابن ناصر الدين الدمشقي:
يجري القضاءُ وفيه الخير نافلة ... لمؤمن واثق بالله لا لاهي
إن جاءه فرح أو نابه ترح ... في الحالتين يقول الحمد لله (2)
(د) الانكسار بين يدي جبار السماوات والأرض:
فالله تعالى يحب المنكسرين بين يديه، فيدنيهم، ويقرب منهم، بل هو تعالى عند المنكسرة قلوبهم.
ذكر عن عمران بن موسى القصير قال: قال موسى _ عليه السلام _:=يا رب، أين أبغيك؟
قال: ابغني عند المنكسرة قلوبهم؛ فإني أدنو منهم كل يوم باعًا، ولولا ذلك انهدموا. (3)
فربما كان تأخر الإجابة سببًا لإطالة الوقوف على باب الله، وانكسار العبد بين يديه، وكثرة اللجأ إليه، والاعتصام به.
بدليل أنه لولا هذه النازلة لم يُرَ على باب اللجأ والمسكنة؛ فالله _ عز وجل _ علم من الخلق اشتغالهم بالبر عنه، فابتلاهم من خلال النعم بعوارض تدفعهم إلى بابه يستغيثون به.
فهذا من النعم في طي البلاء، وإنما البلاء المحض ما يشغلك عن ربك، وأما ما يقيمك بين يديه _ عز وجل _ ففيه جمالك، وكمالك، وعزك، وفلاحك.
(هـ) التمتع بطول المناجاة:
فقد مرَّ بنا عند الحديث عن فضائل الدعاء أن العبد قد يقوم لمناجاة ربه، وإنزال حاجاته ببابه، فيُفتح على قلبه حال السؤال والدعاء من محبة الله، ومعرفته، والخضوع له، والتذلل بين يديه _ ما ينسيه حاجته، فيكون ما فتح له من ذلك أحبَّ إليه من قضاء حاجته التي سألها، فيحب أن تدوم له تلك الحال، وتكون عنده آثر من حاجته، ويكون فرحه بها أعظم من فرحه بحاجته لو عجلت له وفاتته تلك الحال.
وعلى هذا فكلما تأخرت الإجابة كلما طالت المناجاة، وحصلت اللذة، وزاد القرب.
ولو عجلت الإجابة لربما فاتت تلك الثمرة.
[*] قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى:
لقد أنعم الله على عبد في حاجة أكثر من تَضَرُّعه إليه فيها. (4)
(و) مجاهدة الشيطان ومراغمته:
فالشيطان عدو مبين للإنسان، يتربص به الدوائر، ويسعى في إضلاله وصدِّه عن صراط الله المستقيم، فإذا صادف منه غرة أصابه من خلالها.
__________
(1) مدارج السالكين 2/ 216.
(2) برد الأكباد ص9.
(3) أخرجه أحمد في الزهد ص95 وأورده ابن القيم في إغاثة اللهفان ص97.
(4) عدة الصابرين لابن القيم ص161.(7/426)
فالعبد إذا دعا ربه، وتأخر وقت الإجابة _ بدأ الشيطان يجول في خاطره؛ ليسيء ظنه بربه، وصار يُلقي في رُعِه أن لا فائدة من دعائه.
فإذا جاهده العبد، وراغمه، وأغاظه بكثرة الدعاء، وإحسان الظن بالله _ حصل على أجر عظيم؛ فمجاهدة الشيطان ومراغمته من أجل العبوديات.
ولو لم يأت العبد من تأخر الإجابة إلا هذه الفائدة _ لكان حريًا به ألا ينزعج من تأخرها.
هذه بعض الحكم المتلمسة من جراء تأخر الدعاء، والتي يجدر بالعبد أن يستحضرها إذا دعا وتأخرت إجابة الدعاء.
[*] (الدعوات المستجابات:
(كل من عمل بالشروط، وابتعد عن الموانع، وعمل بالآداب، وتحرّى أوقات الإجابة، والأماكن الفاضلة فهو ممن يستجيب الله دعاءه، وقد بينت السنة أنواعاً وأصنافاً ممن طبق هذه الشروط واستجاب الله دعاءهم ومنهم ما يلي:
(1) دعوة المسلم لأخيه المسلم بظهر الغيب:
(حديث أبي الدرداء الثابت في صحيح مسلم) النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به آمين ولك بمثل.
(2) دعوة المظلوم:
(حديث ا بن عباس في الصحيحين) قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذٍ ابن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتُردُ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائمَ أموالهم، واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب.
(حديث خزيمة بن ثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اتقوا دعوة المظلوم فإنها تُحْمَلُ على الغمام يقول الله: و عزتي و جلالي لأنصرنك و لو بعد حين.
(حديث ابن عمر في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوة المظلوم مستجابة و إن كان فاجرا ففجوره على نفسه.
(والشواهد على إجابة دعوة المظلوم لا تكاد تحصر، ومنها ما جاء في قصة سعد بن أبي وقاص مع أهل الكوفة لما شكوه إلى عمر بن الخطاب.(7/427)
قال أبو عوانة، وجماعة: حدثنا عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال:=شكا أهل الكوفة سعدًا إلى عمر فقالوا: إنه لا يحسن أن يصلي، فقال سعد: أما أنا فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله، صلاتي العشيِّ لا أخرم منها، أركد في الأوليين، وأحذف في الأخريين.
فقال عمر: ذلك الظن بك يا أبا إسحاق.
فبعث رجلاً يسألون عنه بالكوفة، فكانوا لا يأتون مسجدًا من مساجد الكوفة إلا قالوا خيرًا، حتى أتوا على مسجد لبني عبسٍ، فقال رجل يقال له أبو سعد: أما إذا نشدتمونا بالله فإنه كان لا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية، ولا يسير بالسرية.
(فقال سعد: اللهم إن كان كاذبًا فأعم بصره، وأطل عمره، وعَرِّضْهُ للفتن.
قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد يتعرض للإماء في السكك، فإذا قيل له: كيف أنت؟ قال: كبير مفتون أصابتني دعوة سعد. (1)
[*] وقال الذهبي:
يقال إن رجلاً وشى على بسر بن سعيد عند الوليد بن عبد الملك بأنه يعيبكم.
قال: فأحضره وسأله، فقال: لم أَقُلْهُ؛ اللهم إن كنتُ صادقًا فأرني به آية، فاضطرب الرجل فمات. (2)
(وخاصمت أروى بنت أويس سعيد بن زيد رضي الله عنه عند مروان ابن الحكم أمير المدينة وادَّعت عليه أنه أخذ من أرضها، فقال: أنا كنت آخذ من أرضها شيئاً بعد الذي سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: وما سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ”من أخذ شبراً من الأرض بغير حقه طُوِّقه إلى سبع أرضين“
ثم قال: اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها، واجعل قبرها في دارها، قال: فرأيتها عمياء تتلمس الجدر تقول: أصابتني دعوة سعيد بن زيد، فبينما هي تمشي في الدار مرت على بئر في الدار فوقعت فيها فكانت قبرها (3).
(3) الإمام العادل:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في سلسلة الأحاديث الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاثة لا يُردُّ دعاؤُهم: الذاكر لله كثيراً، ودعوة المظلوم، والإمام المُقسِط“.
(4) دعوة الذاكر لله كثيراً:
__________
(1) رواه أحمد 1/ 175_180، والبخاري (755)، في الأذان، باب وجوب قراءة الإمام والمأموم في الصلوات كلها، ومسلم (453) في الصلاة، باب القراءة في الظهر والعصر، والنسائي 2/ 217 باب الركود في الأوليين.
(2) سير أعلام النبلاء للذهبي 4/ 595.
(3) مسلم برقم 1610، 2/ 1230.(7/428)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في سلسلة الأحاديث الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاثة لا يُردُّ دعاؤُهم: الذاكر لله كثيراً، ودعوة المظلوم، والإمام المُقسِط“.
(5) دعوة المضطر:
قال الله تعالى: {أمَّن يُجيبُ المضطَرَّ إذا دعَاهُ ويكشِفَ السُّوءَ} [النمل /62]
ومما يدل على أن من أقوى أسباب الإجابة الاضطرار حديث الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار فانحطت على فم الغار صخرة من الجبل أغلقت الغار عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها صالحة لله تعالى واسألوا الله بها لعله يفرجها عنكم، فدعوا الله تعالى بصالح أعمالهم فارتفعت الصخرة فخرجوا يمشون (1).
__________
(1) البخاري، كتاب الأدب، باب إجابة دعاء من بر والديه، برقم 5974، ومسلم 4/ 2099.(7/429)
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم، حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فناء بي في طلب شيء يوما، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي، فأدرتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله أد إلي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون).
(6) دعوة من دعا بدعوة ذي النون:
(حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوة ذي النون إذ دعا بها و هو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له.(7/430)
(حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:" ألا أخْبِرُكُمُ بِشَيْءٍ إذَا نَزَلَ بِرَجُلِ مِنْكُمُ كَرْبٌ أو بَلاَءٌ مِنْ أمْرِ الدُّنْياَ دَعَا بِهِ فَفُرِّجَ عنه؟ دُعَاءُ ذِي النُّوُنِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ أنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ".
(وذو النون: هو نبي الله يونس عليه السلام.
(والنون: الحوت.
(حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوة ذي النون إذ دعا بها و هو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له.
(وذو النون: هو نبي الله يونس _ عليه السلام _،
(والنون: الحوت.
فهذا سيدنا يونس عليه السلام ألقي في اليم فالتقمه الحوت وأسدل الليل البهيم ستاره المظلم عليه، فالتجأ إلى الله {أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، فأنجاه الله، حتى إذا خرج إلى شاطئ السلامة، تلقفته يد الرحمة الإلهية والعناية الربانية فأظلته تحت شجرة اليقطين.
قال تعالى {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87 - 88].
[*] قال القرطبي في تفسير هذه الآية:
وفي الخبر في هذه الآية شرط الله لمن دعاه أن يجيبه كما أجابه، وينجيه كما أنجاه، وهو قوله: [وكذلك ننجي المؤمنين] (1)
[*] وقال ابن كثير في قوله تعالى: [وكذلك ننجي المؤمنين]: أي إذا كانوا في الشدائد، ودعونا منيبين إلينا، ولا سيما إذا دعوا بهذا الدعاء في حال البلاء؛ فقد جاء الترغيب به في الدعاء به عند سيد الأنبياء. (2)
{تنبيه}: (هذا الدعاء من أعظم أنواع الدعاء، لاشتماله على الآتي:
أولاً: على توحيد الله (لا إله إلا أنت)
وهو أعظم وسيلة إلى الله تعالى، وأعظم طاعة وأعظم وقربة.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 11/ 334.
(2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/ 187(7/431)
ثم ثنى بالتنزيه (سبحانك) تنزيه الله عما لا يليق به عز وجل، فكل ما يفعل، وكل ما يقدر فله فيه الحكمة البالغة، فهو منزه عما لا يليق بجلاله وكماله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعظيم شأنه.
ثم ثلث ببيان عجزه وضعفه وفقره وظلمه لنفسه، وهكذا كل عبد بالنسبة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ينبغي له أن يكون كذلك إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]
(7) دعوة من دعا بالاسم الأعظم:
(حديث أنس في صحيح السنن الأربعة) قال سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.
(حديث بريدة في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا يقول: اللهم إني أسألك أني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.
(8) دعوة الولد البار بوالديه:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقةٍ جارية أو علمٍ ينتفع به أو ولدٌ صالحٌ يدعو له.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الرجل لتُرْفَع درجته في الجنة فيقول: أنى لي هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك.
ومن ذلك حديث الثلاثة الذين انحدرت عليهم الصخرة، فإن منهم رجلاً كان برَّاً بوالديه فتوسل بذلك العمل الصالح فاستجاب الله دعاءه(7/432)
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم، حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فناء بي في طلب شيء يوما، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي، فأدرتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله أد إلي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون).
(ومن ذلك: قصة أويس القرني
إخبار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أفضل التابعين، وأنه لو أقسم على الله لأبره، والسبب أن له والدة هو بها برٌ.
(حديث عمر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل.
(9) دعوة من أحبه الله ورضي عنه:(7/433)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلىَّ عبدي بشيءٍ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليِّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله الذي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنَّه، وما ترددتُ عن شيءٍّ أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته.
وهذا المحبوب المقرب الذي له عند الله منزلة عظيمة إذا سأل الله شيئاً أعطاه، وإن استعاذ به من شيء أعاذه، وإن دعاه أجابه، فيصير مجاب الدعوة لكرامته على ربه عز وجل.
(قصص لمستجابي الدعاء:
[*] (سعد ابن أبي وقاص:
كان سعد ابن أبي وقاص مجاب الدعوة فكذب عليه رجل فقال اللهم إن كان كاذبا فاعم بصره وأطل عمره وعرضه للفتن فأصاب الرجل ذلك كله فكان يتعرض للجواري في السكك ويقول شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد ودعا علي رجل سمعه يشتم عليا فما برح من مكانه حتى جاء بعير ناد فخبطه بيديه ورجليه حتى قتله.
[*] (سعيد بن زيد:
(وخاصمت أروى بنت أويس سعيد بن زيد رضي الله عنه عند مروان ابن الحكم أمير المدينة وادَّعت عليه أنه أخذ من أرضها، فقال: أنا كنت آخذ من أرضها شيئاً بعد الذي سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: وما سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ”من أخذ شبراً من الأرض بغير حقه طُوِّقه إلى سبع أرضين“
ثم قال: اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها، واجعل قبرها في دارها، قال: فرأيتها عمياء تتلمس الجدر تقول: أصابتني دعوة سعيد بن زيد، فبينما هي تمشي في الدار مرت على بئر في الدار فوقعت فيها فكانت قبرها (1).
[*] (أُبَيُّ ابن كعب
وكان أُبَيُّ رضي الله عنه مستجاب الدعوة فيحكي ابن عباس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لجمع من الصحابه:
أخرجوا بنا إلى أرض قومنا فكان ابن عباس مع أبى بن كعب في مؤخرة الناس, فهاجت سحابه, فدعا أُبَىّ قائلاً: اللهم اصرف عنا أذاها. فلحق ابن عباس وأبى الناس, فوجدوا إن رحالهم ابتلت: فقال عمر ما أصابكم؟ (أى: كيف لم تبل رحالكما؟) فقال ابن عباس: إن أبيّا قال: اللهم اصرف عنا أذاها. فقال عمر فهلا دعوتم لنا معكم.
__________
(1) مسلم برقم 1610، 2/ 1230.(7/434)
[*] (عبد الله بن جحش:
عبد الله بن جحش قال يوم أحد يارب إذا لقيت العدو غدا فلقني رجلا شديدا بأسه شديدا حرده أقاتله فيك ويقتلني ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني فإذا لقيتك غدا قلت يا عبد الله من جدع أنفك وأذنك فأقول فيك وفي رسولك فتقول صدقت قال سعيد لقد لقيته آخر النهار وإن أنفه وأذنه لمعلقتان في خيط.
[*] (قصة حصلت في عهد أبي موسى الأشعري:
احترقت خصاص بالبصرة في زمن أبي موسي الأشعري وبقي في وسطها خص لم يحترق فقال أبو موسي لصاحب الخص ما بال خصك لم يحترق فقال إني أقسمت على ربي أن لا يحرقه فقال أبو موسي إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في أمتي رجال طلس رؤوسهم دنس ثيابهم لو أقسموا على الله لأبرهم.
[*] (العلاء بن الحضرمي:
كان العلاء بن الحضرمي في سرية فعطشوا فصلي ثم قال اللهم ياعليم ياحكيم ياعلي ياعظيم إنا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوك فاسقنا غيثا نشرب منه ونتوضأ ولا تجعل لأحد فيه نصيبا غيرنا فساروا قليلا فوجدوا نهرا من ماء السماء يتدفق فشربوا وملأوا أوعيتهم ثم ساروا فرجع بعض أصحابه إلى موضع النهر فلم ير شيئا وكأنه لم يكن في موضعه ماء قط وشكا أنس بن مالك عطش أرضه في البصرة فتوضأ وخرج إلى البرية وصلي ركعتين ودعا فجاء المطر وسقا أرضه ولم يجاوز المطر أرضه إلا يسيرا.
[*] (أبو مسلم الخولاني:
كان أبو مسلم الخولاني مشهورا بإجابة الدعوة فكان يمر به الضب فيقول له الصبيان ادع الله لنا أن يحبس علينا هذا الضب فيدعو الله فيحبسه حتى يأخذوه بأيديهم ودعا على امرأة أفسدت عليه عشرة امرأة له بذهاب بصرها فذهب بصرها في الحال فجاءته فجعلت تناشده بالله وتطلب من الله فرحمها ودعا الله تعالى فرد عليها بصرها ورجعت امرأته إلى حالها معه.
[*] (مطرف ابن عبد الله بن الشخير:
وكذب رجل على مطرف ابن عبد الله بن الشخير فقال له إن كنت كاذبا فعجل الله حتفك فمات الرجل مكانه.
[*] (عطاء السليمي:
كان عطاء السليمي لا يكاد يدعو، إنما يدعو لبعض أصحابة ويؤمن، قال: فحبس بعض أصحابة فقيل له: ألك حاجة؟ قال: دعوة من عطاء إن يفرج الله عني. قال صالح فانتبه فقلت: يا أبا محمد، أما تحب أن يفرج الله عنك؟ قال
بلى والله أني لا حب ذاك قلت: فان جليسك فلان قد حبس فادع الله أن يفرج عنه فرفع يديه وبكى وقال الهي تعلم حاجتنا قبل أن نسألكها فاقضها لنا قال صالح فو الله مابرحنا من البيت حتى دخل الرجل. (1)
__________
(1) - مجابي الدعوة لابن ابي الدنيا ص 54(7/435)
[*] (صلة بن أشيم:
وكان صلة بن أشيم في سرية فذهبت بغلته بثقلها وارتحل الناس فقام يصلي فقال اللهم إني أقسم عليك أن ترد على بغلتي وثقلها فجاءت حتى قامت بين يديه وكان مرة في برية فقرأ فجاع فاستطعم الله وجبة خلفه فإذا هو بثوب أو منديل فيه دوخلة رطب طري فأكل منه وبقي الثوب عند امرأته معاذة العدوية وكانت من الصالحات.
[*] (محمد بن المنكدر:
وكان محمد بن المنكدر في غزاة فقال له رجل من رفقائه اشتهي رطبا جنيا فقال ابن المنكدر استطعموا الله يطعمكم فإنه القادر فدعا القوم فلم يسيروا إلا قليلا حتى رأوا مكتلا مخيطا فإذا هو خير رطب فقال بعض القوم لو كان عسلا فقال ابن المنكدر إن الذي أطعمكم رطبا جنيا ها هنا قادر على أن يطعمكم عسلا فاستطعموه فدعوا فساروا قليلا فوجدوا ظرف عسل على الطريق فنزلوا وأكلوا.
[*] (الحسن البصري:
كان رجل من الخوارج يغشي مجلس الحسن البصري فيؤذيهم فلما ازداد أذاه قال الحسن اللهم قد عملت أذاه لنا فاكفناه بما شئت فخر الرجل من قامته فما حمل إلى أهله إلا ميتا على سريره.
[*] (حبيب العجمي:
كان حبيب العجمي أبو محمد معروفا بإجابة الدعوة دعا لغلام أقرع الرأس وجعل يبكي ويمسح بدموعه رأس الغلام فما قام حتى اسود رأسه وعاد كأحسن الناس شعرا.
وكان مرة عند مالك بن دينار فجاء رجل فأغلظ لمالك من أجل دراهم قسمها مالك فلما طال ذلك من أمره رفع حبيب يده إلى السماء فقال اللهم إن هذا قد شغلنا عن ذكرك فأرحنا منه كيف شئت فسقط الرجل على وجهه ميتا.
[*] (صفوان بن محرز:
اخذ عبيد الله بن زياد ابن أخي لصفوان بن محرز فحبسه في السجن فلم يدع صفوان شريفا بالبصرة يرجوا منفعة إلا تجمل به عليه فلم ير لحاجته نجاحا فغاب في مصلاة حزينا فإذا آت قد أتاه في منامه فقال: يا صفوان قم فاطلب حاجتك من وجهها. قال: فانتبه فزعا فقام وتوضأ ثم صلى ثم دعا. فأرق ابن زياد (الذي سجن ابن أخيه ولم يستطع النوم) فقال: علي بابن أخي صفوان بن محرز فجاء الحراس وجيء بالنيران وفتحت تلك الأبواب الحديد في جوف الليل فقيل: أين ابن أخي صفوان بن محرز؟ أخرجوه فاني قد منعت من النوم منذ الليلة فاخرج فأتى به إلى زياد فكلمه ثم قال: انطلق بلا كفيل ولا شيء فما شعر صفوان حتى ضرب عليه أخيه بابه، قال صفوان من هذا؟ قال: أنا فلان. (1)
[*] (أبو قلابة:
__________
(1) - كتاب مجابي الدعوة لابن ابي الدنيا بتصرف ص 53.(7/436)
وخرج أبو قلابة صائما حاجا فتقدم أصحابه في يوم صائف فأصابه عطش شديد فقال اللهم إنك قادر على أن تذهب عطشي من غير فطر فأظلته سحابة فأمطرت عليه حتى بلت ثوبه وذهب العطش عنه فنزل فحوض حياضا فملأها فانتهي إليه أصحابه فشربوا وما أصاب أصحابه من ذلك المطر شيء. (1)
[*] (قصة عبد الواحد بن زيد:
خرجت في بعض غزواتي في البحر، ومعي غلام لي له فضل، فمات الغلام فدفنته في جزيرة فنبذته الأرض ثلاث مرات في ثلاثة مواضع، فبينا نحن وقوف نتفكر ما نصنع له إذ انتقضت النسور والعقيان فمزقوه حتى لم يبق منه شيء فلما قدمنا البصرة أتيت أم الغلام فقلت لها: " ما كانت حال ابنك؟ قالت: خيرا كنت اسمعه: يقول: " اللهم احشرني من حواصل الطير " (2).
[*] (حبيب بن أبي ثابت:
جيء بحبيب بن أبي ثابت وسعيد بن حبيب وطلق بن حبيب يراد بهم الحجاج ـ قال: فأصابهم عطش وخوف فقال سعيد لحبيب: ادع الله فقال له حبيب أني أراك أوجه مني قال: فدعا سعيد وأمن أصحابه فرفعت سحابة فمطروا وشربوا وسقوا واستقوا. (3)
[*] (عن أصبغ ابن زيد قال: مكثت أنا ومن عندي ثلاثا لم نطعم شيئا من الجوع، فخرجت إلي ابنتي الصغيرة وقالت يا أبتي الجوع، تشكو الجوع، قال فأتيت مكان الوضوء – انظروا إلى من اللجاءة، انظروا إلى من يلجئون- فتوضأت وصليت ركعتين، وألهمت دعاء دعوت به وفي آخره: اللهم افتح علي رزقا لا تجعل لأحد علي فيه منة، ولا لك علي فيه في الآخرة تبعة برحمتك يا أرحم الراحمين، ثم انصرفت إلى البيت فإذا بابنتي الكبيرة قامت إلي وقالت: يا أبه جاء رجل يقول أنه عمي بهذه الصرة من الدراهم وبحمال عليه دقيق وحمال عليه من كل شيء في السوق، وقال: أقرءوا أخي السلام وقول له إذا احتجت إلى شيء فأدعو بهذا الدعاء تأتيك حاجتك.
قال أصبغ ابن زيد والله ما كان لي أخو قط، ولا أعرف من كان هذا القائل، ولكن الله على كل شيء قدير.
فقلت للفكر لما صار مضطربا ....... وخانني الصبر والتفريط والجلد
دعها سماوية تمشي على قدر ........ لا تعترضها بأمر منك تنفسد
فحفني بخفي اللطف خالقنا ........ نعم الوكيل ونعم العون والمدد
__________
(1) - جامع العلوم والحكم ص525 - 527
(2) - مجابي الدعوة لابن أبي الدنيا ص 55 - 56
(3) - كتاب مجابي الدعوة لابن أبي الدنيا ص 88(7/437)
[*] (وعن شقيق البلخي قال: كنت في بيتي قاعدا فقال لي أهلي قد ترى ما بهؤلاء الأطفال من الجوع، ولا يحل لك أن تحمل عليهم ما لا طاقة لهم به، قال فتوضأت – نرجع إلى السبب الذي كانوا يدورون حوله رضوان الله عليهم- فتوضأت وكان لي صديق لا يزال يقسم علي بالله إن يكون لي حاجة أعلمه بها ولا أكتمها عنه، فخطر ذكره ببالي، فلما خرجت من المنزل مررت بالمسجد، فذكرت ما روي عن أبي جعفر قال: من عرضت له حاجة إلى مخلوق فليبدأ فيها بالله عز وجل، قال فدخلت المسجد فصليت ركعتين، فلما كنت في التشهد أفرغ علي النوم، فرأيت في منامي أنه قيل: يا شقيق أتدل العباد على الله ثم تنساه، يا شقيق أتدل العباد على الله ثم تنساه، قال فاستيقظت وعلمت أن ذلك تنبيه نبهني فيه ربي، فلم أخرج من المسجد حتى صليت العشاء الآخرة، ثم تركت الذهاب لصاحبي وتوكلت على الله، ثم انصرفت إلى المنزل فوجدت الذي أردت أن اقصد قد حركه الله وأجرى لأهلي على يديه ما أغناهم.
[*] قال مالك بن دينار:
خرجت إلى الحج وفيما أنا سائر في البادية، إذ رأيت غراباً فى فمه رغيف، فقلت: هذا غراب يطير وفى فمه رغيف، إن له لشأناً، فتتبعته حتى نزل عند غار، فذهبت إليه فإذا بي أرى رجلا مشدوداً لا يستطيع فكاكاً، والرغيف بين يديه، فقلت للرجل: من تكون؟ قال: أنا من الحجاج وقد أخذ اللصوص مالي و متاعي وشدوني و ألقوني في هذا الموضع، كما ترى وصبرت على الجوع
أياماً ثم توجهت إلى ربى بقلبي وقلت: يا من قال في كتابه العزيز:
(أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء (فأنا مضطر فارحمني فأرسل الله إلى هذا الغراب بطعامي.
في هذا الموقف نرى حال الداعي قد أثر في إجابة دعوته فقد كان مضطراً فقد كل الأسباب ولم يبق له إلا باب السماء .. والله حرمه من الأسباب ليتعلم أن يتعلق قلبه برب الأسباب لا بالأسباب حتى إذا عاد للحياة الطبيعية و أصبحت الأسباب فى يده لم يلتفت إليها. .....
((قصة الحسن البصري مع الحجاج بن يوسف الثقفي)
بنى الحجاج بن يوسف الثقفى داراً بواسط بالعراق فدعا الناس للفرجة والدعاء بالبركة ..(7/438)
فذهب الحسن البصرى رضى الله عنه إلى هناك فوقف خطيباً في الناس ليلفت الناس عن الانبهار بالزخارف إلى كراهية الظلم الذى يمارسه الحجاج بن يوسف وقال فيه كلاما غليظا، فلما أشفق الناس عليه من بطش الحجاج قال: لقد أخذ الله ميثاق أهل العلم لتبيننه للناس ولا تكتمونه ... ثم انصرف ولما بلغ الحجاج ما حدث استشاط غيظاً ولام أتباعه على عدم الرد عليه و أخبرهم أنه سيجعله عبرة للناس و أرسل فى طلبه وأعد فى مجلسه النطع والسياف فظن الناس أنه قاتله وقبل أن يدخل الحسن البصرى إلى مجلس الحجاج
تمتم بكلمات فلما دخل عليه فوجىء الناس بأن الحجاج يحسن استقباله وأجلسه بجواره وطيب لحيته وسأله فى بعض المسائل ثم أذن له بالإنصراف ..
وما أن غادرالحسن البصرى المجلس حتى جرى الحاجب خلفه وسأله ناشدتك الله ما هذه الكلمات التى كنت تتمتم بها فإن الحجاج ما استدعاك ليطيب لحيتك؟
فقال الحسن: قلت: اللهم ياولى نعمتى وملاذى عند كربتى، اللهم اجعل عقوبته لى برداً وسلاما كما جعلت الناربردا وسلاماًً على إبراهيم.
[*] روى غيلان بن جرير البصري:
أن رجلا كذب على مطرف بن عبد الله الحافظ البصري المتوفى سنة 95 فقال مطرف، اللهم إن كان كاذبا فأمته فخر مكانه ميتا.
طبقات الحفاظ الذهبي 1: 60، دول الاسلام 1: 47، الإصابة 3: 479، تهذيب التهذيب 1: 173.
((امرأة تلد بدعاء مالك ابن أربع سنين)
أخرج البيهقي في السنن الكبرى 7: 443 بإسناده عن هاشم المجاشعي قال: بينما مالك بن دينار - المتوفى 123 وقيل غير ذلك - يوما جالس إذ جاءه رجل فقال: يا أبا يحيى! ادع لامرأة حبلى منذ أربع سنين قد أصبحت في كرب شديد، فغضب مالك و أطبق المصحف ثم قال: ما يرى هؤلاء القوم إلا أنا أنبياء، ثم دعا فقال: أللهم هذه المرأة إن كان في بطنها ريح فأخرجها عنها الساعة، وإن كان في بطنها جارية فأبدلها بها غلاما، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب، ثم رفع مالك يده ورفع الناس أيديهم، وجاء الرسول إلى الرجل فقال: أدرك امرأتك، فذهب الرجل، فما حط مالك يده حتى طلع الرجل من باب المسجد على رقبته غلام جعد قطط ابن أربع سنين قد استوت أسنانه ما قطعت أسراره.
(السختياني ينبع الماء
أخرج أبو نعيم في (حلية الأولياء) 3: 5 بالإسناد عن عبد الواحد بن زيد قال:
كنت مع أيوب السختياني (4) على حراء فعطشت عطشا شديدا حتى رأى ذلك في وجهي فقال. ما الذي أرى بك؟ قلت: العطش، وقد خفت على نفسي،(7/439)
قال: تستر علي؟ قلت: نعم.
قال: فاستحلفني فحلفت له أن لا أخبر عنه ما دام حيا، قال: فغمز برجله على حراء فنبع الماء فشربت حتى رويت وحملت معي من الماء قال: فما حدثت به أحدا حتى مات.
وفي [الروض الفائق] ص 126: كان جماعة مع أيوب السختياني في سفر فأعياهم طلب الماء فقال أيوب: أتسترون علي ما عشت؟
فقالوا: نعم.
فدور دائرة فنبع الماء قال: فشربنا فلما قدموا البصرة أخبر به حماد بن زيد. قال عبد الواحد بن زيد: شهدت معه ذلك اليوم.
(حضور غائب بدعاء معروف الكرخي
ذكر الإمام أبو محمد ضياء الدين الشيخ أحمد الوتري الشافعي المتوفى بمصر في عشر الثمانين والتسعمائة في كتابه (روضة الناظرين) ص 8 نقلا عن خليل بن محمد الصياد إنه قال: غاب أبي فتألمت فجئت إلى معروف - الكرخي المتوفى 200/ 1 / 4 - فقلت: غاب أبي فقال: ما تريد؟ قلت: رجوعه. قال: أللهم إن السماء سماؤك، والأرض أرضك وما بينهما لك ائت بمحمد، فأتيت باب الشام فإذا هو واقف فقلت: أين كنت؟
[*] (ومن المواقف الجميلة الطريفة في فضل الدعاء أنه كان لسعيد ابن جبير ديكا، كان يقوم من الليل بصياحه، فلم يصح ليلة من الليالي حتى أصبح، فلم يصلي سعيد قيام الليل تلك الليلة فشق عليه ذلك، فقال ماله قطع الله صوته –يعني الديك-؟
وكان سعيد مجاب الدعوة، فما سمع للديك صوت بعد ذلك الدعاء، فقالت أم سعيد: يا بني لا تدعو على شيء بعدها.
((وليس معنى أن الدعوة المجابة إقتصرت عليهم بل إن القصص المعاصرة لمن أستجيب دعاءهم كثيرة فهذا يدعو بالشفاء عندما استعصى الاطباء فيشفى وهذه تدعو بحفظ ولدها فيحفظه الله وهذا يدعو بالتيسير في الحج مع شدة الحال فيسر الله له ومثل هذا كثير جعلنا الله وإياكم من أولياءه وأحبابه ووأصفياءه.
(هذه قصه واقعيه حدثت في وقتنا الحاضر لمعلمة في مكه المكرمه 0(7/440)
كان هناك مجموعه من المعلمات تعاقدنا مع سائق يوصلهن من منازلهن للمدرسه والعكس وكان هذا السائق يعرف وقت صرف الرواتب وفي يوم ركبنا المعلمات معه ويعرف أنهن استلمن رواتبهن فأخذ السائق بتوصيل المعلمات واحد تلو الأخرى وبقيت معلمه واحده تنظر دورها أن يوصلها الى منزلها ولكنها تفأجأت أن السائق غير من طريق البيت واخذ يتجه إلى طريق جدة أخذت المعلمه تناديه يافلان يا فلان هذا ليس طريق المنزل لكن لم يرد عليها وبعد محاولات فاشله لاستعطافه أيقنت انه طمع فيها، أثناء قيادته السياره سجدت المعلمه على أرضية السياره وأخذت تدعو يامغيث 0000000
وخرجت هذه الدعوه من قلب مكروب!!!
وفجأه!!!!
ضرب السائق فرامل لأن هناك سياره اعترضته رفعت المعلمه رأسها تخيلوا من كان في السياره المعترضه
إنه أبوها وأخوها فرحت لوهله ثم انتابها خوف لوجودها في هذا المكان مع السائق ماذا سيقول أباها وأخاها عنها!!!
وفتح أبوها الباب واخذ بيد ابنته إلى السياره و انطلق مباشره دون التكلم مع السائق ولا مع ابنته ودارت الأفكار برأس
المعلمه؟؟ وصلوا إلى البيت نزلت المعلمه مسرعه نحو أمها حتى تشرح لها الوضع قبل دخول والدها تفأجأت بوجود والدها و اخوها على مائدة الغداء أماه م م م متى كيف اشلون كانو في السياره يامههههه وانا سبقتهم في الدخول
أجابت الأم هم موجودون منذ ساعتين.؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ إذن من الذين كانوا في السياره؟؟؟
هل تعرفون من هم؟؟
إنهم الملائكة ومن رحمة الله بها انه جعلهم على صورة والدها واخوها حتى لا تخاف 0
يا الله انك أرحم بنا من امهاتنا0
((قصة لمريض شفاه الله تعالى بالدعاء)
والقصة لصديق يعمل مهندسا كان قد أصيب بالتهاب رئوي أدى إلى خراج على الرئة ..
حاول الأطباء علاجه مدة شهرين كاملين وأعطوه كل أنواع المضادات بلا فائدة، حتى فقد وزنه واقترب من نهايته ..
وفى يوم من الأيام وبعد مغادرة الأطباء للمستشفى الذى كان يقيم فيه توجه إلى ربه وقال: يا من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء اشفني وعافني.
وأخذ يبتهل ويردد الدعاء حتى شعر أن شيئاً في صدره يريد أن يخرج وبعد سعال خفيف خرجت كرة من الصديد وضعها في إناء بجواره وشعر بتحسن تام بعدها لقد أصبح قادراً على الحركة مرة أخرى، وكانت المفاجأة حينما جاء الأطباء فى الغد ..(7/441)
ووضع الطبيب سماعته على صدره فلم يسمع شيئا مما كان يسمعه ووجد ابتسامته تعلو وجهه وقبل أن ينطق الطبيب قال صديقي: لقد شفاني الله بالدعاء.
فكم من مرضى أقرباء لنا حاروا مع العلاجات والأطباء فلابد من أن ننصحهم مع أخذهم بأسباب الشفاء ومع استمرارهم فى الدواء أن يتضرعوا ويلجأوا إلى ربهم عز وجل بالدعاء (دعاء المضطر) والله هو الذى يجيب فهو قادر على كل شىء سبحانه ...
) (وهذه قصةٌ مُبْكِيَة
هذة قصة حقيقية حصلت أحداثها ما بين الرياض وعفيف لأن صاحبة القصة أقسمت على كل من يسمعها أن ينشرها للفائدة فتقول:
لقد كنت فتاة مستهترة اصبغ شعري بالأصباغ الملونة كل فترة وعلى الموضة وأضع المناكير ولا أكاد أزيلها إلا للتغيير، أضع عبايتي على كتفي أريد فقط فتنة الشباب لا إغوائهم، أخرج إلى الأسواق متعطرة متزينة ويزين إبليس لي المعاصي ما كبر منها وما صغر وفوق هذا كلة لم اركع لله ركعة واحدة بل لا اعرف كيف اصلي والعجيب أني مربية
أجيال معلمة يشار لها بعين احترام فقد كنت ادرس في احد المدارس البعيدة من مدينة الرياض فقد كنت اخرج من منزلي مع صلاة الفجر ولا أعود حتى صلاة العصر المهم أننا كنا مجموعة من المعلمات وكنت أنا الوحيدة التي لم أتزوج.
فمنهن المتزوجة حديثا ومنهن الحامل ومنهن التي أخذت أجازة أمومة وأيضا كنت أنا الوحيدة التي نزع مني الحياء فقد كنت أحدث السائق وأمازحه كأنة أحد أقاربي ومرت الأيام وما زلت على طيشي وضلالي وفي صباح احد الايام استيقظت متأخرة وخرجت بسرعة وركبت السيارة وعندما التفتت لم أجد سواي في المقاعد الخلفية سألت السائق فقال فلانة مريضة وفلانة قد ولدت و. و. فقلت في نفسي ما دام الطريق طويل سأنام حتى نصل فنمت ولم استيقظ إلا من وعرة الطريق فنهضت خائفة ورفعت الستار ما هذا الطريق وما الذي صار؟؟؟؟ فلان أين تذهب بي؟؟؟؟؟؟؟ قال لي بكل وقاحة الآن ستعرفين فقد عرفت مخططة قلت له وكلي خوف يا فلان أما تخاف الله أتعلم عقوبة ما تنوي فعلة وكلام كثير أريد أن أثنية عما يريد فعلة وكنت اعلم أني هالكة لا محالة فقال بثقة إبليسية لعينة أما خفتي الله أنتي؟(7/442)
وأنتي تضحكين بغنج وميوعة وتمازحينني؟؟؟؟ ولا تعلمين أنك فتنتيني وأني لن أتركك حتى آخذ ما أريد بكيت صرخت ولكن المكان بعيد ولا يوجد سوى أنا وهذا الشيطان المارد مكان صحراوي مخيف ... مخيف ... رجوتة وقد أعياني البكاء وقلت بيأس واستسلام إذاً دعني أصلي لله ركعتين لعل اللة يرحمني فوافق بعد أن توسلت علية نزلت من السيارة وكأني أقاد إلى ساحة الإعدام صليت ولأول مرة في حياتي صليتها بخوف وبرجاء والدموع تملأ مكان سجودي توسلت لله تعالى أن يرحمني ويتوب علي وصوتي الباكي يقطع هدوء المكان وفي لحظة وأنا أنهي صلاتي
تتوقعون مالذي حدث؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
وكانت المفاجأة ما الذي أراه؟
إنني أرى سيارة أخي قادمة نعم إنه أخي وقد قصد المكان بعينة لم أفكر بلحظة كيف عرف مكاني ولكني فرحت بجنون وأخذت اقفز ... وأنادي ... وذلك السائق ينهرني ولكني لم أبالي به .... من أرى أنه أخي الذي يسكن الشرقية وأخي الآخر الذي يسكن معنا فنزل أحدهما وضرب السائق بعصا غليظة وقال اركبي مع احمد في السيارة وأنا سآخذ هذا السائق واضعة في سيارة بجانب الطريق ... ركبت مع احمد والذهول يعصف بي وسألته هاتفةً كيف عرفتما بمكاني وكيف جئت من الشرقية؟ ومتى؟
قال في البيت تعرفين كل شيء وركب محمد معنا وعدنا للرياض وأنا غير مصدقة لما يحدث وعندما وصلت إلى المنزل ونزلت من السيارة قالا لي أخوتي اذهبي إلى أمنا واخبريها الخبر وسنعود بعد قليل ونزلت مسرعة اخبر أمي دخلت عليها في المطبخ واحتضنتها وأنا ابكي واخبرها بالقصة قالت لي بذهول وأحمد فعلا في الشرقية وأخوك محمد ما زال نائما فذهبنا إلى غرفة محمد فوجدناه فعلا نائم أيقظته كالمجنونة لأساله ما الذي يحدث فأقسم بالله العظيم أنة لم يخرج من غرفتة ولا يعلم بالقصة؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
ذهبت إلى سماعة الهاتف تناولتها وأنا أكاد أجن فسالت أخي الآخر فقال ولكنني في عملي الآن *********** بعدها بكيت
وعرفت كل إلي حصل إنهما ملكين أرسلهما ربي لينقذني فحمدت الله تعالى على ذلك وكانت هي سبب هدايتي ولله
الحمد والمنة بعدها انتقلت الى منطقة عفيفة وابتعدت عن كل ما يذكرني بالماضي المليء بالمعاصي والذنوب.(7/443)
(وذكر أحد الدعاة في بعض رسائله أن رجلا من العباد كان مع أهله في الصحراء في جهة البادية، وكان عابدا قانتا منيبا ذاكرا لله، قال فانقطعت المياه المجاورة لنا وذهبت التمس ماء لأهلي فوجدت أن الغدير قد جف، فعدت إليهم ثم التمسنا الماء يمنة ويسرة فلم نجد ولو قطرة، وأدركنا الظمأ واحتاج أطفالي للماء، فتذكرت رب العزة سبحانه القريب المجيب، فقمت وتيممت واستقبلت القبلة وصليت ركعتين، ثم رفعت يدي وبكيت وسالت دموعي وسألت الله بإلحاح وتذكرت قوله:
(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) [النمل /62]
قال وما هو والله إلا أن قمت من مقامي وليس في السماء من سحاب ولا غيم، وإذا بسحابة قد توسطت مكاني ومنزلي في الصحراء، واحتكمت على المكان ثم أنزلت ماءها فامتلأت الغدران من حولنا وعن يميننا وعن يسارنا فشربنا واغتسلنا وتوضئنا وحمدنا الله سبحانه وتعالى، ثم ارتحلت قليلا خلف هذا المكان وإذا الجدب والقحط، فعلمت أن الله ساقها لي بدعائي، فحمدت الله عز وجل:
(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ)
[الشورى /28]
(وذكر أيضا أن رجلا مسلما ذهب إلى إحدى الدول والتجأ بأهله إليها، وطلب بأن تمنحه جنسية، قال فأغلقت في وجهه الأبواب، وحاول هذا الرجل كل المحاولة وستفرغ جهده وعرض الأمر على كل معارفه، فبارت الحيل وسدت السبل، ثم لقي عالما ورعا فشكا إليه الحال، فقال له عليك بالثلث الأخير من الليل فأدعو مولاك، إنه الميسر سبحانه وتعالى، قال هذا الرجل: ووالله فقد تركت الذهاب إلى الناس وطلب الشفاعات، وأخذت أداوم على الثلث الأخير كما أخبرني ذلك العالم، وكنت أهتف لله في السحر وأدعوه، وما هو إلا بعد أيام وتقدمت بمعروض عادي ولم اجعل بيني وبينهم واسطة فذهب هذا الخطاب وما هو إلا أيام وفوجئت وأنا في بيتي أني ادعى وأسلم الجنسية، وكنت في ظروف صعبة.
إن الله سميع مجيب، ولطيف قريب، لكن التقصير منا، لابد أن نلج على الله وندعوه، وابشروا:
(إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ).
(أسباب تأخير إجابة دعاء المظلومين على الظالمين:(7/444)
من أسباب تأخير إجابة دعاء المظلومين على الظالمين ما قاله الله جل وعلا: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء) [إبراهيم 42، 43]
قيل لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كان أهل الجاهلية يدعون على الظالم، وتعجل عقوبته، حتى إنهم كانوا يقولون: عش رجباً ترى عجباً، أي أن الظالم تأتيه عقوبته في شهر رجب، كناية عن قرب نزول العقوبة به، قالوا له: ونحن اليوم مع الإسلام ندعو على الظالم فلا نجاب في أكثر الأمر، فقال عمر رضي الله عنه: هذا حاجز بينهم وبين الظلم، إن الله عز وجل لم يعجل العقوبة لكفار هذه الأمة، ولا لفساقها، فإنه تعالى يقول: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) [القمر /46]
وقد يكون من سبب تأخير استجابة الدعاء عليهم أن الله عز وجل أراد لهم أشد العذاب، ولما يبلغوا درجته الآن، فيمهلهم الله حتى يبلغوا تلك الدرجة من البغي والطغيان، حتى يستحقوا ذلك الدرك من النار الذي أعده الله لهم.
(وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) [آل عمران /178]
(ومن أسباب تأخير استجابة الدعاء على الظالمين، أننا نحن الذين نظن أن الاستجابة قد تأخرت لأن الأيام في منظور البشر طويلة، بينما هي في عين الله قصيرة، وقد قال الله جل وعلا: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ) [الحج /47]
ولكن يتساءل الناس متى ثم تأتي الإجابة (وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَىَّ الْمَصِيرُ) [الحج /47، 48]
قال بعض أهل التفسير كان بين دعاء موسى على فرعون، وبين إهلاك فرعون بالغرق أربعون سنة.
(الاعتداء في الدعاء:
(هناك أخطاء عديدة تقع في الدعاء، وهذه الأخطاء داخلة في باب الاعتداء في الدعاء.
(حديث عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور و الدعاء.(7/445)
فكل سؤال يناقض حكمة الله، أو يتضمن مناقضة شرعه وأمره، أو يتضمن خلاف ما أخبر به _ فهو اعتداء لا يحبه الله، ولا يحب سائله. (1)
(تَعْرِيَفُ الاِعْتِدَاءِ في الدعاء:
[*] قال القرطبي رحمه الله تعالى:
اَلْمُعْتَدِيِ هو اَلْمُجَاوِزُ لِلْحَدِّ ومُرْتَكِبُ اَلْحَظْرِ 0
وقال الفخر الرازي {اَلْمُعْتَدِينَ} أي: اَلْمُجَاوِزِينَ ما أمِرُوا بِهِ0
وقال ابن منظور (2): يُقَالُ: تَعَدَّيْتُ الحَقَّ، واِعْتَدَيْتُهُ، وعَدَوْتهُ، أي: جَاوُزْتهُ، وفي الحديث: " سيكون قوم يعتدون في الدُّعَاءِ "،
هو الخُرُوجُ فيه عن الوضع الشَّرْعِيِّ والسُّنَّةُ المأثورة 000وقال: أصل هذا كلِّه: مُجَاوَزَةُ اَلْحَدِّ، وَاَلْقَدْرِ، وَاَلْحَقِّ 0
اَلْقُرْآنُ اَلْكَرِيم يَنْهَى عَنْ اَلاِعْتِدَاءِ فِيِ اَلْدُّعَاءِ:
قال عَزَّ وَجَلَّ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتدِينَ} (الأعراف/55)
[*] عَنْ اِبْن عَبَّاس رضي الله عنهما قال: {إِنَّهُ لا يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ} فِي الدُّعَاء وَلا فِي غَيْره (3)
[*] وعن قتادة قال: تَعَلَّمُوا أنَّ في بَعْضِ الدُّعَاءِ اِعْتِدَاءٌ فَاجْتَنِبُوا العُدْوَانَ وَالاِعْتِدَاءَ إنْ اسْطَعَتْمُ ولا قُوَّةَ إلاَّ بالله (4)
[*] وقال الطبري: وأمَّا قوله عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّهُ لا يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ} مَعْنَاهُ: إِنَّ رَبّكُمْ لا يُحِبّ مَنْ اِعْتَدَى فَتَجَاوَزَ حَدّه الَّذِي حَدَّهُ لِعِبَادِهِ فِي دُعَائِهِ وَمَسْألَته رَبّه (5)
اَلْسُّنَّةُ اَلْمُطَّهَرَةُ تَنْهَى عَنْ اَلاِعْتِدَاءِ فِيِ اَلْدُّعَاءِ:
نَهَتْ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ المُطَهَرِّةُ وحَذَرَتْ مِنَ الاِعْتِدَاءِ في الدُّعَاءِ،
(حديث عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور و الدعاء.
(الاِعْتِدَاءِ فِيِ اَلْدُّعَاءِ يَمْنَعُ مِنَ اَلإجَابَةِ وَاَلْقَبُولِ:
__________
(1) بدائع الفوائد، 3/ 13.
(2) أنظر لسان العرب مادة: عدا، ج 2، ص 711 0
(3) أنظر تفسير ابن كثير على الآية (55 ـ الأعراف)
(4) أنظر الدُّرِّ المَنْثُورِ في التفسير بالمأثور على الآية (55 ـ الأعراف)
(5) أنظر تفسير الطبري على الآية (55 ـ الأعراف)(7/446)
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب له فإما أن يعجل له في الدنيا و إما أن يدخر له في الآخرة ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل.
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلاَّ أعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاث: ٍ إِمَّا أنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أنْ يَصْرِف عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا" قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ:" اللَّهُ أكْثَرُ "0
[*] قال القرطبي تعليقاُ على الحديث:
وحديث أبي سعيد الخدري وإنْ كان إذناً بالإجابة في إحدى ثلاث، فقد دَلَّكَ على صِحَةِ اِجْتِنَابِ الاعْتِدَاء الْمَانِع مِنْ الإجَابَة حيث قال فيه: " لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلا قَطِيعَةُ رَحِمٍ " (1)
[*] وقال القُرْطِبِيُّ في موضع آخر عن الاعتداء في الدعاء هو: أن يَدْعُو بما ليس في الكِتَابِ والسُّنَّةِ؛ فَيَتَخَيْرَ ألفاظا مُفْقِرَةٍ وكلمات مُسَّجَعَةٍ قد وجدها في كراريس لا أصل لها ولا مُعَوَلٍ عليها، فيجعلها شعاره ويترك ما دَعَا به رسوله عليه السلام، وكُلُّ هذا يَمْنَعُ مِنْ اِسْتَجَابَةِ الدُّعَاءِ (2).
[*] وقال البغوي: إن للدعاء آدابا وشرائط، وهي أسباب الإجابة، فمن استكملها كان من أهل الإجابة، ومن أخَلَّ بها فهو من أهل الاعتداء في الدعاء فلا يستحق الإجابة (3)
[*] (وفيما يلي ذكر لبعض صور الاعتداء في الدعاء اَلْمَنْهِيُّ عَنْهَا جملةً وتفصيلا:
(أولاً صور الاعتداء في الدعاء اَلْمَنْهِيُّ عَنْهَا جملةً:
(1) أن يشتمل الدعاء على شيء من التوسلات الشركية:
(2) أن يشتمل على شيء من التوسلات البدعية:
(3) تمني الموت وسؤال ذلك:
(4) الدعاء بتعجيل العقوبة:
(5) الدعاء بما هو مستحيل، أو بما هو ممتنع عقلاً أو عادةً، أو شرعًا:
(6) الدعاء بأمر قد فرغ منه:
(7) أن يدعو بما دل الشرع على عدم وقوعه:
(8) الدعاء على الأهل والأموال والنفس:
__________
(1) أنظر تفسير القرطبي على الآية (186 ـ البقرة)
(2) أنظر تفسير القرطبي على الآية (55 ـ الأعراف)
(3) أنظر تفسير البغوي على الآية (186 ـ البقرة)(7/447)
(9) كأن يدعو على شخص أن يكون مدمنًا للخمر، أو أن يميته الله كافرًا، أو أن يبتلى بالزنا أو غير ذلك، أو أن يدعو الله أن ييسر له الفساد والفجور.
(10) الدعاء بقطيعة الرحم:
(11) الدعاء بانتشار المعاصي:
(12) تحجير الرحمة:
(13) ترك الأدب في الدعاء:
(14) الدعاء على وجه التجربة والاختبار لله تعالى:
(15) أن يكون غرض الداعي فاسدًا:
(16) أن يعتمد العبد على غيره في الدعاء:
ْ (17) اِسْتِبْدَالِ لَفْظٍ وَارِدٍ (مَأثُور) بِغَيْرِهِ:
(18) اَلتَّغَنِي وَاَلتَّمْطِيطِ (تَحْرِيرُ النَّغَمِ):
(19) اَلتَّفْصِيلُ في اَلْدُّعَاءِ (كَثْرَةُ اَلألْفَاظِ):
(20) تَكَلُّفُ اَلْسَّجْعِ وَاَلإعْرَابِ:
(21) اَلنَّهْيُ عَنْ تَكَلِّفِ الإعْرَابِ:
(22) رَفْعُ اَلْصَّوْتِ فَوْقَ اَلْحَاجَةِ وَاَلْنَّوْحُ وَاَلبُكَاءُ:
(23) كثرة اللحن: خصوصًا إذا كان يحيل المعنى، أو كان ناتجًا عن قلة مبالاة، أو كان ناتجًا من إمام يُؤَمِّنُ الناس خلفه.
(24) قلة الاهتمام باختيار الاسم المناسب أو الصفة المناسبة:
(25) اليأس أو قلة اليقين من إجابة الدعاء:
(26) أن يفصل الداعي تفصيلاً لا لزوم له:
(27) دعاء الله بأسماء لم ترد في الكتاب والسنة:
(28) المبالغة في رفع الصوت:
(29) الدعاء بـ: اللهم إني لا أسألك رد القضاء، ولكن أسألك اللطف فيه:
(30) تعليق الدعاء على المشيئة:
(31) الإدلال على الله وترك التضرع:
(32) تصنع البكاء ورفع الصوت بذلك:
(33) تركُ الإمامِ رفعَ يديه إذا استسقى في خطبة الجمعة:
(34) الإطالة بالدعاء حال القنوت، والدعاء بما لا يناسب المقصود فيه:
(35) أن يكون الدعاء فيه طلب يناقض حكمة الله تعالى:
(36) أن يكون الدعاء مشتملاً على مناقضة شرع أمر الله به:
(37) أن يكون الدعاء محتوياً مسألة لا يليق طلبها:
(ثانياً صور الاعتداء في الدعاء اَلْمَنْهِيُّ عَنْهَا تفصيلا:
(1) أن يشتمل الدعاء على شيء من التوسلات الشركية:
كأن يُدعى غير الله _ تبارك وتعالى _ من بشر، أو حجر، أو شجر، أو جن، أو غير ذلك، فهذا أقبح أنواع الاعتداء في الدعاء؛ لأن الدعاء عبادة، وصرفه لغير الله شرك، والشرك أعظم ذنب عصى الله به.
(2) أن يشتمل على شيء من التوسلات البدعية:(7/448)
كالتوسل بذات النبي"، أو بجاهه _ عليه الصلاة والسلام _، فهذا التوسل توسل بدعي، والدين مبناه على الاتباع لا الابتداع، والبدعة بريد الكفر. (1)
(3) تمني الموت وسؤال ذلك:
ومن مكروهات الدعاء تمني الموت، وهنا يتبين صدق المؤمن وثباته، من كذبه وضعف دينه، فبعض الناس ما إن تصيبه مصيبة، أو بلاء، إلا وتراه يسأل الله الموت، فلا يصبر ولا يحتسب، بل تراه جزعاً يريد الخروج من دوامة الابتلاء والفتنة، ولا ريب أن ذاك خطأ في الدعاء، بل لا بد من الصبر لتمحيص الذنوب والخطايا، ورفعة الدرجات، وهذا هو شأن المؤمن مع ربه جل وعز.
(لحديث أنس الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان لا بد متمنيا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي و توفني إذا كانت الوفاة خيرا لي.
[*] قال الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي في شرحه لهذا الحديث:
هذا نهي عن تمني الموت؛ للضر الذي ينزل بالعبد، من مرض، أو فقر، أو خوف، أو وقوع في شدة أو مهلكة أو نحوها من الأشياء؛ فإن في تمني الموت لذلك مفاسدَ منها: أنه يؤذن بالتسخط والتضجر من الحالة التي أصيب بها، وهو مأمور بالصبر، والقيام بوظيفته، والصبر ينافي ذلك.
ومنها أنه يضعف النفس، ويحدث الخور والكسل، ويوقع في اليأس.
والمطلوب من العبد مقاومة هذه الأمور، والسعي في إضعافها وتخفيفها بحسب اقتداره، وأن يكون معه من قوة القلب وقوة الطمع في زوال ما نزل به.
وذلك موجب لأمرين: اللطف الإلهي لمن أتى بالأسباب المأمور بها، والسعي النافع الذي يوجبه قوة القلب ورجاؤه.
ومنها أن تمني الموت جهل وحمق؛ فإنه لا يدري ما يكون بعد الموت؛ فربما كان كالمستجير من الضر إلى ما هو أفظع منه، من عذاب البرزخ وأهواله.
ومنها أن الموت يقطع على العبد الأعمال الصالحة التي هو بصدد فعلها، والقيامِ بها، وبقية عمر المؤمن لا قيمة له؛ فكيف يتمنى انقطاعَ عملٍ الذَّرَّةُ منه خير من الدنيا وما عليها؟!.
وخصّ من هذا العموم قيامه بالصبر على الضر الذي أصابه؛ فإن الله يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب. (2)
(4) الدعاء بتعجيل العقوبة:
__________
(1) انظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية، ص160 و 170.
(2) بهجة قلوب الأبرار للسعدي ص 251_252 شرح الحديث رقم 77.(7/449)
كأن يقول الإنسان: اللهم عجل عقوبتي في هذه الدنيا؛ لأدخل الجنة يوم القيامة، وأسلم من عذاب النار! فهذا خطأ، وأولى لهذا ثم أولى له أن يسأل الله السلامة في الدارين.
فلا يجوز له أن يدعو أن يعجل الله له العقوبة في الدنيا، ويعفو عنه يوم القيامة، هذا أمر لا يجوز، بل على العبد أن يسأل الله التوبة والمغفرة والرحمة وأن يتجاوز عنه، ويكفر عنه سيئاته، فالله تعالى غفور رحيم، يقبل توبة عبده وإنابته ورجوعه إليه.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاد رجلا من المسلمين قد خفت فصار مثل الفرخ فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه قال نعم كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبحان الله لا تطيقه أو لا تستطيعه أفلا قلت اللهم! < آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار >! قال فدعا الله له فشفاه.
[*] قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم:
في هذا الحدِيث: النَّهْي عَنْ الدُّعَاء بِتَعْجِيلِ الْعُقُوبَة، وَفِيهِ: فَضْل الدُّعَاء بِاَللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الآخِرَة حَسَنَة وَقِنَا عَذَاب النَّار، وَفِيهِ: جَوَاز التَّعَجُّب بِقَوْلِ: سُبْحَان اللَّه، وَفِيهِ: اِسْتِحْبَاب عِيَادَة الْمَرِيض وَالدُّعَاء لَهُ، وَفِيهِ: كَرَاهَة تَمَنِّي الْبَلاء لِئَلاَّ يَتَضَجَّر مِنْهُ وَيَسْخَطهُ، وَرُبَّمَا شَكَا (1)، وَأظْهَرُ الأقْوَال فِي تَفْسِير الْحَسَنَة فِي الدُّنْيَا أنَّهَا الْعِبَادَة وَالْعَافِيَة، وَفِي الآخِرَة الْجَنَّة وَالْمَغْفِرَة (2)
فالأصل الدعاء بالعافية في الدين والدنيا كما في الحديث الآتي:
(حديث ابن عمر في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) قال لم يكن رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الله يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح { ... اللهم إني أسألك العفو و العافية الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي و أهلي و مالي، اللهم استر عوراتي و آمن روعاتي و احفظني من بين يدي و من خلفي و عن يميني و عن شمالي و من فوقي و أعوذ بك أن اغتال من تحتي.
__________
(1) يعني شكَا الخالق عزَّ وجَلَّ إلى المخلوقين 0
(2) أنظر صحيح مسلم بشرح الإمام النووي حديث رقم: 4853 0(7/450)
(وفي الحديث أيْضًا فَائِدَةٌ هَامَةٍ وَجَلِيلَةٌ، وَهِيَ: أنَّ اَلْدُّعَاءَ اَلْمَشْرُوعَ إنَّمَا يَكُونُ فِيِ طَلَبِ اَلآخِرَةِ وَاَلْدُّنْيَا:
قال تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (البقرة /200، 201)
[*] قال الفَخْرُ الرَّازِي في تفسيره على الآية الكريمة: بَيَّنَ الله تعالى أن الذين يَدْعُونَ الله فريقان، أحدهما: يكون دُعَاؤهُمُ مَقْصُوراً على طَلَبِ الدُّنْيَا، والثاني: الذين يَجْمَعُونَ في الدُّعَاءِ بين طَلَبِ الدُّنْيَا وطَلَبِ الآخِرَةِ، وقد كان في التَّقْسِيمِ قِسْمٌ ثالث، وهو من يكون دُعَاؤهُ مَقْصُوراً على طَلَبِ الآخِرَةِ، واختلفوا في هذا القسم هل مَشْرُوعٌ أمْ لاَ؟ والأكثرون على أنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ 0
وتحدث د. مراد هوفمان عن التوازن الكامل والدقيق بين الجسد والروح في الإسلام فقال: ما الآخرة إلا جزاء العمل في الدُّنْياَ، ومن هنا جاء الاهتمام في الدُّنْياَ، فالقرآن يُلْهِمُ المسلم الدُّعَاءُ لِلْدُّنْياَ، وليس الآخرة فقط {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (1)
(5) الدعاء بما هو مستحيل، أو بما هو ممتنع عقلاً أو عادةً، أو شرعًا:
كأن يدعو بأن يخلد في الدنيا، أو أن يعطى النبوة، أو ألا يقيم الله الساعة، أو ألا يمر الناس على الصراط، أو أن يسأل الله أن يحيي الموتى، أو أن يسأل رؤية الله في الدنيا، أو أن ترفع عنه لوازم البشرية، فيستغني عن الطعام والشراب، والنَّفَس، أو أن يطلب الولد دون زواج أو تسَرٍّ، أو يسأل الثمر دون زرع أو حراثة، أو أن يعطى جبلاً من ذهب، أو أن يكون متواجدًا في مكانين في آن واحد، وهكذا دواليك ...
(6) الدعاء بأمر قد فرغ منه:
وهذا قريب مما قبله، فهذا الدعاء من باب تحصيل الحاصل؛ فالشيء إذا فرغ منه لم يتعلق بالدعاء فيه فائدة.
كمن يسأل الله ألا تهلك هذه الأمة بسنة بعامة، وألا يسلط الله عليها عدوًّا من سوى أنفسها فيستبيح بيضتها، فهذان أمران دعا بهما النبي"وأجيبت دعوته. (2)
__________
(1) أنظر كتاب الإسلام كبديل لمراد هوفمان، ص 55 وما بعدها 0
(2) انظر صحيح مسلم (2889).(7/451)
ومن ذلك أن يدعو ألا يدخل الكفار الجنة إن ماتوا على كفرهم، أو أن يدخلوا النار، أو أن يخلدوا فيها، أو بألا يخلد المؤمن في النار، فالدعاء بمثل هذه الأمور وما شاكلها _ تحصيل حاصل؛ لأنه دعاء بأمور قد فرغ منها.
(7) أن يدعو بما دل الشرع على عدم وقوعه:
كأن يدعو على مسلم ألا يدخل الجنة، أو أن يدعو لكافر بدخول الجنة بعد أن مات على الكفر.
(8) الدعاء على الأهل والأموال والنفس:
(حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم؛ لا توافقوا من الله ساعةً يُسأل فيها عطاءً فيستجيب لكم.
[*] قال في عون المعبود:
" ((لا تدعوا)) أي دعاء سوء ((على أنفسكم)) أي بالهلاك، ومثله ((ولا تدعوا على أولادكم)) أي بالعمى ونحوه، ((ولا تدعوا على أموالكم)) أي من العبيد والإماء بالموت وغيره، ((لا توافقوا)) نهي للداعي، وعلة النهي أي لا تدعوا على من ذكر لئلا توافقوا ((من الله ساعة نيل)) أي عطاء ((فيها عطاء فيستجيب لكم)) أي لئلا تصادفوا ساعة إجابة ونيل فتستجاب دعوتكم السوء" - (1).
(9) كأن يدعو على شخص أن يكون مدمنًا للخمر، أو أن يميته الله كافرًا، أو أن يبتلى بالزنا أو غير ذلك، أو أن يدعو الله أن ييسر له الفساد والفجور.
(10) الدعاء بقطيعة الرحم:
كأن يقول: اللهم فرق بين فلان وأمه، أو أقاربه أو زوجته، أو يقول: اللهم فرق شمل المسلمين، وخالف بين كلمتهم.
(11) الدعاء بانتشار المعاصي:
كما تفعل الرافضة؛ فهم يدعون، ويتمنون أن ينتشر الفساد، وتكثر المعاصي في الأرض؛ حتى يخرج المهدي _ بزعمهم _ فيملأ الأرض عدلاً وقسطًا كما ملئت جورًا وظلمًا!.
(12) تحجير الرحمة:
وقد مر بنا قريبًا، كحال من يقول: اللهم أنزل الغيث على بلادنا فحسب، أو اللهم اشفني وحدي ووفقني، وارزقني وحدي، أو نحو ذلك.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاة وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً. فلما سلم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للأعرابي: (لقد حجرت واسعاً). يريد رحمة الله.
(13) ترك الأدب في الدعاء:
__________
(1) - عون المعبود (2/ 274 - 275(7/452)
وذلك بأن يدعو بما لا يليق، وبما ينافي الأدب مع الله _ عز وجل _ كأن يقول: اللهم يا خالق الحيَّات، والعقارب، والحمير، ونحو ذلك.
[*] قال الخطابي:
ولا يحسن أن يقال: يا ربَّ الكلاب، ويا ربَّ القردة والخنازير ونحوها من سفل الحيوان، وحشرات الأرض، وإن كانت جميع المكَوَّنات إليه من جهة الخلق لها، والقدرة عليها شاملة لجميع أصنافها. (1)
ولهذا فاللائق بالعبد حال دعائه لربه أن يتأدب غاية ما يمكنه، وأن يتجنب كل ما ينافي كمال الأدب؛ ذلك أن مقامه بين يدي ربه مقام ذلة وخضوع؛ فلا يليق به إلا كمال الأدب.
[*] قال الخطابي:
ولو تقدم بعض خدم ملوك أهل الدنيا إلى صاحبه ورئيسه في حاجة يرفعها إليه، أو معونة يطلبها منه _ لَتَخَيَّر له محاسن الكلام، ولَتَخَلَّص إليه بأجود ما يقدر عليه من البيان.
ولئن لم يستعمل هذا المذهب في مخاطبته إياه، ولم يسلك هذه الطريقة فيها معه _ أوشك أن ينبو سمعُه عن كلامه، وألا يحظى بطائل من حاجته عنده.
فما ظنك برب العزة _ سبحانه _ وبمقام عبده الذليل بين يديه، ومن عسى أن يبلغ بجهد بيانه كُنْهَ الثناء عليه؟!.
وهكذا رسوله وصفيه"قد أظهر العجز، والانقطاع دونه، فقال في مناجاته: وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
فسبحان من جعل عجز العاجزين عن شكره والثناء عليه شكرًا لهم. (2)
(14) الدعاء على وجه التجربة والاختبار لله تعالى:
كأن يقول: سأجرب وأدعو؛ لأرى أيستجاب لي أم لا!.
(15) أن يكون غرض الداعي فاسدًا:
كأن يسأل الله أن يرزقه مالاً؛ ليتكثر به ويفتخر على الناس، أو ليستعين به على المعاصي، أو أن يسأل الله ملكًا أو سلطانًا؛ ليحارب من خلاله أولياء الله، ويتسلط عليهم.
(16) أن يعتمد العبد على غيره في الدعاء:
فتجد من الناس من لا يدعو الله بنفسه؛ بحجة أنه مذنب، فتجده دائمًا يطلب من العلماء، والعباد، والصالحين أن يدعوا له.
ْ (17) اِسْتِبْدَالِ لَفْظٍ وَارِدٍ (مَأثُور) بِغَيْرِهِ:
__________
(1) شأن الدعاء ص153.
(2) شأن الدعاء ص 15_16.(7/453)
(حديث البراء رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوئك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل: اللهم إني أسلمت نفسي إليك وألجأت ظهري إليك وفوضتُ أمري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تتكلمُ به.
[*] قال ابن حجر في فتح الباري بشرح صحيح البخاري:
الْحِكْمَة فِي رَدِّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى من قال (الرَّسُول) بَدَل (النَّبِيِّ) أنَّ ألْفَاظ الأذْكَار تَوْقِيفِيَّة، وَلَهَا خَصَائِص وَأسْرَار لا يَدْخُلهَا الْقِيَاس فَتَجِب الْمُحَافَظَة عَلَى اللَّفْظ الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ (1)
[*] ونقل الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم (2) عن مجموعة من العلماء أنَّ سَبَب الإِنْكَار (3) أنَّ هَذَا ذِكْر وَدُعَاء، فَيَنْبَغِي فِيهِ الاقْتِصَار عَلَى اللَّفْظ الْوَارِد بِحُرُوفِهِ، وَقَدْ يَتَعَلَّق الْجَزَاء بِتِلْكَ الْحُرُوف، وَلَعَلَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْكَلِمَات، فَيَتَعَيَّن أدَاؤُهَا بِحُرُوفِهَا، ثم قال: وهذا القول حَسَن 0
__________
(1) أنظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري حديث رقم: 5836 0
(2) أنظر صحيح مسلم بشرح الإمام النووي حديث رقم: 4884 0
(3) أي إنكار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الصحابي رضي الله عنه عندما استبدل لفظة " نبيك " بلفظة رسولك 0(7/454)
(وعليه نعلم جَلِيًّا خطأ من يَزَيِدُ أو يُنْقِصَ في الأدعية المأثورة، مع الاحتفاظ بصحة المعنى، فهو مَنْهِيٌّ عنه، وأقَلُّ ما فيه أنه يُفَوِّتَ على الدَّاعِي تَحْصِيلُ أجْرِ وثواب الاِتباع في الدُّعَاءِ، فمثلاً دُعَاءُ القُنُوتِ في صلاة الوتر الذي علّمه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما هو: " اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ" (1)، فعندما يدعوا إمام في صلاة الوتر قائلاً: اللهم اهدني يا مولاي فيمن هديت، ويأتي آخر فيقول: اللهم اهدني يا مولاي بفضلك فيمن هديت، وثالث فيقول: اللهم اهدني يا مولاي بفضلك ومنّك وكرمك فيمن هديت و000، نقول له قف! لقد اِعْتَدَيْتَ وتَجَاوَزْتَ الدُّعَاءَ المأثور بإضافتك لألفاظ من عندك حَتْمًا هي ليست بأفضل وأكمل مما قاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي علّم أمته في شخص الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما دعاء كاملاً لا ينقصه شيء، ومن هنا يتضح وضوحاً جلياً أن «اتباع السنة أولى من كثرة العمل»
(ثم إن الالتزام بالدُّعَاءِ المأثور فيه الجمع بين فضيلتين: فَضِيلَةُ الدُّعَاءِ، وفَضِيلَةُ اِتْبَاعِ السُّنَّةِ المُطَهَرَةِ، مِمَّا يَجْعَلُ الدُّعَاءَ أقْرَبُ مِنِ القَبُولِ وأدُعَى للإجَابَةِ 0
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
__________
(1) الحديث رواه أبو داود (أنظر صحيح أبو داود: 1263) ونصه: عن أبي الحوراء قال: قال الحسن بن علي رضي الله عنهما: علمني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلمات أقولهن في الوتر: " اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت"، وقال الترمذي: لانعرف عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القنوت في الوتر شيئاً أحسن من هذا 0(7/455)
المَشْرُوعُ للإنسان أن يدعو بالأدعية المأثورة؛ فإن الدُّعَاءَ من أفضل العبادات، وقد نَهَانَا الله عن الاِعْتِدَاءِ فيه، فينبغي لنا أن نَتَبِعَ ما شُرِّعَ وسُنَّ، كما أنه ينبغي لنا ذلك في غيره من العبادات، والذي يَعْدِلُ عن الدُّعَاءِ المُشْرُوعِ إلى غيره، الأحْسَنُ له أن لا يَفُوتَهُ الأكْمَلُ والأفْضَلُ، وهي الأدْعِيَةِ النَّبَوِيَّةِ، فإنَّها أفْضَلُ وأكْمَلُ باتفاق المسلمين من الأدعية التي ليست كذلك وإن قالها بعض الشيوخ، فكيف وقد يكون في عَيْنِ الأدعية ما هو خطأ أو إثم أو غير ذلك؟!
ومن أشَدِّ الناس عَيْباً من يَتَّخِذُ حِزْباَ ليس بمأثور عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَدَعُ الأحزاب النَّبَوِيَّة التي كان يقولها سَيُّدُ بَنِي آدَمَ وإمَامُ الخَلْقِ وحُجَّةُ الله على عباده (1)
[*] لذا شَدَّدَ الإمام أحمد على من يزيد في ألفاظ القنوت ولو حرفاً واحداً فقال: وقد كان المسلمون يُصَلُّونَ خلف من يَقْنُتُ وخلف من لا يَقْنُتُ، فإذا زَادَ في القُنُوتُ حَرْفاً 00 فإن كنت في الصلاة فاقطعها (2)
وكذلك في الدُّعَاءِ المشهور الذي علّمه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للسيدة عائشة رضي الله عنها لكي تدعو به إذا وافقت ليلة القدر " اللَّهُمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي " (3)، فيأتي أحدهم ويدعوا قائلاً: اللهم إنك عَفُوٌ غَفُورٌ تحب العفو فاعف عني، وثاني فيقول: اللهم إنك عفو غفور شكور تحب العفو فاعف عني، وثالث يدعوا فيقول: اللهم إنك عفو غفور شكور جواد رحيم تحب العفو فاعف عني و000، لا شك أن هذا تَعَدِّي مَنْهِيٌ عنه،
(والتَّعَدِّي يعني: تَجَاوُزُ مَا يَنْبَغِي أنْ يُقْتَصَرَ عَلَيْهِ (4)، فهذا التَّعْدِي يمنع أجر وفضيلة الاتباع عند الدُّعَاءِ المأثور عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل وربما يمنع قَبُوَل الدُّعَاءِ كما أسلفنا 0
__________
(1) أنظر مجموع الفتاوى، ج 22، ص 308 0
(2) أنظر رسالة الصلاة لابن القيم ص 171 0 (نقلا عن كتاب الدعاء لجيلان العروسي ص 584)، وتصفح موقع: arabic.islamicweb.com/Books على الشبكة العنكبوتية 0
(3) أنظر صحيح ابن ماجه رقم: 3105، وورد في سنن الترمذي: " اللَّهُمَّ إنَّكَ عُفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي " بزيادة لفظة " كريم " 0
(4) أنظر معجم مقاييس اللغة ج 4، ص 349 (نقلا عن كتاب الدعاء لجيلان العروسي ص 173)(7/456)
فجاهد نفسك أن تتعلم وتحفظ الأدعية المأثورة بِنَصِّهَا، حتى تَدْعُوا بها كاملة كما وردت دون نقص فيها ولا زيادة، فتنال فضيلة الدُّعَاءِ والاِتِّباَعِ 0
(18) اَلتَّغَنِي وَاَلتَّمْطِيطِ (تَحْرِيرُ النَّغَمِ):
[*] قال المناوي (1):
قال الكمال ابن الهمام: ما تعارفه الناس في هذه الأزمان من التَّمْطِيطِ، والمبالغة في الصِّيَاحِ، والاشتغال بِتَحْرِيرَاتِ النَّغَمِ إظهاراً للصناعة النَّغَمِيَةِ، لا إقَامَةً لِلْعُبُودِيَّةِ، فإنه لا يَقْتَضِي الإجابة، بل هو من مُقْتَضَيَاتِ اَلْرَدِّ، وهذا معلوم إن كان قَصْدُهُ إعْجَابُ الناس به، فكأنه قال إعْجَبُوا مِنْ حُسْنِ صَوْتِي وتَحْرِيرِي، ولا أرى تَحْرِيرَ النَّغَمِ في الدُّعَاءِ كما يفعله القرّاء في هذا الزمان يصدر ممن يفهم معنى الدُّعَاء والسؤال إذ مقام طلب الحاجة: التَّضَرُّع، لا التَّغَنِي، فاستبان أن ذاك ـ أي التَّغَنِي والتَّمْطِيطُ ـ من مقتضيات اَلْخَيْبَةِ واَلْحِرْمَانِ0أ0هـ
وللأسف احترف بعض الأئمة اَلتَّغَنِي وَاَلتَّمْطِيطِ في الدُّعَاءِ، حتى أنه يَهْتَمُّ بالدُّعَاءِ أكثر من اهتمامه بقراءة القرآن في الصلاة، فتراه يُفْرِغَ جُهْدَهُ في اَلتَّغَنِي بالدُّعَاءِ وتحسين صوته وتَمْطِيطِ الكلام، وربما أجرى على الدُّعَاءِ أحكام تلاوة القرآن الكريم من مَدٍّ وإخْفَاءٍ وإدْغَامٍ، كل هذا لِيَسْتَدِرَّ دموع المصلين ويُرْضِي نفسه بأنه استطاع أن يَصِلَ بهم إلى مرحلة الخشوع وذرف الدموع0
فالتَّغَنِي وتَحُسِينِ الصَّوْتِ هو من خصائص القرآن الكريم، أمَّا الدَّعَاء فالمشروع فيه أن يكون على السَّجِيِةِ بلا تَكَلُّفٍ ولا تَغَنِي0
(19) اَلتَّفْصِيلُ في اَلْدُّعَاءِ (كَثْرَةُ اَلألْفَاظِ):
__________
(1) أنظر فيض القدير حديث رقم: 316، ج1، ص 291 0(7/457)
(حديث أبي نَعَامَةَ الثابت في صحيح أبي داود) عن ابن لِسَعْدٍ أنه قال: سَمِعَنِي أبِي وَأنَا أقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا وَبَهْجَتَهَا وَكَذَا وَكَذَا وَأعُوذُ بِكَ مِنْ النَّارِ وَسَلاسِلِهَا وَأغْلالِهَا وَكَذَا وَكَذَا فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ " فَإِيَّاكَ أنْ تَكُونَ مِنْهُمْ، إنَّكَ إِنْ أعْطِيتَ الْجَنَّةَ أعْطِيتَهَا وَمَا فِيهَا مِنْ الْخَيْرِ، وَإنْ أعِذْتَ مِنْ النَّارِ أعِذْتَ مِنْهَا وَمَا فِيهَا مِنْ الشَّرِّ.
[*] قال ابن تيمية (1):
الدُّعَاءُ ليس كُلُّهُ جائزاً، بل فيه عُدْوَانٌ مُحَرَّم، والمَشْرُوعُ (2) لا عُدْوَانَ فيه، وأن العُدْوَانَ يَكُونُ تَارَة ًبِكَثْرَةِ الألْفَاظِ، وتَارَةً في المَعَانِي، كما فَسَّرَ الصحابة ذلك 000 ثم أورد الأحاديث المذكورة سابقاً 0
(حديث عائشة في صحيح أبي داود) قالت كان رسول الله يستحب الجوامع من الدعاء وَيَدَعُ ما سوى ذلك.
[*] قال في عون المعبود بشرح سنن أبي داود:
الْجَامِعَة لِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَة وَهِيَ مَا كَانَ لَفْظه قَلِيلاً وَمَعْنَاهُ كَثِيرًا، كما في قوله تعالى {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الآخِرَة حَسَنَة وَقِنَا عَذَاب النَّار} ومِثل الدُّعَاء بِالْعَافِيَةِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة (3)
(فمن صور الاعتداء تَكْثِيرُ الكلام الذي لا دَاعِيَّ له ولا حاجة إليه، والتَّكَلِِّفِ في ذِكْرِ التَّفَاصِيلِ، كأن يدعو ربَّهُ أن يرحمه إذا وُضِعَ في اللحد تحت التراب والثرى، وكذلك أن يرحمه إذا سالت العيون وبليت اللحوم، وأن يرحمه إذا تركه الأصحاب وتولى عنه الأهل والأحباب (4)، أو يدعو على عدوه أن يُخْرِسَ الله لسانه ويُشِلَّ يده، ويُجَمِدَ الدَّمَ في عُرُوقِه000 0
__________
(1) الفتاوى، ج 22، ص 277 0
(2) أي الوارد في القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبوية المطهرة 0
(3) يشير إلى الحديث الشريف: " اسألوا الله العفو والعافية فإن أحدا لم يُعْطَ بعد اليقين خيرا من العافية ... "0 (رواه الترمذي، أنظر صحيح الترمذي رقم 2821) والعفو معناه التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه، والعافية: أن تسلم من الأسقام والبلايا وهو ضد المرض0
(4) ويكفيه أن يدعوا بالرَّحمة عند الممات 0(7/458)
ومما لا شك فيه أن النتيجة الطبيعية لهذا الاعتداء هو إصابة اَلْمُصَلِينَ بِاَلْمَلَلِ، والملل يُذْهِِبُ التَّدَبُرَ والخُشُوعِ ويُوِديِ بِاَلْمُصَلِي إلى الغَفْلَةِ، وهي حالة مَنْهِيٌّ عنها إذ لا تتناسب ومقام التَّذَلُّلِ والطَّلَبِ من الله تعالى اَلْمُطَّّلِعِ على أحوال النُّفُوسِ وما تُكِنُّهُ الصُّدُورِ 0
فَاَلإطَالَةِ اَلْمُمِلَّةِ تُرْهِقُ اَلْمُصَلِي وَتُصِيبُهُ بَاَلْمَلَلِ وَاَلْغَفْلَةِ، وَقَدْ وَرَدَ نَهْيُ اَلْغَافِلَةُ قُلُوبُهُمُ عَنْ اَلْدُّعَاءِ:
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ادعوا الله و أنتم موقنون بالإجابة و اعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلبٍ غافلٍ لاه.
[*] قال الإمام المناوي (1):
أي لا يَعْبَأ ـ سبحانه ـ بسؤال سائلٍ غَافِلٍٍ عن الحضور مع مولاه، مَشْغُوفٌ بما أهَمَّهُ من دُنْيَاهُ 000والتَّيَقُظُ والجَدُّ في الدُّعَاءِ من أعظم آدابه، ثم نقل عن الفخر الرازي أنه قال: أجمعت الأمَّةُ على أن الدُّعَاءَ اَلْلِسَانِيّ الخَالِي عَنْ الطَّلَبِ النَّفْسَانِي قَلِيلُ النَّفْعِ عَدِيمُ الأثَرِ 0
[*] وقال النووي (2):
اعلم أن مقصود الدُّعَاء هو حضور القلب، والدلائل عليه أكثر من أن تُحْصَرَ والعلم به أوضح من أن يُذْكَرَ0
[*] وقال البيهقي في شُعَبِ الإيمان:
أنَّ الدُّعَاءَ له أركان منها أن يَسْألَ مَا يَسْألَ بِجِدٍ وحَقِيَقةٍ، ولا يأخذ دُعَاءً مُؤلَفاً يَسْرُدُهُ سَرْداً وهو عن حَقَائِقِهِ غَافِلٌ (3)
وأورد في الشُّعَبِ عن أبي بكر الشَّلَبي أنه قال في قوله عَزَّ وَجَلَّ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ} (60 ـ غافر) قال: اُدْعُونِي بِلاَ غَفْلَةٍ أسْتَجِبْ لَكُمُ بِلاَ مُهْلَةٍ (4)
[*] وقال ابن رجب الحنبلي (5):
الدُّعَاءُ سَبَبٌ مُقْتَضٍٍ للإجابة مع استكمال شرائطه وانتفاء موانعه، وقد تَتَخَلَّف إجابته لانتفاء بعض شروطه أو وجود بعض موانعه، ومن أعظم شرائطه حضور القلب، ورجاء الإجابة من الله تعالى 0 أ 0 هـ 0
__________
(1) أنظر فيض القدير حديث رقم: 316، ج1، ص 291 0
(2) أنظر الأذكار ص 561، طبعة دار الفكر 1403هـ 0
(3) أنظر شعب الإيمان، ج 2، ص 44 0
(4) المصدر السابق ص 54 0
(5) جامع العلوم والحكم، ج 2، ص 402 0(7/459)
ولا شك أن الإطْنَابَ والاسْتِرْسَالَ في الدُّعَاءِ يُصِيبَانِ المُصَلِّي بالمَلَلِ ويُذْهِبَانِ اَلْخُشُوعَ ويجعلان هَمَّ المُصَلِي وجُلَّ تفكيره لا التَّدَبُرِ والتَّفَكُرِ في معاني الدُّعَاء بل متى سينتهي الإمام من الدُّعَاء0
ولطالما أوصى العلماء والفقهاء بعدم الإطالة المملة في دُعَاءِ القنوت حتى لا يُصَابَ المُصَلِي بالسَّأمِ والمَلَلِ، جاء عن الإمام مالك أنه قال: لَعْنُ الْكَفَرَةَ فِي رَمَضَانَ إذَا أوْتَرَ النَّاسُ فَصَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَامَ بِهِ الثَّالِثَةَ فَرَكَعَ فَإذَا رَفَعَ رَأسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَقَفَ يَدْعُو عَلَى الْكَفَرَةِ وَيَلْعَنُهُمْ وَيَسْتَنْصِرُ لِلْمُسْلِمِينَ وَيَدْعُو، قَالَ وَكُلُّ ذَلِكَ شَيْءٌ خَفِيفٌ غَيْرُ كَثِيرٍ (1)
[*] ومن وصايا الشيخ عبد العزيز بن باز قال:
الأفضل للإمام في دُعَاءِ القُنُوتِ تحري الكلمات الجامعة وعدم التَّطْوِيلِ على النَّاس، ويقرأ: اللهم اهدنا فيمن هديت الذي ورد في حديث الحسن في القنوت ويزيد معه ما يتيسر من الدَّعَوَاتِ الطَّيِبَةِ كما زاد عُمر، ولا يَتَكَلَّفُ ولا يُطَوِّلُ عَلَى النَّاسِ ولا يَشُقَ عليهم (2)
(والمُتَأمِلُ في هَدْيِهِ وسُنَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حال الدُّعَاءِ يعلم جلياً أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يُطِيلُ ويُكْثِرُ من الألفاظ والكلام في الدُّعَاءِ، فعندما سألته أحَبُّ الناس إليه السيدة عائشة رضي الله عنها أن يُعَلِّمَهَا دُعَاءً تدعوا به إذا وافَقَتْ ليلة القدر فعلمها دُعَاءً خفيفا قليلاً في ألفاظه كثيرا عظيما في معانيه "اللَّهُمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي "، فَلْنَتَعَلَّمَ هَدْيَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حال الدُّعَاءِ، فكلمات مأثورة قليلة خير من جُمَلٍ وعِبَارَاتٍ مُخْتَرَعَةٍ طَوِيلَةٍ مُمِلَّةٍ0
[*] قال ابن قُدَامَة اَلْمَقْدِسِيُّ:
في اِتْبَاعِ السُّنَّةِ بَرَكَةُ مُوَافَقَةُ الشَّرْعِ، وَرِضَى الرَّبِّ سبحانه، وَرَفْعُ الدَّرَجَاتِ، وَرَاحَةُ القَلْبِ، ودَعَةُ البَدَنِ، وتَرْغِيمُ الشَّيْطَانِ، وسُلُوكُ الصِّراطُ المُسْتَقِيمِ (3)
(اِنْتَبه: لَيْسَ مَنَ الاِعْتِدَاء:
__________
(1) أنظر المنتقى شرح موطأ مالك رقم: 234 0
(2) المرجع: فتاوى التراويح عبر موقع www.al-islam.com على الشبكة العنكبوتية 0
(3) أنظر كتاب ذمّ الموسوسين ص 41 0(7/460)
[*] قال الخطَّابي (1):
ليس معنى الاعتداء الإكثار من الدعاء.
(حديث عائشة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا سأل أحدكم فليكثر فإنما يسأل ربه.
(20) تَكَلُّفُ اَلْسَّجْعِ وَاَلإعْرَابِ:
السَّجْعُ هو: الكلام اَلْمُسْتَوِي على نَسَقٍ وَاحِدٍ (2)، وهو مَكْرُوهٌ في الدُّعَاءِ إنْ تَعَمَّدَهُ وتَكَلَّفَهُ الدَّاعِي لأنه يُشْغِلُ عَقْلَهُ ويُشَتِّتُ قَلْبَهُ عن التَّدَبُرِ والتَّفَكُرِ، وقد عَنْوَنَ البخاري في صحيحه (3) فقال: ما يُكْرَهُ من السَّجْعِ في الدُّعَاءِ، ثم أورد الخبر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: 000 فانظر السَّجْعَ من الدُّعَاءِ فَاجُتَنِبْهُ فإني عَهِدُتُ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك، يعني لا يفعلون إلا ذلك الاجُتَنَاب 0
[*] قال ابن حجر في فتح الباري بشرح صحيح البخاري:
(وانظر السَّجْعَ مِنَ الدُّعَاءِ فَاجْتَنِبْهُ) أي: لا تَقْصِدَ إليه ولا تُشْغل فِكْرَكَ به لما فيه من التَّكَلُّفِ المانع للخشوع المطلوب في الدُّعَاءِ، و قوله (لا يفعلون إلا ذلك): أي تَرْكُ السَّجْعِ0
ثم نقل عن الإمام الغزالي أنه قال:
المكروه من السَّجْعِ هو اَلْمُتَكَلَّف لأنه لا يلائم الضَّراعة والذِلَّة، وإلاَّ ففي الأدعية المأثورة كلمات متوازية لكنها غير مُتَكَلَّفَة 0
ونقل في عون المعبود شرح سنن أبي داود:
عن الغزالي في الإحياء أنه قال: إن المراد بالاعتداء أن يَتَكَلَّفَ السَّجْعَ في الدُّعَاءِ 0
[*] وقال الإمام النووي في كتابه الأذكار في باب آداب الدعاء:
أن لا يَتَكلَّفَ السَّجْعَ وقد فُسِّر به الاعتداء في الدُّعَاءِ، والأولى أن يقتصر على الدعوات المأثورة، فما كل أحد يُحْسِنُ الدُّعَاء فيُخَافُ عليه الاعتداء، ثم قال: وقال بعضهم: اُدْعُ بِلَسَانِ الذِلَّةِ والافْتِقَارِ، لا بلسان الفصاحة والانطلاق0
[*] وأورد الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم:
__________
(1) أنظر كتاب: سلاح المؤمن في الدعاء ج1، ص 148 0
(2) انظر لسان العرب ج 2، ص 101، مادة: سجع 0
(3) انظر حديث رقم: 5862 0(7/461)
أن السَّجْعَ المذموم في الدُّعَاءِ هو اَلْمُتَكَلَّفُ، فإنه يُذهب الخشوع والخضوع والإخلاص، ويُلْهِي عن الضَّراعة والافْتِقَارِ وفراغ القلب، فأمَّا ما حصل بلا تَكَلِّف ولا إعْمَالِ فِكْرٍ لِكَمَالِ الفَصَاحَةِ ونحو ذلك، أو كان محفوظا فلا بأس به، بل هو حَسَنٌ (1)
(21) اَلنَّهْيُ عَنْ تَكَلِّفِ الإعْرَابِ:
ومثل النهي عن تَكَلُّفِ السَّجْعِ، مَنْهِيٌ عن تَكَلِّفِ الإعراب في الدُّعَاءِ لأنَّهما يَصْرِفَانِ القلب عن الخشوع،
[*] قال ابن تيمية:
ينبغي للدَّاعِي إذا لم تكن عادته الإعراب ألاَّ يِتِكِلَّفَ الإعراب، قال بعض السلف: إذا جاء الإعراب ذهب الخشوع، وهذا كما يُكره تَكَلُّف السَّجْعِ في الدُّعَاءِ، فإذا وقع بغير تَكَلُّفٍ فلا بأس به، فإن أصل الدُّعَاء من القلب، واللسان تابع للقلب، ومن جعل هِمَتُهُ في الدُّعَاءِ تَقْوِيمَ لِسَانِهِ، أضْعَفَ تَوَجُهَ قَلْبِهِ، ثم قال: والله ـ سبحانه ـ يَعْلَمُ قَصْدَ الدَّاعِيَ ومُرَادَهُ، وإن لم يُقوِّم لسانه، فإنه يعلم ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تنوع الحاجات (2)
(22) رَفْعُ اَلْصَّوْتِ فَوْقَ اَلْحَاجَةِ وَاَلْنَّوْحُ وَاَلبُكَاءُ:
[*] قال اِبْنُ حَجَرَ العَسْقَلاَنِيُّ (3):
الاِعْتِدَاءُ في الدُّعَاءِ يَقَعُ بزيادة الرَّفْعِ فَوْقَ الحَاجَةِ أو بِطَلَبِ ما يَسْتَحِيلُ حُصُولُهُ شَرْعاً أو بِطَلَبِ مَعْصِيَةٍ أو يدعو بما لم يَؤْثَرْ خصوصا ما وَرَدَتْ كَرَاهَتُهُ كالسَّجْعِ اَلْمُتَكَلَّفِ0
[*] وقال قَتَادَة (4):
إنَّ الله إنَّمَا يُتَقَرَّبُ إليه بطاعته، فما كان من دُعَائِكُمُ الله فَلْيَكُنْ في سَكِينَةٍ وَوَقَارٍ وَحُسْنِ سَمْتٍ وَهُدَيً وَحُسْنِ دَعَةٍ 0
[*] وعن الحسن (5) قال:
لقد كان المسلمون يَجْتَهِدُونَ في الدُّعَاءِ وما يُسْمَعُ لهم صَوْتٌ، إنْ كان إلا هَمْسًا بينهم وبين ربِّهِمُ، وذلك أن الله تعالى يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} وذلك أن الله تعالى ذَكَرَ عَبْداً صَالِحاً فَرَضِيَّ له قَوْلُهُ، فقال: {إذْ نَادَىَ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًا} (2 ـ مريم)
__________
(1) أنظر صحيح مسلم بشرح النووي، حديث رقم: 4899 0
(2) أنظر مجموع الفتاوى، ج 22، ص 287 0
(3) أنظر فتح الباري، ج 8، ص 198 0
(4) أنظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور (54 ـ 55 ـ الأعراف)
(5) أنظر تفسير ابن كثير على الآية (55 ـ الأعراف)(7/462)
[*] قال ابن مفلح: "يكره رفع الصوت بالدعاء مطلقا، قال المروزي سمعت أبا عبد الله يقول: ينبغي أن يسرَّ دعاءه لقوله تعالى: (وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً) [الإسراء /110]
[*] وعن ابن جريج (1) قال:
إن من الدُّعَاءِ اِعْتِدَاء، يُكره رفع الصوت والنداء والصياح بالدعاء، ويؤمر بالتضرع والاستكانة 0
[*] وعن زيد بن أسلم:
كان يَرَىَ أن الجَهْرَ بالدُّعَاءِ اِعْتِدَاءٌ (2)
[*] وعن سعيد بن جبير في قوله عَزَّ وَجَلَّ {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا} يعني: مُسْتَكِينًا، {وَخُفْيَةً} يعني: في خَفْضٍ وَسُكُونٍ في حاجاتكم من أمْرِ الدُّنيا والآخرة (3)
[*] وعن الأوزاعي قال:
ليس في القنوت رَفْعٌ، ويُكره رَفْعُ الأصوات في الدُّعَاءِ (4)
[*] وقيل للحسن البصري:
إنَّهم يَضُجُونُ في القنوت، فقال: أخطأوا السُّنَّة، كان عُمر يَقْنُتُ ويُؤَمِّنُ مَنْ خَلْفَهُ (5)
[*] وفي عون المعبود بشرح سنن أبي داود، قال:
المراد بالاعتداء فيه ـ أي الدُّعَاءُ ـ مُجَاوَزَةُ الحَدِّ، وقيل: الدُّعَاءُ بما لا يجوز ورفع الصوت به والصِّيَاحُ، وقيل: سؤال مَنَازِلَ الأنبياء عليهم السلام 0
[*] وقال النووي (6):
يُستحب أن يَخْفِضَ صوته بالدُّعَاءِ، ويُكْرَهُ الإفْرَاطُ في رَفْعِ الصَّوْتِ 0
ومثل رفع الصوت فوق الحاجة، البُّكَاءُ والصُّرِاخُ والعَوِيلُ كلُّ ذلك مِنْهِيٌّ عنه، فهو فضلاً عن أنه إزعاج وتشويش على الآخرين، فإنه يُنَافِي آداب التَّضَرُّعِ والسُّؤَالِ، فالأدب أن يَمْتَثِلَ الدَّاعِي لأمْرِ الله عِزَّ وَجِلَّ {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}، ولنا في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأسوة الحسنة فقد كان يُصَلِّي وَلِجَوْفِهِ أزِيزٌ كَأزِيزِ الْمِرْجَلِ يَعْنِي من البكاء.
(لحديث عبد الله بن الشخير الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال: أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي فسمعت لصدره أزيزاً كأزيز المرجل من البكاء.
وأزيز المرجل أي: صوت الماء عندما يَغْلِيِ في الإناء0
__________
(1) أنظر تفسير الطبري على الآية (55 ـ الأعراف)
(2) المرجع السابق 0
(3) المرجع السابق 0
(4) نقلا عن كتاب رهبان الليل د0 سيد العفّاني، ج 3، ص 239 0
(5) المرجع السابق، ج 3، ص 239 0
(6) أنظر المجموع للنووي، وهو يتحدث عن دُعَاءِ الحَاجِّ بعرفة، ج 8، ص 126 0(7/463)
فَنبينا محمد صَلَى الله عليه وسلم مع تدبره وخشوعه وبكاءه لم يَكُنْ يَرْفَعُ صوته ويُزْعِجُ أو يُشَوُشُ على أحد0
[*] قال في تفسير البحر المحيط (1):
قال العلماء: الاعتداء في الدعاء على وجوه منها الجَهْرُ الكثير والصِّياحُ 0
[*] وقال الشوكاني (2):
ومن الاعتداء في الدعاء أن يرفع صوته بالدعاء صارخاً به.
اَلْغَفْلَةُ عِنْدَ تِلاَوَةِ اَلْقُرْآنِ اَلْكَرِيمِ وَاَلتَّأثُّرِ عِنْدَ سَمِاعِ اَلْدُّعَاءِ:
قال تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله} (21ـ الحشر) قال الفخر الرازي: المعنى أنه لو جُعِلَ في الجبل عَقْلٌ كما جُعِلَ فيكم، ثم أنزل عليه القرآن لَخَشَعَ وَخَضَعَ وَتَشَقَقَ مِنْ خَشْيَةِ الله (3)
[*] وقال القرطبي في تفسيره:
حَثَّ تعالى على تأمل مواعظ القرآن وبين أنه لا عُذْرَ في ترك التَّدَبُر؛ فإنه لو خُوطِبَ بِهَذَا القرآن الجبال مع تركيب العقل فيها لانقادت لمواعظه، ولرأيتها على صلابتها ورزانتها خاشعة متصدعة؛ أي: مُتَشِقِقَة من خشية الله، والخاشع: الذليل، والمُتَّصَدِعِ: المُتَّشَقِقِ (4).
[*] وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
يقول تعالى: لو أني أنزلت هذا القرآن على جبل حملته إياه تصدع وخشع من ثقله ومن خشية الله، فأمر الله عز وجل الناس إذا أنزل عليهم القرآن أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع (5)
فالعَجَبُ كل العَجَبِ من مُصَلٍّ عظمة غفلته أثناء قراءة الإمام للقرآن الكريم، ومن فَلْتَتِهِ ويَقَظَتِهِ عندما يشرع الإمام في الدُّعَاء، فهل كلام البشر أشَّدُ أثراَ في نفسه من كلام الله تعالى؟!
[*] ومن فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز عندما سُئِلَ: من يبكي في الدُّعَاءِ ولا يبكي عند سماع كلام الله تعالى؟
__________
(1) أنظر تفسير البحر المحيط على الآية (55 ـ الأعراف)
(2) أنظر تفسير فتح القدير على الآية (55 ـ الأعراف)
(3) تفسير الرازي على الآية (21 ـ الحشر)
(4) تفسير القرطبي على الآية (21 ـ الحشر)
(5) تفسير الطبري على الآية (21 ـ الحشر)(7/464)
أجاب: هذا ليس باختياره فقد تتحرك نفسه في الدعاء ولا تتحرك في بعض الآيات، لكن ينبغي له أن يعالج نفسه ويخشع في قراءته أعظم مما يخشع في دعائه، لأن الخشوع في القراءة أهم، وإذا خشع في القراءة وفي الدعاء كان ذلك كله طيبا لأن الخشوع في الدعاء أيضا من أسباب الإجابة، لكن ينبغي أن تكون عنايته بالقراءة أكثر لأنه كلام الله فيه الهدى والنور (1)
(23) كثرة اللحن: خصوصًا إذا كان يحيل المعنى، أو كان ناتجًا عن قلة مبالاة، أو كان ناتجًا من إمام يُؤَمِّنُ الناس خلفه.
[*] قال الخطابي: ومما يجب أن يراعى في الأدعية الإعراب الذي هو عماد الكلام، وبه يستقيم المعنى، وبعدمه يختل ويفسد.
وربما انقلب المعنى باللحن حتى يصير كالكفر إن اعتقده صاحبه، كدعاء من دعا، أو قراءة من قرأ [إياك نعبد وإياك نستعين] بتخفيف الياء من إيَّاك؛ فإن الأيا ضياء الشمس، فيصير كأنه يقول: شمسك نعبد، وهذا كفر. (2)
وقال: وأخبرني أحمد بن أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل قال: حدثنا بن المرزبان عن الرَّياسيِّ قال: مَرَّ الأصمعي برجل يقول في دعائه: يا ذو الجلال والإكرام، فقال: ما اسمك؟ قال: ليث، فأنشأ يقول:
ينادي ربّه باللحن ليثٌ ... لذاك إذا دعاه لا يجيب (3)
والمقصود أن الإعراب مطلوب حال الدعاء _ كما مر _.
(أما إذا كان الإنسان غير قادر على الإعراب فلا شيء عليه؛ إذ لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
(24) قلة الاهتمام باختيار الاسم المناسب أو الصفة المناسبة:
فتجد بعض الداعين، أو كثيرًا منهم لا يهتم بهذا الأمر، فمن ذلك قول بعضهم: اللهم ارحمني يا شديد العقاب، أو اللهم عليك بالكفار يا أرحم الراحمين، أو نحو ذلك ...
(25) اليأس أو قلة اليقين من إجابة الدعاء:
فكثير من الناس إذا أصيب بمرض عضال يغلب على الظن أنه لا يبرأ، وأن المصاب به لا يشفى _ تجده يَدَعُ الدعاء، ويترك اللجوء إلى الله؛ ليأسه، وقلة يقينه بأن الله قادر على تبديل الحال.
__________
(1) المرجع: فتاوى التراويح عبر موقع www.al-islam.com على الشبكة العنكبوتية 0
(2) شأن الدعاء ص19.
(3) شأن الدعاء ص20.(7/465)
وربما ألقى الشيطان في رَوْعِه أن الدعاء لا داعي له في هذه الحالة، ولا فائدة وراءه حِيال هذا الأمر، كحال من يصاب بمرض السرطان _ عياذًا بالله _ فتجد تلك الحال تغلب عليه، بل ربما غلبي على أقاربه وذويه، فتراهم يتركون الدعاء لهذا المريض؛ بحجة أن هذه الحالة خطيرة، وأنها تنتهي بالوفاة في الأعم الأغلب؛ لذا لا فائدة من الدعاء لهذا المريض، ولا داعي له _ بزعمهم _!.
فهذا خطأ في باب الدعاء، وجهل بالله، وما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه.
فيا سبحانه الله! أما علم أولئك أن الله على كل شيء قدير؟ وأن أزمَّة الأمور بيده _ تبارك وتعالى _ وأنه يقول للشيء كن فيكون؟ وأن الذي كتب الضر قادر على كشفه؟
بل ما علموا أن الدعاء _ بحد ذاته _ عبادة عظمى؟ وأن انتظار الفرج من أجل العبادات؟ وأن الافتقار إلى الله واللجوء إليه عين الفلاح ورأس العز؟.
بل ما علموا أن الله قد يشفيه؟، أو يخفف عنه بعض ما يعانيه؟، أو يرزقه _ بفضل ذلك الدعاء _ من الثبات والطمأنينة والرضا ما لا يجده لو كان سليمًا معافى؟.
وكذلك الحال بالنسبة لبعض من يبتلى بالعقم، أو تأخر الإنجاب عنه، فمنهم من يرغب عن دعاء الله، وسؤاله الذرية الصالحة؛ بحجة أن الأمر قد كتب وقدر، فلا داعي للدعاء في ذلك الأمر، إذ لا فائدة من وراءه بزعمه!.
فهذا الكلام لا ينبغي أن يصدر من مسلم؛ فالله _ عزَّ وجل _ هو الذي قدر العقمَ وتَأَخُّرَ الإنجاب، وهو القادر على أن يمد الإنسان بالأولاد؛ فالأمر أمره، والقدر قدره، والكون كله ملك له؛ فكيف تيأس _ أيها المسلم _ من روح الله، أو تقنط من رحمته؟
(فهذا زكريا _ عليه السلام _ عندما قال: (رَبّ هَبْ لِي مِن لّدُنْكَ ذُرّيّةً طَيّبَةً إِنّكَ سَمِيعُ الدّعَآءِ) [آل عمران / 38]
(أجاب الله دعاءه،: (فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي فِي الْمِحْرَابِ أَنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَىَ مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مّنَ اللّهِ وَسَيّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مّنَ الصّالِحِينَ) [آل عمران / 39]
(كل ذلك مع أن زكريا قد بلغ من الكبر عتيًّا، وأن امرأته كانت عاقرًا!.
وقل مثل ذلك في شأن بعض الوالدين الذين يَدَعُون الدعاء لأولادهم؛ يأسًا من صلاحهم، وذلك إذا رأوا منهم تمردًا وتماديًا في الغواية والضلال.
فتجد هذا الوالد يقول:
أنا يئست من صلاح ولدي، وتركت الدعاء له!(7/466)
سبحان الله! أتيئس من روح الله؟ أم تحجر رحمة الله؟ أما علمت أن دعاء الوالد مستجاب، وأن الدعوة الصالحة قد تدركه ولو بعد حين، إما أن يكون ذلك في حياتك فترى صلاحه واستقامته، أو بعد مماتك وفراقك الدنيا، فتسعد ببركة دعائه.
ثم ماذا يضيرك من الدعاء؟
ثم إن الولد ولدك مهما كان، والعرب تقول: أنفك منك وإن ذَنَّ (1)، وعيص (2) منك وإن كان أشَبًا (3). (4)
وكذلك الحال بالنسبة لبعض المسلمين؛ فما أن يشاهد ما عليه المسلمون من التمزق، والتخلف والتفرق _ إلا ويدِب اليأس إلى قلبه، وإذا قيل له: ادع للمسلمين بأن يصلح الله أحوالهم، هز عطفيه، وأومأ برأسه موحيًا بأن لا أمل في الإصلاح؛ فلا داعي _ إذًا _ للدعاء.
كل ذلك خطأ، ومنافٍ للثقة بالله _ عز وجل _ والتصديق بوعده الصادق الذي لا يختلف.
(26) أن يفصل الداعي تفصيلاً لا لزوم له:
كما يقول بعض الناس: اللهم اغفر لآبائنا، وأمهاتنا، وأجدادنا، وجداتنا، وأخوالنا، وخالاتنا، وأعمامنا، وعماتنا، ثم يمضي في تعداد أقاربه، وينتقل بعد ذلك إلى الدعاء لجيرانه، وزملائه، وهكذا يستغرق وقتًا ليس باليسير في هذه التفاصيل.
وكان يغنيه أن يقول: اللهم اغفر لنا، ولإخواننا وأحبابنا، وأقاربنا، أو اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، ورحمةُ الله واسعة.
أما إذا لم يصل التفصيل إلى مبالغة وتطويل _ فلا بأس به؛ فقد ورد في السنة ما يدل على ذلك.
(27) دعاء الله بأسماء لم ترد في الكتاب والسنة:
كقول بعض الناس: يا سلطان، يا غفران، يا سبحان، يا برهان، ونحوها؛ فإنها ليست من أسماء الله _ تعالى _.
[*] قال الخطابي رحمه الله:
ومما يسمع على ألسنة العامة وكثير من القُصَّاص قولهم: يا سبحان، يا برهان، يا غفران، يا سلطان، وما أشبه ذلك.
وهذه الكلمات _ وإن كان يتوجه بعضها في العربية على إضمار النسبة بذي _ فإنه مستهجن، مهجور؛ لأنه لا قدوة فيه. (5)
وكذلك قول بعضهم: يا ربَّ القرآن.
[*] قال الخطابي رحمه الله: وأول من أنكر ابن عباس فإنه سمع رجلاً يقول عند الكعبة: يا ربَّ القرآن فقال: مَهْ! إن القرآن لا ربَّ له؛ إن كل مربوب مخلوق. (6)
(28) المبالغة في رفع الصوت:
__________
(1) ذن: سال مخاطه.
(2) عيصك: العيص الشجر الكثيف الملتف.
(3) أشبًا: الأشب شدة التفاف الشجر.
(4) عيون الأخبار، 3/ 89.
(5)، (2) شأن الدعاء ص17(7/467)
وهذا الأمر قد انتشر في زماننا هذا بخاصة، لوجود مكبرات الصوت، فربما سمعت الداعي إمامًا في شرق المدينة وأنت في غربها.
وهذا خطأ؛ إذ لا داعي للتزيد في رفع الصوت؛ فإنه اعتداء، وباب من أبواب الرياء؛ فالأولى بالداعي إذا كان إمامًا أن يرفع صوته بقدر ما يسمعه المصلون إذا كانوا يؤمنون وراءه.
أما إذا كان الداعي وحده _ فليكن دعاؤه سِرًّا.
(29) الدعاء بـ: اللهم إني لا أسألك رد القضاء، ولكن أسألك اللطف فيه:
فهذا الدعاء يكثر على الألسنة، وهو خطأ؛ ذلك لأنه شُرِع لنا أن نسأل الله رد القضاء،
(حديث سلمان في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لا يرد القضاء إلا الدعاء و لا يزيد في العمر إلا البر.
(وكل ما يصيب الإنسان من بلاء فهو من القضاء، فهل يستسلم الإنسان لذلك ويدع الدعاء، أم ينازع قدر الله بقدر الله؟.
بل إن الله _ عز وجل _ أمرنا بذلك كما في قوله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ * مِن شَرّ مَا خَلَقَ) [الفلق: 1، 2]
فالله _ عز وجل _ أمرنا في هذه السورة أن نستعيذ به من شرِّ ما خلق، وشرُّ ما خلق داخل في القضاء.
وكذلك في قوله _ تعالى (مِن شَرّ مَا خَلَقَ * مَلِكِ النّاسِ * إِلََهِ النّاسِ * مِن شَرّ الْوَسْوَاسِ الْخَنّاسِ * الّذِى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاسِ * مِنَ الْجِنّةِ وَالنّاسِ) [سورة: الناس]
(وكما في الدعاء المشهور: وقني شر ما قضيت
(حديث الحسن بن علي في صحيح السنن الأربعة) قال علمني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلمات أقولهن في الوتر {اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت}
(ولهذا بوب البخاري في صحيحه بابًا قال فيه: باب من تعوذ بالله من درك الشقاء وسوء القضاء:
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتعوذ من جَهْدِ البلاء ودَرَكِ الشقاءِ وسوءِ القضاءِ وشماتةِ الأعداء.
(30) تعليق الدعاء على المشيئة:(7/468)
كأن يقول: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت؛ فهذا مناف للجزم بالدعاء، ودليل على قلة الرغبة، فعلى العبد أن يعزم المسألة و يجد في الطلب ويلح في دعائه، فالله تعالى يحب الملح في الدعاء، ولهذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة بدر يلح على ربه في الدعاء ويكثر من ذلك، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّه عَنْهمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ يَوْمَ بَدْرٍ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ اللَّهُمَّ إِنْ تَشَأْ لَا تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ "، فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ وَهُوَ يَثِبُ فِي الدِّرْعِ فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: " سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ".
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، ارحمني إن شئت ارزقني إن شئت، وليعزم مسألته، إنه يفعل ما يشاء لا مكره له.
(31) الإدلال على الله وترك التضرع:
كمن يدعو دعاء المستغني بما عنده، المُدِلِّ على ربه؛ فلا يدعو دعاء الخاشع المتضرع، المتذلل.
فهذا ضرب من ضروب الكبر والعياذ بالله، وباب من أبواب الاعتداء.
(32) تصنع البكاء ورفع الصوت بذلك:
كحال من يرفع صوته بالبكاء أثناء دعاء القنوت في شهر رمضان، فهذا خطأ، ومناف للإخلاص، ومدعاة للرياء، ومخالف لهدي النبي"وأصحابه _ رضي الله عنهم _.
فالبكاء المطلوب هو ما كان عن خشوع، وإخبات وتأثر بعيدًا عن رفع الصوت بذلك، إلا من غُلِب على نفسه، ولم يستطع أن يتمالك زمام أمره _ فإنه لا حرج عليه؛ فالله _ عز وجل _ لا يؤاخذه بذلك.
(33) تركُ الإمامِ رفعَ يديه إذا استسقى في خطبة الجمعة:
فبعض الأئمة إذا استسقى أثناء خطبة الجمعة _ لا يرفع يديه، وهذا خلاف السنة؛ فالسنة أن يرفع الإمام يديه إذا استسقى في خطبة الجمعة كما جاء ذلك في حديث الأعرابي الذي جاء والنبي"يخطب يوم الجمعة، فشكا لهم ما هم فيه من الشدة.(7/469)
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال أصابت الناس سنة على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب على المنبر يوم الجمعة قام أعرابي فقال يا رسول الله هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا أن يسقينا قال فرفع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه وما في السماء قزعة قال فثار سحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته قال فمطرنا يومنا ذلك وفي الغد ومن بعد الغد والذي يليه إلى الجمعة الأخرى فقام ذلك الأعرابي أو رجل غيره فقال يا رسول الله تهدم البناء وغرق المال فادع الله لنا فرفع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه وقال اللهم حوالينا ولا علينا قال فما جعل يشير بيده إلى ناحية من السماء إلا تفرجت حتى صارت المدينة في مثل الجوبة حتى سال الوادي وادي قناة شهرا ولم يجيء أحد من ناحية إلا حدث بالجود.
(34) الإطالة بالدعاء حال القنوت، والدعاء بما لا يناسب المقصود فيه:
فالقنوت يشرع عند النوازل للدعاء لقوم وللدعاء على آخرين. (1)
وهناك من الأئمة من يطيل في دعاء القنوت حال النوازل إطالة مفرطة، ويدعو بما خطر له من الأدعية، وربما بلغ ببعضهم أن يجعل دعاء القنوت ضعف مدة الصلاة ثلاث مرات أو أكثر.
وهذا خطأ، وخلاف السنة؛ فالسنة أن يقتصد بالدعاء، وأن يدعو بما يناسب تلك النازلة؛ فذلك هو السنة، وذلك أجمع للقلب، وأبعد عن المشقة على المأمومين.
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
وينبغي للقانت أن يدعو عند كل نازلة بالدعاء المناسب لتلك النازلة، وإذا سمى من يدعو لهم من المؤمنين، ومن يدعو عليهم من الكافرين المحاربين _ كان ذلك حسنًا. (2)
(35) أن يكون الدعاء فيه طلب يناقض حكمة الله تعالى:
كمن يطلب أن يخرج الله الشمس من مغربها قبل أوانها، أو يطلب من الله أن لا يقيم الساعة ومعلوم أن الساعة آتية لا ريب فيها.
(36) أن يكون الدعاء مشتملاً على مناقضة شرع أمر الله به:
كمن يسأل الله أن يحلل الربا أو الزنا مثلاً، أو كمن يدعو الله أن يدخل إبليس الجنة أو يعفو عن كافر محكوم بكفره، وأنه من أهل النار، كفرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف وأبو لهب وأبو جهل وأمثال ذلك.
(37) أن يكون الدعاء محتوياً مسألة لا يليق طلبها:
__________
(1) انظر: زاد المعاد 1/ 272_273.
(2) مجموع الفتاوى، 22/ 271(7/470)
كمن يطلب أن تكون منزلته مثل منزلة الأنبياء، أو يكون من العشرة المبشرين بالجنة، وقد تم تحديدهم فكيف يليق به أن يطلب طلباً لا يحق له، بل أن يسأل الله تعالى أن يكون من أهل الجنة مطلقاً بدون تخصيص.
(دعوة العلماء إلى الالتزام بالدعاء المأثور:
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
ينبغي للخَلْقِ أن يَدْعُوا بالأدعية المشروعة التي جاء بِهَا الكتاب والسُّنَّة، فإنَّ ذلك لاريب في فضله وحُسْنه، وأنَّه الصراط المستقيم، صراط الذين أنْعَمَ الله عليهم من النَّبِيينَ والصِّدِيِقينَ والشُّهَدَاءِ والصَّالِحِيَن، وحَسُنَ أولئك رفيقا (1)
[*] وقال القاضي عياض:
أذِن الله في دعائه، وعَلَّمَ الدُّعَاءَ في كتابه لِخَلِيقَتِهِ، وعَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءَ لأمَّتِهِ، واجتمعت فيه ثلاثة أشياء: العِلْمُ بالتَّوْحِيدِ، والعِلْمُ باللُّغَةِ، والنَّصِيحَةُ للأمَّةِ، فلا ينبغي لأحد أن يَعْدِلَ عن دُعَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد احتال الشَّيطَانُ للناس من هذا المقام فَقَيَّضَ لهم قَوْمَ سُوءٍ يَخْتَرِعُونَ لهم أدْعِيَةً يشتغلون بِهَا عن الاقتداء بالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأشَدُّ ما في الإحالة أنَّهم يَنْسِبُونَهَا إلى الأنبياء والصالحين، فيقولون: دعاء نوح، دعاء يونس، دعاء أبي بكر، فاتقوا الله في أنفسكم، لا تَشْتَغِلُوا من الحديث إلا بالصحيح (2)
[*] وقال الإمام الغزالي:
والأولى أن لا يُجَاوُزُ الدَّعَوَاتُ المأثورة (3)، فإنه قد يَعْتَدِي في دُعَائِهِ، فيسأل ما لا تَقْتَضِيهِ مصلحته، فما كُلُّ أحَدِ يُحْسِنُ الدُّعَاءَ (4)
[*] وقال صاحب كتاب قواعد الأحكام:
الاِقْتِصَارُ على الدَّعَوَاتِ الصَّحِيحَةِ المَشْرُوعَةِ أوِلَى من الدَّعَوَاتِ المَجْمُوعَاتِ (5)
__________
(1) أنظر: مجموع الفتاوى (1/ 336) - القاعدة الجليلة -.نقلا عن موقع: www.alminbar.net من الشبكة العنكبوتية 0
(2) انظر: الفتوحات الربانية (1/ 17) نقلا عن موقع: www.alminbar.net من الشبكة العنكبوتية 0
(3) المأثورة أي الواردة في القرآن الكريم والسُّنَّة المطهرة 0
(4) إحياء علوم الدين (1/ 554) نقلا عن موقع: www.alminbar.net.
(5) قواعد الأحكام: 2/ 171 (نقلاً عن كتاب الدعاء لأبي عبد الرحمن جيلان العروسي، ص 570)(7/471)
ومن لطيف ما قاله القرطبي في تفسيره على قوله تعالى {وَكَأيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ، وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسْرَافَنَا فِي أمْرِنَا وَثَبِّتْ أقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (146 ـ 147 ـ آل عمران) قال: فَعَلَى الإِنْسَان أن يَسْتَعْمِل ما في كِتَاب اللَّه وَصَحِيح السُّنَّة من الدُّعَاء وَيَدَع ما سِوَاهُ، وَلا يَقُول أخْتَار كَذَا، فَإنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ اِخْتَارَ لِنَبِيِّهِ وَأوْلِيَائِهِ وَعَلَّمَهُمْ كَيْفَ يَدْعُونَ 0
[*] وقال في مطالب أولي النهى:
الْمُخْتَارُ: الدُّعَاءُ بِالْمَأْثُورِ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَلَمْ يَدْعُ حَاجَةً إلَى غَيْرِهِ 0
[*] وقال الشيخ علي الحذيفي:
لِيَحْرِِصَِ المسلم على حِِفْظِ دُعَاءِِ رَسُولِ الله بِقَدَرِ اِسْتِطَاعَتِهِ، فقد شَرَعَ عليه الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ لِكُلِّ حَالٍٍ دُعَاءً وذِكْراً (1)
[*] وقال الشيخ يوسف القرضاوي:
الأدعية التي يَضَعَهَا البشر ويَخْتَرِعُونَهَا كثيرًا ما تكون قَاصِرةً عن أداء المعنى، بل قد تكون مُحَرَّفَةً ومَغْلُوطَةً ومُتَنَاقِضَةً، إنه ليس أفٍضَلُ من الأدْعَيَةِ المأثُورَةِ، ففيها الرَّوْعَةُ والبَّلاَغَةُ وحُسْنُ الأدَاءِ والمَعَانِي الجَامِعَةِ في ألفاظ قليلة، فليس هناك أفضل مما ورد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أدعية مأثورة، لأنه يترتب عليها أجران: أجْرُ الاِتِّباَعِ، وأجْرُ الذِّكْرِ، فعلينا دَائِمًا أن نَحْفَظَ هذه الأدْعِيَةِ النَّبَوِيَّةِ وأن نَدْعُو بِهَا (2)
[*] وقال ابن تيمية:
__________
(1) من خطبة الجمعة في المسجد النبوي بالمدينة النبوية لفضيلة الشيخ: علي الحذيفي بتاريخ: 13 - 4 - 1424هـ وهي بعنوان: فضل الدعاء وآدابه، يمكن قراءتها أو الاستماع إليها عبر موقع: www.alminbar.net على الإنترنت 0
(2) نقلاً عن موقع: www.islamonline.net(7/472)
لا رَيْبَ أن الأذْكَارَ والدَّعَواتَ من أفضل العبادات، والعبادات مَبْنَاهَا على التَّوقِيفِ والاِتِّباَعِ لا على الهَوَىَ والاِبْتِدَاعِ، فالأدعية والأذْكَارُ النَّبَوِيَّةِ هي أفضل ما يَتَحَرَّاهُ المُتَحَرْيِ من الذِّكْرِ والدُّعَاءِ، وسَالِكُهَا على سَبِيلِ أمَانٍ وسَلاَمَةٍ، والفوائد والنتائج التي تحصل لا يُعَبِرُ عنه لِسَانٌ، ولا يُحِيطُ بِهِ إنْسَانٌ000 ففي الأدعية الشَّرْعِيَةِ والأذْكَارِ الشَّرْعِيَةِ غَايَةُ المَطَالِب الصحيحة ونِهَايَةُ المَقَاصِدِ العَلِيَّةِ، ولا يَعْدِلُ عنها إلى غيرها من الأذْكَارِ المُحْدَثَةِ المُبْتَدَعَةِ إلا جَاهِلٌ أو مُفَرِّطٌ أو مٌتَعَدٍّ (1)
اَلْصَحَابَةِ رِضْوَانُ الله تَعَالَىَ عَلَيْهِم أجْمَعِينَ يِطْلُبُونَ مِنَ اَلْنَّبِيِّ صَلَىَ الله عَلَيْهِ وَسَلَمَ أنْ يُعَلِمَهُمُ اَلْدُّعَاءَ:
__________
(1) مجموع الفتاوى، ج 22، ص 299 وما بعدها 0(7/473)
عن أبي بَكْرٍ الصِّديق رضي الله عنه قال لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي دُعَاءً أدْعُو بِهِ فِي صَلاتِي، قَالَ: " قُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أنْتَ فَاغْفِرْ لِي مِنْ عِنْدِكَ مَغْفِرَةً إنَّكَ أنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ "0 (رواه البخاري)، نقل في الفتح عن ابن أبي حمزة قال: في الحدِيث مَشْرُوعِيَّة الدُّعَاء في الصَّلاة، وَفَضْلُ الدُّعَاء الْمَذْكُور عَلَى غَيْره، وَطَلَب التَّعْلِيم من الأعْلَى وإِن كَانَ الطَّالِب يَعْرِف ذَلِكَ النَّوْع، وَخَصَّ الدُّعَاء بِالصَّلاةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أقْرَب مَا يَكُون الْعَبْد مِنْ رَبّه وَهُوَ سَاجِد" وفيه أنَّ الْمَرْءَ يَنْظُر فِي عِبَادَته إلى الأرْفَع فَيَتَسَبَّب فِي تَحْصِيله، وَفِي تَعْلِيم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَبِي بَكْر هذا الدُّعَاء إشَارَة إِلَى إِيثَار أمْر الآخِرَة على أمْر الدُّنْيَا (1)
فَهُمُ رضي الله تعالى عنهم أجمعين رغم أنَّهم أهْلُ اللغة وأرْبَابُ الفصاحة والبيان إلا أنَّهم طلبوا من النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُعَلِّمَهُم الدُّعَاء لِيَقِينِهِم أن دُعَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقْرَبُ لِلْقَبُولِ وأدْعَىَ لِلإجَابَةِ، فما بَالُ أقْوَاماً لا فَصَاحَةَ ولا بَيَانٍ لَدَيْهِمُ يَعْدِلُونَ عَنْ دُعَاءِ خَيْرِ البشر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أدعية مُخْتَرَعَةٍ فَيَحْرِمُونَ أنفسهم بَرَكَةَ وثَوَابَ الدُّعَاء بالمأثور، فضلاً عن وقوعهم بالاعتداء المحظور 0
اَلإتْبَاعِ في اَلْدُّعَاءِ أيْسَرُ فِيِ اَلْذِّكُرِ وِأفْضَلُ فِيِ اَلأجْر:
__________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، حديث رقم: 5851، ونقل فيه كلام جميل وتعليق لطيف عن الْكَرْمَانِيُّ قال: هذا الدُّعَاء من الْجَوَامِع، لأَنَّ فِيهِ الاعْتِرَاف بِغَايَةِ التَّقْصِير وَطَلَب غَايَة الإِنْعَام، فَالْمَغْفِرَة سَتْر الذُّنُوب وَمَحَوْهَا، وَالرَّحْمَة إِيصَال الْخَيْرَات، فَفِي الأوَّل طَلَب الزَّحْزَحَة عَنْ النَّار وَفِي الثَّانِي طَلَب إدْخَال الْجَنَّة، وَهَذَا هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم0(7/474)
عن جُوَيْرِيَةَ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أنْ أضْحَى وَهِيَ جَالِسَةٌ فَقَالَ: " مَا زِلْتِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟ " قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أرْبَعَ كَلِمَاتٍ ثَلاثَ مَرَّاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ " (رواه مسلم والنسائي والترمذي (1)
[*] نقل الإمام السيوطي في شرحه لسنن النسائي على الحديث عِزّ الدِّين بْن عَبْد السَّلَام فِي فَتَاوَاهُ قال: قَدْ يَكُون بَعْض الأذْكَار أفْضَل مِنْ بَعْض لِعُمُومِهَا وَشُمُولهَا وَاشْتِمَالهَا عَلَى جَمِيع الأوْصَاف السَّلْبِيَّة وَالذَّاتِيَّة وَالْفِعْلِيَّة فَيَكُون الْقَلِيل مِنْ هَذَا النَّوْع أَفْضَل مِنْ الْكَثِير مِنْ غَيْره (2)
[*] وقال في تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
__________
(1) رواية الترمذي: " قد قُلْتُ بَعْدَكِ أرْبَعُ كَلِمَاتٍ ثَلاَثَ مَرَاتٍ لو وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ لَوَزَنَتَهُنَّ: سُبْحَانَ الله وبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ ورِضَا نَفْسِهِ وزِنَةَ عَرْشِهِ ومِدَادَ كَلِمَاتِهِ "، ورواية النسائي: " قال: ألا أعلمك – يعني كلمات – تقولينهن: سُبْحَانَ الله عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ الله عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ الله عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ الله رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ الله رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ الله رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ الله زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ الله زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ الله زِنَةَ عَرْشِه، ِ، سُبْحَانَ الله مِدَادَ كَلِمَاتِهِ، سُبْحَانَ الله مِدَادَ كَلِمَاتِهِ، سُبْحَانَ الله مِدَادَ كَلِمَاتِهِ ". (انظر صحيح سنن الترمذي رقم: 1574، وصحيح سنن النسائي رقم: 1281)
(2) أنظر شرح سنن النسائي بشرح السيوطي، حديث رقم: 1335 0(7/475)
والحديث دَلِيلٌ على فَضْلِ هذِه الكلِمات وأنَّ قَائِلَهَا يُدْرِكُ فَضِيلَةَ تَكْرَارِ الْقَوْلِ بِالْعَدَدِ الْمَذْكُور، ِ وَلا يُتَّجَهُ أنَّ يُقَالَ إنَّ مَشَقَّةَ مَنْ قال هكذا أخَفُّ مِنْ مَشَقَّةِ مَنْ كَرَّرَ لَفْظَ الذِّكْرِ حَتَّى يَبْلُغَ إلى مِثْلِ ذَلِكَ العَدَدِ فَإِنَّ هَذَا بَابٌ مَنَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِبَادِ اللَّهِ وَأرْشَدَهُمْ وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ تَخْفِيفًا لَهُمْ وَتَكْثِيرًا لأجُورِهِمْ مِنْ دُونِ تَعَبٍ ولا نَصَبٍ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ (1)
فالإتباع في قليل من ألفاظ الذِّكْرِ والدُّعَاءِ أثْوَبُ عند الله تعالى من الكثير من الأدعية والأذْكَارِ المُخْتَرَعَةِ، والإتِّباَعُ في الذِّكْرِ والدُّعَاءِ وإن كان أيْسَرُ وأخَفُّ إلا أنه أفْضَلُ في الأجْرِ والثَّوابِ كما في الحديث أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ألاَّ أخْبِرُكِ بِمَا هُوَ أيْسَرُ عَلَيْكِ مِنْ هَذَا أو أفْضَلُ " (2)، أي أيْسَرُ في الذِّكْرِ وأفْضَلُ في الأجْرِ، وأيضاُ هو أدْعَىَ للإجَابَةِ وأقْرَبُ لِلْقَبُول 0
{تنبيه}: (اَلْدُّعَاءُ بِاَلْمَأثُورِ أفْضَلُ:
لا خلاف بين العلماء في جواز أن يدعوا الإنسان في بعض أحيانه بما ألَمَّ به من تقلبات الدَّهْرِ وحوائج الدنيا دون التقييد بالمأثور، إنما النَّهْيُ عن أن يَهْجُرَ المأثور إلى أدْعِيَةٍ أخرى يَجْعَلْهَا دَيْدَنَهُ وشِعَارَهُ، واَلْدُّعَاءُ بِاَلْمَأثُورِ أفْضَلُ لسببين جوهريين هما:
__________
(1) انظر تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي حديث رقم: 3478 0
(2) الحديث بتمامه عن عَائِشَةَ بنت سَعْدِ بِن أبِي وَقَّاصٍ عن أبِيها أنَّه دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى امْرَأةٍ وَبَيْنَ يَدَيْهَا نَوًى أوْ قَالَ حَصًى تُسَبِّحُ بِهِ فَقَالَ: " ألا أخْبِرُكِ بِمَا هُوَ أيْسَرُ عَلَيْكِ مِنْ هَذَا أَوْ أَفْضَلُ: سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي السَّمَاءِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي الأرْضِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا هُوَ خَالِقٌ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ " 0 (رواه الترمذي)(7/476)
أفضل الدعاء وأعظم الدعاء هو ما كان يدعو به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أولاً: لأنه الأعلم بربه جل وعلا والأتقى لله والأخشى لله كما صح عنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: جاء ثلاث رهط إلى بيوت أزواج النبي، يسألون عن عبادة النبي، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من النبي؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله أتي لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
والثاني: أنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أوتي جوامع الكلم، جوامع الكلم يعني كلمات وجيزة لكن فيها كل الخير كل ما تحتاجه تجده في دعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، فبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي).
فالإنسان إذا أراد الأفضل وأراد الأتقى وأراد الأخشى وإذا أراد الاتباع وإذا أراد السنة وهذا كله مطلوب للإمام أن يتبعه فإنه يهتم بما جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أدعية.
(وإليك أقوال علماء الدين وأئمة المسلمين في هذا:
[*] قال الإمام المناوي في فيض القدير:
ويُسَنُّ لهم الدعاء له بحضرته وفي غَيْبَتِهِ (يعني المسافر) بالمأثور وبغيره، والمأثور أفْضَل (1)
[*] سئل الإمام مالك عن الداعي يقول: يا سيدي فقال: ((يعجبني دعاء الأنبياء: ربنا ربنا)) [نزهة الفضلاء 621].
[*] وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في الدعاء:
الوَارِدُ هو الذي يَنْبَغِي، والدُّعَاءُ بغيرها جائز، إلا أنه لا يَجُوزُ الاِعْتِدَاءُ، أما الذي ليس فيه اِعْتِدَاءٌ فَبَابُ اَلْرَّبِّ مفتوح لعباده يسألونه حوائجهم، إلا أنه ينبغي أن تكون له رَغْبَةٌ لِصَلاَحِ القَلْبِ والنِّيَّةِ والدُّعَاءِ لِنَصْرَةِ المسلمين وأئمة الدِّيِنِ (2)
__________
(1) حديث رقم: 572، ج 1، ص 420 0
(2) أنظر فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ، فتوى رقم: 1290 بعنوان: الذكر الوارد هنا وغير الوارد، ص 244، ج 5 0(7/477)
[*] وقال الشيخ عبد الله ابن باز:
والاعْتِنَاء بالدُّعَاءِ المأثور أفضل، لكن الحاجات الأخرى التي تَعْرِضُ له يَدْعُو فيها بما يُنَاسِبُهَا (1).
[*] وقال الشيخ محمد ابن عثيمين وقد سُئِلَ هل تجوز الزيادة على ما عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للحسن بن علي رضي الله عنهما أوْ لاَ تَجُوزُ؟ فأجاب فضيلته: إن الزيادة على ذلك لا بأس بِهَا لأنه إذا ثَبَتَ أن هذا موضع دُعَاءٍ ولم يُحَدَدُ هذا الدُّعَاء بِحَدٍ يُنْهَى عَنْ الزِيَادَةِ عنه، فالأصل أن الإنسان يَدْعُوا بما شَاءَ، ولكن المحافظة على ما ورد هو الأوْلَى فَنُقَدُمَ الوارد، وإن شئنا أن نَزَيِدَ فلا حَرَج (2)
وجاء في الموسوعة الفقهية:
ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز كل دُعَاءٍ دُنْيَوِيٍ وأخْرَوِيٍ، ولكن الدُّعَاءُ بالمأثور أفْضَلُ من غيره (3)
{تنبيه}: (اَلْدُّعَاءُ اَلْنَّبَوِيِّ اَلْشَرِيِفِ يُغَطِي كَافَةِ تَقَلُّبَاتِكَ اَلْنَّفْسِيَة وأحْوَالَكَ وَظُروفِكَ المَعِيشِيَّةِ:
المتأمل في دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي عَلَّمَهُ لأمَّتِهِ يَجِدُ أنَّهُ يُغَطِي كَافَةِ التَّقَلُّبَاتِ النَّفْسِيَةِ وتغيرات الأحوال التي تَعْتَرِي كل مسلم، وقد قَدَّمْناَ مَقُولَة الشيخ علي الحذيفي: لِيَحْرِِصَِ المُسْلِمُ على حِِْفظِ دُعَاءِِ رسول الله بِقَدَرِ اِسْتِطَاعَتِهِ، فقد شَرَع عليه الصلاة والسلام لِكُلِّ حَالٍٍ دُعَاءً وذِكْراً (4)
(فَجَاهِد نفسك وأرْغِمِ الشَّيْطَان واحفظ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
__________
(1) المرجع: فتاوى التراويح عبر موقع www.al-islam.com على الشبكة العنكبوتية 0
(2) أنظر فتاوى الشيخ محمد صالح العثيمين ج 1، ص 383 وما بعده 0
(3) الموسوعة الفقهية ـ وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية / الكويت ـ ج20، ص 265.
(4) من خطبة الجمعة في المسجد النبوي بالمدينة النبوية لفضيلة الشيخ: علي الحذيفي وهي بعنوان: فضل الدعاء وآدابه، يمكن قراءتها أو الاستماع إليها عبر موقع: www.alminbar.net(7/478)
[*] قال ابن أبي جَمْرَةَ مُعَلِّقاً على حديث عن جابر رضي الله عنه: كان النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا الاِسْتِخَارَةَ في الأمور كُلِّهَا كالسَّوُرَةِ من القرآن، قال: ِالتَّشْبِيه (1) فِي تَحَفُّظ حُرُوفه وَتَرَتُّب كَلِمَاته وَمَنْع الزِّيَادَة وَالنَّقْص مِنْهُ وَالدَّرْس لَهُ (2) وَالْمُحَافَظَة عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مِنْ جِهَة الاهْتِمَام بِهِ وَالتَّحَقُّق لِبَرَكَتِهِ، وَالاحْتِرَام لَهُ، وَيَحْتَمِل أنْ يَكُون مِنْ جِهَة كَوْن كُلّ مِنْهُمَا عَلِمَ بِالْوَحْيِ (3)
{تنبيه}: (اَلْدُّعَاءُ فِيِ اَلْسُّجُودِ أفْضَلُ مِنَ اَلْدُّعَاءِ حَالَ اَلْقِيَامِ فِيِ اَلْصَّلاَةِ:
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أقربُ ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء.
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ألا وإني نهيت أن اقرأ القرآن راكعا أو ساجدا فأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم.
[*] قال ابن تيمية في الفتاوى:
والدُّعَاءُ في السُّجُودِ أفْضَلُ من غيره، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة (أورد الحديثين المذكورين)، ثم قال: وقد ثَبَتَ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءٌ في السُّجُودِ في عدة أحاديث، وفي غير حديث تُبَيِّنُ أن ذلك في صلاته بالليل، فعُلِمَ أن قوله تعالى {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمُ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَهُمُ خَوْفاً وطَمَعًا} وإن كان يتناول الدُّعَاءَ في جميع أحوال الصَّلاَةِ، فَاَلْسُّجُودُ له مَزِيَةٌ على غيره (4)
وقال مُعَلِّقاً على حديث: " يَكْشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ فَيَبْقَى كُلُّ مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاءً وَسُمْعَةً فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا " (رواه البخاري)،
قال: أمِرُوا بالسُّجُودِ في عُرُصَاتِ القيامة دون غيره من أجزاء الصلاة، فَعُلِمَ أنه أفضل من غيره (5)
__________
(1) يعني تشبيه جابر الدعاء بالقرآن في الحفظ والتعليم 0
(2) وَالدَّرْس لَهُ أي: النَّقص أو الحذف منه 0
(3) أنظر فتح الباري، حديث رقم 5903 الدعاء عند الاستخارة 0
(4) أنظر مجموع الفتاوى، ج 23، ص 48 0
(5) المرجع السابق ص 46 0(7/479)
[*] وقال الإمام المنَّاوي في فيض القدير (1):
للعبد حالتين في العبادة، حالة كونه ساجداً وحالة كونه مُتَلَبِّسًا بغير السُّجُودِ، فهو في حالة سُجُودِهِ أقْرَبُ إلى ربِّه ... " فأكثروا الدُّعَاء " أي في السُّجُودِ لأنَّها حَالَةُ غَايَةِ التَّذَلُلِ، وإذا عَرَفَ العبد أن ربَّه هو اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ، اَلْمُتَكَبُّرُ اَلْجَبَارُ، فالسُّجُودُ لذلك مَظَنَّةُ الإجابة0
(فالسجود ووضع أشْرَفَ ما في الإنسان وهي جَبْهَتُهُ مَكَانَ الأقْدَامِ خُضُوعًا وتَذَلُّلاًً لله اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّار، يَرْتَقِي بالمسلم إلى مَرْتَبَةٍ رَفِيعَةٍ عَالِيَةٍ لا يَصِلُهَا إلاَّ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ (2)،
__________
(1) أنظر فيض القدير حديث رقم: 1348 0
(2) جاء في الحديث عن مَعْدَانُ بن أبي طَلْحَةَ الْيَعْمَرِيُّ قال: لَقِيتُ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ أخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي اللَّهُ بِهِ الْجَنَّةَ أَوْ قَالَ قُلْتُ بِأَحَبِّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ فَسَكَتَ، ثُمَّ سألتُه فَسَكَتَ، ثُمَّ سَألتُهُ الثَّالِثَةَ فقال: سَألْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ، فَإِنَّكَ لا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلاَّ رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً " 0 (رواه مسلم)
قال الإمام النَّووي معلقا على الحديث: فِيهِ الْحَثّ عَلَى كَثْرَة السُّجُود، وَالتَّرْغِيب، وَالْمُرَاد بِهِ السُّجُود فِي الصَّلاة، وَفِيهِ دَلِيل لِمَنْ يَقُول تَكْثِير السُّجُود أَفْضَل مِنْ إِطَالَة الْقِيَام، وَسَبَب الْحَثّ عَلَيْهِ الْحَدِيث " أقْرَب مَا يَكُون الْعَبْد مِنْ رَبّه وَهُوَ سَاجِد" وَهُوَ مُوَافِق لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} وَلأنَّ السُّجُود غَايَة التَّوَاضُع وَالْعُبُودِيَّة لِلَّهِ تَعَالَى، وَفِيهِ تَمْكِين أَعَزِّ أعْضَاء الإِنْسَان وَأعْلَاهَا وَهُوَ وَجْهه مِنْ التُّرَاب الَّذِي يُدَاس وَيُمْتَهَن0
رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الأسْلَمِيُّ رضي الله عنه قال: كُنْتُ أبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: "سَلْ" فَقُلْتُ أسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قَال: " أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ" قُلْتُ هُوَ ذَاكَ، قال: " فَأعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ "0 (رواه مسلم)
وعَنْوِنَ الإمام مسلم للباب الذي أورد فيه الحديثين فقال: بَاب فَضْلِ السُّجُودِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ0(7/480)
وهذه المَرْتَبة سَبَباَ في أن تكون دَعْوَتُهُ مُسْتَجَابَةٌ0
وفي هذا رَدّاً بَلِيغاً على من أهْمَلَ دُعَاءَ السُّجُودِ، وفَضَّلَ عليه دُعَاءَ القيام، فَتَرَاهُ يختصر من وقت السُّجُودِ لصالح دُعَاءِ القيام، وهذا خلاف الأولى والأفضل والأكمل وهو إطالة السُّجُودِ وكثرة الدُّعَاءِ فيه 0
كما أن هناك أدعية مأثورة مخصوصة لا تُقَالُ إلا في موضع السُّجُودِ فَعَلَى الإمام أن يُمْهِلَ المُصَلِّينَ في سُجُودِهِمُ حتى يَدْعُوا بِهَا، ولا يَعْجَلَ فَيَجْرِمَهُم أجْرَهَا وبِرِكَتَهَا بِدَعْوَى أنَّهُ سَيَدْعُوا لهم في القُنُوتِ، فَلَيْسَ الدُّعَاءُ حَالَ القِيَامِ كالدُّعَاءِ حَالَ السُّجُودِ0
(طلب الإنسان الدعاءَ من غيره:
طلب الإنسان الدعاءَ من غيره _ وإن كان جائزًا في الأصل _ فيه عدة محاذير منها:
1 - أن فيه نوع مسألة، فكونك تطلب الدعاء من غيرك، فيه نوع من الذلة والمسكنة له، فأنت ستلين له القول وتخضع له، وهذا نوع مسكنة، فلا ينبغي ذلك.
(2) أن ذلك مدعاة لترك الدعاء، والاعتماد على الآخرين، ومن اعتمد على غيره في الدعاء، فهذا يجعله يهمل دعاءه لنفسه، بل قد لا يبحث في أمور الدعاء المهمة، كأسباب الإجابة، وموانعها، وغير ذلك من الأمور المتعلقة بالدعاء، والمصيبة أنه قد ينسى كيفية الثناء على الله تعالى، وقد يترك الخشوع والانكسار حال دعائه، لأنه لم يعتد مثل هذا الأمر بل وكل فيه غيره، بل وقد يترك الدعاء بالكلية لأنه فقد حلاوته.
(3) الأصل في الدعاء أن يدعو الإنسان لنفسه، ولا يطلب من غيره أن يدعو له، لأنه أعلم بحقائق أموره من غيره، وهو أعلم الناس بما يريد من دعائه، وما يطلبه من ربه، فليس من المعقول أن يذهب لإنسان من الناس ويطلب منه أن يدعو له ويقول: أذكر في دعائك لي كذا وكذا، فالأصل أن يتضرع العبد لربه ويتعرض لنفحاته ويدعو لنفسه.
(4) أن طلب الدعاء من الغير، قد يدخل العُجب إلى من طُلب منه الدعاء، فيظن في نفسه أنه قد بلغ منزلة الأولياء، وأن دعاءه لا يُرد، فيهلك عند ذلك.(7/481)
فعلى ما ذُكر من أسباب فالواجب على العبد أن يدعو بنفسه، ولا يشغل غيره، ولا يوقعه في الحرج والضيق، ولا يورده المهالك، ومتى ما خلصت النية لله تعالى حال الدعاء، وكان العبد صادقاً مع ربه موقناً بإجابته، فالله تعالى لن يرده خائباً، بإذنه سبحانه، فالله عز وجل قد أجاب أهل الشرك أثناء عند الاضطرار، بل وأجاب إبليس كما ذكرنا، أفلا يستجيب الله لعبده المسلم، قال تعالى: " أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء. .
(جاء رجل إلى مالك بن دينار رحمه الله، فقال: أنا أسألك بالله أن تدعو لي، فأنا مضطر، قال: إذاً فاسأله، فإنه يجيب المضطر إذا دعاه، وقال عبيد الله بن أبي صالح، دخل علي طاووس يعودني، فقلت له: ادع الله لي يا أبا عبد الرحمن، فقال: ادع لنفسك، فإنه يجيب المضطر إذا دعاه.
فعلى المسلم أن يجاهد ويجتهد في الدعاء فقمن أن يستجاب له، قال تعالى: " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون "، وقال تعالى: " وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ".
{تنبيه}: (لا ينبغي للعبد أن يدع الدعاء، أو أن يعتمد فيه على غيره؛ بحجة أنه مذنب، وأنه ليس أهلاً لأن يجاب دعاؤه.
بل عليه أن يكثر من دعاء ربه، وأن يحسن الظن به، وينظر إلى عظيم جوده ورحمته؛ فمهما كان متماديًا بالمعصية فإن رحمة الله تَسَعُهُ؛ فإذا كان جلَّ وعلا _ يجيب دعاء المشركين عند الاضطرار فإن إجابته للمؤمنين _ مع تقصيرهم _ من باب أولى. (1)
(ولهذا جاء رجل إلى مالك بن دينار فقال: أنا أسألك بالله أن تدعو لي؛ فأنا مضطر.
قال: إذًا فاسأله؛ فإنه يجيب المضطر إذا دعاه. (2)
[*] وعن عبيد الله بن أبي صالح قال: دخل عليَّ طاووس يعودني، فقلت له: ادع الله لي يا أبا عبد الرحمن.
فقال: ادع لنفسك؛ فإنه يجيب المضطر إذا دعاه. (3)
وقال: فالسنة أن يقنت عند النازلة ويدعو فيها بما يناسب أولئك القوم المحاربين. (4)
__________
(1) انظر تحفة المريض د. عبد الله الجعيثن ص99.
(2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 13/ 223.
(3) تفسير بن كثير 3/ 358.
(4) مجموع الفتاوى، 21/ 155.(7/482)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينيرفع رأسه من الركوع يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد يدعو لرجالٍ فيسميهم بأسمائهم فيقول: اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم كسني يوسف وأخل المشرق يومئذٍ من مُضر مخالفون له.
[*] (اَلْدُّعَاءُ اَلْمَأثُورِ مِنَ الكتاب والسنة:
أولاً: الدُّعَاءُ مِنَ القُرْآنِ الكَرِيمِ:
(دعاء سيدنا آدم عليه السلام:
قال تعالى: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
[الأعراف /23]
فغفر الله لهما كما قال سبحانه: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة /37]
ثم أكرمه الله بالاصطفاء فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران /33]
وخصه بالاجتباء فقال تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه /122]
(دعاء سيدنا نوح عليه السلام:
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ، وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}
[الصافات /76،75]
وقال: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَآ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء /77،76]
وقال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ، فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ، فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَآءٍ مُّنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَآءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ، وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ} (1). [القمر /14:9]
__________
(1) سورة القمر، الآيات: 9 - 14.(7/483)
وقال تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا، إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلا يَلِدُواْ إِلاّ فَاجِرًا كَفَّارًا، رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاّ تَبَارًا} [نوح /28:26]
فائدة: قال العلماء: يُسْتَفَادُ من دُعَاءِ سيدنا نُوحٌ عليه السلام أن المسلم يَدْعُوا لنفسه أولاً، ثم المُتَصِلِينَ به من وَالِدٍ وَوَلَدٍ وِأرْحَامٍ وَأقْرِبَاءٍ لأنهم أوْلَى وَأحَقُ بِدْعَائِهِ، ثُمَّ يَعُمَّ المسلمين والمسلمات 0
[*] قال ابن كثير في تفسيره على الآية الكريمة: وقوله تعالى {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} دُعَاءٌ لجميع المؤمنين والمؤمنات، وذلك يَعُمُّ الأحْيَاءَ منهم والأمْوَات، ولهذا يُسْتَحَبُ مثل هذا الدُّعَاءِ إقْتِدَاءً بِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ 0
وفي الآية الكريمة جَوَازُ الدُّعَاءِ على الظَّالِمِينَ اَلْمُعْتَدِينَ بِاَلْدَّمَارِ وَاَلْهَلاَكِ 0
(دُعَاءُ سَيِّدُنَا إبراهيم عَلَيْهِ اَلْسَّلاَمُ:
قال الله تعالى عن دعائه: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ، وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [الشعراء /85:83]
فاستجاب الله له فقال في طلبه الأول: {فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا} [النساء54]
وقال في قوله: {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة /30]
وقال في قوله: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ، سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}
[الصافات /111:108]
(دُعَاءُ سَيِّدُنَا مُوسَى عَلَيْهِ اَلْسَّلاَمُ:(7/484)
قال الله عن دعائه: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي، يَفْقَهُواْ قَوْلِي، وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا، وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا، إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا، قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى}
[طه /36:25]
وقال الله تعالى عن موسى وهارون: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ، قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [يونس /89،88]
وقال تعالى عن موسى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ} [القصص /17،16]
(دعوة سيدنا يونس عليه السلام:
قال تعالى: {وَذَا النُّونِ (1) إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا (2) فَظَنَّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ (3) عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} (87 ـ 88 ـ الأنبياء)
[*] قال ابن كثير {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} أي: إذَا كَانُوا فِي الشَّدَائِد وَدَعَوْنَا مُنِيبِينَ إلَيْنَا ولا سِيَّمَا إذَا دَعَوْا بِهَذَا الدُّعَاء فِي حَال الْبَلاء 0
__________
(1) النَّوُنُ تعني: الحوت، وذَا النَّوِنِ أي: صاحب الحوت، وهو سيدنا يونس عليه السلام0
(2) نقل القرطبي في تفسيره عن جَمْعٍ من المفسرين قالوا: مٌغَاضِبًا لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ 0
(3) نقل ابن كثير في تفسيره عن جَمْعٍ من المفسرين قالوا: {فظن أن لن نقدر عليه} أي: نُضَيِّقَ عليه، واستشهد عليه بقوله تعالى {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أي: وَمَنْ ضُيِّقَ عَلَيْهِ رِزْقه فَلَمْ يُوَسَّع عَلَيْهِ أ0هـ0 قال العلماء: وهذا من حُسْنِ الظَّن بالله تعالى0(7/485)
[*] وقال الطبري المعنى: كما أنْجَيْنَا يُونُس مِنْ كَرْب الْحَبْس فِي بَطْن الْحُوت فِي الْبَحْر إذْ دَعَانَا، كَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْ كَرْبهمْ إِذَا اِسْتَغَاثُوا بِنَا وَدَعَوْنَا0
(حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوة ذي النون إذ دعا بها و هو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له.
(وذو النون: هو نبي الله يونس _ عليه السلام _،
(حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:" ألا أخْبِرُكُمُ بِشَيْءٍ إذَا نَزَلَ بِرَجُلِ مِنْكُمُ كَرْبٌ أو بَلاَءٌ مِنْ أمْرِ الدُّنْياَ دَعَا بِهِ فَفُرِّجَ عنه؟ دُعَاءُ ذِي النُّوُنِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ أنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ".
(والنون: الحوت.
فهذا سيدنا يونس عليه السلام ألقي في اليم فالتقمه الحوت وأسدل الليل البهيم ستاره المظلم عليه، فالتجأ إلى الله {أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، فأنجاه الله، حتى إذا خرج إلى شاطئ السلامة، تلقفته يد الرحمة الإلهية والعناية الربانية فأظلته تحت شجرة اليقطين.
قال تعالى {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87 - 88].
{تنبيه}: (هذا الدعاء من أعظم أنواع الدعاء، لاشتماله على الآتي:
أولاً: على توحيد الله (لا إله إلا أنت)
وهو أعظم وسيلة إلى الله تعالى، وأعظم طاعة وأعظم وقربة.
ثم ثنى بالتنزيه (سبحانك) تنزيه الله عما لا يليق به عز وجل، فكل ما يفعل، وكل ما يقدر فله فيه الحكمة البالغة، فهو منزه عما لا يليق بجلاله وكماله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعظيم شأنه.
ثم ثلث ببيان عجزه وضعفه وفقره وظلمه لنفسه، وهكذا كل عبد بالنسبة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ينبغي له أن يكون كذلك إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]
(دُعَاءُ سَيِّدُنَا أيِّوُبٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ:(7/486)
قال تعالى: {وَأيُّوبَ إذْ نَادَى رَبَّهُ أنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأنْتَ أرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (الأنبياء/83)
[*] قال القرطبي:
قال العلماء: ولم يكن قوله {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} جَزَعًا؛ لأن الله تعالى قال: {إنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} (ص/44) بَلْ كَانَ ذلك دُعَاءٌ منه، والجَزَعُ في الشَّكْوَى إلى الخَلْقِ، لا إلى الله تعالى، والدُّعَاءُ لا يُنَافِي الرِّضَا 0
[*] وقال ابن القيم في الفوائد:
جُمِعَ في هذا الدُّعَاء بين حقيقة التَّوْحِيدِ، وإظهار الفَقْرِ والفَاقَةِ إلى ربَّهِ، وَوَجُودِ طَعْمُ المَحَبَّةِ في التَّمَلُّقِ لَهُ سُبْحَانَه، والإقْرَارِ لَهُ بِصِفَةِ الرَّحْمَةِ، وأنَّه أرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، والتَّوْسُلُ إليه بصفاته سبحانه، وشِدَّةِ حَاجَتِهِ هُوَ وَفَقْرِهِ، وَمَتَى وَجَدَ اَلْمُبْتَلَى هذا كُشِفَتْ بَلْوَاهُ
(دعاء سيدنا زكريا عليه السلام:
قال الله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ، فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران /39،38]
وقال تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُواْ لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء /90،89]
(دعاء سيدنا لوط عليه السلام:
{قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} (العنكبوت/30)
(دعاء سيدنا سليمان عليه السلام:
{رَبِّ أوْزِعْنِي (1) أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأنْ أعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} (النمل/19)
(دعاء سيدنا يوسف عليه السلام:
قال الله في قصة يعقوب مع أبنائه: {وَجَآءُواْ عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف /18]
__________
(1) أوزعني أي: ألهمني 0(7/487)
وقال الله تعالى عنهم: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف /64]
وقال يعقوب: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَآ أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ، قَالُواْ تَاللَّهِ تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ، قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُواْ بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَاْيْئَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَاْيْئَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}
[يوسف /87:83]
ثم استجاب الله دعاءه ورد عليه يوسف وأخيه قال الله: {قَالُواْ أَإِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَآ أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَآ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ، قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ، وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ، قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ، فَلَمَّآ أَن جَآءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، قَالُواْ يَآ أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ، قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يوسف /98:90](7/488)
قال الله تعالى عنه وعن النسوة: {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ ءَامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ، قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ، فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف /34:32]
{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا (1) وَألْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف/101)
[*] قال الفَخْرُ الرَّازي:
من أراد الدُّعَاءَ فلا بد أن يُقَدِّمَ عليه ذِكْرُ الثَّنَاءِ على الله تعالى، فَهَهُنَا يوسف عليه السلام لما أراد أن يَذْكُرَ الدُّعَاء قَدَّمَ عليه الثَّنَاء وهو قوله {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} ثم ذَكَرَ عَقِبَهُ الدُّعَاء وهو قوله {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَألْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} 0
(دعاء سيدنا زكريا عليه السلام:
{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً (2) إنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}
(آل عمران/38)
[*] قال القرطبي:
دَلَّتْ هذِهِ الآيَة على طَلَب الْوَلَد، وهي سُنَّة الْمُرْسَلِينَ وَالصِّدِّيقِينَ .. الْوَاجِب عَلَى الإنسان أنْ يَتَضَرَّع إلى خَالِقه في هِدَايَة وَلَده وَزَوْجه بِالتَّوْفِيقِ لَهُمَا وَالْهِدَايَة وَالصَّلاح وَالْعَفَاف وَالرِّعَايَة، وأنْ يَكُونَا مُعِينِينَ لَهُ عَلَى دِينه وَدُنْيَاهُ حَتَّى تَعْظُم مَنْفَعَته بِهِمَا فِي أولاهُ وَأخْرَاهُ 0
وعَنَّوَنَ الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الدَّعَوَاتِ فقال: باب الدُّعَاءِ بِكَثْرَةِ الوَلَدِ مع البَّرَكَةِ0
__________
(1) قال القرطبي في تفسيره: إن يوسف لم يَتَمَنَ الموت، وإنما تمنى الوفاة على الإسلام؛ أي إذا جاء أجلي توفني مسلما؛ وهذا قول الجمهور 0
(2) ذرية طيبة أي: نسلاُ صالحاً مباركاً 0(7/489)
(حديث أنَسٍ رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: قَالَتْ أمِّي يَارَسُولَ اللَّهِ خَادِمُكَ أنَسٌ ادْعُ اللَّهَ لَهُ قال: " اللَّهُمَّ أكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أعْطَيْتَهُ"0
{تنبيه}: (يجب الدُّعاء بالكثرة مع البَرَكَة، ذلك أن الكثرة دون بَرَكَةٍ لا فائدة منها0
(من دعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام:
{رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إنَّكَ أنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الممتحنة /5)
[*] عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
{لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أي: لاَ تُسَلِّطهُمْ عَلَيْنَا فَيَفْتِنُونَا (1)
{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ، رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} (إبراهيم/40، 41)
(دعاء محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه:
__________
(1) نقلا عن تفسير الطبري وابن كثير على الآية (5 ـ الممتحنة)(7/490)
قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1). وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ، بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (2). وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران /174،173]
(دعاء المؤمنين من قوم موسى عليه السلام:
{فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (يونس /85، 86)
(دعاء عِباَدُ الرحمن:
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (الفرقان/74)
ومعنى {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}: أي قُدْوَةً يُقْتَدَى بِنَا في 0 [الفرقان /74]
(دعاء أصحاب الكهف:
{إذْ أوَى الْفِتْيَةُ إلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أمْرِنَا رَشَدًا} (الكهف/10)
(دعاء المجاهدين في سبيل الله تعالى:
__________
(1) سورة الأنفال، الآيتان: 9، 10.
(2) سورة آل عمران، الآيات: 123 - 126.(7/491)
{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسْرَافَنَا فِي أمْرِنَا وَثَبِّتْ أقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (آل عمران/147)
[*] نقل الفخر الرازي في تفسيره عن القاضي عياض قال:
يَجْبُ تقديم التَّوْبَةِ والاِسْتِغْفَارِ على طَلَبِ النُّصْرَةِ، فَبَيَّنَ تعالى أنَّهم بَدَأو بالتَّوْبَةِ عن كل المعاصي، ثم سألوا ربَّهُمُ أن يُثَبِتَ أقدامهم، ثم سألوا بعد ذلك أن يَنْصُرَهُم على القوم الكافرين، ثم قال: وهذا تأديب من الله تعالى في كيفية الطَّلَبِ بالأدعية عند النَّوَائِبِ واَلْمِحَنِ سواء كان في الجهاد وغيره (1)
(الدعاء للمؤمنين بالمغفرة وللنفس بسلامة الصدر:
{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (الحشر/10)
(حديث عبادة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمنٍ حسنة.
ثانياً: الدعاء من السنة الصحيحة:
(أكثر دعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(حديث أنَسٍ رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: كان أكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ "0
[*] نقل المنَّاوي في فَيْضِ القَدِيرِ عن الطِيِبِي أنه قال:
إنَّمَا كان يُكْثُرْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هذا الدُّعَاء لأنه من الجَوَامِعِ التي تَحُوزُ جميع الخَيْرَاتِ الدُّنيوية والأخْرَوِيَةِ (2)
[*] ونقل ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى:
__________
(1) نقلا عن تفسير الرازي على الآية (آل عمران/147) بتصرف يسير 0
(2) أنظر فيض القدير حديث رقم: 6826 0(7/492)
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (البقرة /201) عن أبي طالوت (1) قال: كنت عند أنَس بْن مالك فقال لَهُ ثابت إنَّ إخْوَانك يُحِبُّونَ أنْ تَدْعُو لَهُمْ فَقَالَ: اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الآخِرَة حَسَنَة وَقِنَا عَذَاب النَّار، وَتَحَدَّثُوا سَاعَة حَتَّى إذَا أرَادُوا الْقِيَام قال أبَا حَمْزَة: إنَّ إخْوَانك يُرِيدُونَ الْقِيَام فَادْعُ اللَّه لَهُمْ، فقال: أتُرِيدُونَ أنْ أشْقُقَ لَكُمْ الأمُور إذَا آتَاكُمْ اللَّه فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الآخِرَة حَسَنَة وَوَقَاكُمْ عَذَاب النَّار فَقَدْ آتَاكُمْ الْخَيْر كُلّه (2)
(حديث شَهْرُ بن حَوْشَبٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قال: قُلْتُ لأمِّ سَلَمَةَ: يَا أمَّ الْمُؤْمِنِينَ مَا كَانَ أكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ عِنْدَكِ؟ قَالَتْ: كَانَ أكْثَرُ دُعَائِهِ " يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ " قالت: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أكْثَرَ دُعَاءَكَ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ؟ قال: " يَا أمَّ سَلَمَةَ إِنَّهُ لَيْسَ آدَمِيٌّ إِلاَّ وَقَلْبُهُ بَيْنَ أصْبُعَيْنِ مِنْ أصَابِعِ اللَّهِ فَمَنْ شَاءَ أقَامَ وَمَنْ شَاءَ أزَاغَ، فَتَلا مُعَاذٌ (3) {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إنَّكَ أنْتَ الْوَهَّابُ} (آل عمران/8)
(حديث أنَسٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أنْ يقول: " يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ "0
(دعاء القنوت في الوتر:
(حديث الحسن بن علي في صحيح السنن الأربعة) قال علمني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلمات أقولهن في الوتر {اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت}
(سؤال العمل النافع:
__________
(1) اسمه: عَبْد السَّلام بْن شَدَّاد 0
(2) انظر تفسير ابن كثير على الآية (201 ـ البقرة)، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري رقم: 5910 0(7/493)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي، وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي، وَزِدْنِي عِلْمًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَأعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ "
(الاستعاذة من المنكرات:
(حديث قطبة بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء " 0
(الاستعاذة من الأمراض والأسقام:
(حديث أنس في صحيح أبي داوود) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: اللهم إني أعوذ بك من البرص والجنون والجذام ومن سيئِ الأسقام.
(دعاء لإذهاب الهم:
(حديث ابن مسعود في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما أصاب عبداً همٌ ولا حزنٌ فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكلِ اسمٌ هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدٌ من خلقك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبي ونورَ بصري وجلاء حزني وذهاب همِّي إلا أذهب الله همَّه وأبدله مكانه فرجاً.
(دعوات المكروب:
(حديث أبي بكرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين و أصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت.
(حديث ابن عباس في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول عند الكرب لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كربه أمر قال يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث.(7/494)
[*] قال المناوي رحمه الله تعالى: في تأثير هذا الدعاء في دفع هذا الهم والغم مناسبة بديعة فإن صفة الحياة متضمنة لجميع صفات الكمال مستلزمة لها وصفة القيمومية متضمنة لجميع صفات الأفعال، ولهذا قيل إن اسمه الأعظم هو الحي القيوم والحياة التامة تضاد جميع الآلام والأجسام الجسمانية والروحانية، ولهذا لما كملت حياة أهل الجنة لم يلحقهم هم ولا غم ونقصان الحياة يضر بالأفعال وينافي القيمومية فكمال القيمومية بكمال الحياة فالحي المطلق التام الحياة لا يفوته صفة كمال البتة والقيوم لا يتعذر عليه فعل ممكن البتة فالتوصل بصفة الحياة والقيمومية له تأثير في إزالة ما يضاد الحياة وتغير الأفعال فاستبان أن لاسم الحي القيوم تأثيراً خاصاً في كشف الكرب وإجابة الرب. اهـ.
(نسألك الهدى والتقى:
(حديث ابن مسعود في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
(ادخر هذه الكلمات فهي خير لك من الذهب والفضة:
(حديث شداد بن أوس الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له:" يا شداد بن أوس إذا رأيت الناس قد اكتنزوا الذهب والفضة؛ فأكثر هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسْألُكَ الثَّباتَ في الأمْرِ، والعَزِيمَةَ على الرُّشْدِ، وأسْألُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وأسْألُكَ شُكْرِ نِعْمَتِكَ، وحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وأسْألُكَ قَلْبًا سَلِيمًا، ولِسَانًا صَادِقًا، وأسْألُكَ مِنْ خَيْرِ ما تَعْلَم، وأعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَم، وأسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَم؛ إنَّكَ أنْتَ عَلاَمُ الغُيُوبِ "
(سؤال المغفرة والبركة:
(حديث أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أنَّ رَجُلاً قَالَ يَارَسُولَ اللَّهِ سَمِعْتُ دُعَاءَكَ اللَّيْلَةَ فَكَانَ الَّذِي وَصَلَ إِلَيَّ مِنْهُ أنَّكَ تَقُولُ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، وَوَسِّعْ لِي فِي دَارِي، وَبَارِكْ لِي فِيمَا رَزَقْتَنِي " قال: " فَهَلْ تَرَاهُنَّ تَرَكْنَ شَيْئًا "0
ومعنى " فَهَلْ تَرَاهُنَّ تَرَكْنَ شَيْئًا " أي: من خَيْرَيِ الدُّنيا والآخِرَة0
(الاستعاذة من العجز والكسل:
(حديث أنس في الصحيحين) قال كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم و الحزن و العجز و الكسل و الجبن و البخل و ضلع الدين و غلبة الرجال.(7/495)
[*] قال في فتح الباري: الْفَرْق بَيْن الْعَجْز وَالْكَسَل أنَّ الْكَسَل تَرْك الشَّيْء مَعَ الْقُدْرَة عَلَى الأخْذ فِي عَمَله، وَالْعَجْز عَدَم الْقُدْرَة (1)
(الاستعاذة من سخط الله تعالى:
(حديث ابن عمر في صحيح مسلم) قال كان رسول الله يقول اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحوِّل عافيتك وفُجاءة نقمتك وجميع سخطك.
والفُجَاءَةُ: أي الْبَغْتَةُ0
(اجعل ثأرنا على من ظلمنا:
(حديث ابن عمر في صحيح الترمذي) قال قلما كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقوم من مجلسٍ حتى يدعو بهؤلاء الكلمات: اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا و بين معاصيك و من طاعتك ما تبلغنا به جنتك و من اليقين ما تُهوِّنُ به علينا مصيبات الدنيا و متعنا بأسماعنا و أبصارنا و قوتنا ما أحييتنا و اجعله الوارث منا و اجعل ثأرنا على من ظلمنا و انصرنا على من عادانا و لا تجعل مصيبتنا في ديننا و لا تجعل الدنيا أكبر همنا و لا مبلغ علمنا و لا تسلط علينا من لا يرحمنا.
(الاستعاذة من الجوع والخيانة:
(حديث أبي هريرة في صحيحي أبي د اود والنسائي) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع و أعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة.
(طلب المغفرة والرحمة والهداية والرزق:
(حديث عن أبي مَالِكٍ الأشْجَعِيُّ عن أبِيهِ الثابت في صحيح مسلم) قال كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ مَنْ أسْلَمَ يَقُولُ:" اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَارْزُقْنِي"0
(الجوامع من الدعاء:
(حديث عائشة في صحيح ابن ماجة) أن رسول الله علمها هذا الدعاء اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله و آجله ما علمت منه و ما لم أعلم و أعوذ بك من الشر كله عاجله و آجله ما علمت منه و ما لم أعلم اللهم إني أسألك من خير ما سألك به عبدك و نبيك و أعوذ بك من شر ما عاذ به عبدك و نبيك اللهم إني أسألك الجنة و ما قرب إليها من قول أو عمل و أعوذ بك من النار و ما قرب إليها من قول أو عمل و أسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيرا.
__________
(1) أنظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري، حديث رقم: 2611 0(7/496)
(حديث عمار ابن ياسر في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو بهذا الدعاء اللهم بعلمك الغيب و قدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي و توفني إذا علمت الوفاة خيرا لي، اللهم و أسألك خشيتك في الغيب و الشهادة و أسألك كلمة الحق في الرضا و الغضب و أسألك القصد في الفقر و الغنى و أسألك نعيما لا ينفد و قرة عين لا تنقطع و أسألك الرضا بالقضاء و أسألك برد العيش بعد الموت و أسألك لذة النظر إلى وجهك و الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة و لا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين.
(حديث أبي هريرة في صحيح أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني وزدني علماَ.
(الاستعاذة من الفقر والقِلَة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:" اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ الْفَقْرِ وَالْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْ أنْ أظْلِمَ أوْ أُظْلَمَ "0
قال العلماء: المقصود بالفقر أي فَقْرُ النَّفْسِ الذي يُقَابِلُ غِنَى النَّفْسِ وهو: القَنَاعَة، والقِلَةُ أي: في أبواب البِّرِّ وخِصَالِ الخَيْرِ 0
(الاستعاذة من التَّخَبُطِ عند الموت:
((حديث أبي اليسر رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود): أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يدعو اللهم إني أعوذ بك من الهدم وأعوذ بك من التردي وأعوذ بك من الغرق والحرق والهرم وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرا وأعوذ بك أن أموت لديغا.
" وَأعُوذُ بِكَ أنْ يَتَخَبَّطَنِي الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ " فَسَّرَهُ الْخَطَّابِيّ بِأنْ يُسْتَوْلَى عَلَيْهِ عِنْد مُفَارَقَة الدُّنيا فَيُضِلّهُ ويَحْولُ بَيْنه وَبَيْن التَّوْبَة أوْ يُعَوِّقهُ عن إصلاح شأنه والخروج من مَظْلِمَة تَكُون قَبْله أوْ يُؤَيِّسهُ من رَحْمَة اللَّه أوْ يُكَرِّه لَهُ الْمَوْت وَيُؤْسِفهُ على حَيَاة الدُّنيا فلا يَرْضَى بِمَا قَضَاهُ اللَّه عَلَيْهِ مِنْ الْفَنَاء وَالنَّقْلَة إِلَى دَار الآخِرَة فَيُخِْتَمُ لَهُ وَيَلْقَى اللَّه وَهُوَ سَاخِط عَلَيْهِ (1)
(الدُّعاءُ بِتَزْكِيَّةِ النَّفْسِ:
__________
(1) أنظر شرح سنن النسائي للسندي والسيوطي، حديث رقم: 5436(7/497)
(حديث زيد ابن أرقم في صحيح مسلم) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها.
(الدُّعَاءُ بِاَلْعَافِيَةِ:
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعمه: أكْثِرْ اَلْدُّعَاءَ بِاَلْعَافِيَةِ " 0
(حديث ابن عمر في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) قال لم يكن رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الله يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح { ... اللهم إني أسألك العفو و العافية الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي و أهلي و مالي، اللهم استر عوراتي و آمن روعاتي و احفظني من بين يدي و من خلفي و عن يميني و عن شمالي و من فوقي و أعوذ بك أن اغتال من تحتي.
(الاستعاذة من أربع مهلكات:
(حديث زيد ابن أرقم في صحيح مسلم) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها.
(الاستعاذة بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَمِلْتُ:
(حديث فَرْوَةَ بن نَوْفَلٍ الأشْجَعِيِّ الثابت في صحيح مسلم) قال سَألْتُ عَائِشَةَ عَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو بِهِ اللَّهَ، قالت كان يقول: " اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَمِلْتُ وَمِنْ شَرِّ مَا لَمْ أعْمَلْ "0
(سؤال ستر العورة وتأمين الروعة:
(حديث ابن عمر في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) قال لم يكن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح اللهم إني أسألك العفو و العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو و العافية في ديني و دنياي و أهلي و مالي، اللهم استر عورتي و آمن روعتي و احفظني من بين يدي و من خلفي و عن يميني و عن شمالي و من فوقي و أعوذ بك أن اغتال من تحتي.
(الاستعاذة من الضلال:(7/498)
(حديث ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: "اللَّهُمَّ لَكَ أسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِعِزَّتِكَ لا إِلَهَ إِلاَّ أنْتَ أنْ تُضِلَّنِي، أنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لا يَمُوتُ، وَالْجِنُّ وَالإنْسُ يَمُوتُونَ " 0
(اسم الله الأعظم:
(حديث أنس في صحيح السنن الأربعة) قال سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.
(حديث بريدة في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا يقول: اللهم إني أسألك أني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.
(اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي:
(حديث أبِي موسى الأشْعَرِيِّ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أمْرِي وَمَا أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي وَخَطَئِي وَعَمْدِي وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أخَّرْتُ وَمَا أسْرَرْتُ وَمَا أعْلَنْتُ وَمَا أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأنْتَ الْمُؤَخِّرُ وَأنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "0
(التعوذ من جهد البلاء:
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتعوذ من جَهْدِ البلاء ودَرَكِ الشقاءِ وسوءِ القضاءِ وشماتةِ الأعداء.
والجَهْد أي: الضَّيِقِ والمَشَّقَةِ،
ودَرَكِ الشَّقَاءِ أي: الوُقُوعُ في المَصَائِبِ والمُهْلِكَاتِ0
(الاستعاذة من جار السوء:(7/499)
(حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَارِ السَّوْءِ فِي دَارِ الْمُقَامِ فَإِنَّ جَارَ الْبَادِيَةِ يَتَحَوَّلُ عَنْكَ"0
(دعاء يُفرَّج همَّ الدَّيْن:
(حديث علي في صحيح الترمذي) «أنَّ مُكَاتَبًا (1) جَاءَهُ فقال: إِنِّي قَدْ عَجَزْتُ عَنْ كِتَابَتِي فَأعِنِّي، قال ألا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كان عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ صِيرٍ (2) دَيْنًا أدَّاهُ اللَّهُ عَنْكَ؟ قال: قُلْ: " اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِحَلالِكَ عن حَرَامِكَ وَأغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ " 0
[*] قال العلماء: طلب المُكَاتِبُ المَالَ، فَعَلَّمَهُ الدُّعَاء إمَّا لأنه لم يَكُنْ عنده من المَالِ لِيُعِينَهُ فَرَدَّه أحْسَنَ رَدٍّ عملا بقوله تعالى {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ} أو أرْشَدَهُ إلى أنَّ الأوْلَىَ والأصْلَحَ له أن يَسْتَعيِنَ بالله لأدَائِهَا ولا يَتَكِلَ على اَلْغَيْرِ (3)
(الاستعاذة من ضلع الدَّيْن وغلبة الرجال:
(حديث أنس في الصحيحين) قال كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم و الحزن و العجز و الكسل و الجبن و البخل و ضلع الدين و غلبة الرجال.
(استغاثة الزمها وأكثر منها:
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " ألِظُّوا بِيَا ذَا الْجَلالِ وَالإكْرَام "0
" أَلِظُّوا " أي: الزموا هذه الدعوة وأكثروا منها0
(اللهم احفطني بالإسلام:
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو: " اللهم احفظني بالإسلام قائماً، واحفظني بالإسلام قاعداً، واحفظني بالإسلام راقداً، ولا تُشَمِت بي عدواً حاسداً، اللهم إني أسألك مِنْ كُلِّ خَيْرٍ خَزَائِنُهُ بِيَدِكَ، وأعُوُذُ بِكَ مِنْ كُلِّ شَرِّ خَزَائِنُهُ بِيَدِكَ "
(سؤال صلاح الدين والدنيا:
__________
(1) المُكاتب هو العبد يُكاتب سيده أي يتفق معه على مبلغ من المال متى ما أداه إليه أصبح حرا 0
(2) صِيْر: اسم جبل لقبيلة طئ 0
(3) أنظر تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي حديث رقم: 3486 0(7/500)
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري و أصلح لي دنياي التي فيها معاشي و أصلح لي آخرتي التي فيها معادي و اجعل الحياة زيادة لي في كل خير و اجعل الموت راحة لي من كل شر.
(الدعاء عَلَى اَلْكَافِرِينَ وَاَلْمُنَافِقِينَ:
قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (البقرة/10)
[*] قال القرطبي في تفسيره على الآية الكريمة:
قوله تعالى {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} قيل: هو دُعَاء عليهم، ويكون معنى الكلام: زَادَهُمْ اللَّه شَكًّا وَنِفَاقًا جَزَاء على كُفْرهمْ وَضَعْفًا عَنْ الانْتِصَار وَعَجْزًا عَنْ الْقُدْرَة، وعلى هذا يكون فِي الآيَة دَلِيل على جَوَاز الدُّعَاء على الْمُنَافِقِينَ وَالطَّرْد لَهُمْ، لأنَّهُمْ شَرّ خَلْق اللَّه0أ0هـ0
[*] وكان معاذ بن الحارث الأنصاري إذا انتصف رمضان لَعَنَ الكَفَرَةَ (1)
[*] وقال الأعرج: ما أدْرَكْتُ النَّاسَ إِلاَّ وَهُمْ يَلْعَنُونَ الْكَفَرَةَ فِي رَمَضَانَ0 (رواه مالك في الموطأ)
[*] قال في المنتقى شرح الموطأ:
قوله: (ما أدْرَكْت النَّاسَ إِلاَّ وَهُمْ يَلْعَنُونَ الْكَفَرَةَ فِي رَمَضَانَ) يُرِيدُ بِالنَّاسِ الصَّحَابَةَ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أنَّهُمْ كَانُوا يَقْنُتُونَ فِي رَمَضَانَ بِلَعْنِ الْكَفَرَةِ، وَمَحَلُّ قُنُوتِهِمْ الْوِتْرُ 0
[*] وقال الحافظ ابْنُ عَبْدِ البَّرِّ في شرحه لحديث الأعرج:
فيه إبَاحَةُ لَعْنُ الكَفَرَةِ، كانت لهم ذِمَّةٌ أوْلَمْ تَكُنْ، وليس ذلك بِوَاجِبٍ، ولكنه مُبَاحٌ لِمَنْ فَعَلَهُ غَضًَبا لله في جَحْدِهِمُ الحَقَّ وعَدَاوَتِهِم لِلْدِّيِنِ وأهله (2)
وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} (المائدة /78)
[*] قال القرطبي في تفسيره على الآية الكريمة:
فيه مسألة واحدة وهي: جَوَاز لَعْن الْكَافِرِينَ 0
[*] وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
__________
(1) نقلا عن عون المعبود شرح سنن أبي داود، حديث رقم: 1217 0
(2) الاستذكار، ج2، ص 73 وما بعدها 0(7/501)
الدُّعَاءُ على جِنْسِ الظَّالِمِينَ الكُفَّار مَشْرُوعٌ مَأمُورٌ بِهِ، وشُرِعَ القُنُوتُ والدُّعَاءُ للمؤمنين، والدُّعَاءُ على الكَافِرِين (1)
[*] قال ابن العربي:
دَعَا نُوحٌ على الكافرين أجمعين، ودَعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على من تَحَزَّبَ على المؤمنين وألَّبَ عليهم، وكان هذا أصلا في الدُّعَاءِ على الكافرين في الجملة، فأمَّا كافر مُعَيَّنٌ لَمْ تُعْلَمُ خَاتِمَتُهُ فلا يُدْعَى عليه؛ لأنَّ مَآلُهُ عندنا مجهول، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسَّعادة، وإنما خَصَّ الَّنِبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالدُّعَاءِ عُتَّبَةٌ وشَيَّبَةٌ وأصْحَابِهِمَا (2) لِعِلْمِهِ بِمَآلِهِم وما كُشِفَ له من الغِطَاءِ عن حَالِهِم، والله أعلم (3)
(أفضل الدعاء الحمد لله:
(حديث جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " أفْضَلُ الذِّكْرِ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ "
[*] قال القرطبي في تفسيره:
يُستحب للداعي أن يقول في آخر دعائه كما قال أهل الجنَّة {وآخر دعواهم أن الحمد لله ربِّ العالمين} (يونس/ 10)
(الدعاء على الظالمين:
الظلم داء خطير وشرُّه مستطير، يعصف بالظالم قبل المظلوم، وينذر بالخراب المحتوم، ومن بشاعة الظلم أن الجبار -جل جلاله- حرّمه على نفسه كما في الحديث الآتي:
(حديث ابن عمر في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الظلم ظلماتٌ يوم القيامة.
__________
(1) نقلا عن فتوى لفضيلة الشيخ / د0 علي بن بخيت الزهراني، اطلع عليها عبر موقع: www.almokhtsar.com على الشبكة المعلوماتية 0
(2) يعني دعاؤه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم عليك بقريش ثلاث مرات، اللهم عليك بأبي جهل بن هشام وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وعقبة بن أبي مُعيط حتى عد سبعة من قريش " قال عبد الله ـ راوي الحديث ـ فوالذي أنزل عليه الكتاب لقد رأيتهم صرعى يوم بدر في قَلِيبٍ واحد 0 (رواه النسائي ـ أنظر صحيح سنن النسائي رقم: 296)
(3) أنظر أحكام القرآن لابن العربي، سورة نوح الآية رقم: 26 0(7/502)
(حديث أبي ذرٍ في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي و جعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل و النهار و أنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني و لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله و من وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه. فالظلم من كبائر الذنوب، ومن أشنع المحرمات وأبشعها، ما أحله دين من الأديان، ولم تقره شريعة من الشرائع، ولم يبحه عرف من الأعراف؛ لأن عاقبته وخيمة في الدنيا قبل الآخرة، فالظلم سبب لنزول النقم، وسلب النعم، ومدعاة للمحق والبغض من الرب جل جلاله.
ولخطورة هذا الشر المستطير، وشناعة آثاره، وبشاعة نتائجه، وخبث ثماره، لم يمهل الرب -جل وعلا- فاعله إلى الدار الآخرة ليذيقه الهوان العظيم، والعذاب الأليم، والنكال المبين، بل يعجل له العقوبة والعذاب في الدنيا، ويريه شر ما جنت يداه ليشفي صدور قوم مظلومين مقهورين، فوضوا الأمر إلى رب العالمين.
(حديث أنس في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا: البغي و العقوق.
فالظالم خاسر مغبون؛ لأن الله هو الذي يقتص منه، فمهما أوتي الظالم من قوة وجبروت، فهذا كله لا يمنعه من عقاب الله جل وعلا
قال تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنّ اللّهَ غَافِلاً عَمّا يَعْمَلُ الظّالِمُونَ إِنّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ)
[إبراهيم:42، 43](7/503)
وقد تواترت الأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة على تحريم الظلم والتحذير منه والنهي عنه، وبيان عواقبه الوخيمة، فمن ذلك ما يلي:
قال تعالى: (وَالظّالِمُونَ مَا لَهُمْ مّن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ) [الشورى: 8]
قال تعالى: (مَا لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ) [غافر: 18]
قال تعالى: (إِنّ الّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىَ ظُلْماً إِنّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) [النساء: 10]
(حديث ابن عمر في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الظلم ظلماتٌ يوم القيامة.
(حديث أبي ذرٍ في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي و جعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل و النهار و أنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني و لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله و من وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ و صيام و زكاة و يأتي وقد شتم هذا و قذف هذا و أكل مال هذا و سفك دم هذا و ضرب هذا فيُعطِى هذا من حسناته و هذا من حسناته فإن فنيت حسناتُه قبل أن يُقضَى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طُرح في النار.
(حديث ابن عمر في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أخذ من الأرض شيئا بغير حقه خُسِفَ به يوم القيامة إلى سبع أرضين.(7/504)
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله تعالى لَيملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه.
[*] (أضرار الظلم وعواقبه:
1 - الظلم ظلمات يوم القيامة:
(حديث ابن عمر في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الظلم ظلماتٌ يوم القيامة.
[*] قال القاضي عياض:
"قيل: ظاهره أنه ظلمات على صاحبه حتى لا يهتدي يوم القيامة سبيلاً حيث يسعى نور المؤمنين بين أيديهم وبأيمانهم. وقد تكون الظلمات هنا الشدائد، وقد تكون الظلمات ها هنا عبارة عن الاتكال بالعقوبات عليه، وقابل بهذه اللفظة قوله: ((الظلم)) لمجانسة الكلام"
[*] وقال ابن الجوزي:
"وإنما ينشأ الظلم عن ظلمة القلب، لو استنار بنور الهدى لاعتبر، فإذا سعى المتقون بنورهم الذي حصل لهم بسبب التقوى اكتنفت ظلمات الظلم الظالم حيث لا يغني عنه ظلمه شيئاً".
2 - الظلم سبب هلاك الأمم:
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ} [يونس:13].
[*] قال ابن سعدي:
"يخبر تعالى أنه أهلك الأمم الماضية بظلمهم وكفرهم، بعدما جاءتهم البينات على أيدي الرسل تبين الحق فلم ينقادوا لها ولم يؤمنوا، فأحل بهم عقابه الذي لا يرد عن كل مجرم متجرئ على محارم الله، وهذه سننه في جميع الأمم"
3 - قبول دعوة المظلوم على الظالم:
(حديث ابن عباس في الصحيحين) قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذٍ ابن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك(7/505)
فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتُردُ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاث دعوات مستجابات: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده.
[*] قال ابن عثيمين:
"فيه دليل على أن دعوة المظلوم مستجابة لقوله: ((فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)).
وفيه دليل على أنه يجب على الإنسان أن يتقي الظلم ويخاف من دعوة المظلوم، لأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بذلك"
4 - اللعن للظالمين:
قال تعالى: {أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18].
[*] قال ميمون بن مهران:
إن الرجل يقرأ القرآن وهو يلعن نفسه، قيل له: وكيف يلعن نفسه؟! قال: يقول: {أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} وهو ظالم
5 - إملاء الله للظالم حتى يأخذه:
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله تعالى لَيملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: {وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ} [هود:102]
[*] قال القرطبي رحمه الله:
"يملي: يطيل في مدّته، ويصحّ بدنه، ويكثر ماله وولده ليكثر ظلمُه، كما قال تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً} [آل عمران:128]، وهذا كما فعل الله بالظلمة من الأمم السالفة والقرون الخالية، حتى إذا عمّ ظلمهم وتكامل جرمهم أخذهم الله أخذة رابية، فلا ترى لهم من باقية، وذلك سنة الله في كلّ جبار عنيد"
6 - حال الظالمين في الآخرة:
قال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} [إبراهيم:42، 43].
[*] قال ابن كثير:(7/506)
"يقول الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ} يا محمد {غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} أي: لا تسحبنه إذا أنظرهم وأجّلهم أنه غافلٌ عنهم مهمِل لهم لا يعاقبهم على صنعهم، بل هو يحصِي ذلك عليهم ويعدّه عليهم عداً، {إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ} أي: من شدّة الأهوال يوم القيامة. ثم ذكر تعالى كيفية قيامهم من قبورهم وعجلتهم إلى قيام المحشر فقال: {مُهْطِعِينَ} أي: مسرعين، {مُقْنِعِى رُءوسِهِمْ} قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: رافعي رؤوسهم، {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} أي: أبصارهم ظاهرة شاخصة مديمون النظر لا يطرفون لحظة لكثرة ما هم فيه من الهول والفكرة والمخافة لما يحلّ بهم، عياذاً بالله العظيم من ذلك، ولهذا قال: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} أي: وقلوبهم خاوية خالية ليس فيها شيء لكثرة الوجل والخوف"
7 - حرمان الفلاح:
قال تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:21].
[*] قال ابن سعدي:
"فكلّ ظالم وإن تمتّع في الدنيا بما تمتّع به فنهايته فيه الاضمحلال والتلف"
8 - حرمان الهداية والتوفيق:
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50].
وطلب هداية التوفيق من الأدعية التي أوجبها الله علينا في أعظم مقام نقف فيه بين يدي الله عز وجل، وهو في الصلاة، حيث نقول في كل ركعة: {اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}. فالظلم ـ أعاذنا الله منه ـ يكون سبباً لحرمان هداية التوفيق، وهذا يستلزم البعد عن مقامات الظلم حتى يستجيب الله دعاءنا في صلاتنا
9 - حرمان حبّ الله تعالى:
قال تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى:40].
[*] قال ابن سعدي:
"أي: الذين يجنون على غيرهم ابتداء، أو يقابلون الجاني بأكثر من جنايته، فالزيادة ظلم"
10 - حلول المصائب في الدنيا والعذاب في القبر:
قال تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الطور:47].
[*] قال ابن سعدي:(7/507)
"لما ذكر الله عذاب الظالمين في القيامة أخبر أن لهم عذاباً دون عذاب يوم القيامة، وذلك شامل لعذاب الدنيا بالقتل والسبي والإخراج من الديار، ولعذاب البرزخ والقبر"
11 - العذاب الأليم:
قال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى:42].
[*] قال ابن سعدي:
"أي: إنما تتوجه الحجة بالعقوبة الشرعية {عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ}، وهذا شامل للظلم والبغي على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: موجع للقلوب والأبدان، بحسب ظلمهم وبغيهم"
12 - خذلان الظالم عند الله تعالى:
قال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18].
[*] قال ابن عثيمين:
"أي: أنه يوم القيامة لا يجد الظالم حميماً، أي: صديقاً ينجيه من عذاب الله، ولا يجد شفيعاً يشفع له فيطاع، لأنه منبوذ بظلمه وغشمه وعدوانه"
وقال تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [البقرة:270].
[*] قال ابن عثيمين:
"يعني: لا يجدون أنصاراً ينصرونهم ويخرجونهم من عذاب الله سبحانه"
مسألة: هل دعاء المظلوم على الظالم مكروها؟
الجواب: دُعاء المظلوم على مَن ظَلَمه ليس مكروها، إلا أن يتعدّى المظلوم في دُعائه، كأن يدعو بأكثر مما ظُلِم، أو أن يَدعو بإثم أو بِقطيعة رَحِم.
وقد أذِن الله للمظلوم أن يدعو على مَن ظَلَمَه.
قال تعالى: (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ ([النساء /148]
[*] قال ابن عباس في الآية:
يقول: لا يُحِبّ الله أن يَدعو أحَد على أحَد إلاَّ أن يكون مَظلوما، فإنه قد أرْخص له أن يَدعو على مَن ظَلَمه، وذلك قوله: (إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ)، وإن صَبَر فَهو خَيْر له.
وقال أيضا: لا بأس لمن ظُلم أن ينتصر ممن ظَلمه بمثل ظُلْمِه.
وقال تعالى: (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) [الشورى /41](7/508)
ثم قال تبارك وتعالى بعد ذلك: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ).
[*] قال الحسن البصري:
دعاؤه عليه أن يقول: اللهم أعِنِّي عليه، اللهم اسْتَخْرِج حَقّي منه.
وقيل: إن شُتِم جاز أن يَشْتِم بمثله لا يَزيد عليه. نَقَله البغوي.
[*] وقال ابن كثير في قوله تعالى:
(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) ما نصه:
أي: ليس عليهم جناح في الانتصار ممن ظَلَمهم. اهـ.
فيجوز للمظلوم أن يَدعو على مَن ظَلَمه بِقَدْر مَظْلَمَتِه، وإن صَبر فهو أفضل له، لأن أجْر ذلك يُدَّخَر له يوم القيامة. وأفضل مِنه أن يصبر ويَغفر، فيَعظُم أجره.
والله تعالى أعلم.
فينبغي للمظلوم أن يفوض أمره إلى الله ويقول: "وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد"، ويكثر من قوله: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، وعليه أن يكثر من الدعاء على من ظلمه ويبشر بالخير؛ فقد أخذ الجبار -جل جلاله- بإجابة دعوة المظلوم؛ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" متفق عليه.
على المظلوم أن يستعين على الظالم بسهام الليل، فما هي سهام الليل؟ إنها الدعاء .. وقف أحد الرعية أمام أحد الطغاة، وقد أوقع عليه ظلماً شديداً، فقال الرجل للطاغية لاستعين عليك بسهام الليل! قال الطاغية: ما سهام الليل؟ قال الرجل: الدعاء.
فيا أيها المظلوم أبشر بنصر الله لك في الدنيا قبل الآخرة.
إن المتأمل في أحوال الناس اليوم يجد الكثير من الناس لا يتوقّى الظُّلم ولا دعوة المظلوم
ويتناسى أن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب.
وأن الله يرفعها فوق الغمام، ويقول: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين
فـ لله كم هلك بسببها من هالك
وكم شقي بسببها من سعيد
وكم افتقر بسببها من غني
وكم زال بسببها من مُلك
(إنها دعوات المظلومين، فدعوة المظلوم قد تصيبك في نفسك، دعوة المظلوم قد تصيبك في مالك، دعوة المظلوم قد تصيبك في ولدك، دعوة المظلوم تقلب صحتك سقمًا, دعوة المظلوم تقلب سعادتك شقاء، دعوة المظلوم تجعلك بعد العز والغنى ذليلاً حقيرًا فقيرًا.
(قيل لما حبس خالد بن برمك و ولده قال:
يا أبتي بعد العز صرنا في القيد و الحبس فقال: يا بني دعوة المظلوم سرت بليل غفلنا عنها و لم يغفل الله عنها و كان يزيد بن حكيم يقول: ما هبت أحدا قط هيبتي رجلا ظلمته و أنا أعلم أن لا ناصر له إلا الله يقول لي: حسبي الله: الله بيني و بينك.(7/509)
ولله درُّ من قال:
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا ... فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبهٌ ... يدعو عليك وعين الله لم تنم
و حبس الرشيد أبا العتاهية الشاعر فكتب إليه من السجن هذين البيتين شعرا:
أما و الله إن الظلم شؤم ... و ما زال المسيء هو المظلوم
ستعلم يا ظلوم إذا التقينا ... غدا عند المليك من الملوم
ولله درُّ من قال:
توق دعا المظلوم إن دعاءه ... ليرفع فوق السحب ثم يجاب
توق دعا من ليس بين دعائه ... و بين إله العالمين حجاب
و لا تحسبن الله مطرحا له ... و لا أنه يخفى عليه خطاب
فقد صحَّ أن الله قال و عزتي ... لأنصر المظلوم و هو مثاب
فمن لك يصدق ذا الحديث فإنه ... جهول و إلا عقله فمصاب
دخل طاوس اليماني على هشام بن عبد الملك فقال له: اتق الله يوم الأذان قال هشام: وما يوم الأذان؟ قال: قال الله تعالى: {فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين} فصعق هشام فقال طاوس: هذا ذا الصفة فكيف بذل المعاينة؟ يا راضيا باسم الظالم كم عليك من المظالم؟ السجن جهنم و الحق الحاكم!
أخي هل تعتقد أن الإنسان المظلوم يعيش مثل الإنسان الطبيعي؟
هل يحس بما نحس به نحن الآن؟ هل تعتقد بأن حياته طبيعية وشعوره عادي؟ إذا كنت تعتقد ذلك فأعد النظر يا صديقي!
الإنسان المظلوم لا يعيش حياته كغيره من البشر .. لا يعيش ولا يحس كالأشخاص الطبيعيين .. لا يحس بطعم الشراب ولا الطعام! لا يستطيع أن يستمتع بحياته! بل لا يستطيع حتى أن يبتسم مثلي ومثلك!!! الإنسان المظلوم يصاب بالإكتئاب .. الإنسان المظلوم باختصار يحس بأن هنالك صخرة بحجم الكرة الأرضية .. بل بحجم العالم كله .. تجثم على صدره!
وعندما يحاصَر المظلوم من كل جهة، ويضيّق عليه الخناق، فلا يستطيع الانتصار لنفسه ممن ظلمه، ولا يقدر على التخلص من الظلم الصارخ الذي أحاط به من كل جانب، يرفع يديه إلى السماء، فتَفتح له السماء أبوابها، وتأتيه منافذ الفرج، ويتنزل عليه المدد، إنه مدد السماء، من رب الأرباب، وخالق الأسباب، مهلك الجبابرة، وقاصم القياصرة، الذي أهلك عاداً الأولى، وثمود فما أبقى، وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى.
إن رحمة الله - تبارك وتعالى - تتجلى في هذا السلاح الفتاك الذي منحه الله للمظلومين، بل إن الظلمة مهما بلغوا من الطغيان أفراداً كانوا أو دولاً، قد يسقطون بسبب الدعاء.
(ولهذا دعا نوح _ عليه السلام _ على قومه عندما استضعفوه، وكذَّبوه، وردُّا دعوته.(7/510)
(وكذلك موسى _ عليه السلام _ دعا على فرعون عندما طغى، وتجبر، وتسلط، ورفض الهدى ودين الحق؛ فاستجاب الله لهما، وحاق بالظالمين الخزي في الدنيا، وسوء العذاب في العقبى.
وكذلك الحال بالنسبة لكل من ظُلِم، واستُضْعِف؛ فإنه إن لجأ إلى ربه، وفزع إليه بالدعاء _ أجابه الله، وانتصر له وإن كان فاجرًا.
ولله درُّ من قال:
أما والله إن الظلم شؤم ... ومازال المسيء هو الظلوم
إلى ديّان يوم الدين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم
هل يظن الظالم بأن الله غافل عنه، لا يعلم عنه، لا يقدر عليه؟ إن الله يمهل الظالم لكن لا يهمله، يصبر - عز وجل- على الظلمة ولكن إذا أخذهم لم يفلتهم. قال الله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}
[سورة النحل/ 61]
فيا أيها الظالم: اتق دعوة المظلوم، لا تعرض نفسك لدعائه؛ لأن دعوة المظلوم مستجابة. اتق دعوة المظلوم فإنها تُحمل على الغمام ويقول الله تعالى: ((وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين)). اتق دعوة المظلوم وإن كان كافراً، فإنه ليس دونها حجاب، فكيف بالمظلوم إن كان مسلماً، كيف بالمظلوم إن كان صالحاً تقياً.
والسنة الصحيحة طافحةٌ بما يدل على شناعة الظلم وأن الله تعالى يستجيب دعوة المظلوم وإن كان فاجرا، وهاك غيضٌ من فيض مما ورد في هذا:
(حديث ا بن عباس في الصحيحين) قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذٍ ابن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتُردُ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائمَ أموالهم، واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب.
(حديث خزيمة بن ثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اتقوا دعوة المظلوم فإنها تُحْمَلُ على الغمام يقول الله: و عزتي و جلالي لأنصرنك و لو بعد حين.
(حديث ابن عمر في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة.(7/511)
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوة المظلوم مستجابة و إن كان فاجرا ففجوره على نفسه.
(ولذا وجب علينا تذكير الظالم برد المظالم
احذر أن تأتي يوم القيامة مفلساً
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ و صيام و زكاة و يأتي وقد شتم هذا و قذف هذا و أكل مال هذا و سفك دم هذا و ضرب هذا فيُعطِى هذا من حسناته و هذا من حسناته فإن فنيت حسناتُه قبل أن يُقضَى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طُرح في النار.
فاحذر يا مسكين من نار تلظى لا يصلاها إلا الأشقى.
فما هو الحل إذاً؟
الحل هو الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه.
{تنبيه}: (واعلموا بأن الله تعالى لا يرد دعوة المظلوم ولو كانت من كافر، لا تقولوا بأن هذا كافر لا حرمة له، نعم. لا حرمة له؛ لأنه كافر نجس، ولكن لا تظلمه، ولا تأكل عليه حقه، ولا تأخذ منه حقه، أعطه حقه كاملاً موفوراً غير منقوص ولا تظلمه، فلو دعا عليك وهو كافر لاستجاب الله دعوته، وكفره على نفسه، وفجوره على نفسه، أما دعوة المظلوم فيرفعها الله فوق الغمام، ويقول لها: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) وكانت وصية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذ وهو ذاهب إلى اليمن: (واتق دعوة المظلوم -وكم من الناس لا يهتم بها، ولا يأبه لها- فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
اعلم بأن الله يمهلك ولا ينساك ولا يغفل عنك، فإن كنت ظالماً لأحد من عباد الله ولأحد من خلق الله كافراً كان أو مسلماً، فرد إليه المظلمة قبل أن يأتي يوم لا درهم فيه ولا دينار، ولا مناصب ولا كراسي ولا وزارات، ويؤخذ من حسناتك -يا عبد الله- فتعطى لمن ظلمت، حتى إذا ما فنيت حسناتك أُخذ من سيئات من ظلمتهم في الدنيا فطرحت عليك، فطرح صاحب المظالم على وجهه في النار، وهذا هو المفلس، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!(7/512)
[*] قال الإمام الشافعي وما أجمل ما قال:
وربَّ ظلومٍ قد كفيت بحربه ... فأوقعه المقدور أيَّ وقوعِ
فما كان لي الإسلامُ إلا تعبدًا ... وأدعيةً لا تُتَّقى بدروع
وحسبك أن ينجو الظلومُ وخلفه ... سهامُ دعاءٍ من قِسيِّ ركوع
مُرَيَّشة بالهدب من كل ساهرٍ ... منهلة أطرافها بدموع (1)
وقال:
أتهزأ بالدعاء وتزدريه ... وما تدري بما صنع الدعاءُ
سهام الليل لا تخطي ولكن ... له أمدٌ وللأمد انقضاءُ (2)
(وإذا تقطعت بك -أيها المظلوم- الأسباب، وأُغلقت في وجهك الأبواب، فاقرع أبواب السماء، وُبثَّ إلى الجبار اللأواء، فهو مفزع المظلومين، وملجأ المستضعفين، وَعَدَ بنصرة الملهوف، وإجابة المظلوم، ظَلَم رجل سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- فقال سعد: (اللهم أعم بصره، وأطل عمره، عرضه للفتن)،
(قال الراوي: فأنا رأيته بعد قد عمي بصره، وقد سقط حاجبه على عينيه من الكبر، ويقول: كبير مفتون أصابته دعوة سعد.
(فيا ويل من وجهت له سهام المظلومين، ورفعت عليه أيدي المستضعفين، فاصبر -أيها المصاب- على ما قدر، فالنصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، واليسر مع العسر، والبلاء المحض هو ما يشغلك عن ربك، وأما ما يقيمك بين يديه ففيه كمالك وعزك، وإذا أقبل اليسر، وحل الفرج، وزالت الغموم، وما أقربَ الأمر، فاحمد الله على ما كشف، ففي الحمد شكر وزيادة نِعَم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر:60].
(والشواهد على إجابة دعوة المظلوم لا تكاد تحصر، ومنها ما جاء في قصة سعد بن أبي وقاص مع أهل الكوفة لما شكوه إلى عمر بن الخطاب.
قال أبو عوانة، وجماعة: حدثنا عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال:=شكا أهل الكوفة سعدًا إلى عمر فقالوا: إنه لا يحسن أن يصلي، فقال سعد: أما أنا فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله، صلاتي العشيِّ لا أخرم منها، أركد في الأوليين، وأحذف في الأخريين.
فقال عمر: ذلك الظن بك يا أبا إسحاق.
فبعث رجلاً يسألون عنه بالكوفة، فكانوا لا يأتون مسجدًا من مساجد الكوفة إلا قالوا خيرًا، حتى أتوا على مسجد لبني عبسٍ، فقال رجل يقال له أبو سعد: أما إذا نشدتمونا بالله فإنه كان لا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية، ولا يسير بالسرية.
__________
(1) ديوان الشافعي، تحقيق: د. محمد عبد المنعم خفاجي، ص109.
(2) ديوان الشافعي، ص75.(7/513)
(فقال سعد: اللهم إن كان كاذبًا فأعم بصره، وأطل عمره، وعَرِّضْهُ للفتن.
قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد يتعرض للإماء في السكك، فإذا قيل له: كيف أنت؟ قال: كبير مفتون أصابتني دعوة سعد. (1)
(وعن سعد أيضاً: أن رجلاً قام يسب علياً رضي الله عنه، فدافع سعد عن علي، واستمر الرجل في السب والشتم، فقال سعد: اللهم اكفنيه بما شئت.
فانطلق بعيرٌ من الكوفة فأقبل مسرعاً، لا يلوي على شيء، وأخذ يدخل من بين الناس حتى وصل إلى الرجل، ثم داسه بخفيه، حتى قتله أمام مشهد ومرأى من الناس.
[*] وقال الذهبي:
يقال إن رجلاً وشى على بسر بن سعيد عند الوليد بن عبد الملك بأنه يعيبكم.
قال: فأحضره وسأله، فقال: لم أَقُلْهُ؛ اللهم إن كنتُ صادقًا فأرني به آية، فاضطرب الرجل فمات. (2)
{تنبيه}: (ومِن حق من يدعو على الآخرين أن يذكر أولاً سبب الدعاء عليهم لئلا يتوهم السامع أن الدعاء دون سبب ولا ذنب، ولهذا قدّم موسى عليه السلام السبب والجناية التي استحق فرعون وقومه والملأ منهم دعوة نبيّهم بالهلاك "
قال تعالى: (وَقَالَ مُوسَىَ رَبّنَآ إِنّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا رَبّنَا لِيُضِلّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبّنَا اطْمِسْ عَلَىَ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتّىَ يَرَوُاْ الْعَذَابَ الألِيمَ) [سورة: يونس - الأية: 88] قال تعالى: (وَقَالَ مُوسَىَ رَبّنَآ إِنّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا رَبّنَا لِيُضِلّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبّنَا اطْمِسْ عَلَىَ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتّىَ يَرَوُاْ الْعَذَابَ الألِيمَ) [يونس / 88] "
(الدعاء بلفظ إن كان:
أحياناً يتهم الإنسان شخصاً بأنه أساء إليه، فهل له أن يدعو الله عز وجل على هذا المتّهم أو يقيّد الدعاء فيقول اللهم إن كان فلان ظلمنى أو أساء إلى فى كذا ويذكر دعوته؟
[*] (يجيب عن التساؤل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى قائلا:
__________
(1) رواه أحمد 1/ 175_180، والبخاري (755)، في الأذان، باب وجوب قراءة الإمام والمأموم في الصلوات كلها، ومسلم (453) في الصلاة، باب القراءة في الظهر والعصر، والنسائي 2/ 217 باب الركود في الأوليين.
(2) سير أعلام النبلاء للذهبي 4/ 595.(7/514)
المظلوم له أن يدعو الله عز وجل على ظالمه بقدر ظلمه ودليل ذلك قول النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اتقي دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» أحياناً لا يتمكن المظلوم من الرد على ظالمه ومصارحته إما لأنه قريب له أو صديق أو زعيمٌ لا يمكن أن نتكلم معه فى هذا .. فحينئذٍ لا ملجأ له إلا الدعاء لكن أحياناً يتهم الإنسان شخصاً بأنه أساء إليه، فهل له أن يدعو الله عز وجل على هذا المتّهم أو يقيّد الدعاء فيقول اللهم إن كان فلان ظلمنى أو أساء إلى فى كذا ويذكر دعوته؟ الثانى أو الأول؟ الثانى .. يعني أحياناً يتهم القريب مثلاً بأنه أصاب شخصاً بعين أو أصاب شخصاً بسره لكن ما يستطيع الإنسان أن يتكلم لأنه ما عنده بينة ولا عنده دليل إلا أن القرائن القوية تدل على أن هذا أساء فهنا رب العالمين يعلم سبحانه وتعالى قل اللهم إن كان فلان هو الذى أصابني وتدعو (بما ترى أنك ستدعوه)
{تنبيه}: (وهذا المسلك سلكه من أصحاب النبي سعد ابن أبي وقاص وسعيد ابن زيد وكلاهما مبشرٌ بالجنة:
(قصة سعد ابن أبي وقاص):
أرسل عمر إلى الكوفة من يسأل عن سعد فكَانَ النَّاس يثنون عَلَيْهِ خيرًا حتى سئل عَنْهُ رجل من بني عبس.
فَقَالَ: أما إذا أنشدتمونا عن سعد فإنه كَانَ لا يخَرَجَ في السرية ولا يعدل بالرعية ولا يقسم بالسوية.
فَقَالَ سعد: اللَّهُمَّ إن كَانَ كاذبًا قام رياءً وسمعةً فاطل فأطل عمره وعظم فقره وعرضه للفتن.
فكَانَ يُرى وَهُوَ شيخ كبير قَدْ تدلى حاجباه من الكبر يتعرض للجواري يغمزهن في الطرقات وَيَقُولُ: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد.
(قصة سعيد بن زيد):
(وخاصمت أروى بنت أويس سعيد بن زيد رضي الله عنه عند مروان ابن الحكم أمير المدينة وادَّعت عليه أنه أخذ من أرضها، فقال: أنا كنت آخذ من أرضها شيئاً بعد الذي سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: وما سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "من أخذ شبراً من الأرض بغير حقه طُوِّقه إلى سبع أرضين"
ثم قال: اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها، واجعل قبرها في دارها، قال: فرأيتها عمياء تتلمس الجدر تقول: أصابتني دعوة سعيد بن زيد، فبينما هي تمشي في الدار مرت على بئر في الدار فوقعت فيها فكانت قبرها (1).
(وممن سلك هذا المسلك أبو موسى الخولاني رحمه الله وكان مُجاب الدعوة:
(قصة أبو مسلم الخولاني)
__________
(1) مسلم برقم 1610، 2/ 1230.(7/515)
كان أبو مسلم الخولاني إذا انصرف من المسجد إلى منزله كبَّر على باب منزله فتكبر امرأته، فإذا كان في صحن داره كبَّر فتجيبه امرأته فإذا بلغ باب بيته كبَّر فتجيبه امرأته فانصرف ذات ليلة فكبَّر عند باب داره فلم يجبه أحد فلما كان في الصحن كبَّر فلم يجبه أحد فلما كان في باب بيته كبَّر فلم يجبه أحد وكان إذا دخل بيته أخذت امرأته رداءه ونعليه ثم أتته بطعامه.
قال فدخل فإذا البيت ليس فيه سراج وإذا امرأته جالسة في البيت منكسة تنكت بعود معها.
فقال لها: مَالَك؟
فقالت: أنت لك منزلة من معاوية وليس لنا خادم فلو سألته فأخدمنا وأعطاك فقال: اللهم من أفسد علي امرأتي فاعم بصره.
قال وقد جاءتها امرأة قبل ذلك فقالت زوجك له منزلة من معاوية فلو قلت له يسأل معاوية يخدمه ويعطيه عشتم
قال: فبينا تلك المرأة جالسة في بيتها إذ أنكرت بصرها فقالت ما لسراجكم طفئ قالوا لا فعرفت ذنبها فأقبلت إلى أبي مسلم تبكي تسأله أن يدعو الله عز و جل لها يرد عليها بصرها.
قال: فرحمها أبو مسلم فدعا الله عز و جل لها فرد عليها بصرها
(ومن ذلك قصة الثلاثة الذين ابتلاهم الله في بني إسرائيل:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن ثلاثة في بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمى، بدا لله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكا، فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، قد قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب عنه، فأعطي لونا حسنا، وجلدا حسنا، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: الإبل - أو قال البقر، هو شك في ذلك: أن الأبرص والأقرع: قال أحدهما الإبل، وقال الأخر البقر - فأعطي ناقة عشراء، فقال: يبارك لك فيها. وأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن، ويذهب عني هذا، قد قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب، وأعطي شعرا حسنا، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر، قال: فأعطاه بقرة حاملا، وقال يبارك لك فيها. وأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: يرد الله إلي بصري، فأبصر به الناس، قال: فمسحه فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطاه شاة والدا، فأنتج هذان وولد هذا، فكان لهذا واد من إبل، ولهذا واد من بقر، ولهذا واد من غنم، ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين، تقطعت(7/516)
بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال، بعيرا أتبلغ عليه في سفري. فقال له: إن الحقوق كثيرة، فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرا فأعطاك الله؟ فقال: لقد ورثت لكابر عن كابر، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت. وأتى الأقرع في صورته وهيئته، فقال له مثل ما قال لهذا، فرد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذبا صيرك الله إلى ما كنت. وأتى الأعمى في صورته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل، وتقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى فرد الله بصري، وفقيرا فقد أغناني، فخذ ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخدته لله، فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك).
(أهم ما يسأل العبد ربه:
العبد يسأل ربه كل شيء يحتاجه في أمر دينه ودنياه، لأن الخزائن كلها بيده سبحانه وتعالى، قال سبحانه: {وإنْ من شيءٍ إلا عندَنا خزآئِنُهُ وما نُنَزِّلهُ إلا بقدَرٍ مَّعلومٍ} [الحجر /21]
وهو سبحانه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ”اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ“ (1). أي لا ينفع ذا الغنى منك غناه وإنما ينفعه الإيمان والطاعة (2).
والله تعالى يحب أن يسأله العباد جميع مصالح دينهم ودنياهم، من المطاعم والمشارب، كما يسألونه الهداية، والمغفرة، والعفو والعافية (3) في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: {وسئَلُواْ اللهَ من فضلِهِ إنَّ اللهَ كانَ بكلِّ شيءٍ عليماً}
[النساء /32]
ولكن العبد يهتم اهتماماً عظيماً بالأمور المهمة العظيمة التي فيها السعادة الحقيقية ومن أهم ذلك ما يأتي:
(1) سؤال الله الهداية:
لقوله تعالى: {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا}
[الكهف /17]
__________
(1) أخرجه مسلم 1/ 415.
(2) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 1/ 244.
(3) انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب 2/ 38 - 40.(7/517)
والهداية نوعان: هداية مجملة، وهي الهداية للإيمان والإسلام وهي حاصلة للمؤمن، وهداية مفصلة، وهي هدايته إلى معرفة تفاصيل أجزاء الإيمان والإسلام، وإعانته على فعل ذلك، وهذا يحتاج إليه كل مؤمن ليلاً ونهاراً، ولهذا أمر الله عباده أن يقرأوا في كل ركعة من صلاتهم قوله تعالى: {إيَّاكَ نعبُدُ وإيَّاكَ نستَعينُ} [الفاتحة /6]
(حديث ابن مسعود في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
(حديث علي في صحيح مسلم) قال، قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللهم إني أسألك الهدى والسداد.
وعلم الحسن بن علي رضي الله عنهما أن يقول في قنوت الوتر: ”اللهم اهدني فيمن هديت“
(حديث الحسن بن علي الثابت في صحيح السنن الأربعة) قال علمني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلمات أقولهن في الوتر {اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت}
(2) سؤال الله مغفرة الذنوب:
لأن من أهم ما يسأل العبد ربه مغفرة ذنوبه أو ما يستلزم ذلك كالنجاة من النار ودخول الجنة (1).
والعبد محتاج إلى الاستغفار من الذنوب، وطلب مغفرة ذنوبه من الله تعالى، لأنه يخطئ بالليل والنهار، والله يغفر الذنوب جميعاً.
والكتاب والسنة الصحيحة طافحان بما يشحذ الهمم العالية إلى أن تنهل من كنوز الاستغفار بقدر ما تستطيع.
قال تعالى: (وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ) [المزمل / 20]
وتارةٌ يمدح أهله كقوله تعالى (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ) [سورة: آل عمران - الآية: 17]
وتارة يذكر الله تعالى أنه يغفر لمن يستغفره كقوله تعالى: (وَمَن يَعْمَلْ سُوَءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رّحِيماً) [سورة: النساء - الآية: 110]
وقال: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه /82]
(حديث الأغرِّ المُزني في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يا أيها الناس! توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة.
__________
(1) جامع العلوم والحكم 2/ 41، 404.(7/518)
(حديث عبد الله بن بُسر في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال طوبى لمن وُجد في صحيفته استغفارا كثيرا.
(حديث أنس في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى: يا ابنَ آدَمَ إِنّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى ما كانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِي. يا ابنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَت ذُنُوبُكَ عَنَانَ السّمَاءِ ثُمّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِي. يا ابنَ آدَمَ إنّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرْضِ خَطَايَا ثُمّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بي شَيْئاً لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً».
(حديث أبي سعيد في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن إبليس لعنه الله قال وعزتك وجلالك لا أبرح أُغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم، فقال الله عز وجل: وعزتي وجلالي لا ابرح أغفر لهم ما استغفروني.
(حديث شداد بن أوس في صحيح البخاري) سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني و أنا عبدك و أنا على عهدك و وعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي و أبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت من قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة و من قالها من الليل و هو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة.
(حديث زيد بن حارثة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له وإن كان فر من الزحف.
(وكثيراً ما يُقْرَنُ الاستغفار بذكر التوبة فيكون الاستغفار حينئذ عبارة عن طلب المغفرة باللسان، والتوبة عبارة عن الإقلاع عن الذنوب بالقلوب والجوارح، وقد وعد الله في سورة آل عمران (1) بالمغفرة لمن استغفر من ذنوبه ولم يصر على ما فعله فتحمل النصوص المطلقة في الاستغفار كلها على هذا المقيد، وأما استغفار اللسان مع إصرار القلب على الذنب فهو دعاء مجرد إن شاء الله أجابه وإن شاء رده، وقد يكون الإصرار مانعاً من الإجابة (2)،
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 135.
(2) جامع العلوم والحكم 2/ 407 - 411.(7/519)
(حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الثابت في صحيح الأدب المفرد) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ارحموا تُرحموا، واغفروا يغفر الله لكم، ويل لأقماع القول (1) ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون.
(وإن قال أستغفر الله وأتوب إليه فله حالتان:
الحالة الأولى: أن يقول ذلك وهو مصر بقلبه على المعصية فهذا كاذب في قوله: وأتوب إليه، لأنه غير تائب، فهو يخبر عن نفسه بأنه تائب وهو غير تائب.
والثانية: أن يكون مقلعاً عن المعصية بقلبه، ويسأله توبة نصوحاً ويعاهد ربه على أن لا يعود إلى المعصية، فإن العزم على ذلك واجب عليه فقوله ”وأتوب إليه“ يخبر بما عزم عليه في الحال (2).
(3) سؤال الله الجنة والاستعاذة به من النار:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجلٍ: ”ما تقول في الصلاة“؟ قال: أتشهد ثم أسأل الله الجنة، وأعوذ به من النار. أما والله ما أحسن دندنتك، ولا دندنة مُعاذ. فقال: ”حولها ندندنُ.
يعني حول سؤال الجنة والنجاة من النار.
(حديث أ أنس بن مالك بي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من سأل الله الجنة ثلاث مرات قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، ومن استجار من النار ثلاث مرات قالت النار: اللهم أجره من النار.
(4) سؤال الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة:
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعمه: أكْثِرْ اَلْدُّعَاءَ بِاَلْعَافِيَةِ " 0
(حديث ابن عمر في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) قال لم يكن رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الله يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح { ... اللهم إني أسألك العفو و العافية الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي و أهلي و مالي، اللهم استر عوراتي و آمن روعاتي و احفظني من بين يدي و من خلفي و عن يميني و عن شمالي و من فوقي و أعوذ بك أن اغتال من تحتي.
__________
(1) جمع: قمع كضلع وهو الإناء الذي يترك في رؤوس الظروف لتملأ بالمائعات من الأشربة والأدهان شبه أسماع اللذين يستمعون القول ولا يعونه ولا يحفظونه ولا يعملون كالأقماع التي لا تعي شيئاً مما يفرغ فيها فكأنه يمر عليها مجازاً كما يمر الشراب في الأقماع اجتيازاً.
(2) انظر: جامع العلوم والحكم 2/ 410 - 412.(7/520)
(5) سؤال الله تعالى الثبات على دينه:
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اللهم مُصَرِّفَ القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك.
(حديث أنَسٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أنْ يقول: " يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ "0
(6) سؤال الله تعالى دوام النعمة والاستعاذة به من زوالها:
وأعظم النعم نعمة الدين:
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري و أصلح لي دنياي التي فيها معاشي و أصلح لي آخرتي التي فيها معادي و اجعل الحياة زيادة لي في كل خير و اجعل الموت راحة لي من كل شر.
(حديث ابن عمر في صحيح مسلم) قال كان رسول الله يقول اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحوِّل عافيتك وفُجاءة نقمتك وجميع سخطك.
(7) الاستعاذة بالله من جهد البلاء ودرك الشقاء، وسوء القضاء وشماتة الأعداء:
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتعوذ من جَهْدِ البلاء ودَرَكِ الشقاءِ وسوءِ القضاءِ وشماتةِ الأعداء.
(نموذج للدعاء عملياً:
1) نموذج لحمد الله تعالى والثناء عليه:
(اللهم لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ومنه ملئ السموات والأرض وما بينهما وملئ ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
(سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخرُ فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء، ليس كمثلك شيء وأنت السميع البصير.
(يا سامعا لكل شكوى، ويا عالما بكل نجوى.
يا سابغ النعم، ويا دفع النقم، ويا فارج الغم، ويا كاشف الهم يا مجيب دعوة المضطرين، يا من يقول للشيء كن فيكون، يا من لا حول ولا قوة إلا بك، يا من لا يتعاظمه شيءٌ أعطاه، يا أعدل من حكم، ويا حسيب من ظلم، ويا ولي من ظُلم.
يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيره الحوادث ولا الدهور، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما يظلم عليه الليل ويشرق عليه النهار.(7/521)
كم من نعمة أنعمت بها علينا قل لك عندها شكرنا، وكم من بلية ابتليتنا بها قل عندها صبرنا، فيا من قل عند نعمته شكرنا فلم يحرمنا، ويا من قل عند بلائه صبرنا فلم يخذلنا أقذف في قلوبنا رجائك، اللهم اقذف في قلوبنا رجائك، اللهم اقذف في قلوبنا رجائك حتى لا نرجو أحدا غيرك.
يا سامعا لكل شكوى، ويا عالما بكل نجوى، يا كاشف كربتنا، ويا مستمع دعوتنا، ويا راحم عبرتنا، ويا مقيل عثرتنا، يا كاشف كل ضر وبلية، ويا عالم كل سر وخفية، يا عالم الخفيات ويارفيع الدرجات، يا قاضي الحاجات ويا مجيب الدعوات افتح لدعائنا باب القبول والإجابة وارزقنا التوبة وحسن الإنابة.
يا رب البيت العتيق أكشف عنا وعن المسلمين كل شدة وضيق، واكفنا والمسلمين ما نطيق وما لا نطيق، اللهم فرج عنا وعن المسلمين كل هم غم، وأخرجنا والمسلمين من كل حزن وكرب.
يا فارج الهم، يا كاشف الغم، يا منزل القطر، يا مجيب دعوت المضطر، يا سامعا لكل نجوى احفظ إيمان وأمن بلادنا، ووفق ولاة الأمر لما فيه صلاح الإسلام والعباد.
2) الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد.
(3) الدعاء باسم الله الأعظم أن يستجيب دعاءنا ولا يردنا خائبين:
اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم أن تستجيب دعاءنا ولا تردنا خائبين ولا عن بابك مطرودين ولا من رحمتك محرومين يا مجيب دعوة المضطرين، اللهم لا تحرمنا بذنوبنا ولا تطردنا بعيوبنا ويسِّر لنا أمورنا واختم بالصالحات أعمالنا، اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة واجعلنا ممن كتبت لهم الحسنى وزيادة.
اللهم يا عالم الخفيات ويا رفيع الدرجات ويا مجيب الدعوات ويا قاضى الحاجات افتح لدعائنا القبول والإجابة وارزقنا التوبة وحسن الإنابة.
اللهم إنك قلت وقولك الحق (أدعوني أستجب لكم)، ها نحن ندعوك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا
[*] (نموذج للدعاء من القرآن الكريم:
(اللهم اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضّآلّينَ) {الفاتحة/6،7}(7/522)
(رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) {البقرة/286}
(رَبّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لّدُنْكَ رَحْمَةً إِنّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ {آل عمران/8}
ربّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِيَ أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) {آل عمران/ 147}
(رَبّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصّلاَةِ وَمِن ذُرّيَتِي رَبّنَا وَتَقَبّلْ دُعَآءِ، رَبّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) {إبراهيم / 40، 41}
(رَبّنَا اصْرِفْ عَنّا عَذَابَ جَهَنّمَ إِنّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً، إِنّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً) {الفرقان/66،65}
(رَبّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرّيّاتِنَا قُرّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتّقِينَ إِمَاماً {الفرقان/74}
رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاّ لّلّذِينَ آمَنُواْ رَبّنَآ إِنّكَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ) {{الحشر / 10}
({رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف 23].
({رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [هود 47].
({رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح 28].
({رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
{وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة 127، 128].
({رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء} [إبراهيم 40].
({رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم 41].(7/523)
({رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ، وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ، وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ، وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء 83 - 87].
({رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات 100].
({رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة 4].
({رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الممتحنة 5].
({رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل 19].
({رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء} [آل عمران 38].
({رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء 89].
({لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء 87].
({رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه 25 - 28].
({رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص 16].
({رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران 53].
({رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس 85، 86].
({ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران 147].
({رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف 10].
({رَبِّ زِدْنِي عِلْمَاً} [طه 114].
({رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} [المؤمنون 97 - 98].
({رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون 118].
({رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة 201].(7/524)
({سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة 285].
({رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة 286].
({رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران 8].
({رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ، رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ، رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران 191 - 194].
({رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون 109].
{رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا، إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان 65، 66].
({رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف 15].
({رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر 10].
({رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم 8].
({رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران 16].
({رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة 83].(7/525)
({رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم 35].
({رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص 24].
({رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} [العنكبوت 30].
({رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف 47].
({حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة 129].
42 - {عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ} [القصص 22].
({رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص 21].
[*] (نموذج للدعاء من السنة:
* (حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري و أصلح لي دنياي التي فيها معاشي و أصلح لي آخرتي التي فيها معادي و اجعل الحياة زيادة لي في كل خير و اجعل الموت راحة لي من كل شر.
* (حديث الحسن بن علي في صحيح السنن الأربعة) قال علمني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلمات أقولهن في الوتر {اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت}
(حديث علي في صحيح أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في آخر وتره: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك و بمعافاتك من عقوبتك و أعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
(حديث ابن عمر في صحيح مسلم) قال كان رسول الله يقول اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحوِّل عافيتك وفُجاءة نقمتك وجميع خلقك.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتعوذ من جَهْدِ البلاء ودَرَكِ الشقاءِ وسوءِ القضاءِ وشماتةِ الأعداء.
(حديث ابن مسعود في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
(حديث علي في صحيح مسلم) قال، قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللهم إني أسألك الهدى والسداد.
(حديث أنس في الصحيحين) قال كان أكثر دعاء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (اللهم آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار.(7/526)
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اللهم مُصَرِّفَ القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك.
(حديث أنس في الصحيحين) قال كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم و الحزن و العجز و الكسل و الجبن و البخل و ضلع الدين و غلبة الرجال.
(حديث عائشة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في دعائه: اللهم إني أعوذ بك من شرِ ما عملت ومن شرِ ما لم أعمل.
(حديث زيد ابن أرقم في صحيح مسلم) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها.
(حديث زياد ابن علاقة عن عمه قُطبة ابن مالك في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء.
(حديث شَكَل ابن حُمَيد في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال قلت يا رسول الله علمني دعاءاً، قال: قل اللهم إني أعوذ بك من شرِّ بصري ومن شر لساني ومن شر قلبي ومن شر منيِّي.
(حديث أنس في صحيح أبي داوود) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: اللهم إني أعوذ بك من البرص والجنون والجذام ومن سيئِ الأسقام.
(حديث أبي البسر في صحيحي أبي داوود والنسائي) أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو اللهم إني أعوذ بك من التردي و الهدم و الغرق و الحرق و أعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت و أعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرا و أعوذ بك أن أموت لديغا.
(حديث أبي هريرة في صحيحي أبي د اود والنسائي) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع و أعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة.
(حديث ابن عمر في صحيح الترمذي) قال قلما كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقوم من مجلسٍ حتى يدعو بهؤلاء الكلمات: اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا و بين معاصيك و من طاعتك ما تبلغنا به جنتك و من اليقين ما تُهوِّنُ به علينا مصيبات الدنيا و متعنا بأسماعنا و أبصارنا و قوتنا ما أحييتنا و اجعله الوارث منا و اجعل ثأرنا على من ظلمنا و انصرنا على من عادانا و لا تجعل مصيبتنا في ديننا و لا تجعل الدنيا أكبر همنا و لا مبلغ علمنا و لا تسلط علينا من لا يرحمنا.(7/527)
(حديث عمار ابن ياسر في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو بهذا الدعاء اللهم بعلمك الغيب و قدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي و توفني إذا علمت الوفاة خيرا لي، اللهم و أسألك خشيتك في الغيب و الشهادة و أسألك كلمة الحق في الرضا و الغضب وأسألك القصد في الفقر و الغنى و أسألك نعيما لا ينفد و قرة عين لا تنقطع و أسألك الرضا بالقضاء و أسألك برد العيش بعد الموت و أسألك لذة النظر إلى وجهك و الشوق إلى لقاءك في غير ضراء مضرة و لا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان و اجعلنا هداة مهتدين.
(حديث عائشة في صحيح ابن ماجة) أن رسول الله علمها هذا الدعاء اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله و آجله ما علمت منه و ما لم أعلم و أعوذ بك من الشر كله عاجله و آجله ما علمت منه و ما لم أعلم اللهم إني أسألك من خير ما سألك به عبدك و نبيك و أعوذ بك من شر ما عاذ به عبدك و نبيك اللهم إني أسألك الجنة و ما قرب إليها من قول أو عمل و أعوذ بك من النار و ما قرب إليها من قول أو عمل و أسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيرا.
(حديث أبي هريرة في صحيح أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني وزدني علماَ.
(حديث ابن عمر في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) قال لم يكن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح اللهم إني أسألك العفو و العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو و العافية في ديني و دنياي و أهلي و مالي، اللهم استر عورتي و آمن روعتي و احفظني من بين يدي و من خلفي و عن يميني و عن شمالي و من فوقي و أعوذ بك أن اغتال من تحتي.
(حديث ابن مسعود في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما أصاب عبداً همٌ ولا حزنٌ فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكلِ اسمٌ هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدٌ من خلقك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبي ونورَ بصري وجلاء حزني وذهاب همِّي إلا أذهب الله همَّه وأبدله مكانه فرجاً.
{تنبيه}: (يستحب للمسلم أن يدعو للمؤمنين والمؤمنات فإنه من كنوز الحسنات
(حديث عبادة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمنٍ حسنة.(7/528)
[*] (نموذج لأدعية ليست من الكتاب والسنة ولكنها نافعة وتوافق الكتاب والسنة:
(اللهم ارزقنا الإخلاص قولاً وعملاً سراً وعلانية
(اللهم طهر قلوبنا من النفاق وأعمالنا من الرياء وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة إنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور
(اللهم ارزقنا الثبات على الدين وحسن الخاتمة
(اللهم وّسِّع في أرزاقنا من المال والعلم ولا تفتنا بهم وفقنا إلى الإحسان لإلى الناس بهم
(اللهم افتح علينا رزقاً لا تجعل لأحدٍ علينا فيه منة ولا لك علينا في الآخرة تبعة
(اللهم إنا نُنزل فاقتنا بك ولا ننزلها بأحدٍ سواك فاغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك
(اللهم فَرِّج هم المهمومين ونفِّس كرب لمكروبين واقض الدين عن المدينين وارحم موتانا وموتى المسلمين، اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم وأكرم نزلهم ووسع مدخلهم واغسلهم بالماء والثلج والبرد ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدلهم داراً خيراً من دارهم وأهلاً خيراً من أهلهم وزوجاً خيراً من زوجهم وأعذهم ن عذاب القبر وعذاب النار، اللهم اغفر لهم في المهديين واخلفهم في عقبهم في الغابرين واغفر لنا ولهم يا رب العالمين، ووسِّع لهم في قبورهم ونوِّر لهم فيها، اللهم وجازهم بالحسنات إحساناً وبالسيئات عفواً وغفراناً حتى يكونوا في بطون الألحاد مطمئنين وعند قيام الأشهاد آمنين، اللهم انقلهم من ضيق اللحود ومراتع الدود إلى جنات الخلود في سدرٍ مخضود وطلحٍ منضود وظلٍ ممدود وماءٍ مسكوب، اللهم وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه.
(اللهم يا رحيم يا رحمن ارزقنا الغفران والعفو عما سلف وكان من الذنوب والعصيان، وارزقنا خشية الرحمن وامتثال القرآن وجنبنا العصيان واستحواذ الشيطان وارزقنا التوبة الصالحة قبل فوات الأوان
(اللهم يا رحيم يا غفار ألزِم قلوبنا السكينة والوقار والفكرة والاعتبار والتوبة والاستغفار
واجعلنا من عبادك الصادقين الأبرار وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
(اللهم يا رحيم يا تواب وفقنا للحق والصواب وموافقة السنة والكتاب وارزقنا التوبة وحسن المآب قبل أن يمر العمر مر السحاب(7/529)
(اللهم يا عزيز يا غفور ارحم غربتنا في القبور وما فيها من الدواهي والأمور تحت الجنادل والصخور وحوِّل ظلمتها إلى نور، وآمنَّا يوم البعث والنشور، ووفقنا لفعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور وعملٍ متقبلٍ مبرور، إنك سبحانك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
(اللهم يا عليُّ يا كبير يا من لا يظلم الفتيل والنقير تجاوز عن الخطأ والتقصير والطُف بنا فيما جرت به المقادير، إنك سبحانك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير، وأنت حسبنا ونعم الوكيل، وآخر دعونا أن لحمد لله ر العالمين.
(اللهم يا فالق الحب والنوى ويا مُنشيء الأجساد بعد البِلى وفقنا لحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى وأن نتذكر الموت والبلى فنستحي من الله حق الحيا.
(اللهم يا ذا القوة المتين يا رجاء السائلين ويا مجيب دعوة المضطرين اجعلنا من حزبك المفلحين وعبادك المتقين وآمنَّا من الفزع الأكبر يوم الدين واغفر لنا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين.
(اللهم يا فعَّالاً لما تريد يا ذا الحبل الشديد والأمرِ الرشيد نسألك الأمن يوم الوعيد والجنة دار الخلود مع المقربين الشهود الرُكَّعِ السجُود الموفين بالعهود يا غفور يا ودود.
(اللهم وفق الرعاةَ والرعية وأصلح لهم النية ونجهم من كلِ بلِّية، اللهم وفقهم بتوفيقك وأيدهم بتأييدك، اللهم اهدهم بهداك واجعل عملهم في رضاك، وقيض لهم البطانة الصالحة التي تعينهم على مصالح العباد والبلاد، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءاً رخاءاً وسائر بلاد المسلمين ووفقهم للعمل بالدين يا قوي يا متين.
(فصلٌ في منزلة الفقر:
[*] (عناصر الفصل:
(منزلة الفقر من منازل السائرين إلى رب العالمين:
(أقوال السلف في الفقر:
(تعريف الفقر:
(بيان فضيلة الفقر:
(هل الفقر أفضل أم الغنى؟
(بيان آداب الفقير في قبول العطاء إذا جاءه بغير سؤال:
(آداب الفقير المضطر فيه:
(الاستعفاف عن المسألة:
(ذم من سأل الناس تكثراً وعنده ما يغنيه:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(منزلة الفقر من منازل السائرين إلى رب العالمين:
((قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الفقر(7/530)
هذه المنزلة أشرف منازل الطريق عند القوم وأعلاها وأرفعها بل هي روح كل منزلة وسرها ولبها وغايتها وهذا إنما يعرف بمعرفة حقيقة الفقر والذي تريد به هذه الطائفة أخص من معناه الأصلي فإن لفظ الفقر وقع في القرآن في ثلاثة مواضع:
(أحدها: قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} الآية [البقرة: 273] أي الصدقات لهؤلاء كان فقراء المهاجرين نحو أربعمائة لم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر وكانوا قد حبسوا أنفسهم على الجهاد في سبيل الله فكانوا وقفا على كل سرية يبعثها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم أهل الصفة هذا أحد الأقوال في إحصارهم في سبيل الله وقيل: هو حبسهم أنفسهم في طاعة الله وقيل: حبسهم الفقر والعدم عن الجهاد في سبيل الله وقيل: لما عادوا أعداء الله وجاهدوهم في الله تعالى: أحصروا عن الضرب في الأرض لطلب المعاش فلا يستطيعون ضربا في الأرض.
والصحيح: أنهم لفقرهم وعجزهم وضعفهم لا يستطيعون ضربا في الأرض ولكمال عفتهم وصيانتهم يحسبهم من لم يعرف حالهم أغنياء.
(والموضع الثاني: قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الآية [التوبة: 60] (والموضع الثالث: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 15]
فالصنف الأول: خواص الفقراء والثاني: فقراء المسلمين خاصهم وعامهم والثالث: الفقر العام لأهل الأرض كلهم: غنيهم وفقيرهم مؤمنهم وكافرهم فالفقراء الموصوفون في الآية الأولى: يقابلهم أصحاب الجدة ومن ليس محصرا في سبيل الله ومن لا يكتم فقره تعففا فمقابلهم أكثر من مقابل الصنف الثاني والصنف الثاني: يقابلهم الأغنياء أهل الجدة ويدخل فيهم المتعفف وغيره والمحصر في سبيل الله وغيره والصنف الثالث: لا مقابل لهم بل الله وحده الغني وكل ما سواه فقير إليه
(ومراد القوم بالفقر: شيء أخص من هذا كله وهو «تحقيق العبودية والافتقار إلى الله تعالى في كل حالة».
هذا المعنى أجل من أن يسمى فقرا بل هو حقيقة العبودية ولبها وعزل النفس عن مزاحمة الربوبية.
(وسئل عنه يحيى بن معاذ فقال: «حقيقته أن لا يستغني إلا بالله» ورسمه: عدم الأسباب كلها يقول: عدم الوثوق بها والوقوف معها وهو كما قال بعض المشايخ: شيء لا يضعه الله إلا عند من يحبه ويسوقه إلى من يريده.(7/531)
(وسئل رويم عن الفقر فقال: إرسال النفس في أحكام الله وهذا إنما يحمد في إرسالها في الأحكام الدينية والقدرية التي لا يؤمر بمدافعتها والتحرز منها.
(وسئل أبو حفص: بم يقدم الفقير على ربه فقال: ما للفقير شيء يقدم به على ربه سوى فقره وحقيقة الفقر وكماله كما قال بعضهم وقد سئل: متى يستحق الفقير اسم الفقر فقال: إذا لم يبق عليه بقية منه فقيل له: وكيف ذاك فقال: إذا كان له فليس له وإذا لم يكن له فهو له، وهذه من أحسن العبارات عن معنى الفقر الذي يشير إليه القوم وهو «أن يصير كله لله عز وجل لا يبقى عليه بقية من نفسه وحظه وهواه» فمتى بقي عليه شيء من أحكام نفسه ففقره مدخول ثم فسر ذلك بقوله: إذا كان له فليس له أي إذا كان لنفسه فليس لله وإذا لم يكن لنفسه فهو لله فحقيقة الفقر أن لا تكون لنفسك ولا يكون لها منك شيء بحيث تكون كلك لله وإذا كنت لنفسك فثم ملك واستغناء مناف للفقر وهذا الفقر الذي يشيرون إليه: لا تنافيه الجدة ولا الأملاك فقد كان رسل الله وأنبياؤه في ذروته مع جدتهم وملكهم كإبراهيم الخليل كان أبا الضيفان وكانت له الأموال والمواشي وكذلك كان سليمان وداود عليهما السلام وكذلك كان نبينا كان كما قال الله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى: 8] فكانوا أغنياء في فقرهم فقراء في غناهم «فالفقر الحقيقي: دوام الافتقار إلى الله في كل حال» وأن يشهد العبد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة إلى الله تعالى من كل وجه فالفقر ذاتي للعبد وإنما يتجدد له لشهوده ووجوده حالا وإلا فهو حقيقة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه:
«والفقر لي وصف ذات لازم أبدا كما الغنى أبدا وصف له ذاتي»
(أقوال السلف في الفقر:
((قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
وله آثار وعلامات وموجبات وأسباب أكثر إشارات القوم إليها كقول بعضهم: الفقير لا تسبق همته خطوته يريد: أنه ابن حاله ووقته فهمته مقصورة على وقته لاتتعداه (وقيل: أركان الفقر أربعة: علم يسوسه وورع يحجزه ويقين يحمله وذكر يؤنسه.
(وقال الشبلي: حقيقة الفقر أن لا يستغني بشيء دون الله.
(وسئل سهل بن عبد الله: متى يستريح الفقير فقال: إذا لم ير لنفسه غير الوقت الذي هو فيه.
(وقال أبو حفص: أحسن ما يتوسل به العبد إلى الله: دوام الافتقار إليه على جميع الأحوال وملازمة السنة في جميع الأفعال وطلب القوت من وجه حلال.(7/532)
(وقيل: من حكم الفقر: أن لا تكون له رغبة فإذا كان ولابد فلا تجاوز رغبته كفايته.
(وقيل: الفقير من لا يملك ولا يملك وأتم من هذا: من يملك ولا يملكه مالك.
(وقيل: من أراد الفقر لشرف الفقر مات فقيرا ومن أراده لئلا يشتغل عن الله بشيء مات غنيا و الفقر له بداية ونهاية وظاهر وباطن فبدايته: الذل ونهايته: العز وظاهره: العدم وباطنه: الغنى كما قال رجل لآخر: فقر وذل فقال: لا بل فقر وعز قال: فقر وثراء قال: لا بل فقر وعرش وكلاهما مصيب واتفقت كلمة القوم على أن دوام الافتقار إلى الله مع التخليط خير من دوام الصفاء مع رؤية النفس والعجب مع أنه لا صفاء معهما وإذا عرفت معنى الفقر علمت أنه عين الغنى بالله فلا معنى لسؤال من سأل: أي الحالين أكمل الافتقار إلى الله أم الاستغناء به فهذه مسألة غير صحيحة فإن «الاستغناء به هو عين الافتقار إليه» وسئل عن ذلك محمد بن عبد الله الفرغاني فقال: إذا صح الافتقار إلى الله تعالى فقد صح الاستغناء بالله وإذا صح الاستغناء بالله كمل الغنى به فلا يقال أيهما أفضل: الافتقار أم الاستغناء لأنهما حالتان لا تتم إحداهما إلا بالأخرى.
وإما كلامهم في مسألة الفقير الصابر والغني الشاكر وترجيح أحدهما على صاحبه فعند أهل التحقيق والمعرفة: أن التفضيل لا يرجع إلى ذات الفقر والغنى وإنما يرجع إلى الأعمال والأحوال والحقائق فالمسألة أيضا فاسدة في نفسها فإن التفضيل: عند الله تعالى بالتقوى وحقائق الإيمان لا بفقر ولا غنى كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ولم يقل أفقركم ولا أغناكم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: والفقر والغنى ابتلاء من الله لعبده كما قال تعالى: فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول: ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول: {رَبِّي أَهَانَنِ كَلاَّ} [الفحر: 15 - 16] أي ليس كل من وسعت عليه وأعطيته: أكون قد أكرمته ولا كل من ضيقت عليه وقترت: أكون قد أهنته فالإكرام: أن يكرم الله العبد بطاعته والإيمان به ومحبته ومعرفته والإهانة: أن يسلبه ذلك قال يعني ابن تيمية «ولا يقع التفاضل بالغني والفقر بل بالتقوى» فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة سمعته يقول ذلك وتذاكروا هذه المسألة عند يحيى بن معاذ فقال: لا يوزن غدا الفقر ولا الغنى وإنما يوزن الصبر والشكر.(7/533)
وقال غيره: هذه المسألة محال من وجه آخر وهو أن كلا من الغني والفقير لابد له من صبر وشكر فإن الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر بل قد يكون نصيب الغني وقسطه من الصبر أوفر لأنه يصبر عن قدرة فصبره أتم من صبر من يصبر عن عجز ويكون شكر الفقير أتم لأن الشكر هو استفراغ الوسع في طاعة الله والفقير أعظم فراغا للشكر من الغني فكلاهما «لا تقوم قائمة إيمانه إلا على ساقي الصبر والشكر»
مسألة: ما هو أنواع الفقر؟
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه طريق الهجرتين:
الفقر فقران: فقر اضطراري، وهو فقر عام لا خروج لبرّ ولا فاجر عنه، وهذا لا يقتضى مدحاً ولا ذماً ولا ثواباً ولا عقاباً، بل هو بمنزلة كون المخلوق مخلوقاً ومصنوعاً.
والفقر الثاني فقر اختياري هو نتيجة علمين شريفين: أَحدهما معرفة العبد بربه، والثاني معرفته بنفسه.
فمتى حصلت له هاتان المعرفتان أَنتجتا له فقراً هو عين غناه وعنوان فلاحه وسعادته، وتفاوت الناس في هذا الفقر بحسب تفاوتهم في هاتين المعرفتين، فمن عرف ربه بالغنى المطلق عرف نفسه بالفقر المطلق، ومن عرف ربه بالقدرة التامة عرف نفسه بالعجز التام، ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه بالمسكنة التامة، ومن عرف ربه بالعلم التامّ والحكمة عرف نفسه بالجهل، فالله سبحانه أَخرج العبد من بطن أمه لا يعلم شيئاً ولا يقدر على شيء، ولا يملك شيئاً ولا يقدر على عطاءٍ ولا منع ولا ضر ولا نفع ولا شيء البتة، فكان فقره في تلك الحال إلى ما به كما له أَمراً مشهوداً محسوساً لكل أَحد، ومعلوم أَن هذا له من لوازم ذاته، وما بالذات دائم بدوامها. وهو لم ينتقل من هذه الرتبة إِلى رتبة الربوبية والغنى، بل لم يزل عبداً فقيراً بذاته إِلى بارئه وفاطره.
(فأَكمل الخلق أكملهم عبودية وأَعظمهم شهوداً لفقره وضرورته وحاجته إِلى ربه وعدم استغنائه عنه طرفة عين، ولهذا كان من دعائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَصلح لي شأني كله، ولا تكلني إِلى نفسي طرفة عين 00)) كما في الحديث الآتي:
(حديث أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لفاطمة رضي الله تعالى عنها: ما يمنكِ أنْ تسمعي ما أُوصيكِ به؟ أنْ تقولي: إذا أصبحتِ وإذا أمسيتِ يا حيُّ يا قيومُ برحمتِكَ أستغيثُ, أصلحْ لي شأنيَ كلَّه, ولا تَكِلْني إلى نفسي طَرفةَ عين.(7/534)
وكان يدعو: ((يا مقلِّب القُلُوبِ ثَبِّتْ قلبي عَلَى دينك)). يعلم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن قلبه بيد الرحمن عَزَّ وجَلَّ لا يملك منه شيئاً، وأَن الله سبحانه يصرفه كما يشاءُ كيف وهو يتلو قوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن ثَبّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} * [الإسراء: 74]، فضرورته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلى ربه وفاقته إِليه بحسب معرفته به، وحسب قربه منه ومنزلته عنده. وهذا أَمر إِنما بدا منه لمن بعده ما يرشح من ظاهر الوعاءِ، ولهذا كان أَقرَبَ الخلق إِلى الله وسيلة وأَعظمهم عنده جاهاً وأَرفعهم عنده منزلة، لتكميله مقام العبودية والفقر إِلى ربه تعالى، ولذا كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى أصحابه أن يرفعوه فوق منزلته التي أنزله الله إياها كما في الأحاديث الآتية:
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أنا محمد بن عبد الله، أنا عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلنيها الله.
(حديث عمر في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تطروني لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله و رسوله.
(حديث أبي مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) قال أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل فكلمه فجعل ترعد فرائصه فقال له هون عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد.
(القديد): هو اللحم المملح المجفف في الشمس
وذكره الله سبحانه بسمة العبودية في أَشرف مقاماته، «مقام الإِسراءِ ومقام الدعوة ومقام التحدي»، فقال: {سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَىَ بِعَبْدِهِ لَيْلاً} * [الإسراء:1]، وقال: {وَأَنّهُ لّمَا قَامَ عَبْدُ اللّهِ يَدْعُوهُ} * [الجن: 19]، وقال: {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مّمّا نَزّلْنَا عَلَىَ عَبْدِنَا} * [البقرة: 23]، وفى حديث الشفاعة: ((إِنَّ الْمَسِيحَ يَقُولُ لَهُمْ [يوم القيامة]: اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ عَبْدٍ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ))، فنال ذلك المقام بكمال عبوديته لله وبكمال مغفرة الله له، فتأَمل قوله تعالى في الآية: {أَنْتُمُ الفُقَرَآءُ إِلَى اللهِ} * [فاطر: 15]، [فعلق الفقر إليه باسمه] دون اسم الربوبية ليؤذن بنوعي الفقر، فإِنه كما تقدم نوعان:
(تعريف الفقر:
مسألة: ما هو تعريف الفقر؟(7/535)
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه طريق الهجرتين:
الفقر فقر إِلى ربوبيته وهو فقر المخلوقات بأَسرها، وفقر إِلى أُلوهيته وهو فقر أَنبيائه ورسله وعباده الصالحين، وهذا هو الفقر النافع والذي يشير إِليه القوم ويتكلمون عليه ويشيرون إِليه هو الفقر الخاص لا العام، وقد اختلفت عباراتهم عنه ووصفهم له، وكل أَخبر عنه بقدر ذوقه وقدرته على التعبير، قال شيخ الإِسلام الأنصاري: «الفقر اسم للبراءَة من رؤية الملكة»، وهو على ثلاث درجات:
الدرجة الأُولى: فقر الزهاد وهو نفض اليدين من الدنيا ضبطاً أَو طلباً، وإِسكات اللسان عنها ذماً أَو مدحاً، والسلامة منها طلباً أَو تركاً، وهذا هو الفقر الذي تكلموا في شرفه.
الدرجة الثانية: الرجوع إِلى السبق بمطالعة الفضل، وهو يورث الخلاص من رؤية الأَعمال، ويقطع شهود الأَحوال، ويمحص من أَدناس مطالعة المقامات.
والدرجة الثالثة: صحة الاضطرار والوقوع في يد التقطع الوحداني والاحتباس في بيداءِ قيد التجريد وهذا فقر الصوفية)).(7/536)
فقوله: ((الفقر اسم للبراءَة من رؤية الملكة)) يعنى أَن الفقير هو الذي يجرد رؤية الملك لمالكه الحق، فيرى نفسه مملوكة للَّه لا يرى نفسه مالكاً بوجه من الوجوه، ويرى أَعماله مستحقة عليه بمقتضى كونه مملوكاً عبداً مستعملاً فيما أَمره به سيده، فنفسه مملوكة، وأَعماله مستحقة بموجب العبودية، فليس مالكاً لنفسه ولا لشيء من ذراته ولا لشيء من أَعماله.(7/537)
بل كل ذلك مملوك عليه مستحق عليه، كرجل اشترى عبداً بخالص ماله ثم علّمه بعض الصنائع، فلما تعلمها قال له: اعمل وَأَدّ إِلى فليس لك في نفسك ولا في كسبك شيء، فلو حصل بيد هذا العبد من الأَموال والأَسباب ما حصل لم ير له فيها شيئاً، بل يراه كالوديعة في يده، وأَنها أَموال أُستاذه وخزائنه ونعمه بيد عبده، مستودعاً متصرفاً فيها لسيده لا لنفسه، كما قال عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه: ((والله إني لا أَعطى أحداً ولا أَمنع أَحداً، وإِنما أَنا قاسم أَضع حيث أُمرت))، فهو متصرف في تلك الخزائن الأَمر المحض تصرف العبد المحض الذي وظيفته تنفيذ أَوامر سيده، فالله هو المالك الحق، وكل ما بيد خلقه هو من أَمواله وأَملاكه وخزائنه أَفاضها عليهم ليمتحنهم في البذل والإِمساك، وهل يكون ذلك منهم على شاهد العبودية لله عَزَّ وجلَّ، فيبذل أَحدهم الشيء رغبة في ثواب الله ورهبة من عقابه وتقرباً إِليه وطلباً لمرضاته؟ أَم يكون البذل والإِمساك منهم صادراً عن مراد النفس وغلبة الهوى وموجب الطبع فيعطى لهواه ويمنع لهواه؟ فيكون متصرفاً تصرف المالك لا المملوك، فيكون مصدر تصرفه الهوى ومراد النفس، وغايته الرغبة فيما عند الخلق من جاه أَو رفعة أو منزلة أَو مدح أَو حظ من الحظوظ، أَو الرهبة من فوت شيء من هذه الأَشياء، وإِذا كان مصدر تصرفه وغايته هو هذه الرغبة والرهبة رأَى نفسه لا محالة مالكاً، فادعى الملك وخرج عن حد العبودية ونسى فقره، ولو عرف نفسه حق المعرفة لعلم أَنما هو مملوك ممتحن في صورة ملك متصرف كما قال تعالى: {ثُمّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} * [يونس: 14]، وحقيق بهذا الممتحن أَن يوكل إِلى ما ادعته نفسه من الحالات والمَلَكات مع المالك الحق سبحانه، فإِن من ادعى لنفسه حالة مع الله سبحانه وكل إِليها، «ومن وُكِلَ إِلى شيء غير الله فقد فتح له باب الهلاك والعطب»، وأَغلق عنه باب الفوز والسعادة، فإِن كل شيء ما سوى الله باطل، ومن وكل إِلى الباطل بطل عمله وضل سعيه ولم يحصل إِلا على الحرمان.(7/538)
وقوله: ((البراءَة من رؤية الملكة)) ولم يقل من الملكة لأن الإِنسان قد يكون فقيراً لا ملكة له في الظاهر وهو عرى عن التحقق بنعت الفقر الممدوح أَهله الذين لا يرون ملكة إلا لمالكها الحق ذي الملك والملكوت، وقد يكون العبد قد فوض إِليه من ذلك شيء وجعل كالخازن فيه، كما كان سليمان بن داود أُوتى ملكاً لا ينبغي لأَحد من بعده، وكذلك الخليل وشعيب والأَغنياءُ من الأَنبياءِ، عليهم الصلاة والسلام وكذلك أَغنياءُ الصحابة، «فهؤلاء لم يكونوا بريئين من الملكة في الظاهر وهم بريئون من رؤية الملكة لنفوسهم» فلا يرون لها ملكاً حقيقياً، بل يرون ما في أَيديهم لله عارية ووديعة في أَيديهم ابتلاهم به لينظر هل يتصرفون فيه تصرف العبيد أَو تصرف الملاك الذين يعطون لهواهم ويمنعون لهواهم.
(بيان فضيلة الفقر:
قال تعالى: (لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ) [الحشر: 8]
و قال تعالى: (لِلْفُقَرَآءِ الّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرْضِ) [البقرة: 273]
ساق الكلام في معرض المدح ثم قدم وصفه بالفقر على وصفهم بالهجرة والإحصار وفيه دلالة ظاهرة على مدح الفقير.
وأما الأخبار في مدح الفقر فأكثر من أن تحصى: منها ما يلي:
(حديث عبد الله بن عمر الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (قد أفلح من أسلم و رُزق كفافاً و قنَّعه الله بما آتاه)
فالأول القانع وهذا الراضي ويكاد يشعر هذا بمفهومه: أن الحريص لا ثواب له على فقره ولكن العمومات الواردة في فضل الفقر تدل على أن له ثواباً، فلعل المراد بعدم الرضا هو الكراهة لفعل الله في حبس الدنيا عنه ورب راغبٍ في المال لا يخطر بقلبه إنكار على الله تعالى ولا كراهة في فعله فتلك الكراهة هي التي تحبط ثواب الفقر.
ولعل أبرز أدلة النقل الصحيح الصريح الدال على فضل الفقر الحديثين الآتيين:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا.
قوتاً: أي شيءٌ يسدُ الرمق.
(حديث عبيد الله بن محصن الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في جسده عنده قوتُ يومه فكأنما حيزت له الدنيا)
وأما الآثار في الرضا والقناعة فكثيرة ولا يخفى أن القناعة يضادها الطمع.(7/539)
وقد قال عمر رضي الله تعالى عنه: إن الطمع فقر واليأس غنى وإنه من يئس عما في أيدي الناس وقنع استغنى عنهم.
وقال أبو مسعود رضي الله تعالى عنه: ما من يوم إلا وملك ينادي من تحت العرش: يا ابن آدم قليل يكفيك خير من كثير يطغيك.
وقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: ما من أحد إلا وفي عقله نقص وذلك انه إذا أتته الدنيا بالزيادة ظل فرحاً مسروراً والليل والنهار دائبان في هدم عمره ثم لا يحزنه ذلك ويح ابن آدم ما ينفع مال يزيد وعمر ينقص.
وقيل لبعض الحكماء: ما الغنى قال: قلة تمنيك ورضاك بما يكفيك.
وقيل: كان إبراهيم بن أدهم من أهل النعم بخراسان فبينما هو يشرف من قصر له ذات يوم إذ نظر إلى رجل في فناء القصر وفي يده رغيف يأكله فلما أكل نام فقال لبعض غلمانه: إذا قام فجئني به فلما قام جاء به إليه فقال إبراهيم: أيها الرجل أكلت الرغيف وأنت جائع قال: نعم قال: فشبعت قال: نعم قال: ثم نمت طيباً قال: نعم فقال إبراهيم في نفسه: فما أصنع بالدنيا والنفس تقنع بهذا القدر.
ومر رجل بعامر بن عبد القيس وهو يأكل ملحاً وبقلاً فقال له: يا عبد الله أرضيت من الدنيا بهذا فقال: ألا أدلك على من رضي بشر من هذا قال: بلى قال: من رضي بالدنيا عوضاً عن الآخرة.
وكان محمد بن واسع رحمة الله عليه يخرج خبزاً يابساً فيبله بالماء ويأكله بالملح ويقول: من رضي من الدنيا بهذا لم يحتج إلى أحد.
وقال الحسن رحمه الله: لعن الله أقواماً أقسم لهم الله تعالى ثم لم يصدقوه ثم قرأ " وفي السماء رزقكم وما توعدون ورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ".
وكان أبو ذر رضي الله عنه يوماً في الناس فأتته امرأته فقالت له: أتجلس بين هؤلاء والله ما في البيت هفة ولا سفة فقال: يا هذه إن بين أيدينا عقبة كئوداً لا ينجو منها إلا كل مخف وقال ذو النون رحمه الله: أقرب الناس إلى الكفر ذو فاقة لا صبر له.
وقيل لبعض الحكماء: ما مالك فقال: التجمل في الظاهر والقصد في الباطن واليأس مما في أيدي الناس.
وقد قيل في هذا المعنى أيضاً:
يا جامعاً مانعاً والدهر يرمقه ... مقدراً أي باب منه يغلقه
مفكراً كيف تأتيه منيته ... أغادياً أم بها يسري فتطرقه
جمعت مالاً فقل لي هل جمعت له ... يا جامع المال أياماً تفرقه
المال عندك مخزون لوارثه ... ما المال مالك إلا يوم تنفقه
فالعرض منه مصون ما يدنسه ... والوجه منه جديد ليس يخلقه
إن القناعة من يحلل بساحتها ... لم يبق في ظلها هم يؤرقه(7/540)
(هل الفقر أفضل أم الغنى؟
[*] (قال الغزالي رحمه الله تعالى في إحياء علوم الدين:
اعلم أن الناس قد اختلفوا في هذا فذهب الجنيد والخواص والأكثرون إلى تفضيل الفقر وقال ابن عطاء: الغني الشاكر القائم بحقه أفضل من الفقير الصابر.
ويقال أن الجنيد دعا على ابن عطاء لمخالفته إياه في هذا فأصابته محنة.
(ثم قال رحمه الله تعالى:
فأما الفقر والغنى إذا أخذا مطلقاً لم يسترب من قرأ الأخبار والآثار في تفضيل الفقر ولا بد فيه من تفصيل فنقول إنما يتصور الشك في مقامين: أحدهما فقير صابر ليس بحريص على الطلب بل هو قانع أو راض بالإضافة إلى غني منفق ماله في الخيرات ليس حريصاً على إمساك المال.
والثاني فقير حريص مع غني حريص إذ لا يخفى أن الفقير القانع أفضل من الغني الحريص المقام الأول فقير صابر ليس بحريص على الطلب أما الأول فربما يظن أن الغني أفضل من الفقير لأنهما تساويا في ضعف الحرص على المال والغني متقرب بالصدقات والخيرات والفقير عاجز عنه وهذا هو الذي ظنه ابن عطاء فيما نحسبه
فأما الغني المتمتع بالمال وإن كان في مباح فلا يتصور أن يفضل على الفقير القانع وقد يشهد له ما روي في الخبر: أن الفقراء شكوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبق الأغنياء بالخيرات والصدقات والحج والجهاد فعلمهم كلمات في التسبيح وذكر لهم أنهم ينالون بها فوق ما ناله الأغنياء فتعلم الأغنياء ذلك فكانوا يقولونه فعاد الفقراء إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبروه فقال عليه السلام: " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ".
(بيان آداب الفقير في قبول العطاء إذا جاءه بغير سؤال:
ينبغي أن يلاحظ الفقير فيما جاءه ثلاثة أمور: نفس المال وغرض المعطي وغرضه في الأخذ.
أما نفس المال فينبغي أن يكون حلالاً خالياً عن الشبهات كلها فإن كان فيه شبهة فليتحرز من أخذه وقد ذكرنا في كتاب الحلال والحرام درجات الشبهة وما يجب اجتنابه وما يستحب.
وأما غرض المعطي فلا يخلو: إما أن يكون غرضه تطبيب قلبه وطلب محبته وهو الهدية أو الثواب وهو الصدقة والزكاة والذكر والرياء والسمعة إما على التجرد وإما ممزوجاً ببقية الأغراض.(7/541)
أما الأول ـ وهو الهدية ـ فلا بأس بقبولها فإن قبولها سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكن ينبغي أن لا يكون فيها منة. وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قال: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعطيني العطاءَ، فأقولُ أعطهِ من هو أفقر مني فقال: (خذه، إذا جاءك من هذا المال شيءٌ، وأنت غير مشرفٍ ولا سائل، فخُذهُ، وما لا، فلا تُتْبعِه نفسك)
فإن كان فيها منة فالأولى تركها فإن علم أن بعضها مما تعظم
فيه المنة فليرد البعض دون البعض فقد أهدي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمن وأقط وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقبل من بعض الناس ويرد على بعض. وفعل هذا جماعة من التابعين.
وحمل إلى الحسن البصري كيساً ورزمة من رقيق ثياب خراسان فرد ذلك وقال: من جلس مجلسي هذا وقبل من الناس مثل هذا لقي الله عز وجل يوم القيامة وليس له خلاق.
وهذا يدل على أن أمر العالم والواعظ أشد في قبول العطاء.
وقد كان الحسن يقبل من أصحابه.
وكان إبراهيم التيمي يسأل من أصحابه الدرهم والدرهمين ونحوه ويعرض عليه غيرهم المئين فلا يأخذها.
وكان بعضهم إذا أعطاه صديقه شيئاً يقول: اتركه عندك وانظر إن كنت بعد قبوله في قلبك أفضل مني قبل القبول فأخبرني حتى آخذه وإلا فلا وأمارة هذا أن يشق عليه الرد لو رده ويفرح بالقبول ويرى المنة على نفسه في قبول صديقه هديته فإن علم أنه يمازجه منة فأخذه مباح ولكنه مكروه عند الفقراء الصادقين.
وقال بشر: ما سألت أحداً قط شيئاً إلا سرياً السقطي لأنه قد صح عندي زهده في الدنيا فهو يفرح بخروج الشيء من يده ويتبرم ببقائه عنده فأكون عوناً له على ما يحب.
وجاء خراساني إلى الجنيد رحمه الله بمال وسأله أن يأكله فقال: أفرقه على الفقراء فقال: ما أريد هذا.
قال: ومتى أعيش حتى آكل هذا قال: ما أريد أن تنفقه في الخل والبقل بل في الحلاوات والطيبات فقبل ذلك منه فقال الخراساني: ما أجد في بغداد أمن علي منك فقال الجنيد: ولا ينبغي أن يقبل إلا من مثلك.
الثاني: أن يكون للثواب المجرد وذلك صدقة أو زكاة فعليه أن ينظر في صفات نفسه هل هو مستحق للزكاة فإن اشتبه عليه فهو محل شبهة.(7/542)
وإن كانت صدقة وكان يعطيه لدينه فلينظر إلى باطنه فإن كان مقارفاً لمعصية في السر يعلم أن المعطي لو علم ذلك لنفر طبعه ولما تقرب إلى الله بالتصدق عليه فهذا حرام أخذه كما لو أعطاه لظنه أنه عالم أو علوي ولم يكن فإن أخذه حرام محض لا شبهة فيه.
الثالث: أن يكون غرضه السمعة والرياء والشهرة فينبغي أن يرد عليه قصده الفاسد ولا يقبله إذ يكون معيناً له على غرضه الفاسد.
وكان سفيان الثوري يرد ما يعطي ويقول: لو علمت أنهم لا يذكرون ذلك افتخاراً به لأخذت وعوتب بعضهم في رد ما كان يأتيه من صلة فقال: إنما أراد صلتهم إشفاقاً عليهم ونصحاً لهم لأنهم يذكرون ذلك ويحبون أن يعلم به فتذهب أموالهم وتحبط أجورهم.
(وأما غرضه في الأخذ فينبغي أن ينظر: أهو محتاج إليه فيما لا بد منه أو هو مستغن عنه فإن كان محتاجاً إليه وقد سلم من الشبهة والآفات التي ذكرناها في المعطي فالأفضل له الأخذ كما في الحديث الآتي:
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قال: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعطيني العطاءَ، فأقولُ أعطهِ من هو أفقر مني فقال: (خذه، إذا جاءك من هذا المال شيءٌ، وأنت غير مشرفٍ ولا سائل، فخُذهُ، وما لا، فلا تُتْبعِه نفسك)
وقال بعض العلماء: من أعطي ولم يأخذ سأل ولم يعطَ.
وقد كان سري السقطي يوصل إلى أحمد بن حنبل رحمة الله عليهما شيئاً فرده مرة فقال له السري: يا أحمد احذر آفة الرد فإنها أشد من آفة الأخذ فقال له أحمد: أعد علي ما قلت! فأعاده فقال أحمد: ما رددت عليك إلا لأن عندي قوت شهر فاحبسه لي عندك فإذا كان بعد شهر فأنفذه إلي.
وقد قال بعض العلماء: يخاف في الرد مع الحاجة عقوبة من ابتلاء بطمع أو دخول في شبهة أو غيره فأما إذا كان ما أتاه زائداً على حاجته فلا يخلو: إما أن يكون حاله الاشتغال بنفسه أو التكفل بأمور الفقراء والإنفاق عليهم لما في طبعه من الرفق والسخاء فإن كان مشغولاً بنفسه فلا وجه لأخذه وإمساكه إن كان طالباً طريق الآخرة فإن ذلك محض إتباع الهوى وكل عمل ليس لله فهو سبيل الشيطان أو داعٍ إليه ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه ثم له مقامان: أحدهما أن يأخذ في العلانية ويرد في السر أو يأخذ في العلانية ويفرق في السر وهذا مقام الصديقين وهو شاق على النفس لا يطيقه إلا من اطمأنت نفسه بالرياضة.(7/543)
والثاني أن يترك ولا يأخذ ليصرفه صاحبه إلى من هو أحوج منه أو يأخذ ويوصل إلى من هو أحوج منه فيفعل كليهما في السر أو كليهما في العلانية.
وأما امتناع أحمد بن حنبل عن قبول عطاء سري السقطي رحمهما الله فإنما كان لاستغنائه عنه إذ كان عنده قوت شهر ولم يرض لنفسه أن يشتغل بأخذه وصرفه إلى غيره فإن في ذلك آفات وأخطاراً والورع يكون حذراً من مظان الآفات إذا لم يأمن مكيدة الشيطان على نفسه.
(آداب الفقير المضطر فيه:
اعلم أنه قد وردت مناه كثيرة في السؤال وتشديدات وورد فيه أيضاً ما يدل على الرخصة كما في الحديث الآتي:
(حديث حواء بنت السكن رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ردوا السائل و لو بظلف محرق.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(ردُّوا السائل ولو بظلف) بكسر فسكون
(محرق) لو للتقليل والمراد الرد بالإعطاء والمعنى تصدقوا بما تيسر كثر أو قل ولو بلغ في القلة الظلف مثلاً فإنه خير من العدم وقال أبو حيان: الواو الداخلة على الشرط للعطف لكونها لعطف حال على حال محذوفة يتضمنها السابق تقديره ردوه بشيء على حال ولو بظلف وقيد الإحراق أي النييء كما هو عادتهم فيه لأن النييء قد لا يؤخذ وقد يرميه آخذه فلا ينتفع به بخلاف المشوي وقال الطيبي: هذا تتميم لإرادة المبالغة في ظلف كقولها " كأنه علم في رأسه نار " يعني لا تردوه ردَّ حرمان بلا شيء ولو أنه ظلف فهو مثل ضرب للمبالغة والذهاب إلى أن الظلف إذ ذاك كأن له عندهم قيمة بعيد عن الاتجاه.
الشاهد: ولو كان السؤال حراماً مطلقاً لما جاز إعانة المتعدي على عدوانه والإعطاء إعانة، فالكاشف للغطاء فيه أن السؤال حرام في الأصل وإنما يباح بضرورة أو حاجة مهمة قريبة من الضرورة.
{تنبيه}: (وإنما كان الأصل في السؤال التحريم لأنه لا ينفك عن ثلاثة أمور محرمة: الأول: إظهار الشكوى من الله تعالى إذ السؤال إظهار للفقر وذكر لقصور نعمة الله تعالى عنه وهو عين الشكوى وكما أن العبد المملوك لو سأل لكان سؤاله تشنيعاً على سيده فكذلك سؤال العباد تشنيع على الله تعالى وهذا ينبغي أن يحرم ولا يحل إلا لضرورة كما تحل الميتة.(7/544)
الثاني: أن فيه إذلال السائل نفسه لغير الله تعالى وليس للمؤمن أن يذل نفسه لغير الله بل عليه أن يذل نفسه لمولاه فإن فيه عزه فأما سائر الخلق فإنهم عباد أمثاله فلا ينبغي أن يذل لهم إلا لضرورة وفي السؤال ذل للسائل بالإضافة إلى المسؤول. الثالث: أنه لا ينفك عن إيذاء المسؤول غالباً لأنه ربما لا تسمح نفسه بالبذل عن طيب قلب منه فإن بذل حياء من السائل أو رياء فهو حرام على الآخذ وإن منع ربما استحيا وتأذى في نفسه بالمنع إذ يرى نفسه في صورة البخلاء ففي البذل نقصان ماله وفي المنع نقصان جاهه وكلاهما مؤذيان والسائل هو السبب في الإيذاء والإيذاء حرام إلا بضرورة.
(الاستعفاف عن المسألة:
(حديث حكيم ابن حزام الثابت الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (اليدُ العليا خيرٌ من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخيرُ الصدقةِ عن ظهرِ غنى، ومن يستعفف يُعفَّه الله، ومن يستغن يغنه الله)
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال وهو على المنبر، وذكر الصدقة و التعفف و المسألة (اليدُ العليا خيرٌ من اليد السفلى، فاليدُ العليا هي المنفقة، و اليد السفلى هي السائلة)
(حديث أَبِي سَعِيدٍ الثابت في الصحيحين) أَنّ نَاساً مِنَ الأنْصَارِ سَأَلُوارسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَعْطَاهُمْ، ثُمّ سَألُوه فَأَعْطاهُمْ، حتى نَفِد ما عنده فقال: َ مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يستعفف يُعِفّهُ الله، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ الله، وَمَنْ يَتَصَبّرْ يُصَبّرْهُ الله، وَمَا أُعْطِيَ أحَدٌ عطاءاً خَيْراً وَأَوْسَعَ مِنَ الصّبْرِ)
(حديث المقدام بن معد يكرب الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (ما أكل أحدٌ طعامٌ قط، خيرٌ من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكلُ من عمل يده)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (والذي نفسي بيده، لأن يأخذ أحدكم حَبْله، فيحتطبَّ على ظهره، خيرٌ له من أن يأتيَ رجلاً فيسألَه، أعطاهُ أو مَنَعه)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (كان زكرياء نجاراً)(7/545)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (ليس المسكينُ الذي يطوفُ على الناس ترده اللقمةُ واللقمتان والتمرةُ والتمرتان، إنما المسكينُ الذي لا يجدُ غنىً يغنيه ولا يفطنُ به فيتصدق ولا يقومُ فيسأل الناس)
وفي رواية (إنما المسكين الذي يتعفف، اقرأوا إن شئتم (لا يَسْأَلُونَ النّاسَ إِلْحَافاً)
(حديث ثوبان الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من يكفلْ لي أن لا يسألَ الناس شيئاً وأتكفلُ له بالجنة فقال ثوبان أنا فكان لا يسألُ الناس شيئا)
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (ليستغن أحدكم عن الناس بقضيب سواك)
(حديث ابن مسعود الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تُسَدْ فاقته، ومن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى إما بموتٍ عاجلٍ أو غنى عاجل)
(ذم من سأل الناس تكثراً وعنده ما يغنيه:
كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر كثيراً بالتعفف عن السؤال ويحذر أيما تحذير عن مسائلة الناس وعنده ما يغنيه، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (ما يزالُ الرجلُ يسألُ الناس، حتى يأتي يوم القيامةِ ليس في وجهه مُزْعَةُ لحم)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من سأل الناس تكثراً فإنما يسأل جمراً فليستقل أو ليستكثر)(7/546)
(فصلٌ في منزلة الغنى العالي:
[*] (عناصر الفصل:
(منزلة الغنى العالي من منازل السائرين إلى رب العالمين:
(الله هو الغنى المطلق والخلق فقراء محتاجون إليه:
(الغنى بالله مع الفقر إِليه متلازمان:
(كل حي سوى الله فقير إِلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره:
(أقسام الغنى:
(كيف يحصل غنى القلب:
(كيف يحصل غنى النفس:
(كيف يحصل الغنى بالحق تبارك وتعالى:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(منزلة الغنى العالي من منازل السائرين إلى رب العالمين:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الغنى العالي
وهو نوعان: «غنى بالله وغنى عن غير الله» وهما حقيقة الفقر ولكن أرباب الطريق أفردوا للغنى منزلة قال صاحب المنازل رحمه الله باب الغني قال الله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى: 8] وفي الآية ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه أغناه من المال بعد فقره: وهذا قول أكثر المفسرين لأنه قابله بقوله عائلاً والعائل: هو المحتاج ليس ذا العيلة فأغناه من المال.
والثاني: أنه أرضاه بما أعطاه وأغناه به عن سواه فهو غنى قلب ونفس لا غنى مال وهو حقيقة الغنى.
والثالث: وهو الصحيح أنه يعم النوعين: نوعي الغنى «فأغنى قلبه به وأغناه من المال»
ثم قال: الغنى اسم للملك التام يعني أن من كان مالكا من وجه دون وجه فليس بغني وعلى هذا: فلا يستحق اسم الغنى بالحقيقة إلا الله وكل ما سواه فقير إليه بالذات. أهـ
(الله هو الغنى المطلق والخلق فقراء محتاجون إليه:
((قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه طريق الهجرتين:
قال الله سبحانه: {يَأَيّهَا النّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ} * [فاطر: 15]، بيَّن سبحانه في هذه الآية أَن فقر العباد إِليه أَمر ذاتي لهم لا ينفك عنهم، كما أَن كونه غنياً حميداً أمر ذاتي له، فغناه وحمده ثابت له لذاته لا لأمر أَوجبه، وفقر من سواه إليه ثابت لذاته لا لأَمر أَوجبه، فلا يعلل هذا الفقر بحدوث ولا إِمكان، بل هو ذاتي للفقير: فحاجة العبد إِلى ربه لذاته لا لعلة أَوجبت تلك الْحاجة، كما أَن غنى الرب سبحانه لذاته لا لأَمر أَوجب غناه، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
«والفقر لي وصفُ ذاتٍ لازم أبداً كما الغنى أبداً وصفٌ له ذاتي»(8/1)
فالخلق فقير محتاج إلى ربه بالذات لا بعلة، وكل ما يذكر ويقرر من أَسباب الفقر والحاجة فهي أدلة على الفقر والحاجة لا علل لذلك، إذ ما بالذات لا يعلل، فالفقير بذاته محتاج إلى الغنى بذاته، فما يذكر من إِمكان وحدوث واحتياج فهي أَدلة على الفقر لا أَسباب له، ولهذا كان الصواب في مسأَلة علة احتياج العالم إلى الرب سبحانه غير القولين اللذين يذكرهما الفلاسفة والمتكلمون، فإن الفلاسفة قالوا: علة الحاجة الإمكان، والمتكلمون قالوا: علة الحاجة الحدوث، والصواب أن الإمكان والحدوث متلازمان، وكلاهما دليل الحاجة والافتقار، وفقر العالم إلى الله [عز وجل] أَمر ذاتي لا يعلل، فهو فقير بذاته إلى ربه الغنى بذاته، ثم يستدل بإِمكانه وحدوثه وغير ذلك من الأَدلة على هذا الفقر. والمقصود أنه سبحانه أَخبر عن حقيقة العباد وذواتهم بأَنها فقيرة إِليه [عز وجل]، كما أَخبر عن ذاته المقدسة وحقيقته أَنه غنى حميد، فالفقر المطلق من كل وجه ثابت لذواتهم وحقائقهم من حيث هي، والغنى المطلق من كل وجه ثابت لذاته تعالى وحقيقته من حيث هي، فيستحيل أن يكون العبد إِلا فقيراً، ويستحيل أَن يكون الرب سبحانه إِلا غنياً، كما أَنه يستحيل أَن يكون العبد إلا عبداً والرب إِلا رباً.
(الغنى بالله مع الفقر إِليه متلازمان:
((قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه طريق الهجرتين:
ولما كان الفقر إِلى الله عز وجل هو عين الغنى به ـ فأَفقر الناس إِلى الله أَغناهم به، وأَذلهم له أَعزهم، وأَضعفهم بين يديه أَقواهم، وأَجهلهم عند نفسه أَعلمهم بالله وأَمقتهم لنفسه أَقربهم إِلى مرضاة الله ـ كأن ذكر الغنى بالله مع الفقر إِليه متلازمين متناسبين.
(وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
سئل محمد بن عبد الله الفرغاني عن الافتقار إِلى الله تعالى والاستغناء به فقال: إِذا صح الافتقار إِلى الله تعالى صح الاستغناءُ به، وإذا صح الاستغناءُ به صح الافتقار إِليه، فلا يقال أَيهما أَكمل لأَنه لا يتم أَحدهما إِلا بالآخر.
(ثم قال رحمه الله تعالى:(8/2)
قلت: الاستغناءُ بالله هو عين الفقر إِليه، وهما عبارتان عن معنى واحد، لأَن كمال الغنى به هو كمال عبوديته، وحقيقة العبودية كمال الافتقار إِليه من كل وجه، وهذا الافتقار هو عين الغنى به، فليس هنا شيئان يطلب تفضيل أَحدهما على الآخر، وإِنما يتوهم كونهما شيئين بحسب المستغنى عنه والمفتقر إِليه، فهي حقيقة واحدة ومقام واحد يسمى ((غنى)) بالنسبة إِلى فراغه عن الموجودات الفانية، و ((فقراً)) بالنسبة إِلى قصر همته وجمعها على الله [عز وجل]، فهي همة سافرت عن شيء واتصلت بغيره، فسفرها عن الغير غنى، وسفرها إِلى الله فقر، فإِذا وصلت إِليه استغنت به بكمال فقرها إِليه، إذ يصير لها بعد الوصول فقر آخر غير فقرها الأول، وإِنما يكمل فقرها بهذا الوصول.
(كل حي سوى الله فقير إِلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه طريق الهجرتين:
اعلم أَن كل حي سوى الله فهو فقير إِلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، والمنفعة للحى من جنس النعيم، واللذة والمضرة من جنس الأَلم والعذاب. فلابد من أَمرين:
أحدهما: هو المطلوب المقصود المحبوب الذي ينتفع به ويتلذذ به، والثاني: هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود والمانع لحصول المكروه والدافع له بعد وقوعه.(8/3)
فها هنا أَربعة أَشياءَ: أَمر محبوب مطلوب الوجود، والثاني أمر مكروه مطلوب العدم، والثالث الوسيلة إِلى حصول المحبوب، والرابع الوسيلة إلى دفع المكروه. فهذه الأُمور الأَربعة ضرورية للعبد بل ولكل حي سوى الله، لا يقوم صلاحه إِلا بها، إِذا عرف هذا فالله سبحانه وتعالى هو المطلوب المعبود المحبوب وحده لا شريك له وهو وحده المعين للعبد على حصول مطلوبه، فلا معبود سواه ولا معين على المطلوب غيره، وما سواه هو المكروه المطلوب بعده وهو المعين على دفعه، فهو سبحانه الجامع للأُمور الأَربعة دون ما سواه، وهذا معنى قول العبد: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين} * [الفاتحة: 5]، فإن هذه العبادة تتضمن المقصود المطلوب على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذي يستعان به على حصول المطلوب ودفع المكروه. فالأَول من مقتضى أُلوهيته، والثاني من مقتضى ربوبيته، لأَن الإِله هو الذي يؤله فيعبد محبة وإِنابة وإِجلالاً وإِكراماً، والرب هو الذي يرب عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إِلى جميع أَحواله ومصالحه التي بها كماله، ويهديه إِلى اجتناب المفاسد التي بها فساده وهلاكه. وفى القرآن سبعة مواضع تنتظم هذين الأَصلين: أحدها قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِيْنُ} * [الفاتحة: 5]، الثاني قوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} * [هود: 88] [الشورى: 10]، الثالث قوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} * [هود: 123]، الرابع قوله تعالى: {عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} * [الممتحنة: 4]، الخامس قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَى الَّذِى لا يُمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} * [الفرقان: 58]، السادس قوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَاب} * [الرعد: 30]، السابع قوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً * رَبُّ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} * [المزمل: 8 - 9].
(أقسام الغنى:
مسألة: ما هو أقسام الغنى؟
الغنى قسمان: غنى سافل، وغنى عال.(8/4)
(فالغنى السافل: الغنى بالعواري المستردة من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأَنعام والحرث وهذا أَضعف الغنى، فإِنه غنى بظل زائل، وعارية ترجع عن قريب إِلى أَربابها، فإِذا الفقر بأَجمعه بعد ذهابها، وكَأن الغنى بها كان حلماً فانقضى، ولا همة أَضعف من همة من رضي بهذا الغنى الذي هو ظل زائل. وهذا غنى أَرباب الدنيا الذي فيه يتنافسون، وإِياه يطلبون، وحوله يحومون، ولا أَحب إِلى الشيطان وأَبعد عن الرحمن من قلب ملآن بحب هذا الغنى والخوف من فقده.
قال بعض السَلَف: إِذا اجتمع إبليس وجنوده لم يفرحوا بشيء كفرحهم بثلاثة أَشياءَ: مؤمن قتل مؤمناً، ورجل يموت على الكفر، وقلب فيه خوف الفقر. وهذا الغنى محفوف بفقرين: فقر قبله، وفقر بعده، وهو كالغفوة بينهما. فحقيق بمن نصح نفسه أن لا يغتر به ولا يجعله نهاية مطلبه، بل إذا حصل له جعله سبباً لغناه الأَكبر وسيلة إِليه، ويجعله خادماً من خدمه لا مخدوماً له، وتكون نفسه أَعز عليه من أَن يعبِّدها لغير مولاه الحق، أَو يجعلها خادمة لغيره.
(أَما الغنى العالي: فهو «غنى القلب» «وغنى النفس» «والغنى بالحق تبارك وتعالى عن كل ما سواه وهو أعلى درجات الغنى».
(كيف يحصل غنى القلب:
مسألة: كيف يحصل غنى القلب:
غنى القلب: يكون بثلاثة أشياء متلازمة:
(1) سلامته من الفقر إِلى السبب والاعتماد عليه والركون إِليه والثقة به، فمن كان معتمداً على سبب غناه واثقاً به لم يطلق عليه اسم الغنى، لأَنه فقير إِلى الوسائط، بل لا يسمى صاحبه غنياً إِلا إِذا سلم من علة السبب استغناءً بالمسبب.
(2) الوقوف على حسن تدبير الله والمسالمة لحكمه.
مسألة: ما معنى المسالمة لحكمه؟
المسالمة لحكمه: أي الانقياد لحكمه، فإِذا وقف العبد على حسن تدبيره واستغنى القلب به لم يتم له الاستغناءُ بمجرد هذا الوقوف، إن لم ينضم إِليه المسالمة للحكم وهو الانقياد له، فإِن المنازعة للحكم إِلى حكم آخر دليل على وجود رعونة الاختيار، وذلك دال على فقر صاحب الاختيار إِلى ذلك الشيء المختار، ومن كان فقيراً إِلى شيء لم يُرِدْه الله عز وجل لم يطلق عليه اسم الغنى بتدبير الله عز وجل، فلا يتم الغنى بتدبير الرب عز وجل لعبده إِلا بالمسالمة لحكمه بعد الوقوف على حسن تدبيره.(8/5)
(3) الخلاص من مخاصمة الخلق، فإِن منازعة الخلق دليل على فقره إِلى الأَمر الذي وقعت فيه الخصومة من الحظوظ العاجلة، ومن كان فقيراً إِلى حظ من الحظوظ ـ يسخط لفوته ويخاصم الخلق عليه ـ لا يطلق عليه اسم الغنى حتى يسلم الخلق من خصومته بكمال تفويضه إِلى وليه وقيومه ومتولي تدبيره.
فمتى سلم العبد من علة فقره إلى السبب، ومن علة منازعته لأَحكام الله تعالى ومن علة مخاصمته للخلق على حظوظ، استحق أَن يكون غنياً بتدبير مولاه مفوضاً إِليه لا يفتقر قلبه إِلى غيره ولا يسخط شيئاً من أَحكامه ولا يخاصم عباده إِلا في حقوق ربه فتكون مخاصمته لله وبالله، ومحاكمته إِلى الله، كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في استفتاح صلاة الليل في الحديث الآتي:
(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا قام من الليل يتهجد قال: اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيمُ السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وأخرت وأسررت وأعلنت أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت.
فتكون مخاصمة هذا العبد لله لا لهواه وحظه ومحاكمته خصمه إِلى أَمر الله وشرعه لا إِلى شيء سواه، فمن خاصم لنفسه فهو ممن اتبع هواه وانتصر لنفسه، وقد قالت عائشة: ((ما انتقم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنفسه قط))، وهذا لتكميل عبوديته. ومن حاكم خصمه إِلى غير الله ورسوله فقد حاكم إِلى الطاغوت، وقد أمر أن يكفر به، ولا يكفر العبد بالطاغوت حتى يجعل الحكم لله وحده كما هو كذلك في نفس الأَمر.
(كيف يحصل غنى النفس:
مسألة: كيف يحصل غنى النفس:
يحصل غنى النفس باستقامتها على الأمر الديني الذي يحبه الله ويرضاه، وتجنبها لمناهيه التي يسخطها ويبغضها، وأن تكون هذه الاستقامة على الفعل والترك تعظيما لله سبحانه وأمره، وإيمانا به، واحتسابا لثوابه، وخشية من عقابه، لا طلبا لتعظيم المخلوقين له ومدحهم، وهربا من ذمهم وازدرائهم، وطلبا للجاه والمنزلة عندهم، فإن هذا دليل على غاية الفقر من الله، والبعد عنه وأنه أفقر شيء إلى المخلوق.(8/6)
فسلامة النفس من ذلك واتصافها بضده دليل غناها، لأنها إذا أذعنت منقادة لأمر الله طوعاً واختيارا ومحبةً وإيماناً واحتسابا، بحيث تصير لذاتها وراحتها ونعيمها وسرورها في القيام بعبوديته كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ((يا بلال أرحنا بالصلاة)) كما في الحديث الآتي:
(حديث عبد الله محمد ابن الحنفية الثابت في صحيح أبي داوود) قال: انطلقت أنا وأبي إلى صهر لنا من الأنصار نعوده، فحضرت الصلاة، فقال لبعض أهله: يا جارية ائتوني بوضوء لعلي أصلي فأستريح قال: فأنكرنا ذلك عليه، فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "" قم يا بلال فأرحنا بالصلاة "".
وجعلت قرة عين رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة كما في الحديث الآتي:
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: حبب إلي من الدنيا الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة.
فقرة العين فوق المحبة، فجعل النساء والطيب مما يحب، وأخبر أن قرة العين التي يطمئن القلب بالوصول إليها ومحض لذته وفرحه وسروره وبهجته إنما هو في الصلاة التي هي صلة بالله وحضور بين يديه ومناجاة له واقتراب منه، فكيف لا تكون قرة العين، وكيف تقر عين المحب بسواها. فإذا حصل للنفس هذا الحظ الجليل فأي فقر يخشى معه، وأي غنى فاتها حتى تلتفت إليه؟
ولا يحصل لها هذا حتى ينقلب طبعها ويصير مجانسا لطبيعة القلب، فتصير بذلك مطمئنة بعد أن كانت لوامة، وإنما تصير مطمئنة بعد تبادل صفاتها وانقلاب طبعها، لاستغناء القلب بما وصل إليه من نور الحق جل جلاله، فجرى أثر ذلك النور في سمعه وبصره وشعره وبشره وعظمه ولحمه ودمه وسائر مفاصله، وأحاط بجهاته من فوقه وتحته ويمينه ويساره وخلفه وأمامه، وصارت ذاته نوراً وصار عمله نورا، وقوله نورا، ومدخله نورا ومخرجه نورا وكان في مبعثه ممن انبهر له نوره فقطع به الجسر.(8/7)
وإذا وصلت النفس إلى هذه الحال استغنت بها عن التطاول إلى الشهوات التي توجب اقتحام الحدود المسخوطة، والتقاعد عن الأمور المطلوبة المرغوبة، فإن فقرها إلى الشهوات هو الموجب لها التقاعد عن المرغوب المطلوب، وأيضا فتقاعدها عن المطلوب بينهما موجب لفقرها إلى الشهوات، فكل منهما موجب للآخر، وترك الأوامر أقوى لها من افتقرها إلى الشهوات، فإنه بحسب قيام العبد بالأمر تدفع عنه جيوش الشهوة، كما قال تعالى: {إنَّ الصَّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45]، وقال تعالى: {إنَّ الله يدافع عن الذِينَ آمنُوا} [الحج: 38]، وفي القراءة الأخرى (يدفَعُ)، فكمال الدفع والمدافعة بحسب قوة الإيمان وضعفه، فإذا صارت النفس حرة طيبة مطمئنة غنية بما أغناها به مالكها وفاطرها من النور الذي وقع في القلب ففاض منه إليها استقامت بذلك الغنى على الأمر الموهوب، وسلمت به عن الأمر المسخوط وبرئت من المراءاة، «ومدار ذلك كله على الاستقامة باطنا وظاهرا»، ولهذا كان الدين كله في قوله تعالى: {فاستقم كما أمرت} [هود: 112]، وقال سبحانه: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [الأحقاف: 13].
(كيف يحصل الغنى بالحق تبارك وتعالى:
مسألة: كيف يحصل الغنى بالحق تبارك وتعالى؟
الغنى بالحق تبارك وتعالى عن كل ما سواه، وهى أَعلى درجات الغنى، وهو ثلاث درجات:
(أَول هذه الدرجة أَن تشهد ذكر الله عَزَّ وجَلَّ إِياك قبل ذكرك له، وأَنه تعالى ذكرك فيمن ذكره من مخلوقاته ابتداءً قبل وجودك وطاعتك وذكرك، فقدر خلقك ورزقك وعملك وإِحسانه إِليك ونعمه عليك حيث لم تكن شيئاً البتة، وذكرك سبحانه بالإٍِسلام فوفقك له واختارك له دون من خذله، قال تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} * [الحج: 78](8/8)
فجعلك أهلاً لما لم تكن أهلاً له قط، وإِنما هو الذي أَهَّلَك بسابق ذكره، فلولا ذكره لك بكل جميل أَولاكَه لم يكن لك إِليه سبيل، ومن الذي ذَكَّرَك سواه باليقظة حتى استيقظت وغيرك في رقدة الغفلة مع النوام؟ ومن الذي ذَكَّرَك سواه بالتوبة حتى وفقك لها، وأَوقعها في قلبك، وبعث دواعيك عليها، وأَحيا عزماتك الصادقة عليها، حتى تُبْتَ إِليه وأَقبلت عليه، فذقت حلاوة التوبة وبردها ولذاتها؟ ومن الذي ذَكَّرَك سواه بمحبته حتى هاجت من قلبك لواعجها وتوجهت نحوه سبحانه ركائبها، وَعَمَّرَ قلبك بمحبته بعد طول الخراب، وآنسك بقربه بعد طول الوحشة والاغتراب ومن تقرب إِليك أَولاً حتى تقربت إِليه، ثم أَثابك على هذا التقرب تقرباً آخر فصار التقرب منك محفوفاً بِتَقَرُبَيْن منه تعالى: تقرب بعده وتقرب قبله، والحب منك محفوفاً بحبين منه: حب قبله وحب بعده، والذكر منك محفوفاً بذكرين: ذكر قبله وذكر بعده، فلولا سابق ذكره إِياك لم يكن من ذلك كله شيء، ولا وصل إِلى قلبك ذرة مما وصل إِليه من معرفته وتوحيده ومحبته وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإِنابة إِليه والتقرب إِليه، فهذه كلها آثار ذكره لك،
ثم إِنه سبحانه ذكرك بنعمه المترادفة المتواصلة بعدد الأَنفاس، فله عليك في كل طرفة عين ونفس نعم عديدة ذكرك بها قبل وجودك، وتعرف بها إِليك وتحبب بها إِليك مع غناه التام عنك وعن كل شيء، وإِنما ذلك مجرد إِحسانه وفضله وجوده، إِذ هو الجواد المفضل المحسن لذاته لا لمعاوضة ولا لطلب جزاءٍ منك ولا لحاجة دعته إِلى ذلك كيف وهو الغنى الحميد، فإِذا وصل إِليك أَدنى نعمة منه فاعلم أنه ذكرك بها، فلتعظم عندك لذكره لك بها، فإِنه ما حقرك من ذكرك بإِحسانه وابتدأَك بمعروفه وتحبب إِليك بنعمته، هذا كله مع غناه عنك.
فإذا شهد العبد ذكر ربه تعالى له، ووصل شاهده إِلى قلبه شغله ذلك عما سواه، وحصل لقلبه به غنى عال لا يشبهه شيء، وهذا كما يحصل للمملوك الذي لا يزال أُستاذه وسيده يذكره ولا ينساه، فهو يحصل له ـ بشعوره بذكر أُستاذه له ـ غنى زائد على إِنعام سيده عليه وعطاياه السنية له، فهذا هو غنى ذكر الله للعبد. وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد. ((8/9)
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملٍ خيرٌ منهم، وإن تقَّرب إليَّ شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إليَّ ذراعا تقربت إليه باعا و إن أتاني مشيا أتيته هَرْوَلَةً.
فهذا ذكر ثان بعد ذكر العبد لربه غير الذكر الأَول الذي ذكره به حتى جعله ذاكراً، وشعور العبد بكلا الذكرين يوجب له غنى زائداً على إِنعام ربه عليه وعطاياه له، والمقصود أَن شعور العبد وشهوده لذكر الله له يغنى قلبه ويسد فاقته، وهذا بخلاف من نسوا الله فنسيهم، فإن الفقر من كل خير حاصل لهم، وما يظنون أَنه حاصل لهم من الغنى فهو من أَكبر أَسباب فقرهم.
(الدرجة الثانية من درجات الغنى بالحق تبارك وتعالى: دوام شهود أَوَّليته تعالى، وهذا الشهود عند أَرباب السلوك أَعلى مما قبله، والغنى به أَتم من الغنى المذكور، لأَنه من مبادئ الغنى بالحقيقة، لأَن العبد إِذا فتح الله لقلبه شهود أَوليته سبحانه حيث كان ولا شيء غيره، وهو الإِلَه الحق الكامل في أَسمائه وصفاته، الغنى عما سواه، الحميد المجيدُ بذاته قبل أَن يخلق من يحمده ويعبده ويمجده، فهو معبود محمود حي قيوم له الملك وله الحمد في الأَزل والأَبد، لم يزل ولا يزال موصوفاً بصفات الجلال، منعوتاً بنعوت الكمال، وكل شيء سواه فإِنما كان به، وهو تعالى بنفسه ليس بغيره فهو القيوم الذي قيام كل شيء به، ولا حاجة به في قيوميته إِلى غيره بوجه من الوجوه.(8/10)
فإِذا شهد العبد سبقه تعالى بالأولية ودوام وجوده الحق وغاب بهذا عما سواه من المحدثات فني في وجوده من لم يكن كأنه لم يكن وبقى من لم يزل، واضمحلت الممكنات في وجوده الأزلي الدائم بحيث صارت كالظلال التي يبسطها ويمدها ويقبضها، فيستغنى العبد بهذا المشهد العظيم ويتغذى بها عن فاقاته وحاجاته. وإِنما كان هذا عندهم أَفضل مما قبله لأَن الشهود الذي قبله فيه شائبة مشيرة إِلى وجود العبد، وهذا الشهود الثاني سائر الموجودات كلها سوى الأَول تعالى قد اضمحلت وفنيت فيه، وصارت كأوليتها وهو العدم، فأَفنتها أَولية الحق تبارك وتعالى، فبقيَ العبد محواً صرفاً وعدماً محضاً، وإِن كانت آنيته مشخصة مشاراً إِليها لكنها لما نسبت إِلى أَولية الحق عَزَّ وجَلَّ اضمحلت وفنيت وبقى الواحد الحق الذي لم يزل باقياً، فاضمحل ما دون الحق تعالى في شهود العبد كما هو مضمحل في نفسه، وشهد العبد حينئذ أَن كل شيء ما سوا الله باطل، وأَن الحق المبين هو الله وحده، ولا ريب أَن الغنى بهذا الشهود دائم من الغنى بالذي قبله، وليس هذا مختصاً بشهود أَوليته تعالى فقط بل جميع ما يبدو للقلوب من صفات الرب جل جلاله يستغنى العبد بها بقدر حظه وقسمه من معرفتها وقيامه بعبوديتها.(8/11)
فمن شهد مشهد علو الله على خلقه وفوقيته لعباده واستوائه على عرشه كما أَخبر به أَعرف الخلق وأَعلمهم به الصادق المصدوق وتعبد بمقتضى هذه الصفة بحيث يصير لقلبه صمد يعرج القلب إِليه مناجياً له مطرقاً واقفاً بين يديه وقوف العبد الذليل بين يدي الملك العزيز. فيشعر بأن كلمه وعمله صاعد إِليه معروض عليه مع أَوفى خاصته وأَوليائه، فيستحى أَن يصعد إِليه من كلمه ما يخزيه ويفضحه هناك، ويشهد نزول الأَمر والمراسيم الإِلهية إِلى أَقطار العوالم كل وقت بأَنواع التدبير والمصرف ـ من الإِماتة والإِحياءِ والتولية والعزل والخفض والرفع والعطاءِ والمنع وكشف البلاءِ وإِرساله وتقلب الدول ومداولة الأَيام بين الناس ـ إِلى غير ذلك من التصرف في المملكة التي لا يتصرف فيها سواه، فمراسمه نافذة كما يشاءُ {يُدَبّرُ الأمْرَ مِنَ السّمَآءِ إِلَى الأرْضِ ثُمّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ} * [السجدة: 5] فمن أعطى هذا المشهد حقه معرفة وعبودية استغنى به. وكذلك من شهد مشهد العلم المحيط الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأَرض ولا في السموات ولا في قرار البحار ولا تحت أَطباق الجبال بل أَحاط بذلك علمه علماً تفصيلياً ثم تعبد بمقتضى هذا الشهود من حراسة خواطره وإِرادته وجميع أَحواله وعزماته وجوارحه علم أَن حركاته الظاهرة والباطنة وخواطره وإِرادته وجميع أَحواله ظاهرة مكشوفة لديه علانية له بادية لا يخفى عليه منها شيء. وكذلك إِذا أشعر قلبه صفة سمعه تبارك وتعالى لأصوات عباده على اختلافها وجهرها وخفائها وسواء عنده من أسرّ القول ومن جهر به لا يشغله جهرُ من جهرَ عن سمعه لصوت من أَسرّ ولا يشغله .. سمع عن سمع ولا تغلطه الأصوات على كثرتها واختلافها واجتماعها بل هي عنده كلها كصوت واحد، كما أن خلق الخلق جميعهم وبعثهم عنده بمنزلة نفس واحدة(8/12)
وكذلك .. إذا شهد معنى اسمه البصير جل جلاله الذي يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في حندس الظلماء، ويرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة ومخها وعروقها ولحمها وحركتها ويرى مد البعوضة جناحها في ظلمة الليل، وأعطى هذا المشهد حقه من العبودية بحرس حركاتها وسكناتها وتيقن أنها بمرأى منه تبارك وتعالى ومشاهدة لا يغيب عنه منها شيء، وكذلك إِذا شهد مشهد القيومية الجامع لصفات الأفعال وأنه قائم على كل شيء، وقائم على كل نفس بما كسبت، وأنه تعالى هو القائم بنفسه المقيم لغيره القائم عليه بتدبيره وربوبيته وقهره وإيصال جزاء المحسن إليه وجزاء المسيء إليه وأنه بكمال قيوميته لا ينام ولا ينبغى له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل، لا تأخذه سنة ولا نوم ولا يضل ولا ينسى. وهذا المشهد من أرفع مشاهد العارفين، وهو مشهد الربوبية.(8/13)
وأعلى منه مشهد الإلهية الذي هو مشهد الرسل وأتباعهم الحنفاء، وهو شهادة أن لا إله إلا هو وأن إلهية ما سواه باطل ومحال، كما أن ربوبية ما سواه كذلك فلا أحد سواه يستحق أن يؤله ويعبد، ويصلى له ويسجد، ويستحق نهاية الحب مع نهاية الذل لكمال أسمائه وصفاته وأفعاله، فهو المطاع وحده على [الحقيقة]، والمألوه وحده، وله الحكم وحده، فكل عبودية لغيره باطلة وعناء وضلال، وكل محبة لغيره عذاب لصاحبها، وكل غنى لغيره فقر وفاقة، وكل عز بغيره ذل وصغار، وكل تكثر بغيره قلة وذلة، فكما استحال أن يكون للخلق رب غيره فكذلك استحال أن يكون لهم إله غيره، فهو الذي انتهت إليه الرغبات وتوجهت نحوه الطلبات، ويستحيل أن يكون معه إله آخر، فإن الإله على الحقيقة هو الغنى الصمد الكامل في أسمائه وصفاته الذي حاجة كل أحدٍ إليه ولا حاجة به إلى أحد، وقيام كل شيء به وليس قيامه بغيره، ومن المحال أن يحصل في الوجود اثنان كذلك، ولو كان في الوجود إلهان لفسد نظامه أعظم فساد واختل أعظم اختلال، كما أنه يستحيل أن يكون له فاعلان متساويان كل منهما مستقل بالفعل، فإن استقلالهما ينافى استقلالهما واستقلال أحدهما يمنع ربوبية الآخر، فتوحيد الربوبية أعظم دليل على توحيد الإلهية، وذلك وقع الاحتجاج به في القرآن أكثر مما وقع بغيره، لصحة دلالته وظهورها وقبول العقول والفطر لها، ولاعتراف أهل الأرض بتوحيد الربوبية، وكذلك كان عباد الأصنام يقرون به وينكرون توحيد الإلهية ويقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلهاً وَاحِداً} * [ص: 5]، مع اعترافهم بأن الله وحده هو الخالق لهم وللسموات والأرض وما بينهما، وأنه المنفرد بملك ذلك كله، فأرسل الله تعالى الرسل يذكر بما في فطرهم الإقرار به من توحيده وحده لا شريك له وأنهم لو رجعوا إِلى فطرهم وعقولهم لدلتهم على امتناع إله آخر معه واستحالته وبطلانه، فمشهد الأُلوهية هو مشهد الحنفاء، وهو مشهد جامع للأَسماء والصفات، ولذلك كان الاسم الدال على هذا المعنى هو اسم الله جل جلاله، فإِن هذا الاسم هو الجامع، ولهذا تضاف الأَسماءُ الحسنى كلها إليه فيقال: الرحمن الرحيم العزيز الغفار القهار من أَسماء الله، ولا يقال: الله من أَسماءِ الرحمن، قال الله تعالى: {وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} * [الأعراف: 180](8/14)
فهذا المشهد تجتمع فيه المشاهد كلها وكل مشهد سواه، فإنما هو مشهد لصفة من صفاته، فمن اتسع قلبه لمشهد الإِلهية وقام بحقه من التعبد الذي هو كمال الحب بكمال الذل والتعظيم والقيام بوظائف العبودية، فقد تم له غناه بالإِله الحق، وصار من أَغنى العباد، ولسان حال مثل هذا يقول:
غنيت بلا مال عن الناس كلهم وإِن الغنى العالي عن الشيء لا به
فياله من غنى ما أَعظم خطره وأَجل قدره، تضاءَلت دونه الممالك فما دونها، وصارت بالنسبة إِليه كالظل من الحامل له، والطيف الموافي في المنام الذي يأتي به حديث النفس ويطرده الانتباه من النوم.
(الدرجة الثالثة من درجات الغنى بالحق تبارك وتعالى:
«الفوز بوجوده» وهذا الغنى أعلى درجات الغنى، لأَن الغنى الأَول والثاني كانا من آثار ذكر الله والتوجه إليه، ففاض على القلب من صدق التوجه أَنوار الصفات المقدسة، واستغنى القلب بذلك وحصل أَيضاً أَنوار الشعور بكفالته وكفايته لعبده وحسن وكالته وقيوميته بتدبيره وحسن تدبيره فاستغنت النفس بذلك أَيضاً. وأَما هذا الغنى الثالث ـ الذي هو الغنى بالحق ـ فهو من آثار وجود الحقيقة، وهو إِنما يكون بعد ترقيه من آثار الصفات إِلى آثار وجود الذات، وإِنما يكون هذا الوجود بعد مكاشفة عين اليقين عندما يطلع فجر التوحيد، فهذا أَوله وكماله عند طلوع شمسه فينقطع ضباب الوجود الفاني وتشرق شمس الوجود الباقي فينقطع لها كل ضباب، وهذا عبارة عن نور يقذف في القلب يكشف له بذلك النور عن عظمة الذات كما كشف له بالنور الذي قبله عن عظمة الصفات، فإِذا كان أَثر من آثار صفات الذات أَو صفات الأَفعال يغنى القلب والنفس فما ظنك بما تكاشف به الأَرواح من أَنوار قدس الذات المتصفة بالجلال والإكرام فهذا غنى لا يناله الوصف ولا يدخل تحت الشرح فيستغني العبد الفقير بوجود سيده العزيز الرحيم، فيا لك من فقر ينقضي ومن غنى يدوم ومن عيش أَلذ من المنى، فلا تستعجز نفسك عن البلوغ إِلى هذا المقام فبينك وبينه صدق الطلب، وإِنما هي عزمة صادقة ونهضة حر ممن لنفسه عنده قدر وقيمة يغار عليها أَن يبيعها بالدون.(8/15)
فمن طلب الله بصدق وجده، ومن وجده وأغناه وجوده عن كل شيء، فأَصبح حراً في غنى ومهابة على وجهه أَنواره وضياؤه، وإِن فاته مولاه جل جلاله تباعد ما يرجو وطال عناؤه، ومن وصل إِلى هذا الغنى قرت به كل عين لأنه قد قرت عينه بالله والفوز بوجوده، ومن لم يصل إِليه تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همّه جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له.
[من كانت الآخرة همّه]: يعني: أي شغله الشاغل، يعمل لها ويرغب فيها عن الآخرة، كان جزائه ما يلي:
جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة:
[ومن كانت الدنيا همّه]: فالإنسان مخلوق من أجل العبادة، فإذا نسي هذا الأمر وأصبح نهماً على الدنيا يريد أن يجمعها من أي جهة كانت، وأصبحت هذه الدنيا همه الوحيد فهذا جزاؤه [جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له]
[جعل الله فقره بين عينيه]: يعني: أنه دائماً مستحضر الفقر يرى الفقر بين عينيه، مهما وجد معه من المال،
[وفرَّق عليه شمله]: فالذي يجمع لك الأمور ويؤلف بين القلوب هو الله سبحانه وتعالى، فالإنسان يجمع من شمال ويمين وربنا يفرق عليه هذا كله ما دام همه الوحيد.
[ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له]: فلا تتعب نفسك وتحملها فوق طاقتها فتقصر في عبادة الله سبحانه، وتقول: المال المال، ولكن ابحث عن المال من حلال، واحذر الحرام، واحذر أن تضيع الدين وتضيع الطاعة فيضيع منك الجميع الدنيا والآخرة.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من جعل الهموم هماً واحدا هم المعاد كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك.(8/16)
من جعل الهموم هماً واحدا هم المعاد: ولو أن كلاً منا في قلبه الآخرة، فسيدرك أن الله سبحانه على كل عمل يقوم به، فإنه إذا قام للصلاة تذكر: الله سيحاسبني على هذه الصلاة فيحسنها، وإذا صام أحسن الصيام، وإذا عمل أي عمل من الأعمال أتقن ذلك العمل، ولا من أجل أن يأخذ الجزاء من الناس، ليس من أجل أن يترقى، ولكن ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه، فإذا كانت الآخرة على بال الإنسان دائماً فإن الله سوف يكفيه أمر دنياه، قال: (كفاه الله هم دنياه).
ومن تشعبت به الهموم: يعني: نسي الآخرة وبدأ يفكر يريد أن يأكل ويشرب ويلبس ويريد كذا وكذا، ويعمل طول النهار وهو يفكر في أمور الدنيا، ناسياً ربه سبحانه فهذا يكون حاله كما في الحديث:
(لم يبال الله في أي أوديته هلك): يعني: في أي مكان هلك لا يبالي الله عز وجل به. فالمؤمن قريب من الله، والله يحبه ويفرح بتوبته وبإقباله عليه، أما الإنسان البعيد عن الله سبحانه وتعالى فإن يهلك في أي واد لا يبالي الله به.
فهذا هو الفقر الحقيقي والغنى الحقيقي، وإِذا كان هذا غنى من كانت الآخرة أَكبر همه فكيف من كان الله عز وجل أكبر همه، فهذا من باب التنبيه والأَولى.
(فصلٌ في منزلة الإحسان:
[*] (عناصر الفصل:
(منزلة الإحسان من منازل السائرين إلى رب العالمين:
(تعريف الإحسان:
(فضائل الإحسان:
(جزاء المحسنين:
(من صفات المحسنين:
(الإحسان أعلى مراتب الدين:
(الإحسان فوق العدل:
(طرق الإحسان:
(أنواع الإحسان:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(منزلة الإحسان من منازل السائرين إلى رب العالمين:
((قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الإحسان
«وهي لب الإيمان وروحه وكماله» وهذه المنزلة تجمع جميع المنازل فجميعها منطوية فيها وكل ما قيل من أول الكتاب إلى ههنا فهو من الإحسان
قال صاحب المنازل رحمه الله وقد استشهد على هذه المنزلة بقوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} [الرحمن: 60]
فالإحسان جامع لجميع أبواب الحقائق «وهو أن تعبد الله كأنك تراه» أما الآية: فقال ابن عباس رضي الله عنه والمفسرون: هل جزاء من قال: لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد إلا الجنة.
(تعريف الإحسان:
مسألة: ما هو الإحسان؟(8/17)
الإحسان هو مراقبة الله في السر والعلن، وفي القول والعمل، وهو فعل الخيرات على أكمل وجه، وابتغاء مرضات الله.
وتأمل بعين البصيرة هذه القصة الرائعة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(مرَّ عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- على غلام يرعى أغنامًا لسيده، فأراد ابن عمر أن يختبر الغلام، فقال له: بع لي شاة. فقال الصبي: إنها ليست لي، ولكنها ملك لسيدي، وأنا عبد مملوك له. فقال ابن عمر: إننا بموضع لا يرانا فيه سيدك، فبعني واحدة منها، وقل لسيدك: أكلها الذئب. فاستشعر الصبي مراقبة الله، وصاح: إذا كان سيدي لا يرانا، فأين الله؟! فسُرَّ منه عبد الله بن عمر، ثم ذهب إلى سيده، فاشتراه منه وأعتقه.
(فضائل الإحسان:
الإحسان عمل المقرَّبين، وغاية العابدين، ودرجة الفائزين. على المسلم أن يسعى إلى درجاته وأن يسابق إلى خيراته بقدر استطاعته، ليكون سائراً في طريق المُفلحين، متَّبِعاً سَنَنَ الصالحين، ليحشر في زمرتهم تحت راية سيد المرسلين صلى الله وسلم عليهم أجمعين، غيضٌ من فيض وقليلٌ من كثير مما ورد في فضائل الإحسان:
(1) الإحسان أفضل منازل السائرين، وأعلى درجات العبادة، وأحسن أحوال عباد الله الصالحين، قال الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النساء:125]، وقد وعد الله تعالى على الإحسان أعظم الثواب في الدارين، وأحاط المحسنين بعنايته، وحفظهم بقدرته، وأجزل لهم الخيرات برحمته تعالى.
(2) ومن فضائل الإحسان أن الله تعالى مع من أحسن العمل معيةً خاصة بنصره وتأييده وحفظه ومعونته وتوفيقه وإصلاح شأنه كله، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [النحل:128]، وقال تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
(3) ومن فضائل الإحسان محبة الله تعالى لعبده الذي أحسن القول والفعل محبةً تليق بجلاله، وإذا أحب الله عبداً آتاه من كل خير وصرف عنه كل شر، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195].(8/18)
(4) ومن فضائل الإحسان أن الله تعالى يجعل للمحسنين من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية، وينجيهم من مكر أعدائهم، ويمنّ على المحسنين بأنواع المنن والخيرات، ويكتب لهم أحسن العاقبة، قال الله تعالى عن يوسف عليه الصلاة والسلام وعن أخيه: قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90]، وقال تعالى: إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [الكهف:30].
(5) ومن فضل الله تعالى على الإحسان عِلمٌ يقذفه الله في القلب يفرِّق به الإنسان بين الحلال والحرام، والحق والباطل، ونورٌ يكشف الله به الظلمات، ويرفع به ظلمات الشبهات، وأمراض الشهوات، قال الله تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذالِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ [يوسف:22].
(6) ومن فضائل الإحسان أن الله تعالى يُلحق آخر المحسنين بأولهم، ويُشركهم في فضله وثوابه، ويحشرهم آخرهم مع أوّلهم، وينشر عليهم رحمته، ويتم عليهم نعمته، قال الله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100].
(7) ومن فضائل الإحسان الثناء الحسن من رب العالمين، والثناء من العباد والدعاء الدائم للمحسنين، والبركات المتكاثرة الحالة، قال تعالى: سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَالَمِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ [الصافات:79، 80]، سَلَامٌ عَلَى إِبْراهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ [الصافات:109، 110]، سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ [الصافات:120، 121]، إلى غير ذلك من الآيات، وهذا وإن كان في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنه ثواب لكل من أحسن بحسب إحسانه وعبادته لله تبارك وتعالى.
(8) ومن فضائل الإحسان أن الله تعالى يُعطي صاحبه كل خير، ويصرف عنه الشر والمكروه، قال تعالى: لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هاذِهِ الْدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ [النحل:30].(8/19)
(9) ومن فضائل الإحسان أن ثوابه في الآخرة فإنه أجلُّ الثواب وأعظم الجزاء، قال الله تعالى: هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ [الرحمن:60]، وقال تعالى: لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس:26]، والحسنى هي الجنة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم كما في النصوص الآتية:
قال تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نّاضِرَةٌ * إِلَىَ رَبّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة /22، 23]
قال تعالى: (لّلّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَىَ وَزِيَادَةٌ) [يونس / 26]
((حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: كنا عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: (أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا). ثم قال: {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها} [طه/ 130]
((حديث صُهَيْبٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة قال يقول الله تبارك وتعالى تريدون شيئا أزيدكم فيقولون ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار قال فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل.
((حديث صُهَيْبٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: في قَوْلِهِ {لِلّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قالَ: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنّةِ الْجَنّةَ، نَادَى مُنَادٍ إِنّ لَكُمْ عِنْدَ الله مَوْعِداً، قَالُوا أَلَمْ يُبَيّضْ وُجُوهَنَا وَيُنَجّينَا مِنَ النّارِ وَيُدْخِلْنَا الْجَنّةَ؟ قَالُوا بَلَى، فَينكشفُ الْحِجَابُ، قالَ: فَوَالله مَا أَعْطَاهُمْ شَيْئاً أَحَبّ إِلَيْهِمْ مِنَ النظَرِ إِلَيْهِ».(8/20)
{تنبيه}: (النظر إلى وجه الله الكريم مناسب لجعله جزاءً للإحسان؛ لأن الإحسان أن يعبد المؤمن ربه كأنه يراه في الدنيا، فكان النظر إلى وجه الله الكريم عياناً في الآخرة جزاءً على الإحسان، كما أن الكفار لما حُجبت قلوبهم عن معرفة الله ومراقبته حُجبت أبصارهم عن الله يوم القيامة، قال الله تعالى: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ [المطففين:15].
(جزاء المحسنين:
لمرتبة الإحسان ثمرات دانية و عواقب مرضية في الدنيا و الآخرة, ينالها صاحب الإحسان , جمعت بعضاً منها كما يلي:
(1) مغفرة الذنوب و زيادة الأجر, قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 58].
(2) لا يعتريه الخوف مما أمامه, و لا الحزن على ما فات,
قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112].
(3) محبة الله تعالى له, قال تعالى: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].
(4) الحصول على ثواب الدنيا و حسن ثواب الآخرة, قال
تعالى: {فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 148]
فأعطى الله أولئك الصابرين جزاءهم في الدنيا بالنصر على أعدائهم, وبالتمكين لهم في الأرض, وبالجزاء الحسن العظيم في الآخرة, وهو جنات النعيم. والله يحب كلَّ مَن أحسن عبادته لربه ومعاملته لخلقه.
(5) يكون أحسن الناس ديناً, قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء: 125].
(6) جنات تجري من تحتها الأنهار, قال تعالى: {فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 85].(8/21)
(7) الذرية الصالحة, قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الأنعام: 84].
(8) الرحمة القريبة, قال تعالى: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].
(9) الحفظ من العقاب ومن المؤاخذة بالتقصير, قال تعالى: {
لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 91]
(10) حفظ الأجر من الضياع, فهناك أقوام يأتون يوم القيامة بأعمال مثل جبال تهامة يجعلها الله هباءاً منثوراً, قال تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120]
(11) الخلود في الجنة ورؤية الله تعالى, قال تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:26]
(12) العلم و الفقه في الدين, قال تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.
(13) التمكين في الأرض, قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 56](8/22)
(14) النصر في الدنيا و سعة الرزق, قال تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30]
(15) معية الله الخاصة, قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل: 128]
إن الله سبحانه وتعالى مع الذين اتقوه بامتثال ما أمر واجتناب ما نهى بالنصر والتأييد, ومع الذين يحسنون أداء فرائضه والقيام بحقوقه ولزوم طاعته, بعونه وتوفيقه ونصره.
(16) الهداية إلى الصراط المستقيم, قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]
والمؤمنون الذين جاهدوا أعداء الله, والنفس, والشيطان, وصبروا على الفتن والأذى في سبيل الله, سيهديهم الله سبل الخير, ويثبتهم على الصراط المستقيم, ومَن هذه صفته فهو محسن إلى نفسه وإلى غيره. وإن الله سبحانه وتعالى لمع مَن أحسن مِن خَلْقِه بالنصرة والتأييد والحفظ والهداية.
(17) الاستمساك بالعروة الوثقى, قال تعالى: (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [لقمان: 22]
(من صفات المحسنين:
(1) الاستغفار قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 58].
(2) الإخلاص لله و الاستسلام لأوامره, قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112].
(3) الإنفاق في سبيل الله قال تعالى: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].(8/23)
(4) الإنفاق في السراء والضراء وكظم الغيظ حال الغضب والعفو عن كل مخطيء من الناس, قال تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}} [آل عمران: 134].
(5) الإستجابة لله و لرسوله.
قال تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172].
(6) كثرة العمل الصالح, قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 93].
ليس على المؤمنين الذين شربوا الخمر قبل تحريمها إثم في ذلك, إذا تركوها واتقوا سخط الله وآمنوا به, وقدَّموا الأعمال الصالحة التي تدل على إيمانهم ورغبتهم في رضوان الله تعالى عنهم, ثم ازدادوا بذلك مراقبة لله عز وجل وإيمانا به, حتى أصبحوا مِن يقينهم يعبدونه, وكأنهم يرونه. وإن الله تعالى يحب الذين بلغوا درجة الإحسان حتى أصبح إيمانهم بالغيب كالمشاهدة.
(7) عدم الإفساد في الأرض والدعاء خوفاً وطمعاً, قال تعالى: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]
(8) النصح لله و لرسوله, قال تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 91]
ليس على أهل الأعذار مِن الضعفاء والمرضى والفقراء الذين لا يملكون من المال ما يتجهزون به للخروج إثم في القعود إذا أخلصوا لله ورسوله, وعملوا بشرعه, ما على مَن أحسن ممن منعه العذر عن الجهاد مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وهو ناصح لله ولرسوله من طريق يعاقب مِن قِبَلِه ويؤاخذ عليه. والله غفور للمحسنين, رحيم بهم.(8/24)
(9) المبادرة لنصرة دين الله, قال تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120]
(10) الصبر, قال تعالى: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود: 115]
(11) إحسان العبادة والإحسان إلى الخلق, قال تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 36]
ودخل السجن مع يوسف فَتَيان, قال أحدهما: إني رأيت في المنام أني أعصر عنبًا ليصير خمرًا, وقال الآخر: إني رأيت أني أحمل فوق رأسي خبزًا تأكل الطير منه, أخبرنا -يا يوسف -بتفسير ما رأينا, إنا نراك من الذين يحسنون في عبادتهم لله, ومعاملتهم لخلقه.
(12) التصديق بموعود الله, قال تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30]
وإذا قيل للمؤمنين الخائفين من الله: ما الذي أنزل الله على النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالوا: أنزل الله عليه الخير والهدى. للذين آمنوا بالله ورسوله في هذه الدنيا, ودَعَوْا عباد الله إلى الإيمان والعمل الصالح, مَكْرُمَة كبيرة من النصر لهم في الدنيا, وسَعَة الرزق, ولَدار الآخرة لهم خير وأعظم مما أُوتوه في الدنيا, ولَنِعْم دارُ المتقين الخائفين من الله الآخرةُ.(8/25)
(13) العلم الشرعي والفقه في الدين, قال تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [القصص: 14] ولما بلغ موسى أشد قوته وتكامل عقله, آتيناه حكمًا وعلمًا يعرف بهما الأحكام الشرعية, وكما جزينا موسى على طاعته وإحسانه نجزي مَن أحسن مِن عبادنا.
(14) مجاهدة الهوى والنفس والشيطان, قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]
(15) إرداة الله و رسوله و الدار الآخرة, قال تعالى: {وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 69]
(16) الدعوة إلى الله والعمل الصالح والانتساب إلى الإسلام و الاعتزاز به, قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]
(الإحسان أعلى مراتب الدين:
إن الله تعالى ارتضى الإسلام لأهل الأرض والسماء، وهدى إلى هذا الدين من شاء من عباده، فغنموا وسلموا، وفازوا بالخيرات، ونجوا من الشرور والمكروهات، وجعل الله هذا الدين الإسلامي على ثلاث مراتب: مرتبة الإسلام، ومرتبة الإيمان، و مرتبة الإحسان، فالإحسان أعلى مراتب الدين الثلاث، لأن القُرب من رب العالمين ونيل الزلفى لديه هو بالإحسان إلى النفس والإحسان إلى الخلق، فإذا جمع العبد بين ذلك كان أقرب إلى ربه، فالإحسانُ والإيمانُ والإسلام درجات، فأعلى الدرجات الإحسان، ودونه درجة الإيمان، ودون ذلك درجة الإسلام، فكلُّ محسن مؤمن مسلم، وكلُّ مؤمن مسلم، وليس كلُّ مؤمن محسناً، ولا كلُّ مسلم مؤمناً محسناً، وحتى نفهم هذا جيدا يجب علينا أن نعرف الإجابة على الأسئلة الثلاثة الآتية:
(1) ما هو الإسلام؟
(2) ما هو الإيمان؟
(3) ما هو الإحسان؟
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
فصل الخطاب في بيان الإسلام والإيمان والإحسان هو حديث جبريل في مراتب الدين: ((8/26)
((حديث عمر بن الخطاب الثابت في صحيح مسلم) قال: بينما نحن عند رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم إذ طلع علينا رجلُ شديدُ بياضِ الثياب شديدُ سوادِ الشعر لا يُرى عليه أثرُ السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا قال صدقت قال فعجبنا له يسأله ويصدقه قال فأخبرني عن الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره قال صدقت قال فأخبرني عن الإحسان قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال فأخبرني عن الساعة قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل قال فأخبرني عن أمارتها قال أن تلد الأمةُ ربتَها وأن ترى الحفاةَ العراةَ العالةَ رعاءَ الشاءِ يتطاولون في البنيان قال ثم انطلق فلبثت مليا ثم قال لي يا عمر أتدري من السائل قلت الله ورسوله أعلم قال فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم.
[*] (وقد جاء عن جماعة من أهل العلم بيان عظم شأن هذا الحديث،
((قال القاضي عياض كما في شرح النووي على صحيح مسلم (1/ 158): ((وهذا الحديث قد اشتمل على شرح جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة، من عقود الإيمان وأعمال الجوارح وإخلاص السرائر والتحفظ من آفات الأعمال، حتى إنَّ علومَ الشريعة كلَّها راجعةٌ إليه ومتشعِّبةٌ منه، قال: وعلى هذا الحديث وأقسامه الثلاثة ألَّفنا كتابنا الذي سمَّيناه بالمقاصد الحسان فيما يلزم الإنسان؛ إذ لا يشذ شيءٌ من الواجبات والسنن والرغائب والمحظورات والمكروهات عن أقسامه الثلاثة، والله أعلم)).
((وقال النووي (1/ 160): ((واعلم أنَّ هذا الحديث يجمع أنواعاً من العلوم والمعارف والآداب واللطائف، بل هو أصل الإسلام، كما حكيناه عن القاضي عياض)).
وقال القرطبي كما في الفتح (1/ 125): ((هذا الحديث يصلح أن يُقال له أم السنَّة؛ لِمَا تضمَّنه من جُمل علم السنَّة)).
وقال ابن دقيق العيد في شرح الأربعين: ((فهو كالأمِّ للسنَّة، كما سُمِّيت الفاتحة أم القرآن؛ لِمَا تضمَّنته من جمعها معاني القرآن)).(8/27)
((وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/ 97): ((وهو حديث عظيم يشتمل على شرح الدِّين كلِّه، ولهذا قال النَّبيُّ * في آخره: (هذا جبريل أتاكم يعلِّمكم دينكم)، بعد أن شرح درجة الإسلام ودرجة الإيمان ودرجة الإحسان، فجعل ذلك كلَّه ديناً)).
(ما هو الإسلام:
يتضح معنى الإسلام في قوله: ((وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله *: الإسلامُ أن تشهدَ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعتَ إليه سبيلاً، قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدِّقه))،
((فيه فوائد:
(الفائدة الأولى: أجاب النَّبيُّ * جبريل عندما سأله عن الإسلام بالأمور الظاهرة، وعندما سأله عن الإيمان، أجابه بالأمور الباطنة، ولفظَا الإسلام والإيمان من الألفاظ التي إذا جُمع بينها في الذِّكر فُرِّق بينها في المعنى، وقد اجتمعا هنا، ففُسِّر الإسلام بالأمور الظاهرة، وهي مناسبة لمعنى الإسلام، وهو الاستسلام والانقيادُ لله تعالى، وفسِّر الإيمان بالأمور الباطنة، وهي المناسبة لمعناه، وهو التصديق والإقرار، وإذا أُفرد أحدُهما عن الآخر شمل المعنيين جميعاً: الأمور الظاهرة والباطنة، ونظير ذلك كلمتَا الفقير والمسكين، والبر والتقوى وغير ذلك.
(الفائدة الثانية: أوَّل الأمور التي فُسِّر بها الإسلام شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وشهادة أنَّ محمداً رسول الله *، وهاتان الشهادتان متلازمتان، وهما لازمتان لكلِّ إنسيٍّ وجنيٍّ من حين بعثته * إلى قيام الساعة، فمَن لم يؤمن به * كان من أصحاب النار؛ وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمَّة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلاَّ كان من أصحاب النار.
مسألة: ما معنى شهادة أن لا إله إلاَّ الله؟
شهادة أن لا إله إلاَّ الله معناها لا معبود حقٌّ إلاَّ الله.
مسألة: ما معنى شهادة أنَّ محمداً رسول الله؟(8/28)
ومعنى شهادة أن محمداً رسولُ الله طاعتُه فيما أمر، وتصديقُهُ فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع وأن يُعَظمَ أمره ونهيه فلا يُقدَّم عليه قول أحد كائناً من كان.
(الفائدة الثالثة: أهمُّ أركان الإسلام الخمسة بعد الشهادتين الصلاة، وقد وصفها رسول الله * بأنَّها عمود الإسلام، كما في حديث وصيَّته * لمعاذ بن جبل، وأوَّل ما يُحاسَب عليه العبد يوم القيامة، وأنَّ بها التمييز بين المسلم والكافر، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث معاذ الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ألاَ أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ كُلّهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله قَالَ: رَأْسُ الأَمْرِ الاْسْلاَمُ، وَعُمودُهُ الصّلاَةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ في سبيل الله.
((حديث أنس الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة فإن صلحت صلح له سائر عمله و إن فسدت فسد سائر عمله.
((حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة.
((حديث بريدة الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر.
((حديث بريدة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله.
((حديث معاذ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من ترك الصلاة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله".
(ومِمَّا يدلُّ على أهميَّة شأن الصلاة أيضاً أنَّ الله فرض الصلوات الخمس على رسول الله * ليلة الإسراء وهو في السماء، كما جاء ذلك في أحاديث الإسراء، وأنَّ أهلَ سَقَر يُجيبون عن أسباب دخولهم سقر بقولهم: (قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلّينَ) [المدثر: 43]
وأنَّ الصلاةَ تنهى عن الفحشاء والمنكر، كما قال تعالى: (إِنّ الصّلاَةَ تَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللّهِ أَكْبَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45](8/29)
وهي من آخر ما أوصى به رسول الله * «الصلاة وما ملكت أيمانكم»،
(حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) قال: كان آخر كلام النَّبيِّ *: الصلاة وما ملكت أيمانكم.
(وإقامة الصلاة تكون على حالتين: إحداهما واجبة، وهو أداؤها على أقلِّ ما يحصل به فعل الواجب وتبرأ به الذِّمَّة، ومستحبَّة، وهو تكميلها وتتميمها بالإتيان بكلِّ ما هو مستحبٌّ فيها.
وهذه الصلوات الخمس لازمةٌ لكلِّ بالغ عاقل من الرِّجال والنساء، ما دامت الروح في الجسد، ويجب على الرِّجال أداؤها جماعة في المساجد، ويدلُّ لذلك النصوص الآتية:
قال تعالى: (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مّنْهُمْ مّعَكَ وَلْيَأْخُذُوَاْ أَسْلِحَتَهُمْ) [سورة: النساء - الآية: 102]
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ليس صلاةٌ أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء و لو يعلمون ما فيهما لأتوهما و لو حبوا لقد هممت أن آمر المؤذن فيقيم ثم آمر رجلا يؤم الناس ثم آخذ شُعلاً من نار فأُحَرِّقُ على من لا يخرجُ إلى الصلاة بعد.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال أتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً أعمى فقال يا رسول الله ليس لي قائدٌ يقودني إلى المسجد فسأل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يُرخص له فيصلي في بيته فرخص له، فلما ولى دعاه فقال له: هل تسمع النداء؟ قال نعم، قال فأجب.
((حديث ابن مسعود الثابت في صحيح مسلم) قال: لقد رأيتُنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه أو مريض، إن كان المريضُ ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة.
((حديث ابن عباس الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر.
(الفائدة الرابعة: الزكاة هي قرينة الصلاة في كتاب الله وسنة رسوله *، وتأمل في النصوص الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
قال تعالى: (وَمَآ أُمِرُوَاْ إِلاّ لِيَعْبُدُواْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصّلاَةَ وَيُؤْتُواْ الزّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَةِ) [البينة / 5](8/30)
وقال تعالى: (وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرّاكِعِينَ) [البقرة /43]
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن أعرابيا أتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال دُلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال: تعبدُ الله ولا تشرك به شياً، وتقيمُ الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاةَ المفروضة وتصوم رمضان، قال والذي نفسي بيده لا أزيدُ على هذا، فلما ولى قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من سره أن ينظر إلى رجلٍ من أهل الجنة فلينظر إلى هذا)
((حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين) قال، قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذٍ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمسُ صلواتٍ في كل يومٍ و ليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتردُ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك و كرائم أموالهم و اتقِ دعوة المظلوم فإنه ليس بينها و بين الله حجاب.
((حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة المكتوبة ويؤتوا الزكاة المفروضة، فإذا فعلوا ذلك عصموا دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)
((حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان.(8/31)
((حديث طلحة بن عبيد الله الثابت في الصحيحين) قال، جاء رجلٌ إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أهل نجد ثائرُ الرأس يُعْرَفُ دَويُ صوتهِ ولايُفْقَه ما يقول حتى دنا فإذا هو يسألُ عن الإسلام؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمسُ صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل عليَّ غيرُها؟ قال لا إلا أن تطوَّع. قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصيام رمضان. فقال هل عليَّ غيره؟ فقال لا إلا أن تطوع. قال: وذكر له رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزكاة فقال هل عليَّ غيرُها؟ قال لا إلا أن تطوَّع. قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيدُ على هذا ولا أنقص، قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفلح إن صدق.
(وهي عبادةٌ مالية نفعها متعدٍّ، وقد أوجبها الله في أموال الأغنياء على وجه ينفع الفقير ولا يضرُّ الغنيَّ؛ لأنَّها شيء يسير من مال كثير.
(الفائدة الخامسة: صومُ رمضان عبادة بدنية، وهي سرٌّ بين العبد وبين ربِّه، لا يطَّلع عليه إلاَّ الله سبحانه وتعالى؛ لأنَّ من الناس مَن يكون في شهر رمضان مفطراً وغيرُه يظنُّ أنَّه صائم، وقد يكون الإنسانُ صائماً في نفل وغيرُه يظنُّ أنَّه مُفطر، ولهذا ورد في الحديث الصحيح أنَّ الإنسانَ يُجازَى على عمله، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، قال الله عزَّ وجلَّ: ((إلاَّ الصوم فإنَّه لي، وأنا أجزي به أي: بغير حساب، والأعمال كلُّها لله عزَّ وجلَّ، كما قال الله عزَّ وجلَّ: وإنَّما خُصَّ الصوم في هذا الحديث بأنَّه لله لِمَا فيه من خفاء هذه العبادة، وأنَّه لا يطَّلع عليها إلاَّ الله.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (قال الله عز وجل: كلُ عملِ بن آدم له إلا الصيامُ فإنه لي وأنا أجزي به، والصيامُ جنةُ فإذا كان يومُ صومِ أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل فإن شاتمه أحدُ أو قاتله فليقل صائمٌ مرتين، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيبُ عند الله يوم القيامة من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه)
(الفائدة السادسة: حجُّ بيت الله الحرام عبادة ماليَّة بدنية، وقد أوجبها الله في العمر مرَّة واحدة، وبيَّن النَّبيُّ فضلَها كما الأحاديث الآتية: ((8/32)
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (قال من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: العمرةُ إلى العمرة كفارةُ لما بينهما، والحجُ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة)
((حديث ابن مسعود الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر و الذنوب كما ينفي الكيرُ خبثَ الحديد والفضة، وليس للحج المبرور ثواب إلا الجنة)
((حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (الغازي في سبيل الله والحاج و المعتمر، وفدُ الله دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم)
(والاستطاعة في الحجِّ تكون بدنية ومالية، ويُحجُّ عن الميت، وأمَّا الحي فلا يُحجُّ عنه إلاَّ في حالتَين:
إحداهما: أن يكون هرماً كبيراً لا يستطيع الركوب والسفر.
والثانية: أن يكو ن مريضاً مرضاً لا يُرجى برؤُه.
(ومن الاستطاعة في حقِّ المرأة وجود المحرم إذا كان الحجُّ من غير مكة،
((حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم.
((حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لا يخلون رجلٌ بامرأةٍ إلا مع ذي محرم، فقام رجل فقال يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة فاكتتبت في غزوة كذا وكذا قال: ارجع فحج مع امرأتك)
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثَهما الشيطان»
(الفائدة السابعة: هذه الأركان الخمسة وردت في الحديث مرتَّبة حسب أهميَّتها، وبُدئ فيها بالشهادتين اللَّتين هما أساس لكلِّ عمل يُتقرَّب به إلى الله عزَّ وجلَّ، ثم بالصلاة التي تتكرَّر في اليوم والليلة خمس مرَّات، فهي صلة وثيقة بين العبد وبين ربِّه، ثم الزكاة التي تجب في المال إذا مضى عليه حَولٌ؛ لأنَّ نفعَها متعدٍّ، ثم الصيام الذي يجب شهراً في السنة، وهو عبادة بدنيَّة نفعها غير متعدٍّ، ثم الحج الذي لا يجب في العمر إلاَّ مرَّة واحدة.(8/33)
(الفائدة الثامنة: قوله: ((قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدِّقه!)) وجه التعجُّب أنَّ الغالبَ على السائل كونه غير عالِم بالجواب، فهو يسأل ليصل إلى الجواب، ومثله لا يقول للمسئول إذا أجابه: صدقتَ؛ لأنَّ السائلَ إذا صدَّق المسئول دلَّ على أنَّ عنده جواباً من قبل، ولهذا تعجَّب الصحابةُ من هذا التصديق من هذا السائل الغريب.
(ما هو الإيمان:
يتضح تعريف الإيمان في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمنَ بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقتَ، فبين الحديث أن للإيمان أركانٌ ستة هي: الإيمان بالله أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(الركن الأول الإيمان بالله تعالى:
والإيمان بالله يتضمن أربعة أمور متلازمة:
(1) الإيمان بوجوده سبحانه وتعالى.
(2) الإيمان بربوبيته، أي: الانفراد بالربوبية.
(3) الإيمان بانفراده بالألوهية.
(4) الإيمان بأسمائه وصفاته. لا يمكن أن يتحقق الإيمان إلا بذلك.
فمن لم يؤمن بوجود الله، فليس بمؤمن، ومن آمن بوجود الله لا بانفراده بالربوبية، فليس بمؤمن، ومن آمن بالله وانفراده بالربوبية، فليس بمؤمن، ومن آمن بالله وانفراده بالربوبية والألوهية لكن لم يؤمن بأسمائه وصفاته، فليس بمؤمن، وإن كان الأخير فيه من يسلب عنه الإيمان بالكلية وفيه من يسلب عنه كمال الإيمان.
(الإيمان بوجود الله:
مسألة: إذا قال قائل: ما الدليل على وجود الله عز وجل؟
قلنا: الدليل على وجود الله: العقل، والحس، والشرع.
ثلاثة كلها تدل على وجود الله، وإن شئت، فزد: الفطرة، فتكون الدلائل على وجود الله أربعة: العقل، والحس، والفطرة، والشرع. وأخرنا الشرع، لا لأنه لا يستحق التقديم، لكن لأننا نخاطب من لا يؤمن بالشرع.
ـ فأما دلالة العقل، فنقول: هل وجود هذه الكائنات بنفسها، أو وجدت هكذا صدفة؟(8/34)
فإن قلت: وجدت بنفسها، فمستحيل عقلاً ما دامت هي معدومة؟ كيف تكون موجودة وهي معدومة؟! المعدوم ليس بشيء حتى يوجد، إذاً لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها وإن قلت: وجدت صدفة، فنقول: هذا يستحيل أيضاً، فأنت أيها الجاحد، هل ما أنتج من الطائرات والصواريخ والسيارات والآلات بأنواعها، هل وجد هذا صدفة؟! فيقول: لا يمكن أن يكون. فكذلك هذه الأطيار والجبال والشمس والقمر والنجوم والشجر والجمر والرمال والبحار وغير ذلك لا يمكن أن توجد صدفة أبداً.
ويقال: إن طائفة من السمنية جاؤوا إلى أبي حنيفة رحمه الله، وهم من أهل الهند، فناظروه في إثبات الخالق عز وجل، وكان أبو حنيفة من أذكى العلماء فوعدهم أن يأتوا بعد يوم أو يومين، فجاءوا، قالوا: ماذا قلت؟ أنا أفكر في سفينة مملوءة من البضائع والأرزاق جاءت تشق عباب الماء حتى أرسلت في الميناء ونزلت الحمولة وذهبت، وليس فيها قائد ولا حمالون.
قالوا: تفكر بهذا؟! قال: نعم. قالوا: إذاً ليس لك عقل! هل يعقل أن سفينة تأتي بدون قائد وتنزل وتنصرف؟! هذا ليس معقول! قال: كيف لا تعقلون هذا، وتعقلون أن هذه السماوات والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والناس كلها بدون صانع؟ فعرفوا أن الرجل خاطبهم بعقولهم، وعجزوا عن جوابه هذا أو معناه.
وقيل لأعرابي من البادية: بم عرفت ربك؟ فقال: الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على السميع البصير؟
ولهذا قال الله عز وجل: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} [الطور: 35].
فحينئذ يكون العقل دالاً دلالة قطعية على وجود الله.
- وأما دلالة الحس على وجود الله، فإن الإنسان يدعو الله عز وجل، يقول: يا رب! ويدعو بالشيء، ثم يستجاب له فيه، وهذه دلالة حسه، هو نفسه لم يدع إلا الله، واستجاب الله له، رأى ذلك رأي العين. وكذلك نحن نسمع عمن سبق وعمن في عصرنا، أن الله استجاب الله.
وفي القرآن كثير من هذا، مثل: {وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين (83) فاستجبنا له} [الأنبياء: 83 - 84] وغير ذلك من الآيات.(8/35)
- وأما دلالة الفطرة، فإن كثيراً من الناس الذين لم تنحرف فطرهم يؤمنون بوجود الله، حتى البهائم العجم تؤمن بوجٍٍٍٍِود الله، وقصة النملة التي رويت عن سليمان عليه الصلاة والسلام، خرج يستسقي، فوجد نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها نحو السماء، تقول: اللهم أنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا سقياك.
فقال: ارجعوا، فقد سقيتم بدعوة غيركم، فالفطر مجبولة على معرفة الله عز وجل وتوحيده.
وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في قوله: {وإذ أخذ ربكم من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين (172) أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم} [الأعراف: 172: 173]، فهذه الآية تدل على أن الإنسان مجبول بفطرته على شهادته بوجود الله وربوبيته وسواء أقلنا: إن الله استخرجهم من ظهر آدم واستشهدهم، أو قلنا: إن هذا هو ما ركب الله تعالى في فطرهم من الإقرار به، فإن الآية تدل على أن الإنسان يعرف ربه بفطرته.
هذه أدلة أربعة تدل على وجود الله سبحانه وتعالى.
- وأما دلالة الشرع، فلأن ما جاءت به الرسل من شرائع الله تعالى المتضمنة لجميع ما يصلح الخلق يدل على أن الذي أرسل بها رب رحيم حكيم، ولا سيما هذا القرآن المجيد الذي أعجز البشر والجن أن يأتوا بمثله.
[2] توحيد الربوبيةِ هو إفرادُ الله بالخلق ِ والملك ِ والتدبير.
والدليلُ قوله تعالى (ألا له الخلقُ والأمر) {الأعراف / 54}
والأمرُ هنا معناه التدبير.
وقوله تعالى (لله ملك السموات والأرض) {المائدة / 17}
الشاهد: تقديم ما حقَّه التأخير يفيدُ الحصر
{تنبيه}: (التدبير الذي يختصُ به الله تعالى نوعان هما:
(1) تدبيرٌكوني: فالله تعالى يدبرُ أمور الكون وما فيه، هو المحيي المميت الخافض الرافع المعطي المانع المعز المذل يُولج الليل في النهار ويلج النهار في الليل
قال تعالى: (قُلِ اللّهُمّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمّنْ تَشَآءُ وَتُعِزّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنّكَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)،تُولِجُ اللّيْلَ فِي الْنّهَارِ وَتُولِجُ النّهَارَ فِي الْلّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيّتَ مِنَ الْحَيّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) {آل عمران / 26، 27}
(2) تدبيرٌ شرعي: يحلل ويحرِّم.
[3] توحيد الأ لوهية:(8/36)
توحيدُ الأ لوهية هو (إفرادُ الله بالعبادة)، أي لا معبود بحقٍ إلا الله.
والدليلُ قوله تعالى قال تعالى: (شَهِدَ اللّهُ أَنّهُ لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران /18)
وقوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنّهُ لاَ إِلََهَ إِلا اللّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) (محمد / 19).
(حديثُ عُبَادةَ ابن الصامت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من شهدَ أن لا إله إلا الله وحده لا شَرِيكَ له وأن محمداً عبدُ الله ورسولُه وأن عيسى عبدُ اللهِ ورسولُه وكلمتُه ألقاها إلى مريمَ وروحٌ منه والجنةُ حقٌ والنارُ حقٌ أدخله الله الجنةَ على ما كان من العمل.
[4] توحيد الأسماءِ والصفات:
توحيدُ الأسماء ِ والصفات هو إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله من الأسماء ِ الحسنى والصفاتِ العُلى.
{تنبيه}: (في هذا النوع من التوحيد ضابطين أساسيين:
(1) لا نصفُ الله تعالى إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال الإمامُ أحمد رحمه الله: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسَه أو وَصفَه به رسوله لا يتجاوزُ القرآن والحديث.
2) أن يكون وصفنا لله تعالى بغيرِ تحريفٍ ولا تعطيل ولا تكيفٍ ولا تمثيل.
مسألة: ما معنى التحريف؟
التحريفُ نوعان:
(النوع الأول: تحريفٌ لفظي كتغيير حرفٍ بحرف، أو زيادة حرف كمن يقول (استوى على العرش) استولى، وقوله حطه أي حنطه. نعوذ بالله من الضلال والخبال.
(النوعُ الثاني: تحريفٌ معنوي وهو التأويلُ بغير دليل، لأي صرف النص عن ظاهره بغير دليلٍ شرعي وهو ما يُسمى بالتأويلِ الفاسد، كحا لِ بعض الفرق الضالة الذين يفسرون قوله تعالى {بل يداه مبسوطتان} فيفسرون يداه بالسماوات والأرض، نعوذ بالله من الضلالِ والخبال.
مسألة: ما معنى التعطيل؟
التعطيلُ هو إنكارُ صفاتِ الله تعالى إما كلها أو بعضها، وكون الإنكارُ عن طريقتين: إما التحريف أو التكذيب
{تنبيه}: (التعطيلُ أعم من التحريف، يكون تعطيلٌ وتحريف، وإن كان التعطيلُ بالإنكار يكون تعطيلٌ فقط.
مسألة: ما معنى التكييف؟
التكييف ذكرُ كيفيةٍ للصفة، وهذا منهيٌ عنه، ولما سُئلَ الإمامُ مالك رحمه الله تعالى عن قوله تعالى (الرحمن على العرش استوى) كيف استوى؟ قال:(8/37)
الاستواء غيرُ مجهول (أي من حيثُ المعنى)
والكيفُ غير معقول (أي لا تدركه العقول)
والإيمانُ به واجب (لأنه سبحانه أثبته لنفسه)
والسؤالُ عنه بدعة (لأن الصحابة َلم يسألوا عنه وهم أحرصُ الناسِ على الخير وأعلم الناسِ بما يجيزه الشرع.
مسألة: ما معنى التمثيل؟
التمثيلُ هو مماثلة صفات الله تعالى بصفاتِ المخلوقين، وهذا من الضلالِ والخبال لأن الله تعالى يقول (ليس كمثلهِ شئٌ وهو السميعُ البصير) [الشورى / 11]
{تنبيه}: (التكييف أعم من التمثيل، لأن التكييفَ إن كان له مماثل كان تكييفاً وتمثيلاٌ، وإن لم يكن له مماثل كان تكييفاٌ فقط.
[*] قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله تعالى:
وكلِ ما لهُ من الصفاتِ ... أثبتها في محكمِ الآياتِ
أوْصَحَّ فيما قاله الرسولُ ... فحقَّهُ التسليمُ والقبولُ
نُمِرُّها صريحةً كما أتتْ ... مع اعتقادنا لما له اقتدتْ
من غيرِ تحرِيفٍ ولا تعطيلِ ... وغيرِ تمثيلٍ ولا تكييفِ
(الركن الثاني الإيمان بالملائكة:
مسألة: كيف الإيمان بالملائكة؟
الإيمان بالملائكة: الاعتقاد الجازم بأن لله تعالى ملائكة مخلوقون من نور كما ثبت في السنة الصحيحة
(حديث عائشة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: خُلقت الملائكة من نور و خُلق الجان من مارجٍ من نار و خُلق آدم مما و صف لكم.
نؤمن بأنهم عالم غيبي لا يشاهدون، وقد يشاهدون، إنما الأصل أنهم عالم غيبي مخلوقون من نور مكلفون بما كلفهم الله به من العبادات وهم خاضعون لله عز وجل أتم الخضوع، {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} [التحريم: 6].
ونؤمن أنهم أجساد، بدليل قوله تعالى: {جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة} [فاطر، 1]، ورأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جبريل على صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح قد سد الأفق (1)، خلافاً لمن قال: إنهم أرواح.
إذا قال قائل: هل لهم عقول؟ نقولك هل لك عقل؟ ما يسأل عن هذا إلا رجل مجنون، فقد قال الله تعالى: {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} [التحريم: 6]، فهل يثني عليهم هذا الثناء وليس لهم عقول؟! {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} [الأنبياء: 20]، أنقول: هؤلاء ليس لهم عقول؟! يأتمرون بأمر الله، ويفعلون ما أمر الله به ويبلغون الوحي، ونقول: ليس لهم عقول؟! أحق من يوصف بعدم العقل من قال: إنه لا عقول له!!
مسألة: هل يكفي الإيمان بالملائكة إجمالاً؟
المسألة على التفصيل الآتي:(8/38)
ما ورد تعينه باسمه المخصوص كجبريل وميكائيل ورضوان ومالك، وكذا من ورد تعيين نوعهم المخصوص بوظائف كحملة العرش والحفظة والكتبة فيجب الإيمان بهم على سبيل التفصيل، وأما البقية فيجب الإيمان بهم إجمالاً.
(الركن الثالث الإيمان بكتب الله تعالى:
مسألة: ما هو الإيمان بكتب الله تعالى؟
الإيمان بكتب الله تعالى هو ا لتصديق الجازم بأن لله تعالى كتباً أنزلها على أنبيائه ورسله وهي من كلامه حقيقة وهي نورٌ وهدى وأن ما تضمنتها حق ولا يعلم عددها إلا الله تعالى، ويجب الإيمان بها جملةً إلا ما سمى الله منها وهي التوراة والإنجيل والزبور والقرآن فيجب الإيمان بها على التفصيل.
ويجب أن نعتقد أن هذه الكتب نزلت بالهدى ودين الحق وأنها جميعاً نزلت لتوحيد الله تعالى، وأما ما نسب إليها مما يخالف ذلك فمن تحريف البشر.
ومن الإيمان بهذه الكتب أن نعتقد أن القرآن الكريم آخر كتاب نزل من عند الله تعالى، وقد خصه الله تعالى بمزايا تميز بها عن سائر الكتب السابقة منها:
[1] تضمن خلاصة التعاليم الدينية
[2] أنزله الله تعالى مهيمناً ورقيباً بمعنى أنه يُقِرُّ ما في الكتب السابقة من حق ويبين ما فيها من تحريف.
قال تعالى: (وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) [سورة: المائدة - الآية: 48]
[3] أنه جاء بشريعة عامة للبشرِ كلهم بيَّن فيه ما يلزمهم لسعادتهم في الدارين.
[4] هو الكتاب الرباني الوحيد الذي تكفَّل الله تعالى بحفظه، قال تعالى: (إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا الذّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [سورة: الحجر - الآية: 9]
(الركن الرابع الإيمان برسل الله تعالى:
مسألة: ما هو الإيمان برسل الله تعالى؟
الإيمان برسل الله تعالى هو التصديق بأن لله تعالى رسلٌ أرسلهم للبشرِ مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجةٌ بعد الرسل، فيجب الإيمان بمن سمى الله تعالى منهم في كتابه على التفصيل والإيمان جملةً بأن لله تعالى رسلا غيرهم وأنبياء لا يحصي عددهم إلا الله تعالى و لا يحصي أسمائهم إلا الله تعالى لأن بعضهم قد بينه الله تعالى في كتابه و بعضهم لم يُبينه الله تعالى في كتابه.(8/39)
قال تعالى: (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلّمَ اللّهُ مُوسَىَ تَكْلِيماً) [سورة: النساء - الآية: 164]
و الإيمان بالرسل يتضمن الإيمان بأنهم صادقون في رسالتهم، وتصديق ما اخبروا به والتزام أحكام شرائعهم غير المنسوخة، والشرائع السابقة كلها منسوخة بشريعة - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ورسل الله هم الذين أوحى الله إليهم بالشرائع وأمرهم بتبليغها، وأولهم نوح وآخرهم محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
الدليل على أن أولهم نوح: قوله تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} [النساء: 163]، يعني: وحياً، كإيحائنا إلى نوح والنبيين من بعده، وهو وحي الرسالة. وقوله: {ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب} [الحديد: 26]: {في ذريتهما}، أي ذرية نوح وإبراهيم، والذي قبل نوح لا يكون من ذريته. وكذلك قوله تعالى: {وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوماً فاسقين} [الذاريات: 46]، قد نقول: إن قوله: {من قبل}: يدل على ما سبق.
إذاً من القرآن ثلاثة أدلة تدل على أن نوحا أول الرسل ومن السنة ما ثبت في حديث الشفاعة: "أن أهل الموقف يقولون لنوح: أنت أول رسول أسله الله إلى أهل الأرض، وهذا صريح.
أما آدم عليه الصلاة والسلام، فهو نبي، وليس برسول.
وآخرهم محمد عليه الصلاة والسلام، لقوله تعالى: {ولكن رسول الله وخاتم النبيين} [الأحزاب: 40]، ولم يقل: وخاتم المرسلين، لأنه إذا ختم النبوة، ختم الرسالة من باب أولى.
مسألة: كم عدد الرسل المذكورين في القرآن الكريم ,من هم؟
عدد الرسل المذكورين في القرآن الكريم خمسٌ وعشرون منهم ثمانية عشر في سورة الأنعام والباقي في سورٍ متعددة، وهؤلاء الرسل هم:
آدَمَ وإدريس وَنُوح وهُود وصالح و إِبْرَاهِيمَ وَلُوط ويونس وَإِسْمَاعِيلَ وإسحاق ويعقوب ويوسف وأيوب وشعيب وموسى وهارون واليسع وذا الكفل وداود وسليمان وذكريا وإلياس ويحيى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.(8/40)
قال تعالى: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرّيّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىَ وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيّا وَيَحْيَىَ وَعِيسَىَ وَإِلْيَاسَ كُلّ مّنَ الصّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاّ فَضّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ) [الأنعام 84 - 86]
قال تعالى: (وَإِلَىَ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً) [سورة: الأعراف - الآية: 65]
قال تعالى: (وَإِلَىَ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحاً) [سورة: الأعراف - الآية: 73]
قال تعالى: (وَإِلَىَ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً) [سورة: الأعراف - الآية: 85]
قال تعالى: (إِنّ اللّهَ اصْطَفَىَ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) [سورة: آل عمران - الآية: 33]
قال تعالى: (مّحَمّدٌ رّسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّآءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ) [سورة: الفتح - الآية: 29]
مسألة ما موضوع رسالة الرسل، وما الحكمة فيها؟
موضوع رسالة الرسل هو التبشير والتنذير قال تعالى: (رّسُلاً مّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجّةٌ بَعْدَ الرّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) [سورة: النساء - الآية: 165]
و الحكمة من إرسال الرسل دعوة أممهم إلى عبادة الله تعالى وحده والنهي عن عبادة ما سواه.
قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلّ أُمّةٍ رّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطّاغُوتَ) [سورة: النحل - الآية: 36]
مسألة: من هم أولوا العزم من الرسل؟
أولوا العزم من الرسل هم محمد ونوح و إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىَ وَعِيسَىَ المذكورون في سورة الشورى.
قال تعالى: (شَرَعَ لَكُم مّنَ الدّينِ مَا وَصّىَ بِهِ نُوحاً وَالّذِيَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىَ وَعِيسَىَ أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرّقُواْ فِيهِ) [سورة الشورى - الآية: 13]
و قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) [سورة: الأحزاب - الآية: 7]
مسألة: ما هو واجبنا نحو الرسل عليهم الصلاة والسلام؟
واجبنا نحو الرسل عليهم الصلاة والسلام:(8/41)
[1] يجب علينا أن نعتقد اعتقاداً جازماً بأنهم بلَّغوا جميع ما أُرسلوا به على ما أمرهم الله تعالى به وبينوه بياناً واضحاً لا سعُ أحداً مما أُرسلوا إليه جهله ولا يحلٌُ خلافه قال تعالى: (مّنْ يُطِعِ الرّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ) [سورة: النساء - الآية: 80]
[2] يجب علينا أن نؤمن بهم ونصدقهم كلهم , ولا نفرِّق بين أحدٍ منهم، فمن آمن ببعض الرسل وكفر ببعض كان من الكافرين بنص القرآن قال تعالى: (إِنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلََئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً) [النساء:150،151]
[3] يجب علينا أن نعتقد أن كل رسولٍ قد أدى الأمانة وبلغ الرسالة على النحو الأكمل وأنهم بلغوا جميع ما أُرسلوا به على ما أمرهم الله تعالى به وبينوه بياناً واضحاً لا سعُ أحداً مما أُرسلوا إليه جهله ولا يحلٌُ خلافه.
[4] يجب علينا أن نعتقد أنهم معصومون من الكبائر وأما الصغائر فقد تقع منهم والكتاب والسنة يدلان على ذلك لكن يوفقون للتوبة منها.
[5] يجب علينا أن نعتقد أنهم أكمل الخلق علماً وعملاً وأصدقهم وأبرهم وأكملهم أخلاقاً وأن الله تعالى خصهم بفضائل لا يلحقهم فيها أحداً وبرأهم من كلِ خلقٍ رزيل.
[6] يجب محبتهم وتوقيرهم ويحرم الغلو فيهم ورفعهم فوق منزلتهم ولا تُنزليهم منزلة لا تنبغي إلا لله تعالى
(حديث عمر في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تطروني لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله و رسوله.
(الركن الخامس الإيمان بالبعث:
مسألة: ما هو البعث، وما حكم إنكار البعث؟
البعث بمعنى الإخراج، يعني: إخراج الناس من قبورهم بعد موتهم.
وهذا من معتقد أهل السنة والجماعة.
وهذا ثابت بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، بل إجماع اليهود والنصارى، حيث يقرون بأن هناك يوماً يبعث الناس فيه ويجازون:
- أما القرآن، فيقول الله عز وجل: {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن} [التغابن: 7] وقال عز وجل: {ثم إنكم بعد ذلك لميتون (15) ثم إنكم يوم القيامة تبعثون} [المؤمنون: 15 - 16].
- وأما في السنة، فجاءت الأحاديث المتواترة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك.(8/42)
- وأجمع المسلمون على هذا إجماعاً قطعياً، وأن الناس سيبعثون يوم القيامة ويلاقون ربهم ويجازون بأعمالهم، {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره (7) ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} [الزلزلة: 7 - 8].
{يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه} [الانشقاق: 6]، فتذكر هذا اللقاء حتى تعمل له، خوفاً من أن تقف بين يدي الله عز وجل يوم القيامة وليس عندك شيء من العمل الصالح، انظر ماذا عملت ليوم النقلة؟ وماذا عملت ليوم اللقاء؟ فإن أكثر الناس اليوم ينظرون ماذا عملوا للدنيا، مع العلم بأن هذه الدنيا التي عملوا لها لا يدرون هل يدركونها أم لا؟ قد يخطط الإنسان لعمل دنيوي يفعله غداً أو بعد غد، ولكنه لا يدرك غداً ولا بعد غد، لكن الشيء المتيقن أن أكثر الناس في غفلة من هذا، قال الله تعالى: {بل قلوبهم في غمرة من هذا} [المؤمنون: 63] وأعمال الدنيا يقول: {ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون} [المؤمنون: 63]، فأتى بالجملة الاسمية المفيدة للثبوت والاستمرار: و {هم لها عاملون}، وقال تعالى: {قد كنت في غفلة من هذا} [ق: 22]: يعني: يوم القيامة وقال تعالى: {فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} [ق: 22].
هذا البعث الذي اتفقت عليه الأديان السماوية وكل متدين بدين هو أحد أركان الإيمان الستة وهو من معتقدات أهل السنة والجماعة ولا ينكره أحد ممن ينتسب إلى ملة أبداً.
حكم إنكار البعث: إنكار البعث كفراً أكبر يخرج من الملة.
قال تعالى: (زَعَمَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَن لّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَىَ وَرَبّي لَتُبْعَثُنّ ثُمّ لَتُنَبّؤُنّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ) [سورة: التغابن - الآية: 7]
و قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنّا خَلَقْنَاهُ مِن نّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مّبِينٌ* وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الّذِيَ أَنشَأَهَآ أَوّلَ مَرّةٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس 77: 79]
مسألة: ما هوالإيمان باليوم الآخر؟
الإيمان باليوم الآخر يتضمن الإيمان بكل ما اخبر به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مما يكون بعد الموت من فتنة القبر وعذابه ونعيمه والبعث والحساب والحشر والميزان والصراط والشفاعة وغير ذلك.
{تنبيه}: (لا يتحقق الإيمان باليوم الآخر إلا بأمرين:
[1] أن نؤمن باليوم الآخر بصفة إجمالية.(8/43)
[2] أن نؤمن بكل ما اخبر به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مما يكون بعد الموت من فتنة القبر وعذابه ونعيمه والبعث والحساب والحشر والميزان والصراط والشفاعة وغير ذلك.
(الركن السادس الإيمان بالقدر خيره وشره:
مسألة: ما هو الإيمان بالقدر خيره وشره؟
القدر هو: "تقدير الله عز وجل للأشياء".
وقد كتب الله مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة (1)، كما قال الله تعالى: {ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير} [الحج: 70].
"خيره وشره": أما وصف القدر بالخير، فالأمر فيه ظاهر. وأما وصف القدر بالشر، [فالمراد به شر المقدور لا شر القدر] الذي هو فعل الله، فإن فعل الله عز وجل ليس فيه شر، كل أفعاله خير وحكمة، لأنه تعالى يقدرُ الأشياء لحكمةٍ بالغةً قضاها يستوجب الحمد على اقتضاها ولكن الشر في مفعولاته ومقدورا ته، فالشر هنا باعتبار المقدور والمفعول، أما باعتبار الفعل، فلا، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: "والشر ليس إليك.
فمثلاً، نحن نجد في المخلوقات المقدورات شراً، ففيها الحيات والعقارب والسباع والأمراض والفقر والجدب وما أشبه ذلك، وكل هذه بالنسبة للإنسان شر، لأنها لا تلائمه، وفيها أيضاً المعاصي والفجور والكفر والفسوق والقتل وغير ذلك، وكل هذه شر، لكن باعتبار نسبتها إلى الله هي خير، لأن الله عز وجل لم يقدرها إلا لحكمةٍ بالغةً قضاها يستوجب الحمد على اقتضاها، عرفها من عرفها وجهلها من جهلها.
وعلى هذا يجب أن تعرف أن الشر الذي وصف به القدر إنما هو باعتبار المقدورات والمفعولات، لا باعتبار التقدير الذي هو تقدير الله وفعله.
ثم اعلم أيضاً أن هذا المفعول الذي هو شر قد يكون شراً في نفسه، لكنه خير من جهة أخرى، قال الله تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} [الروم: 41]، النتيجة طيبة، وعلى هذا، فيكون الشر في هذا المقدور شراً إضافياً يعنى: لا شراً حقيقياً، لأن هذا ستكون نتيجته خيراً.(8/44)
فحد الزاني مثلاً إذا كان غير محصن أن يجلد مئة جلدة ويسفر عن البلد لمدة عام، هذا لا شك أنه شر بالنسبة إليه، لأنه لا يلائمه، لكنه خير من وجه آخر لأنه يكون كفارة له، فهذا خير، لأن عقوبة الدنيا أهون من عقوبة الآخرة، فهو خير له، ومن خيره أنه ردع لغيره ونكال لغيره، فإن غيره لو هم أن يزني وهو يعلم أنه سيفعل به مثل ما فعل بهذا، ارتدع، بل قد يكون خيراً له هو أيضاً، باعتبار أنه لن يعود إلى مثل هذا العمل الذي سبب له هذا الشيء.
أما بالنسبة للأمور الكونية القدرية، فهناك شيء يكون شراً باعتباره مقدوراً، كالمرض مثلاً، فالإنسان إذا مرض، فلا شك أن المرض شر بالنسبة له، لكن فيه خير له في الواقع، وخيره تكفير الذنوب، قد يكون الإنسان عليه ذنوب ما كفرها الاستغفار والتوبة، لوجود مانع، مثلاً لعدم صدق نيته مع الله عز وجل فتأتي هذه الأمراض والعقوبات، فتكفر هذه الذنوب.
ومن خيره أن الإنسان لا يعرف قدر نعمة الله عليه بالصحة، إلا إذا مرض، نحن الآن أصحاء ولا ندري ما قدر الصحة لكن إذا حصل المرض، عرفنا قدر الصحة فالصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يعرفها إلا المرضى .. هذا أيضاً خير، وهو أنك تعرف قدر النعمة.
ومن خيره أنه قد يكون في هذا المرض أشياء تقتل جراثيم في البدن لا يقتلها إلا المرض، يقول الأطباء: بعض الأمراض المعينة تقتل هذه الجراثيم التي في الجسد وأنك لا تدري.
فالحاصل أننا نقول:
أولاً: الشر الذي وصف به القدر هو شر بالنسبة لمقدور الله، أما تقدير الله، فكله خير والدليل قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "والشر ليس إليك.
ثانياً: أن الشر الذي في المقدور ليس شراً محضاً بل هذا الشر قد ينتج عنه أمور هي خير، فتكون الشرية بالنسبة إليه أمراً إضافياً.
مسألة: ما هي أركان الإيمان بالقدر؟ الإيمان بالقدر له أربعة أركان:
الركن الأول: العلم وهى أن يؤمن الإنسان أيمانا جازما بان الله تعالى بكل شي عليم وانه يعلم ما في السماوات والأرض جملة وتفصيلاً سواء كان ذلك من فعله أو من فعل مخلوقاته وانه لا يخفى على الله شي في الأرض ولا في السماء.(8/45)
الركن الثاني: الكتابة وهى إن الله تبارك وتعالى كتب عنده في اللوح المحفوظ مقادير كل شي. وقد جمع الله تعالى بين هاتين المرتبتين في قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماوات والأرض أن ذلك في كتاب أن ذلك على الله يسير) [الحج:70] فبدا سبحانه بالعلم وقال أن ذلك في كتاب أي انه مكتوب في اللوح المحفوظ كما جاء به الحديث عن رسوله الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(حديث عبادة بن الصامت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب قال: يا رب و ما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة من مات على غير هذا فليس مني.
ولهذا سئل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب الأول قال (اعملوا فكل ميسر لما خلق له).
فأمرهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالعمل فأنت يا أخي اعمل وأنت ميسر لما خلقت له. ثم تلا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قوله تعالى:
قال تعالى: (فَأَمّا مَنْ أَعْطَىَ وَاتّقَىَ * وَصَدّقَ بِالْحُسْنَىَ * فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَىَ * وَأَمّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىَ * وَكَذّبَ بِالْحُسْنَىَ * فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَىَ) [الليل: 5 ـ 10]
الركن الثالث: المشيئة وهى أن الله تبارك وتعالى شاء لكل موجود أو معدوم في السماوات أو في الأرض فما وجد موجود إلا بمشيئة الله تعالى وما عدم معدوم إلا بمشيئة الله تعالى وهذا ظاهر في القران الكريم وقد اثبت الله تعالى مشيئته في فعله ومشيئته في فعل العباد فقال الله تعالى: (لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين) [التكوير: 28، 29] (ولو شاء ربك ما فعلوه) [الأنعام: 112] (ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد) [البقرة: 253].
فبين الله تعالى أن فعل الناس كائن بمشيئته وأما فعله تعالى فكثير قال تعالى (ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها) [الأنعام:13] وقوله (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة) [هود 118] إلى آيات كثيرة تثبت المشيئة في فعله تبارك وتعالى فلا يتم الأيمان بالقدر إلا أن نؤمن بان مشيئة الله عامة لكل موجود أو معدوم فما من معدوم إلا وقد شاء الله تعالى عدمه وما من موجود إلا وقد شاء الله تعالى وجوده ولا يمكن أن يقع شي في السماوات ولا في الأرض إلا بمشيئة الله تعالى.(8/46)
الركن الرابع: الخلق آي أن نؤمن بان الله تعالى خالق كل شي فما من موجود في السماوات والأرض إلا والله خالقه حتى الموت يخلقه الله تبارك وتعالى وان كان هو عدم الحياة يقول الله تعالى: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) [الملك: 2] فكل شي في السماوات أو في الأرض فان الله تعالى خالقه لا خالق إلا الله تبارك وتعالى وكلنا يعلم أن ما يقع من فعله سبحانه وتعالى بأنه مخلوق له فالسماوات والأرض والجبال والأنهار والشمس والقمر والنجوم والرياح والإنسان والبهائم كلها مخلوقات الله وكذلك لهذه المخلوقات من صفات وتقلبات أحوال كلها أيضا مخلوقة لله عز وجل.
(ما هو الإحسان:
يتضح معنى افحسان في قوله: قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبدَ الله كأنَّك تراه، فإن لَم تكن تراه فإنَّه يراك)).
والمعنى: أن تعبدَه كأنَّك واقفٌ بين يديه تراه، ومن كان كذلك فإنَّه يأتي بالعبادة على التمام والكمال، وإن لم يكن على هذه الحال فعليه أن يستشعر أنَّ اللهَ مطَّلع عليه لا يخفى عليه منه خافية، فيحذر أن يراه حيث نهاه، ويعمل على أن يراه حيث أمره، قال ابن رجب في شرح هذا الحديث في كتابه جامع العلوم والحكم (1/ 126): ((فقوله * في تفسير الإحسان: (أن تعبدَ الله كأنَّك تراه) إلخ يشير إلى أنَّ العبدَ يعبد الله على هذه الصفة، وهي استحضار قربه، وأنَّه بين يديه كأنَّه يراه، وذلك يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم، كما جاء في رواية أبي هريرة (أن تخشى الله كأنَّك تراه)، ويُوجب أيضاً النصح في العبادة وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها))، وقال (1/ 128 ـ 129): ((قوله *: (فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك)، قيل: إنَّه تعليل للأول؛ فإنَّ العبدَ إذا أُمر بمراقبة الله في العبادة واستحضار قربه من عبده حتى كأنَّ العبد يراه، فإنَّه قد يشق ذلك عليه، فيستعين على ذلك بإيمانه بأنَّ الله يراه، ويطَّلع على سرِّه وعلانيته، وباطنه وظاهره، ولا يخفى عليه شيء من أمره، فإذا حقَّق هذا المقام سهُل عليه الانتقال إلى المقام الثاني، وهو دوام التحديق بالبصيرة إلى قرب الله من عبده ومعيَّته حتى كأنَّه يراه، وقيل: بل هو إشارة إلى أنَّ مَن شقَّ عليه أن يعبدَ الله كأنَّه يراه، فليَعبُدِ اللهَ على أنَّ الله يراه ويطَّلع عليه، فليستحيي من نظره إليه)).(8/47)
(فالإحسان هو: مراقبة الله في السر والعلن، وفي القول والعمل، وهو فعل الخيرات على أكمل وجه، وابتغاء مرضات الله.
(الإحسان إقامة الصلاة على أتم وجوهها، والتقرب إلى الله تعالى، ومناجاته في ساعات الليل إذا الناس ينامون، وإحسانٌ إلى الخلق، قال الله تعالى: إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِى أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:16 - 19].
(الإحسانُ جهاد النفس وجهاد الشيطان وجهاد المنافقين وجهاد الكفار، قال الله تعالى: وَكَأَيّن مّن نَّبِىّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:146 - 148].
(الإحسان إنفاقٌ في الغنى والفقر، وكظمٌ للغيظ، وعفو عن الجاهلين، قال الله تعالى: الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134].
(الإحسان نصحٌ لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، قال الله تعالى: لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [التوبة:91].(8/48)
(الإحسان انقياد للحق، وحبٌ له، واستماع للوحي المنزل بقلوب سليمة وآذان واعية وعيون دامعة، قال الله تعالى: وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقّ يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ [المائدة:83 - 85].
(الإحسان فوق العدل:
الإحسان فوق العدل؛ لأن العدل إنصاف وقسمة وقسط، والإحسان إيثار وتضحية، عطاء وبذل للغير عن طواعية ورضاء؛ لأن المحسن لا يطالب بثواب يستحقه في الدنيا، وإنما يتركه اختيارًا لله تعالى الذي عنده الجزاء الأوفى على إحسانه، وفى هذا يقول تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل:90].
وبالإحسان يشعر المؤمن شعورًا ملازمًا، أن الذي يعطى هو الله تعالى وحده، وأن المال والصحة والجاه، وكل ما في الدنيا إنما هو منه، وإليه فلا يحس المؤمن في الإحسان بذاته إلا كوسيلة اختارها الله تعالى لفعل الخير، وعمل المعروف.
فالإحسان بهذا المعنى إمداد واستمداد من الله إلى عبده، وليس وقفًا من العبد على غيره؛ لأن في الوقف اعتراض ومشاركة للربوبية، وهو نوع من الشرك الخفي، فالله تعالى هو مصدر الخير والمحبة والجود والسخاء، وأي إحسان بخلاف ذلك يخل بمعنى الإحسان على الإطلاق.
ففي المعاملات والعلاقات الشخصية لا يكتفي بالعدل بل يتعداه إلى الفضل وهو الإحسان.
يقول الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل:90]
((قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
«يخبر تعالى أنه يأمر عباده بالعدل وهو القسط والموازنة ويندب إلى الإحسان كقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل: 126](8/49)
وقال {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]، وقال {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا، من (1) شرعية العدل والندب إلى الفضل. أهـ
(طرق الإحسان:
فالإحسان مطلوب في العبادات والمعاملات فأي عبادة افترضها الله على العبد فإن عليه أن يأتي بها على الوجه الذي رضيه سبحانه من إخلاصها له و موافقتها لشريعة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وكما أن الإنسان يحب لنفسه أن يعامله غيره معاملة حسنة, فإن عليه أن يحسن إلى غيره, ويعامله بمثل ما يحب أن يعامل به هو, ذلك بسلوك طرق الإحسان التي نتعرض لبعضها فيما يلي في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(الإحسان بالنفع البدني:
وذلك بأن يجود ببذل ما يستطيعه من القوة البدنية في تحصيل المصالح ودفع المفاسد, فيمنع الظالم من الظلم, و يميط الأذى عن الطريق مثلا, وهذه الطريق هي التي عناها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله في الحديث الآتي:
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة و كل تحميدة صدقة و كل تهليلة صدقة و كل تكبيرة صدقة و أمر بالمعروف صدقة و نهي عن المنكر صدقة و يجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى.
(الإحسان بالمال:
ومن وسّع الله عليه الرزق, وآتاه المال؛ فإنّ عليه أن يشكر الله على ذلك بصرفه في الطرق التي شرعها, فيقضي الحاجة, ويواسي المنكوب, ويفك الأسير, ويقري الضيف, ويطعم الجائع تحقيقا لقوله تعالى: (وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللّهُ إِلَيْكَ) [القصص: 77]
(الإحسان بالجاه:
وإذا لم يتمكّن المؤمن من قضاء حاجة أخيه وإيصال النفع إليه, فعليه أن يكون عوناً له في سبيل تحصيلها, وذلك بالسعي معه لدى من يستطيع ذلك, إقتداء برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وامتثالا لأمره كما في الحديث الآتي:
((حديث أبي موسى الثابت في الصحيحين) قال، كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أتاه طالبُ حاجةٍ أقبل على جُلسائه فقال: (اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما أحب)
(الإحسان بالعلم:(8/50)
وهذه الطريق مع التي تليها أعظم الطرق و أتمها نفعا؛ لأن هذا الإحسان يؤدي إلى ما فيه سعادة الدنيا والآخرة, وبه يعبد الله على بصيرة, فمن يسر الله له أسباب تحصيل العلم وظفر بشيء منه كانت مسئوليته عظيمة, ولزمه القيام بما يجب للعلم من تعليم الجاهل وإرشاد الحيران, وإفتاء السائل, وغير ذلك من المنافع التي تتعدى إلى الغير.
(الإحسان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
ولم تكن أمة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير أمة أخرجت للناس إلا بسلوكها تلك الطريق, كما أنّ بني إسرائيل لم يلعن من لعن منهم على لسان أنبيائهم إلا لتخليهم عن ذلك الواجب من عدم اكتراثهم بارتكاب المنكرات, قال الله تعالى في حق هذه الأمة قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) [آل عمران: 110]
وقال في حق بني إسرائيل: (لُعِنَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيَ إِسْرَائِيلَ عَلَىَ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) [المائدة: 78]
(ثم بيّن سبب اللعن بقوله: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة: 78،79]
ولا يحصل المطلوب ويتم النفع إلا إذا كان الآمر بالمعروف و الناهي عن المنكر مؤتمرا بما يأمر به, ومنتهيا عما ينهى عنه, وإلا كان أمره ونهيه وبالاً عليه قال تعالى: (كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ) [الصف: 3]
والإحسان إلى الناس بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر لا بد أن يكون عن علم؛ لأن الجاهل قد يأمر بما هو منكر, وقد ينهى عما هو معروف, ولا بد أن يجمع إلى العلم الحكمة, ويصبر على ما أصابه, و من الأدلة على هذه الأمور الثلاثة قوله تعالى: (قُلْ هََذِهِ سَبِيلِيَ أَدْعُو إِلَىَ اللّهِ عَلَىَ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف: 108]}
وقوله تعالى: (ادْعُ إِلِىَ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) [النحل: 125]
وقوله تعالى: (يَبُنَيّ أَقِمِ الصّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىَ مَآ أَصَابَكَ إِنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاُمُورِ) [لقمان: 17](8/51)
وقد جعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنكار المنكر على ثلاث مراتب إن لم تحصل المرتبتان الأوليتان فلا أقل من الثالثة التي هي أضعف الإيمان كما في الحديثين الآتين:
((حديث أبي سعيد الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه و ذلك أضعف الإيمان.
((حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون ويفعلون مالا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل.
(أنواع الإحسان:
الإحسان مطلوب من المسلم في كل عمل يقوم به ويؤديه، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث شداد بن أوس رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته فليرح ذبيحته.
فالإحسان مطلوب في العبادات والمعاملات فأي عبادة افترضها الله على العبد فإن عليه أن يأتي بها على الوجه الذي رضيه سبحانه من إخلاصها له و موافقتها لشريعة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وكما أن الإنسان يحب لنفسه أن يعامله غيره معاملة حسنة, فإن عليه أن يحسن إلى غيره, ويعامله بمثل ما يحب أن يعامل به هو.
(ومن أنواع الإحسان ما يلي:
(1) الإحسان مع الله:
وهو أن يستشعر الإنسان وجود الله معه في كل لحظة، وفي كل حال، خاصة عند عبادته لله تعالى، فيستحضره كأنه يراه وينظر إليه.
«الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» كما في الحديث الآتي: ((8/52)
((حديث عمر بن الخطاب الثابت في صحيح مسلم) قال: بينما نحن عند رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم إذ طلع علينا رجلُ شديدُ بياضِ الثياب شديدُ سوادِ الشعر لا يُرى عليه أثرُ السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا قال صدقت قال فعجبنا له يسأله ويصدقه قال فأخبرني عن الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره قال صدقت قال فأخبرني عن الإحسان قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال فأخبرني عن الساعة قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل قال فأخبرني عن أمارتها قال أن تلد الأمةُ ربتَها وأن ترى الحفاةَ العراةَ العالةَ رعاءَ الشاءِ يتطاولون في البنيان قال ثم انطلق فلبثت مليا ثم قال لي يا عمر أتدري من السائل قلت الله ورسوله أعلم قال فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم.
(2) الإحسان إلى الوالدين:
المسلم دائم الإحسان والبر لوالديه، يطيعهما، ويقوم بحقهما، ويبتعد عن الإساءة إليهما، قال تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا} [الإسراء: 23]
(3) الإحسان إلى الأقارب:
المسلم رحيم في معاملته لأقاربه، وبخاصة إخوانه وأهل بيته وأقارب والديه، يزورهم ويصلهم، ويحسن إليهم. وتأمل في النصوص الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
قال الله تعالى: {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام} [النساء: 1].
((حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال: نعم أما تَرْضَيْنَ أن أصلَ من وصلك و أقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب قال: فذلك لك ثم قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقرؤوا إن شئتم (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ وَتُقَطّعُوَاْ أَرْحَامَكُمْ) [سورة: محمد - الآية: 22].(8/53)
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الرحم شجنة من الرحمن قال الله: من وصلك وصلته و من قطعك قطعته.
((حديث أنس الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من سَرَّه أن يُبْسَطَ له في رزقه و أن يُنْسأُ له في أثره فليصل رحمه.
(ليس الواصل بالمكافئ:
((حديث ابن عمر الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ليس الواصل بالمكافئ و لكن الواصل الذي إذا انقطعت رحمه وصلها.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن رجلا قال يا رسول الله إن لي قرابةً أصلهم ويقطعوني وأُحسنُ إليهم ويُسيئون إلي وأحلُمُ عنهم ويجهلون علي فقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لئن كنت كما قلت فكأنما تُسِفُّهمُ المَلَّ ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك.
((حديث علي رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: صِلْ مَنْ قَطَعَك و أَحْسِنْ إلى مَنْ أسَاءَ إليك وَقُلْ الحَقَ ولو على نَفْسِك.
(مراتب صلة الرحم:
((حديث معاوية الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال: قلت يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك ثم أمك ثم أمك ثم أباك ثم الأقرب فالأقرب.
((حديث البراء الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الخالة بمنزلة الأم.
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح:
الخالة بمنزلة الأم أي في هذا الحكم الخاص لأنها تقرب منها في الحنو والشفقة والاهتداء إلى ما يصلح الولد لما دل عليه السياق، ويؤخذ منه أن الخالة في الحضانة مقدمة على العمة لأن صفية بنت عبد المطلب كانت موجودة حينئذ وإذا قدمت على العمة مع كونها أقرب العصبات من النساء فهي مقدمة على غيرها ويؤخذ منه تقديم أقارب الأم على أقارب الأب.
((حديث أنس الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ابن أخت القوم من أنفسهم.
(4) الإحسان إلى الجار وعدم إيذائه:
المسلم يحسن إلى جيرانه ولا يؤذيهم امتثالاً لأمر الله ورسوله، وتأمل في النصوص الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد. ((8/54)
قال تعالى: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىَ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً) [سورة: النساء - الآية: 36]
((حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيُوَرِثُه.
((حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت.
((حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن قيل: يا رسول الله ومن؟ قال: الذي لا يأمن جارة بوائقة "
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه.
((حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أنه ذُبِحت له شاة في أهله فلما جاء قال: أهديتم لجارنا اليهودي؟ أهديتم لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه.
(من إكرام الجار تعاهده بالهدايا ولو بالشيء القليل:
((حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يا نساء المسلمات! لا تحقرن جارة لجارتها و لو فِرْسَن شاة.
((حديث عائشة الثابت في صحيح البخاري) قالت: قلت يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي، قال: إلى أقربهما منك باباً"
(ومن إكرام الجار ألا يمنع جارٌ جاره أن يغرز خشبةً في جداره:
((حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يمنع جارٌ جاره أن يغرز خشبةً في جداره " ثم يقول أبو هريرة مالي أراكم عنها معرضين، والله لأرمينَّ بها بين أكتافكم.
(ومن إكرام الجار أن يتفقد حاله فقد يكون جائعاً وأنت لا تدري:
((حديث أنس الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما آمن بي من بات شبعان و جاره جائع إلى جنبه و هو يعلم به.
(5) الإحسان إلى اليتامى والمساكين:(8/55)
أمرنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإحسان إلى الأيتام، وبشَّر من يكرم اليتيم بالفوز بمرافقة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجنة، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث سهل بن سعد الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أنا و كافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بأُصبعيه بالسبابة والوسطى.
((حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الساعي على الأرملة و المسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار.
(6) الإحسان إلى النفس:
المسلم يحسن إلى نفسه؛ فيبعدها عن الحرام، ولا يفعل إلا ما يرضي الله، وهو بذلك يطهِّر نفسه ويزكيها، ويريحها من الضلال والحيرة في الدنيا، ومن الشقاء والعذاب في الآخرة، قال تعالى: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) [الإسراء: 7]
(7) الإحسان في القول:
الإحسان مطلوب من المسلم في القول، فلا يخرج منه إلا الكلام الطيب الحسن، قال تعالى: (وَهُدُوَاْ إِلَى الطّيّبِ مِنَ الْقَوْلِ) [الحج: 24]
وقال تعالى: (وَقُولُواْ لِلنّاسِ حُسْناً) [البقرة: 83]
(8) الإحسان في التحية:
والإحسان مطلوب من المسلم في التحية، فعلى المسلم أن يلتزم بتحية الإسلام، ويرد على إخوانه تحيتهم.
قال تعالى: (وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيّةٍ فَحَيّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدّوهَآ) [النساء: 86]
(9) الإحسان في العمل:
والمسلم يحسن في أداء عمله حتى يتقبله الله منه، ويجزيه عليه،
((حديث عائشة الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه.
والإحسان في العمل بأن يكون موافقا لما شرعه الله على لسان رسوله خاليا من البدع والمخالفات، قال تعالى: (بَلَىَ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:112]
و قال تعالى: (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ وَإِلَىَ اللّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ) [لقمان: 22](8/56)
وإسلام الوجه لله، وإلى الله، معناه: إخلاص العمل من الشرك.
والإحسان للعمل معناه: متابعة السنة فيه ومجانبة البدعة، وأي عمل لا يتوفر فيه هذان الشرطان يكون هباءً منثورا ووبالا على صاحبه، وتأمل في النصوص الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
قال تعالى: (قُلْ إِنّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَىَ إِلَيّ أَنّمَآ إِلََهُكُمْ إِلََهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ) [الكهف /110]
((حديثُ أبي هريرةَ الثابت صحيح مسلم): أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ـ قال الله تعالى ـ: أنا أغنى الشركاءِ عن الشرك، من عمل عملاً أشركَ فيه معي غيري تركته وَشِرْكَه.
((حديثُ جندب ابن عبد الله الثابت في الصحيحين): أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من سمَّعَ سمَّعَ الله به ومن يُرائي يُرائي الله به.
((حديثُ أبي أُمامة الثابت في صحيح النسائي): أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن الله تعالى لا يقبلُ من العملِ إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وَجهُهُ.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأُتِيَ به فَعَرَّفَه نِعَمَه فَعَرَفَهَا قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأُتِيَ به فَعَرَّفَه نِعَمَه فَعَرَفَهَا قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأُتِيَ به فَعَرَّفَه نِعَمَه فَعَرَفَهَا قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن يُنْفَقَ فيها إلا أنفقتُ فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقالَ هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار.
((حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد.
(10) الإحسان في الزينة والملبس:(8/57)
قال تعالى: (يَابَنِيَ آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُوَاْ إِنّهُ لاَ يُحِبّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31]
(11) الإحسان إلى البهائم:
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: بينما رجل يمشي بطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها، فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه، فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له). قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجراً؟ فقال: في كل ذات كبد رطبة أجر.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: بينما كلب يُطيف (1) برُكيَّة (2) كاد يقتله العطش؛ إذ رأته بغيٌّ من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها (3) واستقت له به، فسقته إياه، فَغُفر لها به.
ففي هذه الأحاديث فضل الإحسان إلى البهائم بما يُبْقي عليها حياتها، ويدفع عنها الضرر، سواء كانت مملوكة أو غير مملوكة، مأكولة أو غير مأكولة.
(ووجوه الإحسان كثيرة، ينبغي للمسلم أن يسهم فيما يستطيع منها، ولا سيما منْ منّ الله عليهم بوفرة المال، فإن المجالات الخيرية أمامهم واسعة، من بناء المساجد، وتوفير المياه للشرب، وطباعة الكتب الدينية، وتوزيع المصاحف، ومساعدة مشاريع تعليم القرآن الكريم، ومساعدة المراكز الإسلامية في الخارج، وإعانة المجاهدين في سبيل الله، ومواساة المنكوبين والمشردين من المسلمين والمصابين بالمجاعة.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعوا له)
((حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سبع تجري للعبد بعد موته وهو في قبره، من علم علما، أو كرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدا، أو ورث مصحفا، أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته.
ومعنى كرى نهرا: أي حفره.
__________
(1) يطيف: يدور حولها.
(2) الركية: البئر.
(3) الموق: الخف.(8/58)
((حديث أنس الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة، إلا كان له به صدقة)
وظاهر هذه الأحاديث يدل على أن هذه الأشياء تكون صدقة يثاب عليها الزارع والغارس ونحوهما، إذا نوى واحتسب الأجر عند الله سبحانه، ولكن المؤسف أن كثيرا من الأثرياء يحبسون أموالهم عن الإسهام في الخير، ويحرمون أنفسهم من الثواب، وهم قادرون على ذلك، فكانوا ممن جمع فأوعى، فيا حسرة من كان جمّاعا للمال منّاعا للخير لا يقدم لنفسه ما يجده عند الله خيرا وأعظم أجرا، يتعب في جمع المال وحفظه ويتركه لغيره ولا يقدم منه لنفسه.
(فصلٌ في منزلة العلم:
[*] (عناصر الفصل:
(المقصود بالعلم:
(فضل العلم:
(حكم تعلم العلم:
(ماذا نعني بالعلم، وكيف يطلب؟
(آداب طالب العلم:
(فضل بعض العلوم التي يجب على طالب العلم أن يتحلى بها:
ودونك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(المقصود بالعلم:
مسألة: ما المقصود بالعلم؟
العلم هو ما قام عليه الدليل ويقصد به علم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة - رضي الله عنهم -، فالعلم مسائل ودلائل بفهم سلف الأمة - رضي الله عنهم -:
العلم قال الله قال رسوله ... قال الصحابة ليس بالتمويه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة ... بين الرسول وبين قول فقيه
(فضل العلم:
للعلم فضلٌ عظيم، وأجرٌ جسيم، العلم أثمن درة في تاج الشرع المطهر ولا يخفى على كل مسلم أن العلم مهم، حتى إن كل إنسان يدعيه لنفسه حتى الجاهل لا يرضى أن يقال عنه جاهل، ويفرح أن يقال عنه عالم!
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من لا يحسنه ويفرح به إذا نسب إليه وكفى بالجهل ذمّاً أن يتبرأ منه من هو فيه، العلم أشرف ما رغب فيه الراغب، وأفضل ما طلب وجدَّ فيه الطالب، وأنفع ما كسبه واقتناه الكاسب.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة العلم
وهذه المنزلة إن لم تصحب السالك من أول قدم يضعة في الطريق إلى آخر قدم ينتهي إليه: فسلوكه على غير طريق وهو مقطوع عليه طريق الوصول مسدود عليه سبل الهدى والفلاح مغلقة عنه أبوابها وهذا إجماع من الشيوخ العارفين ولم ينه عن العلم إلا قطاع الطريق منهم ونواب إبليس وشرطه.(8/59)
(قال سيد الطائفة وشيخهم الجنيد بن محمد رحمه الله: الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى آثار الرسول وقال: «من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر» لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة وقال: مذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة.
(وقال أبو حفص رحمه الله: من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة ولم يتهم خواطره فلا يعد في ديوان الرجال.
(وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياما فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة.
(وقال سهل به عبد الله رحمه الله: كل فعل يفعله العبد بغير اقتداء طاعة كان أو معصية فهو عيش النفس وكل فعل يفعله العبد بالاقتداء: فهو عذاب على النفس.
(وقال السري: التصوف اسم لثلاثة معان: لا يطفيء نور معرفته نور ورعه ولا يتكلم بباطن في علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب ولا تحمله الكرامات على هتك أستار محارم الله
(وقال أبو يزيد: عملت في المجاهدة ثلاثين سنة فما وجدت شيئا أشد علي من العلم ومتابعته ولولا اختلاف العلماء لبقيت واختلاف العلماء رحمة إلا في تجريد التوحيد وقال مرة لخادمه: قم بنا إلى هذا الرجل الذي قد شهر نفسه بالصلاح لنزوره فلما دخلا عليه المسجد تنخع ثم رمى بها نحو القبلة فرجع ولم يسلم عليه وقال: هذا غير مأمون على أدب من آداب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكيف يكون مأمونا على ما يدعيه وقال: لقد هممت أن أسأل الله تعالى أن يكفيني مؤنة النساء ثم قلت: كيف يجوز لي أن أسأل الله هذا ولم يسأله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم أسأله ثم إن الله كفاني مؤنة النساء حتى لا أبالي استقبلتني امرأة أو حائط وقالوا: لو نظرتم إلى رجل أعطى من الكرامات إلى أن يرتفع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء الشريعة.
(وقال أحمد بن أبي الحواري رحمه الله: «من عمل عملا بلا اتباع سنة فباطل عمله»(8/60)
(وقال أبو عثمان النيسابوري رحمه الله: الصحبة مع الله بحسن الأدب ودوام الهيبة والمراقبة، والصحبة مع الرسول باتباع سنته ولزوم ظاهر العلم ومع أولياء الله: بالاحترام والخدمة، ومع الأهل: بحسن الخلق ومع الإخوان: بدوام البشر ما لم يكن إثما ومع الجهال: بالدعاء لهم والرحمة زاد غيره: ومع الحافظين: بإكرامهما واحترامهما وإملائهما ما يحمدانك عليه ومع النفس: بالمخالفة ومع الشيطان: بالعداوة وقال أبو عثمان أيضا: «من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة» «ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة»
قال الله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]
(وقال أبو الحسين النووي: من رأيتموه يدعي مع الله عز وجل حالة تخرجه عن حد العلم الشرعي فلا تقربوا منه.
(وقال محمد بن الفضل البامجي من مشايخ القوم الكبار: ذهاب الإسلام من أربعة: لا يعملون بما يعلمون ويعملون بما لا يعلمون ولا يتعلمون ما يعملون ويمنعون الناس من التعلم والتعليم.
(وقال عمرو بن عثمان المكي: العلم قائد والخوف سائق والنفس حرون بين ذلك جموح خداعة رواغة فاحذرها وراعها بسياسة العلم وسقها بتهديد الخوف يتم لك ما تريد.
(وقال أبو سعيد الخراز: كل باطن يخالفه الظاهر فهو باطل.
(وقال ابن عطاء: «من ألزم نفسه آداب السنة نور الله قلبه بنور المعرفة» ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب في أوامره وأفعاله وأخلاقه وقال: كل ما سألت عنه فاطلبه في مفازة العلم فإن لم تجده ففي ميدان الحكمة فإن لم تجده فزنه بالتوحيد فإن لم تجده في هذه المواضع الثلاثة فاضرب به وجه الشيطان وألقى بنان الحمال بين يدي السبع فجعل السبع يشمه ولا يضره فلما أخرج قيل له: ما الذي كان في قلبك حين شمك السبع قال: كنت أتفكر في اختلاف العلماء في سؤر السباع (وقال أبو حمزة البغدادي من أكابر الشيوخ وكان أحمد بن حنبل يقول له في المسائل: ما تقول يا صوفي من علم طريق الحق سهل عليه سلوكه ولا دليل على الطريق إلى الله إلا متابعة الرسول في أحواله وأقواله وأفعاله.
(ومر الشيخ أبو بكر محمد بن موسى الواسطي يوم الجمعة إلى الجامع فانقطع شسع نعله فأصلحه له رجل صيدلاني فقال: تدري لم انقطع شسع نعلي فقلت: لا فقال: لأني ما اغتسلت للجمعة فقال: ههنا حمام تدخله فقال: نعم فدخل واغتسل. (وقال أبو إسحاق الرقي من أقران الجنيد: علامة محبة الله: إيثار طاعته ومتابعة رسوله.(8/61)
(وقال أبو يعقوب النهرجوري: أفضل الأحوال ما قارن العلم.
(وقال أبو بكر الطمستاني من كبار شيوخ الطائفة: الطريق واضح والكتاب والسنة قائم بين أظهرنا وفضل الصحابة معلوم لسبقهم إلى الهجرة ولصحبتهم فمن صحب الكتاب والسنة وتغرب عن نفسه وعن الخلق وهاجر بقلبه إلى الله: فهو الصادق المصيب.
(وقال أبو عمرو بن نجيد: كل حال لا يكون عن نتيجة علم فإن ضرره على صاحبه أكثر من نفعه. أهـ.
[*] وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ لكميل: " احفظ ما أقول لك: الناس ثلاثة، فعالم رباني، وعالم متعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو على العمل، والمال ينقصه النفقة، ومحبة العالم دين يدان بها باكتساب الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد موته وصنيعه، وصنيعة المال تزول بزوال صاحبه، مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة ".
فللعلم مقام عظيم في شريعتنا الغراء، فأهل العلم هم ورثة الأنبياء، وفضل العالم على العابد كما بين السماء والأرض.
فعن قيس بن كثير قال: قدم رجل من المدينة على أبي الدرداء وهو بدمشق فقال ما أقدمك يا أخي؟ فقال: حديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال: أما جئت لحاجة؟! قال: لا.
قال: أما قدمت لتجارة؟! قال: لا.
قال: ما جئت إلا في طلب هذا الحديث.
قال: فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، إنَّ الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر
والعلماء هم أمناء الله على خلقه، وهذا شرف للعلماء عظيم، ومحل لهم في الدين ... خطير؛ لحفظهم الشريعة من تحريف المبطلين، وتأويل الجاهلين، والرجوع والتعويل في أمر الدين عليهم، فقد أوجب الحق سبحانه سؤالهم عند الجهل.
قال تعالى: " فاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ " [النحل/ 43](8/62)
وهم أطباء الناس على الحقيقة، إذ مرض القلوب أكثر من الأبدان، فالجهل داء، ودواؤه العلم (لحديث جابر في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " فإنما شفاء العي السؤال.
ومرضى القلوب لا يعرفون مرضهم، كما أن من ظهر على وجهه برص ولا مرآة له لا يعرف برصه ما لم يعرفه غيره، والدنيا دار مرض؛ فكما أنَّه ليس في بطن الأرض إلا ميت، فكذلك ليس على ظهرها إلا سقيم، والأسقام تتفاوت وتتنوع، والعلم هو ترياقهم فتدبر في (حديث أسامة بن شريك في صحيح السنن الأربعة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تداووا فإِنَّ اللّه تعالى لم يضع داءً إلا وضع له دواءً غير داءٍ واحدٍ: الهرم.
(والكتاب والسنة طافحان بما يدل على فضل العلم
ومن ذلك ما يلي:
1) قال الله تعالى: " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائمًا بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم " [آل عمران / 18]
فأهل العلم هم الثقات العدول الذين استشهد الله بهم على أعظم مشهود، وهو توحيده جل وعلا، وهذا هو العلم الحقيقي، العلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته، وموجب ذلك ومقتضاه من الإيمان برسله وكتبه والإيمان بالغيب حتى كأنه مشاهد محسوس.
فهذه المزية الكبرى للعلم وأهله، أنَّه يدل على صراط الله المستقيم، أنَّه الوسيلة العظمى للقرب من الله تعالى، وموجب لإحاطة محبته بالقلب، فمتى عرفت الله اجتمع قلبك على محبته وحده جل وعلا؛ لأنَّ له وحده الأسماء الحسنى والصفات العلا.
فهذا هو العلم وهذه هي ثمرته. رزقنا الله وإياك الشجرة والثمرة إنه جواد كريم
2) وقد بوَّب الإمام البخاري بابًا فقال: " باب العلم قبل القول والعمل" لقوله تعالى: " فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك " [محمد/19]
سئل سفيان بن عيينة عن فضل العلم فقال: ألم تسمع قوله حين بدأ به " فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك " [محمد/19] فأمر بالعمل بعد العلم.
فالعلم مقدم على القول والعمل، فلا عمل دون علم، وأول ما ينبغي تعلمه " التوحيد " و "علم التربية " أو ما يُسمَّى بعلم " السلوك " فيعرف الله تعالى ويصحح عقيدته، ويعرف نفسه وكيف يهذبها، وأنت تلحظ هذا الارتباط بين العلم بالتوحيد " فاعلم أنَّه لا إله إلا الله " وبين التربية والتزكية التي من ثمارها المراقبة ودوام التوبة " واستغفر لذنبك "(8/63)
3) والعلم نور يبصر به المرء حقائق الأمور، وليس البصر بصر العين، ولكن بصر القلوب، " فإنَّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " [الحج/46]؛ ولذلك جعل الله الناس على قسمين: إمَّا عالم أو أعمى فقال الله
تعالى: " أ فمن يعلم أنَّما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى " [الرعد/19].
ولذلك عبَّر الله تعالى بفعل " رأى " دلالة على العلم في قوله تعالى: ويرى الذين أوتوا العلم الذي أُنزل إليك من ربك هو الحق " [سبأ /6] فلم يقل: " ويعلم " وهذا ـ والله أعلم ـ إشارة إلى العلم وأثره في القلوب، التي صارت به تبصر وترى الحق، ولا يلتبس عليها بالباطل.
وهذا واضح في (حديث حذيفة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودا عُودا، فَأَيّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْل الصّفَا، فَلاَ تَضُرّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادا كَالْكُوزِ مُجَخّيا لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرا، إِلاّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ.
4) والعلم يورث الخشية:
قال الله تعالى: " إنَّما يخشى الله من عباده العلماء " [فاطر/28]
وقال تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا " [الإسراء /107 - 109]
5) وقد مدح الله أهل العلم وأثنى عليهم، فجعل كتابه آيات بينات في صدورهم، به تنشرح وتفرح وتسعد.
قال الله تعالى: " بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون " [العنكبوت/49]
6) وقد أمرنا الله تعالى بالاستزادة من العلم وكفى بها من منقبة عظيمة للعلم.
قال الله تعالى: " وقل رب زدني علمًا " [طه/ 114]
[*] قال القرطبي: فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله تعالى نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أن يسأله المزيد منه كما أمر أن يستزيده من العلم.(8/64)
7) والعلماء هم ورثة الأنبياء، وهم أهل الذكر، الذين أمر الناس بسؤالهم عن عدم العلم قال الله تعالى: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " [النحل/43]
8) وأخبر الله عن رفعة درجة أهل العلم والإيمان خاصة.
وقال تعالى (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) ... (المجادلة/11)
وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (الزمر من الآية: 9).
[*] قال ابن عباس رضي الله عنهما:
للعلماء درجاتٍ فوق المؤمنين بسبعمائة درجة بين كل درجتين مسيرة خمسمائة عام
9) والعلم أفضل الجهاد، إذ من الجهاد جهاد بالحجة والبيان، وهذا جهاد الأئمة من ورثة الأنبياء، وهو أعظم منفعة من الجهاد باليد واللسان، لشدة مؤنته، وكثرة العدو فيه.
قال تعالى: " ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرًا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادًا كبيرًا " [الفرقان / 51 - 52]
[*] يقول ابن القيم رحمه الله: " فهذا جهاد لهم بالقرآن، وهو أكبر الجهادين، وهو جهاد المنافقين أيضًا، فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين، بل كانوا معهم في الظاهر، وربما كانوا يقاتلون عدوهم معهم، ومع هذا فقد قال تعالى: " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم " ومعلوم أنَّ جهاد المنافقين بالحجة والقرآن.
والمقصود أنَّ سبيل الله هي الجهاد وطلب العلم، ودعوة الخلق به إلى الله " وتدبر في (حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو في منزلة المجاهد في سبيل الله، ومن جاءه لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره "
10) ولم يجعل الله الغبطة إلا في أمرين: بذل المال، وبذل العلم، وهذا لشرف الصنيعين، وحث النَّاس على التنافس في وجوه الخير.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجلٌ علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جارٌ له فقال: ليتني أوتيتُ مثل ما أُوتيَ فلانٌ فعملتُ مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالاً فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيتُ مثل ما أُوتيَ فلانٌ فعملتُ مثل ما يعمل)
{تنبيه}: (المقصود بالحسد هنا [الغبطة] لأن الحسد لا يحل في اثنتين ولا ثلاث.(8/65)
11) ولا ينقطع عمل العالم بموته، بخلاف غيره ممن يعيش ويموت، وكأنَّه من سقط المتاع، أمَّا أهل العلم الربانيون الذين ينتفع بعلمهم من بعدهم فهؤلاء يضاعف لهم في الجزاء والأجر شريطة الإخلاص.
عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له "
12) وكل ما في الدنيا هالك وإلى زوال، تتنزل عليه اللعنات، والمرحوم من ذلك صنفان من النَّاس: أهل العلم وطلبته، والعابدون الذاكرون الله كثيرًا.
فتدبر في (حديث أبي هريرة في صحيح ابن ماجة) أنَّ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلما.
13) وبالعلم يعظم أجر المؤمن، ويصحح نيته، فيحسن عمله، وإذا كان النَّاس لا يشغفون بالمال عن العلم، فإنَّ فضل العلم على المال أعظم، وقد فصل لنا الشرع في هذه القضية، فقد قسَّم رسول الله النَّاس على أصناف أربعة، جعل الناجين منهم صنفين، وهما من تلبث بالعلم.
(حديث أبي كبشة الأنماري في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَحسنِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْماً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الأجرِ سَوَاءٌ، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً فَهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ لاَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلاَ يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فهو بِأَسوءِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلاَ عِلْماً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الوزر سَوَاءٌ
والشاهد هنا أنَّ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل العلم الحقيقي هو العلم الذي يبصر المرء بحقائق الأمور، فصاحب المال إذا لم يتحلَ بالعلم فإنَّه سيسيء التصرف فيه، فتجده ينفقه على شهوات نفسه، ولا يعرف شكر هذه النعمة، ولذلك استحق أن يكون بِأَسوءِ المنازل، والعياذ بالله.(8/66)
وجعل العالم يعرف قدر المال الحقيقي، فيم ينفق؟ فبعلمه نوى نية صالحة فصار بأحسن المنازل، وإن لم ينفق.
{تنبيه}: (هذا الحديث فيه فوائد جمة حيث بين فصل الخطاب في السعادة والشقاوة و أن السعادة بجملتها على العلم وموجبه والشقاوة بجملتها على الجهل وثمرته.
[*] قال الإمام أحمد: الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب لأن الطعام والشراب يحتاج إليه فى اليوم مرة أو مرتين والعلم يحتاج إليه بعدد الأنفاس.
[*] وقال سفيان بن عيينة: أرفع الناس منزلة من كان بين الله وبين عباده وهم الأنبياء والعلماء.
14) ومن رزق فقهًا في الدين فذاك الموفق على الحقيقة، فالفقه في الدين من أعظم المنن.
(حديث معاوية في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين و إنما أنا قاسم و الله يعطي و لن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله عز و جل.
15) والعلم مقدم على العبادة، فإنَّ فضلا في علم خير من فضل في عبادة، ومن سار في درب العلم سهل عليه طريق الجنة.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة.
(حديث أبي الدرداء في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من سلك طريقا يلتمس فيه علما سلك الله به طريقا من إلى الجنة و إن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم و إن العالم ليستغفر له من في السموات و من في الأرض حتى الحيتان في البحر و إن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب و إن العلماء ورثة الأنبياء و إن الأنبياء لم يورِّثوا دينارا و لا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر.
وسلوك الطريق لالتماس العلم يدخل فيه سلوك الطريق الحقيقي وهو المشي بالأقدام إلى مجالس العلماء، ويدخل فيه سلوك الطريق المعنوية المؤدية إلى حصول العلم مثلُ حفظهِ ومدارسته.
وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " سهل الله له به طريقاً إلى الجنة " قد يراد بذلك أن الله يسهل له العلم الذي طلبه وسلك طريقه، وييسره عليه، فإن العلم طريقٌ يوصل إلى الجنة، كما قال بعض السلف: " هل من طالب علمٍ فيعان عليه"، وقد يراد به طريق الجنة يوم القيامة وهو الصراط وما قبله وما بعده.(8/67)
والعلم أيضاً يدل على الله تعالى من أقرب طريق، فمن سلك طريقه وصل إلى الله تعالى وإلى الجنة من أقرب طريق، والعلم أيضا يُهْتَدَى به في ظلمات الجهل والشبه والشكوك، ولهذا سمى الله كتابه نوراً، ولذا كان قبض العلم بقبض العلماء الربانيين الذين يدلون الناس على الخير ويحذرونهم من الشر.
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الناس ولكن يقبضه بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً جُهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ".
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إن اللّه لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه) أي محواً من الصدور
(ولكن يقبض العلم بقبض العلماء) أي بموتهم فيقبض العلم بتضييع [ص 274] التعلم فلا يوجد فيمن بقي من يخلف من مضى وفي رواية للبخاري بدل هذا لكن ينتزعه منهم بقبض العلماء بعلمهم وتقديره ينتزعه بقبض العلماء مع علمهم ففيه نوع قلب وفي رواية لكن ذهابه قبض العلماء ومعانيها متقاربة قال ابن المنير: محو العلم من الصدور جائز في القدرة لكن الحديث دل على عدم وقوعه
(حتى إذا لم يبق عالماً) وفي رواية يبق عالم بفتح الياء والقاف وفي رواية إذا لم يترك وعبر بإذا دون إن إيماء إلى أنه كائن لا محالة بالتدريج
(اتخذ الناس رؤوساً جُهالاً) جهلاً بسيطاً أو مركباً
(فسئلوا فأفتوا بغير علم) في رواية برأيهم أي استكباراً وأنفة عن أن يقولوا لا نعلم
(فضلوا) في أنفسهم(8/68)
(وأضلوا) من أفتوه وفي رواية وضلوا عن سواء السبيل. وهذا تحذير من ترئيس الجهلة وأن الفتوى هي الرئاسة الحقيقية وذم من يقدم عليها بلا علم وأن قبض العلم موت حملته لا محوه منهم ولا يلزم من بقاء القرآن حينئذ بقاء العلم لأنه مستنبط منه ولا يلزم من المستنبط نفي المستنبط منه والعالم وإن كان قارئاً فهو أخص ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم وفيه جواز خلو الزمان عن مجتهد وعليه الجمهور خلافاً لأكثر الحنابلة وترئيس أهل الجهل ويلزمه الحكم بالجهل وهذا كما قال الكرماني: تعم القضاة الجاهلين إذ الحكم بشيء يستلزم الفتوى به ثم إن ذا لا يعارضه خبر لا تزال طائفة إلخ محل ذا على أصل الدين وذاك على فروعه أو أنه لا يقبض العلم إلى زمن مبادىء الأشراط قبل استحكام نهايتها فإذا أزفت الآزفة وأفرط قرب قيام الساعة وما أمر اللّه زال الكل فيحمل الخبر على زمنين مختلفين يزول التعارض من البين (تتمة) قال الراغب: لا شيء أوجب على السلطان من رعاية أحوال المتصدين للرياسة بالعلم فمنّ الاخلال بها ينتشر الشر ويكثر الأشرار ويقع بين الناس التباغض والتنافر وذلك أن السواس أربعة الأنبياء وحكمهم على الخاصة ظاهرهم وباطنهم والحكماء وحكمهم على بواطن الخاصة والوعاظ وحكمهم على بواطن العامة وصلاح العالم برعاية أمر هذه الساسات لتخدم العامة الخاصة وتسوس الخاصة العامة، وفساده في عكس ذلك، ولما ترشح قوم للزعامة في العلم بغير استحقاق وأحدثوا بجهلهم بدعاً استغنوا بها عامة واستجلبوا بها منفعة ورياسة فوجدوا من العامة مساعدة بمشاركتهم لهم وقرب جوهرهم منهم وفتحوا بذلك طرقاً منسدة ورفعوا به ستوراً مسبلة وطلبوا منزلة الخاصة فوصلوها بالوقاحة وبما فيهم من الشره فبدعوا العلماء وجهلوهم اغتصاباً لسلطانهم ومنازعة لمكانهم فأعزوا بهم أتباعهم حتى وطئوهم بأظلافهم وأخفافهم فتولد بذلك البوار والجور العام والعار.
وسُئل عبادة بنُ الصامت عن هذا الحديث فقال: " لو شئت لأخبرتك بأول علم يرفع من الناس: الخشوع ".
(وإنما قال عبادة - رضي الله عنه - هذا لأن العلم قسمان:
أحدهما: ما كان ثمرته فى قلب الإنسان، هو العلم بالله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله المقتضى لخشيته، ومهابته، وإجلاله، ومحبته، ورجائه، والتوكل عليه، فهذا هو العلم النافع
[*] ولذا قال ابن مسعود: " إن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع فى القلب فرسَخ فيه نفع"،(8/69)
[*] وقال الحسن: " العلم علمان: علم اللسان فذاك حجة على ابن آدم، كما في الحديث " القرآن حجة لك أو عليك"
(حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو مُوبِقها.
وعلم في القلب فذاك العلم النافع، فأول ما يرفع من العلم العلمُ النافع، وهو العلم الباطن الذى يخالط القلوب ويصلحها، ويبقى علم اللسان فيتهاون الناس به ولا يعملون بمقتضاه، لا حملته ولا غيرهم، ثم يذهب هذا العلم بذهاب حملته وتقوم الساعة على شرار الخلق ".
16) ويكفي صاحب العلم فضلاً أنَّ الله يسخر له كل شيء ليستغفر له ويدعو له:
(حديث أبي الدرداء في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من سلك طريقا يلتمس فيه علما سلك الله به طريقا من إلى الجنة و إن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم و إن العالم ليستغفر له من في السموات و من في الأرض حتى الحيتان في البحر و إن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب و إن العلماء ورثة الأنبياء و إن الأنبياء لم يورِّثوا دينارا و لا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر.
17) وطلبة العلم هم وصية رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(حديث أبي سعيد في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سيأتيكم أقوام يطلبون العلم فإذا رأيتموهم فقولوا لهم: مرحبا بوصية رسول الله و أقنوهم.
قلت للحكم: ما أقنوهم؟ قال: علموهم.
18) وأهل العلم الذين يبلغون الناس شرع الله تعالى هم أنضر الناس وجوهًا، وأشرفهم مقامًا، بدعاء رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم.
(حديث زيد بن ثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: نضر الله امرءاً سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه فرب حامل فقه إلى من هو أفقه و رب حامل فقه ليس بفقيه.
معنى نضَّر الله: الدعاء له بالنضارة وهي النعمة والبهجة
[*] قال سفيان ابن عيينة: ما من أحدٍ يطلب الحديث إلا في وجهه نضرة
19) ومن شرف العلم وفضله أنَّ الله امتن على أنبيائه ورسله بما آتاهم من العلم، دلالة على عظم المنَّة.(8/70)
فذكر نعمته على نبينا محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال الله تعالى: " وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيمًا " [النساء/113]
ووصف خليله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بأنَّه كان أمة، أي جامعًا لصفات الكمال من العلم والعمل.
قال تعالى: " إنَّ إبراهيم كان أمة قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين شاكرًا لأنعمه " [النحل/ 120 - 121]
وقال جل وعلا عن نبيه يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: " ولما بلغ أشده آتيناه حكمًا وعلمًا وكذلك نجزي المحسنين " [يوسف / 22]
وقال في كليمه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: " ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكمًا وعلمًا وكذلك نجزي المحسنين " [القصص/114]
وقال في حق المسيح عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: " يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل " [المائدة / 110]
20) قال علي بن أبي طالب: ومن شرف العلم وفضله أنَّ كل من نسب إليه فرح بذلك، وإنْ لم يكن من أهله، وكل من دفع عنه ونسب إلى الجهل عزَّ عليه ونال ذلك من نفسه، وإنْ كان جاهلاً.
[*] قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: لولا العلماء لصار الناس كالبهائم
[*] وقال معاذ ابن جبل رضيَ الله تعالى عنه: تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، وهو الأنيس في الوحدة والصاحب في الخلوة.
[*] وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: العلم لا يعدله شيء إذا صحت نيته.
21) وبين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن فضل العلم على العبد كفضله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أدنانا:
(حديث أبي أمامة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم.
22) وبين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن العلم يترتب عليه الأجر الوفير لدلالة الناس على الخير:
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا و من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا.
23) أثنى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على من أقبل على العلم تعلماً وتعليماً:(8/71)
(حديث أبي موسى الأشعري في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: مثل ما بعثني الله به من الهدى و العلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ و العشب الكثير و كانت منها أخاذات أمسكت الماء فنفع الله بها الناس شربوا منها و سقوا وزرعوا و أصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء و لا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله و نفعه ما بعثني الله به فعلم و علم و مثل من لم يرفع بذلك رأسا و لم يقبل هدى الله الذي أرسلت به.
[*] (شرح الحديث:
قسَّم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الناس من حيث قبول العلم والانتفاع به إلى قسمين:
(القسم الأول:
وهو قسمٌ محمود، وينقسم إلى نوعين:
1) نوعٌ كالأرض النقية التي تقبل الماء فتستفيد في نفسها ثم تفيد غيرها بإنبات الكلأ والعشب الكثير، وهؤلاء هم الفقهاء أولي الفهم لأنهم فهموا فاستفادوا ثم أفادوا.
2) نوعٌ آخر محمود ولكنه دون النوع الأول، وهم كالأرض الصلبة (أخاذات) التي تجمع الماء وتحفظه لينتفع به الناس من السقي والزراعة والشرب، فهؤلاء كالمحدثين الذين لم يُرزقوا الفقه والفهم بل حفظوا العلم ونقلوه لغيرهم ليستفيدوا به.
{تنبيه}: (ليس المقصود بذلك أن كل محدثٍ ليس بفقيه فهناك كثيرٌ من العلماء جمعوا بين الحديث والفقه كالإمام أحمد والإمام البخاري رحمهما الله تعالى
(القسم الثاني: قسمٌ مذموم لم يهتم بالعلم ولم يرفع بذلك رأساً ولم يشغل باله بالعلم لا تعلماً ولا تعليماً ولا حفظاً ولا سماعاً، فلم ينتفع بالهدى والعلم وعاش هائماً في الضلال بل ربما كان أضل من حمار أهله.
وبين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن طلب العلم من المسالك المؤدية إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن العلم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء
[*] قال الإمام أحمد رحمه الله كما في طبقات الحنابلة (1/ 390):
الناس يحتاجون إلى العلم مثل الخبز والماء، لأن العلم يحتاج إليه في كل ساعة، والخبز والماء في كل يوم مرة أو مرتين.
[*] روى ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 225) بإسناد صحيح عن الزهري قال: (ما عُبِدَ الله بِمِثْلِ العِلم).
(والغرض من تعلم العلم الشرعي العمل به، وطلب الأجر والثواب من الله، ورفع الجهل عن النفس.(8/72)
ولقد كان أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل فتعلمنا القرآن والعمل جميعا.
ولم يكن السلف يطلقون اسم الفقيه إلا على من جمع بين العلم والعمل.
والعمل بالعلم سبب للثبات،
قال تعالى: (وَلَوْ أَنّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ وَأَشَدّ تَثْبِيتاً) [النساء / 66]
[*] روى الخطيب البغدادي بسنده في اقتضاء العلم العمل: «عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل» (1).
[*] قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 704)
قال عبد الملك بن إدريس رحمه الله:
والعلم ليس بنافع أربابه ... ما لم يفد عملاً وحسن تبصر
سيان عندي من لم يستفد ... عملاً به وصلاة من لم يطهر
فاعمل بعلمك توف نفسك وزنها ... لا ترض بالتضييع وزن المخسر
[*] قال أبو الدرداء رضي الله عنه:
«إن أخوف ما أخاف إذا وقفت على الحساب أن يقال لي: قد علمت فماذا عملت فيما علمت؟» (2).
وقد كان السلف رحمهم الله يستعينون على حفظ الحديث والعلم بالعمل به.
[*] قال الخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل:
«العلم شجرة، والعمل ثمرة ... فلا تأنس بالعمل ما دمت مستوحشا من العلم، ولا تأنس بالعلم ما كنت مقصرا في العمل، ولكن اجمع بينهما وإن قل نصيبك منهما».
[*] قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
في زاد المعاد (3/ 10): السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانياً حتى يعرف الحق، ويعمل به، ويعلمه، فمن علم وعمل وعلم دعي عظيما في ملكوت السماوات.
(حديث أبي مدينة الدارمي وكانت له صحبة الثابت في السلسلة الصحيحة) قال كان الرجلان من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا التقيا لم يفترقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر والعصر إن الإنسان لفي خسر ثم يسلم أحدهما على الآخر.
[*] قال الإمام ابن القيم:
__________
(1) رواه الخطيب في اقتضاء العلم العمل (35) وفيه لطيفة إسنادية مسلسل برواية تسعة آباء .. تدريب الراوي (2/ 261).
(2) رواه ابن المبارك في الزهد (52)،وأحمد في الزهد (2/ 58)، وأبونعيم في الحلية (1/ 231)،ورواه بنحوه الحارث بن أسامة في مسنده (1124)، والخطيب في اقتضاء العلم العمل (41).وهو حسن.(8/73)
في مفتاح دار السعادة عن سورة العصر (1/ 238): «فذكر تعالى المراتب الأربع في هذه السورة، وأقسم سبحانه في هذه السورة بالعصر أن كل أحد في خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهم الذين عرفوا الحق، وصدقوا به. فهذه مرتبة.
وعملوا الصالحات، وهم الذين عملوا بما علموه من الحق. فهذه مرتبة أخرى.
وتواصوا بالحق، وصى به بعضهم بعضاً، تعليماً وإرشاداً. فهذه مرتبة ثالثة.
وتواصوا بالصبر، صبروا على الحق، ووصى بعضهم بعضاً بالصبر عليه، والثبات. فهذه مرتبة رابعة.
وهذا نهاية الكمال، فإن الكمال أن يكون الشخص كاملاً في نفسه، مكملاً لغيره، وكماله بإصلاح قوتيه العلمية والعملية، فصلاح القوة العلمية بالإيمان، وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات، وتكميله غيره، وتعليمه إياه، وصبره عليه، وتوصيته بالصبر على العلم والعمل. فهذه السورة على اختصارها هي من أجمع سور القرآن للخير بحذافيره والحمد لله الذي جعل كتابه كافياً عن كل ما سواه، شافياً من كل داءٍ، هادياً إلى كل خير» ا. هـ.
[*] قال ابن الجوزي في صيد الخاطر (218):
«فالله الله في العلم بالعمل، فإنه الأصل الأكبر، والمسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به، ففاتته لذات الدنيا وخيرات الآخرة، فقدم مفلسا، مع قوة الحجة عليه»
(حكم تعلم العلم:
حكم تعلم العلم على التفصيل الآتي:
(1) فرض عين: وهو ما يتعين وجوبه على الشخص، وعليه يحمل الحديث الآتي
(حديث أنس في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: طلب العلم فريضةٌ على كل مسلم.
وهذا العلم هو علم التوحيد لأن التوحيد مقدَّمٌ على العمل والأصلُ الذي يترتب عليه غيره إذ لا ينفع مع الشرك عمل.، وهو كذلك ما لا بد منه لصحة العبادات كعلم الطهارة والصلاة والصيام والحج والزكاة.
(2) فرض كفاية:
وهو التوسع في العلوم ودقائقها ومباحثها ويدخل في هذا النوع كل علم لا يُستغنى عنه في قوام أمور الدنيا كالطب فإنه ضروري في حاجة بقاء الأبدان على الصحة، والحساب فإنه ضروري في قسمة المواريث والوصايا وغيرهم.
(ماذا نعني بالعلم، وكيف يطلب؟
مسألة: ماذا نعني بالعلم، وكيف يطلب؟
حين نقول العلم، فإنما نريد أن تعلم الأمة، كل الأمة، جميع الأمة، صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءً، حكاماً ومحكومين، فكل أفراد الأمة على التعيين عليهم(8/74)
أنْ يعرفوا الله: الله جل وعلا الذي يعبدونه، الله الذي استسلموا له بالإسلام، أن يعرفوا الله. من خلال عقيدة صحيحة صافية سليمة نقية واضحة.
وأن يعرفوا رسوله: فيعرفوه معرفة حقيقية؛ ليتبعوه، وليحبوه، وليوالوه، وليقتدوا ويتأسوا به، ولا يتركوا شيئاً من سنته وعمله إلا عملوه. وأن يعرفوا ما تلزم معرفته من أمر الدنيا والدين إذ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وللوسائل حكم المقاصد.
وتدبر في (حديث أنس الثابت في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: طلب العلم فريضةٌ على كل مسلم.
وتأتى هذه الأهمية بعد قضية الإيمان بالله عز وجل، فأول واجب على كل مسلم الإيمان بالله تعالى، ويليه العلم؛ لأنَّك بالتعلم تصحح إيمانك وعقيدتك، وتصحح عملك، فالتعلم هو الوسيلة التي يتمكن بها المكلف من تصحيح إيمانه، ومن تصحيح عمله.
[*] (والتعلم له طريقان بحسب طاقة الناس:
1) فمن كان قادراً على تلقى العلم من شيوخه بالجلوس عند ركبهم، ودراسة العلوم عليهم، وجب عليه أن يتعلم الحد الواجب من العلوم بهذه الطريقة.
2) ومن لم يكن قادراً على ذلك فليتعلم بطريقة السؤال؛ يسأل أهل الذكر وأهل العلم عن المسائل الضرورية التي يصحح بها عمله، ويصحح بها إيمانه ..
قال الله تعالى: " فاسألوا أهل الذكر إنْ كنتم لا تعلمون " [النحل /43]
وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " فإنَّما شفاء العي السؤال " وهو ثابت في صحيح أبي داوود عن جابر رضي الله تعالى عنه.
وقد سلك أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلا المسلكين، كلٌ على قدر طاقته، وعلى قدر إمكاناته، فالمهاجرون والأنصار الذين كانوا معه في المدينة النبوية المباركة أكثرهم تلقوا العلم من فم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن لم يسمعه من فمه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسمعه عمن سمعه منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكانوا يتناوبون على سماع العلم منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد. ((8/75)
(حديث بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ الثابت في الصحيحين) عن عمر قال: كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ينزل يومًا، وأنزل يومًا، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك.
وكثير من المسلمين في عهده الذين لم يستطيعوا التعلم بهذه الطريقة تلقوه بطريق السؤال، كانوا يأتون رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من كل حدب وصوب يسألون عن الضروري من أمور دينهم، فيجيبهم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأوجز وأبلغ عبارة، فيفهمون المراد، ويرجعون إلى بلادهم وأقوامهم، يبادرون إلى العمل.
فهذا رجل من ثقيف يأتي بعد أن امتن الله على قبيلته فدخلت في الإسلام لكن ذلك كان في فترة متأخرة، فيرغب في الخير الذي حصَّله من سبقه، فيسأل النبي سؤالاً جامعًا، ويجيبه النبي بإجابة بليغة وجيزة.
عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك ـ وفي رواية "غيرك " ـ قال: قل آمنت بالله فاستقم وهو ثابت في صحيح مسلم.
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يفرحون بمجيء أحد من الأطراف، خاصة إذا كان من البادية؛ لأنهم كانوا يسألون رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن مسائل كان الصحابة يتهيبون من سؤاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنها.
ولذلك قال أنس: كنا نهاب أن نسأل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن شيء، وكان يعجبنا أن يأتيه الرجل من أهل البادية فيسأله، ونحن نستمع. (1)
وذلك بعد أن أنزل الله تعالى قوله تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [المائدة/101]
بل وحتى النساء كن يحرصن على سؤاله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتعلم أمور الدين منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكانت المرأة من الصحابيات إذا استحيت أن تسأله مباشرة، سألته بواسطة بعض أمهات المؤمنين إذا كان الأمر يتعلق بشيء مما يستحي منه النساء، وأما في غير ذلك فيسألنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويحرصن على تلقي العلم منه.
(حديث عائشة في الصحيحين) أن امرأة سألت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن غسلها من المحيض فأمرها كيف تغتسل. قال خذي ِفرصةٍ من مسكٍ فتطهري بها. قالت كيف أتطهر بها؟ قال تطهري بها. قالت كيف؟ قال سبحان الله تطهري بها. فاجتبذتها إليَّ فقلت تتبعي بها أثر الدم.(8/76)
وسألته عن غسل الجنابة فقال: تأخذ ماء فتطهر فتحسن الطهور أو تبلغ الطهور ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تفيض عليها الماء.
[*] فقالت عائشة رضي الله عنها: نعم النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين.
فهذه طريقتهم في طلب العلم وحرصهم عليه وحسن سؤالهم عن شئونهم الحقيقية، وتوصيفهم الصحيح لواقعهم بعد فهمهم الدين، فلم يكونوا يفترضون الأمثلة، ولا يطرحون الأمثلة للترف العلمي والفكري، فتعلموا ونقلوا الدين بأمانة، فوصلنا الدين من خلال هؤلاء الصحابة العلماء الأجلاء كاملاً مكملاً، فلا تجد ثغرة في ديننا ولا مسألة إلا وعندك منها علمًا، فجزى الله رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنَّا وعن أمة الإسلام خير الجزاء، وجزى صحابته خير الجزاء، وإنما أعرضوا عمَّا لا ينفع، وهذا ما علمه لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لما جاءه رجل يقول: متى الساعة؟ قال: وماذا أعددت لها. اليوم أنت ـ أخي طالب العلم ـ من هؤلاء، وكيف تطلب؟ وعمَّ تسأل؟ وفيم تبحث؟!!!
(آداب طالب العلم:
مسألة: ما هي الآداب التي يجب على طالب العلم أن يتحلى بها؟
[*] لقد قدَّم الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد جملةً من الآداب التي يجب على طالب العلم أن يتحلى بها وهي في حقيقتها جملة من نصائحٍ ذهبية صادرةٌ عن إخلاصٍ وحسنِ طوية – نحسبه كذلك والله حسيبه ولا نزكي على الله أحد _ أرجو أن تعرها سمعك وفكرك وأن تجد لك في سمعك مسمعاً وفي قلبك موقعاً وأن تتقبلها بقبولٍ حسن عسى الله تعالى أن ينفعك بها ويوفقك إلى تطبيقها. وهي على الترتيب الآتي:
أولا: آداب طالب العلم في نفسه
ثانياً: آداب طالب العلم مع شيخه
ثالثاً: آداب الزمالة
رابعاً: آداب طالب العلم في حياته العلمية
خامساً: التحلي بالعمل
سادساً: تأدية زكاة العلم
سابعاً: التحلي بعزة العلماء
ثامناً: صيانة العلم
تاسعاً: التحلي بالمدارة وليس المداهنة
عاشراً: التحلي بالغرام بالكتب
الحادي عشر: التخلي عن المحاذير التي لا تجعل العلم نافعاً فتقلبه من نورٍ على نار.
[*] (وإليك أخي تفصيل هذه الآداب:
(أولا: آداب طالب العلم في نفسه:
(1) العلم عبادة:
أصل الأصول في هذه "الحلية" بل ولكل أمر مطلوب علمك بأن العلم عبادة، قال بعض العلماء: العلم صلاة السر، وعبادة القلب.
وعليه، فإن شرط العبادة إخلاص النية لله سبحانه وتعالى، لقوله:(8/77)
قال تعالى: (وَمَآ أُمِرُوَاْ إِلاّ لِيَعْبُدُواْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصّلاَةَ وَيُؤْتُواْ الزّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَةِ) [البينة / 5]
وتدبر في (حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنما الأعمال بالنيات و إنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله و رسوله فهجرته إلى الله و رسوله و من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه.
فإن فقد العلم إخلاص النية، انتقل من أفضل الطاعات إلى أحط المخالفات، وانقلب من نورٍ إلى نار ولا شيء يحطم العلم مثل: الرياء؛ رياء شرك، أو رياء إخلاص، ومثل التسميع؛ بأن يقول مسمعاً: علمت وحفظت، فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وجهه.
(حديثُ أبي هريرةَ صحيح مسلم): أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال - قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاءِ عن الشرك، من عمل عملاً أشركَ فيه معي غيري تركته وشركه
(حديثُ جندب ابن عبد الله في الصحيحين): أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من سمَّعَ سمَّعَ الله به ومن يُرائي يُرائي الله به.
(حديثُ أبي أُمامة صحيح النسائي): أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن الله تعالى لا يقبلُ من العملِ إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وَجهُهُ
(2) وعليه؛ فالتزم التخلص من كل ما يشوب نيتك في صدق الطلب؛ كحب الظهور، والتفوق على الأقران، وجعله سلماً لأغراض وأعراض، من جاه، أو مال، أو تعظيم، أو سمعة، أو طلب محمدة، أو صرف وجوه الناس إليك، فإن هذه وأمثالها إذا شابت النية، أفسدتها، وذهبت بركة العلم، يجب عليك أن تخلص النية في طلب العلم وأن تبتغي بذلك وجه الله تعالى وأن يكون قصدك من تعلم العلم أن تنفي الجهل عن نفسك فتستفيد ثم تفيد على قاعدة (اللهم اهدنا واهدي بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى) وليحذر أن يكون قصده أن يصيب عرضاً من الدنيا أو ليباهي به العلماء أو ليماري به السفهاء فإن ذلك يحبط العمل ويجعله متعرضاً لسخط الله تعالى
والله تعالى يقول (مَن كَان يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ، ... أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) {هود/15،16}
)(8/78)
حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة.
(حديث جابر في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا تماروا به السفهاء و لا لتخيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار.
ولهذا يتعين عليك أن تحمى نيتك من شوب الإرادة لغير الله تعالى، بل وتحمى الحمى.
وللعلماء في هذا أقوال ومواقف بينت طرفاً منها في المبحث الأول من كتاب "التعالم"، ويزاد عليه نهى العلماء عن "الطبوليات"، وهى المسائل التي يراد بها الشهرة.
وقد قيل:"زلة العالم مضروب لها الطبل".
[*] وعن سفيان رحمه الله تعالى أنه قال:
"كنت أوتيت فهم القرآن، فلما قبلت الصرة، سلبته".
فاستمسك رحمك الله تعالى بالعروة الوثقى العاصمة من هذه الشوائب؛ بأن تكون - مع بذل الجهد في الإخلاص - شديد الخوف من نواقضه، عظيم الافتقار والالتجاء إليه سبحانه.
[*] ويؤثر عن سفيان بن سعيد الثوري رحمه الله تعالى قوله: "ما عالجت شيئاً أشد على من نيتي".
[*] وعن عمر بن ذر أنه قال لوالده "يا أبي! مالك إذا وعظت الناس أخذهم البكاء، وإذا وعظهم غيرك لا يبكون؟ فقال: يا بنى! ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة.
وفقك الله لرشدك آمين.
الخصلة الجامعة لخيري الدنيا والآخرة ومحبة الله تعالى ومحبة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتحقيقها بتمحض المتابعة وقفوا الأسر للمعصوم.
قال تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ فَاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ) [آل عمران / 31]
وبالجملة؛ فهذا أصل هذه "الحلية"، ويقعان منها موقع التاج من الحلة.
فيا أيها الطلاب! هاأنتم هؤلاء تربعتم للدرس، وتعلقتم بأنفس علق (طلب العلم)، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلانية، فهي العدة، وهى مهبط الفضائل، ومتنزل المحامد، وهى مبعث القوة، ومعراج السمو، والرابط الوثيق على القلوب عن الفتن، فلا تفرطوا.
(كن على جادة السلف الصالح:(8/79)
كن سلفياً على الجادة، طريق السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم، فمن بعدهم ممن قفا أثرهم في جميع أبواب الدين، من التوحيد، والعبادات، ونحوها، متميزاً بالتزام آثار رسول الله وتوظيف السنن على نفسك، وترك الجدال، والمراء، والخوض في علم الكلام، وما يجلب الآثام، ويصد عن الشرع.
[*] قال الذهبي رحمه الله تعالى:
"وصح عن الدارقطني أنه قال: ما شيء أبغض إلي من علم الكلام. قلت: لم يدخل الرجل أبداُ في علم الكلام ولا الجدال، ولا خاض في ذلك، بل كان سلفياً" ا هـ.
وهؤلاء هم (أهل السنة والجماعة) المتبعون آثار رسول الله،
[*] وهم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
"وأهل السنة: نقاوة المسلمين، وهم خير الناس للناس" اهـ.
فالزم السبيل (ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله).
2) ملازمة خشية الله تعالى:
التحلي بعمارة الظاهر والباطن بخشية الله تعالى؛ محافظاً على شعائر الإسلام، وإظهار السنة ونشرها بالعمل بها والدعوة إليها؛ دالاً على الله بعلمك وسمتك وعلمك، متحلياً بالرجولة، والمساهلة، والسمت الصالح.
(وملاك ذلك خشية الله تعالى.
[*] ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى:
"أصل العلم خشية الله تعالى". فالزم خشية الله في السر والعلن، فإن خير البرية من يخشى الله تعالى، وما يخشاه إلا عالم، إذن فخير البرية هو العالم، ولا يغب عن بالك أن العالم لا يعد عالماً إلا إذا كان عاملاً، ولا يعمل العالم بعلمه إلا إذا لزمته خشية الله.
وأسند الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى بسند فيه لطيفة إسنادية برواية آباء تسعة، فقال: أخبرنا أبو الفرج عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث بن أسد بن الليث بن سليمان بن الأسود بن سفيان بن زيد بن أكينة ابن عبد الله التميمي من حفظه؛ قال: سمعت أبي يقول: سمعت أبى يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت علي بن أبي طالب يقول: "هتف العلم بالعمل، فإن أجابه، وإلا ارتحل" ا هـ.
وهذا اللفظ بنحوه مروي عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى.
3) التحلي بدوام المراقبة لله تعالى في السر والعلن، سائراً إلى ربك بين الخوف والرجاء، فإنهما للمسلم كالجناحين للطائر.
فأقبل على الله بكليتك، وليمتلئ قلبك بمحبته، ولسانك بذكره، والاستبشار والفرح والسرور بأحكامه وحكمه سبحانه.
4) خفض الجناح ونبذ الخيلاء والكبرياء:(8/80)
تحل بآداب النفس، من العفاف، والحلم، والصبر، والتواضع للحق، وسكون الطائر، من الوقار والرزانة، وخفض الجناح، متحملاً ذل التعلم لعزة العلم، ذليلا للحق.
وعليه، فاحذر نواقض هذه الآداب، فإنها مع الإثم تقيم على نفسك شاهداً على أن في العقل علة، وعلى حرمان من العلم والعمل به، فإياك والخيلاء، فإنه نفاق وكبرياء، وقد بلغ من شدة التوقي منه عند السلف مبلغاً.
ومن دقيقه ما أسنده الذهبي في ترجمة عمرو بن الأسود العنسي المُتوفى في خلافة عبد الملك بن مروان رحمه الله تعالى: أنه كان إذا خرج من المسجد قبض بيمينه على شماله، فسئل عن ذلك؟ فقال: مخافة أن تنافق يدي.
قلت: يمسكها خوفاً من أن يخطر بيده في مشيته، فإن ذلك من الخيلاء اهـ.
وهذا العارض عرض للعنسي رحمه الله تعالى.
5) واحذر داء الجبابرة:
(الكبر)، فإن الكبر والحرص والحسد أول ذنب عصى لله به، فتطاولك على معلمك كبرياء، واستنكافك عمن يفيدك ممن هو دونك كبرياء، وتقصيرك عن العمل بالعلم حمأة كبر، وعنوان حرمان.
العلم حرب للفتى المعالي كالسيل حرب للمكان العالي
فالزم - رحمك الله - اللصوق إلى الأرض، والإزراء على نفسك، وهضمها، ومراغمتها عند الاستشراف لكبرياء أو غطرسة أو حب ظهور أو عجب .. ونحو ذلك من آفات العلم القاتلة له، المذهبة لهيبته، المطفئة لنوره، وكلما ازددت علماً أو رفعة في ولاية، فالزم ذلك، تحرز سعادة عظمى، ومقاماً يغبطك عليه الناس.
وعن عبد الله ابن الإمام الحجة الراوية في الكتب السنة بكر بن عبد الله المزني رحمهما الله تعالى، قال:
"سمعت إنساناً يحدث عن أبي، أنه كان واقفاً بعرفة، فرق، فقال: لولا أني فيهم، لقلت: قد غفر لهم".
خرجه الذهبي، ثم قال:
"قلت: كذلك ينبغي للعبد أن يزري على نفسه ويهضمها"ا هـ.
{تنبيه}: (واحذر أخو الكبر في السوء وهو العُجْب والعياذ بالله تعالى فإنه من المهلكات:
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاث منجيات: خشية الله تعالى في السر و العلانية و العدل في الرضا و الغضب و القصد في الفقر و الغنى و ثلاث مهلكات: هوى متبع و شح مطاع و إعجاب المرء بنفسه.
6) التحلي بالقناعة والزهادة، وحقيقة الزهد:"الزهد بالحرام، والابتعاد عن حماه، بالكف عن المشتهات وعن التطلع إلى ما في أيدي الناس".
[*] ويؤثر عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
"لو أوصى إنسان لأعقل الناس، صرف إلى الزهاد".(8/81)
[*] وعن محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله تعالى لما قيل له: ألا تصنف كتابا في الزهد؟ قال:
"قد صنفت كتاباً في البيوع".
يعنى:"الزاهد من يتحرز عن الشبهات، والمكروهات، في التجارات، وكذلك في سائر المعاملات والحرف" ا هـ.
وعليه، فليكن معتدلاً في معاشه بما لا يشينه، بحيث يصون نفسه ومن يعول، ولا يرد مواطن الذلة والهون.
وقد كان شيخنا محمد الأمين الشنقيطى المتوفى في 17/ 12/1393هـ رحمه الله تعالى متقللاً من الدنيا، وقد شاهدته لا يعرف فئات العملة الورقية، وقد شافهني بقوله:
"لقد جئت من البلاد - شنقيط - ومعي كنز قل أن يوجد عند أحد، وهو (القناعة)، ولو أردت المناصب، لعرفت الطريق إليها، ولكني لا أوثر الدنيا على الآخرة، ولا أبذل العلم لنيل المآرب الدنيوية".
فرحمه الله تعالى رحمه واسعة آمين.
7) التحلي برونق العلم:
و (رونق العلم) حسن السمت، والهدى الصالح، من دوام السكينة، والوقار، والخشوع، والتواضع، ولزوم المحجة، بعمارة الظاهر والباطن، والتخلي عن نواقضها.
[*] وعن ابن سيرين رحمه الله تعالى قال:
"كانوا يتعلمون الهدى كما يتعلمون العلم".
[*] وعن رجاء بن حيوة رحمه الله تعالى أنه قال لرجل:
"حدثنا، ولا تحدثنا عن متماوت ولا طعان".
رواهما الخطيب في "الجامع"، وقال:
8) "يجب على طالب الحديث أن يتجنب: اللعب، والعبث، والتبذل في المجالس، بالسخف، والضحك، والقهقهة، وكثرة التنادر، وإدمان المزاح والإكثار منه، فإنما يستجاز من المزاح بيسيره ونادره وطريفة، والذي لا يخرج عن حد الأدب وطريقة العلم، فأما متصلة وفاحشة وسخيفه وما أوغر منه الصدور وجلب الشر، فإنه مذموم، وكثرة المزاح والضحك يضع من القدر، ويزيل المروءة" اهـ.
وقد قيل:"من أكثر من شيء، عرف به".
فتجنب هاتيك السقطات في مجالستك ومحادثتك.
وبعض من يجهل يظن أن التبسط في هذا أريحية.
[*] وعن الأحنف بن قيس قال:
"جنبوا مجالسنا ذكر النساء والطعام، إني أبغض الرجل يكون وصافاً لفرجه وبطنه".
وفي كتاب المحدث الملهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في القضاء:
"ومن تزين بما ليس فيه، شانه الله".
وانظر شرحه لابن القيم رحمه الله تعالى.(8/82)
9) التحلي بـ (المروءة)، وما يحمل إليها، من مكارم الأخلاق، وطلاقة الوجه، وإفشاء السلام، وتحمل الناس، والأنفة من غير كبرياء، والعزة في غير جبروت، والشهامة في غير عصبية، والحمية في غير جاهلية. وعليه فتنكب (خوارم المروءة)، في طبع، أو قول، أو عمل، من حرفة مهينة، أو خلة رديئة، كالعجب، والرياء، والبطر، والخيلاء، واحتقار الآخرين، وغشيان مواطن الريب.
10) التمتع بخصال الرجولة:
تمتع بخصال الرجولة، من الشجاعة، وشدة البأس في الحق، ومكارم الأخلاق، والبذل في سبيل المعروف، حتى تنقطع دونك آمال الرجال.
وعليه، فاحذر نواقضها، من ضعف الجأش، وقلة الصبر، وضعف المكارم، فإنها تهضم العلم، وتقطع اللسان عن قوله الحق، وتأخذ بناصيته إلى خصومة في حالة تلفح بسمومها في وجوه الصالحين من عباده.
11) عدم الاسترسال في التنعم والرفاهية:
لا تسترسل في (التنعم والرفاهية)، فإن "البذاذة من الإيمان"، وإياك والتنعم
وتدبر في (حديث أبي أمامة في صحيح بن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: البذاذة من الإيمان. وتدبر في (حديث معاذ في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إياك و التنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين.
وخذ بوصية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه في كتابه المشهور، وفيه:
"وإياكم والتنعم وزي العجم، وتمعددوا، واخشوشنوا 000".
وعليه، فازور عن زيف الحضارة، فإنه يؤنث الطباع، ويرخى الأعصاب، ويقيدك بخيط الأوهام، ويصل المجدون لغاياتهم وأنت لم تبرح مكانك، مشغول بالتأنق في ملبسك، وإن كان منها شيات ليست محرمة ولا مكروهة، لكن ليست سمتاً صالحاً، والحلية في الظاهر كاللباس عنوان على انتماء الشخص، بل تحديد له، وهل اللباس إلا وسيلة التعبير عن الذات؟!
فكن حذراً في لباسك، لأنه يعبر لغيرك عن تقويمك، في الانتماء، والتكوين، والذوق، ولهذا قيل: الحلية في الظاهر تدل على ميل في الباطن، والناس يصنفونك من لباسك، بل إن كيفية اللبس تعطي للناظر تصنيف اللابس من:
الرصانة والتعقل.
أو التمشيخ والرهبنة.
أو التصابي وحب الظهور.
فخذ مم اللباس ما يزينك ولا يشينك، ولا يجعل فيك مقالا لقائل، ولا لمزا للامز، وإذا تلاقى ملبسك وكيفية لبسك بما يلتقي مع شرف ما تحمله من العلم الشرعي، كان أدعى لتعظيمك والانتفاع بعلمك، بل بحسن نيتك يكون قربة، إنه وسيلة إلى هداية الخلق للحق.(8/83)
[*] وفي المأثور عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
"أحب إلي أن أنظر القارئ أبيض الثياب".
أي: ليعظم في نفوس الناس، فيعظم في نفوسهم ما لديه من الحق.
والناس - كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - كأسراب القطا، مجبولون على تشبه بعضهم ببعض.
(فإياك ثم إياك من لباس التصابي، أما اللباس الإفرنجي، فغير خاف عليك حكمه، وليس معنى هذا أن تأتى بلباس مشوه، لكنه الاقتصاد في اللباس برسم الشرع، تحفه بالسمت الصالح والهدي الحسن.
وتطلب دلائل ذلك في كتب السنة الرقاق، لا سيما في "الجامع" للخطيب.
ولا تستنكر هذه الإشارة، فما زال أهل العلم ينبهون على هذا في كتب الرقاق والآداب واللباس، والله أعلم.
12) الإعراض عن مجالس اللغو:
لا تطأ بساط من يغشون في ناديهم المنكر، ويهتكون أستار الأدب، متغابياً عن ذلك، فإن فعلت ذلك، فإن جنايتك على العلم وأهله عظيمة.
الإعراض عن الهيشات:
التصون من اللغط والهيشات، فإن الغلط تحت اللغط، وهذا ينافي أدب الطلب.
ومن لطيف ما يستحضر هنا ما ذكره صاحب "الوسيط في أدباء شنقيط" وعنه في "معجم المعاجم":
"أنه وقع نزاع بين قبيلتين، فسعت بينهما قبيلة أخرى في الصلح، فتراضوا بحكم الشرع، وحكموا عالماً، فاستظهر قتل أربعة من قبيلة بأربعة قتلوا من القبيلة الأخرى، فقال الشيخ باب بن أحمد: مثل هذا لا قصاص فيه. فقال القاضي: إن هذا لا يوجد في كتاب. فقال: بل لم يخل منه كتاب. فقال القاضي: هذا "القاموس" يعنى أنه يدخل في عموم كتاب - فتناول صاحب الترجمة "القاموس" وأول ما وقع نظره عليه: "والهيشة: الفتنة، وأم حبين، وليس في الهيشات قود"، أي: في القتيل في الفتنة لا يدرى قاتله، فتعجب الناس من مثل هذا الاستحضار في ذلك الموقف الحرج"أ هـ ملخصاً.
13) التحلي بالرفق:
التزم الرفق في القول، مجتنباً الكلمة الجافية، فإن الخطاب اللين يتألف النفوس الناشزة.
وأدلة الكتاب والسنة في هذا متكاثرة منها ما يلي:
(حديث جرير ابن عبد الله في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من يُحرم الرفق يُحرم الخير.
(حديث عائشة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الرفق لا يكون في شيءٍ إلا زانه ولا ينزعُ من شيءٍ إلا شانه.
(حديث عائشة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يا عائشة إن الله رفيقٌ يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه.(8/84)
14) التحلي بالتأمل، فإن من تأمل أدرك، وقيل:"تأمل تدرك".
وعليه، فتأمل عند التكلم: بماذا تتكلم؟ وما هي عائد ته؟ وتحرز في العبارة والأداء دون تعنت أو تحذلق، وتأمل عند المذاكرة كيف تختار القالب المناسب للمعنى المراد، وتأمل عند سؤال السائل كيف تتفهم السؤال على وجهه حتى لا يحتمل وجهين؟ وهكذا.
15) الثبات والتثبت:
تحل بالثبات والتثبت، لا سيما في الملمات والمهمات، ومنه: الصبر والثبات في التلقي، وطي الساعات في الطلب على الأشياخ، فإن "من ثبت نبت".
16) أن يحرص على العلم وأن يُقبل عليه إقبال الظامئ على المورد العذب. وقد كان السلف يؤثرون العلم على كل شيء حتى الزواج ولذا فإن الإمام أحمد رحمه الله تعالى لم يتزوج إلا بعد الأربعين، وأُهديت إلى أبي بكرٍ الأنباري جاريةٌ فلما دخلت عليه تفكَّر في استخراج مسألةٍ فعزبت عنه فقال: أخرجوها إلى النخاس فقالت هل لي من ذنب؟ قال: لا إلا أن قلبي اشتغل بك، وما قدْرُ مِثْلِكِ أن يمنعني علمي.
17) ينبغي له أن يحرص على حِلَقِ العلم ولو بالتناوب مع زميلٍ له عند ضيقِ الوقت فيحضر أحده. ما ويخبر صاحبه بالعلم الذي سمعه ويحضر الآخر ويخبر صاحبه بالعلم الذي سمعه فإنه كان من فعل الصحابة رضي الله عنهم
(حديث عمر في صحيح البخاري) قال: وكان رجلاً من الأنصار إذا غاب عن رسول الله وشهدته أتيته بما يكون من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
18) أن يلقي زمامه إلى المعلم إلقاء المريض إلى الطبيب فيتواضع له ويبالغ في خدمته، فقد كان ابن عباس رضي الله عنهما يأخذ بركاب زيدٍ ابن ثابت رضي الله عنه ويقول هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء.
قال علىُّ رضي الله عنه: إن من حق العالم عليك أن تسلم على القوم عامةً وتخصه بالتحية، وأن تجلس أمامه ولا تشير عنده بيدك ولا تغمز بعينك ولا تكثر عليه السؤال ولا تعينه في الجواب ولا تلح عليه إذا كسل ولا تراجفُهُ إذا امتنع، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض ولا تفش له سراً، ولا تغتابنَّ عنده أحداً ولا تطلبنَّ عثرته وإن زلَّ قبلت معذرته، ولا تقولنَّ له: سمعت فلاناً يقول كذا ولا إن فلاناً يقول خلافك، ولا تصفنَّ عنده عالماً، ولا تعرضنَّ من طول صحبته، ولا ترفع نفسك عن خدمته وإذا عرضت له حاجةً سبقت القوم إليها فإنما هو بمنزلة النخلة تنتظر متى يسقط لك منها شيء.
{تنبيه}: (وكلما زاد تواضع طالب العلم زاد مقدار الحكمة عنده وتعلم العلم ومتى تكبر قلَّت حكمته وَمُنِعَ العلم.(8/85)
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من آدمي إلا في رأسه حكمة بيد ملك فإذا تواضع قيل للملك ارفع حكمته و إذا تكبر قيل للملك: دع حكمته.
[*] قال مجاهد رحمه الله تعالى: لا يتعلم العلم مستحيٍ ولا مستكبر
(19) يجب عليه أن يكون علمه مرتكزاً على الكتاب والسنة الصحيحة، فيتمسك بهما ويعض عليهما بالنواجذ فيكونا له كالجناحين للطائر لأنهما سبب النجاة من الضلال بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ... تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله و سنتي و لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض.
{تنبيه}: (ويجب على طالب العلم أن يمسك بالوحيين كليهما (الكتاب والسنة) ولا ينزلق في هاوية من يتمسك بالقرآن ويدع السنة فإن ذلك ضلال وإضلال لأن ما حرَّم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثل ما حرم الله تعالى إذ هو مبَّلغ الشرع عن الله تعالى.
(حديث المقدام بن معد يكرب في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ألا إني أُوتيت الكتاب ومثله معه.
ومن المؤسف في زماننا هذا تجرئ بعض الجهلة ممن لا يُقَامُ لهم وزناً على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيقولون إنه بشرٌ مثلنا هات الدليل من القرآن فقط وهذا يدل – ولا شك – على أن قائل هذه العبارة أضلُ من حمار أهله وأنه جاهلٌ جهل مركب، وقد أخبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ذلك سيقع في أمته
(حديث المقدام ابن معد يكرب في صحيحي أبي داوود وزالترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يوشِكُ الرجلُ متكئاً على أريكته يُحدثُ بحديثٍ من حديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرامٍ حرَّمناه، ألا وإن ما حرَّم رسول الله مثل ما حرَّم الله.
قال أبو قلابة رحمه الله تعالى: إذا رأيت الرجل يقول دعنا من السنة وهات الكتاب فاعلم أنه ضال
[*] وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى:
دين النبي محمدٍ أخبارُ ... نعم المطيةُ للفتى الآ ثارُ
لا ترغبَّنَّ عن الحديثِ وأهله ... فالرأيُ ليلٌ والحديثُ نهارُ
(20) أن يتبع سنة الخلفاء الراشدين المهدين فإنها وصية النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:(8/86)
(حديث العرباض بن سارية في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أوصيكم بتقوى الله و السمع و الطاعة و أن أمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة.
(21) يجب عليه ألا يستغرق عمره كله في فنٍ واحدٍ من العلوم بل يأخذ من كلِ شيء أحسنه فإن العلم كثير والعمر قصير، وليجعل جُل اهتمامه بعلم التوحيد لأن التوحيد مقدَّمٌ على العمل والأصلُ الذي يترتب عليه غيره إذ لا ينفعُ مع الشرك عمل ثم يهتم بفقه الأحكام حتى يصحح عمله، ثم يأخذ من باقي العلوم ما يفيده منها فيأخذ مثلاً من اللغة ما يصحح به ألفاظه ويأخذ منها ما يجعل الموضوع في جلباب الفصاحةِ الأغر الذي يجذب النفوس النافرة ويرد الأهواء الشاردة دون توسع، ويأخذُ من الرقائق المقدار الذي يُذيب به قسوة قلبه، ويأخذ من الأصول ما يستطيع به تأصيل المسألة، وهكذا
[*] قال ابن عباس رضيَ الله تعالى عنهما:
ما أصعب العلم ما أوسعه ... من ذا الذي يقدرُ أن يجمعه
إن كنت له لا بد طالباً ... فالتمس أنفعه
(22) ينبغي لطالب العلم أن يتعهد الناس بالموعظة ويراعي في ذلك شيئين أساسيين هما:
الأول: أن تكون الموعظة خلال الأيام وليست كل يوم حتى لا يمل الناس.
(حديث أبن مسعودٍ في الصحيحين) قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتخولنا بالموعظةِ خلال الأيام كراهة السآمة علينا.
السآمة: أي الملل
الثاني: أن يعظَ الناس بما يستطيع ولو آية يعلم معناها الصحيح ولا ينتظر حتى يكتمل علمه فإن هذا لا يحصلُ غالباً فسبحان من له الكمال
(حديث عبد الله ابن عمرو في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: بلغوا عني و لو آية و حدثوا عن بني إسرائيل و لا حرج و من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار.
23) ينبغي لطالب العلم أن يتعلم قسطاً من البلاغة لاستمالة القلوب بتحسين الأسلوب ويحسن به أن يقتبس من أسلوب الكتاب والسنة فليس هناك أبلغ من أسلوبهما وأن يستفيد كذلك من جوامع كلم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويتأسى به في ذلك فيعظ الناس بكلام مفيدٍ جامع.
(حديث أبي موسى في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أُعطيت الكلام وجوامعه وخواتمه.(8/87)
{تنبيه}: (وليحذر طالب العلم من الإفراط في البلاغة والتقعر في الكلام فإن ذلك مذموم:
(حديث عبد الله ابن عمرو في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله يُبْغِضُ البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه تخللَ الباقرةِ بلسانها.
معنى يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها: أن يتشدق بلسانه ويتقعر في الكلام ويتكلف الفصاحة فيلف الكلام لفاً كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفاً.
(24) ويجب على طالب العلم أن يتجنب الجدل العقيم الذي لا طائل من ورائه الذي لا يكن قصدُه بيان الحق وهداية الخلق وإنما يكن قصده مجرد المغالبة والعلو والعياذ بالله فإنه يكون سبباً في الضلال ثم هو أيضاً صفةٌ مذمومة يُبغضها الله تعالى
(حديث أبي أمامة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم تلا قوله تعالى (بل هم قومٌ خَصِمون)
(حديث أبي أمامة في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء و إن كان محقا و بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب و إن كان مازحا و بيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه.
معنى زعيم: أي ضمين
ربض الجنة: حولها خارجٌ عنها تشبيهاً بالأبنية التي تكون حول المدن.
(حديث عائشة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن أبغض الرجال عند الله الألدُ الخَصِم.
معنى الألد: شديدُ اللدودة أي شديدُ الجدال
معنى الخَصِم: أي شديدُ الخصومة
(25) وعلى طالب العلم أن يكتب ما يتعلمه ليرجع إلى الكتابة كلما أُشكل عليه شيء، لأن الكتابةَ أثبت للذهن
(حديث عبد الله ابن عمرو في صحيح أبي داود) قال كنت أكتب كلَ شيء أسمعُهُ من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أريد حفظه فنهتني قريشٌ وقالت: أتكتبُ كلَ شيء ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشرٌ يتكلم في الغضب والرضا فأمسكتُ عن الكتاب وذكرت ذلك لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال اكتب فوالدي نفسي بيده ما يخرجُ منه إلا حق.
(26) يجب على طالب العلم أن لا يتجرأ على الفتيا فإنه من أُفتِيَ بغيرِ علمٍ كان إثمه على من أفتاه، ولا يكن همُّه خلاص السائل وليكن همُّه خلاص نفسه فإن السلامةَ لا يعدلها شيء.(8/88)
(حديث أبي هريرة صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أُُفْتِيَ بغير علم كان إثمه على من أفتاه و من أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه.
(27) ويجب على طالب العلم أن ينصح الناس ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر في الأمور التي يعلمها ولا يمنعه هيبة الناس أن يقول بحقٍ إذا علمه:
(حديث أبي سعيد في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يمنعنَّ رجلاً هيبةُ الناس أن يقول بحقٍ إذا علمه أو شهده أو سمعه.
(ثانيا: آداب طالب العلم مع شيخه:
1) رعاية حرمة الشيخ:
بما أن العلم لا يؤخذ ابتداء من الكتب بل لا بد من شيخ تتقن عليه مفاتيح الطلب، لتأمن من العثار والزلل، فعليك إذاً بالتحلي برعاية حرمته، فإن ذلك عنوان النجاح والفلاح والتحصيل والتوفيق، فليكن شيخك محل إجلال منك وإكرام وتقدير وتلطف، فخذ بمجامع الآداب مع شيخك في جلوسك معه، والتحدث إليه، وحسن السؤال والاستماع، وحسن الأدب في تصفح الكتاب أمامه ومع الكتاب، وترك التطاول والمماراة أمامه، وعدم التقدم عليه بكلام أو مسير أو إكثار الكلام عنده، أو مداخلته في حديثه ودرسه بكلام منك، أو الإلحاح عليه في جواب، متجنباً الإكثار من السؤال، ولا سيما مع شهود الملأ، فإن هذا يوجب لك الغرور وله الملل.
ولا تناديه باسمه مجرداً، أو مع لقبه كقولك: يا شيخ فلان! بل قل: يا شيخى! أو يا شيخنا! فلا تسمه، فإنه أرفع في الأدب، ولا تخاطبه بتاء الخطاب، أو تناديه من بعد من غير اضطرار.
وانظر ما ذكره الله تعالى من الدلالة على الأدب مع معلم الناس الخير - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوله تعالى: (لاّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الّذِينَ يَتَسَلّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [سورة: النور - الآية: 63] وكما لا يليق أن تقول لوالدك ذي الأبوة الطينية: ”يا فلان” أو: ”يا والدي فلان” فلا يجمل بك مع شيخك.
والتزم توقير المجلس، وإظهار السرور من الدرس والإفادة به.(8/89)
وإذا بدا لك خطأ من الشيخ، أو وهم فلا يسقطه ذلك من عينك، فإنه سبب لحرمانك من علمه، ومن ذا الذي ينجو من الخطأ سالماً؟ واحذر أن تمارس معه ما يضجره، ومنه ما يسميه المولدون: ”حرب الأعصاب”، بمعنى: امتحان الشيخ على القدرة العلمية والتحمل.
وإذا بدا لك الانتقال إلى شيخ آخر، فاستأذنه بذلك؛ فإنه أدعى لحرمته، وأملك لقلبه في محبتك والعطف عليك 000
إلى آخر جملة من الأدب يعرفها بالطبع كل موفق مبارك وفاء لحق شيخك في ”أبوته الدينية”، أو ما تسميه بعض القوانين باسم ”الرضاع الأدبى:، وتسمية بعض العلماء له ”الأبوة الدينية” أليق، وتركه أنسب.
واعلم أنه بقدر رعاية حرمته يكون النجاح والفلاح، وبقدر الفوت يكون من علامات الإخفاق.
{تنبيه}: (أعيذك بالله من صنيع الأعاجم، والطرقية، والمبتدعة الخلفية، من الخضوع الخارج عن آداب الشرع، من لحس الأيدي، وتقبيل الأكتاف، والقبض على اليمين باليمين والشمال عند السلام، كحال تودد الكبار للأطفال، والانحناء عند السلام، واستعمال الألفاظ الرخوة المتخاذلة: سيدي، مولاي، ونحوها من ألفاظ الخدم والعبيد.
[*] وانظر ما يقوله العلامة السلفي الشيخ محمد البشير الإبراهيمي الجزائري (م سنة 1380 هـ) رحمه الله تعالى في ”البصائر"؛ فإنه فائق السياق.
رأس مالك – أيها الطالب – من شيخك:
القدوة بصالح أخلاقه وكريم شمائله، أما التلقي والتلقين فهو ربح زائد، لكن لا يأخذك الاندفاع في محبة شيخك فتقع في الشناعة من حيث لا تدرى وكل من ينظر إليك يدري، فلا تقلده بصوت ونغمة، ولا مشية وحركة وهيئة، فإنه إنما صار شيخاً جليلاً بتلك، فلا تسقط أنت بالتبعية له في هذه.
{التحذير من التلقي عن المبتدع}:
(احذر ”أبا الجهل” المبتدع، الذي مسه زيغ العقيدة، وغشيته سحب الخرافة، يحكم الهوى ويسميه العقل، ويعدل عن النص، وهل العقل إلا في النص؟! ويستمسك بالضعيف ويبعد عن الصحيح، ويقال لهم أيضاً: ”أهل الشبهات” (1)، و ”أهل الأهواء”، ولذا كان ابن المبارك (2) رحمه الله تعالى يسمى المبتدعة: ”الأصاغر”.
[*] وقال الذهبي رحمه الله تعالى:(8/90)
“إذا رأيت المتكلم المبتدع يقول: دعنا من الكتاب والأحاديث، وهات (العقل)، فاعلم أنه أبو جهل، وإذا رأيت السالك التوحيدي يقول: دعنا من النقل ومن العقل، وهات الذوق والوجد، فاعلم أنه إبليس قد ظهر بصورة بشر، أو قد حل فيه، إن جبنت منه فاهرب، وإلا، فاصرعه، وابرك على صدره، واقرأ عليه آية الكرسي، واخنقه” اهـ.
[*] وقال أيضاً الذهبي رحمه الله تعالى:
“وقرأت بخط الشيخ الموفق قال: سمعنا درسه –أي ابن أبى عصرون – مع أخي أبى عمر وانقطعنا، فسمعت أخي يقول: دخلت عليه بعد، فقال: لم انقطعتم عنى؟ قلت: إن أناساً يقولون: إنك أشعري، فقال: والله ما أنا أشعري. هذا معنى الحكاية” اهـ.
[*] وعن مالك رحمه الله تعالى قال:
“لا يؤخذ العلم عن أربعة: سفيه يعلن السفه وإن كان أروى الناس، وصاحب بدعة يدعو إلى هواه، ومن يكذب في حديث الناس، وإن كنت لا أتهمه في الحديث، وصالح عابد فاضل إذا كان لا يحفظ ما يحدث به”.
فيا أيها الطلب! إذا كنت في السعة والاختيار؛ فلا تأخذ عن مبتدع: رافضي، أو خارجي، أو مرجئ، أو قدري، أو قبوري، 000 وهكذا، فإنك لن تبلغ مبلغ الرجال – صحيح العقد في الدين، متين الاتصال بالله، صحيح النظر، تقفو الأثر – إلا بهجر المبتدعة وبدعهم.
وكتب السير والاعتصام بالسنة حافلة بإجهاز أهل السنة على البدعة، ومنابذة المبتدعة، والابتعاد عنهم، كما يبتعد السليم عن الأجرب المريض، ولهم قصص وواقعيات يطول شرحها (1)، لكن يطيب لي الإشارة إلى رؤوس المقيدات فيها:
فقد كان السلف رحمهم الله تعالى يحتسبون الاستخفاف بهم، وتحقيرهم ورفض المبتدع وبدعته، ويحذرون من مخالطتهم، ومشاورتهم، ومؤاكلتهم، فلا تتوارى نار سني ومبتدع.
وكان من السلف من لا يصلى على جنازة مبتدع، فينصرف وقد شوهد من العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم (م سنة 1389 هـ) رحمه الله تعالى، انصرافه عن الصلاة على مبتدع.
وكان من السلف من ينهى عن الصلاة خلفهم، وينهى عن حكاية بدعهم، لأن القلوب ضعيفة، والشبه خطافة.
وكان سهل بن عبد الله التستري لا يرى إباحة الأكل من الميتة .. للمبتدع عند الاضطرار، لأنه باغ، لقول الله تعالى: (فمن اضطر غير باغ 00) الآية، فهو باغ ببدعته.
(وكانوا يطردونهم من مجالسهم، كما في قصة الإمام مالك رحمه الله تعالى مع من سأله عن كيفية الاستواء، وفيه بعد جوابه المشهور:”أظنك صاحب بدعة”، وأمر به، فأخرج.(8/91)
وأخبار السلف متكاثرة في النفرة من المبتدعة وهجرهم، حذراً من شرهم، وتحجيما لانتشار بدعهم، وكسرا لنفوسهم حتى تضعف عن نشر البدع، ولأن في معاشرة السني للمبتدع تزكية له لدى المبتدئ والعامي – والعامي: مشتق من العمى، فهو بيد من يقوده غالباً.
ونرى في كتب المصطلح، وآداب الطلب، وأحكام الجرح والتعديل: الأخبار في هذا.
(فيا أيها الطالب! كن سلفيا على الجادة، واحذر المبتدعة أن يفتنوك، فإنهم يوظفون للاقتناص والمخاتلة سبلا، يفتعلون تعبيدها بالكلام المعسول – وهو: (عسل) مقلوب – وهطول الدمعة، وحسن البزة، والإغراء الخيالات، والإدهاش بالكرامات، ولحس الأيدي، وتقبيل الأكتاف 00 وما وراء ذلك إلا وحم البدعة، ورهج الفتنة، يغرسها في فؤادك، ويعتملك في شراكه، فوالله لا يصلح الأعمى لقيادة العميان وإرشادهم.
[*] (أما الأخذ عن علماء السنة، فالعق العسل ولا تسل.
وفقك الله لرشدك، لتنهل من ميراث النبوة صافياً، وإلا، فليبك على الدين من كان باكياً.
وما ذكرته لك هو في حالة السعة والاختيار، أما إن كنت في دراسة نظامية لا خيار لك، فاحذر منه، مع الاستعاذة من شره، باليقظة من دسائسه على حد قولهم:”اجن الثمار وألق الخشبة في النار”، ولا تتخاذل عن الطلب، فأخشى أن يكون هذا من التولي يوم الزحف، فما عليك إلا أن تتبين أمره وتتقى شره وتكشف ستره.
ومن النتف الطريفة أن أبا عبد الرحمن المقرئ حدث عن مرجئ، فقيل له: لم تحدث عن مرجئ؟ فقال:”أبيعكم اللحم بالعظام”
فالمقرئ رحمه الله تعالى حدث بلا غرر ولا جهالة إذ بين فقال:”وكان مرجئاً”.
وما سطرته لك هنا هو من قواعد معتقدك، عقيدة أهل السنة والجماعة، ومنه ما في ”العقيدة السلفية” لشيخ الإسلام أبى عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني (م سنة 449 هـ)، قال رحمه الله تعالى:
ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه، ولا يحبونهم ولا يصحبونهم، ولا يسمعون كلامهم، ولا يجالسونهم، ولا يجادلونهم في الدين، ولا يناظرونهم، ويرون صون آذانهم عن سماع أباطيلهم التي إذا مرت بالأذان وقرت في القلوب، ضرت وجرت إليها من الوساوس والخطرات الفاسدة ما جرت وفيه أنزل الله عز وجل قوله:”وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره” أ هـ.(8/92)
[*] وعن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له: صبيغ، قدم المدينة، فجعل يسأل عن متشابه القرآن؟ فأرسل إليه عمر رضي الله عنه وقد أعد له عراجين النخل، فقال: من أنت؟ قال أنا عبد الله صبيغ، فأخذ عرجوناً من تلك العراجين، فضربه حتى دمى رأسه، ثم تركه حتى برأ ثم عاد ثم تركه حتى برأ، فدعي به ليعود، فقال: إن كنت تريد قتلى فاقتلني قتلاً جميلاً فأذن له إلى أرضه، وكتب إلى أبى موسى الأشعري باليمن: لا يجالسه أحد من المسلمين. [رواه الدارمي].
وقيل: كان متهماً برأي الخوارج.
[*] والنووي رحمه الله تعالى قال في كتاب ”الأذكار”:
“باب: التبري من أهل البدع والمعاصي”.
وذكر حديث أبى موسى رضي الله عنه:”أن رسول الله صلي الله عليه وسلم برئ من الصالقة، والحالقة، والشاقة”. متفق عليه.
وعن ابن عمر براءته من القدرية. رواه مسلم.
والأمر في هجر المبتدع ينبني على مراعاة المصالح وتكثيرها ودفع المفاسد وتقليلها، وعلى هذا تتنزل المشروعية من عدمها، كما حرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مواضع.
والمبتدعة إنما يكثرون ويظهرون، إذا قل العلم، وفشا الجهل.
[*] وفيهم يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
“فإن هذا الصنف يكثرون ويظهرون إذا كثرت الجاهلية وأهلها، ولم يكن هناك من أهل العلم بالنبوة والمتابعة لها من يظهر أنوارها الماحية لظلمة الضلال، ويكشف ما في خلافها من الإفك والشرك والمحال” أ هـ.
فإذا اشتد ساعدك في العلم، فاقمع المبتدع وبدعته بلسان الحجة والبيان، والسلام.
(ثالثاً آداب الزمالة:
1) احذر قرين السوء:
كما أن العرق دساس فإن ”أدب السوء دساس”، إذ الطبيعة نقال، والطباع سراقة، والناس كأسراب القطا مجبولون على تشبه بعضهم ببعض، فاحذر معاشرة من كان كذلك، فإنه العطب والدفع أسهل من الرفع”.
(وعليه، فتخير للزمالة والصداقة من يعينك على مطلبك، ويقربك إلى ربك ويوافقك على شريف غرضك ومقصدك وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي سعيد الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تصاحب إلا مؤمنا و لا يأكل طعامك إلا تقي.(8/93)
وفي (حديث أبي هريرة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل.
[*] ومن نفيس كلام هشام بن عبد الملك ”م سنة 125هـ”قوله:
“ما بقى من لذات الدنيا شئ إلا أخ أرفع مؤونة التحفظ بيني وبينه” أ هـ.
[*] ومن لطيف ما يفيد بعضهم:
“العزلة من غير عين العلم: زلة ومن غير زاي الزهد: علة”
(آداب طالب العلم في حياته العلمية:
1) علو الهمة في العلم:
من سجايا الإسلام التحلي بكبر الهمة، مركز السالب والموجب في شخصك، الرقيب على جوارحك، كبر الهمة يجلب لك بإذن الله خيراً غير مجذوذ، لترقى إلى درجات الكمال، فيجرى في عروقك دم الشهامة والركض في ميدان العلم والعمل، فلا يراك الناس واقفاً إلا على أبواب الفضائل، ولا باسطاً يديك إلا لمهمات الأمور.
والتحلي بها يسلب منك سفاسف الآمال والأعمال، ويجتنب منك شجرة الذل والهوان والتملق والمداهنة، فكبير الهمة ثابت الجأش، لا ترهبه المواقف، وفاقدها جبان رعديد، تغلق فمه الفهاهة.
ولا تغلط فتخلط بين علو الهمة والكبر، فإن بينهما من الفرق كما بين السماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع.
كبر الهمة حلية ورثة الأنبياء، والكبر داء المرضى بعلة الجبابرة البؤساء.
فيا طالب العلم ارسم لنفسك كبر الهمة، ولا تنفلت منه وقد أومأ الشرع إليها في فقهيات تلابس حياتك، لتكون دائماً على يقظة من اغتنامها، ومنها: إباحة التيمم للمكلف عند فقد الماء، وعدم إلزامه بقبول هبة ثمن الماء للوضوء، لما في ذلك من المنة التي تنال من الهمة منالاً، وعلى هذا فقس، والله أعلم.
2) النهمة في الطلب:
إذا علمت الكلمة المنسوبة إلى الخليفة الراشد علي بن أبى طالب رضي الله تعالى عنه: ”قيمة كل امرئ ما يحسنه” وقد قيل: ليس كلمة أحض على طلب العلم منها، فاحذر غلط القائل: ما ترك الأول للآخر وصوابه: كم ترك الأول للآخر!
فعليك بالاستكثار من ميراث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وابذل الوسع في الطلب والتحصيل والتدقيق، ومهما بلغت في العلم، فتذكر:”كم ترك الأول للآخر”!
[*] وفي ترجمة أحمد بن عبد الجليل من ”تاريخ بغداد” للخطيب ذكر من قصيدة له:
لا يكون السري مثل الدني ... لا ولا ذو الذكاء مثل الغبي
قيمة المرء كلما أحسن المر ... ء قضاء من الإمام علي
3) الرحلة للطلب:(8/94)
فمن لم يرحل في طلب العلم، للبحث عن الشيوخ، والسياحة في الأخذ عنهم، فيبعد تأهله ليرحل إليه، لأن هؤلاء العلماء الذين مضى وقت في تعلمهم، وتعليمهم، والتلقي عنهم: لديهم من التحريرات، والضبط، والنكات العلمية، والتجارب، ما يعز الوقوف عليه أو على نظائره في بطون الأفار.
واحذر القعود عن هذا على مسلك المتصوفة البطالين، الذين يفضلون ”علم الخرق” على ”علم الورق”.
وقد قيل لبعضهم: ألا ترحل حتى تسمع من عبد الرزاق؟ فقال ما يصنع بالسماع من عبد الرزاق من يسمع من الخلاق؟!
وقال آخر:
إذا خاطبوني بعلم الورق ... برزت عليهم بعلم الخرق
فاحذر هؤلاء، فإنهم لا للإسلام نصروا، ولا للكفر كسروا، بل فيهم من كان بأساً وبلاء على الإسلام.
4) حفظ العلم كتابة:
ابذل الجهد في حفظ العلم (حفظ كتاب)، لأن تقييد العلم بالكتابة أمان من الضياع، وقصر لمسافة البحث عند الاحتياج، لا سيما في مسائل العلم التي تكون في غير مظانها، ومن أجل فوائده أنه عند كبر السن وضعف القوى يكون لديك مادة تستجر منها مادة تكتب فيها بلا عناء في البحث والتقصي. وكتابة العلم من سنة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح أبي داود) قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أريد حفظة فنهتني قريش وقالوا أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشر يتكلم في الغضب والرضا فأمسكت عن الكتاب فذكرت ذلك لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأومأ بأصبعه إلى فيه فقال أكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق.
ولذا فاجعل لك (مذكرة) لتقييد الفوائد والفرائد والأبحاث المنثورة في غير مظانها، وإن استعملت غلاف الكتاب لتقييد ما فيه من ذلك، فحسن، ثم تنقل ما يجتمع لك بعد في مذكرة، مرتباً له على الموضوعات، مقيداً رأس المسألة، واسم الكتاب، ورقم الصفحة والمجلد، ثم اكتب على ما قيدته:”نقل”، حتى لا يختلط بما لم ينقل، كما تكتب:”بلغ صفحة كذا ”فيما وصلت إليه من قراءة الكتاب حتى لا يفوتك ما لم تبلغه قراءة.
وللعلماء مؤلفات عدة في هذا، منها: ”بدائع الفوائد” لابن القيم، و ”خبايا الزاويا” للزركشى، ومنها: كتاب ”الإغفال” و ”بقايا الخبايا” وغيرها.(8/95)
وعليه فقيد العلم بالكتاب، لا سيما بدائع الفوائد في غير مظانها، وخبايا الزوايا في غير مساقها، ودراً منثورة تراها وتسمعها تحشى فواتها ... . وهكذا فإن الحفظ يضعف، والنسيان يعرض.
[*] قال الشعبي: ”إذا سمعت شيئاً، فاكتبه، ولو في الحائط”.
رواه خيثمة.
وإذا اجتمع لديك ما شاء الله أن يجتمع فرتبه في (تذكرة) أو (كناش) على الموضوعات، فإن يسعفك في أضيق الأوقات التي قد يعجز عن الإدراك فيها كبار الأثبات.
5) حفظ الرعاية:
ابذل الوسع في حفظ العلم (حفظ رعاية) بالعمل والاتباع،
[*] قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى:
“ويجب على طالب الحديث أن يخلص نيته في طلبه، ويكون قصده وجه الله سبحانه.
وليحذر أن يجعله سبيلاً إلى نيل الأعراض، وطريقاً إلى أخذ الأعواض، فقد جاء الوعيد لمن ابتغى ذلك بعلمه.
وليتق المفاخرة والمباهاة به، وأن يكون قصده في طلب الحديث نيل الرئاسة واتخاذ الأتباع وعقد المجالس، فإن الآفة الداخلة على العلماء أكثرها من هذا الوجه.
وليجعل حفظه للحديث حفظ رعاية لا حفظ رواية، فإن رواة العلوم كثير، ورعاتها قليل، ورب حاضر كالغائب، وعالم كالجاهل، وحامل للحديث ليس معه منه شيء إذ كان في إطراحه لحكمه بمنزلة الذاهب عن معرفته وعلمه.
وينبغي لطالب الحديث أن يتميز في عامة أموره عن طرائق العوام باستعمال آثار رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أمكنه، وتوظيف السنن على نفسه، فإن الله تعالى يقول:”لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة”. أ. هـ.
6) تعاهد المحفوظات:
تعاهد علمك من وقت إلى آخر، فان عدم التعاهد عنوان الذهاب للعلم مهما كان.
وتدبر في (حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة، إن عاهد عليها، أمسكها، وإن أطلقها، ذهبت.
[*] قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله:
“وفي هذا الحديث دليل على أن من لم يتعاهد علمه، ذهب عنه أي من كان، لأن علمهم كان ذلك الوقت القرآن لا غير، وإذا كان القرآن الميسر للذكر يذهب إن لم يتعاهد، فما ظنك بغيره من العلوم المعهودة؟!
وخير العلوم ما ضبط أصله، واستذكر فرعه، وقاد إلى الله تعالى، ودل على ما يرضاه” أ هـ.
[*] وقال بعضهم: كل عز لم يؤكد بعلم، فإلى ذلك مصيره أ هـ.
7) التفقه بتخريج الفروع على الأصول:
من وراء الفقه: التفقه، ومعتمله هو الذي يعلق الأحكام بمداركها الشرعية.(8/96)
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد. (في (حديث زيدٍ بن ثابت الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال نضَّر الله امرءا سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره فرب حامل فقه إلى من هو أفقه و رب حامل فقه ليس بفقيه.
[*] قال ابن خير رحمه الله تعالى في فقه الحديث:
“وفيه بيان أن الفقه هو الاستنباط والاستدراك في معاني الكلام من طريق التفهم وفي ضمنه بيان وجوب التفقه، والبحث على معاني الحديث واستخراج المكنون من سره” أ هـ.
وللشيخين، شيخ الإسلام ابن تيمية وتليمذه ابن قيم الجوزية رحمهما الله تعالى، في ذلك القدح المعلى، ومن نظر في كتب هذين الإمامين، سلك به النظر فيها إلى التفقه طريقاً مستقيماً.
[*] ومن مليح كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى قوله في مجلس للتفقه:
“أما بعد، فقد كنا في مجلس التفقه في الدين والنظر في مدارك الأحكام المشروعة، تصويراً، وتقريراً وتأصيلا، وتفصيلاً، فوقع الكلام في ... . فأقول لا حول ولا قوة إلا بالله، هذا مبنى على أصل وفصلين ... ”
واعلم أرشدك الله أن بين يدي التفقه: (التفكر)، فإن الله سبحانه وتعالى دعا عباده في غير آية من كتابه إلى التحرك بإحالة النظر العميق في (التفكر) في ملكوت السماوات والأرض وإلى أن يمعن المرء النظر في نفسه، وما حوله، فتحاً للقوى العقلية على مصراعيها، وحتى يصل إلى تقوية الإيمان وتعميق الأحكام، والانتصار العلمي: ”كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون”،”قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون".
وعليه فإن ”التفقه” أبعد مدى من (التفكر) إذ هو حصيلته وإنتاجه، وإلا ”فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً”.
لكن هذا التفقه محجوز بالرهان محجور عن التشهي والهوى:
"ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير”.
فيا أيها الطالب! تحل بالنظر والتفكر، والفقه والتفقه، لعلك أن تتجاوز من مرحلة الفقيه إلى فقيه النفس كما يقول الفقهاء، وهو الذي يعلق الأحكام بمداركها الشرعية، أو فقيه البدن كما في اصطلاح المحدثين.
فأجل النظر عند الواردات بتخريج الفروع على الأصول، وتمام العناية بالقواعد والضوابط.(8/97)
وأجمع للنظر في فرع ما بين تتبعه وإفراغه في قالب الشريعة العام من قواعدها وأصولها المطردة، كقواعد المصالح، ودفع الضرر والمشقة، وجلب التيسير، وسد باب الحيل، وسد الذرائع.
وهكذا هديت لرشدك أبداً فإن هذا يسعفك في مواطن المضايق وعليك بالتفقه كما أسلفت – في نصوص الشرع، والتبصر فيما يحف أحول التشريع، والتأمل في مقاصد الشريعة، فإن خلا فهمك من هذا أو نبا سمعك فإن وقتك ضائع وإن اسم الجهل عليك لواقع.
وهذه الخلة بالذات هي التي تعطيك التميز الدقيق والمعيار الصحيح لمدى التحصيل والقدرة على التخريج: فالفقيه هو من تعرض له النازلة لا نص فيها فيقتبس لها حكماً.
والبلاغي ليس من يذكر لك أقسامها وتفريعاتها، لكنه من تسرى بصيرته البلاغية من كتاب الله، مثلا فيخرج من مكنون علومه وجوهها وإن كتب أو خطب؛ نظم لك عقدها.
وهكذا في العلوم كافة.
8) اللجوء إلى الله تعالى في الطلب والتحصيل:
لا تفزع إذا لم يفتح لك في علم من العلوم، فقد تعاصت بعض العلوم على بعض الأعلام المشاهير، ومنهم من صرح بذلك كما يعلم من تراجمهم ومنهم الأصمعي في علم العروض والرهاوي المحدث في الخط، وابن الصلاح في المنطق وأبو مسلم النحوي في علم التصريف، والسيوطي في الحساب، وأبو عبيدة، ومحمد بن عبد الباقي الأنصاري، وأبو الحسن القطيعي وأبو زكريا يحيى بن زياد الفراء، وأبو حامد الغزالي، خمستهم لم يفتح لهم بالنحو.
فيا أيها الطالب! ضاعف الرغبة، وأفزع إلى الله في الدعاء واللجوء إليه والانكسار بين يديه.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كثيراً ما يقول في دعائه إذا استعصى عليه تفسير آية من كتاب الله تعالى:
اللهم يا معلم آدم وإبراهيم علمني ويا مفهم سليمان فهمني فيجد الفتح في ذلك.
9) الأمانة العلمية:
يجب على طالب العلم فائق التحلي بالأمانة العلمية، في الطلب، والتحمل والعمل والبلاغ، والأداء:
“فإن فلاح الأمة في صلاح أعمالها، وصلاح أعمالها في صحة علومها، وصحة علومها في أن يكون رجالها أمناء فيما يروون أو يصفون، فمن تحدث في العلم بغير أمانة، فقد مس العلم بقرحة ووضع في سبيل فلاح الأمة حجر عثرة.(8/98)
لا تخلو الطوائف المنتمية إلى العلوم من أشخاص لا يطلبون العلم ليتحلوا بأسنى فضيلة، أو لينفعوا الناس بما عرفوا من حكمة وأمثال هؤلاء لا تجد الأمانة في نفوسهم مستقراً، فلا يتحرجون أن يرووا ما لم يسمعوا، أو يصفوا ما لم يعلموا، وهذا ما كان يدعو جهابذة أهل العلم إلى نقد الرجال، وتمييز من يسرف في القول ممن يصوغه على قدر ما يعلم، حتى أصبح طلاب العلم على بصيرة من قيمة ما يقرؤونه، فلا تخفي عليهم منزلته، من القطع بصدقة أو كذبة أو رجحان أحدهما على الآخر، أو منزلته من القطع بصدقة أو كذبة أو رجحان أحدهما على الأخر أو احتمالها على سواء”أ. هـ.
10) الصدق:
صدق اللهجة: عنوان الوقار، وشرف النفس ونقاء السريرة، وسمو الهمة، ورجحان العقل، ورسول المودة مع الخلق وسعادة الجماعة، وصيانة الديانة، ولهذا كان فرض عين فيا خيبة من فرط فيه، ومن فعل فقد مس نفسه وعلمه بأذى.
[*] قال الأوزاعي رحمه الله تعالى:
“تعلم الصدق قبل أن تتعلم العلم”.
[*] وقال وكيع رحمه الله تعالى:
“هذه الصنعة لا يرتفع فيها إلا صادق”.
فتعلم – رحمك الله – الصدق قبل أن تتعلم العلم، والصدق: إلقاء الكلام على وجه مطابق للواقع والاعتقاد، فالصدق من طريق واحد، أما نقيضه الكذب فضروب وألوان ومسالك وأودية، يجمعها ثلاثة:
(1) كذب المتملق: وهو ما يخالف الواقع والاعتقاد، كمن يتملق لمن يعرفه فاسقا أو مبتدعاً فيصفه بالاستقامة.
(2) وكذب المنافق: وهو ما يخالف الاعتقاد ويطابق الواقع كالمنافق ينطق بما يقوله أهل السنة والهداية.
(3) وكذب الغبي: بما يخالف الواقع ويطابق الاعتقاد كمن يعتقد صلاح صوفي مبتدع فيصفه بالولاية. فالزم الجادة (الصدق) فلا تضغط على عكد اللسان ولا تضم شفتيك، ولا تفتح فاك ناطقا إلا على حروف تعبر عن إحساسك الصادق في الباطن، كالحب والبغض، أو إحساسك في الظاهر، كالذي تدركه الحواس الخمس: السمع والبصر والشم والذوق واللمس.
فالصادق لا يقول:”أحببتك” وهو مبغض ولا يقول: سمعت وهو لم يسمع، وهكذا
واحذر أن تحوم حولك الظنون فتخونك العزيمة في صدق اللهجة فتسجل في قائمة الكذابين.
وطريق الضمانة لهذا – إذا نازعتك نفسك بكلام غير صادق فيه:- أن تقهرها بذكر منزلة الصدق وشرفه، ورذيلة الكذب ودركه وأن الكاذب عن قريب ينكشف.
واستعن بالله ولا تعجزن.
ولا تفتح لنفس سابلة المعاريض في غيرها ما حصره الشرع.(8/99)
فيا طالب العلم! احذر أن تمرق من الصدق إلى المعاريض فالكذب، وأسوأ مرامي هذا المروق (الكذب في العلم) لداء منافسة الأقران، وكيران السمعة في الآفاق.
ومن تطلع إلى سمعة فوق منزلته فليعلم أن في المرصاد رجالا يحملون بصائر نافذة وأقلاما ناقدة فيزنون السمعة بالأثر، فتتم تعريك عن ثلاثة معان:
(1) فقد الثقة من القلوب.
(2) ذهاب علمك وانحسار القبول.
(3) أن لا تصدق ولو صدقت.
وبالجملة فمن يحترف زخرف القول، فهو أخو الساحر، ولا يفلح الساحر حيث أتى. والله أعلم
11) جنة طالب العلم:
جنة العالم (لا أدرى)، ويهتك حجابه الاستنكاف منها وقوله: يقال، وعليه، فإن نصف العلم (لا أدرى)، فنصف الجهل (يقال) و (أظن)
12) المحافظة على رأس مالك (ساعات عمرك):
الوقت الوقت للتحصيل، فكن حلف عمل لا حلف بطالة ويطر وحلس معمل لا حلس تله وسمر فالحفظ على الوقت بالجد والاجتهاد وملازمة الطلب ومثافنة الأشياخ، والاشتغال بالعلم قراءة وإقراء ومطالعة وتدبراً وحفظا وبحثا، لا سيما في أوقات شرخ الشباب ومقتبل العمر، ومعدن العاقبة، فاغتنم هذه الفرصة الغالية، لتنال رتب العلم العالية، فإنها ”وقت جمع القلب، واجتماع الفكر”، لقلة الشواغل والصوارف عن التزامات الحياة والترؤس، ولخفة الظهر والعيال.
ما للمعيل وللعوالي إنما ... يسعى إليهم الفريد الفارد
وإياك وتأمير التسويف على نفسك، فلا تسوف لنفسك بعد الفراغ من كذا، وبعد (التقاعد) من العمل هذا ... وهكذا بل البذار قبل أن يصدق عليك قول أبى الطحان القيني:
حنتني حانيات الدهر حتى ... كأني خاتل أدنوا لصيد
قصير الخطر يحسب من رآني ... ولست مقيداً أنى بقيد
[*] وقال أسامة بن منقذ:
مع الثمانين عاث الضعف في جسدي ... وساءني ضعف رجلي واضطراب يدي
إذا كتبت فخطى خط مضطرب ... كخط مرتعش الكفين مرتعد
فاعجب لضعف يدي عن حملها قلما ... من بعد حمل القنا في لبة الأسد
فقل لمن يتمنى طول مدته ... هذى عواقب طول العمر والمدد.
فإن أعملت البدار، فهذا شاهد منك على أنك تحمل ”كبر الهمة في العلم”.
13 (إجمام النفس:
خذ من وقتك سويعات تجم بها نفسك في رياض العلم من كتب المحاضرات (الثقافة العامة)، فإن القلوب يروح عنها ساعة فساعة.
وفي المأثور عن أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه أنه قال: ”أجموا هذه القلوب، وابتغوا لها طرائف الحكمة، فإنها تمل كما تمل الأبدان”.(8/100)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في حكمة النهى عن التطوع في مطلق الأوقات:
“بل في النهى عنه بعض الأوقات مصالح أخر من إجمام النفوس بعض الأوقات، من ثقل العبادة، كما يجم بالنوم وغيره، ولهذا قال معاذ إني لأحتسب نومتي، كما أحتسب قومتي ... ”
وقال:”بل قد قيل: إن من جملة حكمة النهى عن التطوع المطلق في بعض الأوقات: إجمام النفوس في وقت النهى لتنشط للصلاة، فإنها تنبسط إلى ما كانت ممنوعة منه، وتنشط للصلاة بعد الراحة. والله أعلم” أ هـ.
ولهذا كانت العطل الأسبوعية للطلاب منتشرة منذ أمد بعيد، وكان الأغلب فيها، يوم الجمعة، وعصر الخميس، وعند بعضهم يوم الثلاثاء، ويوم الاثنين، وفي عيدي الفطر والأضحى من يوم إلى ثلاثة أيام وهكذا ... .
ونجد ذلك في كتب آداب التعليم، وفي السير، ومنه على سبيل المثال:”آداب المعلمين” لسحنون (ص104)، و”الرسالة المفصلة” للقابسى (ص135 - 137)، و”الشقائق النعمانية”ص20)، وعنه في ”أبجد العلوم” (1/ 195 - 196) وكتاب ”أليس الصبح بقريب” للطاهر ابن عاشور، وفتاوى رشيد رضا” ... (1212)، و معجم البلدان” (3/ 102) و”فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية” (25/ 318 - 320،329).
14) قراءة التصحيح والضبط:
احرص على قراءة التصحيح والضبط على شيخ متقن، لتأمن من التحريف والتصحيف والغلط والوهم.
وإذا استقرأت تراجم العلماء – وبخاصة الحفاظ منهم – تجد عدداً غير قليل ممن جرد المطولات في مجالس أو أيام قراءة ضبط على شيخ متقن.
فهذا الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى قرأ ”صحيح البخاري” في عشرة مجالس، كل مجلس عشر ساعات و”صحيح مسلم” في أربعة مجالس في نحو يومين وشيء من بكرة النهار إلى الظهر، وانتهى ذلك في يوم عرفة، وكان يوم الجمعة سنة 813هـ وقرأ ”سنن ابن ماجة” في أربعة مجالس، ومعجم الطبراني الصغير” في مجلس واحد، بين صلاتي الظهر والعصر.
وشيخه الفيروز آبادي قرأ في دمشق ”صحيح مسلم” على شيخه ابن جهبل قراءة ضبط في ثلاثة أيام.
وللخطيب البغدادي والمؤتمن الساجي، وابن الأبار وغيرهم في ذلك عجائب وغرائب يطول ذكرها، وانظرها في: ”السير” للذهبي (18/ 277و 279، 19/ 310، 21/ 253)، و”طبقات الشافعية” للسبكي (4/ 30)، و الجواهر والدرر ”للسخاوي (1/ 103 - 105) و فتح المغيث” (2/ 46)، و”شذرات الذهب” (8/ 121، 206)، و”خلاصة الأثر” (1/ 72 - 73) و”فهرس الفهارس” للكتاني، و”تاتج العروس” (1/ 45 - 46).
فلا تنس حظك من هذا.
15) جرد المطولات:(8/101)
الجرد للمطولات من أهم المهمات، لتعدد المعارف وتوسيع المدارك واستخراج مكنونها من الفوائد والفرائد والخبرة من مظان الأبحاث والمسائل ومعرفة طرائق المصنفين في تأليفهم واصطلاحهم فيها.
وقد كان السالفون يكتبون عند وقوفهم:”بلغ”، حتى لا يفوته شيء عند المعاودة، لا سيما مع طول الزمن.
16) حسن السؤال:
التزم أدب المباحثة من حسن السؤال، فالاستماع فصحة الفهم للجواب، وإياك إذا حصل الجواب أن تقول: لكن الشيخ فلان قال لي كذا، أو قال كذا، فإن هذا وهن في الأدب، وضرب لأهل العلم بعضهم ببعض، فاحذر هذا.
وإن كنت لا بد فاعلاً، فكن واضحا في السؤال، وقل: ما رأيك في الفتوى بكذا، ولا تسم أحداً.
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
“وقيل: إذا جلست إلى عالم، فسل تفقها لا تعنتاً” أ هـ.
وقال أيضاً:
“وللعلم ست مراتب:
أولها: حسن السؤال.
الثانية: حسن الإنصات والاستماع.
الثالثة: حسن الفهم.
الرابعة: الحفظ.
الخامسة: التعليم.
السادسة: وهى ثمرته، العمل به ومراعاة حدوده. أ هـ.
ثم أخذ في بيانها ببحث مهم.
17) المناظرة بلا مماراة:
إياك والمماراة، فإنها نقمة، أما المناظرة في الحق، فإنها نعمة، إذ المناظرة الحقة فيها إظهار الحق على الباطل، والراجح على المرجوح فهي مبنية على المناصحة، والحلم، ونشر العلم، أما المماراة في المحاورات والمناظرات، فإنها تحجج ورياء ولغط وكبرياء ومغالبة ومراء، واختيال وشحناء، ومجاراة للسفهاء فاحذرها واحذر فاعلها، تسلم من المآثم وهتك المحارم، وأعرض تسلم وتكبت المأثم والغرم.
18) مذاكرة العلم:
تمتع مع البصراء بالمذاكرة والمطارحة، فإنها في مواطن تفوق المطالعة وتشحذ الذهن وتقوى الذاكرة، ملتزماً الإنصاف والملاطفة، مبتعداً عن الحيف والشغب والمجازفة.
وكن على حذر، فإنها تكشف عوار من لا يصدق.
فإن كانت مع قاصر في العلم، بارد الذهن، فهي داء ومنافرة وأما مذاكرتك مع نفسك في تقليبك لمسائل العلم؛ فهذا ما لا يُسَوِّغُ أن تنفك عنه.
وقد قيل: إحياء العلم مذاكرته.
طالب العلم يعيش بين الكتاب والسنة وعلومها:
فهما له كالجناحين للطائر، فاحذر أن تكون مهيض الجناح.
19) استكمال أدوات كل فن:
لن تكون طالب علم متقناً متفنناً – حتى يلج الجمل في سم الخياط – ما لم تستكمل أدوات ذلك الفن، ففي الفقه بين الفقه وأصوله، وفي الحديث بين علمي الرواية والدراية ... وهكذا، وإلا فلا تتعن.(8/102)
قال الله تعالى:”الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته”.
فيستفاد منها أن الطالب لا يترك علما حتى يتقنه.
(خامساً: التحلي بالعمل:
من علامات العلم النافع: التحلي بالعمل
[*] (تساءل مع نفسك عن حظك من علامات العلم النافع، وهى:
1 - العمل به.
2 - كراهية التزكية والمدح والتكبر على الخلق.
3 - تكاثر تواضعك كلما ازددت علماً.
4 - الهرب من حب الترؤس والشهرة والدنيا.
5 - هجر دعوى العلم.
6 - إساءة الظن بالنفس، وإحسانه بالناس تنزها عن الوقوع بهم
وقد كان عبد الله بن المبارك إذا ذكر أخلاق من سلف ينشد:
لا تعرضن بذكرنا مع ذكرهم ... ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
(سادساً: تأدية زكاة العلم:
زكاة العلم:
أد (زكاة العلم): صادعاً بالحق، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر موازنا بين المصالح والمضار، ناشراً للعلم، وحب النفع وبذل الجاه، والشفاعة الحسنة للمسلمين في نوائب الحق والمعروف.
وتدبر في (حديث أبى هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله، إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”.
قال بعض أهل العلم: هذه الثلاث لا تجتمع إلا للعالم الباذل لعلمه فبذله صدقه ينتفع بها والمتلقي لها ابن للعالم في تعلمه عليه.
فاحرص على هذه الحلية فهي رأس ثمرة علمك.
ولشرف العلم، فإنه يزيد بكثرة الإنفاق، وينقص مع الإشفاق وآفته الكتمان.
ولا تحملك دعوى فساد الزمان، وغلبة الفساق، وضعف إفادة النصيحة عن واجب الأداء والبلاغ، فإن فعلت، فهي فعلة يسوق عليها الفساق الذهب الأحمر، ليتم لهم الخروج على الفضيلة ورفع لواء الرذيلة.
(سابعاً: التحلي بعزةِ العلماء:
التحلي بعزةِ العلماء: صيانة العلم وتعظيمه، حماية جناب عزة وشرفه، وبقدر ما تبذله في هذا يكون الكسب منه ومن العمل به، وبقدر ما تهدره يكون الفوت ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
وعليه فاحذر أن يتمندل بك الكبراء، أو يمتطيك السفهاء، فتلاين في فتوى، أو قضاء، أو بحث، أو خطاب ... .
ولا تسع به إلى أهل الدنيا ولا تقف به على أعتابهم ولا تبذله إلى غير أهله وإن عظم قدره.(8/103)
ومتع بصرك وبصيرتك بقراءة التراجم والسير لأئمة مضوا، تر فيها بذل النفس في سبيل هذه الحماية، لا سيما من جمع مثلا في هذا، مثل كتاب ”من أخلاق العلماء” لمحمد سليمان رحمه الله تعالى، وكتاب ”الإسلام بين العلماء والحكام” لعبد العزيز البدري رحمه الله تعالى، وكتاب ”مناهج العلماء في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر” لفاروق السامرائى
وأرجو أن ترى أضعاف ما ذكروه في كتاب ”عزة العلماء” يسر الله إتمامه وطبعه.
وقد كان العلماء يلقنون طلابهم حفظ قصيدة الجرجاني على بن عبد العزيز م سنة 392هـ) رحمه الله تعالى كما نجدها عند عدد من مترجميه ومطلعها:
يقولون لي فيك انقباض وإنما ... رأوا رجلا عن موضع الذل أحجما
أرى الناس من داناهم هان عندهم ... ومن أكرمته عزة النفس أكرما
ولا أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظما
(لعظما) بفتح الظاء المعجمة المشالة.
(ثامناً: صيانة العلم:
إن بلغت منصباً، فتذكر أن حبل الوصل إليه طلبك للعلم، فبفضل الله ثم بسبب علمك بلغت ما بلغت من ولاية في التعليم، أو الفتيا، أو القضاء ... . وهكذا فأعط العلم قدره وحظه من العمل به وإنزاله منزلته.
واحذر مسلك من لا يرجون لله وقارا، الذين جعلوا الأساس (حفظ المنصب) فيطوون ألسنتهم عن قول الحق، ويحملهم حب الولاية على المجاراة.
فالزم – رحمك الله – المحافظة على قيمتك بحفظ دينك وعلمك، وشرف نفسك، بحكمة ودراية وحسن سياسة:”احفظ الله يحفظك ”“احفظ الله في الرخاء يحفظك في الشدة”.
وإن أصبحت عاطلاً من قلادة الولاية وهذا سبيلك ولو بعد حين فلا بأس، فإنه عزل محمدة لا عزل مذمة ومنقصة.
ومن العجيب أن بعض من حرم قصدا كبيرا من التوفيق لا يكون عنده الالتزام والإنابة والرجوع إلى الله إلا بعد (التقاعد) فهذا وإن كانت توبته شرعية، لكن دينه ودين العجائز سواء إذ لا يتعدى نفعه، أما وقت ولايته، حال الحاجة إلى تعدى نفعه، فتجده من أعظم الناس فجوراً وضرراً، أو بارد القلب أخرس اللسان عن الحق.
فنعوذ بالله من الخذلان.
(تاسعاً: التحلي بالمدارة وليس المداهنة:(8/104)
التحلي بالمدارة وليس المداهنة: المداهنة خلق منحط، أما المداراة فلا، لكن لا تخلط بينهما، فتحملك المداهنة إلى حضار النفاق مجاهرة، والمداهنة هي التي تمس دينك ن فكلاهما ملاينة إلا أن فصل الخطاب بينهما أن [المدارة ملاينة للتوصل إلى حق، والمداهنة ملاينة للتوصل إلى باطل].
(عاشراً: التحلي بالغرام بالكتب:
شرف العلم معلوم، لعموم نفعه، وشدة الحاجة إليه كحاجة البدن إلى الأنفاس، وظهور النقص بقدر نقصه، وحصول اللذة والسرور بقدر تحصيله ولهذا اشتد غرام الطلاب بالطلب والغرام بجمع الكتب مع الانتقاء ولهم أخبار في هذا تطول وفيه مقيدات في خبر الكتاب يسر الله إتمامه وطبعه.
وعليه فاحذر الأصول من الكتب واعلم أنه لا يغنى منها كتاب عن كتاب، ولا تحشر مكتبتك وتشوش على فكرك بالكتب الغثائية، لا سيما كتب المبتدعة، فإنها سم ناقع.
[*] (قوام مكتبتك:
عليك بالكتب المنسوجة على طريقة الاستدلال والتفقه على علل الأحكام، والغوص على أسرار المسائل، ومن أجلها كتب الشيخين: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وتلميذه ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى.
وعلى الجادة في ذلك من قبل ومن بعد كتب:
1 - الحافظ ابن عبد البر (م سنة 463هـ) رحمه الله تعالى وأجل كتبه”التمهيد”.
2 - الحافظ ابن قدامه (م سنة 620هـ) رحمه الله تعالى، وأرأس كتبه المغنى”.
3 - الحافظ ابن الذهبي (م سنة 748هـ) رحمه الله تعالى.
4 - الحافظ ابن كثير (م سنة 774هـ) رحمه الله تعالى.
5 - الحافظ ابن رجب (م سنة 795هـ) رحمه الله تعالى.
6 - الحافظ ابن حجر (م سنة 852هـ) رحمه الله تعالى.
7 - الحافظ الشوكاني (م سنة 1250هـ) رحمه الله تعالى.
8 - الإمام محمد بن عبد الوهاب (م سنة 1206هـ) رحمه الله تعالى.
9 - كتب علماء الدعوة ومن أجمعها ”الدرر السنية”.
10 - العلامة الصنعاني (م سنة 1182هـ) رحمه الله تعالى، لا سيما كتابة النافع ”سبل السلام”.
11 - العلامة صديق حسن خان القنوجي (م سنة 1307هـ) رحمه الله تعالى.
12 - العلامة محمد الأمين الشنقيطي (م سنة 1393هـ) رحمه الله تعالى لا سيما كتابة:”أضواء البيان”.
التعامل مع الكتاب:
لا تستفد من كتاب حتى تعرف اصطلاح مؤلفة فيه، وكثيراً ما تكون المقدمة كاشفة عن ذلك، فابدأ من الكتاب بقراءة مقدمته.
ومنه: ((8/105)
إذا حزت كتاباً؛ فلا تدخله في مكتبتك إلا بعد أن تمر عليه جرداً، أو قراءة لمقدمته، وفهرسه، ومواضع منه، أما إن جعلته مع فنه في المكتبة، فربما مر زمان وفات العمر دون النظر فيه، وهذا مجرب والله الموفق.
إعجام الكتابة:
إذا كتبت فأعجم الكتابة بإزالة عجمتها، وذلك بأمور:
1 - وضوح الخط.
2 - رسمه على ضوء قواعد الرسم (الإملاء). وفي هذا مؤلفات كثيرة من أهمها:
كتاب الإملاء ”لحسين وإلى.
“قواعد الإملاء” لعبد السلام محمد هارون
“المفرد العلم ”للهاشمي، رحمهم الله تعالى.
3 - النقط للمعجم والإهمال للمهمل.
4 - الشكل لما يشكل.
5 - تثبيت علامات الترقيم في غير آية أو حديث.
(الحادي عشر: التخلي عن المحاذير التي لا تجعل العلم نافعاً:
وهذه المحاذير هي ما يلي:
[1] حلم اليقظة:
إياك و (حلم اليقظة)، ومنه بأن تدعي العلم لما لم تعلم، أو إتقان ما لم تتقن، فإن فعلت، فهو حجاب كثيف عن العلم.
احذر أن تكون ”أبا شبر”.
فقد قيل: العلم ثلاثة أشبار، من دخل في الشبر الأول، تكبر ومن دخل في الشبر الثاني، تواضع ومن دخل في الشبر الثالث، علم أنه ما يعلم.
[2] التصدر قبل التأهل:
احذر التصدر قبل التأهل، هو آفة في العلم والعمل.
وقد قيل: من تصدر قبل أوانه، فقد تصدى لهوانه.
[3] التنمر بالعلم:
احذر ما يتسلى به المفلسون من العلم، يراجع مسألة أو مسألتين، فإذا كان في مجلس فيه من يشار إليه، أثار البحث فيهما، ليظهر علمه! وكم في هذا من سوءة، أقلها أن يعلم أن الناس يعلمون حقيقته.
وقد بينت هذه مع أخوات لها في كتاب ”التعالم”، والحمد لله رب العالمين.
[4] تحبير الكاغد:
كما يكون الحذر من التأليف الخالي من الإبداع في مقاصد التأليف الثمانية، والذي نهايته ”تحبير الكاغد" فالحذر من الاشتغال بالتصنيف قبل استكمال أدواته، واكتمال أهليتك، والنضوج على يد أشياخك، فإنك تسجل به عاراً وتبدى به شناراً.
أما الاشتغال بالتأليف النافع لمن قامت أهليته، واستكمل أدواته، وتعددت معارفه، وتمرس به بحثا ومراجعة ومطالعة وجرداً لمطولاته، وحفظاً لمختصراته، واستذكاراً لمسائله، فهو من أفضل ما يقوم به النبلاء من الفضلاء.
ولا تنس قول الخطيب:
“من صنف، فقد جعل عقله على طبق يعرضه على الناس”.
[5] موقفك من وهم من سبقك:(8/106)
إذا ظفرت بوهم لعالم، فلا تفرح به للحط منه، ولكن افرح به لتصحيح المسألة فقط، فإن المنصف يكاد يجزم بأنه ما من إمام إلا وله أغلاط وأوهام لا سيما المكثرين منهم.
وما يشغب بهذا ويفرح به للتنقص، إلا متعالم ”يريد أن يطب زكاما فيحدث به جذاما".
نعم، يبنه على خطأ أو وهم وقع لإمام غمر في بحر علمه وفضله، لكن لا يثير الرهج عليه بالتنقص منه والحط عليه فيغتر به من هو مثله.
[6] دفع الشبهات:
لا تجعل قلبك كالسفنجه تتلقى ما يرد عليها، فاجتنب إثارة الشبه وإيرادها على نفسك أو غيرك، فالشبه خطافة، والقلوب ضعيفة، وأكثر م يلقيها حمالة الحطب – المبتدعة – فتوقهم.
[7] احذر اللحن:
ابتعد عن اللحن في اللفظ والكتب، فإن عدم اللحن جلالة، وصفاء ذوق ووقوف على ملاح المعاني لسلامة المباني:
فعن عمر رضي الله عنه أنه قال:
"تعلموا العربية؛ فإنها تزيد في المروءة".
وقد ورد عن جماعة من السلف أنهم كانوا يضربون أولادهم على اللحن.
وأسند الخطيب عن الرحبي قال:
"سمعت بعض أصحابنا يقول: إذا كتب لحان، فكتب عن اللحان لحان آخر؛ صار الحديث بالفارسية “!
وأنشد المبرد:
النحو يبسط من لسان الألكن
والمرء تكرمه إذا لم يلحن
فإذا أردت من العلوم أجلها
فأجلها منها مقيم الألسن
وعليه؛ فلا تحفل بقول القاسم بن مخيمرة رحمه الله تعالى:
“تعلم النحو: أوله شغل، وآخره بغي".
ولا بقول بشر الحافي رحمه الله تعالى:
"لما قيل له: تعلم النحو قال: أضل، قال: قل ضرب زيد عمراً.
قال بشر: يا أخي! لم ضربه؟ قال: يا أبا نصر! ما ضربه وإنما هذا أصل وضع. فقال بشر: هذا أوله كذب، لا حاجة لي فيه".
رواهما الخطيب في”اقتضاء العلم العمل".
[8] احذر (الإجهاض الفكري)؛ بإخراج الفكرة قبل نضوجها.
الإسرائيليات الجديدة:
[9] احذر الإسرائيليات الجديدة في نفثات المستشرقين؛ من يهود ونصارى؛ فهي أشد نكاية وأعظم خطراً من الإسرائيليات القديمة؛ فإن هذه قد وضح أمرها ببيان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الموقف منها، ونشر العلماء القول فيها، أما الجديدة المتسربة إلى الفكر الإسلامي في أعقاب الثورة الحضارية واتصال العالم بعضه ببعض، وكبح المد الإسلامي؛ فهي شر محض، وبلاء متدفق، وقد أخذت بعض المسلمين عنها سنة، وخفض الجناح لها آخرون، فاحذر أن تقع فيها. وفي الله المسلمين شرها.
[10] احذر الجدل البيزنطي:(8/107)
أي الجدل العقيم، أو الضئيل، فقد كان البيزنطيون يتحاورون في جنس الملائكة والعدو على أبواب بلدتهم حتى داهمهم.
وهكذا الجدل الضئيل يصد عن السبيل.
وهدي السلف: الكف عن كثرة الخصام والجدال، وأن التوسع فيه من قلة الورع؛ [*] كما قال الحسن إذ سمع قوماً يتجادلون:
"هؤلاء ملوا العبادة، وخف عليهم القول، وقل ورعهم، فتكلموا".
[*] رواه أحمد ”الزهد"، وأبو نعيم في ”الحلية".
لا طائفية ولا حزبية يعقد الولاء والبراء عليها:
أهل الإسلام ليس لهم سمة سوى الإسلام والسلام:
فيا طالب العلم! بارك الله فيك وفي علمك؛ اطلب العلم، واطلب العمل، وادع إلى الله تعالى على طريقة السلف.
ولا تكن خراجاً ولاجاً في الجماعات، فتخرج من السعة إلى القوالب الضيقة، فالإسلام كله لك جادة ومنهجاً، والمسلمون جميعهم هم الجماعة، وإن يد الله مع الجماعة، فلا طائفية ولا حزبية في الإسلام.
وأعيذك بالله أن تتصدع، فتكون نهاباً بين الفرق والطوائف والمذاهب الباطلة والأحزاب الغلية، تعقد سلطان الولاء والبراء عليها.
فكن طالب علم على الجادة؛ تقفو الأثر، وتتبع السنن، تدعو إلى الله على بصيرة، عارفاً لأهل الفضل فضلهم وسابقتهم.
وإن الحزبية ذات المسارات والقوالب المستحدثة التي لم يعهدها السلف من أعظم العوائق عن العلم، والتفريق عن الجماعة، فكم أوهنت حبل الاتحاد الإسلامي، وغشيت المسلمين بسببها الغواشي.
فاحذر رحمك الله أحزاباً وطوائف طاف طائفها، ونجم بالشر ناجمها، فما هي إلا كالميازيب؛ تجمع الماء كدراً، وتفرقه هدراً؛ إلا من رحمه ربك، فصار على مثل ما كان عليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه رضي الله عنهم.
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى عند علامة أهل العبودية في:
"العلامة الثانية: قوله:”ولم ينسبوا إلى اسم"؛ أي: لم يشتهروا باسم يعرفون به عند الناس من الأسماء التي صارت أعلاماً لأهل الطريق.
وأيضاً؛ فإنهم لم يتقيدوا بعمل واحد يجري عليهم اسمه، فيعرفون به دون غيره من الأعمال؛ فإن هذا آفة في العبودية، وهي عبودية مقيدة.
وأما العبودية المطلقة؛ فلا يعرف صاحبها باسم معين من معاني أسمائها؛ فإنه مجيب لداعيها على اختلاف أنواعها، فله مع كل أهل عبودية نصيب يضرب معهم بسهم؛ فلا يتقيد برسم ولا إشارة، ولا اسم ولا بزي، ولا طريق وضعي اصطلاحي، بل إن سئل عن شيخه؟ قال:(8/108)
الرسول. وعن طريقه؟ قال: الاتباع. وعن خرقته؟ قال: لباس التقوى. وعن مذهبه؟ قال: تحكيم السنة. وعن مقصده ومطلبه؟ قال: (يريدون وجهه). وعن رباطه وعن خانكاه؟ قال: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة). وعن نسبه؟ قال:
أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا بقيس أو تميم
وعن مأكله ومشربه؟ قال:”مالك ولها؟ معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء، وترعى الشجر، حتى تلقى ربها".
واحسرتاه تقضي العمر وانصرمت
ساعاته بين ذل العجز والكسل
والقوم قد أخذوا درب النجاة وقد
ساروا إلى المطلب الأعلى على مهل
ثم قال:”قوله”"أولئك ذخائر الله حيث كانوا”؛ ذخائر الملك: ما يخبأ عنده، ويذخره لمهماته، ولا يبذله لكل أحد؛ وكذلك ذخيرة الرجل: ما يذخره لحوائجه ومهماته. وهؤلاء؛ لما كانوا مستورين عن الناس بأسبابهم، غير مشار إليهم، ولا متميزين برسم دون الناس، ولا منتسبين إلى اسم طريق أو مذهب أو شيخ أو زي؛ كانوا بمنزلة الذخائر المخبوءة.
وهؤلاء أبعد الخلق عن الآفات؛ فإن الآفات كلها تحت الرسوم والتقيد بها، ولزوم الطرق الاصطلاحية، والأوضاع المتداولة الحادثة.
هذه هي التي قطعت أكثر الخلق عن الله، وهم لا يشعرون.
والعجب أن أهلها هم المعروفون بالطلب والإرادة، والسير إلى الله، وهم – إلا الواحد بعد الواحد – المقطوعون عن الله بتلك الرسوم والقيود.
وقد سئل بعض الأئمة عن السنة؟ فقال: ما لا اسم له سوى ”السنة".
يعني: أن أهل السنة ليس لهم اسم ينسبون إليه سواها.
فمن الناس من يتقيد بلباس غيره، أو بالجلوس في مكان لا يجلس في غيره، أو مشية لا يمشى غيرها، أو بزي وهيئة لا يخرج عنهما، أو عبادة معينة لا يتعبد بغيرها وإن كانت أعلى منها، أو شيخ معين لا يلتفت إلى غيره وإن كان أقرب إلى الله ورسوله منه.
فهؤلاء كلهم محجوبون عن الظفر بالمطلوب الأعلى، مصددون عنه قد قيدتهم العوائد والرسوم والأوضاع والاصطلاحات عن تجريد المتابعة فأضحوا عنها بمعزل ومنزلتهم منها أبعد منزل فترى أحدهم يتعبد بالرياضة والخلوة وتفريغ القلب ويعد العلم قاطعاً له عن الطريق فإذا ذكر له الموالاة في الله والمعاداة فيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عد ذلك فضولاً وشراً وإذا رأوا بينهم من يقوم بذلك أخرجوه من بينهم وعدوه غيراً عليهم فهؤلاء أبعد الناس عن الله وإن كانوا أكثر إشارة.(8/109)
(آداب العالم:
مسألة: ما هي الآداب التي يجب على العالم أن يتحلى بها؟
(الآداب التي يجب على العالم أن يتحلى بها ما يلي:
(1) الشفقة على المتعلمين، وأن يعاملهم كما يعامل الأب أبنائه، ولا يرى لنقسه فضلاً عليهم فإنما الفضلُ لله تعالى، بل يرى الفضل لهم لأنهم هيأوا قلوبهم لزراعة العلم فيها فكانوا كحال من أعار أرضه لمن يزرع فيها
(2) أن يعلمهم العلم ولا يكتمه عنهم فقد ورد النكير الشديد لمن يكتم العلم
(حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار.
(3) أن يرحب بهم لوصية النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهم:
(حديث أبي سعيد في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سيأتيكم أقوام يطلبون العلم فإذا رأيتموهم فقولوا لهم: مرحبا بوصية رسول الله و أقنوهم.
*معنى أقنوهم: أي علموهم
(4) أن يصبر عليهم في تعليم العلم وأن يغرس في قلوبهم شجرة الصبر على تعلم العلم، وأن يذكرهم مراراً وتكراراً بهذه العبارة {لابد من الصبر وطول النفس في تعلم العلم وإنما يُؤخذ العلم حديثاً وحديثين وباباً بعد باب، وأنه من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه}
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إنما العلم بالتعلم و إنما الحلم بالتحلم و من يتحر الخير يعطه و من يتق الشر يُوَقَّه.
(5) أن يكرر كلامه ويبينه أثناء التعليم حتى يفهم الجميع فإن العقول تتفاوت، كما تكرار الكلام ليفهم من سنة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(حديث أنس في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه و إذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثا.
(6) أن يجعل كلامه فصلاً بين المعنى يفهمه كل من يسمعه تأسياً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(حديث عائشة في صحيحي أبي داوود والترمذي) قالت كان كلام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلا يفهمه كل من سمعه.
*معنى فصلاً: أي بين المعنى لا يلتبس على أحد بل يفهمه كل من يسمعه
(7) أن يكون في كلامه ترتيل وتمهل ليتمكن السامع من سماعه تأسياً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(حديث جابر في صحيح أبي داود) قال كان في كلام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترتيل أو ترسيل.
معنى ترتيل: أي تأني وتمهل حتى يتمكن السامع من سماعه وفهمه(8/110)
(8) أن لا يكثر الكلام في الموضوع الواحد لأن كثرة الكلام ينسي بعضه بعضاً وليكن مبدأه في الكلام أن ما قل وكفى خيرٌ مما كثر وألهى تأسياً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(حديث أبي سعيد في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما قل و كفى خير مما كثر وألهى.
(حديث عائشة في صحيح مسلم) قالت كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحدِّث بحديثٍ لو عاده العادُّ لأحصاه.
(9) أن ينظر إلى فهم المتعلم ومقدار عقله فيحدثه بما يفهم، فإنه إن حدثه بما هو فوق طاقته العقلية فإما أن يصيبه بإحباط فيملَّ وينقطع أو يكون سبباً في فتنته ويفهم الكلام على وجهٍ غير المقصود منه
قال عليُّ رضي الله تعالى عنه: حدِّثوا الناس بما يفهمون أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله.
[*] وقال ابن مسعودٍ رضي الله تعالى عنه: ما أنت بمحدثٍ قوماً حديثاً لا تبلُغُه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة.
(10) أن يضرب لهم الأمثال أثناء شرحه لهم ليقرِّب المعنى لهم تأسياً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يومٍ خمساً، ما تقولُ ذلك يبقي من درنه؟ قالوا: لا يبقي من درنه شيئاً، قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله به الخطايا.
(11) أن لا يتسرع في الفتوى ولا يكن همُّه خلاص السائل وليكن همُّه خلاص نفسه فإن السلامة لا يعدلها شيء:
(حديث أبي هريرة في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه و من أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه.
[*] قال عبد الرحمن ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى:
أدركت في هذا المسجد مائةً وعشرين من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ما أحدٌ يُسأل عن حديثٍ أو فتوى إلا ودَّ أن أخاه كفاه ذلك، ثم قد آل الأمر إلى إقدام أقوامٍ يدَّعون العلم اليوم يقدمون على الجواب في مسائل لو عَرَضت لعمرَ رضي الله تعالى عنه لجمع أهل بدرٍ واستشارهم
(12) أن يطبق العلم حتى ينجو من مقت الله تعالى، والله تعالى يقول
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) {الصف/3،2}(8/111)
(حديث أسامة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يُؤتى بالعالم يوم القيامة فيُلقى في النار فتندلقُ أقتا به فيدور حولها كما يدور الحمار حول الرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ويحك، مالك كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر فيقول كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه.
(حديث جندب ابن عبد الله في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال مثل العالم الذي يعلم الناس الخير و ينسى نفسه كمثل السراج يضيء للناس و يحرق نفسه.
(حديث أنس في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال أتيت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت وفت فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون و يقرءون كتاب الله و لا يعملون به.
معنى كلما قُرضت وفت: أي كلما قرضت رجعت كما كانت
(13) أن يجعل يوماً لموعظة النساء تأسياً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(حديث أبي سعيد في الصحيحين) قال قالت النساء للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوماً من نفسك فوعدهنَّ يوماً لقيهنَّ فيه فوعظهنَّ وأمرهنَّ فكان فيما قال لهن: ما منكنَّ امرأةٌ تقدم ثلاثةً من ولدها إلا كان لها حجابٌ من النار فقالت امرأةٌ واثنين قال واثنين.
{تنبيه}: (ينبغي للعالم أن يعظ النساء إذا لم يوجد من النساء من تكفيه مؤنة ذلك فإن وجد من النساء من تكفيه مؤنة ذلك فهو أفضل لأنه بذلك يكون قد حصل المقصود وهو الوعظ للنساء ويكون قد جنب نفسه الفتنة بالنساء التي هي أضر فتنةٍ على الرجال
(حديث أسامة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء.
(14) ينبغي للعالم كذلك أن لا يدخل على الأمراء حتى يسلم منهم ويسلموا منه وقد حذر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ذلك.
(حديث ابن عباس في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من سكن البادية جفا و من اتبع الصيد غفل و من أتى السلطان افتتن.
معنى ومن أتى السلطان افتتن: وذلك لأنه إن وافقه في مرامه فقد خاطر بدينه وإن خالفه فقد خاطر بروحه.
(حديث رجلٍ من سليم في صحيح لجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إياكم و أبواب السلطان فإنه قد أصبح صعبا هبوطا.
معنى إياكم وأبواب السلطان: أي اجتنبوها ولا تقتربوا منها(8/112)
معنى صعباً هبوطاً: صعباً أي شديداً، هبوطاً أي منزلاً لدرحة من لا زمه مذلاً له في الدنيا والآخرة
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال: إذا رأيت القارئ يلوذ بباب السلطان فاعلم أنه لص، فإذا رأيته يلوذ بالأغنياء فاعلم أنه مرائي.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال: إذا لم يكن لله في العبد حاجة نبذه إليهم، يعني السلطان.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال: إذا دعوك لتقرأ عليهم قل هو الله أحد فلا تأتهم، قلت لأبي شهاب: يعني السلاطين؟، قال: نعم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال: لأن يدنو الرجل من جيفة منتنة خير له من أن يدنو إلى هؤلاء ـ يعني السلطان ـ وسمعته يقول: رجل لا يخالط هؤلاء ولا يزيد على المكتوبة أفضل عندنا من رجل يقوم الليل ويصوم النهار ويحج ويعتمر ويجاهد في سبيل الله ويخالطهم.
[*] (أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن محمد بن زيد قال كنت مع ابن المبارك ببغداد فرأى إسماعيل ابن عليه راكبا بغله على باب السلطان فأنشأ يقول:
يا جاعل الدين له بازيا ... يصطادأموال السلاطين
لا تبع الدين بدنيا كما ... بفعل ضلال الرهابين
احتلت للدنيا ولذاتها ... بحيلة تذهب بالدين
وصرت مجنونا بها بعدما ... كنت دواء للمجانين
ففكر الناس جميعا بأن ... زل حمار العلم في الطين
[*] (أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن أحمد بن عبد الله التسترى قال لما ولى ابن عليه صدقات الإبل والغنم بالبصرة كتب إليه ابن المبارك كتابا وكتب في أسفله:
يا جاعل الدين له بازيا ... يصطاد أموال المساكين
احتلت للدنيا ولذاتها ... بحيلة تذهب بالدين
يا فاضح العلم ومن كان ذا ... لب ومن عاب السلاطين
أين رواياتك في سردها ... عن ابن عون وابن سيرين
إن قلت أكرهت فماذا كذا ... زل حمار العلم في الطين
فلما قرأ ابن علية الكتاب بكى ثم كتب جوابه وكتب في أسفله:
أف لدنيا أبت تواتيني ... إلا بنقضي لها عرى ديني
عيني لحيني تدير مقلتها ... تطلب ما سرها لترديني
{تنبيه}: (قال السيوطي رحمه الله تعالى في ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين:(8/113)
ذهب جمهور العلماء من السلف، وصلحاء الخلف إلى أن هذه الأحاديث والآثار جارية على إطلاقها سواء دعوه إلى المجيء إليهم أم لا، وسواء دعوه لمصلحة دينية أم لغيرها. قال سفيان الثوري: «إن دعوك لتقرأ عليهم: قل هو الله أحد، فلا تأتهم» رواه البيهقي، كما تقدم.
(وروى أبو نعيم في الحلية عن ميمون بن مهران: أن عبد الله بن عبد الملك بن مروان قدم المدينة، فبعث حاجبه إلى سعيد بن المسيب فقال له: أجب أمير المؤمنين! قال: وما حاجته؟ قال: لتتحدث معه. فقال: لست من حداثه. فرجع الحاجب إليه فأخبره، قال: دعه.
(قال البخاري في تاريخه: «سمعت آدم بن أبي إياس يقول: شهدت حماد بن سلمة ودعاه السلطان فقال: اذهب إلى هؤلاء! لا والله لا فعلت».
(وروى الخطيب، عن حماد بن سلمة: أن بعض الخلفاء أرسل إليه رسولا يقول له: إنه قد عرضت مسألة، فأتنا نسألك. فقال للرسول: قل له: «إنا أدركنا أقواما لا يأتونا أحدا لما بلغهم من الحديث فإن كانت لك مسألة فاكتبها في رقعة نكتب لك جوابها».
(وأخرج أبو الحسن بن فهر في كتاب «فضائل مالك»، عن عبد الله بن رافع وغيره قال: قدم هارون الرشيد المدينة، فوجه البرمكي إلى مالك، وقال له: احمل إليّ الكتاب الذي صنفته حتى أسمعه منك». فقال للبرمكي: «أقرئه السلام وقل له: إن العلم يزار ولا يزور» فرجع البرمكي إلى هارون الرشيد، فقال له: يا أمير المؤمنين! يبلغ أهل العراق أنك وجهت إلى مالك في أمر فخالفك! أعزم عليه حتى يأتيك. فأرسل إليه فقال: قل له يا أمير المؤمنين لا تكن أول من وضع العلم فيضيعك الله.
(وروى غنجار في تاريخه عن ابن منير: أن سلطان بخاري، بعث إلى محمد بن إسماعيل البخاري يقول: احمل إليّ كتاب «الجامع» و «التاريخ» لأسمع منك. فقال البخاري لرسوله: «قل له أنا لا أذل العلم، ولا آتي أبواب السلاطين فإن كانت لك حاجة إلى شيء منه، فلتحضرني في مسجدي أو في داري».
(وقال نعيم بن الهيصم في جزئه المشهور: «أخبرنا خلف بن تميم عن أبي همام الكلاعي، عن الحسن أنه مر ببعض القراء على بعض أبواب السلاطين، فقال: أقرحتم جباهكم، وفلطحتم نعالكم، وجئتم بالعلم تحملونه على رقابكم إلى أبوابهم؟! أما إنكم، لو جلستم في بيوتكم لكان خيرا لكم، تفرقوا فرق الله بين أعضائكم».(8/114)
(وقال الزجاجي في أماليه: «أنبأنا أبو بكر محمد بن الحسن، أخبرني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، عن عمه قال: مر الحسن البصري بباب عمر بن هبيرة وعليه القراء فسلم، ثم قال: «ما لكم جلوسا قد أحفيتم شواربكم وحلقتم رؤوسكم، وقصرتم أكمامكم، وفلطحتم نعالكم! أما والله! لو زهدتم فيما عندهم، لرغبوا فيما عندكم، ولكنكم رغبتم فيما عندهم، فزهدوا فيما عندكم فضحتم القراء فضحكم الله».
(وأخرج ابن النجار، عن الحسن أنه قال: «إن سركم أن تسلموا ويسلم لكم دينكم، فكفوا أيديكم عن دماء المسلمين، وكفوا بطونكم عن أموالهم، وكفوا ألسنتكم عن أعراضهم ولا تجالسوا أهل البدع، ولا تأتوا الملوك فيلبسوا عليكم دينكم».
(وأخرج أبو نعيم في الحلية عن وهيب بن الورد قال: «بلغنا أن العلماء ثلاث، فعالم يتعلمه للسلاطين، وعالم يتعلمه لينفذ به عند التجار، وعالم يتعلمه لنفسه، لا يريد به إلا أنه يخاف أن يعمل بغير علم، فيكون ما يفسد أكثر مما يصلح».
(وأخرج أبو نعيم، عن أبي صالح الأنطاكي قال: سمعت ابن المبارك يقول: «من بخل بالعلم ابتلى بثلاث: إما بموت فيذهب علمه، وإما ينسى وإما يلزم السلطان فيذهب علمه».
(وقال الخطيب البغدادي في كتاب رواه مالك: «كتب إلىّ القاضي أبو القاسم الحسن بن محمد بن الأنباري، من مصر، أنبأنا محمد بن أحمد بن المسور، نبأنا المقدام بن داود الرعيني، نبأنا علي ابن معبد، نبأنا إسحاق بن يحيى، عن مالك بن أنس رحمه الله، قال: «أدركت بضعة عشر رجلا من التابعين يقولون لا تأتوهم، ولا تأمروهم، يعني السلطان».
(وقال ابن باكويه الشيرازي في «أخبار الصوفية»: «حدثنا سلامة بن أحمد التكريني أنبأنا يعقوب ابن اسحاق، نبأنا عبيد الله بن محمد القرشي، قال: كنا مع سفيان الثوري بمكة، فجاءه كتاب من عياله من الكوفة: بلغت بنا الحاجة أنا نقلي النوى فنأكله فبكى سفيان. فقال له بعض أصحابه: يا أبا عبد الله! لو مررت إلى السلطان، صرت إلى ما تريد! فقال سفيان: «والله لا أسأل الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها».
حدثنا عبد الواحد، نبأنا أحمد بن محمد بن حمدون، نبأنا أبو عيسى الأنباري، نبأنا، فتح بن شخرف، نبأنا عبد الله بن حسين، عن سفيان الثوري: إنه كان يقول: «تعززوا على أبناء الدنيا بترك السلام عليهم».(8/115)
حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، نبأنا ابن حسان، نبأنا أحمد بن أبي الحواري قال: قلت لأبي سليمان تخالف العلماء؟ فغضب وقال: «أرأيت عالماً يأتي باب السلطان فيأخذ دراهمهم».
سمعت عبد الواحد بن بكر يقول: سمعت محمد بن داود الدينوري يقول: سمعت أحمد بن الصلت يقول: «جاء رجل إلى بشر بن الحارث، فقال له: يا سيدي! السلطان يطلب الصالحين، فترى لي أن أختبئ؟ فقال له بشر: «جز من بين يدي، لا يجوز حمار الشوك فيطرحك علينا».
أخبرنا أبو العلاء، سمعت أحمد بن محمد التستري، سمعت زياد بن علي الدمشقي يقول: سمعت صالح بن خليفة الكوفي، يقول: سمعت سفيان الثوري يقول: «إن فجار القراء اتخذوا سلّماً إلى الدنيا فقالوا: ندخل على الأمراء نفرج عن مكروب ونكلم في محبوس».
(وقال أبو علي الآمدي في تعليقه: «حدثني أبو محمد جعفر بن مصعب ابن الزبير، عن جدة الزبير بن بكار، قال: حدثني أبو المكرم عقبة بن مكرم بن عقبة الضبي عن بريد بن كميت، عن عمار بن سيف، أنه سمع سفيان الثوري يقول: «النظر إلى السلطان خطيئة».
(وأخرج ابن باكويه، عن الفضيل بن عياض، قال: «لو أن أهل العلم أكرموا على أنفسهم وشحوا على دينهم، وأعزوا العلم وصانوه، وأنزلوه حيث أنزله الله، لخضعت لهم رقاب الجبابرة وانقاد لهم الناس، واشتغلوا بما يعنيهم، وعز الإسلام وأهله لكنهم استذلوا أنفسهم ولم يبالوا بما نقص من دينهم، إذا سلمت لهم دنياهم وبذلوا علمهم لأبناء الدنيا ليصيبوا ما في أيديهم، فذلوا وهانوا على الناس».
(قال الآمدي: حدثني أبو العباس، قال: سمعت: قدم طاهر بن عبد الله بن طاهر من خراسان في حياة أبيه يريد الحج: فنزل في دار إسحاق بن إبراهيم فوجه إسحاق إلى العلماء، فأحضرهم ليراهم طاهر، ويقرأ عليهم فحضر أصحاب الحديث والفقه وأحضر ابن الأعرابي، وأبا نصر صاحب الأصمعي ووجه إلى أبي عبيد القاسم بن سلام في الحضور، فأبى أن يحضر وقال: العلم يُقصد فغضب إسحاق من قوله ورسالته، وكان عبد الله بن طاهر جرى له في الشهر ألفي درهم فلم يوجه إليه إسحاق، وقطع الرزق عنه، وكتب إلى عبد الله بالخبر فكتب إليه: قد صدق أبو عبيد في قوله، وقد أضعفت الرزق له من أجل فعله فأعطاه فأته ورد عليه بعد ذلك ما يستحقه.(8/116)
(وأخرج ابن عساكر، من طريق ابن وهب، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: حدثنا أبو حازم أن سليمان بن هشام بن عبد الملك قدم المدينة فأرسل إلى أبي حازم فدخل عليه فقال: فسلمت وأنا متكئ على عصاي فقيل ألا تتكلم!؟ قلت: وما أتكلم به!؟ ليست لي حاجة فأتكلم فيها، وإنما جئت لحاجتكم التي أرسلتم إليّ فيها، وما كل من يرسل إلى آتيه، ولولا الخوف من شركم ما جئتكم. إني أدركت أهل الدنيا تبعا لأهل العلم حيث كانوا، يقضي أهل العلم لأهل الدنيا حوائج دنياهم وأخراهم، ولا يستغني أهل الدنيا عن أهل العلم لنصيبهم من العلم ثم حال الزمان، فصار أهل العلم تبعا لأهل الدنيا حيث كانوا، فدخل البلاء على الفريقين جميعا. ترك أهل الدنيا النصيب الذي كانوا يتمسكون به من العلم حيث رأوا أهل العلم قد جاؤوهم، وضيّع أهل العلم جسيم ما قسم لهم باتباعهم أهل الدنيا».
(وأخرج ابن أبي الدنيا، والخرائطي، وابن عساكر، عن زمعة بن صالح، قال: كتب بعض بني أمية إلى أبي حازم أن يرفع إليه حوائجه، فكتب إليه: «أما بعد فقد جاءني كتابك بعزم أن ترفع حوائجي إليك وهيهات! رفعت حوائجي إلى مولاي فما أعطاني منها قبلت، وما أمسك عني منها رضيت». (وأخرج ابن عساكر، عن عبد الجبار بن عبد العزيز أبي حازم عن أبيه، عن جده: أن سليمان بن عبد الملك دخل المدينة، فأقام بها ثلاثا. فقال: ههنا رجل ممن أدرك أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويحدثنا؟ فقيل له: بلى ههنا رجل يقال له أبو حازم فبعث إليه، فجاءه، فقال له سليمان: يا أبا حازم! ما هذا الجفاء أتاني وجوه المدينة كلهم ولم تأتني!؟ قال أبو حازم: إن الناس لما كانوا على الصواب، كانت الأمراء تحتاج إلى العلماء، وكانت العلماء تفر بدينها من الأمراء، فلما رأى ذلك قوم من أذلة الناس تعلموا العلم وأتوا به إلى الأمراء فاستغنت به عن العلماء، واجتمع القوم على المعصية فسقطوا أو تعسوا أو تنسكوا ولو كان علماؤنا هؤلاء يصونون علمهم، لم تزل الأمراء تهابهم».(8/117)
(وأخرج البيهقي، وابن عساكر، عن زمعة بن صالح قال: قال الزهري لسليمان أو هشام: ألا تسأل أبا حازم ما قال في العلماء؟ قال يا أبا حازم: ما قلت في العلماء؟ قال: «وما عسيت أن أقول في العلماء إلا خيرا، إني أدركت العلماء وقد استغنوا بعملهم عن أهل الدنيا، ولم تستغن أهل الدنيا بدنياهم عن علمهم فلما رأى ذلك هذا وأصحابه تعلموا العلم فلم يستغنوا به واستغنى أهل الدنيا بدنياهم عن علمهم .. فلما رأوا ذلك، قذفوا بعلمهم إلى أهل الدنيا ولم ينلهم أهل الدنيا من دنياهم شيئا، إن هذا وأصحابه ليسوا علماء إنما هم رواة».
(وأخرج أبو نعيم، وابن عساكر، عن يوسف بن أسباط قال: أخبرنا نجم: أن بعض الأمراء أرسل إلى أبي حازم فأتاه، وعنده الإفريقي، والزهري وغيرهما فقال له: تكلم يا أبا حازم فقال أبو حازم: «إن خير الأمراء من أحب العلماء، وأن شر العلماء من أحب الأمراء. وكانوا فيما مضى إذا بعث الأمراء إلى العلماء لم يأتوهم، وإذا سألوهم لم يرخصوا لهم وكان الأمراء يأتون العلماء في بيوتهم فيسألونهم، وكان في ذلك صلاح للأمراء وصلاح للعلماء. فلما رأى ذلك ناس من الناس، قالوا: ما لنا لا نطلب العلم حتى نكون مثل هؤلاء! وطلبوا العلم فأتوا الأمراء فحدثوهم فرخصوا لهم فخربت العلماء على الأمراء، وخربت، الأمراء على العلماء.
(وأخرج البيهقي في «الزهد»، وابن عساكر، عن سفيان: قال: قال بعض الأمراء لأبي حازم: ارفع إلي حاجتك قال: هيهات! هيهات! رفعتها إلى من لا تختزن الحوائج دونه، فما أعطاني منها قنعت، وما زوى عني منها رضيت، كان العلماء فيما مضى يطلبهم السلطان وهم يفرون منه، وأن العلماء اليوم طلبوا العلم حتى إذا جمعوه بحذافيره، أتوا به أبواب السلاطين، والسلاطين يفرون منهم، وهم يطلبونهم».
(وأخرج ابن عساكر، عن محمد بن عجلان المدني، قال: أرسل سليمان بن هشام إلى أبي حازم، فقال له: تكلم! قال: «ما لي من حاجة أتكلم بها، ولولا اتقاء شركم ما جئتكم لقد أتى علينا زمان وإنما الأمراء تطلب العلماء فتأخذ مما في أيديهم فتنتفع به، فكان في ذلك صلاح للفريقين جميعا، فطلبت اليوم العلماء الأمراء وركنوا إليهم واشتهوا ما في أيديهم، فقالت الأمراء ما طلب هؤلاء ما في أيدينا حتى كان ما في أيدينا خيرا مما في أيديهم، فكان في ذلك فساد للفريقين كليهما» فقال سليمان بن هشام: صدقت.(8/118)
(وأخرج ابن عساكر، من طريق أبي قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي قال: حدثنا أبو سعيد الأصمعي، عن أبي الزناد، عن أبيه، قال: «كان الفقهاء كلهم بالمدينة يأتون عمر بن عبد العزيز، خلا سعيد بن المسيب، فإن عمر كان يرضى أن يكون بينهما رسول، وكنت الرسول بينهما.
(وأخرج ابن عساكر، عن الأوزاعي، قال: قدم عطاء الخراساني على هشام بن عبد الملك فنزل على مكحول، فقال عطاء لمكحول: ههنا أحد يحركنا؟ ـ يعني يعظنا ـ قال: «نعم، يزيد بن ميسرة فأتوه، فقال له عطاء: حركنا رحمك الله، قال: نعم، كانت العلماء إذا علموا عملوا، فإذا عملوا شغلوا، فإذا شغلوا فقدوا، فإذا فقدوا طلبوا، فإذا طلبوا هربوا» قال: أعد علي، فأعاد عليه. فرجع ولم يلق هشاما.
(وأخرج الخطيب وابن عساكر، عن مقاتل بن صالح الخراساني قال: دخلت على حماد بن سلمة، فبينا أنا عنده جالس، إذ دق داق الباب فقال: «يا صبية أخرجي فانظري من هذا! فقالت: هذا رسول محمد بن سليمان الهاشمي ـ وهو أمير البصرة والكوفة ـ قال: قولي له يدخل وحده، فدخل وسلم فناوله كتابه، فقال: اقرأه فإذا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم من سليمان إلى حماد بن سلمة. أما بعد: فصبحك الله بما صبح به أولياءه وأهل طاعته. وقعت مسألة فأتينا نسألك عنها» فقال: «يا صبية هلمي الدواة!» ثم قال: لي: «اقلب الكتاب وكتب: أما بعد فقد صبحك الله بما صبح به أولياءه وأهل طاعته، إنا أدركنا العلماء وهم لا يأتون أحدا، فإن وقعت مسألة فأتنا فاسألنا عما بدا لك! وإن أتيتني، فلا تأتني إلا وحدك، ولا تأتني بخيلك ورجلك، فلا أنصحك ولا أنصح نفسي، والسلام» فبينما أنا عنده، إذ دق داق الباب فقال: «يا صبية أخرجي فانظري من هذا!» قالت: «هذا محمد بن سليمان، قال: «قولي له يدخل وحده» فدخل، فسلم ثم جلس بن يديه، ثم ابتدأ، فقال: ما لي إذا نظرت إليك امتلأت رعبا!؟ فقال حماد: «سمعت ثابت البناني يقول: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إن العالم إذا أراد بعلمه وجه الله هابه كل شيء، وإذا أراد به أن يكثر به الكنوز، هاب من كل شيء» وذكر بقية القصة.(8/119)
(وأخرج ابن النجار في تاريخه عن مفلح بن الأسود، قال: قال المأمون ليحيى بن أكثم: إني أشتهي أن أرى بشر بن الحارث. قال: إذا اشتهيت يا أمير المؤمنين، فإلى الليلة ولا يكون معنا بشر. فركبا، فدق يحيى الباب فقال بشر: من هذا؟ قال: من تجب عليك طاعته. قال: وأي شيء تريد؟ قال: أحب لقاك فقال بشر: طائعا أو مكرها قال: ففهم المأمون، فقال ليحيى: اركب فمر على رجل يقيم الصلاة صلاة العشاء الآخرة فدخلا يصليان فإذا الإمام حسن القراءة فلما أصبح المأمون وجه إليه، فجاء به فجعل يناظره في الفقه، وجعل الرجل يخالفه، ويقول: القول في هذه المسألة خلاف هذا فغضب المأمون. فلما كثر خلافه قال: «عهدي بك، كأنك تذهب إلى أصحابك فتقول: خطأت أمير المؤمنين. فقال: والله يا أمير المؤمنين إني لأستحي من أصحابي أن يعلموا أني جئتك! فقال المأمون: الحمد لله الذي جعل في رعيتي من يستحي أن يجيئني، ثم سجد لله شكرا. والرجل إبراهيم بن إسحاق الحربي.
(وأخرج ابن النجار في تاريخه عن سفيان الثوري قال: «ما زال العلم عزيزا، حتى حمل إلى أبواب الملوك فأخذوا عليه أجرا، فنزع الله الحلاوة من قلوبهم ومنعهم العلم به».
(وأخرج البيهقي في «شعب الإيمان» عن بشر الحافي قال: «ما أقبح أن يطلب العالم، فيقال: هو بباب الأمير».
وأخرج أيضا عن الفضيل بن عياض، قال: إن آفة القراء العجب، واحذروا أبواب الملوك فإنها تزيل النعم فقيل: كيف؟ قال: الرجل يكون عليه من الله نعمة ليست له إلى خلق حاجة فإذا دخل إلى هؤلاء فرأى ما بسط لهم في الدور والخدم استصغر ما هو فيه من خير ثم تزول النعم».
(عقد الغزالي في «الإحياء» بابا في مخالطة السلاطين، وحكم غشيان مجالستهم، والدخول عليهم، قال فيه: «اعلم أن لك مع الأمراء والعمال الظلمة، ثلاثة أحوال:
الحال الأولى: وهي شرها، أن تدخل عليهم.
والثانية: وهي دونها أن يدخلوا عليك.
والثالثة: - وهي الأسلم -: أن تعتزل عنهم، ولا تراهم ولا يروك.
أما الحالة الأولى: وهي الدخول عليهم، فهي مذمومة جدا في الشرع وفيه تغليظات وتشديدات تواردت بها الأخبار والآثار فننقلها لتعرف ذم الشرع له. ثم نتعرض لما يحرم منه، وما يباح وما يكره، على، ما تقتضيه الفتوى في ظاهر العلم» ثم سرد كثيرا من الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها. ومما أورده مما لم يسبق له ذكر:
(قال سفيان: في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزوارون للملوك».(8/120)
(وقال الأوزاعي: «ما شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملا». وقال إسحاق: «ما أسمج بالعالم يؤتى مجلسه ولا يوجد فيسأل عنه فيقال: إنه عند الأمير. وكنت أسمع أنه يقال: إذا رأيتم العالم يزور السلطان فاتهموه على دينكم. أنا ما دخلت قط على هذا إلا وحاسبت نفسي بعد الخروج، فأرمي عليها الدرك مع ما أواجههم به من الغلظة والمخالفة لهواهم». وكان سعيد بن المسيب يتجر في الزيت ويقول: «إن في هذا لغنى عن هؤلاء السلاطين».
(وقال وهب: «هؤلاء الذين يدخلون على الملوك، لهم أضر على الأمة من المقامرين».
(وقال محمد ابن مسلمة: «الذباب على العذرة، أحسن من قارئ على باب هؤلاء»
(ولما خالط الزهري السلطان كتب له أخ في الدين: «عافانا الله وإياك يا أبا بكر من الفتن، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن يعرفك أن يدعو لك ويرحمك، أصبحت شيخا كبيرا وقد أثقلتك نعم الله لما فهمك من كتابه وعلمك من سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء. واعلم أن أيسر ما ارتكبت، وأخف ما احتملت، أنك أنست وحشة الظالم، وسهلت سبيل الغي، بدنوك ممن لم يؤد حقا، ولم يترك باطلا حين أدناك، اتخذك قطبا تدور عليك رحايا ظلمهم، وجسرا يعبرون عليك إلى بلائهم وسلما يصعدون فيه إلى ضلالتهم، يدخلون بك الشك على العلماء ويغتالون بك قلوب الجهال، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما أخربوا عليك، وما أكثر ما أخذوا منك فيما أفسدوا عليك من دينك فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله فيهم: {فَخَلَفَ مِن بَعدِهِم خَلفٌ أَضاعوا الصَلواةَ وَاِتَبَعوا الشَهَواتِ}، وإنك تعامل من لا يجهل، ويحفظ عليك من لا يغفل، فداو دينك فقد دخله سقم وهيء زادك فقد حضره سفر بعيد، وما يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء والسلام».
قال: «فهذه الأخبار والآثار تدل على ما في مخالطة السلاطين من الفتن وأنواع الفساد ولكنا نفصل ذلك تفصيلا فقهيا، نميز فيه المحظور عن المكروه والمباح.
فنقول: الداخل على السلطان متعرض لأن يعصي الله إما بفعله، وإما بسكوته، وإما بقوله، وإما باعتقاده ولا ينفك عن أحد هذه الأمور.
(أما الفعل: فالدخول عليهم في غالب الأحوال يكون إلى دار مغصوبة، وتخطيها والدخول فيها بغير إذن المالك حرام والتواضع للظالم لا يباح إلا بمجرد السلام. فأما تقبيل اليد والانحناء في الخدمة فمعصية.(8/121)
وقد بالغ بعض السلف، حتى امتنع عن رد جوابهم في السلام. والإعراض عنهم استحقارا لهم من محاسن القربات. والجلوس على بساطهم، إذا كان أغلب أموالهم حراما، لا يجوز.
(وأما السكوت فإنه يرى في مجلسهم من الفرش الحرير، وأواني الفضة والحرير والملبوس عليهم، وعلى غلمانهم ما هو حرام. وكل من رأى سيئة وسكت عليها، فهو شريك في تلك السيئة. بل يسمع من كلامهم ما هو فحش، وكذب وشتم، وإيذاء، والسكوت عن جميع ذلك حرام. فإن ما هو فحش، وكذب وشتم، وإيذاء، والسكوت عن جميع ذلك حرام. فإن قلت: إنه يخاف على نفسه، وهو معذور في السكوت فهذا حق ولكنه مستغن عن أن يعرض نفسه لارتكاب ما لا يباح إلا بعذر، فإنه لو لم يدخل ولم يشاهد لم يتوجه عليه الخطاب بالحسبة، حتى يسقط عنه بالعذر. ومن علم فسادا في موضع، وعلم أنه لا يقدر على إزالته لا يجوز له أن يحضر ليجري ذلك بين يديه، وهو يشاهده ويسكت بل يحتزر عن مشاهدته.
(وأما القول: فإنه يدعو للظالم، أو يثني عليه، أو يصدقه فيما يقول من باطل بصريح قوله، أو بتحريك رأسه، أو باستبشار في وجهه أو يظهر له الحب والموالاة، والاشتياق إلى لقائه، والحرص على طول عمره وبقائه.
فإنه في الغالب لا يقتصر على السلام، بل يتكلم ولا يعدو كلامه هذا الإمام.(8/122)
(وأما دعاؤه: فلا يحل له إلا أن يقول: «أصلحك، أو وفقك الله للخيرات أو طول الله عمرك في طاعته» أو ما يجري في هذا المجرى. فأما الدعاء له بالحراسة وطول البقاء وإسباغ النعمة، مع الخطاب بالمولى وما في معناه، فغير جائز، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من دعى لظالم بالبقاء، فقد أحب أن يعصى الله في أرضه». فإن جاوز الدعاء إلى الثناء فيذكر ما ليس فيه، فيكون كاذبا أو منافقا أو مكرما لظالم. وهذه ثلاث معاص، وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله ليغضب إذا مدح الفاسق». وفي خبر آخر: «من أكرم فاسقا فقد أعان على هدم الإسلام فإن جاوز ذلك إلى التصديق له فيما يقول، والتزكية على ما يعمل، كان عاصيا بالتصديق وبالإعانة. فإن التزكية، والثناء إعانة على المعصية وتحريك للرغبة فيها كما أن التكذيب والمذمة والتقبيح زجر عنه وتضعيف لدواعيه. والإعانة على المعصية معصية ولو بشطر كلمة. وقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية: هل يسقى شربة ماء؟ فقال: «لا، دعه يموت فإن ذلك إعانة له». وأيضا فلا يسلم من فساد يتطرق إلى قلبه فإنه ينظر إلى توسعه في النعمة ويزدري نعمة الله عليه ويكون مقتحما نهي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال: «يا معشر المهاجرين لا تدخلوا على أهل الدنيا فإنها مسخطة للرزق». وهذا مع ما فيه من اقتداء غيره في الدخول، ومن تكثير سواد الظلمة بنفسه وتحميله إياهم إن كان ممن به وكل ذلك إما مكروهات أو محظورات فلا يجوز الدخول عليهم إلا بعذرين.
أحدهما: أن يكون من جهتهم أمر إلزام، لا إكرام، وعلم أنه لو امتنع أوذي.
والثاني: أن يدخل عليهم في دفع الظلم عن مسلم، فذلك رخصة بشرط أن لا يكذب، ولا يدع نصيحة يتوقع لها قبولا».
ثم قال: «فإن قلت: فلقد كان علماء السلف يدخلون على السلاطين فأقول: نعم تعلم الدخول منهم، ثم أدخل عليهم! فقد حكي: أن هشام بن عبد الملك، قدم حاجا إلى مكة فلما دخلها قال: ائتوني برجل من الصحابة» فقيل: يا أمير المؤمنين! فقد تفانوا قال: من التابعين. فأتي بطاوس اليماني فلما دخل عليه، خلع نعليه بحاشية البساط، ولم يسلم بإمرة المؤمنين، ولكن قال: «السلام عليك يا هشام!» ولم يكنه وجلس بإزائه وقال: «كيف أنت يا هشام!» فغضب هشام غضبا شديدا حتى هم بقتله وقال له: «ما حملك على ما صنعت؟!» قال: «وما الذي صنعت؟!».(8/123)
فازداد غضبا وغيظا، فقال: «خلعت نعلك بحاشية بساطي، وما قبلت يدي، ولم تسلم علي بإمرة المؤمنين، ولم تكنني وجلست بإزاي بغير إذن، وقلت: «كيف أنت يا هشام؟»
(فقال: أما قولك: «خلعت نعلي، بحاشية بساطك، فأنا أخلعها بين يدي رب العالمين كل يوم خمس مرات ولا يعاقبني ولا يغضب علي. وأما قولك: «لم تقبل يدي فإني سمعت علي بن أبي طالب قال: «لا يحل لرجل أن يقبل يد أحد، إلا امرأته بشهوة أو ولده برحمة». وأما قولك: لم تسلم بإمرة المؤمنين، فليس كل الناس راض بإمرتك، فكرهت أن أكذب. وأما قولك: «لم تكنني فإن الله تعالى سمى أولياءه وقال: يا داود، يا يحيى، يا عيسى وكني أعداءه فقال:» تَبَّت يَداَ أَبي لَهَبٍ «وأما قولك: جلست بإزائي فإني سمعت علي بن أبي طالب يقول: «إذا أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار، انظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام»
فقال هشام: عظني؟.
قال: «سمعت علي بن أبي طالب يقول: «إن في جهنم حيات كالقلال، وعقارب كالبغال تلدغ كل أمير لا يعدل في رعيته» ثم قام وخرج.
(وعن سفيان الثوري قال: «دخلت على أبي جعفر بمنى، فقال لي: ارفع حاجتك؟ فقلت له: «اتق الله! فإنك قد ملأت الأرض جورا وظلما». قال: فطأطأ رأسه، ثم رفع وقال: ارفع لنا حاجتك؟ فقلت: «إنما أنزلت هذه المنزلة بسيوف المهاجرين والأنصار، وأبناؤهم يموتون جوعا، فاتق الله وأوصل إليهم حقوقهم». قال: فطأطأ رأسه ثم رفع وقال: ارفع إلينا حاجتك؟ قلت: «حج عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال لخازنه: كم أنفقت؟ قال: بضعة عشر درهما، وأرى هاهنا أمورا لا تطيق الجمال حملها».
(فهكذا كانوا يدخلون على السلاطين إذا أكرهوا فكانوا يفرون بأرواحهم في الله أعني علماء الآخرة، فأما علماء الدنيا فيدخلون ليتقربوا إلى قلوبهم، فيدلونهم على الرخص، ويستنبطون بدقائق الحيل السعة فيما يوافق أغراضهم» انتهى كلام الغزالي ملخصا.(8/124)
(وفي «أمالي» الشيخ عز الدين بن عبد السلام التي علقها عنه تلميذه الشيخ شهاب الدين القرافي أحد أئمة المالكية، ما نصه: «ومن جملة كلامه ـ يعني الشيخ عز الدين رضي الله عنه ـ وقد كتب إليه بعض أرباب الدولة يحضه على الاجتماع بملك وقتهم، والتردد إليه ليكون ذلك مقيما لجاهه وكاتبا لعدوه. فقال رضي الله عنه: «قرأت العلم لأكون سفيراً بين الله وبين خلقه، وأتردد إلى أبواب هؤلاء!» قال القرافي: «فأشار رضي الله تعالى عنه إلى من حمل العلم، فقد صار ينقل عن الله إلى عباده، فهو في مقام الرسالة ومن كان له هذا الشرف لا يحسن منه ذلك».(8/125)
(وقال ابن الحاج في «المدخل»: «ينبغي للعالم، بل يتعين عليه أن لا يتردد لأحد من أبناء الدنيا، لأن العالم ينبغي أن يكون الناس على بابه، لا عكس الحال أن يكون هو على بابهم ولا حجة له في كونه يخاف من عدو أو حاسد وما أشبههما بمن يخشى أن يشوش عليه، أو يرجو أحد منهم دفع شيء مما يخشاه أو يرجو أن يكون ذلك شيئا لقضاء حوائج المسلمين من جلب مصلحة لهم أو دفع مضرة عنهم فهذا ليس فيه عذر ينفعه. أما الأول: فلأنه إذا أخذ ذلك بإشراف نفس لم يبارك فيه. وإذا كان خائفا مما ذكر، فذلك أعظم من إشراف النفس، وقد يسلط عليه من يتردد إليه في مصلحة عقوبة له معجلة. وأما الثاني: فهو يرتكب أمرا محظورا محققا لأجل محذور مظنون توقعه في المستقبل. وقد يكون، وقد لا يكون وهو مطلوب في الوقت بعدم ارتكاب ذلك الفعل المذموم شرعا، بل الإعانة على قضاء حوائجه وحوائج المسلمين إنما هو بالانقطاع عن أبواب هؤلاء، والتعويل على الله سبحانه والرجوع إليه فإنه سبحانه هو القاضي للحوائج، والدافع للمخاوف، والمسخر لقلوب الخلق، والمقبل بها على ما شاء، كيف شاء. قال تعالى خطابا لسيد الخلق:» لَو أَنفَقتَ ما في الأَرضِ جَميعاً مّا أَلَّفتَ بَينَ قُلوبِهِم وَلَكِنَّ اللَهَ أَلَّفَ بَينَهُم «. فذكر سبحانه هذا في معرض الامتنان على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والعالم إذا كان متبعا له عليه أفضل الصلاة والسلام سيما في التعويل على ربه سبحانه والسكون إليه دون مخلوقاته فإنه سبحانه يعامله بهذه المعاملة اللطيفة التي عامل نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولبركة الاتباع له صلى الله عليه ويسلم بذلك من التردد إلى أبواب هؤلاء كالذي يفعله بعض الناس، وهو سم قاتل. ويا ليتهم لو اقتصروا على ما ذكر لا غير. بل يضمون إلى ذلك ما هو أشد وأشنع، وهو أنهم يقولون أن ترددهم إلى أبوابهم من باب التواضع، أو من باب إرشادهم إلى الخير إلى غير ذلك مما يخطر لهم، وهو كثير قد عمت به البلوى، وإذا اعتقدوا ذلك فقد قل الرجاء من توبتهم ورجوعهم. وقد نقل بعض علمائنا أن العدل إذا تردد إلى باب القاضي يكون ذلك حرجة في حقه وترد به شهادته. فإذا كان هذا في التردد إلى باب القاضي وهو عالم من علماء المسلمين، سالم مجلسه مما يجري من مجالس هؤلاء، فكيف التردد إلى غير القاضي، فمن باب أولى وأوجب المنع من ذلك».(8/126)
وقال في موضع آخر: «ينبغي للعالم أنه إذا قطع عنه معلوم المدرسة لا يترك ما كان منه من الاجتهاد ولا يتبرم، ولا يضجر لأنه قد يكون المعلوم قد قطع عنه اختبارا من الله تعالى لكي يرى صدقه في علمه وعمله، فإن رزقه مضمون له لا ينحصر في جهة غير أخرى. قال عليه الصلاة والسلام: «من طلب العلم تكفل الله برزقه» ومعناه يسره له من غير تعب ولا مشقة، وإن كان الله تعالى تكلف برزق الخلق أجمعين، لكن حكمة تخصيص العالم بالذكر أن ذلك ييسر له بلا تعب، ولا مشقة، فجعل نصيبه من التعب والمشقة في الدرس والمطالعة والتفهم للمسائل وإلقائها وذلك من الله تعالى على سبيل اللطف به والإحسان إليه وهذا من كرامات العلماء، أعني فهم المسائل وحسن إلقائها، والمعرفة بسياسة الناس في تعلمها، كما أن كرامات الأولياء فيها أشياء أخرى يطول تعدادها مثل المشي على الماء والطيران في الهواء. وينبغي له أن يصون هذا المنصب الشريف من التردد لمن يرجى أن يعين على إطلاق المعلوم، أو التحدث فيه أو إنشاء معلوم عوضه. وقد حدثني من أثق به أنه رأى بعض العلماء، وكان يدرس في مدرسة وانقطع المعلوم عنه وعن طلبته فقالوا للمدرس: لعلك أن تمشي إلى فلان! وكان من أبناء الدنيا لتجتمع به عسى أن يأمر بإطلاق المعلوم فقال: «والله إني لأستحي من ربي عز وجل أن تكذب هذه الشيبة عنده» فقالوا له: وكيف ذلك!؟ فقال: «إني أصبح كل يوم، أقول: اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت» فأقول هذا وأقف بين يدي مخلوق أسأله في ذلك والله لا فعلته» والعالم أولى من يثق بربه عز وجل في المنع والعطاء، ولا عذر له في الطلب لأجل العائلة لأنه إن ترك ذلك تقية على هذا المنصب الشريف لم يضيع الله الكريم قصده وأتاه به أو فتح له من غيبه ما هو أحسن له من ذلك وأعانه وسد خلته على ما شاء، كيف شاء، وليس رزقه بمخصوص في جهة بعينها، وعادة الله أبدا المستمرة على أنه سبحانه وتعالى يرزق من هذا حاله من غير باب يقصده، أو يؤمله، لأن مراد الله تعالى من العلماء انقطاعهم إليه، وتعويلهم في كل أمورهم عليه، ولا ينظرون إلى الأسباب وإلى مسبب الأسباب ومدبرها، والقادر عليها، وكيف لا يكون العالم كذلك وهو المرشد للخلق والموضح الطريق المستقيم للسلوك إليه سبحانه، ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه من حيث لا يحتسب» انتهى.(8/127)
(وفي «طبقات الحنفية» في ترجمة علي بن الحسن الصندلي: «أن السلطان ملك شاة قال له: «لم لا يجيء إلي؟ قال: أردت أن تكون من خير الملوك، حيث تزور العلماء، ولا أكون من شر العلماء حيث أزور الملوك».
(وقال ابن عدي في «الكامل»: «سمعت أبا الحسين محمد بن المظفر يقول: سمعت مشائخنا بمصر يعترفون لأبي عبد الرحمن النسائي بالتقدم والإمامة ويصفون من اجتهاده في العبادة بالليل، ومواظبته على الاجتهاد، وأنه خرج إلى الغزو مع والي مصر فوصف من شهامته، وإقامته السنن المأثورة، واحترازه عن مجالسة السلطان الذي خرج معه ولم يزل ذلك دأبه إلى أن استشهد رضي الله عنه».
(وفي «تهذيب الكمال» للمزي في ترجمة أبي يحيى أحمد بن عبد الملك الحراني شيخ البخاري، ما نصه: «قال أبو الحسن الميموني: سألت أحمد بن حنبل عنه فقال: «قد كان عندنا ورأيته كيسا، وما رأيت به بأسا، رأيته حافظا لحديثه، وما رأيت إلا خيرا فقلت: رأيت جماعة يسيئون الثناء عليه. قال: هو يغشى السلطان بسبب ضيعة له».
(وفي «تهذيب الكمال» أيضا بسنده عن رشدين بن سعد قال: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: سمعت «أعز الأشياء في آخر الزمان ثلاثة: أخ في الله يؤتسى وكسب درهم من حلال، وكلمة حق عند سلطان».
(وعن خلف بن تميم قال: سمعت إبراهيم بن أدهم ينشد:
أَرى أُناساً بِأَدنى الدينِ قَد قَنَعوا ... وَلا أَراهُم رَضوا في العَيشِ بِالدونِ
فَاِستَغنِ بِاللَهِ عَن دُنيا المُلوكِ ... كَما اِستَغنى المُلوكُ بِدُنياهُم عَنِ الدينِ
(وقال القالي في أماليه: «حدثنا أبو بكر ابن الأنباري، حدثني أبي قال: بعث سليمان المهلبي إلى الخيل بن أحمد بمائة ألف درهم، وسأله في صحبته فرد عليه المائة ألف وكتب إليه بأبيات:
أَبلِغ سُلَيمانَ أَنّي عَنهُ في سَعَةٍ ... وَفي غِنى غَيرَ أَنّي لَستُ ذا مالِ
سَخِيٌّ بِنَفسي أَنّي لا أَرى أَحَداً ... يَموتُ هُزلاً وَلا يَبقى عَلى حالِ
فَالرِزقُ عَن قَدرٍ لا العَجزِ يُنقِصُهُ ... وَلا يَزيدَكَ فيهِ حَولَ مُحتالِ
وَالفَقرُ في النَفسِ لا في المالِ تَعرِفُهُ ... وَمِثلُ ذاكَ الغِنى في النَفسِ لا المالِ
(وأخرج أبو نعيم في «الحلية» عن محمد بن وهيب بن هشام قال: أنشدني بعض أصحابي لابن المبارك رحمه الله تعالى:
كُلِ الجاوُرسَ وَالأَرُزَ بِالخُبزِ الشَعيرِ ... وَاِجعَلَن ذلِكَ طَعاماً تَنجُ مِن حَرِّ السَعيرِ
وانأى ما استطعت هداك الله عن باب الأمير(8/128)
(وأخرج ابن عساكر في تاريخه من طريق البيهقي، عن الحاكم قال: أخبرني أبو الفضل بن أبي نصر، نبأنا علي بن الحسن بن حبيب الدمشقي، قال: سمعت الناقوسي، وكان من أهل القرآن والعلم، قال سمعت محمد بن عبد الله بن الحكم يقول: سمعت الشافعي يقول: «كان لي صديق يقال له حصين، وكان يبرني ويصلني فولاه أمير المؤمنين السيبن، قال فكتب إليه:
خُذها إِلَيكَ فَإِنَّ وُدَّكَ طالِقٌ ... مِنّي وَلَيسَ طَلاقُ ذاتِ البَينِ
فَإِنِ اِرعَوَيتَ فَإِنَّها تَطليقَةٌ ... وَيَدومُ وُدُّكَ عَلى ثِنتَينِ
وَإِنِ اِلتَوَيتَ شَفَعتَها بِمِثالِها ... وَتَكونُ تَطليقَتَينِ في حَيضَينِ
فَإِذا الثَلاثُ أَتَتكَ مِنّي طائِعاً ... لَم تُغنِ عَنكَ وِلايَةَ البَحرَينِ
لَم أَرضَ أَن أَهجُرَ حَصيناً وَحدَهُ ... حَتّى اِسوَدَّ وَجهُ كُلِّ حَصينِ
(وقال الجمال اللغوي في كتاب «المعجب» ومن خطه نقلت: أخبرني بعض الفضلاء: أن الأمير عز الدين حرسك بعث إلى الشيخ الشاطبي يدعوه للحضور عنده، فأمر الشيخ بعض أصحابه أن يكتب إليه هذه الأبيات وهي قوله:
قُل لِلأَميرِ مَقالَةً ... مِن ناصِحٍ فَطنٍ نَبيهِ
إِنَّ الفَقيهَ إِذا أَتى ... أَبوابَكُم لا خَيرَ فيهِ
(وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن زيد بن أسلم قال: كنت مع أبي حازم فأرسل إليه عبد الرحمن بن خالد الأمير أن ائتنا حتى نسألك وتحدثنا. فقال أبو حازم: «معاذ الله أدركت أهل العلم لا يحملون العلم لأهل الدنيا فلن أكون أول من فعل ذلك فإن كان لك حاجة، فأبلغنا» فأرسل إليه عبد الرحمن قد ازددت عندنا بهذا كرامة.
(نشاط الشيخ في درسه:
يكون على قدر مدارك الطالب في استماعه، وجمع نفسه، وتفاعل أحاسيسه مع شيخه في درسه، ولهذا فاحذر أن تكون وسيلة قطع لعلمه، بالكسل، والفتور والاتكاء، وانصراف الذهن وفتوره.
[*] قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى:
“حق الفائدة أن لا تساق إلا إلى مبتغيها، ولا تعرض إلا على الراغب فيها، فإذا رأى المحدث بعض الفتور من المستمع، فليسكت، فإن بعض الأدباء قال: نشاط القائل على قدر فهم المستمع”.
ثم ساق بسنده عن زيد بن وهب، قال:
“قال عبد الله: حدث القوم ما رمقوك بأبصارهم، فإذا رأيت منهم فترة، فانزع” ا هـ.
[*] (الكتابة عن الشيخ حال الدرس والمذاكرة:
وهى تختلف من شيخ إلى آخر، فافهم.
ولهذا أدب وشرط:
أما الأدب، فينبغي لك أن تعلم شيخك أنك ستكتب، أو كتبت ما سمعته مذاكرة.
وأما الشرط، فتشير إلى أنك كتبته من سماعه من درسه.(8/129)
(فضل بعض العلوم التي يجب على طالب العلم أن يتحلى بها:
(أولاً فضل علم التوحيد
(ثانياً فضل علم القرآن
(ثالثاً فضل علم السنة
(رابعاً فضل علم الفقه
(خامساً فضل علم الهدْي والآداب
(وإليك تفصيل ذلك:
(أولاً فضل علم التوحيد
إن لعلم التوحيد فضلٌ عظيم لأن التوحيد هو أول ما يجب على العبد أن يتعلمه من دينه لأن التوحيد مقدمٌ على العمل والأصل الذي يترتب عليه غيره إذ لا ينفع مع الشرك عمل
قال تعالى (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك) {محمد/19}
(حديث ابن عباس في الصحيحين) قال. قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذٍ ابن جبل حين بعثه إلى اليمن إنك ستأتي قوما أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم و ليلة فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك و كرائم أموالهم و اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها و بين الله حجاب.
* الشاهد:
قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلواتٍ في كل يومٍ وليلة) فجعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إخبارهم بالصلاة معلقٌ على قبول التوحيد أي إذا لم يقبلوا التوحيد فلا تخبرهم إذ لا ينفع مع الشرك عمل
- ثانياً: فضلُ علم القرآن:
إن من المعلوم شرعاً أن القرآن الكريم أكبر منةٍ امتن الله تعالى بها على هذه الأمة، ففيه حياةُ القلوب ويحصل بالتمسك به سعادة الدارين ولا يُتَصوَّر طلب العلم على جادةِ الاستقامة إلا بعد حفظ كتاب الله تعالى كاملاً ومن فرَّط فيه فرَّط في غيره ولا شك، وليس معنى ذلك أنه يشترط في طلب العلم حفظ كتاب الله تعالى كاملاً غير أنه لا يستقيم علمه ولا يكون له وزناً في العلم إلا إذا حفظ كتاب الله تعال كاملاً وذلك لأن كل العلم تخدم كتاب الله تعالى، ولذا كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحث أمته دائماً على حفظ كتاب الله تعالى وأن يُقبلوا علته إقبالَ الظامئِ على المورد العذب،
والسنة الصحيحة طافحةٌ بما يدل على ذلك وهاك بعضٌ منها:(8/130)
(1) مثَّل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المؤمن الذي يقرأ القرآن بالأترجة ريحها طيب وطعمها طيب وكذا المؤمن الذي يقرأ القرآن مرضيٌ حاله قلباً وقالباً _ وهذا إن كان عاملاً بكتاب الله تعالى _ وإلا انقلب علمه من نورٍ إلى نار.
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب و طعمها طيب و مثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها و طعمها حلو و مثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب و طعمها مر و مثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح و طعمها مر.
(2) وبين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه يترتب الأجر الوفير على قراءة القرآن الكريم:
(حديث عقبة ابن عامر في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين زهراوين في غير إثم و لا قطع رحم فلأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين و ثلاث خير له من ثلاث و أربع خير له من أربع و من أعدادهن من الإبل.
(حديث ابن مسعودٍ في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة و الحسنة بعشر أمثالها لا أقول: {ألم} حرف و لكن: ألف حرف و لام حرف و ميم حرف.
(حديث ابن عباس في صحيحي الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال {إذا زلزلت} تعدل نصف القرآن و {قل يا أيها الكافرون} تعدل ربع القرآن و {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن.
[*] قال الشيخ الألباني: صحيح دون فضل زلزلت
{تنبيه}: (ومن مظاهر سعة رحمة الله تعالى لعباده وكذا من مظاهر يسر الإسلام أن الله تعالى رتب الأجر الوفير على قراءة القرآن الكريم سواء كان القارئ يجيد القراءة أم يتتعتع في القراءة.
(حديث عائشة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الذي يقرأ القرآن وهو حافظٌ له مع السفرةِ الكرامِ البررة والذي يقرأ القرآن ويتعاهده وهو عليه شديد فله أجران.
(حديث جابر في صحيح أبي داود) قال: خرج علينا رسول الله ونحن نقرأ القرآن وفينا الأعرابي والأعجمي فقال: اقرؤا فكلٌ حسن وسيجئُ أقوامٌ يقيمونه كما يُقام القدحُ يتعجلونه ولا يتأجلونه.
الشاهد:(8/131)
أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل أمر قراءة القرآن على التساهل حيث قال في قراءة الأعرابي والأعجمي (اقرأوا فكلٌ حسن) وهما غالباً لا يحسنان القراءة لأن الأعرابي غالباً بعيدٌ عن العلم والأعجمي ليس عربياً أصلاً، ثم بين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن المهم في القراءة الاحتساب وإخلاص النية ثم نبه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سيجئُ أقوامٌ يقرؤون القرآن قراءةً صحيحةً ويقيمون الألفاظ كما يُقام القدح (أي السهم) ولكنهم مع ذلك يتعجلون ثوابه في الدنيا ولا يؤجلون ثوابه في الآخرة.
(3) بين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الله تعالى يرفع صاحب القرآن في الدنيا والآخرة
(حديث عمر في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضعُ به آخرين.
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يقال لصاحب القرآن: اقرأ و ارق و رتل كما كنت ترتل في دار الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها.
(4) القرآن يشفع لصاحبه يوم القيامة وتقبل شفاعته:
(حديث أبي أمامة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه.
(حديث عبد اله بن عمرو في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الصيام و القرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام: أي رب إني منعته الطعام و الشهوات بالنهار فشفعني فيه يقول القرآن: رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيُشَفَّعان.
معنى فيشفَّعان: أي فتقبل شفاعتهما
(5) رفع منزلة حافظ القرآن عند اله تعالى:
(حديث عثمان في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال خيركم من تعلم القرآن وعلمه.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل و آناء النهار فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل و رجل آتاه الله مالا فهو يهلكه في الحق فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل.
{تنبيه}: (المقصود بالحسد هنا: الغبطة لأن الحسد مذموم على كل أحواله فلا يحل في اثنتين ولا ثلاث.(8/132)
(حديث عائشة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الذي يقرأ القرآن وهو حافظٌ له مع السفرةِ الكرامِ البررة والذي يقرأ القرآن ويتعاهده وهو عليه شديد فله أجران.
(حديث أنس في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أهل القرآن أهل الله وخاصته.
(6) إكرام أهل القرآن أحياءاً وأمواتاً
(إكرامهم أحياءاً
(حديث أبي مسعودٍ الأنصاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا و لا يؤمنَّ الرجلُ الرجلَ في أهله و لا في سلطانه و لا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه.
(حديث ابن عباس في صحيح البخاري موقوفاً) قال: كان القراء أصحاب مجلس عمر رضي الله تعالى عنه كهولاً كانوا أم شباناً.
(حديث أبي موسى في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم و حامل القرآن غير الغالي فيه و الجافي عنه و إكرام ذي السلطان المقسط.
معنى {من إجلال الله}: أي من تعظيم الله تعالى
معنى {غير الغالي فيه}: أي غير متجاوز الحد فيه في العمل به وتتبع ما خفي منه واشتبه عليه من معانيه وغير الغالي فيه من حيث قراءته ومخارج حروفه
{والجافي عنه} أي وغير الجافي عنه أي غير التارك له البعيد عن تلاوته والعمل به.
(إكرامهم أمواتاً
(حديث جابر في صحيح البخاري) قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجمع بين الرجلين من قتلى أحدٍ في الثوب الواحد ثم يقول: أيهم أكثر أخذاً للقرآن فإذا أُشير إلى أحدهما قدَّمه في اللحد وقال أنا شهيدٌ على هؤلاء يوم القيامة وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسَّلوا ولم يُصلى عليهم.
- آداب قراءة القرآن:
مسألة: ما هي آداب قراءة القرآن؟
[*] (بيَّن الإمام النووي رحمه الله تعالى آداب قراءة القرآن في كتابه التبيان في آداب حملة القرآن فقال:
(1) ينبغي له أن يستحضر في نفسه أنه يناجي الله تعالى ويقرأ على حال من يرى الله تعالى فإنه إن لم يكن يراه فإنه يراه فعليه أن يطرد الشواغل عن نفسه أثناء هذه المناجاة
(2) ينظف فاه بالسواك فإنه مطهرةٌ للفم مرضاةٌ للرب:
(حديث عائشة في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: السواك مطهرةٌ للفم مرضاةٌ للرب.(8/133)
(3) يستحب له أن يقرأ القرآن على طهارة فإن قرأ محدثاً جاز بإجماع المسلمين
(4) يستحب أن تكون القراءة في موضعٍ نظيف ولهذا استحب جماعة من العلماء القراءة في المسجد لكونه جامعاً للنظافة وشرف البقعة ومحصلاً لفضيلةٍ أخرى هي فضيلة الاعتكاف فإنه ينبغي لكلِ جالس في المسجد أن ينويه سواء كثر جلوسه أو قل، وهذا الأدب ينبغي أن يعتنى به ويشاع ذكره ويعرفه الصغير والكبير فإنه مما يغفل عنه.
(5) يستحب للقارئ أن يقرأ وهو جالس مستحضراً عظمةَ من يناجيه خاشعاً متذللاً بين يدي الله تعالى، ولو قرأ قائماً أو مضطجعاً في فراشه أو غير ذلك من الأحوال جاز:
قال تعالى: (إنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وقعودا وعلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض ربنا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {آل عمران/191،190}
(حديث عائشة في صحيح مسلم) قالت كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يذكر الله على كل أحواله.
(6) ويجب على القارئ إذا أراد الشروع في القراءة أن يستعيذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم
لقوله تعالى (فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) {النحل/98}
وكان جماعة من السلف يقولون: أعوذ بالله السميع من الشيطان الرجيم
(7) ينبغي له أن يحافظ على قراءة البسملة في أولِ كل سورة سوى سورة براءة.
(8) إذا شرع في القراءة فليكن شأنه الخشوع والتدبر وطرد الشواغل عن ذهنه:
قال تعالى أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لوجدوا فيه اخْتِلاَفًا كَثِيراً {النساء/82}
وقال تعالى (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) {محمد /24}
وقال تعالى (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدّبّرُوَاْ آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكّرَ أُوْلُو الألْبَابِ) {ص/29}
{تنبيه}: (كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يهتم اهتماماً بالغاً بتدبر القرآن وكان أحياناً لا يزال يردد آيةً حتى يصبح(8/134)
(حديث أبي ذر في صحيحي النسائي وابن ماجة) قال قام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بآيةٍ يرددها حتى أصبح، والآية قال تعالى: (إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة / 118]
*وقد تأسى أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به في ذلك فردد تميم بن أوس آيةً حتى أصبح والآية هي (أَمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرَحُواْ السّيّئَاتِ أَن نّجْعَلَهُمْ كَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَوَآءً مّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ) {الجاثية/21)
(9) البكاء عند قراءة القرآن فإن ذلك سمة عباد الله الصالحين:
قال تعالى (وَيَخِرّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) {الإسراء /109}
وقال تعالى (إِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرّحْمََنِ خَرّواْ سُجّداً وَبُكِيّاً) {مريم/58}
*وصلى عمر بن الخطاب بالجماعة الصبح فقرأ سورة يوسف فبكى حتى سالت دموعه على ترقوته.
*وعن أبي الرجاء قال رأيت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وتحت عينيه مثلُ الشراك البالي من الدموع.
وقدم أناسٌ من اليمن على أبي بكرٍ الصديق رضي الله تعالى عنه فجعلوا يقرؤن القرآن ويبكون فقال أبو بكرٍ الصديق رضي الله تعالى عنه: هكذا كنا.
(10) استحباب ترتيل القرآن:
امتثالاً لقوله تعالى (ورتل القرآن ترتيلا) {المزمل /4}
(حديث عبد الله بن المغفل في الصحيحين) قال رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم فتح مكة على ناقته يقرأ سورةَ الفتح فرجَّع في قراءته)
(حديث أم سلمة في صحيح الترمذي) قالت كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقطع قراءته آية آية: {الحمد لله رب العالمين} ثم يقف: {الرحمن الرحيم} ثم يقف.
11) يكره الإفراط في السرعة في قراءة القرآن لأنها لا تسمح بالتدبر:
(حديث ابن مسعود في الصحيحين) أن رجلاً قال له لقد قرأت المفصل في ركعة فقال هذا كهزِ الشعر إن قوماً يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع.
*المقصود بقوله (كهز الشعر): كانت عادتهم في إنشاد الشعر السرعة المفرطة.
((حديث عقبة ابن عامر الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال سيخرج أقوام من أمتي يشربون القرآن كشربهم اللبن.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:(8/135)
(سيخرج أقوام من أمتي يشربون القرآن كشربهم اللبن) أي يسلقونه بألسنتهم من غير تدبر لمعانيه ولا تأمل في أحكامه بل يمر على ألسنتهم كما يمر اللبن المشروب عليها بسرعة.
(12) يستحب له أن لا يمرُّ بآية رحمة إلا سأل ولا بآية فيها عذاب إلا استجار:
(حديث حذيفة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ البقرة وآل عمران والنساء في ركعة، لا يمر بآيةِ رحمةٍ إلا سأل ولا بآيةِ عذاب إلا استجار.
(13) احترام القرآن:
إن احترام القرآن من الأمور التي قد يتساهل فيها بعض الغافلين القارئين، فيجب اجتناب الضحك واللغط (اختلاط الأصوات) والحديث خلال القراءة إلا كلاماً يضطر إليه، وليمتثل قول الله تعالى (وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ) {الأعراف/204}
[*] وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما إذا قرأ القرآن لا يتكلم حتى يفرغ مما أراد أن يقرأه.
ويجب كذلك اجتناب العبث بين يديه فإنه يناجي الله تعالى، وكذا يجب اجتناب النظر إلى ما يلهي القلب
(14) يستحب له أن يقرأ القرآن على ترتيب المصحف لأن الله تعالى جعل هذا الترتيب لحكمةٍ بالغةٍ قضاها يستوجب الحمد على اقتضاها، فينبغي له أن يحافظ على هذه الحكمة إلا فيما ورد الشرع باستثنائه كصلاة الفجر يوم الجمعة فإنه يقرأ في الركعة الأولى سورة السجدة وفي الثانية سورة الإنسان وكذلك سنة الفجر فإنه يقرأ في الأولى الكافرون وفي الثانية سورة الإخلاص
قيل لابن مسعودٍ رضي الله تعالى عنه إن فلاناً يقرأ القرآن منكوساً قال: ذلك منكس القلب.
(15) استحباب قراءة القرآن مجتمعين:
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله و يتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة و غشيتهم الرحمة و حفتهم الملائكة و ذكرهم الله فيمن عنده.
(16) كراهية الاختلاف في كتاب الله تعالى:
(حديث جندب ابن عبد الله في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فيه فقوموا
(حديث ابن مسعود في صحيح البخاري) قال سمعت رجلاً قرأ آيةً سمعت من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلافها فأخذت بيده فأتيت به رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: كلاكما محسن، لا تختلفوا فإنه من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا.
(17) استحباب الجهر بالقراءة والإسرار بها على التفصيل الآتي:(8/136)
(إذا خاف على نفسه الرياء أو العجب والعياذ بالله كان الإسرار في حقه أفضل وعيه يحمل الحديث (حديث عقبة بن عامر في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة و المسر بالقرآن كالمسر بالصدقة.
معنى الحديث: أن المسرَّ بالقرآن أفضل لكي يأمن من العجب المحبط للعمل والعياذ بالله، وهذا محمول على من خاف على نفسه ذلك.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال: بلغني أن العبد يعمل العمل سراً فلا يزال به الشيطان حتى يغلبه فيكتب في العلانية، ثم لا يزال الشيطان به حتى يحب أن يحمد عليه فينسخ من العلانية فيثبت في الرياء.
(أما إذا لم يخف على نفسه الرياء والعجب فالجهر في حقه أفضل لأن نفعه متعدي، والمنفعة المتعدية أفضل من المنفعة اللازمة لأنه برفع صوته يوقظ غيره من نائم وغافل وينشطه وعليه الأحاديث الآتية
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به
(18) استحباب تحسين الصوت بالقرآن:
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ليس منا من لم يتغن بالقرآن.
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: لقد أُتيت مزماراً من مزامير آل داود. (حديث البراء في صحيحي أبي داوود والنسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال زينوا القرآن.
(حديث البراء في الصحيحين) قال سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في العشاء (والتين والزيتون) فما سمعت أحداً أحسن صوتً منه.
{تنبيه}: (بينت السنة الصحيحة أن أحسن الناس صوتاً بالقرآن هو الذي إذا سمعته يقرأ حسبته يخشى الله (حديث جابر في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن من أحسن الناس صوتا بالقرآن الذي إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله.
يستحب طلب القراءة الطيبة من إنسان حسن الصوت:
(حديث ابن مسعود في لصحيحين) قال، قال لي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اقرأ علي القرآن. فقلت يا رسول الله: أقرأ عليك وعليك أُنزل، قال: إني أحب أن أسمعه من غيري.
(19) تحريم الجدال في القرآن بغير حق:(8/137)
(حديث أبي هريرة في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: المراء في القرآن كفر.
{تنبيه}: (المقصود بالمراء هنا الجدال المشكك في القرآن والعياذ بالله تعالى من ذلك، وقيل الجدال الذي يفعله أهل الأهواء في آيات القدر ونحوها
(20) استحباب دعاء ختم القرآن:
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في كتابه التبيان في آداب حملة القرآن: يستحب الدعاء عقب ختم القرآن استحباباً متأكداً، وكان عبد الله بن ا لمبارك إذا ختم القرآن أكثر دعائه للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات
{تنبيه}: لم يذكر الإمام النووي فذلك دليلاً، وربما يستدلُ له بالحديث الآتي
(حديث عمران بن حصين في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قرأ القرآن فليسأل الله به فإنه سيجيء أقوام يقرءون القرآن يسألون به الناس.
- آداب حملة القرآن:
[*] (هاك بعض الآداب التي ينبغي لحامل القرآن أن يتحلى بها:
1) قال ابن مسعودٍ رضي الله تعالى عنه: ينبغي لحامل القرآن أن يُعرفَ بليله إذا الناس ينامون وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون.
2) وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار.
3) وقال الفضيل ابن عياض رحمه الله تعالى: حامل القرآن حامل راية الإسلام لا ينبغي له أن يلهو مع من يلهو ولا يسهو مع من يسهو ولا يلغو مع من يلغو تعظيماً لحق القرآن
4) ويجب على حامل القرآن أن يحافظ على تلاوته ويتعاهده باستمرار حتى لا ينساه:
((حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا من قلوب الرجال من الإبل من عقلها.
معنى تفصياً: أي تفلتاً
(حديث ابن مسعود في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال بئسما لأحدهم أن يقول: نسيت آية كيت و كيت بل هو نُسِيَ، واستذكروا القرآن فأنه أشدُّ تفصِّياً من صدور الرجال من النَّعم في عُقُلها.
معنى بل نُسِيَ: أي عوقب بالنسيان لتفريطه فاستذكار القرآن(8/138)
{تنبيه}: (لقد ضرب السلف الصالح أروع المثل في قراءة القرآن واستذكاره، فكان الكثير منهم يختمون كل ثلاث ليالٍ، وبعضهم كل ليلتين ومنهم من كان يختم في كل يومٍ وليلة، فمن الذين كانوا يختمون في كل يومٍ وليلة عثمان ابن عفان وتميم ابن أوس الداري وسعيد ابن جبير ومجاهد والشافعي.
(5) ويجب عليه أن يجاهد نفسه في مراجعة القرآن حتى يشربه كشرب اللبن:
(حديث عقبة ابن عامر في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال سيخرج أقوام من أمتي يشربون القرآن كشربهم اللبن.
{تنبيه}: (هنا سؤال يطرح نفسه ما الدليل على جواز ختم القرآن في يومٍ وليلة، خاصةً وأنه ورد في السنة الصحيحة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث؟
والجواب أن نقول بتوفيق الله:
أنه يجوز ختم القرآن في يومٍ وليلة لفعل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد أمرنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نتبع سنتهم وبيَّن أن سنتهم من سنته.
(حديث العرباض بن سارية في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال أوصيكم بتقوى الله و السمع و الطاعة و أن أمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ فعطف سنتهم على سنته فدل ذلك على أن سنتهم من سنته.
الرد على (حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث.
يكون من وجهين:
{الأول}: المقصود بالنفي هنا نفي الفقه لا نفي الثواب ولذا عبَّر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله (لا يفقه)
{الثاني}: ليس في الحديث دليلٌ على تحريم ختمه في أقل من ثلاث إذ لا يلزم من عدم فهم معناه تحريم قراءته.
(6) ينبغي لحامل القرآن أن يعتني بقراءة القرآن بالليل أكثر من النهار، وذلك لكونها أجمع للقلب وأثبت للحفظ لقوله تعالى: (إِنّ نَاشِئَةَ اللّيْلِ هِيَ أَشَدّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً) [المزمل / 6]
ولأنه بالليل يسهل طرد الشواغل عن الذهن، ثم إن الليل أصون من الرياء وغيره من المحبطات.(8/139)
(7) يجب على حامل القرآن أن لا يسافر بالمصحف إلى أرض العدو حتى لا يناله بسوء أو امتهان _ قسم الله ظهر من أعان على امتهان القرآن بشطر كلمة.
(حديث ابن عمر في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو.
- فضل بعض السور:
(فضل سورة الفاتحة:
بينت السنة الصحيحة أن سورة الفاتحة أعظم سورة في القرآن بنص السنة الصحيحة
(حديث أبي سعيد المعلي في صحيح البخاري) قال: قال لي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألا أعلمك أعظم سورةٍ في القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟ فأخذ بيدي، فلما أردنا أن نخرج قلت يا رسول الله إنك قلت لأعلمنَّك أعظمُ سورةٍ في القرآن، قال: الحمد لله رب العلمين هي السبعُ المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته.
(حديث بن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) قال بينما جبريل قاعد عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ * سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه فقال هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته.
(حديث أبي بن كعب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها وإنها سبع من المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته.
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: كنا في مسير لنا فنزلنا، فجاءت جارية فقالت: إن سيد الحلي سليم، وإن نفرنا غيب، فهل منكم راق؟ فقام معها رجل ما كنا نأبنه برقية، فرقاه فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة، وسقانا لبنا، فلما رجع قلنا له: أكنت تحسن رقية، أوكنت ترقي؟ قال: لا، ما رقيت إلا بأم الكتاب، قلنا: لا تحدثوا شيئا حتى نأتي، أو نسأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: (وما كان يدريه أنها رقية؟ اقسموا واضربوا لي بسهم.
(حديث عبادة بن الصامت الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب.(8/140)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: في كلٍ صلاة يُقرأ فما أسمعنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسمعناكم وما أخفى عنا أخفينا عنكم، وإن لم تزد عن أم الكتاب أجزأت وإن زِدت فهو خير.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثا غير تمام فقيل لأبي هريرة رضي الله عنه إنا نكون وراء الإمام فقال اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد! < الحمد لله رب العالمين >! قال الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال! < الرحمن الرحيم >! قال الله تعالى أثنى علي عبدي وإذا قال! < مالك يوم الدين >! قال مجدني عبدي وقال مرة فوض إلي عبدي فإذا قال! < إياك نعبد وإياك نستعين >! قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال! < اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين >! قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.
[معنى خداج أي فاسدة]
(فضل سورة البقرة:
(1) كفى في فضلها: أن الله تعالى قد جعلها عدلا للقرآن العظيم قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [سورة الحجر: 87] وأنه لا بد من قراءتها في الصلاة بحيث لا تغني عنها سائر السور، وأن الصلاة هي عماد الدين، وبها يمتاز المسلم عن الكافر. "
(حديث أبي سعيد المعلي في صحيح البخاري) قال: قال لي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألا أعلمك أعظم سورةٍ في القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟ فأخذ بيدي، فلما أردنا أن نخرج قلت يا رسول الله إنك قلت لأعلمنَّك أعظمُ سورةٍ في القرآن، قال: الحمد لله رب العلمين هي السبعُ المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته.
(2) فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة نوران أوتيهما النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يؤتهما نبي قبله:
(حديث بن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) قال بينما جبريل قاعد عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ * سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه فقال هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته.(8/141)
(3) ما أنزلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثل فاتحة الكتاب:
(حديث أبي بن كعب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها وإنها سبع من المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته.
(4) فاتحة الكتاب لها أثر بالغ في رقية المريض:
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: كنا في مسير لنا فنزلنا، فجاءت جارية فقالت: إن سيد الحلي سليم، وإن نفرنا غيب، فهل منكم راق؟ فقام معها رجل ما كنا نأبنه برقية، فرقاه فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة، وسقانا لبنا، فلما رجع قلنا له: أكنت تحسن رقية، أوكنت ترقي؟ قال: لا، ما رقيت إلا بأم الكتاب، قلنا: لا تحدثوا شيئا حتى نأتي، أو نسأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: (وما كان يدريه أنها رقية؟ اقسموا واضربوا لي بسهم.
(5) كفي بها فضلاً أن الصلاة لا تصح بغيرها:
(حديث عبادة بن الصامت الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: في كلٍ صلاة يُقرأ فما أسمعنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسمعناكم وما أخفى عنا أخفينا عنكم، وإن لم تزد عن أم الكتاب أجزأت وإن زِدت فهو خير.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثا غير تمام فقيل لأبي هريرة رضي الله عنه إنا نكون وراء الإمام فقال اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد! < الحمد لله رب العالمين >! قال الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال! < الرحمن الرحيم >! قال الله تعالى أثنى علي عبدي وإذا قال! < مالك يوم الدين >! قال مجدني عبدي وقال مرة فوض إلي عبدي فإذا قال! < إياك نعبد وإياك نستعين >! قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال! < اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين >! قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.
[معنى خداج أي فاسدة](8/142)
{تنبيه}: ( ... لا يجوز أن يحمل النفي في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب] على نفي الكمال لعموم الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج (ثلاثاً) غير تمام.
(6) بينت السنة الصحيحة أن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله شيطان.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لا تجعلوا بيوتكم مقابر وإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله شيطا ن.
(7) البقرة سنام القرآن:
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن لكل شيء سناما وسنام القرآن سورة البقرة , و إن الشيطان إذا سمع سورة البقرة تقرأ , خرج من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة ".
وسنام القرآن سورة البقرة: فهي السنام والذروة والقمة الشامخة.
(فضلُ آية الكرسي:
(1) بينت السنة الصحيحة أن آية الكرسي هي أعظم سورةٍ في القرآن:
(حديث أبي بن كعب في صحيح مسلم) قال، قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يا أبا المنذر أتدري أيُ آيةٍ من كتاب الله معك أعظم؟ قال قلت الله لا إله إلا هو الحي القيوم. قال فضرب في صدري وقال ليهنك العلم يا أبا المنذر.
(2) من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت:
(حديث أبي أمامة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت.
(3) آية الكرسي حرزٌ من الشيطان:(8/143)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: وكلني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة). قال: قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة، وعيالا فرحمته فخليت سبيله، قال: (أما إنه قد كذبك، وسيعود). فعرفت أنه سيعود، لقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنه سيعود). فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يا أباهريرة ما فعل أسيرك). قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا، فرحمته فخليت سبيله، قال: (أما إنه كذبك، وسيعود). فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات تزعم لا تعود، ثم تعود، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}. حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما فعل أسيرك البارحة). قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: (ما هي). قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}. وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير - فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة). قال: لا، قال: (ذاك شيطان).
(فضلُ خواتيم سورة البقرة:
(حديث أبي مسعودٍ الأنصاري في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلةٍ كفتاه.
معنى كفتاه: أي أغنتاه عن قيام تلك الليلة بالقرآن، والآيتان هما من قوله تعالى (آمن الرسول بما أنزل إليه 00000 إلى آخر السورة)
[*] قال النووي رحمه الله:
قيل: معنا كفتاه من قيام الليل، وقيل من الشيطان، وقيل من الآفات ويحتمل الجميع0(8/144)
(حديث حذيفة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أُعطيتُ الآيات من آخر سورة البقرة من كنزٍ تحت العرش لم يعطها نبيٌ قبلي.
(حديث بن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) قال بينما جبريل قاعد عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ * سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه فقال هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته.
نقيضا: أي صوتاً
(فضلُ سورتي البقرة وآل عمران:
(حديث أبي أمامة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه اقرءوا الزهراوين: البقرة و آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أصحابهما اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة و تركها حسرة و لا تستطيعها البطلة.
اقرءوا الزهراوين: أي النيرتين
قال النووي رحمه الله تعالى في شرح صحيح مسلم:
"و سميتا الزهراوين لنورهما و هدايتهما و عظيم أجرهما"
«كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان»: قال أهل اللغة: الغمامة والغياية كل شيء أظل الإنسان من فوق رأسه من سحابة وغبرة وغيرهما. نقله النووي. وفي القاموس: الغمامة: السحابة أو البيضاء من السحب. والغياية كل ما أظل الإنسان من فوق رأسه كالسحاب ونحوه. والمراد أن ثوابهما يأتي بهذا المنظر.
«أو كأنهما فرقان من طير صواف»: الفرقان والحزقان: معناهما واحد، وهما قطيعان وجماعتان، يقال في الواحد: فرق وحزق وحزيقه، أي جماعة، ومعنى «صواف»: باسطة أجنحتها ملتصق بعضها ببعض كما كانت تظلل سليمان عليه السلام، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تحاجان عن أصحابهما» أي تدافعان بالحجة عن أصحابهما.
«فإن أخذها بركة وتركها حسرة»: أي قراءتها بركة وترك قراءتها حسرة وخسارة.
أخذها بركة: أي زيادةٌ ونماء
وتركها حسرة: أي على ما فاته من الثواب
ولا تستطيعها البطلة:
«ولا تستطيعها البطلة» أي السحرة، تسمية لهم باسم فعلهم، لأن ما يأتون به الباطل، وإنما لم يقدروا على قراءتها ولم يستطيعوها لزيغهم عن الحق وانهماكهم في الباطل، ويصح أن يكون المعنى ولا يستطيع دفعها واختراق تحصينها لقارئها السحرة.(8/145)
وقيل: المراد من البطلة أهل البطالة، أي لا يستطيعون قراءتها وتدبر معانيها لكسلهم.
(ومن فضلُ سورتي البقرة وآل عمران أن فيهما اسم الله الأعظم:
(حديث أبي أمامة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (اسم الله الأعظم في ثلاث سور من القرآن البقرة وآل عمران وطه). قال القاسم فالتمستها فإذا هي آية الحي القيوم.
(فضلُ سورة هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون:
(حديث ابن عباس في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: شيبتني هود و الواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت ... .
{شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون والتكوير}: لما فيها من ذكر الأمم وما حل بهم من عاجل بأس الله، فأهل اليقين إذا تلوها انكشفت لهم من ملكه وسلطانه وبطشه وقهره ما تذهل منه النفوس وتشيب منه الرؤوس.
{تنبيه}: ( ... سورة هود احتوت على آية الأمر بالاستقامة قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سورة هود: 112] وهي حمل ثقيل بالأمر بالاستقامة كما أمر الله تعالى وهو أمر ليس خاصا به بل لمن اتبعه بقوله تعالى: {وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا}.
وأما سور المرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت فكلها وصف لشدائد يوم القيامة: يوما يجعل الولدان شيبا. وتنذر الناس إنذارا شديدا. ففي سورة المرسلات تكرار للويل للمكذبين عدة مرات وفي عمَّ يتساءلون وصف للقيامة بالنبأ العظيم وفي التكوير وصف للحوادث الكونية الرهيبة يوم القيامة وفي الواقعة كذلك فهي الخافضة الرافعة ووصف أحوال أصحاب أهل اليمين وأصحاب الشمال وأحوال السابقين السابقين اولئك المقربين.
(فضلُ سورة الكهف:
(1) من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال:
(حديث أبي الدر داء في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال.
(2) من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه و بين البيت العتيق:
(حديث أبي سعيد في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين.(8/146)
(حديث أبي سعيد في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه و بين البيت العتيق.
(3) تنزل السكينة بقراءتها كسائر القرآن:
(حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: كان رجلٌ يقرأ سورة الكهف، وإلى جانبه حصان مربوط بشطنين، فتغشته سحابة، فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر ذلك له، فقال: تلك السكينة تنزلت بالقرآن.
{تنبيه}: ( ... وقصص سورة الكهف أربعة هي: أهل الكهف، صاحب الجنتين، موسى عليه السلام والخضر وذو القرنين.
وهذه القصص الأربعة يربطها محور واحد وهو أنها تجمع الفتن الأربعة في الحياة:
فتنة الدين: (قصة أهل الكهف)،
فتنة المال: (صاحب الجنتين)،
فتنة العلم: (موسى عليه السلام والخضر)
وفتنة السلطة: (ذو القرنين).
وهذه الفتن شديدة على الناس والمحرك الرئيسي لها هو الشيطان الذي يزيّن هذه الفتن ولذا جاءت الآية (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) [الكهف: 50] وفي وسط السورة أيضاً. ولهذا قال الرسول أنه من قرأها عصمه الله تعالى من فتنة المسيح الدجّال لأنه سيأتي بهذه الفتن الأربعة ليفتن الناس بها.
وقصص سورة الكهف كل تتحدث عن إحدى هذه الفتن ثم يأتي بعده تعقيب بالعصمة من الفتن: وهاك القصص الأربعة
(1) فتنة الدين:(8/147)
قصة الفتية الذين هربوا بدينهم من الملك الظالم فآووا إلى الكهف حيث حدثت لهم معجزة إبقائهم فيه ثلاث مئة سنة وازدادوا تسعا وكانت القرية قد أصبحت كلها على التوحيد. ثم تأتي آيات تشير إلى كيفية العصمة من هذه الفتنة (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا * وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا) [الكهف 28 – 29].
فالعصمة من فتنة الدين تكون بالصحبة الصالحة وتذكر الآخرة.
(2) فتنة المال:
قصة صاحب الجنتين الذي آتاه الله كل شيء فكفر بأنعم الله وأنكر البعث فأهلك الله تعالى الجنتين. ثم تأتي العصمة من هذه الفتنة (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) [الكهف 45 و46]. والعصمة من فتنة المال تكون في فهم حقيقة الدنيا وتذكر الآخرة.
(3) فتنة العلم:
قصة موسى عليه السلام مع الخضر وكان موسى ظنّ أنه أعلم أهل الأرض فأوحى له الله تعالى بأن هناك من هو أعلم منه فذهب للقائه والتعلم منه فلم يصبر على ما فعله الخضر لأنه لم يفهم الحكمة في أفعاله وإنما أخذ بظاهرها فقط. وتأتي آية العصمة من هذه الفتنة (قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا) [الكهف:69].
والعصمة من فتنة العلم هي التواضع وعدم الغرور بالعلم.
(4) فتنة السلطة:(8/148)
قصة ذو القرنين الذي كان ملكاً عادلاً يمتلك العلم وينتقل من مشرق الأرض إلى مغربها عين الناس ويدعو إلى الله وينشر الخير حتى وصل لقوم خائفين من هجوم يأجوج ومأجوج فأعانهم على بناء سد لمنعهم عنهم وما زال السدّ قائماً إلى يومنا هذا. وتأتي آية العصمة (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف 103 و104]
فالعصمة من فتنة السلطة هي الإخلاص لله في الإعمال وتذكر الآخرة.
(5) ختام السورة: العصمة من الفتن:
آخر آية من سورة الكهف تركّز على العصمة الكاملة من الفتن بتذكر اليوم الآخرة (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف:110]
فعلينا أن نعمل عملاً صالحاً صحيحاً ومخلصاً لله حتى يَقبل، والنجاة من الفتن إنتظار لقاء الله تعالى.
ومما يلاحظ في سورة الكهف ما يلي:
(1) الحركة في السورة كثيرة (فانطلقا، فآووا، قاموا فقالوا، فابعثوا، ابنوا، بلغا، جاوزا، فوجدا، آتنا،) وكأن المعنى أن المطلوب من الناس الحركة في الأرض لأنها تعصم من الفتن ولهذا قال ذو القرنين: (فأعينوني بقوة) أي دعاهم للتحرك ومساعدته ولهذا فضل قراءتها في يوم الجمعة الذي هو يوم إجازة للمسلمين حتى تعصمنا من فتن الدنيا.
(2) وهي السورة التي ابتدأت بالقرآن وختمت بالقرآن: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا) [الكهف: 1] و (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) [الكهف: 109]. وكأن حكمة الله تعالى في هذا القرآن لا تنتهي وكأن العصمة من الفتن تكون بهذا القرآن والتمسك به.
(3) الدعوة إلى الله موجودة بكل مستوياتها:
فتية يدعون الملك وصاحب يدعو صاحبه ومعلّم يدعو تلميذه وحاكم يدعو رعيته.
(4) ذكر الغيبيات كثيرة في السورة:(8/149)
في كل القصص: عدد الفتية غيب وكم لبثوا غيب وكيف بقوا في الكهف غيب والفجوة في الكهف غيب، وقصة الخضر مع موسى عليه السلام كلها غيب، وذو القرنين غيب. وفي هذا دلالة على أن في الكون أشياء لا ندركها بالعين المجردة ولا نفهمها ولكن الله تعالى يدبّر بقدرته في الكون وعلينا أن نؤمن بها حتى لو لم نراها أو نفهمها وإنما نسلّم بغيب الله تعالى.
(وسميت السورة بـ (سورة الكهف): الكهف في قصة الفتية كان فيه نجاتهم مع إن ظاهره يوحي بالخوف والظلمة والرعب لكنه لم يكن كذلك إنما كان العكس (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا) آية 16. فالكهف في السورة ما هو إلا تعبير أن العصمة من الفتن أحياناً تكون باللجوء إلى الله حتى لو أن ظاهر الأمر مخيف. وهو رمز الدعوة إلى الله فهو كهف الدعوة وكهف التسليم لله ولذا سميت السورة (الكهف) وهي العصمة من الفتن.
(فضل سورة الفتح:
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال * لما نزلت! < إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله >! إلى قوله! < فوزا عظيما >! قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعا.
(فضلُ سورتي السجدة والملك:
(حديث جابر في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا ينام حتى يقرأ ألم تنزيل السجدة وتبارك الذي بيده الملك.
(حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لصاحبها حتى غُفر له: تبارك الذي بيده الملك.
(حديث ابن مسعود في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سورة تبارك هي المانعة من عذاب القبر.
(فضل المسبِّحات:
((حديث العِرْبَاضِ بن سَارِيَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لا يَنَامُ حتَّى يَقْرَأَ المسبِّحَاتِ, ويقُولُ: فيها آيةٌ خيرٌ مِنْ ألْفِ آيَةِ.
والمسبِّحاتِ: هي السور التي تُفتتح بقولَ تعالى بـ {سَبَّح َ} أو
{يُسَبِّح} وهى: [حديد, والحشر, والصف, والجمعة, والتغابن, والأعلى]
(فضل سورة التكوير والإنفطار والانشقاق:(8/150)
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:" من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأى عين فليقرأ إذا الشمس كورت وإذا السماء انفطرت وإذا السماء انشقت " 0
(فضل سورة الكوثر:
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أنزلت علي آنفآ سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم (إنآ أعطينك الكوثر * فصل لربك وأنحر * إن شانئك هو الابترُ)
أتدرون ما الكوثر؟ إنه نهر وعده ليه ربي، عليه خير كثير، هو حوضي ترد غليه أمتي يوم القيامة، آنيته كعدد النجوم، فيختلج العبد منهم فأقول: رب إنه من أمتي فيقول: ما تدري ما أحدثوا بعدك.
(فضلُ سورة الكافرون:
(حديث ابن عباس في صحيح الترمذي) {إذا زلزلت} تعدل نصف القرآن و {قل يا أيها الكافرون} تعدل ربع القرآن و {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن.
[*] قال الشيخ الألباني: صحيح دون فضل زلزلت
(حديث فروة بن نوفل في صحيح الترمذي) أن أتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال يا رسول الله علمني شيئاً أقوله إذا أويتُ إلى فراشي فقال: اقرأ {قل يا أيها الكافرون} عند منامك فإنها براءة من الشرك.
(فضل المعوذتين:
(حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: آيات أنزلت علي الليلة لم ير مثلهن قط قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس.
(فضلُ المُعَوِّذات:
(حديث عبد الله بن خبيب في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: {قل هو الله أحد} و المعوذتين حين تمسي و حين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء.
(فضلُ سورة الإخلاص:
(حديث أبي سعيدٍ الخدري في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن.
(حديث معاذ بن أنس الجهني في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قرأ {قل هو الله أحد} عشر مرات بنى الله له بيتا في الجنة.(8/151)
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: كان رجل من الانصار يؤمهم في مسجد قباء، وكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به، افتتح: {قل هو الله أحد}. حتى يفرغ منه، ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة، فكلمه أصحابه فقالوا: إنك تفتتح بهذه السورة، ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بأخرى، فأما أن تقرأ بها وأما أن تدعها وتقرأ بأخرى، فقال: ما أنا بتاركها، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت، وإن كرهتم تركتكم، وكانوا يرون أنه من أفضلهم وكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبروه الخبر، فقال: يا فلان ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك، وما يحملك على لزوم هذة السورة في كل ركعة؟. فقال: إني أحبها، فقال: حبك إياها ادخلك الجنة.
- رابعاً: فضلُ علم الفقه:
[*] (للفقه منزلةٌ عظيمةٌ بين العلوم وذلك للأسباب الآتية:
1) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أن من أراد الله به خيرا يفقهه في الدين:
(حديث معاوية في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين و إنما أنا قاسم و الله يعطي و لن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله عز و جل.
2) أن الإنسان لا يتسنى له التأسي بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العبادات والمعاملات إلا عن طريق الفقه، وبهذا يتضح أن الإنسان لا يستطيع أن يصحح عمله الذي يلقى به ربه إلا عن طريق الفقه.
3) أن الإنسان لا يستطيع أن يميز بين الحلال والحرام ولا التمييز بين الجائز والفاسد في وجوه الأحكام إلا عن طريق الفقه، فلربما وقع في الحرام وهولا يشعر وربما كان كسبه حرام وهو لا يشعر، ونضرب لذلك مثالاً يقع فيه كثير من الناس لعدم فقهم في المسألة وهي بيع الذهب بالذهب، فإن من المعلوم شرعاً أن شرطي بيع الذهب بالذهب أن يكون يداً بيد مثلاً بمثل كما سبق في كتاب البيوع، أي بيع خمسة جرامات بخمسة جرامات وأن يكون القبض في المجلس (يداً بيد)، فلو باع ذهب قديم بجديد ودفع الفرق لوقع في الربا وهو لا يشعر، ولو أجَّل القبض وقع في الربا لا محالة، فتأمل رحمك الله تعالى كيف يقع في الربا وهو لا يدري.
- خامساً: فضلُ علم الهدي والآداب:(8/152)
هذا الفرع من فروع العلم له أهمية بالغة لا بد لطالب العلم أن يهتم به اهتماماً بالغاً فقد كان السلف رحمهم الله تعالى يتعلمون الهَدْي كما يتعلمون العلم لأن هو الأدب، والعلم بلا أدب يجنى على صاحبه ويهلكه، وطالب العلم إن لم يكن مؤدباً متحلياً بالفضائل متخلياً عن الرذائل نفر الناس منه ولم يقبلوا موعظته
وقد بين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الهدي الصالح جزءٌ من النبوة.
(حديث ابن عباس في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: السمتُ الصالح والهدي الصالح و الاقتصاد جزء من خمسةٍ و عشرين جزءا من النبوة.
معنى السمت الصالح: حسن الهيئةِ في الدين
معنى الهدي الصالح: الأدب
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إن الهدى الصالح) بفتح الهاء وقد تكسر وسكون الدال الطريقة الصالحة قال الخطابي: وهدى الرجل حاله [ص 403] وسيرته
(والسمت الصالح) الطريق المنقاد
(والاقتصاد) أي سلوك القصد في الأمور والدخول فيها برفق وعلى سبيل تمكن إدامته (جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة) أي هذه الخصال منحها اللّه أنبيائه فهي من شمائلهم وفضائلهم فاقتدوا بهم فيها لا أن النبوة تتجزأ ولا أن جامعها يكون نبياً إذ النبوة غير مكتسبة (1) وتأنيث خمس على معنى الخصال.
(فصلٌ في منزلة الحكمة:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الحكمة
قال الله تعالى: {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} [البقرة: 269] وقال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] وقال عن المسيح عليه السلام: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ} [آل عمران: 48]
الحكمة في كتاب الله نوعان: مفردة ومقترنة بالكتاب،
فالمفردة: فسرت بالنبوة وفسرت بعلم القرآن،
(قال ابن عباس رضي الله عنهما: هي علم القرآن: ناسخة ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله.
(وقال الضحاك: هي القرآن والفهم فيه.
(وقال مجاهد: هي القرآن والعلم والفقه وفي رواية أخرى عنه: هي الإصابة في القول والفعل.
(وقال النخعي: هي معاني الأشياء وفهمها.
(وقال الحسن: الورع في دين الله كأنه فسرها بثمرتها ومقتضاها.(8/153)
(وأما الحكمة المقرونة بالكتاب: فهي السنة كذلك قال الشافعي وغيره من الأئمة وقيل: هي القضاء بالوحي وتفسيرها بالسنة أعم وأشهر، وأحسن ما قيل في الحكمة: قول مجاهد ومالك: «إنها معرفة الحق والعمل به والإصابة في القول والعمل» وهذا لا يكون إلا بفهم القرآن والفقه في شرائع الإسلام وحقائق الإيمان، والحكمة حكمتان: علمية وعملية.
(فالعلمية: الاطلاع على بواطن الأشياء ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها خلقا وأمرا قدرا وشرعا.
(والعلمية كما قال صاحب المنازل: وهي وضع الشيء في موضعه.
(فصلٌ في منزلة الفراسة:
[*] (عناصر الفصل:
(منزلة الفراسة من منازل السائرين إلى رب العالمين:
(أنواع الفراسة:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(منزلة الفراسة من منازل السائرين إلى رب العالمين:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الفراسة
قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75]
(قال مجاهد رحمه الله: المتفرسين.
(وقال ابن عباس رضي الله عنهما: للناظرين.
(وقال قتادة: للمعتبرين وقال مقاتل: للمتفكرين.
ولا تنافي بين هذه الأقوال فإن الناظر متى نظر في آثار ديار المكذبين ومنازلهم وما آل إليه أمرهم: أورثه فراسة وعبرة وفكرة وقال تعالى في حق المنافقين: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30]
فالأول: فراسة النظر والعين.
والثاني: فراسة الأذن والسمع وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: علق معرفته إياهم بالنظر على المشيئة ولم يعلق تعريفهم بلحن خطابهم على شرط بل أخبر به خبرا مؤكدا بالقسم فقال: ولتعرفنهم في لحن القول وهو تعريض الخطاب وفحوى الكلام ومغزاه و اللحن ضربان: صواب وخطأ فلحن الصواب نوعان أحدهما: الفطنة ومنه الحديث: ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض والثاني: التعريض والإشارة وهو قريب من الكناية ومنه قول الشاعر:
وحديث ألذه وهو مما يشتهي السامعون يوزن وزنا
منطق صائب وتلحن أحيانا وخير الحديث ما كان لحنا(8/154)
والثالث: فساد المنطق في الإعراب وحقيقته: تغيير الكلام عن وجهه: إما إلى خطإوإما إلى معنى خفي لم يوضع له اللفظ والمقصود: أنه سبحانه أقسم على معرفتهم من لحن خطابهم فإن معرفة المتكلم وما في ضميره من كلامه: أقرب من معرفته بسيماه وما في وجهه فإن دلالة الكلام على قصد قائله وضميره أظهر من السيماء المرئية والفراسة تتعلق بالنوعين بالنظر والسماع وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بور الله ثم تلا قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75]
(أنواع الفراسة:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
والفراسة ثلاثة أنواع: إيمانية وهي المتكلم فيها في هذه المنزلة
وسببها: «نور يقذفه الله في قلب عبده يفرق به بين الحق والباطل والحالي والعاطل والصادق والكاذب».
وحقيقتها: «أنها خاطر يهجم على القلب ينفي ما يضاده» يثب على القلب كوثوب الأسد على الفريسة لكن الفريسة فعيلة بمعنى مفعولة وبناء الفراسة كبناء الولاية والإمارة والسياسة وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان فمن كان أقوى إيمانا فهو أحد فراسة.
(قال أبو سعيد الخراز: من نظر بنور الفراسة نظر بنور الحق وتكون مواد علمه مع الحق بلا سهو ولا غفلة بل حكم حق جرى على لسان عبده.
(وقال الواسطي: الفراسة شعاشع أنوار لمعت في القلوب وتمكن معرفة جملة السرائر في الغيوب من غيب إلى غيب حتى يشهد الأشياء من حيث أشهده الحق إياها فيتكلم عن ضمير الخلق.
(وقال الدراني: الفراسة مكاشفة النفس ومعاينة الغيب وهي من مقامات الإيمان.
(وسئل بعضهم عن الفراسة فقال: أرواح تتقلب في الملكوت فتشرف على معاني الغيوب فتنطق عن أسرار الخلق نطق مشاهدة لا نطق ظن وحسبان.
(وقال عمرو بن نجيد: كان شاه الكرماني حاد الفراسة لا يخطيء ويقول: «من غض بصره عن المحارم وأمسك نفسه عن الشهوات وعمر باطنه بدوام بالمراقبه وظاهره باتباع السنة وتعود أكل الحلال: لم تخطىء فراسته».
(وقال أبو جعفر الحداد: الفراسة أول خاطر بلا معارض فإن عارضه معارض آخر من جنسه فهو خاطر وحديث نفس.(8/155)
(وقال أبو حفص النيسابوري: ليس لأحد أن يدعي الفراسة ولكن يتقي الفراسة من الغير لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" ولم يقل: تفرسوا وكيف يصح دعوى الفراسة لمن هو في محل اتقاء الفراسة.
(وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي: إذا جالستم أهل الصدق فجالسوهم بالصدق فإنهم جواسيس القلوب يدخلون في قلوبكم ويخرجون من حيث لا تحتسبون.
(وكان الجنيد يوما يتكلم على الناس فوقف عليه شاب نصراني متنكرا فقال: أيها الشيخ ما معنى قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" فأطرق الجنيد ثم رفع رأسه إليه وقال: أسلم فقد حان وقت إسلامك فأسلم الغلام.
(ويقال في بعض الكتب القديمة: إن الصديق لا تخطيء فراسته.
(وقال ابن مسعود رضي الله عنه: أفرس الناس ثلاثة: العزيز في يوسف حيث قال لامرأته: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وابنة شعيب حين قالت لأبيها في موسى: {اسْتَأْجِرْهُ} [القصص: 26] وأبو بكر في عمر رضي الله عنهما حيث استخلفه وفي رواية أخرى: وامرأة فرعون حين قالت: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} [القصص: 9](8/156)
(وكان الصديق رضي الله عنه أعظم الأمة فراسة وبعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه ووقائع فراسته مشهورة فإنه ما قال لشيء: أظنه كذا إلا كان كما قال ويكفي في فراسته: موافقته ربه في المواضع المعروفة ومر به سواد بن قارب ولم يكن يعرفه فقال لقد أخطأ ظني أو أن هذا كاهن أو كان يعرف الكهانة في الجاهلية فلما جلس بين يديه قال له ذلك عمر فقال: سبحان الله يا أمير المؤمنين ما استقبلت أحدا من جلسائك بمثل ما استقبلتني به فقال له عمر رضي الله عنه: ما كنا عليه في الجاهلية أعظم من ذلك ولكن أخبرني عما سألتك عنه فقال: صدقت يا أمير المؤمنين كنت كاهنا في الجاهلية ثم ذكر القصة، وكذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه صادق الفراسة وقال أنس ابن مالك رضي الله عنه: دخلت على عثمان بن عفان رضي الله عنه وكنت رأيت امرأة في الطريق تأملت محاسنها فقال عثمان رضي الله عنه: يدخل علي أحدكم وأثر الزنا ظاهر في عينيه فقلت: أوحي بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ولكن تبصرة وبرهان وفراسة صادقة، وفراسة الصحابة رضي الله عنهم أصدق الفراسة وأصل هذا النوع من الفراسة: من الحياة والنور اللذين يهبهما الله تعالى لمن يشاء من عباده فيحيا القلب بذلك ويستنير فلا تكاد فراسته تخطيء قال الله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122] كان ميتا بالكفر والجهل فأحياه الله بالإيمان والعلم وجعل له بالقرآن والإيمان نورا يستضيء به في الناس على قصد السبيل ويمشي به في الظلم.
(الفراسة الثانية: فراسة الرياضة والجوع والسهر والتخلي فإن
النفس إذا تجردت عن العوائق صار لها من الفراسة والكشف بحسب تجردها وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن والكافر ولا تدل على إيمان ولا على ولاية وكثير من الجهال يغتر بها وللرهبان فيها وقائع معلومة «وهي فراسة لا تكشف عن حق نافع ولا عن طريق مستقيم» بل كشفها جزئي من جنس فراسة الولاة وأصحاب عبارة الرؤيا والأطباء ونحوهم وللأطباء فراسة معروفة من حذقهم في صناعتهم ومن أحب الوقوف عليها فليطالع تاريخهم وأخبارهم وقريب من نصف الطب: فراسة صادقة يقترن بها تجربة والله سبحانه أعلم.
(الفراسة الثالثة: الفراسة الخلقية وهي التي صنف فيها الأطباء(8/157)
وغيرهم واستدلوا بالخلق على الخلق لما بينهما من الارتباط الذي اقتضته حكمة الله كالاستدلال بصغر الرأس الخارج عن العادة على صغر العقل وبكبره وبسعة الصدر وبعد ما بين جانبيه: على سعة خلق صاحبه واحتماله وبسطته وبضيقه على ضيقه وبخمود العين وكلال نظرها على بلادة صاحبها وضعف حرارة قلبه وبشدة بياضها مع إشرابه بحمرة وهو الشكل على شجاعته وإقدامه وفطنته وبتدويرها مع حمرتها وكثرة تقلبها على خيانته ومكره وخداعه ومعظم تعلق الفراسة بالعين فإنها مرآة القلب وعنوان ما فيه ثم باللسان فإنه رسوله وترجمانه وبالاستدلال بزرقتها مع شقرة صاحبها على رداءته وبالوحشة التي ترى عليها على سوء داخله وفساد طويته وكالاستدلال بإفراط الشعر في السبوطة على البلادة وبإفراطه في الجعودة على الشر وباعتداله على اعتدال صاحبه، وأصل هذه الفراسة: أن اعتدال الخلقة والصورة: هو من اعتدال المزاج والروح وعن اعتدالها يكون اعتدال الأخلاق والأفعال وبحسب انحراف الخلقة والصورة عن الاعتدال: يقع الانحراف في الأخلاق والأعمال هذا إذا خليت النفس وطبيعتها ولكن صاحب الصورة والخلقة المعتدلة يكتسب بالمقارنة والمعاشرة أخلاق من يقارنه ويعاشره ولو أنه من الحيوان البهيم فيصير من أخبث الناس أخلاقا وأفعالا وتعود له تلك طباعا ويتعذر أو يتعسر عليه الانتقال عنها وكذلك صاحب الخلقة والصورة المنحرفة عن الاعتدال يكتسب بصحبة الكاملين بخلطتهم أخلاقا وأفعالا شريفة تصير له كالطبيعة فإن العوائد والمزاولات تعطي الملكات والأخلاق
فليتأمل هذا الموضع ولا يعجل بالقضاء بالفراسة دونه فإن القاضي حينئذ يكون خطؤه كثيرا فإن هذه العلامات أسباب لا موجبة وقد تتخلف عنها أحكامها لفوات شرط أو لوجود مانع(8/158)
وفراسة المتفرس تتعلق بثلاثة أشياء: بعينه وأذنه وقلبه فعينه للسيماء والعلامات وأذنه: للكلام وتصريحه وتعريضه ومنطوقه ومفهومه وفحواه وإشاراته ولحنه وإيمائه ونحو ذلك وقلبه للعبور: والاستدلال من المنظور والمسموع إلى باطنه وخفيه فيعبر إلى ما وراء ظاهره كعبور النقاد من ظاهر النقش والسكة إلى باطن النقد والاطلاع عليه: هل هو صحيح أو زغل وكذلك عبور المتفرس من ظاهر الهيئة والدل إلى باطن الروح والقلب فنسبة نقده للأرواح من الأشباح كنسبة نقد الصيرفي ينظر للجوهر من ظاهر السكة والنقد وكذلك نقد أهل الحديث فإنه يمر إسناد ظاهر كالشمس على متن مكذوب فيخرجه ناقدهم كما يخرج الصيرفي الزغل من تحت الظاهر من الفضة، وكذلك فراسة التمييز بين الصادق والكاذب في أقواله وأفعاله وأحواله، وللفراسة سببان أحدهما: «جودة ذهن المتفرس وحدة قلبه وحسن فطنته».
والثاني: «ظهور العلامات والأدلة على المتفرس فيه» فإذا اجتمع السببان لم تكد تخطىء للعبد فراسة وإذا انتفيا لم تكد تصح له فراسة وإذا قوي أحدهما وضعف الآخر: كانت فراسته بين بين(8/159)
وكان إياس بن معاوية من أعظم الناس فراسة وله الوقائع المشهورة وكذلك الشافعي رحمة الله وقيل: إن له فيها تآليف ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أمورا عجيبة وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم ووقائع فراسته تستدعي سفرا ضخما أخبر أصحابه بدخول التتار الشام سنة تسع وتسعين وستمائة وأن جيوش المسلمين تكسر وأن دمشق لا يكون بها قتل عام ولا سبي عام وأن كلب الجيش وحدته في الأموال: وهذا قبل أن يهم التتار بالحركة ثم أخبر الناس والأمراء سنة اثنتين وسبعمائة لما تحرك التتار وقصدوا الشام: أن الدائرة والهزيمة عليهم وأن الظفر والنصر للمسلمين وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينا فيقال له: قل إن شاء الله فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا وسمعته يقول ذلك قال: فلما أكثروا علي قلت: لا تكثروا كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ: أنهم مهزومون في هذه الكرة وأن النصر لجيوش الإسلام قال: وأطعمت بعض الأمراء والعسكر حلاوة النصر قبل خروجهم إلى لقاء العدو وكانت فراسته الجزئية في خلال هاتين الواقعتين مثل المطر ولما طلب إلى الديار المصرية وأريد قتله بعد ما أنضجت له القدور وقلبت له الأمور: اجتمع أصحابه لوداعه وقالوا: قد تواترت الكتب بأن القوم عاملون على قتلك فقال: والله لا يصلون إلى ذلك أبدا قالوا: أفتحبس قال: نعم ويطول حبسي ثم أخرج وأتكلم بالسنة على رؤوس الناس سمعته يقول ذلك ولما تولى عدوه الملقب بالجاشنكير الملك أخبروه بذلك وقالوا: الآن بلغ مراده منك فسجد لله شكرا وأطال فقيل له: ما سبب هذه السجدة فقال: هذا بداية ذله ومفارقة عزه من الآن وقرب زوال أمره فقيل له: متى هذا فقال: لا تربط خيول الجند على القرط حتى تغلب دولته فوقع الأمر مثل ما أخبر به سمعت ذلك منه وقال مرة: يدخل علي أصحابي وغيرهم فأرى في وجوههم وأعينهم أمورا لا أذكرها لهم فقلت له أو غيري لو أخبرتهم فقال: أتريدون أن أكون معرفا كمعرف الولاة وقلت له يوما: لو عاملتنا بذلك لكان أدعى إلى الاستقامة والصلاح فقال: لا تصبرون معي على ذلك جمعة أو قال: شهرا وأخبرني غير مرة بأمور باطنة تختص بي مما عزمت عليه ولم ينطق به لساني وأخبرني ببعض حوادث كبار تجري في المستقبل ولم يعين أوقاتها وقد رأيت بعضها وأنا أنتظر بقيتها وما شاهده كبار أصحابه من ذلك أضعاف أضعاف ما شاهدته والله أعلم
(فصلٌ في منزلة التعظيم:(8/160)
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة التعظيم
وهذه المنزلة تابعة للمعرفة فعلى قدر المعرفة يكون تعظيم الرب تعالى في القلب وأعرف الناس به: أشدهم له تعظيما وإجلالا وقد ذم الله تعالى من لم يعظمه حق عظمته ولا عرفه حق معرفته ولا وصفه حق صفته وأقوالهم تدور على هذا فقال تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح: 13]
(قال ابن عباس ومجاهد: لا ترجون لله عظمة.
(وقال سعيد بن جبير: ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته.
(وقال الكلبي: لا تخافون لله عظمة.
(قال البغوي: و الرجاء بمعنى المخوف و الوقار العظمة اسم من التوقير وهو التعظيم.
(وقال الحسن: لا تعرفون لله حقا ولا تشكرون له نعمة.
(وقال ابن كيسان: لا ترجون في عبادة الله أن يثيبكم على توقيركم إياه خيرا. «وروح العبادة هو الإجلال والمحبة» فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت فإذا اقترن بهذين الثناء على المحبوب المعظم فذلك حقيقة الحمد والله سبحانه أعلم
(فصلٌ في منزلة السكينة:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة السكينة
هذه المنزلة من منازل المواهب لا من منازل المكاسب وقد ذكر الله سبحانه السكينة في كتابه في ستة مواضع:
الأولى: قوله تعالى: وقال لهم نبيهم: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 248]
الثاني: قوله تعالى {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 26]
الثالث: قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 40]
الرابع: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [الفتح: 4]
الخامس: قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح: 18](8/161)
السادس: قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 26] الآية وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذا اشتدت عليه الأمور: قرأ آيات السكينة وسمعته يقول في واقعة عظيمة جرت له في مرضه تعجز العقول عن حملها من محاربة أرواح شيطانية ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوة قال: فلما اشتد علي الأمر قلت لأقاربي ومن حولي: اقرأوا آيات السكينة قال: ثم أقلع عني ذلك الحال وجلست وما بي قلبة، وقد جربت أنا أيضا قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب مما يرد عليه فرأيت لها تأثيراً عظيما في سكونه وطمأنينته وأصل السكينة هي الطمأنينة والوقار والسكون الذي ينزله الله في قلب عبده عند اضطرابه من شدة المخاوف فلا ينزعج بعد ذلك لما يرد عليه ويوجب له زيادة الإيمان وقوة اليقين والثبات ولهذا أخبر سبحانه عن إنزالها على رسوله وعلى المؤمنين في مواضع القلق والاضطراب كيوم الهجرة إذ هو وصاحبه في الغار والعدو فوق رءوسهم لو نظر أحدهم إلى ما تحت قدميه لرآهما وكيوم حنين حين ولوا مدبرين من شدة بأس الكفار لا يلوي أحد منهم على أحد وكيوم الحديبية حين اضطربت قلوبهم من تحكم الكفار عليهم ودخولهم تحت شروطهم التي لا تحملها النفوس وحسبك بضعف عمر رضي الله عنه عن حملها وهو عمر حتى ثبته الله بالصديق رضي الله عنه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كل سكينة في القرآن فهي طمأنينة إلا التي في سورة البقرة، وفي الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: رأيت النبي ينقل من تراب الخندق حتى وارى التراب جلدة بطنه وهو يرتجز بكلمة عبد الله بن رواحة رضي الله عنه:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأولى قد بغوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا
وفي صفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الكتب المتقدمة: إني باعث نبيا أميا ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا متزين بالفحش ولا قوَّال للخنا أسدده لكل جميل وأهب له كل خلق كريم «ثم اجعل السكينة لباسه» والبر شعاره والتقوى ضميره والحكمة معقولة والصدق والوفاء طبيعته والعفو والمعروف خلقه والعدل سيرته والحق شريعته والهدى إمامه والإسلام ملته وأحمد اسمه.
(فصلٌ في منزلة الطمأنينة:(8/162)
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الطمأنينة
قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] وقال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 - 30]
الطمأنينة: «سكون القلب إلى الشيء وعدم اضطرابه وقلقه» ومنه الأثر المعروف: الصدق طمأنينة والكذب ريبة أي الصدق يطمئن إليه قلب السامع ويجد عنده سكونا إليه والكذب يوجب له اضطرابا وارتيابا ومنه قوله: البر ما اطمأن إليه القلب أي سكن إليه وزال عنه اضطرابه وقلقه وفي ذكر الله ها هنا قولان: أحدهما: أنه ذكر العبد ربه فإنه يطمئن إليه قلبه ويسكن فإذا اضطرب القلب وقلق فليس له ما يطمئن به سوى ذكر الله ثم اختلف أصحاب هذا القول فيه فمنهم من قال: هذا في الحلف واليمين إذا حلف المؤمن على شيء سكنت قلوب المؤمنين إليه واطمأنت ويروى هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما،
ومنهم من قال: بل هو ذكر العبد ربه بينه وبينه يسكن إليه قلبه ويطمئن، والقول الثاني: أن ذكر الله ههنا القرآن وهو ذكره الذي أنزله على رسوله به طمأنينة قلوب المؤمنين فإن القلب لا يطمئن إلا بالإيمان واليقين ولا سبيل إلى حصول الإيمان واليقين إلا من القرآن فإن سكون القلب وطمأنينته من يقينه واضطرابه وقلقه من شكه والقرآن هو المحصل لليقين الدافع للشكوك والظنون والأوهام فلا تطمئن قلوب المؤمنين إلا به وهذا القول هو المختار وكذلك القولان أيضا في قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]
(والصحيح: أن ذكره الذي أنزله على رسوله وهو كتابه من أعرض عنه: قيض له شيطانا يضله ويصده عن السبيل وهو يحسب أنه على هدى وكذلك القولان أيضا في قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]
(والصحيح: أنه ذكره الذي أنزله على رسوله وهو كتابه ولهذا يقول المعرض عنه: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً} قال: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 125126](8/163)
وأما تأويل من تأوله على الحلف: ففي غاية البعد عن المقصود فإن ذكر الله بالحلف يجري على لسان الصادق والكاذب والبر والفاجر والمؤمنون تطمئن قلوبهم إلى الصادق ولو لم يحلف ولا تطمئن قلوبهم إلى من يرتابون فيه ولو حلف وجعل الله سبحانه الطمأنينة في قلوب المؤمنين ونفوسهم وجعل الغبطة والمدحة والبشارة بدخول الجنة لأهل الطمأنينة فطوبى لهم وحسن مآب وفي قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} [الفجر: 27 - 28] دليل على أنها لا ترجع إليه إلا إذا كانت مطمئنة فهناك ترجع إليه وتدخل في عباده وتدخل جنته وكان من دعاء بعض السلف: اللهم هب لي نفسا مطمئنة إليك.
(فصلٌ في منزلة علو الهمة:
[*] (عناصر الفصل:
(علو الهمة من منازل السائرين إلى رب العالمين:
(تعريف علو الهمة:
(الحث على علو الهمة والتحذير من سقوطها:
(أقسام الهمة:
(مراتب الهمم:
(نماذج من الصحابة لعلو الهمة:
[*] (أسباب المؤدية لعلو الهمة:
[*] (ثمرات الهمة العالية:
[*] (وسائل ترقية الهمة:
[*] (مظاهر علو الهمة:
(كيفيَّة استثمار همم الناس:
[*] (محاذير أمام أهل الهمم العالية:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(علو الهمة من منازل السائرين إلى رب العالمين:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} منزلة الهمة وقد صدرها صاحب المنازل بقوله تعالى {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} وقد تقدم أنه صدر بها باب الأدب وذكرنا وجهه وأما وجه تصدير الهمة بها فهو الإشارة إلى أن همته ما تعلقت بسوى مشهوده وما أقيم فيه ولو تجاوزته همته لتبعها بصره والهمة فعلة من الهم وهو مبدأ الإرادة ولكن خصوها بنهاية الإرادة «فالهم مبدأها والهمة نهايتها»
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول في بعض الآثار الإلهية يقول الله تعالى إني لا أنظر إلى كلام الحكيم وإنما أنظر إلى همته قال والعامة تقول قيمة كل امرىء ما يحسن والخاصة تقول قيمة كل امرىء ما يطلب يريد أن قيمة المرء همته ومطلبه.(8/164)
قال صاحب المنازل: الهمة ما يملك الانبعاث للمقصود صرفا لا يتمالك صاحبها ولا يلتفت عنها، قوله يملك الانبعاث للمقصود أي يستولي عليه كاستيلاء المالك على المملوك وصرفا أي خالصا صرفا «والمراد أن همة العبد إذا تعلقت بالحق تعالى طلبا صادقا خالصا محضا فتلك هي الهمة العالية» التي لا يتمالك صاحبها أي لا يقدر على المهلة ولا يتمالك صبره لغلبة سلطانه عليه وشدة إلزامها إياه بطلب المقصود ولا يلتفت عنها إلى ما سوى أحكامها وصاحب هذه الهمة سريع وصوله وظفره بمطلوبه ما لم تعقه العوائق وتقطعه العلائق والله أعلم.
(تعريف علو الهمة:
الهمة في اللغة: ما هم به من الأمر ليفعل.
الهمة في الاصطلاح: الباعث على الفعل، وعرف بعضهم علو الهمة بأنه: استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور.
قال الشاعر مصوراً طموح المؤمن
إذا كنت في أمر مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم
[*] وعرف ابن القيم علو الهمة بقوله:
"علو الهمة ألا تقف -أي النفس- دون الله وألا تتعوض عنه بشيء سواه ولا ترضى بغيره بدلاً منه ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به والفرح والسرور والابتهاج به بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية، فالهمة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور لا يرضى بمساقطهم ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم، فإن الهمة كلما علت بعدت عن وصول الآفات إليها، وكلما نزلت قصدتها الآفات"
(الحث على علو الهمة والتحذير من سقوطها:
[*] قال الخليفة عمر الفاروق رضي الله عنه:
"لا تصغرنّ همتك فإني لم أر أقعد بالرجل من سقوط همته"
[*] وقال ابن القيم: "لا بد للسالك من همة تسيره وترقيه وعلم يبصره ويهديه"
[*] وقال ابن نباتة رحمه الله:
حاول جسيمات الأمور ولا تقل ... إن المحامد والعلى أرزاق
وارغب بنفسك أن تكون مقصرا ... عن غاية في الطلاب سباق
(أقسام الهمة:
تُقَسَّم الهمة تقسيمين فتقسم من حيث الرفعة وضدها إلى عالية وساقطة.
وتقسم من حيث الاستعداد الفطري إلى وهبية ومكتسبة.
وليس معنى أن منها ما هو فطري أنها لا سبيل لزيادة رفعتها بل هي مثل باقي الصفات العقلية والخلقية كالذكاء والذاكرة وحسن الخلق.
[*] قال ابن القيم:(8/165)
"وقد عرفت بالدليل أن الهمة مولودة مع الآدمي، وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات فإذا حثثت سارت ومتى رأيت في نفسك عجزاً فَسَلِ المنعم أو كسلاً فالجأ إلى الموفق، فلن تنال خيراً إلا بطاعته، ولن يفوتك خير إلا بمعصيته"
(مراتب الهمم:
(حديث أبي كبشة الأنماري الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ
رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَحسنِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْماً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الأجرِ سَوَاءٌ، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً فَهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ لاَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلاَ يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فهو بِأَسوءِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلاَ عِلْماً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الوزر سَوَاءٌ.
وعلى نحو هذا التقسيم والتمثيل النبوي ينقسم الناس وتتفاوت منازلهم في الهمة:
(1) منهم من يطلب المعالي بلسانه وليس له همة في الوصول إليها ويصدق عليه قول الشاعر:
وما نيل المطالب بالتمني ... ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
(2) ومنهم من لا يطلب إلا سفاسف الأمور ودناياها ويجتهد في تحصيلها، وهذا -إن اهتدى- يكون سباقاً للخيرات: "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا".
(3) وفريق ساقط الهمة يهوى سفاسف الأمور ويقعد به العجز عنها، فهو من سقط المتاع وهو كمن وصف الشاعر:
إني رأيت من المكارم حسبكم ... أن تلبسوا خز الثياب وتشبعوا
فإذا تذكرت المكارم يوما ... في مجلس أنتم به فتقنعوا
(4) وأعلى الهمم همة من تسمو مطالبه إلى ما يحبه الله ورسوله فهنيئاً له ومن أمثالهم الأسلمي وعكاشة بن محصن وبين كل مرتبتين مراتب كثيرة تتفاوت فيها الناس تفاوتاً بينا.
وإذا استعرضنا التاريخ نجد أن العلية من الناس والقادة الذين تركوا أثرهم في التاريخ هم أصحاب الهمم العالية.
(نماذج من الصحابة لعلو الهمة:(8/166)
(1) ربيعة ابن كعب الأسلمي: الذي سأل النبي مرافقته في الجنة.
(حديث ربيعة ابن كعب الأسلمي الثابت في صحيح مسلم) كنت آتي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوضوئه وحاجته فقال لي سلني فقلت أسألك مرافقتك في الجنة قال أو غير ذلك قلت هو ذاك قال فأعنى على نفسك بكثرة السجود.
(حديث ربيعة ابن كعب الأسلمي الثابت في صحيح مسلم) كنت آتي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوضوئه وحاجته فقال لي سلني فقلت أسألك مرافقتك في الجنة قال أو غير ذلك قلت هو ذاك قال فأعنى على نفسك بكثرة السجود.
(2) عكاشة بن محصن بادر فقال: "الذي سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... أن يكون من السبعين ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب.
(حديثُ ابن عباس في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: عُرِضت عليَّ الأمم فجعل يمرُ النبي معه الرجل والنبيُ معه الرجلان والنبي معه الرهط والنبي ليس معه أحد، ورأيتُ سواداً كثيراً سدَّ الأفق فرجوتُ أن تكون أمتي فقِيل هذا موسى وقومه، ثم قِيل ليَ انظر هكذا وهكذا فرأيتُ سواداً كثيراً سدَّ الأفق فقِيل هؤلاء أمتُك ومع هؤلاءِ سبعون ألفاً يدخلون الجنةَ بغيرِ حساب فتفرَّقَ الناسُ ولم يبينْ لهم، فتذاكرَ أصحابُ النبيِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا نحن وُلدنا في الشرك ولكن هؤلاء أبناؤنا، فبلغ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال {هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون} فقام عُكَّاشةُ ابن مِحصن فقال: أمنهم أنا يا رسولَ الله؟ قال: أنت منهم، فقام آخر فقال أمنهم أنا؟ قال: سبقك بها عُكَّاشة.
(حديث أَبَي أُمَامَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وعدني ربى أن يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِى سَبْعِينَ أَلْفاً لاَ حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلاَ عَذَابَ مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفاً وَثَلاَثُ حَثَيَاتٍ مِنْ حَثَيَاتِ ربيِ».
(3) أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه:
لعلوهِمَّتُهُ أراد يفعل أبواب الخير كلها ولا يقنع ببعضها دون الأخرى وذلك لأن نفسه التي بين جنبيه نفسٌ توَّاقةٌ للخير، فقد بلغت همَتُه عنان السماء وصار غارقاً في على الهمةِ إلى الأذقان، ولا عجب فإنه الصِّدِّيق صاحب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأفضل الأمة بع نبيها - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(8/167)
"ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة فهل يدعي أحد من تلك الأبواب كلها، قال نعم وأرجوا أن تكون منهم ... ".
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
من أنفق زوجين في سبيل الله، نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي وأمي يا رسول الله، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟. قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم.
من أنفق زوجين: اللَّهِ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ اثْنَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَدِرْهَمَيْنِ أَوْ دِينَارَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ دِينَارٌ وَدِرْهَمٌ وَمَعْنَى ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ أَقَلُّ مَا يَقَعُ بِهِ التَّكْرَارُ مِنَ الْعِبَادَةِ وَمَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ الْعَمَلَ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَنْ صَلَّى صَلَاتَيْنِ أَوْ صَامَ يَوْمَيْنِ أَوْ جَاهَدَ مَرَّتَيْنِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْإِنْفَاقِ فِيمَا قَدَّمْنَاهُ أَظْهَرُ وَلَفْظُ الْجِهَادِ وَالْغَزْوِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَظْهَرُ.
(نُودِيَ فِي الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ) يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ أَعَدَّهُ اللَّهُ لَك فَأَقْبِلْ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ هَذَا خَيْرُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ لَك لِأَنَّهُ فِي الْخَيْرِ وَالثَّوَابِ الَّذِي أُعِدَّ لَك.
فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ وَمَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ أَغْلَبَ أَعْمَالِهِ وَأَكْثَرَهَا وَقَدْ تَغْلِبُ عَلَى عَمَلِ الرَّجُلِ الصَّلَاةُ فَتَكُونُ أَكْثَرَ أَعْمَالِهِ وَيَغْلِبُ عَلَى أَعْمَالِهِ الصَّوْمُ فَيَكُونُ أَكْثَرَ أَعْمَالِهِ وَكَذَلِكَ الْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ فَمَنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَى عِبَادَتِهِ نَوْعٌ مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ نُودِيَ مِنْ الْبَابِ الْمُخْتَصِّ بِهِ(8/168)
(يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى مَنْ يُدْعَى مِنْ هَذِهِ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ ضَرُورَةٌ فِي أَنْ يُدْعَى مِنْ غَيْرِهَا وَأَنَّ الدُّعَاءَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهَا يَكْفِي فِي التَّنَاهِي فِي الْخَيْرِ وَسَعَةِ الثَّوَابِ لَكِنَّهُ مَعَ مَا فِي الدُّعَاءِ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَبْوَابِ مِنْ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ هَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ جَمِيعِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ الْخَيْرِ وَأَوْسَعُ مِنْ إنْعَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَنْ أَطَاعَهُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ وَمَنْ دُعِيَ مِنْ هَذِهِ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَهُ إِنَّ دُخُولَك مِنْ هَذَا الْبَابِ أَفْضَلُ مِنْ دُخُولِك عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَلَكِنَّهُ يُدْعَى بِأَنْ يُقَالَ لَهُ إِنَّ لَك هَاهُنَا خَيْرًا وَعَدَهُ اللَّهُ لَك لِعِبَادَتِك الْمُخْتَصَّةِ بِالدُّخُولِ عَلَى هَذَا الْبَابِ أَوْ لِعِبَادَتِك الَّتِي هِيَ سَبَبُ أَنْ تُدْعَى مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(وسؤال أبى بكر يريد به شخصا اجتمعت فيه خصال الخير من صلاة وصيام وصدقة وجهاد ونحو ذلك، بحيث يدعى من جميع تلك الأبواب.
[*] (أسباب المؤدية لعلو الهمة:
(1) الإخلاص:
فنسيان رؤية المخلوقين بدوام النظر إلي الخالق تبارك وتعالى يحث على الأخذ بمعالي الأمور؛ لأن الناقد بصير.
[*] يقول الإمام بن القيم رحمه الله:
لقاح الهمة العالية: النية الصالحة، فإذا اجتمعا بلغ العبد المراد.
(2) الصدق:
فالصادق في عزمه وفي فعله صاحب همة عالية وبصدقه في العزم والفعل يسعد في الدارين، فصدق العزيمة الجزم وعدم التردد، وصدق الفعل هو بذل الجهد واستفراغ الوسع لتحقيق ما عزم عليه، فيأمن صاحب العزم الصادق من ضعف الهمة والإرادة، و يمنعه صدقه في الفعل من الكسل والفتور.
(3) العلم:
فمن استوى عنده العلم والجهل، أو كان قانعا بحاله وما هو عليه، فكيف تكون له همة أصلا؟ فالعلم يرتقي بالهمة، ويرفع طالبه عن حضيض الجهل والتقليد ويصفي نيته.(8/169)
" والعلم يورث صاحبه الفقه بمراتب الأعمال، فتبقى فضول المباحات التي تشغله عن التعبد – كفضول الأكل والنوم – ويراعي التوازن والوسطية بين الحقوق والواجبات، امتثالا لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أعط كل ذي حقه حقه".
ويبصره بتحيل إبليس وتلبيسه عليه، كي يحول بينه وبين ما هو أعظم ثوابا ". (علو الهمة للشيخ محمد إسماعيل).
[*] قال ابن القيم رحمه الله:
إن السالك على حسب علمه بمراتب الأعمال ونفائس الكسب، تكون معرفته بالزيادة والنقصان في حاله وإيمانه.
(4) اليقظة والمسارعة:
بحيث يفارق العبد بيقظته جموع الغافلين، ويعرض عن أفعال الجاهلين ويخلع ثوب النوم والرقاد، فلا يقر له قرار حتى يسكن في جنة عرضها السموات والأرض:
فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيَّمُ
ولكننا سبيُ العدو فهل ترى نعود إلي أوطاننا ونُسَلَّمُ
فلا ينبغي لمن أراد الارتقاء بهمته أن يرتمي في أحضان الغافلين وإلا عضّ أسنة الندم.
دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذا الجوشن الضبابي بعد بدر إلى الإسلام، فقال: "هل لك إلى أن تكون من أوائل هذا الأمر؟ ". قال: لا. قال: "فما يمنعك منه؟ ". قال: رأيت قومك كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، فأنظر: فإن ظهرت عليهم آمنت بك واتبعتك، وإن ظهروا عليك لم أتبعك .. فكان ذو الجوشن يتوجع على تركه الإسلام حين دعاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذا ما علا المرء رام العلا ويقنع بالدون من كان دونا
(5) الحزم وعدم التردد:
فإن التردد يفوِّت على العبد الفوز بالخيرات، ويبقيه في مكانه في الوقت الذي يسير فيه الركب فيصل الحازم إلى مبتغاه،
وصدق القائل:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تترددا
وقال آخر:
ومشتت العزمات ينفق عمره حيران لا ظفرٌ ولا إخفاق
فلا تتوقف مترددا أو قلقا، ولا تضيع نفسك بالشكوك التي لا تلد إلا الشكوك، واستمع إلى قال تعالى: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتَوَكّلِينَ) [آل عمران / 159]
قال تعالى: (فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُواْ اللّهَ لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ) [محمد / 21]
(6) معرفة قيمة النفس وشرفها:(8/170)
وليس المقصود بهذا أن يغتر العبد أو يعجب بنفسه ويتكبر، إنما المقصود أن يعلم أنه في الخليقة شيء آخر لا يشبهه أحد، فيحرص على أن يرفع قيمته، ويغلي ثمنه بعمله الصالح، وبعلمه ونبوغه، واطلاعه ومثابرته وبحثه وتثقيف عقله، وصقل ذهنه، وإشعال الطموح في روحه، والنبل في نفسه؛ لتكون قيمته عالية وغالية.
فيا أيها الحبيب، يا من أسجد الله لك ملائكته بالأمس، وجعلهم اليوم في خدمتك، كم من ملك في السماوات ما ذاقوا غمضا ليس لهم رتبة: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع). كم من ملك في السماوات ما ذاقوا طعاما ولا شرابا ليس لهم شرف: "ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ". الملائكة تصلي عليك ما استقمت، وحملة العرش يستغفرون لك، يا هذا فتش عن نفسك، واعرف قدرها تسم بهمتك إلى العظيم.
(7) الدعاء:
وإنما جعلناه خاتمة الأسباب التي نتحدث عنها في هذا المقال لأنه الباب الأوسع والأقرب للفوز بأنواع الخيرات، وهو باب لا منازع فيه، فإنه ليس شيء أكرم على الله من الدعاء، وإن أعجز الناس من عجز عن الدعاء بنص السنة الصحيحة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أبخل الناس من بخل بالسلام وأعجز الناس من عجز عن الدعاء.
(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ليس شيء أكرم على الله من الدعاء.
فادخل على مولاك من باب الذل والافتقار، وناجه:
إلهي وسيدي ومولاي، أنت أصلحت الصالحين وأعليت هممهم فاجعلنا منهم وألحقنا بهم في عليين.
[*] (ثمرات الهمة العالية:
(1) تحقيق كثير من الأمور التي يعدها عامة الناس خيالاً يتحقق ومن أمثلة ذلك بناء أمة مؤمنة في الجزيرة العربية التي يشيع فيها الجهل والشرك وذلك في فترة وجيزة، وابن ياسين استطاع أن يقود بعصابة قليلة من أصحابه المربِّيين دولة انتصرت على جيوش الأسبان بعد استشهاده،
(2) الوصول إلى مراتب عليا في العبادة والزهد.
قال معاذ رضي الله عنه على فراش الموت: "اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا ولا طول المكث فيها لجري (لعله لكري) الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن كنت أحب البقاء لمكابدة الليل الطويل وظمأ الهواجر في الحر الشديد ولمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر" ... .
(3) البعد عن سفاسف الأمور ودناياها:(8/171)
لما فرَّ عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس من العباسيين أهديت إليه جارية جميلة فنظر إليها وقال: "إن هذه من القلب والعين بمكان وإن أنا اشتغلت عنها بهمتي فيما أطلبه ظلمتها، وإن اشتغلت بها عن ما أطلبه ظلمت همتي، ولا حاجة لي بها الآن وردها على صاحبها".
(4) صاحب الهمة العالية يُعْتَمَدُ عليه وتناط به الأمور الصعبة وَتُوكَلُ إليه:
وهذا أمر مشاهد معروف فإن المديرين والرؤساء عادة يطمحون للعمل مع صاحب الهمة العالية ويستعدون للتضحية معه حتى ولو كلفهم ذلك الكثير. وقد قيل: "ذو الهمة وإن حط نفسه تأبى إلا العلو، كالشعلة من النار يخفيها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعاً".
(5) صاحب الهمة العالية يستفيد من حياته أعظم استفادة وتكون أوقاته مثمرة بناءة.
[*] وقال الإمام ابن عقيل الحنبلي:
إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة وبصري عن مطالعة أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح".
[*] وكان الإمام النووي يقرأ كل يوم اثني عشر درساً شرحاً وتصحيحاً، ويقول لتلميذه بارك الله في وقتي.
ويقول د. مَارْدِن: "كل رجل ناجح لديه نوع من الشباك يلتقط به نحاتات وقراضات الزمان، ونعني بها فضلات الأيام والأجزاء الصغيرة من الساعات مما يكنسه معظم الناس بين مهملات الحياة. وإن الرجل الذي يَدَّخِرُ كل الدقائق المفردة وأنصاف الساعات والأعياد غير المنتظرة والفسحات التي بين وقت وآخر، والفترات التي تنقضي في انتظار أشخاص يتأخرون عن مواعيد مضروبة لهم، ويستعمل كل هذه الأوقات ويستفيد منها ليأتي بنتائج باهرة يدهش لها الذين لم يفطنوا لهذا السر العظيم الشأن"
(6) صاحب الهمة العالية قدوة للناس.
(7) تغيير طريقة حياة الشعوب والأفراد:
[*] يقول الشيخ محمد الخضر حسين:
"يسموا هذا الخلق بصاحبه إلى النهايات من معالي الأمور فهو الذي ينهض بالضعيف فإذا هو عزيز كريم، ويرفع القوم من السقوط ويبدلهم بالخمول نباهة وبالاضطهاد حرية وبالطاعة العمياء شجاعة أدبية ... أما صغير الهمة فإنه يَبْصُر بخصومه في قوة وسطوة فيذوب أمامهم رهبة، ويطرق إليهم رأسه حطة ثم لا يَلْبَثُ أن يسير في ركبهم ويسابق إلى حيث تحط أهواؤهم".
[*] (وسائل ترقية الهمة:
(1) المجاهدة:
قال تعالى: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا".
(2) الدعاء الصادق والالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى.
(3) اعتراف الشخص بقصور همته.(8/172)
وهذا يستلزم أيضاً أن لا ينكر أنه قادر على تغيير همته وتطويرها إلى الأحسن.
4 – قراءة سيرة السلف الصالح.
[*] يقول ابن القيم: " ... ولقد نظرت في ثبت الكتب الموقوفة في المدرسة النظامية فإذا هو يحتوي على نحو ستة آلاف مجلد وفي ثبت كتب أبي حنيفة وكتب الحميدي و ... فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم وقدر هممهم وحفظهم وعبادتهم وغرائب علومهم ما لا يعرفه من لم يطالع فصرت أستزري ما الناس فيه وأحتقر همم الطلاب ولله الحمد".
[*] وقال محمد بن علي الأسلمي: قمت ليلة سَحراً لآخذ النوبة على ابن الأَخْرَمِ فوجدت قد سبقني ثلاثون قارئاً ولم تدركني النوبة إلى العصر.
(5) مصاحبة صاحب الهمة العالية.
(6) مراجعة جدول الأعمال اليومي ومراعاة الأولويات والأهم فالمهم.
(7) التنافس والتنازع بين الشخص وهمته.
ومعنى ذلك أن على مريد تطوير همته أن يحمل نفسه أعباءً وأعمالاً يومية لم تكن موجودة في حياته بحيث يحدث نوع من التحدي داخل النفس، ويجب أن تكون هذه الإضافة مدروسة بعناية وإحكام حتى لا يصاب الشخص بالإحباط.
(8) الدأب في تحصيل الكمالات والتشوق إلى المعرفة يقول عمر بن عبد العزيز رحمهُ الله: "إن نفسي تواقة وإنها لم تعط من الدنيا شيئاً إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه ... "
(9) الابتعاد عن كل ما من شأنه الهبوط بالهمة وتضييعها مثل:
أ – كثرة الزيارات للأقارب بدون هدف شرعي صحيح ولا غرض دنيوي فيه فائدة معتبرة.
ب – كثرة الزيارات للأصحاب فيكثر المزاح وتقل الفائدة.
ج – الانهماك في تحصيل المال بدعوى التجارة وحيازة المال النافع للإسلام وأهله، ثم ينقلب الأمر إلى تحصيل محض للدنيا وانغماس فيها.
د – تكليف الموظف نفسه بعملين صباحي ومسائي دون ضرورة لذلك.
هـ - كثرة التمتع بالمباحات.
و – الاستجابة للصوارف الأسرية استجابة كلية أو شبه كلية.
[*] يقول محمد بن حسن موسى:
"وقد دخلت علينا في حياتنا الأسرية كثير من التقاليد الغريبة في أمر الاحتفاء الزائد بالأهل والأولاد ودعوى ضرورة بناء مستقبلهم وغير ذلك مما حاصله نسيان الكفالة الإلهية والضمان الرباني"
ز – التسويف قال الشاعر:
ولا أؤخر شغل اليوم عن كسلٍ ... إلى غدٍ إن يوم العاجزين غَدُ
ح – الكسل والفتور.
قال الصاحب: "إن الراحة حيث تعب الكرام أوْدَع لكنها أوضع والقعود حيث قام الكرام أسعل لكنه أسفل" (21) وقال الشاعر:
كأن التواني أنكح العجز بنته ... وساق إليها حين أنكحها مهرا(8/173)
فراشاً وطيئاً ثم قال له اتكئ ... فَقُصْراكما لا شك أن تلدا فقرا
ط – مُلاحظة الخلق وتقليدهم والاقتداء بهم، فأكثر الخلق مفرطون.
[*] (مظاهر علو الهمة:
(1) تحرقه على ما مضى من أيامه وكأنه لم يكن قط صاحب الهمة المتألق المنجز لكثير من الأمور.
(2) كثرة همومه وتألمه لحالة المسلمين.
(3) موالاته النصيحة وتقديم الحلول والاقتراحات لمن يرجو منهم التغيير والإصلاح.
(4) طلبه للمعالي دائماً.
(5) كثرة شكواه من ضيق الوقت.
(6) قوة عزمه وثبات رأيه وقلة تردده، فهو إذا قرر أمراً راشداً لا يسرع بنقضه، بل يستمر فيه ويثبت عليه حتى يقضيه ويجني ثمرته، ولا شك أن كثرة التردد ونقض الأمر من بعد إبرامه من علامات تدني الهمة.
لكل إلى شأو العُلا حركات ... ولكن قليل في الرجال الثبات
(كيفيَّة استثمار همم الناس:
للناس ثلاثة أقسام:
(1) قسم ضائع مضيع يترك إلى حين إفاقته.
(2) قسم محافظ على الفرائض.
(فهذا القسم إن كان من أهل اليسار والغنى يوجه إلى المشاركة والتنافس في أعمال الخير العامة مثل بناء المساجد وإغاثة المنكوبين ومساعدة الجمعيات والهيئات الإسلامية الخيرية.
(وإن كانوا من ذوي الدخول المتوسطة يوجهون إلى سماع الدروس والخطب التي يعدها خطباء مرموقون.
(التوضيح والتنبيه والقيام بالنصيحة وبيان أن باستطاعتهم توجيه جهودهم إلى ما هو أنفع.
(توجيههم للقراءة النافعة.
(3) قسم – وهو المعول عليه بعد الله سبحانه وتعالى – ملتزم بدينه ومحافظ عليه يطمح إلى القيام بما يجب عليه وهذا يوجه إلىالدعوة إلى الله تعالى على بصيرة وحمل هم هذا الدين.
[*] (محاذير أمام أهل الهمم العالية:
(1) صاحب الهمة العالية تحلق به همته دائماً فتأمره بإنجاز كثير من الأعمال المتداخلة في وقت واحد فليطعها بقدر ولا يستبعد ما تأمره به وفي الوقت نفسه لا يَقُمْ به كلِّها بل يأخذ منه بقدر ما يعرف من إسعاف همته له بالقيام به.
(2) صاحب الهمة العالية معرض لنصائح تثنيه عن همته وتحاول أن تذكره دائماً بأنه ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ... فالحصيف لا يلتفت إلى هذه النصائح إلا بقدر.
[*] قال ابن نباتة السعدي:
أعاذلتي على إتعاب نفسي ... ورعيي في الدجى روض السهادِ
إذا شام الفتى برق المعالي ... فأهون فائت طيب الرقادِ
(3) صاحب الهمة معرض لسهام العين والحسد فعليه بالأذكار المأثورة ليدرأ عن نفسه ما قد يصيبه.(8/174)
(4) صاحب الهمة تعتريه فترْة وضعف قليل لما يراه من تدني همم غالب الخلق فلا يحزن وليوطن نفسه على الإحسان والنصيحة.
(5) أهل الهمة العالية قد يكونون مفرطين في بعض الأمور التي ربما لا يرون فيها تعلقاً مباشراً بعلو هممهم مثل حقوق الأهل والأقارب، فعلى من أصيب بشيء من ذلك أن يصلحه ولو بالقدر الذي يبعد عنه سهام اللائمين.
(6) قد تؤدي الهمة العالية بصاحبها إلى التحمس الزائد فيستعجل ويرتكب من الأخطاء ما كان يمكن تلافيه بقليل من التعقل وحساب العواقب، وعلى من وقع في مثل هذا أن يعرف السنن الكونية، وأن الأمر لا يحسم بين عشية وضحاها.
(7) أهل الهمة العالية قد يتعرضون لإثارة الخلافات الفقهية بينهم فينتج عن ذلك الذم والمقت، ومن أصبح ذلك ديدنه فستتخلف همته وتقعد به عن معالي الأمور.
(8) قد يتعرض صاحب الهمة إلى عدم المداومة مع أن أبرز سمات صاحب الهمة العالية المداومة وعدم الانقطاع فإن أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قل بنص السنة الصحيحة.
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: خيرُ الأعمال أدومها وإن قل.
(فهمة متوسطة العلو تدوم خير من همة عزيمة متقطعة
[*] يقول أبو المواهب بن صَرْصَرَى:
لم أَرَ مِثْل أبي القاسم ابن عساكر ولا من اجتمع فيه ما اجتمع فيه من لزوم طريقة واحدة مدة أربعين سنة من لزوم الصلوات في الصف الأول إلا من عذر والاعتكاف في شهر رمضان وعشر ذي الحجة وعدم التطلع إلى تحصيل الأملاك وبناء الدور فقد أسقط عن نفسه ذلك.
[*] وقال أبو العباس ثعلبٌ:
"ما فقدت إبراهيم الحربي من مجلس لغة ولا نحو خمسين سنة"
(فصلٌ في منزلة الغَيْرَة:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الغيرة، قال
الله تعالى {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33]
(ثم ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله الأحاديث الآتية:(8/175)
(حديث سعد بن عبادة الثابت في الصحيحين) أنه قال: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَّحٍ، فبلغ ذلك النبي فقال: (أتعجبون من غيرة سعد، لأنا أغيَر منه، والله أغيَر مني، ومن أجل غيرة الله حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين، ولا أحد أحب إليه المدحة من الله، ومن أجل ذلك وعد الله الجنة).
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله.
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
والغيرة بفتح الغين وهي في حقنا الأنفة، وأما في حق الله تعالى فقد فسرها هنا في حديث عمر والناقد بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه أي غيرته منعه وتحريمه.
(ثم قال رحمه الله تعالى:
ومما يدخل في الغيرة قوله تعالى {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً} قال السري لأصحابه أتدرون ما هذا الحجاب حجاب الغيرة ولا أحد أغير من الله إن الله تعالى لم يجعل الكفار أهلا لفهم كلامه ولا أهلا لمعرفته وتوحيده ومحبته فجعل بينهم وبين رسوله وكلامه وتوحيده حجابا مستورا عن العيون غيرة عليه أن يناله من ليس أهلا له والغيرة منزلة شريفة عظيمة جدا جليلة المقدار ولكن الصوفية المتأخرين منهم من قلب موضوعها وذهب بها مذهبا آخر باطلا سماه غيرة فوضعها في غير موضعها ولبس عليه أعظم تلبيس كما ستراه، «والغيرة نوعان غيرة من الشيء وغيرة على الشيء» والغيرة من الشيء هي كراهة مزاحمته ومشاركته لك في محبوبك والغيرة على الشيء هي شدة حرصك على المحبوب أن يفوز به غيرك دونك أو يشاركك في الفوز به، والغيرة أيضا نوعان غيرة العبد من نفسه على نفسه كغيرته من نفسه على قلبه ومن تفرقته على جمعيته ومن إعراضه على إقباله ومن صفاته المذمومة على صفاته الممدوحة «وهذه الغيرة خاصية النفس الشريفة الزكية العلوية وما للنفس الدنية المهينة فيها نصيب»(8/176)
وعلى قدر شرف النفس وعلو همتها تكون هذه الغيرة ثم الغيرة أيضا نوعان غيرة الحق تعالى على عبده وغيرة العبد لربه لا عليه فأما غيرة الرب على عبده فهي أن لا يجعله للخلق عبدا بل يتخذه لنفسه عبدا فلا يجعل له فيه شركاء متشاكسين بل يفرده لنفسه ويضن به على غيره وهذه أعلى الغيرتين، وغيرة العبد لربه نوعان أيضا غيرة من نفسه وغيرة من غيره فالتي من نفسه أن لا يجعل شيئا من أعماله وأقواله وأحواله وأوقاته وأنفاسه لغير ربه والتي من غيره أن يغضب لمحارمه إذا انتهكها المنتهكون ولحقوقه إذا تهاون بها المتهاونون وأما الغيرة على الله فأعظم الجهل وأبطل الباطل وصاحبها من أعظم الناس جهلا وربما أدت بصاحبها إلى معاداته وهو لا يشعر وإلى انسلاخه من أصل الدين والإسلام وربما كان صاحبها شرا على السالكين إلى الله من قطاع الطريق بل هو من قطاع طريق السالكين حقيقة وأخرج قطع الطريق في قالب الغيرة وأين هذا من الغيرة لله التي توجب تعظيم حقوقه وتصفية أعماله وأحواله لله فالعارف يغار لله والجاهل يغار على الله فلا يقال أنا أغار على الله ولكن أنا أغار لله وغيرة العبد من نفسه أهم من غيرته من غيره فإنك إذا غرت من نفسك صحت لك غيرتك لله من غيرك وإذا غرت له من غيرك ولم تغر من نفسك فالغيرة مدخولة معلولة ولا بد فتأملها وحقق النظر فيها فليتأمل السالك اللبيب هذه الكلمات في هذا المقام الذي زلت فيه أقدام كثير من السالكين والله الهادي والموفق المثبت.
كما حكى عن واحد من مشهوري الصوفية أنه قال لا أستريح حتى لا أرى من يذكر الله يعني غيرة عليه من أهل الغفلة وذكرهم والعجب أن هذا يعد من مناقبه ومحاسنه وغاية هذا أن يعذر فيه لكونه مغلوبا على عقله وهو من أقبح الشطحات «وذكر الله على الغفلة وعلى كل حال خير من نسيانه بالكلية» والألسن متى تركت ذكر الله الذي هو محبوبها اشتغلت بذكر ما يبغضه ويمقت عليه فأي راحة للعارف في هذا وهل هو إلا أشق عليه وأكره إليه.
وقول آخر: لا أحب أن أرى الله ولا أنظر إليه فقيل له كيف قال غيرة عليه من نظر مثلي.
«فانظر إلى هذه الغيرة القبيحة الدالة على جهل صاحبها» مع أنه في خفارة ذله وتواضعه وانكساره واحتقاره لنفسه ومن هذا ما يحكى عن الشبلي أنه لما مات ابنه دخل الحمام ونور لحيته حتى أذهب شعرها كله فكل من أتاه معزيا قال إيش هذا يا أبا بكر قال وافقت أهلي في قطع شعورهم فقال له بعض أصحابه أخبرني لم فعلت هذا؟(8/177)
فقال علمت أنهم يعزونني على الغفلة ويقولون آجرك الله ففديت ذكرهم لله على الغفلة بلحيتي «فانظر إلى هذه الغيرة المحرمة القبيحة» التي تضمنت أنواعا من المحرمات حلق الشعر عند المصيبة وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "ليس منا من حلق وسلق وخرق.
أي حلق شعره ورفع صوته بالندب والنياحة وخرق ثيابه" ومنها حلق اللحية وقد أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإعفائها وتوفيرها ومنها منع إخوانه من تعزيته ونيل ثوابها ومنها كراهته لجريان ذكر الله على ألسنتهم بالغفلة وذلك خير بلا شك من ترك ذكره فغاية صاحب هذا أن تغفر له هذه الذنوب ويعفى عنه وأما أن يعد ذلك في مناقبه وفي الغيرة المحمودة فسبحانك هذا بهتان عظيم،
(ومن هذا ما ذكر عن أبي الحسين النوري أنه سمع رجلا يؤذن فقال طعنه وسم الموت وسمع كلبا ينبح فقال لبيك وسعديك فقالوا له هذا ترك للدين وصدقوا والله يقول للمؤذن في تشهده طعنه وسم الموت ويلبي نباح الكلب فقال أما ذاك فكان يذكر الله عن رأس الغفلة وأما الكلب فقد قال تعالى {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} فيالله ماذا ترى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يواجه هذا القائل لو رآه يقول ذلك أو عمر بن الخطاب أو من عد ذلك في المناقب والمحاسن وسمع الشبلي رجلا يقول جل الله فقال أحب أن تجله عن هذا.
وأذن مرة فلما بلغ الشهادتين قال لولا أنك أمرتني ما ذكرت معك غيرك، وقال بعض الجهال من القوم لا إله إلا الله من أصل القلب ومحمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من القرط ونحن نقول محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تمام قول لا إله إلا الله فالكلمتان يخرجان من أصل القلب من مشكاة واحدة لا تتم إحداهما إلا بالأخرى.
(فصلٌ في منزلة حياة القلب:
[*] (عناصر الفصل:
(مكانة القلب وأهميته:
(سرعة تقلب القلب:
(تفقد أحوال القلب وتجديد الإيمان فيه:
(الاعتناء بتطهير القلب وتنقيته وتزكيته:
(كيف يقوى القلب؟
(استقامة القلب:
(غفلة الناس عن أهمية تطهير القلب وتنقيته وتزكيته:
(حراسة القلب من التعرض بالشواغل والفتن:
(أنواع القلوب وأقسامها:
(المقصود بحياة القلب:
(حياة القلب وإشراقه مادة كل خير فيه:
(متى تحصل حياة القلب:
(أسباب حياة القلب وأغذيته النافعة:
(أدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه:
(علاج قسوة القلب:
(زكاة القلب:
(طهارة القلب من أدرانه ونجاساته:
(امتحان القلوب:
(مواطن امتحان القلوب:
(ذكر ما يصدأ به القلب:(8/178)
(ذكر الواعظ من القلب:
(أمراض القلب:
(علامات مرض القلب وصحته:
(من أمراض القلوب:
(علاج أمراض القلوب:
(مفسدات القلب:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(مكانة القلب وأهميته:
القلب ملك الأعضاء فالقلب هو الموجه والمخطط، والأعضاء والجوارح تنفذ.
يقول أبو هريرة رضي الله عنه"القلب ملك، والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث القلب خبثت جنوده". (1).
إن سلامة القلب وخلوصه سبب لسعادة الدنيا والآخرة، فسلامة القلب من الغل والحسد والبغضاء وسائر الأدواء سبب للسعادة والطمأنينة في الدنيا والآخرة: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [سورة الشعراء، الآيتان: 88، 89]. وانظر إلى حال أبي بكر رضي الله عنهوغيره ممن رزق قلبا سليما، خاليا من الضغائن والعلل.
(الأدلة على مكانة القلب:
ما أعطي الله لهذا القلب من مكانه في الدنيا والآخرة، وانظر إلى أدلة ذلك من كتاب الله وسنة رسوله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
1 - يقول الله -تعالى- على لسان نبيه إبراهيم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [سورة الشعراء، الآيات: 87 - 88 - 89]. فلن ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله بقلب سليم.
2 - يقول -جل وعلا-: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ) [سورة ق، الآية: 31]. فأين القلب المنيب وما صفته؟
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الأنصاري الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال! < يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم >! وقال! < يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم >! ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.
__________
(1) - التحفة العراقية.(8/179)
((حديث النعمان بن بشير الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الحلال بين و الحرام بين و بينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه و دينه و من وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا و إن لكل ملك حمى ألا و إن حمى الله تعالى في أرضه محارمه ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب.
(سرعة تقلب القلب:
(أخي الحبيب:
تأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: مَثَلُ القلب مَثَلُ الريشة تقلبها الرياح بفلاة.
الفلاة: الصحراء والأرض الواسعة التي لا ماء فيها.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(مثل القلب مثل الريشة) وفي رواية كريشة، قال الطيبي: المثل هنا بمعنى الصفة لا القول السائر والمعنى صفة القلب العجيبة الشأن وورود ما يرد من عالم الغيب وسرعة تقلبه كصفة ريشة يعني أن القلب في سرعة تقلبه لحكمة الابتلاء بخواطر ينحرف مرة إلى حق ومرة إلى باطل وتارة إلى خير وتارة إلى شر وهو في مقره لا ينقلب في ذاته غالباً إلا بقاهر مزعج من خوف مفرط(8/180)
(تقلبها الرياح بفلاة) لفظ رواية أحمد بأرض فلاة أي بأرض خالية من العمران فإن الرياح أشد تأثيراً فيها منها في العمران وجمع الرياح لدلالتها على التقلب ظهراً لبطن إذ لو استمر الريح لجانب واحد لم يظهر التقلب كما يظهر من الرياح المختلفة. ولفظه بفلاة مقحمة فهو كقولك أخذت بيدي ونظرت بعيني تقريراً ودفعاً للتجوز، قال: وتقلبها صفة أخرى لريشة وقال المظهر: ظهراً بدل بعض من الضمير في تقلبها واللام في بعض بمعنى إلى ويجوز أن يكون ظهراً لبطن مفعولاً مطلقاً أي تقلبها تقليباً مختصاً وأن يكون حالاً أي تقلبها مختلفة أي وهي مختلفة ولهذا الاختلاف سمي القلب قلباً وقال الراغب: قلب الشيء صرفه عن وجه إلى وجه وسمي قلباً لكثرة تقلبه ويعبر بالقلب عن المعاني التي تختص به من الروح والعلم والشجاعة وغيرها. وقال الغزالي: إنما كان كثير التقلب لأنه منزله الإلهام [ص 509] والوسوسة وهما أبداً يقرعانه ويلقنانه وهو معترك المسكرين الهوى وجنوده والعقل وجنوده فهو دائماً بين تناقضهما وتحاربهما والخواطر له كالسهام لا تزال تقع فيه كالمطر لا يزال يمطر عليه ليلاً ونهاراً وليس كالعين التي بين جفنين تغمض وتستريح أو تكون في ليل أو ظلمة أو اللسان الذي هو من وراء حجابين الأسنان والشفتين وأنت تقدر على تسكينه بل القلب عرش الخواطر لا تنقطع عنه بحال والآفات إليه أسرع من جميع الأعضاء فهو إلى الانقلاب أقرب ولهذا خاف الخواص على قلوبهم وبكوا عليها وصرفوا عنايتهم إليها ومقصود الحديث أن يثبت العبد عند تقلب قلبه وينظر إلى همومه بنور العلم فما كان خيراً أمسك القلب عليه وما كان شراً أمسكه عنه. أهـ
ولذلك أكثر ما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحلف: لا ومقلب القلوب كما في الحديث الآتي:
(حديث ابن عمر رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: أكثر ما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحلف: لا ومقلب القلوب.
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح:
ومقلب القلوب هو المقسم به والمراد بتقليب القلوب تقليب اعراضها وأحوالها لا تقليب ذات القلب.
(تفقد أحوال القلب وتجديد الإيمان فيه:
(أخي الحبيب:
تأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد. ((8/181)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم.
يخلق: يبلى و يتقطع و يقدم.
قلبك يحدث له مثل هذا بالضبط من استهلاكه في غير ما صنع له، يفسد يتقطع ينتهي، و يموت و لا يصبح لديك قلب!! يصبح ما بداخلك هواء!!
قال الله تعالى: (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء) [إبراهيم: 43] كما كان في الدنيا يصبح في الآخرة هواء.
الشاهد: أنك تحتاج إلى تجديد القلب لكي ننطلق يا أخوة لابد من حضور القلب.
إننا نريد أن نوقظ قلوبنا نحييها نصلحها حتى تستطيع أن تستوعب حتى تبدأ في الفهم حتى تبدأ في العيش حتى تبدأ أن تحس حتى تبدأ أن تنطلق حتى تبدأ أن تستمتع حتى تبدأ أن تستلذ حتى يصبح لها وجود حتى يصبح لها حياة حتى يصبح لها دور حتى يصبح لها مكان في حياتنا لأن الطريق إلى الله تقطع بالقلوب و لا تقطع بالأقدام
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.
(الاعتناء بتطهير القلب وتنقيته وتزكيته:
أمرنا الله تعالى بتطهير القلب، وتنقيته، وتزكيته، بل جعل الله -سبحانه وتعالى- من غايات الرسالة المحمدية تزكية الناس، وقدمها على تعليمهم الكتاب والحكمة لأهميتها، يقول الله -تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) [سورة الجمعة، الآية: 2].
قال ابن القيم -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) [سورة المدثر، الآية: 4]. جمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم على أن المراد بالثياب هنا: القلب.
ويقول - سبحانه وتعالى- عن اليهود والمنافقين: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [سورة المائدة، الآية: 41].
فهذا سبب بارز ومهم للحديث عن القلب.
(وتطهير القلب وتنقيته، وتزكيته له أهمية بالغة لأن القلب ملك الأعضاء، وسائر الأعضاء تبعٌ له، وأخبرنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن القلب إذا صَلُح صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله كما في الحديث الآتي: ((8/182)
((حديث النعمان بن بشير الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الحلال بين و الحرام بين و بينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه و دينه و من وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا و إن لكل ملك حمى ألا و إن حمى الله تعالى في أرضه محارمه ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب.
(وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستعيذ بالله من قلب لا يخشع كما في الحديث الآتي:
((حديث زيد ابن أرقم في صحيح مسلم) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها.
(وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستعيذ بالله من شر قلبه كما في الحديث الآتي:
((حديث شكل بن حميد رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) قال: قلت ثم يا رسول الله علمني دعاء أنتفع به قال قل اللهم عافني من شر سمعي وبصري ولساني وقلبي ومن شر منيي يعني ذكره.
(وحثنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على يقظة القلب وعلمنا أن الله تعالى لا يقبل دعاء من قلب غافل لاهٍ كما في الحديث الآتي:
((حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ادعوا الله و أنتم موقنون بالإجابة و اعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلبٍ غافلٍ لاه.
موقنون: واثقون متأكدون
لاه: اللاهي أي الغافل
(وحثنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن نتخذ قلباً شاكرا كما في الحديث الآتي:
((حديث ثوبان رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) لما نزل في الفضة ما نزل قالوا: يا رسول الله، فأي المال نتخذ؟ قال: «ليتخذ أحدكم قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على أمر الآخرة»
(إن أحب القلوب إلى الله تعالى ألينها و أرقها كما في الحديث الآتي:
((حديث أبي عنبة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن لله تعالى آنية من أهل الأرض و آنية ربكم قلوب عباده الصالحين و أحبها إليه ألينها و أرقها.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إن للّه تعالى آنية) جمع إناء وهو وعاء الشيء
(من أهل الأرض) من الناس أو من الجنة والناس أو أعم(8/183)
(وآنية ربكم) في أرضه
(قلوب عباده الصالحين) أي القائمين بما عليهم من حقوق الحق والخلق بمعنى أن نور معرفته تملأ قلوبهم حتى تفيض على الجوارح وأما حديث ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن فلا أصل له
(وأحبها إليه) أي أكثرها حباً عنده
(ألينها وأرقها) فإن القلب إذا لان ورق وانجلى صار كالمرآة الصقيلة فإذا أشرفت عليه أنوار الملكوت أضاء الصدر وامتلأ من شعاعها فأبصرت عين الفؤاد باطن أمر اللّه في خلقه فيؤديه ذلك إلى ملاحظة نور اللّه تعالى فإذا لاحظه فذلك قلب استكمل الزينة والبهاء بما رزق من الصفاء فصار محل نظر اللّه من بين خلقه فكلما نظر إلى قلبه زاده به فرحاً وله حباً وعزاً واكتنفه بالرحمة وأراحه من الزحمة وملأه من أنوار العلوم قال حجة الإسلام: وهذه الأنوار مبذولة بحكم الكرم الرحمني غير مضنون بها على أحد فلم تحتجب عن القلوب لبخل ومنع من جهة المنعم تعالى عن البخل والمنع بل لخبث وكدورة وشغل من جهة القلوب لما تقرر أن القلب هو الآنية والآنية ما دامت مملوءة بالماء لا يدخلها الهواء والقلوب مشغولة بغير اللّه لا تدخلها المعرفة بجلال اللّه.
(وكان أكثر دعاء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ كما في الحديثين الآتيين:
((حديث شَهْرُ بن حَوْشَبٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قال: قُلْتُ لأمِّ سَلَمَةَ: يَا أمَّ الْمُؤْمِنِينَ مَا كَانَ أكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ عِنْدَكِ؟ قَالَتْ: كَانَ أكْثَرُ دُعَائِهِ " يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ " قالت: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أكْثَرَ دُعَاءَكَ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ؟ قال: " يَا أمَّ سَلَمَةَ إِنَّهُ لَيْسَ آدَمِيٌّ إِلاَّ وَقَلْبُهُ بَيْنَ أصْبُعَيْنِ مِنْ أصَابِعِ اللَّهِ فَمَنْ شَاءَ أقَامَ وَمَنْ شَاءَ أزَاغَ، فَتَلا مُعَاذٌ (1) {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إنَّكَ أنْتَ الْوَهَّابُ} (آل عمران/8)
(حديث أنَسٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أنْ يقول: " يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ "0(8/184)
(وكان من دعاء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا
كما في الحديث الآتي:
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن قلوب بنى آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك.
[*] (أورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عن معروف الكرخي قال: «اللهم قلوبنا ونواصينا بيدك، لم تملكنا منهما شيئا، فإذ قد فعلت بهما ذلك فكن أنت وليهما، واهدهما إلى سواء السبيل»
[*] (وأورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عن الوليد بن مسلم قال: «كانت امرأة من التابعين تقول:» اللهم أقبل بما أدبر من قلبي، وافتح ما أقفل عنه حتى تجعله هنيئا مريئا بالذكر لك»
مريئا: محمود العاقبة لا ضرر فيه.
(كيف يقوى القلب؟
مسألة: كيف يقوى القلب؟
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه الوابل الصيب:
وإنما يقوي العبد على حضوره في الصلاة واشتغاله فيها بربه عز وجل إذا «قهر شهوته وهواه» وإلا فقلب قد قهرته الشهوة وأسره الهوى ووجد الشيطان فيه مقعدا تمكن فيه كيف يخلص من الوساوس والأفكار.
(استقامة القلب:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه الوابل الصيب:
وإنما يستقيم له هذا باستقامة قلبه وجواره فاستقامة القلب بشيئين:
(أحدهما: أن تكون محبة الله تعالى تتقدم عنده على جميع المحاب، فاذا تعارض حب الله تعالى وحب غيره سبق حب الله تعالى حب ما سواه فرتب على ذلك مقتضاه، ما أسهل هذا بالدعوى و ما أصعبه بالفعل فعند الامتحان يكرم المرء أو يهان، و ما أكثر ما يقدم العبد ما يحبه هو ويهواه أو يحبه كبيره وأميره وشيخه وأهله على ما يحبه الله تعالى فهذا لم تتقدم محبة الله تعالى في قلبه جميع المحاب ولا كانت هي الملكة المؤمرة عليها، وسنة الله تعالى فيمن هذا شانه أن ينكد عليه محابه وينغصها عليه ولا ينال شيئا منها إلا بنكد وتنغيص جزاء له على إيثار هواه وهوى من يعظمه من الخلق أو يحبه على محبة الله تعالى، وقد قضى الله تعالى قضاء لا يرد ولا يدفع أن من أحب شيئاً سواه عذب به ولا بد وأن من خاف غيره سلط عليه وأن من اشتغل بشيءٍ غيره كان شؤما عليه، ومن آثر غيره عليه لم يبارك فيه ومن أرضى غيره بسخطه أسخطه عليه ولا بد.(8/185)
(الأمر الثاني: الذي يستقيم به القلب «تعظيم الأمر والنهي»، وهو ناشئ عن تعظيم الأمر الناهي فان الله تعالى ذم من لا يعظم أمره ونهيه قال تعالى: (مّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلّهِ وَقَاراً) [نوح: 13]
قالوا في تفسيرها مالكم لا تخافون لله تعالى عظمة ما أحسن ما قال شيخ الإسلام في تعظيم الأمر والنهي هو أن لا يعارضا بترخص جاف ولا يعرضا لتشديد غال ولا يحملا على علة توهن الانقياد.(8/186)
ومعنى كلامه أن أول مراتب تعظيم الحق عز وجل تعظيم أمره ونهيه وذلك المؤمن يعرف ربه عز وجل برسالته التي أرسل بها رسول الله إلى كافة الناس ومقتضاها الانقياد لأمره ونهيه وإنما يكون ذلك بتعظيم أمر الله عز وجل واتباعه وتعظيم نهيه واجتنابه فيكون تعظيم المؤمن لأمر الله تعالى ونهيه دالا على تعظيمه لصاحب الأمر والنهي ويكون بحسب هذا التعظيم من الأبرار المشهود لهم بالإيمان والتصديق وصحة العقيدة والبراءة من النفاق الأكبر، فإن الرجل قد يتعاطى فعل الأمر لنظر الخلق وطلب المنزلة والجاه عندهم ويتقي المناهي خشية سقوطه من أعينهم وخشية العقوبات الدنيوية من الحدود التي رتبها الشارع على المناهي فهذا ليس فعله وتركه صادرا عن تعظيم الأمر والنهي ولا تعظيم الآمر الناهي، فعلامة التعظيم للأوامر رعاية أوقاتها وحدودها والتفتيش على أركانها وواجباتها وكمالها والحرص على تحينها في أوقاتها والمسارعة إليها عند وجوبها والحزن والكآبة والأسف عند فوت حق من حقوقها كمن يحزن على فوت الجماعة ويعلم انه تقبلت منه صلاته منفردا فإنه قد فاته سبعة وعشرون ضعفا ولو أن رجلا يعاني البيع والشراء تفوته صفقة واحدة في بلده من غير سفر ولا مشقة قيمتها سبعة وعشرون دينارا لأكل يديه ندما وأسفا فكيف وكل ضعف مما تضاعف به صلاة الجماعة خير من ألف وألف ألف وما شاء الله تعالى، فادا فوت العبد عليه هذا الربح قطعا وكثير من العلماء لا صلاة له وهو بارد القلب فارغ من هذه المصيبة غير مرتاع لها فهذا عدم تعظيم أمر الله تعالى في قلبه وكذلك إذا فاته أول الوقت الذي هو رضوان الله تعالى أو فاته الصف الأول الذي يصلي الله وملائكته على ميامنه ولو يعلم العبد فضيلته لجالد عليه ولكانت قرعة وكذلك فوت الجمع الكثير الذي تضاعف الصلاة بكثرته وقلته كلما كثر الجمع كان أحب إلى الله عز وجل وكلما بعدت الخطا كانت خطوة تحط خطيئة وأخرى ترفع درجة وكذلك فوت الخشوع في الصلاة وحضور القلب فيها بين يدي الرب تبارك وتعالى الذي هو روحها ولبها، فصلاة بلا خشوع ولا حضور كبدن ميت لا روح فيه أفلا يستحي العبد أن يهدي إلى مخلوق مثله عبدا ميتا أو جارية ميتة فما ظن هذا العبد أن تقع تلك الهدية ممن قصده بها من ملك أو أمير أو غيره فهكذا سواء الصلاة الخيالية عن الخشوع والحضور وجمع الهمة على الله تعالى فيها بمنزلة هذا العبد أو الأمة الميت الذي يريد إهداءه إلى بعض الملوك ولهذا لا يقبلها الله(8/187)
تعالى منه وان أسقطت الفرض في أحكام الدنيا ولا يثبه عليها فانه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها أ ثم ذكر رحمه الله تعالى الحديث الآتي:
(حديث عمار الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الرجل لينصرف و ما كتب له إلا عشر صلاته تسعها ثمنها سبعها سدسها خمسها ربعها ثلثها نصفها.
ثم قال رحمه الله تعالى:
وينبغي أن يعلم أن سائر الأعمال تجري هذا المجرى فتفاضل الأعمال عند الله تعالى يتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص والمحبة وتوابعها وهذا العمل الكامل هو الذي يكفر السيئات تكفيرا كاملا والناقص بحسبه.
(دلائل تعظيم الأمر والنهي:
مسألة: ما هي دلائل تعظيم الأمر والنهي؟
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه الوابل الصيب:
وأما علامات تعظيم المناهي فالحرص على التباعد من مظانها وأسبابها وما يدعو إليها ومجانبة كل وسيلة تقرب منها كمن يهرب من الأماكن التي فيها الصور التي تقع بها الفتنة خشية الافتتان بها «وأن يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس» وأن يجانب الفضول من المباحات خشية الوقوع في المكروه ومجانبة من يجاهد بارتكابها ويحسنها ويدعو إليها ويتهاون بها ولا يبالي ما ركب منها فإن مخالطة مثل هذا داعية إلى سخط الله تعالى وغضبه ولا يخالطه إلا من سقط من قلبه تعظيم الله تعالى وحرماته.
(ومن علامات تعظيم النهي أن يغضب لله عز وجل إذا انتهكت محارمه وأن يجد في قلبه حزنا وكسرة إذا عصى الله تعالى في أرضه ولم يضلع بإقامة حدوده وأوامره ولم يستطع هو أن يغير ذلك.(8/188)
(ومن علامات تعظيم الأمر والنهي أن لا يسترسل مع الرخصة إلى حد يكون صاحبه جافيا غير مستقيم على المنهج الوسط، مثال ذلك أن السنة وردت بالإبراد بالظهر في شدة الحر فالترخيص الجافي أن يبرد إلى فوات الوقت أو مقاربة خروجه فيكون مترخصاً جافيا وحكمة هذه الرخصة أن الصلاة في شدة الحر تمنع صاحبها من الخشوع والحضور ويفعل العبادة بتكره وضجر فمن حكمة الشارع أن أمرهم بتأخيرها حتى ينكسر الحر فيصلى العبد بقلب حاضر ويحصل له مقصود الصلاة من الخشوع والإقبال على الله تعالى ومن هذا نهيه أن يصلي بحضرة الطعام أو عند مدافعة البول والغائط لتعلق قلبه من ذلك بما يشوش عليه مقصود الصلاة ولا يحصل المراد منها، فمن فقه الرجل في عبادته أن يقبل على شغله فيعمله ثم يفرغ قلبه للصلاة فيقوم فيها وقد فرغ قلبه لله تعالى ونصب وجهه له وأقبل بكليته عليه فركعتان من هذه الصلاة يغفر للمصلي بهما ما تقدم من ذنبه، والمقصود أن لا يترخص ترخصا جافيا ومن ذلك انه أرخص للمسافر في الجمع بين الصلاتين عند العذر وتعذر فعل كل صلاة في وقتها لمواصلة السير وتعذر النزول أو تعسيره عليه فإذا قام في المنزل اليومين والثلاثة أو أقام اليوم فجمعه بين الصلاتين لا موجب له لتمكنه من فعل كل صلاة وقتها من غير مشقة «فالجمع ليس سنة راتبة» كما يعتقد أكثر المسافرين أن سنة السفر الجمع سواء وجد عذر أو لم يوجد بل الجمع رخصة «والقصر سنة راتبة» فسنة المسافر قصر الرباعية سواء كان له عذر أو لم يكن وأما جمعه بين الصلاتين فحاجة ورخصة فهذا لون وهذا لون.(8/189)
(وأما تعريض الأمر والنهي للتشديد الغالي فهو كمن يتوسوس في الوضوء متغالياً فيه حتى يفوت الوقت أو يردد تكبيره الإحرام إلى أن تفوته مع الإمام قراءة الفاتحة أو يكاد تفوته الركعة أو يتشدد في الورع الغالي حتى لا يأكل شيئا من طعام عامة المسلمين خشية دخول الشبهات عليه ولقد دخل هذا الورع الفاسد على بعض العباد الذين نقص حظهم من العلم حتى امتنع أن ياكل شيئا من بلاد الإسلام وكان يتقوت بما يحمل إليه من بلاد النصارى ويبعث بالقصد لتحصيل ذلك فأوقعه الجهل المفرط والغلو الزائد في إساءة الظن بالمسلمين وحسن الظن بالنصارى نعوذ بالله من الخذلان، «فحقيقة التعظيم للأمر والنهي أن لا يعارضا بترخص جاف ولا يعرضا لتشديد غال» فإن المقصود هو الصراط المستقيم الموصل إلى الله عز وجل بسالكه وما أمر الله عز وجل بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان «إما تقصير وتفريط وإما إفراط وغلو» فلا يبالي بما ظفر من العبد من الخطيئتين فإنه يأتي إلى قلب العبد فيستامه فإن وجد فيه فتورا وتوانيا وترخيصا أخذه من هذه الخطة فثبطه وأقعده وضربه بالكسل والتواني والفتور وفتح له باب التأويلات والرجاء وغير ذلك حتى ربما ترك العبد المأمور جملة، وإن وجد عنده حذرا وَجِدَاً وتشميرا ونهضة وأيس أن يأخذه من هذا الباب أمره بالاجتهاد الزائد وسوَّل له أن هذا لا يكفيك وهمتك فوق هذا وينبغي لك أن تزيد على العاملين وان لا ترقد إذا رقدوا و لا تفطر إذا افطروا وان لا تفتر إذا فتروا وإذا غسل أحدهم يديه ووجهه ثلاث مرات فاغسل أنت سبعا وإذا توضأ للصلاة فاغتسل أنت لها ونحو ذلك من الإفراط والتعدي فيحمله على الغلو والمجاوزة وتعدي الصراط المستقيم كما يحمل الأول على التقصير دونه وان لا يقربه ومقصوده من الرجلين إخراجهما عن الصراط المستقيم هذا بان لا يقربه ولا يدلو منه وهذا بان يجاوزه ويتعداه وقد فتن بهذا أكثر الخلق ولا ينجي من ذلك إلا علم راسخ وإيمان وقوة على محاربته ولزوم الوسط والله المستعان.
(ومن علامات تعظيم الأمر والنهي أن لا يحمل الأمر على علة تضعف الانقياد والتسليم لأمر الله عز وجل بل يسلم لأمر الله تعالى وحكمته ممتثلا ما أمر به سواء ظهرت له حكمته أو لم تظهر فان ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه حمله ذلك على مزيد الانقياد والتسليم ولا يحمله ذلك على الانسلاخ منه وتركه كما حمل ذلك كثيرا من زنادقة الفقراء والمنتسبين إلى التصوف.(8/190)
{تنبيه}: ((ومن أنفع الأدوية لحصول استقامة القلب صدق التأهب للقاءِ الله:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه طريق الهجرتين:
صدق التأهب للقاءِ الله من أنفع ما للعبد وأبلغه في حصول استقامته، فإِن من استعد للقاءِ الله انقطع قلبه عن الدنيا وما فيها ومطالبها، وخمدت من نفسه نيران الشهوات وأخبتَ قلبه إلى ربه تعالى وعكفت همته على الله وعلى محبته وإيثار مرضاته، واستحدثت همة أُخرى وعلوماً أُخر وولد ولادة أُخرى تكون نسبة قلبه فيها إلى الدار الآخرة كنسبة جسمه إِلى هذه الدار بعد أَن كان في بطن أُمه فيولد قلبه ولادة حقيقية كما ولد جسمه حقيقة، وكما كان بطن أُمه حجاباً لجسمه عن هذه الدار فهكذا نفسه وهواه حجاب لقلبه عن الدار الآخرة، فخروج قلبه عن نفسه بارزاً إلى الدار الآخرة كخروج جسمه عن بطن أُمه بارزاً إلى هذه الدار.
ولما كان أَكثر الناس لم يولدوا هذه الولادة الثانية ولا تصوروها ـ فضلاً عن أن يصدقوا بها ـ فيقول القائل: كيف يولد الرجل الكبير أَم كيف يولد القلب، لم يكن لهم إليها همة ولا عزيمة، إِذ كيف يعزم على الشيء من لا يعرفه ولا يصدقه؟ ولكن إذا كشف حجاب الغفلة عن القلب صدَّق بذلك وعلم أنه لم يولد قلبه بعد والمقصود أَن «صدق التأَهب للقاءِ الله هو مفتاح جميع الأَعمال الصالحة والأَحوال الإيمانية ومقامات السالكين إلى الله ومنازل السائرين إليه»،من اليقظة والتوبة والإِنابة والمحبة والرجاءِ والخشية والتفويض والتسليم وسائر أعمال القلوب والجوارح، فمفتاح ذلك كله صدق التأَهب والاستعداد للقاءِ الله، والمفتاح بيد الفتاح العليم لا إله غيره ولا رب سواه.
(غفلة الناس عن أهمية تطهير القلب وتنقيته وتزكيته:
إن الذي يمعن النظر في واقع الناس اليوم يعلم علم اليقين الذي لا يخالطه شك مدى غفلة كثير من الناس عن قلوبهم، فتجد -مثلا- بعض طلبة العلم يتوسع في بحث بعض الأعمال الدقيقة، ويتفقه فيها فقها عجيبا: هل تحريك الأصبع سنة؟ ومتى وكيف يحرك؟ ... إلخ، والبحث فيها نافع ومهم ولا شك، في حين يغفل البحث في أعمال القلب وأحواله، وأدوائه وعلله، وهذا أهمّ وأجلّ.(8/191)
(ولذلك تجد كثيرا من المشكلات بين الناس، وبالأخص بين طلبة العلم، سببها أمراض تعتري القلوب، ولا تبنى على حقائق شرعية، فهذه المشكلات تترجم أحوال قلوب أصحابها، وما فيها من أمراض مثل: الحسد، والغل، والكبر، والاحتقار، وسوء الظن ... إلخ، وسبيل حلها الأمثل هو علاج هذه القلوب؟ وإلا فالمرض سيظهر بين حين وآخر كلما ظهرت دواعيه.
ونظرة إلى واقع المجتمع، وما يحدث فيه بين الناس من مشكلات اجتماعية، وخصومات في الحقوق والأموال تثبت صحة ذلك.
ثم إن أقوال القلب -وهي تصديقاته وإقرارته-، وأعماله وحركاته من: خوف ورجاء ومحبة وتوكل وخشية وغيرها. هي أعظم أركان الإيمان عند أهل السنة والجماعة، وبتخلفها يتخلف الإيمان. وها هم المنافقون يقولون الشهادة بألسنتهم، ويشاركون المسلمن في أعمالهم الظاهرة، ولكنهم بتخلف إقرارهم وتصديقهم كانوا (فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا) [سورة النساء، الآية: 145].
(حراسة القلب من التعرض بالشواغل والفتن:
اعلم أن القلب في أصل الوضع سليم من كل آفة والحواس الخمس توصل إليه الأخبار فترقم في صفحته.
فينبغي أن يستوثق من سد الطرق التي يخشى عليه منها الفتن فإنه إذا اشتغل بشيء منها أعرض عما خلق له من التعظيم للخالق والفكر في المصالح.
ورب فتنة علق به شباكه فكانت سببا في هلاكه.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
غزا نبي من الأنبياء، فقال لقومه: لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة، وهو يريد أن يبني بها، و لم يبن بها.
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح:
والغرض هنا من ذلك أن يتفرغ قلبه للجهاد ويقبل عليه بنشاط لأن الذي يعقد عقده على امرأة يبقى متعلق الخاطر بها بخلاف ما إذا دخل بها فإنه يصير الأمر في حقه أخف غالبا.
(أنواع القلوب وأقسامها:
لما كان القلب لهذه الأعضاء كالملك المتصرف في الجنود، الذي تصدر كلها عن أمره، ويستعملها فيما شاء فكلها تحت عبوديته وقهره، وتكتسب منه الاستقامة والزيغ، وتتبعه فيما يعقده من العزم، أو يحله لأن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسدُ كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب بنص السنة الصحيحة:(8/192)
(حديث النعمان بن بشير الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الحلال بين و الحرام بين و بينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه و دينه و من وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا و إن لكل ملك حمى ألا و إن حمى الله تعالى في أرضه محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب.
فالقلب ملك الأعضاء وهى المنفذة لما يأمرها به، القابلة لما يأتيها من هديه، ولا يستقيم لها شيء من أعمالها حتى تصدر عن قصده نيته، وهو المسئول عنها كلها، لأن كل راعٍ مسئول عن رعيته: كان الاهتمام بتصحيحه، وتسديده، أولى ما اعتمد عليه السالكون، والنظر في أمراضه وعلاجها أهم ما تنسك به الناسكون.
(ولما كان القلب يوصف بالحياة وضدها، انقسم بحسب ذلك إلى ثلاثة أقسام: القلب السليم، والقلب الميت، والقلب المريض.
(أولاً القلب السليم:
القلب السليم هو الذى لا ينجو يوم القيامة إلا مَنْ أتى الله تعالى به، كما قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء: الآية: 88 - 89).
وقيل فى تعريفه: أنه الذي «قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه ومن كل شبهة تعارض خبره» فسلم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله، فخلصت عبوديته لله تعالى، إرادة ومحبة، وتوكيلاً، وإنابة، وإخباتاً وخشية، ورجاء، وخلص عمله لله، فإن أحب أحب فى الله، وإن أبغض أبغض في الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع لله، ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الإنقياد والتحكيم لكل مَنْ عدا رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيعقد قلبه معه عقداً محكماً على الإتمام والإقتداء به وحده، دون كل أحد فى الأقوال والأعمال، فلا يتقدم بين يديه بعقيدة ولا قول، ولا عمل، قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الحجرات: 1).
(ثانياً القلب الميت:(8/193)
وهو ضد القلب السليم، فهو لا يعرف ربه، ولا يعبده بأمره، وما يحبه ويرضاه، بل هو واقف مع شهواته، ولذاته، ولو كان فيها سخط ربه وغضبه، فهو لايبالى إذا فاز بشهوته وحظه رضي ربه أم سخط، فهو متعبد لغير الله، إن أحب أحب لهواه، وإن أبغض أبغض لهواه، وأن أعطى أعطى لهواه، وإن منع منع لهواه، فهواه آثر عنده، وأحب إليه من رضي مولاه، «فالهوى إمامه والشهوة قائده، والجهل ُ سائقه، والغفلةُ مركبهُ»، فهو بالفكر في تحصيل أغراضه الدنيوية مغمور، وبسكرة الهوى وحب العاجلة مخمور، ينادي إلى الله وإلى الدار الآخرة من مكان بعيد فلا يستجيب للناصح، ويتبع كل شيطان مريد، الدنيا تسخطه وترضيه، والهوى يصمه عما سوى الباطل ويعميه، فمخالطة صاحب هذا القلب سقم ومعاشرته سمّ، ومجالسته هلاك.
(ثالثاً القلب المريض:
قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (الإسراء
قلب له حياة وبه علة تمده هذه مرة وهذه أخرى، وهو لما غلب عليه منهما، ففيه من محبة الله تعالى، والإيمان به والإخلاص له والتوكل عليه، ما هو مادة حياته، وفيه من محبة الشهوات، وإيثارها، والحرص على تحصيلها، والحسد والكبر، والعجب، ما هو مادة هلاكه وعطبه، فهو ممتحن من داعيين: داع يدعوه إلى الله ورسوله والدار الآخرة، وداع يدعوه إلى العاجلة، وهو إنما يجيب أقربهما منه باباً، وأدناهما إليه جواراً.
فالقلب الأول: حىّ، مخبت، لين واع.
والثاني: يابس، ميت.
والثالث: مريض، فإما إلى السلامة أدنى، إما إلى العطب أدنى.
(المقصود بحياة القلب:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
قال صاحب المنازل باب الحياة:(8/194)
قال الله تعالى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} استشهاده بهذه الآية في هذا الباب ظاهر جدا فإن المراد بها من كان ميت القلب بعدم روح العلم والهدى والإيمان فأحياه الرب تعالى بروح أخرى غير الروح التي أحيا بها بدنه «وهي روح معرفته وتوحيده ومحبته وعبادته وحده لا شريك له» إذ لا حياة للروح إلا بذلك وإلا فهي في جملة الأموات ولهذا وصف الله تعالى من عدم ذلك بالموت فقال {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} وقال تعالى {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} وسمى وحيه روحا لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح فقال تعالى {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} فأخبر أنه روح تحصل به الحياة وأنه نور تحصل به الإضاءة وقال تعالى {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} وقال تعالى {رَفِيعُ الدَّرَجَات ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} فالوحي حياة الروح كما أن الروح حياة البدن ولهذا «من فقد هذه الروح فقد فَقَدَ الحياة النافعة في الدنيا والآخرة» أما في الدنيا فحياته حياة البهائم وله المعيشة الضنك وأما في الآخرة فله جهنم لا يموت فيها ولا يحيا وقد جعل الله الحياة الطيبة لأهل معرفته ومحبته وعبادته فقال تعالى {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقد فسرت الحياة الطيبة بالقناعة والرضا والرزق الحسن وغير ذلك والصواب: أنها حياة القلب ونعيمه وبهجته وسروره بالإيمان ومعرفة الله ومحبته والإنابة إليه والتوكل عليه فإنه لا حياة أطيب من حياة صاحبها ولا نعيم فوق نعيمه إلا نعيم الجنة كما كان بعض العارفين يقول إنه لتمر بي أوقات أقول فيها إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب، وقال غيره إنه ليمر بالقلب أوقات يرقص فيها طربا وإذا كانت حياة القلب حياة طيبة تبعته حياة الجوارح فإنه مَلِكُهَا ولهذا جعل الله المعيشة الضنك لمن أعرض عن(8/195)
ذكره وهي عكس الحياة الطيبة وهذه الحياة الطيبة تكون في الدور الثلاث أعني دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار والمعيشة الضنك أيضا تكون في الدور الثلاث فالأبرار في النعيم هنا وهنالك والفجار في الجحيم هنا وهنالك قال الله تعالى {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} [النحل:30]
وقال تعالى {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3]
فذكر الله سبحانه وتعالى ومحبته وطاعته والإقبال عليه ضامن لأطيب الحياة في الدنيا والآخرة والإعراض عنه والغفلة ومعصيته كفيل بالحياة المنغصة والمعيشة الضنك في الدنيا والآخرة.
(حياة القلب وإشراقه مادة كل خير فيه:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان:
أصل كل خير وسعادة للعبد (بل لكل حي ناطق): كمال حياته ونوره، فالحياة
والنور مادة الخير كله قال تعالى: (أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَن مّثَلُهُ فِي الظّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا) [الأنعام: 122] فجمع بين الأصلين: الحياة والنور فبالحياة تكون قوته وسمعه وبصره وحياؤه وعفته وشجاعته وصبره وسائر أخلاقه الفاضلة ومحبته للحسن وبغضه للقبيح فكلما قويت حياته قويت فيه هذه الصفات وإذا ضعفت حياته ضعفت فيه هذه الصفات وحياؤه من القبائح هو بحسب حياته في نفسه فالقلب الصحيح الحي إذا عرضت عليه القبائح نفر منها بطبعه وأبغضها ولم يلتفت إليها بخلاف القلب الميت فإنه لا يفرق بين الحسن والقبيح كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه هلك من لم يكن له قلب يعرف به المعروف وينكر به المنكر.
(متى تحصل حياة القلب:
(حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مُدْرِكَاً للحق مُرِيْدَاً له مُؤْثِرَاً له على غيره:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان:(8/196)
لما كان في القلب قوتان: قوة العلم والتمييز وقوة الإرادة والحب كان كماله وصلاحه باستعمال هاتين القوتين فيما ينفعه ويعود عليه بصلاحه وسعادته فكماله باستعمال «قوة العلم» في إدراك الحق ومعرفته والتمييز بينه وبين الباطل وباستعمال «قوة الإرادة والمحبة» في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل فمن لم يعرف الحق فهو ضال ومن عرفه وآثر غيره عليه فهو مغضوب عليه ومن عرفه واتبعه فهو منعم عليه، وقد أمرنا سبحانه وتعالى أن نسأله في صلاتنا أن يهدينا صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ولهذا كان النصارى أخص بالضلال لأنهم أمة جهل واليهود أخص بالغضب لأنهم أمة عناد، وهذه الأمة هم المنعم عليهم ولهذا قال سفيان ابن عيينة من فسد من عُبَادِنَا ففيه شبه من النصارى ومن فسد من عُلَمَائِنَا ففيه شبه من اليهود لأن النصارى عبدوا بغير علم واليهود عرفوا الحق وعدلوا عنه
(ثم ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله الحديث الآتي:
(حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضُلَّالٌ.
المغضوب عليهم: هم من عرف الحق واتبع هواه.
والضالين: هم من جهلوا الحق.
وقد جمع الله سبحانه بين الأصلين في غير موضع من كتابه فمنها قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 186]
فجمع سبحانه بين الاستجابة له والإيمان به، ومنها قوله عن رسوله (فَالّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتّبَعُواْ النّورَ الّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف: 157]
وقال تعالى: (الَمَ * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتّقِينَ * الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ وَممّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * والّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلََئِكَ عَلَىَ هُدًى مّن رّبّهِمْ وَأُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة 1: 5](8/197)
وقال الله تعالى في وسط السورة: قال تعالى: (وَلََكِنّ الْبِرّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنّبِيّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىَ حُبّهِ ذَوِي الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ وَالسّآئِلِينَ وَفِي الرّقَابِ وَأَقَامَ الصّلاةَ وَآتَى الزّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصّابِرِينَ فِي الْبَأْسَآءِ والضّرّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولََئِكَ الّذِينَ صَدَقُوآ وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُتّقُونَ) [البقرة: 177]
وقال تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصّبْرِ) [العصر1: 3] فأقسم سبحانه وتعالى بالدهر الذي هو زمن الأعمال الرابحة والخاسرة على أن كل واحد في خسر إلا من كمل قوته العلمية بالإيمان بالله وقوته العملية بالعمل بطاعته فهذا كماله في نفسه ثم كمل غيره بوصيته له بذلك وأمره إياه به وبملاك ذلك وهو الصبر فكمل نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح وكمل غيره بتعليمه إياه ذلك ووصيته له بالصبر عليه ولهذا قال الشافعي رحمه الله لو فكر الناس في سورة والعصر لكفتهم.
وهذا المعنى في القرآن في مواضع كثيرة: يخبر سبحانه أن أهل السعادة هم الذين عرفوا الحق واتبعوه وأن أهل الشقاوة هم الذين جهلوا الحق وضلوا عنه أو علموه وخالفوه واتبعوا غيره.
وينبغي أن يعرف أن هاتين القوتين لا تتعطلان في القلب، بل إن استعمل قوته العلمية في معرفة الحق وإدراكه، وإلا استعملها في معرفة ما يليق به ويناسبه من الباطل، وإن استعمل قوته الإرادية العملية في العمل به، وإلا استعملها فى ضده، فالإنسان حارث هَمَّام بالطبع، كما قال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أَصْدَقُ الأَسْمَاءِ: حَارِثٌ وَهَمَّامٌ".
فالحارث الكاسب العامل، والهمام المريد، فإن النفس متحركة بالإرادة. وحركتها الإرادية لها من لوازم ذاتها، والإرادة تستلزم مرادا يكون متصوَّرا لها، متميزا عندها، فإن لم تتصور الحق وتطلبه وتريده تصورت الباطل وطلبته، وأرادته ولا بد.
(أسباب حياة القلب وأغذيته النافعة:(8/198)
اعلم أن الطاعات لازمة لحياة قلب العبد لزوم الطعام والشراب لحياة الجسد، وجميع المعاصي بمثابة الأطعمة المسمومة التي تفسد القلب ولابد، والعبد محتاج إلى عبادة ربه عزّ وجلّ فقير إليه فقراً ذاتياً، وكما يأخذ العبد بالأسباب لحياة جسده من المداومة على تناول الأغذية النافعة في أوقات متقاربة، وإذا تبين له أنه تناول طعاماً مسموماً عن طريق الخطأ أسرع في تخليص جسده من الأخلاط الرديئة، فحياة قلب العبد أوْلى بالاهتمام من جسده، فإن كانت حياة الجسد تؤهله لمعيشة غير منغضة بالمرض في الدنيا، فحياة القلب تؤهله لحياة طيبة في الدنيا وسعادة غير محدودة في الآخرة، وكذلك موت الجسد يقطعه عن الدنيا، وموت القلب تبقى آلامه أبد الآباد.
[*] قال أحد الصالحين: " يا عجباً من الناس يبكون على من مات جسدهُ ولا يبكون على من مات قلبه وهو أشد "، فإذن الطاعات كلها لازمة لحياة القلب وتخص الآتية بالذكر – لضرورتها لقلب العبد وشدة الحاجة إليها:
(أولاً ذكر الله عز وجل:
(ثانيا تلاوة القرآن:
(ثالثاً الاستغفار:
(رابعاً الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(خامساً الدعاء:
(سادساً قيام الليل:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(أولاً ذكر الله عز وجل:
ذكر الله نعمة كبرى، ومنحة عظمى، فالذكر أمره عظيم ونفعه عميم فهو يشرح الصدور وينير القلوب ويرفع الدرجات خفيف على اللسان ثقيل في الميزان حبيب إلى الرحمن، وهو قوت القلوب، ويمحو الله به الإثم والحوب، وسببٌ عظيمٌ لنيل رضا علاّم الغيوب، فالذكرُ قوت قلوب الذاكرين وهو قرة عيون الموحدين وهو عدتهم الكبرى وسلاحهم الذي لا يبلى وهو دواء أسقامهم الذي متى تركوه أصيبت منهم المقاتل فانتكسوا على أعقابهم خاسرين، والذكرُ حياة القلب وسبيلٌ لانشراح الصدر، والذكرُ قُرَة العيون، وسرور النفوس، إن ذكر الإنسان لربه يملأ قلبه سرورا ويكسو وجهه نورا، والذكر روح الحياة، وحياة الأرواح، ذكر الله تعالى أشرف ما يخطر بالبال، وأطهر ما يمر بالفم و أفضل ما يتخلق به الإنسان وينطق به اللسان وتتحرك به الشفتان، وأسمى ما يتعلق به العقل المسلم الواعي، به تُسْتَجْلَبُ النِعَم، وبمثله تُسْتَدفَعُ النِقَم، فبالذكر يستدفع الذاكرون الآفات ويستكشفون الكربات وتهون عليهم المصيبات فإليه الملجأ إذا ادْلَهَمَت الخطوب وإليه المفزع عند توالي الكوارث والكروب به تنقشع الظلمات والأكدار وتحل الأفراح والمسرات.(8/199)
والذكر له فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم، وله فضائل لا تحصى، وثمرات لا تعد، وللذكر أهمية كبرى، وثمرات جليلة، وفضائل عظيمة، وأسرار بديعة، وهو طريق النجاة، وَسُلَّمُ الوصول، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين، فهو نعمة عظمى ومنحة كبرى، والذكر هو المنزلة الكبرى التي منها يتزود العارفون، وفيها يتجرون وإليها دائمًا يترددون، وهو قوت قلوب العارفين التي متى فارقتها صارت الأجساد لها قبورًا، وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنه صارت بورًا، وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق، وماؤهم الذي يطفئون به التهاب الطريق ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منهم القلوب، والسبب الواصل والعلاقة التي كانت بينهم وبين علام الغيوب، به يستدفعون الآفات ويستكشفون الكربات وتهون عليهم به المصيبات، إذا أظلَّهم البلاء فإليه ملجؤهم، وإذا نزلت بهم النوازل فإليه مفزعهم، فهو رياض جنتهم التي فيها يتقلبون، ورؤوس أموال سعادتهم التي بها يتجرون، يدع القلب الحزين ضاحكًا مسرورًا، ويوصل الذاكر إلى المذكور، بل يدع الذاكر مذكورًا، وفي كل جارحة من الجوارح عبودية مؤقتة (والذكر) عبودية القلب واللسان وهي غير مؤقتة، بل هم يؤمرون بذكر معبودهم ومحبوبهم في كل حال، قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، فكما أن الجنة قيعان وهو غراسها، فكذلك القلوب بور خراب وهو عمارتها وأساسها، وهو جلاء القلوب وصقالتها ودواؤها إذا غشيها اعتلالها، وكلما ازداد الذاكر في ذكره استغراقًا ازداد محبة إلى لقائه للمذكور واشتياقًا، وإذا واطأ في ذكره قلبه للسانه نسى في جنب ذكره كل شيء، وحفظ الله عليه كل شيء، وكان له عوضًا من كل شيء، وبالذكر يزول الوقر عن الأسماع، والبكم عن الألسن، وتنقشع الظلمة عن الأبصار، زيَّن الله به ألسنة الذاكرين، كما زين بالنور أبصار الناظرين؛ فاللسان الغافل كالعين العمياء، والأذن الصماء، واليد الشلاء، والذكر هو باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عبده، ما لم يغلقه العبد بغفلته.
[*] قال ابن القيم رحمه الله:
سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟!
والإنسان مهما قوي فهو ضعيف، ومهما علم فعلمه قاصر، وحاجته إلى ربه أشد من حاجته إلى الماء والهواء،(8/200)
ومن المعلوم شرعاً أن قلوب البشر طراً كغيرها من الكائنات الحية، التي لا غنى لها عن أي مادة من المواد التي بها قوام الحياة والنماء، ويتفق العقلاء جميعاً أن القلوب قد تصدأ كما يصدأ الحديد، وأنها تظمأ كما يظمأ الزرع، وتجف كما يجف الضرع، ولذا فهي تحتاج إلى تذليل وري، يزيلان عنها الأصداء والظمأ، والمرء في هذه الحياة محاط بالأعداء من كل جانب، نفسه الأمارة بالسوء تورده موارد الهلكة، وكذا هواه وشيطانه، فهو بحاجة ماسة إلى ما يحرزه ويؤمنه، ويسكن مخاوفه، ويطمئن قلبه، وإن من أكثر ما يزيل تلك الأدواء، ويحرز من الأعداء ذكر الله والإكثار منه لخالقها ومعبودها، فهو جلاء القلوب وصقالها، ودواءها إذا غشيها اعتلالها،
(ولهذا زين الله به ألسنة الذاكرين كما زين بالنور أبصار الناظرين، فاللسان الغافل
كالعين العمياء، والأذن الصماء واليد الشلاء.
وهو باب الله الأعظم بينه وبين عبده ما لم يغلقه العبد بغفلته،
[*] قال الحسن البصري رحمه الله تعالى:
" تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة وفي الذكر وقراءة القرآن، فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مغلق، له لذة لا يدركها إلا من ذاقها
[*] قال مالك بن دينار: وما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله عز وجل، فليس شيء من الأعمال أخف مئونة منه ولا أعظم لذة ولا أكثر فرحة وابتهاجا للقلب من ذكر الله.
، عَبِّر عنها أحدهم فقال: "والله إنا لفي لذة لو علمها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف".(8/201)
ما أشد حاجة العباد إليه، وما أعظم ضرورتهم إليه، لا يستغني عنه المسلم بحال من الأحوال، وإن الله أمرنا بالإكثار من ذكره لشدة حاجة العبد إليه وعدم استغنائه عنه طرفة عين فأي لحظة خلا فيها العبد عن ذكر الله عز وجل كانت عليه حسرة يوم القيامة ولا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ الحديد , وجلاؤه بالذكر فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء , فإذا ترك صدئ , فإذا ذكر جلاه , وصدأ القلب بأمرين: بالغفلة والذنب. وجلاؤه بشيئين: بالاستغفار والذكر. فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته كان الصدأ متراكبا على قلبه. وصدأه بحسب غفلته , وإذا صدئ القلب لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه , فيرى الباطل في صورة الحق , والحق في صورة الباطل. لأنه لما تراكم عليه الصدأ أظلم فلم تظهر فيه صورة الحقائق كما هي عليه , فإذا تراكم عليه الصدأ واسوَّد وركبه الران فَسَدَ تصورُه وإدراكه فلا يقبل حقا ولا ينكر باطلا وهذا أعظم عقوبات القلب.
[*] قال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه:
لكل شيء جلاء، وإن جلاء القلوب ذكر الله عز وجل، ولا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرهما، وجلاؤه بالذكر، فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء، فإذا ترك الذكر صدئ، فإذا ذكره جلاه.
وصدأ القلب بأمرين: بالغفلة والذنب، وجلاؤه بشيئين: بالاستغفار والذكر.
ومن كانت الغفلة أغلب أوقاته كان الصدأ متراكباً على قلبه بحسب غفلته فحري بنا أن لا يفتُر لساننا من ذكر الله تعالى.
[*] قال ابن القيم رحمة الله:
حقيقاً بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله وأن لا يزال لهجا بذكره.
فالغفلة واتباع الهوى يطمسان نور القلب ويعميان بصيرته قال تعالى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُط [الكهف:28]
[*] قال ابن القيم بعد تفسيره الآية:
فحري بالعبد إذا أراد أن يقتدي برجل فلينظر هل هو من أهل الذكر أو من الغافلين وهل الحاكم عليه الهوى أو الوحي فإن كان الحاكم عليه الهوى وهو من أهل الغفلة كان أمره فرطا، وَفُسِّرَ معنى فرطا بالتضييع أي ضيع أمره الذي يجب أن يلزمه و يقوم به وبه رشده وفلاحة.
(والذكر أفضل الطاعات وأجل القربات.(8/202)
وقد أمر الله تعالى الطائفة المؤمنة بأن يذكروا الله تعالى ذكراً كثيراً قال تعالى (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ اللّهَ ذِكْراً كَثِيراً، وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الأحزاب:41، 42]
[*] قال الإمام الطبري رحمه الله: يقول تعالى ذكره يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله اذكروا الله بقلوبكم، وألسنتكم، وجوارحكم ذكرا كثيرا فلا تخلو أبدانكم من ذكره في حال من أحوال طاقتكم ذلك، وسبحوه بُكْرَةً وَأَصِيلاً. اهـ. (1).
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
الذكر هو العبادة المطلوبة بلا حد ينتهي إليه {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً} وبلا وقت تختص به {ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى} وبلا حال تستثنى منه {الذي يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم}.
وقوله تعالى: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً: أي أول النهار وآخره.
وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ: الصلاة من الله الثناء، ومن الملائكة الدعاء.
[*] قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: أي من رحمته بالمؤمنين ولطفه بهم، أن جعل من صلاته عليهم وثنائه، وصلاة ملائكته ودعائهم، ما يخرجهم من ظلمات الذنوب والجهل، إلى نور الإيمان والتوفيق والعلم والعمل، فهذا أعظم نعمة أنعم بها على عباده الطائعين، تستدعي منهم شكرها، والإكثار من ذكر الله الذي لطف بهم ورحمهم. اهـ. (2)
فالذكر والشكر جماع السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة.
[*] وقال ابن قيم الجوزية في تعليقه على هذه الآية: فهذه الصلاة منه تبارك وتعالى ومن ملائكته إنما هى سبب الإخراج لهم من الظلمات إلى النور، وإذا حصلت لهم الصلاة من الله تبارك وتعالى وملائكته وأخرجوهم من الظلمات إلى النور فأي خير لم يحصل لهم وأي شر لم يندفع عنهم فيا حسرة الغافلين عن ربهم ماذا حرموا من خيره وفضله وبالله التوفيق. اهـ. (3)
[*] (وإليك غيضٌ من فيض مما ورد في فضل الذكر جملةً وتفصيلا:
(أولاً فضل الذكر جملةً:
(1) الذكر سبب في جلب المغفرة والأجر العظيم:
(2) أن الله تعالى يذكر من يذكره:
3) الذكر حياة القلوب:
4) أصحاب الذكر هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم:
__________
(1) تفسير الطبري (22/ 17).
(2) تيسير الكريم الرحمن تفسير سورة الأحزاب.
(3) الوابل الصيب (1/ 100).(8/203)
5) وبين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الذاكر لله تعالى يفوز بمعية الله تعالى، ومن كان معه الله فمن عليه!
6) بين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أهل الذكر هم أهل السبق:
7) ورغَّبنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الاجتماع على الذكر:
8) وحذر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من خلو أي مجلسٍ من ذكر الله تعالى:
9) ذكر الله تعالى خير أعمالنا وأزكاها عند الله تعالى وأرفعها في درجاتنا وخيرٌ من إنفاق الذهب والفضة.
(10) ذكر الله هو أساس العبودية لله:
(11) الإكثار من ذكر الله تعالى براءةٌ من النفاق:
(12) الذكر حصن حصين وحرزٌ متين من الشيطان اللعين:
(13) الذكر طمأنينة وسكينة:
(14) إن الذاكرين هم أهل الانتفاع بآيات الله وهم أولو الألباب:
(15) ذكر الله تعالى شفاء ورحمة للمؤمنين:
(16) الذكر غراس الجنة:
(18) الذكر سبب لرفع البلاء:
(19) الذكر سبب في جلب الخيرات:
(20) الذكر سبب في تفريج الكرب:
(21) الذكر سبب في حفظ الذرية من الشيطان:
(22) ذكر الله تعالى أكبر الأعمال بنص القرآن الكريم:
(23): أنه يحط الخطايا ويذهبها:
(24) أنه سبب لنزول الرحمة والسكينة:
(25) الذكر كنزٌ من كنوز الحسنات:
(26) أن دوام ذكر الرب تعالى يوجب الأمان من نسيانه الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده:
(27) أن الذكر يوجب صلاة الله تعالى وملائكته على الذاكر، ومن صلى الله تعالى عليه وملائكته فقد أفلح كل الفلاح، وفاز كل الفوز:
(28) أن الله عز وجل يباهي بالذاكرين ملائكته:
(29) أن إدامته تنوب عن الطاعات وتقوم مقامها:
(30) أن الذكر يعطي الذاكر قوة في قلبه وفي بدنه:
(31) صلة الذكر بالعبادات أوثق:
(32) الذكر أنجى عملاً للنجاة من عذاب الله عز وجل.
(33) ذكر الله سلاح مقدم على أسلحة الحروب الحسية التي لا تكلم:
(34) الذكر رأس الشكر فما شكر الله تعالى من لم يذكره:
(35) مجالس الذكر سبب عظيم بل هي سبب رئيسي من أسباب حفظ اللسان:
(36) أن الذكر ينبه القلب من نومه ويوقظه من سنته:
(37) أن الذكر مع البكاء في الخلوة سبب لإظلال الله للعبد يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
(38) الذكر يوازى ثواب صلاة الضحى صلاة الضحى هي صدقة عن 360 مفصل في جسم الإنسان:
(39) الذكر سبب لنيل شفاعة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(40) الذكر أفضل بطاقة في الميزان:
(41) الذكر يكفر الذنوب وإن كانت مثل زبد البحر:(8/204)
(41) الذكر يجزئ عن القرآن في حق من لا يحسن القرآن:
(42) حلق الذكر هي رياض الجنة:
(ثانياً فضل الذكر تفصيلا:
(1) الذكر سبب في جلب المغفرة والأجر العظيم:
قال تعالى: (وَالذّاكِرِينَ اللّهَ كَثِيراً وَالذّاكِرَاتِ أَعَدّ اللّهُ لَهُم مّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)
[الأحزاب /35]
أي: كثيراً. ففيه الأمر بالذكر بالكثرة والشدة لشدة حاجة العبد إليه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، فالإنسان لا يستغني لا يستغني عن ربه طرفة عين ولا أقل من ذلك، ولهذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يردد كثيرا: " لا تكلني إلى نفسي طرفة عين.
(حديث أبي بكرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين و أصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت.
فقيراً جئتُ بابك يا إلهي ......... ولستُ إلى عبادك بالفقيرِ
غنياً عنهمُ بيقينِ قلبي ........... وأطمعُ منك في لفضلِ الكبيرِ
الهي ما سألتُ سواك عونا ...... فحسبي العونُ من ربٍ قديرِ
الهي ما سألتُ سواك عفوا ..... فحسبي العفوُ من ربٍ غفورِ
الهي ما سألتُ سواك هديا ..... فحسبي الهديُ من ربٍ بصيرِ
إذا لم أستعن بك يا الهي ...... فمن عونيِ سواك ومن مجيرِ
إن الفرار إلى الله، واللجوء إليه في كلِ حالٍ وفي كل كربٍ وهم، هو السبيلُ للتخلصَ من ضعفنا وفتورنا وذلنا و هواننا.
يا من يرى ما في الضمير و يسمعوا
أنت المعد لكل ما يتوقعٌ
يا من يرجى للشدائد كلها
يا من إليه المشتكي و المفزعٌ
يا من خزائن رزقه في قول كن فيكون
و الخير كله عندك أجمعٌ
مالي سواء فقري إليك وسيلة
فالافتقار إليك فقري إليك أرفعٌ
مالي سواء قرعي لبابك حيلة
فلئن رددت أي باب أقرعٌ
و من ذا الذي أدعوه و أهتف باسمه
إن كان فضلك عن فقيرك يمنعٌ
إن في هذه الدنيا مصائبَ ورزايا، ومحناً وبلايا، آلامُ تضيقُ بها النفوس، ومزعجاتُ تورث الخوفَ والجزع، كم في الدنيا من عينٍ باكيةٍ؟
وكم فيها من قلب حزين؟
وكم فيها من الضعفاءِ والمعدومين، قلوبُهم تشتعل، ودموعُهم تسيل؟ هذا يَشْكُ علةً وسقما، عزيزٌ قد ذل، وغنيٌ افتقر، وصحيحٌ مرض، رجل يتبرم من زوجه وولده، وآخرُ يشكُ ويئنُ من ظلمِ سيده.
وثالثٌ كسدة وبارت تجارته، شاب أو فتاة يبحث عن عروس، وطالب يشكو كثرة الامتحانات والدروس.
هذا مسحور وذاك مدين، وأخر ابتليَ بالإدمان والتدخين، ورابعُ أصابه الخوفُ ووسوسةُ الشياطين.(8/205)
وذاك حاجةً وفقرا.
وآخر هماً وقلقا.
تلك هي الدنيا، تضحكُ وتبكي، وتجمعُ وتشتت، شدةُ ورخاءُ وسراءٌ وضراءُ.
وصدق الله العظيم: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ). [الحديد / 23]
(2) أن الله تعالى يذكر من يذكره:
قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة /152]
[*] قال الحسن البصري في معناها: "قال: فاذكروني فيما افترضت عليكم أذكركم فيما أوجبت لكم على نفسي"،
[*] وقال سعيد بن جبير: "فاذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي ورحمتي".
وإذا كان الإنسان يُسَرَّ كثيراً حين يبلغه أن ملكاً من الملوك ذكره في مجلسه فأثنى عليه، فكيف يكون حاله إذا ذكره الله تعالى ملك لملوك، في ملأ خير من الملأ الذين يذكره فيهم؟
فيا له من شرف وفضل؛ أن يذكر الربُّ العظيمُ العبدَ الضعيف، أن يذكر الربُّ القويُّ العبدَ الضعيفَ، أن يذكر الربُّ الغنيُّ العبدَ الفقيرَ. إنه ذكر ما بعده ذكر؛ فاذكروني بالتذلل أذكركم بالتفضل. اذكروني بالأسحار أذكركم بالليل والنهار. اذكروني بالجهد أذكركم بالجود. اذكروني بالثناء أذكركم بالعطاء. اذكروني بالندم أذكركم بالكرم. اذكروني في دار الفناء أذكركم في دار البقاء. اذكروني في دار المحنة أذكركم في دار النعمة. اذكروني في دار الشقاء أذكركم في دار النعماء
[*] يقول يحيى بن معاذ:
"يا غفول يا جهول، لو سمعت صرير الأقلام في اللوح المحفوظ وهي تكتب اسمك عند ذكرك مولاك لمِتَّ شوقًا إلى مولاك".
ويبلغ الكرم منتهاه ويبلغ التفضل ذروته، حين يخبرنا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقول رب العزة سبحانه وتعالى: فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملٍ خيرٌ منهم، وإن تقَّرب إليَّ شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إليَّ ذراعا تقربت إليه باعا و إن أتاني مشيا أتيته هَرْوَلَةً.
(وأنا معه إذا ذكرني): وهذه المعية هي معية خاصة وهي معية الحفظ والتثبيت والتسديد كقوله سبحانه لموسى وهارون: {إنني معكما أسمع وأرى} [طه/ 46](8/206)
وكقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل /128] فهي معية مع المتقين والمحسنين. وقوله: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة /153] فهي معية مع الصابرين بحفظهم وكلاءتهم وحفظهم وتوفيقهم. وهي غير المعية العامة، التي هي معية الله تعالى مع الخلق كلهم. كما قال تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) [الحديد/4]
مع الخلق بإحاطته ونفوذ قدرته ومشيئته وعلمه وإطلاعه ونفوذ بصره فيهم، فهي تشمل الخلق كلهم، مؤمنهم وكافرهم، فالله -تعالى- معهم بالعلم لا يخفى عليه شيء من عباده. كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المجادلة /7]
فافتتح أول الآية بالعلم وختمها بالعلم، فدل على أن المعية معية العلم والإحاطة، والاطلاع والقدرة والمشيئة.
فيجتمع في حق المؤمن المعية الخاصة والعامة، فهو مع الذاكرين بعلمه وإحاطته وإطلاعه، ومعهم معية خاصة بتوفيقه وإعانته، وينفرد الكافر بالمعية العامة.
(ولكن الإنسان من طبعه الغفلة والنسيان. وما أتعسه إذا نسي ربه؛ فيكون الجزاء من جنس العمل كما أخبر تعالى {نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة /67]
وما أقساها عقوبة! وما أشده جزاء! فيا شقاء من نسيه الله؛ فلن يكون له ذكر في الأرض ولا في الملأ الأعلى؛ فهو من الضائعين في الدنيا والآخرة.
ولذلك قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه / 124:126]
فنسيان آيات الله في الدنيا سبب لنسيان العبد في الآخرة. والأشد من ذلك أن يُنسي اللهُ العبدَ نفسه؛ ولذلك حذر سبحانه وتعالى عباده فقال: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر /19]
3) الذكر حياة القلوب:(8/207)
الذكر حياة القلوب، والغفلة مواتها، فالذكر يحي القلوب بإحياء المعاني الإيمانية، ودوام الصلة بالله، فبفضل ذكر الله يصبح القلب لينا لا قاسيا، ويكون من أصحاب القلوب الحية التي بحياتها تحيا جميع الجوارح وتستنير، ولن يكون هناك انشغال بغير الله تعالى، فذكر الله تعالى سبب للحياة الكاملة التي يتعذر معها أن يرمي صاحبها بنفسه في أتون الجحيم، أو غضب وسخط الرب العظيم، وعلى الضد من ذلك التارك للذكر، الناسي له؛ فهو ميت لا يبالي الشيطان أن يلقيه في أي مزبلة شاء.
قال تعالى: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرّحْمََنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف/36]
(ونحن لا نقصد بالحياة هنا الحياة المحسوسة التي يشترك فيها الإنسان مع باقي الكائنات الحية؛ وإنما نقصد بها حياة الروح وروح الحياة، حياة القلب وقلب الحياة، نقصد الحياة التي عبر عنها الله تعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال /24]
فهذه الحياة متحققة بالاستجابة لأمر الله ورسوله. وقد أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت".
(حديث أبي موسى الأشعري في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت.
ومن مظاهر هذه الحياة اطمئنان القلب ويقينه في الله تعالى، واستكمال الآية الكريمة آنفة الذكر: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}. [الأنفال /24]
وهذا يعني أن هناك علاقة قوية ومباشرة بين هذه الحياة والقلب؛ فحيلولة الله بين المرء وقلبه تعني موات هذا القلب وعدم انتفاعه بالموعظة.
وذكر الله عز وجل هو الطريق الرئيسي لتحقيق هذا اليقين القلبي، ومصداق ذلك قول الله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد/28]
ومن أول صفات المخبتين {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال /2]
(وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ): إنها الارتعاشة الوجدانية التي تنتاب القلب المؤمن حين يذكر الله عز وجل في أمر أو نهي، فتتغشاه جلالة، وتنتفض مخافته ويتمثل عظمة الله ومهابته إلى جانب تقصيره هو وذنبه، فينبعث إلى العمل والطاعة".(8/208)
وتوعد سبحانه وتعالى القلب الميت الذي لا يتأثر بالذكر {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الزمر /22]
وعلاقة اطمئنان القلب بالذكر أن العبد إذا ذكر من أسماء الله وصفاته: الرزاق الفتاح الوهاب الكريم الباسط؛ اطمأن على رزقه. وإذا ذكر من أسمائه تعالى: الغفور الرحيم التواب العفو؛ اطمأن على مغفرة ذنوبه وتكفير سيئاته. وإذا ذكر من أسمائه: العليم الخبير السميع البصير؛ اطمأن على أن ما أصابه فإنما هو بقدر الله وعلمه. وإذا ذكر من أسمائه: القادر المنتقم الجبار؛ اطمأن على قدرة الله تعالى على الانتقام من المتجبرين ورد كيد المعتدين ودفع الظالمين.
وهكذا فالعيش مع أسماء الله وصفاته يكسب القلب طمأنينة ويقينا، وينزل على النفس بردا وسلاما. ويكتمل اليقين القلبي بالتغلب على الشيطان الذي أخذ على نفسه العهد أن يضل الإنسان، وأن يوسوس له ويزعزع إيمانه ويقينه في ربه.
إذن فحياة القلب الذي ينصلح الجسد بصلاحه ويفسد بفساده متحققة بذكر الله، والتفكر في أسمائه وصفاته، والعيش في رحابه.
ثم نأتي إلى نوع آخر من الحياة في رحاب الذكر؛ ألا وهو حياة اللسان. وتتمثل هذه الحياة في الوصية الغالية التي وصى بها الحبيب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحد أصحابه قائلا: "لا يزال لسانك رطبا بذكر الله"
(حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) قال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به قال لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله.
[*] قال صاحب تحفة الأحوذي:
إن شرائع الإسلام قد كثرت علي: أي غلبت علي بالكثرة حتى عجزت عنها لضعفي فأخبرني بشيء قال الطيبي التنكير في بشيء للتقليل المتضمن لمعنى التعظيم كقوله تعالى ورضوان من الله أكبر، ومعناه أخبرني بشيء يسير مستجلب لثواب كثير.
أتشبث به: أي أتعلق به وأستمسك ولم يرد أنه يترك شرائع الإسلام رأسا بل طلب ما يتشبث به بعد الفرائض عن سائر ما لم يفترض عليه.
لا يزال لسانك رطباً بذكر الله تعالى: أي طريا مشتغلا قريب العهد منه وهو كناية عن المداومة على الذكر. اهـ. (1)
والرطوبة في الزرع علامة على النضارة والاخضرار والحياة، ورطوبة اللسان علامة على استمرار مقومات الحياة له، وعكس الرطوبة اليبس والجمود، وهو يعني التحجر والموت والقساوة.
__________
(1) تحفة الأحوذي (9/ 222).(8/209)
ومن مظاهر الحياة في رحاب الذكر حياة العينين، وعلامة هذه الحياة الدمع من خشية الله. كما ذكر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله "ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه".
[*] قال القرطبي رحمه الله تعالى:
"وفيض العين بحسب حال الذاكر وبحسب ما يكشف له؛ ففي حال أوصاف الجلال يكون البكاء من خشية الله، وفي حال أوصاف الجمال يكون البكاء من الشوق إليه".
[*] وقال بعض أهل العلم:
"من رأى مبتلى فدمعت عيناه فهو من الذاكرين الله؛ لأن من المبتلين إذا رآهم المؤمن تدمع عيناه؛ لأنه يذكر نعمة الله عليه فهذا كأنه ذكر الله بلسانه".
4) أصحاب الذكر هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم:
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن لله ملائكة يطوفون في الطرقات يلتمسون الذكر فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجاتكم فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا فيسألهم ربهم و هو أعلم منهم: ما يقول عبادي؟ فيقولون: يسبحونك و يكبرونك و يحمدونك و يمجدونك فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا و الله ما رأوك فيقول: كيف لو رأوني؟ فيقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة و أشد لك تمجيدا و أكثر لك تسبيحا فيقول: فما يسألوني؟ فيقولون: يسألونك الجنة فيقول: و هل رأوها؟ فيقولون: لا و الله يا رب ما رأوها فيقول: فكيف لو أنهم رأوها؟ فيقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا و أشد لها طلبا و أعظم فيها رغبة قال: فمم يتعوذون؟ فيقولون: من النار فيقول الله: هل رأوها؟ فيقولون: لا و الله يا رب ما رأوها فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارا و أشد لها مخافة فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم فيقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة! فيقول: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم.
(وفي الحديث من الفوائد:
فضيلة الذكر وفضيلة مجالسه والجلوس مع أهله وإن لم يشاركهم، وفضيلة مجالسة الصالحين وبركتهم.
قوله: فضلاً: قال العلماء: أنهم ملائكة زائدون على الحفظة فهؤلاء السيارة لا وظيفة لهم وإنما مقصودهم حلق الذكر.
وقوله: "هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم"(8/210)
[*] قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في الوابل الصيب: فهذا من بركتهم على نفوسهم وعلى جليسهم فلهم نصيب من قوله: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ}. (1) فهكذا المؤمن مبارك أين حل، والفاجر مشئوم أين حل، فمجالس الذكر مجالس الملائكة، ومجالس الغفلة مجالس الشياطين وكل مضاف الى شكله واشباهه فكل امرئ يصير الى ما يناسبه. اهـ. (2)
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
فهؤلاء الذين هم من أفضل أولياء الله كان مطلوبهم الجنة ومهربهم من النار. اهـ. (3)
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى:
قالوا والعمل على طلب الجنة والنجاة من النار مقصود الشارع من أمته ليكونا دائما على ذكر منهم فلا ينسونهما، ولأن الإيمان بهما شرط في النجاة، والعمل على حصول الجنة والنجاة من النار هو محض الإيمان.
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في السلسلة الصحيحة) قال: قلت يا رسول الله ما غنيمة مجالس الذكر؟ قال: "غنيمة مجالس الذكر الجنة".
الغنيمة: هو الفوز بالشيء وحيازته، وهو مافيه من الأجر والثواب.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله عز وجل لا يريدون بذلك إلا وجهه إلا ناداهم منادٍ من السماء أن قوموا مغفوراً لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات.
5) وبين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الذاكر لله تعالى يفوز بمعية الله تعالى، ومن كان معه الله فمن عليه!
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملٍ خيرٌ منهم، وإن تقَّرب إليَّ شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إليَّ ذراعا تقربت إليه باعا و إن أتاني مشيا أتيته هَرْوَلَةً.
6) بين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أهل الذكر هم أهل السبق:
ولأن روائع الفكر في مجامع الذكر سبق المفردون بنص السنة الصحيحة
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سبق المُفَرِدون، قالوا وما المفردون؟ قال الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.
وقد تضمن هذا الحديث غرر الفوائد، ودرر الفرائد، ولذلك سنسلكها قلائد تزين رياض الذاكرين.
__________
(1) سورة مريم الآية (31).
(2) الوابل الصيب (1/ 101).
(3) كتاب الزهد والورع والعبادة (1/ 135).(8/211)
(معنى المفردين:
قال ابن قتيبة: " الذين هلك أقرانهم وانفردوا عنهم فبقوا يذكرون الله تعالى "، وقال ابن الأعرابي: " فرد الرجل إذا تفقه واعتزل وخلا بمراعاة الأمر والنهي "، وأما الأزهري فقال: " هم المتخلقون من الناس بذكر الله تعالى " [انظر مسلم بشرح النووي17/ 4 والمفهم 7/ 9] والمقصود أنهم متميزون عن غيرهم، ومنفردين عن سواهم بخصلة مهمة جعلتهم السابقين ألا وهي كثرة الذكر.
[*] قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات يذكرون الله في أدبار الصلوات، وغدوًا وعشيًا أي صباحًا ومساءً، وفي المضاجع أي عند النوم، وكلما استيقظ من نومه، وكلما غدا أو راح من منزله أي في دخوله وخروجه والمعنى أنهم يذكرون الله في جميع أحوالهم.
[*] قال ابن الصلاح:
إذا واظب المسلم على الأذكار المأثورة الثابتة صباحا ومساءً، وفي الأوقات والأحوال المختلفة ليلا ونهارًا كان من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات، وفي الحديث الذي رواه الأربعة
(بيان حقيقة السابقين:
[*] قال الحافظ ابن رجب الحنبلي:
«ومن هذا السياق يظهر وجه ذكر السابقين في هذا الحديث؛ فإنه لما سبق الركب، وتخلف بعضهم؛ نبه على أن السابقين هم الذين يديمون ذكر الله، ويولعون به، ومن هذا المعنى قول عمر بن عبد العزيز ليلة عرفة بعرفة عند قرب الإفاضة: «ليس السابق اليوم من سبق بعيره، وإنما السابق من غفر له»
{تنبيه}: (حقيقة الانفراد عن الأقران والتميز عن الخلان المداومة على طاعة الرحمن؛ فإن المنفردين هم الذين هلك أقرانهم، وبقوا يذكرون الله.
ولذلك حض الله –سبحانه وتعالى- على المسارعة إلى الخيرات، واستباق الصالحات والتنافس في الطاعات؛ كما في قوله تعالى: (وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة/ 148]
وقوله تعالى: (وَسَارِعُوَاْ إِلَىَ مَغْفِرَةٍ مّن رّبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُهَا السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدّتْ لِلْمُتّقِينَ) [آل عمران/ 133]
وقوله تعالى قال تعالى: (لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَلََكِن لّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىَ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [المائدة / 48](8/212)
وأما التنافس في الدنيا فهو مشغلة عن طاعة الرحمن، وحبالة الشيطان، وحبها جامع لكل شر.
وإنما صار حب الدنيا رأس الخطايا ومفسداً للدين من وجوه:
(أ) أن حبها يقتضي تعظيمها وهي حقيرة.
(ب) أن حبها يجعلها غاية، فيصير يتوسل إليها بالأعمال التي جعلها الله وسائل إلى الدار والآخرة، فعكس الأمر، وقلب الحكمة.
(ج) أن حبها يعترض بين العبد وفعل الخيرات.
(د) أن محبتها تجعلها أكبر هم العبد.
(هـ) أن محبتها يؤثرها على الآخرة.
فيا عباد الله لا تتخذوا الدنيا رباً فتتخذكم عبيداً، واعبروها ولا تعمروها، واعلموا أن أصل كل خطيئة حب الدنيا، ورب شهوة أورثت أهلها حزناً طويلاً، وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يجيء الموت فيأخذ بعنقه، فارض يا عبد الله بدنيء الدنيا مع سلامة الدين كما رضي أهل الدنيا بدنيء الدين مع سلامة الدنيا.
والمرض العضال، من سَلِمَ منه فقد سلم، وهو مثل الغيرة يثير الحقد والكراهية، ويدفع إلى تمني وقوع الأذى للشخص المحسود.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري. قال قال عيسى بن مريم عليه السلام: حب الدنيا رأس كل خطيئة، والمال فيه داء كثير، قيل: يا روح الله: ما داؤه؟ قال: لا يؤدي حقه، قالوا: فإن أدى حقه. قال: لا يسلم من الفخر والخيلاء، قالوا: فإن سلم من الفخر والخيلاء؟ قال: يشغله استصلاحه عن ذكر الله.(8/213)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم يقول: ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغض حبيبك، ذم مولانا الدنيا فمدحناها، وأبغضها فأحببناها، وزهدنا فيها فآثرناها ورغبنا في طلبها، وعدكم خراب الدنيا فحصنتموها، ونهيتم عن طلبها فطلبتموها، وأنذركم الكنوز فكنزتموها دعتكم إلى هذه الغرارة دواعيها، فأجبتم مسرعين مناديها، خدعتكم بغرورها ومنتكم، فأنفذتم خاضعين لأمنيتها تتمرغون في زهواتها، وتتمتعون في لذاتها، وتتقلبون في شهواتها، وتتلوثون بتبعاتها، تنشبون بمخالب الحرص عن خزائنها، وتحفرون بمعاول الطمع في معادنها، وتبنون بالغفلة في أماكنها وتحصنون بالجهل في مساكنها، تريدون أن تجاوروا الله في داره، وتحطوا رحالكم بقربه، بين أوليائه وأصفيائه، وأهل ولايته، وأنتم غرقى في بحار الدنيا حيارى، ترتعون في زهواتها، وتتمتعون في لذاتها، وتتنافسون في غمراتها، فمن جَمْعِها ما تشبعون، ومن التنافس فيها ما تَمِلُّون، كذبتم و الله أنفسكم وغرتكم ومنتكم الأماني، وعللتكم بالتواني، حتى لا تعطوا اليقين من قلوبكم، والصدق من نياتكم، وتتنصلون إليه من مساوىء ذنوبكم وتعصوه في بقية أعماركم، أما سمعتم الله تعالى يقول في محكم كتابه: (أَمْ نَجْعَلُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتّقِينَ كَالْفُجّارِ) [ص: 28]. لا تنال جنته إلا بطاعته، ولا تنال ولايته إلا بمحبته، ولا تنال مرضاته إلا بترك معصيته، فإن الله تعالى قد أعد المغفرة للأوابين، وأعد الرحمة للتوابين، وأعد الجنة للخائفين، وأعد الحور للمطيعين، وأعد رؤيته للمشتاقين، قال تعالى: (وَإِنّي لَغَفّارٌ لّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمّ اهْتَدَىَ) [طه: 82]. من طريق العمى إلى طريق الهدى.
مسألة: متى يكون العبد من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات؟
يكون العبد من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات في الأحوال الآتية:
(1) إذا ذكر الله في جميع أحواله.
قال ابن عباس: المراد: يذكرون الله في أدبار الصلوات، وغدوًّا وعشيًّا، وفي المضاجع، وكلما استيقظ من نومه، وكلما غدا أو راح من منزله؛ ذكر الله تعالى»
(2) إذا ذكر الله قائمًا وقاعدًا وعلى جنب.
[*] قال مجاهد: «لا يكون من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات حتى يذكر الله قائمًا، وقاعدًا، ومضطجعًا.
(3) إذا استيقظ من الليل، وأيقظ أهله وصليا جميعًا،(8/214)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا أيقظ الرجل أهله فصليا -أو صلى- ركعتين جميعًا؛ كتبا في الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات.
7) ورغَّبنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الاجتماع على الذكر:
إلا الترمذي "إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا ركعتين جميعا، كتبا في الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات" ذكر ذلك النووي في الأذكار.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله و يتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة و غشيتهم الرحمة و حفتهم الملائكة و ذكرهم الله فيمن عنده.
(وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله): المراد به المسجد فإن بيوت الله هي المساجد قال الله تعالى (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [النور36/]
و قال تعالى (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) [الجن/18]
و قال تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [البقرة/114]
فأضاف المساجد إليه؛ لأنها موضع ذكره.
قوله (يتلون كتاب الله و يتدارسونه بينهم) يتلونه: يقرءونه و يتدارسونه أي: يدرس بعضهم على بعض.
(إلا نزلت عليهم السكينة و غشيتهم الرحمة و حفتهم الملائكة): نزلت عليهم السكينة يعني: في قلوبهم و هي الطمأنينة و الاستقرار، و غشيتهم الرحمة: غطتهم و شملتهم.
وحفتهم الملائكة: صارت من حولهم
و ذكرهم الله فيمن عنده أي: من الملائكة
(وقد تضمن هذا الحديث غرر الفوائد، ودرر الفرائد
(فمن فوائد الحديث: فضيلة اجتماع الناس على قراءة القرآن لقوله - و ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله .. الخ
(ومن فوائد الحديث: أن حصول هذا الثواب لا يكون إلا إذا اجتمعوا في بيت الله أي: في مسجد من المساجد لينالوا بذلك شرف المكان لأن أفضل البقاع مساجدها.
(ومن فوائد الحديث: بيان حصول هذا الأجر العظيم تنزل عليهم السكينة و هي الطمأنينة القلبية و تغشاهم الرحمة أي: تغطيهم و تحفهم الملائكة أي: تحيط بهم من كل جانب و يذكرهم الله فيمن عنده من الملائكة لأنهم يذكرون الله تعالى عن ملأ، و قد قال الله تعالى في الحديث القدسي -من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم-.(8/215)
8) وحذر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من خلو أي مجلسٍ من ذكر الله تعالى:
(حديث أبي هريرة في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه إلا قاموا عن مثلِ جيفةِ حمار و كان لهم حسرة.
(معنى (إلا قاموا عن مثلِ جيفةِ حمار): أي مجلس نتن كجيفة حمار لخلوه من ذكر الله تعالى، لأن المجالس لا تعمرُ إلا بذكر الله تعالى.
(معنى (وكان لهم حسرة): أي كان هذا المجلس ندامة لهم يوم القيامة لخلوه من الذكر
9) ذكر الله تعالى خير أعمالنا وأزكاها عند الله تعالى وأرفعها في درجاتنا وخيرٌ من إنفاق الذهب والفضة.
(حديث أبي الدر داء في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ألا أنبئكم بخير أعمالكم و أزكاها عند مليككم و أرفعها في درجاتكم وخيرٌ لكم من إنفاق الذهب و الورق و خيرٌ لكم من أن تلقوْا عدوكم فتضربوا أعناقهم و يضربوا أعناقكم؟ قالوا بلى، قال: ذكر الله.
أزكاها: أكثرها ثواباً وأطهرها،
وأرفعها: أزيدها.
مليككم: أي ربكم ومالككم.
وأرفعها في درجاتكم: أي منازلكم في الجنة.
والورِق: بكسر الراء الفضة.
فيه بيان فضل الذكر وأنه خير من الضرب بالسيف في سبيل الله عز وجل ونفقة الأموال في سبيل الله.
[*] قال المناوي في فيض القدير: لأن سائر العبادات من الإنفاق ومقاتلة العدو وسائل ووسائط يتقرب بها إلى اللّه تعالى والذكر هو المقصود الأسمى ورأس الذكر قول لا إله إلا اللّه وهي الكلمة العليا وهي القطب الذي يدور عليه رحى الإسلام والقاعدة التي بني عليها أركان الدين والشعبة التي هي أعلى شعب الإيمان بل هي الكل وليس غيره.
الله أكبر ما أعظم هذا الأجر! إنه أعظم من إنفاق الأموال وإزهاق الأرواح في سبيل الله، وتأمل كيف عرض النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا الحديث بطريقة تبرر وتؤكد عظمة هذا الأجر.
(لقد بدأ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالسؤال الذي يلفت النظر ويسترعي الانتباه، وجعل مضمون السؤال فيما يهم المؤمنين؛ حتى تتهيج النفوس وتتحفز المشاعر، ويكونوا بالإجابة متعلقين، وبالعلم بها شغوفين، وللعمل مبادرين، فقال لذلك كله: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم ... ).(8/216)
(ثم انتقل بالمقارنة الملموسة بأعمال معروفة بعظمتها وكثرة أجرها، وجعل الذكر أكثر منها أجراً فقال: (وخير لكم من أعطاء الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم) فقارن الذكر وأجره بالإنفاق المالي، وهو عبادة متعدية النفع عظيمة الجر لاحتياجها إلى مجاهدة النفس، ومغالبة شحها وشهوتها في التملك والاستزادة، وكذلك قارن الذكر بالجهاد العملي الذي تبذل في المهج والأرواح.
ثم في آخر الحديث، وبعد تطلع الصحابة وتشوقهم قال لهم: (ذكر الله عز وجل)، فكانت طريقة عرضه أبلغ في إبراز المعنى والتأكيد على أهمية الذكر ورفعة مكانته.
ويؤكد مكانة الذكر أيضاً الحديث الآتي:
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من عجز منكم عن الليل أن يكابده وبخل بالمال أن ينفقه وجبن عن العدو أن يجاهده فليكثر ذكر الله.
وقد بينت السنة الصحيحة أن أفضل أهل كل عمل أكثرهم فيه ذكرا لله عز وجل فأفضل الصائمين أكثرهم ذكرا لله عز وجل وأفضل المتصدقين أكثرهم ذكرا لله تعالى وأفضل الحجيج أكثرهم ذكرا لله تعالى وهكذا سائر الأعمال
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: جاء الفقراء إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ولهم فضلٌ من أموالاٍ يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا أحدثكم بما إن أخذتم به أدركتم من سبقكم ولم يدركم أحدٌ بعدكم وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيهم إلا من عمل مثله؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين، فاختلفنا بيننا فقال بعضنا نسبح ثلاثاً وثلاثين ونحمد ثلاثاً وثلاثين ونكبِّر ثلاثاً وثلاثين فرجعت إليه فقال: تقول سبحان الله والحمد لله والله أكبر حتى يكون منهن كلهن ثلاثاً وثلاثين.
أهل الدثور: أي أهل الأموال والدثور: بضم الدال وجمع دثر بفتحها وهو المال الكثير.
والبُضْع: هو بضم الباء ويطلق على الجماع ويطلق على الفرج نفسه، هو الجماع وقيل الفرج نفسه.(8/217)
[*] قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:" وفي بضع أحدكم صدقة" وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله تعالى به أو طلب ولد صالح أو إعفاف نفسه أو إعفاف الزوجة ومنعها جميعاً من النظر إلى الحرام أو الفكر فيه أو الهم به أو غير ذلك من المقاصد الصالحة.
(وقد ظنّ الفقراء أن لا صدقة إلا بالمال، وهم عاجزون عن ذلك، فأخبرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ جميع أنواع فعل المعروف والإحسان صدقةٌ، وذكر في مقدّمة ذلك هؤلاء الكلمات الأربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
فالذكر أفضل العمل و أسهل عمل، ولذلك تجد الذاكر في فراشه يسبق الجواد المنفق والشجاع المقاتل لأن قلبه ذاكر لمولاه سبحانه وتعالى فهنيئا لمن طابت ألسنتهم بذكر الله هنيئا لمن انشرحت صدورهم بذكر الله هنيئا لمن عمرت أوقاتهم بذكر الله هنيئا لمن سبقوا ذكر الناس وهو الدواء واغتياب الناس وهمز الناس وغمز الناس وعبدوا وذكروا رب الناس وسبحوا إله الناس وقدسوا ملك الناس.
لقد آن لنا أن نراجع الثواني والدقائق التي تمر:
دقات قلب المرء قائلة له ... إن الحياة دقائق وثواني
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها ... فالذكر للإنسان عمر ثاني
ولسائل أن يسأل: ما سر تفضيل الذكر على سائر أنواع وأعمال البر مع أنه خفيف على اللسان ولا يحصل به تعب على الأبدان؟
والجواب: أن ذلك لأسباب عديدة منها ما يلي:
(أولاً) أن الذكر يورث يقظة القلب وحياته وصلاحه،
ولذلك قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:في الحديث الآتي:
(حديث أبي موسى الأشعري في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت.
(حديث أبي موسى الأشعري في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت.(8/218)
[*] قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: إن الذي يوصف بالحياة والموت حقيقة هو الساكن لا الموطأ، وإن إطلاق الحي والميت في وصف البيت إنما يراد به ساكن البيت، فشبه الذاكر بالحي الذي ظاهره متزين بنور الحياة وباطنة بنور المعرفة وغير الذاكر بالبيت الذي ظاهره عاطل وباطنه باطل، وقيل موقع التشبيه بالحي والميت لما في الحي من النفع لمن يواليه والضر لمن يعاديه وليس ذلك في الميت. اهـ
فالذكر حياة القلوب وصلاحها فالذكر للقلب كالماء للزرع بل كالماء للسمك لا حياة له إلا به. فإذا حييت القلوب وصَلَحت صلحت الجوارح واستقامت، ومن المعلوم شرعاً أن القلب ينصلح الجسد بصلاحه ويفسد بفساده كما بينه النبي في الحديث الآتي:
(حديث النعمان بن بشير الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الحلال بين و الحرام بين و بينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه و دينه و من وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا و إن لكل ملك حمى ألا و إن حمى الله تعالى في أرضه محارمه ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب.
(ثانياً) أن الله سبحانه جعل لسائر العبادات مقداراً، وجعل لها أوقاتاً محدودة، ولم يجعل لذكر الله مقداراً ولا وقتاً، وأمر بالإكثار منه بغير مقدار، ولأن رءوس الذكر هي الباقيات الصالحات.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: خذوا جُنَّتَكم من النار قولوا: سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر فإنهن يأتين يوم القيامة مقدمات و معقبات و مجنبات و هن الباقيات الصالحات.
(ثالثاً) لأنه ثبت بالسنة الصحيحة أن الذكر أنجى عملاً من عذاب الله تعالى:
(حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما عمل امرؤ بعمل أنجى له من عذاب الله عز وجل من ذكر الله.
فيه أن ذكر الله تعالى من أفضل الأعمال، وأنه ينجي من عذاب الله تعالى.(8/219)
ثم ليعلم كل مسلم صادق أن المؤثر النافع، هو الذكر باللسان على الدوام مع حضور القلب، لأن اللسان ترجمان القلب؛ والقلب حافظة مستحفظة للخواطر والأسرار، ومن شأن الصدر أن ينشرح بما فيه من ذكر، ويلذ على اللسان، ولا يكتفي بمخاطبة نفسه به في خلواته حتى يفضي به بلسانه، متأولاً قول الله عز وجل: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ [الأعراف:205]
(فأما الذكر باللسان والقلب لاهٍ فهو قليل الجدوى:
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ادعوا الله و أنتم موقنون بالإجابة و اعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلبٍ غافلٍ لاه.
(وكذا حضور القلب في لحظة بالذكر، والذهول عنه لحظات كثيرة، هو كذلك قليل الجدوى، لأن القلب لا يخلو من الالتفات إلى شهوات الدنيا، ومن المعلوم بداهة أن المتلبس لا يصل سريعاً.
(ولذا فإن حضور القلب على الدوام أو في أكثر الأوقات هو المقدم على غيره من العبادات، بل به تشرف سائر العبادات، وهو غاية ثمرات العبادات العملية، ولذا فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حذر من أن تنفض المجالس دون أن يذكر الله عز وجل فيها
(حديث أبي هريرة في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه إلا قاموا عن مثلِ جيفةِ حمار و كان لهم حسرة.
فهذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمقت مجالس الغافلين، وينهى عن كل تجمع خلا من ذكر الله، وأن المجالس التي ينسى فيها ذكر الله وتنفض عن لغط طويل حول مطالب العيش وشهوات الخلق؛ في تهويش وتشويش وهمز ولمز، هي مجالس نتنة، لا شيء فيها يستحق الخلود، إنما الذي يخلد ما اتصل بالله سبحانه وتعالى.
(ولذا فقد حثنا صلوات الله وسلامه على كفارة المجلس:
(حديث ابن مسعود في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كفارة المجلس أن يقول العبد: سبحانك اللهم و بحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك أستغفرك وأتوب إليك.
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم ربنا و بحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك و أتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك.
(اشتمل هذا الدعاء على ثلاثة أمور:(8/220)
الأول: تنزيه الله عن كل نقص وحمده على كل فعل.
الثاني: إثبات الألوهية لله تعالى وحده لا شريك له وذلك من تمام العبادة لله وتمام المدح له.
الثالث: الرجوع والاستغفار والتوبة لمن ملكها وهو الله تعالى.
وثمرة هذا المدح والاستغفار والتوبة كفارة لمن قالها.
(10) ذكر الله هو أساس العبودية لله، لأنه عنوان صلة العبد بخالقه في جميع أوقاته وأحواله، ولقد وَصَفَ الله تَعَالَى أُولِي الألباب فقال: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191]
قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران190:191]
(حديث عمران بن حُصين الثابت في الصحيحين) قال: كانت بي بواسير فسألت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة فقال: صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب.
أَيْ أن عباد الله تعالى لا يَقْطَعُونَ ذِكْره فِي جَمِيع أَحْوَالهمْ بِسَرَائِرِهِمْ وَضَمَائِرهمْ وَأَلْسِنَتهمْ، إن العابد لله تعالى هو الذي يكون نطقه ذكرًا، وصمته فكرًا، ونظره عبرًا؛ يذكر الله تعالى سراً وجهاراً، ليلاً ونهاراً، فهو إن تكلم كان عابدًا لله، وإن صمت كان عابدًا لله، وإن نظر كان عابدًا لله، يتقلب في نعمة ذكر الله تعالى قائماً وقاعداً وعلى جنب.
ولقد كان رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه كان أذكر الناس لربه ومولاه جل في علاه فأنفاسه وجمله وكلامه ودروسه وخطبه وفتاويه وإرشاداته و نصائحه وكل ما قال أو أمر أو نهى أو قص على الناس كله ذكر له سبحانه وتعالى فهو سيد العابدين وأذكر الذاكرين لمولاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يذكر الله في كل أحيانه قائماً وقاعداً وعلى جنب.
(حديث عائشة في صحيح مسلم) قالت: كان رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الله يذكر الله على كلِ أحيانه.
(ارتباط بالله حياة، واللجوء إليه نجاة، والقرب منه فوز ورضوان، والبعد عنه ضلال وخسران.
(11) الإكثار من ذكر الله تعالى براءةٌ من النفاق:
فصفة المنافقين أنهم لا يذكرون الله إلا قليلاً بنص القرآن الكريم.(8/221)
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء /142]
(لأجل هذا ختم المولى تبارك وتعالى سورة "المنافقون" بالتحذير من الغفلة عن ذكر الله عز وجل مخالفةً لسبيل المنافقين فقال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون * وَأَنفِقُواْ مِن مّا رَزَقْنَاكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلآ أَخّرْتَنِيَ إِلَىَ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصّدّقَ وَأَكُن مّنَ الصّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخّرَ اللّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنافقون من 11:9]
فعليكم عباد الله بالإكثار من ذكره سبحانه وعمارةِ الأوقات والأزمان بالأذكار والأوراد المطلقة والمقيدة كقول: لا إله إلا الله فإنها من خير الأقوال وأحبها إلى الله أو قول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فإنها خير مما طلعت عليه الشمس وغير ذلك من الأقوال التي تنمّى بها الحسنات وترفع بها الدرجات وتوضع السيئات, فإن قصرت همتك وضعفت قوتك عن تلك المنازل الكبار فلا أقل من أن تحافظ على الأذكار المؤقتة والمقيدة.
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
وأقل ذلك أي ما ينبغي على العبد المحافظة عليه من الأذكار أن يلازم العبد الأذكار المأثورة عن معلم الخير وإمام المتقين - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كالأذكار المؤقتة في أول النهار وآخره وعند أخذ المضجع وعند الاستيقاظ من المنام وأدبار الصلوات. والأذكار المقيدة مثل ما يقال عند الأكل والشرب واللباس والجماع ودخول المنزل والمسجد والخلاء والخروج من ذلك وعند المطر والرعد وغير ذلك.
وشيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية له قصص وأخبار في الذكر فمرة يجلس من صلاة الفجر مكانه في مجلسه في المسجد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم يقول لأصحابه وطلابه هذه غذوتي ولو لم أتغذ سقطت قواي يعني هذا مثل الإفطار له.
هذا هو غذاء الروح وهو بلسم للنفس للجسم غذاء لكن غذاء الروح أعظم
فقوت الروح أرواح المعاني ... وليس بأن أكلت ولا شربت
إذا ما لم يفدك العلم خيرا ... فليتك ثم ليتك ما علمت(8/222)
كان شيخ الإسلام ابن تيمية يسبح كثيرا ويقول إنها تصعب علي المسألة فأستغفر الله ألف مرة فيفتحها الله علي وكان لسانه يتمتم بذكر الله فيقول له أصحابه يا أبا العباس ما تفتر فيقول قلبي كالسمكة إذا خرجت من الماء ماتت وأنا إذا تركت الذكر مات قلبي وكان يكرر سورة الفاتحة في الصباح حتى يتعالى النهار فقالوا له في ذلك فقال أنزل الله مائة وأربعة عشر كتابا جمعها في أربعة كتب في الزبور والتوراة والإنجيل والقرآن ثم جمعها في القرآن ثم جمعها في الفاتحة ثم جمعها في إياك نعبد وإياك نستعين فكان يكرر هذه السورة التي هي أفضل سورة في كتاب الله عز وجل.
[*] قال ابن مسعود رضي الله عنه:
في قوله تعالى اتقوا الله حق تقاته)) قال ((أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسي ويشكر فلا يكفر.
[*] وقال الحسن رحمه الله:
أحب عباد الله إلى الله أكثرهم له ذكرا واتقاهم قلبا.
[*] قال الربيع بن أنس عن بعض أصحابه:
"علامة حب الله كثرة ذكره؛ فإنك لن تحب شيئًا إلا تكثر ذكره"،
[*] وقال الموصلي:
"المحب لله لا يغفل عن ذكره طرفة عين"،
[*] وقال إبراهيم الجنيد:
"كان يقال من علامة المحب لله دوام الذكر بالقلب واللسان، وقلما ولع المرء بذكر الله إلا أفاد منه حب الله ".
[*] قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: كان لأبي هريرة رضي الله تعالى عنه ألف عقدة في خيط ألف عقدة يسبح بها وقال أسبح بقدر ديتي وكان يسبح في اليوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة كل يوم،
[*] قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
وكان يسبح خالد بن معدان العابد الزاهد مائة ألف تسبيحة قال ذلك في كتابه جامع العلوم والحكم قال فلما مات وشيعه الناس وكان وليا كبيرا وعابدا زاهدا اقتربوا به من القبر فأخذته الملائكة من الناس ووضعته في القبر غفر الله له ورحمه الله.
[*] ذكر ابن القيّم في الجواب الكافي:
أن العبد ليأتي يوم القيامة بسيئات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله تعالى وما اتصل به.
وشكى رجل إلى الحسن البصري رحمه الله قسوة في قلبه فقال له: أذبه بذكر الله.
{تنبيه}: ( ... الذاكرون الله مولعون بذكر الله تعالى، لا ينقطعون عنه،
(ولذلك لوجوه عدة:
أ- أن الذاكر لله لا يغيب محبوبه عن قلبه، فلو كلف أن ينسى ذكره لما قدر، ولو كلف أن يكف عن ذكره لما صبر.
ب- كلما قويت المعرفة بالله صار الذكر يجري على لسان الذاكر من غير كلفة، ولذلك يلهم أهل الجنة التسبيح كما يلهمون النفس.(8/223)
ت- لأن ذكر المحبين على خلاف ذكر الغافلين، فذكر الله لذة قلوب العارفين، والمحبون يستوحشون من كل شاغل يشغل عن الذكر، فلا شيء أحب إليهم من الخلوة بحبيبهم.
ث- كلما قوي حال المحب لم يشغله عن الذكر بالقلب واللسان، فهو بين الخلق بجسمه، وقلبه معلق بالملأ الأعلى.
جسمي معي غير أن الروح عندكم فالجسم في غربة والروح في وطن (2).
(نتائج الأفكار بآثار الإكثار من الأذكار:
أ- الثبات على الإسلام والأمن في مواطن الخوف؛ كما في قوله -تعالى-: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً} [الأنفال: 45].
ب- سبب الفلاح والنجاح؛ كما في قوله تعالى-: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10]
ت- سبب للمغفرة والأجر العظيم، كما في قوله -تعالى-: {إِنَّ المُسْلِمِين وَالمُسْلِمَاتِ} إلى قوله -تعالى-: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيمًا}
[الأحزاب: 35]
ث- يعطي الذاكر قوة:
[*] قال الإمام ابن قيم الجوزية في «الوابل الصيب»
(ص 185 - 186): «إن الذكر يعطي الذاكر قوة، حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لا يطيق فعله بدونه، وقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- في مشيته وكلامه وإقدامه وكتابته أمرًا عجيبًا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة أو أكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمرًا عظيمًا.
وقد علَّم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنته فاطمة وعليًّا -رضي الله عنهما- أن يسبحا كل ليلة إذا أخذا مضجعهما ثلاثًا وثلاثين، ويحمدا ثلاثًا وثلاثين، ويكبرا أربعًا وثلاثين؛ لما سألته الخادم، وشكت إليه ما تقاسيه من الطحن والسعي، والخدمة، فعلمها ذلك، وقال: «إنه خير لكما من خادم».(8/224)
(حديث علي الثابت في الصحيحين) أن فاطمة أتت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى – وبلغها أنه قد جاءه رقيق – فلم تصادفه فذكرت ذلك لعائشة فلما جاء أخبرته عائشة، قال فجاء وقد أخذنا مضاجعنا فذهبنا نقوم له فقال على مكانكما فقعد بيني وبيننا حتى وجدت برد قدمه على بطني فقال ألا أدلكما على خيرٍ مما سألتما، إذا أخذتما مضاجعكما - أو أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين واحمدا ثلاثا وثلاثين وكبِّرا أربعاً وثلاثين فهو خير لكما من خادم.
(ولا يزال المرء مُكْثِرَاً من ذكر الله تعالى حتى يظهر ذلك على جوارحه، بل إذا رؤي ذكر الله.
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أولياء الله تعالى: الذين إذا رءوا ذكر الله تعالى.
قال أبو عوانة: رأيت محمد بن سيرين في السوق فما رآه أحد إلا ذكر الله تعالى.
وقال غسان بن الفضل: كان بشر بن منصور من الذين إذا رؤوا ذكر الله، وإذا رأيت وجهه ذكرت الآخرة.
(12) الذكر حصن حصين وحرزٌ متين من الشيطان اللعين:
من تأمل نصوص الوحيين؛ كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ علم منهما أن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، وتقسو كالحجارة، وتظمأ كما يظمأ الزرع؛ وأنها في حاجة إلى ما يزيل عنها الصدأ، ويلين قسوتها، ويروي ظمأها.
وهذا القلب المتقلب محاط بأعداء كثر، من النفس والهوى والشيطان، ولعاعة الدنيا.
فهذا يصيبه بالصدأ، وذاك يقسيه، وثالث يظمئه، حتى يُخْشَى عليه من العمى، أو الموت،
{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج/46)
والقلب في البدن بمنزلة الملك فأي وجهة توجه، كانت الجوارح تبعاً له.
(ومن هنا نعلم أن هذا القلب يحتاج إلى حرز يحميه، وحصن يؤيه، وليس ثم حرز أأمن، ولا حصن أمكن؛ من ذكر الله جل وعلا.
وقد جعل الله للذكر فائدة الحفظ للذاكر من وسواسة الشيطان، همزه ولمزه ونفخه، فلن يقترب الشيطان من الإنسان، ولن يكون قرينا له، أو مشاركا له في طعام أو شراب، أو أي عمل من الأعمال إلا إذا غفل عن ذكر الله، فمن خلى قلبه ولسانه من ذكر الله لزمه الشيطان ملازمة الظل.
قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}
[سورة الحجر/42]
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى:(8/225)
على قدر غفلة العبد عن الذكر يكون بعده عن الله.
وقال أيضا: أن الغافل بينه وبين الله عز وجل وحشه لا تزول إلا بالذكر.
قال تعالى: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرّحْمََنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف/36]
[*] قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما:
[الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله خنس]
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: وكلني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة). قال: قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة، وعيالا فرحمته فخليت سبيله، قال: (أما إنه قد كذبك، وسيعود). فعرفت أنه سيعود، لقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنه سيعود). فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يا أباهريرة ما فعل أسيرك). قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا، فرحمته فخليت سبيله، قال: (أما إنه كذبك، وسيعود). فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات تزعم لا تعود، ثم تعود، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}. حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما فعل أسيرك البارحة). قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: (ما هي). قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}. وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير - فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة). قال: لا، قال: (ذاك شيطان).(8/226)
(حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني اسرائيل أن يعملوا بهن فكأنه أبطأ بهن فأوحى الله الى عيسى: إما أن يبلغهن أو تبلغهن فأتاه عيسى فقال له انك أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني اسرائيل أن يعملوا بهن فإما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن فقال له يا روح الله ان أخشى ان سبقتني أن أعذب أو يخسف بي فجمع يحيى بني اسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد فقعد على الشرفات فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن , ثم ذكر التوحيد والصلاة والصيام والصدقة
ثم ذكر الخامسة: وأمركم بذكر الله كثيرا ومثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في أثره فأتى حصنا حصينا فأحرز نفسه فيه , وان العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله تعالى.
فهذا الحديث مشتمل على فضيلة عظيمة للذكر, وأنه يطرد الشيطان وينجي منه, وأنه بمثابة الحصن الحصين والحرز المكين الذي لا يحرز العبد نفسه من هذا العدو اللدود إلا به.
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقا بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى فانه لا يحرز نفسه من عدوه الا بالذكر ولا يدخل عليه العدو الا من باب الغفلة فهو يرصده فإذا غفل وثب عليه وافترسه وإذا ذكر الله تعالى انخنس عدو الله وتصاغر وانقمع حتى يكون كالذباب ولهذا سمي الوسواس الخناس أي يوسوس في الصدور فإذا ذكر الله تعالى خنس أي كف وانقبض.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم فإذا سها وغفل وسوس , فإذا ذكر الله خنس. الوابل الصيب
(حديث أبي المليح في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تقل تعس الشيطان فإنه يعظم حتى يصير مثل البيت و يقول: بقوتي صرعته و لكن قل: باسم الله فإنك إذا قلت ذلك تصاغر حتى يصير مثل الذباب.
[*] وحكى ابن القيم رحمه الله عن بعض السلف:
أنهم قالوا: إذا تمكن الذكر من القلب، فإن دنا منه الشيطان صرعه الإنسي كما يصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان، فيجتمع عليه الشياطين فيقولون: ما لهذا؟ فيقال: قد مسه الإنسي.(8/227)
(فالذاكر محفوظ - بإذن الله تعالى- لا يمسّه أذى له من الذكر حصن حصين، وسياج متين؛ لأن في قلبه تذكر الله، وعلى لسانه ذكر الله، وإليك الإيضاح بالدليل:
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب و كتبت له مائة حسنة و محيت عنه مائة سيئة و كانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي و لم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل عملا أكثر من ذلك.
(حديث عبد الله بن خُبيب في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قل (قل هو الله أحد والمُعَوِّذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كلِ شيء)
(حديث عثمان في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من عبد يقول في صباح كل يوم و مساء كل ليلة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض و لا في السماء و هو السميع العليم ثلاث مرات فيضره شيء.
في السماء و هو السميع العليم ثلاث مرات فيضره شيء.
{تنبيه}: (يتحصن العبد المسلم بالله ويمضي في حياته على اسمه وبسم الله يحتمة به العبد من كل سوء من معنى أو عين أو دابة أو جني أو شيطان لأنه السميع لأحوالهم العليم بها في سائر أزمنتها فلا يقع شيء إلا بإذنه سبحانه وتعالى.
والإتيان بهذا الذكر يوقي بقدر الله جميع البأس والضر.
وجاء في نهاية الحديث:" وكان أبان قد أصابه طرف فالج فجعل الرجل الذي سمع منه الحديث ينظر إليه فقال له: مالك تنظر إلي؟! فو الله ما كذبت على عثمان ولا كذب عثمان على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولكن اليوم الذي أصابني فيه ما أصابني غضبت فنسيت أن أقولها.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا نودي لصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضى النداء أقبل، حتى إذا ثوّب بالصلاة أدبر، حتى إذا قضى التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال إذا خرج من بيته: بسم الله توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: كفيت ووقيت، وتنحى عنه الشيطان.(8/228)
(حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه.
(فتأمل معي هذا الأثر العظيم الذي تناله إن كنت من الذاكرين! قم انظر إلى ما حولك، ومن حولك فسترى من به مس من الجن، أو عطب من السحر، أو إغواء من الشيطان، وأنت بنعمة الله سالم من كل ذلك.
[*] وما أجمل ما قاله أبو خلاد المصري في بيان تحصين الذكر حيث قال: " من دخل الإسلام دخل في حصن، ومن دخل المسجد فقد دخل في حصنين، ومن جلس في حلقة يذكر الله - عز وجل - فيها فقد دخل في ثلاثة حصون) [الوابل الصيب ص:180].
(13) الذكر طمأنينة وسكينة:
قال تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)
[الرعد:28]
(فهذا إخبار من الله عن المؤمنين بأنهم تطمئن قلوبهم بذكره " أي يزول قلقها واضطرابها، وتحضرها أفراحها ولذاتها وحري أن لا تطمئن لشيء سوى ذكره، فإنه لا شيء ألذ للقلوب ولا أحلى، من محبة خالقها والأنس به ومعرفته "
[تفسير السعدي 4/ 108]
فلا تخش غماً، ولا تشك هماً، ولا يصبك قلق مادام قرينك هو ذكر الله.
والطمأنينة هي:" سكون القلب إلى الشيء وعدم اضطرابه وقلقه، وسكون الذاكر إلى ربه دائم في كل الأحوال من السراء والضراء والشدة والرخاء.
(فالناس بعامة قد يقلقون في حياتهم أو يشعرون بالعجز أمام ضوائق أحاطت بهم من كل جانب، وهم أضعف من أن يرفعوها إذا نزلت، أو يدفعوها إذا أوشكت، ومع ذلك فإن ذكر الله عز وجل يحيى في نفوسهم استشعار عظمة الله وأنه على كل شيء قدير، وأن شيئاً لن يفلت من قهره وقوته، وأنه يكشف ما بالمُعنَّى إذا ألم به العناء، حينها يشعر الذاكر بالسعادة وبالطمأنينة يعمران قلبه وجوارحه: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].(8/229)
(تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ): "تطمئن بإحساسها بالصلة بالله والأنس بجواره والأمن في جانبه وحماه، تطمئن من قلق الوحدة وحيرة الطريق بإدراك الحكمة في الخلق والمبدأ والمصير وتطمئن بالشعور بالحماية من كل اعتداء ومن كل شر إلا بما يشاء الله مع الرضى بالابتلاء والصبر على البلاء {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} ذلك الاطمئنان بذكر الله في قلوب المؤمنين حقيقة عميقة، يعرفها الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم فاتصلت بالله، يعرفونها، ولا يملكون بالكلمات أن ينقلوها إلى الآخرين الذين لم يعرفوها؛ لأنها لا تنقل بالكلمات، إنما تسري في القلب فيستروحها ويهشّ لها ويندَى بها ويستريح إليها ويستشعر الطمأنينة والسلام ويحس أنه في هذا الوجود ليس مفردًا بلا أنيس، فكل ما حوله صديق إذ كل ما حوله من صنع الله الذي هو في حماه".
إن هناك لحظاتٍ في الحياة لا يصمد لها بشرٌ إلا أن يكون مرتكنًا إلى الله مطمئنًا إلى حماه، مهما أوتي من القوة والثبات والصلابة والاعتداد، ففي الحياة لحظاتٌ تعصف بهذا كله فلا يصمد لها إلا المطمئنون بالله {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} .. هؤلاء المنيبون إلى الله المطمئنون بذكر الله يحسن الله مآبهم عنده كما أحسنوا الإنابة إليه وكما أحسنوا العمل في الحياة
والحقيقة أن هناك مواقف سطَّرها التاريخ بأحرف من نور لدعاة كثيرين، كلها تؤيد هذا المعنى، وما كانوا ليصلوا لذلك المستوى وهذه الدرجة إلا بذكرهم لله الذي نتج عنه هذه الطمأنينة الهائلة التي صمدت أمام مواقف تتزلزل لها الجبال.
وإذا كان المراد بالذكر هنا" القرآن الكريم"- وهو الأصح- فإن القرآن هو الذي تكون به " طمأنينة قلوب المؤمنين؛ فإن القلب لا يطمئن إلا بالإيمان واليقين، لا سبيل إلى حصول الإيمان واليقين إلا من القرآن؛ فإن سكون القلب وطمأنينته من يقينه، واضطرابه وقلقه من شكره " [تهذيب المدارج ص:503]، فمن تعلّق بالقرآن وجد فيه قناعة العقل، وسكينة النفس، وسكون القلب بالأمن والإيمان.(8/230)
(14) إن الذاكرين هم أهل الانتفاع بآيات الله وهم أولو الألباب والعقول كما بين ذلك رب العزة والجلال قال تعالى: (إِنّ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ الْلّيْلِ وَالنّهَارِ لاَيَاتٍ لاُوْلِي الألْبَابِ * الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكّرُونَ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النّارِ) [آل عمران:191،190]
(15) ذكر الله تعالى شفاء ورحمة للمؤمنين:
قال تعالى: (وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظّالِمِينَ إَلاّ خَسَاراً) [الإسراء / 82]
(16) الذكر غراس الجنة:
(حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال يا محمد أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
قيعان: جمع قاع وهي الأرض المستوية الخالية من الشجر.
غراس جمع غرس وهو: ما يستر الأرض من البذر ونحوه.
(بين الحديث أن ذكر الله سبب لدخول الجنة وكلما أكثر العبد من ذكر الله كثرت غراسه في الجنة.
(17) لا بد من ذكر الله على الدوام، إذ لا يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت عليهم في الدنيا لم يذكروا الله عز وجل فيها.
(إن دوام الذكر يعني دوام الصلة بالله).
إن ذكر الله تعالى من أهم ما ينبغي أن يجتهد فيه العبد المؤمن الذي يهتم بإرضاء ربه عز وجل لكي ينجو يوم القيامة من عذاب أليم ويفوز بالنعيم المقيم وقد وجه الله سبحانه وتعالى عباده إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم وقد نهى القرآن الكريم المؤمنين أن يلهيهم شيء من أمر الدنيا ومشاغلها الكثيرة عن ذكر ربهم فيغفلوا عن هذه العبادة العظيمة كما ينادي سبحانه وتعالى للمؤمنين بقوله الكريم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون /9]
[*] قال النووي رحمه الله تعالى:(8/231)
أجمع العلماء على جواز الذكر بالقلب واللسان للمحدث والجنب والحائض والنفساء وذلك في التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والصلاة على رسول الله صلى الله عليه و سلم والدعاء، بخلاف قراءة القرآن.
{تنبيه}: (ليس المقصود: بذكر الله هو التمتمة بكلمة أو كلمات والقلب غافل وَلاهٍ عن تعظيم الله وطاعته، فالذكر باللسان لابد أن يصحبه التفكر والتأثر بمعاني كلماته، قال تعالى (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) [الأعراف:20]
(فلا بد أن يَعيَ الإنسان الذاكر ما يقول، فيجتمع ذكر القلب مع ذكر اللسان ليرتبط الإنسان بربه ظاهراً وباطناً.
(18) الذكر سبب لرفع البلاء:
قال تعالى: (فَلَوْلاَ أَنّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ)
[الصافات 143: 144]
(19) الذكر سبب في جلب الخيرات:
قال تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبّكُمْ إِنّهُ كَانَ غَفّاراً * يُرْسِلِ السّمَآءَ عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لّكُمْ جَنّاتٍ وَيَجْعَل لّكُمْ أَنْهَاراً) [نوح من 10: 12]
(20) الذكر سبب في تفريج الكرب:
قال تعالى: (وَذَا النّونِ إِذ ذّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنّ أَن لّن نّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىَ فِي الظّلُمَاتِ أَن لاّ إِلََهَ إِلاّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّي كُنتُ مِنَ الظّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجّيْنَاهُ مِنَ الْغَمّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء 87، 88]
(21) الذكر سبب في حفظ الذرية من الشيطان:
(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لو أن أحدكم إذا أتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يُقدَّر بينهما ولدٌ في ذلك، لم يضره شيطانٌ أبداً)
(22) ذكر الله تعالى أكبر الأعمال بنص القرآن الكريم:
قال تعالى: (اتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصّلاَةَ إِنّ الصّلاَةَ تَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللّهِ أَكْبَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت / 45]
والآية واضحة الدلالة في أن الذكر ليس كبيراً فحسب بل هو أكبر، وذلك يدل على أهمية كبرى، ومكانة عظمى.(8/232)
[*] ذكر العلماء والمفسرون عدة معانٍ جديرة بالاهتمام توضح كون الذكر أكبر، وهاهي أقدمها لك واضحة ميسرة:
الأول: ذكر الله أكبر من كل شيء، فهو أفضل العبادات؛ لأن المقصود بالطاعات كلها: إقامة ذكره، فهو سر الطاعات وروحها؛ لأن حقيقته هي التعلق بالله واستحضار عظمته، واستشعار مراقبته، واستذكار نعمته، والعبادات كلها - بهذا المعنى – ذكر.
الثاني: أن المعنى أنكم إذا ذكرتموه ذكركم، فكان ذكره لكم أكبر من ذكركم له، وهذا معنى عظيم فأنت أيها الإنسان الضعيف العاجز يذكر الله القوي القادر، أنت الفقير الحقير يذكر الله الغني العظيم، فما أعظمه من ذكر! وما أسماها من مكانة!.
الثالث: ولذكر الله أكبر من أن يبقى معه فاحشة ومنكر، بل إذا تم الذكر محق كل خطيئة ومعصية، فيالله ما أكبر هذا الذكر [انظر تهذيب المدارج ص:463].
[*] وسئل ابن عباس أي العمل أفضل؟ قال: ذكر الله أكبر.
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من عجز منكم عن الليل أن يكابده وبخل بالمال أن ينفقه وجبن عن العدو أن يجاهده فليكثر ذكر الله.
[*] وقال ثابت البناني: إن أهل ذكر الله ليجلسون إلى ذكر الله وأن عليهم من الآثام كأمثال الجبال؛ وإنهم ليقومون من ذكر الله عطلاً ما عليهم منها شيء.
[*] وقال مكحول: من أحيى ليلة في ذكر الله أصبح كيوم ولدته أمه.
[*] وقال محمد بن كعب القرظي: لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا عليه السلام (فزكريا مع صومه عن الكلام لم يرخص له في ترك الذكر)
{قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} (آل عمران/41)
ولو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص للذين يقاتلون في سبيل الله
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} (الأنفال/45)
[*] وقال مجاهد: ما من ميت يموت إلا عرض عليه أهل مجلسه إن كان من أهل الذكر فمن أهل الذكر وإن كان من أهل اللهو فمن أهل اللهو.
[*] وقال عون بن عبد الله: إن لكل رجل سيداً من عمله وإن سيد عملي الذكر.
وقال رحمه الله: ذاكر الله في غفلة الناس كمثل الفئة المنهزمة يحميها الرجل لولا ذلك الرجل هزمت الفئة ولولا من يذكر الله في غفلة الناس هلك الناس.(8/233)
[*] وقال أبو عبد الله الترمذي: والعبد ما دام في الذكر فالرحمة دائمة عليه كالمطر، فإذا قحط فالصدر في ذلك الوقت كالسنة الجدباء.
(23): أنه يحط الخطايا ويذهبها، فإنه من أعظم الحسنات والحسنات يذهبن السيئات.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال: سبحان الله وبحمده، في يوم مائة مرة، حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر).
(24) أنه سبب لنزول الرحمة والسكينة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه.
(وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله): المراد به المسجد فإن بيوت الله هي المساجد قال الله تعالى (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [النور36/]
و قال تعالى (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) [الجن/18]
و قال تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [البقرة/114]
فأضاف المساجد إليه؛ لأنها موضع ذكره.
قوله (يتلون كتاب الله و يتدارسونه بينهم) يتلونه: يقرءونه و يتدارسونه أي: يدرس بعضهم على بعض.
(إلا نزلت عليهم السكينة و غشيتهم الرحمة و حفتهم الملائكة): نزلت عليهم السكينة يعني: في قلوبهم و هي الطمأنينة و الاستقرار، و غشيتهم الرحمة: غطتهم و شملتهم.
و حفتهم الملائكة: صارت من حولهم. - و ذكرهم الله فيمن عنده- أي: من الملائكة.
*ومن فوائد الحديث: فضيلة اجتماع الناس على قراءة القرآن لقوله - و ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله .. الخ.
* ومن فوائد الحديث: أن حصول هذا الثواب لا يكون إلا إذا اجتمعوا في بيت الله أي: في مسجد من المساجد لينالوا بذلك شرف المكان لأن أفضل البقاع مساجدها.(8/234)
*ومن فوائد الحديث: بيان حصول هذا الأجر العظيم تنزل عليهم السكينة و هي الطمأنينة القلبية و تغشاهم الرحمة أي: تغطيهم و تحفهم الملائكة أي: تحيط بهم من كل جانب و يذكرهم الله فيمن عنده من الملائكة لأنهم يذكرون الله تعالى عن ملأ، و قد قال الله تعالى في الحديث القدسي -من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم-.
(حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: كان رجلٌ يقرأ سورة الكهف، وإلى جانبه حصان مربوط بشطنين، فتغشته سحابة، فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر ذلك له، فقال: (تلك السكينة تنزلت بالقرآن.
(25) الذكر كنزٌ من كنوز الحسنات:
المسلم حريص على الثواب، ويستكثر من الحسنات، ويجتهد في الطاعات، وأنت – أخي القارئ - ما من شك أنك كثيراً ما تفكر في كيفية زيادة رصيدك من الحسنات، مع كثرة الأعمال والمشكلات، وتعاظم الملهيات والمغريات، ومن هنا أقول لك وبكل قوة ووضوح إن الذكر من أعظم أبواب الأجر، وإذا اجتهد المرء في ذكر الله فاق كل أرباب الأعمال الصالحة، فلن يدرك درجته مجاهد ولا صائم ولا متصدق، إذا ذكر الصائمون فأفضلهم الذاكر، وإذا ذكر المصلون فأفضلهم الذاكر؛ وأفضل الحجاج الذاكر؛
(ولعلي أعرض لك طائفة يسيرة من النصوص الكاشفة عن الجر العظيم والثواب الجزيل للذكر وهي غيض من فيض ونقطةٌ من بحر:
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا و ثلاثين و حمد الله ثلاثا و ثلاثين و كبر الله ثلاثا و ثلاثين فتلك تسع و تسعون و قال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير غفرت خطاياه و إن كانت مثل زبد البحر.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله و بحمده سبحان الله العظيم.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب و كتبت له مائة حسنة و محيت عنه مائة سيئة و كانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي و لم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل عملا أكثر من ذلك.(8/235)
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير بعد ما يصلي الغداة عشر مرات كتب الله له عشر حسنات ومحى عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات وكان له بعدل عتق رقبتين من ولد إسماعيل، وإن قالها حين يمسي كان له مثل ذلك وكن له حجاباً من الشيطان حتى يصبح ... .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لأن أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس.
(حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أيعجز أحكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة، فسأله سائل من جلسائه كيف يكسب كل يوم؟ قال: يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة.
(حديث ابن عمر في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال حين يدخل السوق: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد يُحيي ويُميت وهو حيٌ لا يموت بيده الخير و هو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحى عنه ألف ألف سيئةٍ وبنى له بيتاً في الجنة.
(حديث عبادة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمنٍ حسنة.
(حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو مُوبِقها.
(حديث أبي موسى في الصحيحين) قال كنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزاةٍ فجعلنا لا نصعد شرفاً ولا نعلو شرفاً ولا نهبطُ في وادٍ إلا رفعنا صوتنا بالتكبير فدنا منا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم ل تدعون أصمَّ ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً بصيرا، ثم قال: يا عبد الله بن قيس ألا أعلمك كلمةً هي من كنوز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله.
(26) أن دوام ذكر الرب تعالى يوجب الأمان من نسيانه الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده، فإن نسيان الرب سبحانه وتعالى يوجب نسيان نفسه ومصالحها(8/236)
قال تعالى: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ نَسُواْ اللّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولََئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)
[الحشر /19]
وإذا نسى العبد نفسه أعرض عن مصالحها ونسيها واشتغل عنها فهلكت وفسدت، كمن له زرع أو بستان أو ماشية أو غير ذلك مما صلاحه وفلاحه بتعاهده والقيام عليه فأهمله ونسيه واشتغل عنه بغيره فإنه يفسد ولابد.
(27) أن الذكر يوجب صلاة الله تعالى وملائكته على الذاكر، ومن صلى الله تعالى عليه وملائكته فقد أفلح كل الفلاح، وفاز كل الفوز:
قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ اللّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قال تعالى: (هُوَ الّذِي يُصَلّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) [الأحزاب 41: 43]
(28) أن الله عز وجل يباهي بالذاكرين ملائكته:
من شرف مجالس الذكر وعلو مكانتها عند الله أنه سبحانه وتعالى يباهي بالذاكرين ملائكته، إن أهل الذكر ليسوا سابقين للبشر فحسب، بل هم في مقام المباهاة والمضاهاة للملائكة الكرام: {الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}، الملائكة المفطورون على الطاعة، والمجبولون على العبادة الذين {يسبحون الليل والنهار لا يفترون}؛ لأن أصل خلقهم وغاية وجودهم الذكر والتنسك، ومع ذلك كله؛ فإن أهل الذكر من المؤمنين في مكانة رفيعة عالية حتى باهى الله بهم ملائكته، ويكفي في شرف الذكر أن الله يباهي ملائكته بأهله [تهذيب المدارج ص 466].
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله تعالى، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم استحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أقل عنه حديثًا مني، وإن رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ خرج على حلقة من أصحابه فقال: ((ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله تعالى ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ علينا بك، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكن أتاني جبريل فأخبرني أن الله تبارك وتعالى يباهي بكم الملائكة.(8/237)
[*] قال النووي شرح صحيح مسلم: قوله: "لم أستحلفكم تهمة لكم" هى بفتح الهاء واسكانها، وهى فعلة وفعلة من الوهم والتاء بدل من الواو واتهمته به إذا ظننت به ذلك.
وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله عز وجل يباهى بكم الملائكة" معناه يظهر فضلكم لهم ويريهم حسن عملكم ويثنى عليكم عندهم، وأصل البهاء الحسن والجمال، وفلان يباهى بماله أي يفخر ويتجمل به على غيره ويظهر حسنه. اهـ.
(والمباهاة: المفاخرة [النهاية1/ 169] فالله يفاخر بهؤلاء الذاكرين ملائكته المقربين.
(29) أن إدامته تنوب عن الطاعات وتقوم مقامها حيث لا تنوب جميع التطوعات عن ذكر الله عز وجل.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: جاء الفقراء إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ولهم فضلٌ من أموالاٍ يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا أحدثكم بما إن أخذتم به أدركتم من سبقكم ولم يدركم أحدٌ بعدكم وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيهم إلا من عمل مثله؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين، فاختلفنا بيننا فقال بعضنا نسبح ثلاثاً وثلاثين ونحمد ثلاثاً وثلاثين ونكبِّر ثلاثاً وثلاثين فرجعت إليه فقال: تقول سبحان الله والحمد لله والله أكبر حتى يكون منهن كلهن ثلاثاً وثلاثين.
أهل الدثور: أي أهل الأموال والدثور: بضم الدال وجمع دثر بفتحها وهو المال الكثير.
والبُضْع: هو بضم الباء ويطلق على الجماع ويطلق على الفرج نفسه، هو الجماع وقيل الفرج نفسه.
[*] قال الإمام النووي رحمه الله تعالى:
قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:" وفي بضع أحدكم صدقة" وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله تعالى به أو طلب ولد صالح أو إعفاف نفسه أو إعفاف الزوجة ومنعها جميعاً من النظر إلى الحرام أو الفكر فيه أو الهم به أو غير ذلك من المقاصد الصالحة.
(وقد ظنّ الفقراء أن لا صدقة إلا بالمال، وهم عاجزون عن ذلك، فأخبرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ جميع أنواع فعل المعروف والإحسان صدقةٌ، وذكر في مقدّمة ذلك هؤلاء الكلمات الأربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.(8/238)
[*] قال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: " لأن أسبح الله تعالى تسبيحات أحب إلي من أن أنفق عددهن دنانير في سبيل الله عز وجل ".
(30) أن الذكر يعطي الذاكر قوة في قلبه وفي بدنه حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يظن فعله بدونه، وقد عَلَّم النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ابنته فاطمة وعليًا ـ رضي الله عنهما ـ أن يسبحا كل ليلة إذا أخذا مضاجعهما ثلاثًا وثلاثين، ويحمدا ثلاثًا وثلاثين، ويكبرا ثلاثًا وثلاثين لما سألته الخادم وشكت إليه ما تقاسيه من الطحن والسعي والخدمة فعلمها ذلك، وقال: ((إنه خير لكما من خادم)
(فالذكر قوت القلب والروح فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم الضعيف
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
جئت شيخ الإسلام ابن تيمية صلاة الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار ثم التفت إلى وقال هذه غذوتي ولو لم أتغذ الغذاء لسقطت قوى.
(حديث عائشة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أوى إلى فراشه جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما (قل هو الله وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس) ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات.
(حديث علي في الصحيحين) أن فاطمة أتت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى – وبلغها أنه قد جاءه رقيق – فلم تصادفه فذكرت ذلك لعائشة فلما جاء أخبرته عائشة، قال فجاء وقد أخذنا مضاجعنا فذهبنا نقوم له فقال على مكانكما فقعد بيني وبيننا حتى وجدت برد قدمه على بطني فقال ألا أدلكما على خيرٍ مما سألتما، إذا أخذتما مضاجعكما - أو أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين واحمدا ثلاثا وثلاثين وكبِّرا أربعاً وثلاثين فهو خير لكما من خادم.
(فقيل إن من داوم على ذلك وجد قوة في يومه تغنيه عن خادم.
(31) صلة الذكر بالعبادات أوثق:
إن الذكر لبّ الطاعات، وجوهر العبادات، وهو أساس كثير من الفرائض والشعائر الظاهرة، إنه يكون قبلها تهيئة لأدائها، ويكون معها كجزء من أعمالها وأركانها، ويكون بعد الفراغ منها ختام لها.
ولنضرب المثل بالصلاة؛ فإن الذكر يسبقها، فالآذان ذكر يشتمل على التكبير والتهليل والنطق بالشهادتين، ومن السنة متابعة المؤذن، وبعد الفراغ من الأذان يسن قول الذكر المأثور عن النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(8/239)
(حديث سعد بن أبي وقاص في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من قال حين يسمع النداء: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله رضيت بالله ربا و بمحمد رسولا و بالإسلام دينا غفر الله له ما تقدم من ذنبه.
(حديث جابر في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة و الصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة و الفضيلة و ابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفا عتي يوم القيامة.
وقبل الصلاة الوضوء وهو من شروطها، وبعد الفراغ منه ذكر أيضاً (حديث عُمر الثابت في صحيح مسلم) أن النبي قال: - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما من أحدٍ يتوضأ فيُبلغ أو يسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء.
(حديث عمر الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء.
(والصلاة غايتها الذكر بنص القرآن في قوله تعالى {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (طه/14)
وركنها الأول: " تكبيرة الإحرام" ذكر، وركنها الأعظم: "قراءة الفاتحة" ذكر، وفي ركوعها تسبيح باسم الله العظيم، وفي سجودها تسبيح باسمه الأعلى، وفي الرفع من الركوع حمد وذكر، وفيما بين السجدتين استغفار وذكر.
(وبعد الصلاة وانقضائها أمر بالذكر {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} (النساء/103)
وثبت أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يستغفر ثلاثاً بعد السلام عليكم، كما في حديث ثوبان الآتي:
(حديث ثوبان الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا ثم قال: اللهم أنت السلام و منك السلام تباركت يا ذا الجلال و الإكرام.
، والأذكار الواردة في أعقاب الصلوات كثيرة، فهذه الصلاة كلها ذكر وثناء، وتضرع ودعاء.(8/240)
(والحج مثل ثانٍ، ففيه يقول الحق تبارك وتعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ} ... (البقرة/198)
وهو من مبدئه ذكر إذ عند الإحرام يبدأ بالتلبية،
(وهي ذكر ترفع به الأصوات معلنة التوحيد، والاستجابة لرب الأرض والسماوات، والطواف والسعي ذكر وتكبير وتهليل، وموقف عرفات كله أذكار ودعوات، وفيه قال الرسول الكريم – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (خير ما قلت أنا والنبيين من قبلي: لا إله إلا الله).
(حديث عبد الله ابن عمرو الثابت في صحيح الترمذي) أن النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وفي ختام الحج وصية بالذكر، قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ} (البقرة/200)
بل حتى في الجهاد، وعند التحام الصفوف، وقعقعة السيوف، ولقاء الحتوف، يأتي الأمر بالذكر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} (الأنفال/45)
(32) الذكر أنجى عملاً للنجاة من عذاب الله عز وجل.
(حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما عمل امرؤ بعمل أنجى له من عذاب الله عز وجل من ذكر الله.
(33) ذكر الله سلاح مقدم على أسلحة الحروب الحسية التي لا تكلم:
فقد ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في فتح القسطنطينية من حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم
: {فإذا جاءوها، نزلوا فلم يقاتلوا بالسلاح، ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلا الله، والله أكبر فيسقط أحد جانبيها، ثم يقولون الثانية: لا إله إلا الله والله اكبر، فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولون الثالثة: لا إله إلا الله والله أكبر فيفرج لهم فيدخلونها فيغنمون}
(34) الذكر رأس الشكر فما شكر الله تعالى من لم يذكره:(8/241)
(حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و النسائي) أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ بيده وقال يا معاذ والله إني لأحبك والله إني لأحبك فقال أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
فجمع بين الذكر والشكر فالذكر والشكر جماع السعادة والفلاح فأكرم الخلق على الله تعالى من المتقين من لا يزال لسانه رطبا من ذكر الله إذ أن في القلب قسوة لا يزيلها ويذيبها إلا ذكر الله تعالى فحلي بنا أن ندوي قسوة القلب بذكره سبحانه وتعالى فالذكر شفاء القلب ودواؤه والغفلة مرضه
(35) مجالس الذكر سبب عظيم بل هي سبب رئيسي من أسباب حفظ اللسان:
فإن العبد لا بد له من أن يتكلم فإن رَوَّضَ نَفْسَه على الكلام بالخير صار ذلك طبعاً له لا تكلفاً فإنه من يتحرَّ الخير يُعْطَه ومن يتق الشر يُوَقَّه.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إنما العلم بالتعلم و إنما الحلم بالتحلم و من يتحر الخير يعطه و من يتق الشر يُوَقَّه.
إن مجالس الذكر هي أزكى المجالس وأشرفها وأنفعها وهي أعلى المجالس قدرا عند الله وأجلها مكانة عنده سبحانه وتعالى , فمجالس الذكر حياة للقلوب وزيادة للأيمان وصلاح وزكاء للعبد بخلاف مجالس الغفلة التي لا يقوم منها الجالس إلا بنقص في الإيمان وتكون عليه حسرة وندامة
من أجل ذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم وكذلك السلف رحمهم الله يهتمون بهذه المجالس أعظم الاهتمام وغاية العناية , فكان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يأخذ بيد النفر من أصحابة فيقول ((تعالوا نؤمن ساعة تعالوا فلنذكر الله ونزداد إيماناً بطاعته لعله يذكرنا بمغفرته.
(فإن لم يتكلم بذكر الله وذكر أوامره بالخير والفائدة تكلم ولا بد ببعض المحرمات من غيبة ونميمة , فمن عود لسانه على ذكر الله صان لسانه عن الباطل واللغو فلا سبيل إلي السلامة منها البتة إلا بذكر الله تعالى.
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
والمشاهدة والتجربة شاهدان بذلك فمن عود لسانه ذكر الله صان لسانه عن الباطل واللغو ومن يبس لسانه عن ذكر الله ترطب بكل باطل ولغو وفحش ولا حول ولا قوة إلا بالله.
[*] قال مكحول: ذكر الله شفاء وذكر الناس داء.
نسأل الله أن يشغل مجالسنا بذكره وشكره وحسن عبادته وأن يقينا من مجالس الغفلة وللهو والباطل.
(36) أن الذكر ينبه القلب من نومه ويوقظه من سنته:(8/242)
والقلب إذا كان نائماً فاتته الأرباح والمتاجر وكان الغالب عليه الخسران فإذا استيقظ وعلم ما فاته في نومته شد المئزر وأحيا بقية عمره واستدرك ما فاته ولا تحصل يقظته إلا بذكر الله تعالى.
ولذا أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت".
(حديث أبي موسى الأشعري في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت.
(37) أن الذكر مع البكاء في الخلوة سبب لإظلال الله للعبد يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (سَبْعَةٌ يُظِلّهُمُ الله في ظِلّهِ يَوْمَ لاَ ظِلّ إِلاّ ظِلّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌ نَشَأَ في ِعِبَادَةِ الله، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلّقٌ في المَسْاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابّا في الله اجْتَمعَا عَلَيه وَتَفَرّقَا عليه، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امرأة ذَاتُ منصبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنّي أَخَافُ الله، وَرَجُلٌ تَصَدّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَهُ)
(38) الذكر يوازى ثواب صلاة الضحى صلاة الضحى هي صدقة عن 360 مفصل في جسم الإنسان:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة و كل تحميدة صدقة و كل تهليلة صدقة و كل تكبيرة صدقة و أمر بالمعروف صدقة و نهي عن المنكر صدقة و يجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى.
الشاهد: أن ركعتان من الضحى تجزئ عن ثلاثمائة وستين صدقة، وذلك أن لكل إنسان ثلاثمائة وستين مفصل ينبغي عليه أن يتصدق عن كل مفصل من مفاصله التي بلغت ثلاثمائة وستين مفصل شكراً لله تعالى على أن جعل هذه المفاصل تنثني وتريحه في الحركة والقيام والقعود و يجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى وصلاة الضحى توازي الذكر.
(39) الذكر سبب لنيل شفاعة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(8/243)
(حديثُ أبي هريرة صحيح البخاري): قال. قلت يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ لقد ظننتُ يا أبا هريرةَ أن لا يسأ لني عن هذا الحديثِ أحدٌ أوَّلَ منك لما رأيتُ من حرصكَ على الحديث، أسعدُ الناسِ بشفاعتي يوم القيامةِ من قال لا إ له إ لا الله خالصاً من قِبِلِ نفسه.
(40) الذكر أفضل بطاقة في الميزان:
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يُصاحُ برجلٍ من أمتي يوم القيامة على رءوس الخلائق فينشر له تسعة و تسعون سجلا كل سجل مد البصر ثم يقول الله تبارك و تعالى: هل تنكر من هذا شيئا؟ فيقول: لا يا رب فيقول: أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب ثم يقول: ألك عذر ألك حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة و إنه لا ظلم عليك اليوم فتخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا عبده و رسوله فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة و البطاقة في كفة فطاشت السجلات و ثقلت البطاقة.
(41) الذكر يكفر الذنوب وإن كانت مثل زبد البحر:
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال: سبحان الله و بحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه و إن كانت مثل زبد البحر.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا و ثلاثين و حمد الله ثلاثا و ثلاثين و كبر الله ثلاثا و ثلاثين فتلك تسع و تسعون و قال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير غفرت خطاياه و إن كانت مثل زبد البحر.
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما على الأرض أحد يقول لا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله إلا كفرت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر.
(41) الذكر يجزئ عن القرآن في حق من لا يحسن القرآن:(8/244)
(حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا فعلمني ما يجزئني منه قال قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله قال يا رسول الله هذا لله عز وجل فما لي قال قل اللهم ارحمني وارزقني وعافني واهدني فلما قام قال هكذا بيده فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أما هذا فقد ملأ يده من الخير.
(42) حلق الذكر هي رياض الجنة:
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا". قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: "حلق الذكر.
الرتع: هو الأكل والشرب في خصب وسعة.
[*] قال المناوي في فيض القدير:
"إذا مررتم برياض الجنة": جمع روضة وهي الموضع المعجب بالزهر سميت به لاستراضة الماء السائل إليها.
"فارتعوا": أي ارتعوا كيف شئتم وتوسعوا في اقتناص الفوائد قالوا: أي الصحابة أي بعضهم.
"وما رياض الجنة": أي ما المراد بها "قال حلق الذكر" بكسر ففتح جمع حلقة بفتح فسكون، وهي جماعة من الناس يستديرون لحلقة الباب وغيره والتحلق تفعل منها وهو أن يتعمد ذلك.
[*] قال النووي رحمه الله: كما يستحب الذكر يستحب الجلوس في حلق أهله وقد تظاهرت على ذلك الأدلة. اهـ.
{تنبيه}: (اتضح مما سبق فضل ذكر الله تعالى وبان بياناً شافياً، ولذا يجب على طالب العلم أن يتمسك بالذكر ويعض عليه بالنواجذ، ويقبل عليه إقبال الظامئ إقبال الظامئ على المورد العذب، فالذكر قوت القلوب وسبب لنيلِ رضا علام الغيوب، وهو بذلك يكون قد تأسى بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الذكر فقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتقلب في ذكر الله تعالى ويذكر الله تعالى على كل أحيانه قائماً وقاعداً وعلى جنب.
(ثانيا تلاوة القرآن:
(فضل القرآن الكريم:(8/245)
إن من المعلوم شرعاً وعقلاً وبداهةً أن القرآن الكريم أكبر منةٍ امتن الله تعالى بها على هذه الأمة، ففيه حياةُ القلوب ويحصل بالتمسك به سعادة الدارين، لم تظفر الدنيا كلها بكتاب أجمع للخير كله، وأهدى للتي هي أقوم، وأوفى بما يُسْعد الإنسانية، من هذا القرآن المجيد الذي فتح الله به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غلفًا، وهدى به من الضلالة وبصر به من العمى وأخرج به من الظلمات إلى النور، هذا الكتاب العظيم الذي ضمن للإنسانية الأمن والسعادة في دنياهم وأخراهم، إذا هم آمنوا به وتلوه حقَّ تلاوته، وتفهموا سوره وآياته، وتفقهوا جمله وكلماته، ووقفوا عند حدوده وَأْتمروا بأوامره، وانتهوا بنواهيه، وتخلقوا بأخلاقه، وطبقوا مبادئه ومُثُله وقيمه على أنفسهم وأهليهم ومجتمعاتهم، والقرآن الكريم هو: كتاب الله الذي منه بدأ وإليه يعود، نزل به الروح الأمين على قلب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلسان عربي مبين، وصفه الله تعالى بقوله (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت 41 - 42]. كما وصفه -جلت قدرته- بقوله: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود1/]
(حقا، إن آيات القرآن الكريم في غاية الدقة والإحكام، والوضوح والبيان، أحكمها حكيم، وفصَّلها خبير، وسيظل هذا الكتاب معجزًا من الناحية البلاغية والتشريعية والعلمية والتاريخية وغيرها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لم يتطرق إليه أدنى شيء من التحريف؛ تحقيقا لقوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر/9]
(فالدنيا كلها لم تظفر بكتاب أجمع للخير كله، وأهدى للتي هي أقوم، وأوفى بما يُسْعد الإنسانية، من هذا القرآن المجيد، الذي قال الله فيه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء:9]
(هذا القرآن الكريم أنزله الله على رسوله محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، قال تعالى (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [إبراهيم:1](8/246)
(نعم لقد تأثر به الجن ساعة سمعوه، وامتلأت قلوبهم بمحبته وتقديره، وأسرعوا لدعوة قومهم إلى اتباعه فَقَالُوا (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا) [الجن 1 - 3].
(وقد حكى الله في القرآن الكريم عنهم أنهم قَالُوا (يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الأحقاف 30 – 31]
(ومن عظيم شأنه وجلالة قدره أنَّه لو نزل على الجبال الصمّ لتصدَّعت، قال تعالى: (لَوْ أَنزَلْنَا هََذَا الْقُرْآنَ عَلَىَ جَبَلٍ لّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ) [الحشر / 21]
(وتحدى الثقلين أن يأتوا بمثله ولو اجتمعوا لذلك حيث قال تعالى: (قُل لّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنّ عَلَىَ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هََذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء / 88]
إنَّ القرآن الكريم معجز في أسلوبه وهديه، غنيٌّ في معانيه ودلالاته، ثمين في كنوزه وحقائقه، حي في نصوصه وتوجيهاته، قويٌّ في أهدافه وأغراضه، أقبل عليه المسلمون في مختلف مراحل التاريخ، قرؤوه وتدبروه، نظروا في نصوصه وتأملوه، فسروا آياته وبينوا شرائعه، تحدثوا عن توجيهاته واستخرجوا من كنوزه وجنوا من ثماره، والعلماء والمفسرون والمتدبرون أخذوا هذا في كل قرن، وسجلوه في كل عصر، وبقي القرآن بحول الله قادراً على العطاء، كنوزه ثمينة لا تنفد، ومعينه ثر كريم لا ينضب، وظلاله ممتدة وارفة لا تزول، وأنواره مشعة مضيئة ولو طال عليها الزمان وامتدت بها السنون.
(وقد فضّل الله عزّ وجل القرآن العظيم على غيره من الكتب السابقة، وجعله ناسخاً لها ومهيمناً عليها، فقال تعالى: (وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) [المائدة / 48](8/247)
(من أجل ذلك كله فاق هذا الكتاب المبارك كل ما تقدمه من الكتب السماوية، وكانت منزلته فوق منزلتها، قال تعالى: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) [الزخرف: 4].
(وعلى هذا فلا يُتَصوَّر طلب العلم على جادةِ الاستقامة إلا بعد حفظ كتاب الله تعالى كاملاً ومن فرَّط فيه فرَّط في غيره ولا شك، وليس معنى ذلك أنه يشترط في طلب العلم حفظ كتاب الله تعالى كاملاً غير أنه لا يستقيم علمه ولا يكون له وزناً في العلم إلا إذا حفظ كتاب الله تعال كاملاً وذلك لأن كل كتب العلم تخدم كتاب الله تعالى، ولذا كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحث أمته دائماً على حفظ كتاب الله تعالى وأن يُقبلوا عليه إقبالَ الظامئِ على المورد العذب.
(فضائل تلاوة القرآن الكريم:
أثنى الله عز وجل على التالين لكتاب الله فقال تعالى: (إِنّ الّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللّهِ وَأَقَامُواْ الصّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لّن تَبُورَ * لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ إِنّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر: 29 - 30].
والسنة الصحيحة طافحةٌ بما يحث على فضل تلاوة القرآن الكريم وتعلمه وتعليمه وهاك بعضٌ منها:
(حديث أبي أمامة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه اقرءوا الزهراوين: البقرة و آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أصحابهما اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة و تركها حسرة و لا تستطيعها البطلة.
اقرءوا الزهراوين: أي النيرتين
[*] قال النووي رحمه الله تعالى في شرح صحيح مسلم:
"و سميتا الزهراوين لنورهما و هدايتهما و عظيم أجرهما"
«كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان»: قال أهل اللغة: الغمامة والغياية كل شيء أظل الإنسان من فوق رأسه من سحابة وغبرة وغيرهما. نقله النووي. وفي القاموس: الغمامة: السحابة أو البيضاء من السحب. والغياية كل ما أظل الإنسان من فوق رأسه كالسحاب ونحوه. والمراد أن ثوابهما يأتي بهذا المنظر.(8/248)
«أو كأنهما فرقان من طير صواف»: الفرقان والحزقان: معناهما واحد، وهما قطيعان وجماعتان، يقال في الواحد: فرق وحزق وحزيقه، أي جماعة، ومعنى «صواف»: باسطة أجنحتها ملتصق بعضها ببعض كما كانت تظلل سليمان عليه السلام، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تحاجان عن أصحابهما» أي تدافعان بالحجة عن أصحابهما.
«فإن أخذها بركة وتركها حسرة»: أي قراءتها بركة وترك قراءتها حسرة وخسارة.
أخذها بركة: أي زيادةٌ ونماء
وتركها حسرة: أي على ما فاته من الثواب
«ولا تستطيعها البطلة» أي السحرة، تسمية لهم باسم فعلهم، لأن ما يأتون به الباطل، وإنما لم يقدروا على قراءتها ولم يستطيعوها لزيغهم عن الحق وانهماكهم في الباطل، ويصح أن يكون المعنى ولا يستطيع دفعها واختراق تحصينها لقارئها السحرة.
وقيل: المراد من البطلة أهل البطالة، أي لا يستطيعون قراءتها وتدبر معانيها لكسلهم.
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترُجَّة ريحها طيب و طعمها طيب و مثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها و طعمها حلو و مثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب و طعمها مر و مثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح و طعمها مر.
(مثَّل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المؤمن الذي يقرأ القرآن بالأترجة ريحها طيب وطعمها طيب وكذا المؤمن الذي يقرأ القرآن مرضيٌ حاله قلباً وقالباً _ وهذا إن كان عاملاً بكتاب الله تعالى _ وإلا انقلب علمه من نورٍ إلى نار.
(وبين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه يترتب الأجر الوفير على قراءة القرآن الكريم:
(حديث عقبة ابن عامر في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين زهراوين في غير إثم و لا قطع رحم فلأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين و ثلاث خير له من ثلاث و أربع خير له من أربع و من أعدادهن من الإبل.
(حديث ابن مسعودٍ في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة و الحسنة بعشر أمثالها لا أقول: {ألم} حرف و لكن: ألف حرف و لام حرف و ميم حرف.(8/249)
(حديث ابن عباس في صحيحي الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال {إذا زلزلت} تعدل نصف القرآن و {قل يا أيها الكافرون} تعدل ربع القرآن و {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن.
{تنبيه}: (ومن مظاهر سعة رحمة الله تعالى لعباده وكذا من مظاهر يسر الإسلام أن الله تعالى رتب الأجر الوفير على قراءة القرآن الكريم سواء كان القارئ يجيد القراءة أم يتتعتع في القراءة.
(حديث عائشة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الذي يقرأ القرآن وهو حافظٌ له مع السفرةِ الكرامِ البررة والذي يقرأ القرآن ويتعاهده وهو عليه شديد فله أجران.
(حديث جابر في صحيح أبي داود) قال: خرج علينا رسول الله ونحن نقرأ القرآن وفينا الأعرابي والأعجمي فقال: اقرؤوا فكلٌ حسن وسيجئُ أقوامٌ يقيمونه كما يُقام القدحُ يتعجلونه ولا يتأجلونه.
الشاهد:
أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل أمر قراءة القرآن على التساهل حيث قال في قراءة الأعرابي والأعجمي (اقرؤوا فكلٌ حسن) وهما غالباً لا يحسنان القراءة لأن الأعرابي غالباً بعيدٌ عن العلم والأعجمي ليس عربياً أصلاً، ثم بين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن المهم في القراءة الاحتساب وإخلاص النية ثم نبه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سيجئُ أقوامٌ يقرؤون القرآن قراءةً صحيحةً ويقيمون الألفاظ كما يُقام القدح (أي السهم) ولكنهم مع ذلك يتعجلون ثوابه في الدنيا ولا يؤجلون ثوابه في الآخرة.
{تنبيه}: ( ... لسماع القران أثر إيجابي على المخ فقد ثبت علمياً أن تلاوة القرآن الكريم وترتيله والاستماع إلى آياته والإنصات لها يعزز القوى العقلية، وأن الترددات العقلية الصادرة عن أصوات تلاوة القرآن الكريم يجعل العقل يصدر سلسلة من الترددات والطاقات تعرف علمياً باسم (موجات العقل)
فإذا كنت حقاً تريد تزويد عقلك بالموجات الصوتية المغذية استمع للقرآن الكريم وأنصت جيداً لآياته وراقب جيداً كيف تزداد قواك العقلية، وكيف تصبح مبدعاً في
تفكيرك.
وثبت فعلياً أن الإنسان يحتاج للاستماع إلى الآيات المحكمات من كتاب الله كغذاء فعال للروح والعقل معاً أكثر من حاجة العقل إلى المغذيات الطبيعية والأعشاب
الطبية والفيتامينات وغيرها من منشطات العقل.
والعجيب فعلاً أن الاستماع للقرآن الكريم يزيل الضجر والتشتت والنسيان السريع بعكس الاستماع لأي أي شيء آخر.(8/250)
(لذا فاحرصوا قدر استطاعتكم أن تظلوا يقظين أثناء الاستماع ولا تعطوا لعوامل التشتت الفرصة، فقد ثبت أن السر في تركيبة عقولنا يكمن في أنه بالاستماع للقرآن الكريم تبقى خلايا مخك حية سعيدة حتى في أثناء فترات الضغط عليها.
وثبت توقف خلايا المخ عن التناقص بعد دوام الاستماع للقرآن الكريم، وكذلك زيادة قدرة المستمع على التركيز واستدعاء الذاكرة والقيام بعمليات حسابية لم يكن بالإمكان القيام بها من قبل.
نسأل الله العظيم أن يعيننا على تلاوة القرآن الكريم, وحفظه, وتدبّر آياته, واتّباع سنة نبيّه عليه أفضل الصلاة والسلام, وأن تكون منزلتنا عند آخر آية نقرؤها, وأن نكون ممن نقرأ فنرقى, ولا نكون ممن يقرأ فيشقى, وأن نقيم حدوده, ولا نضيّع حدوده, وأن نأمر بالمعروف, وننهى عن المنكر, ونسارع في فعل الخيرات والطاعات وترك المنكرات وحب المساكين إنه ولي ذلك والقادرُ عليه.
(فضل تعلم القرآن وتعليمه:
مما لا شك فيه أن القرآن الكريم هو أفضل ما يُتعلم، وأفضل ما يُعلَّم، ??لاشك أن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه هو أكثر كمالاً لأنه مكمِّل لنفسه ولغيره، جامع بين النفع القاصر على نفسه والنفع المتعدي إلى غيره، ولذلك قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه)
(حديث عثمان في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال خيركم من تعلم القرآن وعلمه.
[*] قال الحافظ ابن كثير في فضائل القرآن:
"والغرض أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: خيركم من تعلم القرآن وعلمه، وهذه صفات المؤمنين المتبعين للرسل، وهم الكُمَّلُ في أنفسهم المُكَمِّلون لغيرهم، وذلك جمع بين النفع القاصر والمتعدي، وهذا بخلاف صفة الكفار الجبارين الذين لا ينفعون، ولا يتركون أحدا ممن أمكنهم أن ينتفع، كما قال الله في حقهم: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ) [النحل:88].
وكما قال تعالى: (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) [الأنعام: 26].(8/251)
في أصح قولي المفسرين في هذا، وهو أنهم ينهون الناس عن اتباع القرآن مع نأيهم وبعدهم عنه أيضا، فجمعوا بين التكذيب والصد، كما قال تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا) [الأنعام: 157]. فهذا شأن شرار الكفار كما أن شأن الأخيار الأبرار أن يتكملوا في أنفسهم، وأن يسعوا في تكميل غيرهم، كما في هذا الحديث، وكما قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)
[فصلت/ 33]
فجمع بين الدعوة إلى الله سواء كان بالأذان أو بغيره من أنواع الدعوة إلى الله -تعالى- من تعليم القرآن والحديث والفقه، وغير ذلك مما يُبتغى به وجه الله، وعمل هو في نفسه صالحا، وقال قولا صالحا -أيضا- فلا أحد أحسن حالا من هذا. انتهى.
(وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حريصاً كل الحرص على تعليم صحابته القرآن، وتعاهدهم على تلاوته والعمل به، فقد جاء عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرئهم القرآن. ونُقل عن ابن مسعود أنه أقرأ رجلاً، فقال له حين أخطأ: ما هكذا أقرأنيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكان من أمره صلى الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يرسل القراء إلى كل بلد يعلِّمون أهله كتاب الله، فأرسل مصعب بن عمير وابن أم مكتوم إلى أهل المدينة قبل هجرته، وبعث معاذ بن جبل إلى مكة بعد فتحها. وعلى هذا الدرب سار السلف الصالح من بعدُ، فاهتموا بتعلِّم كتاب ربهم وتعليمه، فأقاموا المساجد والمدارس تحقيقاً لهذا الغرض.
وإلى جانب اهتمام سلف هذه الأمة وخلفها بأمر قرآنها تعلُّماً وتعليماً، فقد أولو كذلك عناية خاصة بآداب تعلُّم القرآن وتعليمه، فقرروا في ذلك جمله من الآداب نقف على أهمها فيما يأتي:
(آداب المتعلم:
(1) لا بد لمتعلم القرآن أن يُخلص النية لله أولاً، لينال عمله القبول عند الله سبحانه. والنية قد يُتساهل فيها مع الناشئة في بداية أمرهم، لكن لابد من التنبيه عليها ومراعاة تصحيحها عند من بلغ رشده، وأصبح مكلفاً شرعاً.
ولا بد لمتعلم القرآن أن يأخذ القرآن عمن تأهَّل وظهر دينه، وكان أهلاً للتلقي عنه، كما قال بعض أهل العلم: "العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم".(8/252)
(2) ومن الآداب ألاَّ يرفع المتعلم صوته بلا حاجة عند معلمه، ولا يضحك، أو يكثر من الكلام لذي ليس فيه مصلحة شرعية، ولا يعبث بيده، ولا يلتفت إلا لحاجة، بل يتوجه بوجهه إليه.
(3) ومن الآداب ألا يقرأ على الشيخ حال ملله، وعليه أن يحتمل جفوته وسوء خلقه. وليحرص على الإتيان إليه مبكراً؛ ليحصل له الخير والبركة.
وعلى متعلم القرآن كذلك أن يكون متواضعاً لمعلمه ومتأدباً مع إخوانه، فلا ينظر إلى معلمه إلا بعين الاحترام، ولا يُعامل إخوانه إلا بما فيه رفق وأدب، فإن في ذلك عون له على الانتفاع بما يتعلمه.
[*] قال علي رضي الله عنه: "من حق المعلم عليك أن تسلِّم على الناس عامة، وتخصَّه دونهم بتحية، وأن تجلس أمامه، ولا تشيرن عنده بيدك، ولا تغمزن بعينك، ولا تقولن: قال فلان خلاف ما تقول، ولا تغتابن عنده أحداً".
ومن آداب متعلم القرآن تجنب الأسباب الشاغلة عن تعلم كتاب الله، كالانشغال بما لا يُسمن ولا يُغني من جوع، كالجلوس أمام الرائي "التلفاز" وتضييع الأوقات لمتابعة المسلسلات الفارغة، وأنواع الرياضات الشاغلة، وما شابه ذلك من أمور لا يليق بالمؤمن أن يشغل نفسه بها، ويضيع أوقاته لأجلها.
(آداب المعلم:
(1) أول الآداب التي ينبغي أن يتحلَّى بها معلم القرآن أن يبتغي بعمله مرضاة الله، فيخلص لله في عمله، فلا يعلِّم القرآن لأجل مغنمٍ دنيوي أو مكسب معنوي، بل عليه أن يكون زاهداً بما في أيدي الناس، عفيف النفس، واسع الخلق، طلْق الوجه، صابراً ومحتسباً أجره عند الله، مستحضراً قوله تعالى: {وما أسألكم عليه من أجرٍ إن أجريَ إلا على رب العالمين [الشعراء:109]
وليحذر كل الحذر من الحسد والرياء والعجب بالنفس واحتقار الغير، بل عليه أن يكون ناصحاً مرشداً رفيقاً بمن يعلمه، معتنياً بمصالحه، وأن يحب له ما يحبه لنفسه وولده. ولا ينبغي للمعلم أن يكون عنيفاً أو متساهلاً في تعليمه، بل مقتصداً في أمره، خشية أن ينفِّر من هو بين يديه، وخاصة إذا كانوا ناشئة في العلم، فإن الله يحب الرفق في الأمر كله، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف و إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا يُنزع من شيء إلا شانه.
(حديث جرير ابن عبد الله في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من يُحرم الرفق يُحرم الخير.
(حديث عائشة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الرفق لا يكون في شيءٍ إلا زانه ولا ينزعُ من شيءٍ إلا شانه.(8/253)
(حديث عائشة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يا عائشة إن الله رفيقٌ يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه.
(2) وعليه أن يصبر على من بطأ فهمه، وأن يعذر من قلَّ أدبه أحياناً. وأن يأخذ طلبته بإعادة محفوظاتهم، ويثني على من ظهر تفوقه وإقدامه، ويعنِّف من قصَّر تعنيفاً لطيفاً، ويقدم في القراءة السابق فالسابق، إلا إن كان ثمة مصلحة فيقدِّم اللاحق. وعليه أن يتفقد أحوال طلبته، ويسأل عن غائبهم.
(3) وعلى معلم القرآن أن يكون قدوة للمتعلم في سلوكه كله، من احترام للوقت، والعدل بين المتعلمين، فلا يُفضِّل أحداً على أحد، إلا لمصلحة تتطلب ذلك، ولا يخاطب أحداً بعينه ويعرض عن غيره، بل يكون عدلاً في كل ذلك حتى في نظراته، فهو يعلِّم كلام الله، فليراعِ أمر الله القائل في كتابه: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله [النساء:135]
(4) وعليه أن يصون يديه حال الإقراء عن العبث، وعينيه عن النظر فيما لا حاجة له إليه. وليرعَ الأمانة التي حُمِّلها، وهي أمانة هذا الكتاب، وليتحلَّ بأوصاف أهل القرآن، الذين هم أهل الله وخاصته، ففي ذلك كله فلاح له إن شاء الله.
وجملة القول هنا إن أهل القرآن وحَمَلَتُه إذا أرادوا أن يكونوا أهلاً لهذا الوصف الذي وصفهم به رسول الله، فعليهم أن يتحلُّوا بآداب القرآن، وآداب حَمَلَة القرآن، لينالوا عز الدنيا وعز الآخرة، والله الموفِّق والهادي إلى سواء السبيل.
(استحباب قراءة القرآن الكريم جماعة:
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور: 36]
و قال تعالى (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) [الجن/18]
و قال تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [البقرة/114]
فأضاف المساجد إليه؛ لأنها موضع ذكره.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله و يتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة و غشيتهم الرحمة و حفتهم الملائكة و ذكرهم الله فيمن عنده.
قوله (يتلون كتاب الله و يتدارسونه بينهم) يتلونه: يقرءونه و يتدارسونه أي: يدرس بعضهم على بعض.(8/254)
(إلا نزلت عليهم السكينة) يعني: في قلوبهم و هي الطمأنينة و الاستقرار السكينة: حالة يطمئن بها القلب فيسكن عن الميل إلى الشهوات وعند الرعب.
و غشيتهم الرحمة: غطتهم و شملتهم.
و حفتهم الملائكة: أي يطوفون بهم يدورون حولهم.
وذكرهم اللّه: أثنى عليهم أو أثابهم.
فيمن عنده: أي من الملائكة
(ومن فوائد الحديث: فضيلة اجتماع الناس على قراءة القرآن لقوله - و ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله .. الخ.
(ومن فوائد الحديث: أن حصول هذا الثواب لا يكون إلا إذا اجتمعوا في بيت الله أي: في مسجد من المساجد لينالوا بذلك شرف المكان لأن أفضل البقاع مساجدها.
(ومن فوائد الحديث: بيان حصول هذا الأجر العظيم تنزل عليهم السكينة و هي الطمأنينة القلبية و تغشاهم الرحمة أي: تغطيهم و تحفهم الملائكة أي: تحيط بهم من كل جانب و يذكرهم الله فيمن عنده من الملائكة لأنهم يذكرون الله تعالى عن ملأ، و قد قال الله تعالى في الحديث القدسي -من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم-.
[*] (قراءة القرآن جماعة لها أربع صور:
(الصور الأولى:
أن يقرأ واحد والباقون يستمعون له، فهذه الصورة مستحبة لا تكره بغير خلاف،
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعبد الله بن مسعود: (اقْرأ عَليَّ القُرْآن، فَإِنِّي أُحبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي) فقرأ عليْهِ من سُورة النِّساء حتّى بلغ قوله: ((فَكَيفَ إِذاَ جِئنَاَ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَاَ بِكَ عَلى هَؤلاء شَهِيدا))، قال: (حَسْبُكَ الآن). فالتفتُ إليه فَإِذَاَ عَيْنَاهُ تَذْرِفَان.
قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى 5/ 345: وأما قراءة واحد والباقون يستمعون له فلا يكره بغير خلاف وهي مستحبة، وهي التي كان الصحابة يفعلونها كأبي موسى وغيره.
(الصور الثانية:
أن يقرأ قارئ ثم يقطع ثم يعيد غيره ما قرأ الأول لأجل مدارسة القرآن، فهذه الصورة مستحبة باتفاق الفقهاء لأن جبريل كان يدارس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برمضان يعرض كل منهما على الآخر.
[*] قال الحافظ في الفتح:(8/255)
يعرض عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القرآن، هذا عكس ما وقع في الترجمة لأن فيها أن جبريل كان يعرض على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي هذا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعرض على جبريل وتقدم في بدء الوحي، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فيحمل على أن كلا منهما كان يعرض على الآخر.
[*] وقال في مطالب أولي النهى 1/ 598:
وأما لو أعاد ما قرأه الأول وهكذا فلا يكره؛ لأن جبريل كان يدارس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القرآن برمضان وهذا ما قرره البهوتي رحمه الله في كشاف القناع انظر 1/ 433.
[*] وقال الخرشي في شرحه على مختصر خليل 1/ 353:
كما لا تكره المدارسة بالمعنى الذي كان يدارس به جبريل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برمضان من قراءته وإعادة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انتهى
(الصورة الثالثة:
أن يقرأ قارئ ثم يقطع ثم يقرأ غيره بما بعد قراءته، فذهب جمهور أهل العلم إلى أن ذلك حسن لا يكره، وذهب الحنابلة إلى كراهة تلك الصورة، قال ابن مفلح في الفروع 1/ 554: وكره أصحابنا قراءة الإدارة، وقال حرب: حسنة، وحكاه شيخنا -أي ابن تيمية رحمه الله- عن أكثر العلماء.
والراجح في هذه الصورة أنها لا تكره، لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده. رواه مسلم وأبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وإذا اتفق الحنابلة مع الجمهور على استحباب الصورة الأولى فلا وجه للكراهة هنا .. إذ لا فرق بين أن يعيد القارئ ما قرأ الأول أو أن يقرأ من حيث ما وقف الأول.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى الكبرى 5/ 345: وقراءة الإدارة حسنة عند أكثر العلماء.
[*] وقال الإمام النووي في التبيان:
فصل في الإدارة بالقرآن وهو أن يجتمع جماعة يقرأ بعضهم عشراً أو جزءاً أو غير ذلك ثم يسكت ويقرأ الآخر من حيث انتهى الأول، ثم يقرأ الآخر وهكذا، وهذا جائز حسن. وقد سئل مالك رحمه الله تعالى عنه فقال: لا بأس به. انتهى
(الصورة الرابعة:
أن يقرأ الكل مجتمعين بصوت واحد.
فمذهب الحنابلة والشافعية استحباب ذلك وهو القول الثاني عند الأحناف، قال البهوتي رحمه الله في شرح منتهى الإرادات 1/ 256: ولا تكره قراءة جماعة بصوت واحد.
[*] وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى 5/ 345:(8/256)
وقراءة الإدارة حسنة عند أكثر العلماء ومن قراءة الإدارة قراءتهم مجتمعين بصوت واحد، وللمالكية قولان في كراهتها. انتهى
[*] وقال محمد بن محمد الخادمي في بريقه محمودية:
وكره أن يقرأ القرآن جماعة لأن فيه ترك الاستماع والإنصات المأمور بها، وقيل لا بأس به ولا بأس باجتماعهم على قراءة الإخلاص جهراً عند ختم القرآن، والأولى أن يقرأ واحد ويستمع الباقون. انظر 3/ 270
القول الثاني: كراهة قراءة الجماعة معاً بصوت واحد لتضمنها ترك الاستماع والإنصات، وللزوم تخليط بعضهم على بعض، وهو المعتمد عند الحنفية والمالكية.
قال صاحب غنية المتملي: يكره للقوم أن يقرءوا القرآن جملة لتضمنها ترك الاستماع والإنصات وقيل: لا بأس به.
وقد أثبت المالكية القول بالكراهة في كتبهم وشنعوا على القائلين بالجواز بلا كراهة، وقد عقد ابن الحاج رحمه الله فصلاً في المدخل 1/ 94 وما بعدها رد فيه على الإمام النووي رحمه الله، وما نقله من أدلة وآثار عن السلف فليراجع.
وقال الطرطوشي في الحوادث والبدع: لم يختلف قوله -يعني الإمام مالكاً - أنهم إذا قرؤوا جماعة في سورة واحدة أنه مكروه.
ونقل عن مالك كراهة القراءة بالإدارة وقوله: وهذا لم يكن من عمل الناس.
وقال أبو الوليد ابن رشد: إنما كرهه مالك للمجاراة في حفظه والمباهاة والتقدم فيه. انتهى
ولهذا ينبغي ترك هذه الصورة الأخيرة، فإن الخير في اتباع من سلف، وحذراً من المجاراة والمباهاة واختلاط الأصوات وترك الإنصات. والله أعلم.
(فوائد قراءة القرآن جماعة:
(1) تعهد القرآن الكريم، فهي تساعد على حفظه وضبطه ومراجعته وعدم نسيانه، وهي بذلك تحقق الاستجابة للأمر النبوي كما في الحديث الآتي:
((حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا من قلوب الرجال من الإبل من عقلها.
معنى تفصياً: أي تفلتاً
(حديث ابن مسعود في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال بئسما لأحدهم أن يقول: نسيت آية كيت و كيت بل هو نُسِيَ، واستذكروا القرآن فأنه أشدُّ تفصِّياً من صدور الرجال من النَّعم في عُقُلها.
معنى بل نُسِيَ: أي عوقب بالنسيان لتفريطه فاستذكار القرآن
(وقد حمل بعض المفسرين قوله تعالى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى على نسيان القرآن بعد حفظه.(8/257)
إذن من فوائد هذه القراءة الجماعية التعاون على الحفظ أو المراجعة لأن المسلم الواحد لمفرده يمكن أن يضعف , ولكنه بإخوانه يتقوى.
(2) ومن فوائدها تسميع كتاب الله تعالى لمن يريد سماعه من عوام المسلمين، إذ لا يقدر العامي على تلاوته فيجد بذلك سبيلا إلى سماعه، ثم إن كثيرين حفظوا القرآن من خلال مواظبتهم على الحزب مع الجماعة.
(3) ومن حسناتها التماس الفضل المذكور في حديث ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده، فقد استفيد منه أن كل قوم اجتمعوا لما ذُكر حصل لهم الأجر من غير اشتراط وصف خاص فيهم من علم أو صلاح أو زهد.
(4) ومن إيجابياتها أن ينتبه المسلم إلى مواضع الخلل في حفظه للقرآن بطريقة من الصعب أن ينتبه إليها لو كان يحفظ القرآن أو يراجعه لوحده.
(آداب القُراء مجتمعين:
[*] قال الإمام النووي في التبيان في آداب حملة القرآن:
الآداب التي يحتاجون إليها كثيرة لا يمكن حصرها في هذا الموضع، ولكن نشير إلى بعضها تبييناً على الباقي، فجميع آداب القارئ وحده آداب المجتمعين، ونزيد في آدابهم أشياء مما يتساهل فيه بعض الجاهلين، فمن ذلك أن يتغنَّى لهم أن يتجنبوا الضحك، واللغط، والحديث في حالة القراءة، إلا كلاماً يضطر إليه، ومن ذلك العبث باليد وغيرها، والنظر إلى ما يُلهي، أو يُبدد الذِّهن، وأقبح من هذا كُله النَّظر ما لا يجوز النَّظر إليه، كالأمرد وغيره، فإن النَّظر إلى الأمرد الحسن حرام سواء كان بشهوة أو بغيرها، وسواء أمن الفتنة أم لم يأمنها، هذا هو المذهب الصحيح المختار عند المحققين من العلماء، وقد نصَّ على تحريمه الإمام الشّافعيّ، ومن لا يُحصى من العلماء، قال تعالى: ((قُل للمؤمنين يَغضّوا من أبْصارهِم ويحفظوا فُروجَهُم))؛ لأنه في معنى المرأة؛ بل كثير منهم أحسن من كثير من النساء، ويَسهل من طُرق الشَّر في حقهم ما لايُتسهل في النساء فهم بالتحريم أولى، وأقاويل السلف في التنفير منهم أكثر من أن تُحصى.
واعلم أنه يجب على كل حاضر مجلس القراءة أن ينكر ما يراه من هذه المنكرات وغيرها فينكر بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه؛ فإن لم يستطع فلينكره بقلبه.
(فضائل حفظ القرآن الكريم:(8/258)
(قد شرَّف الله أمة الإسلام بخصيصة لم تكن لأحد من أهل الْملل قبلهم، وهي أنَّهم يقرءون كتاب ربِهم عن ظهر قلبٍ، بخلاف أهل الكتاب، فقد كانوا يقرءون كتبِهم نظرًا، لا عن ظهر قلب.
ميّز الله عز وجل القرآن الكريم عن سائر الكتب بأن تعهد بحفظه، قال تعالى: (إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا الذّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9].
?? (وكان من حفظه لكتابه أن وفَّقَ هذه الأمة إلى حفظه واستظهاره.
ولقد يسّر الله سبحانه وتعالى تلاوة القرآن وحفظه لعباده فقال تعالى: (وَلَقَدْ يَسّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مّدّكِرٍ) [القمر: 17].
فنجد الطفل الصغير والأعجمي وغيرهما، يقبل على حفظ القرآن، فييسر الله له ذلك، رغم أنه لا يعرف من العربية ولا الكتابة شيئاً.
وقد تظاهرت الأدلة على فضل حفظ القرآن الكريم، وفضل حفظته على غيرهم من الْمسلمين، فمن ذلك ما يلي:
(1) التأسي بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فقد كان عليه الصلاة والسلام يحفظه، ويراجعه مع جبريل عليه السلام ومع بعض أصحابه.
(2) التأسي بالسلف الصالح:
[*] قال ابن عبد البر:
طلب العلم درجات ورتب لا ينبغي تعديها، ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف رحمهم الله، فأول العلم حفظ كتاب الله عز وجل وتفهمه ... ا هـ)
حفظه ميسر للناس كلهم، ولا علاقة له بالذكاء أو العمر، فقد حفظه الكثيرون على كبر سنهم. بل حفظه الأعاجم الذين لا يتكلمون العربية، فضلاً عن الأطفال.
(3) علوُّ منزلة حَافظ القرآن، الْماهر به لأنه يكون مع السفرة الكرام البررة كما في الحديث الآتي:
(حديث عائشة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الذي يقرأ القرآن وهو حافظٌ له مع السفرةِ الكرامِ البررة والذي يقرأ القرآن ويتعاهده وهو عليه شديد فله أجران.
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يقال لصاحب القرآن: اقرأ و ارق و رتل كما كنت ترتل في دار الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها.
فيا له من شرف أن تكون مع من قال الله فيهم {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ) (عبس من الآية 13 (16:
(4) صاحب القرآن يلبس حلة الكرامة وتاج الكرامة:(8/259)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يجيء صاحب القرآن يوم القيامة، فيقول: يا رب حله، فيلبس تاج الكرامة. ثم يقول: يا رب زده فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيقال اقرأ وارق ويزاد بكل آية حسنة.
(5) ومن ذلك أيضًا أن أهل القرآن هم أهل الله وخاصته:
(حديث أنس في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أهل القرآن أهل الله وخاصته.
(6) ومن ذلك أيضًا أن حملة القرآن مقدمون على أهل الجنة:
[*] قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ:
حَمَلَةُ الْقُرْآنِ عُرَفَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
[*] وعن طاوس أنه سأل ابن عباس - رضي الله عنهما: ما معنى قول الناس: أهل القرآن عرفاء أهل الجنة؟ فقال: رؤساء أهل الجنة.
(7) حملة القرآن هم أهل الله وخاصته وكفى بهذا شرفاً كما في الحديث الآتي:
(حديث أنس في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أهل القرآن أهل الله وخاصته.
(8) حامل القرآن يستحق التكريم كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي موسى في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم و حامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه و إكرام ذي السلطان المقسط.
(9) الغبطة الحقيقية تكون في القرآن وحفظه كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا حسد إلا في اثنتين: رجلٌ علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جارٌ له فقال: ليتني أوتيتُ مثل ما أُوتيَ فلانٌ فعملتُ مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالاً فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيتُ مثل ما أُوتيَ فلانٌ فعملتُ مثل ما يعمل.
(10) حفظ القرآن وتعلمه خير من متاع الدنيا، كما في الحديث الآتي:
(حديث عقبة ابن عامر في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين زهراوين في غير إثم و لا قطع رحم فلأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين و ثلاث خير له من ثلاث و أربع خير له من أربع و من أعدادهن من الإبل.
(وتذكر أن الإبل في ذلك الزمان أنفس المال وأغلاه.
(11) حافظ القرآن هو أولى الناس بالإمامة كما في الحديث الآتي:(8/260)
(حديث أبي مسعودٍ الأنصاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا و لا يؤمنَّ الرجلُ الرجلَ في أهله و لا في سلطانه و لا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه.
(وتذكر أن الصلاة عمود الدين وثاني أركان الإسلام.
(12) حفظ القرآن الكريم رفعة في الدنيا والآخرة، كما في الحديث الآتي:
(حديث عمر في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين.
(بهذا الكتاب): أي بقراءته، أي بالعمل به. وقوله
(أقواما): أي: منهم مولاك.
(ويضع به): أي بالإعراض عنه وترك العمل بمقتضاه.
(وهكذا كان توقير الرعيل الأول لكتاب ربهم في صدورهم. وكان السلف ينشئون أطفالهم على حفظ القرآن، ثم يحفظونهم الكتب الستة (أي صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن الترمذي، وسنن أبي داود، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجه). وبعد أن يتمون ذلك يقومون بتحفيظهم مغازي الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وبذلك يشب الطفل المسلم على وعي بكتاب ربه وسنة نبيه صلوات ربي وسلامه عليه. وهكذا حقق الإسلام تقدمه وتفرده، وازدهرت حضارة الإسلام على جميع الحضارات التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وتفوقت عليها؛ وذلك بحفظ كتابها والعمل بمقتضاه.
(13) حافظ القرآن يقدم في قبره، فبعد معركة أحد وعند دفن الشهداء كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجمع الرجلين في قبر واحد ويقدم أكثرهم حفظاً كما في الحديث الآتي:
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) قال كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول أيهم أكثر أخذاً للقرآن فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم.
(14) وفي يوم القيامة يشفع القرآن لأهله، وشفاعته مقبولة عند الله تعالى كما في الحديث الآتي:(8/261)
(حديث أبي أمامة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه اقرءوا الزهراوين: البقرة و آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أصحابهما اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة و تركها حسرة و لا تستطيعها البطلة.
اقرءوا الزهراوين: أي النيرتين
[*] قال النووي رحمه الله تعالى في شرح صحيح مسلم:
"و سميتا الزهراوين لنورهما و هدايتهما و عظيم أجرهما"
«كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان»: قال أهل اللغة: الغمامة والغياية كل شيء أظل الإنسان من فوق رأسه من سحابة وغبرة وغيرهما. نقله النووي. وفي القاموس: الغمامة: السحابة أو البيضاء من السحب. والغياية كل ما أظل الإنسان من فوق رأسه كالسحاب ونحوه. والمراد أن ثوابهما يأتي بهذا المنظر.
«أو كأنهما فرقان من طير صواف»: الفرقان والحزقان: معناهما واحد، وهما قطيعان وجماعتان، يقال في الواحد: فرق وحزق وحزيقه، أي جماعة، ومعنى «صواف»: باسطة أجنحتها ملتصق بعضها ببعض كما كانت تظلل سليمان عليه السلام، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تحاجان عن أصحابهما» أي تدافعان بالحجة عن أصحابهما.
«فإن أخذها بركة وتركها حسرة»: أي قراءتها بركة وترك قراءتها حسرة وخسارة.
أخذها بركة: أي زيادةٌ ونماء
وتركها حسرة: أي على ما فاته من الثواب
ولا تستطيعها البطلة:
«ولا تستطيعها البطلة» أي السحرة، تسمية لهم باسم فعلهم، لأن ما يأتون به الباطل، وإنما لم يقدروا على قراءتها ولم يستطيعوها لزيغهم عن الحق وانهماكهم في الباطل، ويصح أن يكون المعنى ولا يستطيع دفعها واختراق تحصينها لقارئها السحرة.
وقيل: المراد من البطلة أهل البطالة، أي لا يستطيعون قراءتها وتدبر معانيها لكسلهم.
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترُجَّة ريحها طيب و طعمها طيب و مثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها و طعمها حلو و مثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب و طعمها مر و مثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح و طعمها مر.
فهنيئاً لمن يشفع له هذا الكتاب العظيم في ذلك اليوم العصيب.
(15) حفظ القرآن سبب للنجاة من النار كما في الحديث الآتي:(8/262)
(حديث عصمة بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لو جمع القرآن في إهاب ما أحرقه الله بالنار.
[*] قال ابن الأثير:
وقيل الْمعنى: مَن علَّمهُ اللهُ القرآنَ لم تحرقْهُ نارُ الآخرةِ، فجُعِلَ جسمُ حافظ القرآن كالإهاب له.
[*] قال أبو أمامة: إن الله لا يعذب بالنار قلباً وعى القرآن.
(16) حفظ القرآن رفعة في درجات الجنة، كما في الحديث الآتي:
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يقال لصاحب القرآن: اقرأ و ارق و رتل كما كنت ترتل في دار الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها.
[*] قال ابن حجر الهيتمي:
الخبر خاص بمن يحفظه عن ظهر قلب، لأن مجرد القراءة في الخط لا يختلف الناس فيها.
(17) حافظ القرآن أكثر الناس تلاوة له، فحفظه يستلزم القراءة المكررة، وتثبيته يحتاج إلى مراجعة دائمة فيجعله يفوز بكنزٍ من كنوز الحسنات لأن من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث ابن مسعودٍ في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة و الحسنة بعشر أمثالها لا أقول: {ألم} حرف و لكن: ألف حرف و لام حرف و ميم حرف.
حافظ القرآن يقرأ في كل أحواله، فبإمكانه أن يقرأ وهو يعمل أو يقود سيارته أو في الظلام، ويقرأ ماشياً ومستلقياً، فهل يستطيع غير الحافظ أن يفعل ذلك؟ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
حافظ القرآن لا يعوزه الاستشهاد بآيات القرآن الكريم في حديثه وخطبه ومواعظه وتدريسه، أما غير الحافظ فكم يعاني عند الحاجة إلى الاستشهاد بآية، أو معرفة موضعها.
فهل بعد هذا نزهد في حفظ ما نستطيع من كتاب الله؟! ..
(عناية السلف الصالح بحفظ القرآن:
لا شك ولا ريب أن أول الأمور في طلب العلم بل هو أعظمها وأجلّها (حفظ القرآن الكريم) والناظر إلى سير علمائنا السابقين واللاحقين يجد أنهم أول ما يهتمون بحفظ القرآن الكريم فيحفظونه منذ نعومة أظفارهم قبل البلوغ ذلك لأنه أساس العلوم وقوامها ومنه أولاً تستمد الأحكام والأدلة، ثم بعد ذلك يتدرجون في سلم العلوم الشرعية.(8/263)
وكان السلف الصالح أول ما يسألون عنه حفظ كتاب الله منذ صغرهم ونعومة أظفارهم فيشبوا وقد علقت قلوبهم بحب الله , وتعظيم كتابه , وتدبر آياته ... فيأتمرون بأوامره وينتهون بنواهيه , فان كانت من مكارم الأخلاق أطّلع عليها واقتدي بها, وان كانت عبراً وَعِظَات, اعتبر بها وَقَرَعَتْ فُؤَادَه.
،وهذه قصة عمر بن أبى سلمة أصح دليل على سرعة حفظ الطفل والحث على المسارعة في تحفيظ الأبناء:
(حديث عمر بن سلمة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كنا بماء ممر الناس , وكان يمر بنا الركبان فنسألهم عن النبي؟ فيقولون يزعم أن الله أرسله أوحى إليه بكذا فكنت أحفظ ذلك الكلام وكأنما يقر في صدري فلما أسلم قومه وأمرهم النبي بالصلاة قال: فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنا منى! لما كنت أتلقى من الركبان فقدموني بين أيديهم و أنا ابن ست أو سبع سنين؟؟.
(ومما يدل على إن هذا دأب الصحابة قول ابن عباس: جمعت المحكم في عهد رسول الله؟؟ فقلت له: ما المحكم؟ قال: المفصل! (أي من الحجرات إلى آخر القرآن) وقال أيضاً: سلوني عن التفسير فإني حفظت القرآن وأنا صغير
[*] وعن ابن عباس قال: من قرأ القرآن قبل أن يحتلم فهو ممن أوتى الحكم صبيا (الآداب الشرعية لابن مفلح1/ 244)
(ومما يستطرف في هذا الشأن حكاية الفرزدق حيث دخل مع أبيه على علي بن أبى طالب رضي الله عنه وقال له:
إن ابني يوشك أن يكون شاعراً فقال له: أقرئه القرآن فهو خير له! فقال: ما زالت كلمته في نفسي حتى قيّد نفسه بقيد وآلي أن لا يفكه حتى يحفظ القرآن فما فكه حتى حفظه (خزانه الأدب 1/ 222)
[*] قال الشيخ أبو زكريا النواوي رحمه الله في التبيان:
والظاهر أن كلام السلف وفعلهم محمول على هذا التفصيل وكان السلف يتعاهدون أطفالهم على حفظ كتاب الله تعالى. دخل الرحالة الشهير ابن بطوطة خلال رحلته في مالي على قاض مالي يوم العيد عام 1352م فوجد أولاده في القيود فقال ألا تسرحهم فأجابه لا أفعل حتى يحفظوا القرآن كما مر ابن بطوطة في مالي بشاب حسن الصوت وعليه ثياب فاخرة وفي رجليه قيد ثقيل فسأل مرافقه عما ارتكبه هذا الشاب من جرم، وعلم أخيرا أنه قيد حتى ينتهي من حفظ القرآن.(8/264)
ورغم أن أسلوب ربط القيود مما تَعافًه أنفسنا اليوم ولا تعتبره الأساليب التربوية الحديثة صحيحا، إلا أن هاتين القصتين توضحان مقدار حرص المسلمين في أقاصي إفريقيا وغيرها من بلاد المسلمين على تحفيظ أولادهم كتاب الله.
[*] قال الميموني: سألت أبا عبد الله (يعني الإمام أحمد) أيهما أحب إليك أبدأ ابني بالقرآن أو بالحديث؟ قال: لا بالقرآن، قلت: أعلمه كله؟ قال: إلا أن يعسر، فتعلمه منه. (الآداب الشرعية لابن مفلح (2/ 3)
[*] وقال الخطيب البغدادي: ينبغي للطالب أن يبدأ بحفظ كتاب الله عز وجل إذ كان أجل العلوم وأولاها بالسبق والتقديم. (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 1/ 106).
[*] وقال الحافظ النووي رحمه الله: وأول ما يبتدئ به حفظ القرآن العزيز فهو أهم العلوم، وكان السلف لا يُعلِّمون الحديث والفقه إلا لمن حفظ القرآن. (مقدمة المجموع شرح المهذب)
[*] وقال شيخ الإسلام: وأما طلب حفظ القرآن فهو مقدم على كثير مما تسميه الناس علما وهو إما باطل أو قليل النفع، وهو أيضا مقدم في التعلم في حق من يريد أن يتعلم علم الدين من الأصول والفروع، فإن المشروع في حق مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القرآن فإنه أصل علوم الدين. (الفتاوى الكبرى 2/ 235)
[*] قال ابن خلدون رحمه الله: ((كان أول ما يُشرع في تعليم الصبيان تحفيظ القرآن الكريم)).
(وهكذا كان توقير الرعيل الأول لكتاب ربهم في صدورهم. وكان السلف ينشئون أطفالهم على حفظ القرآن، ثم يحفظونهم الكتب الستة (أي صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن الترمذي، وسنن أبي داود، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجه). وبعد أن يتمون ذلك يقومون بتحفيظهم مغازي الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وبذلك يشب الطفل المسلم على وعي بكتاب ربه وسنة نبيه صلوات ربي وسلامه عليه. وهكذا حقق الإسلام تقدمه وتفرده، وازدهرت حضارة الإسلام على جميع الحضارات التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وتفوقت عليها؛ وذلك بحفظ كتابها والعمل بمقتضاه.(8/265)
(ثم خلف من بعد ذلك خلف أضاعوا هذه القيم، ولم يهتموا بكتاب ربهم. هان الله في نفوسهم، فأهانهم الله بما اقترفوه من ذنوب. وقد ضرب لنا القرآن المثل على الأمة التي تضيع العمل بكتابها، فقال تعالى مخبرا عن بني إسرائيل، والخطاب للتذكرة والتحذير: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا اْلأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ َلا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إَِّلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ اْلآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفََلا تَعْقِلُونَ}] الأعراف: 169 [.
[*] قال الشيخ أبو بكر الجزائري في تفسيره لهذه الآية: يحكي الله تعالى عن اليهود أنه قد خلفهم خلف سوء، ورثوا التوراة عن أسلافهم، ولم يلتزموا بما أُخذ عليهم فيها من عهود، على الرغم من قراءتهم لها. فقد آثروا الدنيا على الآخرة، فاستباحوا الربا والرشا وسائر المحرمات، ويدّعون أنهم سيغفر لهم. وكلما أتاهم مال حرام أخذوه، ومنوا أنفسهم بالمغفرة كذبا على الله تعالى. وقد قرأوا في كتابهم ألا يقولوا على الله إلا الحق وفهموه، ومع! هذا يجترئون على الله ويكذبون عليه بأنه سيغفر لهم.
[*] وقال القرطبي في تفسيره:
وهذا الوصف الذي ذم الله تعالى به هؤلاء موجود فينا. فقد روى الدارمي في سننه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سَيَبْلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب، فيتهافت, يقرءونه لا يجدون له شهوة ولا لذة, يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب, أعمالهم طمع لا يخالطه خوف, إن قصروا قالوا سنبلغ, وإن أساءوا قالوا سيغفر لنا, إنا لا نشرك بالله شيئا.
واستمر خط الابتعاد عن كتاب الله يمضي قدما، بطيئا وبشكل يخفى عن العامة في أول الأمر، ثم بخطى متسارعة وبصورة سافرة بعد ذلك. فبعد أن كانت الأمة مجمعة الكلمة على العمل بكتاب ربها، وتستمد تشريعاتها من أحكامه، بدأت في التخلي عنه شيئا فشيئا، فعاقبها الله بأن سلبه من يدها، إلى أن أصبحت لا تعمل به. وبالطبع كان هناك دورا رئيسيا لأعداء الأمة في الوصول إلى هذه الحالة التي أصبحنا عليها.(8/266)
فقد جاء الاحتلال الفرنسي فتعامل بقسوة مع الأمة، وحاول إجبار الأمة على التخلي عن تعاليم الدين بالحديد والنار. وبسبب إتباع هذا المنهج السافر، فلم تزدد الأمة إلا تمسكا بدينها وبتعاليم كتاب ربها. ورغم أنه لم يكن قد بقي من الإسلام إلا طلاسم وذكريات إلا أن الأمة وقفت صفا واحدا في وجه من حاولوا تشويه صورة دستورها. ولذلك تعامل الإنجليز الذين أعقبوا الفرنسيين بصورة أكثر دهاء ومكرا ولكن بنفس المنطق والحزم في زحزحة الأمة عن دينها.
فيقف جلادستون رئيس وزراء بريطانيا الأسبق في مجلس العموم البريطاني يحث قومه على زعزعة الأمة عن دينها فيقول: " مادام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوروبا السيطرة علي الشرق ولا أن تكون هي نفسها في أمان ". ويقول الحاكم الفرنسي في الجزائر في ذكرى مرور مائة سنة على استعمار الجزائر: " إننا لن ننتصر على الجزائريين ما داموا يقرأون القرآن ويتكلمون العربية، فيجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم ".
ويسير المنصرون الذين رافقوا هذه الحملات على نفس الخط. فيقول المنصر وليم جيفورد بالكراف، في كتاب جذور البلاء: " متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب، يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيداُ عن محمد (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وكتابه ". ويقول المنصر تاكلي، في كتاب التبشير والاستعمار: " يجب أن نستخدم القرآن، وهو أمضى سلاح في الإسلام، ضد الإسلام نفسه، حتى نقضي عليه تماماً. يجب أن نبين للمسلمين أن الصحيح في القرآن ليس جديداُ، وأن الجديد فيه ليس صحيحاً ". ويقول المنصر ذاته " تاكلي "، في كتاب الغارة على العالم الإسلامي: " يجب أن نشجع إنشاء المدارس على النمط الغربي العلماني، لأن كثيراً من المسلمين قد تزعزع اعتقادهم بالإسلام والقرآن حينما درسوا الكتب المدرسية الغربية وتعلموا اللغات الأجنبية ".(8/267)
واستدعى ذلك الأمر العمل على عدة محاور وفي نفس الوقت. فتم إلغاء الكتاتيب والحد من تأثيرها وإضعاف مكانتها في النفوس. وبالطبع لا يختلف أحد في أن الكتاتيب كان قد أصابها شيء من القصور، ولكن كان يجب العمل على علاج تلك الأخطاء الناجمة والتي تراكمت عبر الزمن وليس إلغائها تماما. وتزامن هذا مع الإبقاء على الأزهر - كمؤسسة دينية - قائما مع إضعاف مكانته وزعزعة ثقة الناس فيه بإنشاء المدارس الأجنبية اللادينية إلى جانبه، والمسارعة إلى تعيين خريجي هذه المدارس في مختلف الوظائف المرموقة وبأجور مرتفعة للغاية، مع عدم توفير فرص عمل لخريجي الأزهر (وبالأخص حملة القرآن منهم)، وإن وجدت فهي ضعيفة الأجر.
وهكذا بدأت النظرة إلى القرآن واللغة العربية تتغير في نفوس الناس! ومع رثاثة حال حملة القرآن وخريجي المدارس الدينية، ووجاهة خريجي المدارس اللادينية، بدأت هذه النظرة الجديدة تتغلغل في النفوس، ليتجه المجتمع بأكمله نحو هجران القرآن!! ولم يعد فخرا للأسر أن ترتبط بمن يحمل مؤهل ديني، لضعف منزلته الاجتماعية في المجتمع. مع ما تركه هذا من آثار عميقة في نفوس هؤلاء الأفراد، الذين شعروا أنهم ما وصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا بسبب اتجاههم للدين، فكان أن مقتوه في داخل نفوسهم، وسعوا بكل الطرق إلى عدم تكرار تجاربهم. وصار طموح أي فرد في المجتمع أن يصبح طبيبا أو مهندسا أو ضابطا. ولم تعد تجد من يحلم أو تحلم له أسرته بأن يكون " عالم دين " أو " دارس فقه " أو حامل للقرآن ". وتواكب مع هذا صناعة نجوم في المجتمع يشار إليها بالبنان تبتعد تماما عن الإسلام وقيمه. وغُيبت عن عمد نماذج رجال الدين أو رموزنا الدينية من صفحات! الجرائد أو المجلات أو وسائل الإعلام الأخرى حتى يستقر هذا الاتجاه في النفوس.
وبدأ المخطط بتحويل كتاب الله من قوة حاكمة دافعة للمجتمع إلى مجرد كتاب يحمل ذكريات. تُغير عليه قوى الشر ولا يتحرك المسلمون للدفاع عنه. وتنتشر من حوله الخرافات. وهكذا يصبح القرآن الذي هو حياة الأمة، رمزا للموت فيها، فلا يقرأ إلا في سرادقات العزاء، ولا تكاد تسمع القرآن في مكان حتى تسأل عمن توفى!!! وجعلوا من فاتحة الكتاب - التي هي دستور حياة المسلمين، والتي كان حرص الشارع على قراءتها سبع عشرة مرة على الأقل يوميا في كل ركعة من الصلوات المفروضة - وسيلة لجلب الرحمة على الأموات، فلا تذكر ميتا حتى يقال " اقرءوا له الفاتحة "!!!(8/268)
وصدق فيهم قول ربي عز وجل: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]
(والذي يشاهد واقع الشباب اليوم يجد أن بعضهم يُغفل جانب حفظ القرآن بل بعضهم يبدأ بالحفظ قليلاً ثم لا يلبث أن ينقطع مع أنه ربما يكون مجتهداً في حضور الدروس العلمية الشرعية، وأخشى أن يكون هذا من عدم التوفيق فن فرَط في كتاب الله تعالى كان مُفَرِّطاً لغيره من باب أولى فليس هناك أنفع من كتاب الله تعالى.
(تيسير القرآن للتلاوة والحفظ:
قال تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مُدّكِر} [القمر /17].
[*] روى البخاري عن مجاهد أنه قال: "يسرنا القرآن أي هونّا تلاوته".
[*] وذكر القرطبي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية قال: "سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه" وذكر عن سعيد ابن جبير أنه قال: "ليس من كتب الله كتابٌ يُقرأ كله ظاهراً أي عن ظهر قلب إلا القرآن".
[*] وفي تفسير ابن كثير قال: "سهلنا لفظه ويسرنا معناه لمن أراد أن يتذكر من الناس" فهل من متذكر بهذا القرآن الذي قد يسّر الله حفظه ومعناه.
[*] قال العلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره:
ولقد يسرنا وسهلنا هذا القرآن الكريم ألفاظه للحفظ والأداء، ومعانيه للفهم والعلم لأنه أحسن الكلام لفظاً وأصدقه معنى وأبينه تفسيراً، فكل من أقبل عليه يسّر الله عليه مطلوبه غاية التيسير وسهّله عليه .. ثم يقول: ولهذا كان علم القرآن حفظاً وتفسيراً أسهل العلوم وأجلّها على الإطلاق وهو العلم النافع الذي إذا طلبه العبد أُعِين عليه، وقال بعض السلف عند هذه الآية: هل من طالب علم فيُعان عليه؟ ولهذا يدعو الله عباده إلى الإقبال عليه والتذكر بقوله: ((فهل من مدّكر) انتهى كلامه رحمه الله).
إذاً فالأصل في القرآن أنه سهل الحفظ ميسوره لكن الخلل منا نحن الذين تشاغلنا عن الإقبال عليه حفظاً وتفهماً بأعذارٍ بعضها يوجد لها حل وكثير منها من تلبيس إبليس على الشباب.
(جاذبية القرآن:
والقرآن كتاب لا يمل قارئه ولا يكل سامعه ولا يخلق على كثرة الرد وقد عدّ العلماء هذا من خصائص القرآن بل عدّوه من وجوه إعجازه كما(8/269)
[*] ذكر الماوردي من وجوه الإعجاز في القرآن إعجازه وذكر منه وجهاً من الوجوه فقال: ((إن قارئه لا يكل وسامعه لا يمل وهذا في غيره من الكلام معدوم)).وقال الرافعي الأديب: ((ومما انفرد به القرآن عن سائر الكلام أنه لا يخلق على كثرة الرد وطول التكرار ولا تُمل منه الإعادة)).
(فضائل أهل القرآن الكريم وتفضليهم على غيرهم:
(1) أثنى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الدائمين على تلاوة القرآن ودراسته، العاكفين على تدبر معانيه وتعلم أحكامه، حتى سماهم أهل الله وخاصته.
(حديث أنس في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أهل القرآن أهل الله وخاصته.
(حديث عثمان في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال خيركم من تعلم القرآن وعلمه.
(2) بين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الله تعالى يرفع صاحب القرآن في الدنيا والآخرة:
(حديث عمر في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضعُ به آخرين.
(يرفع بهذا الكتاب): أي بقراءته والعمل به
(ويضع به آخرين): أي بالإعراض عنه وترك العمل بمقتضاه.
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يقال لصاحب القرآن: اقرأ و ارق و رتل كما كنت ترتل في دار الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها.
(3) القرآن يشفع لصاحبه يوم القيامة وتقبل شفاعته:
(حديث أبي أمامة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه.
(حديث عبد اله بن عمرو في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الصيام و القرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام: أي رب إني منعته الطعام و الشهوات بالنهار فشفعني فيه يقول القرآن: رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيُشَفَّعان.
معنى فيشفَّعان: أي فتقبل شفاعتهما
(4) رفع منزلة حافظ القرآن عند اله تعالى:
(حديث عثمان في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال خيركم من تعلم القرآن وعلمه.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل و آناء النهار فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل و رجل آتاه الله مالا فهو يهلكه في الحق فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل.(8/270)
{تنبيه}: (المقصود بالحسد هنا: الغبطة لأن الحسد مذموم على كل أحواله فلا يحل في اثنتين ولا ثلاث.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال: الغبطة من الإيمان، والحسد من النفاق، والمؤمن يغبط ولا يحسد، والمنافق يحسد ولا يغبط، والمؤمن يستر ويعظ وينصح، والفاجر يهتك ويعير ويفشي.
(حديث عائشة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الذي يقرأ القرآن وهو حافظٌ له مع السفرةِ الكرامِ البررة والذي يقرأ القرآن ويتعاهده وهو عليه شديد فله أجران.
(حديث أنس في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أهل القرآن أهل الله وخاصته.
(5) إكرام أهل القرآن أحياءاً وأمواتاً
(إكرامهم أحياءاً
(حديث أبي مسعودٍ الأنصاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا و لا يؤمنَّ الرجلُ الرجلَ في أهله و لا في سلطانه و لا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه.
(حديث ابن عباس في صحيح البخاري موقوفاً) قال: كان القراء أصحاب مجلس عمر رضي الله تعالى عنه كهولاً كانوا أم شباناً.
(حديث أبي موسى في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم و حامل القرآن غير الغالي فيه و الجافي عنه و إكرام ذي السلطان المقسط.
معنى {من إجلال الله}: أي من تعظيم الله تعالى
معنى {غير الغالي فيه}: أي غير متجاوز الحد فيه في العمل به وتتبع ما خفي منه واشتبه عليه من معانيه وغير الغالي فيه من حيث قراءته ومخارج حروفه
ومعنى {والجافي عنه} أي وغير الجافي عنه أي غير التارك له البعيد عن تلاوته والعمل به.
(إكرامهم أمواتاً
(حديث جابر في صحيح البخاري) قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجمع بين الرجلين من قتلى أحدٍ في الثوب الواحد ثم يقول: أيهم أكثر أخذاً للقرآن فإذا أُشير إلى أحدهما قدَّمه في اللحد وقال أنا شهيدٌ على هؤلاء يوم القيامة وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسَّلوا ولم يُصلى عليهم.
[*] عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يختالون"(8/271)
[*] وعن الحسن بن علي رضي الله عنه قال: " إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل شذا في النهار ".
[*] وعن الفضيل بن عياض قال: " ينبغي لحامل القرآن أن لا تكون له حاجة إلى أحد من الخلفاء فمن دونهم "، وعنه أيضاً قال: " حامل القرآن حامل راية الإسلام لا ينبغي أن يلهو مع من يلهو ولا يسهو مع من يسهو ولا يلغو مع من يلغو تعظيما لحق القرآن ".
[*] قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إنّا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن وسهل علينا العمل به، وإنّ من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به.
[*] قال عثمان بن عفان وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: (لو طهرت القلوب لم تشبع من قراءة القرآن.
[*] قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إذا أردتم العلم فانثروا القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين.
(فضل تدبر القرآن الكريم ومعانيه وأحكامه:
ينبغي عند قراءة القرآن أن يتدبّر القارئ ويتأمل في معاني القرآن وأحكامه، لأن هذا هو المقصود الأعظم والمطلوب الأهم، وبه تنشرح الصدور وتستنير القلوب، قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته} [سورة ص: 29].
في هذه الآية بين الله تعالى أن الغرض الأساس من إنزال القرآن هو التدبر والتذكر لا مجرد التلاوة على عظم أجرها.
وفَقُهَ الصحابةُ رضي الله عنهم شرع الله وسنة رسوله فكانوا لا يتعجَّلون مجرد التلاوة دون تدبر، بل كانوا لا يجاوزون عشر آيات حتى يعلموا معانيهن والعمل بهن (رواه الطبري في تفسيره عن ابن مسعود رضي الله عنه). ونهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ختم القرآن في أقل من ثلاث لأنه لن يتحقق تدبره وفقهه.
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث.
(وكان الصحابة رضي الله عنهم لا يتعجلون حفظ القرآن (وهو نافلة) دون تدبره (وهو فرض عين)، بل ثبت في الصحيحين أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مات ولم يحفظ القرآن من الصحابة غير أربعة على اختلاف في أسماء اثنين منهم، وبمجموع الروايات لا يكاد الحفاظ من الصحابة يتجاوز عددهم العشرة، ووصف غيرهم بالقرَّاء لا يعني حفظه كله.
[*] قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إنَّا صعب علينا حفظ القرآن وسهل علينا العمل به، وإن من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به) الجامع لأحكام القرآن 1/ 75.(8/272)
[*] وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (كان الفاضل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة ونحوها ورزقوا العمل بالقرآن) الجامع لأحكام القرآن 1/ 76.
(وكانوا يحذرون مما آل إليه الحال اليوم في جميع بلاد المسلمين عربًا وعجمًا؛ فقد أمر عمر رضي الله عنه عامله في العراق أن يفرض للحفاظ في الديوان، فلما بلغه أن سبع مئة حفظوا القرآن قال: (إني لأخشى أن يسرعوا إلى القرآن قبل أن يتفقَّهوا في الدين) وكتب إلى عامله ألا يعطيهم شيئاً (عن مالك في العتبية).
(وكانوا يتعلمون الإيمان قبل القرآن ثم يتعلمون القرآن (كما في الحديث الآتي:
(حديثُ جندب ابن عبد الله صحيح ابن ماجة) قال كنا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن فتيانٌ حزَاوِرَة، فتعلمنا الإيمانَ قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآنَ فازددنا به إيمانا.
وتَنْزِلُ السورة فيتعلَّمون حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها. (كما في: بيان مشكل الآثار للطحاوي 4/ 44 عن ابن عمر رضي الله عنهما.) حتَّى لقد ورد عن عمر رضي الله عنه أنه تعلَّم سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة. (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/ 76، ط: دار الكتاب العربي بيروت).
[*] قال الحسن البصري رحمه الله: (نزل القرآن ليتدبر ويعمل به فاتخذوا تلاوته عملاً) مفتاح دار السعادة لابن القيم (1/ 187 مكتبة الرياض الحديثة.) [*] وقال ابن القيم رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78]: (ذم الله المحرفين لكتابه والأميين الذين لا يعلمون منه إلا مجرد التلاوة وهي الأماني) بدائع التفسير: 1/ 300. وذكر الشوكاني رحمه الله من تفسيرها: (لا علم لهم إلا مجرد التلاوة دون فهم وتدبر) فتح القدير 1/ 104.(8/273)
[*] وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: 121]: قال ابن مسعود رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله ولا يحرف الكلم عن مواضعه ولا يتأوَّل منه شيئًا على غير تأويله)، وعن عمر رضي الله عنه: (هم الذين إذا مروا بآية رحمةٍ سألوها من الله، وإذا مروا بآية عذابٍ استعاذوا منها). ولم يفسرها أحد من الفقهاء في الدين بالتجويد أو الحفظ مجردًا عن التدبر.
[*] وقال ابن القيم رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]: (هجر القرآن أنواع)، وذكر منها: (هجر تدبره وتفهمه ومعرفة مراد الله منه) (بدائع التفسير).
[*] وقال ابن كثير رحمه الله تعالى:
(وترك تدبره وتفهمه من هجرانه) (مهذَّب تفسيره، ط: دار السلام 678). وقال ابن القيم رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123]: (وهذه المتابعة هي التلاوة التي أثنى الله على أهلها ... فتلاوة اللفظ جزء مسمى التلاوة المطلقة وحقيقة اللفظ إنما هي الاتباع ... والمقصود التلاوة الحقيقية وهي تلاوة المعنى واتباعه ... وتلاوة المعنى أشرف من تلاوة اللفظ، وأهلها هم أهل القرآن الذين لهم الثناء في الدنيا والآخرة) مفتاح دار السعادة 1/ 42.
[*] وقال ابن القيم رحمه الله: (فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وحلاوة القرآن)،
[*] وروي عن أيوب عن أبي جمرة قال: قلت لابن عباس: إني سريع القراءة، إني أقرأ القرآن في ثلاث، قال: (لأن أقرأ سورة من القرآن في ليلة فأتدبرها وأرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كما تقرأ) 1/ 187.
[*] وقال ابن تيمية رحمه الله: (والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه والعمل به فإن لم تكن هذه همة حافظه لم يكن من أهل العلم والدين) (مجموع الفتاوى: 23/ 55)
(معنى التدبر:
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى: التدبر تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله. وقيل في معناه: هو التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه البعيدة.(8/274)
[*] قال السيوطي رحمه الله تعالى: صفة التدبر أن يشغل القارئ قلبه بالتفكر في معنى ما يتلفظ به فيعرف معنى كل آية، ويتأمل الأوامر والنواهي، ويعتقد قبول ذلك، فإن كان قصر عنه فيما مضى من عمره اعتذر واستغفر، وإذا مر بآية عذاب أشفق وتعوّذ، أو تنزيه نزّه وعظّم، أو دعاء تضرع وطلب.
?? (وصفة ذلك: أن يشغل قلبه بالتفكر في معنى ما يلفظ به، فيعرف معنى كل آية، ويتأمل الأوامر والنواهي، فإن كان مما قصر عنه فيما مضى اعتذر واستغفر، وإذا مرّ بآية رحمة استبشر وسأل، أو عذاب أشفق وتعوّذ، أو تنزيه نزّه وعظّم، أو دعاء تضرّع وطلب.
وقد ورد الحث الشديد في الكتاب العزيز، وفى السنة الصحيحة على التدبر في معاني القرآن والتفكر في مقاصده وأهدافه.
قال تعالى: (أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىَ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ) [محمد / 24]
وفى هذه الآية الكريمة توبيخ عظيم على ترك التدبر في القرآن.
(والسنة الصحيحة طافحةٌ بما يحث على تدبر القرآن منها ما يلي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه.
[*] قال علي رضى الله عنه: لا خير في عبادة لا فقه فيها، ولا في قراءة لا تدبر فيها.
[*] وقال ابن عباس رضى الله عنهما: لأن أقرأ إذا زلزلت والقارعة أتدبرهما، أحب إليّ من أقرأ البقرة وآل عمران تهذيرا.
[*] وقال ابن مسعود رضى الله عنه: من أراد علم الأولين والآخرين، فليتدبر القرآن.
وقد بات الكثير من السلف يتلو أحدهم آية واحدة ليلة كاملة، يرددها ليتدبر ما فيها، وكلما أعادها انكشف له من معانيها، وظهر له من أنوارها، وفاض عليه من علومها وبركاتها.
[*] قال الأحنف بن قيس: عرضت نفسي على القرآن، فلم أجد نفسي بشيء أشبه مني بهذه الآية وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [التوبة/ 102]
{تنبيه}: (واقعنا هو تطبيق جزء من الحديث وهو التلاوة أما الدراسة والتدبر فهي - في نظر بعضنا - تؤخر الحفظ وتقلل من عدد الحروف المقروءة فلا داعي لها.(8/275)
(حديث حذيفة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ البقرة وآل عمران والنساء في ركعة، لا يمر بآيةِ رحمةٍ إلا سأل ولا بآيةِ عذاب إلا استجار.
(حديث حذيفة رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: صليت مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة فافتتح البقرة ثم المائة فمضى ثم المائتين فمضى فقلت يصلي بها في ركعة فمضى فافتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأ مترسلا إذا مر بآية فيها تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ ثم ركع فقال سبحان ربي العظيم فكان ركوعه نحوا من قيامه ثم رفع رأسه فقال سمع الله لمن حمده فكان قيامه قريبا من ركوعه ثم سجد فجعل يقول سبحان ربي الأعلى فكان سجوده قريبا من ركوعه.
(هذا تطبيق نبوي عملي للتدبر ظهر أثره بالتسبيح والسؤال والتعوذ.
وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يهتم اهتماماً بالغاً بتدبر القرآن وكان أحياناً لا يزال يردد آيةً حتى يصبح
(حديث أبي ذر في صحيحي النسائي وابن ماجة) قال قام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بآيةٍ يرددها حتى أصبح، والآية قال تعالى: (إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
[المائدة / 118]
(فهذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقدم التدبر على كثرة التلاوة، فيقرأ آية واحدة فقط في ليلة كاملة.
وقد تأسى أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به في ذلك فردد تميم بن أوس آيةً حتى أصبح والآية هي (أَمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرَحُواْ السّيّئَاتِ أَن نّجْعَلَهُمْ كَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَوَآءً مّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ) {الجاثية/21)
[*] قال محمد بن كعب القرظي:
لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بـ (إذا زلزلت) و (القارعة) لا أزيد عليهما أحب إليَّ من أن أهذَّ القرآن ليلتي هذّاً. أو قال: أنثره نثرا ً.
[*] قال ابن القيم: ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر القرآن وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرها وعلى طرقاتهما وأسبابهما وثمراتهما ومآل أهلهما، وتتل في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصره مواقع العبر.(8/276)
وتشهده عدل الله وفضله وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله وما يحبه وما يبغضه وصراطه الموصل إليه وقواطيع الطريق وآفاته، وتعرفه النفس وصفاتها ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم وأحوالهم وسيماهم ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة.
فتشهده الآخرة حتى كأنه فيها، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها، وتميز له بين الحق والباطل في كل ما يختلف فيه العالم، وتعطيه فرقاناً ونوراً يفرق به بين الهدى والضلال، وتعطيه قوة في قلبه وحياة واسعة وانشراحاً وبهجة وسروراً فيصير في شأن والناس في شأن آخر؛ فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل.
وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتهديه في ظلم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل، وتبصره بحدود الحلال والحرام وتوقفه عليها؛ لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل، وتناديه كلما فترت عزماته.
تقدمَ الركبُ، وفاتك الدليل، فاللحاقَ اللحاقَ، والرحيلَ الرحيلَ فاعتصم بالله واستعن به وقل: {حسبي الله ونعم الوكيل.
(إنَّ المؤمن عندما يُحسن قراءة القرآن وتدبره يقف على زاد عظيم من معانيه ودلالاته وهداياته، ونحن في عصرنا الحاضر أحوج ما نكون إلى القرآن العظيم، نتلوه ونتدَّبره، نفهمه ونفسِّره، نحيا به ونتعامل معه، نصلح أنفسنا ومجتمعاتنا على هديه، ونقيم مناهج حياتنا على أسسه ومبادئه وتوجيهاته.
[*] يقول الإمام الآجري رحمه الله تعالى:
ألا ترون رحمكم الله إلى مولاكم الكريم، كيف يحثُّ خلقه على أن يتدبروا كلامه، ومن تدبَّر كلامه عرف الربّ عز وجل، وعرف عظيم سلطانه وقدرته، وعرف عظيم تفضله على المؤمنين، وعرف ما عليه من فرض عبادته، فألزم نفسه الواجب، فحذر ممَّا حذَّره مولاه الكريم، ورغب فيما رغَّبه فيه، ومن كانت هذه صفته عند تلاوته للقرآن وعند استماعه من غيره، كان القرآن له شفاء، فاستغنى بلا مال، وعزَّ بلا عشيرة، وأنس بما يستوحش منه غيره، وكان همُّه عند تلاوة السورة إذا افتتحها: متى أتعظ بما أتلوه؟ ولم يكن مراده: متى أختم السورة؟ وإنَّما مراده: متى أعقل من الله الخطاب؟ متى أزدجر؟ متى أعتبر؟ لأنَّ تلاوته للقرآن عبادة، والعبادة لا تكون بغفلة.
[*] عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال في القرآن الكريم:(8/277)
لا تهذوا القرآن هذا لشعر ولا تنثروه نثر الدقل - أي التمر الرديء وفي رواية الرمل - قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة.
[*] وقال الحسن البصري رحمه الله:
"الزموا كتاب الله وتتبعوا ما فيه من الأمثال، وكونوا فيه من أهل البصر، رحم الله عبداً عرض نفسه وعمله على كتاب الله، فإن وافق كتابَ الله حمد الله وسأله الزيادة، وإن خالف كتاب الله أعتب نفسه ورجع من قريب".
(إنَّ التمسك بكتاب الله عزّ وجل تلاوة وتدبراً، عملاً والتزاماً، سبيلُ السعادة في الدارين الدنيا والآخرة، وطريق الفلاح فيهما،
[*] قال ابن عباس رضي الله عنهما:
"تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يَضِلَّ في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. ثم قرأ قوله تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) [طه 123: 126]
(وإذا نظرنا في سير الصحابة ومن بعدهم من سلف هذه الأمة؛ نجدهم قد تلقوا هذا القرآن الكريم مدركين مدى الشرف الذي حباهم الله به، فأقبلوا عليه يحفظونه ويرتلونه آناء وأطراف النهار، جعلوه غذاء أرواحهم وقوت قلوبهم وقرة أعينهم، نفذوا أحكامه وأقاموا حدوده وطبقوا شرائعه، طهرت به نفوسهم وصلحت به أحوالهم، ودعوا الناس إليه ورغبوهم فيه.
[*] عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال في القرآن الكريم:
لا تهذوا القرآن هذا لشعر ولا تنثروه نثر الدقل - أي التمر الرديء وفي رواية الرمل - قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة.
[*] قال عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: (لقد عشنا دهرا طويلا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن فتنزل السورة على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها، ثم لقد رأيت رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين الفاتحة إلى خاتمته لا يدري ما آمره ولا زاجره وما ينبغي أن يقف عنده منه، ينثره نثر الدقل!!) ..(8/278)
[*] قال الحسن البصري: والله! ما تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله، ما يُرى له القرآنُ في خُلُق ولا عمل. قال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ... } النساء: 82.
[*] وقال الحسن أيضاً: نزل القرآن ليُتَدَبَّر ويعمل به؛ فاتخذوا تلاوته عملاً. أي أن عمل الناس أصبح تلاوة القرآن فقط بلا تدبر ولا عمل به.
[*] قال ابن كثير: (يقول الله تعالى آمراً عباده بتدبر القرآن وناهياً لهم عن الإعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة: (أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) [النساء: 82]، فهذا أمر صريح بالتدبر والأمر للوجوب. قال تعالى: (الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ أُوْلََئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [البقرة: 121]
روى ابن كثير عن ابن مسعود قال: والذي نفسي بيده! إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله.
[*] وقال الشوكاني: يتلونه: يعملون بما فيه، ولا يكون العمل به إلا بعد العلم والتدبر. قال تعالى: {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون} [البقرة: 78]
[*] قال الشوكاني: وقيل: (الأماني: التلاوة) أي: لا علم لهم إلا مجرد التلاوة دون تفهم وتدبر.
[*] وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: ذم الله المحرفين لكتابه والأميين الذين لا يعلمون منه إلا مجرد التلاوة وهي الأماني. قال الله تعالى: {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا} [الفرقان: 30]
[*] قال ابن كثير:
وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وقال ابن القيم: هجر القرآن أنواع ... الرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.
وحتى نتدبر القرآن فعلينا بمراعاة الآتي:
(1) مراعاة آداب التلاوة من طهارة ومكان وزمان مناسبين وحال مناسبة وإخلاص واستعاذة وبسملة وتفريغ للنفس من شواغلها وحصر الفكر مع القرآن والخشوع والتأثر والشعور بأن القرآن يخاطبه.
(2) التلاوة بتأنٍ وتدبر وانفعال وخشوع، وألا يكون همه نهاية السورة، الوقوف أمام الآية التي يقرؤها وقفةً متأنيةً فاحصةً مكررةً، النظرة التفصيلية في سياق الآية: تركيبها ـ معناها ـ نزولها ـ غريبها ـ دلالاتها.(8/279)
(3) ملاحظة البعد الواقعي للآية؛ بحيث يجعل من الآية منطلقاً لعلاج حياته وواقعه، وميزاناً لمن حوله وما يحيط به.
(4) العودة إلى فهم السلف للآية وتدبرهم لها وتعاملهم معها والاطلاع على آراء بعض المفسرين في الآية.
(5) النظرة الكلية الشاملة للقرآن، الالتفات للأهداف الأساسية للقرآن.
(6) الثقة المطلقة بالنص القرآني وإخضاع الواقع المخالف له.
(7) معايشة إيحاءات النص وظلاله ولطائفه، الاستعانة بالمعارف الثقافات الحديثة، العودة المتجددة للآيات، وعدم الاقتصار على التدبر مرة واحدة؛ فالمعاني تتجدد، ملاحظة الشخصية المستقلة للسورة، التمكن من أساسيات علوم التفسير.
القراءة في الكتب المتخصصة في هذا الموضوع مثل كتاب: (القواعد الحسان لتفسير القرآن) للسعدي، وكتاب (مفاتيح للتعامل مع القرآن) للخالدي، وكتاب (قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل) لعبد الرحمن حبنكة الميداني، وكتاب (دراسات قرآنية) لمحمد قطب.
(فوائد تدبر القرآن:
(1) التدبر في القرآن غاية من غايات إنزاله: يقول الله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} [ص:29]. ومدح الحق جل وعلا من تدبر وانتفع، فذكر من صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} (الفرقان:73)
(وذم من لا يتدبرون القرآن وأنكر عليهم فقال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} [محمد24].
(2) التدبر من علامات الإيمان: {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله}، {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به}
(3) التدبر يزيد الإيمان: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون}.
(4) تدبر القرآن من النصيحة لكتاب الله، قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الدين النصيحة)
(حديث تميم ابن أوس الداريِّ الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الدين النصيحة قالوا: لمن يا رسول اللّه قال: للّه وكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم.(8/280)
(5) ترك التدبر يؤدي إلى قسوة القلب: قال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد: 16]. وهو من أنواع هجر القرآن الذي شكاه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لربه: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً)
[الفرقان:30]
(فضائل ختم القرآن، وفي كم يختم؟
يستحب اغتنام ختم القرآن والدعاء عقبه لأنه من مظان إجابة الدعاء.
?? [*] قال قتادة: "كان أنس بن مالك رضي الله عنه إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا ". رواه الدارمي.
?? - وأما المدة التي يختم بها القرآن فتختلف باختلاف الأشخاص، ولكن ينبغي للقارئ أن يختم في السنة مرتين إن لم يقدر على الزيادة.
?? [*] عن مكحول قال:
"كان أقوياء أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأون القرآن في سبع، وبعضهم في شهر، وبعضهم في شهرين، وبعضهم في أكثر من ذلك ".
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (أقرأ القرآن في شهر). قلت: إني أجد قوة، حتى قال: (فاقرأه في سبع، ولا تزد على ذلك).
(جواز ختم القرآن في يومٍ وليلة لصدور ذلك عن عثمان رضي الله عنه:
(حديث العرباض بن سارية في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال أوصيكم بتقوى الله و السمع و الطاعة و أن أمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة.
(نفي الفقه لا نفي الثواب من قرأ القرآن في أقل من ثلاث:
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث.
[*] (ختمات السلف للقرآن الكريم:
وقد اختلف الصحابة والتابعين في ختمهم للقرآن الكريم فمنهم من كان يختم ختمة واحدة في اليوم والليلة مثل سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه وتميم الداري وسعيد بن جبير ومجاهد والشافعي وآخرون.(8/281)
(ومن الذين كانوا يختمون ثلاث ختمات في اليوم والليلة سليم بن عمر رضي الله عنه قاضي مصر في خلافة معاوية رضي الله عنه.
[*] وروى أبو بكر بن أبي داود أنه كان يختم في الليلة أربع ختمات، وروى أبو عمر سنان في كتابه في قضاة مصر أنه كان يختم في الليلة أربع ختمات.
[*] قال الشيخ الصالح أبو عبد الرحمن السلمي رضي الله عنه: سمعت الشيخ أبا عثمان المغربي يقول: " كان ابن الكاتب رضي الله عنه يختم بالنهار أربع ختمات وبالليل أربع ختمات وهذا أكثر ما بلغنا من اليوم والليلة "، وروى السيد الجليل أحمد الدورقي بإسناده عن منصور بن زادان من عباد التابعين رضي الله عنه: " أنه كان يختم القرآن فيما بين الظهر والعصر ويختمه أيضاً فيما بين المغرب والعشاء ".
وكانوا يؤخرون العشاء في رمضان إلى أن يمضي ربع الليل وروى أبو داود بإسناده الصحيح:" أن مجاهدا كان يختم القرآن فيما بين المغرب والعشاء "، وعن منصور قال: " كان علي الأزدي يختم فيما بين المغرب والعشاء كل ليلة من رمضان " ..
حتى يحل حبوته: وعن إبراهيم بن سعد قال: " كان أبي يحتبي فما يحل حبوته حتى يختم القرآن.
(وأما الذي يختم في ركعة فلا يحصون لكثرتهم فمن المتقدمين عثمان بن عفان وتميم الداري وسعيد بن جبير رضي الله عنهم ختمة في كل ركعة في الكعبة
(وأما الذين ختموا في الأسبوع مرة أحدانا نقل عن عثمان بن عفان رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وأبي بن كعب رضي الله عنهم وعن جماعة من التابعين كعبد الرحمن بن يزيد وعلقمة وإبراهيم رحمهم الله ..
عن بهز بن حكيم أن بينها بن أوفى التابعي الجليل رضي الله عنه أمهم في صلاة الفجر فقرأ حتى بلغ فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير خر ميتاً قال بهز: " وكنت فيمن حمله.
وكان أحمد بن أبي الحواري رضي الله عنه وهو ريحانة الشام كما قال أبو القاسم الجنيد رحمه الله:" إذا قرئ عنده القرآن يصيح ويصعق " ..
[*] وقال القسطلاني: أخبرني شيخ الإسلام البرهان ابن أبي شريف أنه كان يقرأ خمسة عشر ختمة في اليوم والليلة. وفي الإرشاد أنه النجم الأصبهاني رأى رجلاً من اليمن ختم في شوط أو أسبوع وهذا لا يتسهل إلا بفيض رباني ومدد رحمني.
[*] قال الحافظ أبي نعيم في حلية الأولياء: كان الشافعي يختم في شهر رمضان ستين ختمة، ما منها شيء إلا في صلاة.
[*] عن مسبح بن سعيد قال:(8/282)
كان محمد بن إسماعيل البخاري، إذا كان أول ليلة من شهر رمضان، يجتمع إليه أصحابه فيصلي بهم ويقرأ في كل ركعة عشرين آية، وكذلك إلى أن يختم القرآن.
وكان يقرأ في السحر ما بين النصف إلى الثلث من القرآن، فيختم عند الإفطار كل ليلة ويقول: عند كل الختم؛ دعوة مستجابة.
(تاريخ بغداد 2/ 12 صفة الصفوة 4/ 170)
[*] عن ذي الرياستين قال: إن المأمون ختم في شهر رمضان ثلاثاً وثلاثين ختمةً، أما سمعتم في صوته بحوحة؟ إن محمد بن أبي محمد اليزيدي في أذنه صمم، فكان يرفع صوته ليسمع، وكان يأخذ عليه. (تاريخ بغداد 10/ 190)
[*] عن عبد الله بن محمد بن اللبان أنه صلى بالناس صلاة التراويح في جميع الشهر، وكان إذا فرغ من صلاته بالناس في كل ليلة لا يزال قائماً في المسجد يصلي حتى يطلع الفجر، فإذا صلى الفجر دارس أصحابه، وسمعته يقول: لم أضع جنبي للنوم في هذا الشهر ليلاً ولا نهاراً وكان ورده كل ليلة فيما يصلي لنفسه سبعاً من القرآن يقرأه بترتيل وتمهل ولم أرى أجود ولا أحسن قراءة منه. (تاريخ بغداد 10/ 144)
[*] عن محمد بن زهير بن محمد قال: كان أبي يجمعنا في وقت ختمة القرآن في وقت شهر رمضان في كل يوم وليلة ثلاث مرات تسعين ختمة في شهر رمضان
(تاريخ بغداد 8/ 485)
[*] عن أبي علي الطوماوي قال: كنت أحمل القنديل في شهر رمضان بين يدي أبي بكر بن مجاهد إلى المسجد لصلاة التراويح، فخرج ليلة من ليالي العشر الأواخر من داره واجتاز على مسجده فلم يدخله وأنا معه, وسار حتى انتهى إلى آخر سوق العطش، فوقف بباب مسجد محمد بن جرير ومحمد يقرأ سورة الرحمن، فاستمع قراءته طويلاً ثم انصرف. فقلت له: يا أستاذ تركت الناس ينتظرونك وجئت تسمع قراءة هذا؟ فقال: يا أبا علي دع هذا عنك، ما ظننت أن الله تعالى خلق بشرا ً يحسن يقرأ هذه القراءة.
(تاريخ بغداد 2/ 164)
[*] عن الربيع بن سليمان قال: كان الشافعي يختم في كل ليلة ختمة ,فإذا كان شهر رمضان ختم في كل ليلة منه , وفي كل يوم ختمة , فكان يختم في شهر رمضان ستين ختمة. (تاريخ بغداد 2/ 63)
[*] وعن أبي بكر بن أبي طاهر قال: كان للشافعي في رمضان ستون ختمة لا يحسب منها ما يقرأ في الصلاة. (صفة الصفوة 2/ 255)
[*] عن أحمد بن خالد قال: قيل لأبي بكر بن عياش: كيف قراءتك بالترتيل؟ فقال: كيف أقدر أرتل، وأنا أقرأ القرآن في كل يوم وليلة منذ أربعين سنة!
(تاريخ بغداد 14/ 383)(8/283)
[*] عن ابن سعد قال: كان أبي سعد بن إبراهيم إذا كانت ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، لم يفطر حتى يختم القرآن وكان يفطر فيما بين المغرب والعشاء الآخرة. وكان كثيرا إذا أفطر يرسلني إلى مساكين فيأكلون معه رحمه الله. (صفة الصفوة 2/ 146 - 147)
[*] عن منصور بن إبراهيم قال: كان الأسود يختم القرآن في رمضان في كل ليلتين، وكان ينام بين المغرب والعشاء، وكان يختم القرآن في غير رمضان في كل ست ليال.
(صفة الصفوة 3/ 23)
[*] أبو الأشهب قال: كان أبو رجاء يختم بنا في رمضان كل عشرة أيام.
(صفة الصفوة 3/ 221).
[*] عن سلام بن أبي مطيع عن قتادة أنه كان يختم القرآن في كل سبع ليال مرة، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة مرة. (صفة الصفوة 3/ 259)
(في آداب الختم:
[*] قال الأمام النووي في التبيان:
يستحب أن يكون الختم أول النهار أو أول الليل وأنه يستحب أن يكون ختمه أول النهار، وأخرى آخره وأنه إذا كان يقرأ وحده يستحب أن يختم في الصلاة، واستحب السلف صيام الختم، فقد كان السلف من الصحابة وغيرهم يوصون عليه ويقولون يستجاب الدعاء عند الختم ويقولون تنزل الرحمة عند الختم، وكان أنس رضي الله عنه إذا أراد الختم استحباباً متأكداً، فقد جاءت فيه أثار، وينبغي أن يُلح في الدعاء، وأن يدعوا بالأمور المهمة، وأن يكثر من ذلك في صلاح المسلمين وصلاح سلطانهم وسائر ولاتهم ويختار الدعوات الجامعة ويكون فيها من دعوات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد جمعت دعوات مختصرة جامعة في "التبيان"، ويستحب إذا ختم أن يشرع في ختمة أخرى عقيب الختم، فقد استحبه السلف لحديث ورد فيه والله أعلم.
(فضل قراءة القرآن بالليل:
(ينبغي لحامل القرآن أن يعتني بقراءة القرآن بالليل أكثر من النهار، وذلك لكونها أجمع للقلب وأثبت للحفظ فالليل تنقطع فيه الشواغل، وتجتمع فيه الهمم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر لقوله تعالى: (إِنّ نَاشِئَةَ اللّيْلِ هِيَ أَشَدّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً) [المزمل / 6]
[*] قال النووي في التبيان:(8/284)
ينبغي أن يحافظ على قراءة القُرآن في الليل، ويكون إعتناؤه بها فيه أكثر وفي صلاة الليل أكثر؛ لأن الليل أجمع للقلب، وأبعد من الشاغلات والملهيات والتصرف في الحاجات وأصون من تطرق الرياء، وغيره من المحبطات مع ما جاء في الشرع من إيجاد الخيرات في الليل كل إسراء، وحديث النُّزول، وحديث: في الليل ساعة مستجاب فيها الدعاء كل ليلة.
وقد تظاهرة نصوص القُرآن والسُّنّة وإجماع الأمَّة على فضيلة القراءة والقيام بالليل، والحث عليه، وذلك يحصل بالكثير، والقليل، وما كثر أفضل إلا أن يستوعب الليل كله؛ فإنه يُكره الدَّوام عليه، وكذا يُكره إن أضرَّ بنفسه ما دون الجميع. (انتهى كلامه رحمه الله)
(وبينت لنا السنة الصحيحة أن قراءة القرآن في الليل منجاة من الغفلة كما في الحديث الآتي:
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين و من قام بمائة آية كتب من القانتين و من قام بألف آية كتب من المقنطرين.
معنى من المقنطرين: الذين يوفون أجورهم بالقنطار.
(والمقصود هنا أن قراءة القرآن تذهب الغفلة عنا، وما أحوجنا لهذا في هذا العصر، وقراءة القرآن في الليل صفة من صفات المتقين لقول الله عز وجل (كَانُواْ قَلِيلاً مّن اللّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات: 17: 18]
وقد ثبت في السنة الصحيحة أن قراءة القرآن في الليل شفاعة للمؤمن يوم القيامة:
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الصيامُ و القرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام أي رب منعته الطعام و الشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفَّعان.
(فيشفَّعان) أي فتقبل شفاعتهما.
[*] (وهذا غيضٌ من فيض ونقطةٌ من بحر مما ورد في سيرة السلف في قراءة القرآن بالليل:
[*] قال سعيد بن المسيب رحمه الله:
إن الرجل ليصلي بالليل، فيجعل الله في وجه نورا يحبه عليه كل مسلم، فيراه من لم يره قط فيقول: إن لأحبُ هذا الرجل.
[*] قيل للحسن البصري رحمه الله:
ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوها؟ فقال لأنهم خلو بالرحمن فألبسهم من نوره.
[*] صلى سيد التابعين سعيد بن المسيب – رحمه الله – الفجر خمسين سنة بوضوء العشاء وكان يسرد الصوم.
[*] كان شريح بن هانئ رحمه الله يقول:(8/285)
ما فقد رجل شيئاً أهون عليه من نعسة تركها!!! (أي لأجل قيام الليل).
قال ثابت البناني رحمه الله:
لا يسمى عابد أبداً عابدا، وإن كان فيه كل خصلة خير حتى تكون فيه هاتان الخصلتان: الصوم والصلاة، لأنهما من لحمه ودمه!!
[*] قال طاووس بن كيسان رحمه الله:
ألا رجل يقوم بعشر آيات من الليل، فيصبح وقد كتبت له مائة حسنة أو أكثر من ذلك.
[*] قال سليمان بن طرخان رحمه الله:
إن العين إذا عودتها النوم اعتادت، وإذا عودتها السهر اعتادت.
[*] قال يزيد بن أبان الرقاشي رحمه الله:
إذا نمت فاستيقظت ثم عدت في النوم فلا أنام الله عيني.
[*] أخذ الفضيل بن عياض رحمه الله بيد الحسين بن زياد رحم الله، فقال له: يا حسين: ينزل الله تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول الرب: كذب من أدعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني؟!! أليس كل حبيب يخلو بحبيبه؟!! ها أنا ذا مطلع على أحبائي إذا جنهم الليل، ..... ، غداً أقر عيون أحبائي في جناتي.
[*] قال ابن الجوزي رحمه الله:
لما امتلأت أسماع المتهجدين بمعاتبة [كذب من أدعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني] حلفت أجفانهم على جفاء النوم.
[*] قال محمد بن المنكدر رحمه الله:
كابدت نفسي أربعين عاماً (أي جاهدتها وأكرهتها على الطاعات) حتى استقامت لي!!
[*] كان ثابت البناني يقول كابدت نفسي على القيام عشرين سنة!! وتلذذت به عشرين سنة.
[*] كان أحد الصالحين يصلي حتى تتورم قدماه فيضربها ويقول يا أمّارة بالسوء ما خلقتِ إلا للعبادة.
[*] كان العبد الصالح عبد العزيز بن أبي روّاد رحمه الله يُفرش له فراشه لينام عليه بالليل، فكان يضع يده على الفراش فيتحسسه ثم يقول: ما ألينك!! ولكن فراش الجنة ألين منك!! ثم يقوم إلى صلاته.
[*] قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم مكبل، كبلتك خطيئتك.(8/286)
[*] قال معمر: صلى إلى جنبي سليمان التميمي رحمه الله بعد العشاء الآخرة فسمعته يقرأ في صلاته: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} حتى أتى على هذه الآية {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فجعل يرددها حتى خف أهل المسجد وانصرفوا، ثم خرجت إلى بيتي، فما رجعت إلى المسجد لأؤذن الفجر فإذا سليمان التميمي في مكانه كما تركته البارحة!! وهو واقف يردد هذه الآية لم يجاوزها {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا}.
[*] قالت امرأة مسروق بن الأجدع:
والله ما كان مسروق يصبح من ليلة من الليالي إلا وساقاه منتفختان من طول القيام!! .... ، وكان رحمه الله إذا طال عليه الليل وتعب صلى جالساً ولا يترك الصلاة، وكان إذا فرغ من صلاته يزحف (أي إلى فراشه) كما يزحف البعير!!
[*] قال مخلد بن الحسين: ما انتبه من الليل إلا أصبت إبراهيم بن أدهم رحمه الله يذكر الله ويصلي إلا أغتم لذلك، ثم أتعزى بهذه الآية {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء}.
[*] قال أبو حازم رحمه الله: لقد أدركنا أقواماً كانوا في العبادة على حد لا يقبل الزيادة!!
[*] قال أبو سليمان الدارني رحمه الله: ربما أقوم خمس ليال متوالية بآية واحدة، أرددها وأطالب نفسي بالعمل بما فيها!! ولولا أن الله تعالى يمن علي بالغفلة لما تعديت تلك الآية طول عمري، لأن لي في كل تدبر علماً جديدا، والقرآن لا تنقضي عجائبه!!
[*] كان السري السقطي رحمه الله إذا جن عليه الليل وقام يصلي دافع البكاء أول الليل، ثم دافع ثم دافع، فإذا غلبه الأمر أخذ في البكاء والنحيب.
[*] قال رجل لإبراهيم بن أدهم رحمه الله: إني لا أقدر على قيام الليل فصف لي دواء؟!! فقال: لا تعصه بالنهار وهو يقيمك بين يديه في الليل، فإن وقوفك بين يديه في الليل من أعظم الشرف، والعاصي لا يستحق ذلك الشرف.
(وقال أيضاً: لقيت عابداً من العباد قيل أنه لا ينام الليل، فقلت له: لم لا تنام؟ فقال لي: منعتني عجائب القرآن أن أنام.
[*] قال سفيان الثوري رحمه الله: حرمت قيام الليل خمسة أشهر بسبب ذنب أذنبته.
[*] قال رجل للحسن البصري رحمه الله: يا أبا سعيد: إني أبيت معافى وأحب قيام الليل، وأعد طهوري فما بالي لا أقوم؟!! فقال الحسن: ذنوبك قيدتك!!
[*] وقال رجل للحسن البصري: أعياني قيام الليل؟!! فقال: قيدتك خطاياك.(8/287)
[*] قال ابن عمر رضي الله عنهما: أول ما ينقص من العبادة: التهجد بالليل، ورفع الصوت فيها بالقراءة.
[*] قال عطاء الخرساني رحمه الله: إن الرجل إذا قام من الليل متهجداً أصبح فرحاً يجد لذلك فرحاً في قلبه، وإذا غلبته عينه فنام (أي عن قيام الليل) أصبح حزيناً كأنه قد فقد شيئاً، وقد فقد أعظم الأمور له نفعا (أي قيام الليل).
[*] رأى معقل بن حبيب رحمه الله: قوماً يأكلون كثيراً فقال: ما نرى أصحابنا يريدون أن يصلوا الليلة.
[*] قال مسعر بن كدام رحمه الله حاثاً على عدم الإكثار من الأكل:
وجدت الجوع يطرده رغيف ... وملء الكف من ماء الفرات وقل الطعم عون للمصلي ... وكثر الطعم عون للسبات
[*] كان العبد الصالح علي بن بكار رحمه الله تفرش له جاريته فراشه فيلمسه بيده ويقول: والله إنك لطيب!! والله إنك لبارد!! والله لا علوتك ليلتي (أي لا تمت عليك هذه الليلة) ثم يقوم يصلي إلى الفجر!!
[*] قال الفضيل بن عياض رحمه الله: أدركت أقواماً يستحيون من الله في سواد هذا الليل من طول الهجعة!! إنما هو على الجنب، فإذا تحرك (أي أفاق من نومه) قال: ليس هذا لك!! قومي خذي حظك من الآخرة!!.
[*] قال هشام الدستوائي رحمه الله: إن لله عبادا يدفعون النوم مخافة أن يموتوا في منامهم.
[*] عن جعفر بن زيد رحمه الله قال:(8/288)
خرجنا غزاة إلى [كأبول] وفي الجيش [صلة بين أيشم العدوي] رحمه، قال: فترك الناس بعد العتمة (أي بعد العشاء) ثم اضطجع فالتمس غفلة الناس، حتى إذا نام الجيش كله وثب صلة فدخل غيضة وهي الشجر الكثيف الملتف على بعضه، فدخلت في أثره، فتوضأ ثم قام يصلي فافتتح الصلاة، وبينما هو يصلي إذا جاء أسد عظيم فدنا منه وهو يصلي!! ففزعت من زئير الأسد فصعدت إلى شجرة قريبة، أما صلة فو الله ما التفت إلى الأسد!! ولا خاف من زئيره ولا بالى به!! ثم سجد صلة فاقترب الأسد منه فقلت: الآن يفترسه!! فأخذ الأسد يدور حوله ولم يصبه بأي سوء، ثم لما فرغ صلة من صلاته وسلم، التفت إلى الأسد وقال: أيها السبع اطلب في مكان آخر!! فولى الأسد وله زئير تتصدع منه الجبال!! فما زال صلة يصلي حتى إذا قرب الفجر!! جلس فحمد محامد لم أسمع بمثلها إلا ما شاء الله، ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار، أو مثلي يجترئ أن يسألك الجنة!!! ثم رجع رحمه الله إلى فراشه (أي ليوهم الجيش أنه ظل طوال الليل نائماً) فأصبح وكأنه بات على الحشايا (وهي الفرش الوثيرة الناعمة والمراد هنا أنه كان في غاية النشاط والحيوية) ورجعت إلى فراشي فأصبحت وبي من الخمول شيء الله به عليم.
[*] كان العبد الصالح عمرو بن عتبة بن فرقد رحمه الله يخرج للغزو في سبيل الله، فإذا جاء الليل صف قدميه يناجي ربه ويبكي بين يديه، كان أهل الجيش الذين خرج معهم عمرو لا يكلفون أحداً من الجيش بالحراسة؛ لأن عمرو قد كفاهم ذلك بصلاته طوال الليل، وذات ليلة وبينما عمرو بن عتبة رحمه الله يصلي من الليل والجيش نائم، إذ سمعوا زئير أسد مفزع، فهربوا وبقي عمرو في مكانه يصلي وما قطع صلاته!! ولا التفت فيها!! فلما انصرف الأسد ذاهبا عنهم رجعوا لعمرو فقالوا له: أما خفت الأسد وأنت تصلي؟!! فقال: إن لأستحي من الله أن أخاف شيئاً سواه!!
[*] قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: أفضل الأعمال ما أكرهت إليه النفوس.
[*] عن أبي غالب قال:
كان ابن عمر رضي الله عنهما ينزل علينا بمكة، وكان يتهجد من الليل، فقال لي ذات ليلة قبل الصبح: يا أبا غالب: ألا تقوم تصلي ولو تقرأ بثلث القرآن، فقلت: يا أبا عبد الرحمن قد دنا الصبح فكيف اقرأ بثلث القرآن؟!! فقال إن سورة الإخلاص {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن.
[*] كان أبو إسحاق السبيعي رحمه الله يقول:(8/289)
يا معشر الشباب جدوا واجتهدوا، وبادروا قوتكم، واغتنموا شبيبتكم قبل أن تعجزوا، ـ فإنه قلّ ما مرّت عليّ ليلة إلا قرأت فيها بألف آية!!
[*] كان العبد الصالح عبد الواحد بن يزيد رحمه الله يقول لأهله في كل ليلة: يا أهل الدار انتبهوا!! (أي من نومكم) فما هذه (أي الدنيا) دار نوم، عن قريب يأكلكم الدود!!
[*] قال محمد بن يوسف: كان سفيان الثوري رحمه الله يقيمنا في الليل ويقول: قوموا يا شباب!! صلوا ما دمتم شبابا!! إذا لم تصلوا اليوم فمتى؟!!
[*] دخلت إحدى النساء على زوجة الإمام الأوزاعي رحمه الله فرأت تلك المرأه بللاً في موضع سجود الأوزاعي، فقالت لزوجة الأوزاعي: ثكلتك أمك!! أراك غفلت عن بعض الصبيان حتى بال في مسجد الشيخ (أي مكان صلاته بالليل) فقالت لها زوجة الأوزاعي: ويحك هذا يُصبح كل ليلة!! من أثر دموع الشيخ في سجوده.
[*] قال: إبراهيم بن شماس كنت أرى أحمد بن حنبل رحمه الله يحي الليل وهو غلام. [*] قال أبو يزيد المعَّنى: كان سفيان الثوري رحمه الله إذا أصبح مدَّ رجليه إلى الحائط ورأسه إلى الأرض كي يرجع الدم إلى مكانه من قيام الليل!!
[*] كان أبو مسلم الخولاني رحمه الله يصلي من الليل فإذا أصابه فتور قال لنفسه: أيظن أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يسبقونا عليه، والله لأزاحمنهم عليه، حتى يعلموا أنهم خلفوا بعدهم رجالا!! ثم يصلي إلى الفجر.
رأى أحد الصالحين في منامه خياماً مضروبة فسأل: لمن هذه الخيام؟!! فقيل هذه خيام المتهجدين بالقرآن!! فكان لا ينام الليل!!
[*] كان شداد بن أوس رضي الله عنه إذا دخل على فراشه يتقلب عليه بمنزلة القمح في المقلاة على النار!! ويقول اللهم إن النار قد أذهبت عني النوم!! ثم يقوم يصلي إلى الفجر [*] كان عامر بن عبد الله بن قيس رحمه الله إذا قام من الليل يصلي يقول: أبت عيناي أن تذوق طعم النوم مع ذكر النوم.
[*] قال الفضيل بن عياض - رحمه الله -: إني لأستقبل الليل من أوله فيهولني طوله فأفتتح القرآن فأُصبح وما قضيت نهمتي (أي ما شبعت من القرآن والصلاة).
[*] لما احتضر العبد الصالح أبو الشعثاء رحمه الله بكى فقيل له: ما يبكيك!! فقال: إني لم أشتفِ من قيام الليل!!
[*] قال الفضيل بن عياض رحمه الله: كان يقال: من أخلاق الأنبياء والأصفياء الأخيار الطاهرة قلوبهم، خلائق ثلاثة: الحلم والإنابة وحظ من قيام الليل.
[*] كان ثابت البناني رحمه الله يصلي قائما حتى يتعب، فإذا تعب صلى وهو جالس.(8/290)
[*] قال السري السقطي رحمه الله: رأيت الفوائد ترد في ظلم الليل.
[*] كان بعض الصالحين يقف على بعض الشباب العبّاد إذا وضع طعامهم، ويقول لهم: لا تأكلوا كثيرا، فتشربوا كثيرا، فتناموا كثيرا، فتخسروا كثيرا!!
[*] قال حسن بن صالح رحمه الله:
إني أستحي من الله تعالى أن أنام تكلفا (أي اضطجع على الفراش وليس بي نوم) حتى يكون النوم هو الذي يصير عني (أي هو الذي يغلبني)، فإذا أنا نمت ثم استيقظت ثم عدت نائما فلا أرقد الله عيني!!
[*] كان العبد الصالح سليمان التميمي – رحمه الله – هو وابنه يدوران في الليل في المساجد، فيصليان في هذا المسجد مرة، وفي هذا المسجد مرة، حتى يصبحا.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الربيع بن سليمان يقول: كان الشافعي قد جزأ الليل ثلاثة أجزاء، الثلث الأول يكتب، والثلث الثاني يصلي، والثلث الثالث ينام.
(فإن فاتهُ حِزْبَه بالليل فليحرص على قِراءته في أول النَّهار.
(حديث عمر الثابت في صحيح مسلم): أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر و صلاة الظهر كتب كأنما قرأه من الليل.
(تعهد القرآن والتحذير من نسيانه:
قد حذرنا الله عز وجل من الابتعاد عن القرآن الكريم بقوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَىَ) [طه / 124]
فالإعراض عن تلاوته هجران، وعدم التفكر فيه هجران، وكذلك عدم العمل به هجران.
((حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا من قلوب الرجال من الإبل من عقلها.
معنى تفصياً: أي تفلتاً
(حديث ابن مسعود في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال بئسما لأحدهم أن يقول: نسيت آية كَيْتَ و كَيْتَ بل هو نُسِيَ، واستذكروا القرآن فأنه أشدُّ تفصِّياً من صدور الرجال من النَّعم في عُقُلها.
معنى بل نُسِيَ: أي عوقب بالنسيان لتفريطه في استذكار القرآن.
{تنبيه}: ( ... نظرا لوجود تشابه في ألفاظ بعض آيات القرآن الكريم أحيانا واختلافها أحيانا أخرى فإن حفظ القرآن قابل للنسيان إن لم يستذكر، لذلك يأمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باستذكار القرآن حفاظا عليه من النسيان.(8/291)
(وهنا إشارة إلى كراهة نسبة النسيان إلى النفس نظرا لأن هناك معنا آخر للنسيان وهو تعمد إغفال العمل بأحكام الآيات وهذا والعياذ بالله من سيء الأعمال. قال الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ ءَايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} (طه من 124: 126).
وفي هذا الحديث دليل على أن النسيان أمر محتمل للإنسان وليس بنقص ولكن على الإنسان الجد والحرص على عدم النسيان بالاستذكار. قال الله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} [الأعلى/7].
وفي الحديث إشارة إلى مراقبة اللسان من التكلم حتى بكلام يقصد غيره إن كان اللفظ الذي يستخدم يشير إلى أمر فيه إثم أو معصية. فهنا رغم أن النسيان أمر متوقع للإنسان، إلا أن النهي عن نسبة هذا النسيان للنفس على أنه أمر قد قام به الإنسان اختيارا وتعمدا، خشية أن يكون مشمولا بمن تعمد النسيان الذي يشير الله إيه في الآية السابقة. ويشبه ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا} [البقرة /104]. وذلك لأن اليهود استخدموا لفظة راعنا فنهى الله عن استخدام ذلك اللفظ من قبل المسلمين.
ولقد كان أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يجعلون لأنفسهم نصيبا من القرآن كل يوم , فاحرص على ذلك وتمسك به وعض عليه بالنواجذ , واجعل لنفسك نصيبا يوميا لا تتركه ما دمت حيا مهما كان الأمر , ومهما كانت مشاغل الدنيا، وقليلا دائما خيرا من كثيرا منقطع , وان غفلت فاقضه من الغد كما قال نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الآتي:
(حديث عمر الثابت في صحيح مسلم): أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر و صلاة الظهر كتب كأنما قرأه من الليل.
(ومن أحسن الأدوية التي تعين على الحفظ وتبعد الإنسان على النسيان ترك المعاصي:
يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ... ونور الله لا يُهدى لعاصي(8/292)
وهنا يؤكد الإمام الشافعي على أن أستاذه وكيعا ينصحه بأن يترك المعاصي بعد أن شكا له سوء حفظه. فمن أصلح ما بينه وبين الله تعالى كان حقا على الله أن يعينه على طاعته ورضاه قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت /69].
(حكم نسيان القرآن:
مسألة: ما حكم نسيان القرآن؟
نسيان الحفظ له أسباب: منها عدم التكرار لشغل طارئ وهذا يحدث لكل فرد وعليه أن يراجع بعد أن يفرغ من شغله.
ومنها عدم التكرار لشغل مستديم. فإن كان شغله يمنعه من تكرار القرآن وكان شغله من الأهمية بمكان فعليه أن يكابد ويحاول إيجاد الوقت للتكرار ويدعو الله بالمغفرة. أما إن كان عدم التكرار إهمالا وتكاسلا، فهذا من التقصير الذي هو من الذنوب ويخشى أن يكون إثمه كبيرا.
[*] قال الضحاك بن مزاحم: ما من أحد تعلم القرآن فنسيه إلا بذنب يُحدِثُهُ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى /34]. وإن نسيان القرآن من أعظم المصائب.
أما إذا كان النسيان نتيجة مرض يمنعه من التكرار أو ينُسيه ما حفظ فذلك مما يرجى أن لا يؤاخذه الله به بل ويكتب له ثواب يوم كان يكرر القرآن ويحفظه هذا إذا كان صابرا في مرضه محتسبا ذلك لله.
(التحذير من هجر القرآن:
لقد حكى الله عز وجل شكوى الرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لربه هجران قومه للقرآن قال تعالى: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) [الفرقان:30]
[*] قال الألوسي في روح المعاني:
واستدل ابن الفرس بالآية على كراهة هجر المصحف وعدم تعاهده بالقراءة فيه، فهجر التلاوة إنما يكون بالإعراض عن المصحف وعدم القراءة ولو ليوم، وكلما طالت المدة كلما تحقق الهجر، هذا ولم نطلع على أقوال لأحد من أهل العلم قد حد الهجر بأيام معدودة، لكن قد وردت روايات عن بعض أهل العلم في أكثر مدة يختم فيها القرآن.
[*] روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قال: من قرأ القرآن في كل سنة مرتين فقد أدى حقه لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرض على جبريل في السنة التي قبض فيها مرتين.
[*] وقال أبو الليث في البستان: ينبغي للقارئ أن يختم في السنة مرتين إن لم يقدر على الزيادة.
[*] ونص أحمد على كراهة تأخير ختم القرآن أكثر من أربعين يوماً بلا عذر،(8/293)
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أنه سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: في كم يقرأ القرآن؟ قال: "" في أربعين يوما "" ثم قال "" في شهر "" ثم قال "" في عشرين "" ثم قال "" في خمس عشرة "" ثم قال "" في عشر "" ثم قال "" في سبع.
?? (وتوعّد الله سبحانه الذين يعرضون عنه فقال: {وقد آتيناك من لدنا ذكراً * من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً * خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا} [طه: 99 - 101].
(ثم صوّر حالة ذلك المعرض يوم القيامة فقال: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا * ونحشره يوم القيامة أعمى} [طه: 123 - 124].
[*] (أنواع هجر القرآن:
[*] قال ابن القيم في كتابه القيم " الفوائد ":
وهجر القرآن أنواع:
أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه.
والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به.
والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم.
والرابع: هجر تدبره وتفهمه، ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.
والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به ... وإن كان بعض الهجر أهون من بعض.
(وإليك تفصيل ذلك:
(1) هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه.
لا يوجد على وجه البسيطة كتاب يحرم هجره، ويجب تعاهده وتلاوته إلا القرآن الكريم، فإن هذا من خصائصه التي لا يشاركه فيها أي كتاب.
?? وقد أثنى الله عز وجل على الذين يتعاهدون كتاب ربهم بالتلاوة فقال: {من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون} [آل عمران: 113]. ?? - وحتى لا يقع الناس في هجران القرآن، فقد بحث العلماء مسألة: في كم يقرأ القرآن، وقالوا: "يكره للرجل أن يمر عليه أربعون يوماً لا يقرأ فيها القرآن ".
? (2) هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به.
- يحرم هجر العمل بالقرآن الكريم، لأن القرآن إنما نزل لتحليل حلاله وتحريم حرامه والوقوف عند حدوده.
?? فلا يجوز ترك العمل بالقرآن، فإن العمل به هو المقصود الأهم والمطلوب الأعظم من إنزاله.
(3) هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم.(8/294)
- أنزل الله عز وجل كتابه الكريم حتى يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ونهاهم سبحانه عن تحكيم أو تحاكم إلى غير القرآن.
?? - فالقرآن الكريم هو دستور المسلمين، وهو الحكم فيما اختلفوا فيه من أمور دينهم ودنياهم، فلا يجوز هجره لابتغاء الحكم في غيره.
(4) هجر تدبره وتفهمه، ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.
- تدبر القرآن الكريم وتعقل معانيه مطلب شرعي، دعا إليه القرآن وحثّت عليه السنة، وعمل به الصحابة والتابعون ومن بعدهم، قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته} [ص: 29]. وقال أيضاً: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} [محمد: 24].
?? وعليه فلا يجوز هجر تدبره وتأمل معانيه وأحكامه.
? (5) هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به:
وردت نصوص كثيرة في أن القرآن الكريم شفاء، قال تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} [الإسراء: 82]. وقال: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء} [فصلت: 44].
??وفي سنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صور تطبيقية عديدة للتداوي بالقرآن، سواء كان دواء للأبدان، أو للنفوس.
?? - وهجر الاستشفاء بالقرآن خلاف السنة، فهو مذموم وممقوت.(8/295)
(!! إني لأعجب من أمة تهجر كتاب ربها وتُعرض عن سنة نبيها، ثم بعد ذلك تتوقع أن ينصرها ربها؟ إن هذا مخالف لسنن الله في الأرض. إن التمكين الذي وعد به الله، والذي تحقق من قبل لهذه الأمة، كان بفضل التمسك بكتاب الله عز وجل، الدستور الرباني الذي فيه النجاة مما أصابنا الآن. إن الذين يحلمون بنزول النصر من الله لمجرد أننا مسلمون لواهمين، هم كحال من يطلب المُحال، كحال يستنبتُ النباتَ في الهواء ويبذرُ البذورَ في الصخور وكحال من يطلب الولد بغير زواج، ذلك أن تحقق النصر له شروط، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي اْلأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُ! دُونَنِي َلا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] كما أن ما بعد النصر له شروط. قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي اْلأَرْضِ أَقَامُوا الصََّلاةَ وَآتَو! ْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ اْلأُمُورِ} [الحج: 41] فعودوا إلى كتاب ربكم تنالوا نصره في الدنيا وتدخلوا جنته في الآخرة.
[*] (آثار هجر القرآن:
(1) من آثار هجر القرآن، تغلب الشيطان وأعوانه من شياطين الجن والإنس. لأن ذكر الله تعالى خير حافظ للعبد، فالله خير حافظ وهو أرحم الراحمين. وقد ورد عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا تأتيه البطلة، وهم شياطين الجن والإنس.
(حديث أبي أمامة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه اقرءوا الزهراوين: البقرة و آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أصحابهما اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة و تركها حسرة و لا تستطيعها البطلة.
اقرءوا الزهراوين: أي النيرتين
قال النووي رحمه الله تعالى في شرح صحيح مسلم:
"و سميتا الزهراوين لنورهما و هدايتهما و عظيم أجرهما"(8/296)
«كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان»: قال أهل اللغة: الغمامة والغياية كل شيء أظل الإنسان من فوق رأسه من سحابة وغبرة وغيرهما. نقله النووي. وفي القاموس: الغمامة: السحابة أو البيضاء من السحب. والغياية كل ما أظل الإنسان من فوق رأسه كالسحاب ونحوه. والمراد أن ثوابهما يأتي بهذا المنظر.
«أو كأنهما فرقان من طير صواف»: الفرقان والحزقان: معناهما واحد، وهما قطيعان وجماعتان، يقال في الواحد: فرق وحزق وحزيقه، أي جماعة، ومعنى «صواف»: باسطة أجنحتها ملتصق بعضها ببعض كما كانت تظلل سليمان عليه السلام، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تحاجان عن أصحابهما» أي تدافعان بالحجة عن أصحابهما.
«فإن أخذها بركة وتركها حسرة»: أي قراءتها بركة وترك قراءتها حسرة وخسارة.
أخذها بركة: أي زيادةٌ ونماء
وتركها حسرة: أي على ما فاته من الثواب
«ولا تستطيعها البطلة» أي السحرة، تسمية لهم باسم فعلهم، لأن ما يأتون به الباطل، وإنما لم يقدروا على قراءتها ولم يستطيعوها لزيغهم عن الحق وانهماكهم في الباطل، ويصح أن يكون المعنى ولا يستطيع دفعها واختراق تحصينها لقارئها السحرة.
وقيل: المراد من البطلة أهل البطالة، أي لا يستطيعون قراءتها وتدبر معانيها لكسلهم.
(2) ومن آثار هجر القرآن حرمان العبد من فضل التلاوة والتعبد بها، والحرمان من كنز من كنوز الحسنات لأن الحرف بعشر حسنات بنص السنة الصحيحة:
(حديث ابن مسعودٍ في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة و الحسنة بعشر أمثالها لا أقول: {ألم} حرف و لكن: ألف حرف و لام حرف و ميم حرف.
(3) ومن آثار هجر القرآن: الحرمان من شفاعته له يوم القيامة:
(حديث أبي أمامة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه اقرءوا الزهراوين: البقرة و آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أصحابهما اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة و تركها حسرة و لا تستطيعها البطلة.
اقرءوا الزهراوين: أي النيرتين
قال النووي رحمه الله تعالى في شرح صحيح مسلم:
"و سميتا الزهراوين لنورهما و هدايتهما و عظيم أجرهما"(8/297)
«كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان»: قال أهل اللغة: الغمامة والغياية كل شيء أظل الإنسان من فوق رأسه من سحابة وغبرة وغيرهما. نقله النووي. وفي القاموس: الغمامة: السحابة أو البيضاء من السحب. والغياية كل ما أظل الإنسان من فوق رأسه كالسحاب ونحوه. والمراد أن ثوابهما يأتي بهذا المنظر.
«أو كأنهما فرقان من طير صواف»: الفرقان والحزقان: معناهما واحد، وهما قطيعان وجماعتان، يقال في الواحد: فرق وحزق وحزيقه، أي جماعة، ومعنى «صواف»: باسطة أجنحتها ملتصق بعضها ببعض كما كانت تظلل سليمان عليه السلام، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تحاجان عن أصحابهما» أي تدافعان بالحجة عن أصحابهما.
«فإن أخذها بركة وتركها حسرة»: أي قراءتها بركة وترك قراءتها حسرة وخسارة.
أخذها بركة: أي زيادةٌ ونماء
وتركها حسرة: أي على ما فاته من الثواب
ولا تستطيعها البطلة: أي السحرة
(4) ومن آثار هجر القرآن موت السنة وانتشار البدعة بسبب الإعراض عن كتاب الله، ومن هجر القرآن هجر السنة فتكثر الأهواء ويقل العلم وينتشر الجهل وكل هذه عوامل على انتشار البدع وتحكيم الهوى قال تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة: 50]
(5) ومن آثار هجر القرآن قسوة القلب؛ لأن القرآن الكريم يعمل على ترقيق القلوب المؤمنة فهي تطمئن بذكر الله قال تعالى: (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28]، فنعوذ بالله من القلب القاسي.
(أين الخلف مما فعله السلف؟ هل نحن مع القرآن فقادنا إلى رضوان الله؟ وهل نحن مع القرآن إذا لقادنا إلى سبل السلام، هل نقلنا هدايات القرآن للقارات الخمس؟ في عالمنا أناس حجبوا القرآن فلا تعرف عنه شيئا والسبب هجر المسلمين لقرآنهم، وفاقد الشيء لا يعطيه.
(استحباب تحسين الصوت بقراءة القرآن الكريم:
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به.
والمقصود أذن الله أي استمع الله عز وجل، وفيه إشارة على القبول والرضا، ومعنى الحديث أنه ما استمع رب العزة والجلالة لشيء من الأشياء كاستماعه لنبي يقرآ القرآن بصوت جميل يجهر بتلاوته.
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: لقد أُتيت مزماراً من مزامير آل داود.(8/298)
لحسن صوته وحلاوة نغمه، وقد كان داود عليه السلام إذا قرأ القرآن أنصت له الطير والجبل والشجر، وهذا إن دل على شيء دل على وجوب حسن الصوت في قراءة القرآن الكريم.
(حديث البراء في صحيحي أبي داوود والنسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال زينوا القرآن.
(حديث البراء في الصحيحين) قال سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في العشاء (والتين والزيتون) فما سمعت أحداً أحسن صوتً منه.
{تنبيه}: (بينت السنة الصحيحة أن أحسن الناس صوتاً بالقرآن هو الذي إذا سمعته يقرأ حسبته يخشى الله
(حديث جابر في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن من أحسن الناس صوتا بالقرآن الذي إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله.
(يستحب طلب القراءة الطيبة من إنسان حسن الصوت:
(حديث ابن مسعود في لصحيحين) قال، قال لي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اقرأ علي القرآن فقلت يا رسول الله: أقرأ عليك وعليك أُنزل، قال: إني أحب أن أسمعه من غيري.
(آداب قراءة القرآن:
[*] (بيَّن الإمام النووي رحمه الله تعالى آداب قراءة القرآن في كتابه التبيان في آداب حملة القرآن فقال:
(1) ينبغي له أن يستحضر في نفسه أنه يناجي الله تعالى ويقرأ على حال من يرى الله تعالى فإنه إن لم يكن يراه فإنه يراه فعليه أن يطرد الشواغل عن نفسه أثناء هذه المناجاة
(2) ينظف فاه بالسواك فإنه مطهرةٌ للفم مرضاةٌ للرب:
(حديث عائشة في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: السواك مطهرةٌ للفم مرضاةٌ للرب.
(3) يستحب له أن يقرأ القرآن على طهارة فإن قرأ محدثاً جاز بإجماع المسلمين.
(4) يستحب أن تكون القراءة في موضعٍ نظيف ولهذا استحب جماعة من العلماء القراءة في المسجد لكونه جامعاً للنظافة وشرف البقعة ومحصلاً لفضيلةٍ أخرى هي فضيلة الاعتكاف فإنه ينبغي لكلِ جالس في المسجد أن ينويه سواء كثر جلوسه أو قل، وهذا الأدب ينبغي أن يعتني به ويشاع ذكره ويعرفه الصغير والكبير فإنه مما يغفل عنه.
(5) يستحب للقارئ أن يقرأ وهو جالس مستحضراً عظمةَ من يناجيه خاشعاً متذللاً بين يدي الله تعالى، ولو قرأ قائماً أو مضطجعاً في فراشه أو غير ذلك من الأحوال جاز:(8/299)
قال تعالى: (إنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وقعودا وعلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض ربنا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {آل عمران/191،190}
(حديث عائشة في صحيح مسلم) قالت كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يذكر الله على كل أحواله.
(6) ويجب على القارئ إذا أراد الشروع في القراءة أن يستعيذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم.
لقوله تعالى (فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) {النحل/98}
وكان جماعة من السلف يقولون: أعوذ بالله السميع من الشيطان الرجيم
(7) ينبغي له أن يحافظ على قراءة البسملة في أولِ كل سورة سوى سورة براءة.
(8) إذا شرع في القراءة فليكن شأنه الخشوع والتدبر وطرد الشواغل عن ذهنه:
قال تعالى أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لوجدوا فيه اخْتِلاَفًا كَثِيراً {النساء/82}
وقال تعالى (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) {محمد /24}
وقال تعالى (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدّبّرُوَاْ آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكّرَ أُوْلُو الألْبَابِ) {ص/29}
{تنبيه}: (كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يهتم اهتماماً بالغاً بتدبر القرآن وكان أحياناً لا يزال يردد آيةً حتى يصبح.
(حديث أبي ذر في صحيحي النسائي وابن ماجة) قال قام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بآيةٍ يرددها حتى أصبح، والآية قال تعالى: (إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة / 118]
*وقد تأسى أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به في ذلك فردد تميم بن أوس آيةً حتى أصبح والآية هي (أَمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرَحُواْ السّيّئَاتِ أَن نّجْعَلَهُمْ كَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَوَآءً مّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ) {الجاثية/21)
(9) البكاء عند قراءة القرآن فإن ذلك سمة عباد الله الصالحين:
قال تعالى (وَيَخِرّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) {الإسراء /109}
وقال تعالى (إِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرّحْمََنِ خَرّواْ سُجّداً وَبُكِيّاً) {مريم/58}(8/300)
*وصلى عمر بن الخطاب بالجماعة الصبح فقرأ سورة يوسف فبكى حتى سالت دموعه على ترقوته.
*وعن أبي الرجاء قال رأيت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وتحت عينيه مثلُ الشراك البالي من الدموع.
وقدم أناسٌ من اليمن على أبي بكرٍ الصديق رضي الله تعالى عنه فجعلوا يقرؤن القرآن ويبكون فقال أبو بكرٍ الصديق رضي الله تعالى عنه: هكذا كنا.
(10) استحباب ترتيل القرآن:
امتثالاً لقوله تعالى (ورتل القرآن ترتيلا) {المزمل /4}
(حديث عبد الله بن المغفل في الصحيحين) قال رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم فتح مكة على ناقته يقرأ سورةَ الفتح فرجَّع في قراءته)
(حديث أم سلمة في صحيح الترمذي) قالت كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقطع قراءته آية آية: {الحمد لله رب العالمين} ثم يقف: {الرحمن الرحيم} ثم يقف.
11) يكره الإفراط في السرعة في قراءة القرآن لأنها لا تسمح بالتدبر:
(حديث ابن مسعود في الصحيحين) أن رجلاً قال له لقد قرأت المفصل في ركعة فقال هذا كهزِ الشعر إن قوماً يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع.
*المقصود بقوله (كهز الشعر): كانت عادتهم في إنشاد الشعر السرعة المفرطة.
(12) يستحب له أن لا يمرُّ بآية رحمة إلا سأل ولا بآية فيها عذاب إلا استجار:
(حديث حذيفة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ البقرة وآل عمران والنساء في ركعة، لا يمر بآيةِ رحمةٍ إلا سأل ولا بآيةِ عذاب إلا استجار.
(حديث حذيفة رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: صليت مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة فافتتح البقرة ثم المائة فمضى ثم المائتين فمضى فقلت يصلي بها في ركعة فمضى فافتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأ مترسلا إذا مر بآية فيها تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ ثم ركع فقال سبحان ربي العظيم فكان ركوعه نحوا من قيامه ثم رفع رأسه فقال سمع الله لمن حمده فكان قيامه قريبا من ركوعه ثم سجد فجعل يقول سبحان ربي الأعلى فكان سجوده قريبا من ركوعه.
(13) احترام القرآن:(8/301)
إن احترام القرآن من الأمور التي قد يتساهل فيها بعض الغافلين القارئين، فيجب اجتناب الضحك واللغط (اختلاط الأصوات) والحديث خلال القراءة إلا كلاماً يضطر إليه، وليمتثل قول الله تعالى (وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ) {الأعراف/204}
[*] وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما إذا قرأ القرآن لا يتكلم حتى يفرغ مما أراد أن يقرأه.
ويجب كذلك اجتناب العبث بين يديه فإنه يناجي الله تعالى، وكذا يجب اجتناب النظر إلى ما يلهي القلب
(14) يستحب له أن يقرأ القرآن على ترتيب المصحف لأن الله تعالى جعل هذا الترتيب لحكمةٍ بالغةٍ قضاها يستوجب الحمد على اقتضاها، فينبغي له أن يحافظ على هذه الحكمة إلا فيما ورد الشرع باستثنائه كصلاة الفجر يوم الجمعة فإنه يقرأ في الركعة الأولى سورة السجدة وفي الثانية سورة الإنسان وكذلك سنة الفجر فإنه يقرأ في الأولى الكافرون وفي الثانية سورة الإخلاص
قيل لابن مسعودٍ رضي الله عنه إن فلاناً يقرأ القرآن منكوساً قال: ذلك منكس القلب.
(15) استحباب قراءة القرآن مجتمعين:
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله و يتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة و غشيتهم الرحمة و حفتهم الملائكة و ذكرهم الله فيمن عنده.
(16) كراهية الاختلاف في كتاب الله تعالى:
(حديث جندب ابن عبد الله في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فيه فقوموا.
(حديث ابن مسعود في صحيح البخاري) قال سمعت رجلاً قرأ آيةً سمعت من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلافها فأخذت بيده فأتيت به رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: كلاكما محسن، لا تختلفوا فإنه من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا.
(17) استحباب الجهر بالقراءة والإسرار بها على التفصيل الآتي:
(إذا خاف على نفسه الرياء أو العجب والعياذ بالله كان الإسرار في حقه أفضل وعيه يحمل الحديث
(حديث عقبة بن عامر في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة و المسر بالقرآن كالمسر بالصدقة.
معنى الحديث: أن المسرَّ بالقرآن أفضل لكي يأمن من العجب المحبط للعمل والعياذ بالله، وهذا محمول على من خاف على نفسه ذلك.(8/302)
(أما إذا لم يخف على نفسه الرياء والعجب فالجهر في حقه أفضل لأن نفعه متعدي، والمنفعة المتعدية أفضل من المنفعة اللازمة لأنه برفع صوته يوقظ غيره من نائم وغافل وينشطه وعليه الأحاديث الآتية
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به
(18) استحباب تحسين الصوت بالقرآن:
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ليس منا من لم يتغن بالقرآن.
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: لقد أُتيت مزماراً من مزامير آل داود. (حديث البراء في صحيحي أبي داوود والنسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال زينوا القرآن.
(حديث البراء في الصحيحين) قال سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في العشاء (والتين والزيتون) فما سمعت أحداً أحسن صوتً منه.
{تنبيه}: (بينت السنة الصحيحة أن أحسن الناس صوتاً بالقرآن هو الذي إذا سمعته يقرأ حسبته يخشى الله (حديث جابر في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن من أحسن الناس صوتا بالقرآن الذي إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله.
(يستحب طلب القراءة الطيبة من إنسان حسن الصوت:
(حديث ابن مسعود في لصحيحين) قال، قال لي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اقرأ علي القرآن. فقلت يا رسول الله: أقرأ عليك وعليك أُنزل، قال: إني أحب أن أسمعه من غيري.
(19) تحريم الجدال في القرآن بغير حق:
(حديث أبي هريرة في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: المراء في القرآن كفر.
{تنبيه}: (المقصود بالمراء هنا الجدال المشكك في القرآن والعياذ بالله تعالى من ذلك، وقيل الجدال الذي يفعله أهل الأهواء في آيات القدر ونحوها
(20) استحباب دعاء ختم القرآن:
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في كتابه التبيان في آداب حملة القرآن: يستحب الدعاء عقب ختم القرآن استحباباً متأكداً، وكان عبد الله بن ا لمبارك إذا ختم القرآن أكثر دعائه للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات
{تنبيه}: (لم يذكر الإمام النووي في ذلك دليلاً، وربما يستدلُ له بالحديث الآتي(8/303)
(حديث عمران بن حصين في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قرأ القرآن فليسأل الله به فإنه سيجيء أقوام يقرءون القرآن يسألون به الناس.
(21) أن يلزم ما يستحب من الذكر أثناء قراءة القرآن تأسياً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قرأ: سبح اسم ربك الأعلى قال: سبحان ربي الأعلى.
(حديث موسى بن أبي عائشة رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود) قال: كان رجل يصلي فوق بيته, وكان إذا قرأ: أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} قال: سبحانك فَبَلَى! فسألوه عن ذلك؟ فقال: سمعته من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[*] قال الألباني رحمه الله تعالى:
وهو مطلق فيشمل القراءة في الصلاة وخارجها, والنافلة والفريضة. أهـ
[صفة الصلاة 105]
(آداب حملة القرآن:
[*] (هاك بعض الآداب التي ينبغي لحامل القرآن أن يتحلى بها:
1) قال ابن مسعودٍ رضي الله تعالى عنه: ينبغي لحامل القرآن أن يُعرفَ بليله إذا الناس ينامون وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون.
2) وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار.
3) وقال الفضيل ابن عياض رحمه الله تعالى: حامل القرآن حامل راية الإسلام لا ينبغي له أن يلهو مع من يلهو ولا يسهو مع من يسهو ولا يلغو مع من يلغو تعظيماً لحق القرآن
4) ويجب على حامل القرآن أن يحافظ على تلاوته ويتعاهده باستمرار حتى لا ينساه:
((حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا من قلوب الرجال من الإبل من عقلها.
معنى تفصياً: أي تفلتاً.
(حديث ابن مسعود في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال بئسما لأحدهم أن يقول: نسيت آية كيت و كيت بل هو نُسِيَ، واستذكروا القرآن فأنه أشدُّ تفصِّياً من صدور الرجال من النَّعم في عُقُلها.
معنى بل نُسِيَ: أي عوقب بالنسيان لتفريطه فاستذكار القرآن(8/304)
{تنبيه}: (لقد ضرب السلف الصالح أروع المثل في قراءة القرآن واستذكاره، فكان الكثير منهم يختمون كل ثلاث ليالٍ، وبعضهم كل ليلتين ومنهم من كان يختم في كل يومٍ وليلة، فمن الذين كانوا يختمون في كل يومٍ وليلة عثمان ابن عفان وتميم ابن أوس الداري وسعيد ابن جبير ومجاهد والشافعي.
(5) ويجب عليه أن يجاهد نفسه في مراجعة القرآن حتى يشربه كشرب اللبن:
(حديث عقبة ابن عامر في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال سيخرج أقوام من أمتي يشربون القرآن كشربهم اللبن.
{تنبيه}: (هنا سؤال يطرح نفسه ما الدليل على جواز ختم القرآن في يومٍ وليلة، خاصةً وأنه ورد في السنة الصحيحة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث؟
والجواب أن نقول:
أنه يجوز ختم القرآن في يومٍ وليلة لفعل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد أمرنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نتبع سنتهم وبيَّن أن سنتهم من سنته.
(حديث العرباض بن سارية في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال أوصيكم بتقوى الله و السمع و الطاعة و أن أمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ فعطف سنتهم على سنته فدل ذلك على أن سنتهم من سنته.
الرد على (حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث.
يكون من وجهين:
{الأول}: المقصود بالنفي هنا نفي الفقه لا نفي الثواب ولذا عبَّر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله (لا يفقه)
{الثاني}: ليس في الحديث دليلٌ على تحريم ختمه في أقل من ثلاث إذ لا يلزم من عدم فهم معناه تحريم قراءته.
(6) ينبغي لحامل القرآن أن يعتني بقراءة القرآن بالليل أكثر من النهار، وذلك لكونها أجمع للقلب وأثبت للحفظ لقوله تعالى: (إِنّ نَاشِئَةَ اللّيْلِ هِيَ أَشَدّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً) [المزمل / 6]
ولأنه بالليل يسهل طرد الشواغل عن الذهن، ثم إن الليل أصون من الرياء وغيره من المحبطات.(8/305)
(7) يجب على حامل القرآن أن لا يسافر بالمصحف إلى أرض العدو حتى لا يناله بسوء أو امتهان _ قسم الله ظهر من أعان على امتهان القرآن بشطر كلمة.
(حديث ابن عمر في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو.
(فضائل بعض سور القرآن:
ما أنزل الله سبحانه من شيء إلا جعل فيه درجات وأفضلية:
قال تعالى: (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ) [الأنعام:165]
و قال تعالى: (وَلَقَدْ فَضّلْنَا بَعْضَ النّبِيّينَ عَلَىَ بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً) [الإسراء:55]
وقال تعالى: (وَفَضّلْنَاهُمْ عَلَىَ كَثِيرٍ مّمّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [الإسراء:70]
وكذلك فضّلت مكة والمدينة على سائر المدن وفضّل شهر رمضان على باقي الأشهر وفضّلت ليلة القدر على كل الليالي بل جعلها الله خيرا من ألف شهر وهكذا درجات وتفضيل، وكذلك فضّلت بعض سور القرآن. وكذلك جاء في السنة الشريفة فضل بعض السور القرآنية ليكثر المؤمن من قراءتها ويحفظها إن استطاع إلى ذلك سبيلا:
(فضل سورة الفاتحة:
بينت السنة الصحيحة أن سورة الفاتحة أعظم سورة في القرآن بنص السنة الصحيحة
(حديث أبي سعيد المعلي في صحيح البخاري) قال: قال لي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألا أعلمك أعظم سورةٍ في القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟ فأخذ بيدي، فلما أردنا أن نخرج قلت يا رسول الله إنك قلت لأعلمنَّك أعظمُ سورةٍ في القرآن، قال: الحمد لله رب العلمين هي السبعُ المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته.
(حديث بن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) قال بينما جبريل قاعد عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ * سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه فقال هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته.
(حديث أبي بن كعب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها وإنها سبع من المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته.(8/306)
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: كنا في مسير لنا فنزلنا، فجاءت جارية فقالت: إن سيد الحلي سليم، وإن نفرنا غيب، فهل منكم راق؟ فقام معها رجل ما كنا نأبنه برقية، فرقاه فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة، وسقانا لبنا، فلما رجع قلنا له: أكنت تحسن رقية، أوكنت ترقي؟ قال: لا، ما رقيت إلا بأم الكتاب، قلنا: لا تحدثوا شيئا حتى نأتي، أو نسأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: (وما كان يدريه أنها رقية؟ اقسموا واضربوا لي بسهم.
(حديث عبادة بن الصامت الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: في كلٍ صلاة يُقرأ فما أسمعنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسمعناكم وما أخفى عنا أخفينا عنكم، وإن لم تزد عن أم الكتاب أجزأت وإن زِدت فهو خير.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثا غير تمام فقيل لأبي هريرة رضي الله عنه إنا نكون وراء الإمام فقال اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد! < الحمد لله رب العالمين >! قال الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال! < الرحمن الرحيم >! قال الله تعالى أثنى علي عبدي وإذا قال! < مالك يوم الدين >! قال مجدني عبدي وقال مرة فوض إلي عبدي فإذا قال! < إياك نعبد وإياك نستعين >! قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال! < اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين >! قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.
[معنى خداج أي فاسدة]
(فضل سورة البقرة:
(1) كفى في فضلها: أن الله تعالى قد جعلها عدلا للقرآن العظيم قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [سورة الحجر: 87] وأنه لا بد من قراءتها في الصلاة بحيث لا تغني عنها سائر السور، وأن الصلاة هي عماد الدين، وبها يمتاز المسلم عن الكافر. "(8/307)
(حديث أبي سعيد المعلي في صحيح البخاري) قال: قال لي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألا أعلمك أعظم سورةٍ في القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟ فأخذ بيدي، فلما أردنا أن نخرج قلت يا رسول الله إنك قلت لأعلمنَّك أعظمُ سورةٍ في القرآن، قال: الحمد لله رب العلمين هي السبعُ المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته.
(2) فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة نوران أوتيهما النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يؤتهما نبي قبله:
(حديث بن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) قال بينما جبريل قاعد عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ * سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه فقال هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته.
(3) ما أنزلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثل فاتحة الكتاب:
(حديث أبي بن كعب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها وإنها سبع من المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته.
(4) فاتحة الكتاب لها أثر بالغ في رقية المريض:
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: كنا في مسير لنا فنزلنا، فجاءت جارية فقالت: إن سيد الحلي سليم، وإن نفرنا غيب، فهل منكم راق؟ فقام معها رجل ما كنا نأبنه برقية، فرقاه فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة، وسقانا لبنا، فلما رجع قلنا له: أكنت تحسن رقية، أوكنت ترقي؟ قال: لا، ما رقيت إلا بأم الكتاب، قلنا: لا تحدثوا شيئا حتى نأتي، أو نسأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: (وما كان يدريه أنها رقية؟ اقسموا واضربوا لي بسهم.
(5) كفي بها فضلاً أن الصلاة لا تصح بغيرها:
(حديث عبادة بن الصامت الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: في كلٍ صلاة يُقرأ فما أسمعنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسمعناكم وما أخفى عنا أخفينا عنكم، وإن لم تزد عن أم الكتاب أجزأت وإن زِدت فهو خير.(8/308)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثا غير تمام فقيل لأبي هريرة رضي الله عنه إنا نكون وراء الإمام فقال اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد! < الحمد لله رب العالمين >! قال الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال! < الرحمن الرحيم >! قال الله تعالى أثنى علي عبدي وإذا قال! < مالك يوم الدين >! قال مجدني عبدي وقال مرة فوض إلي عبدي فإذا قال! < إياك نعبد وإياك نستعين >! قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال! < اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين >! قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.
[معنى خداج أي فاسدة]
{تنبيه}: ( ... لا يجوز أن يحمل النفي في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب] على نفي الكمال لعموم الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج (ثلاثاً) غير تمام.
(6) بينت السنة الصحيحة أن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله شيطان.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لا تجعلوا بيوتكم مقابر وإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله شيطا ن.
(7) البقرة سنام القرآن:
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن لكل شيء سناما وسنام القرآن سورة البقرة , و إن الشيطان إذا سمع سورة البقرة تقرأ , خرج من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة ".
وسنام القرآن سورة البقرة: فهي السنام والذروة والقمة الشامخة.
(فضلُ آية الكرسي:
(1) بينت السنة الصحيحة أن آية الكرسي هي أعظم سورةٍ في القرآن:
(حديث أبي بن كعب في صحيح مسلم) قال، قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يا أبا المنذر أتدري أيُ آيةٍ من كتاب الله معك أعظم؟ قال قلت الله لا إله إلا هو الحي القيوم. قال فضرب في صدري وقال ليهنك العلم يا أبا المنذر.
(2) من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت:(8/309)
(حديث أبي أمامة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت.
(3) آية الكرسي حرزٌ من الشيطان:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: وكلني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة). قال: قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة، وعيالا فرحمته فخليت سبيله، قال: (أما إنه قد كذبك، وسيعود). فعرفت أنه سيعود، لقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنه سيعود). فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يا أباهريرة ما فعل أسيرك). قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا، فرحمته فخليت سبيله، قال: (أما إنه كذبك، وسيعود). فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات تزعم لا تعود، ثم تعود، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}. حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما فعل أسيرك البارحة). قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: (ما هي). قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}. وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير - فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة). قال: لا، قال: (ذاك شيطان).
(فضلُ خواتيم سورة البقرة:
(حديث أبي مسعودٍ الأنصاري في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلةٍ كفتاه.(8/310)
معنى كفتاه: أي أغنتاه عن قيام تلك الليلة بالقرآن، والآيتان هما من قوله تعالى (آمن الرسول بما أنزل إليه 00000 إلى آخر السورة)
[*] قال النووي رحمه الله:
قيل: معنا كفتاه من قيام الليل، وقيل من الشيطان، وقيل من الآفات ويحتمل الجميع0
(حديث حذيفة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أُعطيتُ الآيات من آخر سورة البقرة من كنزٍ تحت العرش لم يعطها نبيٌ قبلي.
(حديث بن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) قال بينما جبريل قاعد عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ * سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه فقال هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته.
نقيضا: أي صوتاً
(فضلُ سورتي البقرة وآل عمران:
(حديث أبي أمامة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه اقرءوا الزهراوين: البقرة و آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أصحابهما اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة و تركها حسرة و لا تستطيعها البطلة.
اقرءوا الزهراوين: أي النيرتين
قال النووي رحمه الله تعالى في شرح صحيح مسلم:
"و سميتا الزهراوين لنورهما و هدايتهما و عظيم أجرهما"
«كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان»: قال أهل اللغة: الغمامة والغياية كل شيء أظل الإنسان من فوق رأسه من سحابة وغبرة وغيرهما. نقله النووي. وفي القاموس: الغمامة: السحابة أو البيضاء من السحب. والغياية كل ما أظل الإنسان من فوق رأسه كالسحاب ونحوه. والمراد أن ثوابهما يأتي بهذا المنظر.
«أو كأنهما فرقان من طير صواف»: الفرقان والحزقان: معناهما واحد، وهما قطيعان وجماعتان، يقال في الواحد: فرق وحزق وحزيقه، أي جماعة، ومعنى «صواف»: باسطة أجنحتها ملتصق بعضها ببعض كما كانت تظلل سليمان عليه السلام، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تحاجان عن أصحابهما» أي تدافعان بالحجة عن أصحابهما.
«فإن أخذها بركة وتركها حسرة»: أي قراءتها بركة وترك قراءتها حسرة وخسارة.
أخذها بركة: أي زيادةٌ ونماء
وتركها حسرة: أي على ما فاته من الثواب
ولا تستطيعها البطلة:(8/311)
«ولا تستطيعها البطلة» أي السحرة، تسمية لهم باسم فعلهم، لأن ما يأتون به الباطل، وإنما لم يقدروا على قراءتها ولم يستطيعوها لزيغهم عن الحق وانهماكهم في الباطل، ويصح أن يكون المعنى ولا يستطيع دفعها واختراق تحصينها لقارئها السحرة.
وقيل: المراد من البطلة أهل البطالة، أي لا يستطيعون قراءتها وتدبر معانيها لكسلهم.
(ومن فضلُ سورتي البقرة وآل عمران أن فيهما اسم الله الأعظم:
(حديث أبي أمامة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (اسم الله الأعظم في ثلاث سور من القرآن البقرة وآل عمران وطه). قال القاسم فالتمستها فإذا هي آية الحي القيوم.
(فضلُ سورة هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون:
(حديث ابن عباس في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: شيبتني هود و الواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت ... .
{شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون والتكوير}: لما فيها من ذكر الأمم وما حل بهم من عاجل بأس الله، فأهل اليقين إذا تلوها انكشفت لهم من ملكه وسلطانه وبطشه وقهره ما تذهل منه النفوس وتشيب منه الرؤوس.
{تنبيه}: ( ... سورة هود احتوت على آية الأمر بالاستقامة قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سورة هود: 112] وهي حمل ثقيل بالأمر بالاستقامة كما أمر الله تعالى وهو أمر ليس خاصا به بل لمن اتبعه بقوله تعالى: {وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا}.
وأما سور المرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت فكلها وصف لشدائد يوم القيامة: يوما يجعل الولدان شيبا. وتنذر الناس إنذارا شديدا. ففي سورة المرسلات تكرار للويل للمكذبين عدة مرات وفي عمَّ يتساءلون وصف للقيامة بالنبأ العظيم وفي التكوير وصف للحوادث الكونية الرهيبة يوم القيامة وفي الواقعة كذلك فهي الخافضة الرافعة ووصف أحوال أصحاب أهل اليمين وأصحاب الشمال وأحوال السابقين السابقين اولئك المقربين.
(فضلُ سورة الكهف:
(1) من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال:
(حديث أبي الدر داء في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال.
(2) من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه و بين البيت العتيق:(8/312)
(حديث أبي سعيد في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين.
(حديث أبي سعيد في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه و بين البيت العتيق.
(3) تنزل السكينة بقراءتها كسائر القرآن:
(حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: كان رجلٌ يقرأ سورة الكهف، وإلى جانبه حصان مربوط بشطنين، فتغشته سحابة، فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر ذلك له، فقال: تلك السكينة تنزلت بالقرآن.
{تنبيه}: ( ... وقصص سورة الكهف أربعة هي: أهل الكهف، صاحب الجنتين، موسى عليه السلام والخضر وذو القرنين.
وهذه القصص الأربعة يربطها محور واحد وهو أنها تجمع الفتن الأربعة في الحياة:
فتنة الدين: (قصة أهل الكهف)،
فتنة المال: (صاحب الجنتين)،
فتنة العلم: (موسى عليه السلام والخضر)
وفتنة السلطة: (ذو القرنين).
وهذه الفتن شديدة على الناس والمحرك الرئيسي لها هو الشيطان الذي يزيّن هذه الفتن ولذا جاءت الآية (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) [الكهف: 50] وفي وسط السورة أيضاً. ولهذا قال الرسول أنه من قرأها عصمه الله تعالى من فتنة المسيح الدجّال لأنه سيأتي بهذه الفتن الأربعة ليفتن الناس بها.
وقصص سورة الكهف كل تتحدث عن إحدى هذه الفتن ثم يأتي بعده تعقيب بالعصمة من الفتن: وهاك القصص الأربعة
(1) فتنة الدين:(8/313)
قصة الفتية الذين هربوا بدينهم من الملك الظالم فآووا إلى الكهف حيث حدثت لهم معجزة إبقائهم فيه ثلاث مئة سنة وازدادوا تسعا وكانت القرية قد أصبحت كلها على التوحيد. ثم تأتي آيات تشير إلى كيفية العصمة من هذه الفتنة (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا * وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا) [الكهف 28 – 29].
فالعصمة من فتنة الدين تكون بالصحبة الصالحة وتذكر الآخرة.
(2) فتنة المال:
قصة صاحب الجنتين الذي آتاه الله كل شيء فكفر بأنعم الله وأنكر البعث فأهلك الله تعالى الجنتين. ثم تأتي العصمة من هذه الفتنة (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) [الكهف 45 و46]. والعصمة من فتنة المال تكون في فهم حقيقة الدنيا وتذكر الآخرة.
(3) فتنة العلم:
قصة موسى عليه السلام مع الخضر وكان موسى ظنّ أنه أعلم أهل الأرض فأوحى له الله تعالى بأن هناك من هو أعلم منه فذهب للقائه والتعلم منه فلم يصبر على ما فعله الخضر لأنه لم يفهم الحكمة في أفعاله وإنما أخذ بظاهرها فقط. وتأتي آية العصمة من هذه الفتنة (قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا) [الكهف:69].
والعصمة من فتنة العلم هي التواضع وعدم الغرور بالعلم.
(4) فتنة السلطة:(8/314)
قصة ذو القرنين الذي كان ملكاً عادلاً يمتلك العلم وينتقل من مشرق الأرض إلى مغربها عين الناس ويدعو إلى الله وينشر الخير حتى وصل لقوم خائفين من هجوم يأجوج ومأجوج فأعانهم على بناء سد لمنعهم عنهم وما زال السدّ قائماً إلى يومنا هذا. وتأتي آية العصمة (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف 103 و104]
فالعصمة من فتنة السلطة هي الإخلاص لله في الإعمال وتذكر الآخرة.
(5) ختام السورة: العصمة من الفتن:
آخر آية من سورة الكهف تركّز على العصمة الكاملة من الفتن بتذكر اليوم الآخرة (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف:110]
فعلينا أن نعمل عملاً صالحاً صحيحاً ومخلصاً لله حتى يَقبل، والنجاة من الفتن إنتظار لقاء الله تعالى.
ومما يلاحظ في سورة الكهف ما يلي:
(1) الحركة في السورة كثيرة (فانطلقا، فآووا، قاموا فقالوا، فابعثوا، ابنوا، بلغا، جاوزا، فوجدا، آتنا،) وكأن المعنى أن المطلوب من الناس الحركة في الأرض لأنها تعصم من الفتن ولهذا قال ذو القرنين: (فأعينوني بقوة) أي دعاهم للتحرك ومساعدته ولهذا فضل قراءتها في يوم الجمعة الذي هو يوم إجازة للمسلمين حتى تعصمنا من فتن الدنيا.
(2) وهي السورة التي ابتدأت بالقرآن وختمت بالقرآن: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا) [الكهف: 1] و (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) [الكهف: 109]. وكأن حكمة الله تعالى في هذا القرآن لا تنتهي وكأن العصمة من الفتن تكون بهذا القرآن والتمسك به.
(3) الدعوة إلى الله موجودة بكل مستوياتها:
فتية يدعون الملك وصاحب يدعو صاحبه ومعلّم يدعو تلميذه وحاكم يدعو رعيته.
(4) ذكر الغيبيات كثيرة في السورة:(8/315)
في كل القصص: عدد الفتية غيب وكم لبثوا غيب وكيف بقوا في الكهف غيب والفجوة في الكهف غيب، وقصة الخضر مع موسى عليه السلام كلها غيب، وذو القرنين غيب. وفي هذا دلالة على أن في الكون أشياء لا ندركها بالعين المجردة ولا نفهمها ولكن الله تعالى يدبّر بقدرته في الكون وعلينا أن نؤمن بها حتى لو لم نراها أو نفهمها وإنما نسلّم بغيب الله تعالى.
(وسميت السورة بـ (سورة الكهف): الكهف في قصة الفتية كان فيه نجاتهم مع إن ظاهره يوحي بالخوف والظلمة والرعب لكنه لم يكن كذلك إنما كان العكس (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا) آية 16. فالكهف في السورة ما هو إلا تعبير أن العصمة من الفتن أحياناً تكون باللجوء إلى الله حتى لو أن ظاهر الأمر مخيف. وهو رمز الدعوة إلى الله فهو كهف الدعوة وكهف التسليم لله ولذا سميت السورة (الكهف) وهي العصمة من الفتن.
(فضل سورة الفتح:
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال * لما نزلت! < إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله >! إلى قوله! < فوزا عظيما >! قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعا.
(فضلُ سورتي السجدة والملك:
(حديث جابر في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا ينام حتى يقرأ ألم تنزيل السجدة وتبارك الذي بيده الملك.
(حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لصاحبها حتى غُفر له: تبارك الذي بيده الملك.
(حديث ابن مسعود في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سورة تبارك هي المانعة من عذاب القبر.
(فضل المسبِّحات:
((حديث العِرْبَاضِ بن سَارِيَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لا يَنَامُ حتَّى يَقْرَأَ المسبِّحَاتِ, ويقُولُ: فيها آيةٌ خيرٌ مِنْ ألْفِ آيَةِ.
والمسبِّحاتِ: هي السور التي تُفتتح بقولَ تعالى بـ {سَبَّح َ} أو
{يُسَبِّح} وهى: [حديد, والحشر, والصف, والجمعة, والتغابن, والأعلى]
(فضل سورة التكوير والإنفطار والانشقاق:(8/316)
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:" من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأى عين فليقرأ إذا الشمس كورت وإذا السماء انفطرت وإذا السماء انشقت " 0
(فضل سورة الكوثر:
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أنزلت علي آنفآ سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم (إنآ أعطينك الكوثر * فصل لربك وأنحر * إن شانئك هو الابترُ)
أتدرون ما الكوثر؟ إنه نهر وعده ليه ربي، عليه خير كثير، هو حوضي ترد غليه أمتي يوم القيامة، آنيته كعدد النجوم، فيختلج العبد منهم فأقول: رب إنه من أمتي فيقول: ما تدري ما أحدثوا بعدك.
(فضلُ سورة الكافرون:
(حديث ابن عباس في صحيح الترمذي) {إذا زلزلت} تعدل نصف القرآن و {قل يا أيها الكافرون} تعدل ربع القرآن و {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن.
[*] قال الشيخ الألباني: صحيح دون فضل زلزلت
(حديث فروة بن نوفل في صحيح الترمذي) أن أتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال يا رسول الله علمني شيئاً أقوله إذا أويتُ إلى فراشي فقال: اقرأ {قل يا أيها الكافرون} عند منامك فإنها براءة من الشرك.
(فضل المعوذتين:
(حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: آيات أنزلت علي الليلة لم ير مثلهن قط قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس.
(فضلُ المُعَوِّذات:
(حديث عبد الله بن خبيب في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: {قل هو الله أحد} و المعوذتين حين تمسي و حين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء.
(فضلُ سورة الإخلاص:
(حديث أبي سعيدٍ الخدري في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن.
(حديث معاذ بن أنس الجهني في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قرأ {قل هو الله أحد} عشر مرات بنى الله له بيتا في الجنة.(8/317)
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: كان رجل من الانصار يؤمهم في مسجد قباء، وكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به، افتتح: {قل هو الله أحد}. حتى يفرغ منه، ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة، فكلمه أصحابه فقالوا: إنك تفتتح بهذه السورة، ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بأخرى، فأما أن تقرأ بها وأما أن تدعها وتقرأ بأخرى، فقال: ما أنا بتاركها، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت، وإن كرهتم تركتكم، وكانوا يرون أنه من أفضلهم وكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبروه الخبر، فقال: يا فلان ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك، وما يحملك على لزوم هذة السورة في كل ركعة؟. فقال: إني أحبها، فقال: حبك إياها أدخلك الجنة.
(ثالثاً الاستغفار:
(معنى الاستغفار:
الاستغفار هو طلب المغفرة من العزيز الغفار وطلب الإقالة من العثرات من غافر الذنب وقابل التوب، والمغفرة هي وقاية شر الذنوب مع سترها،
أي أن الله عز وجل يستر على العبد فلا يفضحه في الدنيا ويستر عليه في الآخرة فلا يفضحه في عرصاتها ويمحو عنه عقوبة ذنوبه بفضله ورحمته.
[*] قال ابن الأثير:
في أسماء الله تعالى الغَفّار والغَفور، وهما من أبنية المبالغة، ومعناهما الساتر لذنوب عباده وعُيوبهم المُتجاوِز عن خطاياهم وذنوبهم. وأصل الغَفْر التغطية. يقال: غفر الله لك غفراً وغفراناً ومغفرة. والمغفرة إلباس الله تعالى العفو للمُذنبين.
قال ذو النون المصري: الاستغفار جامع لِمَعانٍ:
أولهما: الندم على ما مضى
الثاني: العزم على الترك
والثالث: أداء ما ضيعت من فرض الله
الرابع: رد المظالم في الأموال والأعراض والمصالحة عليها
الخامس: إذابة كل لحم ودم نبت على الحرام
السادس: إذاقة ألم الطاعة كما وجدت حلاوة المعصية.
(الفرق بين الاستغفار والتوبة:
ماهو الفرق بين الاستغفار والتوبة؟
الاستغفار: هو طلب المغفرة من العزيز الغفار وطلب الإقالة من العثرات من غافر الذنب وقابل التوب، والمغفرة هي وقاية شر الذنوب مع سترها،
أي أن الله عز وجل يستر على العبد فلا يفضحه في الدنيا ويستر عليه في الآخرة فلا يفضحه في عرصاتها ويمحو عنه عقوبة ذنوبه بفضله ورحمته.
والتوبة: هي الرجوع إلى الله تعالى والإنابة إليه.
والاستغفار من أعظم الأذكار التي ينبغي للعبد أن يكثر منها،(8/318)
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) قال: إن كنا لنعد لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المجلس الواحد مائة مرة رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم.
(والاستغفار يكون توبة إذا جمع معاني التوبة وشروطها، وهي الإقلاع عن الذنب إن كان متلبسا به وعقد العزم على أن لا يعود إليه فيما بقي من عمره، والندم على ما فات، وبذلك تتداخل التوبة والاستغفار فيكون الاستغفار توبة والتوبة طلب مغفرة.
مسألة: هل التسبيح أفضل أم الاستغفار؟
[*] قال ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى في الوابل الصيب: وقلت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يوماً سئل بعض أهل العلم: أيما أنفع للعبد التسبيح أو الاستغفار؟
فقال: إذا كان الثوب نقياً فالبخور وماء الورد أنفع له وإن كان دنساً فالصابون والماء الحار أنفع له، فقال لي رحمه الله تعالى: فكيف والثياب لا تزال دنسة؟ أهـ
(فضل الاستغفار:
ينبغي على طالب العلم أن يلزم الاستغفار وأن يتمسك به وأن يعض عليه بالنواجذ وأن يغرف منه غرفاً لأنه دواء الذنوب فطوبى لمن وُجِد في صحيفته استغفارٌ كثير، وللاستغفار فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم وهاك بعض فضائله:
(1) أنه طاعة لله عز وجل وامتثال أمر الله تعالى، والله تعالى تارة يؤمر به كقوله تعالى (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المزمل/20)
وقال تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [سورة النصر: 3]
وتارة يذكر الله عز وجل أنه يغفر لمن استغفره كقوله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً) (النساء/110)
قال تعالى {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة آل عمران: 135]
وتارة يمدح أهله كقوله تعالى: (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ) (آل عمران/17)،
ولقد أمر الله تعالى رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو أتقى الخلق بإخلاص الدين وإدامة الاستغفار، فقال عز وجل: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ اله إِلاَ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19].
والاستغفار جاء على ألسنة أنبياء الله ورسله:(8/319)
فعلى لسان نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوه ُ) [فصلت: 6]
وقال على لسان نبيّه هود عليه الصلاة والسلام: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ) [هود:52]
وجاء على لسان صالح عليه الصلاة والسلام: (يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ) [هود:61]
وعلى لسان شعيب عليه الصلاة والسلام (وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) [هود:90]
(2) التأسي بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
فلقد كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ملازماً للاستغفار آناء الليل وأطراف النهار:
(حديث الأغرِّ المُزني في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يا أيها الناس! توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة.
[*] قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: والمراد هنا ما يتغشى القلب. قال القاضى: قيل المراد الفترات والغفلات عن الذكر الذي كان شأنه الدوام عليه فإذا فَتَرَ عنه أو غفل عدّ ذلك ذنبا واستغفر منه.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة.
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي.
(حديث أبي بكر الصديق الثابت في الصحيحين) أنه قال لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كبيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم.
(حديث عليٍّ الثابت في صحيح مسلم) قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام إلى الصلاة يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت.
(حديث عبد الله بن بُسر في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال طوبى لمن وُجد في صحيفته استغفارا كثيرا.(8/320)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وَلَجَاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا فرغ من صلاته بادر إلى الاستغفار،
(حديث ثوبان الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا ثم قال: اللهم أنت السلام و منك السلام تباركت يا ذا الجلال و الإكرام.
وحجاج بيت الله الحرام مأمورون بالاستغفار بعد الإفاضة من عرفة والمشعر الحرام، ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة:199].
[*] وروى مكحول عن أبي هريرة قال: ما رأيت أكثر استغفاراً من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[*] وقال مكحول: ما رأيت أكثر استغفارا من أبي هريرة. وكان مكحول كثير الاستغفار.
(3) الاستغفار سبب لغفران الذنوب:
قال تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا) [سورة: نوح: 10]
(حديث أبي سعيد في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن إبليس لعنه الله قال وعزتك وجلالك لا أبرح أُغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم، فقال الله عز وجل: وعزتي وجلالي لا ابرح أغفر لهم ما استغفروني.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وَلَجَاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم.
(حديث أنس في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى: يا ابنَ آدَمَ إِنّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى ما كانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِي. يا ابنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَت ذُنُوبُكَ عَنَانَ السّمَاءِ ثُمّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِي. يا ابنَ آدَمَ إنّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرْضِ خَطَايَا ثُمّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بي شَيْئاً لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً».
(معنى عنان السماء: قيل هو السحاب وقيل هو ما عَنَّ لك منها أي ما ظهر لك منها.
وقد ورد في حديث أنس أهم الأسباب التي يغفر الله عز وجل بها الذنوب وهي:
أحدها: الدعاء مع الرجاء:(8/321)
يا ابنَ آدَمَ إِنّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى ما كانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِي، فإن الدعاء مأمور به موعود عليه بالإجابة، كما قال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)
[غافر/60]
فالدعاء سبب مقتض للإجابة مع استكمال شرائطه وانتفاء موانعه،
وقد تتخلف الإجابة لانتفاء بعض شروطه أو وجود بعض موانعه،
ومن أعظم شرائطه حضور القلب ورجاء الإجابة من الله تعالى،
فمن أعظم أسباب المغفرة أن العبد إذا أذنب ذنبًا لم يرج مغفرة من غير ربه،
ويعلم أنه لا يغفر الذنوب ويأخذ بها غيره فقوله: " إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي " يعني على كثرة ذنوبك وخطاياك،
ولا يتعاظمني ذلك ولا أستكثره.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إذا دعا أحدكم فليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه.
فذنوب العباد وإن عظمت فإن عفو الله ومغفرته أعظم منها،
[*] كما قال الإمام الشافعي عند موته:
وَلمّا قَسَا قَلْبِي وَضَاقَت مَذَاهِبِي ... جَعَلْتُ الرَّجَا مِنِّي لِعَفْوكَ سُلَّمًا
تَعَاظَمَنِي ذَنْبِي فَلَمَّا قَرَنْتُهُ ... بِعَفْوِكَ رَبِّي كَانَ عَفْوُكَ أَعظَمَ
الثاني الاستغفار: فلو عظمت الذنوب وبلغت الكثرة عنان السماء ـ وهو السحاب،
وقيل: ما انتهى إليه البصر منها ـ ثم استغفر العبد ربه عز وجل، فإن الله يغفرها له.
روي عن لقمان أنه قال لابنه: يا بني عود لسانك اللهم اغفر لي فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلاً.
وقال الحسن: أكثروا من الاستغفار في بيوتكم وعلى موائدكم وفي طرقكم وفي أسواقكم وفي مجالسكم وأينما كنتم، فإنكم ما تدرون متي تنزل المغفرة.
الثالث التوحيد: وهو السبب الأعظم ومن فقده حُرِمَ المغفرة،
ومن أتى به فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة.
قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء/166) [*] قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في معنى قوله: " يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة"
يُعْفَى لأهل التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشرك ما لا يعفى لمن ليس كذلك،(8/322)
فلو لقى الموحد الذي لم يشرك بالله ألبتة ربه بقراب الأرض خطايا أتاه بقرابها مغفرة، ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده، فإن التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب؛ لأنه يتضمن من محبة الله وإجلاله وتعظيمه وخوفه ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب، ولو كانت قراب الأرض، فالنجاسة عارضةٌ، والدافع لها قوي، ومعنى " قُراب الأرض " ملؤها أو ما يقارب ذلك، ولكن هذا مع مشيئة الله عز وجل، فإن شاء غفر بفضله ورحمته، وإن شاء عذب بعدله وحكمته، وهو المحمود على كل حال.
قال بعضهم: الموحد لا يلقى في النار كما يلقى الكفار، ولا يبقى فيها كما يبقى الكفار،
فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله فيه وقام بشروطه كلها بقلبه ولسانه وجوارحه أو بقلبه ولسانه عند الموت أوجب ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلها ومنعه من دخول النار بالكلية، فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه أخرجت منه كل ما سوى الله محبة وتعظيمًا وإجلالاً ومهابة وخشية ورجاء وتوكلاً، وحينئذٍ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها ولو كانت مثل زبد البحر، وربما قلبتها حسنات،
فإن هذا التوحيد هو الإكسير الأعظم، فلو وضعت ذرة منه على جبال الذنوب والخطايا لقلبتها حسنات،
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: كما أن الله عز وجل لا يقبل طاعات المشركين فنرجو أن يغفر الله عز وجل ذنوب الموحدين أو معناه.
(4) الاستغفار سبب لنزول سبب لنزول الأمطار:
قال تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا)
[سورة: نوح:10،11]
(5) الإمداد بالأموال والبنين:
قال تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) [سورة: نوح:12:10]
(6) دخول الجنات:
قال تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) [سورة: نوح:12:10](8/323)
[*] جاء ثلاثة إلى الحسين بن علي رضي الله تعالى عنه واشتكى الأول قلة المطر فقال له أكثر من الاستغفار، واشتكى الثاني العقم فقال له أكثر من الاستغفار، واشتكى الثالث جدب الأرض وقلة النبات فقال له أكثر من الاستغفار. فقال له أحد جلسائه: يا ابن رسول الله كلُ الثلاثةِ مختلف الشكاية وأنت وحدت الجواب بينهم فقال رضي الله تعالى عنه أما قرأتم قول الله تعالى (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبّكُمْ إِنّهُ كَانَ غَفّاراً، يُرْسِلِ السّمَآءَ عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لّكُمْ جَنّاتٍ وَيَجْعَل لّكُمْ أَنْهَاراً) [سورة: نوح:12:10] أهـ
(7) زيادة القوة بكل معانيها:
قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ} [سورة هود: 52]
(8) الاستغفار من أسباب تنزل الرحمات الإلهية قال تعالى: لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46]
(9) دفع البلاء:
قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33].
(10) والمستغفرون يمتعهم ربهم متاعاً حسناً، فيهنئون بحياة طيبة، ويسبغ عليهم سبحانه مزيداً من فضله وإنعامه: وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود:3].
(11) وبالاستغفار تُختتم العبادات ليُقِرَ العبدُ بتقصيرهِ فيُغفرُ له ذنبه قال تعالى: في الحج: (ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [البقرة:199]
(12) وأثنى الله على المستغفرين بأوقات السحر فقال: (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ)
[آل عمران:17]
(13) الاستغفار سبب لإيتاء كل ذي فضل فضله:
قال تعالى على لسان نبيّه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) [هود:3]
(14) وبالاستغفار يُودّع الميت:(8/324)
(حديث عثمان بن عفان الثابت في صحيح أبي داود) قال * كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل.
(15) وبالاستغفار تتحاتّ الخطايا والذنوب:
(حديث زيد بن حارثة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له وإن كان قد فر من الزحف.
[*] (الآثار الواردة في فضل الاستغفار:
[*] قال عليٌّ رضي الله تعالى عنه: ما ألهم الله سبحانه عبداً الاستغفار وهو يريد أن يعذبه
[*] وقال قتادة رحمه الله تعالى: إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم فأما داؤكم فالذنوب وأما دواؤكم فالاستغفار.
[*] قال بكر عبد الله المزني: أنتم تكثرون من الذنوب فاستكثروا من الاستغفار، فإن الرجل إذا وجد في صحيفته بين كل سطرين استغفار سرّه مكان ذلك.
[*] قال سفيان الثوري لجعفر بن محمد بن علي بن الحسين:
لا أقوم حتى تحدثني. قال له جعفر: أنا أحدثك، وما كثرة الحديث لك بخير. يا سفيان إذا أنعم الله عليك بنعمة فأحببت بقائها ودوامها فأكثر من الحمد والشكر عليها، فإن الله عز وجل قال في كتابه: (لئن شكرتم لأزيدنكم) وإذا استبطأت الرزق فأكثر من الاستغفار، فإن الله تعالى قال في كتابه: (استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا) يا سفيان إذا حَزَبَك أمرٌ من سلطان أو غيره فأكثر من: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنها مفتاح الفرج، وكنز من كنوز الجنة. فعقد سفيان بيده وقال ثلاث ونصف ثلاث. قال جعفر: عقلها والله أبو عبد الله، ولينفعنه الله بها.
[*] وفي وصية علي بن الحسن المسلمي: وأكثر ذكر الموت، وأكثر الاستغفار مما قد سلف من ذنوبك، وسل الله السلامة لما بقي من عمرك.
طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً. كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(8/325)
[*] كان الإمام أحمد بن حنبل يريد أن يقضي ليلته في المسجد ولكن مُنع من المبيت في المسجد بواسطة حارس المسجد، حاول معه الإمام ولكن لا جدوى، فقال له الإمام سأنام موضع قدمي، وبالفعل نام الإمام أحمد بن حنبل مكان موضع قدميه فقام حارس المسجد بجرّه لإبعاده من مكان المسجد، وكان الإمام أحمد بن حنبل شيخ وقور تبدو عليه ملامح الكبر، فرآه خباز فلما رآه يُجرّ بهذه الهيئة عرض عليه المبيت، وذهب الإمام أحمد بن حنبل مع الخباز، فأكرمه ونعّمه، وذهب الخباز لتحضير عجينه لعمل الخبز، المهم أن الإمام أحمد بن حنبل سمع الخباز يستغفر ويستغفر، ومضى وقت طويل وهو على هذه الحال فتعجب الإمام أحمد بن حنبل، فلما أصبح سأل الإمام أحمد الخباز عن استغفاره في الليل:
فأجابه الخباز: أنه طوال ما يحضر عجينه ويعجن فهو يستغفر
فسأله الإمام أحمد: وهل وجدت لاستغفارك ثمره؟
والإمام أحمد سأل الخباز هذا السؤال وهو يعلم ثمرات الاستغفار و يعلم فضل الاستغفار وفوائده.
فقال الخباز: نعم، والله ما دعوت دعوة إلا أُجيبت، إلا دعوة واحدة!
فقال الإمام أحمد: وما هي؟
فقال الخباز: رؤية الإمام أحمد بن حنبل!
فقال الإمام أحمد: أنا أحمد بن حنبل والله إني جُررت إليك جراً!!
(فهذه بعض فضائل الاستغفار ومنافعه جلاّها لنا ربنا في كتابه، وأفصح عنها رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما صح من خبره، تَحْمِلُ أهل الإيمان وأرباب التقوى على البدار بالتوبة وكثرة الاستغفار، غير أن هذه المنح الإلهية والفضائل الربانية إنما تحصل للمستغفرين الله تعالى حقاً وصدقاً، إذ الاستغفار ليس بأقوال ترددها الألسن، وعبارات تكرر بين الحين والآخر فحسب، وإنما الاستغفار الحق ما تواطأ عليه القلب واللسان، وندم صاحبه على ما بدر منه من ذنوب وآثام، وعزم ألا يعود على اقتراف شيء من ذلك، إذ هذه أركان التوبة النصوح التي أمر الله تعالى بها العباد، ووعد عليها تكفير الخطيئات والفوز بنعيم الجنات، فقال عز شأنه: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [التحريم:8]،
[*] قال الإمام القرطبي -رحمه الله-:(8/326)
"قال علماؤنا: الاستغفار المطلوب هو الذي يحل عقد الإصرار، ويثبت معناه في الجنان، وليس التلفظ بمجرد اللسان، فمن استغفر بلسانه، وقلبه مصرّ على معصيته، فاستغفراه يحتاج إلى استغفار"، وقال بعض العلماء: "من لم يكن ثمرةُ استغفاره تصحيحُ توبته فهو كاذب، والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه".
[*] وروي عن الحسن البصري أنه قال: استغفارنا يحتاج إلى استغفار.
(وإن من نفاذ البصيرة، وصدق الإيمان كثرة التوبة والاستغفار على الدوام، فذلك هدي رسول الهدى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع أن الله تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يقول أبو هريرة -رضي الله عنه-: (ما رأيت أكثر استغفاراً من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -).
(وهكذا شأن أرباب العزائم وأهل الإيمان الخلّص، يلجئون إلى الله على الدوام، ويكثرون التوبة والاستغفار، صادقين مخلصين غير يائسين ولا مصرين، قد ملأت خشية الله قلوبهم، ورسخت في مقام الإحسان أقدامهم، فهم بين مراقبة ربهم وشهود أعمالهم الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ [آل عمران:16، 17] , أولئك هم العارفون المتقون، يؤدون الفرائض، ويكثرون من الطاعات والنوافل، ثم يسارعون إلى الاستغفار خشية التقصير أو الإخلال فيما قدموا من صالح الأعمال، كَانُواْ قَلِيلاً مّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17،18].
(فضل الاستغفار لعامة المؤمنين:
(حديث عبادة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمنٍ حسنة.
(أهمية الاستغفار في حق النساء:
الاستغفار في حق النساء مهم جداً لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما جاء النساء، قال(8/327)
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار فقالت امرأة منهن جزلة ومالنا يا رسول الله أكثر أهل النار قال تكثرن اللعن وتكفرن العشير وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن قالت يا رسول الله وما نقصان العقل والدين قال أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل فهذا نقصان العقل وتمكث الليالي ما تصلي وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين.
(أفضل الاستغفار:
أفضل الاستغفار أن يبدأ بالثناء على ربه، ثم يثني بالاعتراف بذنبه، ثم يسأل ربه بعد ذلك المغفرة كما في حديث سيد الاستغفار:
(حديث شداد بن أوس في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سيدُ الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني و أنا عبدك و أنا على عهدك و وعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي و أبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت من قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة و من قالها من الليل و هو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة.
وقوله: " أبوء لك بنعمتك علي " أي أعترف لك،
و " أبوء بذنبي " أي أعترف وأقر بذنبي.
(ومن أفضل الاستغفار أن يقول العبد: " أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب.
(حديث زيد بن حارثة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له وإن كان قد فر من الزحف.
(رابعاً الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(فضل الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
إن الله تعالى بقدرته وسلطانه بعث نبينا محمد وخصّه وشرّفه بتبليغ الرسالة فكان رحمةً للعالمين وإماماً للمتقين وجعله هادياً للطريق القويم فلزم على العباد طاعته وتوقيره والقيام بحقوقه ومن حقوقه أن الله اختصه بالصلاة عليه وأمرنا بذلك في كتابه الحكيم وسنة نبيه الكريم حيث كتب مضاعفة الأجر لمن صلّى عليه فما أسعد من وفق لذلك.
(وعلى ذلك فينبغي على طالب العلم أن يلزم الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما لها من فضائل عظيمة ومزايا جسيمة منها ما يلي:
1) امتثال أمر الله تعالى حيث أمر بالصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في محكم التنزيل:(8/328)
قال تعالى: (إِنّ اللّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلّونَ عَلَى النّبِيّ يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ صَلّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً) [الأحزاب / 56]
2) حصول عشر صلوات من الله تعالى على المصلي على النبي إذا صلى على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرةً واحدة.
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله و أرجوا أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة ... .
(3) يُحَطُ عنه عشر خطيئات ويُرْفعُ له عشر درجات.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من صلى عليَّ صلاة واحدة، صلى اللَّه عليه عشر صلوات، وحُطت عنه عشر خطيئات، ورُفعت له عشر درجات.
3) أنها سببٌ لنيل شفاعة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من صلى عليَّ أو سأل ليَ الوسيلة حقت عليه شفا عتي يوم القيامة.
4) أنها سبب لكفاية العبد هم الدنيا وهم الآخرة.
(حديث أبي بن كعب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قال: قلت يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي فقال ما شئت قال قلت الربع قال ما شئت فإن زدت فهو خير لك قلت النصف قال ما شئت فإن زدت فهو خير لك قال قلت فالثلثين قال ما شئت فإن زدت فهو خير لك قلت أجعل لك صلاتي كلها قال إذا تُكْفَى هَمُك ويغفر لك ذنبك.
{تنبيه}: ( ... المقصود بالصلاة هنا الدعاء.
[*] قال المنذري: قوله: «فكم أجعل لك من صلاتي» معناه: إني أكثر الدعاء، فكم أجعل لك من دعائي صلاة عليك؟ [الترغيب والترهيب جـ2 ص389]
[*] وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي: قوله: «أجعل لك صلاتي كلها» أي أصرف بصلاتي عليك جميع الذي كنت أدعو به لنفسي. وقوله: «إذًا تُكفى همك» يعني إذا صرفت جميع أزمان دعائك في الصلاة عليَّ أُعطيت خَيْريْ الدنيا والآخرة [تحفة الأحوذي جـ7 ص129، 130]
(5) أنها سبب لغفران الذنوب:(8/329)
(حديث أبي بن كعب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قال: قلت يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي فقال ما شئت قال قلت الربع قال ما شئت فإن زدت فهو خير لك قلت النصف قال ما شئت فإن زدت فهو خير لك قال قلت فالثلثين قال ما شئت فإن زدت فهو خير لك قلت أجعل لك صلاتي كلها قال إذا تكفى همك ويغفر لك ذنبك.
6) أنها ترمي بصاحبها على طريق الجنة.
(حديث ابن عباس في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ك من نسيَ الصلاة عليَّ خطئ طريق الجنة.
{تنبيه}: (المقصود بالنسيان هنا هو الترك كقوله تعالى: (قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَىَ) (طه – 126)، وليس المقصود بالنسيان هنا الذهول لأن الإنسان لا يؤاخذ بالنسيان.
7) أنها تنفي عن العبد اسم (البخيل) إذا صلى عليه عند ذكره:
(حديث علي في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: البخيلُ الذي من ذكرت عنده فلم يصلي عليّ.
8) أخبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن من لم يصلي عليه فقد خاب وخسر وألصقت أنفه بالتراب، وما ذلك إلا لفوات الأجر والفضل.
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي و رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له و رغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة.
9) أنه يرجى إجابة دعائه إذا قدمها بين يدي الدعاء:
(حديث عمر في صحيح الترمذي موقوفاً) قال: إن الدعاء موقوفٌ بين السماء والأرض حتى تصلي على نبيك - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(حديث فضالة بن عُبيد الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا يدعو في صلاته لم يمجد الله تعالى ولم يصل على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عجَّل هذا ثم دعاه فقال له أو لغيره إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله عز وجل وعز والثناء عليه ثم يصلي على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يدعو بعد بما شاء.
(حديث ابن مسعود الثابت في صحيح الترمذي) قال كنت أصلي و النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وعمر معه، فلما جلست بدأت بالثناء على الله ثم الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم دعوت لنفسي فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سل تُعطه سل تُعطه.(8/330)
(حديث عمر الثابت في صحيح الترمذي موقوفا) قال: إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(10) أنها سبب لقرب العبد منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم القيامة:
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة.
(11) أنها سبب لعرض اسم المصلي عليه وذكره عنده:
(حديث أوس بن أوس رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أكثرُوا علي من الصلاةِ يومَ الجمعةِ, فإنَّ صلاتَكم معروضةٌ عليَّ. قالوا كيف تعرض عليك وقد أرمت؟ قال إن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن لله تعالى ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام.
(وكفى بالعبد نبلاً أن يذكر اسمه بالخير بين يدي رسول الله.
(12) أنها سبب لرد النبي الصلاة والسلام على المصلي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما مِنْ أحَدٍ يُسلِّمُ عليَّ, إلا رَدَّ الله عليَّ رُوحي حتَّى أرُدّ عليهِ السَّلامَ.
(13) أنها سبب لطيب المجلس، وأن لا يعود حسرة على أهله يوم القيامة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما جلس قومٌ مجلسا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترةٌ فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم.
ترةٌ: حسرة وندامة
(معنى الصلاة والسلام على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيما) ً [الأحزاب:56]
[*] قال ابن كثير رحمه الله: المقصود من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى بأنه تصلي عليه الملائكة ثم أمر الله تعالى العالم السفلي بالصلاة والسلام عليه، ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعاً) أ. هـ.(8/331)
[*] قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في جلاء الأفهام: (والمعنى أنه إذا كان الله وملائكته يصلون على رسوله فصلوا عليه أنتم أيضاً صلوا عليه وسلموا تسليماً لما نالكم ببركة رسالته ويمن سفارته، من خير شرف الدنيا والآخرة) أ. هـ.
(وقال أيضاً: «معنى صلاة اللَّه على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: الثناء على الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والعناية به، وإظهار شرفه، وفضله وحرمته، وصلاتنا على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: تعني أننا نطلب من اللَّه الزيادة في ثنائه على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإظهار فضله وشرفه وتكريمه وتقريبه له [جلاء الأفهام ص261، 262]
وقد ذُكر في معنى الصلاة على النبي أقوال كثيرة، والصواب ما قاله أبو العالية:
[*] قال أبو العالية: «صلاة اللَّه ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء –أي: أنَّ الملائكة تطلب من اللَّه الزيادة من ثنائه على النبي. أهـ
[*] وقال ابن عباس: «يصلون: يَُبِّركون» -أي: يدعون له بالبركة- البخاري -كتاب التفسير- باب 10.
[*] قال الحليمي: «معنى الصلاة على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: تعظيمه، فمعنى قولنا: اللهم صلِّ على محمدٍ: عظِّم محمدًا.
[*] قال ابن حجر: «المراد تعظيمه في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دينه، وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بإجزال مثوبته وتشفيعه في أمته، وإبداء فضيلته بالمقام المحمود.
(وقال أيضًا: «معنى صلاة اللَّه على نبيه: ثناؤه عليه وتعظيمه، وصلاة الملائكة وغيرهم: طلب ذلك له من اللَّه -تعالى-، والمراد طلب الزيادة، لا طلب أصل الصلاة [فتح الباري جـ11 ص16].
(حُكم الصلاة على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله عشرة أقوال في المسألة؛ فمن العلماء من قال: إنها سنة بإطلاق، ومنهم من قال: إنها واجبة بإطلاق، ومنهم من قال: إنها واجبة في الصلاة وسنة في غيرها، وهي أقوال كثيرة، ولكن الراجح بالنسبة لحكم الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة -والله تعالى أعلم- أنها ركن من أركان الصلاة، وهذا هو الراجح من مذهب الإمام أحمد رحمه الله؛ فهي كقراءة الفاتحة أو القيام أو الركوع وما أشبه ذلك.(8/332)
أما في غير الصلاة، فهي واجبة عند ذكره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يجوز أن تترك إلا إذا سها عنها الإنسان أو نسيها. أما مع التذكر فلا يجوز للإنسان أن يترك الصلاة عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولو تكرر ذكره في المجلس، وهذا جزء يسير من حقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أمته.
ومما يدل على وجوب الصلاة على النبي ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله عشرة أقوال في المسألة؛ فمن العلماء من قال: إنها سنة بإطلاق، ومنهم من قال: إنها واجبة بإطلاق، ومنهم من قال: إنها واجبة في الصلاة وسنة في غيرها، وهي أقوال كثيرة، ولكن الراجح بالنسبة لحكم الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة -والله تعالى أعلم- أنها ركن من أركان الصلاة، وهذا هو الراجح من مذهب الإمام أحمد رحمه الله؛ فهي كقراءة الفاتحة أو القيام أو الركوع وما أشبه ذلك.
أما في غير الصلاة، فهي واجبة عند ذكره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يجوز أن تترك إلا إذا سها عنها الإنسان أو نسيها. أما مع التذكر فلا يجوز للإنسان أن يترك الصلاة عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولو تكرر ذكره في المجلس، وهذا جزء يسير من حقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أمته.
(ومما يدل على وجوب الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خارج الصلاة الأدلة الآتية:
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي و رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له و رغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة.
رغم أنف: يعني لصق بالتراب ذلاً وهوانًا.
(حديث علي في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: البخيلُ الذي من ذكرت عنده فلم يصلي عليّ.
(حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أتاني جبريل فقال: يا محمد! من أدرك أحد والديه فمات فدخل النار فأبعده الله قل: آمين فقلت: آمين قال: يا محمد من أدرك شهر رمضان فمات فلم يغفر له فأدخل النار فأبعده الله قل: آمين فقلت: آمين قال: و من ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات فدخل النار فأبعده الله قل: آمين فقلت: آمين.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما جلس قومٌ مجلسا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترةٌ فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم.
ترةٌ: حسرة وندامة(8/333)
(حديث ابن عباس في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ك من نسيَ الصلاة عليَّ خطئ طريق الجنة.
(معنى التسليم على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
السلام: هو السلامة من النقائص والآفات فإن ضم السلام إلى الصلاة حصل بها المطلوب وزال به المرهوب فبالسلام يزول المرهوب وتنتفي النقائص وبالصلاة يحصل المطلوب وتثبت الكمالات - قاله الشيخ محمد بن عثيمين.
والسلام معناه طلب السلامة من الآفات، فهذه الصيغة فيها سؤال الله تعالى أن يحقق الخيرات لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالثناء عليه في الملأ الأعلى وإزالة الآفات والسلامة منها.
مسألة: لماذا خُصَّ المؤمنون بالسلام دون اللَّه والملائكة؟
الجواب: لأن السلام هو تسليم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مما يؤذيه، فلما جاءت هذه الآية عقيب ذِكْر ما يؤذي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيم} [الأحزاب:53]، والأذية إنما هي من البشر، فناسب التخصيص بهم والتأكيد، وإليه الإشارة بما ذكره بعده». [الفتوحات الإلهية للعجيلي جـ3 ص454.
[*] (المواطن التي يستحب فيها الصلاة والسلام على النبي ويرغب فيها:
(1) قبل الدعاء:
(حديث فضالة بن عُبيد الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا يدعو في صلاته لم يمجد الله تعالى ولم يصل على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عجَّل هذا ثم دعاه فقال له أو لغيره إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله عز وجل وعز والثناء عليه ثم يصلي على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يدعو بعد بما شاء.
(حديث ابن مسعود الثابت في صحيح الترمذي) قال كنت أصلي و النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وعمر معه، فلما جلست بدأت بالثناء على الله ثم الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم دعوت لنفسي فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سل تُعطه سل تُعطه.
(حديث عمر الثابت في صحيح الترمذي موقوفا) قال: إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(8/334)
[*] وقال ابن عطاء: للدعاء أركان وأجنحة وأسباب وأوقات. فإن وافق أركانه قوي، وإن وافق أجنحته طار في السماء، وإن وافق مواقيته فاز، وإن وافق أسبابه نجح.
فأركانه: حضور القلب والرقة والاستكانة والخشوع وتعلق القلب بالله وقطعهالأسباب، وأجنحته الصدق، ومواقيته الأسحار، وأسبابه الصلاة على النبي)
(2) بعد ترديد الأذان:
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله و أرجوا أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة.
(3) عند ذكره وسماع اسمه أو كتابته:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: رَغِمَ أنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلّ عَلَيّ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ. وَرَغِم أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الكِبَرَ فَلمْ يُدْخِلاَهُ الْجَنّةَ)
(3) الإكثار من الصلاة عليه يوم الجمعة:
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أكثروا الصلاة عليَّ يوم الجمعة وليلةَ الجمعة, فمنْ صلَّى عليَّ صلاة صلَّى الله عليه عشراً.
(حديث أوس بن أوس رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أكثرُوا علي من الصلاةِ يومَ الجمعةِ, فإنَّ صلاتَكم معروضةٌ عليَّ. قالوا كيف تعرض عليك وقد أرمت؟ قال إن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء.(8/335)
[*] قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في زاد المعاد: ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سيد الأنام ويوم الجمعة سيد الأيام فللصلاة عليه في هذا اليوم مزية ليست لغيره مع حكمة أخرى وهي أن كل خير نالته أمته في الدنيا والآخرة فإنما نالته على يده فجمع الله لأمته به بين خيري الدنيا والآخرة فأعظم كرامة تحصل لهم فإنما تحصل يوم الجمعة فإن فيه بعثهم إلى منازلهم وقصورهم في الجنة وهو يوم المزيد له إذا دخلوا الجنة وهو يوم عيد لهم في الدنيا ويوم فيه يسعفهم الله تعالى بطلباتهم وحوائجهم ولا يرد سائلهم وهذا كله إنما عرفوه وحصل لهم بسببه وعلى يده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمن شكره وحمده وأداء القليل من حقه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نكثر من الصلاة عليه في هذا اليوم وليلته. ا هـ. (1)
(5) الصلاة على النبي في الرسائل وما يكتب بعد البسملة:
قال القاضي عياض: (ومن مواطن الصلاة التي مضى عليها عمل الأمة ولم تنكرها: ولم يكن في الصدر الأول، وأحدث عند ولاية بني هاشم - الدولة العباسية - فمضى عمل الناس في أقطار الأرض. ومنهم من يختم به أيضاً الكتب)
(6) عند دخول المسجد وعند الخروج منه:
(حديث فاطمة بنت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) قالت كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دخل المسجد يقول بسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج قال بسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك.
(7) في الصباح والمساء:
(حديث أبي الدر داء في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من صلى عليَّ حين يصبح عشراً وحين يمسي عشراً أدركته شفاعتي يوم القيامة.
(8) بعد التشهد الأخير في الصلاة:
(حديث فضالة بن عُبيد الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا يدعو في صلاته لم يمجد الله تعالى ولم يصل على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عجَّل هذا ثم دعاه فقال له أو لغيره إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله عز وجل وعز والثناء عليه ثم يصلي على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يدعو بعد بما شاء.
__________
(1) زاد المعاد (1/ 283).(8/336)
(حديث ابن مسعود الثابت في صحيح الترمذي) قال كنت أصلي و النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وعمر معه، فلما جلست بدأت بالثناء على الله ثم الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم دعوت لنفسي فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سل تُعطه سل تُعطه.
(9) عند ختام المجلس:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما جلس قومٌ مجلسا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترةٌ فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم.
ترةٌ: حسرة وندامة
(صفة الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(حديث كعب بن عُجرة الثابت في الصحيحين) قال: قلت يا رسول الله كيف الصلاة عليكم أهل البيت فإن الله قد علمنا كيف نسلم عليكم؟ قال: قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم و على آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
(أبي حميد الساعدي الثابت في الصحيحين) قال: قالوا: يا رسول اللَّه، كيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزوجه وذريته كما باركت على إبراهيم، إنك حميد مجيد.
(التحذير من ترك الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمدًا:
عدَّ بعض العلماء ترك الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمدًا عند سماع ذكره من الكبائر:
[*] قال الإمام ابن حجر في كتاب الزواجر عن اقتراف الكبائر:
الكبيرة الستون ترك الصلاة على النبي عند سماع ذكره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أهـ
(إن من ترك الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع حرمانه من الخيرات الكثيرة، فإنه تصيبه أوصاف تذم فعله وتصفه بصفات لا يتمناها المسلم لنفسه، منها ما يلي:
(1) الدعاء عليه برغم الأنف:
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي و رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له و رغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة.
رغم أنف: يعني لصق بالتراب ذلاً وهوانًا.(8/337)
{تنبيه}: ( ... إن المسلم حين يعلم أن الحديث جمع بين العاق لوالديه عند الكبر، وبين من أدرك رمضان فلم يغفر له، وبين من ذكر عنده النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فلم يصل عليه، يدرك مدى العقوبة التي تنتظر هذا الذي لا يصلي على النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إذا ذكر اسمه.
(2) وصفه بالبخل:
(حديث علي في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: البخيلُ الذي من ذكرت عنده فلم يصلي عليّ.
(3) وصفه بالبعد:
(حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أتاني جبريل فقال: يا محمد! من أدرك أحد والديه فمات فدخل النار فأبعده الله قل: آمين فقلت: آمين قال: يا محمد من أدرك شهر رمضان فمات فلم يغفر له فأدخل النار فأبعده الله قل: آمين فقلت: آمين قال: و من ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات فدخل النار فأبعده الله قل: آمين فقلت: آمين.
(4) يخطئ طريق الجنة:
(حديث ابن عباس في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ك من نسيَ الصلاة عليَّ خطئ طريق الجنة.
(5) أن من جلس في مجلس فلم يذكروا الله ولم يصلوا على رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كان هذا المجلس عليهم حسرة يوم القيامة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما جلس قومٌ مجلسا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترةٌ فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم.
ترةٌ: حسرة وندامة
مسألة: ما هو حكم كتابة اسم الرسول الكريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدون الصلاة أو السلام عليه؟
هذا من الجفاء والتقصير في حق النبي المصطفى والرسول المجتبى عليه الصلاة والسلام.
بل كره العلماء إفراد السلام عليه دون الصلاة، بأن يقول: "عليه السلام".
كما كرهوا كتابة الصلاة عليه مختصرة كـ: (ص) أو (صلعم) ونحوها.
[*] قال السيوطي رحمه الله تعالى: وينبغي أن يحافظ على كتابة الصلاة والتسليم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يسأم من تكراره، ومن أغفله حُرم حظاً عظيماً. أ. هـ.
[*] وقال السخاوي رحمه الله تعالى: قال حمزة الكناني: كنت أكتب الحديث فكنت أكتب عند ذكر النبي ولا أكتب وسلم، فرأيت النبي في المنام فقال: "مالك لا تتم الصلاة عليّ؟ " فما كتبت بعد صلى الله عليه إلا كتبت: "وسلم".أ. هـ.
[*] وقال أيضاً: صرَّح ابن الصلاح بكراهة الاقتصار على: "عليه السلام" فقط. أ. هـ.(8/338)
[*] نقل الإمام البيهقي في شُعبِ الإيمان عن الحَلِيمي أنه قال: معلوم أن حقوقَ رسولِ الله صلى الله عليه أجلُّ وأعظمُ وأكرمُ وألزمُ لنا، وأوجب علينا من حقوقِ الساداتِ على مماليكهم، والآباءِ على أولادِهم؛ لأن الله تعالى أنقذنا به من النار في الآخرة، وعصمَ به لنا أرواحَنا وأبدانَنا وأعراضَنا وأموالَنا وأهلينا وأولادَنا في العاجلة وهدانا به، كما إذا أطعناه أدّانا إلى جنات النعيم، فأية نعمةٍ توازي هذه النعم؟ وأيّةُ مِنّةٍ تُداني هذه المِنن؟
ثم إنه جل ثناؤه ألزمنا طاعتَه، وتَوعّدنا على معصيته بالنار، ووعدنا بأتِّباعه الجنة.
فأيُّ رُتْبَةٍ تضاهي هذه الرتبة؟ وأيّةُ درجةٍ تساوي في العُلى هذه الدرجة؟
فَحَقٌّ علينا إذاً أن نحبَّه ونجلَّه ونعظِّمَه ونهيبه أكثر من إجلال كلِّ عبدٍ سيدَه، وكلِّ وَلَدٍ والدَه، وبمثل هذا نطق الكتاب، ووردت أوامر الله جل ثناؤه، قال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:156]، فأخبر أن الفلاحَ إنما يكون لمن جمع إلى الإيمان به تعزيرَه، ولا خلاف في أن التعزير ههنا التعظيم،
وقال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح:9]
فَأبَانَ أن حقَّ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمته أن يكونَ معزراً موقّراً مَهيباً، ولا يُعامل بالاسترسال والمباسطة كما يُعامِل الأكْفَاء بعضُهم بعضاً، قال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً} [النور:63]
فقيل في معناه: لا تجعلوا دعائه إياكم كدعاءِ بعضِكم بعضاً فتؤخِّروا إجابته بالأعذار والعلل التي يؤخِّرُ بها بعضُكم إجابة بعض، ولكن عَظِّموه بسرعةِ الإجابة، ومعاجلةِ الطاعة، ولم تُجعل الصلاة لهم عذراً في التخلف عن الإجابة إذا دعا أحدَهم وهو يصلي، إعلاماً لهم بأن الصلاة إذا لم تكن عذراً يُستباح به تأخير الإجابة، فما دونها من معاني الأعذار أبعد.
انتهى كلامه رحمه الله.
ومِنْ جَعْلِ دعاء الرسول كدعاء بعضنا بعضاً أن يُذكر اسمه كما يُذكر اسم غيره دون صلاة ولا تسليم.
وهذا لازم من لوازم محبته.(8/339)
وترك الصلاة على رسول الله عليه الصلاة والسلام عند ذِكره علامة على البخل (حديث علي في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: البخيلُ الذي من ذكرت عنده فلم يصلي عليّ.
ومن ذُكر عنده النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو ذَكّرّه هو فلم يُصلِّ عليه فهذا علامة حِرمان، لقوله عليه الصلاة والسلام: "من نسي الصلاة عليّ خطئ طريق الجنة"
(حديث ابن عباس في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ك من نسيَ الصلاة عليَّ خطئ طريق الجنة.
فعلى أهل العلم أن يكونوا أسوة وقدوة، وأن يُعظّموا نبي الله، وقد تقدم قوله تبارك وتعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، وتقدم قول الحليمي: فأخبر أن الفلاحَ إنما يكون لمن جمع إلى الإيمان به تعزيره، ولا خلاف في أن التعزير ههنا التعظيم. أ. هـ.
(حُكم جهر المؤذن بالصلاة على النبي بعد الأذان:
إن جهر كثير من المؤذنين بالصلاة على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عقب الأذان بدعة لم يفعلها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والمؤذنون في عهده، ولم يفعلها الصحابة والخلفاء الراشدون والتابعون مع عِلْمهم بفضل الصلاة على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وحرصهم على الطاعات، ولو كان ذلك خيرًا لسبقونا إليه، ومن المعلوم أن ألفاظ الأذان عبادة مبنية على التوقيف، لا يجوز الزيادة فيها ولا النقصان.
(حديث عائشة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد.
(حديث عائشة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد.
[*] قال الإمام مالك بن أنس:
«من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أن محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خان الرسالة؛ لأن اللَّه -تعالى- يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِين} [المائدة:3]، فما لم يكن يومئذ دينًا، فلا يكون اليوم دينًا [الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم جـ6 ص225]
حكم الصلاة على غير نبينا محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
سوف نتناول الحديث عن هذه المسألة من عِدة وجوه بإيجاز شديد:
أولاً: الصلاة على الأنبياء والمرسلين: قال ابن القيم: «سائر الأنبياء والمرسلين يُصلى عليهم ويُسلَّم [جلاء الأفهام ص627](8/340)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: صلوا على أنبياء اللَّه ورسله فإن اللَّه بعثهم كما بعثني.
ثانيًا: الصلاة على آل نبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جميعًا بمعنى أن نقول: اللهم صلِّ على آل محمد. قال ابن القيم: «آل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصلي عليهم بلا خلاف بين الأمة». [جلاء الأفهام ص636]
ثالثًا: هل يُصلى على آل نبينا محمد منفردين؟ بمعنى أن يفرد واحد منهم بالذكر، فيُقال: اللهم صلِّ على علي، أو اللهم صلِّ على الحسن أو الحسين أو فاطمة ونحو ذلك، وهل يُصلى على أحد من الصحابة ومَنْ بَعْدهم؟
[*] قال الإمام النووي -رحمه اللَّه- عند الإجابة عن هذين السؤالين: «الصحيح، الذي عليه الأكثرون أنه مكروه كراهة تنزيه، لأنه شعار أهل البدع، وقد نُهينا عن شعارهم [الأذكار للنووي ص159]
[*] قال ابن القيم: «إن الرافضة إذا ذكروا أئمتهم يصلون عليهم بأسمائهم، ولا يصلون على غيرهم ممن هو خير منهم وأحب إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فينبغي أن يُخالفوا في هذا الشعار [جلاء الأفهام ص640]
فائدة هامة: قال الإمام النووي: «اتفق العلماء على جواز جَعْل غير الأنبياء تبعًا لهم في الصلاة، فيُقال: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد وأصحابه وأزواجه وذريته وأتباعه، للأحاديث الصحيحة في ذلك، وقد أُمرنا به في التشهد، ولم يزل السلف عليه خارج الصلاة أيضًا [الأذكار للنووي ص160]
(خامساً الدعاء:
(تعريف الدعاء وحقيقته:
(تعريف الدعاء في اللغة: الدعاء لغة: الطلب والابتهال: يُقال: دعوتُ الله أدعوه دعاءً: ابتهلت إليه بالسؤال ورغبت فيما عنده من الخير (1) ودعا الله: طلب منه الخير ورجاه منه، ودعا لفلان: طلب الخير له، ودعا على فلان: طلب له الشر (2).
(تعريف الدعاء في الشرع: أما في الشرع فقد عرف بعدة تعريفات لعل أفضلها هو تعريف الإمام الضياء اللامع ابن القيم
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى: الدعاء هو طلب ما ينفع الداعي، وطلب كشف ما يضره أو دفعه.
وحقيقته: إظْهَارُ الافْتِقَارِ إلى الله تعالى، والتَّبرُؤ من الحول والقوة، وهو سِمَةُ العبودية، واسْتِشْعَارُ الذِّلْةِ البَشَرِيَّةِ، وفيه معنى الثَّنَاءُ على الله عزَّ وجلَّ، وإضافة الجُودِ والكَرَمِ إليه (3).
__________
(1) المصباح المنير 1/ 194.
(2) المعجم الوسيط1/ 268.
(3) أنظر شأن الدعاء، ص 4 0(8/341)
[*] وقال الشيخ علي الحذيفي: حقيقة الدعاءِ تَعْظِيمُ الرَّغْبَةِ إلى الله في قضاءِ الحاجاتِ الدُنْيِوِيَةِ والأخْرَوِيَةِ، وكَشْفِ الكُرُبَاتِ ودَفْعِِ الشُّرُورِ والمَكْرُوهَاتِ الدُّنيوية والأخْرَوِيَةِ (1).
فَضْلُ اَلْدُّعَاء وَبَيَانُ أنَّ اَلْدُّعَاء مِنْ أعْظَمِ أنْوَاعِ اَلْعِبَادَاتِ
[*] (أنواع الدعاء:
(كل دعاء ورد في الكتاب والسنة فإنه يتناول نوعين اثنين، ويندرج تحتهما، وهذان النوعان هما:
(1) دعاء المسألة.
(2) دعاء العبادة.
(الأول: دعاء المسألة، وهو السؤال والطلب من الله تعالى، كأن تقول: رب اغفر لي واهدني، فهذا دعاء عبادة وطلب من الله عز وجل، وهذا واضح معروف.
(الثاني: دعاء العبادة، فالصلاة دعاء، والصوم دعاء، والحج دعاء، وذلك لأن العبد الذي يتلبس بعبادة من هذه العبادات يفعل ذلك ولسان حاله: يا رب أنت أمرتني فاستجبت لك وأطعتك، وهاأنذا متلبس بهذه العبادة فاقبلها مني، وهذا فيه معنى التضرع والسؤال والدعاء، وأصل معنى الصلاة في اللغة هو الدعاء، فالثناء والعبادة المحضة من أفضل الدعاء، فاستحضار مثل هذه المعاني يقرّب العبد من ربه، ويجعل العبادة أكثر قرباً إلى مقاصدها التعبدية.
[*] قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: كل ما ورد في القرآن من الأمر بالدعاء، والنهي عن دعاء غير الله، والثناء على الداعين _ يتناول دعاء المسألة، ودعاء العبادة.
وهذه قاعدة نافعة؛ فإن أكثر الناس إنما يتبادر لهم من لفظ الدعاء والدعوة _ دعاء المسألة فقط، ولا يظنون دخول جميع العبادات في الدعاء.
وهذا خطأ جرهم إلى ما هو شر منه؛ فإن الآيات صريحة في شموله لدعاء المسألة، ودعاء العبادة.
تعريف دعاء المسألة: هو أن يطلب الداعي ما ينفعه، وما يكشف ضره.
أوهو ما تضمن مسألة، أو طلبًا، كأن يقول الداعي: أعطني، أكرمني، وهكذا ...
[*] (وهذا النوع على ثلاثة أضرب:
(1) سؤال الله ودعاؤه: كمن يقول: اللهم ارحمني واغفر لي، فهذا من العبادة لله.
(2) سؤال غير الله فيما لا يقدر عليه المسئول: كأن يطلب من ميت أو غائب أن يطعمه، أو يغيثه، أو أن يشفي مرضه، فهذا شرك أكبر.
__________
(1) من خطبة الجمعة في المسجد النبوي بالمدينة النبوية لفضيلة الشيخ: علي الحذيفي بتاريخ: 13 - 4 - 1424هـ وهي بعنوان: فضل الدعاء وآدابه، يمكن قراءتَها أو الاستماع إليها عبر موقع: www.alminbar.net(8/342)
(3) سؤال غير الله فيما يقدر عليه المسؤول: كأن يطلب من حيٍّ قادرٍ حاضرٍ أن يطعمه، أو يعينه فهذا جائز.
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد مضت السُّنَّةُ أن الحيَّ يطلب منه الدعاء كما يطلب منه سائر ما يقدر عليه.
وأما المخلوق الغائب والميت فلا يطلب منه شيء. (1)
ومن هذا قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام: (فَاسْتَغَاثَهُ الّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الّذِي مِنْ عَدُوّهِ) [القصص / 15]
(تعريف دعاء العبادة: أما دعاء العبادة فهو شامل لجميع القربات الظاهرة والباطنة؛ لأن المتعبد لله طالب وداعٍ بلسان مقاله ولسان حاله ربَّه قبولَ تلك العبادة، والإثابة عليها، فهو العبادة بمعناها الشامل.
(ولهذا لو سألت أي عابد مؤمن: ما قَصْدُك بصلاتك، وصيامك، وحجك، وأدائك لحقوق الله وحق الخلق؟ _ لكان قلب المؤمن ناطقًا قبل أن يجيبك لسانه: بأن قصدي من ذلك رضا ربي، ونيل ثوابه، والسلامة من عقابه؛ ولهذا كانت النية شرطًا لصحة الأعمال وقبولها وإثمارها الثمرة الطيبة في الدنيا والآخرة. (2)
ولهذا فَصَرْفُ دعاء العبادة لغير الله يعد شركًا أكبر؛ لأن من يدعو غير الله إنما يتقرب إليه حتى يجيب دعاءه، ويثيبه على فعله.
(وهكذا دعاء المسألة إلا فيما يوجه للمخلوق الحي، الحاضر، القادر؛ فليس من العبادة؛ لقصة موسى المذكورة في سورة القصص، وهي قوله_سبحانه: (فَاسْتَغَاثَهُ الّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الّذِي مِنْ عَدُوّهِ) [القصص / 15]
والأدلة في ذلك كثيرة.
(تلازم نوعي الدعاء: من خلال ما مضى يتبين لنا أن نوعي الدعاء متلازمان؛ ذلك أن الله _ عز وجل _ يُدعى لجلب النفع ودفع الضر دعاء المسألة، ويدعى خوفًا ورجاءً دعاء العبادة؛ فعلم أن النوعين متلازمان؛ فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة. (3)
(أمثلة لتلازمهما (4):
(1) قال تعالى: (وَقَالَ رَبّكُمْ ادْعُونِيَ أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر/ 60] أي أستجب طلبكم، وأتقبل عملكم.
__________
(1) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية تحقيق عبد القادر الأرناؤوط ص165.
* ... من تعليقات سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز.
(2) القواعد الحسان، ص155.
* من تعليقات سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز.
(3) انظر بدائع الفوائد، 3/ 3.
(4) انظر مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 10/ 237 _ 240 والقواعد الحسان، ص 155_157.(8/343)
ولهذا قال تعالى: (إِنّ الّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنّمَ دَاخِرِينَ) [غافر / 60]]، فسمى ذلك عبادة؛ وذلك لأن الداعي دعاء المسألة يطلب سؤله بلسان المقال، والعابد يطلب من ربه القبول والثواب، ومغفرة الذنوب بلسان الحال.
(2) قال تعالى: (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ) [الأعراف / 29
فَوَضْعُ كلمة الدِّين موضع كلمة العبادة_ وهو كثير في القرآن _ يدل على أن الدعاء هو لب الدين، وروح العبادة.
ومعنى الآية هنا: أخلصوا له إذا طلبتم حوائجكم، وأخلصوا له أعمال البر والطاعة.
(3) قال تعالى: (وَإِذَا مَسّ الإِنسَانَ الضّرّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً) [يونس / 12]
يدخل في قوله: دعانا (دعاءُ المسألة)؛ فإنه لا يزال مُلِحًّا بلسانه، سائلاً دفع ضرورته.
ويدخل في (دعاء العبادة)؛ فإن قلبه في هذه الحال يكون راجيًا طامعًا، منقطعًا عن غير الله، عالمًا أنه لا يكشف ما به من سوء إلا الله، وهذا دعاء عبادة.
(4) قال تعالى: (ادْعُواْ رَبّكُمْ تَضَرّعاً وَخُفْيَةً) [الأعراف / 55]
فقوله تعالى ادعوا يدخل فيه الأمران؛ فكما أن من كمال دعاء الطلب كثرةَ التضرع، والإلحاح، وإظهار الفقر والمسكنة، وإخفاء ذلك، وإخلاصه _ فكذلك دعاء العبادة؛ فإن العبادة لا تتم، ولا تكمل إلا بالمداومة عليها، ومقارنة الخشوع، والخضوع، وإخفائها، وإخلاصها لله _ تعالى _.
(5) قال تعالى: (فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلََهاً آخَرَ) [الشعراء / 213]
وقوله تعالى: (وَمَن يَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ) [المؤمنون / 117] وقوله تعالى (فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللّهِ أَحَداً) [الجن / 18]
يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة؛ فكما أن من طلب من غير الله حاجة لا يقدر عليها إلا الله فهو مشرك كافر _ فكذلك من عبد مع الله غيره فهو مشرك كافر.
(6) وقوله تعالى قال تعالى: (وَللّهِ الأسْمَآءُ الْحُسْنَىَ فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف /180] يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة.
أما دعاء المسألة فإنه يسأل الله تعالى في كل مطلوب باسم يناسب ذلك المطلوب ويقتضيه، فمن سأل رحمة الله ومغفرته دعاه باسم الغفور الرحيم، ومن سأل الرزق سأله باسم الرزاق، وهكذا ...(8/344)
أما دعاء العبادة فهو التعبد لله _ تعالى _ بأسمائه الحسنى، فيفهم أولاً معنى ذلك الاسم الكريم، ثم يديم استحضاره بقلبه حتى يمتلئ قلبه منه؛ فالأسماء الدالة على العظمة والكبرياء تلأ القلب تعظيمًا وإجلالاً لله _ تعالى _.
والأسماء الدالة على الرحمة، والفضل، والإحسان تملأ القلب طمعًا في فضل الله، ورجاء رَوْحِه ورحمته.
والأسماء الدالة على الود، والحب، والكمال تملأ القلب محبة، وَوُدًّا، وتألُّهًا، وإنابة إلى الله _ تعالى _.
والأسماء الدالة على سعة علمه، ولطيف خُبره _ توجب مراقبة الله، والحياء منه، وهكذا ...
وهذه الأحوال التي تتصف بها القلوب هي أكمل الأحوال، وأجل الأوصاف، ولا يزال العبد يجاهد نفسه عليها حتى تنجذب نفسه وروحه بدواعيه منقادة راغبة، وبهذه الأعمال القلبية تكمل الأعمال البدنية.
[*] (حاجة الناس إلى الدعاء:
[*] (إن من المعلوم شرعاً أن الناس في أمس الحاجة إلى الدعاء لأنهم مفتقرون إلى الله تعالى في جلب مصالحهم ودفع مضارهم، في أمور دينهم ودنياهم، قال تعالى: {يا أيها النَّاسُ أنتُمُ الفُقراءُ إلى اللهِ واللهُ هوَ الغنيُّ الحَميدُ} [فاطر /15]
ومما يوضح ذلك ويبينه الحديث الآتي:
(حديث أبي ذرٍ في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي و جعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل و النهار و أنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني و لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله و من وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه.(8/345)
(فلا يوجد مؤمن إلا ويعلم أن النافع الضار هو الله سبحانه، وأنه تعالى يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، ويرزق من يشاء بغير حساب، وأن خزائن كل شيء بيده، وأنه تعالى لو أراد نفع عبد فلن يضره أحد ولو تمالأ أهل الأرض كلهم عليه، وأنه لو أراد الضر بعبد لما نفعه أهل الأرض ولو كانوا معه. لا يوجد مؤمن إلا وهو يؤمن بهذا كله؛ لأن من شك في شيء من ذلك فليس بمؤمن، قال الله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}
[يونس: 107].
فلا ينفع ولا يضر إلا الله تعالى {إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53]
{وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 67] سقطت كل الآلهة، وتلاشت كل المعبودات وما بقي إلا الله تعالى {ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 67] {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً} [الفتح:11]
لا يسمع دعاء الغريق في لجة البحر إلا الله. ولا يسمع تضرع الساجد في خلوته إلا. ولا يسمع نجوى الموتور المظلوم وعبرته تتردد في صدره، وصوته يتحشرج في جوفه إلا الله. ولا يرى عبرة الخاشع في زاويته والليل قد أسدل ستاره إلا الله {وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى {7} اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى} [طه:8]
(وهذا يقتضي أن جميع الخلق مفتقرون إلى الله تعالى في جلب مصالحهم ودفع مضارهم في أمور دينهم ودنياهم،
قال تعالى: (يَأَيّهَا النّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ) [فاطر / 15]
فالعباد لا يملكون لأنفسهم شيئاً من ذلك كله، وأن من لم يتفضل الله عليه بالهدى والرزق، فإنه يحرمها في الدنيا، ومن لم يتفضل الله عليه بمغفرة ذنوبه أوْبَقَتْه خطاياه في الآخرة (1).
__________
(1) جامع العلوم والحكم لابن رجب رحمه الله 2/ 37.(8/346)
فجميعُ الخلق مفتقرون إلى الله، مفتقرون إلى الله في كل شؤونِهم وأحوالِهم، وفي كلِ كبيرةٍ وصغيره، وفي هذا العصرُ تعلقَ الناسُ بالناسِ، وشكا الناسُ إلى الناس، ولا بئسَ أن يُستعانُ بالناس في ما يقدرون عليه، لكن أن يكونَ المُعتمَدُ عليهم، والسؤال إليهم، والتعلقُ بهم فهذا هو الهلاكُ بعينه، فإن من تعلق بشيٍ وكلَ إليه.
(والإنسان لا يستغني عن ربه طرفة عين ولا أقل من ذلك، ولهذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يردد كثيرا: " لا تكلني إلى نفسي طرفة عين.
(حديث أبي بكرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين و أصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت.
فقيراً جئتُ بابك يا إلهي ......... ولستُ إلى عبادك بالفقيرِ
غنياً عنهمُ بيقينِ قلبي ........... وأطمعُ منك في لفضلِ الكبيرِ
الهي ما سألتُ سواك عونا ...... فحسبي العونُ من ربٍ قديرِ
الهي ما سألتُ سواك عفوا ..... فحسبي العفوُ من ربٍ غفورِ
الهي ما سألتُ سواك هديا ..... فحسبي الهديُ من ربٍ بصيرِ
إذا لم أستعن بك يا الهي ...... فمن عونيِ سواك ومن مجيرِ
(ولله درُ من قال:
دعوني أناجي مولى جليلا ... إذا الليل أرخى على السدولا
نظرت إليك بقلب ذليل ... لأرجو به يا إلهي القبولا
لك الحمد والمجد والكبرياء ... وأنت الإله الذي لن يزولا
وأنت الإله الذي لم يزل ... حميدًا كريمًا عظيمًا جليلا
تميت الأنام وتحيي العظام ... وتنشى الخلائق جيلا فجيلا
عظيم الجلال كريم الفعال ... جزيل النوال تنيل السؤولا
حبيب القلوب غفور الذنوب ... تواري العيوب تقيل الجهولا
وتعطي الجزيل وتولي الجميل ... وتأخذ من ذا وذاك القليلا
خزائن جودك لا تنقضي ... تعمّ الجواد بها والبخيلا
[*] (أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في بحر الدموع أن رجلاً قال لذي النون وهو يعظ الناس: يا شيخ، ما الذي أصنع؟ كلما وقفت على باب من أبواب المولى صرفني عنه قاطع المحن والبلوى.
قال له: يا أخي، كن على باب مولاك كالصبي الصغير مع أمه، كلما ضربته أمه ترامى عليها، وكلما طردته، تقرّب إليها، فلا يزال كذلك حتى تضمه إليها.
[*] (أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في بحر الدموع أن الحسن البصري قيل له: ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوها؟ فقال: خلوا بالرحمن، فألبسهم نورا من نوره.(8/347)
إن الفرار إلى الله، واللجوء إليه في كلِ حالٍ وفي كل كربٍ وهم، هو السبيلُ للتخلصَ من ضعفنا وفتورنا وذلنا و هواننا.
إن في هذه الدنيا مصائبَ ورزايا، ومحناً وبلايا، آلامُ تضيقُ بها النفوس، ومزعجاتُ تورث الخوفَ والجزع، كم في الدنيا من عينٍ باكيةٍ؟
وكم فيها من قلب حزين؟
وكم فيها من الضعفاءِ والمعدومين، قلوبُهم تشتعل، ودموعُهم تسيل؟ هذا يَشْكُ علةً وسقما، عزيزٌ قد ذل، وغنيٌ افتقر، وصحيحٌ مرض، رجل يتبرم من زوجه وولده، وآخرُ يشكُ ويئنُ من ظلمِ سيده.
وثالثٌ كسدة وبارت تجارته، شاب أو فتاة يبحث عن عروس، وطالب يشكو كثرة الامتحانات والدروس.
هذا مسحور وذاك مدين، وأخر ابتليَ بالإدمان والتدخين، ورابعُ أصابه الخوفُ ووسوسةُ الشياطين.
وذاك حاجةً وفقرا.
وآخر هماً وقلقا.
تلك هي الدنيا، تضحكُ وتبكي، وتجمعُ وتشتت، شدةُ ورخاءُ وسراءٌ وضراءُ.
وصدق الله العظيم: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ). [الحديد / 23]
فارفع يديك وأسل دمع عينيك، وأظهر فقرك وعجزك، واعترف بِذُلِكَ وضَعْفَك.
(والدعاء سلاحٌ عجيب ٌ فَعَّال وسهمٌ نافذ لا يخيب:
إن الحياة قد طبعت على كدر، وقلما يسلم الإنسان من خطر، مصائب وأمراض، حوادث وأعراض، أحزان وحروب وفتن، ظلم وبغي، هموم وغموم.
ويتقلب الناس في هذه الدنيا بين فرح وسرور، و شدة وبلاء، وفقر وغنى وتمر بهم سنين ينعمون فيها، وتعصف بهم أخرى عجاف، يتجرعون فيها الغصص أو يكتوون بنار البُعد والحرمان.
وهذه هي حقيقة الدنيا إقبال وإدبار فرح وحزن، شدة ورخاء، سقم وعافية إلا أن الله تعالى لطيف بعباده رحيم بخلقه، فتح لهم باباً يتنفسون منه الرحمة، وتنزل به على قلوبهم السكينة والطمأنينة، ألا وهو باب الدعاء.
ولا يزال المؤمن بخير ما تعلق قلبه بربه ومولاه، كيف لا يكون كذلك وبيده سلاح لا كأي سلاح، سلاح لا تصنعه مصانع الغرب أو الشرق , إنه أقوى من كل سلاح مهما بلغت قوته ودقته، والعجيب في هذا السلاح أنه عزيز لا يملكه إلا صنف واحد من الناس, لا يملكه إلا المؤمنون الموحدون, إنه سلاح رباني، سلاح الأنبياء والأتقياء على مرّ العصور.(8/348)
سلاح نجى الله به نوحًا عليه السلام فأغرق قومه بالطوفان , ونجى الله به موسى عليه السلام من الطاغية فرعون, نجى الله به صالحًا, وأهلك ثمود, وأذل عادًا وأظهر هودَ عليه السلام, وأعز محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مواطن كثيرة.
سلاح حارب به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه أعتى قوتين في ذلك الوقت: قوة الفرس, وقوة الروم, فانقلبوا صاغرين مبهورين، كيف استطاع أولئك العرب العزَّل أن يتفوقوا عليهم وهم من هم, في القوة والمنعة, ولا يزال ذلكم السلاح هو سيف الصالحين المخبتين مع تعاقب الأزمان وتغير الأحوال ’ تلكم العبادة وذلكم السلاح هو الدعاء.
هذا السلاح يطفيء نيران الدبابات.
بل إن الاسرى يُفكون بهذا السلاح
جاء مالك الأشجعى إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال أُسر ابنى عوف فقال له النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسل إليه أن رسول الله يأمرك أن تكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله وكانوا قد شدوا قيده فسقط القيد فخرج فإذا هو بناقة لهم فركبها و أقبل فمر بغنم للعدو فاستاقها فجاء بها إلى أبيه وقص عليه الخبر فقال أبوه قف حتى أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله عنها، فلما أخبره بذلك قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اصنع بها ما أحببت ونزل قول الله تعالى (ومن يتق الله يجعل له مخرجا) (1)
(والدعاء ينفع مما نزل و مما لم ينزل، وسهمٌ لا يخيب وأعجز الناس من عجز عن الدعاء، وإليك غيضٌ من فيض ونقطةٌ من بحر مما ورد في هذا:
(حديث عائشة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يغني حذر من قدر و الدعاء ينفع مما نزل و مما لم ينزل و إن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة.
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب له فإما أن يعجل له في الدنيا و إما أن يدخر له في الآخرة ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل.
__________
(1) - ابن جرير فى تفسيره(8/349)
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلاَّ أعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاث: ٍ إِمَّا أنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أنْ يَصْرِف عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا" قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ:" اللَّهُ أكْثَرُ "0
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أبخل الناس من بخل بالسلام وأعجز الناس من عجز عن الدعاء.
(أعجز الناس من عجز عن الدعاء): أعظم ما يشق على المسلم أن يغلق عليه في الدعاء،
[*] قال عمر بن الخطاب:
" أني لا أحمل هم الإجابة ولكن أحمل همّ الدعاء" فاذا فتح على العبد في دعائه من معاني الحمد والثناء دعا الله وحسن الظن به والتعلق والرجاء به وتعظيم الرغبة مما عند الله والثقة بوعد الله فينبغي عليه أن يقبل على الدعاء وأن يصرف همته في ذلك لاسيما في الأزمان والأماكن الفاضلة , وعند نزول الضر وحصول الشدائد, ومن أكثر طرق هذا الباب فتح له, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
[*] يقول جعفر الصادق رضي الله عنه:
عجبت لأربعة كيف يغفلون عن أربع:
عجبت لمن أصابه ضر كيف يغفل عن قول الله: (أَنّي مَسّنِيَ الضّرّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ) [الأنبياء / 83]
والله سبحانه وتعالى يقول: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ) [الأنبياء / 84]
وعجبت لمن أصابه غم كيف يغفل عن قول الله: (لاَّ اله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء /87]
والله سبحانه وتعالى يقول: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمّ وَكَذالِكَ نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء /88]
وعجبت لمن يخاف كيف يغفل عن: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)
[آل عمران /173]
،والله تعالى يقول: (فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء)
[آل عمران /174]
وعجبت لمن يمكر به الناس كيف يغفل عن (وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [غافر /44]
، والله تعالى يقول: (فَوقَاهُ اللَّهُ سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوء الْعَذَابِ)
[غافر /45](8/350)
أخى: أمن يجيب المضطر إذا دعاه،
أخى: هل عندك أسير تريد فك أسره،
أخى: ألست فى حاجة إلى الله (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله)
أخي: في كل ذلك عليك بالتضرع إلى الله،،،،،،،،،
أخي الحبيب هل وقفت مع نفسك؟
كم مرة انطرحت بين يدي الله؟
كم مرة أحسستَ فيها بصدق المناجاة؟
أليس لك حاجة بل حاجات إلى رب الأرض والسماوات؟
أعجَزتَ أن تنفع نفسك بدعوة صالحة؟ علّ الله أن ينفعك بها.
أخي من أدمن طرق الباب يوشك أن يفتح له ..... زد في الطرق يزاد لك في العطاء ... من رب الارض والسماوات.
إلهي:
كم لك سواي، وما لي سواك، عبيدك سواي كثير وليس لي سيد سواك، فبفقري إليك وغناك عني، وبقوتك وضعفي، وبعزك وذلي، إلا رحمتني وعفوت عني، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عينه، وذل لك قلبه، الله لا تعذب نفساً قد عذبها الخوف منك، ولا تخرس لساناً كل ما يرويه عنك، ولا تقذ (أى لا تعمي) بصراً طالما بكى من مخافتك، ولا تخيب رجاء هو معلق بك، ولا تحرق بالنار وجهاً سجد لعظمتك، ولا تعذب بناناً كتب في طاعتك ولا لساناً دل الناس على شريعتك!! يا أرحم الراحمين!! يا الله.
اللهم يا موضع كل شكوى، ويا سمع كل نجوى، ويا شاهد كل بلوى، يا عالم كل خفية، و يا كاشف كل بلية، يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمائر الصامتين ندعوك دعاءَ من أشدت فاقته، وضعفت قوته، وقلت حيلته دعاء الغرباء المضطرين الذين لا يجدون لكشف ما هم فيه إلا أنت.
يا أرحم الراحمين أكشف ما بنا وبالمسلمين من ضعف وفتور وذل وهوان.
يا سامعا لكل شكوى أعن المساكين والمستضعفين وأرحم النساء الثكالى والأطفال اليتامى وذي الشيبة الكبير، إنك على كل شيء قدير.
(ألم يأن لنا أن ننتبه إلى أن الدعاءُ أكرم شيء على الله، شرعه الله لحصول الخير ودفع الشر، فالدعاءُ سبب عظيم للفوز بالخيرات والبركات، وسببٌ لدفع المكروهات والشرورِ والكربات، والدعاءُ من القدَر ومن الأسبابِ النافعة الجالبة لكلِّ خير والدافعة لكل شرّ.
الدعاء به تُفرّجُ الشِّدّائد، وتُنفّسُ الكُرب فكم سمعنا عمن أُغلقت في وجهه الأبواب، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، ثم طَرَقَ باب مسبب الأسباب، وألحّ على الله في الدعاء، ورفع إليه الشكوى، وبكى فَفُتِحَتْ له الأبواب، وانفرج ما به من شِدّة وضيق.(8/351)
ألم تسمع قصة أولئك الثلاثة الذين دخلوا غاراً فأغْلَقَتْ عليهم الباب صخرةٌ عظيمة، فما كان منهم إلا أن دعوا الله بصالح أعمالِهم وأخلصِها، فانفرجت الصخرةُ وخرجوا يمشون.
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم، حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فناء بي في طلب شيء يوما، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي، فأدرتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله أد إلي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون).
(ألم يأن لنا جميعاً أن نمد أيدينا إلى مالك الملك، وإلى مَنْ بيده ملكوت كلّ شيء، وهو يُجير ولا يُجار عليه؟
ونقول:-(8/352)
يا أمان الخائفين سبحانك ما أحلمك على من عصاك وما أقربك ممن دعاك وما أعطفك على من سألك وما أرافك بمن أملك، من الذي سألك فحرمته، ومن الذي فر إليك فطردته أو لجأ إليك فأسلمته، أنت ملاذنا ومنجانا فلا نعول إلا عليك ولا نفر من خلقك ومنك إلا إليك يا أمان الخائفين.
فلماذا البخل على أنفسنا؟
إلى متى العجز والكسل؟
إن ما بيننا وبين السماء السابعة سوى مسافة دعوة مظلوم.
وما بيننا وبين باب ذي المنن سوى قَرْعِهِ وإدامة ذلك.
(فادع يا أخي وزد في الدعاء بالليل والنهار فلن تخيب دعواتك فإن الدعاء سهمٌ لا يخيب:
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب له فإما أن يعجل له في الدنيا و إما أن يدخر له في الآخرة ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل.
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلاَّ أعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاث: ٍ إِمَّا أنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أنْ يَصْرِف عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا" قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ:" اللَّهُ أكْثَرُ "0
أتهزأُ بالدعاءِ وتزدريهِ ... وما تدري بما صنع الدعاءُ
سهامُ الليلِ لا تُخطي ولكن ... لها أمدٌ وللأمدادِ انقضاءُ
(هل يدعو العبد ربه مع أن الله يعلم حاجته ... :
(يردد البعض حديث لفظه: (علمه بحالي يغني عن سؤالي) ويستدلون به على أنه لا حاجة للإنسان أن يدعو الله، لأن الله يعلم حاجة الإنسان، فما صحة هذا الكلام فما الجواب؟
الجواب:
أن هذا القول قول باطل، لأنه مناف للإيمان بالقدر، وتعطيل للأسباب، وترك لعبادة هي أكرم العبادات على الله عز وجل.
فالدعاء أمره عظيم وشأنه جليل، فبه يرد القدر، وبه يرفع البلاء، فهو ينفع مما نزل ومما لم ينزل. وهاك غيضٌ من فيض مما نزل في فضل الدعاء:
(حديث النعمان بن بشير في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الدعاء هو العبادة، ثم تلا قوله تعالى: (وَقَالَ رَبّكُمْ ادْعُونِيَ أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنّ الّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنّمَ دَاخِرِينَ)(8/353)
(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من لم يسال الله يغضب عليه.
(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ليس شيء أكرم على الله من الدعاء.
(حديث سلمان في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا.
(حديث سلمان في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لا يرد القضاء إلا الدعاء و لا يزيد في العمر إلا البر.
(حديث عائشة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يغني حذر من قدر و الدعاء ينفع مما نزل و مما لم ينزل و إن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة.
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب له فإما أن يعجل له في الدنيا و إما أن يدخر له في الآخرة ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل.
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلاَّ أعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاث: ٍ إِمَّا أنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أنْ يَصْرِف عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا" قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ:" اللَّهُ أكْثَرُ "0
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أبخل الناس من بخل بالسلام وأعجز الناس من عجز عن الدعاء.
(وربما استشهد بعض من يترك الدعاء كبعض الصوفية بحديث: (حسبي من سؤالي علمه بحالي)، وهذا الحديث باطل لا أصل له، تكلم عليه العلماء، وبينوا بطلانه.
[*] فقد ذكره البغوي في تفسير سورة الأنبياء مشيراً إلى ضعفه فقال:
(وروي عن أبي بن كعب أن إبراهيم قال حين أوثقوه ليلقوه في النار: (لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين، لك الحمد، ولك الملك، لا شريك لك، ثم رموا به في المنجنيق إلى النار، واستقبله جبريل فقال: يا إبراهيم، لك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، فقال جبريل: فاسأل ربك، فقال إبراهيم: حسبي من سؤالي علمه بحالي) تفسير البغوي معالم التنزيل 5/ 347(8/354)
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا الحديث:
(وأما قوله: حسبي من سؤالي علمه بحالي فكلام باطل، خلاف ما ذكره الله عن إبراهيم الخليل وغيره من الأنبياء، من دعائهم لله، ومسألتهم إياه، وهو خلاف ما أمر الله به عباده من سؤالهم له صلاح الدنيا والآخرة). مجموع الفتاوى 8/ 539
[*] وقال الشيخ الألباني عن هذا الحديث:
(لا أصل له، أورده بعضهم من قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو من الإسرائيليات، ولا أصل له في المرفوع) سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/ 28 (21)
وقال بعد ذلك عن الحديث: (وقد أخذ هذا المعنى بعض من صنف في الحكمة على الطريقة الصوفية فقال: سؤالك منه - يعني الله تعالى - اتهام له) سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/ 29
ثم قال رحمه الله تعليقاً على تلك المقولة: (هذه ضلالة كبرى، فهل كان الأنبياء صلوات الله عليهم متهمين لربهم حين سألوه مختلف الأسئلة؟) سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/ 29
(حكم الدعاء:
ذهب جمهور العلماء إلى أن الدعاء واجب على كل مسلم، للأدلة التالية:
قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ) [سورة: الذاريات - الأية: 56] وقد ورد في تفسير هذه الآية أي أن الله خلق المخلوقات ليعبدوه ويعرفوه ويخضعوا له ويتذللوا، سَيَدْخُلُونَ جَهَنّمَ دَاخِرِينَ)
فإذا كان الدعاء هو العبادة، وغاية خلق الجن والإنس العبادة أي "الدعاء" كان لزاماً على كل مسلم الالتجاء إلى الله –تعالى- والخضوع له، والتذلل بالدعاء في كل وقت وحين.
لذا حري بنا أن نرقى بفهمنا لمعنى الدعاء إلى معناه الأسمى، أن تدعو الله لا لأنك محتاج إليه، بل لأن هذا الدعاء جزءٌ من عبوديتك لله تعالى.
(حكم ترك الدعاء:
إن من صفات المسلم الحق الانصياع لما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه، ولما كان الله - سبحانه وتعالى - أمرنا بأن ندعوه، وجب علينا الالتزام بأمره، وتركنا للدعاء يلحق بنا الإثم والمعصية، ويكفيك ما وصف الله – تعالى- به من ترك دعاءه في الآية الكريمة تأملها معي - رحمك الله - قال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ). [سورة غافر، الآية: 60].(8/355)
وقد أمر الله - تعالى - بالدعاء، ووصف من لم يستجب لأمره بأنه مستكبر، وهدد وتوعد هؤلاء المستكبرين بأنهم سيدخلون جهنم - والعياذ بالله -، وبينت السنة الصحيحة أن من لم يسال الله يغضب عليه كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من لم يسال الله يغضب عليه.
فجعل غضب الله - عز وجل - من نصيب من ترك الدعاء والالتجاء إلى الله.
[*] (فضائل الدعاء:
(الدعاء له فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم، وللدعاء فضائل لا تحصى، وثمرات لا تعد، وهو طريق النجاة، وسلم الوصول، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين، ومفزع المظلومين، وملجأ المستضعفين، به تُستجلب النعم، وبمثله تُستدفع النقم، والدعاء سبب لتفريج الهموم وزوال الغموم، وانشراح الصدور، وتيسير الأمور، وفيه يناجي العبدُ ربّه، ويعترف بعجزه وضعفه، وحاجته إلى خالقه ومولاه، والدعاء سلاحٌ متين وحرزٌ مكين وسهمٌ صائبٌ لا يخطئ، والموفق من وفق للدعاء، والدعاء شعيرة جليلة، وعبادة فاضلة، بل هو من أفضل العبادات، ما أشد حاجة العباد إليه، وما أعظم ضرورتهم إليه، لا يستغني عنه المسلم بحال من الأحوال، والدعاء ومن أعظم مقامات الألوهية، ومن أعظم ما يرفع البلاء والعقوبات بإذن الله سبحانه وتعالى، بل إن الله عز وجل أخبر إن الدعاء هو العبادة، لأنه ركنها الركين، وأساسها المتين، وقال سبحانه: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ). [سورة غافر، الآية: 60].
وحقيقة الدعاء هو طلب الحاجة ممن يملكها، ونحن محتاجون دائما والله معط متفضل، ونحن فقراء والله الغني، إن هذا التوجه إلى الملك هو العبادة.
وسمى الله تعالى الدعاء عبادة، و تكفل بالإجابة لمن دعا، (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ). [سورة التوبة، الآية: 111]. (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً). [سورة النساء، الآية: 122]. فقد قال سبحانه: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ). [سورة البقرة، الآية: 186].(8/356)
(وقد سأل أعرابي الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟! فسكت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ). [سورة البقرة، الآية: 186].
[*] قال ابن كثير في تفسيره على الآية: المراد أنَّه تعالى لا يُخَيِّبُ دُعَاءَ دَاعٍ ولا يُشْغَلُهُ عنه شيء، بل هو سَمِيعُ الدُّعَاءِ، ففيه تَرْغِيبٌ في الدُّعَاءِ وأنه لا يَضِيعُ لَدَيْهِ سُبْحَانَهُ0
{تنبيه}: (قول الله جل وعلا: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ
(في هذه الآية لفتة عجيبة ينبغي أن ننتبه وأن نلتفت إليها:
ما سئل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن سؤال إلا وكان الجواب من الله تعالى على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله جل وعلا: قل يا محمد كذا وكذا قال الله: يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189] .. وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219] .. يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [البقرة:217] .. وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً [البقرة:222] .. يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الأنفال:1] .. يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب:63]
(إلا في هذه الآية، فلم يقل ربنا جل وعلا لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وإذا سألك عبادي عني فقل، لا والله، وإنما تولى الله جل وعلا بذاته العلية الإجابة على عباده، فقال سبحانه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186] ولم يقل: قل: يا محمد إني قريب،
لماذا؟(8/357)
حتى لا تكون هناك واسطة بين العبد وبين الله جل وعلا، ولو كانت هذه الواسطة هي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا واسطة بين العبد وبين الله، ادع الله جل وعلا في أي وقت شئت، ارفع أكف الضراعة إلى الله، لا تسأل نبياً ولا تسأل ولياً، وإنما سل الله الواحد القهار، ارفع أكف الضراعة إليه في أي وقت شئت، بل وفي أي مكان شئت، لترى الله جل وعلا سميعاً بصيراً مجيب الدعاء.:وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186] لا سؤال إلا منه، ولا طلب إلا منه، ولا رجاء إلا فيه، ولا توكل إلا عليه، ولا تفويض إلا إليه، ولا استعانة إلا به، ولا استغاثة إلا به، ولا ذبح إلا له، ولا نذر إلا له، ولا حلف إلا به، ولا طواف إلا ببيته جل وعلا، فلتكن عقيدتك وليكن توحيدك وإيمانك، أن ترفع إلى الله أكف الضراعة، بقولك: اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك، ومن الأمل إلا فيك، ومن التسليم إلا لك، ومن التفويض إلا إليك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الصبر إلا على بابك، ومن الذل إلا في طاعتك، ومن الرجاء إلا لما في يديك الكريمتين، ومن الرهبة إلا لجلالك العظيم: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله).
الجأ إلى الله جل وعلا، واعلم بأن الله سميع قريب يجيب الدعاء، يسمع دبيب النملة السوداء، تحت الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، قال تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة:1] تقول أمنا عائشة رضي الله عنها: [والله لقد كنت في جانب الغرفة فما سمعت حوار المجادلة، وسمعه الله من فوق سبع سماوات] نعم إنه السميع القريب المجيب: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1] ..
(وبَيَّنَ تعالى أنَّه يُنْعِمُ على من تَوَجَهَ إليه بالدُّعَاء، بِنِعْمَةِ الإجابة ولايَرُدُّهُ خائباً فقال {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات: 75](8/358)
[*] قال ابن الجوزي في تفسيره زَادُ اَلْمَسِيرِ على الآية الكريمة {نَادَانَا} أي دَعَانَا، وقال الرازي: هذه اللفظة العظيمة {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} تدل على أن الإجابة من النِّعَمِ العظيمة، فسبحانه عبَّر عن ذاته بصيغة اَلْجَمْعِ فقال {نَادَانَا} والقَادِرُ العَظِيمُ لا يَلِيقُ به إلا الإحْسَانُ العظيم، وسبحانه أعَادَ صيغة الجَمْعِ في قوله {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} ليدل على تَعْظِيمِ تلك النِّعْمَةِ، لا سيما وقد وُصِفَتُ تلك الإجابة بأنَّها نِعْمَتُ الإجابة، والفَاءُ في قوله تعالى {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} يدل على أنَّ حُصُولَ هذه الإجابة مُتَرَتِبٌ على ذلك الدُّعَاءِ، وهذا يدل على أن الدُّعَاءَ بالإخْلاَصِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الإجَابَةِ (1)
(حديث سلمان في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا.
قال العلماء: لا يَخْفَى أنَّ الكَرَمَ والحَيَاءَ إذا اجْتمَعَا يَكْونُ صَاحِبْهُمَا كَمَنْ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ أنَّ يَتْرُكَ العَطَاءَ مِنَ السَّائِلِينَ والضُّعَفَاءِ (2)
ولله درُّ من قال:
أتهزأُ بالدعاءِ وتزدريهِ ... وما تدري بما صنع الدعاءُ
سهامُ الليلِ لا تُخطي ولكن ... لها أمدٌ وللأمدادِ انقضاءُ
(فالدعاء نعمةٌ عظيمة، وَمِنَّةٌ عميمة، امتن الله تعالى بها على عباده، حيث أمرهم بالدعاء، ووعدهم بالإجابة والإثابة.
وشأن الدعاء عظيم، ونفعه عميم، ومكانته عالية في الدين، فما استجلبت النعم بمثله، ولا استدفعت النقم بمثله؛ ذلك أنه يتضمن توحيد الله، وإفراده بالعبادة دون من سواه، وهذا رأس الأمر، وأصل الدين.
(فما أشد حاجة العباد إلى الدعاء، بل ما أعظم ضرورتهم إليه؛ فالمسلم في هذه الدنيا لا يستغني عن الدعاء بحال من الأحوال.
فإن كان راعيًا ولاه الله رعية فما أحوجه إلى الدعاء؛ كي يثبت الله سلطانه، ويعينه على استعمال العدل في رعيته، ويحببه إلى رعيته، ويحبب الرعية إليه.
وإن كان داعيًا إلى الله _ تعالى _ فما أشد حاجته لدعاء ربه، وسؤاله الإعانةَ، والقبول، والتوفيق، والتسديد؛ ليثبت على الحق، ويصبر على عثار الطريق ومشاقه، ولتصيخ له الأسماع، وتَصْغى إليه الأفئدة.
__________
(1) بتصرف يسير عن تفسير الرازي على الآية (75 ـ الصافات)
(2) أنظر شرح سنن ابن ماجه للسندي، حديث رقم: 3855 0(8/359)
وإن كان مجاهدًا في سبيل الله _ فما أعظم حاجته للدعاء، الذي يطلب به النصر، ويستنزل السكينة والثبات في اللقاء، ويسأل ربه خذلان الأعداء، وإنزال الرعب في قلوبهم، وهزيمتَهم، وتفرق كلمتهم.
وإن كان مريضًا فما أشد فاقته وأعظم حاجته للدعاء؛ ليستشفي به من مرضه، ويسأل به كشف كربته، وأن يمن الله عليه بالشفاء والعافية.
وبالجملة فالمسلمون _ بل ومن في الأرض كلهم جميعًا _ بأمسِّ الحاجة للدعاء، وإخلاصه لرب الأرض والسماء؛ ليصلوا بذلك إلى خيري الدنيا والآخرة، فلن يهلك مع الدعاء أحد، فالسعيد من وفق لذلك، والمحروم من حرم لذة العبادة، أو أيس من رحمة الله وكان من القانطين، من وفق للدعاء فقد وفق للقول السديد، والعمل الرشيد.
عجبت لمن ترك الدعاء ووقف بباب البشر وهو يعلم أن دعاؤهم هباء، لا يجلب مرغوباً، ولا يمنع مكروهاً، ولكن لا عجب فليس كل أحدٍ يوفقُ للخير.
(واعلم علم اليقين أنه بدعوةٍ تتقلب الأحوال، فالعقيم يولد له، والسقيم يُشفى، والفقير يُرزق، والشقي يسعد، بدعوةٍ واحدةٍ أُغرق أُهل الأرض جميعهم إلا من شاء الله: وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً [نوح:26]، وهلك فرعون بدعوة موسى وقال موسى: رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى الْحياةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الألِيمَ [يونس:88]، ووهب ما وهب لسليمان بغير حساب بسؤال ربه الوهاب، وشفى الله أيوب من مرضه بتضرعه أَنّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]، وأغيث نبينا محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم بدر بالملائكة، بتَبتُّلِه إلى موالاه، مع قلة العدد وذات اليد، إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9].
(فإذا كان الدعاء بهذه المنزلة العالية والمكانة الرفيعة _ فأجدر بالعبد أن يتفقه فيه، وأن يلم بشيء من أحكامه _ ولو على سبيل الإجمال _؛ حتى يدعو ربه على بصيرة وهدى، بعيدًا عن الخطأ والاعتداء؛ فذلك أرجى لقبول دعائه، وإجابة مسألته.(8/360)
(فلا شيء أكرم على الله من الدعاء، ما استجلبت النِّعم، ولا استدفعت النقم بمثله، به تفرج الهموم، وتزول الغموم، كفاه شرفا قرب الله من عبده حال الدعاء، وأعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأضعفهم رأياً وأدناهم همة من تخلّف عن النداء، الدعاء هو عين المنفعة ورجاء المصلحة، ودعاءُ المسلم بين يدي جواد كريم يعطي ما سُئل، إما معجّلاً وإما مؤجّلاً.
[*] يقول ابن حجر -رحمه الله-: "كل داع يستجاب له، لكن تتنوع الإجابة، فتارة تقع بعين ما دعا به، وتارةً بعِوضه".
(وللدعاء فضائل عظيمة، وثمرات جليلة، وأسرار بديعة، وهاك فضائل الدعاء جملةً وتفصيلا:
[*] (أولاً فضائل الدعاء جملةً:
(1) أن الدعاء طاعة لله وامتثال لأمره تعالى:
(2) السلامة من الكبر:
(3) الدعاء هو العبادة:
(4) الدعاء أكرم شيء على الله:
(5) الدعاء سبب لدفع غضب الله:
(6) الدعاء دليل على التوكل على الله:
(7) الدعاء وسيلة لكبر النفس وعلو الهمة:
(8) الدعاء سلامة من العجز، ودليل على الكياسة:
(9) ثمرة الدعاء مضمونة بإذن الله:
(10) الدعاء سبب لدفع البلاء قبل نزوله:
(11) الدعاء سبب لرفع البلاء بعد نزوله:
(12) الدعاء يفتح للعبد باب المناجاة ولذائذها:
(13) حصول المودة بين المسلمين:
(14) الدعاء من صفات عباد الله المتقين:
(15) الدعاء سبب للثبات والنصرعلى الأعداء:
(16) الدعاء مَفْزَعُ المظلومين، وملجأ المستضعفين:
(17) الدعاء دليل على الإيمان بالله، والاعتراف له بالربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات:
(18) وربنا سبحانه لا يعبأ بعباده لولا ضراعتهم إليه.
(19) والدعاء من صفات أنبياء الله وأصفيائه.
(20) الدعاء نفعه عميم، نفعه يلحق الأحياء في دنياهم، والأمواتَ في لحودهم.
(21) الدعاء بإذن الله تعالى كفيلٌ بدفع البلاء، ويمنع وقوع العذاب والهلاك.
(22) الدعاء أيضاً به يُستنزلُ النصر من الله العلي القدير:
(23) الدعاء يؤكد ثقة العبد بربه، حين يوقن بالإجابة:
[*] (ثانياً فضائل الدعاء تفصيلا:
(1) أن الدعاء طاعة لله وامتثال لأمره تعالى:
قال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر/60]
وقال تعالى: (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [الأعراف/29]
فالداعي مطيع لله، مستجيب لأمره.
(2) السلامة من الكبر:(8/361)
قال تعالى: (وَقَالَ رَبّكُمْ ادْعُونِيَ أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنّ الّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنّمَ دَاخِرِينَ) [غافر / 60]
[*] قال الإمام الشوكاني في هذه الآية: والآية الكريمة دلت على أن الدعاء من العبادة؛ فإنه سبحانه وتعالى أمر عباده أن يدعوه، ثم قال: [إن الذين يستكبرون عن عبادتي].
فأفاد ذلك أن الدعاء عبادة، وأن ترك دعاء الرب _سبحانه_ استكبار، ولا أقبح من هذا الاستكبار.
وكيف يستكبر العبد عن دعاء من هو خالق له، ورازقه، وموجده من العدم، وخالق العالم أجمع، ورازقه، ومحييه، ومميته، ومثيبه، ومعاقبه؟!
فلا شك أن هذا الاستكبار طرف من الجنون، وشعبة من كفران النعم. (1)
(3) الدعاء هو العبادة:
قال تعالى: (وَمَن يَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّه إِنّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) [سورة: المؤمنون - الآية: 117]
(حديث النعمان ابن بشير في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الدعاء هو العبادة.
[*] قال في تُحْفَةِ الأحْوَذِي بشرح جامع الترمذي (2):
إنَّ الدُّعَاءَ هو الْعِبَادَةُ سَوَاءٌ اُسْتُجِيبَ أوْ لَمْ يُسْتَجَبْ لأنَّهُ إِظْهَارُ الْعَبْدِ الْعَجْزَ وَالاحْتِيَاجَ مِنْ نَفْسِهِ وَالاعْتِرَافَ بِأنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إجَابَتِهِ كَرِيمٌ لا بُخْلَ لَهُ ولا فَقْرَ ولا اِحْتِيَاجَ لَهُ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى يَدَّخِرَ لِنَفْسِهِ وَيَمْنَعَهُ مِن عِبَادِهِ، ثُمَّ قال: اِسْتُدِلَّ بِالآيةِ عَلَى أنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ لأنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ وَالْمَأْمُورُ بِهِ عِبَادَةٌ، ثُمَّ نَقَلَ عن الطِّيبِيُّ أنَّه قال: الدُّعَاءُ هو إِظْهَارُ غَايَةِ التَّذَلُّلِ وَالافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ وَالاسْتِكَانَةِ لَهُ وَمَا شُرِعَتْ الْعِبَادَاتُ إِلاَّ لِلْخُضُوعِ لِلْبَارِي سُبْحَانَهُ وَإِظْهَارِ الافْتِقَارِ إليهِ تَعَالىَ0
__________
(1) تحفة الذاكرين للشوكاني ص28.
(2) أنظر باب: الدعوات عن رسول الله، حديث رقم: 3294 0(8/362)
[*] وقال الفَخْرُ الرَّازي (1): لا مَقْصُودَ من جميع التَّكَالِيفِ إلا مَعْرِفَةُ ذُلِّ العُبُودِيَةِ وعِزَّ الرُّبوبِيَةِ، فإذا كان الدُّعَاءُ مُسْتَجْمِعاً لهذين المَقَامَيْنِ، لا جَرَمَ كان الدُّعَاءُ أعْظَمَ أنواع العبادات 0
[*] وقال الشوكاني (2): الآية الكريمة دَلَّتْ على أن الدُّعَاءَ من العبادة، فإنه سبحانه وتعالى أمَرَ عباده أن يَدْعُوهُ ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} فأفاد ذلك أن الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ، وأنَّ تَرْكَ دُعَاءُ الرَّبِّ سبحانه اسْتِكْبَارٌ، ولا أقْبَحَ من هذا الاسْتِكْبَار 0
[*] وقال الفَخْرُ الرَّازي (3): من المعلوم بالضرورة أن الإنسان لا يَنْتَفِعُ في يوم القيامة إلا بطاعة الله تعالى، فلا جَرَمَ كان الاشتغال بالطَّاعَةِ مِنْ أهَمِّ اَلْمُهِمَاتِ، ولَمَّا كان أشرف أنواع الطَّاعات الدُّعَاءُ والتَّضَرُعُ، لا جَرَمَ أمَرَ الله سبحانه وتعالى به في هذه الآية فقال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ} 0
[*] وقال السِنْدِيُّ في شرحه لِسُنَنِ ابن مَاجَه:
الدُّعَاءُ من وظائف العبودية بل أعلاها00 ومن يعلم أن حقيقة العبادة إظُهَارُ التَّذَلُلِ والاِفْتِقَارِ والاِسْتِكَانَةِ، والدُّعَاءُ في ذلك في الغاية القصوى، يَظْهَرُ له سِرُّ كَوْنَ الدُّعَاءِ مُخُّ العِبَادَةِ (4)
[*] وقال الشيخ علي الحُذَيْفِيُّ: الدُّعَاءُ تتحقق به عبادة ربِّ العالمين؛ لأنه يتضمَّن تَعَلُّقَ القلبِ بالله تعالى، والإخلاص له، وعدم الاِلْتِفَاتِ إلى غير الله عزّ وجلّ في جَلْبِِ النَّفْعِ ودَفْعِ الضُّرِ، ويتضمَّن الدُّعَاءُ اليقين بأن الله قدير لا يُعجزه شيء00 ويتضمَّن الدّعاءُ اِفْتِقَارَ العبدِ وشِدَّةَ اضطرارِه إلى ربّه، وهذه المعَاني العظيمةُ هي حقيقةُ العِبادة (5)
__________
(1) أنظر تفسير الرازي على الآية (55 ـ الأعراف)
(2) أنظر تحفة الذاكرين، ص 28 0
(3) أنظر تفسيره على الآية (60 ـ الأعراف)
(4) أنظر شرح السندي لسنن ابن ماجه على الحديث رقم: 3817، وحديث " الدعاء مخ العبادة " رواه الترمذي وضعفه الألباني 0
(5) من خطبة الجمعة في المسجد النبوي بالمدينة المنورة لفضيلة الشيخ: علي الحذيفي بتاريخ: 13 - 4 - 1424هـ وهي بعنوان: فضل الدعاء وآدابه، يمكن قراءتها أو الاستماع إليها عبر موقع: www.alminbar.net على الشبكة العنكبوتية 0(8/363)
(فالدعاء من أعظم العبادة لله تعالى، لأن فيه إظهاراً للذل والفاقة والحاجة إلى الله عز وجل، وفيه خضوع وخشوع له سبحانه من عبده الذي يدعوه.
(فإذا علمت أن الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ، فالأصل فيها: الاِتِّباَعُ وَعَدَمِ الاِعْتِدَاءِ، والاِتِّباَعُ في عِبَادَةِ الدُّعَاء يَجْمَعُ لك أجْرَيْنِ: أجْرُ الدُّعَاءِ، وأجْرُ الاِتِّباَعِ 0
{تنبيه}: (الذي يتأمل في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (الدعاء هو العبادة) يتضح له وضوحاً جلياً كيف أن الله تعالى كرمه فياضٌ وجوده متتابع حيث جعل سؤال عباده له لقضاء حوائجهم من أعظم العبادات وأجلِّ القربات فعظَّم الرغبة عندهم في الدعاء حتى قال (الدعاء هو العبادة)، بل وذم ترك الدعاء وعدَّه استكباراً عليه وهدده بأشدِ أنواع التهديد حيث قال تعالى: (وَقَالَ رَبّكُمْ ادْعُونِيَ أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنّ الّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنّمَ دَاخِرِينَ)
(والدعاءُ تتحقَّق به عبادةُ ربِّ العالمين؛ لأنَّه يتضمَّن تعلّقَ القلب بالله تعالى، والإخلاصَ له، وعدمَ الالتفات إلى غير الله عز وجل في جلبِ النفع ودفع الضرّ، ويتضمَّن الدعاءُ اليقينَ بأنّ الله قدير لا يُعجزه شيء، عليم لا يخفى عليه شيء، رحمن رحيم، حيّ قيّوم، جواد كريم، محسِن ذو المعروف الذي لا ينقطع أبداً، لا يُحَدُّ جودُه وكرمه، ولا ينتهي إحسانُه ومعروفه، ولا تنفد خزائن بركاته.
فالدعاء استعانة من عاجز ضعيف بقوي قادر، واستغاثة من ملهوف برب قادر، وتوجه ورجاءٌ إلى مصرِّفِ الكون ومدبِّر الأمر، لِيُزيلَ عِلَّة، أو يَرْفَعَ مِحْنَة، أو يَكْشِفَ كُرْبَة، أو يُحَقِّقَ رجاءً أو رَغْبَة ... قائلاً
يا أمان الخائفين سبحانك ما أحلمك على من عصاك وما أقربك ممن دعاك وما أعطفك على من سألك وما أرأفك بمن أمَلك، من الذي سألك فحرمته، ومن الذي فر إليك فطردته أو لجأ إليك فأسلمته، أنت ملاذنا ومنجانا فلا نعول إلا عليك ولا نفر من خلقك ومنك إلا إليك يا أمان الخائفين.
إن المؤمن حين يستنفذ الأسبابَ في عمل مشروع، ويستعصي عليه الأمرُ، والأسبابُ لا تُوصِلُهُ إلى ما يسْعَى من أجْلِهِ، ينقلُ الأمر كلَّهُ منْ قدُراتِهِ هو إلى قدرة الله، ويفزَعُ إلى الله تعالى واهبِ الأسباب ويقولُ: يا رب، ويدعو ... فالأسباب إذا تخلَّتْ فلن يتخلى عنه الله ... فهو سبحانه يجيب دعوة المضطرين ...(8/364)
فلأجلِ هذه الصفات العظيمة وغيرِها يُرجى ربُّنا ويُدعى، ويسأله من في السموات والأرض حاجاتِهم باختلاف لغاتِهم فما أعظمَ شأنَ الدعاء، وما أجلَّ آثارَه.
فالدعاء من أعظم العبادات، فيه يتجلى الإخلاص والخشوع، ويظهر صدق الإيمان, وتتمحص القلوب, وهو المقياس الحقيقي للتوحيد، ففي كلامٍ لشيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: إذا أردت أن تعرف صدق توحيدك فانظر في دعائك.
(4) الدعاء أكرم شيء على الله:
(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ليس شيء أكرم على الله من الدعاء.
[*] قال في تُحْفَةُ الأحوذي بشرح جامع الترمذي: لأنَّ فِيهِ إظْهَارَ الفَقْرِ والعَجْزِ والتَّذلُّلِِ والاعْتَرَافِ بِقِوَةِ الله وقُدْرَتِهِ 0
[*] وقال العلماء: اِحْتَلَّ الدعاء تلك المنزلة العظيمة والمكانة الكريمة لِدَلاَلَتِهِ على قُدْرَةِ الله تعالى الغَنِيِّ الجَوَادِ الكَرِيمِ وعَجْزِ الدَّاعِي الفَقِيرِ إلى الله تَعَالَى (1)
اَلْدُّعَاء مِنْ أعْظَمِ أنْوَاعِ اَلْعِبَادَاتِ:
[*] قال ابن رَجَبٍ: اعلم أن سُؤالَ الله عَزَّ وجَلَّ دُونَ خَلْقِهِ هو اِلْمُتَعَيِنُ، لأن السؤال فيه إظهار الذُلِّ من السائل والمَسْكَنَةِ والحَاجَةِ والافْتِقَارِ، وفيه الاعتراف بِقُدْرَةِ المَسْؤولِ على رَفْعِ هذا الضُّرِّ ونَيْلِ المطلوب، وجَلْبِ المَنَافِعِ ودَرْءِ المَضَارِ، ولا يَصْلُحُ الذُلُّ والافْتِقَارُ إلا لله وحده لأنه حقيقة العبادة (2)
[*] قال الشوكاني في هذا الحديث: قيل وجه ذلك أنه يدل على قدرة الله_تعالى_ وعجز الداعي.
والأولى أن يقال: أن الدعاء لمَّا كان هو العبادة، كان أكرم على الله من هذه الحيثية؛ لأن العبادة هي التي خلق الله _سبحانه_ الخلق لها، كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ) [سورة: الذاريات - الأية: 56]
(ولمّا كان الدّعاءُ هو العِبادة فإنّه لا يكون إلا لله وحدَه، فلا يُدعَى من دون الله ملكٌ مقرَّب، ولا نبيّ مرسَل، ولا وليّ ولا جنّيّ، قال الله تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) [الجن /18]
،
__________
(1) أنظر فيض القدير الحديث رقم 7602، ج 5، ص 443 0
(2) أنظر جامع العلوم والحكم (ص180، 181).(8/365)
وقال تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ الها ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ) [الفرقان /68]
، ومن دعَا مخلوقًا من دون الله نبيًّا أو ملكًا أو وليًّا أو جنّيًّا أو ضريحًا ونحوَه فقد وقَع في الشّرك الأكبر، قال الله تعالى: (وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) [المؤمنون / 117]
وقال تبارك وتعالى: (وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظَّالِمِينَ * َإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يونس/106، 107]
وقال تَبارك وتعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ * الُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ) [سبأ / 40،41]
وقال تبارك وتعالى: (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْء إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ) [الرعد / 14]
[*] قال ابن رجب رحمه الله:
والله سبحانه يحبُّ أن يُسأل، ويُرغبُ إليه في الحوائج، ويُلحُّ في سؤاله ودعائه، ويغضب على من لا يسأله، ويستدعي من عباده سؤالَه، وهو قادر على إعطاء خلقه كلهم سؤلهم من غير أن ينقص من ملكه شيء، والمخلوق بخلاف ذلك، يكره أن يسأل ويحب أن لا يسأل؛ لعجزه وفقره وحاجته، ولهذا قال وهب بن منبه - لرجل كان يأتي الملوك -: ويحك تأتي من يغلق عنك بابَه، ويظهر لك فَقْرَه، ويواري عنك غناه، وتدع من يفتح لك بابه نصف الليل ونصف النهار، ويظهر لك غناه، ويقول ادعني أستجب لك.
[*] وقال طاووس لعطاء:
إياك أن تطلب حوائجك إلى من أغلق بابه دونك، ويجعل دونها حجّابَه، وعليك بمن بابُه مفتوح إلى يوم القيامة، أمرك أن تسألَهُ، ووعدك أن يجيبَك ... (1).
__________
(1) - جامع العلوم والحكم (1/ 481).(8/366)
(5) الدعاء سبب لدفع غضب الله: فمن لم يسألِ الله يغضبْ عليه.
(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من لم يسال الله يغضب عليه.
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" وهذا يدلّ على أن رضاه في سؤاله وطاعته، وإذا رضي الرّبّ تبارك وتعالى، فكلّ خير في رضاه، كما أنّ كلّ بلاء ومصيبة في غضبه ".
ففي هذا الحديث دليل على أن الدعاء من العبد لربه من أهم الواجبات، وأعظم المفروضات؛ لأن تجنب ما يغضب الله منه لا خلاف في وجوبه. (1)
[*] قال يحي ابن معاذ:
يا من يغضب على من لا يسأله لا تمنع من سألك.
ولقد أحسن من قال:
لا تسألنَّ بُنَيَّ آدمَ حاجةً ... وسل الذي أبوابُهُ لا تحجبُ
اللهُ يغضبُ إن تركت سؤالَه ... وبنيُّ آدمَ حين يُسألُ يغضبُ
وبنيُّ آدمَ حين يُسألُ يغضبُ
(6) الدعاء دليل على التوكل على الله: فَسِرُّ التوكل على الله وحقيقتُهُ هو اعتماد القلب على الله وحده.
وأعظم ما يتجلى التوكل حال الدعاء؛ ذلك أن الداعي حال دعائه مستعين بالله، مفوض أمره إليه وحده دون سواه.
ثم إن التوكل لا يتحقق إلا بالقيام بالأسباب المأمور بها، فمن عطَّلها لم يصح توكله، والدعاء من أعظم هذه الأسباب إن لم يكن أعظمها.
(7) الدعاء وسيلة لكبر النفس وعلو الهمة: فبالدعاء تكبر النفس وتشرف، وتعلو الهمة وتتسامى؛ ذلك أن الداعي يأوي إلى ركن شديد، ينزل به حاجاته، ويستعين به في كافة أموره، وبهذا يقطع الطمع مما في أيدي الخلق، فيتخلص من أسرهم، ويتحرر من رقهم، ويسلم من مِنَّتِهم؛ فالمنة تصدع قناة العزة، وتنال نيلها من الهمة.
وبالدعاء يسلم من ذلك كله، فيظل مهيب الجناب، موفور الكرامة، وهذا رأس الفلاح، وأسُّ النجاح.
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته لقضاء حاجته ودفع ضرورته_ قويت عبوديته له، وحريته مما سواه؛ فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له_ فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه. (2)
(8) الدعاء سلامة من العجز، ودليل على الكياسة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أبخل الناس من بخل بالسلام و أعجز الناس من عجز عن الدعاء.
(أعجز الناس من عجز عن الدعاء): أعظم ما يشق على المسلم أن يغلق عليه في الدعاء،
[*] قال عمر بن الخطاب:(8/367)
" أني لا أحمل هم الإجابة ولكن أحمل همّ الدعاء" فاذا فتح على العبد في دعائه من معاني الحمد والثناء دعا الله وحسن الظن به والتعلق والرجاء به وتعظيم الرغبة مما عند الله والثقة بوعد الله فينبغي عليه أن يقبل على الدعاء وأن يصرف همته في ذلك لاسيما في الأزمان والأماكن الفاضلة , وعند نزول الضر وحصول الشدائد, ومن أكثر طرق هذا الباب فتح له, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
فأضعف الناس رأيًا، وأدناهم همة، وأعماهم بصيرة_من عجز عن الدعاء؛ ذلك أن الدعاء لا يضره أبدًا، بل ينفعه.
(9) ثمرة الدعاء مضمونة بإذن الله: فإذا أتى الداعي بشرائط الإجابة فإنه سيحصل على الخير، وسينال نصيبًا وافرًا من ثمرات الدعاء ولا بد.
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب له فإما أن يعجل له في الدنيا و إما أن يدخر له في الآخرة ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل.
ففي ما مضى من الأحاديث دليل على أن دعاء المسلم لا يهمل، بل يعطى ما سأله، إما معجلاً، وإما مؤجلاً، تفضلاً من الله_جل وعلا.
[*] قال ابن حجر: كل داع يستجاب له، لكن تتنوع الإجابة؛ فتارة تقع بعين ما دعا به، وتارة بعِوَضِهِ. (1)
(وبين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الله تعالى يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا.
(حديث سلمان في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا.
(10) الدعاء سبب لدفع البلاء قبل نزوله:
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الجواب الكافي:
والدعاء من أنفع الأدوية وهو عدو البلاء يدافعه ويعالجه ويمنع نزوله ويرفعه أو يخففه إذا نزل، وله مع البلاء ثلاث مقامات أحدها أن يكون أقوي من البلاء فيدفعه الثاني أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء فيصاب به العبد ولكن قد يخففه وإن كان ضعيفا الثالث أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه.
(حديث سلمان في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لا يرد القضاء إلا الدعاء و لا يزيد في العمر إلا البر.
[*] قال الشوكاني عن هذا الحديث: فيه دليل على أنه_سبحانه_ يدفع بالدعاء ما قد قضاه على العبد، وقد وردت بهذا أحاديث كثيرة.
وقال: والحاصل أن الدعاء من قدر الله_ عزَّ وجلَّ _ فقد يقضي على عبده قضاءً مقيدًا بأن لا يدعوه، فإذا دعاه اندفع عنه.(8/368)
(11) الدعاء سبب لرفع البلاء بعد نزوله:
(حديث عائشة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يغني حذر من قدر و الدعاء ينفع مما نزل و مما لم ينزل و إن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة.
ومعنى يعتلجان: أن يتصارعان، ويتدافعان.
(ولهذا يجدر بالعبد إذا وجد من نفسه النشاط إلى الدعاء والإقبال عليه أن يستكثر منه؛ فإنه مجاب، وتقضى حاجته بفضل الله، ورحمته، فإنَّ فَتْحَ أبواب الرحمة دليل على إجابة الدعاء.
(12) الدعاء يفتح للعبد باب المناجاة ولذائذها: فقد يقوم العبد لمناجاة ربه، وإنزال حاجاته ببابه _ فَيُفْتَح على قلبه حال السؤال والدعاء من محبة الله، ومعرفته، والذل والخضوع له، والتملق بين يديه _ ما ينسيه حاجته، ويكون ما فتح له من ذلك أحبَّ إليه من حاجته، بحيث يحب أن تدوم له تلك الحال، وتكون آثر عنده من حاجته، ويكون فرحه بها أعظمَ من فرحه بحاجته لو عجلت له وفاته تلك الحال. (1)
[*] قال بعض العُبَّاد: إنه لتكون لي حاجةٌ إلى الله، فأسأله إياها، فيفتح لي من مناجاته، ومعرفته، والتذلل له، والتملق بين يديه _ ما أحبُّ معه أن يُؤخِّر عني قضاءها، وتدوم لي تلك الحال. (2)
(13) حصول المودة بين المسلمين: فإذا دعا المسلم لأخيه المسلم في ظهر الغيب_ استجيبت دعوته، ودل ذلك على موافقة باطنه لظاهره، وهذا دليل التقوى والصدق والترابط بين المسلمين، فهذا مما يقوي أواصر المحبة، ويثبت دعائمها، قال تعالى: (إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرّحْمََنُ وُدّاً) [مريم / 96]
يعني: يَوَدُّن، ويُوَدُّن، يُحِبُّن، ويُحَبُّن، والدعاء _ بلا شك _ من العمل الصالح.
(14) الدعاء من صفات عباد الله المتقين: قال _ جلَّ شأنه _ عن أنبيائه _ عليهم السلام: (إِنّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ) [الأنبياء / 90]
[*] وقال عن عباده الصالحين: (وَالّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاّ لّلّذِينَ آمَنُواْ رَبّنَآ إِنّكَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ) [الحشر / 10] إلى غير ذك من الآيات في هذا المعنى.
__________
(1) انظر مدارج السالكين لابن القيم، 2/ 229.
(2) مدارج السالكين، 2/ 229.(8/369)
(15) الدعاء سبب للثبات والنصرعلى الأعداء:
قال تعالى عن طالوت وجنوده لما برزوا لجالوت وجنوده: (وَلَمّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة /250]
فماذا كانت النتيجة؟
[فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت] [البقرة /251]
(16) الدعاء مَفْزَعُ المظلومين، وملجأ المستضعفين:
فالمظلوم _ أو المستضعف _ إذا انقطعت به الأسباب، وأغلقت في وجهه الأبواب، ولم يجد من يرفع عنه مظلمته، ويعينه على من تسلط عليه وظلمه، ثم رفع يديه إلى السماء، وبث إلى الجبار العظيم شكواه _ نصره الله وأعزه، وانتقم له ممن ظلمه ولو بعد حين.
(ولهذا دعا نوح _ عليه السلام _ على قومه عندما استضعفوه، وكذَّبوه، وردُّا دعوته.
(وكذلك موسى _ عليه السلام _ دعا على فرعون عندما طغى، وتجبر، وتسلط، ورفض الهدى ودين الحق؛ فاستجاب الله لهما، وحاق بالظالمين الخزي في الدنيا، وسوء العذاب في العقبى.
وكذلك الحال بالنسبة لكل من ظُلِم، واستُضْعِف؛ فإنه إن لجأ إلى ربه، وفزع إليه بالدعاء _ أجابه الله، وانتصر له وإن كان فاجرًا.
(حديث ا بن عباس في الصحيحين) قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذٍ ابن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتُردُ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائمَ أموالهم، واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب.
(حديث خزيمة بن ثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اتقوا دعوة المظلوم فإنها تُحْمَلُ على الغمام يقول الله: و عزتي و جلالي لأنصرنك و لو بعد حين.
(حديث ابن عمر في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوة المظلوم مستجابة و إن كان فاجرا ففجوره على نفسه.(8/370)
{تنبيه}: (واعلموا بأن الله تعالى لا يرد دعوة المظلوم ولو كانت من كافر، لا تقولوا بأن هذا كافر لا حرمة له، نعم. لا حرمة له؛ لأنه كافر نجس، ولكن لا تظلمه، ولا تأكل عليه حقه، ولا تأخذ منه حقه، أعطه حقه كاملاً موفوراً غير منقوص ولا تظلمه، فلو دعا عليك وهو كافر لاستجاب الله دعوته، وكفره على نفسه، وفجوره على نفسه، أما دعوة المظلوم فيرفعها الله فوق الغمام، ويقول لها: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) وكانت وصية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذ وهو ذاهب إلى اليمن: (واتق دعوة المظلوم -وكم من الناس لا يهتم بها، ولا يأبه لها- فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم.
اعلم بأن الله يمهلك ولا ينساك ولا يغفل عنك، فإن كنت ظالماً لأحد من عباد الله ولأحد من خلق الله كافراً كان أو مسلماً، فرد إليه المظلمة قبل أن يأتي يوم لا درهم فيه ولا دينار، ولا مناصب ولا كراسي ولا وزارات، ويؤخذ من حسناتك -يا عبد الله- فتعطى لمن ظلمت، حتى إذا ما فنيت حسناتك أُخذ من سيئات من ظلمتهم في الدنيا فطرحت عليك، فطرح صاحب المظالم على وجهه في النار، وهذا هو المفلس، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
[*] قال الإمام الشافعي وما أجمل ما قال:
وربَّ ظلومٍ قد كفيت بحربه ... فأوقعه المقدور أيَّ وقوعِ
فما كان لي الإسلامُ إلا تعبدًا ... وأدعيةً لا تُتَّقى بدروع
وحسبك أن ينجو الظلومُ وخلفه ... سهامُ دعاءٍ من قِسيِّ ركوع
مُرَيَّشة بالهدب من كل ساهرٍ ... منهلة أطرافها بدموع (1)
وقال:
أتهزأ بالدعاء وتزدريه ... وما تدري بما صنع الدعاءُ
سهام الليل لا تخطي ولكن ... له أمدٌ وللأمد انقضاءُ (2)
(وإذا تقطعت بك -أيها المظلوم- الأسباب، وأُغلقت في وجهك الأبواب، فاقرع أبواب السماء، وُبثَّ إلى الجبار اللأواء، فهو مفزع المظلومين، وملجأ المستضعفين، وَعَدَ بنصرة الملهوف، وإجابة المظلوم، ظَلَم رجل سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- فقال سعد: (اللهم أعم بصره، وأطل عمره، عرضه للفتن)،
(قال الراوي: فأنا رأيته بعد قد عمي بصره، وقد سقط حاجبه على عينيه من الكبر، ويقول: كبير مفتون أصابته دعوة سعد.
__________
(1) ديوان الشافعي، تحقيق: د. محمد عبد المنعم خفاجي، ص109.
(2) ديوان الشافعي، ص75.(8/371)
(فيا ويل من وجهت له سهام المظلومين، ورفعت عليه أيدي المستضعفين، فاصبر -أيها المصاب- على ما قدر، فالنصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، واليسر مع العسر، والبلاء المحض هو ما يشغلك عن ربك، وأما ما يقيمك بين يديه ففيه كمالك وعزك، وإذا أقبل اليسر، وحل الفرج، وزالت الغموم، وما أقربَ الأمر، فاحمد الله على ما كشف، ففي الحمد شكر وزيادة نِعَم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر:60].
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عثمان بن عبد الرحمن بن علي بن زيد بن جدعان، قال: أخبرت الحسن بموت الحجاج فسجد، وقال: اللهم عقيرك وأنت قتلته فاقطع سنته وأرحنا من سنته وأعماله الخبيثة ودعا عليه.
رحم الله الإمام الحسن البصري فلقد توفي وعمره 88 سنة عام عشر ومائة في شهر رجب.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن علي بن زيد، قال: قلنا لسعيد بن المسيب: يزعم قومك إنما يمنعك من الحج أنك جعلت لله عليك إذا رأيت الكعبة أن تدعو الله على بني مروان، قال: فما فعلت ذلك وما أصلي لله عز وجل في صلاة إلا دعوت عليهم وإني قد حججت واعتمرت بضعاً وعشرين مرة وإنما كتبت على حجة واحدة.
(17) الدعاء دليل على الإيمان بالله، والاعتراف له بالربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات: فدعاء الإنسان لربه متضمن إيمانه بوجوده، وأنه غني، سميع، بصير، كريم، رحيم، قادر، مستحق للعبادة وحده دون من سواه.
(18) وربنا سبحانه لا يعبأ بعباده لولا ضراعتهم إليه، قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً [الفرقان:77]
(19) والدعاء من صفات أنبياء الله وأصفيائه، إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ [الأنبياء:90]، وإمام الحنفاء يقول: وَأَدْعُو رَبّى عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا [مريم:48].
(20) الدعاء نفعه عميم، نفعه يلحق الأحياء في دنياهم، والأمواتَ في لحودهم، (حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقةٍ جارية أو علمٍ ينتفع به أو ولدٌ صالحٌ يدعو له.(8/372)
(21) الدعاء بإذن الله تعالى كفيلٌ بدفع البلاء، ويمنع وقوع العذاب والهلاك، وهو سلاح المؤمن، لا شيء من الأسباب أنفع ولا أبلغ في حصول المطلوب منه، هو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه أو يخففه إذا نزل،
فالدعاء - بإذن الله - كفيل بدفع البلاء إذا صدر من قلب مؤمن متقٍ خاشعٍ مخبتٍ لله عز وجل، ومن لسان متضرع، ومن كف صادق لله عز وجل. يقول الله عز وجل: (وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). [سورة الأنعام، الآيات: 42 - 45].
(فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ). [سورة الأنعام، الآيات: 43].
(والمعنى: فهلا إذا رأوا العقوبة تنزل بجيرانهم، يشردون من أوطانهم، تستلب أموالهم، تنتهك حرماتهم، تحتل بلادهم، تهدم مقدساتهم تحتل بلادهم، فهلا إذا رأوا ذلك رجعوا وجأروا إلى الله.
هلا تابوا وتركوا ما القوم عليه سائرون خشية أن يصيبهم ما أصابهم؟!.
لا، ولكنهم لجّوا في طغيانهم يعمهون، فترى أهل الربا على الربا، وأهل التلفاز على التلفاز، وأهل الخنا على الخنا، وأهل الغناء على الغناء، وأهل ترك الصلاة على تركها، والنساء المتبرجات هن هن، فلم يغيروا ولم يبدلوا هذا وإنهم يرون عقوبة الله عز وجل.(8/373)
أخرج الإمام أحمد في تفسير هذه الآية: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ). [سورة الأنعام، الآيات: 44]. عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا رأيت الله يُعْطِي العبدَ من الدنيا على مَعاصيه ما يُحِبُّ، فإنما هو اسْتِدْرَاج. ثم تلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ). [سورة الأنعام، الآيات: 44].
وقال سبحانه وتعالى: (فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ). [سورة يونس، الآية: 98]. ذلك أن قوم يونس عليه السلام لما عصوا، وخرج نبيهم ذي النون مغاضباً، وترك قومه ووعدهم بالعقوبة بعد ثلاث ليالي، وقد علموا أنّه لا يكذب لأنه نبي من عند الله عزّ وجل، فخشوا العقوبة وأخذوا نساءهم وأطفالهم وأنعامهم وإبلهم وبقرهم وغنمهم، وجأروا إلى الله عز وجل ثلاثة أيام، وقيل: أربعين ليلة، ونادوا الله سبحانه وتعالى بأسمائه، واستغاثوا، وتابوا إلى الله عزّ وجل، فصرف الله سبحانه وتعالى عنهم العقوبة، وقد أوشكت أن تحل بهم.
(والحاصل أنّ الدعاء بإذن الله نافع في رفع البلاء ودفع العقوبة إذا ما صدر من قلب مؤمن صادق لله عز وجل. ولقد كان نبيكم عليه الصلاة والسلام أفزعُ الناس إلى الدعاء، وخصوصاً إذا ألمت مصيبة أو نزلت نازلة، حتى أنه إذا رأى تغيّراً في أفق الجو لجأ إلى الله عز وجل بالدعاء، وجأر إلى الله سبحانه وتعالى بالتضرّع: (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ). [سورة الأعراف، الآية: 55].(8/374)
واسمعوا واقرأوا قصته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند غزوة الأحزاب، وفي بدر لما خرج لملاقاة المشركين، فقد بات ليلته والناس نائمون، بات ليلته كلها وهو يدعو الله عزّ وجل، وقد وعده الله عزّ وجل أن ينصره، ومع ذلك بات يدعو الله طيلة تلك الليلة، يدعو الله بقلب خاشع، وبكف ضارع يجأر إلى الله عز وجل، ويبكي ويتضرع، ويمرّغ وجهه بين يدي رب العالمين في ظلمات الليالي صلوات الله عليه، ففي الحديث "لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ). [سورة الأنفال، الآية: 9]."
والقصص مشهورة ومعروفة، فحينما يلجأ العبد إلى ربّه وقت الشدة، ويكشف الله عزّ وجل عنه ما يجد: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ). [سورة النمل، الآية: 62].
وقد ذُكر عن بعض الصالحين وغيرهم أنهم دعوا الله عز وجل وقت الشدة، وقد صدقوا اللجأ والاضطرار إلى الله عز وجل، فرفع الله عز وجل عنهم البلاء.(8/375)
[*] وقد ذُكر عن أيوب السختياني عليه رحمة الله، وهو أحد رجال الصحيحين، وأحد الأئمة الأثبات أنّه خرج مع قومه وأهل بلده في الحج، فأصابهم في الصحراء عطش شديد، ونفدت مياههم، فقالوا له: يا أيوب، ألا تستغيث الله عز وجل لنا؟! قال: ومن أنا حتى استغيث الله عز وجل لكم؟! فألحوا عليه، وحلفوا، فاقسم عليهم أن لا يخبروا أحداً بما يحصل. فقالوا: نعم فخط خطاً بعمامته، ودعا الله عزّ وجل، فما أن فرغ من دعائه حتى ثارت تلك الخطة التي خطها بعمامته ماءاً، وشربوا وسقوا، وانصرفوا إلى حجهم.
(وفي رواية عن سعيد ابن عنبسة قال: بينما رجل جالس وهو يعبث بالحصى ويحذف به إذ رجعت حصاة منه عليه فصارت في أذنه، فجهدوا بكل حيلة فلم يقدروا على إخراجها، فبقيت الحصاة في أذنه مدة وهي تألمه، فبينما هو ذات يوم جالس إذ سمع قارئ يقرأ: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ).
فقال الرجل: يا رب أنت المجيب وأنا المضطر فأكشف عني ما أنا فيه، فنزلت الحصاة من أذنه في الحال.
(وروى البيهقي في فضائل الأعمال عن حماد ابن سلمة أن عاصما ابن أبي إسحاق شيخ القراء في زمانه قال: أصابتني خصاصة -أ ي حاجة وفاقة - فجئت إلى بعض إخواني فأخبرته بأمري فرأيت في وجهه الكراهة، فخرجت من منزله إلى الصحراء ثم وضعت وجهي على الأرض وقلت يا مسبب الأسباب، يا مفتح الأبواب، يا سمع الأصوات، يا مجيب الدعوات، يا قاضي الحاجات اكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضل عن من سواك. يلح على الله بهذا الدعاء.
قال فوالله ما رفعت رأسي حتى سمعت وقعت بقربي، فرفعت رأسي فإذا بحدأة طرحت كيسا أحمر فأخذت الكيس فإذا فيه ثمانون دينارا وجوهرا ملفوفا بقطنة، فبعت الجواهر بمال عظيم، وأبقيت الدنانير فاشتريت منها عقارا وحمدت الله تعالى على ذلك.
لا تعجب أيها الأخوة، إن ربي لسميع الدعاء، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
والقصص في ذلك كثيرة ومشهورة.
والحاصل - يا عباد الله - أن المسلم في مثل هذه الأحوال، وفي مثل هذه الظروف عليه أن يلجا إلى الله بالدعاء والتضرع.
وما أحسن ما قال الشاعر
لا تسألن بُني ابن ادم حاجة ** وسل الذي أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله ** وبُنيّ آدم حين يُسأل يغضب
سبحانه وتعالى، نسال الله تعالى أن يجعلنا أفقر عباده إليه، وأغنى خلقه عمن سواه.
(22) الدعاء أيضاً به يُستنزلُ النصر من الله العلي القدير:(8/376)
فالمؤيد بالوحي – عليه الصلاة والسلام كان يجتهد في استنزال النصر بالدعاء.
(حديث بْن عَبّاسٍ رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قال: حَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ قال: لَمّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلَىَ الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلاَثُمِائةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً فَاسْتَقْبَلَ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم الْقِبْلَةَ ثُمّ مَدّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبّهِ: اللّهُمّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي. اللّهُمّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي. اللّهُمّ إنْ تَهْلِكْ هََذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ لاَ تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبّهِ مَادّاً يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتّىَ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَ هُ فَأَلْقَاهُ عَلَىَ مَنْكِبَيْهِ، ثُمّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ: يَا نَبِيّ اللّهِ كَذَاكَ مُنَاشَدَتَكَ رَبّكَ (1) فَإنّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال/9]
فاستجاب الله دعاء نَبِيِّه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ونصره على أعدائه.
(23) الدعاء يؤكد ثقة العبد بربه، حين يوقن بالإجابة:
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ادعوا الله و أنتم موقنون بالإجابة و اعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلبٍ غافلٍ لاه.
والدعاء تعبير عن نفس الإنسان، وعن سماحته، وعن إيمانه وخلقه، فالدعاء يدرب على الدعاء للآخرين، حتى للمخالفين، مما يدرب على العفو والتسامح والحب والإيمان.
[*] (شروط الدعاء:
الشرط: لغة العلامة، واصطلاحاً: ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود، ولا عدم لذاته (2).
__________
(1) - وفي رواية لمسلم (كفاك مناشدتك ربك)، وهي كذلك في المسند (1/ 32) وغيره، ويُنظر شرح النووي على مسلم ... (12/ 434).
(2) الفوائد الجلية في المباحث الفرضية لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ص12 وعدة الباحث في أحكام التوارث للشيخ عبد العزيز الناصر الرشيد ص4.(8/377)
للدعاء شروط عديدة لا بد من توفرها؛ كي يكون الدعاء مستجابًا مقبولاً عند الله، وهاك شروط الدعاء جملةً وتفصيلا:
[*] (أولاً شروط الدعاء جملة ً:
(1) الإخلاص لله تعالى:
(2) متابعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
(3) أن يكون الداعي عالمًا بأن الله _ وحده _ هو القادر على إجابة دعائه:
(4) أن يتوسل إلى الله بأحد أنواع التوسل المشروعة:
(5) تجنب الاستعجال:
(6) الدعاء بالخير:
(7) حسن الظن بالله _ عز وجل _:
(8) حضور القلب:
(9) الدعاء بما شُرِعَ:
(1) إطابة المأكل:
(11) تجنب الاعتداء في الدعاء:
(12) ألا يشغل الدعاء عن أمر واجب، أو فريضة حاضرة:
(13) العزمُ والجَزم ُوالجِدُّ في الدعاء:
[*] (ثانياً شروط الدعاء تفصيلا ً:
(1) الإخلاص لله تعالى:
والإخلاص: هو تصفية الدعاء والعمل من كل ما يشوبه، وصرف ذلك كله لله وحده، و هو أن تبتغي بعملك وجه الله تعالى، فإن قصدت بعملك غيره تعالى لم يقبله فهو سبحان، لا شرك فيه، ولا رياء ولا سمعة، ولا طلباً للعرض الزائل، ولا تصنعاً وإنما يرجو العبد ثواب الله ويخشى عقابه، ويطمع في رضاه.
قال تعالى: " فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون " [غافر 14]، وقال تعالى: " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء " [البينة /5].
قال تعالى: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا) [الكهف / 110]
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى: " أنا أغني الشركاء عن الشرك، ومن عمل عملاً أشرك معي فيه غيري، تركته وشِركَه ".
فلا يدعو إلا الله: فلا يجوز له أن يسأل إلا الله، أو أن يدعو غيره معه؛ لأن هذا شرك بالله تعالى.
قال تعالى: (وَأَنّ الْمَسَاجِدَ لِلّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللّهِ أَحَداً) [الجن / 18]
(حديث ابن عباس في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يا غلام! إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله و إذا استعنت فاستعن بالله و اعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك و لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك بشيء إلا قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام و جفت الصحف.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[إذا سألت فاسأل الله] وهذا هو التوحيد العملي.(8/378)
(2) متابعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
قال تعالى: " واتبعوه لعلكم تهتدون " [الأعراف/ 158].
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) (آل عمران: من الآية 31).
والمتابعة شرطٌ في جميع العبادات، لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف /110]
والعمل الصالح هو ما كان موافقاً لشرع الله تعالى ويُراد به وجه الله سبحانه. فلا بد أن يكون الدعاء والعمل خالصاً لله صواباً على شريعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1)،
(ولهذا قال الفضيل بن عياض في تفسير قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (2).
قال: هو أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟
فقال: ”إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة“ (3). ثم قرأ قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (4).
(حديثُ أبي أُمامة صحيح النسائي): أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن الله تعالى لا يقبلُ من العملِ إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وَجهُهُ.
فيجب على المسلم أن يكون متبعاً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل أعماله، لأن العمل الذي لا يكون على شريعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكون باطلاً،
(حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد.
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير 3/ 109.
(2) سورة الملك، الآيتان: 1، 2.
(3) انظر: مدارج السالكين لابن القيم 2/ 89.
(4) سورة الكهف، الآية: 110.(8/379)
(3) أن يكون الداعي عالمًا بأن الله _ وحده _ هو القادر على إجابة دعائه: فلا يجلب له النفع إلا الله، ولا يكشف عنه السوء إلا هو، فهو سبحانه على كل شيء قدير، لأنه تعالى يقول للشيء كن فيكون، قال سبحانه: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [النحل /40]
وقال سبحانه: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس /82]. ومما يزيد ثقة المسلم بربه تعالى أن يعلم أن جميع خزائن الخيرات والبركات عند الله تعالى، قال سبحانه: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَآئِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر /21].
قال تعالى: (أَمّن يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السّوَءَ) [النمل / 62] وهذا هو التوحيد العلمي الاعتقادي _ توحيد الربوبية _.
(4) أن يتوسل إلى الله بأحد أنواع التوسل المشروعة: لأن هناك توسلاتٍ مشروعةً، وهناك توسلات ممنوعة، سيأتي ذكرها فيما بعد.
(ومن التوسلات المشروعة ما يلي:
أ: التوسل باسم من أسماء الله _ عز وجل _ أو صفة من صفاته: كأن يقول: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الرحمن الرحيم _ أن ترحمني، وتغفر لي، أو أن يقول: يا رحمن ارحمني، يا كريم أكرمني، أو يقول: أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء، أو برحمتك أستغث.
قال تعالى: (وَللّهِ الأسْمَآءُ الْحُسْنَىَ فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف /: 180]
ب_ التوسل إلى الله بصالح الأعمال: كأن يقول المسلم: اللهم إني أسألك بإيماني بك، أو بمحبتي لك، أو باتباعي لرسولك، أو أن يذكر بين يدي دعائه عملاً صالحًا عَمِلَه ثم يتوسل به إلى الله _ تعالى _.
ويدل على ذلك قوله تعالى: (الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَآ إِنّنَآ آمَنّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النّارِ) [سورة: آل عمران - الأية: 16]
وقوله تعالى: قال تعالى: (رّبّنَآ إِنّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبّكُمْ فَآمَنّا رَبّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنّا سَيّئَاتِنَا وَتَوَفّنَا مَعَ الأبْرَارِ) [آل عمران/ 193] ومن ذلك ما تضمنته قصة أصحاب الغار، فإن كلاًّ منهم توسل إلى الله بعمل صالح فاستجاب الله لهم.(8/380)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن ثلاثة في بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمى، بدا لله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكا، فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، قد قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب عنه، فأعطي لونا حسنا، وجلدا حسنا، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: الإبل - أو قال البقر، هو شك في ذلك: أن الأبرص والأقرع: قال أحدهما الإبل، وقال الأخر البقر - فأعطي ناقة عشراء، فقال: يبارك لك فيها. وأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن، ويذهب عني هذا، قد قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب، وأعطي شعرا حسنا، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر، قال: فأعطاه بقرة حاملا، وقال يبارك لك فيها. وأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: يرد الله إلي بصري، فأبصر به الناس، قال: فمسحه فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطاه شاة والدا، فأنتج هذان وولد هذا، فكان لهذا واد من إبل، ولهذا واد من بقر، ولهذا واد من غنم، ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين، تقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال، بعيرا أتبلغ عليه في سفري. فقال له: إن الحقوق كثيرة، فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرا فأعطاك الله؟ فقال: لقد ورثت لكابر عن كابر، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت. وأتى الأقرع في صورته وهيئته، فقال له مثل ما قال لهذا، فرد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذبا صيرك الله إلى ما كنت. وأتى الأعمى في صورته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل، وتقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى فرد الله بصري، وفقيرا فقد أغناني، فخذ ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخدته لله، فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك).
جـ_ التوسل إلى الله بدعاء رجل صالح حي حاضر قادر: ويدل على ذلك الحديث الآتي:(8/381)
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال أصابت الناس سنة على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب على المنبر يوم الجمعة قام أعرابي فقال يا رسول الله هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا أن يسقينا قال فرفع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه وما في السماء قزعة قال فثار سحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته قال فمطرنا يومنا ذلك وفي الغد ومن بعد الغد والذي يليه إلى الجمعة الأخرى فقام ذلك الأعرابي أو رجل غيره فقال يا رسول الله تهدم البناء وغرق المال فادع الله لنا فرفع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه وقال اللهم حوالينا ولا علينا قال فما جعل يشير بيده إلى ناحية من السماء إلا تفرجت حتى صارت المدينة في مثل الجوبة حتى سال الوادي وادي قناة شهرا ولم يجيء أحد من ناحية إلا حدث بالجود.
ومن ذلك ما جاء من توسل الصحابة بدعاء العباس (1).
(حديث عمر ابن الخطاب الثابت في صحيح البخاري) قال: كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا قال فيسقون.
د_ إظهار الافتقار والذلة، والاعتراف بالذنب والتقصير: كأن يقول العبد: اللهم إني عبدك الفقير المقصر على نفسه _ أسألك بأن تغفر لي.
ويدل على ذلك قوله _ تعالى _ عن يونس _ عليه السلام قال تعالى: (فَنَادَىَ فِي الظّلُمَاتِ أَن لاّ إِلََهَ إِلاّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّي كُنتُ مِنَ الظّالِمِينَ) [الأنبياء / 87] وقوله عن موسى _ عليه السلام: قال تعالى: (رَبّ إِنّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص /24]
(5) تجنب الاستعجال: وذلك بألا يستعجل العبد الإجابة إذا دعا، وألا يستبطئ الإجابة إذا تأخرت؛ فإن الاستعجال من الآفات التي تمنع أثر الدعاء.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يستجاب أحدكم ما لم يعجل، يقول دعوت فلم يُستَجِبْ لي.
__________
(1) جاء في صحيح البخاري عن أنس _ رضي الله عنه _: =أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا _ "_ فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال فيسقون+. البخاري4/ 209.(8/382)
وفي هذا الحديث أدب من آداب الدعاء، وهو أن يلازم الطلب، ولا ييأس من الإجابة؛ لما في ذلك من الانقياد، والاستسلام، وإظهار الافتقار. (1)
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن الآفات التي تمنع أثر الدعاء عليه أن يستعجل العبد، ويستبطئ الإجابة، فيستحسر، ويدع الدعاء.
وهو بمنزلة من بذر بذرًا، أو غرس غرسًا، فجعل يتعاهده، ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله. (2)
فلا تستبطئ الإجابة وألِحَّ على الله في المسألة، فالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكث يدعو على رعل وذكوان شهراً، وربك حييّ كريم يستحي من عبده إذا رفع يده إليه، أن يردها صفراً، فادع وَرَبُّكَ الأَكْرَم، وألق نفسك بين يديه، وسلّم الأمر كله إليه، واعزم المسألة، وأعظم الرغبة فما رَدَّ سائله، ولا خاب طالبه، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالخلق لم تسدَّ فاقته، ومن أنزلها بالرب فنِعْم الرزاق هو، فلازم الطلب فالمعطي كريم، والكاشف قدير، ولا تستعجل الإجابة إذا دعوت، ولا تستبطئها إذا تأخَّرت، ومن يُكثر قرع الأبواب يوشك أن يفتح له.
وهذا موسى عليه السلام وقف داعياً يقول: (رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى الْحياةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ) [يونس / 88]
وأخوه هارون عليه السلام يؤمن على الدعاء، فاستجاب الله دعاءهما وقال سبحانه: (قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا) [يونس / 89]
[*] قال العلماء: كان بين الدعاء والإجابة أربعون سنة.
(فعلى المؤمن أن يدعو الله، وأن يلح على الله في الدعاء، ولا يعجل في الإجابة، وينتظر الفرج من الله، وكما قال الشاعر اليمني الموحد في قصيدته التي سماها الجوهرة:
لطائف الله وإن طال المدى ... كلمح الطرف إذا الطرف سجى
كم فَرَج بعد إياس أتى ... وكم إياس قد أتى بعد النوى
[*] قال مُورِّقٌ العجلي: ((ما امتلأت غضباً قط، ولقد سألت الله حاجة منذ عشرين سنة فما شفعني فيها وما سئمت من الدعاء)) [نزهة الفضلاء ص 398].
(6) الدعاء بالخير: فحتى يكون الدعاء مقبولاً عند الله _ فلا بد أن يكون في الخير بعيدًا عن الإثم وقطيعة الرحم.
__________
(1) فتح الباري 11/ 141.
(2) الجواب الكافي ص10.(8/383)
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب له فإما أن يعجل له في الدنيا و إما أن يدخر له في الآخرة ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل.
(7) حسن الظن بالله _ عز وجل _:
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ادعوا الله و أنتم موقنون بالإجابة و اعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلبٍ غافلٍ لاه.
[*] قال سفيان ابن عيينة رحمه الله تعالى: لا يمنعنَّ أحدكم من الدعاء ما يعلم من نفسه فإن الله تعالى أجاب دعاء شرِ الخلق إبليس لعنه الله إذ قال: رَبّ فَأَنظِرْنِي إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ
(قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِي إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [سورة: الحجر - الآية: 36]
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملٍ خيرٌ منهم، وإن تقَّرب إليَّ شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إليَّ ذراعا تقربت إليه باعا و إن أتاني مشيا أتيته هَرْوَلَةً.
(وحسن الظن هو الباعث على العمل، والذي يلزم منه تحري الإجابة عند الدعاء، والقبولِ عند التوبة، والمغفرة عند الاستغفار، والإثابة عند العمل.
وأما ظن المغفرة والإثابة والإجابة مع الإصرار على الذنوب، والتقصير في العمل _ فليس من حسن الظن في شيء، بل هو من الأماني الباطلة، الناشئة عن الجهل والغرور.
[*] قال الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى: في قوله تعالى في الحديث القدسي: أنا عند ظن عبدي بي: فيه ترغيب من الله لعباده بتحسين ظنونهم، وأنه يعاملهم على حسابها؛ فمن ظن به خيرًا أفاض عليه جزيل خيراته، وأسبل عليه جميل تفضلاته، ونثر عليه محاسن كراماته، وسوابغ عطياته.
ومن لم يكن في ظنه هكذا لم يكن الله _ تعالى _ له هكذا.
وهذا هو معنى كونه _ سبحانه وتعالى _ عند ظن عبده؛ فعلى العبد أن يكون حسن الظن بربه في جميع حالاته، ويستعين على تحصيل ذلك باستحضاره ما ورد من الأدلة الدالة على سعة رحمة الله _ سبحانه وتعالى. (1)
__________
(1) تحفة الذاكرين ص 12.(8/384)
(8) حضور القلب: فينبغي للداعي أن يكون حاضر القلب، متفهمًا لما يقول، مستشعرًا عظمة من يدعوه؛ إذ لا يليق بالعبد الذليل أن يخاطب ربه ومولاه بكلام لا يعيه هذا الداعي، وبِجُمَلٍ قد اعتاد تكرارها دون فهم لفحواها، أو أن تجري على لسانه _ هكذا _ على سبيل العادة.
بعض الناس قد يدعو وهو غافل القلب، ساهٍ لاهٍ، لا يدري ما يدعو به، فقد يدعو على نفسه وهو لا يشعر، فهذا الدعاء صاحبه غير مخلص، غير صادق فيما يدعو، ومعلوم أن الله تعالى قد لا يستجيب دعاء من كان هذا حاله، لكن ربما صدر الدعاء من قلب غير صادق ولكن أبواب السماء مشرعة فيقبل دعاؤه والله قادر على كل شيء،
(حديث ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: " مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ "
والآية دالة على الخشوع والخضوع لله حال الدعاء، لأن ذلك موقف ذل وانكسار وعبودية لله عز وجل، فينبغي على الداع عند دعائه أن يُظهر الفاقة والحاجة لله تعالى، فيستحضر قلبه وجوارحه، ويئوب إلى ربه وينطرح بين يديه حتى يستجيب دعاءه.
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ادعوا الله و أنتم موقنون بالإجابة و اعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلبٍ غافلٍ لاه.
[*] قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: واعلم أن مقصور الدعاء هو حضور القلب كما سبق بيانه، والدلائل عليه أكثر من أن تحصر، والعلم به أوضح من أن يذكر. (1)
(9) الدعاء بما شُرِعَ: فينبغي للداعي أن يدعو ربه بالأدعية المشروعة الواردة في الكتاب والسنة، أو على الأقل ألا يصادم الأدعية المشروعة بالأدعية البدعية، كأن يتوسل بجاه النبي"أو بالأدعية والتوسلات الشركية، كأن يدعو غير الله _ عز وجل _ من الأموات والغائبين وغيرهم.
(10) إطابة المأكل: وهو من شروط إجابة الدعاء، فأطب مطعمك ومشربك، وتعفف عن الشبهات.
قال تعالى: (إِنّمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتّقِينَ) [المائدة / 27]
__________
(1) الأذكار ص356.(8/385)
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا فقال تعالى (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم) وقال (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك.
{تنبيه}: (وفى الحديث إشارة إلى الأسباب التي تقتضى إجابته، وإلى ما يمنع من إجابته.
فذكر من الأسباب التي تقتضى إجابة الدعاء أربعة:
أحدها: إطالة السفر، والسفر بمجرده يقتضى إجابة الدعاء كما فى الحديث الآتي: (حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاث دعوات مستجابات: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده.
(ومتى طال السفر كان أقرب إلى إجابة الدعاء، لأنه مظنةُ حصول انكسار النفس بطول الغربة عن الأوطان وتحمُّل المشاق. والانكسار من أعظم أسباب إجابة الدعاء.
الثاني: حصول التبذّل فى اللباس، والهيئة، بالشَّعَث والإغبار، وهو من المقتضيات لإجابة الدعاء كما فى الحديث المشهور.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك.
{تنبيه}: (قد يوجد من لا يؤبه به لفقره وضعفه وذلته؛ لكنه عزيز على الله تعالى لا يرد له سؤالاً، ولا يخيب له دعوة فالعبرة بالصلاح لا بالقوة.
(الثالث: (من أسباب قبول الدعاء:
مدّ يديه إلى السماء، (حديث سلمان في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا.
والرابع: الإلحاح على الله عز وجل بتكرير ذكر ربوبيته، وهو من أعظم ما يُطلب به إجابةُ الدعاء، مستفاداً من قوله (يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب).
(11) تجنب الاعتداء في الدعاء:
قال تعالى: (ادْعُواْ رَبّكُمْ تَضَرّعاً وَخُفْيَةً إِنّهُ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ) [الأعراف /55](8/386)