ثم إنه أصبح فغدا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره الرسول عليه الصلاة والسلام أن الله قد عجب من صنيعهما تلك الليلة، والعجب هنا عجب استحسان، استحسن عز وجل صنيعهما من تلك الليلة لما يشتمل عليه من الفوائد العظيمة.
(وفي هذا الحديث من الفوائد ما يلي:
أولاً: بيان حال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما هو عليه من شظف العيش وقلة ذات اليد، مع أنه عليه الصلاة والسلام أكرم الخلق على الله، ولو كانت الدنيا تساوي عند الله شيئاً؛ لكان أبر الناس بها وأحقهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكنها لا تساوي شيئاً.
قال ابن القيم رحمه الله:
لو ساوت الدنيا جناح بعوضة ... لم يسق منها الرب ذا الكفران
لكنها والله أحقر عنده ... من ذا الجناح القاصر الطيران
أحقر من جناح البعوضة عند الله؛ فليست بشيء.
ومنها: حسن أدب الصحابة مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن هذا الأنصاري رضي الله عنه قال لزوجته: ((أكرمي ضيف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)) ولم يقل أكرمي ضيفنا مع أن الذي أضافه في الحقيقة هو هذا الرجل، لكنه أضافه نيابة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، فجعله ضيفاً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومنها: إنه يجوز عرض الضيافة على الناس، ولا يعد هذا من المسالة المذمومة، أولاً لأنه لم يعين، فلم يقل: يا فلان ضيف هذا الرجل حتى نقول: إنه أحرجه، وإنما هو على سبيل العموم، فيجوز للإنسان مثلاً إذا نزل به ضيف وكان مشغولاً، أو ليس عنده ما يضيفه به، أن يقول لمن حوله: من مضيف هذا الرجل؟ ولا حرج في ذلك
ومنها: الإيثار العظيم من هذا الرجل الأنصاري، حيث بات هو وزوجته وصبيته من غير عشاء إكراماً لهذا الضيف الذي نزل ضيفاً على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومنها: أنه ينبغي للإنسان ألا يُري ضيفه أنه مانّ عليه، أو أن الضيف مضيق عليه، ومحرج له؛ لأن الرجل أمر بإطفاء المصباح حتى لا يظن الضيف أنه ضيق عليهم وحرمهم العشاء، وهذا مأخوذ من أدب الخليل إبراهيم عليه السلام حين نزلت به الملائكة ضيوفاً (فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) (الذريات:26)، حينئذٍ، لكنه راغ إلى أهله، أي ذهب بسرعة وخفية لئلا يخجل الضيف.
ومنها: أنه يجوز للإنسان أن يؤثر الضيف ونحوه على عائلته.(6/346)
ومن تأمل سنة الرسول عليه الصلاة والسلام وهديه وهدي أصحابه؛ وجد فيها من مكارم الأخلاق ومعالي الآداب ما لو سار الناس عليه لنالوا بذلك رفعة الدنيا والآخرة. وفقنا الله وإياكم لما فيه الخير في الدنيا والآخرة.
(إيثار أبي طلحة بِبَيْرحَاء:
((حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال: كان أبو طلحة أكثُر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحبُ أموالهِ إليه بَيْرحَاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدخلها ويشرب من ماءٍ فيها طيب، قال أنس: فلما أُنزلت هذه الآية (لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىَ تُنْفِقُواْ مِمّا تُحِبّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ) قام أبو طلحة إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال يا رسول الله إن الله تبارك وتعالى يقول: (لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىَ تُنْفِقُواْ مِمّا تُحِبّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ) وإن أحبَّ أموالي إليَّ بَيْرحَاء وإنها صدقة لله أرجو برَّها وزُخّرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخٍ ذلك مالٌ رابح ذلك مالٌ رابح، وقد سمعتُ ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة: أفعلُ يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبنى عمه)
(موقف حذيفة العدوي في معركة اليرموك:
انطلق حذيفة العدوي في معركة اليرموك يبحث عن ابن عم له، ومعه شربة ماء. وبعد أن وجده جريحًا قال له: أسقيك؟ فأشار إليه بالموافقة. وقبل أن يسقيه سمعا رجلا يقول: آه، فأشار ابن عم حذيفة إليه؛ ليذهب بشربة الماء إلى الرجل الذي يتألم، فذهب إليه حذيفة، فوجده هشام بن العاص. ولما أراد أن يسقيه سمعا رجلا آخر يقول: آه، فأشار هشام لينطلق إليه حذيفة بالماء، فذهب إليه حذيفة فوجده قد مات، فرجع بالماء إلى هشام فوجده قد مات، فرجع إلى ابن عمه فوجده قد مات. فقد فضَّل كلُّ واحد منهم أخاه على نفسه، وآثره بشربة ماء.
(قيس بن سعد ابن عُبادة:(6/347)
قيس بن سعد ابن عُبادة رضي الله عنهُما كانَ من الأجواد المعروفين حتى إنه مَرِضَ مرةً فاستبطأَ إخوانهُ في العيادة فسألَ عنهم، فقالوا: إنهم كانوا يستحيون مما لكَ عليهم من الدين .. الدين الذي عليهم حالَ بينهم وبينَ أن يعودوك، فقالَ سعدُ بن عبادة رضي الله عنهُما: أخزى الله مالاً يمنعُ الأخوان من الزيارة، ثم أمر مناديّاً يُنادي من كانَ لقيسٍ عليهِ مالٌ فهوَ مِنهُ حِلٌ فما أمسى حتى كُسِرت عتبةُ بابِهِ لكثرةِ من عاده.
(ما ورد في إيثارالأنصار في لإخوانهم المهاجرين:
لقد مدح الله الأنصار وأثنى عليهم بقرآن يتلى بسبب إيثارهم لإخوانهم المهاجرين، فقال: "وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [الحشر: 9]
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: قالت الأنصار للنبي: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال: (لا). فقالوا: تكفوننا المؤونة، ونشرككم في الثمرة، قالوا: سمعنا وأطعنا
(ما فعله سعد بن الربيع مع عبد الرحمن بن عوف:
((حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة، فآخى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلني على السوق، فربح شيئا من أقط وسمن، فرآه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أيام وعليه وضر من صفرة، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مهيم يا عبد الرحمن). قال: يا رسول الله، تزوجت امرأة من الأنصار، قال: (فما سقت فيها). فقال: وزن نواة من ذهب، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أولم ولو بشاة).
(قصة في إيثار الأخوان:
كان هناك أخوان يمتلكان مزرعة كبيرة ذات إنتاج وفير من الفواكة والحبوب، وفيها عدد كبير من المواشي، وكان أحد الأخوان متزوجاً ولديه عائلة كبيرة والآخر كان أعزب، وقد اعتادا أن يقتسما كل شيء بينهما بالتساوي، وبترضي منهما.(6/348)
وفي يوم من الأيام قال الأخ الأعزب لنفسه: إن من الظلم أن نتقاسم الإنتاج والأرباح بالتساوي، فأنا بمفردي واحتياجاتي بسيطة، بينما أخي ذو عائلة كبيرة واحتياجاته للمال والإنتاج أكثر، فكان يأخذ كيساً من الحبوب في كل ليلة من مخزنه ويزحف عبر الحقل من بين منازلهم، ويفرغ الكيس في مخزن أخيه دون أن يعلم، رغبة في مساعدة أخيه.
في نفس الوقت كان الأخ المتزوج يقول لنفسه: إنه ليس عادلاً أن نقتسم أنا وأخي الإنتاج والأرباح بالتساوي، إنني رجل متزوج ولدي زوجه وأطفال يرعونني في المستقبل، بينما أخي وحيد لا أحد يهتم به في المستقبل إن كبر، فكان يأخذ كل ليلة كيساً من الحبوب ويفرغه في مخزن أخيه لكي يستفيد منه ويزيد من أرباحه.
وظل الأخوان رغم ما يقومان به من إيثار لبعضهم متحيرين لسنين طويلة إذ ما عندهم من أكياس حبوب لا ينفذ أو يتناقص أبداً.
وفي ليلة مظلمة قام كل منهما بتفقد مخزنه، وحمل ما يستطيع منه ليضعه في مخزن أخيه كما تعود على ذلك، ففاجأهم قدر الله إذ التقيا وكل منهما يحمل على ظهره كيساً من الحبوب ليضعه في مخزن أخيه، فكانت مفاجأة سارة لكليهما، وأزالت الاستغراب، فلم يستطعا الوقوف طويلاً، فأسقطا أكياسهما وعانقا بعضهما.
(فصلٌ في منزلة حسن الخلق:
[*] (عناصر الفصل:
(تعريف الأخلاق:
(الأخلاق ومكانتها في الإسلام:
(أهمية الجانب الأخلاقي في منهج السلف:
(منزلة حسن الخلق وجزاؤه في الآخرة:
(أركان الأخلاق الحسنة:
(هل يمكن اكتساب الخلق الحسن:
(أسباب اكتساب حسن الخلق:
(علامات حسن الخلق:
(كيفية علاج ما اعوجّ من الأخلاق:
(اعتناء أهل العلم وكلامهم في الأخلاق:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(تعريف الأخلاق:
أما تعريف الخلق، فالخليقة هي: الطبيعة، كما قال ابن منظور رحمه الله في لسان العرب: وفي التنزيل: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4] والجمع: أخلاق، ولا يكسر على غير ذلك، والخُلْق والخُلُق السجية، «والخُلُق هو الدين والطبع والسجية»، وحقيقته أنه لصورة الإنسان الباطنة ـ وهي نفسه ـ وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخَلْق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة.(6/349)
((وقال ابن حجر رحمه الله: في شرح كتاب الأدب من صحيح البخاري قال الراغب: «الخَلق والخُلق في الأصل بمعنى واحد، كالشَرب والشُرب، لكن خُص الخلق الذي بالفتح بالهيئات والصور المدركة بالبصر، وخص الخُلق الذي بالضم بالتقوى والسجايا المدركة بالبصيرة»، فالشكل والصورة التي تدرك بالبصر تسمى خَلْقاً، والسجايا والطبائع التي تدرك بالبصيرة تسمى خُلقاً.
((وقال القرطبي رحمه الله تعالى في المفهم: الأخلاق أوصاف الإنسان التي يعامل بها غيره، وهي محمودة ومذمومة، فالمحمودة على الإجمال: أن تكون مع غيرك على نفسك، فتنصف منها ولا تنصف لها، وعلى التفصيل: العفو، والحلم، والجود، والصبر، والرحمة، والشفقة، والتوادد، ولين الجانب، ونحو ذلك، والمذموم منها ضد ذلك: أي: ضد الأخلاق المحمودة، كالكذب والغش والقسوة ونحوها من الأخلاق الرديئة.
(الأخلاق ومكانتها في الإسلام:
إن للأخلاق فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم، فهي نعمةٌ عظيمة، وَمِنَّةٌ جسيمة، نعمة كبرى، ومنحة عظمى، شأنها عظيم، ونفعها عميم، لها فضائل لا تحصى، وثمرات لا تعد، ولها أهمية كبرى، وثمرات جليلة، وفضائل عظيمة، وأسرار بديعة، وهي طريق النجاة، وسلم الوصول، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين، وهي روح الأعمال ومحك الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، وهي الباب الذي يدخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال.
وتأمل في قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4].
إن موضوع الخلق من الموضوعات الإسلامية المهمة التي عليها يدور نجاح حياة المسلم، فكيف ينجح العَالِمُ في وظيفته إذا لم يكن على خلق؟ وكيف ينجح الزوج في حياته إذا لم يكن على خلق؟ وكيف ينجح الداعية في حياته إذا لم يكن على خلق؟ وكيف ينجح الأخ مع إخوانه إذا لم يكن على خلق؟ فالأخلاق عليها مدار نجاح الإنسان في هذه الحياة، حتى قال بعض العلماء: إن الدين كله هو الخلق، ونحن نعيش أزمة أخلاق في واقعنا، سواءً على مستوى العلاقات الزوجية، أو المصلين في المساجد، أو الطلاب والمدرسين، أو الموظف والمراجعين، أو الجار وجيرانه، بل بين طلبة العلم والعلماء والأقران، وهذا مما يؤكد أهمية طرق هذا الموضوع.
(أهمية الجانب الأخلاقي في منهج السلف:(6/350)
وموضوع الأخلاق موضوع كبير يتعلق بمنهج أهل السنة والجماعة، وليس كما يتصور البعض أنه موضوع منفصل عن المنهج أو أنه شيء أدنى منزلة أو جانبا، كلا! بل هو من صلب المنهج. ومما يؤيد أهمية الجانب الأخلاقي في منهج السلف: تضمين علمائهم هذه الجوانب فيما كتبوه من أصول أهل السنة والجماعة، كالعقيدة الواسطية و الطحاوية وغيرها، ومن أمثلة ذلك ما يلي:
((قال الإمام الصابوني في تقريره لعقيدة السلف: ويتواصون بقيام الليل للصلاة بعد المنام، وبصلة الأرحام على اختلاف الحالات، وإفشاء السلام وإطعام الطعام، والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام، والاهتمام بأمور المسلمين، والتعفف في المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمصرف، والسعي في الخيرات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمدار في فعل الخيرات أجمع، واتقاء عاقبة الطمع، ويتواصون بالحق والصبر.
((وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في العقيدة الواسطية لما ذكر معتقد أهل السنة والجماعة قال: ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة، ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً، ويحافظون على الجماعات، ويدينون بالنصيحة للأمة، ويعتقدون معنى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً -وشبك بين أصابعه-) وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) ويأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بِمُرِّ القضاء، ويدعون إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل، والرفق بالمملوك، وينهون عن الفخر، والخيلاء، والبغي، والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق، ويأمرون بمعالي الأخلاق، وينهون عن سفاسفها. أهـ(6/351)
إذاً: هذا هو المنهج الشامل للسلف الصالح -رحمهم الله- أهل السنة والجماعة بجانبيه العقدي والأخلاقي، وبقدر ما يحصل من النقص في أحدهما يكون النقص في الالتزام بهذا المنهج العظيم، ولذلك يمكن أن يوجد في الواقع طلبة علم جيدون من جهة العقيدة والتفسير ومصطلح الحديث وأصول الفقه واللغة العربية ونحو ذلك، لكنهم في جانب الأخلاق ليسوا بذاك، فلا شك أن في هؤلاء نقصاً بحسب ما نقص من أخلاقهم. وموضوع الأخلاق موضوع خطير؛ لأنه يمكن أن يقدم بحسن الأخلاق منهج مسموم، كما يمكن أن يعرض الناس بسوء الخلق عن المنهج السليم.
((الخلق والدين:
إن حسن الخلق من أهم عوامل النجاح؛ فإن كثيراً من الناس لا ينظرون إلى معتقدك ولا إلى عبادتك، وإنما ينظرون إلى خلقك أولاً، فإذا أعجبهم أخذوا عنك العقيدة والأخلاق والعبادة والعلم، وإذا لم يعجبهم تركوك وما أنت عليه من العلم، فإذاً لابد من الخلق، ويكفينا أن الله تعالى قال لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4]
قال ابن عباس و مجاهد: لعلى دينٍ عظيم وهو دين الإسلام. فالخلق أطلق على الدين كله، وهو ما كان يأمر به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أمر الله وينهى عنه من نهي الله، والمعنى: إنك لعلى الخلق الذي آثرك الله به في القرآن، ولذلك كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُلُقُه القرآن بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
((حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع) قالت: كان خُلُقٌه القرآن.
[*] قال المناوي في فيض القدير:
أي ما دل عليه القرآن من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده إلى غير ذلك. وقال القاضي: أي خلقه كان جميع ما حصل في القرآن. فإن كل ما استحسنه وأثنى عليه ودعا إليه فقد تحلى به، وكل ما استهجنه ونهى عنه تجنبه وتخلى عنه. فكان القرآن بيان خلقه. انتهى. وقال في الديباج: معناه العمل به والوقوف عند حدوده والتأدب بآدابه والاعتبار بأمثاله وقصصه وتدبره وحسن تلاوته.(6/352)
وأصول الأخلاق مجموعة في قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف:199] فليس هناك في القرآن أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية، فهي «أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك»، فهذه الآية أرشدت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يأخذ العفو من أخلاق الناس، ويقبل الاعتذار، ويعفو ويتساهل مع الناس، ويترك الاستقصاء والبحث والتفتيش عن أحوالهم، وكذلك يأخذ ما عفا من أموالهم وهو الفاضل، مثل قوله تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) [البقرة:219] قال الله: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف:199] أي: إذا سفه عليك الجاهل فلا تخاطبه بالسفه، كما قال تعالى: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) [الفرقان:63].
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحسن الناس خلقاً.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: تقوى الله وحسن الخلق , وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ قال الفم والفرج.
((حديث جابر الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن من أحبكم إلي و أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا و إن من أبغضكم إلي و أبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون و المتشدقون و المتفيهقون قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون.
*معنى الثرثارون: كثيري الكلام
*معنى المتشدقون: الذي يتشدَّقُ على الناس في الكلام ويبذو عليهم
((حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا الموطئون أكنافا الذين يألفون و يؤلفون و لا خير فيمن لا يألف و لا يؤلف.
((حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع) قالت: كان خُلُقٌه القرآن.
[*] قال المناوي في فيض القدير:(6/353)
أي ما دل عليه القرآن من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده إلى غير ذلك. وقال القاضي: أي خلقه كان جميع ما حصل في القرآن. فإن كل ما استحسنه وأثنى عليه ودعا إليه فقد تحلى به، وكل ما استهجنه ونهى عنه تجنبه وتخلى عنه. فكان القرآن بيان خلقه. انتهى. وقال في الديباج: معناه العمل به والوقوف عند حدوده والتأدب بآدابه والاعتبار بأمثاله وقصصه وتدبره وحسن تلاوته.
((حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله يحب معالي الأخلاق و يكره سفسافها.
((حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال لما قدم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة أخذ أبو طلحة بيدي إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال يا رسول الله إن أنساً غلامٌ كيسٌ فليخدمك، قال: فخدمته في الحضر والسفر فوالله ما قال لي لشيءٍ صنعته لم صنعت هذا هكذا ولا لشيء لم أصنعه لِمَ لَمْ تصنع هذا هكذا.
((حديث النواس ابن سمعان الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك و كرهت أن يطلع عليه الناس.
((حديث وابصة بن معبدٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أتيتُ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: "جئت تسألُ عن البر؟ " قُلتُ نعم، قال: ((استفت قلبك، البرُّ: ما اطمأنت إليه النفسُ، واطمأن إليه القلبُ، والإثم ما حاك في النفسِ وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناسُ وأفتوكَ)
((حديث عبد الله بن عمرو الثابت في الصحيحين) قال لم يكن رسول الله فاحشاً ولا متفحشاً وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق.
((حديث أبي الدر داء الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق، فإن الله يُبْغِضُ الفاحشَ البذيء.
((حديث عائشة الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجة القائم الصائم.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) قال: سئل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة؟ قال: تقوى الله وحسن الخلق، وسئل عن أكثر ما يُدخل الناس النار؟ فقال الفم والفرج.(6/354)
((حديث أبي أمامة الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء و إن كان محقا، و بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب و إن كان مازحا، و بيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه.
((حديث أبي ذر رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن.
(منزلة حسن الخلق وجزاؤه في الآخرة:
حسن الخلق له فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم، فهو نعمةٌ عظيمة، وَمِنَّةٌ جسيمة، نعمة كبرى، ومنحة عظمى، شأنه عظيم، ونفعه عميم، له فضائل لا تحصى، وثمرات لا تعد، وله أهمية كبرى، وثمرات جليلة، وفضائل عظيمة، وأسرار بديعة، وهو طريق النجاة، وسلم الوصول، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين، وحسن الخلق جامع لأبواب الخير؛ ومفتاح لسبل البر؛ من وفقه الله إليه فقد حاز فضلاً عظيماً؛ وسبق سبقاً كبيراً؛ وقد أعظم الله لمنزلته حتى قال بعض السلف: " لكل شيء أساس؛ وأساس الإسلام الخلق الحسن "، ومن وُفِقَ لرؤية عظيم منزلة حسن الخلق في الشريعة؛ سعى سعياً حثيثاً ليكون له النصيب الأعظم من ذلك، وإليك غيضٌ من فيض وقليلٌ من كثير مما ورد في فضل حسن الخلق:
قال تعالى مثنياً على نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم / 4]
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
(قال ابن عباس ومجاهد: لعلى دين عظيم لا دين أحب إلي ولا أرضى عندي منه وهو دين الإسلام.
(وقال الحسن رضي الله عنه: هو آداب القرآن.
(وقال قتادة: هو ما كان يأمر به من أمر الله وينهى عنه من نهى الله،
والمعنى: إنك لعلى الخلق الذي آثرك الله به في القرآن وفي الصحيحين: أن هشام بن حكيم: سأل عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: كان خلقه القرآن فقال: لقد هممت أن أقوم ولا أسأل شيئا.
وقد جمع الله له مكارم الأخلاق في قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199](6/355)
(قال جعفر بن محمد: أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية وقد ذكر: أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجبريل: ما هذا قال: لا أدري حتى أسأل فسأل ثم رجع إليه فقال: إن الله يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك ولا ريب أن للمطاع مع الناس ثلاثة أحوال:
أحدها: أمرهم ونهيهم بما فيه مصلحتهم.
الثاني: أخذه منهم ما يبذلونه مما عليهم من الطاعة.
الثالث: أن الناس معه قسمان: موافق له موال ومعاد له معارض وعليه في كل واحد من هذه واجب فواجبه في أمرهم ونهيهم: أن يأمر بالمعروف وهو المعروف الذي به صلاحهم وصلاح شأنهم وينهاهم عن ضده وواجبه فيما يبذلونه له من الطاعة: أن يأخذ منهم ما سهل عليهم وطوعت له به أنفسهم سماحة واختيارا ولا يحملهم على العنت والمشقة فيفسدهم وواجبه عند جهل الجاهلين عليه: الإعراض عنهم وعدم مقابلتهم بالمثل والانتقام منهم لنفسه فقد قال الله تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]
(قال عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: أمر الله نبيه أن يأخذ العفو من أخلاق الناس.
(وقال مجاهد: يعني خذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تخسيس مثل قبول الأعذار والعفو والمساهلة وترك الاستقصاء في البحث والتفتيش عن حقائق بواطنهم.
(وقال ابن عباس رضي الله عنهما: خذ ما عفا لك من أموالهم وهو الفاضل عن العيال وذلك معنى قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] (ثم قال تعالى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} وهو كل معروف وأعرفه: التوحيد ثم حقوق العبودية وحقوق العبيد.
(ثم قال تعالى {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} يعني إذا سفه عليك الجاهل فلا تقابله بالسفه كقوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان: 63].
والسنة الصحيحة طافحةٌ بما يبين فضائل حسن الخلق بياناً شافياً، وهاك بعض فضائل حسن الخلق الثابتة في السنة الصحيحة فتأملها بعين البصيرة:
(1) ثقل الميزان والفوز بأعلى الجنان:
((حديث أبي الدر داء الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق، فإن الله يُبْغِضُ الفاحشَ البذيء.(6/356)
فالخلق الحسن أثقل شيء في ميزان العبد؛ لأن الأعمال توزن يوم القيامة وزناً حقيقياً ترجح الكفة بها، وأثقل شيء في الميزان الخلق الحسن،
((حديث أبي أمامة الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء و إن كان محقا، و بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب و إن كان مازحا، و بيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه.
فالبيت العلوي جزاءٌ لأعلى المقامات الثلاثة وهي حسن الخلق.
(2) حسن الخلق أكثر ما يدخل الناس الجنة بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) قال: سئل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة؟ قال: تقوى الله وحسن الخلق، وسئل عن أكثر ما يُدخل الناس النار؟ فقال الفم والفرج.
(3) ميزان الكمال عند المؤمنين بكمال أخلاقهم بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
((حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا الموطئون أكنافا الذين يألفون و يؤلفون و لا خير فيمن لا يألف و لا يؤلف.
(4) إن المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجة القائم الصائم بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
((حديث عائشة الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجة القائم الصائم.
(5) صاحب الخلق الحسن أقرب الناس مجلساً من النبي عليه الصلاة و السلام يوم القيامة كما في الحديث الآتي:
((حديث جابر الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن من أحبكم إلي و أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا و إن من أبغضكم إلي و أبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون و المتشدقون و المتفيهقون قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون.
*معنى الثرثارون: كثيري الكلام
*معنى المتشدقون: الذي يتشدَّقُ على الناس في الكلام ويبذو عليهم
(6) وحسن الخلق هو وصيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمؤمن في معاملة الناس بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
((حديث أبي ذر رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن.(6/357)
(7) والله تعالى يحب مكارم الأخلاق ويكره سفسافها بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
((حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله يحب معالي الأخلاق و يكره سفسافها.
سفسافها: أي حقيرها ورديئها.
(8) إن الناس لم يعطوا شيئا خيرا من خلق حسن بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
((حديث أسامة ابن شريك رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الناس لم يعطوا شيئا خيرا من خلق حسن.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إن الناس لم يعطوا) بالبناء للمفعول (شيئاً) من الخصال الحميدة (خيراً من خلق) بالضم (حسن) فإن حسن الخلق يرفع صاحبه إلى درجات الأخيار في هذه الدار ودار القرار. قال حجة الإسلام: لا سبيل إلى السعادة الأخروية إلا بالإيمان وحسن الخلق فليس للإنسان إلا ما سعى وليس لأحد في الآخرة إلا ما تزود من الدنيا وأفضل زادها بعد الإيمان حسن الخلق وبحسن الخلق ينال الإنسان خير الدنيا والآخرة. وقال بعض الحكماء: لحسن الخلق من نفسه في راحة والناس منه في سلامة ولسيء الخلق من نفسه في عناء والناس منه في بلاء. وقال بعضهم: عاشر أهلك بحسن الأخلاق فإن السوء فيهم قليل وإذا حسنت أخلاق المرء كثر مصادقوه وقل معادوه فتسهلت عليه الأمور الصعاب ولانت له القلوب الغضاب وقال الحكماء في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق قال الماوردي وحسن الخلق أن يكون سهل العريكة لين الجانب طلق الوجه قليل النفور طيب الكلام. أهـ
(9) إن بعثة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما هي لإتمام صالح الأخلاق بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق.
(10) ومن أسباب تجاوز الله عن العبد يوم القيامة حسن خلقه كما في الحديثين الآتيين:
((حديث حذيفة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: مات رجل، فقيل له، قال: كنت أبايع الناس، فأتجوز عن الموسر، وأخفف عن المعسر، فغفر له.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كان تاجر يداين الناس، فإذا رأى معسرا قال لفتيانه: تجاوزوا عنه، لعل الله يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه).(6/358)
(11) وحسن الخلق هو الذي لفت إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا تقدم إليك من يخطب ابنتك كما في الحديث الآتي:
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي) قالَ: قالَ رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا خَطَبَ إلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ، فَزَوّجُوهُ. إلاّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ في الأرْضِ وفَسَادٌ عَرِيضٌ».
(أركان الأخلاق الحسنة:
إن حسن الخلق يقوم على أربعة أركان: «الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل». فالصبر يحمل على الاحتمال وكظم الغيظ وكف الأذى، والعفة تجنب الإنسان الرذائل والقبائح، والشجاعة تحمل على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق، والعدل الذي يحمل على الاعتدال والتوسط. هذه الأخلاق الفاضلة الأربعة هي أركان الأخلاق الحسنة، كما أن الأخلاق السافلة مبناها على أربعة أخلاق: «الجهل، والظلم، والشهوة، والغضب». فالجهل يري الإنسان الحسن قبيحاً، والظلم يحمله على وضع الشيء في غير موضعه، والشهوة تحمله على الحرص والشح والبخل والرذائل والفواحش والدناءات، والغضب يولد الكبر والحقد والحسد والعدوان والسفه، ولذلك لابد من مراقبة هذه الأخلاق الدنيئة؛ حتى يتخلص الإنسان منها ولا يقع فيها؛ لأننا إذا عرفنا الأصل عرفنا كيف نتعامل.
(هل يمكن اكتساب الخلق الحسن:
مسألة: هل يمكن اكتساب الخلق الحسن وتغيير الخلق القبيح؟
إن مما لا بد أن يعلمه المسلم أنه مأمور بتحسين خلقه؛ وإن غلبته نفسه على بعض الطباع الدنيئة فلا يستسلم ويقول: هذه سجيتي ولا أستطيع تغيير طبعي؛ فإن سوء الخلق أمرٌ مذموم؛ يجب على المسلم أن يتجنبه؛ وقد ثبت في السنة الصحيحة ما يدل على أن العبد يمكنه تحسين خلقه وأعظم ما يدل على ذلك أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن نخالق الناس بخلقٍ حسن كما في الحديث الآتي:
((حديث أبي ذر رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن.
(وفصل الخطاب في هذه المسألة: أن الخلق الحسن يمكن اكتسابه بعدة أشياء منها ما يلي:
(1) ترويض النفس على حسن الخلق، فإنه من يتحر الخير يعطه و من يتق الشر يُوّقَّه.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنما العلم بالتعلم و إنما الحلم بالتحلم و من يتحر الخير يعطه و من يتق الشر يُوّقَّه.(6/359)
فينبغي للعبد أن يتحر حسن الخلق ويحرص عليه ويجاهد نفسه ويتكلفه حتى ينعم الله تعالى عليه بهذه الفضيلة، وهذا حاصلٌ لا محالة إذا صدق العبد في ذلك.
(حديث شداد بن أوس في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن تصدق الله يصدقك.
(2) لا بد من الصبر وطول النفس في تحصيل أي خير وليس له أن يستعجل فإنه من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه. فعليه أن يتأنى جيداً وإياه والعجلة فبئست المطيةُ هي، تحول بينك وبين أي خير.
(حديث أنس في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: التأني من الله والعجلة من الشيطان.
(3) ويمكن اكتساب حسن الخلق عن طريق مصاحبة أهل الخير والصلاح، فإن الطباع سرَّاقة والناس مجبولون على تقليد بعضهم بعض
(حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: المرء على دين أخيه فلينظر أحدكم من يخالل.
(حديث أبي سعيد في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تصاحب إلا مؤمنا و لا يأكل طعامك إلا تقي.
(4) ويمكن اكتساب حسن الخلق أيضاً بالتضرع إلى الله تعالى بأن يمنَّ عليك بهذه النعمة فإن ذلك كان من هدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(حديث ابن مسعود في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي.
فينبغي على العاقل الحرص على التزود من الأخلاق؛ وأن يجني ثمارها اليانعة كلما تيسر له سبيل إلى ذلك؛ ويجعل الطريق إلى ذلك قيامه بحقوق المسلمين؛ في أن يحب لهم ما يحب لنفسه، وأن يتواضع لهم ولا يفخر عليهم ولا يختال، ولا يتكبر ولا يعجب؛ وأن يوقر الشيخ الكبير، ويرحم الطفل الصغير، ويعرف لكل ذي حق حقه، مع طلاقة الوجه وحسن التلقي ودوام البِشر، كما قيل:
وما اكتسبَ المحامدَ طالبوها: ... بمثل البشر والوجه الطليقِ(6/360)
وعليه بلين الجانب، وحسن المصاحبة، وسهولة الكلمة، مع إصلاح ذاتِ بين إخوانه، وتفقد أقرانه وأخدانه وجيرانه، وأن لا يسمع كلامَ الناس بعضهم في بعض، وأن يبذل معروفه لهم لوجه الله؛ لا لأجل غرض؛ مع ستر عوراتهم؛ وإقالة عثراتهم، وإجابة دعواتهم؛ وأن لا يقف مواقف التهم؛ وأن يحلم عنْ مَنْ جهل عليه، ويعفو عن من ظلم؛ قال الحسن: معالي الأخلاق للمؤمن: قوة في لين، وحزم في دين، وإيمان في يقين، وحرص على العلم، واقتصاد في النفقة، وبذل في السعة، وقناعة في الفاقة، ورحمة للمجهود، وإعطاء في كرم، وبر في استقامة.
مسألة: ما هو حسن الخلق؟
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
قيل: إن حسن الخلق «بذل الندى وكف الأذى واحتمال الأذى»
وقيل: حسن الخلق: «بذل الجميل وكف القبيح»
وقيل: «التخلي من الرذائل والتحلي بالفضائل»
وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان لا يتصور قيام ساقه إلا عليها:
«الصبر والعفة والشجاعة والعدل»
(فالصبر: يحمله على الاحتمال وكظم الغيظ وكف الأذى والحلم والأناة والرفق وعدم الطيش والعجلة.
(والعفة: تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل وتحمله على الحياء وهو رأس كل خير وتمنعه من الفحشاء والبخل والكذب والغيبة والنميمة.
(والشجاعة: تحمله على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق والشيم وعلى البذل والندى الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته وتحمله على كظم الغيظ والحلم فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنائها ويكبحها بلجامها عن النزغ والبطش كما قال: ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد: الذي يملك نفسه عند الغضب وهوحقيقة الشجاعة وهي ملكة يقتدر بها العبد على قهر خصمه.
(والعدل: يحمله على اعتدال أخلاقه وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط فيحمله على خلق الجود والسخاء الذي هو توسط بين الذل والقحة وعلى خلق الشجاعة الذي هو توسط بين الجبن والتهور وعلى خلق الحلم الذي هو توسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة،
(ومنشأ جميع الأخلاق السافلة وبناؤها على أربعة أركان: «الجهل والظلم والشهوة والغضب»
(فالجهل: يريه الحسن في صورة القبيح والقبيح في صورة الحسن والكمال نقصا والنقص كمالا.
(والظلم: يحمله على وضع الشيء في غير موضعه فيغضب في موضع الرضا(6/361)
ويرضى في موضع الغضب ويجهل في موضع الأناة ويبخل في موضع البذل ويبذل في موضع البخل ويحجم في موضع الإقدام ويقدم في موضع الإحجام ويلين في موضع الشدة ويشتد في موضع اللين ويتواضع في موضع العزة ويتكبر في موضع التواضع.
(والشهوة: تحمله على الحرص والشح والبخل وعدم العفة والنهمة والجشع والذل والدناءات كلها.
(والغضب: يحمله على الكبر والحقد والحسد والعدوان والسفه ويتركب من بين كل خلقين من هذه الأخلاق: أخلاق مذمومة وملاك هذه الأربعة أصلان: إفراط النفس في الضعف وإفراطها في القوة فيتولد من إفراطها في الضعف: المهانة والبخل والخسة واللؤم والذل والحرص والشح وسفساف الأمور والأخلاق ويتولد من إفراطها في القوة: الظلم والغضب والحدة والفحش والطيش ويتولد من تزوج أحد الخلقين بالآخر: أولاد غية كثيرون فإن النفس قد تجمع قوة وضعفا فيكون صاحبها أجبر الناس إذا قدر وأذلهم إذا قهر ظالم عنوف جبار فإذا قهر صار أذل من امرأة: جبان عن القوي جريء على الضعيف فالأخلاق الذميمة: يولد بعضها بعضا كما أن الأخلاق الحميدة: يولد بعضها بعضا وكل خلق محمود مكتنف بخلقين ذميمين وهو وسط بينهما وطرفاه خلقان ذميمان كالجود: الذي يكتنفه خلقا البخل والتبذير والتواضع: الذي يكتنفه خلقا الذل والمهانة والكبر والعلو فإن النفس متى انحرفت عن التوسط انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين ولابد فإذا انحرفت عن خلق التواضع انحرفت: إما إلى كبر وعلو وإما إلى ذل ومهانة وحقارة وإذا انحرفت عن خلق الحياء انحرفت: إما إلى قحة وجرأة وإما إلى عجز وخور ومهانة بحيث يطمع في نفسه عدوه ويفوته كثير من مصالحه ويزعم أن الحامل له على ذلك الحياء وإنما هو المهانة والعجز وموت النفس وكذلك إذا انحرفت عن خلق الصبر المحمود انحرفت: إما إلى جزع وهلع وجشع وتسخط وإما إلى غلظة كبد وقسوة قلب وتحجر طبع كما قال بعضهم:
تبكي علينا ولا نبكي على أحد فنحن أغلظ أكبادا من الإبل
وإذا انحرفت عن خلق الحلم انحرفت: إما إلى الطيش والترف والحدة والخفة وإما إلى الذل والمهانة والحقارة ففرق بين من حلمه حلم ذل ومهانة وحقارة وعجز وبين من حلمه حلم اقتدار وعزة وشرف كما قيل:
كل حلم أتى بغير اقتدار حجة لاجىء إليها اللئام(6/362)
وإذا انحرفت عن خلق الأناة والرفق انحرفت: إما إلى عجلة وطيش وعنف وإما إلى تفريط وإضاعة والرفق والأناة بينهما وإذا انحرفت عن خلق العزة التي وهبها الله للمؤمنين انحرفت: إما إلى كبر وإما إلى ذل والعزة المحمودة بينهما وإذا انحرفت عن خلق الشجاعة انحرفت: إما إلى تهور وإقدام غير محمود وإما إلى جبن وتأخر مذموم وإذا انحرفت عن خلق المنافسة في المراتب العالية والغبطة انحرفت: إما إلى حسد وإما إلى مهانة وعجز وذل ورضا بالدون وإذا انحرفت عن القناعة انحرفت: إما إلى حرص وكلب وإما إلى خسة ومهانة وإضاعة وإذا انحرفت عن خلق الرحمة انحرفت: إما إلى قسوة وإما إلى ضعف قلب وجبن نفس كمن لا يقدم على ذبح شاة ولا إقامة حد وتأديب ولد ويزعم أن الرحمة تحمله على ذلك وقد ذبح أرحم الخلق بيده في موضع واحد ثلاثا وستين بدنة وقطع الأيدي من الرجال والنساء وضرب الأعناق وأقام الحدود ورجم بالحجارة حتى مات المرجوم وكان أرحم خلق الله على الإطلاق وأرأفهم وكذلك طلاقة الوجه والبشر المحمود فإنه وسط بين التعبيس والتقطيب وتصعير الخد وطي البشر عن البشر وبين الاسترسال مع كل أحد بحيث يذهب الهيبة ويزيل الوقار ويطمع في الجانب كما أن الانحراف الأول يوقع الوحشة والبغضة والنفرة في قلوب الخلق وصاحب الخلق الوسط: مهيب محبوب عزيز جانبه حبيب لقاؤه وفي صفة نبينا: من رآه بديهة هابه ومن خالطه عشرة أحبه والله أعلم.
(أسباب اكتساب حسن الخلق:
للأخلاق الفاضلة منزلة رفيعة في دين الله ولها ارتباط قوي بقوة الإيمان وحسنه، وتدين المرء وتمسكه بالشريعة، ولها أعظم الأثر في قوة الأمة ووحدة صفوفها ولأن الأخلاق يمكن اكتسابها كان من المهم الحديث عن وسائل اكتساب الأخلاق الفاضلة وهذا ما سيتناوله درسنا.
لا ريب أن أثقل ما على الطبيعة البشرية تغيير الأخلاق التي طبعت عليها النفس، إلا أن ذلك ليس متعذرًا ولا مستحيلاً، بل إن هناك أسبابًا، ووسائل يستطيع الإنسان من خلالها أن يكتسب حسن الخلق، ومن ذلك ما يلي:
(1) سلامة العقيدة: فالسلوك ثمرة لما يحمله الإنسان من فكر ومعتقد، وما يدين به من دين، والانحراف في السلوك ناتج عن خلل في المعتقد، فالعقيدة هي الإيمان، وأكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم أخلاقًا؛ فإذا صحت العقيدة؛ حسنت الأخلاق تبعًا لذلك؛ فالعقيدة الصحيحة تحمل صاحبها على مكارم الأخلاق، كما أنها تردعه عن مساوئ الأخلاق.(6/363)
(2) الدعاء: فيلجأ إلى ربه، ليرزقه حسن الخلق، ويصرف عنه سيئه متأسياً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا قام إلى الصلاة قال: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك أنا بك وإليك تباركت وتعاليت أستغفرك وأتوب إليك وإذا ركع قال اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي وإذا رفع قال اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد وإذا سجد قال اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت.
((حديث قطبة بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء. فالخلق الحسن نوع من الهداية يحصل عليه المرء بالمجاهدة، قال عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
والمجاهدة لا تعني أن يجاهد المرء نفسه مرة، أو مرتين، أو أكثر، بل تعني أن يجاهد نفسه حتى يموت؛ ذلك أن المجاهدة عبادة، والله يقول: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [99]} [سورة الحجر].(6/364)
(4) المحاسبة: وذلك بنقد النفس إذا ارتكبت أخلاقًا ذميمة، وحملها على ألا تعود إليها مرة أخرى، مع أخذها بمبدأ الثواب، فإذا أحسنت أراحها، وأرسلها على سجيتها بعض الوقت في المباح. وإذا أساءت وقصرت أخذها بالحزم والجد، وحرمها من بعض ما تريد.
(5) التفكر في الآثار المترتبة على حسن الخلق: فإن معرفة ثمرات الأشياء، واستحضار حسن عواقبها؛ من أكبر الدواعي إلى فعلها، وتمثلها، والسعي إليها. والمرء إذا رغب في مكارم الأخلاق، وأدرك أنها من أولى ما اكتسبته النفوس، وأجل غنيمة غنمها الموفقون؛ سهل عليه نيليها واكتسابها.
(6) النظر في عواقب سوء الخلق: وذلك بتأمل ما يجلبه سوء الخلق من الأسف الدائم، والهم الملازم، والحسرة والندامة، والبغضة في قلوب الخلق؛ فذلك يدعو المرء إلى أن يقصر عن مساوئ الأخلاق، وينبعث إلى محاسنها.
(7) الحذر من اليأس من إصلاح النفس: فهناك من إذا ابتلى بمساوئ الأخلاق وحاول التخلص من عيوبه فلم يفلح؛ أيس من إصلاح نفسه، وترك المحاولة، وهذا الأمر لا يحسن بالمسلم، ولا يليق به؛ بل ينبغي له أن يقوي إرادته، وأن يسعى لتكميل نفسه، وأن يجدَّ في تلافي عيوبه؛ فكم من الناس من تبدلت حاله، وسمت نفسه، وقلت عيوبه بسبب مجاهدته، وسعيه، وجده، ومغالبته لطبعه.
(8) علو الهمة: فعلو الهمة يستلزم الجد، ونشدان المعالي، والترفع عن الدنايا ومحقرات الأمور. والهمة العالية لا تزال بصاحبها تزجره عن مواقف الذل، واكتساب الرذائل، وحرمان الفضائل حتى ترفعه من أدنى دركات الحضيض إلى أعلى مقامات المجد والسؤدد،
(قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
فمن علت همته، وخشعت نفسه؛ اتصف بكل خلق جميل، ومن دنت همته، وطغت نفسه؛ اتصف بكل خلق رذيل'.
(وقال رحمه الله: فالنفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها، وأفضلها، وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات، وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار؛ فالنفوس العلية لا ترضى بالظلم، ولا بالفواحش، ولا بالسرقة ولا بالخيانة؛ لأنها أكبر من ذلك وأجل. والنفوس المهينة الحقيرة الخسيسة بالضد من ذلك'. فإذا توفر المرء على اقتناء الفضائل، وألزم نفسه على التخلق بالمحاسن، ولم يرض من منقبة إلا بأعلاها، ولم يقف عند فضيلة إلا وطلب الزيادة عليها.(6/365)
(9) الصبر: فالصبر من الأسس الأخلاقية التي يقوم عليها الخلق الحسن، فالصبر يحمل على الاحتمال، وكظم الغيظ، وكف الأذى، والحلم، والأناة، والرفق، وترك الطيش والعجلة واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر وقل من جد أمر تطلبه.
(10) العفة: فهي تحمل على اجتناب الرذائل من القول والفعل، وتحمل على الحياء وهو رأس كل خير، وتمنع من الفحشاء، والبخل، والكذب، والغيبة، والنميمة.
(11) الشجاعة: فهي تحمل على عزة النفس، وإباء الضيم، وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وعلى البذل والندى الذي هو شجاعة النفس، وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته. وهي تحمل صاحبها على كظم الغيظ، والحلم؛ فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنانها، ويكبحها بلجامها عن النزق والطيش.
(12) العدل: فهو يحمل على اعتدال الأخلاق، وتوسطها بين طرفي الإفراط والتفريط.
(13) تكلف البشر والطلاقة، وتجنب العبوس والتقطيب: قال ابن حبان رحمه الله: ' البشاشة إدام العلماء، وسجية الحكماء؛ لأن البشر يطفئ نار المعاندة، ويحرق هيجان المباغضة، وفيه تحصين من الباغي، ومنجاة من الساعي'. 'وقيل للعتابي: إنك تلقى الناس كلهم بالبشر! قال: دفع ضغينة بأيسر مؤونة، واكتساب إخوان بأيسر مبذول'.
وما اكتسب المحامد حامدوها بمثل البشر والوجه الطليق
بل إن تبسم الرجل في وجه أخيه المسلم صدقة يثاب عليها بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
((حديث أبي ذر رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: تبسمك في وجه أخيك لك صدقة وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة.
والابتسام للحياة يضيئها، ويعين على احتمال مشاقها، والمبتسمون للحياة أسعد الناس حالاً لأنفسهم ومن حولهم، بل هم أقدر على العمل، وأكثر احتمالاً للمسؤولية، وأجدر بالإتيان بعظائم الأمور التي تنفعهم، وتنفع الناس؛ فذو النفس الباسمة المشرقة يرى الصعاب فيلذه التغلب عليها، ينظرها فيبتسم، وينجح فيبتسم، ويخفق فيبتسم. وإذا كان الأمر كذلك فأحرى بالعاقل ألا يرى إلا متهللاً.
(ومن أعظم ما يعين على اكتساب تلك الخلة: الإقبال على الله، وطهارة القلب، وسلامة المقاصد، والبعد عن موطن الإثارة قد المستطاع. ومن ذلك قوة الاحتمال، ومحاربة اليأس، وطرد الهم والكآبة.(6/366)
(14) التغاضي والتغافل: وهو من أخلاق الأكابر، ومما يعين على استبقاء المودة واستجلابها، وعلى وأد العداوة وإخلاد المباغضة، ثم إنه دليل على سمو النفس، وشفافيتها، وهو مما يرفع المنزلة، ويعلي المكانة، قال ابن الأثير متحدثًا عن صلاح الدين الأيوبي:'وكان صبورًا على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره، ولا يعلمه بذلك، ولا يتغير عليه. وبلغني أنه كان جالسًا وعنده جماعة، فرمى بعض المماليك بعضًا بسرموز ـ يعني: بنعل ـ فأخطأته، ووصلت إلى صلاح الدين فأخطأته، ووقعت بالقرب منه، فالتفت إلى الجهة الأخرى يكلم جليسه؛ ليتغافل عنها'.
وكان الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله كثير التغاضي عن كثير من الأمور في حق نفسه، وحينما يسأل عن ذلك كان يقول:
ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابي
(15) الإعراض عن الجاهلين: فمن أعرض عن الجاهلين حمى عرضه، وأراح نفسه، وسلم من سماع ما يؤذيه، قال عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [199]} [سورة الأعراف].
فبالإعراض عن الجاهلين يحفظ الرجل على نفسه عزتها، والعرب تقول:'إن من ابتغاء الخير اتقاء الشر'. وروي أن رجلاً نال من عمر بن عبد العزيز، فلم يجبه، فقيلله: ما يمنعك منه؟
قال: التقى ملجم.
(16) العفو والصفح ومقابلة الإساءة بالإحسان: فهذا سبب لعلو المنزلة، ورفعة الدرجة، وفيه من الطمأنينة، وشرف النفس، وعزها، ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما نقصت صدقةٌ من مال، وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزا، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله)
(وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله:'أحب الأمور إلى الله ثلاثة: العفو عند المقدرة، والقصد في الجِدَةِ، والرفق بالعَبَدَةِ'.
(وقال الشافعي رحمه الله:
أرحت نفسي من ظلم العدوات لما عفوت ولم أحقد على أحد
فإذا كان الأمر كذلك فإنه يجدر بالعاقل ـ كما قال ابن حبان ـ:'توطين نفسه على لزوم العفو عن الناس كافة، وترك الخروج لمجازاة الإساءة؛ إذ لا سبب لتسكين الإساءة أحسن من الإحسان، ولا سبب لنماء الإساءة وتهييجها أشد من الاستعمال بمثلها'.(6/367)
وقد يظن ظان أن العفو عن المسيء، والإحسان إليه مع القدرة عليه؛ موجب للذلة والمهانة، وأنه قد يجر إلى تطاول السفهاء. وهذا خطأ؛ فالعفو إسقاط حقك جودًا، وكرمًا، وإحسانًا مع قدرتك على الانتقام، فتؤثر الترك؛ رغبة في الإحسان ومكارم الأخلاق .. بخلاف الذل؛ فإن صاحبه بترك الانتقام عاجزًا، وخوفًا، ومهانة نفس، فهذا غير محمود، بل لعل المنتقم بالحق أحسنُ حالاً منه.
(17) الرضا بالقليل من الناس، وترك مطالبتهم بالمثل: وذلك بأن يأخذ منهم ما سهل عليهم، وطوعت له به أنفسهم سماحة واختيارًا، وألا يحملهم على العنت والمشقة، قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [سورة الأعراف: 199].
(قال عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما في هذه الآية:'أمر الله نبيه أن يأخذ العفو من أخلاق الناس'. وقال مجاهد:'يعني خذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تخسيس، مثل قبول الأعذار، والعفو، والمساهلة، وترك الاستقصاء في البحث والتفتيش عن حقائق بواطنهم'.
(قال المقنع الكندي- واصفًا حاله مع قومه-:
وأعطيهم مالي إذا كنت واجدًا وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا
(وقال الرافعي رحمه الله:'إن السعادة الإنسانية الصحيحة في العطاء دون الأخذ، وإن الزائفة هي الأخذ دون العطاء، وذلك آخر ما انتهت إليه فلسفة الأخلاق'.
(18) احتساب الأجر عند الله عز وجل: فهذا الأمر من أعظم ما يعين على اكتساب الأخلاق الفاضلة، فهو مما يعين على الصبر، والمجاهدة، وتحمل أذى الناس؛ فإذا أيقن المسلم أن الله سيجزيه على حسن خلقه ومجاهدته؛ سيهون عليه ما يلقاه في ذلك السبيل.
(19) تجنب الجدال: لأن الجدال يذكي العداوة، ويورث الشقاق، ويقود إلى الكذب، ويدعو إلى التشفي من الآخرين. فإذا تجنبه المرء؛ سلم من اللجاج، وحافظ على صفاء قلبه، ثم إن اضطر إلى الجدال؛ فليكن جدالاً هادئًا، يراد به الوصول إلى الحق، وليكن بالتي هي أحسن وأرفق، قال تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [125]} [سورة النحل].
أما إذا لج الخصم في الجدال، وعلا صوته في المجلس؛ فإن السكوت أولى، وإن أفضل طريقة لكسب الجدال؛ حينئذٍ هي تركه، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد، ودرر الفرائد. ((6/368)
((حديث أبي أمامة الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا و بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب و إن كان مازحا و بيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه.
((حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن أبغض الرجال عند الله الألدُ الخَصِم.
(20) التواصي بحسن الخلق: وذلك ببث فضائل حسن الخلق، وبالتحذير من مساوئ الأخلاق، وبنصح المبتلين بسوء الخلق، وبتشجيع حسني الأخلاق، فحسن الخلق من الحق، والله يقول: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [3]} [سورة العصر].
(21) قبول النصح الهادف، والنقد البناء: فهذا مما يعين على اكتساب الأخلاق الفاضلة، ومما يبعث على التخلي عن الأخلاق الساقطة. فعلى من نُصِحَ أن يتقبل النصح، وأن يأخذ به؛ حتى يكمل سؤدده، وتتم مروءته، ويتناهى فضله.
بل ينبغي لمتطلب الكمال ـ خصوصًا إذا كان رأسًا مطاعًا ـ أن يتقدم إلى خواصه، وثقاته، ومن كان يسكن إلى عقله من خدمه وحاشيته ـ فيأمرهم أن يتفقدوا عيوبه ونقائضه، ويطلعوه عليها، ويعلموه بها؛ فهذا ما يبعثه للتنزه من العيوب، والتطهر من دنسها.
(22) لزوم الصدق: فالصدق يهدي إلى البر، وحسن الخلق من جملة ذلك البر.
(23) تجنب الوقيعة في الناس: فالوقيعة في الناس، والعرض لعيوبهم ومغمزهم ـ مما يورث العداوة، ويشوش على القلب، فتسوء الأخلاق تبعًا لذلك.
(24) أن يتخذ الناس مرآة لنفسه: فكل ما كرهه، ونفر عنه من قول، أو فعل، أو خلق ـ فَلْيَتَجَنَّبْه، وما أحبه من ذلك واستحسنه فليفعله، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: المؤمن مرآة المؤمن و المؤمن أخو المؤمن يكفُّ عليه ضيعته و يحُوطُه من ورائه.
(ولله درُ من قال:
إذا أعجبتك خصال امرئٍ فكنْهُ تكن مثل ما يعجبك
فليس على المجد والمكرمات إذا جئتها حاجب يحجبك
(25) مصاحبة الأخيار وأهل الأخلاق الفاضلة: فالمرء مولع بمحاكاة من حوله، شديدُ التأثر بمن يصاحبه. فالجبان قد تدفعه قوة الصداقة إلى أن يخوض في خطر؛ ليحمي صديقه من نكبة. والبخيل قد تدفعه قوة الصداقة إلى أن يبذل جانبًا من ماله؛ لإنقاذ صديقه من شدة.(6/369)
فالصداقة المتينة لا تحل في نفس إلا هذبت أخلاقها الذميمة. فإذا كان الأمر كذلك فما أحرى بذي اللب أن يبحث عن إخوان الثقات؛ حتى يعينوه على كل خير، ويقصروه عن كل شر.
(26) الاختلاف إلى أهل الحلم والفضل وذوي المروءات: فإذا اختلف المرء إلى هؤلاء، وأكثر من لقائهم وزيارتهم؛ تَخَلَّق بأخلاقهم، وقبس من سمتهم ودلهم. يروى أن الأحنف بن قيس قال:'كنا نختلف إلى قيس بن عاصم نتعلم منه الحلم كما نتعلم الفقه'.
ولا يلزم أن يكون هؤلاء الذين يختلف إليهم من أهل العلم، بل قد يوجد من العوام من جبل على كريم الخلال وحميد الخصال، قال ابن حزم: [[وقد رأيت من غمار العامة من يجري في الاعتدال وحميد الأخلاق إلى مالا يتقدمه فيه حكيم عالم رائض لنفسه، ولكنه قليل جدًا '.
(27) معرفة أحوال الناس ومراعاة عقولهم، ومعاملتهم بمقتضى ذلك: فهذا الأمر دليل على جودة النظر في سياسة الأمور، فالرجل العاقل يحكم هذا الأمر، وينتفع به عند لقائه بالطبقات المختلفة، فتراه يزن عقول من يلاقونه، فيتيسر له أن يسايرهم إلا أن ينحرفوا عن الرشد، ويتحامى ما يؤلمهم إلا أن يتألموا من صوت الحق .. ومراعاة عقول الناس وطباعهم فيما لا يقعد حقاً، ولا يقيم باطلاً؛ مظهر من مظاهر الإنسانية المهذبة.
(28) مراعاة أدي المحادثة والمجالسة: فذلك مما يزرع المودة، وينمي الأخلاق الفاضلة.
(29) المحافظة على الصلاة: فهي سبب عظيم لحسن الخلق، وطلاقة الوجه، وطيب النفس، وسموها، وترفعها عن الدنايا. كما أنها في مقابل ذلك تنهى عن الفحشاء والمنكر، وسوء الخلق من جملة ما تنهى عنه الصلاة. ثم إنها سبب لعلاج أدواء النفس الكثيرة كالبخل، والشح، والحسد، والهلع، والجزع، وغيرها.
(30) الصيام: فبالصيام تزكو النفس، ويستقيم السلوك، وتنشأ الأخلاق الرفيعة، وبالصيام تعلو الهمة، وتقوى الإرادة، ويتحقق الاطمئنان. فهو تدريب منظم على حمل المكروه، ودرس مفيد في سياسة المرء نفسه، ثم إن الصيام يحرك النفوس للخير، ويسكنها عن الشر، ويطلقها من أسر العادات، ويحررها من فساد الطباع، ويجتث منها رعونة الغرائز. فهذه الأمور وغيرها من أعظم ما يعين على اكتساب حسن الخلق.(6/370)
(31) قراءة القرآن بتدبر وتعقل: فهو الهدى والنور، وهو كتاب الأخلاق الأول، وهو الذي يهدي للتي هي أقوم، وحسن الخلق من جملة ما يهدي إليه القرآن. وفيه من الوصايا العظيمة الجامعة التي لا توجد في أي كتاب آخر، والتي لو أخذت بها البشرية لتغير مسارها، ولاستنارت سبلها، ولعاشت عيشة الهناءة والعز. بل إن آية واحدة في القرآن جمعت مكارم الأخلاق، وهي قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
(32) تزكية النفس بالطاعة: فهذا من أعظم ما يكسب الأخلاق الفاضلة إن لم يكن أعظمه، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9]. وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14].
(33) لزوم الحياء: فالحياء يبعث على فعل الجميل وترك القبيح. والحياء كله خير، ولا يأتي إلا بخير، وهو خلق الإسلام، وهو شعبة من شعب الإيمان،
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث ابن عمر الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرَّ على رجلٍ وهو يعظُ أخاه في الحياء فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعْه فإن الحياء من الإيمان.
((حديث عمران ابن حصين الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الحياءُ لا يأتي إلا بخير.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الإيمان بضع و سبعون شعبة فأفضلها قول: لا إله إلا الله و أدناها إماطة الأذى عن الطريق و الحياء شعبة من الإيمان.
((حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن لكل دين خلقاً وخلق الإسلام الحياء.
((حديث أبي سعيد الثابت في الصحيحين) قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناه في وجهه.
((حديث أبي مسعودٍ الأنصاري الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت.
((حديث ابن عمر الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الحياء و الإيمان قرنا جميعا فإذا رُفِعَ أحدهما رفع الآخر.(6/371)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة والبذاء من الجفاء والجفاء في النار.
(حديث أبي أمامة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الحياء والعي شعبتان من الإيمان والبذاء والبيان شعبتان من النفاق.
العي: سكوت الإنسان كثيراً وعدم نطقه كثيراً؛ خشية الوقوع في الخطأ والمعصية.
((حديث يعلى الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله حَييٌ سِتير يحبُ الحياءَ والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر.
((حديث سلمان الثابت في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا.
(34) إفشاء السلام: فإذا ما أفشى الناس السلام توادوا، وتحابوا، وإذا توادوا وتحابوا زكت نفوسهم، وزالت الوحشة فيما بينهم، فتحسن أخلاقهم تبعًا لذلك، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: و الذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا و لا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم.
(35) إدامة النظر في السيرة النبوية: فالسيرة النبوية تضع بين يدي قارئها أعظم صورة عرفتها الإنسانية، وأكمل هدي وخلق في حياة البشرية، قال ابن حزم رحمه الله:'من أراد خير الآخرة، وحكمة الدنيا، واستحقاق الفضائل والاحتواء على محاسن الأخلاق كلها، واستحقاق الفضائل بأسرها؛ فَلْيَقْتَدِ بمحمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليستعمل أخلاقه، وسيره ما أمكنه، أعاننا الله على التأسب به بمنه آمين'.
(36) النظر في سير الصحابة الكرام: فهم أعلام الهدي، ومصابيح الدجى، وهم الذين ورثوا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هديه، وسمته، وخلقه، فالنظر في سيرهم، والاطلاع على أحوالهم ـ يبعث على التأسي بهم، والإقتداء بهديهم.
(37) قراءة سير أهل الفضل والحلم: فإن قراءة سيرهم، والنظر في تراجمهم مما يحرك العزيمة على اكتساب المعالي ومكارم الأخلاق؛ ذلك أن حياة أولئك تتمثل أمام القارئ، وتوحي إليه بالاقتداء بهم، والسير على منوالهم.(6/372)
(38) قراءة كتب الشمائل والكتب في الأخلاق: فإنها تنبه الإنسان على مكارم الأخلاق، وتذكره بفضلها، وتعينه على اكتسابها.
(علامات حسن الخلق:
كيف يعرف الواحد منا مدى اتصافه من بحسن الخلق من عدمه ومدى التزامه بهذا التوجيه الكريم الذي يأمرنا فيه ربنا بالإقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام: قال تعالى: (لّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَالْيَوْمَ الاَخِرَ وَذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً) [الأحزاب: 21]
وقد ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نوعين العلامات الدالات على حسن الخلق فمنها ما هو مجمل ومنها ما هو مفصل ولا نستطيع أن نأتي عليها كلها لكثرتها كثرة مستفيضة كما صح عنه.
أولاً المعيار المجمل: محبة الخير لأخيه المسلم:
وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
((حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: والذي نفس محمد بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير.
ورواية النسائي تفيد فائدة عظيمة وتقطع دابر من أراد أن يستعمل الحديث في غير ما أراده النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد يقول أنا أحب كذا وكذا مما يسخط الله فأريد أن أجلبه إلى أخي المسلم فتقطع هذه الوساوس بهذه الرواية الثانية: الخير فيما يحبه الله كما قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فإن كنت تحب لإخوانك المسلمين ما تحبه لنفسك من خير فأنت إن شاء الله من ذوي الخلق الحسن.
ثانياً المعيار المفصل: الأحاديث الدالة على مكارم الأخلاق:
أداء الأمانة وتحريم المماطلة – كظم الغيظ – الإحسان إلى الجار وعدم إيذائه – البشر وطلاقة الوجه عند لقيا الإخوان ـ قضاء حوائج المسلمين – أسباب الألفة والمحبة: وهي «الكلام الطيب واللين – إفشاء السلام – الهدية – الزهد فيما في أيدي الناس»
(من علامات حسن الخلق أداء الأمانة وتحريم المماطلة:(6/373)
قال تعالى: (إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدّواْ الأمَانَاتِ إِلَىَ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنّ اللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) [سورة: النساء - الآية: 58]
((حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك"
((حديث أنس الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا إيمان لمن لا أمانة له و لا دين لمن لا عهد له.
((حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: مطل الغني ظلم فإذا أُتبع أحدكم على مليء فليتبع.
((حديث الشريد بن سُويد الثابت في صحيح السنة الأربعة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ليُّ الواجدِ يُحِلُ عِرْضِهِ و عُقُوبَتَه.
(تعريف الأمانة وحدها:
الأمانة: كل ما ائتمنك الله عليه من قليل أو كثير، فهو سائلك عنه يوم العرض الأكبر: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88 - 89] وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء:58].
فالأمانة هنا ما ائتمن الله العبد عليه، وظيفة قلَّت أو جلَّت، كبرت أو صغرت، يؤديها عند الله يوم القيامة، قال بعض السلف: " الفروج ومن تولى عليها في عقود أمانة، والأموال ومن كلف بها أمانة، والولايات أمانة، والرجل في بيته مؤتمن، والمرأة في بيتها مؤتمنة"، وسوف يأتي في ذلك عنصر.
ولما فتح المسلمون القادسية
ونصرهم الله، ورفعوا لا إله إلا الله محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القادسية سلم لسعد بن أبي وقاص ذهب وفضة، واستولى على خزائن كسرى، ولما رآها دمعت عيناه وقال: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ [الدخان:25 - 29]
فماذا فعل؟ جمع الجيش وقال: هذه أمانة فما رأيكم؟
قالوا: نرى أن تدفعها لعمر بن الخطاب الخليفة فما أخذوا منها درهماً ولا ديناراً.(6/374)
قوم ممزقة ثيابهم، مكسرة رماحهم، بهم من الظمأ والمجاعة ما الله به عليم، فدفعوا الأموال لعمر، فلما رآها بكى وقال: والله الذي لا إله إلا هو إن قوماً دفعوها إليَّ لأمناء.
ولما جاء معاذاً من اليمن كان معه بغال أتى ببغال معه وأتى ببعض المال -والقصة صحيحة- فقال عمر: سلم ما عندك من مال أحاسبك، قال: أنت الخليفة، أو أبو بكر، قال: أبو بكر الخليفة ولكن أنا هو وهو إياي، يعني أنا أقول بلسانه وهو يقول بلساني.
فقال معاذ: والله ما أخذت هذا المال إلا متاجرة وما أخذته من أموال المسلمين، فتركه عمر ونام معاذ تلك الليلة، فرأى في المنام أنه يريد أن يهوي إلى نار عميقة، وأن عمر يسحبه بثيابه على شفى حفرة من النار أي يرى أنه يكاد يهوي على وجهه في نار، وعمر يجره -فذهب معاذ إلى عمر في الصباح، قال: أحسنت، أصاب بك الله الخير، رأيت كيت وكيت، قال عمر: هيا بنا إلى خليفة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإن أحلك في مالك فهنيئاً مريئاً، وإلا فرده، فذهبوا إلى أبي بكر فأخبره، قال: أحللته لك خذه هنيئاً مريئاً.
إن عبادتهم كانت أمانة، ومراقبتهم لله عز وجل لا تفارقهم ليل نهار، وهم الذي بلغوا درجة الإحسان.
((من قصص السلف مع الأمانة:
(أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -:
أبو بكر المسئول والخليفة الأول بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تعالوا، لننتقل إليه في عاصمة الإسلام في المدينة؛ لنرى يوماً من أيامه مع الرعية، وكيف عاش الخليفة أبو بكر؟!
ينطلق من المسجد كل صباح بعد صلاة الفجر مع المسلمين ويذهب إلى خيمة في الصحراء فريدة وحيدة، فيدخلها وعمر الوزير والمستشار المفوض لأبي بكر، يتابع الخليفة في خطواته ولا يدري أبو بكر أن عمر يتابعه ويريد أن يرى أين يذهب أبو بكر الصديق خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولما دخل أبو بكر وخرج من الخيمة؛ دخل عمر بعد أبي بكر، فوجد عجوزاً كبيرة كسيرة عمياء في الخيمة، معها أطفال أبوهم قد مات، لا عائل لهم إلا الواحد الأحد، قال عمر: يا أمة الله! من أنت؟
قالت: امرأة من المسلمين حسيرة كسيرة، عجوز لي أطفال، مات أبوهم من زمن، قال: فمن هذا الشيخ الذي يأتيكم؟
قالت: والله ما أدري من هو.
لكن الواحد الأحد يدري من هو، الذي يعلم السر وأخفى، الذي يعلم صدق الصادقين وإنابة المنيبين.
قال عمر: ماذا يفعل هذا الشيخ الذي يأتيكم، قالت: يأتينا بعد فجر كل يوم، فيكنس(6/375)
بيتنا، الله أكبر أبو بكر يكنس البيت؟!
نعم. لأنه يريد الجنة، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83] وقال تعالى أيضاً: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً [الفرقان:63].
وقد صح عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {من تواضع لله رفعه، ومن تكبر على الله وضعه}.
قالت المرأة: يكنس البيت، ويصنع لنا طعامنا ـ يتحول الخليفة إلى طباخ للمساكين، يقدم لهم وجبة الإفطار ـ ويحلب لنا شياهنا، ثم ينطلق.
فماذا يرد عمر على هذه القصة؟ جلس عمر يعلق على القصة بالبكاء.
إذا اشتبكت دموع في خدودٍ ... تبين من بكى ممن تباكى
أحاذر أن يشق على المطايا ... فلا تمشي بنا إلا سواكا
ثم يقول عمر: [[أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر]] أتعبت يا أبا بكر المسئولين، أتعبت يا أبا بكر الموظفين؛ لأنك مشيت في طريق لا يستطيع أحد أن يمشي فيه، ولذلك ابن القيم إذا ذكر أبا بكر الصديق قال له:
من لي بمثل سيرك المدلل ... تمشي رويداً وتجى الأول
((عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:
عمر بن الخطاب الخليفة الصادق صاحب الجبة المرقعة، الذي يأكل خبز الشعير في الزيت، والذي يموت خوفاً منه كسرى وقيصر:
يا من يرى عمراً تكسوه بردته ... والزيت أدم له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً ... من خوفه وملوك الروم تخشاه
يصعد المنبر يوم الجمعة، وعليه جبة عليها أربع عشرة رقعة، ويقول لبطنه وأحشائه عندما تقرقر جوعاً: [[قرقري أو لا تقرقري، والله لا تشبعي حتى يشبع أطفال المسلمين]].
ذكر ابن كثير في تاريخه بسند جيد عن أسلم مولى عمر قال: قال لي عمر في ظلام الليل ...
وعمر لا ينام، تقول له امرأته: يا أمير المؤمنين لا تنام في النهار ولا تنام في الليل، قال: [[لو نمت الليل لضيعت نفسي، ولو نمت النهار لضاعت رعيتي]] يخرج في الليل والناس نيام يجوب الشوارع، يسأل عن الأمن، يطرق البيوت، يدافع الإجرام، يفضح المجرمين، يسري كالبدر، معه درة في يده، يخرج بها وساوس الشياطين من بعض الرءوس.
قال أسلم وهو مولى: فقال لي عمر انطلق معي هذه الليلة.(6/376)
ليلة من ليالي أهل الجنة، قال الحبيب المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله}:
نامت الأعين إلا مقلة ... تذرف الدمع وترعى مضجعك
قال: فانطلقت معه، فأتينا إلى خيمة بها امرأة في الولادة وهي تبكي، فأخذ عمر يشاركها البكاء -لله دره، قلب وعى القرآن وعرف الإيمان- فقال أسلم: مالك يا أمير المؤمنين تبكي؟
قال: يا أسلم ما تدري ماذا تجد من ألم الولادة وألم النفاس، ثم انطلق إلى بيت المال، وأتى بجراب من شحم ومن دقيق ومن تمر وحمله على كتفه.
فقال أسلم: أنا أحمل عنك هذا يا أمير المؤمنين! قال: إنك لا تحمل خطاياي يوم القيامة، وذهب فدخل البيت، واستأذن على المرأة، فتحجبت وقام يشعل النار، والدخان يتخلل لحيته الكثة التي نصرت لا إله إلا الله في الأرض، فصنع الطعام وقدمه للمرأة فقالت: والله إنك خير من عمر بن الخطاب، وهو عمر بشحمه ولحمه ودمه، وإرادته وصدقه وعزيمته.
((سعيد بن عامر:
اختار عمر من الصحابة رجلاً فقيراً زاهداً مصلياً عابداً ليكون والياً على حمص.
وحمص بلد للمشاغبين، كل يوم ترتفع منها شكاية لعمر يشكون فيها العامل، يثلمون في العامل ولو كان ملكاً من الملائكة، أمة تحب الشكايات طبعاً، فأراد عمر أن يسكتهم في رجل لا مطعن فيه، فقال: يا سعيد بن عامر اذهب فقد وليتك على حمص.
قال: لن أتولى حمص لك، إني أخاف من الله.
قال عمر: هيه! تضعونها في عنقي وتتركونني! والله لتتولين حمص.
يعني: تجعلون الخلافة في عنقي مسئولية وأمانة وغرماً وكلفاً ثم تركونني، فهي ليست سعادة، إنها لمن لم يحسنها خيبة وندامة يوم القيامة.
فذهب، أتدرون ما هو متاعه، قالوا: صحفة وعصا وشملة، صحفة يغتسل ويتوضأ ويأكل طعامه فيها، وشملة ينام فيها ويجلس عليها، ويضيف ضيوفه على هذا الفراش، وعصا يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه وله فيها مآرب أخرى.
ذهب إلى حمص، فاستقبله أهل حمص -يظنون أنه يبشر بالأمير، فأتى هذا ومعه صحفة وعصا وشملة وزوجته وراءه- قالوا: هل رأيت الأمير؟
قال: أنا الأمير.
قالوا: لا تستهزئ بنا! الأمير الذي أرسله عمر هل رأيته في الطريق؟
قال: أنا والله الذي لا إله إلا هو.
قالوا: وثيابك ثياب أمير!
قال: إني خرجت مأموراً من عمر ما أردت إمارة وما طلبتها.
وأتى إلى زوجته وقال: هل لك أن نتاجر في مالك وفي مالي؟ لأنها كانت تاجرة، قالت: وهل تعلم شريكاً يربحنا في التجارة؟(6/377)
قال: نعم، وجدت بعض الشركاء يعطوننا في الدرهم عشرة أضعاف إلى سبعمائة درهم.
قالت: خذ مالي إلى مالك، ولا يفوتك هذا، فإنه مكسب عظيم، فأخذ ماله ومالها، فتصدق به في سبيل الله، وتولى الإمارة ومكث فيهم راضياً زاهداً صادقاً، فأتى عمر يبحث عن الأمراء -كان عمر له جولة استطلاع لاكتشاف المواهب، واكتشاف الدسائس، ويحاكم الأمير والوالي أمام الناس في مجلس شورى مفتوح- فيقول: ما رأيكم فيه، وما رأيه فيكم.
فلما وصل دور سعيد بن عامر وهو جالس، قال: يا أهل حمص ما رأيكم في أميري عليكم سعيد بن عامر، قام الناطق الرسمي بلسانهم، قال: فيه كل خير إلا أربع خلال فيه.
قال عمر: الله المستعان! اللهم لا تخيب ظني فيه، ما هي الأربع؟ قال: أولها: لا يخرج إلينا يوماً في الأسبوع ولا نراه، قال: هذه واحدة، والثانية؟ قالوا: من بعد صلاة العشاء مهما طرقنا عليه لا يخرج إلينا، قال: هذه ثانية، والثالثة؟ قالوا: لا يخرج علينا حتى يرتفع النهار ضحى، قال: هذه ثالثة -يعني يتأخر في الدوام- والرابعة، قالوا: إذا جلس في الحكم وفي دار الإمارة يغمى عليه، قال: هذه الرابعة، قال عمر: أجب يا سعيد.
فقال سعيد: ما أردت أن أظهر شيئاً من عملي بعد أن كتمه الله، ولكن ما دام أنك قد سألتني يا أمير المؤمنين فاسمع.
قال: الأولى: أما أني لا أخرج لهم يوماً في الأسبوع، فإن امرأتي مريضة، وليس لي خادم، فأنا أغسل ثيابي وثيابها يوماً من الأسبوع، فدمعت عينا عمر وشكره.
وأما أني لا أخرج عليهم حتى يتعالى النهار، فامرأتي كما قلت مريضة ولا خادم لي، فأنا أصنع الطعام وأفطر أنا وزوجتي، ثم أتوضأ وأخرج إليهم.
وأما أني لا أخرج لهم من بعد العشاء ولا أفتح الباب، فقد جعلت النهار لهم والليل لربي.
وأما قولهم إنه يغمى علي في المجلس، فإني حضرت قتل خبيب بن عدي في مكة وكنت مشركاً، وكان خبيب مسلماً، فاجتمع المشركون حوله ليقتلوه، فرأيته يرفع على الخشبة وهو يقول: [[اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً]].
ثم قال:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً ... على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
فكلما ذكرت ذاك الموقف وأني ما نصرته أغمي علي، وغشي علي، فبكى عمر وبكى الناس، وقال: الحمد لله الذي لم يخيب ظني فيك، فقام سعيد بن عامر وقال: خذ إمارتك يا أمير المؤمنين، والله لا أتولى بعدها لك ولاية.(6/378)
وجاء عمر يحاسبه بعد هذا الكلام والمحاضرة قال عمر: نحاسبك على ما أعطيناك من عطاء وعلى ما عندك، أدخلني بيتك، فدخل بيته فوجد شملة وصحفة وعصا، قال: أسألك بالله ما عندك من الدنيا إلا هذا، قال: والله الذي لا إله إلا هو ما أملك من الدنيا إلا هذا، فجلس في ركن البيت يبكي، وجلس عمر في ركنه الآخر يبكي، يقول عمر: غرتنا الدنيا إلا أنت يا سعيد.
سلام الله عليهم، ورضي الله عنهم، أمة أخرجها الله للناس.
(من علامات حسن الخلق كظم الغيظ وعدم الغضب:
وقد قال الله جل وعلا: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:133،134]. فأين نحن يا عباد الله من هذه الصفات، هل نحن ممن يكتم الغيظ ويعفو عن الناس حتى إن أساءوا إليه.
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ليس الشديد بالصُرعة و إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.
((حديث معاذ ابن أنس الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من كظم غيظا و هو قادر على أن يُنْفِذَه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور ما شاء.
وقد قال الله جل وعلا: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:133،134]. فأين نحن يا عباد الله من هذه الصفات، هل نحن ممن يكتم الغيظ ويعفو عن الناس حتى إن أساءوا إليه.(6/379)
وقد قال الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 96] فإذا أساء إليك إنسان فادفع إليه بالكلمة التي هي أحسن وبالفعلة التي هي أحسن وقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 43] وهذه نتيجة دفع السيئة بالحسنة.
{تنبيه}: (اعلم علم اليقين الذي لا يخالطه شك أن كظم الغيظ يمكن اكتسابه بترويض النفس فلا ينبغي للإنسان أن يستوطئ العجز ولا أن يقول أنني جُبلت على ذلك فإنه من يتحرى الخير يُعطه ومن يتق الشر يُوَقَّه بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنما العلم بالتعلم و إنما الحلم بالتحلم و من يتحر الخير يعطه و من يتق الشر يُوّقَّه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إنما العلم) أي تحصيله.
(بالتعلم) بضم اللام على الصواب كما قاله الزركشي ويروى بالتعليم أي ليس العلم المعتبر إلا المأخوذ عن الأنبياء وورثتهم على سبيل التعليم وتعلمه طلبه واكتسابه من أهله وأخذه عنهم حيث كانوا فلا علم إلا بتعلم من الشارع أو من ناب عنه منابه وما تفيده العبادة والتقوى والمجاهدة والرياضة إنما هو فهم يوافق الأصول ويشرح الصدور ويوسع العقول ثم هو ينقسم لما يدخل تحت دائرة الأحكام ومنه ما لا يدخل تحت دائرة العبادات وإن كان مما يتناوله الإشارة ومنه ما لا تفهمه الضمائر وإن أشارت إليه الحقائق في وضوحه عند مشاهده وتحققه عند متلقيه فافهم قال ابن مسعود تعلموا فإن أحدكم لا يدري متى يحتاج إليه وقال ابن سعد ما سبقنا ابن شهاب للعلم إلا أنه كان يشد ثوبه عند صدره ويسأل وكنا تمنعنا الحداثة وقال الثوري من رق وجهه رق علمه وقال مجاهد لا يتعلم مستحي ولا متكبر وقيل لابن عباس بما نلت هذا العلم قال بلسان سؤول وقلب عقول
(وإنما الحلم بالتحلم) أي ببعث النفس وتنشيطها إليه قال الراغب: الحلم إمساك النفس عن هيجان الغضب والتحكم إمساكها عن قضاء الوطر إذا هاج الغضب
(ومن يتحر الخير يعطه) أي ومن يجتهد في تحصيل الخير يعطه اللّه تعالى إياه.
(ومن يتق الشر يوقه) زاد الطبراني والبيهقي في روايتيهما ثلاث من كن فيه لم يسكن الدرجات العلى ولا أقول لكم الجنة من تكهن أو استقسم أو ردّه من سفر تطير.(6/380)
(تنبيه) قال بعضهم: ويحصل العلم بالفيض الإلهي لكنه نادر غير مطرد فلذا تمم الكلام نحو الغالب قال الراغب: الفضائل ضربان نظري وعملي وكل ضرب منها يحصل على وجهين أحدهما بتعلم بشرى يحتاج إلى زمان وتدرب وممارسة ويتقوى الإنسان فيه درجة فدرجة وإن فيهم من يكفيه أدنى ممارسة بحسب اختلاف الطبائع في الذكاء والبلادة، والثاني يحصل بفيض إلهي نحو أن يولد إنسان عالماً بغير تعلم كعيسى ويحيى عليهما الصلاة والسلام وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام الذين حصل لهم من المعارف بغير ممارسة ما لم يحصل لغيرهم وذكر بعض الحكماء أن ذلك قد يحصل لغير الأنبياء عليهم السلام في الفيئة بعد الفيئة وكلما كان يتدرب فقد يكون بالطبع كصبي يوجد صادق اللّهجة وسخياً وجريئاً وآخر بعكسه وقد يكون بالتعلم والعادة فمن صار فاضلاً طبعاً وعادة وتعلماً فهو كامل الفضيلة ومن كان رذلاً فهو كامل الرذيلة.
(من علامات حسن الخلق الإحسان إلى الجار وعدم إيذائه:
قال تعالى: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىَ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً) [سورة: النساء - الآية: 36]
((حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت.
((حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن قيل: يا رسول الله ومن؟ قال: الذي لا يأمن جارة بوائقة "
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه.
((حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيُوَرِثُه.
(من إكرام الجار تعاهده بالهدايا ولو بالشيء القليل:
((حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يا نساء المسلمات! لا تحقرن جارة لجارتها و لو فِرْسَن شاة.(6/381)
((حديث عائشة الثابت في صحيح البخاري) قالت: قلت يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي، قال: إلى أقربهما منك باباً"
(ومن إكرام الجار ألا يمنع جارٌ جاره أن يغرز خشبةً في جداره:
((حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يمنع جارٌ جاره أن يغرز خشبةً في جداره " ثم يقول أبو هريرة مالي أراكم عنها معرضين، والله لأرمينَّ بها بين أكتافكم.
(ومن إكرام الجار أن يتفقد حاله فقد يكون جائعاً وأنت لا تدري:
((حديث أنس الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما آمن بي من بات شبعان و جاره جائع إلى جنبه و هو يعلم به.
فهل نحن ممن يحسن الجوار فإن حسن الخلق والجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار.
(من علامات حسن الخلق البشر وطلاقة الوجه:
من علامات حسن الخلق البشر وطلاقة الوجه؛ فإن الابتسامة دليل على حسن الخلق؛ وتوطِّنُ النفس على الأخذ بمحاسن الأخلاق؛ فالبسمة في وجه أخيك هي من أغلى ما تهديه إليه .. وبها تدخل السرور في قلب أخيك المسلم فإن أثر طلاقة الوجه على النفوس لا يجهله أحد وهو أثر ملموس يحسه كل أحد عندما يجد البسمة من أخيه، فالابتسامة تكسر كل الحواجز , وتنهي كل الضغائن , وتريح النفوس , وتجمع القلوب , وتدعو إلى المسامحة والتآلف والمحبة , وتشجع على التعاون والتكاتف والتآخي، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث عائشة الثابت في الصحيحين) قالت ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضاحكاً حتى أرى لهواته إنما كان يبتسم.
((حديث جرير ابن عبد الله الثابت في الصحيحين) قال ما رآني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منذ أن أسلمت إلا تبسم في وجهي.
((حديث أبي ذر رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: تبسمك في وجه أخيك لك صدقة وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة.
((حديث أبي ذر الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تحقرن من المعروف شيئا و لو أن تلقى أخاك بوجهٍ طليق.(6/382)
فمن الفوائد اللطيفة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن احتقار أي شيء من المعروف بدليل قوله: {لاتحقرن من المعروف شيئاً} فكلمة {شيئاً} هنا هي نكرة في سياق النهي فتفيد العموم ومعنى ذلك أن لايحقر الإنسان من المعروف شيئاً حتى لو كان ذلك الشيء هو الابتسامة.
ومن الفوائد أيضاً أن الابتسامة هي أقل أنواع المعروف وذلك لأنها لاتتطلب مزيد عمل أو جهد وإنما يكفي فقط المبتسم أن يتبسم دون أن يتكلم أو يعمل شيئاً ومن الفوائد كذلك أن الابتسامة من المعروف لأن طلاقة الوجه هي التبسم والبشاشة فتكون من المعروف وهذا يدل على أن المبتسم يؤجر على ابتسامته وطلاقة وجهه لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سماه هنا معروفاً والمعروف هو إسداء الخير للغير فيكون مأجوراً عليه صاحبه ويدل على ذلك أيضاً أن العلماء عرفوا حسن الخلق بتعريف شامل لهذا المعروف فقالوا إن حسن الخلق هو بذل المعروف وكف الأذى وطلاقة الوجه ولا شك أن للابتسامة العديد من الفوائد والثمار التي يحصل عليها المتبسم كما يحصل عليها الآخرين ومن ثم تعود تلك الفوائد والثمار على المجتمع بأسره.
فمن الفوائد والثمار التي تعود على صاحب الابتسامة ما يلي:
(1) أن المبتسم يكون قد أطاع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا التوجيه النبوي وهو طلاقة الوجه والتبسم ولو لم يحصل المبتسم إلا على هذه الفائدة لكفته.
(2) محبة الآخرين فإن الشخص المبتسم يكون محبوباً من الآخرين ولا شك أن كل عاقل وعاقلة يسعى إلى الحصول على محبة الآخرين ويجتهد في الأخذ بأسبابها ومن أسبابها الابتسامة والبشاشة.
(3) أن المبتسم يحظى بما يريده من الآخرين من مطلوبات مباحة أو عفو عن زلل أو مسامحة على خطأ فإن الرضا عن هذا المبتسم البشوش يحقق له مايريد الوصول إليه من أهداف نبيلة ومساع طيبة لاسيما إذا كان من الدعاة إلى الله تعالى وقد أحسن من قال:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا
أما الفوائد التي تعود على الآخرين فهي كثيرة جداً ومن أهمها ما يلي:
(1) الارتياح لهذا الشخص وغالباً مايؤدي هذا الارتياح إلى السؤال عن ذلك الشخص ثم بعد معرفته تبنى جسور الثقة التي كان أساسها تلك الابتسامة وهذا أمر مهم.(6/383)
(2) التعاون مع هذا المبتسم سواء كان في عمله أو فيما يحتاجه من مساعده أو قبول ماعنده من الحق وقد بين الله تعالى أهمية ذلك في كتابه الكريم بقوله تعالى: (وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضّواْ مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159] فالفظاضة من الشخص وكونه دائماً مكفهراً الوجه حاد الطبع تجعل الناس يبتعدون عنه أما الابتسامة والبشاشة وطلاقة الوجه وحسن التعامل فإنها تجعل الناس يقتربون من هذا الشخص ويستمعون إليه وهذا هو المهم فإن الناس يستفيدون من هذا المبتسم ويستمعون إليه بسبب كونه بشوشاً مبتسماً محباً لهم وليس العكس.
وأما الفوائد التي تعود على المجتمع فهي كثيرة أيضاً من أبرزها ما يلي:
(1) التعاون والتكاتف والإنجاز فإن المجتمع الذي يتعامل أفراده فيما بينهم بالابتسامة والود والوفاء يكون مجتمعاً متعاوناً ومنتجاً ومتكاتفاً فإن للابتسامة أثراً نفسياً عجيباً في الإخلاص والتحمل والوفاء وهذا بدوره يؤدي إلى التعاون والإنجاز الذي يسعى إليه كل مجتمع من المجتمعات.
(2) أن الابتسامة تشيع روح المحبة في المجتمع. والحب في المجتمعات يؤدي إلى الكثير من الأمور التي يحتاجها الأفراد والتي من خلالها يتلاحم أفراد هذا المجتمع فالحب في الله أوثق عرى الإيمان وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث ابن عباس الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله و المعاداة في الله و الحب في الله و البغض في الله عز و جل.
((حديث أبي أمامة الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أحب لله و أبغض لله و أعطى لله و منع لله فقد استكمل الإيمان.(6/384)
((حديث عمر الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى قالوا يا رسول الله تخبرنا من هم؟ قال هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها فوالله إن وجوههم لنور وإنهم على نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس وقرأ هذه الآية (أَلآ إِنّ أَوْلِيَآءَ اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [يونس: 62].
((حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: قيل للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرجل يحب القومَ ولما يلحقُ بهم قال: المرء مع من أحب.
((حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن رجلاً سأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متى الساعة؟ قال: «وما أعددت لها؟» قال: لا شيء إلا أني أُحب الله ورسوله. قال: «أنت مع من أحببت».
ومن الخطأ الفاحش عند بعض الناس؛ ظنه بأن التبسم في وجوه الناس يجرئهم عليه؛ أو أنه لا يليق بالسمت والرزانة؛ فتجد أحدَهم إذا سلَّم على الناس أو خاطبهم أقبل عليهم بوجه عبوس وكأنه مغضبٌ من أمر ما؛ وهذا خطأ بالغ جسيم؛ وهو من تلبيس الشيطان؛ فالسمت وقوة الشخصية ليست بترك التبسم ومحاسن الأخلاق؛ بل إن التعامل بهذا المنطق دليل الجفاء والغلظة؛ قال الحارث بن جزء - رضي الله عنه -: " يعجبني من القراء كل طليق مضحاك؛ فأما الذي تلقاه ببشر؛ ويلقاك بوجه عبوس كأنه يمن عليك؛ فلا أكثر الله في المسلمين مثله".
والهيبة لا يُنقصها حسن الخُلق في التعامل مع الناس؛ والتبسم في وجوه الخلق؛ فقد كان سلف الأمة أحسن الناس أخلاقاً؛ وأعظمهم هيبة في قلوب الناس؛
((قال ضرار بن حمزة يصف عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -: " كان واللهِ يجيبنا إذا سألناه؛ ويأتينا إذا دعوناه، ونحن والله مع تقريبِه لنا وقربِه منّا؛ لا نكلمه هيبةً له، يعظِّمُ أهل الدين؛ ويحب المساكين؛ لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله ".
(من علامات حسن الخلق قضاء حوائج المسلمين:(6/385)
من علامات حسن الخلق قضاء حوائج المسلمين يمسحون آلامهم ويقيلون عثراتهم، يعينونهم برأيهم وهم لهم ناصحون ويمدونهم بمالهم وهم عليهم مشفقون، ويسعون معهم بجاههم وهم لخيرهم راغبون وفي كل ذلك يلتمسون الأجر والقرب منه تعالى، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة.
الكربة: هي الشدة العظيمة التي توقع صاحبها في الهم والغم والكرب.
أليس الحري بنا أن ننفّس كربات المكروبين وأن نيسّر على المعسرين وأن نقضي حوائج المحتاجين ونمدّ يد المعونة والنجدة للمنكوبين من إخواننا المسلمين. أليس فينا المهجر والمنكوب والمحروم والمسكين والمُعدَم واليتيم. أوليس فينا الغني والموسر ومن يستطيع سدّ ضرورات المحتاجين.
(ولقد وعد الله تعالى على لسان رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يرفع كرب الآخرة عمن يرفع كرب الدنيا عن المسلمين.
(ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة)
ومن المعلوم أن كرب الدنيا كلها بالنسبة لكرب الآخرة لا شيء، فإن كرب الآخرة شيء عظيم، يدلك على ذلك قول الله تعالى: يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمْ إِنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلّ مُرْضِعَةٍ عَمّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النّاسَ سُكَارَىَ وَمَا هُم بِسُكَارَىَ وَلََكِنّ عَذَابَ اللّهِ شَدِيدٌ [الحج:1 - 2].
وقال تعالى: فَكَيْفَ تَتّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً السّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً [المزمل:17 - 18].
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد. ((6/386)
((حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه ومنهم من يكون إلى حِقْوَيْه ومنهم من يلجمه العرق إلجاما.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم).
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال: كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ سمع وجبة فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تدرون ما هذا؟ قال قلنا الله ورسوله أعلم، قال هذا حجر ُرِمىَ به في النار منذ سبعين خريفا فهو يهوى في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها فسمعتم وَجْبَتَها.
((حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشِقِّ تمرة).
((حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة.
فكل هذه النصوص تدل على أن كرب الآخرة شيء عظيم جدا، وليس هناك من يدفع عنك – أيها المسلم – كرب الآخرة يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاّ مَنْ أَتَى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:88 - 89].
إلا أن تفرج عن المسلمين كرب الدنيا، ففي الحديث عن النبي أنه قال: ((من فرّج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)).
فعليك أيها المسلم القادر أن تسعى لإزالة ما يحل بالمسلمين من النائبات والمصائب والكرب، فمن ابتلي بمسغبة بذلت له من مالك، أو حثثت الأغنياء على التصدق عليه ومعونته، ومن ابتلي بالعطالة سعيت له في تحصيل عمل، ومن حاق به ظلم ظالم رددت عنه الظلم ما وجدت إلى ذلك سبيلا، وبالجملة فأنت أيها المسلم مكلف شرعا أن تسعى جاهدا لإزالة النائبات أو تخفيفها عن إخوانك المسلمين، والله سبحانه يعدك علىذلك أن يدفع كرب يوم الدين.(6/387)
((حديث أبي موسى الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: على كل مسلمٍ صدقة، قالوا يا نبي الله فمن لم يجد؟ قال: يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدَّق. قالوا فإن لم يجد؟ قال: يُعينُ ذا الحاجةِ الملهوفِ فإنه له صدقة. قالوا فإن لم يجد؟ قال: فليعمل بالمعروفِ وليُمسك عن الشرِ فإنه له صدقة.
((حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أحب الناس إلى الله أنفعهم و أحب الأعمال إلى الله عز و جل سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينا أو تطرد عنه جوعا «و لأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهرا» ومن كف غضبه ستر الله عورته و من كظم غيظا و لو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضا يوم القيامة و من مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل.
((حديث محمد بن المنكدر الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أفضل العمل إدخال السرور على المؤمن تقضي عنه دينا تقضي له حاجة تنفس له كربة.
((حديث جابر الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: خير الناس أنفعهم للناس.
{تنبيه}: (النفع هنا لا يقتصر على النفع المادي فقط، ولكنه يمتد ليشمل النفع بالعلم، والنفع بالرأي، والنفع بالنصيحة، والنفع بالمشورة، والنفع بالجاه، والنفع بالسلطان، ونحو ذلك، فكل ما استطعت أن تنفع به إخوانك المسلمين فنفعتهم به، فأنت داخل في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير الناس أنفعهم للناس.
((حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الساعي على الأرملة و المسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار.
((حديث سهل بن سعد الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أنا و كافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بأُصبعيه بالسبابة والوسطى.
(ومن قضاء حوائج المسلمين أن تقضي عنهم ديونهم:(6/388)
إن الله تبارك وتعالى جعل للغارمين نصيبا في الصدقات المفروضة، وجعل لهم حقا معلوما في مال الأغنياء، قال تعالى: (إِنّمَا الصّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السّبِيلِ فَرِيضَةً مّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة:60].
والغارمون هم من ركبتهم الديون ولزمتم، ثم لم يجدوا لها وفاء، فأهل الأموال مطالبون شرعا بقضاء دين الغارمين، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال * أصيب رجل في عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصدقوا عليه فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لغرمائه خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك.
فعلى أصحاب الأموال وذوي الغنى والثراء أن يتفقدوا الغارمين من الفقراء، والأغنياء على حد سواء، فإن الرجل لو أوتي من المال نصيبا، ثم كان عليه من الدين أكثر مما عنده فهو من الغارمين، فوجب على أصحاب الأموال أن يقضوا عنه دينه، حتى يخرجوه من هذه الكربة التي نزلت به، ولو أن أصحاب الأموال والغنى والثراء، ولو أن رجال الأعمال تفقد بعضم بعضا وبحثوا عن الغارمين منهم وقضوا دينهم، لوقف الرجل على رجليه مرة ثانية، وسعى فرزقه الله، ولم يعد يحتاج إلى الناس بعد ذلك، ولكن مشكلة الأغنياء أنهم يتغافلون عن الديون التي تلزم إخوانهم أصحاب الأموال، ولا يفكرون في قضائها عنهم، في حين أن الإسلام قد جعل قضاء الدين عن الغارمين من أبواب الصدقات المفروضة.
(ومن قضاء حوائج المسلمين أن تطرد عن مسلم جوعا:(6/389)
ومن أحب الأعمال إلى الله عز وجل: أن تطرد عن مسلم جوعا، فطرد الجوع عن الجائعين عمل من أعمال البر، يجزي الله عليه بجنة عالية، قطوفها دانية، فيها من النعيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال تعالى: (إِنّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللّهِ يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً يُوفُونَ بِالنّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرّهُ مُسْتَطِيراً وَيُطْعِمُونَ الطّعَامَ عَلَىَ حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً إِنّا نَخَافُ مِن رّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَوَقَاهُمُ اللّهُ شَرّ ذَلِكَ الْيَومِ وَلَقّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنّةً وَحَرِيراً [الإنسان:5 - 12].
ولقد حث الله تعالى على طرد الجوع عن الجائعين، فقال عز وجل: فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمّ كَانَ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ [البلد:11 - 18].
وبين الله سبحانه وتعالى أن من الأسباب الموجبة لدخول النار عدم طرد الجوع عن الجائعين مع القدرة عليه، قال تعالى: كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنّا نَخُوضُ مَعَ الُخَآئِضِينَ وَكُنّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدّينِ حَتّىَ أَتَانَا الْيَقِينُ [المدثر:38 - 47].(6/390)
وجعل الله تعالى من أسباب دخول النار ترك الحض على إطعام الجائعين، قال الله عز وجل: وَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَلَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَآ أَغْنَىَ عَنّي مَالِيَهْ هّلَكَ عَنّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلّوهُ ثُمّ الْجَحِيمَ صَلّوهُ ثُمّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ إِنّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ الْعَظِيمِ وَلاَ يَحُضّ عَلَىَ طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ وَلاَ طَعَامٌ إِلاّ مِنْ غِسْلِينٍ لاّ يَأْكُلُهُ إِلاّ الْخَاطِئُونَ [الحاقة:25 - 37].
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أبي موسى الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكُّوا العاني: الأسير.
((حديث عبد الله بن سلام الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يأيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام.
((حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أحب الناس إلى الله أنفعهم و أحب الأعمال إلى الله عز و جل سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينا أو تطرد عنه جوعا و لأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهرا ومن كف غضبه ستر الله عورته و من كظم غيظا و لو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضا يوم القيامة و من مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل.
(النكير على من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه:
((حديث أنس الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما آمن بي من بات شبعان و جاره جائع إلى جنبه و هو يعلم به.(6/391)
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله عز وجل يقول يوم القيامة يا بن آدم مرضت فلم تعدني قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين قال أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده يا بن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين قال أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي يا بن آدم استسقيتك فلم تسقني قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي.
(إن إعانة الآخرين والسعي إلى قضاء حوائجهم من علامات حسن الخلق فينبغي أن يسعى الإنسان إلى ذلك. فقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان معتكفاً في المسجد ذات يوم فدخل رجلٌ وعلى وجهه علامات الهم والغم فقال له ابن عباس: "ما لك يا ابن أخي؟ "، فقال: "إن علي ديناً وقد حل أجله وليس عندي سداده". فقال ابن عباس: "أتريد أن أكلم لك صاحب الدين أن ينظرك إلى ميسرة؟ ". قال: "نعم". فأمسك بيده يمشيان في المسجد حتى إذا وصلا إلى الباب قال الرجل: "يا ابن عباس أنسيت أنك معتكف وأن المعتكف لا يخرج من المسجد". قال: "كلا ما نسيت ولكني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهرا.
فالمسلم يساعد أخاه المسلم, بقدر إمكانياته بيده، بماله، بجاهه ولا يضيق به مؤثراً السكينة وقد أخلد إلى الراحة .. بينما نجد غيره من إخوته تؤرقهم الهموم، وتقض مضاجعهم المحن .. وبإمكانه أن يمسحها بشيء من الإيثار ولو على حساب راحته.
قد تحل بأحد المسلمين مشكلة فماذا يكون موقف الآخرين منها؟ لن نتحدث عن ضعاف الإيمان وإنما نتحدث عن الصفوة التي نأمل منها الكثير .. وكثير من هؤلاء يواجهون المشكلة بهز الكتفين ولسان حال أحدهم يقول: مالي ولهذا الأمر، فأشغالي أجل منها.
وفي أحسن حالاته يحوقل ويتأوه وكأنه يقول: ليس بالإمكان أحسن مما كان.
إن السلبية واللامبالاة لن تحل أمور المسلمين، وهذه التصرفات لابد أن نؤاخذ عليها.
فالنعمة التي خولها الله للعبد سيسأل عنها فيم وضعها؟ فكيف إذا سئل العبد يوم القيامة إن فلاناً المسلم كان في ضائقة وكان بإمكانك مساعدته،(6/392)
وكم من شاب قد ينحرف عن دينه لقضاء مصالحه عن طريق غير المسلمين إذا ساعدوه في المال لإنهاء دراسته! وكم من أسرة تضرع بالدعاء إلى من مد لها يد العون وقد يكون من أعداء الإسلام! ..
وهذا ما يقوم به المنصرون في كثير من ديار المسلمين الفقيرة، وأندونيسيا خير شاهد على ذلك.
كم من أسرة ناشئة بنيت على غير مرضاة الله للتقصير في مساعدة الشباب على الإحصان الذي يدعو له الشرع! كل ذلك في غيبة الوعي الفعلي والتقدير لقيمة العون.
والله تعالى يقول: (مَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا) [النساء 85].
إن سيرك في حاجة أخيك المسلم إن أحسنت النية واحتسبت الأجر من الله قد تكون من أفضل العبادات.
ومن هنا كان السلف الصالح رضوان الله عليهم أشد حرصا من غيرهم على المشي في قضاء حوائج المسلمين،
(وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يحلب للحي أغنامهم فلما استخلف قالت جارية منهم: الآن لا يحلبها. فقال أبو بكر وإني لأرجو ألا يغرني ما دخلت فيه ـ يعني الخلافة ـ عن شيء كنت افعله أو كما قال.
(ولقد كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يتعاهد الأرامل بالليل يستقي لهن الماء فرآه طلحة - رضي الله عنه - ليلة يدخل بيت امرأة، فدخل طلحة على المرأة نهارا فإذا هي امرأة عمياء مقعدة.
فقال لها: يا هذه ما يصنع هذا عندك؟ قالت: إنه منذ كذا وكذا يتعاهدني يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى.
فقال طلحة - رضي الله عنه -: ثكلتك أمك يا طلحة! أعورات عمر تتبع؟! وكان كثير من الصالحين إذا خرج في سفر مع أصحابه يشترط عليهم أن يخدمهم، فإذا خرجوا وأراد أحدهم أن يغ
(روي أن الحسن البصري رحمه الله بعث نفرا من أصحابه في قضاء حاجة لرجل مسلم، وأمرهم أن يمروا بثابت البناني فيأخذوه معهم، فأتوا ثابتا فأخبروه فقال: إني معتكف، فرجعوا إلى الحسن.
فقال لهم: قولوا له يا أعمش! أما تعلم، مشيك في قضاء حوائج المسلمين خير لك من حجة بعد حجة. فرجعوا إلى ثابت فترك اعتكافه وخرج معهم. سل رأسه أو قميصه قال: هذا شرطي، فتركه يغسل رأسه وقميصه.(6/393)
((حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: كنا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أكثرنا ظلا الذي يستظل بكسائه، وأما الذين صاموا فلم يعملوا شيئا، وأما الذين أفطروا فبعثوا الركاب وامتهنوا وعالجوا، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ذهب المفطرون اليوم بالأجر).
لأنهم كانوا في خدمة إخوانهم الصائمين وقضاء حوائجهم.
فيا أخا الإسلام:
اقض الحوائج مااستطعت ... و كن لهم أخيك فارج
فلخير أيام الفتى ... يوم قضى فيه الحوائج
اقض الحوائج ما استطعت، واسعَ في حوائج المسلمين ما استطعت، وتذكر أن ما بك من نعمة فإنما أنعم الله بها عليك لتنفع المسلمين، وتمشي في حوائجهم، فإن أنت فعلت أتم عليك نعمته وزادك منها، وإن أنت بخلت وقعدت عن المشي في قضاء حوائج المسلمين ذهبت عنك نعمة الله تبارك وتعالى.
((حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن لله تعالى أقواما يختصهم بالنعم لمنافع العباد و يقرها فيهم ما بذلوها فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم.
((يقول ابن القيم رحمه الله في معرض ذكره للآراء في أفضل العبادات: ومنهم من رأوا أن أنفع العبادات وأفضلها ما كان فيه نفع متعدٍ.
فرأوه أفضل من ذي النفع القاصر.
فرأوا خدمة الفقراء والاشتغال بمصالح الناس وقضاء حوائجهم ومساعدتهم بالمال والجاه والنفع أفضل فتصدوا له وعملوا عليه واحتجوا بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله» [رواه أبو يعلى].
(ضعيف الجامع)
واحتجوا بأن عمل العابد قاصر على نفسه، وعمل النافع متعدٍ إلى الغير (أين أحدهما من الآخر؟)
قالوا: ولهذا كان فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب.
واحتجوا أن صاحب العبادة إذا مات انقطع عمله وصاحب النفع لا ينقطع عمله ما دام نفعه الذي سعى إليه.
واحتجوا بأن الأنبياء إنما بعثوا بالإحسان إلى الخلق وهدايتهم ونفعهم في معاشهم ومعادهم، ولم يبعثوا بالخلوات والانقطاع عن الناس والرّهب، ولعل في هذا القول ما يشفي ويكفي.
فإلى قضاء مصالح المسلمين ينبغي أن ينشط الدعاة المخلصون في كل مكان، ولا تشغلهم عنها كثرة التبعات.
وما قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع المرأة التي كانت في حالة وضع، ومساعدة زوجها في طهي الطعام عنا ببعيدة.
إن الفطرة السوية لن تنسى اليد التي امتدت إليها ساعة المحنة.(6/394)
أيها الأخ المسلم يا من تريد النجاح في الدارين: إن الأمر سهل ميسور، إذا عودت نفسك على قضاء مصالح إخوانك ذوي الحاجات، ولن تنفع الخطب والمواعظ إذا تقاعست عن أداء حق الأخوة والدين.
(من علامات حسن الخلق التحلي بأسباب الألفة والمحبة:
وهي «التحلي بالكلام الطيب ـ التواضع وهو خفض الجناح ولين الجانب كالجمل الذلول – إفشاء السلام – الهدية – الزهد فيما في أيدي الناس»
(من علامات حسن الخلق التحلي بالكلام الطيب:
قال الله جل وعلا في وصف أهل الجنة (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) سورة الحج: 24]، وقال تعالى آمراً لنا (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) [البقرة:83]،
(وبيَّن سبحانه أن الشيطان يحرص على التحريض بين الناس. وأن الكلام الطيب هو الذي يفسد مخططات هذا الشيطان فقال تعالى (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ) [الإسراء: 53]،
وقال جل وعلا حينما بعث موسى وهارون إلى فرعون الذي قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) [النازعات: 24] والذي قال: (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) [القصص: 38]، بعثهما الله سبحانه وتعالى آمراً لهما (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) طه: 44]
وقد جاء أن أحد الوعاظ جاء ينصح أحد العصاة وقد شدد عليه، فقال له الفاسق: رويداً يا ابن أخي فلست خيراً من موسى وهارون ولست بأفسد من فرعون فإن الله قد ابتعث من هو خير منك إلى من هو شر مني وقال له: (وقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى)
(وبيَّن سبحانه وجوب الكلام الطيب مع الناس عامة فقال تعالى: (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا) [البقرة: 83]
وقال تعالى: (وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً) [النساء: 5].
وقال تعالى: (فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا) [الإسراء: 28].
(ثم بين سبحانه أن للوالدين الحق الأول على الإنسان في مخاطبتهما بالكلام اللين والطيب فقال تعالى: (فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا) [الإسراء: 22، 23].(6/395)
(وقد لا تستطيع أن تقدم المال للناس وللفقراء منهم والمساكين لكنك تستطيع أن تقدم لهم الكلام الطيب قال تعالى: (قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى) [البقرة: 263]
وقال تعالى: (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ) [الضحى: 10].
(وبين سبحانه الثواب العظيم الذي يترتب على قول الطيب فقال تعالى: (يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 70، 71]
(والكلمة الطيبة صدقة بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كلُ سُلامى من الناس عليه صدقة، كل يومٍ تطلع فيه الشمس، َيعِدلُ بين الاثنين صدقة، ويعين الرجلُ على دابته فيحمل عليها، أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكلُ خطوةٍ يخطوها إلى الصلاة صدقة، ويميطُ الأذى عن الطريق صدقة)
(حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها و باطنها من ظاهرها أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام و ألان الكلام و تابع الصيام و صلى بالليل و الناس نيام.
(والكلمة الطيبة قد ترفع صاحبها درجات بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات و إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم.
(والكلمة الطيبة مما يتقى به من النار بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
((حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة.
(والكلمة الطيبة مغنم بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
((حديث خالد بن أبي عمران الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: رحم الله عبدا قال خيرا فغنم أو سكت عن سوء فسلم.
(طيب الكلام من الخصال الموجبة للجنة بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي: ((6/396)
((حديث أبي شريح رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنه قال: يا رسول الله أخبرني بشيء يوجب لي الجنة. قال: طيب الكلام، وبذل السلام، وإطعام الطعام.
((هل يمكن اكتساب التحلي بالكلام الطيب:
{تنبيه}: (اعلم علم اليقين الذي لا يخالطه شك أن التحلي بالكلام الطيب يمكن اكتسابه بترويض النفس فلا ينبغي للإنسان أن يستوطئ العجز ولا أن يقول أنني جُبلت على ذلك فإنه من يتحرى الخير يُعطه ومن يتق الشر يُوَقَّه بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنما العلم بالتعلم و إنما الحلم بالتحلم و من يتحر الخير يعطه و من يتق الشر يُوّقَّه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إنما العلم) أي تحصيله.
(بالتعلم) بضم اللام على الصواب كما قاله الزركشي ويروى بالتعليم أي ليس العلم المعتبر إلا المأخوذ عن الأنبياء وورثتهم على سبيل التعليم وتعلمه طلبه واكتسابه من أهله وأخذه عنهم حيث كانوا فلا علم إلا بتعلم من الشارع أو من ناب عنه منابه وما تفيده العبادة والتقوى والمجاهدة والرياضة إنما هو فهم يوافق الأصول ويشرح الصدور ويوسع العقول ثم هو ينقسم لما يدخل تحت دائرة الأحكام ومنه ما لا يدخل تحت دائرة العبادات وإن كان مما يتناوله الإشارة ومنه ما لا تفهمه الضمائر وإن أشارت إليه الحقائق في وضوحه عند مشاهده وتحققه عند متلقيه فافهم قال ابن مسعود تعلموا فإن أحدكم لا يدري متى يحتاج إليه وقال ابن سعد ما سبقنا ابن شهاب للعلم إلا أنه كان يشد ثوبه عند صدره ويسأل وكنا تمنعنا الحداثة وقال الثوري من رق وجهه رق علمه وقال مجاهد لا يتعلم مستحي ولا متكبر وقيل لابن عباس بما نلت هذا العلم قال بلسان سؤول وقلب عقول
(وإنما الحلم بالتحلم) أي ببعث النفس وتنشيطها إليه قال الراغب: الحلم إمساك النفس عن هيجان الغضب والتحكم إمساكها عن قضاء الوطر إذا هاج الغضب
(ومن يتحر الخير يعطه) أي ومن يجتهد في تحصيل الخير يعطه اللّه تعالى إياه.
(ومن يتق الشر يوقه) زاد الطبراني والبيهقي في روايتيهما ثلاث من كن فيه لم يسكن الدرجات العلى ولا أقول لكم الجنة من تكهن أو استقسم أو ردّه من سفر تطير.(6/397)
(تنبيه) قال بعضهم: ويحصل العلم بالفيض الإلهي لكنه نادر غير مطرد فلذا تمم الكلام نحو الغالب قال الراغب: الفضائل ضربان نظري وعملي وكل ضرب منها يحصل على وجهين أحدهما بتعلم بشرى يحتاج إلى زمان وتدرب وممارسة ويتقوى الإنسان فيه درجة فدرجة وإن فيهم من يكفيه أدنى ممارسة بحسب اختلاف الطبائع في الذكاء والبلادة، والثاني يحصل بفيض إلهي نحو أن يولد إنسان عالماً بغير تعلم كعيسى ويحيى عليهما الصلاة والسلام وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام الذين حصل لهم من المعارف بغير ممارسة ما لم يحصل لغيرهم وذكر بعض الحكماء أن ذلك قد يحصل لغير الأنبياء عليهم السلام في الفيئة بعد الفيئة وكلما كان يتدرب فقد يكون بالطبع كصبي يوجد صادق اللّهجة وسخياً وجريئاً وآخر بعكسه وقد يكون بالتعلم والعادة فمن صار فاضلاً طبعاً وعادة وتعلماً فهو كامل الفضيلة ومن كان رذلاً فهو كامل الرذيلة.
((أقوال السلف في فضل طيب الكلام:
(روى ابن المبارك في كتاب الجهاد بإسناده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لولا ثلاث، لولا أن أسير في سبيل الله عز وجل أو يغبر جبيني في السجود، أو أقاعد قوما ينتقون طيب الكلام كما يُنتقى طيب الثمر لأحببت أن أكون قد لحقت بالله عز وجل.
(وروى ابن المبارك في الزهد أن أبا الدرداء رضي الله عنه قال: لولا ثلاث ما أحببت البقاء: ساعة ظمأ الهواجر، والسجود في الليل، ومجالسة أقوام يَنتقون جيد الكلام كما يُنتقى أطايب الثمر.
وفي رواية أنه قال: لولا ثلاث لأحببت أن لا أبقى في الدنيا؛ وضعي وجهي للسجود لخالقي في اختلاف الليل والنهار أقدمه لحياتي، وظمأ الهواجر، ومُقاعدة أقوام يَنتقون الكلام كما تُنتقى الفاكهة.
((وفي تاريخ دمشق عن شعبة قال: سمعت حميد الأوزاعي قال: قال رجل من رهط أبي الدرداء:
ولولا ثلاث هن من حاجة الفتى = أجدك لم أحفل إذا قام رامسي
قال أبو الدرداء: لكني لا أقول كما قال، لولا ثلاث ما باليت متى متّ: لولا أن أسير غازيا في سبيل الله، أو أعفر وجهي في التراب، ولولا أن أقاعد قوما يلتقطون طيب الكلام كما يُلتقط طيب التمر، ما باليت متى متّ.
وذكر الجاحظ في البيان والتبيين بعض الآثار عن فضل طيب الكلام فقال:
((قال الفضيل بن عياض رحمه الله: نِعمت الهدية الكلمة من الحكمة يحفظها الرجل حتى يلقيها إلى أخيه.
((وكان يُقال: اجعل ما في الكتب بيت مال، وما في قلبك للنفقة.(6/398)
((وكان يُقال: يَكتب الرجل أحسن ما سمع، ويحفظ أحسن ما كتب.
((وقال أعرابي: حرف في قلبك خير من عشرة في طومارك.
((وقال عمر بن عبد العزيز: ما قُرن شيء بشيء أفضل من علم إلى حلم، ومن عفو إلى قدرة.
((وكان ميمون بن سياه إذا جلس إلى قوم قال: إنا قوم منقطع بنا فحدثونا أحاديث نتجمل بها.
((وضرب الحجاج أعناق أسرى فلما قَدّموا إليه رجلا ليضرب عنقه قال: والله لئن كنا أسأنا في الذنب فما أحسنت في العفو، فقال الحجاج: أف لهذه الجيف أما كان فيها أحد يحسن مثل هذا؟ وأمْسَكَ عن القتل.
((وقدموا رجلا من الخوارج إلى عبد الملك لتضرب عنقه ودخل على عبد الملك ابن صغير له قد ضربه المعلم وهو يبكي فهمّ عبد الملك بالمعلم فقال: دعه يبكي فانه أفتح لجرمه وأصح لبصره وأذهب لصوته، فقال له عبد الملك: أما يشغلك ما أنت فيه عن هذا؟! قال: ما ينبغي للمسلم أن يشغله عن قول الحق شيء، فأَمَرَ بتخلية سبيله. انتهى ما ذكره الجاحظ. اهـ.
((وسُئل الأوزاعي: ما إكرام الضيف؟
قال: طلاقة الوجه، وطيب الكلام.
((وقد جعل ابن القيم رحمه الله طيب الكلام وانتقاءه من الأسباب الجالبة للمحبة والموجبة لها
فعدّ من تلك الأسباب:
مجالسة المحبين الصادقين والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقى أطايب الثمر. أهـ
(من علامات حسن الخلق التواضع:
و التواضع هو «خفض الجناح ولين الجانب كالجمل الذلول»:
قال تعالى: (وَعِبَادُ الرّحْمََنِ الّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىَ الأرْضِ هَوْناً) [الفرقان: 63]
أي في سكينة ووقار متواضعين «مع خفض جناحٍ ولين جانب»،ليسوا مرحين، ولا متكبرين، أي علماء حكماء، أي أصحاب وقار وعفة، لا يسفهون، وإن سفه عليهم حلموا، هذا معنى قوله تعالى:
وقال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ وَيُحِبّونَهُ أَذِلّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) [المائدة: 54]
(معنى أَذِلّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ: أي ينقادون لهم، يشفقون عليهم، يرحمونهم، يعطفون عليهم، «ليس ذل هوان وإنما ذل انقياد»، كيف أن الأم لما أودع الله في قلبها من الرحمة يستطيع ابنها أن يسألها، وأن تجيبه، تجيبه برحمتها به، لذلك المؤمن كالجمل الذلول، والمنافق والفاسق ذليل.
أما معنى قوله تعالى:
(معنى أَعِزّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ:(6/399)
من عزة القوة والمنعة والغلبة، قال عطاء: أذلة على المؤمنين أي هم للمؤمنين كالوالد لولده، وعلى الكافرين كالسبع على فريسته.
وقال تعالى: (مّحَمّدٌ رّسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّآءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح: 29].
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث عِياضِ بن حمار الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد و لا يبغي أحد على أحد.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما نقصت صدقة من مال و ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا و ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله.
((حديث أنس الثابت في الصحيحين) أنه مرَّ على صبيان فسلَّم عليهم وقال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله.
((حديث الأسود بن يزيد الثابت في صحيح البخاري) قال سُئلت عائشةُ رضي الله تعالى عنها ما كان يصنع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.
((حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخيط ثوبه و يخصف نعله و يعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم.
((حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفلي ثوبه و يحلب شاته و يخدم نفسه.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم، قال أصحابه وأنت؟ فقال نعم كنت أرعاها على قراريط َ لأهل مكة.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لو دُعِيتُ إلى ذراعٍ أو كُرَاعٍ لأجبت و لو أُهْدِيَ إليَّ ذراعٍ أو كُرَاعٍ لقبلت ... .
((حديث أنس الثابت في صحيح البخاري) قال: كانت ناقةٌ لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسمى العضباء وكانت لا تُسبق، فجاء أعرابي على قَعُودٍ له فسبقها فاشتد ذلك على المسلمين فقالوا: سُبقت العضباء! قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن حقا على الله تعالى أن لا يرفع شيئا من أمر الدنيا إلا وضعه.(6/400)
((حديث أبي جُحَيفة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إني لا آكل متكئاً).
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: حرم على النار كل هين لين سهل قريب من الناس.
{تنبيه}: (والسبب في ذلك أن الإتكاء حال الأكل من صفات المتكبرين والعياذ بالله.
((حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) قال: أهديت للنبي شاة فجثى رسول الله على ركبتيه يأكل فقال أعرابي ما هذه الجلسة؟ فقال إن الله جعلني عبدا كريما ولم يجعلني جبارا عنيدا.
((حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: آكل كما يأكل العبد و أجلس كما يجلس العبد.
((حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) قال أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل فكلمه فجعل ترعد فرائصه فقال له هون عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد.
{تنبيه}: (وكلما زاد تواضع المسلم زاد مقدار الحكمة عنده وتعلم العلم ومتى تكبر قلَّت حكمته ومنع العلم
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من آدمي إلا في رأسه حكمة بيد ملك فإذا تواضع قيل للملك ارفع حكمته و إذا تكبر قيل للملك: دع حكمته.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إلا في رأسه حكمة) وهي بالتحريك ما يجعل تحت حنك الدابة يمنعها المخالفة كاللجام والحنك متصل بالرأس.
(بيد ملك) موكل به.
(فإذا تواضع) للحق والخلق.
(قيل للملك) من قبل اللّه تعالى.
(ارفع حكمته) أي قدره ومنزلته يقال فلان عالي الحكمة، فرفعها كناية عن الأعذار.
(فإذا تكبر قيل للملك ضع حكمته) كناية عن إذلاله فإن من صفة الذليل تنكيس رأسه فثمرة التكبر في الدنيا الذلة بين عباد اللّه وفي الآخرة نار الإيثار وهي عصارة أهل النار كما جاء في بعض الأخبار.
(من دواعي إفشاء المحبة إفشاء السلام:(6/401)
إن إفشاء السلام هو مفتاح القلوب، فإذا أردت أن تُفتح لك قلوب العباد فسلم عليهم إذا لقيتهم وابتسم في وجوههم، وكن سباقًا لهذا الخير يزرع الله محبتك في قلوب الناس وييسر لك طريقًا إلى الجنة، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: و الذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا و لا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم.
((وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاثٌ يُصْفِين لك وُدَّ أخيك: أن تسلم عليه إذا لقيته، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب أسمائه إليه.
(وإفشاء السلام التحية اصطفاها الله لنا في الدنيا والآخرة:
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا، ثم قال: اذهب فسلم على أولئك من الملائكة، فاستمع ما يحيونك، تحيتك وتحية ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله، فكل من يدخل الجنة على صورة آدم، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن)
وأما في الآخرة فلأن السلام تحية الملائكة للمؤمنين في الجنة، قال الله تعالى: (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد/23، 24]
،وقال تعالى: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) [الزمر 73:]
والسلام هو تحية أهل الجنة في الجنة:
قال الله عز وجل عن أهل الجنة: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) [الأحزاب:44]،
وقال سبحانه وتعالى: (لاَيَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلاّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً) [[الواقعة26،25]،
وقال تعالى: (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ) [إبراهيم:23].
(وإفشاء السلام حق المسلم على أخيه:(6/402)
إن إلقاء السلام ورده أحد الحقوق التي كفلها الشرع للمسلم على أخيه المسلم.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس).
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: حق المسلم على المسلم ست قيل ما هن يا رسول الله قال إذا لقيته فسلم عليه وإذا دعاك فأجبه وإذا استنصحك فانصح له وإذا عطس فحمد الله فسمته وإذا مرض فعده وإذا مات فاتبعه.
(وإفشاء السلام سبب للبركة:
إذا أردت أن يبارك الله لك في نفسك وأهل بيتك فسلم عليهم كلما دخلت بيتك؛ فإن ذلك من أعظم أسباب البركة.
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الكلم الطيب) قال: قال لي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا بُني إذا دخلت على أهلك فسلِّم يكون بركة عليك وعلى أهل بيتك".
فأين أكثر المسلمين من هذا الأدب؟!
(وإفشاء السلام سبب العلو ورفعة الدرجات:
(حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أفشوا السلام كي تعلوا.
قال المناوي رحمه الله (2/ 30):" أي يرتفع شأنكم؛ فإنكم إذا أفشيتموه تحاببتم فاجتمعت كلمتكم، فقهرتم عدوكم وعلوتم عليه. وأراد الرفعة عند الله".
(لاتجعل أحد يسبقك بالسلام:
((حديث أبي أمامة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن أولى الناس بالله مَن بدأهم بالسلام".
أولى الناس بالله مَن بدأهم بالسلام: قال في عون المعبود:"قال الطيبي: أي أقرب الناس من المتلاقيين إلى رحمة الله من بدأ بالسلام" [14/ 70].
((حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان: فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام.
(وبذل السلام من موجبات المغفرة:
((حديث هانئ ابن يزيد الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن من موجبات المغفرة بذلَ السلام وحسنَ الكلام.
(وبذل السلام من موجبات الجنة:
((حديث أبي شريح رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنه قال يا رسول الله أخبرني بشيء يوجب لي الجنة قال طيب الكلام وبذل السلام وإطعام الطعام.(6/403)
(وإفشاء السلام سبب للسلامة من الحقد وسلامة الصدر:
((حديث البراء رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أفشوا السلام تسلموا»
((حديث الزبير بن العوام الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دَبَّ إليكم داءُ الأممِ من قبلِكم: الحسدُ و البغضاء، والبُغْضةُ هي الحالقة، لا أقول حالقة الشعر ولكن حالقةَ الدين، و الذي نفس محمد بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا و لن تؤمنوا حتى تحابوا ألا أنبئكم بما يُثّبتُ ذلك أفشوا السلام بينكم.
(دب إليكم: سار إليكم.
(وإفشاء السلام من كنوز الحسنات:
((حديث عمران ابن حصين الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال جاء رجلٌ إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال السلام عليكم فقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عشر حسنات، وجاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله فقال: عشرون، ثم جاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فقال ثلاثون.
((حديث سهل بن حنيف رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قال السلام عليكم كتبت له عشر حسنات، ومن قال السلام عليكم ورحمة الله كتبت له عشرون حسنة ومن قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كتبت له ثلاثون حسنة»
(وبإفشاء السلام يغتاظ اليهود:
((حديث أنس الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن اليهود ليحسدونكم على السلام والتأمين.
وإغاظة المشركين مطلب شرعي، قال تعالى: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120]
(وإفشاء السلام من خير الأعمال:
((حديث عبد الله ابن عمرو الثابت في الصحيحين) أن رجلاً سأل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي الإسلامُ خير؟ قال: تُطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف.
أي الإسلامُ خير؟: أي خصال الإسلام خير؟
(وإفشاء السلام من موجبات الجنة:(6/404)
((حديث عبد الله بن سلام الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يأيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام.
(التحذير من البخل بالسلام:
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أبخل الناس من بخل بالسلام وأعجز الناس من عجز عن الدعاء.
((آداب السلام:
للسلام آدابٌ ينبغي على الإنسان أن يتحلى بها منها ما يلي:
1) رد السلام بتحيةٍ أحسن مثلها أو مثلها امتثالاً لقوله تعالى (وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيّةٍ فَحَيّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدّوهَآ) (النساء / 86)
2) يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير.
((حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير.
3) من السنة التسليم على الصبيان:
((حديث أنس الثابت في الصحيحين) أنه مرَّ على صبيان فسلَّم عليهم وقال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله.
4) ويجوز السلام على مجموعة من النساء:
((حديث أسماء بنت يزيد الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قالت: مرّ علينا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نسوة ٍ فسلَّم علينا.
{تنبيه}: (إذا كانت المرأة واحدة فالأولى ألا يسلم عليها مخافة الفتنة ولا سيما إن كانت شابة لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر أنه ما ترك بعده فتنة أضر على الرجال من النساء
((حديث أسامة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما تركتُ بعدي فتنةً أضرُ على الرجال من النساء.
5) أن يعيد إلقاء السلام إذا فارق أخاه ولو يسيرًا:
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه فإن حالت بينهما شجرة أو حجر ثم لقيه فليسلم عليه.
6) عدم الاكتفاء بالإشارة باليد أو الرأس، فإنه مخالف للسنة، إلا إذا كان المسلَّم عليه بعيدًا فإنه يسلم بلسانه ويشير بيده ولا يكتفي بالإشارة.(6/405)
((حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى، فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وإن تسليم النصارى بالأكف» وإن أشار بالسلام لبعيد أو أصم فإنه يتلفظ به مع إشارته، وإن لم يسمع قوله؛ مخالفةً لمن أمرنا بمخالفتهم.
7) لا نبدأ اليهود والنصارى بالسلام:
((حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تبدءوا اليهود و لا النصارى بالسلام و إذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه.
(8) السلام إذا دخل على أهل بيت:
((حديث قتادة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا دَخلتم بيتاً فسلموا على أهلِه, فإذا خرجتم, فأودِعوا أهلهُ بالسلام.
(9) سلام الرجل إذا دخل بيته:
((حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان أدركتم المبيت وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال أدركتم المبيت والعشاء.
((حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الكلم الطيب) قال: قال لي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا بُني إذا دخلت على أهلك فسلِّم يكون بركة عليك وعلى أهل بيتك".
((حديث أبي أمامة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاثةٌ كلُّهمْ ضامنٌ على الله إن عاش رُزقِ وكُفِيَ, وإن ماتَ أدخلَهُ اللهُ الجنّة, من دخل بيتَه فَسَلَّمَ، فهو ضامنٌ على الله ومن خرج إلى المسجد فهو ضامن على الله ومن خرج في سبيل الله فهو ضامن على الله.
(10) السلام على النائم:
((حديث المقدام بن الأسود رضي الله عنه الثابت في صحيح الأدب المفرد) قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجيء من الليل فيسلم تسليماً لا يوقظ نائماً, ويسمع اليقظان.
(11) السلام قبل السؤال:
((حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: السلام قبل السؤال، فمن بدأكم بالسؤال قبل السلام فلا تجيبوه.
(12) أن يسلم ثلاثا تأسياً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:(6/406)
((حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا تكلم بكلمةٍ أعادها ثلاثاً حتى تُفهم عنه، وإذا أتى على قومٍ فسلَم عليهم سلَم عليهم ثلاثا.
(التحلي بالمصافحة من الرجل للرجل:
((حديث البراء الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا.
((حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا لقي المسلم أخاه المسلم، فأخذ بيده فصافحه، تناثرت خطاياهما من بين أصابعهما كما يتناثر ورق الشجر بالشتاء.
((حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قلنا يا رسول الله أينحني بعضنا لبعض قال لا قلنا أيعانق بعضنا بعضا قال لا ولكن تصافحوا.
((حديث أنس أبن مالك رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) قال: كان أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا.
(تحريم مصافحة النساء:
((حديث معقل ابن يسار في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأن يُطعن في رأس أحدكم بمخيطٍ من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له.
((حديث أميمة بنت رقيقة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إني لا أصافح النساء.
(من دواعي إفشاء المحبة الهدية:
(تعريف الهدية لغةً واصطلاحاً:
(الهدية لغةً:
قال الفيومي في (المصباح المنير): "هَدَيتُ العروسَ إلى بعلها هِداء بالكسر والمدّ فهي هَدِي وهَدِيَّة، ويُبنى للمفعول فيقال: هُدِيَت فهي مَهْديّة، وأَهديتها بالألف لغة قَيْس عَيْلان، فهي: مُهداة .. وأَهديت للرجل – كذا بالألف – بعثت به إليه إكراماً فهو هَديَّة بالتثقيل لا غير.
(الهدية اصطلاحاً:
هي تمليك في الحياة بغير عوض" (انظر: المغني8/ 239).
وقال في (المجموع شرح المهذب 15/ 370): "والهبة والعطية والهدية والصدقة معانيها متقاربة، وكلها تمليك في الحياة بغير عوض واسم العطية شامل لجميعها وكذلك الهبة.
والصدقة والهدية متغايران، فإن النبي _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ كان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة.
(حكم الهدية:
الهدية مستحبة عند أهل العلم كما ذكر ذلك ابن قدامة في (المغني 8/ 239)(6/407)
ويدل على الاستحباب قوله _عليه السلام_: "تهادوا تحابوا"، فهي جالبة للمحبة، ومشيعة للود والسرور بين المتهادين.
وقال القرطبي (13/ 132): "الهدية مندوب إليها، وهي ممّا تورث المودة وتذهب العداوة"، وقال: "ومن فضل الهدية مع اتباع السنّة أنها تزيل حزازات النفوس وتكسب المُهدي والمُهدَى إليه رنة في اللقاء والجلوس".
وقال في المجموع شرح المهذب (15/ 367): "الهبة مندوب إليها لما روت عائشة _رضي الله عنها_ أنّ النبي _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ قال: "تهادوا تحابوا".
وللهدية عظيم الأثر في استجلاب المحبة وإثبات المودة وإذهاب الضغائن وتأليف القلوب،
*فكم من ضغينة ذهبت بسسبب هدية!!
*وكم من مشكلة دفعت بسبب هدية!!
*وكم من صداقة ومحبة جلبت بسبب هدية!!
وقد حثنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الهدية والإثابة عليها، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: تهادوا تحابوا.
((حديث عائشة الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:كان يقبل الهدية ويثيب عليها.
((حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أجيبوا الداعي ولا تردوا الهدية ولا تضربوا المسلمين.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أتي بطعام سأل عنه: أهدية أم صدقة؟ فإن قيل صدقة قال لأصحابه: (كلوا) ولم يأكل وإن قيل: هدية ضرب بيده فأكل معهم.
(وكان الأنصار يهدون لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما في الحديث الآتي:
((حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) أنها قالت لعروة: ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نار، فقلت: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جيران من الأنصار، كان لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أبياتهم فيسقيناه.
(الحث على الهدية ولو بالقليل:(6/408)
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لو دعيت إلى ذراع، أو كُراع، لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو كُراع لقبلت).
كراع: والكراع من الدابة ما دون الكعب.
((قال الحافظ ابن حجر رحمه الله (فتح الباري:5/ 236): وخص الذراع والكراع بالذكر ليجمع بين الحقير والخطير لأن الذراع كانت أحب إليه من غيرها، والكراع لا قيمة له.
((حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يا نساء المسلمات! لا تحقرن جارة لجارتها و لو فِرْسَن شاة.
فِرْسَن شاة: والفرسن هو موضع الحافر، والمراد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حث المرأة على الإهداء لجارتها والجود بما تيسر عندها، وإن كان هذا المُهدى قليلا فهو خير من العدم، وهو دليل على المودة، وفي الحديث أيضا حث للمهدى إليها على قبول الهدية وإن قلت الهدية فهي دليل على تقدير المهدية للمهدى إليها.
(الحث على قبول الهدية:
((حديث عائشة الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:كان يقبل الهدية ويثيب عليها.
((حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أجيبوا الداعي ولا تردوا الهدية ولا تضربوا المسلمين.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أتي بطعام سأل عنه: أهدية أم صدقة؟ فإن قيل صدقة قال لأصحابه: (كلوا) ولم يأكل وإن قيل: هدية ضرب بيده فأكل معهم.
(إذا رددت الهدية فبين سبب ردها جبرا للخاطر تأسياً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
هذا إذا كان الخاطر يجبر بذلك، أما إذا كان الخاطر يكسر ببيان سبب الرد فلا تبين والله أعلم.
((حديث الصعب بن جثامة الليثي الثابت في الصحيحين) أنه أهدى لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودَّان فردَّه عليه فلما رأى ما في وجهه قال إنَّا لم نرده عليك إلا أنَّا حرم.
(قبول الهدية من النساء:(6/409)
فصل الخطاب في (قبول الهدية من النساء) أنه إذا أمنت الفتنة ـ كأن المرأة كبيرة السن ونحو ذلك ـ فإنه تقبل منها الهدية، وإن لم تؤمن الفتنة سُدَّ هذا الباب تماماً وعدم الاقتاب منه لأن المرأة هي شرُ فتنةٍ للرجال بنص السنة الصحيحة، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قال * أهدت خالتي أم حفيد إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمنا وأقطا وأضبا فأكل من السمن والأقط وترك الضب تقذرا وأكل على مائدة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولو كان حراما ما أكل على مائدة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
((حديث أسامة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما تركتُ بعدي فتنةً أضرُ على الرجال من النساء.
((حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بنى إسرائيل كانت في النساء.
(لا ترجع في هبتك:
((حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (ليس لنا مثلُ السوءِ الذي يعودُ في هِبته كالكلبِ يعودُ في قيئه)
(إياك أن تُهْدِي ثم تَمُنُّ على من أهديت له فيبطل ثوابك:
إياك أن تهدي ثم تمن على من أهديت له، فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: (قَوْلٌ مّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيّ حَلِيمٌ * يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالأذَىَ) [البقرة 263، 264]
فلا تعطي الأعطيات وهب الهبات وتقدم الصدقات ثم تتبع ذلك بالمن فالمن يبطل ثواب الصدقات وثواب الهدايا فضلا عما يدخر للمنان من العذاب، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد. ((6/410)
((حديث أبي ذر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قال فقرأها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاث مرار قال أبو ذر خابوا وخسروا من هم يا رسول الله قال المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب.
(الهدية للأقرب فالأقرب:
تهديها للأقرب فالأقرب، قرابة النسب وقرابة الجوار؛ وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث ميمونة الثابت في الصحيحين) أنها أعتقت وليدةً في زمان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: (لو أعطيتِها أخوالك كان أعظمُ لأجرك)
فمع أنها أعتقت الأمة فهي ـ بلا شك إن شاء الله ـ مأجورة لعتقها الرقبة ولكن هنا فاق أجر الهدية أجر العتق لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو أعطيتِها أخوالك كان أعظمُ لأجرك.
فالهدية في بعض الأحيان تفوق الصدقة في الأجر، وذلك إذا وقعت موقعها في التأليف والوصل وابتغاء الأجر والثواب.
((حديث عائشة الثابت في صحيح البخاري) قالت: قلت يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي، قال: إلى أقربهما منك باباً"
(فيستفاد من هذين الحديثين أن القريب يقدم على الغريب وأن الأقارب إذا استووا في درجة القرابة قدم الأقرب بابا، وهذا كله إذا كان هؤلاء محل احتياج، والله أعلم.
(حكم قبول هدية المشرك:
القول الذي دلت عليه السنة الصحيحة وتجتمع فيه الأدلة أن المسألة على التفصيل الآتي:
(أنّ الامتناع من قبول الهدية في حقّ من يريد بهديته التودد والموالاة:
وعليه يحمل
قال تعالى: (لاّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ يُوَآدّونَ مَنْ حَآدّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوَاْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلََئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلََئِكَ حِزْبُ اللّهِ أَلاَ إِنّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [سورة: المجادلة - الأية: 22](6/411)
((حديث عياض بن حمار رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أنه أهدى للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هدية أو ناقة، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "أسلمت؟ قال: لا. قال: إنّي نُهيت عن زَبْد المشركين".
زَبْد المشركين: يعني هداياهم.
((حديث عامر بن مالك الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنّي لا أقبل هدية مشرك".
(وقبول الهدية في حقّ من يرجى تأنيسه وتأليفه على الإسلام:
(حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: غزونا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تبوك، وأهدى ملك أيلة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغلة بيضاء وكساه بردا.
((حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن يهودية أتت النبي بشاة مسمومة فأكل منها، فجيء بها، فقيل: ألا نقتلها؟ قال: (لا). فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله.
(حكم الإهداء إلى المشرك:
الأصل في الإهداء للمشركين الجواز، وتأمل في النصوص الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
قال تعالى: (لاّ يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرّوهُمْ وَتُقْسِطُوَاْ إِلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ * إِنّمَا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدّينِ وَأَخْرَجُوكُم مّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَىَ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلّهُمْ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ) [الممتحنة 8، 9] *
((حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة، في عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستفتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: (نعم، صلي أمك).
وأهدي عمر حلة لأخ له مشرك بمكة قبل أن يسلم أخوه:(6/412)
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) أن عمر بن الخطاب رأى حلة سيراء عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريت هذه، فلبستها يوم الجمعة، وللوفد إذا قدموا عليك. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة). ثم جاءت رسول االله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منها حلل، فأعطى عمر بن الخطاب رضي الله عنه منها حلة، فقال عمر: يا رسول الله، كسوتنيها وقد قلت في حلة عطارد ما قلت؟ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إني لم أكسكها لتلبسها). فكساها عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخا له بمكة مشركا.
{تنبيه}: (لكن إذا كان هذا الكافر سيتقوى بهذه الهدية على المسلمين ويؤذيهم ويتمرد عليهم ويتجبر فحينئذ لا يهدي إليه و لا كرامة.
((حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أنه ذُبِحت له شاة في أهله فلما جاء قال: أهديتم لجارنا اليهودي؟ أهديتم لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه.
(ضوابط قبول هدايا المشركين والإهداء إليهم:
(1) ألاّ يترتب على قبول الهدية أو إهدائها مودة أو محبة؛ قال تعالى: (لاّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ يُوَآدّونَ مَنْ حَآدّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوَاْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلََئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلََئِكَ حِزْبُ اللّهِ أَلاَ إِنّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة: 22]
(2) ألاّ تكون الهدية بمثابة الرشوة كأن يكون المُهدى إليه قد أهدي إليه بسبب توليه منصب أو جاه أو وظيفة يستفاد منها في إنجاز غرض غير مشروع كإحقاق باطل أو إبطال حق.
قال الجصاص في تفسيره (2/ 234) تعليقاً على حديث ابن اللتبية المشهور "وقد دلّ على هذا المعنى قول النبي _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_: "هلا جلس في بيت أبيه وأمه فنظر أيهدى له أم لا؟ ".
فأخبر أنه إنّما أُهدي له؛ لأنه عمل ولولا أنه عامل لم يهدَ له، وقد روي أنّ بنت ملك الروم أهدت لأم كلثوم بنت علي امرأة عمر؛ فردها عمر ومنع قبولها" ا. هـ.(6/413)
(3) ألاّ تكون الهدية ممّا يستعان به على الباطل من شرك أو كفر أو بدع أو معاصي كإهداء الصلبان أو الشموع للنصارى في أعيادهم وغيرها، أو إهداء آلات الطرب والغناء ونحوها.
وبهذا المعنى منع إهداء الكفار والمشركين في أعيادهم حتى لا تكون تشجيعاً لهم وإقراراً على باطلهم، فإن كان الإهداء لهم في يوم عيدهم تعظيماً لليوم فهو جدّ خطير.
قال أبو حفص الحنفي: "من أهدى فيه بيضة إلى مشرك تعظيماً لليوم فقد كفر بالله _تعالى_" (فتح الباري 2/ 315)
(4) أن يغلب على الظن وجود مصلحة في الإهداء إلى الكافر أو قبول الهدية منه كتأليف قلبه على الإسلام وتحبيب الدين إلى نفسه.
فقد جعل الشارع الحكيم أحد مصارف الزكاة دفعها إلى المؤلفة قلوبهم على الإسلام، وهي فريضة واجبة، فكيف بالهدية المندوبة في أصلها؟
(5) ألا يترتب على الإهداء إلى الكافر أو قبول الهدية منه مفسدة ظاهرة كاستكبار الكافر واستعلائه، أو تكون الهدية للكافر مبالغ فيها؛ لعموم النهي عن التبذير.
(6) ألا يترتب على الإهداء إلى الكافر تفويت مصلحة راجحة كسد حاجة مسلم مضطر؛ لأنّ البدء بالأهم فالأهم منهج شرعي حكيم وعام.
ويدل على ذلك الحديث الآتي:
((حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين) قال. قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذٍ ابن جبل حين بعثه إلى اليمن إنك ستأتي قوما أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم و ليلة فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك و كرائم أموالهم و اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها و بين الله حجاب.
(وهناك هدايا لا ترد:
منها: الطيب.
((حديث أنس الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يرد الطيب.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من عرض عليه ريحان فلا يرده فإنه خفيف المَحمِل طيب الريح.
(موانع الإهداء ومتى لا تقبل الهدية:
فهذه النصوص التي قدمناه نصوص تحث عل الإهداء وقبول الهدية، ولكن قد تأتي موانع تمنع من الإهداء من قبول الهدية.(6/414)
ألا ترى أن ملكة سبأ أهدت لسليمان عليه السلام هدية فردها سليمان، مع أن إبراهيم عليه السلام قبل هاجر لما أهديت إلى زوجته، وقد قبل نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الهدية، فلماذا قبل نبينا الهدية وردها سليمان عليه السلام؟!
ردها سليمان عليه السلام «لما كانت رشوة عن الدين»، فالمرأة أرسلت الهدية إلى سليمان كي يقرها على عبادتها للشمس ويسكت عنها، ولم يكن لسليمان ذلك، وخاصة أنه في مركز قوة واستغناء فمن ثم ردها لما كانت رشوة عن الدين.
قال تعالى: (وَإِنّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِي اللّهُ خَيْرٌ مّمّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنّهُم بِجُنُودٍ لاّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنّهُم مّنْهَآ أَذِلّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ) [النمل 35: 37]
«فإذا كانت الهدية بمثابة الرشوة لإبطال الحق وإثبات الباطل فلا تقبل حينئذ».
(وكذلك إذا كانت الهدية للأمراء والوزراء والمسئولين (كالقضاة والشرط ونحوهم)
كي يعطوك شيئا ليس لك من حقك أو يتجاوزوا لك عن شيء لا ينبغي لهم أن يتجاوزوا عنه فحينئذ يحرم عليك الإهداء ويحرم عليهم قبول الهدية، وقد استعمل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفظا شديدا في الزجر في هذا الباب، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: استعمل النبي رجلا من الأزد، يقال له ابن اللتبية، على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي. قال: (فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه، فينظر يهدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده، لا يأخذ أحد منه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاه تيعر، ثم رفع بيده حتى رأينا عفرة إبطيه: (اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت). ثلاثا.
((حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: هدايا العمال غلول.
((حديث بريدة الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول.(6/415)
* ومن ثم روى البخاري معلقا (وقال عمر بن عبد العزيز: كانت الهدية في زمن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هدية، واليوم رشوة).
،قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وصله ابن سعد بقصة فيه، فروى من طريق فرات بن مسلم قال: اشتهى عمر بن عبد العزيز التفاح فلم يجد في بيته شيئا يشتري به فركبنا معه فتلقاه غلمان الدير بأطباق تفاح فتناول واحدة فشمها ثم رد الأطباق فقلت له في ذلك: لا حاجة لي فيه، فقلت: ألم يكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقبل الهدية؟ فقال: إنها لأولئك هدية، وهي للعمال بعدهم رشوة.
وأخرج عبد الرزاق في المصنف بإسناد صحيح لغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: السحت الرشوة في الدين. قال سفيان: يعني الحكم. (المصنف:14664)،وانظر السنن الكبرى للبيهقي (10/ 139)
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
((حديث عبد اله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لعن الله الراشي و المرتشي.
[*] قال صاحب عون المعبود شرح سنن أبي داوود:
قيل الرشوة ما يعطى لإبطال حق أو لإحقاق باطل أما إذا أعطى ليتوصل به إلى حق أو ليدفع به عن نفسه ظلما فلا بأس به وكذا الآخذ إذا أخذ ليسعى في إصابة صاحب الحق فلا بأس به لكن هذا ينبغي أن يكون في غير القضاة والولاة لأن السعي في إصابة الحق إلى مستحقه ودفع الظالم عن المظلوم واجب عليهم فلا يجوز لهم الأخذ عليه.
(وكذلك إذا كانت الهدية شيئا مسروقا أو شيئا محرما فلا تقبل لما في ذلك من أكل الحرام والمعاونة على الإثم والعدوان.
(وكذلك إذا كانت الهدية إنما أهداها صاحبها لأخذ أكثر منها وإن لم يأخذ أكثر منها يتسخط، فإذا عرف من عادته هذا فَلَك ـ والله أعلم ـ أن تتوقف في قبول هديته.
وقد قال تعالى: (وَمَآ آتَيْتُمْ مّن رّباً لّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللّهِ) [الروم: 39]. وهذا في مثل هذا الموطن، في رجل يهدي وينتظر من المهدي إليه أضعاف ما يقدمه له.
(أو إن كان المهدي يعتبر هديته بمثابة الدين عليك ن وأنت لا تريد أن تتحمل دينا شرعيا ولا عرفا، فَلَك في مثل هذه الحالة أن تتوقف مع اعتذار لطيف للمهدي، اعتذار لا يكسر له خاطر ولا يشوش عليه فكرا.
(وكذلك إذا كان المهدي منان يمن بهديته ويتحدث بها فلك في مثل هذه الحال أن تتوقف.
وكل هذا يقدر بقدره والأصل استحباب الهدية واستحباب قبولها والإثابة عليها.(6/416)
(وكذلك يكره لك أن تهدي هدية لشخص سفيه يستعملها في معصية الله عز وجل وفي الفساد في الأرض، فإن الله تعالى يقول: (وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الفَسَادَ) [البقرة: 205]
ويقول سبحانه: قال تعالى: (وَلاَ تُؤْتُواْ السّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ) [النساء: 5]
(وكذلك فأثناء هديتك انتبه هل ستصلح في باب وتفسد في باب آخر أم أن الهدية كلها خير، فقد تهدي لابن من أبنائك دون الآخرين فتسبب مفسدة وضغينة بين الأولاد.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قال: أعطاني أبي عطية، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله، فأتى رسول الله فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله، قال: (أعطيت سائر ولدك مثل هذا). قال: لا، قال: (فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم). قال: فرجع فرد عطيته.
(وأيضا ينبغي أن يتحفظ الشخص ويتورع عن الهدية إن كانت تقوم مقام الربا فقد يقترض شخص من شخص مالا ويحل وقت السداد ولا يطيق المدين السداد؛ فيسلك مسلك الإهداء لصاحب المال حتى يسكته وحتى يصبر عليه فحينئذ من الورع ترك الهدايا، نعم إنه يجوز قبولها ما لم يشترط لكن الأورع ترك الهدية إذا كانت بهذه المثابة.
(ولا ينبغي أن تحرج أحدا وتحمله على الإهداء لك، فإنك إن فعلت أوشكت أن لا يبارك لك في هذا الشيء المهدى ولكن إن أهدي إليك أو أخذت الشيء بغير مسألة و لا إشراف نفس بورك لك فيه، ولتحرص على أن تكون نفس المهدي طيبة وهو يهدي إليك، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قال: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعطيني العطاءَ، فأقولُ أعطهِ من هو أفقر مني فقال: (خذه، إذا جاءك من هذا المال شيءٌ، وأنت غير مشرفٍ ولا سائل، فخُذهُ، وما لا، فلا تُتْبعِه نفسك)(6/417)
((حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال لي: (يا حكيم، إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى)
((حديث معاوية رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تلحفوا في المسألة فوالله لا يسألني أحد منكم شيئا فتخرج له مسألته مني شيئا وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته.
لا تُلْحِفُوا: أي لا تلحوا.
(من دواعي إفشاء المحبة الزهد فيما في أيدي الناس:
قال تعالى: (وَلاَ تَمُدّنّ عَيْنَيْكَ إِلَىَ مَا مَتّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ) [سورة: طه - الآية: 131]
والاستدلال ظاهر، حيث نهي -عليه الصلاة والسلام- والنهي لأمته على وجه التبع، أن يمد المرء عينيه إلى ما متع به الخلق من زهرة الحياة الدنيا، ومن مد عينيه إلى ما متع به الخلق من زهرة الحياة الدنيا، فإنه يفوته الزهد في الدنيا؛ لأنه لا بد وأن يحصل بالقلب نوع تعلق بالدنيا، وهذا خلاف الزهادة.
((حديث سهل بن سعد الثابت في صحيح ابن ماجة) قال أتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلٌ فقال يا رسول الله: دلني على عملٍ إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[وازهد فيما عند الناس يحبك الناس](6/418)
ومعنى ازهد فيما عند الناس: لا يكن قلبك متعلقا فيما في أيدي الناس، فإذا فعلت ذلك، فأخرجت ما في أيدي الناس من التعلق ومن الاهتمام، وكان ما عند الناس في قلبك لا قيمة له، سواء أعظم أم قل، فإنه بذلك يحبك الناس؛ لأن الناس يرون فيه أنك غير متعلق بما في أيديهم، لا تنظر إلى ما أنعم الله به عليهم نظر رغبة، ولا نظر طلب، وإنما تسأل الله -جل وعلا -لهم التخفيف من الحساب، وتحمد الله -جل وعلا -على ما أعطاك، وما أنت فيه، فهذا إخراج ما في أيدي الناس من القلب، هذه حقيقة الزهادة فيما عند الناس، وإذا فعل ذلك المرء أحبه الناس؛ لأن الناس جبلوا على أنهم لا يحبون من نازعهم ما يختصون به، مما يملكون، أو ما يكون في أيديهم حتى إذا دخلت بيت أحد، ورأيت شيئا يعجبك، وظهر عند ذلك أنك أعجبت بكذا، فإنه يكون في نفس ذاك الآخر بعض الشيء. وهذا يعكر صفو المحبة، فوطن نفسك أن ما عند الناس في قلبك شيء قليل لا قيمة له، حقير لا قيمة له، حقير قيمة له مهما بلغ، وهذا في الحقيقة لا يكون إلا لقلب زاهد متعلق بالآخرة، لا ينظر إلى الدنيا أما من ينظر إلى الدنيا، فإنه يكون متعلقا بما في أيدي الناس.
(وهذا الحديث أصل في بيان كيف يكون المرء محبوبا عند الله تعالى وعند الناس.
وهو أيضاً من أحاديث الوصايا؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجاب عن سؤال مضمونه طلب الوصية، قال سهل بن سعد رضي الله عنه: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال يا رسول الله: دلني على عمل إذا عملته أحبني الله، وأحبني الناس، وهذا السؤال يدل على علو الهمة؛ لأن محبة الله تعالى غاية المطالب ومحبة الناس للمرء، أو للعبد معناها أداء حقوقهم، والدين قائم على أداء حقوق الله وأداء حقوق العباد، فمن أدى حق الله تعالى أحبه الله، ومن أدى حقوق العباد وعاملهم بالعدل والإحسان، فإنه يثوب بمحبة الناس له، وهذا الذي يجمع بين الطرفين هو الصالح من عباد الله؛ لأن الصالح هو الذي يقوم بحق الله وحق العباد، والصلاح هو القيام بحقوق الله وحقوق الناس.(6/419)
فهذا الحديث فيه ما يحصل به محبة الرب تعالى للعبد فقال: دلني على عمل إذا عملته أحبني الله، وهذا فيه تنبيه إلى أصل، وهو أن همة المرء ينبغي أن تكون مصروفة لما به يحب الله العبد، وليس أن تكون مصروفه لمحبته هو لله تعالى، فالعباد كثيرون منهم من يحبون الله تعالى، بل كل متدين بالباطل أو بالحق، فإنه ما تدين إلا لمحبة الله تعالى، وليس هذا هو الذي يميز الناس، وإنما الذي يميز الناس عند الله تعالى هو من الذي يحبه الله تعالى.
((وقد قال بعض أئمة السلف رحمهم الله: ليس الشأن أن تحِب، ولكن الشأن كل الشأن أن تُحَب، يريد أن محبة العبد لربه تعالى، هذه تحصل إما بموافقة مراد الله، أو بمخالفة مراد الله، فالنصارى يحبون الله، وعباد اليهود يحبون الله، وعباد الملل يحبون الله، وعباد جهلة المسلمين يحبون الله، ولكن ليس هؤلاء بمحبوبين لله تعالى إلا إذا كانوا على ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأعمال.
إذاً فحصل من ذلك أن «السعي في محبة الله للعبد هذا هو المطلب»، وهذا إنما بالرغبة في العلم ومعرفة ما يحبه الله تعالى ويرضاه، فإذا عرفت كيف يحب الله العبد، أو إذا عرفت بما يحب الله تعالى العبد، حصل لك السعي في محبة الله تعالى.
((وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: "لا تزال كريما على الناس ولا يزال الناس يكرمونك ما لم تعاط ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك استخفوا بك وكرهوا حديثك وأبغضوك".
((وقال أيوب السختياني رحمه الله تعالى: "لا يقبل الرجل حتى تكون فيه خصلتان: العفة عما في أيدي الناس، والتجاوز عما يكون منهم".
فمن زهد فيما في أيدي الناس وعف عنهم فإنهم يحبونه ويكرمونه لذلك ويسود به عليهم؛ كما قال أعرابي لأهل البصرة: من سيد أهل هذه القرية؟ قالوا: الحسن، قال: بم سادهم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه واستغنى هو عن دنياهم.
وما أحسن قول بعض السلف في وصف الدنيا:
وما هي إلا جيفة مستحيلة ... عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها ... وإن تجتذبها نازعتك كلابها.
(كيفية علاج ما اعوجّ من الأخلاق:
والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتلافى المِعْوَّجَ من أخلاق الناس بكرمه، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد. ((6/420)
(حديث ابن أبي مليكة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهديت له أقبية من ديباج، مزررة بالذهب، فقسمها في ناس من أصحابه، وعزل منها واحدا لمخرمة بن نوفل، فجاء ومعه ابنه المسور بن مخرمة، فقام على الباب فقال: ادعه لي، فسمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صوته، فأخذ قباء فتلقاه به، واستقبله بأزراره، فقال: (يا أبا المسور خبأت هذا لك، يا أبا المسور خبأت هذا لك). وكان في خلقه شدة.
فكان عليه الصلاة والسلام يتلافى بحسن خلقه شدة أخلاق الناس، والأخلاق الحسنة تغطي على الأخلاق الرديئة، ولذلك وجه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأزواج إلى النظر إلى الناحية الإيجابية من أخلاق الزوجات فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر) كما في الحديث الآتي:
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الأنصاري الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يفرك مؤمن مؤمنه إن كره منها خلقا رضي منها آخر.
لا يفرك: لا يكره.
وحكمة الله البالغة اقتضت أن يجعل في البشر أخلاقاً عالية، وكذلك أخلاقاً سافلة، وعند المقارنة يظهر حسن هذا وقبح ذاك؛ لأن الضد يظهر حسنه الضد، وبضدها تتميز الأشياء، فلولا الظلام ما عرفت فضيلة النور، ولولا أنواع البلايا ما عرفت قيمة العافية، ولولا خلق الشياطين والهوى والنفس الأمارة بالسوء لما حصلت عبودية الصبر والمجاهدة وترتب الأجر والجنة عليهما. إذاً: عندنا محاسن الأخلاق ومساوئ الأخلاق، فإذا قلت: محاسن الأخلاق مثل: الصدق، والأمانة، والوفاء، والإيثار، والكرم، والعفة، وكظم الغيظ، والتواضع، والإخلاص، والعدل، وغير ذلك؛ فإنك إذا قارنتها بغيرها تتبين جمال هذه الأخلاق، وضدها مثل: الكذب، والنفاق، والغدر، والخيانة، والبخل، والرياء، والكبر، والعجب، والمفاخرة، والحسد، و الطمع، والحقد، والظلم، وغير ذلك من الأخلاق. وكما أن حسن الخلق منجاة ونجاح، فسوء الخلق ضياع ودمار، ولا بد إذاً من الالتزام والتمسك بهذه الأخلاق الحسنة.
(اعتناء أهل العلم وكلامهم في الأخلاق:
وقد اعتنى العلماء رحمهم الله تعالى بجمع محاسن الأخلاق ومساوئ الأخلاق، وأفردوها بالمصنفات، وألف في ذلك ابن أبي الدنيا و الخرائطي رحمهما الله، وكذلك عدد من العلماء. ومن أنفس ما قيل في محاسن الأخلاق كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
((قال ابن القيم في تهذيب الأخلاق:(6/421)
وكما قلنا؛ فإن العلماء رحمهم الله اهتموا بقضية جمع محاسن الأخلاق، وكذلك اهتموا بجمع مساوئ الأخلاق للتحذير منها، واهتموا كذلك بالكلام عن حقيقة الخلق وكيف تعالج الأخلاق الرديئة، وكيف يتخلص الإنسان من الأخلاق الرديئة، وهناك كلام نفيس ذكره أهل العلم في هذه المسألة.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في مسألة التخلص من الأخلاق الرديئة: اعلم أن أصعب ما على الطبيعة الإنسانية تغيير الأخلاق التي طبعت النفوس عليها، وأصحاب الرياضات الصعبة والمجاهدات الشاقة إنما عملوا عليها ولم يظفر أكثرهم بتبديلها ... ثم قال: ونقدم مثلاً: نهر جارٍ في صببه ومنحدره، ومنتهٍ إلى تغريق أرض وعمران ودور، وأصحابه يعلمون أنه لا ينتهي هذا النهر حتى يخرب دورهم ويتلف أراضيهم، فانقسموا ثلاث فرق: فرقةٌ صرفت قواها وقوى أعمالها إلى سَكْره وحبسه وإيقافه، وقالوا: أحسن شيء أن نقفل النهر ونغلقه من أساسه، فلم تصنع هذه الفرقة كبير أمرٍ، فإنه يوشك أن يجتمع ثم يحمل على السكر الذي وضعوه للإغلاق، فيكون إفساده وتخريبه أعظم. والفرقة الثانية: رأت هذه الحالة وعلمت أنه لا يغني عنها شيئاً، فقالت: لا خلاص من محذوره إلا من قطعه من أصل الينبوع، فرامت قطعه من أصله، فتعذر ذلك غاية التعذر، وأبت الطبيعة النهرية عليهم ذلك أشد الإباء، فهم دائماً في قطع الينبوع، وكلما سدوه من موضع نبع من موضع، فاشتغل هؤلاء بشأن هذا النهر عن الزرع والعمارة وغرس الأشجار، فإذاً لا الإغلاق نفع ولا سده من أصله نفع. فجاءت فرقةٌ ثالثة خالفت رأي الفريقين، وعلموا أنهم قد ضاع عليهم كثير من مصالحهم؛ فأخذوا في صرف ذلك النهر عن مجراه المنتهي إلى العمران، فصرفوه إلى موضع ينتفعون بوصوله إليه ولا يتضررون، فصرفوه إلى أرض قابلةٍ للنبات وسقوها به. فإذا تبين هذا المثل؛ فالله سبحانه قد اقتضت حكمته أن ركَّب الإنسان على طبيعةٍ محمولة على قوتين: غضبية وشهوانية، وهاتان القوتان هما الحاملتان لأخلاق الناس وصفاتها.(6/422)
وعلاجها: إما بتر الخلق من أصله وهذا غير ممكن، والحل هو تحويل هذا الخلق السيئ إلى مجرى خير، فلو كان عند الإنسان حسد ـ مثلاً ـ فليصرفه في المنافسة على الخير (لا حسد إلا في اثنتين) صاحب القرآن وصاحب المال الذي ينفقه في الخير ويهلكه في الخير، ويحرص على التنافس مع أهل الخير كما قال الله: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26] ولو كان الإنسان فيه خيلاء فليختل على العدو في المعركة؛ لأن هذا النوع من الخيلاء مسموح به، وأيضاً لو أن إنساناً يعاني من الكذب، فإنه يصرفه إلى الكذب على العدو، والكذب للإصلاح بين المتخاصمين، وكذلك ما يكون بين الزوجين، كأن يقول: ما ذقت ألذ من هذا الطبخ! وهو قد ذاق ألذ منه، فإن هذا مسموح به بين الزوجين. فإذاً: الإنسان الذي يريد سد النهر فإن الطبيعة النهرية تأبى ذلك، فأفضل حل هو أن يغير مجرى الخلق من الاتجاه السيئ إلى الاتجاه الحسن، وأن يروض نفسه، ولاشك أن الجبلة قابلة للتغيير، ولا يمكن أن نقول: إن الإنسان لا يمكنه التغيير، بل إنه يمكنه ذلك قطعاً، والدليل على ذلك: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتصبر يصبره الله) فمعلوم أن الحلم والصبر من الأخلاق، فلم يقل: إذا لم يكن عندك حلم فلن تكون حليماً أبداً، وإذا لم يكن عندك صبر فلن تصبر أبداً، وإنما قال: (والحلم بالتحلم) أي: إذا تكلفت الحلم حتى تتعود عليه صار ذلك طبيعةً لك وسجية، وكذلك الصبر إذا تصبرت فستصبح صبوراً.
(فصلٌ في منزلة التواضع:
[*] (عناصر الفصل:
(تعريف التواضع:
(فضل التواضع:
(أمورٌ من التواضع:
(التواضع في اللباس:
(تواضع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(ما جاء في الخمول:
(ما جاء في الشهرة:
(ذم الكبر:
(ذم الاختيال:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(تعريف التواضع:
التواضع هو: عقد القلب على صَغار النفس المؤثر في عواطفه وميوله وجوارحه في مقابل اللَّه سبحانه وتعالى، وفي مقابل رسله وأوليائه المعصومين، وفي مقابل المؤمنين.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض وسُئِلَ: ما التواضع؟ قال: أن تخضع للحق وتنقاد له، ولو سمعته من صبي قبلته منه، ولو سمعته من أجهل الناس قبلته منه. وسألته: ما الصبر على المصيبة? قال: أن لا تبث.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:(6/423)
(سئل الفضيل بن عياض عن التواضع فقال: يخضع للحق وينقاد له
ويقبله ممن قاله.
(وقيل: التواضع أن لا ترى لنفسك قيمة فمن رأى لنفسه قيمة فليس له في التواضع نصيب وهذا مذهب الفضيل وغيره.
(وقال الجنيد بن محمد: هو خفض الجناح ولين الجانب.
(وقال أبو يزيد البسطامي: هو أن لا يرى لنفسه مقاما ولا حالا ولا يرى في الخلق شراً منه.
(وقال ابن عطاء: هو قبول الحق ممن كان والعز في التواضع فمن طلبه في الكبر فهو كتطلب الماء من النار.
(وقال إبراهيم بن شيبان: الشرف في التواضع والعز في التقوي والحرية في القناعة ويذكر عن سفيان الثوري رحمه الله أنه قال: أعز الخلق خمسة أنفس: عالم زاهد وفقيه صوفي وغني متواضع وفقير شاكر وشريف سني.
(وقال عروة بن الزبير رضي الله عنهما: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء فقلت: يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك هذا فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين دخلت نفسي نخوة فأردت أن أكسرها.
(وولي أبو هريرة رضي الله عنه إمارة مرة فكان يحمل حزمة الحطب على ظهره يقول طرقوا للأمير.
(وركب زيد بن ثابت مرة فدنا ابن عباس ليأخذ بركابه فقال: مه يا ابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بكبرائنا فقال: أرني يدك فأخرجها إليه فقبلها فقال: هكذا أمرنا نفعل بأهل بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(وقسم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بين الصحابة رضي الله عنهم حللا فبعث إلى معاذ حلة مثمنة فباعها واشترى بثمنها ستة أعبد وأعتقهم فبلغ ذلك عمر فبعث إليه بعد ذلك حلة دونها فعاتبه معاذ فقال عمر: لأنك بعت الأولى فقال معاذ وما عليك ادفع لي نصيبي وقد حلفت لأضربن بها رأسك فقال عمر رضي الله عنه: رأسي بين يديك وقد يرفق الشاب بالشيخ.
(ومر الحسن بن علي صبيان معهم كسر خبز فاستضافوه فنزل فأكل معهم ثم حملهم إلى منزله فأطعمهم وكساهم وقال: اليد لهم لأنهم لا يجدون شيئا غير ما أطعموني ونحن نجد أكثر منه.
(ويذكر أن أبا ذر رضي الله عنه عَيَّرَ بلالا رضي الله عنه بسواده ثم ندم فألقى بنفسه فحلف: لا رفعت رأسي حتى يطأ بلال خدي بقدمه فلم يرفع رأسه حتى فعل بلال.
(وقال رجاء بن حيوة: قومت ثياب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو يخطب باثني عشر درهما وكانت قباء وعمامة وقميصا وسراويل ورداء وخفين وقلنسوة.(6/424)
(ورأى محمد بن واسع ابنا له يمشي مشية منكرة فقال: تدري بكم شريت أمك بثلاثمائة درهم وأبوك لا كثر الله في المسلمين مثله أنا وأنت تمشي هذه المشية.
(وقال حمدون القصار: التواضع أن لا ترى لأحد إلى نفسك حاجة لا في الدين ولا في الدنيا.
(وقال إبراهيم بن أدهم: ما سررت في إسلامي إلا ثلاث مرات: كنت في سفينة وفيها رجل مضحاك كان يقول: كنا في بلاد الترك فأخذ العلج هكذا وكان يأخذ بشعر رأسي ويهزني لأنه لم يكن في تلك السفينة أحد أحقر مني والأخرى: كنت عليلا في مسجد فدخل المؤذن وقال: اخرج فلم أطق فأخذ برجلي وجرني إلى خارج والأخرى: كنت بالشام وعلي فرو فنظرت فيه فلم أميز بين شعره وبين القمل لكثرته فسرني ذلك وفي رواية: كنت يوما جالسا فجاء إنسان فبال علي.
(وقال بعضهم: رأيت في الطواف رجلا بين يديه شاكرية يمنعون الناس لأجله عن الطواف ثم رأيته بعد ذلك بمدة على جسر بغداد يسأل شيئا فتعجبت منه فقال لي: إني تكبرت في موضع يتواضع الناس فيه فابتلاني الله بالذل في موضع يترفع الناس فيه.
(وبلغ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: أن ابنا له اشترى خاتما بألف درهم فكتب إليه عمر: بلغني أنك اشتريت فصا بألف درهم فإذا أتاك كتابي فبع الخاتم وأشبع به ألف بطن واتخذ خاتما بدرهمين واجعل فصه حديدا صينيا واكتب عليه: رحم الله امرءا عرف قدر نفسه.
{تنبيه}: (إن من أهم الأسباب التي تعين الإنسان على التواضع أن يمقت الإنسان نفسه في جنب الله تعالى.
[*] قال أبو الدرداء: " لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون أشد لها مقتاً ".
[*] وكان بعض السلف يقول في دعائه في عرفة (اللهم لا ترد الناس لأجلي)!،
[*] وقال محمد بن واسع: لو كان للذنوب ريحٌ ما قدر أحد أن يجلس إلىّ.
مع أنه من كبار العباد في هذه الأمة.
[*] قال يونس بن عبيد: " إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن في نفسى منها واحدة ".
[*] دخل حمّاد بن سلمة على سفيان الثوري وهو يحتضر فقال: (يا أبا عبد الله أليس قد أمنت مما كنت تخافه وتقدم على من ترجوه وهو أرحم الراحمين؟!) قال: (يا أبا سلمة أتطمع لمثلي أن ينجو من النار) قال: (إي والله إني لأرجو لك ذلك).(6/425)
[*] وقال جعفر بن زيد: (خرجنا في غزاة إلى كابل وفي الجيش صلة بن أشيم فنزل الناس عند العتمة فصلوا ثم اضطجع فقلت: لأرمقنّ عمله، فالتمس غفلة الناس فانسلّ وثبا فدخل غيظة (مجموعة أشجار ملتفة) قريب منا، فدخلت على أثره فتوضأ ثم قام يصلي فجاء أسد حتى دنا منه فصعدت في شجرة فتراه التفت إليه أو عدّه جرو! فلما سجد قلت الآن يفترسه فجلس ثم سلّم ثم قال: (أيها السبع اطلب الرزق من مكان آخر)، فولّى وإن له زئيراً، فمازال كذلك يصلي حتى كان الصبح فجلس يحمد الله وقال: (اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار ومثلي يستحي أن يسألك الجنة)! ثم رجع وأصبح وكأنه بات على حشاياً، أما أنا فأصبح بي ما الله به عليم من هول ما رأيت!
[*] وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (اللهم اغفر لي ظلمي وكفري)، فقال قائل: (يا أمير المؤمنين هذا الظلم فما الكفر؟) قال: (إن الإنسان لظلوم كفّار)، فإذا تمعّن الإنسان حال السلف عرف حاله والبعد الشديد مابينه وبينهم.
[*] (أورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عن مالك بن دينار قال: «رحم الله عبدا قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله تعالى، فكان لها قائدا»
[*] (وأورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عن عن وهب بن منبه: «أن رجلا، تعبد زمانا، ثم بدت له إلى الله تبارك وتعالى حاجة، فصام تسعين سبتا، يأكل كل سبت إحدى عشرة تمرة، ثم سأل حاجته فلم يعطها، فرجع إلى نفسه، فقال: منك أوتيت، لو كان فيك خير أعطيت حاجتك، فنزل إليه عند ذلك ملك، فقال: يا ابن آدم ساعتك هذه التي أزريت فيها على نفسك خير من عبادتك التي قد مضت، وقد قضى الله حاجتك»
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضيل بن عياض قال: كيف ترى حال من كثرت ذنوبه وضعف علمه وفني عمره ولم يتزود لمعاده.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضيل بن عياض قال: يا مسكين أنت مسيء وترى أنك محسن وأنت جاهل وترى أنك عالم وتبخل وترى أنك كريم وأحمق وترى أنك عاقل أجلك قصير وأملك طويل.
قال الذهبي رحمه الله: قلت إي والله صدق وأنت ظالم وترى أنك مظلوم وآكل للحرام وترى أنك متورع وفاسق وتعتقد أنك عدل وطالب العلم للدنيا وترى أنك تطلبه لله.(6/426)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شعيب بن حرب، قال: بينا أنا أطوف بالبيت إذا رجل يمد ثوبي من خلفي فالتفت فإذا بفضيل بن عياض، فقال: لو شفع في وفيك أهل السماء كنا أهلاً أن لا يشفع فينا، قال شعيب: ولم أكن رأيته قبل ذلك بسنة، قال: فكسرني وتمنيت أني لم أكن رأيته.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال: أخذت بيد سفيان بن عيينة في هذا الوادي فقلت له: إن كنت تظن أنه بقى على وجه الأرض شر مني ومنك فبئس ما تظن.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن إبراهيم بن الأشعث قال سألت الفضيل عن التواضع قال التواضع أن تخضع للحق وتنقاد له ولو سمعته من صبي قبلته منه ولو سمعته من أجهل الناس قبلته منه.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن أبي صالح الفراء قال سمعت بن المبارك يقول رأس التواضع أن تضع نفسك عند من هو دونك في نعمة الدنيا حتى تعلمه أن ليس لك بدنياك عليه فضل وأن ترفع نفسك عمن هو فوقك في نعمة الدنيا حتى تعلمه أنه ليس له بدنياه عليك فضل.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن كعب قال ما أنعم الله عز وجل على عبد من نعمة في الدنيا فشكرها لله وتواضع بها لله إلا أعطاه الله عز وجل نفعها في الدنيا ورفع له بها درجة في الآخرة وما أنعم الله عز وجل على عبد من نعمة في الدنيا فلم يشكرها لله ولم يتواضع بها لله عز وجل إلا منعه الله عز وجل نفعها في الدنيا وفتح له طبقا من النار يعذبه به إن شاء الله أو يتجاوز عنه.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن الأصبغ بن نباتة قال كأني أنظر إلى عمر بن الخطاب معلقا لحما في يده اليسرى وفي يده اليمنى الدرة يدور في الأسواق حتى دخل رحله.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن صالح بياع الأكسية عن أمه أو جدته قالت رأيت عليا اشترى تمرا بدرهم فحمله في ملحفته فقلت أحمل عنك يا أمير المؤمنين قال لا أبو العيال أحق أن يحمله.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن حماد بن زيد قال ما رأيت محمد بن واسع إلا وكأنه يبكي وكان يجلس مع المساكين والبكائين.(6/427)
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن بكر بن عبد الله المزني أنه كان يلبس الكسوة تساوي أربعة آلاف ويجالس المساكين ومعه الصرر فيها الدراهم فيدسها إلى ذا وإلى ذا قال وكان موسرا فمات ولم يخلف شيئا فقال الحسن رحمه الله إن بكرا عاش عيش الأغنياء ومات موت الفقراء.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن مسعر قال مر الحسين بن علي على مساكين وقد بسطوا كساء وبين أيديهم كسرا فقالوا هلم يا أبا عبد الله فحول وركه وقرأ (إِنّهُ لاَ يُحِبّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) فأكل معهم ثم قال قد أجبتكم فأجيبوني فقال للرباب يعني امرأته أخرجي ما كنت تدخرين.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن صالح المري قال خرج الحسن ويونس وأيوب يتذاكرون التواضع فقال لهما الحسن وهل تدرون ما التواضع التواضع أن تخرج من منزلك فلا تلق مسلما إلا رأيت له عليك فضلا.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن يحيى بن كثير قال رأس التواضع ثلاث أن ترضى بالدون من شرف المجلس وأن تبدأ من لقيته بالسلام وأن تكره من المدحة والسمعة والرياء بالبر.
(فضل التواضع:
إن للتواضع فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم، فهو نعمةٌ عظيمة، وَمِنَّةٌ جسيمة، نعمة كبرى، ومنحة عظمى، شأنه عظيم، ونفعه عميم، له فضائل لا تحصى، وثمرات لا تعد، وله أهمية كبرى، وثمرات جليلة، وفضائل عظيمة، وأسرار بديعة، وهو طريق النجاة، وسلم الوصول، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين، وهو من أشرف العبادات و أجلّ الطاعات والتواضع يزيد الحكمة بنص السنة الصحيحة، وكفى بذلك فضلاً فإنه من يؤتى الحكمة فقد أُوتيَ خيراً كثيراً، والتواضع خلق حميد، وجوهر لطيف يستهوي القلوب، ويستثير الإعجاب والتقدير وهو من أخصّ خصال المؤمنين المتّقين، ومن كريم سجايا العاملين الصادقين، ومن شِيَم الصالحين المخبتين. التواضع هدوء وسكينة ووقار واتزان، التواضع ابتسامة ثغر وبشاشة وجه ولطافة خلق وحسن معاملة، بتمامه وصفائه يتميّز الخبيث من الطيب، والأبيض من الأسود والصادق من الكاذب، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله، إن المتواضع يبدأ من لقيه بالسلام، ويجيب دعوة من دعاه، كريم الطبع، جميل العشرة، طلق الوجه، باسم الثغر رقيق القلب، متواضعا من غير ذلة، جواداً من غير سرف.(6/428)
نعم .. فاقد التواضع عديم الإحساس، بعيد المشاعر، إلى الشقاوة أقرب وعن السعادة أبعد، لا يستحضر أن موطئ قدمه قد وطأه قبله آلاف الأقدام، وأن من بعده في الانتظار، فاقد التواضع لا عقل له، لأنه بعجبه وأنفته يرفع الخسيس، ويخفض النفيس، كالبحر الخضم تسهل فيه الجواهر والدرر، ويطفو فوقه الخشاش والحشاش. فاقد التواضع قائده الكبر وأستاذه العجب، فهو قبيح النفس ثقيل الطباع يرى لنفسه الفضل على غيره.
إن التواضع لله تعالى خُلُق يتولّد من قلب عالم بالله سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله وتعظيمه ومحبته وإجلاله. إن التواضع هو انكسار القلب للرب جل وعلا وخفض الجناح والذل والرحمة للعباد، فلا يرى المتواضع له على أحد فضلاً ولا يرى له عند أحد حقاً، بل يرى الفضل للناس عليه، والحقوق لهم قبله. فما أجمل التواضع، به يزول الكِبَرُ، وينشرح الصدر، ويعم الإيثار، وتزول القسوة والأنانية والتشفّي وحب الذات.
والكتاب والسنة طافحان بما يحث على التواضع وخفض الجناح وهاك غيضٌ من فيض وقليلٌ من كثير مما ورد في ذلك.
قال الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان: 63] أي سكينة ووقارا متواضعين غير أشرين ولا مرحين ولا متكبرين.
قال الحسن: علماء حلماء.
وقال محمد بن الحنفية: أصحاب وقار وعفة لا يسفهون وإن سفه عليهم حلموا والهون بالفتح في اللغة: الرفق واللين و الهون بالضم: الهوان فالمفتوح منه: صفة أهل الإيمان والمضموم صفة أهل الكفران وجزاؤهم من الله النيران.(6/429)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] لما كان الذل منهم ذل رحمة وعطف وشفقة وإخبات عداه بأداة على تضمينا لمعاني هذه الأفعال فإنه لم يرد به ذل الهوان الذي صاحبه ذليل وإنما هو ذل اللين والانقياد الذي صاحبه ذلول فالمؤمن ذلول كما في الحديث: "المؤمن كالجمل الذلول والمنافق والفاسق ذليل وأربعة يعشقهم الذل أشد العشق: الكذاب والنمام والبخيل والجبار" وقوله: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} هو من عزة القوة والمنعة والغلبة قال عطاء رضي الله عنه: للمؤمنين كالوالد لولده وعلى الكافرين كالسبع على فريسته كما قال في الآية الأخرى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] وهذا عكس حال من قيل فيهم:
كبر علينا وجبنا عن عدوكم لبئست الخلتان الكبر والجبن
قال تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة: الشعراء - الآية: 215]
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عِياضِ بن حمار في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد و لا يبغي أحد على أحد
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما نقصت صدقة من مال و ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا و ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله.
(حديث أنس في الصحيحين) أنه مرَّ على صبيان فسلَّم عليهم وقال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله.
(حديث الأسود بن يزيد في صحيح البخاري) قال سُئلت عائشةُ رضي الله تعالى عنها ما كان يصنع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم، قال أصحابه وأنت؟ فقال نعم كنت أرعاها على قراريط َ لأهل مكة.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لو دُعِيتُ إلى ذراعٍ أو كُرَاعٍ لأجبت و لو أُهْدِيَ إليَّ ذراعٍ أو كُرَاعٍ لقبلت ... .(6/430)
(حديث أنس في صحيح البخاري) قال: كانت ناقةٌ لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسمى العضباء وكانت لا تُسبق، فجاء أعرابي على قَعُودٍ له فسبقها فاشتد ذلك على المسلمين فقالوا: سُبقت العضباء! قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن حقا على الله تعالى أن لا يرفع شيئا من أمر الدنيا إلا وضعه.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من آدمي إلا في رأسه حكمة بيد مَلك فإذا تواضع قيل للمَلك ارفع حكمته و إذا تكبر قيل للملك: دَعْ حكمته.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(ما من آدمي) من زائدة كما سبق وهي هنا تفيد عموم النفي وتحسين دخول ما على النكرة.
(إلا في رأسه حكمة) وهي بالتحريك ما يجعل تحت حنك الدابة يمنعها المخالفة كاللجام والحنك متصل بالرأس.
(بيد ملك) موكل به.
(فإذا تواضع) للحق والخلق.
(قيل للملك) من قبل اللّه تعالى.
(ارفع حكمته) أي قدره ومنزلته يقال فلان عالي الحكمة، فرفعها كناية عن الأعذار.
(فإذا تكبر قيل للملك ضع حكمته) كناية عن إذلاله فإن من صفة الذليل تنكيس رأسه فثمرة التكبر في الدنيا الذلة بين عباد اللّه وفي الآخرة نار الإيثار وهي عصارة أهل النار كما جاء في بعض الأخبار.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبو جعفر الحذاء، قال: سمعت فضيل بن عياض يقول: أخذت بيد سفيان بن عيينة في هذا الوادي فقلت له: إن كنت تظن أنه بقى على وجه الأرض شر مني ومنك فبئس ما تظن.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن المبارك قال: إذا عرف الرجل قدر نفسه يصير عند نفسه أذل من الكلب.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت إنكم لتغفلون أفضل العبادة التواضع.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن عون بن عبد الله قال كان يقال من كان في صورة حسنة وموضع لا يشينه ووسع عليه في الرزق ثم تواضع لله عز وجل كان من خالص الله عز وجل.
{تنبيه}: (التواضع تواضعان أحدهما محمود والآخر مذموم والتواضع المحمود ترك التطاول على عباد الله والإزراء بهم والتواضع المذموم هو تواضع المرء لذي الدنيا رغبة في دنياه، فالعاقل يلزم مفارقة التواضع المذموم على الأحوال كلها ولا يفارق التواضع المحمود على الجهات كلها.
(أمورٌ من التواضع:(6/431)
(1) اتّهام النفس والاجتهاد في علاج عيوبها وكشف كروبها وزلاتها {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}
(2) مداومة استحضار الآخرة واحتقار الدنيا، والحرص على الفوز بالجنة والنجاة من النار، وإنك لن تدخل الجنة بعملك، وإنما برحمة ربك لك.
(3) التواضع للمسلمين والوفاء بحقوقهم ولين الجانب لهم، واحتمال الأذى منهم والصبر عليهم قال تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر / 88]
(4) معرفة الإنسان قدره بين أهله من إخوانه وأصحابه ووزنه إذا قُورن بهم
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما نقصت صدقة من مال و ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا و ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله.
(5) غلبة الخوف في قلب المؤمن على الرجاء، واليقين بما سيكون يوم القيامة
قال تعالى: {َوبَدَا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} [الزمر /47]
(6) التواضع للدين والاستسلام للشرع، فلا يُعارض بمعقول ولا رأي ولا هوى.
(7) الانقياد التام لما جاء به خاتم الرسل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن يُعبد الله وفق ما أمر، وأن لا يكون الباعث على ذلك داعي العادة.
(8) ترك الشهوات المباحة، والملذّات الكمالية احتساباً لله وتواضعاً له مع القدرة عليها، والتمكن منها
(حديث معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من ترك اللباس تواضعا لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها.
معنى قوله (حلل الإيمان) يعني ما يعطى أهل الإيمان من حلل الجنة
(9) التواضع في جنب الوالدين ببرّهما وإكرامهما وطاعتهما في غير معصية، والحنو عليهما والبِشْرُ في وجههما والتلطّف في الخطاب معهما وتوقيرهما والإكثار من الدعاء لهما في حياتهما وبعد مماتهما
قال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}.
[الإسراء /24]
(10) التواضع للمرضى بعيادتهم والوقوف بجانبهم وكشف كربتهم، وتذكيرهم بالاحتساب والرضا والصبر على القضاء
(11) تفقّد ذوي الفقر والمسكنة، وتصفّح وجوه الفقراء والمحاويج وذوي التعفف والحياء في الطلب, ومواساتهم بالمال والتواضع لهم في الحَسَب، يقول بشر بن الحارث: "ما رأيت أحسن من غني جالسٍ بين يدي فقير".
(التواضع في اللباس:(6/432)
(حديث أبي أُمامةَ في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: البذاذةُ من الإيمان.
(البذاذة): رثاثة الهيئة وترك الترفه وإدامة التزين والتنعم في البدن والملبس إيثاراً للخمول بين الناس.
(حديث عائشة في الصحيحين) أنها أخرجت كساءاً وإزاراً غليظاً فقالت: قُبِضَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذين.
((حديث معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من ترك اللباس تواضعا لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها.
معنى قوله (حلل الإيمان) يعني ما يعطى أهل الإيمان من حلل الجنة.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن زيد بن وهب قال رأيت عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه خرج إلى السوق وبيده الدرة وعليه إزار فيه أربع عشرة رقعة بعضها آدم.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن عن أنس قال رأيت بين كتفي عمر رحمه الله أربع رقاع.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن أم عفيف قالت رأيت علي بن أبي طالب مؤتزرا ببرد أحمر من برود الحمالين فيه رقعة بيضاء.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن عمر بن قيس أن عليا رضى الله تعالى عنه رئي عليه إزار مرقوع فعوتب في لبوسه فقال يقتدي به المؤمن ويخشع له القلب.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن أبي سعيد رضيع عائشة قال دخلت عليها فرأيتها تخيط نقبة لها فقلت لها يا أم المؤمنين أليس قد أوسع الله عز وجل عليك قالت لا جديد لمن لا يلبس الخلق.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن سعد بن الحسن التميمي قال كان عبد الرحمن بن عوف لا يعرف من بين عبيده يعني من التواضع في الزي.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن سعيد بن سويد من حرس عمر بن عبد العزيز قال صلى بنا عمر بن عبد العزيز الجمعة ثم جلس وعليه قميص مرقوع الجيب من بين يديه ومن خلفه فقال له رجل يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قد أعطاك فلو لبست وصنعت فنكس مليا حتى عرفنا أن ذلك قد ساءه ثم رفع رأسه إليه فقال إن أفضل القصد عند الجدة وأفضل العفو عند المقدرة.(6/433)
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن سفيان الثوري يقول أنفع ثيابك لك أهونها عليك.
(تواضع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(حديث الأسود بن يزيد الثابت في صحيح البخاري) قال: سألت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صنع في البيت؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله، تعني خدمة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم، قال أصحابه وأنت؟ فقال نعم كنت أرعاها على قراريط َ لأهل مكة.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لو دُعِيتُ إلى ذراعٍ أو كُرَاعٍ لأجبت و لو أُهْدِيَ إليَّ ذراعٍ أو كُرَاعٍ لقبلت ... .
(حديث أنس في صحيح البخاري) قال: كانت ناقةٌ لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسمى العضباء وكانت لا تُسبق، فجاء أعرابي على قَعُودٍ له فسبقها فاشتد ذلك على المسلمين فقالوا: سُبقت العضباء! قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن حقا على الله تعالى أن لا يرفع شيئا من أمر الدنيا إلا وضعه.
{تنبيه}: (وكلما زاد تواضع طالب العلم زاد مقدار الحكمة عنده وتعلم العلم ومتى تكبر قلَّت حكمته ومنع العلم
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من آدمي إلا في رأسه حكمة بيد ملك فإذا تواضع قيل للملك ارفع حكمته و إذا تكبر قيل للملك: دع حكمته.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخيط ثوبه و يخصف نعله و يعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم.
(حديث عائشة رضي الله عنهاالثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفلي ثوبه و يحلب شاته و يخدم نفسه.
(حديث عمر في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تطروني لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله و رسوله.
(حديث سهل بن حنيف رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأتي ضعفاء المسلمين و يزورهم و يعود مرضاهم و يشهد جنائزهم.
(حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ابغوني الضعفاء فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم.(6/434)
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجلس على الأرض و يأكل على الأرض و يعتقل الشاة و يجيب دعوة المملوك على خبز الشعير.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يزور الأنصار ويسلّم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم".
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كانت الأمة من إماء أهل المدينة، لتأخذ بيد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتنطلق به حيث شاءت.
(حديث أبي مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) قال أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل فكلمه فجعل ترعد فرائصه فقال له هون عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد.
(القديد): هو اللحم المملح المجفف في الشمس
(ما جاء في الخمول:
إن للخمول فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم، فهو نعمةٌ عظيمة، وَمِنَّةٌ جسيمة، نعمة كبرى، ومنحة عظمى، شأنه عظيم، ونفعه عميم، له فضائل لا تحصى، وثمرات لا تعد، وله أهمية كبرى، وثمرات جليلة، وفضائل عظيمة، وأسرار بديعة، وهو طريق النجاة، وسلم الوصول، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين، وهو من أشرف العبادات و أجلّ الطاعات، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك.
(حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى علىَّ أن لا أغفر لفلان إني قد غفرت له وأحبطت عملك)
(ومعنى يتألى عليَّ: أي يقسم ويحلف.(6/435)
(حديث ثوبان رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: حَوْضِي مِنْ عَدَنَ إِلَى عَمَّانَ الْبَلْقَاءِ مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ وَأَكَاوِيبُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا أَوَّلُ النَّاسِ وُرُودًا عَلَيْهِ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ «الشُّعْثُ رُءُوسًا الدُّنْسُ ثِيَابًا» الَّذِينَ لَا يَنْكِحُونَ الْمُتَنَعِّمَاتِ وَلَا تُفْتَحُ لَهُمْ السُّدَدُ.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:(6/436)
(إِلَى عُمَانَ الْبَلْقَاءِ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَخِفَّةِ الْمِيمِ قَرْيَةٌ بِالْيَمَنِ لَا بِفَتْحِهَا وَشَدِّ الْمِيمِ فَإِنَّهَا قَرْيَةٌ بِالشَّامِ، وَقِيلَ بَلْ هِيَ الْمُرَادَةُ كَذَا فِي التَّيْسِيرِ. وَقَالَ الْحَافِظُ: عَمَّانُ هَذِهِ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ لِلْأَكْثَرِ وَحُكِيَ تَخْفِيفُهَا وَتُنْسَبُ إِلَى الْبَلْقَاءِ لِقُرْبِهَا مِنْهَا وَالْبَلْقَاءُ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا قَافٌ وَبِالْمَدِّ بَلَدٌ مَعْرُوفٌ مِنْ فِلَسْطِينَ (وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ) أَيِ الَّذِي مِنْهُ الجزء السابع (وَأَكْوَابُهُ) جَمْعُ كُوبٍ وَهُوَ الْكُوزُ الَّذِي لَا عُرْوَةَ لَهُ عَلَى مَا فِي الشُّرُوحِ، أَوْ لَا خُرْطُومَ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ (عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ عَدَدُ أَكْوَابِهِ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ (أَوَّلُ النَّاسِ وُرُودًا عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْحَوْضِ (فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ) الْمُرَادُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَهُوَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيِّدُهُمْ (الشُّعْثُ) بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ أَشْعَثَ بِالْمُثَلَّثَةِ أَيِ الْمُتَفَرِّقُو الشَّعْرِ (رُءُوسًا) تَمْيِيزٌ (الدُّنْسُ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَقَدْ يُسَكَّنُ الدُّنْسُ وَهُوَ الْوَسَخُ (الَّذِينَ لَا يَنْكِحُونَ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْكَافِ أَيِ الَّذِينَ لَا يَتَزَوَّجُونَ (الْمُتَنَعِّمَاتِ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ مِنَ التَّنَعُّمِ، وَقِيلَ هُوَ بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الْكَافِ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ لَوْ خَطَبُوا الْمُتَنَعِّمَاتِ مِنَ النِّسَاءِ لَمْ يُجَابُوا (وَلَا يُفْتَحُ لَهُمُ السُّدَدُ) بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْأُولَى الْمُهْمَلَتَيْنِ جَمْعُ سُدَّةٍ وَهِيَ بَابُ الدَّارِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمَدْخَلَ يُسَدُّ بِهِ. وَالْمَعْنَى: لَوْ دَقُّوا الْأَبْوَابَ وَاسْتَأْذَنُوا الدُّخُولَ لَمْ يُفْتَحْ لَهُمْ وَلَمْ يُؤْذَنْ.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن عبد الله بن المبارك قال:(6/437)
ألا رب ذي طمرين في منزل غدا ... زرابيه مبثوثة ونمارقه
قد أطردت أنهاره حول قصره ... وأشرق والتفت عليه حدائقه
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن محمد بن المنكدر قال كنت في المسجد فإذا أنا برجل عند المنبر يدعو بالمطر فجاء المطر بصوت ورعد فقال يا رب ليس هكذا قال فمطرت فتبعته حتى تدخل دار حزم أو آل عمر فعرفت مكانه فجئت من الغد فعرضت عليه شيئا فأبى وقال لا حاجة لي بهذا فقلت فحج معي فقال هذا شيء لك فيه أجر فأكره أن أنفس عليك وأما شيء آخذه فلا.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن ابن مسعود قال كونوا ينابيع العلم مصابيح الهدى أحلاس البيوت سرج الليل «جدد القلوب خلقان الثياب» تعرفون في أهل السماء وتخفون في أهل الأرض.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كونوا أوعية الكتاب وينابيع العلم وسلوا الله رزق يوم بيوم وعدوا أنفسكم مع الموتى ولا يضركم ألا يكثر لكم.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن إبراهيم بن أدهم قال: ما فزت في الدنيا قط إلا مرة بت ليلة في بعض مساجد قرى الشام وكان في البطن فجر المؤذن رجلي حتى أخرجني من المسجد.
(ما جاء في الشهرة:
إن الحرص على الشهرة داءٌ وبيل، بل وهو داءٌ عضال ومرض قتَّال أمره خطير وشره مستطير أشر من البرص وأضر من الجرب كالسرطان يأكل الخلايا، ومثل السوس الذي ينخر عظامهم من الداخل، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شِرَّةً وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ فَارْجُوهُ وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فَلَا تَعُدُّوهُ.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:(6/438)
قَوْلُهُ: (إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شِرَّةً) بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ حِرْصًا عَلَى الشَّيْءِ وَنَشَاطًا وَرَغْبَةً فِي الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ (وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ التَّاءِ أَيْ وَهَنًا وَضَعْفًا وَسُكُونًا (فَإِنْ) شَرْطِيَّةٌ (صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ) أَيْ جَعَلَ صَاحِبُ الشِّرَّةِ عَمَلَهُ مُتَوَسِّطًا وَتَجَنَّبَ طَرَفَيْ إِفْرَاطِ الشِّرَّةِ وَتَفْرِيطِ الْفَتْرَةِ (فَأَرْجُوهُ) أَيْ أَرْجُو الْفَلَاحَ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ الدَّوَامُ عَلَى الْوَسَطِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدُومُهَا (وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ) أَيِ اجْتَهَدَ وَبَالَغَ فِي الْعَمَلِ لِيَصِيرَ مَشْهُورًا بِالْعِبَادَةِ وَالزُّهْدِ وَسَارَ مَشْهُورًا مُشَارًا إِلَيْهِ (فَلَا تَعُدُّوهُ) أَيْ لَا تَعْتَدُّوا بِهِ وَلَا تَحْسَبُوهُ مِنَ الصَّالِحِينَ لِكَوْنِهِ مُرَائِيًا، وَلَمْ يَقُلْ فَلَا تَرْجُوهُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ قَدْ سَقَطَ وَلَمْ يُمْكِنْهُ تَدَارُكُ مَا فَرَّطَ.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن أبي بكر بن الفضل قال سمعت أيوب يقول ما صدق الله عبد إلا سره أن لا يشعر بمكانه.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن به محمد بن العلاء وإذا فيه يا أخي من أحب الله أحب أن لا يعرفه الناس.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن سفيان قال: كثرة الإخوان من سخافة الدين.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن عثمان بن زائدة يقول كان يقال إذا رأيت الرجل كثير الأخلاء فاعلم أنه مخلط.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن فضالة بن صيفي قال كتب أبان بن عثمان إلى بعض إخوانه إن أحببت أن يسلم لك دينك فاقل من المعارف.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن عن يحيى بن سعيد عن خالد بن معدان أنه كان إذا كثرت حلقته قام مخافة الشهرة.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن أبي العالية أنه كان إذا جلس إليه أكثر من ثلاثة قام.(6/439)
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن أبي بكر بن عياش قال سألت الأعمش كم رأيت أكثر ما رأيت عند إبراهيم قال أربعة خمسة.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن أبي رجاء قال رأى طلحة قوما يمشون معه أكثر من عشرة فقال ذبان طمع وفراش النار.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن سليم بن حنظلة قال بينا نحن حول أبي بن كعب نمشي خلفه إذ رآه عمر فعلاه بالدرة فقال انظر يا أمير المؤمنين ما تصنع فقال إن هذا ذلة للتابع وفتنة للمتبوع.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن الحسن قال خرج بن مسعود ذات يوم من منزله فاتبعه الناس فالتفت إليهم فقال علام تتبعوني والله لو تعلمون ما أغلق عليه بابي ما اتبعني منكم رجلان.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن إبراهيم قال لا تلبس من الثياب ما يشتهرك الفقهاء ولا يزدريك السفهاء.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن سفيان الثوري قال كانوا يكرهون الشهرتين الثياب الجياد التي يشتهر فيها ويرفع الناس إليه فيها أبصارهم والثياب الرديئة التي يحتقر فيها ويستذل دينه.
(حديث ابن عمر في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من لبس ثوبَ شُهْرة ألبسه الله يوم القيامة ثوب مَذَلةٍ ثم يُلْهِبُ فيه النار.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن الحسن قال إن أقواما جعلوا الكبر في قلوبهم والتواضع في ثيابهم فصاحب الكساء بكسائه أعجب من صاحب المطرف بمطرفه ما لم تفاقروا.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن ابن عمر أنه رأى على ابنه ثوبا قبيحا دونا فقال لا تلبس هذا فإن هذا ثوب شهرة
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن الحسن بن عبيد قال قال رجل لبشر بن الحارث أوصني قال أخمل ذكرك وطيب مطعمك.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن عبد الصمد بن عبد الوارث قال كان حوشب يبكي ويقول بلغ اسمي مسجد الجامع.(6/440)
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن بشر بن الحارث رحمه الله أنه قال: لا أعلم رجلا أحب أن يعرف إلا ذهب دينه وافتضح قال وقال بشر بن الحارث لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب أن يعرفه الناس.
(ذم الكبر:
الكبر والعياذ بالله داء ٌ عضال ومرض قتَّال أمره خطير وشره مستطير أشر من البرص وأضر من الجرب كالسرطان يأكل الخلايا، ومثل السوس الذي ينخر عظامهم من الداخل،
والتكبر هو: التعالي على اللَّه سبحانه، وهذا كفر باللَّه، أو على رسوله أو الإمام، وهذا كفر بالرسول أو الإمام، أو على المؤمنين، وهذا هو التكبُّر المألوف بين المسلمين الذين لم يهذِّبوا أنفسهم، وهي معصية عظيمة.
وفرق التكبُّر عن الكِبر هو: أنّ الكِبْر مجرد تعاليه على غيره في نفسه. أمّا التكبُّر فهو: إظهار الكِبْر وإبرازه بجوارحه. وفرق الكبر عن العُجْب: أن الكِبْر يكون بالقياس إلى غيره، وهو اللَّه أو الرسول والإمام أو المؤمنون. والعُجْب ما يكون في الإنسان من رؤيته إلى نفسه بالعظمة والزهو والتبختر بذلك ولو من دون قياس بغيره، وهذا - أيضاً - من المعاصي العظيمة.
وقد ذم الله تعالى الكبر في كتابه في أكثر من موضع، قال تعالى:
قال تعالى: (وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إِنّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) [الإسراء / 37]
[*] قال ابن كثير رحمه الله:
يقول تعالى ناهيا عباده عن التجبر والتبختر في المشية
(وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً) أي متبخترا متمايلا مشي الجبارين
(إِنّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ): أي لن تقطع الأرض بمشيك
(وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) أي بتمايلك وفخرك وإعجابك بنفسك بل قد يجازى فاعل ذلك بنقيض قصده كما ثبت في الصحيح
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: بينما رجل يمشي في حُلةٍ تُعْجِبْه نَفْسُه مُرَّجِلٍ رأسَه إذ خسف الله به فهو يتجلجلُ في الأرض إلى يوم القيامة.
وكذلك أخبر الله تعالى عن قارون أنه خرج على قومه في زينته وأن الله تعالى خسف به وبداره الأرض
وفي الحديث " من تواضع لله رفعه الله فهو في نفسه حقير وعند الناس كبير ومن استكبر وضعه الله في نفسه كبير وعند الناس حقير حتى لهو أبغض إليهم من الكلب والخنزير.
[*] قال القرطبي رحمه الله:(6/441)
(وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً) هذا نهي عن الخيلاء وأمر بالتواضع. والمرح: شدة الفرح. وقيل: التكبر في المشي. وقيل: تجاوز الإنسان قدره. وقال قتادة: هو الخيلاء في المشي. وقيل: هو البطر والأشر.
(إِنّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ): يعني لن تتولج باطنها فتعلم ما فيها ويقال: خرق الثوب أي شقه , وخرق الأرض قطعها. والخرق: الواسع من الأرض. أي لن تخرق الأرض بكبرك ومشيك عليها
(وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) أي لن تساوي الجبال بطولك ولا تطاولك. " ولن تبلغ الجبال طولا " بعظمتك , أي بقدرتك لا تبلغ هذا المبلغ , بل أنت عبد ذليل , محاط بك من تحتك ومن فوقك , والمحاط محصور ضعيف , فلا يليق بك التكبر.
[*] قال الطبري رحمه الله:
(وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً): ولا تمش في الأرض مختالا مستكبرا
(إِنّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ): إنك لن تقطع الأرض باختيالك
(وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) بفخرك وكبرك
قال تعالى: (وَلاَ تُصَعّرْ خَدّكَ لِلنّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [لقمان / 18]
إن من نبذ خلق التواضع وتعالى وتكَبَّر، إنما هو في حقيقة الأمر معتدٍ على مقام الألوهية، طالباً لنفسه العظمة والكبرياء، متناسياً جاهلاً حق الله تعالى عليه، من عصاة بني البشر، متجرِّئٌ على مولاه وخالقه ورازقه، منازع إياه صفة من صفات كماله وجلاله وجماله، إذ الكبرياء والعظمة له وحده.
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تحاسدوا و لا تناجشوا و لا تباغضوا و لا تدابروا و لا يبع بعضكم على بيع بعض و كونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخْذُلُه و لا يَحْقره التقوى هاهنا - و أشار إلى صدره - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه و ماله و عرضه.(6/442)
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمْ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الْخَبَالِ.
(حديث جندب بن عبد الله في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان! فقال الله تعالى من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان! إني قد غفرت له وأحبطتُ عملك.
(حديث حارثة بن وهب رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ جعظري مستكبر.
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أهل النار كل جعظري جواظ مستكبر، جماع مناع، وأهل الجنة الضعفاء المغلوبون.
(العتل): الغليظ الجافي.
(الجواظ): الذي جمع ومنع،
(المستكبر): المتعاظم في نفسه، الذي يرد الحق، ويحتقر الناس كما في الحديث الآتي:
(حديث ابن مسعود في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبر فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبُه حسنا و نعله حسنة قال: إن الله جميل يحب الجمال الكبر بَطَرُ الحقِ و غمطُ الناس.
بَطَرُ الحقِ: التكبر على الحق وعدم قبوله
غمطُ الناس: احتقارهم وازدرائهم
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن الأحنف بن قيس أنه كان يجلس مع مصعب بن الزبير على سريره فجاء يوما ومصعب ماد رجليه فلم يقبضهما وقعد الأحنف فزحم بعض الزحم فرأى ذلك فيه فقال عجبا لابن آدم يتكبر وقد خرج من مجرى البول مرتين.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن الحسن قال من خصف نعليه ورقع ثوبه وعفر وجهه لله عز وجل فقد بريء من الكبر.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن يحيى بن جعدة قال من وضع وجهه لله عز وجل ساجدا فقد بريء من الكبر.
(ذم الاختيال:(6/443)
إن الاختيال داء ٌ عضال ومرض قتَّال أمره خطير وشره مستطير أشر من البرص وأضر من الجرب كالسرطان يأكل الخلايا، ومثل السوس الذي ينخر عظامهم من الداخل، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا ينظرُ الله إلى من جرَّ إزاره بطراً.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة فقال أبو بكر: يا رسول اللّه إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده فقال له: إنك لست ممن يفعله خيلاء.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: بينما رجل يمشي في حُلةٍ تُعْجِبْه نَفْسُه مُرَّجِلٍ رأسَه إذ خسف الله به فهو يتجلجلُ في الأرض إلى يوم القيامة.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن الحسن قال تلقى أحدهم يتحرك في مشيته يسحب عظامه عظما عظما لا يمشي بطبيعته.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن أبي بكر الهذلي قال بينما نحن مع الحسن إذ مر عليه بن الأهتم يريد المقصورة وعليه جباب خز قد نضد بضعها فوق بعض على ساقه وانفرج عنها قباه وهو يمشي يتبختر إذ نظر إليه الحسن نظرة فقال أف لك شامخ بأنفه ثاني عطفه مصعر خده ينظر في عطفيه أي حميق أنت تنظر في عطفيك في نعم غير مشكورة ولا مذكورة غير المأخوذ بأمر الله عز وجل فيها ولا المؤدي حق الله منها والله إن يمشي أحدهم طبيعته أن يتخلج تخلج المجنون، في كل عضو من أعضائه لله نعمة وللشيطان به لعنة فسمع بن الأهتم فرجع يعتذر فقال لا تعتذر إلي وتب إلى ربك عز وجل أما سمعت قوله تعالى: (وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إِنّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) [الإسراء: 37]
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن محمد بن واسع أنه رأى ابنا له يخطر بيده فدعاه فقال تدري من أنت أما أمك فاشتريتها بمئتي درهم وأما أبوك فلا أكثر الله عز وجل في المسلمين ضربه.(6/444)
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول عن جميل بن زيد قال رأى بن عمر رجلا يجر إزاره فقال إن للشيطان إخوانا مرتين أو ثلاثا.
(فصلٌ في منزلة الفتوة:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الفتوة هذه المنزلة
«حقيقتها هي منزلة الإحسان إلى الناس وكف الأذى عنهم واحتمال أذاهم» فهي استعمال حسن الخلق معهم فهي في الحقيقة نتيجة حسن الخلق واستعماله، والفرق بينها وبين المروءة: أن المروءة أعم منها فالفتوة نوع من أنواع المروءة فإن المروءة استعمال ما يجمل ويزين مما هو مختص بالعبد أو متعد إلى غيره وترك ما يدنس ويشين مما هو مختص أيضا به أو متعلق بغيره و الفتوة إنما هي استعمال الأخلاق الكريمة مع الخلق فهي ثلاثة منازل: منزلة التخلق وحسن الخلق ومنزلة الفتوة، ومنزلة المروءة، وقد تقدمت منزلة الخلق وهذه منزلة شريفة لم تعبر عنها الشريعة باسم الفتوة بل عبرت عنها باسم مكارم الأخلاق كما في حديث يوسف بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، وأصل الفتوة من الفتى وهو الشاب الحديث السن قال الله تعالى عن أهل الكهف: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف: 13] وقال عن قوم إبراهيم أنهم {قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60] وقال تعالى عن يوسف {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} [يوسف: 36] وقال لفتيانه: {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ} [يوسف:62]
فاسم الفتى لا يشعر بمدح ولا ذم كاسم الشاب والحدث ولذلك لم يجيء اسم الفتوة في القرآن ولا في السنة ولا في لسان السلف وإنما استعمله من بعدهم في مكارم الأخلاق وأصلها عندهم: أن يكون العبد أبدا: في أمر غيره وأقدم من علمته تكلم في الفتوة جعفر بن محمد ثم الفضيل بن عياض والإمام أحمد وسهل بن عبد الله والجنيد ثم الطائفة فيذكر أن جعفر بن محمد سئل عن الفتوة فقال للسائل: ما تقول أنت فقال: إن أعطيت شكرت وإن منعت صبرت فقال: الكلاب عندنا كذلك فقال السائل: يا ابن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما الفتوة عندكم فقال: «إن أعطينا آثرنا وإن منعنا شكرنا»
(وقال الفضيل بن عياض: الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان.(6/445)
(وقال الإمام أحمد رضي الله عنه في رواية ابنه عبد الله عنه وقد سئل عن الفتوة فقال: ترك ما تهوى لما تخشى ولا أعلم لأحد من الأئمة الأربعة فيها سواه.
(وسئل الجنيد عن الفتوة فقال: لا تنافر فقيرا ولا تعارض غنيا.
(وقال الحارث المحاسبي: الفتوة أن تنصف ولا تنتصف.
(وقال عمر بن عثمان المكي: الفتوة حسن الخلق.
(وقال محمد بن علي الترمذي: الفتوة أن تكون خصما لربك على نفسك.
(وقيل: الفتوة أن لا ترى لنفسك فضلا على غيرك.
(وقال الدقاق: هذا الخلق لا يكون كماله إلا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن كل أحد يقول يوم القيامة: نفسي نفسي وهو يقول: أمتي أمتي.
(وقيل: الفتوة كسر الصنم الذي بينك وبين الله تعالى وهو نفسك فإن الله حكى عن خليله إبراهيم عليه السلام: أنه جعل الأصنام جذاذا فكسر الأصنام له فالفتى من كسر صنما واحدا في الله.
(وقيل: الفتوة أن لا تكون خصما لأحد يعني في حفظ نفسك وأما في حق الله فالفتوة: أن تكون خصما لكل أحد ولو كان الحبيب المصافيا.
(وقال الترمذي: الفتوة أن يستوي عندكم المقيم والطارىء.
(وقال بعضهم: الفتوة أن لا يميز بين أن يأكل عنده ولي أو كافر.
(وقال الجنيد أيضا: الفتوة كف الأذى وبذل الندى.
(وقال سهل: هي اتباع السنة.
(وقيل: هي الوفاء والحفاظ.
(وقيل: فضيلة تأتيها ولا ترى نفسك فيها.
(وقيل: أن لا تحتجب ممن قصدك.
(وقيل: أن لا تهرب إذا أقبل العافي يعني طالب المعروف.
(وقيل: إظهار النعمة وإسرار المحنة.
(وقيل: أن لا تدخر ولا تعتذر.
(وقيل: تزوج رجل بامرأة فلما دخلت عليه رأى بها الجدري فقال: اشتكيت عيني ثم قال: عميت فبعد عشرين سنة ماتت ولم تعلم أنه بصير فقيل له في ذلك فقال: كرهت أن يحزنها رؤيتي لما بها فقيل له: سبقت الفتيان وقيل: ليس من الفتوة أن تربح على صديقك.
(واستضاف رجل جماعة من الفتيان فلما فرغوا من الطعام خرجت جارية تصب الماء على أيديهم فانقبض واحد منهم وقال: ليس من الفتوة أن تصب النسوان الماء على أيدي الرجال فقال آخر منهم: أنا منذ سنين أدخل إلى هذه الدار ولم أعلم أن امرأة تصب الماء على أيدينا أو رجلا.(6/446)
(وقدم جماعة فتيان لزيارة فتى فقال الرجل: يا غلام قدم السفرة فلم يقدم فقالها ثانيا وثالثا فلم يقدم فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: ليس من الفتوة أن يستخدم الرجل من يتعاصى عليه في تقديم السفرة كل هذا فقال الرجل: لم أبطأت بالسفرة فقال الغلام: كان عليها نمل فلم يكن من الأدب تقديم السفرة إلى الفتيان مع النمل ولم يكن من الفتوة إلقاء النمل وطردهم عن الزاد فلبثت حتى دب النمل فقالوا: يا غلام مثلك يخدم الفتيان.
(ومن الفتوة التي لا تلحق: ما يذكر أن رجلا نام من الحاج في المدينة ففقد هميانا فيه ألف دينار فقام فزعا فوجد جعفر بن محمد فعلق به وقال: أخذت همياني فقال: أي شيء كان فيه قال: ألف دينار فأدخله داره ووزن له ألف دينار ثم إن الرجل وجد هميانه فجاء إلى جعفر معتذرا بالمال فأبى أن يقبله منه وقال: شيء أخرجته من يدي لا أسترده أبدا فقال الرجل للناس: من هذا فقالوا: هذا جعفر بن محمد رضي الله عنه.
(فصلٌ في منزلة المروءة:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة المروءة
المروءة فعولة من لفظ المرء كالفتوة من الفتى والإنسانية من الإنسان ولهذا كان حقيقتها: «اتصاف النفس بصفات الإنسان التي فارق بها الحيوان البهيم والشيطان الرجيم»،
(فإن في النفس ثلاثه دواع متجاذبة:
(داع يدعوها إلى الاتصاف بأخلاق الشيطان: من الكبر والحسد والعلو والبغي والشر والأذى والفساد والغش.
(وداع يدعوها إلى أخلاق الحيوان وهو داعي الشهوة.
(وداع يدعوها إلى أخلاق المَلَك: من الإحسان والنصح والبر والعلم والطاعة.
(فحقيقة المروءة: بغض ذينك الداعيين وإجابة الداعي الثالث وقلة المروءة وعدمها: هو الاسترسال مع ذينك الداعيين والتوجه لدعوتهما أين كانت، فالإنسانية والمروءة والفتوة: كلها في عصيان الداعيين وإجابة الداعي الثالث كما قال بعض السلف: خلق الله الملائكة عقولا بلا شهوة وخلق البهائم شهوة بلا عقول وخلق ابن آدم وركب فيه العقل والشهوة فمن غلب عقله شهوته: التحق بالملائكة ومن غلبت شهوته عقله: التحق بالبهائم «ولهذا قيل في حد المروءة: إنها غلبة العقل للشهوة»
وقال الفقهاء في حدها: «هي استعمال ما يجمل العبد ويزينه وترك ما يدنسه ويشينه»
وقيل: المروءة استعمال كل خلق حسن واجتناب كل خلق قبيح.
مسألة: ما هو حقيقة المروءة؟
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:(6/447)
وحقيقة المروءة تجنب للدنايا والرذائل من الأقوال والأخلاق والأعمال،
(فمروءة اللسان: حلاوته وطيبه ولينه واجتناء الثمار منه بسهولة ويسر.
(ومروءة الخلق: سعته وبسطه للحبيب والبغيض.
(ومروءة المال: الإصابة ببذله مواقعه المحمودة عقلا وعرفا وشرعا.
(ومروءة الجاه: بذله للمحتاج إليه.
(ومروءة الإحسان: تعجيله وتيسيره وتوفيره وعدم رؤيته حال وقوعه ونسيانه بعد وقوعه فهذه مروءة البذل وأما مروءة الترك: فترك الخصام والمعاتبة والمطالبة والمماراة والإغضاء عن عيب ما يأخذه من حقك وترك الاستقصاء في طلبه والتغافل عن عثرات الناس وإشعارهم أنك لا تعلم لأحد منهم عثرة والتوقير للكبير وحفظ حرمة النظير ورعاية أدب الصغير.
مسألة: ما هي درجات المروءة؟
((قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
وهي على ثلاث درجات:
(الدرجة الأولى: مروءة المرء مع نفسه وهي أن يحملها قسرا على ما يجمل ويزين وترك ما يدنس ويشين ليصير لها مَلَكة في العلانية فمن أراد شيئا في سره وخلوته: ملكه في جهره وعلانيته فلا يكشف عورته في الخلوة ولا يتجشأ بصوت مزعج ما وجد إلى خلافه سبيلا ولا يخرج الريح بصوت وهو يقدر على خلافه ولا يجشع وينهم عند أكله وحده وبالجملة: «فلا يفعل خاليا ما يستحي من فعله في الملإ» إلا مالا يحظره الشرع والعقل ولا يكون إلا في الخلوة كالجماع والتخلي ونحو ذلك.
(الدرجة الثانية: المروءة مع الخلق بأن يستعمل معهم شروط الأدب والحياء والخلق الجميل ولا يظهر لهم ما يكرهه هو من غيره لنفسه وليتخذ الناس مرآة لنفسه فكل ما كرهه ونفر عنه من قول أو فعل أو خلق فليجتنبه وما أحبه من ذلك واستحسنه فليفعله وصاحب هذه البصيرة ينتفع بكل من خالطه وصاحبه من كامل وناقص وسيء الخلق وحسنه وعديم المروءة وغزيرها، وكثير من الناس يتعلم المروءة ومكارم الأخلاق من الموصوفين بأضدادها كما روي عن بعض الأكابر: أنه كان له مملوك سيء الخلق فظ غليظ لا يناسبه فسئل عن ذلك فقال: أدرس عليه مكارم الأخلاق وهذا يكون بمعرفة مكارم الأخلاق في ضد أخلاقه ويكون بتمرين النفس على مصاحبته ومعاشرته والصبر عليه.(6/448)
(الدرجة الثالثة: المروءة مع الحق سبحانه بالاستحياء من نظره إليك وإطلاعه عليك في كل لحظة ونفس وإصلاح عيوب نفسك جهد الإمكان فإنه قد اشتراها منك وأنت ساع في تسليم المبيع وتقاضي الثمن وليس من المروءة: تسليمه على ما فيه من العيوب وتقاضي الثمن كاملاً أو رؤية مِنَتَه في هذا الإصلاح وأنه هو المتولي له لا أنت فيغنيك الحياء منه عن رسوم الطبيعة والاشتغال بإصلاح عيوب نفسك عن التفاتك إلى عيب غيرك وشهود الحقيقة عن رؤية فعلك وصلاحك.
(فصلٌ في منزلة الأدب:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الأدب
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]
قال ابن عباس وغيره: أدبوهم وعلموهم وهذه اللفظة مؤذنة بالاجتماع فالأدب: اجتماع خصال الخير في العبد ومنه المأدبة وهي الطعام الذي يجتمع عليه الناس
وعلم الأدب: هو علم إصلاح اللسان والخطاب وإصابة مواقعه وتحسين ألفاظه وصيانته عن الخطاء والخلل وهو شعبة من الأدب العام والله أعلم.
مسألة: ما هي أنواع الأدب؟
((قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
والأدب ثلاثة أنواع:
(أدب مع الله سبحانه:
(وأدب مع رسوله وشرعه:
(وأدب مع خلقه:
(أولاً الأدب مع الله تعالى:
مسألة: ما معنى الأدب مع الله تعالى؟
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
الأدب مع الله تبارك وتعالى: «هو القيام بدينه والتأدب بآدابه ظاهرا وباطنا»
مسألة: متى يستقيم الأدب مع الله تعالى؟
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ولا يستقيم لأحد قط الأدب مع الله إلا بثلاثة أشياء:
(معرفته بأسمائه وصفاته.
(ومعرفته بدينه وشرعه وما يحب وما يكره.
(ونفسٌ مستعدةٌ قابلةٌ لينةٌ متهيئةٌ لقبول الحق علما وعملا وحالا.
(ثانياً الأدب مع الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
فالقرآن مملوء به:(6/449)
فرأس الأدب معه: «كمال التسليم له والانقياد لأمره وتلقي خبره بالقبول والتصديق» دون أن يحمله معارضة خيال باطل يسميه معقولا» «أو يحمله شبهة أو شكا أو يقدم عليه آراء الرجال وزبالات أذهانهم» فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان كما وحد المرسل سبحانه وتعالى بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسل وتوحيد متابعة الرسول فلا يحاكم إلى غيره ولا يرضى بحكم غيره ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه فإن أذنوا له نفذه وقبل خبره وإلا فإن طلب السلامة: أعرض عن أمره وخبره وفوضه إليهم وإلا حرفه عن مواضعه وسمى تحريفه: تأويلا وحملا فقال: نؤوله ونحمله فلأن يلقى العبد ربه بكل ذنب على الإطلاق ما خلا الشرك بالله خير له من أن يلقاه بهذه الحال ولقد خاطبت يوما بعض أكابر هؤلاء فقلت له: سألتك بالله لو قدر أن الرسول حي بين أظهرنا وقد واجهنا بكلامه وبخطابه: أكان فرضا علينا أن نتبعه من غير أن نعرضه على رأي غيره وكلامه ومذهبه أم لا نتبعه حتى نعرض ما سمعناه منه على آراء الناس وعقولهم فقال: بل كان الفرض المبادرة إلى الامتثال من غير التفات إلى سواه فقلت: فما الذي نسخ هذا الفرض عنا وبأي شيء نسخ فوضع إصبعه على فيه وبقي باهتا متحيرا وما نطق بكلمة هذا أدب الخواص معه لا مخالفة أمره والشرك به ورفع الأصوات وإزعاج الأعضاء بالصلاة عليه والتسليم وعزل كلامه عن اليقين وأن يستفاد منه معرفة الله أو يتلقى منه أحكامه بل المعول في باب معرفة الله: على العقول المنهوكة المتحيرة المتناقضة وفي الأحكام: على تقليد الرجال وآرائها والقرآن والسنة إنما نقرؤهما تبركا لا أنا نتلقى منهما أصول الدين ولا فروعه ومن طلب ذلك ورامه عاديناه وسعينا في قطع دابره واستئصال شأفته {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أَمْ لَمْ(6/450)
يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [المؤمنون/ 73:63]
(والناصح لنفسه العامل على نجاتها: يتدبر هذه الآيات حق تدبرها ويتأملها حق تأملها وينزلها على الواقع: فيرى العجب ولا يظنها اختصت بقوم كانوا فبانوا فالحديث لك واسمعي يا جارة والله المستعان
(من مظاهر الأدب مع الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
(ومن الأدب مع الرسول: أن لا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي ولا إذن ولا تصرف حتى يأمر هو وينهى ويأذن كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] وهذا باق إلى يوم القيامة ولم ينسخ فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته ولا فرق بينهما عند ذي عقل سليم قال مجاهد رحمه الله: لا تفتاتوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال أبو عبيدة: تقول العرب: لا تقدم بين يدي الإمام وبين يدي الأب أي لا تعجلوا بالأمر والنهي دونه.
وقال غيره: لا تأمروا حتى يأمر ولا تنهوا حتى ينهى.
(ومن الأدب معه: أن لا ترفع الأصوات فوق صوته فإنه سبب لحبوط الأعمال فما الظن برفع الآراء ونتائج الأفكار على سنته وما جاء به أترى ذلك موجبا لقبول الأعمال ورفع الصوت فوق صوته موجبا لحبوطها.
(ومن الأدب معه: أن لا يجعل دعاءه كدعاء غيره قال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور: 63] وفيه قولان للمفسرين:
أحدهما: أنكم لا تدعونه باسمه كما يدعو بعضكم بعضا بل قولوا: يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا نبي الله فعلى هذا: المصدر مضاف إلى المفعول أي دعاءكم الرسول الثاني: أن المعنى لا تجعلوا دعاءه لكم بمنزلة دعاء بعضكم بعضا إن شاء(6/451)
أجاب وإن شاء ترك بل «إذا دعاكم لم يكن لكم بد من أجابته ولم يسعكم التخلف عنها البتة» فعلى هذا: المصدر مضاف إلى الفاعل أي دعاؤه إياكم
(ومن الأدب معه: أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع من خطبة أو جهاد أو رباط لم يذهب أحد منهم مذهبا في حاجته حتى يستأذنه كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] فإذا كان هذا مذهبا مقيدا بحاجة عارضة لم يوسع لهم فيه إلا بإذنه فكيف بمذهب مطلق في تفاصيل الدين: أصوله وفروعه دقيقه وجلبله هل يشرع الذهاب إليه بدون استئذانه {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] [الأنبياء: 7]
(ومن الأدب معه: أن لا يستشكل قوله بل تستشكل الآراء لقوله ولا يعارض نصه بقياس بل تهدر الأقيسة وتلقى لنصوصه ولا يحرف كلامه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولا نعم هو مجهول وعن الصواب معزول ولا يوقف قبول ما جاء به على موافقة أحد فكل هذا من قلة الأدب معه وهو عين الجرأة.
(ثالثاً الأدب مع الخلق:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
الأدب مع الخلق: فهو «معاملتهم على اختلاف مراتبهم بما يليق بهم» فلكل مرتبة أدب والمراتب فيها أدب خاص فمع الوالدين: أدب خاص وللأب منهما: أدب هو أخص به ومع العالم: أدب آخر ومع السلطان أدب يليق به وله مع الأقران أدب يليق بهم ومع الأجانب أدب غير أدبه مع أصحابه وذوي أنسه ومع الضيف أدب غير أدبه مع أهل بيته ولكل حال أدب: فللأكل آداب وللشرب آداب وللركوب والدخول والخروج والسفر والإقامة والنوم آداب وللبول آداب وللكلام آداب وللسكوت والاستماع آداب.
وأدب المرء: عنوان سعادته وفلاحه وقلة أدبه: عنوان شقاوته وبواره فما استجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب ولا استجلب حرمانها بمثل قلة الأدب
فانظر إلى الأدب مع الوالدين: كيف نجى صاحبه من حبس الغار حين أطبقت عليهم الصخرة والإخلال به مع الأم تأويلا وإقبالا على الصلاة كيف امتحن صاحبه بهدم صومعته وضرب الناس له ورميه بالفاحشة.(6/452)
وتأمل أحوال كل شقي ومغتر ومدبر: كيف تجد قلة الأدب هي التي ساقته إلى الحرمان وانظر قلة أدب عوف مع خالد: كيف حرمه السلب بعد أن برد بيديه وانظر أدب الصديق رضي الله عنه مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة: أن يتقدم بين يديه فقال: ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف أورثه مقامه والإمامة بالأمة بعده فكان ذلك التأخر إلى خلفه وقد أومأ إليه أن: اثبت مكانك جمزا وسعيا
(أقوال السلف في الأدب:
قال أبو علي الدقاق: العبد يصل بطاعة الله إلى الجنة ويصل بأدبه في طاعته إلى الله، وقال: رأيت من أراد أن يمد يده في الصلاة إلى أنفه فقبض على يده.
وقال ابن عطاء: الأدب الوقوف مع المستحسنات فقيل له: وما معناه فقال: أن تعامله سبحانه بالأدب سرا وعلنا ثم أنشد
إذا نطقت جاءت بكل ملاحة وإن سكتت جاءت بكل مليح
وقال أبو علي: من صاحب الملوك بغير أدب أسلمه الجهل إلى القتل.
وقال يحيى بن معاذ: إذا ترك العارف أدبه مع معروفه فقد هلك مع الهالكين.
وقال أبو علي: ترك الأدب يوجب الطرد فمن أساء الأدب على البساط رد إلى الباب ومن أساء الأدب على الباب رد إلى سياسة الدواب.
وقال يحيى بن معاذ: من تأدب بأدب الله صار من أهل محبة الله وقال ابن المبارك: نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم
وسئل الحسن البصري رحمه الله عن أنفع الأدب فقال: التفقه في الدين والزهد في الدنيا والمعرفة بما لله عليك.
وقال سهل: القوم استعانوا بالله على مراد الله وصبروا لله على آداب الله.
وقال ابن المبارك: طلبنا الأدب حين فاتنا المؤدبون وقال: «الأدب للعارف كالتوبة للمستأنف»
وقال أبو حفص لما قال له الجنيد: لقد أدبت أصحابك أدب السلاطين فقال: حسن الأدب في الظاهر عنوان حسن الأدب في الباطن فالأدب مع الله حسن الصحبة معه بإيقاع الحركات الظاهرة والباطنة على مقتضى التعظيم والإجلال والحياء كحال مجالس الملوك ومصاحبهم.(6/453)
وقال أبو نصر السراج: الناس في الأدب على ثلاث طبقات: أما أهل الدنيا: فأكبر آدابهم: في الفصاحة والبلاغة وحفظ العلوم وأسمار الملوك وأشعار العرب، وأما أهل الدين: فأكثر آدابهم: في رياضة النفوس وتأديب الجوارح وحفظ الحدود وترك الشهوات، وأما أهل الخصوصية: فأكبر آدابهم: في طهارة القلوب ومراعاة الأسرار والوفاء بالعهود وحفظ الوقت وقلة الالتفات إلى الخواطر وحسن الأدب في مواقف الطلب وأوقات الحضور ومقامات القرب.
وقال سهل: من قهر نفسه بالأدب فهو يعبد الله بالإخلاص.
وقال عبد الله بن المبارك: قد أكثر الناس القول في الأدب ونحن نقول: إنه معرفة النفس ورعوناتها وتجنب تلك الرعونات.
وقال الشبلي: الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب وقال بعضهم: الحق سبحانه يقول: من ألزمته القيام مع أسمائي وصفاتي: ألزمته الأدب ومن كشفت له عن حقيقة ذاتي: ألزمته العطب فاختر الأدب أو العطب ويشهد لهذا: أنه سبحانه لما كشف للجبل عن ذاته ساخ الجبل وتدكدك ولم يثبت على عظمة الذات.
وقال أبو عثمان: «إذا صحت المحبة تأكدت على المحب ملازمة الأدب»
وقال النوري رحمه الله: «من لم يتأدب للوقت فوقته مقت»(6/454)
وقال ذو النون: إذا خرج المريد عن استعمال الأدب: فإنه يرجع من حيث جاء وتأمل أحوال الرسل صلوات الله وسلامه عليهم مع الله وخطابهم وسؤالهم كيف تجدها كلها مشحونة بالأدب قائمة به قال المسيح عليه السلام: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116] ولم يقل: لم أقله وفرق بين الجوابين في حقيقة الأدب ثم أحال الأمر على علمه سبحانه بالحال وسره فقال: تعلم ما في نفسي ثم برأ نفسه عن علمه بغيب ربه وما يختص به سبحانه فقال: ولا أعلم ما في نفسك ثم أثنى على ربه ووصفه بتفرده بعلم الغيوب كلها فقال: إنك أنت علام الغيوب ثم نفى أن يكون قال لهم غير ما أمره ربه به وهو محض التوحيد فقال: ما قلت لهم إلا ما أمرتني به: {أن اعبدوا الله ربي وربكم} [المائدة: 117] ثم أخبر عن شهادته عليهم مدة مقامه فيهم وأنه بعد وفاته لا اطلاع له عليهم وأن الله عز وجل وحده هو المنفرد بعد الوفاة بالاطلاع عليهم فقال {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 117] ثم وصفه بأن شهادته سبحانه فوق كل شهادة وأعم فقال: وأنت على كل شيء شهيد ثم قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] وهذا من أبلغ الأدب مع الله في مثل هذا المقام أي شأن السيد رحمة عبيده والإحسان إليهم وهؤلاء عبيدك ليسوا عبيدا لغيرك فإذا عذبتهم مع كونهم عبيدك فلولا أنهم عبيد سوء من أبخس العبيد وأعتاهم على سيدهم وأعصاهم له: لم تعذبهم لأن قربة العبودية تستدعي إحسان السيد إلى عبده ورحمته فلماذا يعذب أرحم الراحمين وأجود الأجودين وأعظم المحسنين إحسانا عبيده لولا فرط عتوهم وإباؤهم عن طاعته وكمال استحقاقهم للعذاب وقد تقدم قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116] أي هم عبادك وأنت أعلم بسرهم وعلانيتهم فإذا عذبتهم: عذبتهم على علم منك بما تعذبهم عليه فهم عبادك وأنت أعلم بما جنوه واكتسبوه فليس في هذا استعطاف لهم كما يظنه الجهال ولا تفويض إلى محض المشيئة والملك المجرد عن الحكمة كما تظنه القدرية وإنما هو إقرار واعتراف وثناء عليه سبحانه بحكمته وعدله وكمال علمه بحالهم واستحقاقهم للعذاب ثم قال: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] ولم يقل الغفور الرحيم وهذا من أبلغ الأدب مع الله تعالى فإنه قاله في وقت غضب الرب(6/455)
عليهم والأمر بهم إلى النار فليس هو مقام استعطاف ولا شفاعة بل مقام براءة منهم فلو قال: فإنك أنت الغفور الرحيم لأشعر باستعطافه ربه على أعدائه الذين قد اشتد غضبه عليهم فالمقام مقام موافقة للرب في غضبه على من غضب الرب عليهم فعدل عن ذكر الصفتين اللتين يسأل بهما عطفه ورحمته ومغفرته إلى ذكر العزة والحكمة المتضمنتين لكمال القدرة وكمال العلم والمعنى: إن غفرت لهم فمغفرتك تكون عن كمال القدرة والعلم ليست عن عجز عن الانتقام منهم ولا عن خفاء عليك بمقدار جرائمهم وهذا لأن العبد قد يغفر لغيره لعجزه عن الانتقام منه ولجهله بمقدار إساءته إليه والكمال: هو مغفرة القادر العالم وهو العزيز الحكيم وكان ذكر هاتين الصفتين في هذا المقام عين الأدب في الخطاب وفي بعض الآثار: حملة العرش أربعة: اثنان يقولان: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك واثنان يقولان: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك ولهذا يقترن كل من هاتين الصفتين بالأخرى كقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} وكذلك قول إبراهيم الخليل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 7880] ولم يقل وإذا أمرضني حفظا للأدب مع الله وكذلك قول الخضر عليه السلام في السفينة: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79] ولم يقل فأراد ربك أن أعيبها وقال في الغلامين: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف: 82] وكذلك قول مؤمني الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الجن: 10] ولم يقولوا: أراده ربهم ثم قالوا: أم أراد بهم ربهم رشدا وألطف من هذا قول موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] ولم يقل أطعمني وقول آدم عليه السلام: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] ولم يقل: رب قدرت علي وقضيت علي وقول أيوب عليه السلام: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] ولم يقل فعافني واشفني وقول يوسف لأبيه وإخوته: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ(6/456)
أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف: 100] ولم يقل: أخرجني من الجب حفظا للأدب مع إخوته وتفتيا عليهم: أن لا يخجلهم بما جرى في الجب وقال: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} ولم يقل: رفع عنكم جهد الجوع والحاجة أدبا معهم وأضاف ما جرى إلى السبب ولم يضفه إلى المباشر الذي هو أقرب إليه منه فقال:
{مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} فأعطى الفتوة والكرم والأدب حقه ولهذا لم يكن كمال هذا الخلق إلا للرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم
ومن هذا أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرجل: أن يستر عورته وإن كان خاليا لا يراه أحد أدبا مع الله على حسب القرب منه وتعظيمه وإجلاله وشدة الحياء منه ومعرفة وقاره.
وقال بعضهم: الزم الأدب ظاهرا وباطنا فما أساء أحد الأدب في الظاهر إلا عوقب ظاهرا وما أساء أحد الأدب باطنا إلا عوقب باطنا.
وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله: «من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن»
«ومن تهاون بالسنن عوقب بحرمان الفرائض» «ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة»
وقيل: الأدب في العمل علامة قبول العمل وحقيقة الأدب استعمال الخلق الجميل (ولهذا كان الأدب: استخراج ما في الطبيعة من الكمال من القوة إلى الفعل
فإن لله سبحانه هيأ الإنسان لقبول الكمال بما أعطاه من الأهلية والاستعداد التي جعلها فيه كامنة كالنار في الزناد فألهمه ومكنه وعرفه وأرشده وأرسل إليه رسله وأنزل إليه كتبه لاستخراج تلك القوة التي أهله بها لكماله إلى الفعل قال الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7 - 10] فعبر عن خلق النفس بالتسوية والدالة على الاعتدال والتمام ثم أخبر عن قبولها للفجور والتقوى وأن ذلك نالها منه امتحانا واختبارا ثم خص بالفلاح من زكاها فنماها وعلاها ورفعها بآدابه التي أدب بها رسله وأنبياءه وأولياءه وهي التقوى ثم حكم بالشقاء على من دساها فأخفاها وحقرها وصغرها وقمعها بالفجور والله سبحانه وتعالى أعلم.
(منزلة الأدب في الدين:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
والأدب هو الدين كله فإن ستر العورة من الأدب والوضوء وغسل(6/457)
الجنابة من الأدب والتطهر من الخبث من الأدب حتى يقف بين يدي الله طاهرا ولهذا كانوا يستحبون أن يتجمل الرجل في صلاته للوقوف بين يدي ربه وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: أمر الله بقدر زائد على ستر العورة في الصلاة وهو أخذ الزينة فقال تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] فعلق الأمر بأخذ الزينة لا بستر العورة إيذانا بأن العبد ينبغي له: أن يلبس أزين ثيابه وأجملها في الصلاة وكان لبعض السلف حُلْةٌ بمبلغ عظيم من المال وكان يلبسها وقت الصلاة ويقول: «ربي أحق من تجملت له في صلاتي»، ومعلوم: أن الله سبحانه وتعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده لا سيما إذا وقف بين يديه فأحسن ما وقف بين يديه بملابسه ونعمته التي ألبسه إياها ظاهرا وباطنا.
(ومن الأدب: نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المصلي: أن يرفع بصره إلى السماء فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: هذا من كمال أدب الصلاة: أن يقف العبد بين يدي ربه مطرقاً خافضاً طرفه إلى الأرض ولا يرفع بصره إلى فوق قال: والجهمية لما لم يفقهوا هذا الأدب ولا عرفوه ظنوا أن هذا دليل أن الله ليس فوق سمواته على عرشه كما أخبر به عن نفسه واتفقت عليه رسله وجميع أهل السنة قال: وهذا من جهلهم بل هذا دليل لمن عقل عن الرسول على نقيض قولهم إذ من الأدب مع الملوك: أن الواقف بين أيديهم يطرق إلى الأرض ولا يرفع بصره إليهم فما الظن بملك الملوك سبحانه وسمعته يقول في نهيه عن قراءة القرآن في الركوع والسجود: إن القرآن هو أشرف الكلام وهو كلام الله وحالتا الركوع والسجود حالتا ذل وانخفاض من العبد فمن الأدب مع كلام الله: أن لا يقرأ في هاتين الحالتين ويكون حال القيام والانتصاب أولى به.
(ومن الأدب مع الله: أن لا يستقبل بيته ولا يستدبره عند قضاء الحاجة كما ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث أبي أيوب وسلمان وأبي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم والصحيح: أن هذا الأدب: يعم الفضاء والبنيان كما ذكرنا في غير هذا الموضع.
(ومن الأدب مع الله: في الوقوف بين يديه في الصلاة: وضع اليمنى على اليسرى حال قيام القراءة ففي الموطأ لمالك عن سهل بن سعد: أنه من السنة و: كان الناس يؤمرون به ولا ريب أنه من أدب الوقوف بين يدي الملوك والعظماء فعظيم العظماء أحق به.(6/458)
(ومنها: السكون في الصلاة وهو الدوام الذي قال الله تعالى فيه: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23]
قال عبد الله بن المبارك عن ابن لهيعة: حدثني يزيد بن أبي حبيب: أن أبا الخير أخبره قال: سألنا عقبة بن عامر عن قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} أهم الذين يصلون دائما قال: لا ولكنه إذا صلى لم يلتفت عن يمينه ولا عن شماله ولا خلفه.
قلت: هما أمران الدوام عليها والمداومة عليها فهذا الدوام والمداومة في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج: 34] وفسر الدوام بسكون الأطراف والطمأنينة وأدبه في استماع القراءة: أن يلقي السمع وهو شهيد وأدبه في الركوع: أن يستوي ويعظم الله تعالى حتى لا يكون في قلبه شيء أعظم منه ويتضاءل ويتصاغر في نفسه حتى يكون أقل من الهباء.
(فصلٌ في منزلة اليقين:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة اليقين
«وهو من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد»، وبه تفاضل العارفون وفيه تنافس المتنافسون وإليه شمر العاملون وعمل القوم إنما كان عليه وإشاراتهم كلها إليه «وإذا تزوج الصبر باليقين وُلِدَ بينهما حصول الإمامة في الدين»
قال الله تعالى وبقوله يهتدي المهتدون: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة: 24]
(وخص سبحانه أهل اليقين بالانتفاع بالآيات والبراهين فقال وهو أصدق القائلين: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ) [الذرايات: 20]
(وخص أهل اليقين بالهدى والفلاح من بين العالمين فقال: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 4 - 5]
(وأخبر عن أهل النار بأنهم لم يكونوا من أهل اليقين فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32]
«فاليقين روح أعمال القلوب» التي هي أرواح أعمال القلوب التي هي من أعمال الجوارح وهو حقيقة الصديقية وهو قطب هذا الشأن الذي عليه مداره.(6/459)
وإن الله بعدله وقسطه جعل الروح والفرح في الرضا واليقين وجعل الهم والحزن في الشك والسخط.
(واليقين قرين التوكل ولهذا فسر التوكل بقوة اليقين
والصواب: أن التوكل ثمرته ونتيجته ولهذا حسن اقتران الهدى به قال الله تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79] فالحق: هو اليقين وقالت رسل الله: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [إبراهيم: 12] ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نورا وإشراقا وانتفى عنه كل ريب وشك وسخط وهم وغم فامتلأ محبة لله وخوفا منه ورضي به وشكرا له وتوكلا عليه وإنابة إليه فهو مادة جميع المقامات والحامل لها. أهـ
(سبحان من أيقظ المتقين، وخلع عليهم خلع اليقين، وألحقهم بتوفيقه بالسابقين، فباتوا في جلباب الجد متسابقين.
(رزق الله المتقين اليقين فشهدوا، ونصبوا أقدامهم في الليل فسهروا، وأراهم عيب الدنيا فرفضوها وزهدوا.
مسألة: هل اليقين كسبي أم موهبي؟
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
واختلف فيه: هل هو كسبي أو موهبي فقيل: هو العلم المستودع في القلوب يشير إلى أنه غير كسبي.
وقال سهل: اليقين من زيادة الإيمان ولا ريب أن الإيمان كسبي، والتحقيق: «أنه كسبي باعتبار أسبابه موهبي باعتبار نفسه وذاته» أهـ
((أقوال السلف في اليقين:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
(قال ذو النون: اليقين يدعو إلى قصر الأمل وقصر الأمل يدعو إلى الزهد والزهد يورث الحكمة وهي تورث النظر في العواقب قال: وثلاثة من أعلام اليقين: قلة مخالطة الناس في العشرة وترك المدح لهم في العطية والتنزه عن ذمهم عند المنع وثلاثة من أعلامه أيضا: النظر إلى الله في كل شيء والرجوع إليه في كل أمر والاستعانة به في كل حال.
(وقال الجنيد: اليقين هو استقرار العلم الذي لا ينقلب ولا يحول ولا يتغير في القلب.
(وقال ابن عطاء: على قدر قربهم من التقوى أدركوا من اليقين وأصل التقوى مباينة النهي وهو مباينة النفس فعلى قدر مفارقتهم النفس: وصلوا إلى اليقين.(6/460)
(وقيل: اليقين هو المكاشفة وهو على ثلاثة أوجه: مكاشفة في الأخبار ومكاشفة بإظهار القدرة ومكاشفة القلوب بحقائق الإيمان ومراد القوم بالمكاشفة: ظهور الشيء للقلب بحيث يصير نسبته إليه كنسبة المرئي إلى العين فلا يبقى معه شك ولا ريب أصلا وهذا نهاية الإيمان وهو مقام الإحسان وقد يريدون بها أمرا آخر وهو ما يراه أحدهم في برزخ بين النوم واليقظة عند أوائل تجرد الروح عن البدن ومن أشار منهم إلى غير هذين: فقد غلط ولبس عليه.
(وقال السري: اليقين سكونك عند جولان الموارد في صدرك لتيقنك أن حركتك فيها لا تنفعك ولا ترد عنك مقضيا.
(وقال أبو بكر الوراق: اليقين ملاك القلب وبه كمال الإيمان وباليقين عرف الله وبالعقل عقل عن الله.
(وقال الجنيد: قد مشى رجال باليقين على الماء ومات بالعطش من هو أفضل منهم يقينا.
(وقال أبو بكر الوراق: اليقين على ثلاثة أوجه: يقين خبر ويقين دلالة ويقين مشاهدة يريد بيقين الخبر: سكون القلب إلى خبر المخبر وتوثقة به وبيقين الدلالة: ما هو فوقه: وهو أن يقيم له مع وثوقه بصدقه الأدلة الدالة على ما أخبر به وهذا كعامة أخبار الإيمان والتوحيد والقرآن فإنه سبحانه مع كونه أصدق الصادقين يقيم لعباده الأدلة والأمثال والبراهين على صدق أخباره فيحصل لهم اليقين من الوجهين: من جهة الخبر ومن جهة الدليل فيرتفعون من ذلك إلى الدرجة الثالثة وهي يقين المكاشفة بحيث يصبر المخبر به لقلوبهم كالمرئي لعيونهم فنسبة الإيمان بالغيب حينئذ إلى القلب: كنسبة المرئي إلى العين وهذا أعلى أنواع المكاشفة وهي التي أشار إليها عامر بن عبد قيس في قوله: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا وليس هذا من كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا من قول علي كما يظنه من لا علم له بالمنقولات.
إلى قدام بكل خطوة إلى وراء مراحل إلى قدام تنقطع فيها أعناق المطي. أهـ
(معنى حق اليقين وعين اليقين وعلم اليقين:
سئل شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله عن قوله تعالى حق اليقين وعين اليقين و علم اليقين فما معنى كل مقام منها وأي مقال أعلى؟(6/461)
فأجاب: الحمد لله رب العالمين، للناس في هذه الأسماء مقالات معروفة منها أن يقال علم اليقين ما علمه بالسماع والخبر والقياس والنظر وعين اليقين ما شاهده وعاينه بالبصر وحق اليقين ما باشره ووجده وذاقه وعرفه بالاعتبار فالأولى مثل من أخبر أن هناك عسلا وصدق المخبر أو رأى آثار العسل فاستدل على وجوده والثاني مثل من رأى العسل وشاهده وعاينه وهذا أعلى كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس المخبر كالمعاين
كتاب الزهد والورع والعبادة، الجزء 1، صفحة 77.
(فصلٌ في منزلة الأنس بالله:
((قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الأنس بالله
قال صاحب المنارل رحمه الله: وهو روح القرب ولهذا صدر منزلته بقوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) [البقرة: 186] فاستحضار القلب هذا البر والإحسان واللطف: يوجب قربه من الرب سبحانه وتعالى وقربه منه يوجب له الأنس و الأنس ثمرة الطاعة والمحبة فكل مطيع مستأنس وكل عاص مستوحش كما قيل:
فإن كنت قد أوحشتك الذنوب فدعها إذا شئت واستأنس
والقرب يوجب الأنس والهيبة والمحبة. أهـ
((كل طائع مستأنس، وكل عاص مستوحش:
من أبرز العلامات الدالة على صحة القلب وسلامته أن صاحبه يأنس بالله وطاعته وذكره سبحانه.
((قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
ومن علامات صحة القلب: أن لا يفتر عن ذكر ربه، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره، إلا بمن يدله عليه، ويذكره به، ويذاكره بهذا الأمر" إغاثة اللهفان.
فالأنس بالله تعالى روح القرب منه جل وعلا، والأنس بالله تعالى حالة وجدانية تحمل على التنعم بعبادة الرحمن، والشوق إلى لقاء ذي الجلال والإكرام ..
((قال أحد السلف:" مساكين أهل الدنيا، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها. قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره وطاعته".
وكما أنه لا نسبة لنعيم ما في الجنة إلى نعيم النظر إلى وجهه الأعلى سبحانه، فلا نسبة لنعيم الدنيا إلى نعيم محبته ومعرفته والشوق إليه والأنس به، بل لذة النظر إليه سبحانه تابعة لمعرفتهم به ومحبتهم له، فإن اللذة تتبع الشعور والمحبة، فكلما كان المحب أعرف بالمحبوب وأشد محبة له كان التذاذه بقربه ورؤيته ووصوله إليه وأنسه به أعظم.(6/462)
فالأنس بالله مقام عظيم من مقامات الإحسان الذي قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح:" أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
((قال أحد السلف:" من عمل لله على المشاهدة فهو عارف، ومن عمل على مشاهدة الله إياه فهو مخلص".
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعليقا على الحديث والأثر:" فهذان مقامان: أحدهما: الإخلاص وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه واطلاعه عليه وقربه منه.
الثاني: أن يعمل العبد على مشاهدة الله بقلبه وهو أن يتنور قلبه بنور الإيمان" " استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس".
يشير ابن رجب رحمه الله بكلامه هذا إلى منزلة المراقبة ومقام المشاهدة أو المعاينة كما يسميه بعض أهل العلم.
ف"المشاهدة" ناتجة عن معاينة آثار أسمائه وصفاته تعالى في الكون، بحيث يترتب عن ذلك تنور القلب وتعلقه بالرب، وهذه المنزلة هي التي قال عنها النبي عليه الصلاة والسلام:" أن تعبد الله كأنك تراه" فهي رؤية حكمية.
أما "المراقبة" فهي العلم واليقين باطلاع الحق سبحانه على ظاهر العبد وباطنه، وهي التي قال فيها عليه الصلاة والسلام:" فإن لم تكن تراه فإنه يراك ".
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله بعد كلامه السابق:" يتولد عن هذين المقامين: الأنس بالله والخلوة لمناجاته وذكره واستثقال ما يشغل عنه من مخالطة الناس والاشتغال بهم" " استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس".
فمنزلة المراقبة إذا تحققت في العبد حصل له الأنس بالله تعالى.
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله:" متى تحققت المراقبة حصل الأنس" صيد الخاطر.
ووجه ذلك أنه إذا حصلت المراقبة يحصل القرب من الرب سبحانه، والقرب منه جل وعلا يوجب الأنس.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله:" والقرب يوجب الأنس والهيبة والمحبة" مدارج السالكين.
(ويقول كذلك رحمه الله:" وقوة الأنس وضعفه على حسب قوة القرب فكلما كان القلب من ربه أقرب كان أنسه به أقوى، وكلما كان منه أبعد كانت الوحشة بينه وبين ربه أشد" المدارج.
وإذا ارتقى العبد إلى تحقيق مقام المشاهدة والمعاينة لآثار أسمائه وصفاته في الكون بحيث يتنور قلبه حصل الأنس، ووجهه أن منشأ الأنس بالله تعالى ومبدؤه التعبد بمقتضى أسمائه تعالى وصفاته بعد التفهم لمعانيها.
((قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
:(6/463)
" هذا الأنس المذكور مبدؤه الكشف عن أسماء الصفات التي يحصل عنها الأنس ويتعلق بها كاسم الجميل، والبر، واللطيف، والودود، والحليم، والرحيم، ونحوها" المدارج.
قال ابن عطاء رحمه الله:" المعرفة على ثلاثة أركان: الهيبة، والحياء، والأنس".
وزيادة في الإيضاح نقول: أن التفهم لمعاني الأسماء والصفات يحمل العبد على معاملة ربه بالمحبة والرجاء وغيرهما من أعمال القلوب.
قال الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله:"فهم معاني أسماء الله تعالى وسيلة إلى معاملته بثمراتها من: الخوف، والرجاء، والمهابة، والمحبة، والتوكل، وغير ذلك من ثمرات معرفة الصفات" شجرة المعارف والأحوال.
ويقول العلامة السعدي رحمه الله:"إن معرفة الله تعالى تدعوا إلى محبته وخشيته ورجائه وإخلاص العمل له، وهذا عين سعادة العبد، ولا سبيل إلى معرفة الله إلا بمعرفة أسمائه وصفاته، والتفقه في فهم معانيها .. " تيسير الكريم الرحمن.
وتحقق كل من الرجاء في الله الذي يحمل على الطمع في الوصول إليه تعالى، وتحقيق مقام المحبة الذي يحمل على الشوق إليه سبحانه وغيرهما مما يتولد عن التفهم للأسماء والصفات والتعبد بمقتضى ذلك كما مر قريبا، سبيل إلى الأنس والاستئناس بالله.
قال ابن القيم رحمه الله:" .. ولما كان الطلب بالهمة قد يعرى عن الأنس، وكان المحب لا يكون إلا مستأنسا بجمال محبوبه، وطمعه بالوصول إليه.
فمن هذين يتولد الأنس: وجب أن يكون المحب موصوفا بالأنس" المدارج.
وعليه فالعبد إذا ارتقى بالعلم النافع والعمل الصالح إلى مقام الإحسان واستقرت قدمه فيه أنس بالله تعالى والتذ بطاعته وذكره.
قال العلامة السعدي رحمه الله مقررا ذلك في منظومته واصفا أهل السير إلى الله والدار الآخرة:
عبدوا الإله على اعتقاد حضوره****فتبوءوا في منزل الإحسان.
ثم قال شارحا رحمه الله:" وهذه المنزلة من أعظم المنازل وأجلها، ولكنها تحتاج إلى تدريج للنفوس شيئا فشيئا.
ولا يزال العبد يعودها نفسه حتى تنجذب إليها وتعتادها فيعيش العبد قرير العين بربه، فرحا مسرورا بقربه".
ولذا فإن الأنس بالله تعالى ثمرة الطاعات والتقرب إلى رب الأرض والسماوات كما قال ابن القيم رحمه الله:" فكل طائع مستأنس، وكل عاص مستوحش كما قيل:
فإذا كنت قد أوحشتك الذنو****ب فدعها إذا شئت واستأنس " المدارج.
((قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:(6/464)
إنما يقع الأنس بتحقيق الطاعة لأن المخالفة توجب الوحشة والموافقة مبسطة المستأنسين، فيا لذة عيش المستأنسين، ويا خسارة المستوحشين" صيد الخاطر.
قيل للعابد الرباني وهيب بن الورد رحمه الله: هل يجد طعم العبادة من يعصيه؟ قال: "لا، ولا من يهم بالمعصية".
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول:" من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية".
وعليه كان السلف الصالح الكرام، والأئمة الأعلام يتشوقون إلى فعل الطاعات، و يحرصون على تقديم القربات لرب الأرض والسماوات، ولا يسأمون من العبادات لأنسهم برب البريات.
قال الوليد بن مسلم رأيت الأوزاعي يثبت في مصلاه يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس.
وهذا عامر بن عبد القيس التابعي لما أدرك في هذه الحياة الأنس بالطاعة بكى عند احتضاره، فقيل له ما يبكيك؟ قال: لا أبكي خوفا من الموت أو جزعا منه ولا حرصا على الدنيا، قال: أبكي على ظمأ الهواجر وقيام الليل.
وسئل الشعبي عن الإمام الأسود بن يزيد النخعي فقال: كان صواما قواما حجاجا.
وهذا أبو عائشة الإمام التابعي مسروق بن الأجدع كان يصلي حتى تتورم قدماه.
قالت زوجته: فربما جلست أبكي مما أراه يصنع بنفسه.
ولما حضرته الوفاة قال: ما آسى على شيء إلا على السجود لله تعالى.
وقال عطاء: رأيت مصلى مرة الهمداني مثل مبرك البعير.
إنه التابعي الجليل مرة الطيب، ويقال مرة الخير لعبادته وخيره وعلمه.
يقول الذهبي عنه: بلغنا أنه سجد لله تعالى حتى أكل التراب جبهته.
((واعلم أنه من علامات مرض القلوب، وضعف التعلق بعلام الغيوب عدم طاعة الله بالاستئناس، مع الأنس بالناس.
حتى قال أحد السلف:" علامة الإفلاس الاستئناس بالناس".
قال الإمام ابن القيم رحمه الله:" من فقد أنسه بالله بين الناس ووجده في الوحدة فهو صادق ضعيف، ومن وجده بين الناس وفقده في الخلوة فهو معلول، ومن فقده بين الناس وفي الخلوة فهو ميت مطرود، ومن وجده في الخلوة وفي الناس فهو المحب الصادق القوي في حاله" الفوائد.
فاحرص على بلوغ منزلة الإحسان وفق العلم الأثري، والهدي النبوي، حتى ترزق الأنس عند الطاعات، ولا تستوحش إذا خلوت بذكر رب الأرض والسماوات، فليس العجب ممن لم يأنس بالله ولم يرزق التوفيق، وإنما العجب ممن أدرك ذلك وانحرف عنه إلى بنيات الطريق.(6/465)
(فصلٌ في منزلة الذكر:
[*] (عناصر الفصل:
(الذِكْرُ من منازلِ السائرين إلى رب العالمين:
(تعريف الذكر:
(فضل الذكر:
(هل الذكر أفضل أم الدعاء؟
(هل قراءة القرآن أفضل أم الذكر؟
(التحذير من ترك الذكر:
(أنواع الذكر:
((كنوز الأذكار:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(الذِكْرُ من منازلِ السائرين إلى رب العالمين:
((قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الذكر
وهي منزلة القوم الكبرى التي منها يتزودون وفيها يتجرون وإليها دائما يترددون و الذكر منشور الولاية الذي من أعطيه اتصل ومن منعه عزل وهو قوت قلوب القوم الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورا وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنه صارت بورا وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق وماؤهم الذي يطفئون به التهاب الطريق ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منهم القلوب والسبب الواصل والعلاقة التي كانت بينهم وبين علام الغيوب إذا مرضنا تداوينا بذكركم فنترك الذكر أحيانا فننتكس به يستدفعون الآفات ويستكشفون الكربات وتهون عليهم به المصيبات إذا أظلمهم البلاء فإليه ملجؤهم وإذا نزلت بهم النوازل فإليه مفزعهم فهو رياض جنتهم التي فيها يتقبلون ورءوس أموال سعادتهم التي بها يتجرون يدع القلب الحزين ضاحكا مسرورا ويوصل الذاكر إلى المذكور بل يدع الذاكر مذكورا وفي كل جارحة من الجوارح عبودية مؤقتة و الذكر عبودية القلب واللسان وهي غير مؤقتة بل هم يأمرون بذكر معبودهم ومحبوبهم في كل حال: قياما وقعودا وعلى جنوبهم فكما أن الجنة قيعان وهو غراسها فكذلك القلوب بور وخراب وهو عمارتها وأساسها وهو جلاء القلوب وصقالها ودواؤها إذا غشيها اعتلالها وكلما ازداد الذاكر في ذكره استغراقا: ازداد المذكور محبة إلى لقائه واشتياقا وإذا واطأ في ذكره(7/1)
قلبه للسانه: نسي في جنب ذكره كل شيء وحفظ الله عليه كل شيء وكان له عوضا من كل شيء به يزول الوقر عن الأسماع والبكم عن الألسن وتنقشع الظلمة عن الأبصار زين الله به ألسنة الذاكرين كما زين بالنور أبصار الناظرين فاللسان الغافل: كالعين العمياء والأذن الصماء واليد الشلاء وهو باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عبده ما لم يغلقه العبد بغفلته قال الحسن البصري رحمه الله: تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة وفي الذكر وقراءة القرآن فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مغلق، وبالذكر: يصرع العبد الشيطان كما يصرع الشيطان أهل الغفلة والنسيان قال بعض السلف: إذا تمكن الذكر من القلب فإن دنا منه الشيطان صرعه كما يصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان فيجتمع عليه الشياطين فيقولون: ما لهذا فيقال: قد مسه الإنسي وهو روح الأعمال الصالحة فإذا خلا العمل عن الذكر كان كالجسد الذي لا روح فيه.
(تعريف الذكر:
الذكر: ضد الغفلة والنسيان، والغفلة: ترك الذكر عمداً، وأما النسيان: فتركه عن غير عمد.
ولذا فالغفلة مذكورة في القرآن الكريم في معرض النهي والتحذير كما في قوله تعالى (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) [الأعراف:20]
وكقوله جل وعلا: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (الكهف/28)
بينما النسيان ليس كذلك لعدم صدوره عن قصد ومن هنا جاء التوجيه القرآني العظيم {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (الكهف/24)
والذكر يشمل معنيين:
الأول: بمعنى التذكر واستحضار الشيء في الذهن كقولك ذكرت حادثة كذا وكذا إذا استحضرتها في ذهنك، ومرت دقائقها بمخيلتك، وهذا المعنى ضد النسيان، ومنه قوله تعالى {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران/135)
فأصل الذكر: التنبه بالقلب للمذكور والتيقظ له ومنه قوله تعالى: {َ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ِ} [البقرة/40]
أي تذكروها [المفهم7/ 6].(7/2)
والثاني: هو النطق باللسان، وهو استعمال غالب، فإذا قلت: فلان يواظب على الأذكار، أي يتلفظ بها ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} (الأحزاب/41)
والذكر عندنا هنا يشتمل على المعنيين، فالذكر بمعنى التذكر مقصود به تذكر الله واستحضار عظمته وخشيته، ومراقبته ونعمته حتى يكون القلب له معظماً، ومنه خائفاً وله مراقباً، ولنعمته شاكراً.
وكذلك الذكر اللساني إذ هو ثمرة ذلك، وشاهد عليه، ومترجم عنه، فمن عظّم الله في قلبه سبّح وهلّل وكبّر بلسانه، ومن خافه تضرع ودعا " وسمي القول باللسان ذكراً؛ لأنه دلالة على الذكر القلبي، غير أنه قد كثر اسم الذكر على القول اللساني حتى صار هو السابق إلى الفهم " [المفهم7/ 6].
وذكر الله هو أعظم ما فتق عنه لسان وتدبره جنان.
ولا بد من اجتماع اللسان والجنان حتى يؤتي الذكر ثماره ويُحَقِّقُ آثاره.
فقد وصف الله تعالى أولي الألباب بأنهم الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران /191]
فهم جمعوا بين ذكر الله تعالى في كل أحوالهم ودعائه، والتفكر في خلق السماوات والأرض.
(فضل الذكر:(7/3)
ذكر الله نعمة كبرى، ومنحة عظمى، فالذكر أمره عظيم ونفعه عميم فهو يشرح الصدور وينير القلوب ويرفع الدرجات خفيف على اللسان ثقيل في الميزان حبيب إلى الرحمن، وهو قوت القلوب، ويمحو الله به الإثم والحوب، وسببٌ عظيمٌ لنيل رضا علاّم الغيوب، فالذكرُ قوت قلوب الذاكرين وهو قرة عيون الموحدين وهو عدتهم الكبرى وسلاحهم الذي لا يبلى وهو دواء أسقامهم الذي متى تركوه أصيبت منهم المقاتل فانتكسوا على أعقابهم خاسرين، والذكرُ حياة القلب وسبيلٌ لانشراح الصدر، والذكرُ قُرَة العيون، وسرور النفوس، إن ذكر الإنسان لربه يملأ قلبه سرورا ويكسو وجهه نورا، والذكر روح الحياة، وحياة الأرواح، ذكر الله تعالى أشرف ما يخطر بالبال، وأطهر ما يمر بالفم و أفضل ما يتخلق به الإنسان وينطق به اللسان وتتحرك به الشفتان، وأسمى ما يتعلق به العقل المسلم الواعي، به تُسْتَجْلَبُ النِعَم، وبمثله تُسْتَدفَعُ النِقَم، فبالذكر يستدفع الذاكرون الآفات ويستكشفون الكربات وتهون عليهم المصيبات فإليه الملجأ إذا ادْلَهَمَت الخطوب وإليه المفزع عند توالي الكوارث والكروب به تنقشع الظلمات والأكدار وتحل الأفراح والمسرات.(7/4)
والذكر له فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم، وله فضائل لا تحصى، وثمرات لا تعد، وللذكر أهمية كبرى، وثمرات جليلة، وفضائل عظيمة، وأسرار بديعة، وهو طريق النجاة، وَسُلَّمُ الوصول، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين، فهو نعمة عظمى ومنحة كبرى، والذكر هو المنزلة الكبرى التي منها يتزود العارفون، وفيها يتجرون وإليها دائمًا يترددون، وهو قوت قلوب العارفين التي متى فارقتها صارت الأجساد لها قبورًا، وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنه صارت بورًا، وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق، وماؤهم الذي يطفئون به التهاب الطريق ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منهم القلوب، والسبب الواصل والعلاقة التي كانت بينهم وبين علام الغيوب، به يستدفعون الآفات ويستكشفون الكربات وتهون عليهم به المصيبات، إذا أظلَّهم البلاء فإليه ملجؤهم، وإذا نزلت بهم النوازل فإليه مفزعهم، فهو رياض جنتهم التي فيها يتقلبون، ورؤوس أموال سعادتهم التي بها يتجرون، يدع القلب الحزين ضاحكًا مسرورًا، ويوصل الذاكر إلى المذكور، بل يدع الذاكر مذكورًا، وفي كل جارحة من الجوارح عبودية مؤقتة (والذكر) عبودية القلب واللسان وهي غير مؤقتة، بل هم يؤمرون بذكر معبودهم ومحبوبهم في كل حال، قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، فكما أن الجنة قيعان وهو غراسها، فكذلك القلوب بور خراب وهو عمارتها وأساسها، وهو جلاء القلوب وصقالتها ودواؤها إذا غشيها اعتلالها، وكلما ازداد الذاكر في ذكره استغراقًا ازداد محبة إلى لقائه للمذكور واشتياقًا، وإذا واطأ في ذكره قلبه للسانه نسى في جنب ذكره كل شيء، وحفظ الله عليه كل شيء، وكان له عوضًا من كل شيء، وبالذكر يزول الوقر عن الأسماع، والبكم عن الألسن، وتنقشع الظلمة عن الأبصار، زيَّن الله به ألسنة الذاكرين، كما زين بالنور أبصار الناظرين؛ فاللسان الغافل كالعين العمياء، والأذن الصماء، واليد الشلاء، والذكر هو باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عبده، ما لم يغلقه العبد بغفلته.
[*] قال ابن القيم رحمه الله:
سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟!
والإنسان مهما قوي فهو ضعيف، ومهما علم فعلمه قاصر، وحاجته إلى ربه أشد من حاجته إلى الماء والهواء،(7/5)
ومن المعلوم شرعاً أن قلوب البشر طراً كغيرها من الكائنات الحية، التي لا غنى لها عن أي مادة من المواد التي بها قوام الحياة والنماء، ويتفق العقلاء جميعاً أن القلوب قد تصدأ كما يصدأ الحديد، وأنها تظمأ كما يظمأ الزرع، وتجف كما يجف الضرع، ولذا فهي تحتاج إلى تذليل وري، يزيلان عنها الأصداء والظمأ، والمرء في هذه الحياة محاط بالأعداء من كل جانب، نفسه الأمارة بالسوء تورده موارد الهلكة، وكذا هواه وشيطانه، فهو بحاجة ماسة إلى ما يحرزه ويؤمنه، ويسكن مخاوفه، ويطمئن قلبه، وإن من أكثر ما يزيل تلك الأدواء، ويحرز من الأعداء ذكر الله والإكثار منه لخالقها ومعبودها، فهو جلاء القلوب وصقالها، ودواءها إذا غشيها اعتلالها،
(ولهذا زين الله به ألسنة الذاكرين كما زين بالنور أبصار الناظرين، فاللسان الغافل
كالعين العمياء، والأذن الصماء واليد الشلاء.
وهو باب الله الأعظم بينه وبين عبده ما لم يغلقه العبد بغفلته،
[*] قال الحسن البصري رحمه الله تعالى:
" تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة وفي الذكر وقراءة القرآن، فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مغلق، له لذة لا يدركها إلا من ذاقها
[*] قال مالك بن دينار: وما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله عز وجل، فليس شيء من الأعمال أخف مئونة منه ولا أعظم لذة ولا أكثر فرحة وابتهاجا للقلب من ذكر الله.
، عَبِّر عنها أحدهم فقال: "والله إنا لفي لذة لو علمها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف".(7/6)
ما أشد حاجة العباد إليه، وما أعظم ضرورتهم إليه، لا يستغني عنه المسلم بحال من الأحوال، وإن الله أمرنا بالإكثار من ذكره لشدة حاجة العبد إليه وعدم استغنائه عنه طرفة عين فأي لحظة خلا فيها العبد عن ذكر الله عز وجل كانت عليه حسرة يوم القيامة ولا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ الحديد , وجلاؤه بالذكر فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء , فإذا ترك صدئ , فإذا ذكر جلاه , وصدأ القلب بأمرين: بالغفلة والذنب. وجلاؤه بشيئين: بالاستغفار والذكر. فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته كان الصدأ متراكبا على قلبه. وصدأه بحسب غفلته , وإذا صدئ القلب لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه , فيرى الباطل في صورة الحق , والحق في صورة الباطل. لأنه لما تراكم عليه الصدأ أظلم فلم تظهر فيه صورة الحقائق كما هي عليه , فإذا تراكم عليه الصدأ واسوَّد وركبه الران فَسَدَ تصورُه وإدراكه فلا يقبل حقا ولا ينكر باطلا وهذا أعظم عقوبات القلب.
[*] قال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه:
لكل شيء جلاء، وإن جلاء القلوب ذكر الله عز وجل، ولا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرهما، وجلاؤه بالذكر، فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء، فإذا ترك الذكر صدئ، فإذا ذكره جلاه.
وصدأ القلب بأمرين: بالغفلة والذنب، وجلاؤه بشيئين: بالاستغفار والذكر.
ومن كانت الغفلة أغلب أوقاته كان الصدأ متراكباً على قلبه بحسب غفلته فحري بنا أن لا يفتُر لساننا من ذكر الله تعالى.
[*] قال ابن القيم رحمة الله:
حقيقاً بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله وأن لا يزال لهجا بذكره.
فالغفلة واتباع الهوى يطمسان نور القلب ويعميان بصيرته
قال تعالى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُط [الكهف:28]
[*] قال ابن القيم بعد تفسيره الآية:
فحري بالعبد إذا أراد أن يقتدي برجل فلينظر هل هو من أهل الذكر أو من الغافلين وهل الحاكم عليه الهوى أو الوحي فإن كان الحاكم عليه الهوى وهو من أهل الغفلة كان أمره فرطا، وَفُسِّرَ معنى فرطا بالتضييع أي ضيع أمره الذي يجب أن يلزمه و يقوم به وبه رشده وفلاحة.
(والذكر أفضل الطاعات وأجل القربات.
وقد أمر الله تعالى الطائفة المؤمنة بأن يذكروا الله تعالى ذكراً كثيراً قال تعالى (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ اللّهَ ذِكْراً كَثِيراً، وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً)
[الأحزاب:41، 42](7/7)
[*] قال الإمام الطبري رحمه الله: يقول تعالى ذكره يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله اذكروا الله بقلوبكم، وألسنتكم، وجوارحكم ذكرا كثيرا فلا تخلو أبدانكم من ذكره في حال من أحوال طاقتكم ذلك، وسبحوه بُكْرَةً وَأَصِيلاً. اهـ. (1).
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
الذكر هو العبادة المطلوبة بلا حد ينتهي إليه {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً} وبلا وقت تختص به {ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى} وبلا حال تستثنى منه {الذي يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم}.
وقوله تعالى: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً: أي أول النهار وآخره.
وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ: الصلاة من الله الثناء، ومن الملائكة الدعاء.
[*] قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: أي من رحمته بالمؤمنين ولطفه بهم، أن جعل من صلاته عليهم وثنائه، وصلاة ملائكته ودعائهم، ما يخرجهم من ظلمات الذنوب والجهل، إلى نور الإيمان والتوفيق والعلم والعمل، فهذا أعظم نعمة أنعم بها على عباده الطائعين، تستدعي منهم شكرها، والإكثار من ذكر الله الذي لطف بهم ورحمهم. اهـ. (2)
فالذكر والشكر جماع السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة.
[*] وقال ابن قيم الجوزية في تعليقه على هذه الآية: فهذه الصلاة منه تبارك وتعالى ومن ملائكته إنما هى سبب الإخراج لهم من الظلمات إلى النور، وإذا حصلت لهم الصلاة من الله تبارك وتعالى وملائكته وأخرجوهم من الظلمات إلى النور فأي خير لم يحصل لهم وأي شر لم يندفع عنهم فيا حسرة الغافلين عن ربهم ماذا حرموا من خيره وفضله وبالله التوفيق. اهـ. (3)
[*] (وإليك غيضٌ من فيض مما ورد في فضل الذكر جملةً وتفصيلا:
(أولاً فضل الذكر جملةً:
(1) الذكر سبب في جلب المغفرة والأجر العظيم:
(2) أن الله تعالى يذكر من يذكره:
3) الذكر حياة القلوب:
4) أصحاب الذكر هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم:
5) وبين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الذاكر لله تعالى يفوز بمعية الله تعالى، ومن كان معه الله فمن عليه!
6) بين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أهل الذكر هم أهل السبق:
7) ورغَّبنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الاجتماع على الذكر:
8) وحذر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من خلو أي مجلسٍ من ذكر الله تعالى:
__________
(1) تفسير الطبري (22/ 17).
(2) تيسير الكريم الرحمن تفسير سورة الأحزاب.
(3) الوابل الصيب (1/ 100).(7/8)
9) ذكر الله تعالى خير أعمالنا وأزكاها عند الله تعالى وأرفعها في درجاتنا وخيرٌ من إنفاق الذهب والفضة.
(10) ذكر الله هو أساس العبودية لله:
(11) الإكثار من ذكر الله تعالى براءةٌ من النفاق:
(12) الذكر حصن حصين وحرزٌ متين من الشيطان اللعين:
(13) الذكر طمأنينة وسكينة:
(14) إن الذاكرين هم أهل الانتفاع بآيات الله وهم أولو الألباب:
(15) ذكر الله تعالى شفاء ورحمة للمؤمنين:
(16) الذكر غراس الجنة:
(18) الذكر سبب لرفع البلاء:
(19) الذكر سبب في جلب الخيرات:
(20) الذكر سبب في تفريج الكرب:
(21) الذكر سبب في حفظ الذرية من الشيطان:
(22) ذكر الله تعالى أكبر الأعمال بنص القرآن الكريم:
(23): أنه يحط الخطايا ويذهبها:
(24) أنه سبب لنزول الرحمة والسكينة:
(25) الذكر كنزٌ من كنوز الحسنات:
(26) أن دوام ذكر الرب تعالى يوجب الأمان من نسيانه الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده:
(27) أن الذكر يوجب صلاة الله تعالى وملائكته على الذاكر، ومن صلى الله تعالى عليه وملائكته فقد أفلح كل الفلاح، وفاز كل الفوز:
(28) أن الله عز وجل يباهي بالذاكرين ملائكته:
(29) أن إدامته تنوب عن الطاعات وتقوم مقامها:
(30) أن الذكر يعطي الذاكر قوة في قلبه وفي بدنه:
(31) صلة الذكر بالعبادات أوثق:
(32) الذكر أنجى عملاً للنجاة من عذاب الله عز وجل.
(33) ذكر الله سلاح مقدم على أسلحة الحروب الحسية التي لا تكلم:
(34) الذكر رأس الشكر فما شكر الله تعالى من لم يذكره:
(35) مجالس الذكر سبب عظيم بل هي سبب رئيسي من أسباب حفظ اللسان:
(36) أن الذكر ينبه القلب من نومه ويوقظه من سنته:
(37) أن الذكر مع البكاء في الخلوة سبب لإظلال الله للعبد يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
(38) الذكر يوازى ثواب صلاة الضحى صلاة الضحى هي صدقة عن 360 مفصل في جسم الإنسان:
(39) الذكر سبب لنيل شفاعة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(40) الذكر أفضل بطاقة في الميزان:
(41) الذكر يكفر الذنوب وإن كانت مثل زبد البحر:
(41) الذكر يجزئ عن القرآن في حق من لا يحسن القرآن:
(42) حلق الذكر هي رياض الجنة:
(ثانياً فضل الذكر تفصيلا:
(1) الذكر سبب في جلب المغفرة والأجر العظيم:
قال تعالى: (وَالذّاكِرِينَ اللّهَ كَثِيراً وَالذّاكِرَاتِ أَعَدّ اللّهُ لَهُم مّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)
[الأحزاب / 35](7/9)
أي: كثيراً. ففيه الأمر بالذكر بالكثرة والشدة لشدة حاجة العبد إليه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، فالإنسان لا يستغني لا يستغني عن ربه طرفة عين ولا أقل من ذلك، ولهذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يردد كثيرا: " لا تكلني إلى نفسي طرفة عين.
(حديث أبي بكرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين و أصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت.
فقيراً جئتُ بابك يا إلهي ......... ولستُ إلى عبادك بالفقيرِ
غنياً عنهمُ بيقينِ قلبي ........... وأطمعُ منك في لفضلِ الكبيرِ
الهي ما سألتُ سواك عونا ...... فحسبي العونُ من ربٍ قديرِ
الهي ما سألتُ سواك عفوا ..... فحسبي العفوُ من ربٍ غفورِ
الهي ما سألتُ سواك هديا ..... فحسبي الهديُ من ربٍ بصيرِ
إذا لم أستعن بك يا الهي ...... فمن عونيِ سواك ومن مجيرِ
إن الفرار إلى الله، واللجوء إليه في كلِ حالٍ وفي كل كربٍ وهم، هو السبيلُ للتخلصَ من ضعفنا وفتورنا وذلنا و هواننا.
يا من يرى ما في الضمير و يسمعوا
أنت المعد لكل ما يتوقعٌ
يا من يرجى للشدائد كلها
يا من إليه المشتكي و المفزعٌ
يا من خزائن رزقه في قول كن فيكون
و الخير كله عندك أجمعٌ
مالي سواء فقري إليك وسيلة
فالافتقار إليك فقري إليك أرفعٌ
مالي سواء قرعي لبابك حيلة
فلئن رددت أي باب أقرعٌ
و من ذا الذي أدعوه و أهتف باسمه
إن كان فضلك عن فقيرك يمنعٌ
إن في هذه الدنيا مصائبَ ورزايا، ومحناً وبلايا، آلامُ تضيقُ بها النفوس، ومزعجاتُ تورث الخوفَ والجزع، كم في الدنيا من عينٍ باكيةٍ؟
وكم فيها من قلب حزين؟
وكم فيها من الضعفاءِ والمعدومين، قلوبُهم تشتعل، ودموعُهم تسيل؟ هذا يَشْكُ علةً وسقما، عزيزٌ قد ذل، وغنيٌ افتقر، وصحيحٌ مرض، رجل يتبرم من زوجه وولده، وآخرُ يشكُ ويئنُ من ظلمِ سيده.
وثالثٌ كسدة وبارت تجارته، شاب أو فتاة يبحث عن عروس، وطالب يشكو كثرة الامتحانات والدروس.
هذا مسحور وذاك مدين، وأخر ابتليَ بالإدمان والتدخين، ورابعُ أصابه الخوفُ ووسوسةُ الشياطين.
وذاك حاجةً وفقرا.
وآخر هماً وقلقا.
تلك هي الدنيا، تضحكُ وتبكي، وتجمعُ وتشتت، شدةُ ورخاءُ وسراءٌ وضراءُ.
وصدق الله العظيم: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ). [الحديد / 23](7/10)
(2) أن الله تعالى يذكر من يذكره:
قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة /152]
[*] قال الحسن البصري في معناها: "قال: فاذكروني فيما افترضت عليكم أذكركم فيما أوجبت لكم على نفسي"،
[*] وقال سعيد بن جبير: "فاذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي ورحمتي".
وإذا كان الإنسان يُسَرَّ كثيراً حين يبلغه أن ملكاً من الملوك ذكره في مجلسه فأثنى عليه، فكيف يكون حاله إذا ذكره الله تعالى ملك لملوك، في ملأ خير من الملأ الذين يذكره فيهم؟
فيا له من شرف وفضل؛ أن يذكر الربُّ العظيمُ العبدَ الضعيف، أن يذكر الربُّ القويُّ العبدَ الضعيفَ، أن يذكر الربُّ الغنيُّ العبدَ الفقيرَ. إنه ذكر ما بعده ذكر؛ فاذكروني بالتذلل أذكركم بالتفضل. اذكروني بالأسحار أذكركم بالليل والنهار. اذكروني بالجهد أذكركم بالجود. اذكروني بالثناء أذكركم بالعطاء. اذكروني بالندم أذكركم بالكرم. اذكروني في دار الفناء أذكركم في دار البقاء. اذكروني في دار المحنة أذكركم في دار النعمة. اذكروني في دار الشقاء أذكركم في دار النعماء
[*] يقول يحيى بن معاذ:
"يا غفول يا جهول، لو سمعت صرير الأقلام في اللوح المحفوظ وهي تكتب اسمك عند ذكرك مولاك لمِتَّ شوقًا إلى مولاك".
ويبلغ الكرم منتهاه ويبلغ التفضل ذروته، حين يخبرنا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقول رب العزة سبحانه وتعالى: فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملٍ خيرٌ منهم، وإن تقَّرب إليَّ شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إليَّ ذراعا تقربت إليه باعا و إن أتاني مشيا أتيته هَرْوَلَةً.
(وأنا معه إذا ذكرني): وهذه المعية هي معية خاصة وهي معية الحفظ والتثبيت والتسديد كقوله سبحانه لموسى وهارون: {إنني معكما أسمع وأرى} [طه/ 46]
وكقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل /128] فهي معية مع المتقين والمحسنين. وقوله: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة /153] فهي معية مع الصابرين بحفظهم وكلاءتهم وحفظهم وتوفيقهم. وهي غير المعية العامة، التي هي معية الله تعالى مع الخلق كلهم. كما قال تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) [الحديد/4](7/11)
مع الخلق بإحاطته ونفوذ قدرته ومشيئته وعلمه وإطلاعه ونفوذ بصره فيهم، فهي تشمل الخلق كلهم، مؤمنهم وكافرهم، فالله -تعالى- معهم بالعلم لا يخفى عليه شيء من عباده. كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المجادلة /7]
فافتتح أول الآية بالعلم وختمها بالعلم، فدل على أن المعية معية العلم والإحاطة، والاطلاع والقدرة والمشيئة.
فيجتمع في حق المؤمن المعية الخاصة والعامة، فهو مع الذاكرين بعلمه وإحاطته وإطلاعه، ومعهم معية خاصة بتوفيقه وإعانته، وينفرد الكافر بالمعية العامة.
(ولكن الإنسان من طبعه الغفلة والنسيان. وما أتعسه إذا نسي ربه؛ فيكون الجزاء من جنس العمل كما أخبر تعالى {نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة /67]
وما أقساها عقوبة! وما أشده جزاء! فيا شقاء من نسيه الله؛ فلن يكون له ذكر في الأرض ولا في الملأ الأعلى؛ فهو من الضائعين في الدنيا والآخرة.
ولذلك قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه / 124:126]
فنسيان آيات الله في الدنيا سبب لنسيان العبد في الآخرة. والأشد من ذلك أن يُنسي اللهُ العبدَ نفسه؛ ولذلك حذر سبحانه وتعالى عباده فقال: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر /19]
3) الذكر حياة القلوب:(7/12)
الذكر حياة القلوب، والغفلة مواتها، فالذكر يحي القلوب بإحياء المعاني الإيمانية، ودوام الصلة بالله، فبفضل ذكر الله يصبح القلب لينا لا قاسيا، ويكون من أصحاب القلوب الحية التي بحياتها تحيا جميع الجوارح وتستنير، ولن يكون هناك انشغال بغير الله تعالى، فذكر الله تعالى سبب للحياة الكاملة التي يتعذر معها أن يرمي صاحبها بنفسه في أتون الجحيم، أو غضب وسخط الرب العظيم، وعلى الضد من ذلك التارك للذكر، الناسي له؛ فهو ميت لا يبالي الشيطان أن يلقيه في أي مزبلة شاء.
قال تعالى: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرّحْمََنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف/36]
(ونحن لا نقصد بالحياة هنا الحياة المحسوسة التي يشترك فيها الإنسان مع باقي الكائنات الحية؛ وإنما نقصد بها حياة الروح وروح الحياة، حياة القلب وقلب الحياة، نقصد الحياة التي عبر عنها الله تعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال /24]
فهذه الحياة متحققة بالاستجابة لأمر الله ورسوله. وقد أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت".
(حديث أبي موسى الأشعري في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت.
ومن مظاهر هذه الحياة اطمئنان القلب ويقينه في الله تعالى، واستكمال الآية الكريمة آنفة الذكر: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}. [الأنفال /24]
وهذا يعني أن هناك علاقة قوية ومباشرة بين هذه الحياة والقلب؛ فحيلولة الله بين المرء وقلبه تعني موات هذا القلب وعدم انتفاعه بالموعظة.
وذكر الله عز وجل هو الطريق الرئيسي لتحقيق هذا اليقين القلبي، ومصداق ذلك قول الله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد/28]
ومن أول صفات المخبتين {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال /2]
(وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ): إنها الارتعاشة الوجدانية التي تنتاب القلب المؤمن حين يذكر الله عز وجل في أمر أو نهي، فتتغشاه جلالة، وتنتفض مخافته ويتمثل عظمة الله ومهابته إلى جانب تقصيره هو وذنبه، فينبعث إلى العمل والطاعة".(7/13)
وتوعد سبحانه وتعالى القلب الميت الذي لا يتأثر بالذكر {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الزمر /22]
وعلاقة اطمئنان القلب بالذكر أن العبد إذا ذكر من أسماء الله وصفاته: الرزاق الفتاح الوهاب الكريم الباسط؛ اطمأن على رزقه. وإذا ذكر من أسمائه تعالى: الغفور الرحيم التواب العفو؛ اطمأن على مغفرة ذنوبه وتكفير سيئاته. وإذا ذكر من أسمائه: العليم الخبير السميع البصير؛ اطمأن على أن ما أصابه فإنما هو بقدر الله وعلمه. وإذا ذكر من أسمائه: القادر المنتقم الجبار؛ اطمأن على قدرة الله تعالى على الانتقام من المتجبرين ورد كيد المعتدين ودفع الظالمين.
وهكذا فالعيش مع أسماء الله وصفاته يكسب القلب طمأنينة ويقينا، وينزل على النفس بردا وسلاما. ويكتمل اليقين القلبي بالتغلب على الشيطان الذي أخذ على نفسه العهد أن يضل الإنسان، وأن يوسوس له ويزعزع إيمانه ويقينه في ربه.
إذن فحياة القلب الذي ينصلح الجسد بصلاحه ويفسد بفساده متحققة بذكر الله، والتفكر في أسمائه وصفاته، والعيش في رحابه.
ثم نأتي إلى نوع آخر من الحياة في رحاب الذكر؛ ألا وهو حياة اللسان. وتتمثل هذه الحياة في الوصية الغالية التي وصى بها الحبيب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحد أصحابه قائلا: "لا يزال لسانك رطبا بذكر الله"
(حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) قال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به قال لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله.
[*] قال صاحب تحفة الأحوذي:
إن شرائع الإسلام قد كثرت علي: أي غلبت علي بالكثرة حتى عجزت عنها لضعفي فأخبرني بشيء قال الطيبي التنكير في بشيء للتقليل المتضمن لمعنى التعظيم كقوله تعالى ورضوان من الله أكبر، ومعناه أخبرني بشيء يسير مستجلب لثواب كثير.
أتشبث به: أي أتعلق به وأستمسك ولم يرد أنه يترك شرائع الإسلام رأسا بل طلب ما يتشبث به بعد الفرائض عن سائر ما لم يفترض عليه.
لا يزال لسانك رطباً بذكر الله تعالى: أي طريا مشتغلا قريب العهد منه وهو كناية عن المداومة على الذكر. اهـ. (1)
والرطوبة في الزرع علامة على النضارة والاخضرار والحياة، ورطوبة اللسان علامة على استمرار مقومات الحياة له، وعكس الرطوبة اليبس والجمود، وهو يعني التحجر والموت والقساوة.
__________
(1) تحفة الأحوذي (9/ 222).(7/14)
ومن مظاهر الحياة في رحاب الذكر حياة العينين، وعلامة هذه الحياة الدمع من خشية الله. كما ذكر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله "ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه".
[*] قال القرطبي رحمه الله تعالى:
"وفيض العين بحسب حال الذاكر وبحسب ما يكشف له؛ ففي حال أوصاف الجلال يكون البكاء من خشية الله، وفي حال أوصاف الجمال يكون البكاء من الشوق إليه".
[*] وقال بعض أهل العلم:
"من رأى مبتلى فدمعت عيناه فهو من الذاكرين الله؛ لأن من المبتلين إذا رآهم المؤمن تدمع عيناه؛ لأنه يذكر نعمة الله عليه فهذا كأنه ذكر الله بلسانه".
4) أصحاب الذكر هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم:
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن لله ملائكة يطوفون في الطرقات يلتمسون الذكر فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجاتكم فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا فيسألهم ربهم و هو أعلم منهم: ما يقول عبادي؟ فيقولون: يسبحونك و يكبرونك و يحمدونك و يمجدونك فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا و الله ما رأوك فيقول: كيف لو رأوني؟ فيقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة و أشد لك تمجيدا و أكثر لك تسبيحا فيقول: فما يسألوني؟ فيقولون: يسألونك الجنة فيقول: و هل رأوها؟ فيقولون: لا و الله يا رب ما رأوها فيقول: فكيف لو أنهم رأوها؟ فيقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا و أشد لها طلبا و أعظم فيها رغبة قال: فمم يتعوذون؟ فيقولون: من النار فيقول الله: هل رأوها؟ فيقولون: لا و الله يا رب ما رأوها فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارا و أشد لها مخافة فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم فيقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة! فيقول: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم.
(وفي الحديث من الفوائد:
فضيلة الذكر وفضيلة مجالسه والجلوس مع أهله وإن لم يشاركهم، وفضيلة مجالسة الصالحين وبركتهم.
قوله: فضلاً: قال العلماء: أنهم ملائكة زائدون على الحفظة فهؤلاء السيارة لا وظيفة لهم وإنما مقصودهم حلق الذكر.
وقوله: "هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم"(7/15)
[*] قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في الوابل الصيب: فهذا من بركتهم على نفوسهم وعلى جليسهم فلهم نصيب من قوله: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ}. (1) فهكذا المؤمن مبارك أين حل، والفاجر مشئوم أين حل، فمجالس الذكر مجالس الملائكة، ومجالس الغفلة مجالس الشياطين وكل مضاف الى شكله واشباهه فكل امرئ يصير الى ما يناسبه. اهـ. (2)
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
فهؤلاء الذين هم من أفضل أولياء الله كان مطلوبهم الجنة ومهربهم من النار. اهـ. (3)
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى:
قالوا والعمل على طلب الجنة والنجاة من النار مقصود الشارع من أمته ليكونا دائما على ذكر منهم فلا ينسونهما، ولأن الإيمان بهما شرط في النجاة، والعمل على حصول الجنة والنجاة من النار هو محض الإيمان.
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في السلسلة الصحيحة) قال: قلت يا رسول الله ما غنيمة مجالس الذكر؟ قال: "غنيمة مجالس الذكر الجنة".
الغنيمة: هو الفوز بالشيء وحيازته، وهو مافيه من الأجر والثواب.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله عز وجل لا يريدون بذلك إلا وجهه إلا ناداهم منادٍ من السماء أن قوموا مغفوراً لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات.
5) وبين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الذاكر لله تعالى يفوز بمعية الله تعالى، ومن كان معه الله فمن عليه!
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملٍ خيرٌ منهم، وإن تقَّرب إليَّ شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إليَّ ذراعا تقربت إليه باعا و إن أتاني مشيا أتيته هَرْوَلَةً.
6) بين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أهل الذكر هم أهل السبق:
ولأن روائع الفكر في مجامع الذكر سبق المفردون بنص السنة الصحيحة
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سبق المُفَرِدون، قالوا وما المفردون؟ قال الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.
وقد تضمن هذا الحديث غرر الفوائد، ودرر الفرائد، ولذلك سنسلكها قلائد تزين رياض الذاكرين.
__________
(1) سورة مريم الآية (31).
(2) الوابل الصيب (1/ 101).
(3) كتاب الزهد والورع والعبادة (1/ 135).(7/16)
(معنى المفردين:
قال ابن قتيبة: " الذين هلك أقرانهم وانفردوا عنهم فبقوا يذكرون الله تعالى "، وقال ابن الأعرابي: " فرد الرجل إذا تفقه واعتزل وخلا بمراعاة الأمر والنهي "، وأما الأزهري فقال: " هم المتخلقون من الناس بذكر الله تعالى " [انظر مسلم بشرح النووي17/ 4 والمفهم 7/ 9] والمقصود أنهم متميزون عن غيرهم، ومنفردين عن سواهم بخصلة مهمة جعلتهم السابقين ألا وهي كثرة الذكر.
[*] قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات يذكرون الله في أدبار الصلوات، وغدوًا وعشيًا أي صباحًا ومساءً، وفي المضاجع أي عند النوم، وكلما استيقظ من نومه، وكلما غدا أو راح من منزله أي في دخوله وخروجه والمعنى أنهم يذكرون الله في جميع أحوالهم.
[*] قال ابن الصلاح:
إذا واظب المسلم على الأذكار المأثورة الثابتة صباحا ومساءً، وفي الأوقات والأحوال المختلفة ليلا ونهارًا كان من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات، وفي الحديث الذي رواه الأربعة
(بيان حقيقة السابقين:
[*] قال الحافظ ابن رجب الحنبلي:
«ومن هذا السياق يظهر وجه ذكر السابقين في هذا الحديث؛ فإنه لما سبق الركب، وتخلف بعضهم؛ نبه على أن السابقين هم الذين يديمون ذكر الله، ويولعون به، ومن هذا المعنى قول عمر بن عبد العزيز ليلة عرفة بعرفة عند قرب الإفاضة: «ليس السابق اليوم من سبق بعيره، وإنما السابق من غفر له»
{تنبيه}: (حقيقة الانفراد عن الأقران والتميز عن الخلان المداومة على طاعة الرحمن؛ فإن المنفردين هم الذين هلك أقرانهم، وبقوا يذكرون الله.
ولذلك حض الله –سبحانه وتعالى- على المسارعة إلى الخيرات، واستباق الصالحات والتنافس في الطاعات؛ كما في قوله تعالى: (وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة/ 148]
وقوله تعالى: (وَسَارِعُوَاْ إِلَىَ مَغْفِرَةٍ مّن رّبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُهَا السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدّتْ لِلْمُتّقِينَ) [آل عمران/ 133]
وقوله تعالى قال تعالى: (لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَلََكِن لّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىَ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [المائدة / 48](7/17)
وأما التنافس في الدنيا فهو مشغلة عن طاعة الرحمن، وحبالة الشيطان، وحبها جامع لكل شر.
وإنما صار حب الدنيا رأس الخطايا ومفسداً للدين من وجوه:
أ- أن حبها يقتضي تعظيمها وهي حقيرة.
ب- أن حبها يجعلها غاية، فيصير يتوسل إليها بالأعمال التي جعلها الله وسائل إلى الدار والآخرة، فعكس الأمر، وقلب الحكمة.
ت- أن حبها يعترض بين العبد وفعل الخيرات.
ث- أن محبتها تجعلها أكبر هم العبد.
ج- أن محبتها يؤثرها على الآخرة.
فيا عباد الله لا تتخذوا الدنيا رباً فتتخذكم عبيداً، واعبروها ولا تعمروها، واعلموا أن أصل كل خطيئة حب الدنيا، ورب شهوة أورثت أهلها حزناً طويلاً، وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يجيء الموت فيأخذ بعنقه، فارض يا عبد الله بدنيء الدنيا مع سلامة الدين كما رضي أهل الدنيا بدنيء الدين مع سلامة الدنيا.
مسألة: متى يكون العبد من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات؟
يكون العبد من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات في الأحوال الآتية:
(1) إذا ذكر الله في جميع أحواله.
قال ابن عباس: المراد: يذكرون الله في أدبار الصلوات، وغدوًّا وعشيًّا، وفي المضاجع، وكلما استيقظ من نومه، وكلما غدا أو راح من منزله؛ ذكر الله تعالى»
(2) إذا ذكر الله قائمًا وقاعدًا وعلى جنب.
[*] قال مجاهد: «لا يكون من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات حتى يذكر الله قائمًا، وقاعدًا، ومضطجعًا».
(3) إذا استيقظ من الليل، وأيقظ أهله وصليا جميعًا،
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا أيقظ الرجل أهله فصليا -أو صلى- ركعتين جميعًا؛ كتبا في الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات.
7) ورغَّبنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الاجتماع على الذكر:
إلا الترمذي "إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا ركعتين جميعا، كتبا في الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات" ذكر ذلك النووي في الأذكار.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله و يتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة و غشيتهم الرحمة و حفتهم الملائكة و ذكرهم الله فيمن عنده.
(وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله): المراد به المسجد فإن بيوت الله هي المساجد قال الله تعالى (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [النور36/](7/18)
و قال تعالى (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) [الجن/18]
و قال تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [البقرة/114]
فأضاف المساجد إليه؛ لأنها موضع ذكره.
قوله (يتلون كتاب الله و يتدارسونه بينهم) يتلونه: يقرءونه و يتدارسونه أي: يدرس بعضهم على بعض.
(إلا نزلت عليهم السكينة و غشيتهم الرحمة و حفتهم الملائكة): نزلت عليهم السكينة يعني: في قلوبهم و هي الطمأنينة و الاستقرار، و غشيتهم الرحمة: غطتهم و شملتهم.
وحفتهم الملائكة: صارت من حولهم
و ذكرهم الله فيمن عنده أي: من الملائكة.
(وقد تضمن هذا الحديث غرر الفوائد، ودرر الفرائد
(فمن فوائد الحديث: فضيلة اجتماع الناس على قراءة القرآن لقوله - و ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله .. الخ.
(ومن فوائد الحديث: أن حصول هذا الثواب لا يكون إلا إذا اجتمعوا في بيت الله أي: في مسجد من المساجد لينالوا بذلك شرف المكان لأن أفضل البقاع مساجدها.
(ومن فوائد الحديث: بيان حصول هذا الأجر العظيم تنزل عليهم السكينة و هي الطمأنينة القلبية و تغشاهم الرحمة أي: تغطيهم و تحفهم الملائكة أي: تحيط بهم من كل جانب و يذكرهم الله فيمن عنده من الملائكة لأنهم يذكرون الله تعالى عن ملأ، و قد قال الله تعالى في الحديث القدسي -من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم-.
8) وحذر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من خلو أي مجلسٍ من ذكر الله تعالى:
(حديث أبي هريرة في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه إلا قاموا عن مثلِ جيفةِ حمار و كان لهم حسرة.
(معنى (إلا قاموا عن مثلِ جيفةِ حمار): أي مجلس نتن كجيفة حمار لخلوه من ذكر الله تعالى، لأن المجالس لا تعمرُ إلا بذكر الله تعالى.
(معنى (وكان لهم حسرة): أي كان هذا المجلس ندامة لهم يوم القيامة لخلوه من الذكر
9) ذكر الله تعالى خير أعمالنا وأزكاها عند الله تعالى وأرفعها في درجاتنا وخيرٌ من إنفاق الذهب والفضة.
(حديث أبي الدر داء في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ألا أنبئكم بخير أعمالكم و أزكاها عند مليككم و أرفعها في درجاتكم وخيرٌ لكم من إنفاق الذهب و الورق و خيرٌ لكم من أن تلقوْا عدوكم فتضربوا أعناقهم و يضربوا أعناقكم؟ قالوا بلى، قال: ذكر الله.(7/19)
أزكاها: أكثرها ثواباً وأطهرها،
وأرفعها: أزيدها.
مليككم: أي ربكم ومالككم.
وأرفعها في درجاتكم: أي منازلكم في الجنة.
والورِق: بكسر الراء الفضة.
فيه بيان فضل الذكر وأنه خير من الضرب بالسيف في سبيل الله عز وجل ونفقة الأموال في سبيل الله.
[*] قال المناوي في فيض القدير: لأن سائر العبادات من الإنفاق ومقاتلة العدو وسائل ووسائط يتقرب بها إلى اللّه تعالى والذكر هو المقصود الأسمى ورأس الذكر قول لا إله إلا اللّه وهي الكلمة العليا وهي القطب الذي يدور عليه رحى الإسلام والقاعدة التي بني عليها أركان الدين والشعبة التي هي أعلى شعب الإيمان بل هي الكل وليس غيره.
الله أكبر ما أعظم هذا الأجر! إنه أعظم من إنفاق الأموال وإزهاق الأرواح في سبيل الله، وتأمل كيف عرض النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا الحديث بطريقة تبرر وتؤكد عظمة هذا الأجر.
(لقد بدأ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالسؤال الذي يلفت النظر ويسترعي الانتباه، وجعل مضمون السؤال فيما يهم المؤمنين؛ حتى تتهيج النفوس وتتحفز المشاعر، ويكونوا بالإجابة متعلقين، وبالعلم بها شغوفين، وللعمل مبادرين، فقال لذلك كله: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم ... ).
(ثم انتقل بالمقارنة الملموسة بأعمال معروفة بعظمتها وكثرة أجرها، وجعل الذكر أكثر منها أجراً فقال: (وخير لكم من أعطاء الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم) فقارن الذكر وأجره بالإنفاق المالي، وهو عبادة متعدية النفع عظيمة الجر لاحتياجها إلى مجاهدة النفس، ومغالبة شحها وشهوتها في التملك والاستزادة، وكذلك قارن الذكر بالجهاد العملي الذي تبذل في المهج والأرواح.
ثم في آخر الحديث، وبعد تطلع الصحابة وتشوقهم قال لهم: (ذكر الله عز وجل)، فكانت طريقة عرضه أبلغ في إبراز المعنى والتأكيد على أهمية الذكر ورفعة مكانته.
ويؤكد مكانة الذكر أيضاً الحديث الآتي:
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من عجز منكم عن الليل أن يكابده وبخل بالمال أن ينفقه وجبن عن العدو أن يجاهده فليكثر ذكر الله.
وقد بينت السنة الصحيحة أن أفضل أهل كل عمل أكثرهم فيه ذكرا لله عز وجل فأفضل الصائمين أكثرهم ذكرا لله عز وجل وأفضل المتصدقين أكثرهم ذكرا لله تعالى وأفضل الحجيج أكثرهم ذكرا لله تعالى وهكذا سائر الأعمال(7/20)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: جاء الفقراء إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ولهم فضلٌ من أموالاٍ يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا أحدثكم بما إن أخذتم به أدركتم من سبقكم ولم يدركم أحدٌ بعدكم وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيهم إلا من عمل مثله؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين، فاختلفنا بيننا فقال بعضنا نسبح ثلاثاً وثلاثين ونحمد ثلاثاً وثلاثين ونكبِّر ثلاثاً وثلاثين فرجعت إليه فقال: تقول سبحان الله والحمد لله والله أكبر حتى يكون منهن كلهن ثلاثاً وثلاثين.
أهل الدثور: أي أهل الأموال والدثور: بضم الدال وجمع دثر بفتحها وهو المال الكثير.
والبُضْع: هو بضم الباء ويطلق على الجماع ويطلق على الفرج نفسه، هو الجماع وقيل الفرج نفسه.
[*] قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:" وفي بضع أحدكم صدقة" وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله تعالى به أو طلب ولد صالح أو إعفاف نفسه أو إعفاف الزوجة ومنعها جميعاً من النظر إلى الحرام أو الفكر فيه أو الهم به أو غير ذلك من المقاصد الصالحة.
(وقد ظنّ الفقراء أن لا صدقة إلا بالمال، وهم عاجزون عن ذلك، فأخبرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ جميع أنواع فعل المعروف والإحسان صدقةٌ، وذكر في مقدّمة ذلك هؤلاء الكلمات الأربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
فالذكر أفضل العمل و أسهل عمل، ولذلك تجد الذاكر في فراشه يسبق الجواد المنفق والشجاع المقاتل لأن قلبه ذاكر لمولاه سبحانه وتعالى فهنيئا لمن طابت ألسنتهم بذكر الله هنيئا لمن انشرحت صدورهم بذكر الله هنيئا لمن عمرت أوقاتهم بذكر الله هنيئا لمن سبقوا ذكر الناس وهو الدواء واغتياب الناس وهمز الناس وغمز الناس وعبدوا وذكروا رب الناس وسبحوا إله الناس وقدسوا ملك الناس.
لقد آن لنا أن نراجع الثواني والدقائق التي تمر:
دقات قلب المرء قائلة له ... إن الحياة دقائق وثواني
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها ... فالذكر للإنسان عمر ثاني(7/21)
ولسائل أن يسأل: ما سر تفضيل الذكر على سائر أنواع وأعمال البر مع أنه خفيف على اللسان ولا يحصل به تعب على الأبدان؟
والجواب: أن ذلك لأسباب عديدة منها ما يلي:
(أولاً) أن الذكر يورث يقظة القلب وحياته وصلاحه،
ولذلك قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:في الحديث الآتي:
(حديث أبي موسى الأشعري في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت.
(حديث أبي موسى الأشعري في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت.
[*] قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: إن الذي يوصف بالحياة والموت حقيقة هو الساكن لا الموطأ، وإن إطلاق الحي والميت في وصف البيت إنما يراد به ساكن البيت، فشبه الذاكر بالحي الذي ظاهره متزين بنور الحياة وباطنة بنور المعرفة وغير الذاكر بالبيت الذي ظاهره عاطل وباطنه باطل، وقيل موقع التشبيه بالحي والميت لما في الحي من النفع لمن يواليه والضر لمن يعاديه وليس ذلك في الميت. اهـ
فالذكر حياة القلوب وصلاحها فالذكر للقلب كالماء للزرع بل كالماء للسمك لا حياة له إلا به. فإذا حييت القلوب وصَلَحت صلحت الجوارح واستقامت، ومن المعلوم شرعاً أن القلب ينصلح الجسد بصلاحه ويفسد بفساده كما بينه النبي في الحديث الآتي:
(حديث النعمان بن بشير الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الحلال بين و الحرام بين و بينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه و دينه و من وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا و إن لكل ملك حمى ألا و إن حمى الله تعالى في أرضه محارمه ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب.
(ثانياً) أن الله سبحانه جعل لسائر العبادات مقداراً، وجعل لها أوقاتاً محدودة، ولم يجعل لذكر الله مقداراً ولا وقتاً، وأمر بالإكثار منه بغير مقدار، ولأن رءوس الذكر هي الباقيات الصالحات.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: خذوا جُنَّتَكم من النار قولوا: سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر فإنهن يأتين يوم القيامة مقدمات و معقبات و مجنبات و هن الباقيات الصالحات.(7/22)
(ثالثاً) لأنه ثبت بالسنة الصحيحة أن الذكر أنجى عملاً من عذاب الله تعالى:
(حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما عمل امرؤ بعمل أنجى له من عذاب الله عز وجل من ذكر الله.
فيه أن ذكر الله تعالى من أفضل الأعمال، وأنه ينجي من عذاب الله تعالى.
ثم ليعلم كل مسلم صادق أن المؤثر النافع، هو الذكر باللسان على الدوام مع حضور القلب، لأن اللسان ترجمان القلب؛ والقلب حافظة مستحفظة للخواطر والأسرار، ومن شأن الصدر أن ينشرح بما فيه من ذكر، ويلذ على اللسان، ولا يكتفي بمخاطبة نفسه به في خلواته حتى يفضي به بلسانه، متأولاً قول الله عز وجل: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ [الأعراف:205]
(فأما الذكر باللسان والقلب لاهٍ فهو قليل الجدوى:
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ادعوا الله و أنتم موقنون بالإجابة و اعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلبٍ غافلٍ لاه.
(وكذا حضور القلب في لحظة بالذكر، والذهول عنه لحظات كثيرة، هو كذلك قليل الجدوى، لأن القلب لا يخلو من الالتفات إلى شهوات الدنيا، ومن المعلوم بداهة أن المتلبس لا يصل سريعاً.
(ولذا فإن حضور القلب على الدوام أو في أكثر الأوقات هو المقدم على غيره من العبادات، بل به تشرف سائر العبادات، وهو غاية ثمرات العبادات العملية، ولذا فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حذر من أن تنفض المجالس دون أن يذكر الله عز وجل فيها
(حديث أبي هريرة في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه إلا قاموا عن مثلِ جيفةِ حمار و كان لهم حسرة.
فهذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمقت مجالس الغافلين، وينهى عن كل تجمع خلا من ذكر الله، وأن المجالس التي ينسى فيها ذكر الله وتنفض عن لغط طويل حول مطالب العيش وشهوات الخلق؛ في تهويش وتشويش وهمز ولمز، هي مجالس نتنة، لا شيء فيها يستحق الخلود، إنما الذي يخلد ما اتصل بالله سبحانه وتعالى.
(ولذا فقد حثنا صلوات الله وسلامه على كفارة المجلس:(7/23)
(حديث ابن مسعود في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كفارة المجلس أن يقول العبد: سبحانك اللهم و بحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك أستغفرك وأتوب إليك.
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم ربنا و بحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك و أتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك.
(اشتمل هذا الدعاء على ثلاثة أمور:
الأول: تنزيه الله عن كل نقص وحمده على كل فعل.
الثاني: إثبات الألوهية لله تعالى وحده لا شريك له وذلك من تمام العبادة لله وتمام المدح له.
الثالث: الرجوع والاستغفار والتوبة لمن ملكها وهو الله تعالى.
وثمرة هذا المدح والاستغفار والتوبة كفارة لمن قالها.
(10) ذكر الله هو أساس العبودية لله، لأنه عنوان صلة العبد بخالقه في جميع أوقاته وأحواله، ولقد وَصَفَ الله تَعَالَى أُولِي الألباب فقال: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191]
قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران/191]
(حديث عمران بن حُصين الثابت في الصحيحين) قال: كانت بي بواسير فسألت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة فقال: صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب.
أَيْ أن عباد الله تعالى لا يَقْطَعُونَ ذِكْره فِي جَمِيع أَحْوَالهمْ بِسَرَائِرِهِمْ وَضَمَائِرهمْ وَأَلْسِنَتهمْ، إن العابد لله تعالى هو الذي يكون نطقه ذكرًا، وصمته فكرًا، ونظره عبرًا؛ يذكر الله تعالى سراً وجهاراً، ليلاً ونهاراً، فهو إن تكلم كان عابدًا لله، وإن صمت كان عابدًا لله، وإن نظر كان عابدًا لله، يتقلب في نعمة ذكر الله تعالى قائماً وقاعداً وعلى جنب.(7/24)
ولقد كان رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه كان أذكر الناس لربه ومولاه جل في علاه فأنفاسه وجمله وكلامه ودروسه وخطبه وفتاويه وإرشاداته و نصائحه وكل ما قال أو أمر أو نهى أو قص على الناس كله ذكر له سبحانه وتعالى فهو سيد العابدين وأذكر الذاكرين لمولاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يذكر الله في كل أحيانه قائماً وقاعداً وعلى جنب.
(حديث عائشة في صحيح مسلم) قالت: كان رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الله يذكر الله على كلِ أحيانه.
(ارتباط بالله حياة، واللجوء إليه نجاة، والقرب منه فوز ورضوان، والبعد عنه ضلال وخسران.
(11) الإكثار من ذكر الله تعالى براءةٌ من النفاق:
فصفة المنافقين أنهم لا يذكرون الله إلا قليلاً بنص القرآن الكريم.
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء /142]
(لأجل هذا ختم المولى تبارك وتعالى سورة "المنافقون" بالتحذير من الغفلة عن ذكر الله عز وجل مخالفةً لسبيل المنافقين فقال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون * وَأَنفِقُواْ مِن مّا رَزَقْنَاكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلآ أَخّرْتَنِيَ إِلَىَ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصّدّقَ وَأَكُن مّنَ الصّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخّرَ اللّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنافقون من 11:9]
فعليكم عباد الله بالإكثار من ذكره سبحانه وعمارةِ الأوقات والأزمان بالأذكار والأوراد المطلقة والمقيدة كقول: لا إله إلا الله فإنها من خير الأقوال وأحبها إلى الله أو قول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فإنها خير مما طلعت عليه الشمس وغير ذلك من الأقوال التي تنمّى بها الحسنات وترفع بها الدرجات وتوضع السيئات, فإن قصرت همتك وضعفت قوتك عن تلك المنازل الكبار فلا أقل من أن تحافظ على الأذكار المؤقتة والمقيدة.
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:(7/25)
وأقل ذلك أي ما ينبغي على العبد المحافظة عليه من الأذكار أن يلازم العبد الأذكار المأثورة عن معلم الخير وإمام المتقين - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كالأذكار المؤقتة في أول النهار وآخره وعند أخذ المضجع وعند الاستيقاظ من المنام وأدبار الصلوات. والأذكار المقيدة مثل ما يقال عند الأكل والشرب واللباس والجماع ودخول المنزل والمسجد والخلاء والخروج من ذلك وعند المطر والرعد وغير ذلك.
وشيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية له قصص وأخبار في الذكر فمرة يجلس من صلاة الفجر مكانه في مجلسه في المسجد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم يقول لأصحابه وطلابه هذه غذوتي ولو لم أتغذ سقطت قواي يعني هذا مثل الإفطار له.
هذا هو غذاء الروح وهو بلسم للنفس للجسم غذاء لكن غذاء الروح أعظم
فقوت الروح أرواح المعاني ... وليس بأن أكلت ولا شربت
إذا ما لم يفدك العلم خيرا ... فليتك ثم ليتك ما علمت
كان شيخ الإسلام ابن تيمية يسبح كثيرا ويقول إنها تصعب علي المسألة فأستغفر الله ألف مرة فيفتحها الله علي وكان لسانه يتمتم بذكر الله فيقول له أصحابه يا أبا العباس ما تفتر فيقول قلبي كالسمكة إذا خرجت من الماء ماتت وأنا إذا تركت الذكر مات قلبي وكان يكرر سورة الفاتحة في الصباح حتى يتعالى النهار فقالوا له في ذلك فقال أنزل الله مائة وأربعة عشر كتابا جمعها في أربعة كتب في الزبور والتوراة والإنجيل والقرآن ثم جمعها في القرآن ثم جمعها في الفاتحة ثم جمعها في إياك نعبد وإياك نستعين فكان يكرر هذه السورة التي هي أفضل سورة في كتاب الله عز وجل.
[*] قال ابن مسعود رضي الله عنه:
في قوله تعالى اتقوا الله حق تقاته)) قال ((أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسي ويشكر فلا يكفر.
[*] وقال الحسن رحمه الله:
أحب عباد الله إلى الله أكثرهم له ذكرا واتقاهم قلبا.
[*] قال الربيع بن أنس عن بعض أصحابه:
"علامة حب الله كثرة ذكره؛ فإنك لن تحب شيئًا إلا تكثر ذكره"،
[*] وقال الموصلي:
"المحب لله لا يغفل عن ذكره طرفة عين"،
[*] وقال إبراهيم الجنيد:
"كان يقال من علامة المحب لله دوام الذكر بالقلب واللسان، وقلما ولع المرء بذكر الله إلا أفاد منه حب الله ".
[*] قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: كان لأبي هريرة رضي الله تعالى عنه ألف عقدة في خيط ألف عقدة يسبح بها وقال أسبح بقدر ديتي وكان يسبح في اليوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة كل يوم،
[*] قال ابن رجب رحمه الله تعالى:(7/26)
وكان يسبح خالد بن معدان العابد الزاهد مائة ألف تسبيحة قال ذلك في كتابه جامع العلوم والحكم قال فلما مات وشيعه الناس وكان وليا كبيرا وعابدا زاهدا اقتربوا به من القبر فأخذته الملائكة من الناس ووضعته في القبر غفر الله له ورحمه الله.
[*] ذكر ابن القيّم في الجواب الكافي:
أن العبد ليأتي يوم القيامة بسيئات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله تعالى وما اتصل به.
وشكى رجل إلى الحسن البصري رحمه الله قسوة في قلبه فقال له: أذبه بذكر الله.
{تنبيه}: ( ... الذاكرون الله مولعون بذكر الله تعالى، لا ينقطعون عنه،
(ولذلك لوجوه عدة:
أ- أن الذاكر لله لا يغيب محبوبه عن قلبه، فلو كلف أن ينسى ذكره لما قدر، ولو كلف أن يكف عن ذكره لما صبر.
ب- كلما قويت المعرفة بالله صار الذكر يجري على لسان الذاكر من غير كلفة، ولذلك يلهم أهل الجنة التسبيح كما يلهمون النفس.
ت- لأن ذكر المحبين على خلاف ذكر الغافلين، فذكر الله لذة قلوب العارفين، والمحبون يستوحشون من كل شاغل يشغل عن الذكر، فلا شيء أحب إليهم من الخلوة بحبيبهم.
ث- كلما قوي حال المحب لم يشغله عن الذكر بالقلب واللسان، فهو بين الخلق بجسمه، وقلبه معلق بالملأ الأعلى.
جسمي معي غير أن الروح عندكم فالجسم في غربة والروح في وطن (2).
(نتائج الأفكار بآثار الإكثار من الأذكار:
أ- الثبات على الإسلام والأمن في مواطن الخوف؛ كما في قوله -تعالى-: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً} [الأنفال: 45].
ب- سبب الفلاح والنجاح؛ كما في قوله -تعالى-: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10]
ت- سبب للمغفرة والأجر العظيم، كما في قوله -تعالى-: {إِنَّ المُسْلِمِين وَالمُسْلِمَاتِ} إلى قوله -تعالى-: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيمًا} [الأحزاب: 35]
ث- يعطي الذاكر قوة:
قال الإمام ابن قيم الجوزية في «الوابل الصيب»(7/27)
(ص 185 - 186): «إن الذكر يعطي الذاكر قوة، حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لا يطيق فعله بدونه، وقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- في مشيته وكلامه وإقدامه وكتابته أمرًا عجيبًا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة أو أكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمرًا عظيمًا.
وقد علَّم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنته فاطمة وعليًّا -رضي الله عنهما- أن يسبحا كل ليلة إذا أخذا مضجعهما ثلاثًا وثلاثين، ويحمدا ثلاثًا وثلاثين، ويكبرا أربعًا وثلاثين؛ لما سألته الخادم، وشكت إليه ما تقاسيه من الطحن والسعي، والخدمة، فعلمها ذلك، وقال: «إنه خير لكما من خادم».
(حديث علي الثابت في الصحيحين) أن فاطمة أتت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى – وبلغها أنه قد جاءه رقيق – فلم تصادفه فذكرت ذلك لعائشة فلما جاء أخبرته عائشة، قال فجاء وقد أخذنا مضاجعنا فذهبنا نقوم له فقال على مكانكما فقعد بيني وبيننا حتى وجدت برد قدمه على بطني فقال ألا أدلكما على خيرٍ مما سألتما، إذا أخذتما مضاجعكما - أو أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين واحمدا ثلاثا وثلاثين وكبِّرا أربعاً وثلاثين فهو خير لكما من خادم.
(ولا يزال المرء مُكْثِرَاً من ذكر الله تعالى حتى يظهر ذلك على جوارحه، بل إذا رؤي ذكر الله.
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أولياء الله تعالى: الذين إذا رءوا ذكر الله تعالى.
قال أبو عوانة: رأيت محمد بن سيرين في السوق فما رآه أحد إلا ذكر الله تعالى.
وقال غسان بن الفضل: كان بشر بن منصور من الذين إذا رؤوا ذكر الله، وإذا رأيت وجهه ذكرت الآخرة.
(12) الذكر حصن حصين وحرزٌ متين من الشيطان اللعين:
من تأمل نصوص الوحيين؛ كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ علم منهما أن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، وتقسو كالحجارة، وتظمأ كما يظمأ الزرع؛ وأنها في حاجة إلى ما يزيل عنها الصدأ، ويلين قسوتها، ويروي ظمأها.
وهذا القلب المتقلب محاط بأعداء كثر، من النفس والهوى والشيطان، ولعاعة الدنيا.
فهذا يصيبه بالصدأ، وذاك يقسيه، وثالث يظمئه، حتى يُخْشَى عليه من العمى، أو الموت،
{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج/46)(7/28)
والقلب في البدن بمنزلة الملك فأي وجهة توجه، كانت الجوارح تبعاً له.
(ومن هنا نعلم أن هذا القلب يحتاج إلى حرز يحميه، وحصن يؤيه، وليس ثم حرز أأمن، ولا حصن أمكن؛ من ذكر الله جل وعلا.
وقد جعل الله للذكر فائدة الحفظ للذاكر من وسواسة الشيطان، همزه ولمزه ونفخه، فلن يقترب الشيطان من الإنسان، ولن يكون قرينا له، أو مشاركا له في طعام أو شراب، أو أي عمل من الأعمال إلا إذا غفل عن ذكر الله، فمن خلى قلبه ولسانه من ذكر الله لزمه الشيطان ملازمة الظل.
قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [سورة الحجر/42]
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
على قدر غفلة العبد عن الذكر يكون بعده عن الله.
وقال أيضا: أن الغافل بينه وبين الله عز وجل وحشه لا تزول إلا بالذكر.
قال تعالى: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرّحْمََنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف/36]
[*] قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما:
[الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله خنس](7/29)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: وكلني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة). قال: قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة، وعيالا فرحمته فخليت سبيله، قال: (أما إنه قد كذبك، وسيعود). فعرفت أنه سيعود، لقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنه سيعود). فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يا أباهريرة ما فعل أسيرك). قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا، فرحمته فخليت سبيله، قال: (أما إنه كذبك، وسيعود). فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات تزعم لا تعود، ثم تعود، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}. حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما فعل أسيرك البارحة). قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: (ما هي). قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}. وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير - فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة). قال: لا، قال: (ذاك شيطان).(7/30)
(حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني اسرائيل أن يعملوا بهن فكأنه أبطأ بهن فأوحى الله الى عيسى: إما أن يبلغهن أو تبلغهن فأتاه عيسى فقال له انك أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني اسرائيل أن يعملوا بهن فإما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن فقال له يا روح الله ان أخشى ان سبقتني أن أعذب أو يخسف بي فجمع يحيى بني اسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد فقعد على الشرفات فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن , ثم ذكر التوحيد والصلاة والصيام والصدقة
ثم ذكر الخامسة: وأمركم بذكر الله كثيرا ومثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في أثره فأتى حصنا حصينا فأحرز نفسه فيه , وان العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله تعالى.
فهذا الحديث مشتمل على فضيلة عظيمة للذكر, وأنه يطرد الشيطان وينجي منه, وأنه بمثابة الحصن الحصين والحرز المكين الذي لا يحرز العبد نفسه من هذا العدو اللدود إلا به.
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقا بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى فانه لا يحرز نفسه من عدوه الا بالذكر ولا يدخل عليه العدو الا من باب الغفلة فهو يرصده فإذا غفل وثب عليه وافترسه وإذا ذكر الله تعالى انخنس عدو الله وتصاغر وانقمع حتى يكون كالذباب ولهذا سمي الوسواس الخناس أي يوسوس في الصدور فإذا ذكر الله تعالى خنس أي كف وانقبض.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم فإذا سها وغفل وسوس , فإذا ذكر الله خنس. الوابل الصيب
(حديث أبي المليح في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تقل تعس الشيطان فإنه يعظم حتى يصير مثل البيت و يقول: بقوتي صرعته و لكن قل: باسم الله فإنك إذا قلت ذلك تصاغر حتى يصير مثل الذباب.
[*] وحكى ابن القيم رحمه الله عن بعض السلف:
أنهم قالوا: إذا تمكن الذكر من القلب، فإن دنا منه الشيطان صرعه الإنسي كما يصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان، فيجتمع عليه الشياطين فيقولون: ما لهذا؟ فيقال: قد مسه الإنسي.(7/31)
(فالذاكر محفوظ - بإذن الله تعالى- لا يمسّه أذى له من الذكر حصن حصين، وسياج متين؛ لأن في قلبه تذكر الله، وعلى لسانه ذكر الله، وإليك الإيضاح بالدليل:
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب و كتبت له مائة حسنة و محيت عنه مائة سيئة و كانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي و لم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل عملا أكثر من ذلك.
(حديث عبد الله بن خُبيب في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قل (قل هو الله أحد والمُعَوِّذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كلِ شيء)
(حديث عثمان في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من عبد يقول في صباح كل يوم و مساء كل ليلة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض و لا في السماء و هو السميع العليم ثلاث مرات فيضره شيء.
في السماء و هو السميع العليم ثلاث مرات فيضره شيء.
{تنبيه}: (يتحصن العبد المسلم بالله ويمضي في حياته على اسمه وبسم الله يحتمة به العبد من كل سوء من معنى أو عين أو دابة أو جني أو شيطان لأنه السميع لأحوالهم العليم بها في سائر أزمنتها فلا يقع شيء إلا بإذنه سبحانه وتعالى.
والإتيان بهذا الذكر يوقي بقدر الله جميع البأس والضر.
وجاء في نهاية الحديث:" وكان أبان قد أصابه طرف فالج فجعل الرجل الذي سمع منه الحديث ينظر إليه فقال له: مالك تنظر إلي؟! فو الله ما كذبت على عثمان ولا كذب عثمان على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولكن اليوم الذي أصابني فيه ما أصابني غضبت فنسيت أن أقولها.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا نودي لصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضى النداء أقبل، حتى إذا ثوّب بالصلاة أدبر، حتى إذا قضى التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال إذا خرج من بيته: بسم الله توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: كفيت ووقيت، وتنحى عنه الشيطان.(7/32)
(حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه.
(فتأمل معي هذا الأثر العظيم الذي تناله إن كنت من الذاكرين! قم انظر إلى ما حولك، ومن حولك فسترى من به مس من الجن، أو عطب من السحر، أو إغواء من الشيطان، وأنت بنعمة الله سالم من كل ذلك.
[*] وما أجمل ما قاله أبو خلاد المصري في بيان تحصين الذكر حيث قال: " من دخل الإسلام دخل في حصن، ومن دخل المسجد فقد دخل في حصنين، ومن جلس في حلقة يذكر الله - عز وجل - فيها فقد دخل في ثلاثة حصون) [الوابل الصيب ص:180].
(13) الذكر طمأنينة وسكينة:
قال تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)
[الرعد:28]
(فهذا إخبار من الله عن المؤمنين بأنهم تطمئن قلوبهم بذكره " أي يزول قلقها واضطرابها، وتحضرها أفراحها ولذاتها وحري أن لا تطمئن لشيء سوى ذكره، فإنه لا شيء ألذ للقلوب ولا أحلى، من محبة خالقها والأنس به ومعرفته "
[تفسير السعدي 4/ 108]
فلا تخش غماً، ولا تشك هماً، ولا يصبك قلق مادام قرينك هو ذكر الله.
والطمأنينة هي:" سكون القلب إلى الشيء وعدم اضطرابه وقلقه، وسكون الذاكر إلى ربه دائم في كل الأحوال من السراء والضراء والشدة والرخاء.
(فالناس بعامة قد يقلقون في حياتهم أو يشعرون بالعجز أمام ضوائق أحاطت بهم من كل جانب، وهم أضعف من أن يرفعوها إذا نزلت، أو يدفعوها إذا أوشكت، ومع ذلك فإن ذكر الله عز وجل يحيى في نفوسهم استشعار عظمة الله وأنه على كل شيء قدير، وأن شيئاً لن يفلت من قهره وقوته، وأنه يكشف ما بالمُعنَّى إذا ألم به العناء، حينها يشعر الذاكر بالسعادة وبالطمأنينة يعمران قلبه وجوارحه: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].(7/33)
(تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ): "تطمئن بإحساسها بالصلة بالله والأنس بجواره والأمن في جانبه وحماه، تطمئن من قلق الوحدة وحيرة الطريق بإدراك الحكمة في الخلق والمبدأ والمصير وتطمئن بالشعور بالحماية من كل اعتداء ومن كل شر إلا بما يشاء الله مع الرضى بالابتلاء والصبر على البلاء {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} ذلك الاطمئنان بذكر الله في قلوب المؤمنين حقيقة عميقة، يعرفها الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم فاتصلت بالله، يعرفونها، ولا يملكون بالكلمات أن ينقلوها إلى الآخرين الذين لم يعرفوها؛ لأنها لا تنقل بالكلمات، إنما تسري في القلب فيستروحها ويهشّ لها ويندَى بها ويستريح إليها ويستشعر الطمأنينة والسلام ويحس أنه في هذا الوجود ليس مفردًا بلا أنيس، فكل ما حوله صديق إذ كل ما حوله من صنع الله الذي هو في حماه".
إن هناك لحظاتٍ في الحياة لا يصمد لها بشرٌ إلا أن يكون مرتكنًا إلى الله مطمئنًا إلى حماه، مهما أوتي من القوة والثبات والصلابة والاعتداد، ففي الحياة لحظاتٌ تعصف بهذا كله فلا يصمد لها إلا المطمئنون بالله {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} .. هؤلاء المنيبون إلى الله المطمئنون بذكر الله يحسن الله مآبهم عنده كما أحسنوا الإنابة إليه وكما أحسنوا العمل في الحياة
والحقيقة أن هناك مواقف سطَّرها التاريخ بأحرف من نور لدعاة كثيرين، كلها تؤيد هذا المعنى، وما كانوا ليصلوا لذلك المستوى وهذه الدرجة إلا بذكرهم لله الذي نتج عنه هذه الطمأنينة الهائلة التي صمدت أمام مواقف تتزلزل لها الجبال.
وإذا كان المراد بالذكر هنا" القرآن الكريم"- وهو الأصح- فإن القرآن هو الذي تكون به " طمأنينة قلوب المؤمنين؛ فإن القلب لا يطمئن إلا بالإيمان واليقين، لا سبيل إلى حصول الإيمان واليقين إلا من القرآن؛ فإن سكون القلب وطمأنينته من يقينه، واضطرابه وقلقه من شكره " [تهذيب المدارج ص:503]، فمن تعلّق بالقرآن وجد فيه قناعة العقل، وسكينة النفس، وسكون القلب بالأمن والإيمان.(7/34)
(14) إن الذاكرين هم أهل الانتفاع بآيات الله وهم أولو الألباب والعقول كما بين ذلك رب العزة والجلال قال تعالى: (إِنّ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ الْلّيْلِ وَالنّهَارِ لاَيَاتٍ لاُوْلِي الألْبَابِ * الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكّرُونَ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النّارِ) [آل عمران:191،190]
(15) ذكر الله تعالى شفاء ورحمة للمؤمنين:
قال تعالى: (وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظّالِمِينَ إَلاّ خَسَاراً) [الإسراء / 82]
(16) الذكر غراس الجنة:
(حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال يا محمد أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
قيعان: جمع قاع وهي الأرض المستوية الخالية من الشجر.
غراس جمع غرس وهو: ما يستر الأرض من البذر ونحوه.
(بين الحديث أن ذكر الله سبب لدخول الجنة وكلما أكثر العبد من ذكر الله كثرت غراسه في الجنة.
(17) لا بد من ذكر الله على الدوام، إذ لا يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت عليهم في الدنيا لم يذكروا الله عز وجل فيها.
(إن دوام الذكر يعني دوام الصلة بالله).
إن ذكر الله تعالى من أهم ما ينبغي أن يجتهد فيه العبد المؤمن الذي يهتم بإرضاء ربه عز وجل لكي ينجو يوم القيامة من عذاب أليم ويفوز بالنعيم المقيم وقد وجه الله سبحانه وتعالى عباده إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم وقد نهى القرآن الكريم المؤمنين أن يلهيهم شيء من أمر الدنيا ومشاغلها الكثيرة عن ذكر ربهم فيغفلوا عن هذه العبادة العظيمة كما ينادي سبحانه وتعالى للمؤمنين بقوله الكريم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون /9]
[*] قال النووي رحمه الله تعالى:(7/35)
أجمع العلماء على جواز الذكر بالقلب واللسان للمحدث والجنب والحائض والنفساء وذلك في التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والصلاة على رسول الله صلى الله عليه و سلم والدعاء، بخلاف قراءة القرآن.
{تنبيه}: (ليس المقصود: بذكر الله هو التمتمة بكلمة أو كلمات والقلب غافل وَلاهٍ عن تعظيم الله وطاعته، فالذكر باللسان لابد أن يصحبه التفكر والتأثر بمعاني كلماته، قال تعالى (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) [الأعراف:20]
(فلا بد أن يَعيَ الإنسان الذاكر ما يقول، فيجتمع ذكر القلب مع ذكر اللسان ليرتبط الإنسان بربه ظاهراً وباطناً.
(18) الذكر سبب لرفع البلاء:
قال تعالى: (فَلَوْلاَ أَنّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ)
[الصافات 143: 144]
(19) الذكر سبب في جلب الخيرات:
قال تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبّكُمْ إِنّهُ كَانَ غَفّاراً * يُرْسِلِ السّمَآءَ عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لّكُمْ جَنّاتٍ وَيَجْعَل لّكُمْ أَنْهَاراً) [نوح من 10: 12]
(20) الذكر سبب في تفريج الكرب:
قال تعالى: (وَذَا النّونِ إِذ ذّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنّ أَن لّن نّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىَ فِي الظّلُمَاتِ أَن لاّ إِلََهَ إِلاّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّي كُنتُ مِنَ الظّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجّيْنَاهُ مِنَ الْغَمّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء 87، 88]
(21) الذكر سبب في حفظ الذرية من الشيطان:
(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لو أن أحدكم إذا أتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يُقدَّر بينهما ولدٌ في ذلك، لم يضره شيطانٌ أبداً)
(22) ذكر الله تعالى أكبر الأعمال بنص القرآن الكريم:
قال تعالى: (اتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصّلاَةَ إِنّ الصّلاَةَ تَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللّهِ أَكْبَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت / 45]
والآية واضحة الدلالة في أن الذكر ليس كبيراً فحسب بل هو أكبر، وذلك يدل على أهمية كبرى، ومكانة عظمى.(7/36)
[*] ذكر العلماء والمفسرون عدة معانٍ جديرة بالاهتمام توضح كون الذكر أكبر، وهاهي أقدمها لك واضحة ميسرة:
الأول: ذكر الله أكبر من كل شيء، فهو أفضل العبادات؛ لأن المقصود بالطاعات كلها: إقامة ذكره، فهو سر الطاعات وروحها؛ لأن حقيقته هي التعلق بالله واستحضار عظمته، واستشعار مراقبته، واستذكار نعمته، والعبادات كلها - بهذا المعنى – ذكر.
الثاني: أن المعنى أنكم إذا ذكرتموه ذكركم، فكان ذكره لكم أكبر من ذكركم له، وهذا معنى عظيم فأنت أيها الإنسان الضعيف العاجز يذكر الله القوي القادر، أنت الفقير الحقير يذكر الله الغني العظيم، فما أعظمه من ذكر! وما أسماها من مكانة!.
الثالث: ولذكر الله أكبر من أن يبقى معه فاحشة ومنكر، بل إذا تم الذكر محق كل خطيئة ومعصية، فيالله ما أكبر هذا الذكر [انظر تهذيب المدارج ص:463].
[*] وسئل ابن عباس أي العمل أفضل؟ قال: ذكر الله أكبر.
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من عجز منكم عن الليل أن يكابده وبخل بالمال أن ينفقه وجبن عن العدو أن يجاهده فليكثر ذكر الله.
[*] وقال ثابت البناني: إن أهل ذكر الله ليجلسون إلى ذكر الله وأن عليهم من الآثام كأمثال الجبال؛ وإنهم ليقومون من ذكر الله عطلاً ما عليهم منها شيء.
[*] وقال مكحول: من أحيى ليلة في ذكر الله أصبح كيوم ولدته أمه.
[*] وقال محمد بن كعب القرظي: لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا عليه السلام (فزكريا مع صومه عن الكلام لم يرخص له في ترك الذكر)
{قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} (آل عمران/41)
ولو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص للذين يقاتلون في سبيل الله
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} (الأنفال/45)
[*] وقال مجاهد: ما من ميت يموت إلا عرض عليه أهل مجلسه إن كان من أهل الذكر فمن أهل الذكر وإن كان من أهل اللهو فمن أهل اللهو.
[*] وقال عون بن عبد الله: إن لكل رجل سيداً من عمله وإن سيد عملي الذكر.
وقال رحمه الله: ذاكر الله في غفلة الناس كمثل الفئة المنهزمة يحميها الرجل لولا ذلك الرجل هزمت الفئة ولولا من يذكر الله في غفلة الناس هلك الناس.(7/37)
[*] وقال أبو عبد الله الترمذي: والعبد ما دام في الذكر فالرحمة دائمة عليه كالمطر، فإذا قحط فالصدر في ذلك الوقت كالسنة الجدباء.
(23): أنه يحط الخطايا ويذهبها، فإنه من أعظم الحسنات والحسنات يذهبن السيئات.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال: سبحان الله وبحمده، في يوم مائة مرة، حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر).
(24) أنه سبب لنزول الرحمة والسكينة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه.
(وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله): المراد به المسجد فإن بيوت الله هي المساجد قال الله تعالى (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [النور36/]
و قال تعالى (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) [الجن/18]
و قال تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [البقرة/114]
فأضاف المساجد إليه؛ لأنها موضع ذكره.
قوله (يتلون كتاب الله و يتدارسونه بينهم) يتلونه: يقرءونه و يتدارسونه أي: يدرس بعضهم على بعض.
(إلا نزلت عليهم السكينة و غشيتهم الرحمة و حفتهم الملائكة): نزلت عليهم السكينة يعني: في قلوبهم و هي الطمأنينة و الاستقرار، و غشيتهم الرحمة: غطتهم و شملتهم.
و حفتهم الملائكة: صارت من حولهم. - و ذكرهم الله فيمن عنده- أي: من الملائكة.
*ومن فوائد الحديث: فضيلة اجتماع الناس على قراءة القرآن لقوله - و ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله .. الخ.
* ومن فوائد الحديث: أن حصول هذا الثواب لا يكون إلا إذا اجتمعوا في بيت الله أي: في مسجد من المساجد لينالوا بذلك شرف المكان لأن أفضل البقاع مساجدها.(7/38)
*ومن فوائد الحديث: بيان حصول هذا الأجر العظيم تنزل عليهم السكينة و هي الطمأنينة القلبية و تغشاهم الرحمة أي: تغطيهم و تحفهم الملائكة أي: تحيط بهم من كل جانب و يذكرهم الله فيمن عنده من الملائكة لأنهم يذكرون الله تعالى عن ملأ، و قد قال الله تعالى في الحديث القدسي -من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم-.
(حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: كان رجلٌ يقرأ سورة الكهف، وإلى جانبه حصان مربوط بشطنين، فتغشته سحابة، فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر ذلك له، فقال: (تلك السكينة تنزلت بالقرآن.
(25) الذكر كنزٌ من كنوز الحسنات:
المسلم حريص على الثواب، ويستكثر من الحسنات، ويجتهد في الطاعات، وأنت – أخي القارئ - ما من شك أنك كثيراً ما تفكر في كيفية زيادة رصيدك من الحسنات، مع كثرة الأعمال والمشكلات، وتعاظم الملهيات والمغريات، ومن هنا أقول لك وبكل قوة ووضوح إن الذكر من أعظم أبواب الأجر، وإذا اجتهد المرء في ذكر الله فاق كل أرباب الأعمال الصالحة، فلن يدرك درجته مجاهد ولا صائم ولا متصدق، إذا ذكر الصائمون فأفضلهم الذاكر، وإذا ذكر المصلون فأفضلهم الذاكر؛ وأفضل الحجاج الذاكر؛
(ولعلي أعرض لك طائفة يسيرة من النصوص الكاشفة عن الجر العظيم والثواب الجزيل للذكر وهي غيض من فيض ونقطةٌ من بحر:
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا و ثلاثين و حمد الله ثلاثا و ثلاثين و كبر الله ثلاثا و ثلاثين فتلك تسع و تسعون و قال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير غفرت خطاياه و إن كانت مثل زبد البحر.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله و بحمده سبحان الله العظيم.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب و كتبت له مائة حسنة و محيت عنه مائة سيئة و كانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي و لم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل عملا أكثر من ذلك.(7/39)
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير بعد ما يصلي الغداة عشر مرات كتب الله له عشر حسنات ومحى عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات وكان له بعدل عتق رقبتين من ولد إسماعيل، وإن قالها حين يمسي كان له مثل ذلك وكن له حجاباً من الشيطان حتى يصبح ... .
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لأن أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس.
(حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أيعجز أحكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة، فسأله سائل من جلسائه كيف يكسب كل يوم؟ قال: يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة.
(حديث ابن عمر في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال حين يدخل السوق: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد يُحيي ويُميت وهو حيٌ لا يموت بيده الخير و هو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحى عنه ألف ألف سيئةٍ وبنى له بيتاً في الجنة.
(حديث عبادة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمنٍ حسنة.
(حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو مُوبِقها.
(حديث أبي موسى في الصحيحين) قال كنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزاةٍ فجعلنا لا نصعد شرفاً ولا نعلو شرفاً ولا نهبطُ في وادٍ إلا رفعنا صوتنا بالتكبير فدنا منا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً بصيرا، ثم قال: يا عبد الله بن قيس ألا أعلمك كلمةً هي من كنوز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله.
(26) أن دوام ذكر الرب تعالى يوجب الأمان من نسيانه الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده، فإن نسيان الرب سبحانه وتعالى يوجب نسيان نفسه ومصالحها(7/40)
قال تعالى: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ نَسُواْ اللّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولََئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)
[الحشر /19]
وإذا نسى العبد نفسه أعرض عن مصالحها ونسيها واشتغل عنها فهلكت وفسدت، كمن له زرع أو بستان أو ماشية أو غير ذلك مما صلاحه وفلاحه بتعاهده والقيام عليه فأهمله ونسيه واشتغل عنه بغيره فإنه يفسد ولابد.
(27) أن الذكر يوجب صلاة الله تعالى وملائكته على الذاكر، ومن صلى الله تعالى عليه وملائكته فقد أفلح كل الفلاح، وفاز كل الفوز:
قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ اللّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قال تعالى: (هُوَ الّذِي يُصَلّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) [الأحزاب 41: 43]
(28) أن الله عز وجل يباهي بالذاكرين ملائكته:
من شرف مجالس الذكر وعلو مكانتها عند الله أنه سبحانه وتعالى يباهي بالذاكرين ملائكته، إن أهل الذكر ليسوا سابقين للبشر فحسب، بل هم في مقام المباهاة والمضاهاة للملائكة الكرام: {الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}، الملائكة المفطورون على الطاعة، والمجبولون على العبادة الذين {يسبحون الليل والنهار لا يفترون}؛ لأن أصل خلقهم وغاية وجودهم الذكر والتنسك، ومع ذلك كله؛ فإن أهل الذكر من المؤمنين في مكانة رفيعة عالية حتى باهى الله بهم ملائكته، ويكفي في شرف الذكر أن الله يباهي ملائكته بأهله [تهذيب المدارج ص 466].
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله تعالى، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم استحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أقل عنه حديثًا مني، وإن رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ خرج على حلقة من أصحابه فقال: ((ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله تعالى ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ علينا بك، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكن أتاني جبريل فأخبرني أن الله تبارك وتعالى يباهي بكم الملائكة.(7/41)
[*] قال النووي شرح صحيح مسلم: قوله: "لم أستحلفكم تهمة لكم" هى بفتح الهاء واسكانها، وهى فعلة وفعلة من الوهم والتاء بدل من الواو واتهمته به إذا ظننت به ذلك.
وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله عز وجل يباهى بكم الملائكة" معناه يظهر فضلكم لهم ويريهم حسن عملكم ويثنى عليكم عندهم، وأصل البهاء الحسن والجمال، وفلان يباهى بماله أي يفخر ويتجمل به على غيره ويظهر حسنه. اهـ.
(والمباهاة: المفاخرة [النهاية1/ 169] فالله يفاخر بهؤلاء الذاكرين ملائكته المقربين.
(29) أن إدامته تنوب عن الطاعات وتقوم مقامها حيث لا تنوب جميع التطوعات عن ذكر الله عز وجل.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: جاء الفقراء إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ولهم فضلٌ من أموالاٍ يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا أحدثكم بما إن أخذتم به أدركتم من سبقكم ولم يدركم أحدٌ بعدكم وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيهم إلا من عمل مثله؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين، فاختلفنا بيننا فقال بعضنا نسبح ثلاثاً وثلاثين ونحمد ثلاثاً وثلاثين ونكبِّر ثلاثاً وثلاثين فرجعت إليه فقال: تقول سبحان الله والحمد لله والله أكبر حتى يكون منهن كلهن ثلاثاً وثلاثين.
أهل الدثور: أي أهل الأموال والدثور: بضم الدال وجمع دثر بفتحها وهو المال الكثير.
والبُضْع: هو بضم الباء ويطلق على الجماع ويطلق على الفرج نفسه، هو الجماع وقيل الفرج نفسه.
[*] قال الإمام النووي رحمه الله تعالى:
قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:" وفي بضع أحدكم صدقة" وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله تعالى به أو طلب ولد صالح أو إعفاف نفسه أو إعفاف الزوجة ومنعها جميعاً من النظر إلى الحرام أو الفكر فيه أو الهم به أو غير ذلك من المقاصد الصالحة.
(وقد ظنّ الفقراء أن لا صدقة إلا بالمال، وهم عاجزون عن ذلك، فأخبرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ جميع أنواع فعل المعروف والإحسان صدقةٌ، وذكر في مقدّمة ذلك هؤلاء الكلمات الأربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.(7/42)
[*] قال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: " لأن أسبح الله تعالى تسبيحات أحب إلي من أن أنفق عددهن دنانير في سبيل الله عز وجل ".
(30) أن الذكر يعطي الذاكر قوة في قلبه وفي بدنه حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يظن فعله بدونه، وقد عَلَّم النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ابنته فاطمة وعليًا ـ رضي الله عنهما ـ أن يسبحا كل ليلة إذا أخذا مضاجعهما ثلاثًا وثلاثين، ويحمدا ثلاثًا وثلاثين، ويكبرا ثلاثًا وثلاثين لما سألته الخادم وشكت إليه ما تقاسيه من الطحن والسعي والخدمة فعلمها ذلك، وقال: ((إنه خير لكما من خادم)
(فالذكر قوت القلب والروح فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم الضعيف
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
جئت شيخ الإسلام ابن تيمية صلاة الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار ثم التفت إلى وقال هذه غذوتي ولو لم أتغذ الغذاء لسقطت قوى.
(حديث عائشة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أوى إلى فراشه جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما (قل هو الله وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس) ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات.
(حديث علي في الصحيحين) أن فاطمة أتت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى – وبلغها أنه قد جاءه رقيق – فلم تصادفه فذكرت ذلك لعائشة فلما جاء أخبرته عائشة، قال فجاء وقد أخذنا مضاجعنا فذهبنا نقوم له فقال على مكانكما فقعد بيني وبيننا حتى وجدت برد قدمه على بطني فقال ألا أدلكما على خيرٍ مما سألتما، إذا أخذتما مضاجعكما - أو أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين واحمدا ثلاثا وثلاثين وكبِّرا أربعاً وثلاثين فهو خير لكما من خادم.
(فقيل إن من داوم على ذلك وجد قوة في يومه تغنيه عن خادم.
(31) صلة الذكر بالعبادات أوثق:
إن الذكر لبّ الطاعات، وجوهر العبادات، وهو أساس كثير من الفرائض والشعائر الظاهرة، إنه يكون قبلها تهيئة لأدائها، ويكون معها كجزء من أعمالها وأركانها، ويكون بعد الفراغ منها ختام لها.
ولنضرب المثل بالصلاة؛ فإن الذكر يسبقها، فالآذان ذكر يشتمل على التكبير والتهليل والنطق بالشهادتين، ومن السنة متابعة المؤذن، وبعد الفراغ من الأذان يسن قول الذكر المأثور عن النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(7/43)
(حديث سعد بن أبي وقاص في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من قال حين يسمع النداء: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله رضيت بالله ربا و بمحمد رسولا و بالإسلام دينا غفر الله له ما تقدم من ذنبه.
(حديث جابر في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة و الصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة و الفضيلة و ابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفا عتي يوم القيامة.
وقبل الصلاة الوضوء وهو من شروطها، وبعد الفراغ منه ذكر أيضاً (حديث عُمر الثابت في صحيح مسلم) أن النبي قال: - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما من أحدٍ يتوضأ فيُبلغ أو يسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء.
(حديث عمر الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء.
(والصلاة غايتها الذكر بنص القرآن في قوله تعالى {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (طه/14)
وركنها الأول: " تكبيرة الإحرام" ذكر، وركنها الأعظم: "قراءة الفاتحة" ذكر، وفي ركوعها تسبيح باسم الله العظيم، وفي سجودها تسبيح باسمه الأعلى، وفي الرفع من الركوع حمد وذكر، وفيما بين السجدتين استغفار وذكر.
(وبعد الصلاة وانقضائها أمر بالذكر {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} (النساء/103)
وثبت أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يستغفر ثلاثاً بعد السلام عليكم، كما في حديث ثوبان الآتي:
(حديث ثوبان الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا ثم قال: اللهم أنت السلام و منك السلام تباركت يا ذا الجلال و الإكرام.
، والأذكار الواردة في أعقاب الصلوات كثيرة، فهذه الصلاة كلها ذكر وثناء، وتضرع ودعاء.(7/44)
(والحج مثل ثانٍ، ففيه يقول الحق تبارك وتعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ} ... (البقرة/198)
وهو من مبدئه ذكر إذ عند الإحرام يبدأ بالتلبية،
(وهي ذكر ترفع به الأصوات معلنة التوحيد، والاستجابة لرب الأرض والسماوات، والطواف والسعي ذكر وتكبير وتهليل، وموقف عرفات كله أذكار ودعوات، وفيه قال الرسول الكريم – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (خير ما قلت أنا والنبيين من قبلي: لا إله إلا الله).
(حديث عبد الله ابن عمرو الثابت في صحيح الترمذي) أن النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وفي ختام الحج وصية بالذكر، قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ} (البقرة/200)
بل حتى في الجهاد، وعند التحام الصفوف، وقعقعة السيوف، ولقاء الحتوف، يأتي الأمر بالذكر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} (الأنفال/45)
(32) الذكر أنجى عملاً للنجاة من عذاب الله عز وجل.
(حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما عمل امرؤ بعمل أنجى له من عذاب الله عز وجل من ذكر الله.
(33) ذكر الله سلاح مقدم على أسلحة الحروب الحسية التي لا تكلم:
فقد ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في فتح القسطنطينية من حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم
: {فإذا جاءوها، نزلوا فلم يقاتلوا بالسلاح، ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلا الله، والله أكبر فيسقط أحد جانبيها، ثم يقولون الثانية: لا إله إلا الله والله اكبر، فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولون الثالثة: لا إله إلا الله والله أكبر فيفرج لهم فيدخلونها فيغنمون}
(34) الذكر رأس الشكر فما شكر الله تعالى من لم يذكره:(7/45)
(حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و النسائي) أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ بيده وقال يا معاذ والله إني لأحبك والله إني لأحبك فقال أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
فجمع بين الذكر والشكر فالذكر والشكر جماع السعادة والفلاح فأكرم الخلق على الله تعالى من المتقين من لا يزال لسانه رطبا من ذكر الله إذ أن في القلب قسوة لا يزيلها ويذيبها إلا ذكر الله تعالى فحلي بنا أن ندوي قسوة القلب بذكره سبحانه وتعالى فالذكر شفاء القلب ودواؤه والغفلة مرضه
(35) مجالس الذكر سبب عظيم بل هي سبب رئيسي من أسباب حفظ اللسان:
فإن العبد لا بد له من أن يتكلم فإن رَوَّضَ نَفْسَه على الكلام بالخير صار ذلك طبعاً له لا تكلفاً فإنه من يتحرَّ الخير يُعْطَه ومن يتق الشر يُوَقَّه.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إنما العلم بالتعلم و إنما الحلم بالتحلم و من يتحر الخير يعطه و من يتق الشر يُوَقَّه.
إن مجالس الذكر هي أزكى المجالس وأشرفها وأنفعها وهي أعلى المجالس قدرا عند الله وأجلها مكانة عنده سبحانه وتعالى , فمجالس الذكر حياة للقلوب وزيادة للأيمان وصلاح وزكاء للعبد بخلاف مجالس الغفلة التي لا يقوم منها الجالس إلا بنقص في الإيمان وتكون عليه حسرة وندامة
من أجل ذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم وكذلك السلف رحمهم الله يهتمون بهذه المجالس أعظم الاهتمام وغاية العناية , فكان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يأخذ بيد النفر من أصحابة فيقول ((تعالوا نؤمن ساعة تعالوا فلنذكر الله ونزداد إيماناً بطاعته لعله يذكرنا بمغفرته.
(فإن لم يتكلم بذكر الله وذكر أوامره بالخير والفائدة تكلم ولا بد ببعض المحرمات من غيبة ونميمة , فمن عود لسانه على ذكر الله صان لسانه عن الباطل واللغو فلا سبيل إلي السلامة منها البتة إلا بذكر الله تعالى.
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
والمشاهدة والتجربة شاهدان بذلك فمن عود لسانه ذكر الله صان لسانه عن الباطل واللغو ومن يبس لسانه عن ذكر الله ترطب بكل باطل ولغو وفحش ولا حول ولا قوة إلا بالله.
[*] قال مكحول: ذكر الله شفاء وذكر الناس داء.
نسأل الله أن يشغل مجالسنا بذكره وشكره وحسن عبادته وأن يقينا من مجالس الغفلة وللهو والباطل.
(36) أن الذكر ينبه القلب من نومه ويوقظه من سنته:(7/46)
والقلب إذا كان نائماً فاتته الأرباح والمتاجر وكان الغالب عليه الخسران فإذا استيقظ وعلم ما فاته في نومته شد المئزر وأحيا بقية عمره واستدرك ما فاته ولا تحصل يقظته إلا بذكر الله تعالى.
ولذا أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت".
(حديث أبي موسى الأشعري في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت.
(37) أن الذكر مع البكاء في الخلوة سبب لإظلال الله للعبد يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (سَبْعَةٌ يُظِلّهُمُ الله في ظِلّهِ يَوْمَ لاَ ظِلّ إِلاّ ظِلّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌ نَشَأَ في ِعِبَادَةِ الله، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلّقٌ في المَسْاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابّا في الله اجْتَمعَا عَلَيه وَتَفَرّقَا عليه، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امرأة ذَاتُ منصبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنّي أَخَافُ الله، وَرَجُلٌ تَصَدّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَهُ)
(38) الذكر يوازى ثواب صلاة الضحى صلاة الضحى هي صدقة عن 360 مفصل في جسم الإنسان:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة و كل تحميدة صدقة و كل تهليلة صدقة و كل تكبيرة صدقة و أمر بالمعروف صدقة و نهي عن المنكر صدقة و يجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى.
الشاهد: أن ركعتان من الضحى تجزئ عن ثلاثمائة وستين صدقة، وذلك أن لكل إنسان ثلاثمائة وستين مفصل ينبغي عليه أن يتصدق عن كل مفصل من مفاصله التي بلغت ثلاثمائة وستين مفصل شكراً لله تعالى على أن جعل هذه المفاصل تنثني وتريحه في الحركة والقيام والقعود و يجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى وصلاة الضحى توازي الذكر.
(39) الذكر سبب لنيل شفاعة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(7/47)
(حديثُ أبي هريرة صحيح البخاري): قال. قلت يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ لقد ظننتُ يا أبا هريرةَ أن لا يسأ لني عن هذا الحديثِ أحدٌ أوَّلَ منك لما رأيتُ من حرصكَ على الحديث، أسعدُ الناسِ بشفاعتي يوم القيامةِ من قال لا إ له إ لا الله خالصاً من قِبِلِ نفسه.
(40) الذكر أفضل بطاقة في الميزان:
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يُصاحُ برجلٍ من أمتي يوم القيامة على رءوس الخلائق فينشر له تسعة و تسعون سجلا كل سجل مد البصر ثم يقول الله تبارك و تعالى: هل تنكر من هذا شيئا؟ فيقول: لا يا رب فيقول: أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب ثم يقول: ألك عذر ألك حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة و إنه لا ظلم عليك اليوم فتخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا عبده و رسوله فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة و البطاقة في كفة فطاشت السجلات و ثقلت البطاقة.
(41) الذكر يكفر الذنوب وإن كانت مثل زبد البحر:
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال: سبحان الله و بحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه و إن كانت مثل زبد البحر.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا و ثلاثين و حمد الله ثلاثا و ثلاثين و كبر الله ثلاثا و ثلاثين فتلك تسع و تسعون و قال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير غفرت خطاياه و إن كانت مثل زبد البحر.
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما على الأرض أحد يقول لا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله إلا كفرت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر.
(41) الذكر يجزئ عن القرآن في حق من لا يحسن القرآن:(7/48)
(حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا فعلمني ما يجزئني منه قال قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله قال يا رسول الله هذا لله عز وجل فما لي قال قل اللهم ارحمني وارزقني وعافني واهدني فلما قام قال هكذا بيده فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أما هذا فقد ملأ يده من الخير.
(42) حلق الذكر هي رياض الجنة:
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا". قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: "حلق الذكر.
الرتع: هو الأكل والشرب في خصب وسعة.
[*] قال المناوي في فيض القدير:
"إذا مررتم برياض الجنة": جمع روضة وهي الموضع المعجب بالزهر سميت به لاستراضة الماء السائل إليها.
"فارتعوا": أي ارتعوا كيف شئتم وتوسعوا في اقتناص الفوائد قالوا: أي الصحابة أي بعضهم.
"وما رياض الجنة": أي ما المراد بها "قال حلق الذكر" بكسر ففتح جمع حلقة بفتح فسكون، وهي جماعة من الناس يستديرون لحلقة الباب وغيره والتحلق تفعل منها وهو أن يتعمد ذلك.
[*] قال النووي رحمه الله: كما يستحب الذكر يستحب الجلوس في حلق أهله وقد تظاهرت على ذلك الأدلة. اهـ.
{تنبيه}: (اتضح مما سبق فضل ذكر الله تعالى وبان بياناً شافياً، ولذا يجب على طالب العلم أن يتمسك بالذكر ويعض عليه بالنواجذ، ويقبل عليه إقبال الظامئ إقبال الظامئ على المورد العذب، فالذكر قوت القلوب وسبب لنيلِ رضا علام الغيوب، وهو بذلك يكون قد تأسى بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الذكر فقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتقلب في ذكر الله تعالى ويذكر الله تعالى على كل أحيانه قائماً وقاعداً وعلى جنب.
(هل الذكر أفضل أم الدعاء؟
[*] قال ابن القيم رحمه الله في الوابل الصيب:
الذكر أفضل من الدعاء، لأن الذكر ثناء على الله عز وجل بجميل أوصافه وآلائه وأسمائه، والدعاء سؤال العبد حاجته، فأين هذا من هذا؟
{تنبيه}: (أما حديث) من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين. فهو ضعيف في سلسلة الأحاديث الضعيف المجلد العاشر رقم 4989.(7/49)
(ولهذا كان المستحب في الدعاء أن يبدأ الداعي بحمد الله تعالى، والثناء عليه بين يدي حاجته، ثم يسأل حاجته، وقد أخبر النبي أن الدعاء يستجاب إذا تقدمه الثناء والذكر، وهذه فائدة أخرى من فوائد الذكر والثناء، أنه يجعل الدعاء مستجاباً.
(حديث فضالة ابن عُبيد في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله تعالى و الثناء عليه ثم ليصل على النبي ثم ليدع بعد بما شاء.
(حديث عمر في صحيح الترمذي موقوفاً) قال: إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء إلى السماء حتى تصلي على نبيك - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في الأذكار ص 176:
(أجمع العلماء على استحباب ابتداء الدعاء بالحمد لله تعالى والثناء عليه، ثم الصلاة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك تختم الدعاء بهما، والآثار في هذا الباب كثيرة مرفوعة).
فالدعاء الذي يتقدمه الذكر والثناء أفضل وأقرب إلى الإجابة من الدعاء المجرد، فإن انضاف إلى ذلك إخبار العبد بحاله ومسكنته، وافتقاره واعترافه، كان أبلغ في الإجابة وأفضل.
(هل قراءة القرآن أفضل أم الذكر؟
[*] قال ابن القيم رحمه الله في الوابل الصيب:
قراءة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء، هذا من حيث النظر إلى كل منهما مجرداً.
وقد يعرض للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل، بل يعينه، فلا يجوز أن يعدل عنه إلى الفاضل، وهذا كالتسبيح في الركوع والسجود، فإنه أفضل من قراءة القرآن فيهما، بل القراءة فيهما منهي عنها نهي تحريم أو كراهة، وكذلك الذكر عقب السلام من الصلاة - ذكر التهليل، والتسبيح، والتكبير، والتحميد - أفضل من الاشتغال عنه بالقراءة، وكذلك إجابة المؤذن.
وهكذا الأذكار المقيدة بمحال مخصوصة أفضل من القراءة المطلقة، والقراءة المطلقة أفضل من الأذكار المطلقة، اللهم إلا أن يعرض للعبد ما يجعل الذكر أو الدعاء أنفع له من قراءة القران، مثاله: أن يتفكر في ذنوبه، فيحدث ذلك له توبةً واستغفاراً، أو يعرض له ما يخاف أذاه من شياطين الإنس والجن، فيعدل إلى الأذكار والدعوات التي تحصنه وتحوطه.
فهكذا قد يكون اشتغاله بالدعاء والحالة هذه أنفع، وإن كان كل من القراءة والذكر أفضل وأعظم أجراً.
وهذا باب نافع يحتاج إلى فقه نفس، فيعطي كل ذى حق حقه، ويوضع كل شيء موضعه.(7/50)
ولما كانت الصلاة مشتملة على القراءة والذكر والدعاء، وهي جامعة لأجزاء العبودية على أتم الوجوه، كانت أفضل من كل من القراءة والذكر والدعاء بمفرده، لجمعها ذلك كله مع عبودية سائر الأعضاء.
فهذا أصل نافع جداً، يفتح للعبد باب معرفة مراتب الأعمال وتنزيلها منازلها، لئلا يشتغل بمفضولها عن فاضلها، فيربح إبليس الفضل الذي بينهما، أو ينظر إلى فاضلها فيشتغل به عن مفضولها وإن كان ذلك وقته، فتفوته مصلحته بالكلية، لظنه أن اشتغاله بالفاضل أكثر ثواباً وأعظم أجراً، وهذا يحتاج إلى معرفة بمراتب الأعمال وتفاوتها ومقاصدها، وفقه في إعطاء كل عمل منها حقه، وتنزيله في مرتبته.
(التحذير من ترك الذكر:
لا شك أن القلب يصدأ كما يصدأ الحديد , وجلاؤه بالذكر فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء , فإذا ترك صدئ , فإذا ذكر جلاه , وصدأ القلب بأمرين: بالغفلة والذنب. وجلاؤه بشيئين: بالاستغفار والذكر. فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته كان الصدأ متراكبا على قلبه. وصدأه بحسب غفلته , وإذا صدئ القلب لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه , فيرى الباطل في صورة الحق , والحق في صورة الباطل. لأنه لما تراكم عليه الصدأ أظلم فلم تظهر فيه صورة الحقائق كما هي عليه , فإذا تراكم عليه الصدأ واسوَّد وركبه الران فَسَدَ تصورُه وإدراكه فلا يقبل حقا ولا ينكر باطلا وهذا أعظم عقوبات القلب، ولذا فإن الذكر من أنفع العبادات وأعظمها، والغفلة عنه خطرٌ كبير وشرٌ مستطير على قلب العبد، إن الغفلة عن ذكر الله تورث قسوة القلب، فيصدأ القلب، ويغلفه الران، حتى يصبح الغافل على شفا جرفٍ هارٍ ينهار به في أتون النفاق المفضي إلى الدرك الأسفل من النار، ولا ينقذنا من هذه الهاوية إلا الله عز وجل نحتمي به ونعتصم به من الضلالة، وقد حذر الله تعالى عباده من ترك ذكره في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(أما في كتاب الله الكريم:
فقد قال تعالى: {ومَنْ يَعْشُ عن ذكر الرحمن نُقَيّضْ له شيطاناً فهو له قرين * وإنَّهم لَيَصُدُّونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون} [الزخرف: 36ـ37]
[*] قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما:
[الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله خنس](7/51)
(حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني اسرائيل أن يعملوا بهن فكأنه أبطأ بهن فأوحى الله الى عيسى: إما أن يبلغهن أو تبلغهن فأتاه عيسى فقال له انك أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني اسرائيل أن يعملوا بهن فإما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن فقال له يا روح الله ان أخشى ان سبقتني أن أعذب أو يخسف بي فجمع يحيى بني اسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد فقعد على الشرفات فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن , ثم ذكر التوحيد والصلاة والصيام والصدقة
ثم ذكر الخامسة: وأمركم بذكر الله كثيرا ومثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في أثره فأتى حصنا حصينا فأحرز نفسه فيه , وان العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله تعالى.
فهذا الحديث مشتمل على فضيلة عظيمة للذكر, وأنه يطرد الشيطان وينجي منه, وأنه بمثابة الحصن الحصين والحرز المكين الذي لا يحرز العبد نفسه من هذا العدو اللدود إلا به.
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقا بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى فانه لا يحرز نفسه من عدوه إلا بالذكر ولا يدخل عليه العدو إلا من باب الغفلة فهو يرصده فإذا غفل وثب عليه وافترسه وإذا ذكر الله تعالى انخنس عدو الله وتصاغر وانقمع حتى يكون كالذباب ولهذا سمي الوسواس الخناس أي يوسوس في الصدور فإذا ذكر الله تعالى خنس أي كف وانقبض.
[*] قال ابن عباس رضي الله عنه:
الشيطان جاثم على قلب ابن آدم فإذا سها وغفل وسوس , فإذا ذكر الله خنس. الوابل الصيب
فالتارك للذكر، الناسي له؛ فهو ميت لا يبالي الشيطان أن يلقيه في أي مزبلة شاء.
[*] وحكى ابن القيم رحمه الله عن بعض السلف:
أنهم قالوا: إذا تمكن الذكر من القلب، فإن دنا منه الشيطان صرعه الإنسي كما يصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان، فيجتمع عليه الشياطين فيقولون: ما لهذا؟ فيقال: قد مسه الإنسي.
وقال تعالى: {واذكر ربَّك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغُدُوِّ والآصالِ ولا تكُنْ مِنَ الغافلين} [الأعراف / 205]
وقال في ذم المنافقين: (وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً) [النساء /142](7/52)
(لأجل هذا ختم المولى تبارك وتعالى سورة "المنافقون" بالتحذير من الغفلة عن ذكر الله عز وجل مخالفةً لسبيل المنافقين فقال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون * وَأَنفِقُواْ مِن مّا رَزَقْنَاكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلآ أَخّرْتَنِيَ إِلَىَ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصّدّقَ وَأَكُن مّنَ الصّالِحِينَ *وَلَن يُؤَخّرَ اللّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنافقون 11:9]
(وأما في سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(حديث أبي هريرة في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه إلا قاموا عن مثلِ جيفةِ حمار و كان لهم حسرة.
معنى (إلا قاموا عن مثلِ جيفةِ حمار): أي مجلس نتن كجيفة حمار لخلوه من ذكر الله تعالى، لأن المجالس لا تعمرُ إلا بذكر الله تعالى.
(إن الذي يمعن النظر في الوحيين الشريفين يجد أن لترك الذكر آثاراً سلبية وعواقب وخيمة منها:
(1) إذا فرَّط الدعاة في ذكر الله ولم يداوموا عليه فلا بد أن يصابوا ببعض ما حذَّر الله منه؛ لأنهم لم يأخذوا تحذيراته سبحانه كما ينبغي {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه/124]
{وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن/17]
ذلك أن غذاء القلب وراحة النفس وسمو الروح إنما يكون في المداومة على ذكر الله، وقلته تسبب اضطرابًا وقلقًا نفسيًّا.
(2) القعود عن أداء الواجب أو على الأقل الفتور:
زاد المسلم على الطريق إنما هو ذكر الله، فمن فرَّط في ذلك فقد يبقى من غير زاد، فما بالنا في الداعية الذي تبوأ مقعد الصدارة ويدعو إلى الله بلا زاد، فسيكون ذلك بدايةَ تقصيره في أداء واجبه وفتوره وتقصيره.
(3) الحرمان من العون والتوفيق الإلهي:
إن عون الله وتوفيقه لا يظفر بهما العبد إلا إذا كان على صلة طيبة بربه {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل/128](7/53)
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت/69]
(4) فقد الهيبة والتأثير في الناس: فمن ضيع منزلته عند ربه فقد ضاعت منزلته عند الناس.
(لذا ينبغي على المسلم أن يتمسك بالذكر ويعض عليه بالنواجذ في كل وقتٍ وحين:
[*] قال سماحة الإمام العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله:
ويشرع لكل مسلمٍ ومسلمة أن يقول هذا في صباح كل يوم؛ حتى يكون حرزاً له من الشيطان، فلنداوم على الأذكار، ولنحرص عليها ولا نعرضها بتهاونٍ أو بأعمالٍ أو أشغال. قال النووي رحمه الله: ينبغي لمن كان له وظيفةٌ من الذكر في وقتٍ من ليلٍ أو نهار، أو عقب صلاةٍ أو حالةٍ من الأحوال، ففاتته أن يتداركها، وأن يأتي بها إذا تمكن منها ولا يهملها، فإنه إذا اعتاد الملازمة عليها لم يعرضها للتفويت، وإذا تساهل في قضائها سهل عليه تضييعها في وقتها، والاقتصار على الوارد المأثور الثابت الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه غنيةٌ وبركة.
[*] قال ابن سعدي رحمه الله:
وكن ذاكراً لله في كل حالةٍ فليس لذكر الله وقتٌ مقيدٌ
فقد أخبر المختار يوماً لصحبه بأن كثير الذكر في السبق مفردُ
وأخبر أن الذكر غرسٌ لأهله بجناتٍ عدنٍ والمساكن تمهدُ
وأخبر أن الذكر يبقى بجنةٍ وينقطع التكليف حين يخلدُ
وينهى الفتى عن غيبةٍ ونميمةٍ وعن كل قولٍ للديانة مفسدُ
ولكننا من جهلنا قل ذكرنا كما قلّ منا للإله التعبدُ
أسأل الله جل وعلا أن يمنّ علينا بذكره، وأن يكرمنا بشكره، وأن يجعلنا من الذاكرين الله كثيراً
(فليحذر المسلم من ترك الذكر وليرطب لسانه بذكر الله في كل وقت، وفي كل مكان، حتى إذا جاءت لحظة الفراق فإذا هو ينطق بـ لا إله إلا الله وتكون آخر كلامه، فهنيئاً لمن وفقه الله وختم له بخاتمة السعداء.
(حديث معاوية الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة.
(أنواع الذكر:
((قال ابن القيم رحمه الله في الوابل الصيب:
الذكر نوعان:
(النوع الأول من الذكر: ذكر أسماء الرب تبارك وتعالى وصفاته، والثناء عليه بهما، وتنزيهه وتقديسه عما لا يليق به تبارك وتعالى وهذا أيضاً نوعان:
[1]: إنشاء الثناء عليه بها من الذاكر، فأفضل هذا النوع أجمعه للثناء وأعمه، نحو (سبحان الله عدد خلقه.(7/54)
[2]: الخبر عن الرب تعالى بأحكام أسمائه وصفاته، نحو قولك: الله عز وجل يسمع أصوات عباده.
وأفضل هذا النوع:
الثناء عليه بما أثنى به على نفسه، وبما أثنى به عليه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل. وهذا النوع أيضاً ثلاثة أنواع:
(أ) حمد.
(ب) ثناء.
(ج) مجد.
فالحمد لله الإخبار عنه بصفات كماله سبحانه وتعالى مع محبته والرضا به، فإن كرر المحامد شيئاً بعد شيء كانت ثناء، فإن كان المدح بصفات الجلال والعظمة والكبرياء والملك كان مجداً.
وقد جمع الله تعالى لعبده الأنواع الثلاثة في أول الفاتحة، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قال الله: {حمدني عبدي}، وإذا قال: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال: {أثنى عليّ عبدي}، وإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال: {مجّدني عبدي}
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثا غير تمام فقيل لأبي هريرة رضي الله عنه إنا نكون وراء الإمام فقال اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد! < الحمد لله رب العالمين >! قال الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال! < الرحمن الرحيم >! قال الله تعالى أثنى علي عبدي وإذا قال! < مالك يوم الدين >! قال مجدني عبدي وقال مرة فوض إلي عبدي فإذا قال! < إياك نعبد وإياك نستعين >! قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال! < اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين >! قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.
معنى خداج: أي فاسدة
(النوع الثاني من الذكر: ذكر أمره ونهيه وأحكامه: وهو أيضاً نوعان:
[1]: ذكره بذلك إخباراً عنه بأنه أمر بكذا، ونهيه عن كذا.
[2]: ذكره عند أمره فيبادر إليه، وعند نهيه فيهرب منه، فإذا اجتمعت هذه الأنواع للذاكر فذكره أفضل الذكر وأجله وأعظمه فائدة.
فهذا الذكر من الفقه الأكبر، وما دونه أفضل الذكر إذا صحت فيه النية.
(ومن ذكره سبحانه وتعالى:
ذكر آلائه وإنعامه وإحسانه وأياديه، ومواقع فضله على عبيده، وهذا أيضاً من أجل أنواع الذكر.(7/55)
(فهذه خمسة أنواع، وهي تكون بالقلب واللسان تارة، وذلك أفضل الذكر. وبالقلب وحده تارة، وهي الدرجة الثانية، وباللسان وحده تارة، وهي الدرجة الثالثة.
فأفضل الذكر: ما تواطأ عليه القلب واللسان وتدبر الذاكر معانيه، واعلموا أن هذا الفضل العظيم والأجر الكثير ليس معلقاً على ذكر الشفة واللسان فحسب بل لا يثبت هذا الأجر الموعود إلا على ذكر يتواطأ فيه القلب واللسان فذكر الله إن لم يخفق به القلب وإن لم تعش به النفس وإن لم يكن مصحوباً بالتضرع والتذلل والمحبة لله تعالى فلن يكون سبباً لتحصيل هذه المزايا والفضائل.
(وإنما كان ذكر القلب وحده أفضل من ذكر اللسان وحده، لأن ذكر القلب يثمر المعرفة بالله، ويهيج المحبة، ويثير الحياء، ويبعث على المخافة، ويدعو إلى المراقبة، ويزغ عن التقصير في الطاعات، والتهاون في المعاصي والسيئات، وذكر اللسان وحده لا يوجب شيئاً من هذه الآثار، وإن أثمر شيئاً منها فثمرة ضعيفة. انتهى
وذكر الله هو أعظم ما فتق عنه لسان وتدبره جنان. فلا بد من اجتماع اللسان والجنان حتى يؤتي الذكر ثماره ويستشعر العبد آثاره. فقد وصف الله تعالى أولي الألباب بأنهم {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} فهم جمعوا بين ذكر الله تعالى في كل أحوالهم ودعائه، والتفكر في خلق السماوات والأرض.
مسألة: هل الذكر الخفي أفضل أم الذكر الجهري؟
القول الذي دلت عليه السنة الصحيحة أن هل الذكر الخفي أفضل من الذكر الجهري للأدلة الآتية:
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملٍ خيرٌ منهم، وإن تقَّرب إليَّ شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إليَّ ذراعا تقربت إليه باعا و إن أتاني مشيا أتيته هَرْوَلَةً.(7/56)
ثم يبين ربنا سبحانه وتعالى أن الذكر له نوعان: خفي وجهري , فإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم , إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي , فأيهما أرفع درجة وأفضل حالاً؟ هل الذي يذكر الله في نفسه فيذكره الله في نفسه , أم الذي يذكر الله في ملإ فيذكره الله في ملإ خير منهم؟ قد يقول المرء بل الذي يذكره في ملإ لأن الله تعالى سيشهر أمره وسيرفع ذكره في السماء, فيذكره في ملإ خير منهم, نعم ولكن أن يذكر الله تعالى العبد في نفسه هذا أسمى بكثير لأن هذا يعني أن سراً بين العبد وربه لا يطلع عليه أحد قد نشأ وهذا أسمى من أن يشتهر أمر العبد بصلاحه وتقواه عند أهل السماء.
ومن هنا كان الذكر الخفي أفضل من الذكر الجهري والأدلة على ذلك كثيرة؛ ومنها الحديث الآتي:
(حديث سعد ابن أبي وقاص في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله يحب العبد التقي النقي.
بل الآية الكريمة صريحة في تبيان أن الذكر الخفي هو الأصل, وهي قوله تعالى {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} [سورة الأعراف /205]
(حديث أبي موسى في الصحيحين) قال كنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزاةٍ فجعلنا لا نصعد شرفاً ولا نعلو شرفاً ولا نهبطُ في وادٍ إلا رفعنا صوتنا بالتكبير فدنا منا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً بصيرا، ثم قال: يا عبد الله بن قيس ألا أعلمك كلمةً هي من كنوز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله.
(فنهاهم عن رفع الأصوات بالذكر،
والذكر في أصله عمل قلبي فهو ضد النسيان , كما بينت الآية: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} [سورة الأعراف /205]
فالذكر يتنافى مع الغفلة.
وتمام الذكر القلبي التلفظ اللساني على ألا يعلى الصوت فيه، وذلك لفوائد وحكم منها ما يلي:
أولاً: الذكر الخفي أقرب إلى الخشوع , فمن أسمع نفسه كان أخشع.
ثانياً: الذكر القلبي أقرب إلى الإخلاص , فالذي يرفع صوته بالذكر لا يأمن على نفسه أن يرائي , وأما إن أسر بالذكر فإنه أقرب إلى الإخلاص, وإن كان في الحالين معرضاً لوجود شرك خفي.(7/57)
ثالثاً: الذكر الخفي ممكن في كل الأحوال بخلاف الذكر الجهري , فقد تجلس في مجلس الناس يتحادثون فيه ولا تملك أن تتحدث معهم , ولكنك تملك أن تذكر الله تعالى الذكر الخفي ولا يمنعك من ذلك أحاديث من حولك ولا يمنعك من ذلك أي سبب عائق , قد تمنع من الذكر الجهري ولكن لا يمنعك أحد من الذكر الخفي , لأن قلبك ولسانك ملك لك , فالله تعالى ملكهما لتحسن استثمارهما بما يرضي الله تعالى , فاللسان موضع ثانوي للذكر والموضع الأولي هو القلب, {فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم} والله تعالى أعلم , والحمد لله رب العالمين.
((كنوز الأذكار:
الكنز الأول: قراءة القرآن
الكنز الثاني: أذكار اليوم والليلة
الكنز الثالث: الباقيات الصالحات مجتمعة
الكنز الرابع: التسبيح
الكنز الخامس: الحمد
الكنز السادس: التكبير
الكنز السابع: التهليل
الكنز الثامن: الاستغفار
الكنز التاسع: الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
الكنز العاشر: لا حول ولا قوة إلا بالله
الكنز الحادي عشر: الدعاء
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(الكنز الأول قراءة القرآن:
(فضل القرآن الكريم:(7/58)
إن من المعلوم شرعاً وعقلاً وبداهةً أن القرآن الكريم أكبر منةٍ امتن الله تعالى بها على هذه الأمة، ففيه حياةُ القلوب ويحصل بالتمسك به سعادة الدارين، لم تظفر الدنيا كلها بكتاب أجمع للخير كله، وأهدى للتي هي أقوم، وأوفى بما يُسْعد الإنسانية، من هذا القرآن المجيد الذي فتح الله به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غلفًا، وهدى به من الضلالة وبصر به من العمى وأخرج به من الظلمات إلى النور، هذا الكتاب العظيم الذي ضمن للإنسانية الأمن والسعادة في دنياهم وأخراهم، إذا هم آمنوا به وتلوه حقَّ تلاوته، وتفهموا سوره وآياته، وتفقهوا جمله وكلماته، ووقفوا عند حدوده وَأْتمروا بأوامره، وانتهوا بنواهيه، وتخلقوا بأخلاقه، وطبقوا مبادئه ومُثُله وقيمه على أنفسهم وأهليهم ومجتمعاتهم، والقرآن الكريم هو: كتاب الله الذي منه بدأ وإليه يعود، نزل به الروح الأمين على قلب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلسان عربي مبين، وصفه الله تعالى بقوله (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت 41 - 42]. كما وصفه -جلت قدرته- بقوله: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود1/]
(حقا، إن آيات القرآن الكريم في غاية الدقة والإحكام، والوضوح والبيان، أحكمها حكيم، وفصَّلها خبير، وسيظل هذا الكتاب معجزًا من الناحية البلاغية والتشريعية والعلمية والتاريخية وغيرها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لم يتطرق إليه أدنى شيء من التحريف؛ تحقيقا لقوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر/9]
(فالدنيا كلها لم تظفر بكتاب أجمع للخير كله، وأهدى للتي هي أقوم، وأوفى بما يُسْعد الإنسانية، من هذا القرآن المجيد، الذي قال الله فيه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء:9]
(هذا القرآن الكريم أنزله الله على رسوله محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، قال تعالى (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [إبراهيم:1](7/59)
(نعم لقد تأثر به الجن ساعة سمعوه، وامتلأت قلوبهم بمحبته وتقديره، وأسرعوا لدعوة قومهم إلى اتباعه فَقَالُوا (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا) [الجن 1 - 3].
(وقد حكى الله في القرآن الكريم عنهم أنهم قَالُوا (يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الأحقاف 30 – 31]
(ومن عظيم شأنه وجلالة قدره أنَّه لو نزل على الجبال الصمّ لتصدَّعت، قال تعالى: (لَوْ أَنزَلْنَا هََذَا الْقُرْآنَ عَلَىَ جَبَلٍ لّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ) [الحشر / 21]
(وتحدى الثقلين أن يأتوا بمثله ولو اجتمعوا لذلك حيث قال تعالى: (قُل لّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنّ عَلَىَ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هََذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء / 88]
إنَّ القرآن الكريم معجز في أسلوبه وهديه، غنيٌّ في معانيه ودلالاته، ثمين في كنوزه وحقائقه، حي في نصوصه وتوجيهاته، قويٌّ في أهدافه وأغراضه، أقبل عليه المسلمون في مختلف مراحل التاريخ، قرؤوه وتدبروه، نظروا في نصوصه وتأملوه، فسروا آياته وبينوا شرائعه، تحدثوا عن توجيهاته واستخرجوا من كنوزه وجنوا من ثماره، والعلماء والمفسرون والمتدبرون أخذوا هذا في كل قرن، وسجلوه في كل عصر، وبقي القرآن بحول الله قادراً على العطاء، كنوزه ثمينة لا تنفد، ومعينه ثر كريم لا ينضب، وظلاله ممتدة وارفة لا تزول، وأنواره مشعة مضيئة ولو طال عليها الزمان وامتدت بها السنون.
(وقد فضّل الله عزّ وجل القرآن العظيم على غيره من الكتب السابقة، وجعله ناسخاً لها ومهيمناً عليها، فقال تعالى: (وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) [المائدة / 48](7/60)
(من أجل ذلك كله فاق هذا الكتاب المبارك كل ما تقدمه من الكتب السماوية، وكانت منزلته فوق منزلتها، قال تعالى: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) [الزخرف: 4].
(وعلى هذا فلا يُتَصوَّر طلب العلم على جادةِ الاستقامة إلا بعد حفظ كتاب الله تعالى كاملاً ومن فرَّط فيه فرَّط في غيره ولا شك، وليس معنى ذلك أنه يشترط في طلب العلم حفظ كتاب الله تعالى كاملاً غير أنه لا يستقيم علمه ولا يكون له وزناً في العلم إلا إذا حفظ كتاب الله تعال كاملاً وذلك لأن كل كتب العلم تخدم كتاب الله تعالى، ولذا كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحث أمته دائماً على حفظ كتاب الله تعالى وأن يُقبلوا عليه إقبالَ الظامئِ على المورد العذب.
(فضائل تلاوة القرآن الكريم:
أثنى الله عز وجل على التالين لكتاب الله فقال تعالى: (إِنّ الّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللّهِ وَأَقَامُواْ الصّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لّن تَبُورَ * لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ إِنّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر: 29 - 30].
والسنة الصحيحة طافحةٌ بما يحث على فضل تلاوة القرآن الكريم وتعلمه وتعليمه وهاك بعضٌ منها:
(حديث أبي أمامة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه اقرءوا الزهراوين: البقرة و آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أصحابهما اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة و تركها حسرة و لا تستطيعها البطلة.
اقرءوا الزهراوين: أي النيرتين
[*] قال النووي رحمه الله تعالى في شرح صحيح مسلم:
"و سميتا الزهراوين لنورهما و هدايتهما و عظيم أجرهما"
«كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان»: قال أهل اللغة: الغمامة والغياية كل شيء أظل الإنسان من فوق رأسه من سحابة وغبرة وغيرهما. نقله النووي. وفي القاموس: الغمامة: السحابة أو البيضاء من السحب. والغياية كل ما أظل الإنسان من فوق رأسه كالسحاب ونحوه. والمراد أن ثوابهما يأتي بهذا المنظر.(7/61)
«أو كأنهما فرقان من طير صواف»: الفرقان والحزقان: معناهما واحد، وهما قطيعان وجماعتان، يقال في الواحد: فرق وحزق وحزيقه، أي جماعة، ومعنى «صواف»: باسطة أجنحتها ملتصق بعضها ببعض كما كانت تظلل سليمان عليه السلام، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تحاجان عن أصحابهما» أي تدافعان بالحجة عن أصحابهما.
«فإن أخذها بركة وتركها حسرة»: أي قراءتها بركة وترك قراءتها حسرة وخسارة.
أخذها بركة: أي زيادةٌ ونماء
وتركها حسرة: أي على ما فاته من الثواب
«ولا تستطيعها البطلة» أي السحرة، تسمية لهم باسم فعلهم، لأن ما يأتون به الباطل، وإنما لم يقدروا على قراءتها ولم يستطيعوها لزيغهم عن الحق وانهماكهم في الباطل، ويصح أن يكون المعنى ولا يستطيع دفعها واختراق تحصينها لقارئها السحرة.
وقيل: المراد من البطلة أهل البطالة، أي لا يستطيعون قراءتها وتدبر معانيها لكسلهم.
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترُجَّة ريحها طيب و طعمها طيب و مثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها و طعمها حلو و مثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب و طعمها مر و مثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح و طعمها مر.
(مثَّل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المؤمن الذي يقرأ القرآن بالأترجة ريحها طيب وطعمها طيب وكذا المؤمن الذي يقرأ القرآن مرضيٌ حاله قلباً وقالباً _ وهذا إن كان عاملاً بكتاب الله تعالى _ وإلا انقلب علمه من نورٍ إلى نار.
(وبين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه يترتب الأجر الوفير على قراءة القرآن الكريم:
(حديث عقبة ابن عامر في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين زهراوين في غير إثم و لا قطع رحم فلأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين و ثلاث خير له من ثلاث و أربع خير له من أربع و من أعدادهن من الإبل.
(حديث ابن مسعودٍ في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة و الحسنة بعشر أمثالها لا أقول: {ألم} حرف و لكن: ألف حرف و لام حرف و ميم حرف.(7/62)
(حديث ابن عباس في صحيحي الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال {إذا زلزلت} تعدل نصف القرآن و {قل يا أيها الكافرون} تعدل ربع القرآن و {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن.
{تنبيه}: (ومن مظاهر سعة رحمة الله تعالى لعباده وكذا من مظاهر يسر الإسلام أن الله تعالى رتب الأجر الوفير على قراءة القرآن الكريم سواء كان القارئ يجيد القراءة أم يتتعتع في القراءة.
(حديث عائشة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الذي يقرأ القرآن وهو حافظٌ له مع السفرةِ الكرامِ البررة والذي يقرأ القرآن ويتعاهده وهو عليه شديد فله أجران.
(حديث جابر في صحيح أبي داود) قال: خرج علينا رسول الله ونحن نقرأ القرآن وفينا الأعرابي والأعجمي فقال: اقرؤوا فكلٌ حسن وسيجئُ أقوامٌ يقيمونه كما يُقام القدحُ يتعجلونه ولا يتأجلونه.
الشاهد:
أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل أمر قراءة القرآن على التساهل حيث قال في قراءة الأعرابي والأعجمي (اقرؤوا فكلٌ حسن) وهما غالباً لا يحسنان القراءة لأن الأعرابي غالباً بعيدٌ عن العلم والأعجمي ليس عربياً أصلاً، ثم بين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن المهم في القراءة الاحتساب وإخلاص النية ثم نبه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سيجئُ أقوامٌ يقرؤون القرآن قراءةً صحيحةً ويقيمون الألفاظ كما يُقام القدح (أي السهم) ولكنهم مع ذلك يتعجلون ثوابه في الدنيا ولا يؤجلون ثوابه في الآخرة.
{تنبيه}: ( ... لسماع القران أثر إيجابي على المخ فقد ثبت علمياً أن تلاوة القرآن الكريم وترتيله والاستماع إلى آياته والإنصات لها يعزز القوى العقلية، وأن الترددات العقلية الصادرة عن أصوات تلاوة القرآن الكريم يجعل العقل يصدر سلسلة من الترددات والطاقات تعرف علمياً باسم (موجات العقل)
فإذا كنت حقاً تريد تزويد عقلك بالموجات الصوتية المغذية استمع للقرآن الكريم وأنصت جيداً لآياته وراقب جيداً كيف تزداد قواك العقلية، وكيف تصبح مبدعاً في
تفكيرك.
وثبت فعلياً أن الإنسان يحتاج للاستماع إلى الآيات المحكمات من كتاب الله كغذاء فعال للروح والعقل معاً أكثر من حاجة العقل إلى المغذيات الطبيعية والأعشاب
الطبية والفيتامينات وغيرها من منشطات العقل.
والعجيب فعلاً أن الاستماع للقرآن الكريم يزيل الضجر والتشتت والنسيان السريع بعكس الاستماع لأي أي شيء آخر.(7/63)
(لذا فاحرصوا قدر استطاعتكم أن تظلوا يقظين أثناء الاستماع ولا تعطوا لعوامل التشتت الفرصة، فقد ثبت أن السر في تركيبة عقولنا يكمن في أنه بالاستماع للقرآن الكريم تبقى خلايا مخك حية سعيدة حتى في أثناء فترات الضغط عليها.
وثبت توقف خلايا المخ عن التناقص بعد دوام الاستماع للقرآن الكريم، وكذلك زيادة قدرة المستمع على التركيز واستدعاء الذاكرة والقيام بعمليات حسابية لم يكن بالإمكان القيام بها من قبل.
نسأل الله العظيم أن يعيننا على تلاوة القرآن الكريم, وحفظه, وتدبّر آياته, واتّباع سنة نبيّه عليه أفضل الصلاة والسلام, وأن تكون منزلتنا عند آخر آية نقرؤها, وأن نكون ممن نقرأ فنرقى, ولا نكون ممن يقرأ فيشقى, وأن نقيم حدوده, ولا نضيّع حدوده, وأن نأمر بالمعروف, وننهى عن المنكر, ونسارع في فعل الخيرات والطاعات وترك المنكرات وحب المساكين إنه ولي ذلك والقادرُ عليه.
(فضل تعلم القرآن وتعليمه:
مما لا شك فيه أن القرآن الكريم هو أفضل ما يُتعلم، وأفضل ما يُعلَّم، ??لاشك أن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه هو أكثر كمالاً لأنه مكمِّل لنفسه ولغيره، جامع بين النفع القاصر على نفسه والنفع المتعدي إلى غيره، ولذلك قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه)
(حديث عثمان في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال خيركم من تعلم القرآن وعلمه.
[*] قال الحافظ ابن كثير في فضائل القرآن:
"والغرض أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: خيركم من تعلم القرآن وعلمه، وهذه صفات المؤمنين المتبعين للرسل، وهم الكُمَّلُ في أنفسهم المُكَمِّلون لغيرهم، وذلك جمع بين النفع القاصر والمتعدي، وهذا بخلاف صفة الكفار الجبارين الذين لا ينفعون، ولا يتركون أحدا ممن أمكنهم أن ينتفع، كما قال الله في حقهم: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ) [النحل:88].
وكما قال تعالى: (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) [الأنعام: 26].(7/64)
في أصح قولي المفسرين في هذا، وهو أنهم ينهون الناس عن اتباع القرآن مع نأيهم وبعدهم عنه أيضا، فجمعوا بين التكذيب والصد، كما قال تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا) [الأنعام: 157]. فهذا شأن شرار الكفار كما أن شأن الأخيار الأبرار أن يتكملوا في أنفسهم، وأن يسعوا في تكميل غيرهم، كما في هذا الحديث، وكما قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)
[فصلت/ 33]
فجمع بين الدعوة إلى الله سواء كان بالأذان أو بغيره من أنواع الدعوة إلى الله -تعالى- من تعليم القرآن والحديث والفقه، وغير ذلك مما يُبتغى به وجه الله، وعمل هو في نفسه صالحا، وقال قولا صالحا -أيضا- فلا أحد أحسن حالا من هذا. انتهى.
(وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حريصاً كل الحرص على تعليم صحابته القرآن، وتعاهدهم على تلاوته والعمل به، فقد جاء عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرئهم القرآن. ونُقل عن ابن مسعود أنه أقرأ رجلاً، فقال له حين أخطأ: ما هكذا أقرأنيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكان من أمره صلى الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يرسل القراء إلى كل بلد يعلِّمون أهله كتاب الله، فأرسل مصعب بن عمير وابن أم مكتوم إلى أهل المدينة قبل هجرته، وبعث معاذ بن جبل إلى مكة بعد فتحها. وعلى هذا الدرب سار السلف الصالح من بعدُ، فاهتموا بتعلِّم كتاب ربهم وتعليمه، فأقاموا المساجد والمدارس تحقيقاً لهذا الغرض.
وإلى جانب اهتمام سلف هذه الأمة وخلفها بأمر قرآنها تعلُّماً وتعليماً، فقد أولو كذلك عناية خاصة بآداب تعلُّم القرآن وتعليمه، فقرروا في ذلك جمله من الآداب نقف على أهمها فيما يأتي:
آداب المتعلم:
(1) لا بد لمتعلم القرآن أن يُخلص النية لله أولاً، لينال عمله القبول عند الله سبحانه. والنية قد يُتساهل فيها مع الناشئة في بداية أمرهم، لكن لابد من التنبيه عليها ومراعاة تصحيحها عند من بلغ رشده، وأصبح مكلفاً شرعاً.
ولا بد لمتعلم القرآن أن يأخذ القرآن عمن تأهَّل وظهر دينه، وكان أهلاً للتلقي عنه، كما قال بعض أهل العلم: "العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم".
(2) ومن الآداب ألاَّ يرفع المتعلم صوته بلا حاجة عند معلمه، ولا يضحك، أو يكثر من الكلام الذي ليس فيه مصلحة شرعية، ولا يعبث بيده، ولا يلتفت إلا لحاجة، بل يتوجه بوجهه إليه.(7/65)
(3) ومن الآداب ألا يقرأ على الشيخ حال ملله، وعليه أن يحتمل جفوته وسوء خلقه. وليحرص على الإتيان إليه مبكراً؛ ليحصل له الخير والبركة.
وعلى متعلم القرآن كذلك أن يكون متواضعاً لمعلمه ومتأدباً مع إخوانه، فلا ينظر إلى معلمه إلا بعين الاحترام، ولا يُعامل إخوانه إلا بما فيه رفق وأدب، فإن في ذلك عون له على الانتفاع بما يتعلمه.
[*] قال علي رضي الله عنه: "من حق المعلم عليك أن تسلِّم على الناس عامة، وتخصَّه دونهم بتحية، وأن تجلس أمامه، ولا تشيرن عنده بيدك، ولا تغمزن بعينك، ولا تقولن: قال فلان خلاف ما تقول، ولا تغتابن عنده أحداً".
ومن آداب متعلم القرآن تجنب الأسباب الشاغلة عن تعلم كتاب الله، كالانشغال بما لا يُسمن ولا يُغني من جوع، كالجلوس أمام الرائي "التلفاز" وتضييع الأوقات لمتابعة المسلسلات الفارغة، وأنواع الرياضات الشاغلة، وما شابه ذلك من أمور لا يليق بالمؤمن أن يشغل نفسه بها، ويضيع أوقاته لأجلها.
آداب المعلم:
(1) أول الآداب التي ينبغي أن يتحلَّى بها معلم القرآن أن يبتغي بعمله مرضاة الله، فيخلص لله في عمله، فلا يعلِّم القرآن لأجل مغنمٍ دنيوي أو مكسب معنوي، بل عليه أن يكون زاهداً بما في أيدي الناس، عفيف النفس، واسع الخلق، طلْق الوجه، صابراً ومحتسباً أجره عند الله، مستحضراً قوله تعالى: {وما أسألكم عليه من أجرٍ إن أجريَ إلا على رب العالمين [الشعراء:109]
وليحذر كل الحذر من الحسد والرياء والعجب بالنفس واحتقار الغير، بل عليه أن يكون ناصحاً مرشداً رفيقاً بمن يعلمه، معتنياً بمصالحه، وأن يحب له ما يحبه لنفسه وولده. ولا ينبغي للمعلم أن يكون عنيفاً أو متساهلاً في تعليمه، بل مقتصداً في أمره، خشية أن ينفِّر من هو بين يديه، وخاصة إذا كانوا ناشئة في العلم، فإن الله يحب الرفق في الأمر كله، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف و إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا يُنزع من شيء إلا شانه.
(حديث جرير ابن عبد الله في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من يُحرم الرفق يُحرم الخير.
(حديث عائشة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الرفق لا يكون في شيءٍ إلا زانه ولا ينزعُ من شيءٍ إلا شانه.
(حديث عائشة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يا عائشة إن الله رفيقٌ يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه.(7/66)
(2) وعليه أن يصبر على من بطأ فهمه، وأن يعذر من قلَّ أدبه أحياناً. وأن يأخذ طلبته بإعادة محفوظاتهم، ويثني على من ظهر تفوقه وإقدامه، ويعنِّف من قصَّر تعنيفاً لطيفاً، ويقدم في القراءة السابق فالسابق، إلا إن كان ثمة مصلحة فيقدِّم اللاحق. وعليه أن يتفقد أحوال طلبته، ويسأل عن غائبهم.
(3) وعلى معلم القرآن أن يكون قدوة للمتعلم في سلوكه كله، من احترام للوقت، والعدل بين المتعلمين، فلا يُفضِّل أحداً على أحد، إلا لمصلحة تتطلب ذلك، ولا يخاطب أحداً بعينه ويعرض عن غيره، بل يكون عدلاً في كل ذلك حتى في نظراته، فهو يعلِّم كلام الله، فليراعِ أمر الله القائل في كتابه: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله [النساء:135]
(4) وعليه أن يصون يديه حال الإقراء عن العبث، وعينيه عن النظر فيما لا حاجة له إليه. وليرعَ الأمانة التي حُمِّلها، وهي أمانة هذا الكتاب، وليتحلَّ بأوصاف أهل القرآن، الذين هم أهل الله وخاصته، ففي ذلك كله فلاح له إن شاء الله.
وجملة القول هنا إن أهل القرآن وحَمَلَتُه إذا أرادوا أن يكونوا أهلاً لهذا الوصف الذي وصفهم به رسول الله، فعليهم أن يتحلُّوا بآداب القرآن، وآداب حَمَلَة القرآن، لينالوا عز الدنيا وعز الآخرة، والله الموفِّق والهادي إلى سواء السبيل.
(استحباب قراءة القرآن الكريم جماعة:
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور: 36]
و قال تعالى (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) [الجن/18]
و قال تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [البقرة/114]
فأضاف المساجد إليه؛ لأنها موضع ذكره.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله و يتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة و غشيتهم الرحمة و حفتهم الملائكة و ذكرهم الله فيمن عنده.
قوله (يتلون كتاب الله و يتدارسونه بينهم) يتلونه: يقرءونه و يتدارسونه أي: يدرس بعضهم على بعض.
(إلا نزلت عليهم السكينة) يعني: في قلوبهم و هي الطمأنينة و الاستقرار السكينة: حالة يطمئن بها القلب فيسكن عن الميل إلى الشهوات وعند الرعب.
و غشيتهم الرحمة: غطتهم و شملتهم.
و حفتهم الملائكة: أي يطوفون بهم يدورون حولهم.(7/67)
وذكرهم اللّه: أثنى عليهم أو أثابهم.
فيمن عنده: أي من الملائكة.
(ومن فوائد الحديث: فضيلة اجتماع الناس على قراءة القرآن لقوله - و ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله .. الخ.
(ومن فوائد الحديث: أن حصول هذا الثواب لا يكون إلا إذا اجتمعوا في بيت الله أي: في مسجد من المساجد لينالوا بذلك شرف المكان لأن أفضل البقاع مساجدها.
(ومن فوائد الحديث: بيان حصول هذا الأجر العظيم تنزل عليهم السكينة و هي الطمأنينة القلبية و تغشاهم الرحمة أي: تغطيهم و تحفهم الملائكة أي: تحيط بهم من كل جانب و يذكرهم الله فيمن عنده من الملائكة لأنهم يذكرون الله تعالى عن ملأ، و قد قال الله تعالى في الحديث القدسي -من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم-.
[*] (قراءة القرآن جماعة لها أربع صور:
الصور الأولى:
أن يقرأ واحد والباقون يستمعون له، فهذه الصورة مستحبة لا تكره بغير خلاف،
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعبد الله بن مسعود: (اقْرأ عَليَّ القُرْآن، فَإِنِّي أُحبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي) فقرأ عليْهِ من سُورة النِّساء حتّى بلغ قوله: ((فَكَيفَ إِذاَ جِئنَاَ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَاَ بِكَ عَلى هَؤلاء شَهِيدا))، قال: (حَسْبُكَ الآن). فالتفتُ إليه فَإِذَاَ عَيْنَاهُ تَذْرِفَان.
قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى 5/ 345: وأما قراءة واحد والباقون يستمعون له فلا يكره بغير خلاف وهي مستحبة، وهي التي كان الصحابة يفعلونها كأبي موسى وغيره.
الصور الثانية:
أن يقرأ قارئ ثم يقطع ثم يعيد غيره ما قرأ الأول لأجل مدارسة القرآن، فهذه الصورة مستحبة باتفاق الفقهاء لأن جبريل كان يدارس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برمضان يعرض كل منهما على الآخر.
[*] قال الحافظ في الفتح:
يعرض عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القرآن، هذا عكس ما وقع في الترجمة لأن فيها أن جبريل كان يعرض على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي هذا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعرض على جبريل وتقدم في بدء الوحي، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فيحمل على أن كلا منهما كان يعرض على الآخر.
[*] وقال في مطالب أولي النهى 1/ 598:
وأما لو أعاد ما قرأه الأول وهكذا فلا يكره؛ لأن جبريل كان يدارس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القرآن برمضان وهذا ما قرره البهوتي رحمه الله في كشاف القناع انظر 1/ 433.(7/68)
[*] وقال الخرشي في شرحه على مختصر خليل 1/ 353:
كما لا تكره المدارسة بالمعنى الذي كان يدارس به جبريل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برمضان من قراءته وإعادة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انتهى
الصورة الثالثة:
أن يقرأ قارئ ثم يقطع ثم يقرأ غيره بما بعد قراءته، فذهب جمهور أهل العلم إلى أن ذلك حسن لا يكره، وذهب الحنابلة إلى كراهة تلك الصورة، قال ابن مفلح في الفروع 1/ 554: وكره أصحابنا قراءة الإدارة، وقال حرب: حسنة، وحكاه شيخنا -أي ابن تيمية رحمه الله- عن أكثر العلماء.
والراجح في هذه الصورة أنها لا تكره، لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده. رواه مسلم وأبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وإذا اتفق الحنابلة مع الجمهور على استحباب الصورة الأولى فلا وجه للكراهة هنا .. إذ لا فرق بين أن يعيد القارئ ما قرأ الأول أو أن يقرأ من حيث ما وقف الأول.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى الكبرى 5/ 345: وقراءة الإدارة حسنة عند أكثر العلماء.
[*] وقال الإمام النووي في التبيان:
فصل في الإدارة بالقرآن وهو أن يجتمع جماعة يقرأ بعضهم عشراً أو جزءاً أو غير ذلك ثم يسكت ويقرأ الآخر من حيث انتهى الأول، ثم يقرأ الآخر وهكذا، وهذا جائز حسن. وقد سئل مالك رحمه الله تعالى عنه فقال: لا بأس به. انتهى
الصورة الرابعة:
أن يقرأ الكل مجتمعين بصوت واحد.
فمذهب الحنابلة والشافعية استحباب ذلك وهو القول الثاني عند الأحناف، قال البهوتي رحمه الله في شرح منتهى الإرادات 1/ 256: ولا تكره قراءة جماعة بصوت واحد.
[*] وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى 5/ 345:
وقراءة الإدارة حسنة عند أكثر العلماء ومن قراءة الإدارة قراءتهم مجتمعين بصوت واحد، وللمالكية قولان في كراهتها. انتهى
[*] وقال محمد بن محمد الخادمي في بريقه محمودية:
وكره أن يقرأ القرآن جماعة لأن فيه ترك الاستماع والإنصات المأمور بها، وقيل لا بأس به ولا بأس باجتماعهم على قراءة الإخلاص جهراً عند ختم القرآن، والأولى أن يقرأ واحد ويستمع الباقون. انظر 3/ 270
القول الثاني: كراهة قراءة الجماعة معاً بصوت واحد لتضمنها ترك الاستماع والإنصات، وللزوم تخليط بعضهم على بعض، وهو المعتمد عند الحنفية والمالكية.(7/69)
قال صاحب غنية المتملي: يكره للقوم أن يقرءوا القرآن جملة لتضمنها ترك الاستماع والإنصات وقيل: لا بأس به.
وقد أثبت المالكية القول بالكراهة في كتبهم وشنعوا على القائلين بالجواز بلا كراهة، وقد عقد ابن الحاج رحمه الله فصلاً في المدخل 1/ 94 وما بعدها رد فيه على الإمام النووي رحمه الله، وما نقله من أدلة وآثار عن السلف فليراجع.
وقال الطرطوشي في الحوادث والبدع: لم يختلف قوله -يعني الإمام مالكاً - أنهم إذا قرؤوا جماعة في سورة واحدة أنه مكروه.
ونقل عن مالك كراهة القراءة بالإدارة وقوله: وهذا لم يكن من عمل الناس.
وقال أبو الوليد ابن رشد: إنما كرهه مالك للمجاراة في حفظه والمباهاة والتقدم فيه. انتهى
ولهذا ينبغي ترك هذه الصورة الأخيرة، فإن الخير في اتباع من سلف، وحذراً من المجاراة والمباهاة واختلاط الأصوات وترك الإنصات.
والله أعلم.
(فوائد قراءة القرآن جماعة:
(1) تعهد القرآن الكريم، فهي تساعد على حفظه وضبطه ومراجعته وعدم نسيانه، وهي بذلك تحقق الاستجابة للأمر النبوي كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال تعاهدوا القرآن فالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا من قلوب الرجال من الإبل من عقلها.
معنى تفصياً: أي تفلتاً
(حديث ابن مسعود في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال بئسما لأحدهم أن يقول: نسيت آية كيت و كيت بل هو نُسِيَ، واستذكروا القرآن فأنه أشدُّ تفصِّياً من صدور الرجال من النَّعم في عُقُلها.
معنى بل نُسِيَ: أي عوقب بالنسيان لتفريطه فاستذكار القرآن
(وقد حمل بعض المفسرين قوله تعالى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى على نسيان القرآن بعد حفظه.
إذن من فوائد هذه القراءة الجماعية التعاون على الحفظ أو المراجعة لأن المسلم الواحد لمفرده يمكن أن يضعف , ولكنه بإخوانه يتقوى.
(2) ومن فوائدها تسميع كتاب الله تعالى لمن يريد سماعه من عوام المسلمين، إذ لا يقدر العامي على تلاوته فيجد بذلك سبيلا إلى سماعه، ثم إن كثيرين حفظوا القرآن من خلال مواظبتهم على الحزب مع الجماعة.(7/70)
(3) ومن حسناتها التماس الفضل المذكور في حديث ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده، فقد استفيد منه أن كل قوم اجتمعوا لما ذُكر حصل لهم الأجر من غير اشتراط وصف خاص فيهم من علم أو صلاح أو زهد.
(4) ومن إيجابياتها أن ينتبه المسلم إلى مواضع الخلل في حفظه للقرآن بطريقة من الصعب أن ينتبه إليها لو كان يحفظ القرآن أو يراجعه لوحده.
(آداب القُراء مجتمعين:
قال الإمام النووي في التبيان في آداب حملة القرآن:
الآداب التي يحتاجون إليها كثيرة لا يمكن حصرها في هذا الموضع، ولكن نشير إلى بعضها تبييناً على الباقي، فجميع آداب القارئ وحده آداب المجتمعين، ونزيد في آدابهم أشياء مما يتساهل فيه بعض الجاهلين، فمن ذلك أن يتغنَّى لهم أن يتجنبوا الضحك، واللغط، والحديث في حالة القراءة، إلا كلاماً يضطر إليه، ومن ذلك العبث باليد وغيرها، والنظر إلى ما يُلهي، أو يُبدد الذِّهن، وأقبح من هذا كُله النَّظر ما لا يجوز النَّظر إليه، كالأمرد وغيره، فإن النَّظر إلى الأمرد الحسن حرام سواء كان بشهوة أو بغيرها، وسواء أمن الفتنة أم لم يأمنها، هذا هو المذهب الصحيح المختار عند المحققين من العلماء، وقد نصَّ على تحريمه الإمام الشّافعيّ، ومن لا يُحصى من العلماء، قال تعالى: ((قُل للمؤمنين يَغضّوا من أبْصارهِم ويحفظوا فُروجَهُم))؛ لأنه في معنى المرأة؛ بل كثير منهم أحسن من كثير من النساء، ويَسهل من طُرق الشَّر في حقهم ما لايُتسهل في النساء فهم بالتحريم أولى، وأقاويل السلف في التنفير منهم أكثر من أن تُحصى.
واعلم أنه يجب على كل حاضر مجلس القراءة أن ينكر ما يراه من هذه المنكرات وغيرها فينكر بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه؛ فإن لم يستطع فلينكره بقلبه.
(فضائل حفظ القرآن الكريم:
(قد شرَّف الله أمة الإسلام بخصيصة لم تكن لأحد من أهل الْملل قبلهم، وهي أنَّهم يقرءون كتاب ربِهم عن ظهر قلبٍ، بخلاف أهل الكتاب، فقد كانوا يقرءون كتبِهم نظرًا، لا عن ظهر قلب.
ميّز الله عز وجل القرآن الكريم عن سائر الكتب بأن تعهد بحفظه، قال تعالى: (إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا الذّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9].
(وكان من حفظه لكتابه أن وفَّقَ هذه الأمة إلى حفظه واستظهاره.(7/71)
ولقد يسّر الله سبحانه وتعالى تلاوة القرآن وحفظه لعباده فقال تعالى: (وَلَقَدْ يَسّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مّدّكِرٍ) [القمر: 17].
فنجد الطفل الصغير والأعجمي وغيرهما، يقبل على حفظ القرآن، فييسر الله له ذلك، رغم أنه لا يعرف من العربية ولا الكتابة شيئاً.
وقد تظاهرت الأدلة على فضل حفظ القرآن الكريم، وفضل حفظته على غيرهم من الْمسلمين، فمن ذلك ما يلي:
(1) التأسي بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فقد كان عليه الصلاة والسلام يحفظه، ويراجعه مع جبريل عليه السلام ومع بعض أصحابه.
(2) التأسي بالسلف الصالح:
[*] قال ابن عبد البر:
طلب العلم درجات ورتب لا ينبغي تعديها، ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف رحمهم الله، فأول العلم حفظ كتاب الله عز وجل وتفهمه ... ا هـ)
حفظه ميسر للناس كلهم، ولا علاقة له بالذكاء أو العمر، فقد حفظه الكثيرون على كبر سنهم. بل حفظه الأعاجم الذين لا يتكلمون العربية، فضلاً عن الأطفال.
(3) علوُّ منزلة حَافظ القرآن، الْماهر به لأنه يكون مع السفرة الكرام البررة كما في الحديث الآتي:
(حديث عائشة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الذي يقرأ القرآن وهو حافظٌ له مع السفرةِ الكرامِ البررة والذي يقرأ القرآن ويتعاهده وهو عليه شديد فله أجران.
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يقال لصاحب القرآن: اقرأ و ارق و رتل كما كنت ترتل في دار الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها.
فيا له من شرف أن تكون مع من قال الله فيهم {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ) (عبس من الآية 13 (16:
(4) صاحب القرآن يلبس حلة الكرامة وتاج الكرامة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يجيء القرآن يوم القيامة، فيقول: يا رب حله، فيلبس تاج الكرامة. ثم يقول: يا رب زده فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيقال اقرأ وارق ويزاد بكل آية حسنة.
(5) ومن ذلك أيضًا أن أهل القرآن هم أهل الله وخاصته:
(حديث أنس في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أهل القرآن أهل الله وخاصته.
(6) ومن ذلك أيضًا أن حملة القرآن مقدمون على أهل الجنة:
[*] قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ:
حَمَلَةُ الْقُرْآنِ عُرَفَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ.(7/72)
[*] وعن طاوس أنه سأل ابن عباس - رضي الله عنهما: ما معنى قول الناس: أهل القرآن عرفاء أهل الجنة؟ فقال: رؤساء أهل الجنة.
(7) حملة القرآن هم أهل الله وخاصته وكفى بهذا شرفاً كما في الحديث الآتي:
(حديث أنس في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أهل القرآن أهل الله وخاصته.
(8) حامل القرآن يستحق التكريم كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي موسى في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم و حامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه و إكرام ذي السلطان المقسط.
(9) الغبطة الحقيقية تكون في القرآن وحفظه كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا حسد إلا في اثنتين: رجلٌ علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جارٌ له فقال: ليتني أوتيتُ مثل ما أُوتيَ فلانٌ فعملتُ مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالاً فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيتُ مثل ما أُوتيَ فلانٌ فعملتُ مثل ما يعمل.
(10) حفظ القرآن وتعلمه خير من متاع الدنيا، كما في الحديث الآتي:
(حديث عقبة ابن عامر في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين زهراوين في غير إثم و لا قطع رحم فلأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين و ثلاث خير له من ثلاث و أربع خير له من أربع و من أعدادهن من الإبل.
(وتذكر أن الإبل في ذلك الزمان أنفس المال وأغلاه.
(11) حافظ القرآن هو أولى الناس بالإمامة كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي مسعودٍ الأنصاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا و لا يؤمنَّ الرجلُ الرجلَ في أهله و لا في سلطانه و لا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه.
(وتذكر أن الصلاة عمود الدين وثاني أركان الإسلام.
(12) حفظ القرآن الكريم رفعة في الدنيا والآخرة، كما في الحديث الآتي:
(حديث عمر في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين.
(بهذا الكتاب): أي بقراءته، أي بالعمل به. وقوله(7/73)
(أقواما): أي: منهم مولاك.
(ويضع به): أي بالإعراض عنه وترك العمل بمقتضاه.
(وهكذا كان توقير الرعيل الأول لكتاب ربهم في صدورهم. وكان السلف ينشئون أطفالهم على حفظ القرآن، ثم يحفظونهم الكتب الستة (أي صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن الترمذي، وسنن أبي داود، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجه). وبعد أن يتمون ذلك يقومون بتحفيظهم مغازي الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وبذلك يشب الطفل المسلم على وعي بكتاب ربه وسنة نبيه صلوات ربي وسلامه عليه. وهكذا حقق الإسلام تقدمه وتفرده، وازدهرت حضارة الإسلام على جميع الحضارات التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وتفوقت عليها؛ وذلك بحفظ كتابها والعمل بمقتضاه.
(13) حافظ القرآن يقدم في قبره، فبعد معركة أحد وعند دفن الشهداء كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجمع الرجلين في قبر واحد ويقدم أكثرهم حفظاً كما في الحديث الآتي:
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) قال كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول أيهم أكثر أخذاً للقرآن فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم.
(14) وفي يوم القيامة يشفع القرآن لأهله، وشفاعته مقبولة عند الله تعالى كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي أمامة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه اقرءوا الزهراوين: البقرة و آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أصحابهما اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة و تركها حسرة و لا تستطيعها البطلة.
اقرءوا الزهراوين: أي النيرتين
قال النووي رحمه الله تعالى في شرح صحيح مسلم:
"و سميتا الزهراوين لنورهما و هدايتهما و عظيم أجرهما"
«كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان»: قال أهل اللغة: الغمامة والغياية كل شيء أظل الإنسان من فوق رأسه من سحابة وغبرة وغيرهما. نقله النووي. وفي القاموس: الغمامة: السحابة أو البيضاء من السحب. والغياية كل ما أظل الإنسان من فوق رأسه كالسحاب ونحوه. والمراد أن ثوابهما يأتي بهذا المنظر.(7/74)
«أو كأنهما فرقان من طير صواف»: الفرقان والحزقان: معناهما واحد، وهما قطيعان وجماعتان، يقال في الواحد: فرق وحزق وحزيقه، أي جماعة، ومعنى «صواف»: باسطة أجنحتها ملتصق بعضها ببعض كما كانت تظلل سليمان عليه السلام، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تحاجان عن أصحابهما» أي تدافعان بالحجة عن أصحابهما.
«فإن أخذها بركة وتركها حسرة»: أي قراءتها بركة وترك قراءتها حسرة وخسارة.
أخذها بركة: أي زيادةٌ ونماء
وتركها حسرة: أي على ما فاته من الثواب
ولا تستطيعها البطلة:
«ولا تستطيعها البطلة» أي السحرة، تسمية لهم باسم فعلهم، لأن ما يأتون به الباطل، وإنما لم يقدروا على قراءتها ولم يستطيعوها لزيغهم عن الحق وانهماكهم في الباطل، ويصح أن يكون المعنى ولا يستطيع دفعها واختراق تحصينها لقارئها السحرة.
وقيل: المراد من البطلة أهل البطالة، أي لا يستطيعون قراءتها وتدبر معانيها لكسلهم.
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترُجَّة ريحها طيب و طعمها طيب و مثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها و طعمها حلو و مثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب و طعمها مر و مثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح و طعمها مر.
فهنيئاً لمن يشفع له هذا الكتاب العظيم في ذلك اليوم العصيب.
(15) حفظ القرآن سبب للنجاة من النار كما في الحديث الآتي:
(حديث عصمة بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لو جمع القرآن في إهاب ما أحرقه الله بالنار.
[*] قال ابن الأثير:
وقيل الْمعنى: مَن علَّمهُ اللهُ القرآنَ لم تحرقْهُ نارُ الآخرةِ، فجُعِلَ جسمُ حافظ القرآن كالإهاب له.
[*] قال أبو أمامة: إن الله لا يعذب بالنار قلباً وعى القرآن.
(16) حفظ القرآن رفعة في درجات الجنة، كما في الحديث الآتي:
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يقال لصاحب القرآن: اقرأ و ارق و رتل كما كنت ترتل في دار الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها.
[*] قال ابن حجر الهيتمي:
الخبر خاص بمن يحفظه عن ظهر قلب، لأن مجرد القراءة في الخط لا يختلف الناس فيها.(7/75)
(17) حافظ القرآن أكثر الناس تلاوة له، فحفظه يستلزم القراءة المكررة، وتثبيته يحتاج إلى مراجعة دائمة فيجعله يفوز بكنزٍ من كنوز الحسنات لأن من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث ابن مسعودٍ في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة و الحسنة بعشر أمثالها لا أقول: {ألم} حرف و لكن: ألف حرف و لام حرف و ميم حرف.
حافظ القرآن يقرأ في كل أحواله، فبإمكانه أن يقرأ وهو يعمل أو يقود سيارته أو في الظلام، ويقرأ ماشياً ومستلقياً، فهل يستطيع غير الحافظ أن يفعل ذلك؟ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
حافظ القرآن لا يعوزه الاستشهاد بآيات القرآن الكريم في حديثه وخطبه ومواعظه وتدريسه، أما غير الحافظ فكم يعاني عند الحاجة إلى الاستشهاد بآية، أو معرفة موضعها.
فهل بعد هذا نزهد في حفظ ما نستطيع من كتاب الله؟! ..
(عناية السلف الصالح بحفظ القرآن:
لا شك ولا ريب أن أول الأمور في طلب العلم بل هو أعظمها وأجلّها (حفظ القرآن الكريم) والناظر إلى سير علمائنا السابقين واللاحقين يجد أنهم أول ما يهتمون بحفظ القرآن الكريم فيحفظونه منذ نعومة أظفارهم قبل البلوغ ذلك لأنه أساس العلوم وقوامها ومنه أولاً تستمد الأحكام والأدلة، ثم بعد ذلك يتدرجون في سلم العلوم الشرعية.
وكان السلف الصالح أول ما يسألون عنه حفظ كتاب الله منذ صغرهم ونعومة أظفارهم فيشبوا وقد علقت قلوبهم بحب الله , وتعظيم كتابه , وتدبر آياته ... فيأتمرون بأوامره وينتهون بنواهيه , فان كانت من مكارم الأخلاق أطّلع عليها واقتدي بها, وان كانت عبراً وَعِظَات, اعتبر بها وَقَرَعَتْ فُؤَادَه.
،وهذه قصة عمر بن أبى سلمة أصح دليل على سرعة حفظ الطفل والحث على المسارعة في تحفيظ الأبناء:
(حديث عمر بن سلمة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كنا بماء ممر الناس , وكان يمر بنا الركبان فنسألهم عن النبي؟ فيقولون يزعم أن الله أرسله أوحى إليه بكذا فكنت أحفظ ذلك الكلام وكأنما يقر في صدري فلما أسلم قومه وأمرهم النبي بالصلاة قال: فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنا منى! لما كنت أتلقى من الركبان فقدموني بين أيديهم و أنا ابن ست أو سبع سنين؟؟.(7/76)
(ومما يدل على إن هذا دأب الصحابة قول ابن عباس: جمعت المحكم في عهد رسول الله؟؟ فقلت له: ما المحكم؟ قال: المفصل! (أي من الحجرات إلى آخر القرآن) وقال أيضاً: سلوني عن التفسير فإني حفظت القرآن وأنا صغير
[*] وعن ابن عباس قال: من قرأ القرآن قبل أن يحتلم فهو ممن أوتى الحكم صبيا (الآداب الشرعية لابن مفلح1/ 244)
(ومما يستطرف في هذا الشأن حكاية الفرزدق حيث دخل مع أبيه على علي بن أبى طالب رضي الله عنه وقال له:
إن ابني يوشك أن يكون شاعراً فقال له: أقرئه القرآن فهو خير له! فقال: ما زالت كلمته في نفسي حتى قيّد نفسه بقيد وآلي أن لا يفكه حتى يحفظ القرآن فما فكه حتى حفظه (خزانه الأدب 1/ 222)
[*] قال الشيخ أبو زكريا النواوي رحمه الله في التبيان:
والظاهر أن كلام السلف وفعلهم محمول على هذا التفصيل وكان السلف يتعاهدون أطفالهم على حفظ كتاب الله تعالى. دخل الرحالة الشهير ابن بطوطة خلال رحلته في مالي على قاض مالي يوم العيد عام 1352م فوجد أولاده في القيود فقال ألا تسرحهم فأجابه لا أفعل حتى يحفظوا القرآن كما مر ابن بطوطة في مالي بشاب حسن الصوت وعليه ثياب فاخرة وفي رجليه قيد ثقيل فسأل مرافقه عما ارتكبه هذا الشاب من جرم، وعلم أخيرا أنه قيد حتى ينتهي من حفظ القرآن.
ورغم أن أسلوب ربط القيود مما تَعافًه أنفسنا اليوم ولا تعتبره الأساليب التربوية الحديثة صحيحا، إلا أن هاتين القصتين توضحان مقدار حرص المسلمين في أقاصي إفريقيا وغيرها من بلاد المسلمين على تحفيظ أولادهم كتاب الله.
[*] قال الميموني: سألت أبا عبد الله (يعني الإمام أحمد) أيهما أحب إليك أبدأ ابني بالقرآن أو بالحديث؟ قال: لا بالقرآن، قلت: أعلمه كله؟ قال: إلا أن يعسر، فتعلمه منه. (الآداب الشرعية لابن مفلح (2/ 3)
[*] وقال الخطيب البغدادي: ينبغي للطالب أن يبدأ بحفظ كتاب الله عز وجل إذ كان أجل العلوم وأولاها بالسبق والتقديم. (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 1/ 106).
[*] وقال الحافظ النووي رحمه الله: وأول ما يبتدئ به حفظ القرآن العزيز فهو أهم العلوم، وكان السلف لا يُعلِّمون الحديث والفقه إلا لمن حفظ القرآن. (مقدمة المجموع شرح المهذب)(7/77)
[*] وقال شيخ الإسلام: وأما طلب حفظ القرآن فهو مقدم على كثير مما تسميه الناس علما وهو إما باطل أو قليل النفع، وهو أيضا مقدم في التعلم في حق من يريد أن يتعلم علم الدين من الأصول والفروع، فإن المشروع في حق مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القرآن فإنه أصل علوم الدين. (الفتاوى الكبرى 2/ 235)
[*] قال ابن خلدون رحمه الله: ((كان أول ما يُشرع في تعليم الصبيان تحفيظ القرآن الكريم)).
(وهكذا كان توقير الرعيل الأول لكتاب ربهم في صدورهم. وكان السلف ينشئون أطفالهم على حفظ القرآن، ثم يحفظونهم الكتب الستة (أي صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن الترمذي، وسنن أبي داود، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجه). وبعد أن يتمون ذلك يقومون بتحفيظهم مغازي الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وبذلك يشب الطفل المسلم على وعي بكتاب ربه وسنة نبيه صلوات ربي وسلامه عليه. وهكذا حقق الإسلام تقدمه وتفرده، وازدهرت حضارة الإسلام على جميع الحضارات التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وتفوقت عليها؛ وذلك بحفظ كتابها والعمل بمقتضاه.
(ثم خلف من بعد ذلك خلف أضاعوا هذه القيم، ولم يهتموا بكتاب ربهم. هان الله في نفوسهم، فأهانهم الله بما اقترفوه من ذنوب. وقد ضرب لنا القرآن المثل على الأمة التي تضيع العمل بكتابها، فقال تعالى مخبرا عن بني إسرائيل، والخطاب للتذكرة والتحذير: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا اْلأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ َلا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إَِّلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ اْلآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفََلا تَعْقِلُونَ}] الأعراف: 169 [.
[*] قال الشيخ أبو بكر الجزائري في تفسيره لهذه الآية: يحكي الله تعالى عن اليهود أنه قد خلفهم خلف سوء، ورثوا التوراة عن أسلافهم، ولم يلتزموا بما أُخذ عليهم فيها من عهود، على الرغم من قراءتهم لها. فقد آثروا الدنيا على الآخرة، فاستباحوا الربا والرشا وسائر المحرمات، ويدّعون أنهم سيغفر لهم. وكلما أتاهم مال حرام أخذوه، ومنوا أنفسهم بالمغفرة كذبا على الله تعالى. وقد قرأوا في كتابهم ألا يقولوا على الله إلا الحق وفهموه، ومع! هذا يجترئون على الله ويكذبون عليه بأنه سيغفر لهم.
[*] وقال القرطبي في تفسيره:(7/78)
وهذا الوصف الذي ذم الله تعالى به هؤلاء موجود فينا. فقد روى الدارمي في سننه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سَيَبْلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب، فيتهافت, يقرءونه لا يجدون له شهوة ولا لذة, يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب, أعمالهم طمع لا يخالطه خوف, إن قصروا قالوا سنبلغ, وإن أساءوا قالوا سيغفر لنا, إنا لا نشرك بالله شيئا.
واستمر خط الابتعاد عن كتاب الله يمضي قدما، بطيئا وبشكل يخفى عن العامة في أول الأمر، ثم بخطى متسارعة وبصورة سافرة بعد ذلك. فبعد أن كانت الأمة مجمعة الكلمة على العمل بكتاب ربها، وتستمد تشريعاتها من أحكامه، بدأت في التخلي عنه شيئا فشيئا، فعاقبها الله بأن سلبه من يدها، إلى أن أصبحت لا تعمل به. وبالطبع كان هناك دورا رئيسيا لأعداء الأمة في الوصول إلى هذه الحالة التي أصبحنا عليها.
فقد جاء الاحتلال الفرنسي فتعامل بقسوة مع الأمة، وحاول إجبار الأمة على التخلي عن تعاليم الدين بالحديد والنار. وبسبب إتباع هذا المنهج السافر، فلم تزدد الأمة إلا تمسكا بدينها وبتعاليم كتاب ربها. ورغم أنه لم يكن قد بقي من الإسلام إلا طلاسم وذكريات إلا أن الأمة وقفت صفا واحدا في وجه من حاولوا تشويه صورة دستورها. ولذلك تعامل الإنجليز الذين أعقبوا الفرنسيين بصورة أكثر دهاء ومكرا ولكن بنفس المنطق والحزم في زحزحة الأمة عن دينها.
فيقف جلادستون رئيس وزراء بريطانيا الأسبق في مجلس العموم البريطاني يحث قومه على زعزعة الأمة عن دينها فيقول: " مادام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوروبا السيطرة علي الشرق ولا أن تكون هي نفسها في أمان ". ويقول الحاكم الفرنسي في الجزائر في ذكرى مرور مائة سنة على استعمار الجزائر: " إننا لن ننتصر على الجزائريين ما داموا يقرأون القرآن ويتكلمون العربية، فيجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم ".(7/79)
ويسير المنصرون الذين رافقوا هذه الحملات على نفس الخط. فيقول المنصر وليم جيفورد بالكراف، في كتاب جذور البلاء: " متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب، يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيداُ عن محمد (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وكتابه ". ويقول المنصر تاكلي، في كتاب التبشير والاستعمار: " يجب أن نستخدم القرآن، وهو أمضى سلاح في الإسلام، ضد الإسلام نفسه، حتى نقضي عليه تماماً. يجب أن نبين للمسلمين أن الصحيح في القرآن ليس جديداُ، وأن الجديد فيه ليس صحيحاً ". ويقول المنصر ذاته " تاكلي "، في كتاب الغارة على العالم الإسلامي: " يجب أن نشجع إنشاء المدارس على النمط الغربي العلماني، لأن كثيراً من المسلمين قد تزعزع اعتقادهم بالإسلام والقرآن حينما درسوا الكتب المدرسية الغربية وتعلموا اللغات الأجنبية ".
واستدعى ذلك الأمر العمل على عدة محاور وفي نفس الوقت. فتم إلغاء الكتاتيب والحد من تأثيرها وإضعاف مكانتها في النفوس. وبالطبع لا يختلف أحد في أن الكتاتيب كان قد أصابها شيء من القصور، ولكن كان يجب العمل على علاج تلك الأخطاء الناجمة والتي تراكمت عبر الزمن وليس إلغائها تماما. وتزامن هذا مع الإبقاء على الأزهر - كمؤسسة دينية - قائما مع إضعاف مكانته وزعزعة ثقة الناس فيه بإنشاء المدارس الأجنبية اللادينية إلى جانبه، والمسارعة إلى تعيين خريجي هذه المدارس في مختلف الوظائف المرموقة وبأجور مرتفعة للغاية، مع عدم توفير فرص عمل لخريجي الأزهر (وبالأخص حملة القرآن منهم)، وإن وجدت فهي ضعيفة الأجر.(7/80)
وهكذا بدأت النظرة إلى القرآن واللغة العربية تتغير في نفوس الناس! ومع رثاثة حال حملة القرآن وخريجي المدارس الدينية، ووجاهة خريجي المدارس اللادينية، بدأت هذه النظرة الجديدة تتغلغل في النفوس، ليتجه المجتمع بأكمله نحو هجران القرآن!! ولم يعد فخرا للأسر أن ترتبط بمن يحمل مؤهل ديني، لضعف منزلته الاجتماعية في المجتمع. مع ما تركه هذا من آثار عميقة في نفوس هؤلاء الأفراد، الذين شعروا أنهم ما وصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا بسبب اتجاههم للدين، فكان أن مقتوه في داخل نفوسهم، وسعوا بكل الطرق إلى عدم تكرار تجاربهم. وصار طموح أي فرد في المجتمع أن يصبح طبيبا أو مهندسا أو ضابطا. ولم تعد تجد من يحلم أو تحلم له أسرته بأن يكون " عالم دين " أو " دارس فقه " أو حامل للقرآن ". وتواكب مع هذا صناعة نجوم في المجتمع يشار إليها بالبنان تبتعد تماما عن الإسلام وقيمه. وغُيبت عن عمد نماذج رجال الدين أو رموزنا الدينية من صفحات! الجرائد أو المجلات أو وسائل الإعلام الأخرى حتى يستقر هذا الاتجاه في النفوس.
وبدأ المخطط بتحويل كتاب الله من قوة حاكمة دافعة للمجتمع إلى مجرد كتاب يحمل ذكريات. تُغير عليه قوى الشر ولا يتحرك المسلمون للدفاع عنه. وتنتشر من حوله الخرافات. وهكذا يصبح القرآن الذي هو حياة الأمة، رمزا للموت فيها، فلا يقرأ إلا في سرادقات العزاء، ولا تكاد تسمع القرآن في مكان حتى تسأل عمن توفى!!! وجعلوا من فاتحة الكتاب - التي هي دستور حياة المسلمين، والتي كان حرص الشارع على قراءتها سبع عشرة مرة على الأقل يوميا في كل ركعة من الصلوات المفروضة - وسيلة لجلب الرحمة على الأموات، فلا تذكر ميتا حتى يقال " اقرءوا له الفاتحة "!!!
وصدق فيهم قول ربي عز وجل: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]
(والذي يشاهد واقع الشباب اليوم يجد أن بعضهم يُغفل جانب حفظ القرآن بل بعضهم يبدأ بالحفظ قليلاً ثم لا يلبث أن ينقطع مع أنه ربما يكون مجتهداً في حضور الدروس العلمية الشرعية، وأخشى أن يكون هذا من عدم التوفيق فن فرَط في كتاب الله تعالى كان مُفَرِّطاً لغيره من باب أولى فليس هناك أنفع من كتاب الله تعالى.
(تيسير القرآن للتلاوة والحفظ:
قال تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مُدّكِر} [القمر /17].
[*] روى البخاري عن مجاهد أنه قال: "يسرنا القرآن أي هونّا تلاوته".(7/81)
[*] وذكر القرطبي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية قال: "سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه" وذكر عن سعيد ابن جبير أنه قال: "ليس من كتب الله كتابٌ يُقرأ كله ظاهراً أي عن ظهر قلب إلا القرآن".
[*] وفي تفسير ابن كثير قال: "سهلنا لفظه ويسرنا معناه لمن أراد أن يتذكر من الناس" فهل من متذكر بهذا القرآن الذي قد يسّر الله حفظه ومعناه.
[*] قال العلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره:
ولقد يسرنا وسهلنا هذا القرآن الكريم ألفاظه للحفظ والأداء، ومعانيه للفهم والعلم لأنه أحسن الكلام لفظاً وأصدقه معنى وأبينه تفسيراً، فكل من أقبل عليه يسّر الله عليه مطلوبه غاية التيسير وسهّله عليه .. ثم يقول: ولهذا كان علم القرآن حفظاً وتفسيراً أسهل العلوم وأجلّها على الإطلاق وهو العلم النافع الذي إذا طلبه العبد أُعِين عليه، وقال بعض السلف عند هذه الآية: هل من طالب علم فيُعان عليه؟ ولهذا يدعو الله عباده إلى الإقبال عليه والتذكر بقوله: ((فهل من مدّكر) انتهى كلامه رحمه الله).
إذاً فالأصل في القرآن أنه سهل الحفظ ميسوره لكن الخلل منا نحن الذين تشاغلنا عن الإقبال عليه حفظاً وتفهماً بأعذارٍ بعضها يوجد لها حل وكثير منها من تلبيس إبليس على الشباب.
(جاذبية القرآن:
والقرآن كتاب لا يمل قارئه ولا يكل سامعه ولا يخلق على كثرة الرد وقد عدّ العلماء هذا من خصائص القرآن بل عدّوه من وجوه إعجازه كما
[*] ذكر الماوردي من وجوه الإعجاز في القرآن إعجازه وذكر منه وجهاً من الوجوه فقال: ((إن قارئه لا يكل وسامعه لا يمل وهذا في غيره من الكلام معدوم)).وقال الرافعي الأديب: ((ومما انفرد به القرآن عن سائر الكلام أنه لا يخلق على كثرة الرد وطول التكرار ولا تُمل منه الإعادة)).
(فضائل أهل القرآن الكريم وتفضليهم على غيرهم:
(1) أثنى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الدائمين على تلاوة القرآن ودراسته، العاكفين على تدبر معانيه وتعلم أحكامه، حتى سماهم أهل الله وخاصته.
(حديث أنس في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أهل القرآن أهل الله وخاصته.
(حديث عثمان في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال خيركم من تعلم القرآن وعلمه.
(2) بين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الله تعالى يرفع صاحب القرآن في الدنيا والآخرة:
(حديث عمر في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضعُ به آخرين.(7/82)
(يرفع بهذا الكتاب): أي بقراءته والعمل به
(ويضع به آخرين): أي بالإعراض عنه وترك العمل بمقتضاه.
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يقال لصاحب القرآن: اقرأ و ارق و رتل كما كنت ترتل في دار الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها.
(3) القرآن يشفع لصاحبه يوم القيامة وتقبل شفاعته:
(حديث أبي أمامة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه.
(حديث عبد اله بن عمرو في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الصيام و القرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام: أي رب إني منعته الطعام و الشهوات بالنهار فشفعني فيه يقول القرآن: رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيُشَفَّعان.
معنى فيشفَّعان: أي فتقبل شفاعتهما
(4) رفع منزلة حافظ القرآن عند اله تعالى:
(حديث عثمان في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال خيركم من تعلم القرآن وعلمه.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل و آناء النهار فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل و رجل آتاه الله مالا فهو يهلكه في الحق فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل.
{تنبيه}: (المقصود بالحسد هنا: الغبطة لأن الحسد مذموم على كل أحواله فلا يحل في اثنتين ولا ثلاث.
(حديث عائشة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الذي يقرأ القرآن وهو حافظٌ له مع السفرةِ الكرامِ البررة والذي يقرأ القرآن ويتعاهده وهو عليه شديد فله أجران.
(حديث أنس في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أهل القرآن أهل الله وخاصته.
(5) إكرام أهل القرآن أحياءاً وأمواتاً
(إكرامهم أحياءاً
(حديث أبي مسعودٍ الأنصاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا و لا يؤمنَّ الرجلُ الرجلَ في أهله و لا في سلطانه و لا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه.
(حديث ابن عباس في صحيح البخاري موقوفاً) قال: كان القراء أصحاب مجلس عمر رضي الله تعالى عنه كهولاً كانوا أم شباناً.(7/83)
(حديث أبي موسى في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم و حامل القرآن غير الغالي فيه و الجافي عنه و إكرام ذي السلطان المقسط.
معنى {من إجلال الله}: أي من تعظيم الله تعالى
معنى {غير الغالي فيه}: أي غير متجاوز الحد فيه في العمل به وتتبع ما خفي منه واشتبه عليه من معانيه وغير الغالي فيه من حيث قراءته ومخارج حروفه
ومعنى {والجافي عنه} أي وغير الجافي عنه أي غير التارك له البعيد عن تلاوته والعمل به.
(إكرامهم أمواتاً:
(حديث جابر في صحيح البخاري) قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجمع بين الرجلين من قتلى أحدٍ في الثوب الواحد ثم يقول: أيهم أكثر أخذاً للقرآن فإذا أُشير إلى أحدهما قدَّمه في اللحد وقال أنا شهيدٌ على هؤلاء يوم القيامة وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسَّلوا ولم يُصلى عليهم.
[*] عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يختالون"
[*] وعن الحسن بن علي رضي الله عنه قال: " إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل شذا في النهار ".
[*] وعن الفضيل بن عياض قال: " ينبغي لحامل القرآن أن لا تكون له حاجة إلى أحد من الخلفاء فمن دونهم "، وعنه أيضاً قال: " حامل القرآن حامل راية الإسلام لا ينبغي أن يلهو مع من يلهو ولا يسهو مع من يسهو ولا يلغو مع من يلغو تعظيما لحق القرآن ".
[*] قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إنّا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن وسهل علينا العمل به، وإنّ من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به.
[*] قال عثمان بن عفان وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: (لو طهرت القلوب لم تشبع من قراءة القرآن.
[*] قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إذا أردتم العلم فانثروا القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين.
(فضل تدبر القرآن الكريم ومعانيه وأحكامه:
ينبغي عند قراءة القرآن أن يتدبّر القارئ ويتأمل في معاني القرآن وأحكامه، لأن هذا هو المقصود الأعظم والمطلوب الأهم، وبه تنشرح الصدور وتستنير القلوب، قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته} [سورة ص: 29].
في هذه الآية بين الله تعالى أن الغرض الأساس من إنزال القرآن هو التدبر والتذكر لا مجرد التلاوة على عظم أجرها.(7/84)
وفَقُهَ الصحابةُ رضي الله عنهم شرع الله وسنة رسوله فكانوا لا يتعجَّلون مجرد التلاوة دون تدبر، بل كانوا لا يجاوزون عشر آيات حتى يعلموا معانيهن والعمل بهن (رواه الطبري في تفسيره عن ابن مسعود رضي الله عنه). ونهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ختم القرآن في أقل من ثلاث لأنه لن يتحقق تدبره وفقهه.
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث.
(وكان الصحابة رضي الله عنهم لا يتعجلون حفظ القرآن (وهو نافلة) دون تدبره (وهو فرض عين)، بل ثبت في الصحيحين أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مات ولم يحفظ القرآن من الصحابة غير أربعة على اختلاف في أسماء اثنين منهم، وبمجموع الروايات لا يكاد الحفاظ من الصحابة يتجاوز عددهم العشرة، ووصف غيرهم بالقرَّاء لا يعني حفظه كله.
[*] قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إنَّا صعب علينا حفظ القرآن وسهل علينا العمل به، وإن من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به) الجامع لأحكام القرآن 1/ 75.
[*] وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (كان الفاضل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة ونحوها ورزقوا العمل بالقرآن) الجامع لأحكام القرآن 1/ 76.
(وكانوا يحذرون مما آل إليه الحال اليوم في جميع بلاد المسلمين عربًا وعجمًا؛ فقد أمر عمر رضي الله عنه عامله في العراق أن يفرض للحفاظ في الديوان، فلما بلغه أن سبع مئة حفظوا القرآن قال: (إني لأخشى أن يسرعوا إلى القرآن قبل أن يتفقَّهوا في الدين) وكتب إلى عامله ألا يعطيهم شيئاً (عن مالك في العتبية).
(وكانوا يتعلمون الإيمان قبل القرآن ثم يتعلمون القرآن (كما في الحديث الآتي:
(حديثُ جندب ابن عبد الله صحيح ابن ماجة) قال كنا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن فتيانٌ حزَاوِرَة، فتعلمنا الإيمانَ قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآنَ فازددنا به إيمانا.
وتَنْزِلُ السورة فيتعلَّمون حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها. (كما في: بيان مشكل الآثار للطحاوي 4/ 44 عن ابن عمر رضي الله عنهما.) حتَّى لقد ورد عن عمر رضي الله عنه أنه تعلَّم سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة. (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/ 76، ط: دار الكتاب العربي بيروت).(7/85)
[*] قال الحسن البصري رحمه الله: (نزل القرآن ليتدبر ويعمل به فاتخذوا تلاوته عملاً) مفتاح دار السعادة لابن القيم (1/ 187 مكتبة الرياض الحديثة.) [*] وقال ابن القيم رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78]: (ذم الله المحرفين لكتابه والأميين الذين لا يعلمون منه إلا مجرد التلاوة وهي الأماني) بدائع التفسير: 1/ 300. وذكر الشوكاني رحمه الله من تفسيرها: (لا علم لهم إلا مجرد التلاوة دون فهم وتدبر) فتح القدير 1/ 104.
[*] وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: 121]: قال ابن مسعود رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله ولا يحرف الكلم عن مواضعه ولا يتأوَّل منه شيئًا على غير تأويله)، وعن عمر رضي الله عنه: (هم الذين إذا مروا بآية رحمةٍ سألوها من الله، وإذا مروا بآية عذابٍ استعاذوا منها). ولم يفسرها أحد من الفقهاء في الدين بالتجويد أو الحفظ مجردًا عن التدبر.
[*] وقال ابن القيم رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]: (هجر القرآن أنواع)، وذكر منها: (هجر تدبره وتفهمه ومعرفة مراد الله منه) (بدائع التفسير).
[*] وقال ابن كثير رحمه الله تعالى:
(وترك تدبره وتفهمه من هجرانه) (مهذَّب تفسيره، ط: دار السلام 678). وقال ابن القيم رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123]: (وهذه المتابعة هي التلاوة التي أثنى الله على أهلها ... فتلاوة اللفظ جزء مسمى التلاوة المطلقة وحقيقة اللفظ إنما هي الاتباع ... والمقصود التلاوة الحقيقية وهي تلاوة المعنى واتباعه ... وتلاوة المعنى أشرف من تلاوة اللفظ، وأهلها هم أهل القرآن الذين لهم الثناء في الدنيا والآخرة) مفتاح دار السعادة 1/ 42.
[*] وقال ابن القيم رحمه الله: (فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وحلاوة القرآن)،(7/86)
[*] وروي عن أيوب عن أبي جمرة قال: قلت لابن عباس: إني سريع القراءة، إني أقرأ القرآن في ثلاث، قال: (لأن أقرأ سورة من القرآن في ليلة فأتدبرها وأرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كما تقرأ) 1/ 187.
[*] وقال ابن تيمية رحمه الله: (والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه والعمل به فإن لم تكن هذه همة حافظه لم يكن من أهل العلم والدين) (مجموع الفتاوى: 23/ 55)
(معنى التدبر:
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى: التدبر تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله. وقيل في معناه: هو التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه البعيدة.
[*] قال السيوطي رحمه الله تعالى: صفة التدبر أن يشغل القارئ قلبه بالتفكر في معنى ما يتلفظ به فيعرف معنى كل آية، ويتأمل الأوامر والنواهي، ويعتقد قبول ذلك، فإن كان قصر عنه فيما مضى من عمره اعتذر واستغفر، وإذا مر بآية عذاب أشفق وتعوّذ، أو تنزيه نزّه وعظّم، أو دعاء تضرع وطلب.
(وصفة ذلك: أن يشغل قلبه بالتفكر في معنى ما يلفظ به، فيعرف معنى كل آية، ويتأمل الأوامر والنواهي، فإن كان مما قصر عنه فيما مضى اعتذر واستغفر، وإذا مرّ بآية رحمة استبشر وسأل، أو عذاب أشفق وتعوّذ، أو تنزيه نزّه وعظّم، أو دعاء تضرّع وطلب.
وقد ورد الحث الشديد في الكتاب العزيز، وفى السنة الصحيحة على التدبر في معاني القرآن والتفكر في مقاصده وأهدافه.
قال تعالى: (أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىَ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ) [محمد / 24]
وفى هذه الآية الكريمة توبيخ عظيم على ترك التدبر في القرآن.
(والسنة الصحيحة طافحةٌ بما يحث على تدبر القرآن منها ما يلي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه.
[*] قال علي رضى الله عنه: لا خير في عبادة لا فقه فيها، ولا في قراءة لا تدبر فيها.
[*] وقال ابن عباس رضى الله عنهما: لأن أقرأ إذا زلزلت والقارعة أتدبرهما، أحب إليّ من أقرأ البقرة وآل عمران تهذيرا.
[*] وقال ابن مسعود رضى الله عنه: من أراد علم الأولين والآخرين، فليتدبر القرآن.(7/87)
وقد بات الكثير من السلف يتلو أحدهم آية واحدة ليلة كاملة، يرددها ليتدبر ما فيها، وكلما أعادها انكشف له من معانيها، وظهر له من أنوارها، وفاض عليه من علومها وبركاتها.
[*] قال الأحنف بن قيس: عرضت نفسي على القرآن، فلم أجد نفسي بشيء أشبه مني بهذه الآية وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [التوبة/ 102]
{تنبيه}: (واقعنا هو تطبيق جزء من الحديث وهو التلاوة أما الدراسة والتدبر فهي - في نظر بعضنا - تؤخر الحفظ وتقلل من عدد الحروف المقروءة فلا داعي لها.
(حديث حذيفة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ البقرة وآل عمران والنساء في ركعة، لا يمر بآيةِ رحمةٍ إلا سأل ولا بآيةِ عذاب إلا استجار.
(حديث حذيفة رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: صليت مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة فافتتح البقرة ثم المائة فمضى ثم المائتين فمضى فقلت يصلي بها في ركعة فمضى فافتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأ مترسلا إذا مر بآية فيها تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ ثم ركع فقال سبحان ربي العظيم فكان ركوعه نحوا من قيامه ثم رفع رأسه فقال سمع الله لمن حمده فكان قيامه قريبا من ركوعه ثم سجد فجعل يقول سبحان ربي الأعلى فكان سجوده قريبا من ركوعه.
(هذا تطبيق نبوي عملي للتدبر ظهر أثره بالتسبيح والسؤال والتعوذ.
وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يهتم اهتماماً بالغاً بتدبر القرآن وكان أحياناً لا يزال يردد آيةً حتى يصبح
(حديث أبي ذر في صحيحي النسائي وابن ماجة) قال قام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بآيةٍ يرددها حتى أصبح، والآية قال تعالى: (إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
[المائدة / 118]
(فهذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقدم التدبر على كثرة التلاوة، فيقرأ آية واحدة فقط في ليلة كاملة.
وقد تأسى أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به في ذلك فردد تميم بن أوس آيةً حتى أصبح والآية هي (أَمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرَحُواْ السّيّئَاتِ أَن نّجْعَلَهُمْ كَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَوَآءً مّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ) {الجاثية/21)
[*] قال محمد بن كعب القرظي:(7/88)
لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بـ (إذا زلزلت) و (القارعة) لا أزيد عليهما أحب إليَّ من أن أهذَّ القرآن ليلتي هذّاً. أو قال: أنثره نثرا ً.
[*] قال ابن القيم: ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر القرآن وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرها وعلى طرقاتهما وأسبابهما وثمراتهما ومآل أهلهما، وتتل في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصره مواقع العبر.
وتشهده عدل الله وفضله وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله وما يحبه وما يبغضه وصراطه الموصل إليه وقواطيع الطريق وآفاته، وتعرفه النفس وصفاتها ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم وأحوالهم وسيماهم ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة.
فتشهده الآخرة حتى كأنه فيها، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها، وتميز له بين الحق والباطل في كل ما يختلف فيه العالم، وتعطيه فرقاناً ونوراً يفرق به بين الهدى والضلال، وتعطيه قوة في قلبه وحياة واسعة وانشراحاً وبهجة وسروراً فيصير في شأن والناس في شأن آخر؛ فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل.
وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتهديه في ظلم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل، وتبصره بحدود الحلال والحرام وتوقفه عليها؛ لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل، وتناديه كلما فترت عزماته.
تقدمَ الركبُ، وفاتك الدليل، فاللحاقَ اللحاقَ، والرحيلَ الرحيلَ فاعتصم بالله واستعن به وقل: {حسبي الله ونعم الوكيل.
(إنَّ المؤمن عندما يُحسن قراءة القرآن وتدبره يقف على زاد عظيم من معانيه ودلالاته وهداياته، ونحن في عصرنا الحاضر أحوج ما نكون إلى القرآن العظيم، نتلوه ونتدَّبره، نفهمه ونفسِّره، نحيا به ونتعامل معه، نصلح أنفسنا ومجتمعاتنا على هديه، ونقيم مناهج حياتنا على أسسه ومبادئه وتوجيهاته.
[*] يقول الإمام الآجري رحمه الله تعالى:(7/89)
ألا ترون رحمكم الله إلى مولاكم الكريم، كيف يحثُّ خلقه على أن يتدبروا كلامه، ومن تدبَّر كلامه عرف الربّ عز وجل، وعرف عظيم سلطانه وقدرته، وعرف عظيم تفضله على المؤمنين، وعرف ما عليه من فرض عبادته، فألزم نفسه الواجب، فحذر ممَّا حذَّره مولاه الكريم، ورغب فيما رغَّبه فيه، ومن كانت هذه صفته عند تلاوته للقرآن وعند استماعه من غيره، كان القرآن له شفاء، فاستغنى بلا مال، وعزَّ بلا عشيرة، وأنس بما يستوحش منه غيره، وكان همُّه عند تلاوة السورة إذا افتتحها: متى أتعظ بما أتلوه؟ ولم يكن مراده: متى أختم السورة؟ وإنَّما مراده: متى أعقل من الله الخطاب؟ متى أزدجر؟ متى أعتبر؟ لأنَّ تلاوته للقرآن عبادة، والعبادة لا تكون بغفلة.
[*] عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال في القرآن الكريم:
لا تهذوا القرآن هذا لشعر ولا تنثروه نثر الدقل - أي التمر الرديء وفي رواية الرمل - قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة.
[*] وقال الحسن البصري رحمه الله:
"الزموا كتاب الله وتتبعوا ما فيه من الأمثال، وكونوا فيه من أهل البصر، رحم الله عبداً عرض نفسه وعمله على كتاب الله، فإن وافق كتابَ الله حمد الله وسأله الزيادة، وإن خالف كتاب الله أعتب نفسه ورجع من قريب".
(إنَّ التمسك بكتاب الله عزّ وجل تلاوة وتدبراً، عملاً والتزاماً، سبيلُ السعادة في الدارين الدنيا والآخرة، وطريق الفلاح فيهما،
[*] قال ابن عباس رضي الله عنهما:
"تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يَضِلَّ في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. ثم قرأ قوله تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) [طه 123: 126]
(وإذا نظرنا في سير الصحابة ومن بعدهم من سلف هذه الأمة؛ نجدهم قد تلقوا هذا القرآن الكريم مدركين مدى الشرف الذي حباهم الله به، فأقبلوا عليه يحفظونه ويرتلونه آناء وأطراف النهار، جعلوه غذاء أرواحهم وقوت قلوبهم وقرة أعينهم، نفذوا أحكامه وأقاموا حدوده وطبقوا شرائعه، طهرت به نفوسهم وصلحت به أحوالهم، ودعوا الناس إليه ورغبوهم فيه.(7/90)
[*] عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال في القرآن الكريم:
لا تهذوا القرآن هذا لشعر ولا تنثروه نثر الدقل - أي التمر الرديء وفي رواية الرمل - قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة.
[*] قال عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: (لقد عشنا دهرا طويلا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن فتنزل السورة على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها، ثم لقد رأيت رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين الفاتحة إلى خاتمته لا يدري ما آمره ولا زاجره وما ينبغي أن يقف عنده منه، ينثره نثر الدقل!!) ..
[*] قال الحسن البصري: والله! ما تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله، ما يُرى له القرآنُ في خُلُق ولا عمل. قال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ... } النساء: 82.
[*] وقال الحسن أيضاً: نزل القرآن ليُتَدَبَّر ويعمل به؛ فاتخذوا تلاوته عملاً. أي أن عمل الناس أصبح تلاوة القرآن فقط بلا تدبر ولا عمل به.
[*] قال ابن كثير: (يقول الله تعالى آمراً عباده بتدبر القرآن وناهياً لهم عن الإعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة: أفلا يتدبرون القرآن)، فهذا أمر صريح بالتدبر والأمر للوجوب. قال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به} ...
[البقرة: 121]
روى ابن كثير عن ابن مسعود قال: والذي نفسي بيده! إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله.
[*] وقال الشوكاني: يتلونه: يعملون بما فيه، ولا يكون العمل به إلا بعد العلم والتدبر. قال تعالى: {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون} [البقرة: 78]
[*] قال الشوكاني: وقيل: (الأماني: التلاوة) أي: لا علم لهم إلا مجرد التلاوة دون تفهم وتدبر.
[*] وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: ذم الله المحرفين لكتابه والأميين الذين لا يعلمون منه إلا مجرد التلاوة وهي الأماني. قال الله تعالى: {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا} [الفرقان: 30]
[*] قال ابن كثير:
وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وقال ابن القيم: هجر القرآن أنواع ... الرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.
وحتى نتدبر القرآن فعلينا بمراعاة الآتي:(7/91)
(1) مراعاة آداب التلاوة من طهارة ومكان وزمان مناسبين وحال مناسبة وإخلاص واستعاذة وبسملة وتفريغ للنفس من شواغلها وحصر الفكر مع القرآن والخشوع والتأثر والشعور بأن القرآن يخاطبه.
(2) التلاوة بتأنٍ وتدبر وانفعال وخشوع، وألا يكون همه نهاية السورة، الوقوف أمام الآية التي يقرؤها وقفةً متأنيةً فاحصةً مكررةً، النظرة التفصيلية في سياق الآية: تركيبها - معناها - نزولها - غريبها – دلالاتها.
(3) ملاحظة البعد الواقعي للآية؛ بحيث يجعل من الآية منطلقاً لعلاج حياته وواقعه، وميزاناً لمن حوله وما يحيط به.
(4) العودة إلى فهم السلف للآية وتدبرهم لها وتعاملهم معها والاطلاع على آراء بعض المفسرين في الآية.
(5) النظرة الكلية الشاملة للقرآن، الالتفات للأهداف الأساسية للقرآن.
(6) الثقة المطلقة بالنص القرآني وإخضاع الواقع المخالف له.
(7) معايشة إيحاءات النص وظلاله ولطائفه، الاستعانة بالمعارف الثقافات الحديثة، العودة المتجددة للآيات، وعدم الاقتصار على التدبر مرة واحدة؛ فالمعاني تتجدد، ملاحظة الشخصية المستقلة للسورة، التمكن من أساسيات علوم التفسير.
القراءة في الكتب المتخصصة في هذا الموضوع مثل كتاب: (القواعد الحسان لتفسير القرآن) للسعدي، وكتاب (مفاتيح للتعامل مع القرآن) للخالدي، وكتاب (قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله - عز وجل) لعبد الرحمن حبنكة الميداني، وكتاب (دراسات قرآنية) لمحمد قطب.
(فوائد تدبر القرآن:
(1) التدبر في القرآن غاية من غايات إنزاله: يقول الله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} [ص:29]. ومدح الحق جل وعلا من تدبر وانتفع، فذكر من صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} (الفرقان:73)
(وذم من لا يتدبرون القرآن وأنكر عليهم فقال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} [محمد24].
(2) التدبر من علامات الإيمان: {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله}، {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به}
(3) التدبر يزيد الإيمان: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون}.
(4) تدبر القرآن من النصيحة لكتاب الله، قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الدين النصيحة)(7/92)
(حديث تميم ابن أوس الداريِّ الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الدين النصيحة قالوا: لمن يا رسول اللّه قال: للّه وكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم.
(5) ترك التدبر يؤدي إلى قسوة القلب: قال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد: 16]. وهو من أنواع هجر القرآن الذي شكاه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لربه: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً)
[الفرقان:30]
(فضائل ختم القرآن، وفي كم يختم؟
يستحب اغتنام ختم القرآن والدعاء عقبه لأنه من مظان إجابة الدعاء.
- قال قتادة: "كان أنس بن مالك رضي الله عنه إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا ". رواه الدارمي.
- وأما المدة التي يختم بها القرآن فتختلف باختلاف الأشخاص، ولكن ينبغي للقارئ أن يختم في السنة مرتين إن لم يقدر على الزيادة.
[*] عن مكحول قال:
"كان أقوياء أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأون القرآن في سبع، وبعضهم في شهر، وبعضهم في شهرين، وبعضهم في أكثر من ذلك ".
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (أقرأ القرآن في شهر). قلت: إني أجد قوة، حتى قال: (فاقرأه في سبع، ولا تزد على ذلك).
(جواز ختم القرآن في يومٍ وليلة لصدور ذلك عن عثمان رضي الله عنه:
(حديث العرباض بن سارية في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال أوصيكم بتقوى الله و السمع و الطاعة و أن أمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة.
(نفي الفقه لا نفي الثواب من قرأ القرآن في أقل من ثلاث:
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث.
[*] (ختمات السلف للقرآن الكريم:(7/93)
وقد اختلف الصحابة والتابعين في ختمهم للقرآن الكريم فمنهم من كان يختم ختمة واحدة في اليوم والليلة مثل سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه وتميم الداري وسعيد بن جبير ومجاهد والشافعي وآخرون.
(ومن الذين كانوا يختمون ثلاث ختمات في اليوم والليلة سليم بن عمر رضي الله عنه قاضي مصر في خلافة معاوية رضي الله عنه.
[*] وروى أبو بكر بن أبي داود أنه كان يختم في الليلة أربع ختمات، وروى أبو عمر سنان في كتابه في قضاة مصر أنه كان يختم في الليلة أربع ختمات.
[*] قال الشيخ الصالح أبو عبد الرحمن السلمي رضي الله عنه: سمعت الشيخ أبا عثمان المغربي يقول: " كان ابن الكاتب رضي الله عنه يختم بالنهار أربع ختمات وبالليل أربع ختمات وهذا أكثر ما بلغنا من اليوم والليلة "، وروى السيد الجليل أحمد الدورقي بإسناده عن منصور بن زادان من عباد التابعين رضي الله عنه: " أنه كان يختم القرآن فيما بين الظهر والعصر ويختمه أيضاً فيما بين المغرب والعشاء ".
وكانوا يؤخرون العشاء في رمضان إلى أن يمضي ربع الليل وروى أبو داود بإسناده الصحيح:" أن مجاهدا كان يختم القرآن فيما بين المغرب والعشاء "، وعن منصور قال: " كان علي الأزدي يختم فيما بين المغرب والعشاء كل ليلة من رمضان " ..
حتى يحل حبوته: وعن إبراهيم بن سعد قال: " كان أبي يحتبي فما يحل حبوته حتى يختم القرآن " ..
(وأما الذي يختم في ركعة فلا يحصون لكثرتهم فمن المتقدمين عثمان بن عفان وتميم الداري وسعيد بن جبير رضي الله عنهم ختمة في كل ركعة في الكعبة
(وأما الذين ختموا في الأسبوع مرة أحدانا نقل عن عثمان بن عفان رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وأبي بن كعب رضي الله عنهم وعن جماعة من التابعين كعبد الرحمن بن يزيد وعلقمة وإبراهيم رحمهم الله ..
عن بهز بن حكيم أن بينها بن أوفى التابعي الجليل رضي الله عنه أمهم في صلاة الفجر فقرأ حتى بلغ فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير خر ميتاً قال بهز: " وكنت فيمن حمله " ..
وكان أحمد بن أبي الحواري رضي الله عنه وهو ريحانة الشام كما قال أبو القاسم الجنيد رحمه الله:" إذا قرئ عنده القرآن يصيح ويصعق " ..
[*] وقال القسطلاني: أخبرني شيخ الإسلام البرهان ابن أبي شريف أنه كان يقرأ خمسة عشر ختمة في اليوم والليلة. وفي الإرشاد أنه النجم الأصبهاني رأى رجلاً من اليمن ختم في شوط أو أسبوع وهذا لا يتسهل إلا بفيض رباني ومدد رحمني.(7/94)
قال الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء.
[*] الشافعي يختم في شهر رمضان ستين ختمة، ما منها شيء إلا في صلاة.
[*] عن مسبح بن سعيد قال:
كان محمد بن إسماعيل البخاري، إذا كان أول ليلة من شهر رمضان، يجتمع إليه أصحابه فيصلي بهم ويقرأ في كل ركعة عشرين آية، وكذلك إلى أن يختم القرآن.
وكان يقرأ في السحر ما بين النصف إلى الثلث من القرآن، فيختم عند الإفطار كل ليلة ويقول: عند كل الختم؛ دعوة مستجابة.
(تاريخ بغداد 2/ 12 صفة الصفوة 4/ 170)
[*] عن ذي الرياستين قال: إن المأمون ختم في شهر رمضان ثلاثاً وثلاثين ختمةً، أما سمعتم في صوته بحوحة؟ إن محمد بن أبي محمد اليزيدي في أذنه صمم، فكان يرفع صوته ليسمع، وكان يأخذ عليه.
(تاريخ بغداد 10/ 190)
[*] عن عبد الله بن محمد بن اللبان أنه صلى بالناس صلاة التراويح في جميع الشهر، وكان إذا فرغ من صلاته بالناس في كل ليلة لا يزال قائماً في المسجد يصلي حتى يطلع الفجر، فإذا صلى الفجر دارس أصحابه، وسمعته يقول: لم أضع جنبي للنوم في هذا الشهر ليلاً ولا نهاراً وكان ورده كل ليلة فيما يصلي لنفسه سبعاً من القرآن يقرأه بترتيل وتمهل ولم أرى أجود ولا أحسن قراءة منه.
(تاريخ بغداد 10/ 144)
[*] عن محمد بن زهير بن محمد قال: كان أبي يجمعنا في وقت ختمة القرآن في وقت شهر رمضان في كل يوم وليلة ثلاث مرات تسعين ختمة في شهر رمضان
(تاريخ بغداد 8/ 485)
[*] عن أبي علي الطوماوي قال: كنت أحمل القنديل في شهر رمضان بين يدي أبي بكر بن مجاهد إلى المسجد لصلاة التراويح، فخرج ليلة من ليالي العشر الأواخر من داره واجتاز على مسجده فلم يدخله وأنا معه, وسار حتى انتهى إلى آخر سوق العطش، فوقف بباب مسجد محمد بن جرير ومحمد يقرأ سورة الرحمن، فاستمع قراءته طويلاً ثم انصرف. فقلت له: يا أستاذ تركت الناس ينتظرونك وجئت تسمع قراءة هذا؟ فقال: يا أبا علي دع هذا عنك، ما ظننت أن الله تعالى خلق بشرا ً يحسن يقرأ هذه القراءة.
(تاريخ بغداد 2/ 164)
[*] عن الربيع بن سليمان قال: كان الشافعي يختم في كل ليلة ختمة ,فإذا كان شهر رمضان ختم في كل ليلة منه , وفي كل يوم ختمة , فكان يختم في شهر رمضان ستين ختمة.
(تاريخ بغداد 2/ 63)
[*] وعن أبي بكر بن أبي طاهر قال: كان للشافعي في رمضان ستون ختمة لا يحسب منها ما يقرأ في الصلاة.
(صفة الصفوة 2/ 255)(7/95)
[*] عن أحمد بن خالد قال: قيل لأبي بكر بن عياش: كيف قراءتك بالترتيل؟ فقال: كيف أقدر أرتل، وأنا أقرأ القرآن في كل يوم وليلة منذ أربعين سنة!
(تاريخ بغداد 14/ 383)
[*] عن ابن سعد قال: كان أبي سعد بن إبراهيم إذا كانت ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، لم يفطر حتى يختم القرآن وكان يفطر فيما بين المغرب والعشاء الآخرة. وكان كثيرا إذا أفطر يرسلني إلى مساكين فيأكلون معه رحمه الله.
(صفة الصفوة 2/ 146 - 147)
[*] عن منصور بن إبراهيم قال: كان الأسود يختم القرآن في رمضان في كل ليلتين، وكان ينام بين المغرب والعشاء، وكان يختم القرآن في غير رمضان في كل ست ليال.
(صفة الصفوة 3/ 23)
[*] أبو الأشهب قال: كان أبو رجاء يختم بنا في رمضان كل عشرة أيام.
(صفة الصفوة 3/ 221).
[*] عن سلام بن أبي مطيع عن قتادة أنه كان يختم القرآن في كل سبع ليال مرة، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة مرة.
(صفة الصفوة 3/ 259)
(في آداب الختم:
[*] قال الأمام النووي في التبيان:
يستحب أن يكون الختم أول النهار أو أول الليل وأنه يستحب أن يكون ختمه أول النهار، وأخرى آخره وأنه إذا كان يقرأ وحده يستحب أن يختم في الصلاة، واستحب السلف صيام الختم، فقد كان السلف من الصحابة وغيرهم يوصون عليه ويقولون يستجاب الدعاء عند الختم ويقولون تنزل الرحمة عند الختم، وكان أنس رضي الله عنه إذا أراد الختم استحباباً متأكداً، فقد جاءت فيه أثار، وينبغي أن يُلح في الدعاء، وأن يدعوا بالأمور المهمة، وأن يكثر من ذلك في صلاح المسلمين وصلاح سلطانهم وسائر ولاتهم ويختار الدعوات الجامعة ويكون فيها من دعوات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد جمعت دعوات مختصرة جامعة في "التبيان"، ويستحب إذا ختم أن يشرع في ختمة أخرى عقيب الختم، فقد استحبه السلف لحديث ورد فيه والله أعلم.
(فضل قراءة القرآن بالليل:
(ينبغي لحامل القرآن أن يعتني بقراءة القرآن بالليل أكثر من النهار، وذلك لكونها أجمع للقلب وأثبت للحفظ فالليل تنقطع فيه الشواغل، وتجتمع فيه الهمم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر لقوله تعالى: (إِنّ نَاشِئَةَ اللّيْلِ هِيَ أَشَدّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً) [المزمل / 6]
[*] قال النووي في التبيان:(7/96)
ينبغي أن يحافظ على قراءة القُرآن في الليل، ويكون إعتناؤه بها فيه أكثر وفي صلاة الليل أكثر؛ لأن الليل أجمع للقلب، وأبعد من الشاغلات والملهيات والتصرف في الحاجات وأصون من تطرق الرياء، وغيره من المحبطات مع ما جاء في الشرع من إيجاد الخيرات في الليل كل إسراء، وحديث النُّزول، وحديث: في الليل ساعة مستجاب فيها الدعاء كل ليلة.
وقد تظاهرة نصوص القُرآن والسُّنّة وإجماع الأمَّة على فضيلة القراءة والقيام بالليل، والحث عليه، وذلك يحصل بالكثير، والقليل، وما كثر أفضل إلا أن يستوعب الليل كله؛ فإنه يُكره الدَّوام عليه، وكذا يُكره إن أضرَّ بنفسه ما دون الجميع. (انتهى كلامه رحمه الله)
(وبينت لنا السنة الصحيحة أن قراءة القرآن في الليل منجاة من الغفلة كما في الحديث الآتي:
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين و من قام بمائة آية كتب من القانتين و من قام بألف آية كتب من المقنطرين.
معنى من المقنطرين: الذين يوفون أجورهم بالقنطار
(والمقصود هنا أن قراءة القرآن تذهب الغفلة عنا، وما أحوجنا لهذا في هذا العصر، وقراءة القرآن في الليل صفة من صفات المتقين لقول الله عز وجل (كَانُواْ قَلِيلاً مّن اللّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات: 17: 18]
وقد ثبت في السنة الصحيحة أن قراءة القرآن في الليل شفاعة للمؤمن يوم القيامة:
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الصيامُ و القرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام أي رب منعته الطعام و الشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفَّعان.
(فيشفَّعان) أي فتقبل شفاعتهما.
[*] (وهذا غيضٌ من فيض ونقطةٌ من بحر مما ورد في سيرة السلف في قراءة القرآن بالليل:
[*] قال سعيد بن المسيب رحمه الله:
إن الرجل ليصلي بالليل، فيجعل الله في وجه نورا يحبه عليه كل مسلم، فيراه من لم يره قط فيقول: إن لأحبُ هذا الرجل!!.
[*] قيل للحسن البصري رحمه الله:
ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوها؟ فقال لأنهم خلو بالرحمن فألبسهم من نوره.
[*] صلى سيد التابعين سعيد بن المسيب – رحمه الله – الفجر خمسين سنة بوضوء العشاء وكان يسرد الصوم.
[*] كان شريح بن هانئ رحمه الله يقول:(7/97)
ما فقد رجل شيئاً أهون عليه من نعسة تركها!!! (أي لأجل قيام الليل).
قال ثابت البناني رحمه الله:
لا يسمى عابد أبداً عابدا، وإن كان فيه كل خصلة خير حتى تكون فيه هاتان الخصلتان: الصوم والصلاة، لأنهما من لحمه ودمه!!
[*] قال طاووس بن كيسان رحمه الله:
ألا رجل يقوم بعشر آيات من الليل، فيصبح وقد كتبت له مائة حسنة أو أكثر من ذلك.
[*] قال سليمان بن طرخان رحمه الله:
إن العين إذا عودتها النوم اعتادت، وإذا عودتها السهر اعتادت.
[*] قال يزيد بن أبان الرقاشي رحمه الله:
إذا نمت فاستيقظت ثم عدت في النوم فلا أنام الله عيني.
[*] أخذ الفضيل بن عياض رحمه الله بيد الحسين بن زياد رحم الله، فقال له: يا حسين: ينزل الله تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول الرب: كذب من أدعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني؟!! أليس كل حبيب يخلو بحبيبه؟!! ها أنا ذا مطلع على أحبائي إذا جنهم الليل، ..... ، غداً أقر عيون أحبائي في جناتي.
[*] قال ابن الجوزي رحمه الله:
لما امتلأت أسماع المتهجدين بمعاتبة [كذب من أدعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني] حلفت أجفانهم على جفاء النوم.
[*] قال محمد بن المنكدر رحمه الله:
كابدت نفسي أربعين عاماً (أي جاهدتها وأكرهتها على الطاعات) حتى استقامت لي!!
[*] كان ثابت البناني يقول كابدت نفسي على القيام عشرين سنة!! وتلذذت به عشرين سنة.
[*] كان أحد الصالحين يصلي حتى تتورم قدماه فيضربها ويقول يا أمّارة بالسوء ما خلقتِ إلا للعبادة.
[*] كان العبد الصالح عبد العزيز بن أبي روّاد رحمه الله يُفرش له فراشه لينام عليه بالليل، فكان يضع يده على الفراش فيتحسسه ثم يقول: ما ألينك!! ولكن فراش الجنة ألين منك!! ثم يقوم إلى صلاته.
[*] قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم مكبل، كبلتك خطيئتك.(7/98)
[*] قال معمر: صلى إلى جنبي سليمان التميمي رحمه الله بعد العشاء الآخرة فسمعته يقرأ في صلاته: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} حتى أتى على هذه الآية {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فجعل يرددها حتى خف أهل المسجد وانصرفوا، ثم خرجت إلى بيتي، فما رجعت إلى المسجد لأؤذن الفجر فإذا سليمان التميمي في مكانه كما تركته البارحة!! وهو واقف يردد هذه الآية لم يجاوزها {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا}.
[*] قالت امرأة مسروق بن الأجدع:
والله ما كان مسروق يصبح من ليلة من الليالي إلا وساقاه منتفختان من طول القيام!! .... ، وكان رحمه الله إذا طال عليه الليل وتعب صلى جالساً ولا يترك الصلاة، وكان إذا فرغ من صلاته يزحف (أي إلى فراشه) كما يزحف البعير!!
[*] قال مخلد بن الحسين: ما انتبه من الليل إلا أصبت إبراهيم بن أدهم رحمه الله يذكر الله ويصلي إلا أغتم لذلك، ثم أتعزى بهذه الآية {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء}.
[*] قال أبو حازم رحمه الله: لقد أدركنا أقواماً كانوا في العبادة على حد لا يقبل الزيادة!!
[*] قال أبو سليمان الدارني رحمه الله: ربما أقوم خمس ليال متوالية بآية واحدة، أرددها وأطالب نفسي بالعمل بما فيها!! ولولا أن الله تعالى يمن علي بالغفلة لما تعديت تلك الآية طول عمري، لأن لي في كل تدبر علماً جديدا، والقرآن لا تنقضي عجائبه!!
[*] كان السري السقطي رحمه الله إذا جن عليه الليل وقام يصلي دافع البكاء أول الليل، ثم دافع ثم دافع، فإذا غلبه الأمر أخذ في البكاء والنحيب.
[*] قال رجل لإبراهيم بن أدهم رحمه الله: إني لا أقدر على قيام الليل فصف لي دواء؟!! فقال: لا تعصه بالنهار وهو يقيمك بين يديه في الليل، فإن وقوفك بين يديه في الليل من أعظم الشرف، والعاصي لا يستحق ذلك الشرف.
[*] قال سفيان الثوري رحمه الله: حرمت قيام الليل خمسة أشهر بسبب ذنب أذنبته.
[*] قال رجل للحسن البصري رحمه الله: يا أبا سعيد: إني أبيت معافى وأحب قيام الليل، وأعد طهوري فما بالي لا أقوم؟!! فقال الحسن: ذنوبك قيدتك!!
[*] وقال رجل للحسن البصري: أعياني قيام الليل؟!! فقال: قيدتك خطاياك.
[*] قال ابن عمر رضي الله عنهما: أول ما ينقص من العبادة: التهجد بالليل، ورفع الصوت فيها بالقراءة.(7/99)
[*] قال عطاء الخرساني رحمه الله: إن الرجل إذا قام من الليل متهجداً أصبح فرحاً يجد لذلك فرحاً في قلبه، وإذا غلبته عينه فنام (أي عن قيام الليل) أصبح حزيناً كأنه قد فقد شيئاً، وقد فقد أعظم الأمور له نفعا (أي قيام الليل).
[*] رأى معقل بن حبيب رحمه الله: قوماً يأكلون كثيراً فقال: ما نرى أصحابنا يريدون أن يصلوا الليلة.
[*] قال مسعر بن كدام رحمه الله حاثاً على عدم الإكثار من الأكل:
وجدت الجوع يطرده رغيف ... وملء الكف من ماء الفرات وقل الطعم عون للمصلي ... وكثر الطعم عون للسبات
[*] كان العبد الصالح علي بن بكار رحمه الله تفرش له جاريته فراشه فيلمسه بيده ويقول: والله إنك لطيب!! والله إنك لبارد!! والله لا علوتك ليلتي (أي لا تمت عليك هذه الليلة) ثم يقوم يصلي إلى الفجر!!
[*] قال الفضيل بن عياض رحمه الله: أدركت أقواماً يستحيون من الله في سواد هذا الليل من طول الهجعة!! إنما هو على الجنب، فإذا تحرك (أي أفاق من نومه) قال: ليس هذا لك!! قومي خذي حظك من الآخرة!!.
[*] قال هشام الدستوائي رحمه الله: إن لله عبادا يدفعون النوم مخافة أن يموتوا في منامهم.
[*] عن جعفر بن زيد رحمه الله قال:(7/100)
خرجنا غزاة إلى [كأبول] وفي الجيش [صلة بين أيشم العدوي] رحمه، قال: فترك الناس بعد العتمة (أي بعد العشاء) ثم اضطجع فالتمس غفلة الناس، حتى إذا نام الجيش كله وثب صلة فدخل غيضة وهي الشجر الكثيف الملتف على بعضه، فدخلت في أثره، فتوضأ ثم قام يصلي فافتتح الصلاة، وبينما هو يصلي إذا جاء أسد عظيم فدنا منه وهو يصلي!! ففزعت من زئير الأسد فصعدت إلى شجرة قريبة، أما صلة فو الله ما التفت إلى الأسد!! ولا خاف من زئيره ولا بالى به!! ثم سجد صلة فاقترب الأسد منه فقلت: الآن يفترسه!! فأخذ الأسد يدور حوله ولم يصبه بأي سوء، ثم لما فرغ صلة من صلاته وسلم، التفت إلى الأسد وقال: أيها السبع اطلب في مكان آخر!! فولى الأسد وله زئير تتصدع منه الجبال!! فما زال صلة يصلي حتى إذا قرب الفجر!! جلس فحمد محامد لم أسمع بمثلها إلا ما شاء الله، ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار، أو مثلي يجترئ أن يسألك الجنة!!! ثم رجع رحمه الله إلى فراشه (أي ليوهم الجيش أنه ظل طوال الليل نائماً) فأصبح وكأنه بات على الحشايا (وهي الفرش الوثيرة الناعمة والمراد هنا أنه كان في غاية النشاط والحيوية) ورجعت إلى فراشي فأصبحت وبي من الخمول شيء الله به عليم. [*] كان العبد الصالح عمرو بن عتبة بن فرقد رحمه الله يخرج للغزو في سبيل الله، فإذا جاء الليل صف قدميه يناجي ربه ويبكي بين يديه، كان أهل الجيش الذين خرج معهم عمرو لا يكلفون أحداً من الجيش بالحراسة؛ لأن عمرو قد كفاهم ذلك بصلاته طوال الليل، وذات ليلة وبينما عمرو بن عتبة رحمه الله يصلي من الليل والجيش نائم، إذ سمعوا زئير أسد مفزع، فهربوا وبقي عمرو في مكانه يصلي وما قطع صلاته!! ولا التفت فيها!! فلما انصرف الأسد ذاهبا عنهم رجعوا لعمرو فقالوا له: أما خفت الأسد وأنت تصلي؟!! فقال: إن لأستحي من الله أن أخاف شيئاً سواه!!
[*] قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله:
أفضل الأعمال ما أكرهت إليه النفوس.
[*] عن أي غالب قال:
كان ابن عمر رضي الله عنهما ينزل علينا بمكة، وكان يتهجد من الليل، فقال لي ذات ليلة قبل الصبح: يا أبا غالب: ألا تقوم تصلي ولو تقرأ بثلث القرآن، فقلت: يا أبا عبد الرحمن قد دنا الصبح فكيف اقرأ بثلث القرآن؟!! فقال إن سورة الإخلاص {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن.
[*] كان أبو إسحاق السبيعي رحمه الله يقول:(7/101)
يا معشر الشباب جدوا واجتهدوا، وبادروا قوتكم، واغتنموا شبيبتكم قبل أن تعجزوا، ـ فإنه قلّ ما مرّت عليّ ليلة إلا قرأت فيها بألف آية!!
[*] كان العبد الصالح عبد الواحد بن يزيد رحمه الله يقول لأهله في كل ليلة: يا أهل الدار انتبهوا!! (أي من نومكم) فما هذه (أي الدنيا) دار نوم، عن قريب يأكلكم الدود!!
[*] قال محمد بن يوسف: كان سفيان الثوري رحمه الله يقيمنا في الليل ويقول: قوموا يا شباب!! صلوا ما دمتم شبابا!! إذا لم تصلوا اليوم فمتى؟!!
[*] دخلت إحدى النساء على زوجة الإمام الأوزاعي رحمه الله فرأت تلك المرأه بللاً في موضع سجود الأوزاعي، فقالت لزوجة الأوزاعي: ثكلتك أمك!! أراك غفلت عن بعض الصبيان حتى بال في مسجد الشيخ (أي مكان صلاته بالليل) فقالت لها زوجة الأوزاعي: ويحك هذا يُصبح كل ليلة!! من أثر دموع الشيخ في سجوده.
[*] قال: إبراهيم بن شماس كنت أرى أحمد بن حنبل رحمه الله يحي الليل وهو غلام.
[*] قال أبو يزيد المعَّنى: كان سفيان الثوري رحمه الله إذا أصبح مدَّ رجليه إلى الحائط ورأسه إلى الأرض كي يرجع الدم إلى مكانه من قيام الليل!!
[*] كان أبو مسلم الخولاني رحمه الله يصلي من الليل فإذا أصابه فتور قال لنفسه: أيظن أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يسبقونا عليه، والله لأزاحمنهم عليه، حتى يعلموا أنهم خلفوا بعدهم رجالا!! ثم يصلي إلى الفجر.
رأى أحد الصالحين في منامه خياماً مضروبة فسأل: لمن هذه الخيام؟!! فقيل هذه خيام المتهجدين بالقرآن!! فكان لا ينام الليل!!
[*] كان شداد بن أوس رضي الله عنه إذا دخل على فراشه يتقلب عليه بمنزلة القمح في المقلاة على النار!! ويقول اللهم إن النار قد أذهبت عني النوم!! ثم يقوم يصلي إلى الفجر [*] كان عامر بن عبد الله بن قيس رحمه الله إذا قام من الليل يصلي يقول: أبت عيناي أن تذوق طعم النوم مع ذكر النوم.
[*] قال الفضيل بن عياض - رحمه الله -: إني لأستقبل الليل من أوله فيهولني طوله فأفتتح القرآن فأُصبح وما قضيت نهمتي (أي ما شبعت من القرآن والصلاة).
[*] لما احتضر العبد الصالح أبو الشعثاء رحمه الله بكى فقيل له: ما يبكيك!! فقال: إني لم أشتفِ من قيام الليل!!
[*] قال الفضيل بن عياض رحمه الله: كان يقال: من أخلاق الأنبياء والأصفياء الأخيار الطاهرة قلوبهم، خلائق ثلاثة: الحلم والإنابة وحظ من قيام الليل.
[*] كان ثابت البناني رحمه الله يصلي قائما حتى يتعب، فإذا تعب صلى وهو جالس.(7/102)
[*] قال السري السقطي رحمه الله: رأيت الفوائد ترد في ظلم الليل.
[*] كان بعض الصالحين يقف على بعض الشباب العبّاد إذا وضع طعامهم، ويقول لهم: لا تأكلوا كثيرا، فتشربوا كثيرا، فتناموا كثيرا، فتخسروا كثيرا!!
[*] قال حسن بن صالح رحمه الله:
إني أستحي من الله تعالى أن أنام تكلفا (أي اضطجع على الفراش وليس بي نوم) حتى يكون النوم هو الذي يصير عني (أي هو الذي يغلبني)، فإذا أنا نمت ثم استيقظت ثم عدت نائما فلا أرقد الله عيني!!
[*] كان العبد الصالح سليمان التميمي – رحمه الله – هو وابنه يدوران في الليل في المساجد، فيصليان في هذا المسجد مرة، وفي هذا المسجد مرة، حتى يصبحا.
(فإن فاتهُ حِزْبَه بالليل فليحرص على قِراءته في أول النَّهار.
(حديث عمر الثابت في صحيح مسلم): أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر و صلاة الظهر كتب كأنما قرأه من الليل.
(تعهد القرآن والتحذير من نسيانه:
قد حذرنا الله عز وجل من الابتعاد عن القرآن الكريم بقوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَىَ) [طه / 124]
فالإعراض عن تلاوته هجران، وعدم التفكر فيه هجران، وكذلك عدم العمل به هجران.
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال تعاهدوا القرآن فالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا من قلوب الرجال من الإبل من عقلها.
معنى تفصياً: أي تفلتاً
(حديث ابن مسعود في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال بئسما لأحدهم أن يقول: نسيت آية كَيْتَ و كَيْتَ بل هو نُسِيَ، واستذكروا القرآن فأنه أشدُّ تفصِّياً من صدور الرجال من النَّعم في عُقُلها.
معنى بل نُسِيَ: أي عوقب بالنسيان لتفريطه في استذكار القرآن.
{تنبيه}: ( ... نظرا لوجود تشابه في ألفاظ بعض آيات القرآن الكريم أحيانا واختلافها أحيانا أخرى فإن حفظ القرآن قابل للنسيان إن لم يستذكر، لذلك يأمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باستذكار القرآن حفاظا عليه من النسيان.(7/103)
(وهنا إشارة إلى كراهة نسبة النسيان إلى النفس نظرا لأن هناك معنا آخر للنسيان وهو تعمد إغفال العمل بأحكام الآيات وهذا والعياذ بالله من سيء الأعمال. قال الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ ءَايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} (طه من 124: 126).
وفي هذا الحديث دليل على أن النسيان أمر محتمل للإنسان وليس بنقص ولكن على الإنسان الجد والحرص على عدم النسيان بالاستذكار. قال الله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} [الأعلى/7].
وفي الحديث إشارة إلى مراقبة اللسان من التكلم حتى بكلام يقصد غيره إن كان اللفظ الذي يستخدم يشير إلى أمر فيه إثم أو معصية. فهنا رغم أن النسيان أمر متوقع للإنسان، إلا أن النهي عن نسبة هذا النسيان للنفس على أنه أمر قد قام به الإنسان اختيارا وتعمدا، خشية أن يكون مشمولا بمن تعمد النسيان الذي يشير الله إيه في الآية السابقة. ويشبه ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا} [البقرة /104]. وذلك لأن اليهود استخدموا لفظة راعنا فنهى الله عن استخدام ذلك اللفظ من قبل المسلمين.
ولقد كان أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يجعلون لأنفسهم نصيبا من القرآن كل يوم , فاحرص على ذلك وتمسك به وعض عليه بالنواجذ , واجعل لنفسك نصيبا يوميا لا تتركه ما دمت حيا مهما كان الأمر , ومهما كانت مشاغل الدنيا، وقليلا دائما خيرا من كثيرا منقطع , وان غفلت فاقضه من الغد كما قال نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الآتي:
(حديث عمر الثابت في صحيح مسلم): أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر و صلاة الظهر كتب كأنما قرأه من الليل.
(ويجب عليه أن يجاهد نفسه في مراجعة القرآن حتى يشربه كشرب اللبن:
(حديث عقبة ابن عامر في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال سيخرج أقوام من أمتي يشربون القرآن كشربهم اللبن.
(ومن أحسن الأدوية التي تعين على الحفظ وتبعد الإنسان على النسيان ترك المعاصي:
يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه:(7/104)
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ... ونور الله لا يُهدى لعاصي
وهنا يؤكد الإمام الشافعي على أن أستاذه وكيعا ينصحه بأن يترك المعاصي بعد أن شكا له سوء حفظه. فمن أصلح ما بينه وبين الله تعالى كان حقا على الله أن يعينه على طاعته ورضاه قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت /69].
مسألة: ما حكم نسيان القرآن؟
نسيان الحفظ له أسباب: منها عدم التكرار لشغل طارئ وهذا يحدث لكل فرد وعليه أن يراجع بعد أن يفرغ من شغله.
ومنها عدم التكرار لشغل مستديم. فإن كان شغله يمنعه من تكرار القرآن وكان شغله من الأهمية بمكان فعليه أن يكابد ويحاول إيجاد الوقت للتكرار ويدعو الله بالمغفرة. أما إن كان عدم التكرار إهمالا وتكاسلا، فهذا من التقصير الذي هو من الذنوب ويخشى أن يكون إثمه كبيرا.
[*] قال الضحاك بن مزاحم: ما من أحد تعلم القرآن فنسيه إلا بذنب يُحدِثُهُ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى /34]. وإن نسيان القرآن من أعظم المصائب.
أما إذا كان النسيان نتيجة مرض يمنعه من التكرار أو ينُسيه ما حفظ فذلك مما يرجى أن لا يؤاخذه الله به بل ويكتب له ثواب يوم كان يكرر القرآن ويحفظه هذا إذا كان صابرا في مرضه محتسبا ذلك لله.
(التحذير من هجر القرآن:
لقد حكى الله عز وجل شكوى الرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لربه هجران قومه للقرآن قال تعالى: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) [الفرقان:30]
[*] قال الألوسي في روح المعاني:
واستدل ابن الفرس بالآية على كراهة هجر المصحف وعدم تعاهده بالقراءة فيه، فهجر التلاوة إنما يكون بالإعراض عن المصحف وعدم القراءة ولو ليوم، وكلما طالت المدة كلما تحقق الهجر، هذا ولم نطلع على أقوال لأحد من أهل العلم قد حد الهجر بأيام معدودة، لكن قد وردت روايات عن بعض أهل العلم في أكثر مدة يختم فيها القرآن.
[*] روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قال: من قرأ القرآن في كل سنة مرتين فقد أدى حقه لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرض على جبريل في السنة التي قبض فيها مرتين.
[*] وقال أبو الليث في البستان: ينبغي للقارئ أن يختم في السنة مرتين إن لم يقدر على الزيادة.(7/105)
[*] ونص أحمد على كراهة تأخير ختم القرآن أكثر من أربعين يوماً بلا عذر،
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أنه سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: في كم يقرأ القرآن؟ قال: "" في أربعين يوما "" ثم قال "" في شهر "" ثم قال "" في عشرين "" ثم قال "" في خمس عشرة "" ثم قال "" في عشر "" ثم قال "" في سبع.
?? (وتوعّد الله سبحانه الذين يعرضون عنه فقال: {وقد آتيناك من لدنا ذكراً * من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً * خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا} [طه: 99 - 101].
(ثم صوّر حالة ذلك المعرض يوم القيامة فقال: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا * ونحشره يوم القيامة أعمى} [طه: 123 - 124].
[*] (أنواع هجر القرآن:
[*] قال ابن القيم في كتابه القيم " الفوائد ":
وهجر القرآن أنواع:
أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه.
والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به.
والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم.
والرابع: هجر تدبره وتفهمه، ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.
والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به ... وإن كان بعض الهجر أهون من بعض.
(وإليك تفصيل ذلك:
(1) هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه.
لا يوجد على وجه البسيطة كتاب يحرم هجره، ويجب تعاهده وتلاوته إلا القرآن الكريم، فإن هذا من خصائصه التي لا يشاركه فيها أي كتاب.
?? وقد أثنى الله عز وجل على الذين يتعاهدون كتاب ربهم بالتلاوة فقال: {من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون} [آل عمران: 113]. ?? - وحتى لا يقع الناس في هجران القرآن، فقد بحث العلماء مسألة: في كم يقرأ القرآن، وقالوا: "يكره للرجل أن يمر عليه أربعون يوماً لا يقرأ فيها القرآن ".
? (2) هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به.
- يحرم هجر العمل بالقرآن الكريم، لأن القرآن إنما نزل لتحليل حلاله وتحريم حرامه والوقوف عند حدوده.
?? فلا يجوز ترك العمل بالقرآن، فإن العمل به هو المقصود الأهم والمطلوب الأعظم من إنزاله.(7/106)
(3) هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم.
- أنزل الله عز وجل كتابه الكريم حتى يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ونهاهم سبحانه عن تحكيم أو تحاكم إلى غير القرآن.
?? - فالقرآن الكريم هو دستور المسلمين، وهو الحكم فيما اختلفوا فيه من أمور دينهم ودنياهم، فلا يجوز هجره لابتغاء الحكم في غيره.
(4) هجر تدبره وتفهمه، ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.
- تدبر القرآن الكريم وتعقل معانيه مطلب شرعي، دعا إليه القرآن وحثّت عليه السنة، وعمل به الصحابة والتابعون ومن بعدهم، قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته} [ص: 29]. وقال أيضاً: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} [محمد: 24].
?? وعليه فلا يجوز هجر تدبره وتأمل معانيه وأحكامه.
? (5) هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به:
وردت نصوص كثيرة في أن القرآن الكريم شفاء، قال تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} [الإسراء: 82]. وقال: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء} [فصلت: 44].
?? وفي سنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صور تطبيقية عديدة للتداوي بالقرآن، سواء كان دواء للأبدان، أو للنفوس.
?? - وهجر الاستشفاء بالقرآن خلاف السنة، فهو مذموم وممقوت.(7/107)
(!! إني لأعجب من أمة تهجر كتاب ربها وتُعرض عن سنة نبيها، ثم بعد ذلك تتوقع أن ينصرها ربها؟ إن هذا مخالف لسنن الله في الأرض. إن التمكين الذي وعد به الله، والذي تحقق من قبل لهذه الأمة، كان بفضل التمسك بكتاب الله عز وجل، الدستور الرباني الذي فيه النجاة مما أصابنا الآن. إن الذين يحلمون بنزول النصر من الله لمجرد أننا مسلمون لواهمين، هم كحال من يطلب المُحال، كحال يستنبتُ النباتَ في الهواء ويبذرُ البذورَ في الصخور وكحال من يطلب الولد بغير زواج، ذلك أن تحقق النصر له شروط، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي اْلأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُ! دُونَنِي َلا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] كما أن ما بعد النصر له شروط. قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي اْلأَرْضِ أَقَامُوا الصََّلاةَ وَآتَو! ْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ اْلأُمُورِ} [الحج: 41] فعودوا إلى كتاب ربكم تنالوا نصره في الدنيا وتدخلوا جنته في الآخرة.
[*] (آثار هجر القرآن:
(1) من آثار هجر القرآن، تغلب الشيطان وأعوانه من شياطين الجن والإنس. لأن ذكر الله تعالى خير حافظ للعبد، فالله خير حافظ وهو أرحم الراحمين. وقد ورد عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا تأتيه البطلة، وهم شياطين الجن والإنس.
(حديث أبي أمامة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه اقرءوا الزهراوين: البقرة و آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أصحابهما اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة و تركها حسرة و لا تستطيعها البطلة.
اقرءوا الزهراوين: أي النيرتين
قال النووي رحمه الله تعالى في شرح صحيح مسلم:
"و سميتا الزهراوين لنورهما و هدايتهما و عظيم أجرهما"(7/108)
«كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان»: قال أهل اللغة: الغمامة والغياية كل شيء أظل الإنسان من فوق رأسه من سحابة وغبرة وغيرهما. نقله النووي. وفي القاموس: الغمامة: السحابة أو البيضاء من السحب. والغياية كل ما أظل الإنسان من فوق رأسه كالسحاب ونحوه. والمراد أن ثوابهما يأتي بهذا المنظر.
«أو كأنهما فرقان من طير صواف»: الفرقان والحزقان: معناهما واحد، وهما قطيعان وجماعتان، يقال في الواحد: فرق وحزق وحزيقه، أي جماعة، ومعنى «صواف»: باسطة أجنحتها ملتصق بعضها ببعض كما كانت تظلل سليمان عليه السلام، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تحاجان عن أصحابهما» أي تدافعان بالحجة عن أصحابهما.
«فإن أخذها بركة وتركها حسرة»: أي قراءتها بركة وترك قراءتها حسرة وخسارة.
أخذها بركة: أي زيادةٌ ونماء
وتركها حسرة: أي على ما فاته من الثواب
«ولا تستطيعها البطلة» أي السحرة، تسمية لهم باسم فعلهم، لأن ما يأتون به الباطل، وإنما لم يقدروا على قراءتها ولم يستطيعوها لزيغهم عن الحق وانهماكهم في الباطل، ويصح أن يكون المعنى ولا يستطيع دفعها واختراق تحصينها لقارئها السحرة.
وقيل: المراد من البطلة أهل البطالة، أي لا يستطيعون قراءتها وتدبر معانيها لكسلهم.
(2) ومن آثار هجر القرآن حرمان العبد من فضل التلاوة والتعبد بها، والحرمان من كنز من كنوز الحسنات لأن الحرف بعشر حسنات بنص السنة الصحيحة:
(حديث ابن مسعودٍ في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة و الحسنة بعشر أمثالها لا أقول: {ألم} حرف و لكن: ألف حرف و لام حرف و ميم حرف.
(3) ومن آثار هجر القرآن: الحرمان من شفاعته له يوم القيامة:
(حديث أبي أمامة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه اقرءوا الزهراوين: البقرة و آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أصحابهما اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة و تركها حسرة و لا تستطيعها البطلة.
اقرءوا الزهراوين: أي النيرتين
قال النووي رحمه الله تعالى في شرح صحيح مسلم:
"و سميتا الزهراوين لنورهما و هدايتهما و عظيم أجرهما"(7/109)
«كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان»: قال أهل اللغة: الغمامة والغياية كل شيء أظل الإنسان من فوق رأسه من سحابة وغبرة وغيرهما. نقله النووي. وفي القاموس: الغمامة: السحابة أو البيضاء من السحب. والغياية كل ما أظل الإنسان من فوق رأسه كالسحاب ونحوه. والمراد أن ثوابهما يأتي بهذا المنظر.
«أو كأنهما فرقان من طير صواف»: الفرقان والحزقان: معناهما واحد، وهما قطيعان وجماعتان، يقال في الواحد: فرق وحزق وحزيقه، أي جماعة، ومعنى «صواف»: باسطة أجنحتها ملتصق بعضها ببعض كما كانت تظلل سليمان عليه السلام، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تحاجان عن أصحابهما» أي تدافعان بالحجة عن أصحابهما.
«فإن أخذها بركة وتركها حسرة»: أي قراءتها بركة وترك قراءتها حسرة وخسارة.
أخذها بركة: أي زيادةٌ ونماء
وتركها حسرة: أي على ما فاته من الثواب
ولا تستطيعها البطلة: أي السحرة
(4) ومن آثار هجر القرآن موت السنة وانتشار البدعة بسبب الإعراض عن كتاب الله، ومن هجر القرآن هجر السنة فتكثر الأهواء ويقل العلم وينتشر الجهل وكل هذه عوامل على انتشار البدع وتحكيم الهوى قال تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة: 50]
(5) ومن آثار هجر القرآن قسوة القلب؛ لأن القرآن الكريم يعمل على ترقيق القلوب المؤمنة فهي تطمئن بذكر الله قال تعالى: (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28]، فنعوذ بالله من القلب القاسي.
(أين الخلف مما فعله السلف؟ هل نحن مع القرآن فقادنا إلى رضوان الله؟ وهل نحن مع القرآن إذا لقادنا إلى سبل السلام، هل نقلنا هدايات القرآن للقارات الخمس؟ في عالمنا أناس حجبوا القرآن فلا تعرف عنه شيئا والسبب هجر المسلمين لقرآنهم، وفاقد الشيء لا يعطيه.
(استحباب تحسين الصوت بقراءة القرآن الكريم:
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به.
والمقصود أذن الله أي استمع الله عز وجل، وفيه إشارة على القبول والرضا، ومعنى الحديث أنه ما استمع رب العزة والجلالة لشيء من الأشياء كاستماعه لنبي يقرآ القرآن بصوت جميل يجهر بتلاوته.
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: لقد أُتيت مزماراً من مزامير آل داود.(7/110)
لحسن صوته وحلاوة نغمه، وقد كان داود عليه السلام إذا قرأ القرآن أنصت له الطير والجبل والشجر، وهذا إن دل على شيء دل على وجوب حسن الصوت في قراءة القرآن الكريم.
(حديث البراء في صحيحي أبي داوود والنسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال زينوا القرآن بأصواتكم.
(حديث البراء في الصحيحين) قال سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في العشاء (والتين والزيتون) فما سمعت أحداً أحسن صوتً منه.
{تنبيه}: (بينت السنة الصحيحة أن أحسن الناس صوتاً بالقرآن هو الذي إذا سمعته يقرأ حسبته يخشى الله
(حديث جابر في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن من أحسن الناس صوتا بالقرآن الذي إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله.
(يستحب طلب القراءة الطيبة من إنسان حسن الصوت:
(حديث ابن مسعود في لصحيحين) قال، قال لي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اقرأ علي القرآن فقلت يا رسول الله: أقرأ عليك وعليك أُنزل، قال: إني أحب أن أسمعه من غيري.
(آداب قراءة القرآن:
[*] (بيَّن الإمام النووي رحمه الله تعالى آداب قراءة القرآن في كتابه التبيان في آداب حملة القرآن فقال:
(1) ينبغي له أن يستحضر في نفسه أنه يناجي الله تعالى ويقرأ على حال من يرى الله تعالى فإنه إن لم يكن يراه فإنه يراه فعليه أن يطرد الشواغل عن نفسه أثناء هذه المناجاة
(2) ينظف فاه بالسواك فإنه مطهرةٌ للفم مرضاةٌ للرب:
(حديث عائشة في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: السواك مطهرةٌ للفم مرضاةٌ للرب.
(3) يستحب له أن يقرأ القرآن على طهارة فإن قرأ محدثاً جاز بإجماع المسلمين.
(4) يستحب أن تكون القراءة في موضعٍ نظيف ولهذا استحب جماعة من العلماء القراءة في المسجد لكونه جامعاً للنظافة وشرف البقعة ومحصلاً لفضيلةٍ أخرى هي فضيلة الاعتكاف فإنه ينبغي لكلِ جالس في المسجد أن ينويه سواء كثر جلوسه أو قل، وهذا الأدب ينبغي أن يعتني به ويشاع ذكره ويعرفه الصغير والكبير فإنه مما يغفل عنه.
(5) يستحب للقارئ أن يقرأ وهو جالس مستحضراً عظمةَ من يناجيه خاشعاً متذللاً بين يدي الله تعالى، ولو قرأ قائماً أو مضطجعاً في فراشه أو غير ذلك من الأحوال جاز:(7/111)
قال تعالى: (إنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وقعودا وعلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض ربنا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {آل عمران/191،190}
(حديث عائشة في صحيح مسلم) قالت كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يذكر الله على كل أحواله.
(6) ويجب على القارئ إذا أراد الشروع في القراءة أن يستعيذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم.
لقوله تعالى (فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) {النحل/98}
وكان جماعة من السلف يقولون: أعوذ بالله السميع من الشيطان الرجيم
(7) ينبغي له أن يحافظ على قراءة البسملة في أولِ كل سورة سوى سورة براءة.
(8) إذا شرع في القراءة فليكن شأنه الخشوع والتدبر وطرد الشواغل عن ذهنه:
قال تعالى أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لوجدوا فيه اخْتِلاَفًا كَثِيراً {النساء/82}
وقال تعالى (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) {محمد /24}
وقال تعالى (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدّبّرُوَاْ آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكّرَ أُوْلُو الألْبَابِ) {ص/29}
{تنبيه}: (كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يهتم اهتماماً بالغاً بتدبر القرآن وكان أحياناً لا يزال يردد آيةً حتى يصبح
(حديث أبي ذر في صحيحي النسائي وابن ماجة) قال قام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بآيةٍ يرددها حتى أصبح، والآية قال تعالى: (إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة / 118]
*وقد تأسى أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به في ذلك فردد تميم بن أوس آيةً حتى أصبح والآية هي (أَمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرَحُواْ السّيّئَاتِ أَن نّجْعَلَهُمْ كَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَوَآءً مّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ) {الجاثية/21)
(9) البكاء عند قراءة القرآن فإن ذلك سمة عباد الله الصالحين:
قال تعالى (وَيَخِرّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) {الإسراء /109}
وقال تعالى (إِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرّحْمََنِ خَرّواْ سُجّداً وَبُكِيّاً) {مريم/58}(7/112)
*وصلى عمر بن الخطاب بالجماعة الصبح فقرأ سورة يوسف فبكى حتى سالت دموعه على ترقوته.
*وعن أبي الرجاء قال رأيت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وتحت عينيه مثلُ الشراك البالي من الدموع.
وقدم أناسٌ من اليمن على أبي بكرٍ الصديق رضي الله تعالى عنه فجعلوا يقرؤن القرآن ويبكون فقال أبو بكرٍ الصديق رضي الله تعالى عنه: هكذا كنا.
(10) استحباب ترتيل القرآن:
امتثالاً لقوله تعالى (ورتل القرآن ترتيلا) {المزمل /4}
(حديث عبد الله بن المغفل في الصحيحين) قال رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم فتح مكة على ناقته يقرأ سورةَ الفتح فرجَّع في قراءته)
(حديث أم سلمة في صحيح الترمذي) قالت كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقطع قراءته آية آية: {الحمد لله رب العالمين} ثم يقف: {الرحمن الرحيم} ثم يقف.
11) يكره الإفراط في السرعة في قراءة القرآن لأنها لا تسمح بالتدبر:
(حديث ابن مسعود في الصحيحين) أن رجلاً قال له لقد قرأت المفصل في ركعة فقال هذا كهزِ الشعر إن قوماً يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع.
*المقصود بقوله (كهز الشعر): كانت عادتهم في إنشاد الشعر السرعة المفرطة.
((حديث عقبة ابن عامر الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال سيخرج أقوام من أمتي يشربون القرآن كشربهم اللبن.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(سيخرج أقوام من أمتي يشربون القرآن كشربهم اللبن) أي يسلقونه بألسنتهم من غير تدبر لمعانيه ولا تأمل في أحكامه بل يمر على ألسنتهم كما يمر اللبن المشروب عليها بسرعة.
(12) يستحب له أن لا يمرُّ بآية رحمة إلا سأل ولا بآية فيها عذاب إلا استجار:
(حديث حذيفة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ البقرة وآل عمران والنساء في ركعة، لا يمر بآيةِ رحمةٍ إلا سأل ولا بآيةِ عذاب إلا استجار.(7/113)
(حديث حذيفة رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: صليت مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة فافتتح البقرة ثم المائة فمضى ثم المائتين فمضى فقلت يصلي بها في ركعة فمضى فافتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأ مترسلا إذا مر بآية فيها تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ ثم ركع فقال سبحان ربي العظيم فكان ركوعه نحوا من قيامه ثم رفع رأسه فقال سمع الله لمن حمده فكان قيامه قريبا من ركوعه ثم سجد فجعل يقول سبحان ربي الأعلى فكان سجوده قريبا من ركوعه.
(13) احترام القرآن:
إن احترام القرآن من الأمور التي قد يتساهل فيها بعض الغافلين القارئين، فيجب اجتناب الضحك واللغط (اختلاط الأصوات) والحديث خلال القراءة إلا كلاماً يضطر إليه، وليمتثل قول الله تعالى (وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ) {الأعراف/204}
[*] وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما إذا قرأ القرآن لا يتكلم حتى يفرغ مما أراد أن يقرأه.
ويجب كذلك اجتناب العبث بين يديه فإنه يناجي الله تعالى، وكذا يجب اجتناب النظر إلى ما يلهي القلب
(14) يستحب له أن يقرأ القرآن على ترتيب المصحف لأن الله تعالى جعل هذا الترتيب لحكمةٍ بالغةٍ قضاها يستوجب الحمد على اقتضاها، فينبغي له أن يحافظ على هذه الحكمة إلا فيما ورد الشرع باستثنائه كصلاة الفجر يوم الجمعة فإنه يقرأ في الركعة الأولى سورة السجدة وفي الثانية سورة الإنسان وكذلك سنة الفجر فإنه يقرأ في الأولى الكافرون وفي الثانية سورة الإخلاص
قيل لابن مسعودٍ رضي الله عنه إن فلاناً يقرأ القرآن منكوساً قال: ذلك منكس القلب.
(15) استحباب قراءة القرآن مجتمعين:
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله و يتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة و غشيتهم الرحمة و حفتهم الملائكة و ذكرهم الله فيمن عنده.
(16) كراهية الاختلاف في كتاب الله تعالى:
(حديث جندب ابن عبد الله في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فيه فقوموا.(7/114)
(حديث ابن مسعود في صحيح البخاري) قال سمعت رجلاً قرأ آيةً سمعت من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلافها فأخذت بيده فأتيت به رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: كلاكما محسن، لا تختلفوا فإنه من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا.
(17) استحباب الجهر بالقراءة والإسرار بها على التفصيل الآتي:
(إذا خاف على نفسه الرياء أو العجب والعياذ بالله كان الإسرار في حقه أفضل وعيه يحمل الحديث
(حديث عقبة بن عامر في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة و المسر بالقرآن كالمسر بالصدقة.
معنى الحديث: أن المسرَّ بالقرآن أفضل لكي يأمن من العجب المحبط للعمل والعياذ بالله، وهذا محمول على من خاف على نفسه ذلك.
(أما إذا لم يخف على نفسه الرياء والعجب فالجهر في حقه أفضل لأن نفعه متعدي، والمنفعة المتعدية أفضل من المنفعة اللازمة لأنه برفع صوته يوقظ غيره من نائم وغافل وينشطه وعليه الأحاديث الآتية
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به
(18) استحباب تحسين الصوت بالقرآن:
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ليس منا من لم يتغن بالقرآن.
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: لقد أُتيت مزماراً من مزامير آل داود. (حديث البراء في صحيحي أبي داوود والنسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال زينوا القرآن.
(حديث البراء في الصحيحين) قال سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في العشاء (والتين والزيتون) فما سمعت أحداً أحسن صوتً منه.
{تنبيه}: (بينت السنة الصحيحة أن أحسن الناس صوتاً بالقرآن هو الذي إذا سمعته يقرأ حسبته يخشى الله (حديث جابر في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن من أحسن الناس صوتا بالقرآن الذي إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله.
يستحب طلب القراءة الطيبة من إنسان حسن الصوت:
(حديث ابن مسعود في لصحيحين) قال، قال لي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اقرأ علي القرآن. فقلت يا رسول الله: أقرأ عليك وعليك أُنزل، قال: إني أحب أن أسمعه من غيري.(7/115)
(19) تحريم الجدال في القرآن بغير حق:
(حديث أبي هريرة في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: المراء في القرآن كفر.
{تنبيه}: (المقصود بالمراء هنا الجدال المشكك في القرآن والعياذ بالله تعالى من ذلك، وقيل الجدال الذي يفعله أهل الأهواء في آيات القدر ونحوها
(20) استحباب دعاء ختم القرآن:
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في كتابه التبيان في آداب حملة القرآن: يستحب الدعاء عقب ختم القرآن استحباباً متأكداً، وكان عبد الله بن ا لمبارك إذا ختم القرآن أكثر دعائه للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات
{تنبيه}: (لم يذكر الإمام النووي في ذلك دليلاً، وربما يستدلُ له بالحديث الآتي
(حديث عمران بن حصين في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قرأ القرآن فليسأل الله به فإنه سيجيء أقوام يقرءون القرآن يسألون به الناس.
(21) أن يلزم ما يستحب من الذكر أثناء قراءة القرآن تأسياً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قرأ: سبح اسم ربك الأعلى قال: سبحان ربي الأعلى.
(حديث موسى بن أبي عائشة رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود) قال: كان رجل يصلي فوق بيته, وكان إذا قرأ: أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} قال: سبحانك فَبَلَى! فسألوه عن ذلك؟ فقال: سمعته من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[*] قال الألباني رحمه الله تعالى:
وهو مطلق فيشمل القراءة في الصلاة وخارجها, والنافلة والفريضة. أهـ
[صفة الصلاة 105]
(آداب حملة القرآن:
[*] (هاك بعض الآداب التي ينبغي لحامل القرآن أن يتحلى بها:
1) قال ابن مسعودٍ رضي الله تعالى عنه: ينبغي لحامل القرآن أن يُعرفَ بليله إذا الناس ينامون وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون.
2) وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار.
3) وقال الفضيل ابن عياض رحمه الله تعالى: حامل القرآن حامل راية الإسلام لا ينبغي له أن يلهو مع من يلهو ولا يسهو مع من يسهو ولا يلغو مع من يلغو تعظيماً لحق القرآن
4) ويجب على حامل القرآن أن يحافظ على تلاوته ويتعاهده باستمرار حتى لا ينساه:(7/116)
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال تعاهدوا القرآن فالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا من قلوب الرجال من الإبل من عقلها.
معنى تفصياً: أي تفلتاً
(حديث ابن مسعود في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال بئسما لأحدهم أن يقول: نسيت آية كيت و كيت بل هو نُسِيَ، واستذكروا القرآن فأنه أشدُّ تفصِّياً من صدور الرجال من النَّعم في عُقُلها.
معنى بل نُسِيَ: أي عوقب بالنسيان لتفريطه فاستذكار القرآن
{تنبيه}: (لقد ضرب السلف الصالح أروع المثل في قراءة القرآن واستذكاره، فكان الكثير منهم يختمون كل ثلاث ليالٍ، وبعضهم كل ليلتين ومنهم من كان يختم في كل يومٍ وليلة، فمن الذين كانوا يختمون في كل يومٍ وليلة عثمان ابن عفان وتميم ابن أوس الداري وسعيد ابن جبير ومجاهد والشافعي.
(5) ويجب عليه أن يجاهد نفسه في مراجعة القرآن حتى يشربه كشرب اللبن:
(حديث عقبة ابن عامر في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال سيخرج أقوام من أمتي يشربون القرآن كشربهم اللبن.
{تنبيه}: (هنا سؤال يطرح نفسه ما الدليل على جواز ختم القرآن في يومٍ وليلة، خاصةً وأنه ورد في السنة الصحيحة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث؟
والجواب أن نقول:
أنه يجوز ختم القرآن في يومٍ وليلة لفعل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد أمرنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نتبع سنتهم وبيَّن أن سنتهم من سنته.
(حديث العرباض بن سارية في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال أوصيكم بتقوى الله و السمع و الطاعة و أن أمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ فعطف سنتهم على سنته فدل ذلك على أن سنتهم من سنته.
الرد على (حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث.
يكون من وجهين:
{الأول}: المقصود بالنفي هنا نفي الفقه لا نفي الثواب ولذا عبَّر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله (لا يفقه)(7/117)
{الثاني}: ليس في الحديث دليلٌ على تحريم ختمه في أقل من ثلاث إذ لا يلزم من عدم فهم معناه تحريم قراءته.
(6) ينبغي لحامل القرآن أن يعتني بقراءة القرآن بالليل أكثر من النهار، وذلك لكونها أجمع للقلب وأثبت للحفظ لقوله تعالى: (إِنّ نَاشِئَةَ اللّيْلِ هِيَ أَشَدّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً) [المزمل / 6]
ولأنه بالليل يسهل طرد الشواغل عن الذهن، ثم إن الليل أصون من الرياء وغيره من المحبطات.
(7) يجب على حامل القرآن أن لا يسافر بالمصحف إلى أرض العدو حتى لا يناله بسوء أو امتهان _ قسم الله ظهر من أعان على امتهان القرآن بشطر كلمة.
(حديث ابن عمر في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو.
(فضائل بعض سور القرآن:
ما أنزل الله سبحانه من شيء إلا جعل فيه درجات وأفضلية:
قال تعالى: (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ) [الأنعام:165]
و قال تعالى: (وَلَقَدْ فَضّلْنَا بَعْضَ النّبِيّينَ عَلَىَ بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً) [الإسراء:55]
وقال تعالى: (وَفَضّلْنَاهُمْ عَلَىَ كَثِيرٍ مّمّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [الإسراء:70]
وكذلك فضّلت مكة والمدينة على سائر المدن وفضّل شهر رمضان على باقي الأشهر وفضّلت ليلة القدر على كل الليالي بل جعلها الله خيرا من ألف شهر وهكذا درجات وتفضيل، وكذلك فضّلت بعض سور القرآن. وكذلك جاء في السنة الشريفة فضل بعض السور القرآنية ليكثر المؤمن من قراءتها ويحفظها إن استطاع إلى ذلك سبيلا:
(فضل سورة الفاتحة:
بينت السنة الصحيحة أن سورة الفاتحة أعظم سورة في القرآن بنص السنة الصحيحة
(حديث أبي سعيد المعلي في صحيح البخاري) قال: قال لي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألا أعلمك أعظم سورةٍ في القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟ فأخذ بيدي، فلما أردنا أن نخرج قلت يا رسول الله إنك قلت لأعلمنَّك أعظمُ سورةٍ في القرآن، قال: الحمد لله رب العلمين هي السبعُ المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته.
(حديث بن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) قال بينما جبريل قاعد عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ * سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه فقال هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته.(7/118)
(حديث أبي بن كعب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها وإنها سبع من المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته.
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: كنا في مسير لنا فنزلنا، فجاءت جارية فقالت: إن سيد الحلي سليم، وإن نفرنا غيب، فهل منكم راق؟ فقام معها رجل ما كنا نأبنه برقية، فرقاه فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة، وسقانا لبنا، فلما رجع قلنا له: أكنت تحسن رقية، أوكنت ترقي؟ قال: لا، ما رقيت إلا بأم الكتاب، قلنا: لا تحدثوا شيئا حتى نأتي، أو نسأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: (وما كان يدريه أنها رقية؟ اقسموا واضربوا لي بسهم.
(حديث عبادة بن الصامت الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: في كلٍ صلاة يُقرأ فما أسمعنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسمعناكم وما أخفى عنا أخفينا عنكم، وإن لم تزد عن أم الكتاب أجزأت وإن زِدت فهو خير.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثا غير تمام فقيل لأبي هريرة رضي الله عنه إنا نكون وراء الإمام فقال اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد! < الحمد لله رب العالمين >! قال الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال! < الرحمن الرحيم >! قال الله تعالى أثنى علي عبدي وإذا قال! < مالك يوم الدين >! قال مجدني عبدي وقال مرة فوض إلي عبدي فإذا قال! < إياك نعبد وإياك نستعين >! قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال! < اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين >! قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.
[معنى خداج أي فاسدة]
(فضل سورة البقرة:
(1) بينت السنة الصحيحة أن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله شيطان.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لا تجعلوا بيوتكم مقابر وإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله شيطا ن.(7/119)
(2) البقرة سنام القرآن:
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن لكل شيء سناما وسنام القرآن سورة البقرة , و إن الشيطان إذا سمع سورة البقرة تقرأ , خرج من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة ".
وسنام القرآن سورة البقرة: فهي السنام والذروة والقمة الشامخة.
((حديث بن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) قال بينما جبريل قاعد عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ * سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه فقال هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته.
(3) البقرة من الزهراوين:
((حديث أبي أمامة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه اقرءوا الزهراوين: البقرة و آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أصحابهما اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة و تركها حسرة و لا تستطيعها البطلة.
اقرءوا الزهراوين: أي النيرتين.
قال النووي رحمه الله تعالى في شرح صحيح مسلم:
"و سميتا الزهراوين لنورهما و هدايتهما و عظيم أجرهما"
«كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان»: قال أهل اللغة: الغمامة والغياية كل شيء أظل الإنسان من فوق رأسه من سحابة وغبرة وغيرهما. نقله النووي. وفي القاموس: الغمامة: السحابة أو البيضاء من السحب. والغياية كل ما أظل الإنسان من فوق رأسه كالسحاب ونحوه. والمراد أن ثوابهما يأتي بهذا المنظر.
«أو كأنهما فرقان من طير صواف»: الفرقان والحزقان: معناهما واحد، وهما قطيعان وجماعتان، يقال في الواحد: فرق وحزق وحزيقه، أي جماعة، ومعنى «صواف»: باسطة أجنحتها ملتصق بعضها ببعض كما كانت تظلل سليمان عليه السلام، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تحاجان عن أصحابهما» أي تدافعان بالحجة عن أصحابهما.
«فإن أخذها بركة وتركها حسرة»: أي قراءتها بركة وترك قراءتها حسرة وخسارة.
أخذها بركة: أي زيادةٌ ونماء
وتركها حسرة: أي على ما فاته من الثواب
ولا تستطيعها البطلة:(7/120)
«ولا تستطيعها البطلة» أي السحرة، تسمية لهم باسم فعلهم، لأن ما يأتون به الباطل، وإنما لم يقدروا على قراءتها ولم يستطيعوها لزيغهم عن الحق وانهماكهم في الباطل، ويصح أن يكون المعنى ولا يستطيع دفعها واختراق تحصينها لقارئها السحرة.
وقيل: المراد من البطلة أهل البطالة، أي لا يستطيعون قراءتها وتدبر معانيها لكسلهم.
(فضلُ آية الكرسي:
(1) بينت السنة الصحيحة أن آية الكرسي هي أعظم سورةٍ في القرآن:
(حديث أبي بن كعب في صحيح مسلم) قال، قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يا أبا المنذر أتدري أيُ آيةٍ من كتاب الله معك أعظم؟ قال قلت الله لا إله إلا هو الحي القيوم. قال فضرب في صدري وقال ليهنك العلم يا أبا المنذر.
(2) من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت:
(حديث أبي أمامة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت.
(3) آية الكرسي حرزٌ من الشيطان:(7/121)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: وكلني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة). قال: قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة، وعيالا فرحمته فخليت سبيله، قال: (أما إنه قد كذبك، وسيعود). فعرفت أنه سيعود، لقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنه سيعود). فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يا أباهريرة ما فعل أسيرك). قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا، فرحمته فخليت سبيله، قال: (أما إنه كذبك، وسيعود). فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات تزعم لا تعود، ثم تعود، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}. حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما فعل أسيرك البارحة). قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: (ما هي). قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}. وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير - فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة). قال: لا، قال: (ذاك شيطان).
(فضلُ خواتيم سورة البقرة:
(حديث أبي مسعودٍ الأنصاري في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلةٍ كفتاه.
معنى كفتاه: أي أغنتاه عن قيام تلك الليلة بالقرآن، والآيتان هما من قوله تعالى (آمن الرسول بما أنزل إليه 00000 إلى آخر السورة)
[*] قال النووي رحمه الله:
قيل: معنا كفتاه من قيام الليل، وقيل من الشيطان، وقيل من الآفات ويحتمل الجميع0(7/122)
(حديث حذيفة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أُعطيتُ الآيات من آخر سورة البقرة من كنزٍ تحت العرش لم يعطها نبيٌ قبلي.
(حديث بن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) قال بينما جبريل قاعد عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ * سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه فقال هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته.
نقيضا: أي صوتاً
(فضلُ سورتي البقرة وآل عمران:
(حديث أبي أمامة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه اقرءوا الزهراوين: البقرة و آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أصحابهما اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة و تركها حسرة و لا تستطيعها البطلة.
اقرءوا الزهراوين: أي النيرتين
قال النووي رحمه الله تعالى في شرح صحيح مسلم:
"و سميتا الزهراوين لنورهما و هدايتهما و عظيم أجرهما"
«كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان»: قال أهل اللغة: الغمامة والغياية كل شيء أظل الإنسان من فوق رأسه من سحابة وغبرة وغيرهما. نقله النووي. وفي القاموس: الغمامة: السحابة أو البيضاء من السحب. والغياية كل ما أظل الإنسان من فوق رأسه كالسحاب ونحوه. والمراد أن ثوابهما يأتي بهذا المنظر.
«أو كأنهما فرقان من طير صواف»: الفرقان والحزقان: معناهما واحد، وهما قطيعان وجماعتان، يقال في الواحد: فرق وحزق وحزيقه، أي جماعة، ومعنى «صواف»: باسطة أجنحتها ملتصق بعضها ببعض كما كانت تظلل سليمان عليه السلام، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تحاجان عن أصحابهما» أي تدافعان بالحجة عن أصحابهما.
«فإن أخذها بركة وتركها حسرة»: أي قراءتها بركة وترك قراءتها حسرة وخسارة.
أخذها بركة: أي زيادةٌ ونماء
وتركها حسرة: أي على ما فاته من الثواب
ولا تستطيعها البطلة:
«ولا تستطيعها البطلة» أي السحرة، تسمية لهم باسم فعلهم، لأن ما يأتون به الباطل، وإنما لم يقدروا على قراءتها ولم يستطيعوها لزيغهم عن الحق وانهماكهم في الباطل، ويصح أن يكون المعنى ولا يستطيع دفعها واختراق تحصينها لقارئها السحرة.(7/123)
وقيل: المراد من البطلة أهل البطالة، أي لا يستطيعون قراءتها وتدبر معانيها لكسلهم.
(ومن فضلُ سورتي البقرة وآل عمران أن فيهما اسم الله الأعظم:
(حديث أبي أمامة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (اسم الله الأعظم في ثلاث سور من القرآن البقرة وآل عمران وطه). قال القاسم فالتمستها فإذا هي آية الحي القيوم.
(فضلُ سورة هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون:
(حديث ابن عباس في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: شيبتني هود و الواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت ... .
{شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون والتكوير}: لما فيها من ذكر الأمم وما حل بهم من عاجل بأس الله، فأهل اليقين إذا تلوها انكشفت لهم من ملكه وسلطانه وبطشه وقهره ما تذهل منه النفوس وتشيب منه الرؤوس.
{تنبيه}: ( ... سورة هود احتوت على آية الأمر بالاستقامة قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سورة هود: 112] وهي حمل ثقيل بالأمر بالاستقامة كما أمر الله تعالى وهو أمر ليس خاصا به بل لمن اتبعه بقوله تعالى: {وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا}.
وأما سور المرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت فكلها وصف لشدائد يوم القيامة: يوما يجعل الولدان شيبا. وتنذر الناس إنذارا شديدا. ففي سورة المرسلات تكرار للويل للمكذبين عدة مرات وفي عمَّ يتساءلون وصف للقيامة بالنبأ العظيم وفي التكوير وصف للحوادث الكونية الرهيبة يوم القيامة وفي الواقعة كذلك فهي الخافضة الرافعة ووصف أحوال أصحاب أهل اليمين وأصحاب الشمال وأحوال السابقين السابقين اولئك المقربين.
(فضلُ سورة الكهف:
(1) من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال:
(حديث أبي الدر داء في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال.
(2) من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه و بين البيت العتيق:
(حديث أبي سعيد في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين.(7/124)
(حديث أبي سعيد في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه و بين البيت العتيق.
(3) تنزل السكينة بقراءتها كسائر القرآن:
(حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: كان رجلٌ يقرأ سورة الكهف، وإلى جانبه حصان مربوط بشطنين، فتغشته سحابة، فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر ذلك له، فقال: تلك السكينة تنزلت بالقرآن.
{تنبيه}: ( ... وقصص سورة الكهف أربعة هي: أهل الكهف، صاحب الجنتين، موسى عليه السلام والخضر وذو القرنين.
وهذه القصص الأربعة يربطها محور واحد وهو أنها تجمع الفتن الأربعة في الحياة:
فتنة الدين: (قصة أهل الكهف)،
فتنة المال: (صاحب الجنتين)،
فتنة العلم: (موسى عليه السلام والخضر)
وفتنة السلطة: (ذو القرنين).
وهذه الفتن شديدة على الناس والمحرك الرئيسي لها هو الشيطان الذي يزيّن هذه الفتن ولذا جاءت الآية (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) [الكهف: 50] وفي وسط السورة أيضاً. ولهذا قال الرسول أنه من قرأها عصمه الله تعالى من فتنة المسيح الدجّال لأنه سيأتي بهذه الفتن الأربعة ليفتن الناس بها.
وقصص سورة الكهف كل تتحدث عن إحدى هذه الفتن ثم يأتي بعده تعقيب بالعصمة من الفتن: وهاك القصص الأربعة
(1) فتنة الدين:(7/125)
قصة الفتية الذين هربوا بدينهم من الملك الظالم فآووا إلى الكهف حيث حدثت لهم معجزة إبقائهم فيه ثلاث مئة سنة وازدادوا تسعا وكانت القرية قد أصبحت كلها على التوحيد. ثم تأتي آيات تشير إلى كيفية العصمة من هذه الفتنة (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا * وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا) [الكهف 28 – 29].
فالعصمة من فتنة الدين تكون بالصحبة الصالحة وتذكر الآخرة.
(2) فتنة المال:
قصة صاحب الجنتين الذي آتاه الله كل شيء فكفر بأنعم الله وأنكر البعث فأهلك الله تعالى الجنتين. ثم تأتي العصمة من هذه الفتنة (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) [الكهف 45 و46]. والعصمة من فتنة المال تكون في فهم حقيقة الدنيا وتذكر الآخرة.
(3) فتنة العلم:
قصة موسى عليه السلام مع الخضر وكان موسى ظنّ أنه أعلم أهل الأرض فأوحى له الله تعالى بأن هناك من هو أعلم منه فذهب للقائه والتعلم منه فلم يصبر على ما فعله الخضر لأنه لم يفهم الحكمة في أفعاله وإنما أخذ بظاهرها فقط. وتأتي آية العصمة من هذه الفتنة (قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا) [الكهف:69].
والعصمة من فتنة العلم هي التواضع وعدم الغرور بالعلم.
(4) فتنة السلطة:(7/126)
قصة ذو القرنين الذي كان ملكاً عادلاً يمتلك العلم وينتقل من مشرق الأرض إلى مغربها عين الناس ويدعو إلى الله وينشر الخير حتى وصل لقوم خائفين من هجوم يأجوج ومأجوج فأعانهم على بناء سد لمنعهم عنهم وما زال السدّ قائماً إلى يومنا هذا. وتأتي آية العصمة (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف 103 و104]
فالعصمة من فتنة السلطة هي الإخلاص لله في الإعمال وتذكر الآخرة.
(5) ختام السورة: العصمة من الفتن:
آخر آية من سورة الكهف تركّز على العصمة الكاملة من الفتن بتذكر اليوم الآخرة (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف:110]
فعلينا أن نعمل عملاً صالحاً صحيحاً ومخلصاً لله حتى يَقبل، والنجاة من الفتن إنتظار لقاء الله تعالى.
ومما يلاحظ في سورة الكهف ما يلي:
(1) الحركة في السورة كثيرة (فانطلقا، فآووا، قاموا فقالوا، فابعثوا، ابنوا، بلغا، جاوزا، فوجدا، آتنا،) وكأن المعنى أن المطلوب من الناس الحركة في الأرض لأنها تعصم من الفتن ولهذا قال ذو القرنين: (فأعينوني بقوة) أي دعاهم للتحرك ومساعدته ولهذا فضل قراءتها في يوم الجمعة الذي هو يوم إجازة للمسلمين حتى تعصمنا من فتن الدنيا.
(2) وهي السورة التي ابتدأت بالقرآن وختمت بالقرآن: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا) [الكهف: 1] و (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) [الكهف: 109]. وكأن حكمة الله تعالى في هذا القرآن لا تنتهي وكأن العصمة من الفتن تكون بهذا القرآن والتمسك به.
(3) الدعوة إلى الله موجودة بكل مستوياتها:
فتية يدعون الملك وصاحب يدعو صاحبه ومعلّم يدعو تلميذه وحاكم يدعو رعيته.
(4) ذكر الغيبيات كثيرة في السورة:(7/127)
في كل القصص: عدد الفتية غيب وكم لبثوا غيب وكيف بقوا في الكهف غيب والفجوة في الكهف غيب، وقصة الخضر مع موسى عليه السلام كلها غيب، وذو القرنين غيب. وفي هذا دلالة على أن في الكون أشياء لا ندركها بالعين المجردة ولا نفهمها ولكن الله تعالى يدبّر بقدرته في الكون وعلينا أن نؤمن بها حتى لو لم نراها أو نفهمها وإنما نسلّم بغيب الله تعالى.
(وسميت السورة بـ (سورة الكهف): الكهف في قصة الفتية كان فيه نجاتهم مع إن ظاهره يوحي بالخوف والظلمة والرعب لكنه لم يكن كذلك إنما كان العكس (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا) آية 16. فالكهف في السورة ما هو إلا تعبير أن العصمة من الفتن أحياناً تكون باللجوء إلى الله حتى لو أن ظاهر الأمر مخيف. وهو رمز الدعوة إلى الله فهو كهف الدعوة وكهف التسليم لله ولذا سميت السورة (الكهف) وهي العصمة من الفتن.
(فضل سورة الفتح:
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال * لما نزلت! < إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله >! إلى قوله! < فوزا عظيما >! قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعا.
(فضلُ سورتي السجدة والملك:
(حديث جابر في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا ينام حتى يقرأ ألم تنزيل السجدة وتبارك الذي بيده الملك.
(حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ? إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لصاحبها حتى غُفر له: تبارك الذي بيده الملك.
(حديث ابن مسعود في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سورة تبارك هي المانعة من عذاب القبر.
(فضل المسبِّحات:
((حديث العِرْبَاضِ بن سَارِيَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لا يَنَامُ حتَّى يَقْرَأَ المسبِّحَاتِ, ويقُولُ: فيها آيةٌ خيرٌ مِنْ ألْفِ آيَةِ.
والمسبِّحاتِ: هي السور التي تُفتتح بقولَ تعالى بـ {سَبَّح َ} أو
{يُسَبِّح} وهى: [حديد, والحشر, والصف, والجمعة, والتغابن, والأعلى]
(فضل سورة التكوير والإنفطار والانشقاق:(7/128)
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:" من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأى عين فليقرأ إذا الشمس كورت وإذا السماء انفطرت وإذا السماء انشقت " 0
(فضل سورة الكوثر:
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أنزلت علي آنفآ سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم (إنآ أعطينك الكوثر * فصل لربك وأنحر * إن شانئك هو الابترُ)
أتدرون ما الكوثر؟ إنه نهر وعده ليه ربي، عليه خير كثير، هو حوضي ترد غليه أمتي يوم القيامة، آنيته كعدد النجوم، فيختلج العبد منهم فأقول: رب إنه من أمتي فيقول: ما تدري ما أحدثوا بعدك.
(فضلُ سورة الكافرون:
(حديث ابن عباس في صحيح الترمذي) {إذا زلزلت} تعدل نصف القرآن و {قل يا أيها الكافرون} تعدل ربع القرآن و {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن.
[*] قال الشيخ الألباني: صحيح دون فضل زلزلت
(حديث فروة بن نوفل في صحيح الترمذي) أن أتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال يا رسول الله علمني شيئاً أقوله إذا أويتُ إلى فراشي فقال: اقرأ {قل يا أيها الكافرون} عند منامك فإنها براءة من الشرك.
(فضل المعوذتين:
(حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: آيات أنزلت علي الليلة لم ير مثلهن قط قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس.
(فضلُ المُعَوِّذات:
(حديث عبد الله بن خبيب في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: {قل هو الله أحد} و المعوذتين حين تمسي و حين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء.
(فضلُ سورة الإخلاص:
(حديث أبي سعيدٍ الخدري في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن.
(حديث معاذ بن أنس الجهني في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قرأ {قل هو الله أحد} عشر مرات بنى الله له بيتا في الجنة.(7/129)
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: كان رجل من الانصار يؤمهم في مسجد قباء، وكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به، افتتح: {قل هو الله أحد}. حتى يفرغ منه، ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة، فكلمه أصحابه فقالوا: إنك تفتتح بهذه السورة، ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بأخرى، فأما أن تقرأ بها وأما أن تدعها وتقرأ بأخرى، فقال: ما أنا بتاركها، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت، وإن كرهتم تركتكم، وكانوا يرون أنه من أفضلهم وكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبروه الخبر، فقال: يا فلان ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك، وما يحملك على لزوم هذة السورة في كل ركعة؟. فقال: إني أحبها، فقال: حبك إياها أدخلك الجنة.
(الكنز الثاني: أذكار اليوم والليلة:
إن الذي يُمْعِن النظر في هدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجد أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتقلب في ذكر الله تعالى وكان يذكر الله تعالى على كل أحيانه قائماً وقاعداً وعلى جنب، وإليك بيان تفصيلي لذكر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على كل أحيانه من حيث يستيقظ إلى أن ينام.
(ذكر الاستيقاظ من النوم:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:"يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نائم ثلاث عقد يضرب على كل عقدةٍ مكانها عليك ليل طويل فارقد فإن استيقظ وذكر الله تعالى انحلت عقدة فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقده كلها فأصبح نشيطاً طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان".
قوله: على قافية رأس أحدكم: القافية آخر الرأس وقافية كل شيءٍ آخره ومن قافية الشعر.
وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فأصبح نشيطاً طيب النفس" معناه: لسروره بما وفقه الله الكريم له من الطاعة ووعده به من ثوابه مع ما يبارك في نفسه وتصرفه في كل أموره مع ما زال عنه من عقد الشيطان وتثبيطه.(7/130)
انحلت عقده كلها: قال الألباني رحمه الله تعالى: قلت في تفسير "العقد" أقوال، والأقرب أنه على حقيقته بمعنى السحر للإنسان ومنعه من القيام، كما يعقد الساحر من سحره، كما أخبر بذلك المولى تعالى ذكره في كتابه الكريم {ومن شر النفاثات في العقد} فالذي خذل يعلم فيه، والذي وفق يصرف عنه، ومما يدل على أنه على الحقيقة ما رواه ابن ماجه عن أبي هريرة مرفوعاً " على قافية رأس أحدكم حبل فيه ثلاث عقد" الحديث، وما رواه ابن خزيمة وذكره المصنف في هذا الباب عن جابر رضي الله عنه " على رأس جرير معقود" وفسر الجرير بالحبل. أ. هـ. (1)
(حديث حذيفة في الصحيحين) قال كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أوى إلى فراشه قال: باسمك اللهم أموت وأحيا، وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا استيقظَ أحدُكُم فليقُلْ: الحمدُ لله الذي ردَّ عليَّ رُوحي, وعافاني في جَسَدي, وأذِنَ لي بذِكْرِهِ.
(الذكر عند دخول الخلاء:
الذكر عند دخول الخلاء تقول: بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث.
(حديث علي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ستر ما بين أعين الجن و عورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول: بسم الله.
(حديث أنس في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخُبُثُ و الخبائث.
(الذكر بعد الخروج من الخلاء:
الذكر الذي نقوله بعد الخروج من الخلاء تقول: غفرانك.
(حديث عائشة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج من الغائط قال: غفرانك.
(الذكر قبل الوضوء:
الذكر الذي نقوله قبل الوضوء: بسم الله.
(حديث أبي هريرة في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا صلاةَ لمن لا وضوء له و لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه.
(الذكر بعد الفراغ من الوضوء:
الذكر الذي نقوله بعد الفراغ من الوضوء: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله اللهم اجعلني من التوابين و اجعلني من المتطهرين.
__________
(1) صحيح الترغيب (ص324).(7/131)
(حديث عمر في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من أحدٍ يتوضأ فيبلغ أو يسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء.
(حديث عمر صحيحي أبي داوود الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أن محمدا عبده و رسوله اللهم اجعلني من التوابين و اجعلني من المتطهرين فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء.
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: مِنَ توضأَ ثمَّ قالَ: سبحانَك اللهمَّ وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنتَ, أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ, كُتِبَ في رقٍّ ثم طُبِعَ بطابِعٍ, فلم يُكسر إلى يوم القيامة.
(الذكر عند الخروج من المنزل:
الذكر الذي نقوله عند الخروج من المنزل: بسم الله توكلت على الله لا حول و لا قوة، اللهم إني أعوذ بك أن أَضلَ أو أُضل أو أَزلَّ أو أُزلَّ أو أَظلم أو أُظلم أو أَجهل أو يُجْهَلَ عليَّ.
(حديث أنس في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله توكلت على الله لا حول و لا قوة إلا بالله فيقال له: حسبك قد هديت و كفيت و وقيت فيتنحى له الشيطان فيقول له شيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي و كفي و وقي؟.
(حديث أم سلمة في صحيح السنن الأربعة) قالت: ما خرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بيتي قط إلا رفع طَرْفَه إلى السماء فقال: اللهم إني أعوذ بك أن أَضلَ أو أُضل أو أَزلَّ أو أُزلَّ أو أَظلم أو أُظلم أو أَجهل أو يُجْهَلَ عليَّ.
(الذكر عند دخول المنزل:
يُسلم على أهله ويصلي ركعتين:
(حديث أبي أمامة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاثةٌ كلُّهمْ ضامنٌ على الله إن عاش رُزقِ وكُفِيَ, وإن ماتَ أدخلَهُ اللهُ الجنّة, من دخل بيتَه فَسَلَّمَ، فهو ضامنٌ على الله ومن خرج إلى المسجد فهو ضامن على الله ومن خرج في سبيل الله فهو ضامن على الله.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا خرَجت من مَنْزلك فَصَلّ ركعتين يمنعانكَ من مخرجِ السوءِ, وإذا دَخَلْتَ إلى منزلك فصَلّ ركعتين يمنعانكَ من مدخل السوء.(7/132)
(ذكر الخروج إلى المسجد:
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قال: فأتاه بلالاً فآذنه بالصلاة فقام ولم يتوضأ وكان في دعائه: اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً، واجعل لي نوراً).
(الذكر عند دخول المسجد:
(حديث عبد الله ابن عمرو الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دخل المسجد قال أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم.
(حديث فاطمة بنت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) قالت كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دخل المسجد يقول بسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج قال بسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك.
اغفر لي: أي استر ذنوبي وتجاوز عن عيوبي، وأصل الغَفْر التغطية، والمغفرة: إلباس الله تعالى العفوَ للمذنبين.
(الذكر عند الخروج من المسجد:
(حديث فاطمة بنت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) قالت كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دخل المسجد يقول بسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج قال بسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليسلم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليقل اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم.
(الذكر عند لبس الثوب:
الذكر عند لبس الثوب أن تقول: الحمد لله الذي كساني هذا و رزقنيه من غير حول مني و لا قوة.
(حديث معاذ بن أنس الجُهَني في صحيح السنن الأربعة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أكل طعاما ثم قال: الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام و رزقنيه من غير حول مني و لا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه و من لبس ثوبا فقال: الحمد لله الذي كساني هذا و رزقنيه من غير حول مني و لا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر.
(ذكر لبس الثوب الجديد:(7/133)
الذكر عند لبس الثوب الجديد أن تقول: تقول: اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه أسألك من خيره و خير ما صنع له و أعوذ بك من شره و شر ما صنع له
(حديث أبي سعيد في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كان إذا استجد ثوبا سماه باسمه قميصا أو عمامة أو رداء ثم يقول: اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه أسألك من خيره و خير ما صنع له و أعوذ بك من شره و شر ما صنع له.
(الدعاء لمن لبس ثوباً جديدا:
الدعاء عند لبس ثوباً جديدا تقول له: البس جديدا و عش حميدا و مت شهيدا.
(حديث ابن عمر في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى على عمر قميصاً أبيضاً فقال: ثوبك هذا غسيلٌ أم جديد؟ قال لا بل غسيل، قال: البس جديدا و عش حميدا و مت شهيدا.
((حديث أمِّ خالدٍ بِنتِ سعيد بن العاصِ رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أُتِيَ بِكسوةٍ فِيهَا خميِصةٌ صغيرةٌ فقالَ: مَنْ ترونَ أحقَّ بهذهِ؟ فسكَتََ القومُ فقالَ: ائتُوني بأمِّ خالدٍ، فأُتِيَ بِهَا, فألْبَسَهَا إيَّاهَا, ثمَّ قالَ: أبْلِي وأَخْلِقِي مرَّتيِن.
(الذكر عند دخول المنزل:
الذكر الذي نقوله عند دخول المنزل: إني أسألك خير المولج و خير المخرج باسم الله ولجنا و باسم الله خرجنا و على الله ربنا توكلنا.
((حديث أبي موسى الأشعري في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا ولج الرجل بيته فليقل: اللهم إني أسألك خير المولج و خير المخرج بسم الله ولجنا و بسم الله خرجنا و على الله ربنا توكلنا ثم يسلم على أهله.
(الذكر عند دخول المسجد:
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دخل المسجد قال: أعوذ بالله العظيم و بوجهه الكريم و سلطانه القديم من الشيطان الرجيم و قال: فإذا قال ذلك قال الشيطان حُفِظ مني سائر اليوم.
(حديث فاطمة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) قالت كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دخل المسجد قال: بسم الله و السلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي و افتح لي أبواب رحمتك و إذا خرج قال: بسم الله و السلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي و افتح لي أبواب فضلك.
(الذكر عند الخروج من المسجد:(7/134)
(حديث فاطمة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) قالت كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دخل المسجد قال: بسم الله و السلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي و افتح لي أبواب رحمتك و إذا خرج قال: بسم الله و السلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي و افتح لي أبواب فضلك.
[*] (أذكار الأذان:
(أذكار الأذان تقول مثل ما يقول المؤذن إلا في قوله {حي على الصلاة حي على الفلاح} تقول: لا حول و لا قوة إلا بالله.
(ثم تقول عقب تشهد المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله رضيت بالله ربا و بمحمد رسولا و بالإسلام دينا
*ثم تصلي على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد فراغك من إجابة المؤذن
(ثم تقول: اللهم رب هذه الدعوة التامة و الصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة و الفضيلة و ابعثه مقاما محمودا الذي وعدته.
(ثم تدعو بين الأذان والإقامة فإن الدعاء بينهما لا يُرد.
(حديث أبي سعيد في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن.
(حديث عمر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله فقال أشهد أن لا إله إلا الله ثم قال أشهد أن محمدا رسول الله فقال أشهد أن محمدا رسول الله فقال أشهد أن محمدا رسول الله ثم قال حي على الصلاة فقال لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال حي على الفلاح قال لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال الله أكبر الله أكبر فقال الله أكبر الله أكبر ثم قال لا إله إلا الله فقال لا إله إلا الله خالصا من قلبه دخل الجنة.
(حديث معاوية في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سمع المؤذن قال مثل ما يقول حتى إذا بلغ: حي على الصلاة حي على الفلاح قال: لا حول و لا قوة إلا بالله.
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله و أرجوا أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة.(7/135)
(حديث سعد بن أبي وقاص في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من قال حين يسمع النداء: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله رضيت بالله ربا و بمحمد رسولا و بالإسلام دينا غفر الله له ما تقدم من ذنبه.
(حديث جابر في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة و الصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة و الفضيلة و ابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفا عتي يوم القيامة.
(حديث أنس في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لا يُرَدُ الدعاء بين الأذان والإقامة.
[*] (الأذكار داخل الصلاة:
(دعاء الاستفتاح:
(ثبت في السنة الصحيحة أكثر من دعاء للاستفتاح وكلها صحيحة وليس بينها تعارض، والصواب فيها أن تقرأ أحدها تارةً والأخرى تارة لأن هذا من قبيل اختلاف التنوع وليس اختلاف التضاد ولذا فالأفضل في مثل هذه المواطن أن نأتي بالذكر هذا تارةً والثاني تارة.
(حديث أبي سعيد في صحيح السنن الأربعة) قال: ... كان إذا استفتح الصلاة قال: سبحانك اللهم و بحمدك و تبارك اسمك و تعالى جدك و لا إله غيرك.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسكت بين التكبير وبين القراءة إسكاتةً هُنَيهةَ فقلت بأبي وأمي يا رسول الله إسكاتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من الخطايا كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد.
(ذكر الركوع:
(حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول إذا ركع سبحان ربي العظيم ثلاث مرات وإذا سجد قال سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات.
(حديث عائشة في الصحيحين) قالت كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي.
(حديث عائشة في صحيح مسلم) أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في ركوعه وسجوده: سبُّوحٌ قدوسٌ ربُ الملائكة والروح.
(ذكر الرفع من الركوع:(7/136)
(حديث رفاعةَ بن رافعٍ الزُرقي في صحيح البخاري) قال كنا نصلي وراء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما رفع رأسه من الركعة قال سمع الله لمن حمده قال رجلٌ وراءه ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فلما انصرف قال: من المتكلم؟ قال أنا، قال: رأيت بضعةً وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أول.
(حديث أبي سعيدٍ في صحيح مسلم) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رفع رأسه من الركوع قال: ربنا لك الحمد ملئ السموات والأرض وما بينهما وملئ ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحقُ ما قال العبد وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا مُعطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
(ذكر السجود:
(حديث عائشة في الصحيحين) قالت كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي.
(حديث عائشة في صحيح مسلم) أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في ركوعه وسجوده: سبُّوحٌ قدوسٌ ربُ الملائكة والروح.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في سجوده: "" اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله وأوله وآخره.
(حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم) قالت: فقدت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة فالتمسته بيدي فوقعت يدي على قدميه وهما منصوبتان وهو يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك و بمعافاتك من عقوبتك و أعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح النسائي) قالت فقدت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .. فطلبته فإذا هو ساجد يقول: اللَّهُمَّ اغفِرْ لِي مَا أسررتُ ومَا أعلَنْتُ.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح النسائي) فقدتُ رسولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة فإذا هو راكعٌ أو سَاجِدٌ يقول: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وبِحمدِكَ لا إلهَ إلا أنتَ.
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح النسائي) قالَ كانَ رسولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في سجوده: اللَّهُمَّ اجعلْ في قَلْبي نُوراً, واجْعَلْ في سَمْعِي نُوراً, واجْعَلْ في بَصَري نُوراً, واجْعَلْ مِنْ تَحْتِي نُوراً, واجْعَلْ مِنْ فَوقِي نُوراً, وعَنْ يميني نُوراً, وعَنْ يَساري نُوراً, واجْعَلْ أمَامِي نُوراً, واجْعَلْ خَلْفِي نُوراً, وأعْظِم لِي نُوراً.(7/137)
(الذكر بين السجد تين:
(حديث حذيفة في صحيحي أبي داوود والنسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول بين السجد تين رب اغفر لي رب اغفر لي.
(حديث ابن عباس في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول بين السجد تين اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني وارزقني.
اغفر لي: أي استر ذنوبي وتجاوز عن عيوبي، وأصل الغَفْر التغطية، والمغفرة: إلباس الله تعالى العفوَ للمذنبين.
وارحمني: الرحمة هي الرقة والعطف.
وعافني: العَفْو هو التجاوزُ عن الذَّنْب وتركُ العِقَاب عليه، وأصله المَحْوُ والطَّمْسُ، فالعفو: محو الذنوب، والعافية: أن تسلم من الأسقام والبلايا.
وارزقني: أي انفعني وهب لي.
(الذكر بعد التشهد الأخير وقبل التسليم:
(حديث أبي بكرٍ الصديق في الصحيحين) أنه قال لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمني دعاءاً أدعو به في صلاتي قال: قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم.
(حديث عليٍ في صحيح مسلم) قال كان رسول الله إذا قام إلى الصلاة يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: اللهم اغفر لي ما قدَّمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت.
(حديث عائشة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو في الصلاة يقول: "" اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم "" فقال له قائل ما أكثر ما تستعيذ من المغرم يا رسول الله فقال: "" إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف.
(المأثم): هو الأمر الذي يأثم به الإنسان, أو هو الإثم نفسه, وضعاً للمصدر موضع الاسم,
(المغرم): ويريد به الدين, بدليل تمام الحديث قالت عائشة: فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم يا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال:
(إنَّ الرَّجل إذا غَرِمَ, حدَّث فكذَبَ, ووعَدَ فأخلَفَ)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجلٍ ما تقول في الصلاة قال أتشهد ثم أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار أما والله ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال حولها ندندن.
[*] (أذكار ختام الصلاة:(7/138)
(تقول: " أستغفر الله، استغفر الله، اللهم أنت السلام، ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ". http://tholog.50webs.com/azkar.htm - _ftn15
( تقول: اللهم أعني على ذكرك و شكرك و حسن عبادتك
(وتقرأ آية الكرسي دبر كل صلاة.
(وتقرأ المُعَوِّذات دبر كل صلاة.
(وتقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضلُ وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.
(وتسبح الله تعالى ثلاثاً وثلاثين وتحمد الله تعالى ثلاثاً وثلاثين وتكبر الله تعالى ثلاثاً وثلاثين
(وتقول تمام المائة: لا لإله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
(وهاك الأدلة على ذلك:
(حديث ثوبان رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا وقال اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ذا الجلال والإكرام.
(حديث معاذ في صحيحي أبي داوود والنسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يا معاذ! و الله إني لأحبك أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك و شكرك و حسن عبادتك.
(حديث أبي أمامة الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت.
(حديث عقبة بن عامر في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال أمرني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أقرأ المُعَوِّذات دبر كل صلاة.
(حديث عبد الله بن الزبير الثابت في صحيح مسلم) قال كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا انصرف من الصلاة قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضلُ وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.(7/139)
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا و ثلاثين و حمد الله ثلاثا و ثلاثين و كبر الله ثلاثا و ثلاثين فتلك تسع و تسعون و قال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير غفرت خطاياه و إن كانت مثل زبد البحر.
(حديث المغيرة في الصحيحين) كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفعُ ذا الجد منك الجد.
(كيفية تسبيح النبي صلى الله?عليه و سلم:
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) قال: رأيت رسول الله صلى الله?عليه و سلم يعقد التسبيح بيمينه.
(حديث يُسَيْرَةَ بن ياسر رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يا معشر النساء اعقدن بالأنامل فإنهن مَسئُولاتٌ مُستنطَقَاتٌ.
[*] قال صاحب تحفة الأحوذي:
مَسئُولاتٌ مُستنطَقَاتٌ: يعني أنهن يشهدن بذلك فكان عقدهن بالتسبيح من هذه الحيثية أولى من السبحة والحصى ويدل على جواز عد التسبيح بالنوى والحصى.
[تحفة الأحوذي (9/ 322)]
{تنبيه}: (فهذا هو السنة في عدّ الذكر المشروع عدّه, إنما هو باليد, وباليمنى فقط, فالعدّ باليسرى أو باليدين معاً, أو بالحصى كل ذلك خلاف السنة.
(ذكر سجود التلاوة:
(حديث عائشة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في سجود القرآن بالليل في السجدة مراراً سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته.
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله إني رأيتني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة فَسَجَدتُ فَسَجَدَتْ الشجرةُ لسجودي فسمعتُها وهي تقول اللهم اكتب لي بها عندك أجرا وضع عني بها وزرا واجعلها لي عندك ذخرا وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود قال الحسن قال لي بن جريج قال لي جدك قال بن عباس فقرأ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سجدة ثم سجد قال فقال بن عباس فسمعته وهو يقول مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة.(7/140)
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي.
(حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم) أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في ركوعه وسجوده سبوح قدوس رب الملائكة والروح.
(الذكر في صلاة الاستسقاء:
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داود) قال: أتت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بواكي فقال اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا مريعا نافعا غير ضار عاجلا غير آجل قال فأطبقت عليهم السماء.
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود) قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا استَسقى قالَ: اللَّهمَّ اسقِ عِبادكَ وبهائمكَ, وانشر رحمَتَك, وأَحْيي بَلَدَكَ الَمِّيتَ.
(الذكر إذا رأى المطر:
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رأى المطر قال: اللهم صيباً نافعاً.
(الذكر بعد نزول الغيث:
(حديث زيد بن خالد الجُهني الثابت في الصحيحين) قال صلى لنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الصبح بالحديبية على إثرِ سماءٍ كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال الله: أصبح من عبادي مؤمن بي و كافر فأما من قال: مطرنا بفضل الله و رحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب و أما من قال: مطرنا بنوء كذا و كذا فذلك كافر بي و مؤمن بالكواكب.
(ما يقول إذا زاد المطر وخِيف منه:(7/141)
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال أصابت الناس سنة على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب على المنبر يوم الجمعة قام أعرابي فقال يا رسول الله هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا أن يسقينا قال فرفع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه وما في السماء قزعة قال فثار سحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته قال فمطرنا يومنا ذلك وفي الغد ومن بعد الغد والذي يليه إلى الجمعة الأخرى فقام ذلك الأعرابي أو رجل غيره فقال يا رسول الله تهدم البناء وغرق المال فادع الله لنا فرفع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه وقال اللهم حوالينا ولا علينا قال فما جعل يشير بيده إلى ناحية من السماء إلا تفرجت حتى صارت المدينة في مثل الجوبة حتى سال الوادي وادي قناة شهرا ولم يجيء أحد من ناحية إلا حدث بالجود.
(الذكر عند رؤية الريح:
(حديث أبي بن كعب في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون، فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الريحُ من روحِ الله, تأتي بالرحمة, وتأتي بالعذابِ, فإذا رأيتموها فلا تَسُبُّوها, واسألوا الله خيرها, واستعيذُوا بالله من شرِّها.
(حديث عائشةرضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا عصفتِ الريحُ قال: اللهمَّ إني أسألكَ خيرها, وخير ما فيها, وخيرَ ما أرسلتْ به, وأعوذ بكَ من شرها, وشرِّ ما فيها, وشرِّ ما أرسلتْ به.
(حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا اشتدَّت الرِّيحُ قالَ: اللَّهمَّ لَقَحاً لا عَقيماً.
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في السلسلة الصحيحة) أن رجلاً نازعته الريح رداءه على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلعنها, فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تلعن الريح فإنها مأمورة وإنه من لعن شيئاً ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه.
(الذكر إذا سمع الرعد:(7/142)
(حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنه الثابت في صحيح الأدب المفرد) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سمع الرَّعد ترك الحديث وقال: سبحان الذي {يُسبِّح الرَّعد بحمده والملائكة مِن خيفتِه} [الرعد: 13]
(الذكر لمن رأى الهلال:
(حديث طلحة ابن عُبيد الله في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رأى الهلال قال: اللهم أهله علينا باليمن و الإيمان و السلامة و الإسلام ربي و ربك الله.
(الاستعاذة عند روية القمر:
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ بيدها, فأشار بها إلى القمر, فقال: استعيذي باللهِ من هذا [يعني: القمر] ,فإنَّهُ الغاسقُ إذا وَقَبَ.
[*] قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى:
في الحديث دلالة على جواز الإشارة باليد إلى القمر, خلافاً لما نقل عن بعض المشايخ من كراهة ذلك, والحديث يردُّ عليه. أهـ
(الذكرعند صياح الديكة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله، فإنها رأت ملكا، وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنه رأى شيطانا).
(الاستعاذة عند سماع نباح الكلاب ونهيق الحمير بالليل:
(حديث جابر عبد الله رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا سمعتم نباح الكلاب ونهيق الحمر بالليل فتعوذوا بالله فإنهن يَرَيْنَ مالا ترون.
(الذكر لمن استصعب عليه أمر:
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اللهمَّ لا سهلَ إلا ما جعلتَه سهلاً, وأنتَ تجعلُ الحزنَ إذا شئتَ سهلاً.
(الذكر في المجلس:
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) قال: إن كنا لنعد لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المجلس الواحد مائة مرة رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم.(7/143)
(حديث ابن عمر في صحيح الترمذي) قال قلما كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقوم من مجلسٍ حتى يدعو بهؤلاء الكلمات: اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا و بين معاصيك و من طاعتك ما تبلغنا به جنتك و من اليقين ما تُهوِّنُ به علينا مصيبات الدنيا و متعنا بأسماعنا و أبصارنا و قوتنا ما أحييتنا و اجعله الوارث منا و اجعل ثأرنا على من ظلمنا و انصرنا على من عادانا و لا تجعل مصيبتنا في ديننا و لا تجعل الدنيا أكبر همنا و لا مبلغ علمنا و لا تسلط علينا من لا يرحمنا.
(ذكر كفارة المجلس:
(حديث ابن مسعود في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كفارة المجلس أن يقول العبد: سبحانك اللهم و بحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك أستغفرك و أتوب إليك.
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم ربنا و بحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك و أتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك ... .
(حديث أبي مدينة الدارمي رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) قال: كان الرجلان من أصحابِ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهُما على الآخر: {والعصرِ إنَّ الإنْسانَ لَفِي خُسْرِ} ثم يُسلّم أحدهما على الآخر.
(الذكر لذهاب الغضب:
(حديث سليمان بن صرد في الصحيحين) قال: استب رجلان عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن عنده جلوس وأحدهما يسب صاحبه مغضبَّاً قد احمر وجهه فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
(ذكر شراء الدابة أو السيارة:
(حديث عبد الله ابن عمرو الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا تزوج أحدكم امرأة أو اشترى خادما فليقل اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه وأعوذ بك من شرها ومن شر ما جبلتها عليه.
(ذكر شراء الدابة أو السيارة:
(حديث أبي عبد الله ابن عمرو الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا تزوج أحدكم امرأة أو اشترى خادما فليقل اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه وأعوذ بك من شرها ومن شر ما جبلتها عليه.
[*] (أذكار الصباح والمساء:(7/144)
(ينبغي لطالب العلم أن يتمسك بأذكار الصباح والمساء وأن لا يتركها ما دام حياً فإنها حِصنٌ حصين وحرزٌ متين، وقد حثنا الله تعالى على أذكار الصباح والمساء لقوله تعالى (فَاصْبِرْ عَلَىَ مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) {ق/39}
وقوله تعالى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بالْعَشِيّ والإِبْكارِ) [غافر: 55] وقوله تعالى: (وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بالغُدُوّ والآصَالِ) [الأعراف: 205]
قال أهل اللغة: الآصال جمع أصيل: وهو ما بين العصر والمغرب.
وقوله تعالى: (وَلاتَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الأنعام: 52]
قال أهل اللغة: العشيّ: ما بين زوال الشمس وغروبها.
وقوله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللَّهُ أنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ، يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بالْغُدُوّ والآصَالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) [النور: 36]
وقوله تعالى: (إنَّا سَخَّرْنا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بالْعَشِيّ وَالإِشْرَاقِ) [ص: 18]
(حديث ابن مسعود في صحيح مسلم) قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أمسى قال: أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله , ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ربِّ أسألك خيرَ ما في هذه الليلة وخيرَ ما بعدها وأعوذ بك من شر هذه الليلة وشرِ ما بعدها، رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر، رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر، وإذا أصبح قال ذلك أيضاً: أصبحنا وأصبح الملك لله.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا أصبحتم فقولوا اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإذا أمسيتم فقولوا اللهم بك أمسينا وبك أصبحنا وبك نحيا وبك نموت وإليك المصير.
(حديث أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لفاطمة رضي الله تعالى عنها: ما يمنعكِ أنْ تسمعي ما أُوصيكِ به؟ أنْ تقولي: إذا أصبحتِ وإذا أمسيتِ يا حيُّ يا قيومُ برحمتِكَ أستغيثُ, أصلحْ لي شأنيَ كلَّه, ولا تَكِلْني إلى نفسي طَرفةَ عين.(7/145)
(حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أنه قال: يارسول الله، مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت، وإذا أمسيت قال: "" قل: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شىء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، وشر الشيطان وشركه "" قال: "" قلها إذا أصبحت وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعك.
(حديث عبد الرحمن بن أبزى في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أصبح و إذا أمسى قال: أصبحنا على فطرة الإسلام و كلمة الإخلاص و دين نبينا محمد و ملة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما و ما كان من المشركين.
(حديث شداد بن أوس في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سيدُ الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني و أنا عبدك و أنا على عهدك و وعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي و أبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت من قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة و من قالها من الليل و هو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة.
(حديث عبد الله بن خُبيب في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قل (قل هو الله أحد والمُعَوِّذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كلِ شيء)
(حديث عثمان في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من عبد يقول في صباح كل يوم و مساء كل ليلة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض و لا في السماء و هو السميع العليم ثلاث مرات فيضره شيء.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب و كتبت له مائة حسنة و محيت عنه مائة سيئة و كانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي و لم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل عملا أكثر من ذلك.(7/146)
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير بعد ما يصلي الغداة عشر مرات كتب الله له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات وكان له بعدل عتق رقبتين من ولد إسماعيل، وإن قالها حين يمسي كان له مثل ذلك وكن له حجاباً من الشيطان حتى يصبح ... .
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال: سبحان الله و بحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه و إن كانت مثل زبد البحر.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال حين يصبح و حين يمسي: سبحان الله العظيم و بحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ذلك و زاد عليه.
(حديث ابن عمر في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) قال لم يكن رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الله يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح {اللهم إني أسألك العفو و العافية الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي و أهلي و مالي، اللهم استر عوراتي و آمن روعاتي و احفظني من بين يدي و من خلفي و عن يميني و عن شمالي و من فوقي و أعوذ بك أن اغتال من تحتي.
(حديث أبي الدر داء في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من صلى عليَّ حين يصبح عشراً وحين يمسي عشراً أدركته شفاعتي يوم القيامة.
(حديث أبي بكرة في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو: اللهم عافني في بدني اللهم عافني في سمعي اللهم عافني في بصري اللهم إني أعوذ بك من الكفر و الفقر اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر لا إله إلا أنت.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) قال جاء رجلٌ إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال يا رسول الله ما لقيت من عقربٍ لدغتني البارحة، قال: أما لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك.
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال حين يمسي ثلاث مرات {أعوذ بكلمات الله التامات ون شر ما خلق} لم يضره حَمَة تلك الليلة}
(معنى حَمة: أي ذوات السموم(7/147)
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به؟ أن تقولي إذا أصبحت و إذا أمسيت: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله و لا تكلني إلى نفسي طرفة عين.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن أبي بكرٍ رضي الله تعالى عنه قال يا رسول الله مُرْني بكلماتٍ أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت، قال قل اللهم فاطر السموات و الأرض عالم الغيب و الشهادة رب كل شيء و مليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي و من شر الشيطان و شركه قلها إذا أصبحت و إذا أمسيت و إذا أخذت مضجعك.
(حديث أبي أيوب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
من قال إذا أصبح لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات كتب الله له بهن عشر حسنات ومحا بهن عشر سيئات ورفع له بهن عشر درجات وكن له عدل عتاقة أربع رقاب وكن له حرسا حتى يمسي ومن قالهن إذا صلى المغرب دبر صلاته فمثل ذلك حتى يصبح.
(حديث عبدِ الرحمنِ بنِ أبي بَكْرَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّهُ قالَ لأبِيِه: يَا أبت ِإنِّي أسمعُكَ تدعُو كُلّ غَدَاةٍ: اللهمّ عَافِنِي في بَدَنِي, اللهُمَّ عَافِنِي في سَمعِي, اللَّهُمَّ عِافِنِي في بصَري, لا إلهَ إلا أنتَ. اللَّهُمَّ إنّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الكُفْرِ, وَ الفَقْرِ, اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ, لا إلهَ إلا أَنْتَ, تُعِيدُهَا ثَلاثاً حِينَ تُصْبحُ, وثَلاثاً حِينَ تُمسِي, فَتَدعُو بِهِنًَّ.
(حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال حين يُصبحُ: لا إله إلاّ اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ, وله الحمْدُ, يُحيي ويُميت, وهو على كُلّ شيء قديرٌ ـ عشرَ مرّاتٍ ـ كتب اللهُ له بكلّ واحدةٍ قالَها عَشر حسناتٍ وحطَ عنه بها عشرَ سيِّئات, ٍ ورفعه اللهُ بها عشرَ دَرَجاتٍ, وكُنَّ له كعشرِ رقاب, وكُنَّ له مَسلَحةً من أوّلِ النهار إلى آخره, ولم يَعْمل يومئذٍ عملاً يقْهَرُهُنّ, فإنْ قالها حين يُمْسي فكذلك.(7/148)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه.
[*] قال النووي رحمه الله تعالى:
ظاهر إطلاق الحديث أنه يحصل هذا الأجر المذكور في هذا الحديث من قال هذا التهليل مائة مرة في يومه سواء قاله متوالية أو متفرقة في مجالس أو بعضها أول النهار وبعضها آخره لكن الأفضل أن يأتي بها متوالية في أول النهار ليكون حرزاً له في جميع نهاره.
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال: سبحان الله مئةَ مرَّةٍ قبلَ طلوعِ الشمسِ وقبلَ غُروبها, كان أفضلَ من مائة بَدَنَة ومن قال: الحمد الله مائةَ مرة قبلَ طلوعِ الشمسِ, وقبلَ غُروبها, كان أفضلَ مِن مائة فِرسٍ يُحمَلُ عليها في سبيل الله ومن قال الله أكبر مائة مرة, قبلَ طلوعِ الشمسِ وقبلَ غُروبها, كان أفضلَ من عتقِ مائة رقبةٍ ومن قال لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريك له, له الملك وله الحمد, وهو على كلّ شيء قدير مائةَ مرة قبل طلوعِ الشمسِ وقبل غُروبها, لم يَجيء يومَ القيامة أحدٌ بعملٍِ أفضلَ من عملِه, إلا مَن قال مثلَ قوله, أو زاد عليه.
(حديث أبيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) قال للجن فما يُنجينا منكم؟ قال: هذه الآية التي في سورة {البقرة}: {اللهُ لا إله إلا هو الحيُّ القَيُّومُ .... } من قالها حين يُمسي, أجيرَ منا حتى يُصبحَ, ومن قالها حين يُصبحُ أجيرَ منَا حتى يُمسي. فلما أصبح أتى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر ذلك له فقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صدق الخبيث.
(ما يقال في الصباح خاصة:
((حديث المنيذر رضي الله عنه صاحب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال إذا أصبح رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا فأنا الزعيم لآخذن بيده حتى أدخله الجنة.
(حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال رضيت بالله ربا و بالإسلام دينا و بمحمد نبيا وجبت له الجنة.(7/149)
(حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:" ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسولاً".
(ذاق طعم الإيمان): يدل على أن للإيمان طَعْمًا. الطعم عادة إنما يكون باللسان، طعم العسل، وطعم التمر مثلا وحلاوة الطعام اللذيذ. ولكن للإيمان أيضا طعم، ليس خاصا باللسان ولا بالفم، ولكن بالبدن كله، يكون أثر الإيمان في البدن كله، يجد نشوة وحلاوة في بدنه كُلِّهِ؛ في رأسه، وفي قدميه، وفي يديه، وفي بطنه، وفي ظهره، يجد للإيمان طعما.
(من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، و بمحمد نبيا):
فإذا رضيت بالله ربا فإنك تعبده وتطيعه، وإذا رضيت بالإسلام دينا فإنك تطبقه وتعمل به، وإذا رضيت بنبوة محمد به نبيا، فإنك تتبعه وتطيعه وتسير على نهجه، وتجعله أسوتك وقدوتك. وإذا ظهر منك خلاف ذلك فذلك نقص في الرضا. إذا ظهر من الإنسان نقص في الاتباع، أو الطواعية، أو في التأسي، أو في العبادة -دل ذلك على نقصه في هذا الرضا، أنه لم يكن رضاه رضا كاملا، بل رضا ناقص.
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود) قال: خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عند جويرية وكان اسمها برة فحول اسمها فخرج وهي في مصلاها ورجع وهي في مصلاها فقال لم تزالي في مصلاك هذا قالت نعم قال قد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت لوزنتهن سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما أصبحتُ غداةً قط إلا استغفرتُ الله فيها مائةَ مرةٍ.
{تنبيه}: (ويستحب في أذكار الصباح أن يديم الذكر حتى تطلع الشمس فيُكتب له أجر حجةٍ وعمرةٍ تامةٍ بإذن الله تعالى.
(حديث أنس في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلعَ الشمسُ ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجةٍ وعمرةٍ تامةٍ تامةٍ تامة.
(ما يقال عند المساء خاصة:
(حديث أنس في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلعَ الشمسُ ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجةٍ و عمرةٍ تامةٍ تامةٍ تامة.(7/150)
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) قال جاء رجلٌ إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال يا رسول الله ما لقيت من عقربٍ لدغتني البارحة، قال: أما لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك.
{تنبيه}: (وبعد أن يؤدي ذكر الله تعالى تجده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتقلب في نعمة ذكر الله تعالى في حركاته وسكناته وفي كل أحواله، فإذا أراد تناول الطعام ذكر الله وإذا ذهب للسوق ذكر الله وإذا رأى ما يحب ذكر الله وإذا رأى ما يكره ذكر الله وحال الكرب له ذكرٌ لله وإذا رأى مبتلى ذكر الله. وإليك غيضٌ من فيض مما ورد في السنة الصحيحة من هذه الأذكار.
[*] (ذكر الطعام:
(الذكر قبل تناول الطعام:
(حديث عمر بن أبي سلمى رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: كنت غلاماً في حجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يا غلام، سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك). فما زالت تلك طعمتي بعد.
(حديث عائشة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إذا أكل أحدكم طعاما فليقل باسم الله فإن نسي في أوله فليقل: بسم الله على أوله و آخره.
(حديث ابن عباس في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من أطعمه الله طعاما فليقل: اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وارزقنا خيرا منه و من سقاه الله لبنا فليقل: اللهم بارك لنا فيما رزقتنا و زدنا منه فإني لا أعلم ما يجزئ من الطعام و الشراب إلا اللبن.
(ما يقول إذا شرب اللبن:
(حديث ابن عباس في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من أطعمه الله طعاما فليقل: اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وارزقنا خيرا منه و من سقاه الله لبنا فليقل: اللهم بارك لنا فيما رزقتنا و زدنا منه فإني لا أعلم ما يجزئ من الطعام و الشراب إلا اللبن.
(الذكر بعد الفراغ من الطعام:
(حديث أبي أمامة في صحيح البخاري) قال كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا فرغ من طعامه قال: الحمد لله الذي كفانا وأرْوَانا غير مَكْفيٍّ ولا مكفور.
(معنى كفانا: من الكفاية الشاملة لجميع النعم وهذا عام، وذكر الري بعده من باب ذكر الخاص بعد العام.
(معنى غير مكفيٍّ: أي ما أكلناه ليس كافياً عما بعده
(معنى ولا مكفور: أي لا نكفر بنعم الله تعالى الذي أسبغها علينا سبحانه.(7/151)
(حديث معاذ بن أنس الجُهَنِي في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أكل طعاما ثم قال: الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام و رزقَنيه من غير حول مني و لا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه و من لبس ثوبا فقال: الحمد لله الذي كساني هذا و رزقنيه من غير حول مني و لا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر.
(حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أكل أو شرب قال: الحمد لله الذي أطعم وسقى وسوغه وجعل له مخرجا.
وسوغه: أي سهل كلاً من نزول اللقمة ونزول الشراب في الحلق.
(دعاء الضيف لأهل الطعام إذا فرغ من أكله:
(حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) قال: نزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أبي قال فقربنا إليه طعاما ووطبة فأكل منها ثم أتي بتمر فكان يأكله ويلقي النوى بين إصبعيه ويجمع السبابة والوسطى قال شعبة هو ظني وهو فيه إن شاء الله إلقاء النوى بين الإصبعين ثم أتي بشراب فشربه ثم ناوله الذي عن يمينه قال فقال أبي وأخذ بلجام دابته ادع الله لنا فقال اللهم بارك لهم في ما رزقتهم واغفر لهم وارحمهم.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاء إلى سعد بن عبادة فجاء بخبز وزيت فأكل ثم قال النبي أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة.
(حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: اللهمَّ أطعِم من أطعمني, وأسقِ من سقاني.
(دعاء الصائم إذا أفطر عند قوم:
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاء إلى سعد بن عبادة فجاء بخبز وزيت فأكل ثم قال النبي أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة.
[*] قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى:
واعلم أن هذا الذكر ليس مقيداً بعد إفطاره, بل هو مطلق وقوله: ((أفطر عندكم الصائمون)) ليس هو إخباراً, بل دعاء لصاحب الطعام بالتوفيق حتى يفطر الصائمون عنده ... وليس في الحديث التصريح بأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان صائماً فلا يجوز تخصيصه بالصائم. أهـ
(دعاء الصائم عند فطره:(7/152)
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أفطر قال: (ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجرُ إن شاء الله)
(التسمية عند الشراب:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْرَبُ في ثلاثة أنفاسٍ, إذا أَدنى الإناءَ إلى فمِهِ سمَّى اللهَ تعالى, وإذا أخَّرَه حمَدَ اللهَ تعالى, يَفْعَلُ ذلك ثلاثَ مراتٍ.
(ذكر المتزوج إذا دخل على زوجته ليلة العرس:
(حديث عبد الله ابن عمرو الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا تزوج أحدكم امرأة أو اشترى خادما فليقل اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه وأعوذ بك من شرها ومن شر ما جبلتها عليه.
(الدعاء للمتزوج:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن النبي كان إذا رفأ الإنسان إذا تزوج قال بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) قالت: تزوجني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأتتني أمي فأدخلتني الدار، فإذا نسوة من الأنصار في البيت، فقلن: على الخير والبركة، وعلى خير طائر.
(الذكر قبل الجماع:
(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبداً.
قوله: لم يضره: أي لا يصيبه الشيطان بأذى.
وفيه استحباب التسمية والدعاء والمحافظة على ذلك حتى في حالة الجماع والاعتصام بذكر الله ودعائه من الشيطان والتبرك باسمه والاستعاذة به من جميع الأسماء، وفيه إشارة إلى أن الشيطان ملازم لابن آدم لا يفتر عنه إلا إذا ذكر الله تعالى.
(الذكر لمن خاف قوماً:
(حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كان إذا خافَ قوماً قالَ: اللَّهمَّ إنَّا نجعَلُكَ في نُحُورِهم, ونعُوذُ بكَ منْ شُرورهم.(7/153)
(حديث عن ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: {حسبنا الله ونعم الوكيل}. قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قالوا: {إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}.
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) قال: قلنا يوم الخندق يا رسول الله! هل من شيء نقوله, قد بلغت القلوب الحناجر قال: نعم, اللهم استر عوراتنا, وآمن روعاتنا)) قال: فضرب الله وجوه أعدائه بالريح فهزمهم الله.
(الذكر عند دخول القرية أو البلدة إذا أراد دخولها:
(حديث صهيب رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) قال كان إذا أرادَ دخولَ قريةٍ لم يدخلها حتى يقولَ: اللهمَّ ربَّ السماواتِ السبعِ وما أظلّتْ, وربّ الأرضين السبع وما أقلّت, وربَّ الشياطين وما أضلَّت, ورب الرياح وما ذرت, أسألُكَ خيرها وخير ما فيها وأعوذ بك من شرِّها وشرِّ ما فيها.
الذكر لمن نزل منزلاً في سفر أو غيره:
(حديث خولة بنت حكيم السلمية رضي الله عنها الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من نزل منزلا ثم قال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك.
(ذكر ركوب الدابة:
(حديث علي بن ربيعة في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال شهدت علي بن أبي طالب أتي بدابةٍ ليركبها، فلما وضع رجله على الركاب قال بسم الله، فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، ثم قال: الحمد لله ثلاثاً، الله أكبر ثلاثاً، سبحانك إني ظلمتُ نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك.، فقلت من أي شيء ضحكت يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صنع كما صنعتُ ثم ضحك.
(ذكر دخول السوق:
(حديث ابن عمر في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال حين يدخل السوق: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد يُحيي ويُميت وهو حيٌ لا يموت بيده الخير و هو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحى عنه ألف ألف سيئةٍ وبنى له بيتاً في الجنة.
(الذكر إذا كان مسافراً وودَّع المقيم:(7/154)
(حديث أبي هريرة في صحيح ابن ماجة) قال ودعني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه.
(ذكر المقيم للمسافر:
(حديث ابن عمر في صحيح ابن ماجة) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أشخص السرايا يقول للشاخص: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك.
(ذكر المسافر:
(حديث ابن عمر في صحيح مسلم) أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبر ثلاثا ثم قال! سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون >! اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل وإذا رجع قالهن وزاد فيهن آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون.
(دعاء صلاة الاستخارة:
(حديثُ جابر في صحيح البخاري) قال كان رسولُ الله يُعلمُنا الاستخارة في الأمورِ كلها كالسورةِ من القرآن، إذا همَّ أحدكم بالأمرِ فليركع ركعتين من غيرِ الفريضةِ ثم يقول: اللهم إني أستخِيرُك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدرُ ولا أقدرُ وتعلمُ ولا أعلمُ وأنت علاَّمُ الغيوب، اللهم إن كنت تعلمُ أن هذا الأمرَ خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبةِ أمري _ أو قال عاجل أمري وآجله _ فاقدره لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمرَ شرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبةِ أمري فاصرفْه عني واصرفني عنه ثم ارضِني به، ويُسَمِّي حاجته.
(الذكر إذا رأى الإنسان ما يحب:
(حديث عائشة في صحيح ابن ماجة) قالت كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رأى ما يحب قال الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وإذا رأى ما يكره قال الحمد لله على كل حال.
(الذكر إذا رأى الإنسان ما يكره:
(حديث عائشة في صحيح ابن ماجة) قالت كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رأى ما يحب قال الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وإذا رأى ما يكره قال الحمد لله على كل حال.
(الذكر عند الكرب:
(حديث ابن عباس في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول عند الكرب لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم.(7/155)
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كربه أمر قال يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث.
[*] قال المناوي رحمه الله تعالى: في تأثير هذا الدعاء في دفع هذا الهم والغم مناسبة بديعة فإن صفة الحياة متضمنة لجميع صفات الكمال مستلزمة لها وصفة القيمومية متضمنة لجميع صفات الأفعال، ولهذا قيل إن اسمه الأعظم هو الحي القيوم والحياة التامة تضاد جميع الآلام والأجسام الجسمانية والروحانية، ولهذا لما كملت حياة أهل الجنة لم يلحقهم هم ولا غم ونقصان الحياة يضر بالأفعال وينافي القيمومية فكمال القيمومية بكمال الحياة فالحي المطلق التام الحياة لا يفوته صفة كمال البتة والقيوم لا يتعذر عليه فعل ممكن البتة فالتوصل بصفة الحياة والقيمومية له تأثير في إزالة ما يضاد الحياة وتغير الأفعال فاستبان أن لاسم الحي القيوم تأثيراً خاصاً في كشف الكرب وإجابة الرب. اهـ.
(الذكر عند الهم والحزن:
(حديث أنس في الصحيحين) قال كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم و الحزن و العجز و الكسل و الجبن و البخل و ضلع الدين و غلبة الرجال. ... (حديث ابن مسعود في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما أصاب عبداً همٌ ولا حزنٌ فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكلِ اسمٌ هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدٌ من خلقك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبي ونورَ بصري وجلاء حزني وذهاب همِّي إلا أذهب الله همَّه وأبدله مكانه فرجاً.
(الذكر لمن رأى مبتلى:
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من رأى مبتلى فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به و فضلني على كثير ممن خلق تفضيلا لم يصبه ذلك البلاء.
(كفارة المجلس:
(حديث ابن مسعود في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كفارة المجلس أن يقول العبد: سبحانك اللهم و بحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك أستغفرك و أتوب إليك.
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم ربنا و بحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك و أتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك.
(ذكر سداد الدين:(7/156)
(حديث علي في صحيح الترمذي) «أَنّ مُكَاتِباً جاءَهُ فقالَ إنّي قَدْ عَجْزِتُ عنْ كِتَابَتِي فَأَعِنّي، قالَ أَلاَ أُعَلّمُكَ كَلِمَاتٍ عَلّمَنِيهِنّ رَسُولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ صِيرٍ دَيْناً أَدّاهُ الله عَنْكَ. قالَ قُلْ اللّهُمّ اكْفِني بِحَلاَلِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَاغْنِني بِفَضْلِكَ عمن سِوَاكَ».
[*] (الأذكار قبل النوم:
(1) قراءة آية الكرسي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: وكلني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة). قال: قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة، وعيالا فرحمته فخليت سبيله، قال: (أما إنه قد كذبك، وسيعود). فعرفت أنه سيعود، لقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنه سيعود). فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يا أباهريرة ما فعل أسيرك). قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا، فرحمته فخليت سبيله، قال: (أما إنه كذبك، وسيعود). فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات تزعم لا تعود، ثم تعود، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}. حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما فعل أسيرك البارحة). قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: (ما هي). قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}. وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير - فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة). قال: لا، قال: (ذاك شيطان).(7/157)
(2) (حديث عائشة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أوى إلى فراشه جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما (قل هو الله وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس) ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات.
(3) (حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) قال: * كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا إذا أخذنا مضجعنا أن نقول (اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى ومنزل التوراة والإنجيل والقرآن أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين وأغننا من الفقر.
(4) (حديث حذيفة في الصحيحين) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أوى إلى فراشه قال: باسمك اللهم أموت وأحيا، وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتتا وإليه النشور.
(5) (حديث البراء في الصحيحين) قال، قال لي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوئك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك و فوضت أمري إليك و ألجأت ظهري إليك رغبة و رهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت و بنبيك الذي أرسلت فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة و اجعلهن آخر ما تتكلم به.
(6) (حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ثم ليضطجع على شقه الأيمن ثم ليقل: باسمك ربي وضعت جنبي و بك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها و إن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين.
(7) (حديث علي في الصحيحين) أن فاطمة أتت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى – وبلغها أنه قد جاءه رقيق – فلم تصادفه فذكرت ذلك لعائشة فلما جاء أخبرته عائشة، قال فجاء وقد أخذنا مضاجعنا فذهبنا نقوم له فقال على مكانكما فقعد بيني وبيننا حتى وجدت برد قدمه على بطني فقال ألا أدلكما على خيرٍ مما سألتما، إذا أخذتما مضاجعكما - أو أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين واحمدا ثلاثا وثلاثين وكبِّرا أربعاً وثلاثين فهو خير لكما من خادم.(7/158)
(حديث حفصة في صحيح أبي داود) قالت كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد أن يرقد وضع يده اليمنى تحت خَدِّه ثم يقول: اللهم قِني عذابك يوم تبعث عبادك.
(حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أنه قال: يارسول الله، مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت، وإذا أمسيت قال: "" قل: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شىء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، وشر الشيطان وشركه "" قال: "" قلها إذا أصبحت وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعك.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أوى إلى فراشه قال: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا, وكفانا وآوانا, فكم ممن لا كافيَ له ولا مُؤوي.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قالَ حين يأْوي إلى فراشِه: لا إلهَ إلا اللهُ, وحدَه لا شريكَ لهُ, له الملْكُ, وله الحمْدُ، هو على كلِّ شيءٍ قديرٌ, ولا حولَ ولا قوَّة إلا بالله, سبحانَ اللهِ, والحمدُ لله, ولا إله إلا اللهُ, واللهُ أكبرُ , غُفِرتْ ذنوبُه أو قالَ: خطاياهُ وأنْ كانَت مثْلَ زَبدِ البحْرِ.
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: منَ قالَ إذا أوَى إلى فِراشِه: الحمدُ لله الذي كفَاني وآواني, الحمدُ لله الذي أطْعمني وسقاني, الحمدُ لله الذي مَنَّ عليَّ وأفضلَ اللَّهُمَّ إنِّي أسألُك بعزَّتك أنْ تُنجيني من النَّار, فقدْ حَمِدَ اللهَ بجميعِ محامدِ الخلقِ كلِّهم.
(حديث أبي الأزهر الأنماري رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أخَذَ مضجعَهُ منَ اللّيِل قالَ: بسْمِ الله وضَعتُ جَنْبي, اللهمَّ اغفِرْ ليِ ذْنبي, وَاخسَأ شَيْطاني, وفُكَّ رِهَاني, وثَقِّلْ مِيزاني, واجعلْني في النَّديِّ الأعلى.
(حديث جابر في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا ينام حتى يقرأ ألم تنزيل السجدة وتبارك الذي بيده الملك.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الترمذي) قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا ينامُ حتى يقرأ: {الزُّمَرَ} و {بني إسرائيلَ}.(7/159)
((حديث العِرْبَاضِ بن سَارِيَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لا يَنَامُ حتَّى يَقْرَأَ المسبِّحَاتِ, ويقُولُ: فيها آيةٌ خيرٌ مِنْ ألْفِ آيَةِ.
والمسبِّحاتِ: هي السور التي تُفتتح بقولَ تعالى بـ {سَبَّح َ} أو
{يُسَبِّح} وهى: [حديد, والحشر, والصف, والجمعة, والتغابن, والأعلى]
(ذكر الفزع من النوم:
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا فزع أحدكم من النوم فليقل: أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه و عقابه و شر عباده و من همزات الشياطين و أن يحضرون فإنها لن تضره.
(حديث خالد بن الوليد رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) قال: كنت أُفْزَعُ بالليل, فأتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: إني أفزع بالليل فآخذ سيفي فلا ألقى شيئاً إلا ضربته بسيفي, فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:ألا أعلمك كلماتٍ علّمني الروح الأمين؟ فقلت: بلى, فقال قل: أعوُذُ بكلماتِ الله التَّامَّاتِ التي لا يجاوزُهن برٌ ولا فاجرٌ, من شرِّ ما ينزُل من السماءِ وما يعرجُ فيها, ومن شرِّ فتن الليلِ والنّهارِ, ومِنْ كلّ طارقٍ, إلا طارق يطرُقُ بخيرٍ, يا رحمان.
(الذكر لمن تضَوَّر من الليل:
(حديث عائشة في صحيح الجامع) قالت كان إذا تضور من الليل قال: لا إله إلا الله الواحد القهار رب السموات و الأرض و ما بينهما العزيز الغفار.
(معنى تّضَوَّر: أي تلوى وتقلب ظهراً لبطن
(الذكر لمن تعارَّ من الليل:
((حديث عبادة بن الصامت الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من تعارَّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير، سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر و لا حول و لا قوة إلا بالله ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا استجيب له، فإن توضأ و صلى قُبلت صلاته.
معنى تعارَّ: أي استيقظ
(الذكر لمن قام من الليل يتهجد:(7/160)
(حديث ابن عباس في الصحيحين) قال كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا تهجد من الليل قال: اللهم لك الحمد أنت قيمُ السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق، والنبيون والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وأخرت وأسررت وأعلنت أنت المقدِّم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفتتح صلاته إذا قام من الليل قالت كان إذا قام من الليل افتتح صلاته فقال اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
(ذكر التهجد:
(حديث الحسن بن علي في صحيح السنن الأربعة) قال علمني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلمات أقولهن في الوتر {اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت}
(حديث علي في صحيح أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في آخر وتره: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك و بمعافاتك من عقوبتك و أعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
(ما يقول إذا وضع ثوبه لنوم ونحوه:
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سترُ ما بينَ أعْيُنِ الجنِّ وعوْراتِ بني آدمَ إذا وضعَ أحدهم ثوبهُ أنْ يقولَ: بسمِ الله.
(الذكر إذا رأى في منامه ما يكرهه:
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها، فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها وليحدِّث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هي من الشيطان، فليستعذ من شرها، ولا يذكرها لأحد، فإنها لا تضره.
(حديث أبي قتادة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه فلينفث حين يستيقظ ثلاث مرات، ويتعوَّذ من شرها، فإنها لا تضره.(7/161)
الحُلْم: بضم الحاء وسكون اللام وبضمها: هو الرؤيا وبالضم والسكون فقط هو رؤية الجماع في النوم، وهو المراد هنا.
فليتفُل بضم الفاء وكسرها أي: فليبزق.
وقيل: التفل أقل من البزق، والنفث أقل من التفل.
(الذكر إذا صعد شرفاً أو هبط في واد:
(حديث أبي موسى في الصحيحين) قال كنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزاةٍ فجعلنا لا نصعد شرفاً ولا نعلو شرفاً ولا نهبطُ في وادٍ إلا رفعنا صوتنا بالتكبير فدنا منا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً بصيرا، ثم قال: يا عبد الله بن قيس ألا أعلمك كلمةً هي من كنوز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله.
(الكنز الثالث: الباقيات الصالحات مجتمعة:
مسألة: ما هي الباقيات الصالحات؟
الباقيات الصالحات هن (سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر) بنص السنة الصحيحة.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: خذوا جنتكم من النار قولوا: سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر فإنهنَّ يأتين يوم القيامة مقدمات و معقبات و مجنبات و هن الباقيات الصالحات.
"مقدمات": يعني يُقدّمْن صاحبَهنّ إلى الجنة.
"ومعقبات": يعني حافظات.
"ومجنبات": يعني يُجَنِّبْنَ صاحبَهنَّ النار.
(معنى الباقيات الصالحات:
الباقيات الصالحات: هي ما يتبقى لنا في الآخرة من الأعمال الصالحه، فالباقيات الصالحات أي: التي يبقى ثوابها، ويدوم جزائها وهذا خير أمل يأمله العبد و أفضل ثواب يتمناه.
(وهذا هو المأمول الحقيقي الذي يكون للعبد ويبقى قال تعالى: ""الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا"" [الكهف/ 46]
وقال تعالى: ""وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا"" [مريم/ 76]
(بخلاف الآمال الزائلة التي تذهب وقد لا يحصل على شيء منها، وإذا حصل فلا حظ له في شيء من ذلك إلا ما قَدَّمَه كما في الحديثين الآتيين:(7/162)
(حديث عبد الله بن الشخير الثابت في صحيح مسلم) أنه إنتهى إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يقرأ (ألهاكم التكاثر) قال: يقول بن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت أو أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت)
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا يا رسول الله ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعلموا أنه ليس منكم من أحد إلا مال وارثه أحب إليه من ماله مالك ما قدمت ومال وارثك ما أخرت.
فبين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الباقي هو المقدم، وأن الذي أخره ليس من ماله، وليس له من الدنيا إلا ما لبس فأبلى، أو أكل فأمنى أو تصدق فأمضى، وعلى هذا فجديرٌ بكل مسلمٍ أن يندم أشد الندم على كل يومٍ غربت شمسُه نقص فيه أجله ولم يزد فيه عمله.
[*] قال ابن مسعود: ما ندمت على شيء ندمى على يوم غربت شمسُة نقص فيه أجلى ولم يزد فيه عملي.
{تنبيه}: (الحديث الذي يثبت أن لا حول ولا قوة إلا بالله من الباقيات الصالحات ضعيف.
(عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال استكثروا من الباقيات الصالحات: التسبيح و التهليل و التحميد و التكبير و لا حول و لا قوة إلا بالله. [ضعيف الجامع]
[*] (فضل الباقيات الصالحات:
لقد ورد في فضل هؤلاء الكلمات الأربع نصوصٌ كثيرةٌ تدل دلالةً قويةً على عظم شأنهنَّ وجلالة قدرهنَّ، وما يترتّب على القيام بهنَّ من أجورٍ عظيمةٍ وأفضالٍ كريمةٍ، وخيرات متواصلة وفضائل متوالية في الدنيا والآخرة، أربع كلمات لهن من الفضائل و الأجر ما لا يُعَدُّ ولا يُحْصَى، فلا يخفى على جميع المسلمين ما للكلمات الأربع: ((سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاَّ الله، والله أكبر)) من مكانة في الدّين عظيمة، ومنزلة في الإسلام رفيعة، فهُنَّ أفضل الكلمات وأجلهنَّ، وهنَّ من القرآن، وهنَّ أطيب الكلام وأحبّه إلى الله، وأحبُّ إلى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كلِّ ما طلعت عليه الشمس، وفيهنَّ رفعٌ للدرجات وتكفيرٌ للذنوب والسيّئات، وجُنَّة لقائلهنَّ من النار، ويأتين يوم القيامة مُنجيات لقائلهنَّ ومقدّمات له، إلى غير ذلك من صنوف الفضائل وأنواع المناقب، ممّا يدلُّ على عظيم شرف هؤلاء الكلمات عند الله وعلوِّ منزلتهنَّ عنده.(7/163)
[*] (وفيما يلي عرضٌ لجملة من فضائل الباقيات الصالحات جملةً وتفصيلا:
(أولاً: فضائل الباقيات الصالحات جملةً:
(1) مِن فضائل هؤلاء الكلمات: أنَّهنَّ أحب الكلام إلى الله:
(2): ومِن فضائلهنَّ: أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر أنَّهنَّ أحبُّ إليه مِمَّا طلعت عليه الشمس (أي: من الدنيا وما فيها)
(3): ومن فضائلهنَّ: أنه يترتب عليهن أجرٌ وفير:
(4): ومِن فضائلهنَّ: أنَّهنَّ مكفِّرات للذنوب:
(5): ومِن فضائلهنَّ: أنَّهنَّ غرس الجنة:
(6): ومن فضائلهنَّ: أنَّ الله اختار هؤلاء الكلمات واصطفاهنَّ لعِباده، ورتّب على ذِكر الله بهنّ أجورًا عظيمةً، وثواباً جزيلاً:
(7) ومن فضائلهنَّ: أنه من لزم الباقيات الصالحات فقد ملأ يده من الخير:
(8): ومِن فضائلهنَّ: أنَّهنَّ جُنّةٌ لقائلهنّ من النار، ويأتين يوم القيامة مُنجيات لقائلهنّ ومقدّمات له:
(9): ومن فضائلهنَّ: أنَّهنَّ يَنعَطِفْن حول عرش الرحمن ولهنّ دويٌّ كدويِّ النحل، يذكرن بصاحبهنَّ:
(10): ومن فضائلهنَّ: أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر أنَّهنّ ثقيلاتٌ في الميزان:
(11): ومن فضائل هؤلاء الكلمات: أنَّ للعبد بقول كلِّ واحدة منهنّ صدقة:
(12): ومن فضائلهنَّ: أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعلهنّ تجزئ عن القرآن الكريم في حقِّ من لا يستطيع أن يأخذ من القرآن شيئاً:
(ثانياً: فضائل الباقيات الصالحات تفصيلاً:
(1) مِن فضائل هؤلاء الكلمات: أنَّهنَّ أحب الكلام إلى الله:
(حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أحب الكلام إلى الله أربع سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر لا يضرك بأيهن بدأت.
(2): ومِن فضائلهنَّ: أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر أنَّهنَّ أحبُّ إليه مِمَّا طلعت عليه الشمس (أي: من الدنيا وما فيها)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس.
(3): ومن فضائلهنَّ: أنه يترتب عليهن أجرٌ وفير:(7/164)
(حديث أم هانئ بنت أبي طالب الثابت في السلسلة الصحيحة) قالت: مرّ بي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلتُ: "إنِّي قد كبرتُ وضعُفت - أو كما قالت - فمُرني بعمل أعمله وأنا جالسة. قال: "سبّحي اللهَ مائة تسبيحة، فإنَّها تعدل لك مائة رقبة تعتقينها من ولد إسماعيل، واحمدي الله مائة تحميدة، تعدل لكِ مائة فرس مُسرجة ملجمة تحملين عليها في سبيل الله، وكَبِّري اللهَ مائة تكبيرة فإنَّها تعدل لك مائة بدَنة مُقلّدة متقبّلَة، وهلِّلي مائة تهليلة - قال ابن خلف (الراوي عن عاصم) أحسبه قال -: تملأ ما بين السماء والأرض، ولا يرفع يومئذ لأحدٍ عملٌ إلا أن يأتي بمثل ما أتيتِ به"
مُسرجة ملجمة: أي: عليها سرجها ولجامها لحمل المجاهدين في سبيل الله.
(وتأمَّل هذا الثواب العظيم المترتِّب على هؤلاء الكلمات، فمن سبّح اللهَ مائة، أي قال: سبحان الله مائة مرّة فإنَّها تعدل عِتق مائة رقبة من ولد إسماعيل، وخصَّ بني إسماعيل بالذِّكر لأنَّهم أشرفُ العرب نَسباً، ومن حَمِد الله مائة، أي من قال: الحمد لله مائة مرّة كان له من الثواب مثل ثواب من تصدّق بمائة فرس مسرجةٍ ملجمةٍ، أي: عليها سرجها ولجامها لحمل المجاهدين في سبيل الله، ومن كبّر اللهَ مائة مرّة، أي قال: الله أكبر مائة مرّة كان له من الثواب مثلُ ثواب إنفاق مائة بدنةٍ مقلّدةٍ متقبّلةٍ، ومن هلّل مائة، أي قال: لا إله إلا الله مائة مرة فإنَّها تملأ ما بين السماء والأرض، ولا يُرفع لأحدٍ عملٌ إلا أن يأتي بمثل ما أتى به.
(4): ومِن فضائلهنَّ: أنَّهنَّ مكفِّرات للذنوب:
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما على الأرض أحد يقول لا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله إلا كفرت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر.
{تنبيه}: (المراد بالذنوب المكفَّرة هنا أي: الصغائر، لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفِّراتٌ ما بينهنَّ إذا اجتُنبت الكبائر" [8]، فقيّد التكفير باجتناب الكبائر؛ لأنَّ الكبيرة لا يُكفِّرها إلا التوبة.
(وفي هذا المعنى الحديث الآتي:(7/165)
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي): أنَّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرّ بشجرة يابسة الورق فضربها بعصاه فتناثر الورق، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر لَتُساقط من ذنوب العبد كما تَساقط ورق هذه الشجرة.
(5): ومِن فضائلهنَّ: أنَّهنَّ غرس الجنة:
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال يا محمد أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
قيعان: جمع قاع وهي الأرض المستوية الخالية من الشجر.
غراس جمع غرس وهو: ما يستر الأرض من البذر ونحوه.
(بين الحديث أن ذكر الله سبب لدخول الجنة وكلما أكثر العبد من ذكر الله كثرت غراسه في الجنة.
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر غرس الله بكل واحدة منهن شجرة في الجنة.
(6): ومن فضائلهنَّ: أنَّ الله اختار هؤلاء الكلمات واصطفاهنَّ لعِباده، ورتّب على ذِكر الله بهنّ أجورًا عظيمةً، وثواباً جزيلاً:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله تعالى اصطفى من الكلام أربعا: سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر فمن قال: سبحان الله كتبت له عشرون حسنة و حطت عنه عشرون سيئة و من قال: الله أكبر مثل ذلك و من قال: لا إله إلا الله مثل ذلك و من قال: الحمد لله رب العالمين من قبل نفسه كتبت له ثلاثون حسنة و حط عنه ثلاثون خطيئة.
{تنبيه}: (وقد زاد في ثواب الحمد عندما يقوله العبد مِن قِبَل نفسه عن الأربع؛ لأنَّ الحمد لا يقع غالباً إلا بعد سبب كأكلٍ أو شُربٍ، أو حدوث نعمة، فكأنَّه وقع في مقابلة ما أُسديَ إليه وقت الحمد، فإذا أنشأ العبد الحمد من قِبَل نفسه دون أن يدفعه لذلك تجدُّدُّ نعمةٍ زاد ثوابه.
(7) ومن فضائلهنَّ: أنه من لزم الباقيات الصالحات فقد ملأ يده من الخير:(7/166)
(حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا فعلمني ما يجزئني منه قال قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله قال يا رسول الله هذا لله عز وجل فما لي قال قل اللهم ارحمني وارزقني وعافني واهدني فلما قام قال هكذا بيده فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أما هذا فقد ملأ يده من الخير.
(8): ومِن فضائلهنَّ: أنَّهنَّ جُنّةٌ لقائلهنّ من النار، ويأتين يوم القيامة مُنجيات لقائلهنّ ومقدّمات له:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: خذوا جنتكم من النار قولوا: سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر فإنهن يأتين يوم القيامة مقدمات و معقبات و مجنبات و هن الباقيات الصالحات.
وقد تضمّن هذا الحديث إضافة إلى ما تقدّم وصفَ هؤلاء الكلمات بأنَّهنَّ الباقيات الصالحات، وقد قال الله - تعالى -: {وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [15]
والباقيات أي: التي يبقى ثوابُها، ويدوم جزاؤُها، وهذا خيرُ أمَلٍ يؤمِّله العبد وأفضل ثواب.
(9): ومن فضائلهنَّ: أنَّهنَّ يَنعَطِفْن حول عرش الرحمن ولهنّ دويٌّ كدويِّ النحل، يذكرن بصاحبهنَّ:
(حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن مما تذكرون من جلال الله التسبيح والتهليل والتحميد ينعطفن حول العرش لهن دوي كدوي النحل تذكر بصاحبها أما يحب أحدكم أن يكون له أو لا يزال له من يذكر به.
فأفاد هذا الحديث هذه الفضيلة العظيمة، وهي أنَّ هؤلاء الكلمات الأربع يَنعَطِفْن حول العرش أي: يَمِلن حوله، ولهنّ دَوِيٌّ كدَوِيِّ النحل؛ أي: صوتٌ يشبه صوتَ النحل يذكرن بقائلهنّ، وفي هذا أعظم حضٍّ على الذِّكر بهذه الألفاظ، ولهذا قال في الحديث: "ألا يحب أحدكم أن يكون له أو لا يزال له من يذكر به".
(10): ومن فضائلهنَّ: أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر أنَّهنّ ثقيلاتٌ في الميزان:
(حديث ثوبان رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: بخ بخ لخمس ما أثقلهن في الميزان: لا إله إلا الله و سبحان الله و الحمد لله و الله أكبر و الولد الصالح يتوفى للمرء المسلم فيحتسبه.(7/167)
وقوله في الحديث: "بَخٍ بَخٍ" هي كلمة تُقال عند الإعجاب بالشيء وبيان تفضيله.
(11): ومن فضائل هؤلاء الكلمات: أنَّ للعبد بقول كلِّ واحدة منهنّ صدقة:
(حديث أبي ذر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم): أنَّ ناساً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا رسول الله ذهب أهل الدُّثور بالأجور، يصلّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدّقون بفضولِ أموالهم". قال: "أوَ ليس قد جعل الله لكم ما تصدّقون؟ إنَّ بكلِّ تسبيحة صدقة، وكلِّ تكبيرة صدقة، وكلِّ تحميدة صدقة، وكلِّ تهليلةٍ صدقة، وأمرٍ بالمعروف صدقة، ونهيٍ عن منكرٍ صدقة، وفي بُضعِ أحدكم صدقة". قالوا: "يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوتَه ويكون له فيها أجرٌ؟ " قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزرٌ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ".
أهل الدثور: أي أهل الأموال والدثور: بضم الدال وجمع دثر بفتحها وهو المال الكثير.
والبُضْع: هو بضم الباء ويطلق على الجماع ويطلق على الفرج نفسه، هو الجماع وقيل الفرج نفسه.
[*] قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:" وفي بضع أحدكم صدقة" وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله تعالى به أو طلب ولد صالح أو إعفاف نفسه أو إعفاف الزوجة ومنعها جميعاً من النظر إلى الحرام أو الفكر فيه أو الهم به أو غير ذلك من المقاصد الصالحة.
(وقد ظنّ الفقراء أن لا صدقة إلا بالمال، وهم عاجزون عن ذلك، فأخبرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ جميع أنواع فعل المعروف والإحسان صدقةٌ، وذكر في مقدّمة ذلك هؤلاء الكلمات الأربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
(12): ومن فضائلهنَّ: أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعلهنّ تجزئ عن القرآن الكريم في حقِّ من لا يستطيع أن يأخذ من القرآن شيئاً:(7/168)
(حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئاً فعلمني ما يجزئني منه قال قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله قال يا رسول الله هذا لله عز وجل فما لي قال قل اللهم ارحمني وارزقني وعافني واهدني فلما قام قال هكذا بيده فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أما هذا فقد ملأ يده من الخير.
فهذه بعض الفضائل الواردة في السنة النبوية لهؤلاء الكلمات الأربع، وقد ورد لكلِّ كلمة منهن فضائلُ مخصوصةٌ سيأتي تفاصيلها إن شاء الله، ومن يتأمل هذه الفضائل المتقدّمة يجد أنَّها عظيمةٌ جدًا، ودالّةٌ على عِظم قدرِ هؤلاء الكلمات، ورِفعة شأنهنّ وكثرة فوائدهنّ وعوائدهنّ على العبد المؤمن، ولعلّ السر في هذا الفضل العظيم - والله أعلم - ما ذُكر عن بعض أهل العلم أنَّ أسماء الله - تبارك وتعالى - كلَّها مندرجةٌ في هذه الكلمات الأربع، فسبحان الله يندرج تحته أسماءُ التنزيه كالقدّوس والسلام، والحمد لله مشتملة على إثبات أنواع الكمال لله - تبارك في أسمائه وصفاته -، والله أكبر فيها تكبير الله وتعظيمه، وأنَّه لا يُحصي أحدٌ الثناءَ عليه، ومن كان كذلك فـ (لا إله إلا هو) أي: لا معبود حق سواه.
فللّه ما أعظمَ هؤلاء الكلمات، وما أجلَّ شأنهنَّ، وما أكبرَ الخير المترتّب عليهنّ، فنسأل الله أن يوفقنا للمحافظة والمداومة عليهنّ، وأن يجعلنا من أهلهنّ الَّذين ألسنتهم رطبةٌ بذلك، إنَّه وليّ ذلك والقادر عليه.
(الكنز الرابع: التسبيح:
(معنى التسبيح:
[*] قال النووي رحمه الله تعالى في شرح صحيح مسلم:
معنى التسبيح التنزيه عما لا يليق به سبحانه وتعالى من الشريك والولد والصاحبة والنقائص مطلقا. أهـ(7/169)
والله تبارك وتعالى يسبح وينزه عن كل ما لا يليق به إذ هو الرب الإله، الذي لا إله إلا هو، الحي القيوم، بديع السموات والأرض، الذي أحسن كل شيء خلقه، الرحمن الرحيم، الملك العلام القهار الذي قهر كل شيء وذل له كل شيء، الحي الذي لا يموت، والذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يعتريه ما يعتري المخلوق من نقص وآفة، الذي لا يبلغ العباد ضره فيضروه، ولا يبلغون نفعه فينفعوه، والغني عن كل ما سواه، وما سواه مفتقر إليه وهو لا يفتقر إلى شيء من مخلوقاته، والذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى، والمثل الأعلى، والذي لا يحيط أحد من خلقه علماً به، وهو يحيط علماً بكل مخلوقاته الذي لا ند له ولا شبيه له، ولا نظير له، ولا كفء له ... هو سبحانه وتعالى المنزه عن أضداد هذه الصفات، ومتصف بكل صفات الكمال والجلال والعظمة والكبرياء.
(وتسبيح العباد لله هو: اعتقاد تنزيهه سبحانه وتعالى عن المثيل، والنظير، والكفء والشريك، والظهير، وكل ما يعتري المخلوق من الضعف والموت والفقر والآفة، وكل ما لا يليق أن ينسب إلى الرب سبحانه وتعالى مما نفاه عن نفسه جل وعلا.
(وتسبيح الله سبحانه وتعالى شعبة من شعب الإيمان، وهي الشعبة التي ترجع إليها كل شعب الإيمان لأن أصل الإيمان تسبيح الله وتنزيهه، والكفر مرده إلى نسبة ما لا يليق بالله إليه.
وقد ورد في آيات كثيرة من القرآن الكريم كقوله تعالى: (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم) [الجمعة /1]
وقوله تعالى (سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم) [الحشر /1]
وقوله تعالى (سبح اسم ربك الأعلى) [الأعلى/1]
وقوله تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً) [الإسراء /1]
وقوله تعالى (تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً) [الإسراء /44]
(والتسبيح يكون بكلمة: (سبح)؛ أو (يسبح)؛ أو (سبحان)
وكلمة: سبحان؛ اسم لمصدر التسبيح، لأن كل فعل رباعي على وزن فعل - بتشديد العين - يأتي مصدره على وزن تفعيل؛ مثل كلم تكليما، وعلم تعليما، وهذب تهذيبا، وهكذا، فمصدر سبح هو: تسبيح، لا سبحان، وتكون كلمة (سبحان) اسم لهذا المصدر كما تكون منصوبة بالفتحة الظاهرة على النون على أنها مفعول مطلق من فعل محذوف تقديره سبح أو اسبح سبحان الله.(7/170)
كما أن كلمة (سبحان) لا تستعمل إلا مضافة إلى اسم؛ سواء كان الاسم لفظ الجلالة كقولك: سبحان الله؛ أو إلى ما يدل على الخالق ويختص به كقولك: سبحان رب السماوات والأرض؛ أو سبحان ربي؛ أو سبحان ربنا. أو مضافة إلى ضمير يرجع إلى الخالق المتعال كقولك: سبحانك اللهم؛ أو سبحانه وتعالى. ولكن كلمة - سبحان - صارت من الكلمات المختصة في استعمالها مع أسماء الله تعالى ولا يصح ولا يجوز استعمالها في غير الله تعالى.
(والكون كله مسبح لله جل وعلا بلسان الحال أو بلسان المقال:
اعلم رحمني الله وإياك أن الكون كله يسبح لله جل وعلا إما بلسان حاله أو لسان مقاله.
فأما لسان الحال فإن قيام هذا الكون على هذا النحو من الإبداع والاتقان والإحسان، والتناسق والوحدة، وجريانه على نسق لا يلحقه تفكك أو فطور، أو ضعف أو فوضى، أو خلل كل ذلك دليل قائم شاهد بلسان حاله أن خالق هذا الكون البديع إله قادر حكيم عليم قائم عليه مقتدر لا يعجزه شيء، وهذا دليل يحتمه ضرورة العقل، ويدفع إليه النظر، ولا يماري فيه إلا كافر جهول.
وقد جاء به الدليل السمعي الذي بلغته الرسل. قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) [فاطر/41]
وقال تعالى: (تَبَارَكَ الّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مّا تَرَىَ فِي خَلْقِ الرّحْمََنِ مِن تَفَاوُتِ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىَ مِن فُطُورٍ * ثُمّ ارجِعِ البَصَرَ كَرّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) [سورة: الملك 1: 4]
وقال تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [سورة الأعراف/54](7/171)
وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لّعَلّهُمْ يَهْتَدُونَ * قال تعالى: (وَجَعَلْنَا السّمَآءَ سَقْفاً مّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ * وَهُوَ الّذِي خَلَقَ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [سورة: الأنبياء 30: 33]
(والموجودات كلها تسبح حتى الجمادات:
وهذا المعنى هو المقصود والمراد من تسبيح سائر الموجودات التي أوجدها الله تعالى سواء كانت ممن يعقل كالملائكة والإنسان أو كانت من الحيوانات، أو كانت من النباتات أو كانت من الجمادات.
فكل موجود محتاج في وجوده إلى موجد، وكل ممكن مفتقر إلى واجب الوجود، وكل حادث لم يحدث ولن يحدث إلا بفيض الوجود عليه من الخالق المتعال.
فتسبيح الموجودات حتى الجمادات هو افتقارها إلى خالقها؛ وهو معني تنزيه الخالق عن صفات ا لحاجة والأمكان والحدوث؛ وهو المقصود من قوله تعالى (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) [الإسراء/44]
وقال تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) [النور /41]
قد علم الله صلاته وتسبيحه، أو قد علم الطير كيف يصلي ويسبح لخالقه.
(والدليل على ذلك من السنة الصحيحة تسبيح الحصى في كف الرسول صلى الله عليه وآله (حديث أبي ذر الثابت في كتاب السنة وصححه الألباني) قال إني انطلقت ألتمس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعض حوائط المدينة فإذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاعد فأقبل إليه أبو ذر حتى سلم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال أبو ذر وحصيات موضوعة بين يديه فأخذهن في يده فَسَبَّحَن في يده ثم وضعهن في الأرض فسكتن ثم أخذهن فوضعهن في يد أبي بكر فَسَبَّحَن في يده ثم أخذهن فوضعهن في الأرض فخرسن ثم أخذهن فوضعهن في يد عمر فَسَبَّحَن في يده ثم أخذهن فوضعهن في الأرض فخرسن ثم أخذهن فوضعهن في يد عثمان فسبحن ثم أخذهن فوضعهن في الأرض فخرسن.
كما أن كثيراً من المتكلمين ذكروا معجزة نطق الجمادات واستدلوا عليه بما(7/172)
(حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عليَّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن.
(الملائكة: أعظم خلق الله تسبيحاً لله:
والملائكة هم أعظم خلق الله تسبيحاً له وتنزيهاً له، ولا غَرْوَ في ذلك فهم أعلم مخلوقات الله بالله، وأقرب مخلوقات الله إلى الله. قال تعالى عنهم: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ*} [الأعراف/206] والذين عند الله هم الملائكة.
وأعلاهم حملة العرش قال تعالى عنهم: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) [غافر/7]
وقال تعالى: (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الزمر/75]
(أعظم الخلق عبادة أعظمهم تسبيحاً لله:
وكلما ارتقى العبد في مجال العبادة، ارتقى في مجال تسبيحه لله جل وعلا. قال تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى/1]
وقال تعالى: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ) [الطور: 48،49]
وقال تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) * فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَكُنْ مّنَ السّاجِدِينَ * [الحجر 97: 99]
وقال تعالى لرسوله معلماً إياه بدنو أجله: (إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنّهُ كَانَ تَوّابَا) [سورة: النصر]
وذلك لتكون ختام حياته كبدء رسالته تسبيحاً بحمد الله جل وعلا.
{تنبيه}: (التسبيح والحمد طرفان لشيء واحد:
(فالحمد إثبات صفات الكمال،
(والتسبيح نفي صفات النقص، ولا يكون الإيمان إلا باجتماع الأمرين فمن أثبت لله صفات الكمال ولم ينف عنه صفات النقص فما آمن بالله ولا عرفه ولا وحده.(7/173)
ومن نفي عن الله صفات النقص، ولم يثبت له صفات الكمال، فما عرف الله ولا آمن به حقاً، ولا وحده ... لذلك أمرنا أن نسبح الله حال كوننا حامدين له. قال تعالى: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ) [سورة الحجر/98]
وقال تعالى: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [سورة النصر/3]
والمعنى نزه الله تبارك وتعالى حال كونك حامداً له.
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" والأمر بتسبيحه يقتضي أيضا تنزيهه عن كل عيب وسوء، وإثبات صفات الكمال له، فإن التسبيح يقتضي التنزيه، والتعظيم، والتعظيم يستلزم إثبات المحامد التي يحمد عليها، فيقتضي ذلك تنزيهه، وتحميده، وتكبيره، وتوحيده " انتهى.
" ... مجموع الفتاوى" (16/ 125)
[*] (فضل التسبيح:
(1) التسبيح نجاة من الهلكات:
يكفي في فضل التسبيح قوله تعالى: (وَإِنّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إذ أبق إلى الفلك المشحون * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ* فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلاَ أَنّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات من 144:139]
فإن يونس النبي عليه السلام أبق - أي فر وانهزم - من قومه إلى السفينة خشية نزول العذاب عليهم وهو بين ظهرانيهم وصعد في السفينة المملوءة والمشحونة بالناس فأشرفت السفينة على الغرق فقالوا - لنطرح واحداً منا في البحر كي تنجوا السفينة وقرروا استعمال السهام للقرعة، فساهم يونس عليه السلام معهم فخرجت السهام عليه ثلاث مرات، فألقوه في البحر وقيل - هو ألقى نفسه في البحر، فالتقمه وابتلعه الحوت في حالة كان ملوماً على الفرار من قومه، فبقى في بطن الحوت بإعجاز من الله تعالى وقدرته ثلاث أيام وقيل أكثر - إلى أربعين يوماً ثم أخرجه الله تعالى من بطن الحوت وأرسله إلى أهل نينوى في الموصل.
فكان إخراجه حياً من بطن الحوت وعدم لبثه فيها إلى يوم القيامة بسبب تسبيحه لله تعالى وتقديسه وتنزيهه له من صفات الحدوث والإمكان والحاجة.
(2) التسبيح مغفرةٌ للذنوب وإن كانت مثل زبد البحر:
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال سبحان الله و بحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر.(7/174)
(سبحان الله و بحمده): يجب أن تعلم أن التسبيح والتحميد طرفان لشيء واحد:
(فالحمد إثبات صفات الكمال،
(والتسبيح نفي صفات النقص، ولا يكون الإيمان إلا باجتماع الأمرين فمن أثبت لله صفات الكمال ولم ينف عنه صفات النقص فما آمن بالله ولا عرفه ولا وحده.
ومن نفي عن الله صفات النقص، ولم يثبت له صفات الكمال، فما عرف الله ولا آمن به حقاً، ولا وحده ... لذلك أمرنا أن نسبح الله حال كوننا حامدين له. قال تعالى: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ) [سورة الحجر/98]
وقال تعالى: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [سورة النصر/3]
والمعنى نزه الله تبارك وتعالى حال كونك حامداً له.
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" والأمر بتسبيحه يقتضي أيضا تنزيهه عن كل عيب وسوء، وإثبات صفات الكمال له، فإن التسبيح يقتضي التنزيه، والتعظيم، والتعظيم يستلزم إثبات المحامد التي يحمد عليها، فيقتضي ذلك تنزيهه، وتحميده، وتكبيره، وتوحيده " انتهى.
" ... مجموع الفتاوى" (16/ 125)
(وإن كانت مثل زبد البحر): كناية عن المبالغة في الكثرة، وفيه دليلٌ واضح البيان على فضل التسبيح وأنه مما يحطُ الله به الخطايا وإن كثرت.
[*] قال الحافظ في الفتح:
وان كانت مثل زبد البحر الكناية عن المبالغة في الكثرة، قال عياض قوله حطت خطاياه وان كانت مثل زبد البحر.
(3) التسبيح يُثْقِلُ الميزان:
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله و بحمده سبحان الله العظيم.
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في الفتح:(7/175)
حديث كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم فقوله كلمتان فيه ترغيب وتخفيف وقوله حبيبتان فيه حث على ذكرهما لمحبة الرحمن إياهما وقوله خفيفتان فيه حث بالنسبة إلى ما يتعلق بالعمل وقوله ثقيلتان فيه إظهار ثوابهما وجاء الترتيب بهذا الحديث على أسلوب عظيم وهو أن حب الرب سابق وذكر العبد وخفة الذكر على لسانه تال وبعد ذلك ثواب هاتين الكلمتين إلى يوم القيامة وهاتان الكلمتان معناهما جاء في ختام دعاء أهل الجنة لقوله تعالى دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين انتهى كلام الشيخ ملخصا ولقد أبدى فيه لطائف وعجائب جزاه الله خير بمنه وكرمه.
(4) التسبيح من أفضل الأعمال:
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال حين يصبح و حين يمسي: سبحان الله العظيم و بحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ذلك و زاد عليه.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس.
(حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أيعجز أحكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة، فسأله سائل من جلسائه كيف يكسب كل يوم؟ قال: يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة.
(حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة.
(حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو مُوبِقها.
[*] قال النووي رحمه الله تعالى: "قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وسبحان الله تملآن ما بين السموات والأرض" وسبب عظم فضلهما ما اشتملتا عليه من التنزيه لله تعالى بقوله: سبحان الله والتفويض والافتقار إلى الله تعالى بقوله: الحمد لله والله أعلم.
(5) التسبيح من الباقيات الصالحات:(7/176)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: خذوا جنتكم من النار قولوا: سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر فإنهن يأتين يوم القيامة مقدمات و معقبات و مجنبات و هن الباقيات الصالحات.
(6) التسبيح من أحب الكلام إلى الله تعالى:
(حديث أَبي ذَرٍّ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: قَالَ لي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلا أُخْبِرُكَ بِأَحَبِّ الْكَلامِ إِلى اللهِ؟» قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْني بِأَحَبِّ الْكَلامِ إِلى اللهِ، فَقَالَ: «إِنَّ أَحَبَّ الْكَلامِ إِلى اللهِ سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ».
[*] قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم:
أحب الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده) وفى رواية أفضل هذا محمول على كلام الآدمي وإلا فالقرآن أفضل وكذا قراءة القرآن أفضل من التسبيح والتهليل المطلق، فأما المأثور فى وقت أو حال ونحو ذلك فالاشتغال به أفضل. والله أعلم.
[*] وقال المناوي في فيض القدير:
أحب الكلام إلى الله) تعالى أي كلام البشر لأن الرابعة لم توجد في القرآن ولا يفضل ما ليس فيه على ما هو فيه ويحتمل أن تتناول كلام الله أيضا لأنها وإن لم تكن فيه باللفظ فهي فيه بالمعنى (أربع) في رواية أربعة (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) لأنها جامعة لجميع معاني أنواع الذكر من توحيد وتنزيه وصنوف أقسام الحمد والثناء ومشيرة إلى جميع الأسماء الحسنى لأنها إما ذاتية كالله أو جمالية كالمحسن أو جلالية كالكبير فأشير للأول بالتسبيح لأنه تنزيه للذات وللثاني بالتحميد لأنه يستدعي النعم وللثالث بالتكبير وذكر التهليل لما قيل إنه تمام المئة في الأسماء وإنه اسم الله الأعظم وهو داخل في أسماء الجلال.
(7) التسبيح مما اصطفاه الله تعالى لملائكته من الكلام:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله تعالى اصطفى من الكلام أربعا: سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر فمن قال: سبحان الله كتبت له عشرون حسنة و حطت عنه عشرون سيئة و من قال: الله أكبر مثل ذلك و من قال: لا إله إلا الله مثل ذلك و من قال: الحمد لله رب العالمين من قبل نفسه كتبت له ثلاثون حسنة و حط عنه ثلاثون خطيئة.(7/177)
(حديث أبي ذر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال: سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي الكلام أفضل؟ قال: "" ما اصطفى الله لملائكته: سبحان الله وبحمده ""
(8) تغتنم بكل تسبيحة صدقة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة و كل تحميدة صدقة و كل تهليلة صدقة و كل تكبيرة صدقة و أمر بالمعروف صدقة و نهي عن المنكر صدقة و يجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى.
(9) التسبيح من غراس الجنة:
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال يا محمد أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
قيعان: جمع قاع وهي الأرض المستوية الخالية من الشجر.
غراس جمع غرس وهو: ما يستر الأرض من البذر ونحوه.
(بين الحديث أن ذكر الله سبب لدخول الجنة وكلما أكثر العبد من ذكر الله كثرت غراسه في الجنة.
(10) من لزم التسبيح فقد ملأ يده من الخير:
(حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا فعلمني ما يجزئني منه قال قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله قال يا رسول الله هذا لله عز وجل فما لي قال قل اللهم ارحمني وارزقني وعافني واهدني فلما قام قال هكذا بيده فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أما هذا فقد ملأ يده من الخير.
(حكم استخدام المسبحة:
مسألة: ما حكم استخدام المسبحة؟
الجواب:
ذهب بعض العلماء في مسألة السبحة إلى جواز استعمالها مع قولهم بأنّ التسبيح باليد أفضل وعدّها بعضهم من البدع.(7/178)
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (22/ 187): وربما تظاهر أحدهم بوضع السجادة على منكبه وإظهار المسابح في يده وجعله من شعار الدين والصلاة. وقد علم بالنقل المتواتر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه لم يكن هذا شعارهم وكانوا يسبحون ويعقدون على أصابعهم كما جاء في الحديث " اعقدن بالأصابع فإنهن مسؤولات، مستنطقات " وربما عقد أحدهم التسبيح بحصى أو نوى. والتسبيح بالمسابح من الناس من كرهه ومنهم من رخّص فيه لكن لم يقل أحد: أن التسبيح به أفضل من التسبيح بالأصابع وغيرها. ا. هـ. ثمّ تكلّم رحمه الله عن مدخل الرياء في التسبيح بالمسبحة وأنّه رياء بأمر ليس بمشروع وهو أسوأ من الرياء بالأمر المشروع.
وفي سؤال لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين (اللقاء المفتوح 3/ 30) عن التسبيح بالمسبحة هل هي بدعة فأجاب: التسبيح بالمسبحة تركه أولى وليس ببدعة لأن له أصلا وهو تسبيح بعض الصحابة بالحصى، ولكن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرشد إلى أن التسبيح بالأصابع أفضل وقال " اعقدن - يخاطب النساء - بالأنامل فإنهن مستنطقات " فالتسبيح بالمسبحة ليس حراما ولا بدعة لكن تركه أولى لأن الذي يسبح بالمسبحة ترك الأولى وربما يشوب تسبيحه شيء من الرياء لأننا نشاهد بعض الناس يتقلد مسبحة فيها ألف خرزة كأنما يقول للناس: انظروني إني أسبح ألف تسبيحة، ثالثا: أن الذي يسبح بالمسبحة في الغالب يكون غافل القلب ولهذا تجده يسبح بالمسبحة وعيونه في السماء وعلى اليمين وعلى الشمال مما يدل على غفلة قلبه فالأولى أن يسبح الإنسان بأصابعه والأولى أن يسبح باليد اليمنى دون اليسرى لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعقد التسبيح بيمينه ولو سبح بيديه جميعا فلا بأس لكن الأفضل أن يسبح بيده اليمنى فقط. ا. هـ.
[*] وقال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في السلسلة الضعيفة (1/ 110) عند تخريجه لحديث " نعم المذكّر السبحة": ثم إن الحديث من حيث معناه باطل عندي لأمور:(7/179)
الأول: أن السبحة بدعة لم تكن على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما حدثت بعده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكيف يعقل أن يحض صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه على أمر لا يعرفونه؟ والدليل على ما ذكرت ما روى ابن وضاح في " البدع والنهي عنها" عن الصلت بن بهرام قال: مر ابن مسعود بامرأة معها تسبيح تسبح به فقطعه وألقاه، ثم مر برجل يسبح بحصا فضربه برجله ثم قال: لقد سَبقتم، ركبتم بدعة ظلما، ولقد غلبتم أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علما، وسنده صحيح إلى الصلت، وهو ثقة من اتباع التابعين.
الثاني: أنه مخالف لهديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال عبد الله بن عمرو: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعقد التسبيح بيمينه. وقال أيضا (1/ 117): ولو لم يكن في السبحة إلا سيئة واحدة وهي أنها قضت على سنة العد بالأصابع أو كادت مع اتفاقهم على أنها أفضل لكفى فإني قلما أرى شيخا يعقد التسبيح بالأنامل!
ثم إن الناس قد تفننوا في الابتداع بهذه البدعة، فترى بعض المنتمين لإحدى الطرق يطوق عنقه بالسبحة! وبعضهم يعدُّ بها وهو يحدثك أو يستمع لحديثك! وآخِر ما وقعت عيني عليه من ذلك منذ أيام أنني رأيت رجلا على دراجة عادية يسير بها في بعض الطرق المزدحمة بالناس وفي إحدى يديه سبحة! يتظاهرون للناس بأنهم لا يغفلون عن ذكر الله طرفة عين وكثيرا ما تكون هذه البدعة سببا لإضاعة ما هو واجب فقد اتفق لي مرارا - وكذا لغيري - أنني سلمت على أحدهم فرد عليّ السلام بالتلويح دون أن يتلفظ بالسلام ومفاسد هذه البدعة لا تحصى فما أحسن ما قال الشاعر:
وكل خير في اتباع من سلف ... وكل شر في ابتداع من خلف
(الكنز الخامس: الحمد:
(معنى الحمد:
الحمد: وصف المحمود بالكمال محبة وتعظيمًا وإجلالاً، فإذا وصفت ربك بالكمال فهذا هو الحمد، لكن لا بد أن يكون مصحوبًا بالمحبة والتعظيم والإجلال؛ لأنه إن لم يكن مصحوبًا بذلك سمي مدحًا لا حمدًا، ومن ثمَّ نجد بعض الشعراء يمدحون بعض الأمراء مدحًا عظيمًا بالغًا، لكن لو فتشت عن قلبه لوجدت أنه خالٍ من محبة هذا الأمير، ولكنه يمدحه إما لرجاء منفعة أو لدفع مضرة.
أما حمدنا لله - عز وجل - فإنه حمد محبة وتعظيم وإجلال، إذ أن محبة الله - تعالى - فوق كل محبة،
إذاً الحمد: هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم والإجلال، هذا هو الحمد، إذا كررت هذا الوصف سمي ثناءًا، وعليه فالثناء تكرار وصف المحمود بالكمال، ويدل على هذا الفرق الحديث الآتي:(7/180)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثا غير تمام فقيل لأبي هريرة رضي الله عنه إنا نكون وراء الإمام فقال اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد! < الحمد لله رب العالمين >! قال الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال! < الرحمن الرحيم >! قال الله تعالى أثنى علي عبدي وإذا قال! < مالك يوم الدين >! قال مجدني عبدي وقال مرة فوض إلي عبدي فإذا قال! < إياك نعبد وإياك نستعين >! قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال! < اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين >! قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.
* [معنى خداج أي فاسدة]
وبالجملة، فالحمد مطلوب من العبد في كل الأوقات، وذلك لكثرة نعم الله عليه التي لا تعد ولا تحصى، والتي من أهمها نعمة الإيمان.
ولكيفية حمد الله والثناء عليه بما يستحقه جل وعلا عليك أن تختار الصيغ والألفاظ الواردة في القرآن الكريم والسنة، لأنه لا أحد أعلم بالثناء على الله من الله، ولا أحد أعلم بعد الله بذلك من رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[*] (فضائل الحمد:
(1) من فضائل الحمد امتثال أمر الله تعالى حيث أمرنا بحمده في عدة مواضع من كتابه العزيز منها ما يلي:
قال اللّه تعالى: (قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ على عبادِهِ الَّذينَ اصْطَفى ([النمل: 59]
وقال اللّه تعالى: (وقَُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ) [النمل: 93]
وقال تعالى: (وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدا) [الإِسراء: 111]
وقال تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم: 7]
وقال تعالى: (فاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لي وَلا تَكْفُرونِ) [البقرة: 152] والآيات المصرّحة بالأمر بالحمد والشكر وبفضلهما كثيرة معروفة.
(2) ومن فضائل الحمد التأسي بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... لأنه كان سيد الحامدين لله تعالى في جميع أحواله قائماً وقاعداً وعلى جنب من حين يستيقظ من نومه إلى أن ينام:
وهاك غيضٌ من فيض مما ورد في ذلك:
(حمد الله حين يستيقظ من نومه:(7/181)
(حديث حذيفة في الصحيحين) قال كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أوى إلى فراشه قال: باسمك اللهم أموت وأحيا، وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور.
(حمد الله عند لبس الثوب:
الذكر عند لبس الثوب أن تقول: الحمد لله الذي كساني هذا و رزقنيه من غير حول مني و لا قوة.
(حديث معاذ بن أنس الجُهَني في صحيح السنن الأربعة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أكل طعاما ثم قال: الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام و رزقنيه من غير حول مني و لا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه و من لبس ثوبا فقال: الحمد لله الذي كساني هذا و رزقنيه من غير حول مني و لا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر.
(حمد الله لبس الثوب الجديد:
الذكر عند لبس الثوب الجديد أن تقول: تقول: اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه أسألك من خيره و خير ما صنع له و أعوذ بك من شره و شر ما صنع له
(حديث أبي سعيد في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كان إذا استجد ثوبا سماه باسمه قميصا أو عمامة أو رداء ثم يقول: اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه أسألك من خيره و خير ما صنع له و أعوذ بك من شره و شر ما صنع له.
(حمد الله في استفتاح الصلاة:
(حديث أبي سعيد الثابت في صحيح السنن الأربعة) قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا استفتح الصلاة قال: سبحانك اللهم وبحمدك و تبارك اسمك و تعالى جدك و لا إله غيرك.
(حمد الله في الركوع:
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي.
(حمد الله إذا رفع رأسه من الركوع:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا و لك الحمد فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه.
(حديث رفاعةَ بن رافعٍ الزُرقي في صحيح البخاري) قال كنا نصلي وراء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما رفع رأسه من الركعة قال سمع الله لمن حمده قال رجلٌ وراءه ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فلما انصرف قال: من المتكلم؟ قال أنا، قال: رأيت بضعةً وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أول.(7/182)
(حديث أبي سعيد الثابت في صحيح مسلم) قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رفع رأسه من الركوع قال: ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
(حمد الله إذا رفع رأسه في السجود:
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي.
(حديث أبي سعيدٍ في صحيح مسلم) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رفع رأسه من الركوع قال: ربنا لك الحمد ملئ السموات والأرض وما بينهما وملئ ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحقُ ما قال العبد وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا مُعطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
(حمد الله في ختام الصلاة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: جاء الفقراء إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ولهم فضلٌ من أموالاٍ يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا أحدثكم بما إن أخذتم به أدركتم من سبقكم ولم يدركم أحدٌ بعدكم وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيهم إلا من عمل مثله؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين، فاختلفنا بيننا فقال بعضنا نسبح ثلاثاً وثلاثين ونحمد ثلاثاً وثلاثين ونكبِّر ثلاثاً وثلاثين فرجعت إليه فقال: تقول سبحان الله والحمد لله والله أكبر حتى يكون منهن كلهن ثلاثاً وثلاثين.
أهل الدثور: أي أهل الأموال والدثور: بضم الدال وجمع دثر بفتحها وهو المال الكثير.
والبُضْع: هو بضم الباء ويطلق على الجماع ويطلق على الفرج نفسه، هو الجماع وقيل الفرج نفسه.
[*] قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:" وفي بضع أحدكم صدقة" وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله تعالى به أو طلب ولد صالح أو إعفاف نفسه أو إعفاف الزوجة ومنعها جميعاً من النظر إلى الحرام أو الفكر فيه أو الهم به أو غير ذلك من المقاصد الصالحة.(7/183)
(وقد ظنّ الفقراء أن لا صدقة إلا بالمال، وهم عاجزون عن ذلك، فأخبرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ جميع أنواع فعل المعروف والإحسان صدقةٌ، وذكر في مقدّمة ذلك هؤلاء الكلمات الأربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا و ثلاثين و حمد الله ثلاثا و ثلاثين و كبر الله ثلاثا و ثلاثين فتلك تسع و تسعون و قال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير غفرت خطاياه و إن كانت مثل زبد البحر.
(حمد الله إذا قام من الليل يتهجد:
(حديث ابن عباس في الصحيحين) قال كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا تهجد من الليل قال: اللهم لك الحمد أنت قيمُ السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق، والنبيون والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وأخرت وأسررت وأعلنت أنت المقدِّم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت.
(حمد الله بعد الفراغ من الطعام:
(حديث أبي أمامة في صحيح البخاري) قال كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا فرغ من طعامه قال: الحمد لله الذي كفانا وأرْوَانا غير مَكْفيٍّ ولا مكفور.
(معنى كفانا: من الكفاية الشاملة لجميع النعم وهذا عام، وذكر الري بعده من باب ذكر الخاص بعد العام.
(معنى غير مكفيٍّ: أي ما أكلناه ليس كافياً عما بعده
(معنى ولا مكفور: أي لا نكفر بنعم الله تعالى الذي أسبغها علينا سبحانه.
(حديث معاذ بن أنس الجُهَنِي في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أكل طعاما ثم قال: الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام و رزقَنيه من غير حول مني و لا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه و من لبس ثوبا فقال: الحمد لله الذي كساني هذا و رزقنيه من غير حول مني و لا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر.
(حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أكل أو شرب قال: الحمد لله الذي أطعم وسقى وسوغه وجعل له مخرجا.
وسوغه: أي سهل كلاً من نزول اللقمة ونزول الشراب في الحلق.(7/184)
(حمد الله عند ركوب الدابة:
(حديث علي بن ربيعة في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال شهدت علي بن أبي طالب أتي بدابةٍ ليركبها، فلما وضع رجله على الركاب قال بسم الله، فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، ثم قال: الحمد لله ثلاثاً، الله أكبر ثلاثاً، سبحانك إني ظلمتُ نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك.، فقلت من أي شيء ضحكت يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صنع كما صنعتُ ثم ضحك.
(حمد الله لمن رأى مبتلى:
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من رأى مبتلى فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به و فضلني على كثير ممن خلق تفضيلا لم يصبه ذلك البلاء.
(حمد الله بين يدي الدعاء.
(حديث ابن مسعود الثابت في صحيح الترمذي) قال كنت أصلي و النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وعمر معه، فلما جلست بدأت بالثناء على الله ثم الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم دعوت لنفسي فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سل تُعطه سل تُعطه.
(حمد الله عند حصول نعمة أو اندفاع مكروه:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: أتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة أسري به بإيلياء بقدحين من خمر ولبن، فنظر إليهما، فأخذ اللبن، قال جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة، لو أخذت الخمر غوت أمتك.
(حمد الله في السراء والضراء:
(حديث عائشة في صحيح ابن ماجة) قالت كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رأى ما يحب قال الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وإذا رأى ما يكره قال الحمد لله على كل حال.
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
جاء في الكتاب والسنة: حمد الله على كل حال وذلك يتضمن الرضا بقضائه،
(حديث عمران بن حصين رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أفضل عباد الله يوم القيامة: الحَمَّادُون.
الحَمَّادُون: أي: الذين يكثرون حمد الله جل وعلا.
(حديث عائشة في صحيح ابن ماجة) قالت كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رأى ما يحب قال الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وإذا رأى ما يكره قال الحمد لله على كل حال.(7/185)
(حديث أبي موسى الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك و استرجع فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة و سموه بيت الحمد.
والحمد على الضراء يوجبه مشهدان:
أحدهما: علم العبد بأن الله سبحانه مستوجب لذلك مستحق له لنفسه فإنه أحسن كل شيء خلقه واتقن كل شيء وهو العليم الحكيم الخبير الرحيم.
والثاني: علمه بأن اختيار الله لعبده المؤمن خير من اختياره لنفسه كما في الحديث الآتي:
(حديث صهيب بن سنان رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له.
فأخبر - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن كل قضاء يقضيه الله للمؤمن الذى يصبر على البلاء ويشكر على السراء فهو خير له قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم:5]
وذكرهما فى أربعة مواضع من كتابه، فأما من لا يصبر على البلاء ولا يشكر على الرخاء فلا يلزم أن يكون القضاء خيرا له ولهذا أجيب من أورد هذا على ما يقضى على المؤمن من المعاصي بجوابين:
أحدهما: أن هذا إنما يتناول ما أصاب العبد لا ما فعله العبد كما في قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} أي من سراء، {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]
أي من ضراء وكقوله تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. [الأعراف: 168]
أي بالسراء والضراء، كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَة}. [الأنبياء: 35]
فالحسنات والسيئات يراد بها المسار والمضار ويراد بها الطاعات والمعاصي.(7/186)
والجواب الثاني: إن هذا في حق المؤمن الصبار الشكور والذنوب تنقض الإيمان فإذا تاب العبد أحبه الله وقد ترتفع درجته بالتوبة، قال بعض السلف كان داود بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة فمن قضى له بالتوبة كان كما قال سعيد بن جبير أن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار وان العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة وذلك انه يعمل الحسنة فتكون نصب عينه ويعجب بها ويعمل السيئة فتكون نصب عينه فيستفغر الله ويتوب إليه منها، وقد ثبت فى الصحيح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "الأعمال بالخواتيم". والمؤمن إذا فعل سيئة فان عقوبتها تندفع عنه بعشرة أسباب: أن يتوب فيتوب الله عليه فان التائب من الذنب كمن لاذ نب له، أو يستغفر فيغفر له أو يعمل حسنات تمحوها فإن الحسنات يذهبن السيئات أو يدعو له إخوانه المؤمنون ويستغفرون له حيا وميتا أو يهدون له من ثواب أعمالهم ما ينفعه الله به أو يشفِّع فيه نبيه محمد أو يبتليه الله تعالى في الدينا بمصائب تكفر عنه أو يبتليه في البرزخ بالصعقة فيكفر بها عنه أو يبتليه في عرصات القيامة من أهوالها بما يكفر عنه أو يرحمه أرحم الراحمين فمن أخطأته هذه العشرة فلا يلومن إلا نفسه كما قال تعالى فيما يروى عنه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا عبادي إنما هى أعمالكم أحصيها لكم ثم أو فيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه".اهـ. (1)
(3) الحمد قرين التسبيح: فهما طرفان لشيء واحد:
(فالحمد إثبات صفات الكمال،
(والتسبيح نفي صفات النقص، ولا يكون الإيمان إلا باجتماع الأمرين فمن أثبت لله صفات الكمال ولم ينف عنه صفات النقص فما آمن بالله ولا عرفه ولا وحده.
ومن نفي عن الله صفات النقص، ولم يثبت له صفات الكمال، فما عرف الله ولا آمن به حقاً، ولا وحده ... لذلك أمرنا أن نسبح الله حال كوننا حامدين له. قال تعالى: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ) [سورة الحجر/98]
وقال تعالى: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [سورة النصر/3]
والمعنى نزه الله تبارك وتعالى حال كونك حامداً له.
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
__________
(1) مجموع الفتاوى (10/ 43ـ44).(7/187)
" الأمر بتسبيحه يقتضي أيضا تنزيهه عن كل عيب وسوء، وإثبات صفات الكمال له، فإن التسبيح يقتضي التنزيه، والتعظيم، والتعظيم يستلزم إثبات المحامد التي يحمد عليها، فيقتضي ذلك تنزيهه، وتحميده، وتكبيره، وتوحيده " انتهى.
" ... مجموع الفتاوى" (16/ 125)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس.
(4) الحمد من الباقيات الصالحات:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: خذوا جنتكم من النار قولوا: سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر فإنهن يأتين يوم القيامة مقدمات و معقبات و مجنبات و هن الباقيات الصالحات.
(5) الحمد مما اصطفاه الله تعالى لملائكته من الكلام:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله تعالى اصطفى من الكلام أربعا: سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر فمن قال: سبحان الله كتبت له عشرون حسنة و حطت عنه عشرون سيئة و من قال: الله أكبر مثل ذلك و من قال: لا إله إلا الله مثل ذلك و من قال: الحمد لله رب العالمين من قبل نفسه كتبت له ثلاثون حسنة و حط عنه ثلاثون خطيئة.
(حديث أبي ذر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال: سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي الكلام أفضل؟ قال: "" ما اصطفى الله لملائكته: سبحان الله وبحمده ""
(6) تغتنم بكل تحميدة صدقة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة و كل تحميدة صدقة و كل تهليلة صدقة و كل تكبيرة صدقة و أمر بالمعروف صدقة و نهي عن المنكر صدقة و يجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى.
(7) الحمد من غراس الجنة:
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال يا محمد أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
قوله: " قيعان ": جمع قاع، وهو المكان الواسع.
الحمد لله تملأ الميزان:(7/188)
(حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو مُوبِقها.
(حديث ثوبان رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: بخٍ بخٍ لخمسٍ ما أثقلهن في الميزان: لا إله إلا الله , وسبحان الله , والحمد لله , والله أكبر , والولد الصالح يتوفى للمرء المسلم فيحتسبه.
(8) الفوز ببيت الحمد لمن حمد واسترجع:
(حديث أبي موسى الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك و استرجع فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة و سموه بيت الحمد.
(قال الله تعالي لملائكته: قبضتم) أي أقبضتم وهو استفهام تقديري لينبههم على عظم فضل ثواب الصابر وإلا فهو غني عن الأسئلة لإحاطة علمه بكل شيء (فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده) هو كناية عن الولد لكونه بمنزلة خلاصة الخلاصة إذ القلب خلاصة البدن وخلاصته اللطيفة المودعة فيه من كمال الإدراكات والعلوم التي خلق لها وشرف بشرفها , فلشدة شغف هذه اللطيفة بالولد صار كأنه ثمرتها المقصودة منها , وهو ترق بين به وجه عظمة هذا المصاب وعظم الصبر عليه من ذلك , بل ترقي عن مقام الصبر لمقام الحمد
(فيقولون: نعم , فيقول: فماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع) أي قال (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ)
(فيقول الله تعالي: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد) ففيه كمال فضل الصبر على فقد الصفي.
(9) من لزم الحمد فقد ملأ يده من الخير:
(حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا فعلمني ما يجزئني منه قال قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله قال يا رسول الله هذا لله عز وجل فما لي قال قل اللهم ارحمني وارزقني وعافني واهدني فلما قام قال هكذا بيده فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أما هذا فقد ملأ يده من الخير.(7/189)
(10) إن أفضل عباد الله يوم القيامة: الحَمَّادُون.
(حديث عمران بن حصين رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أفضل عباد الله يوم القيامة: الحَمَّادُون.
الحَمَّادُون: أي: الذين يكثرون حمد الله جل وعلا.
(الكنز السادس: التكبير
(فضل التكبير ومكانته من الدِّين:
إنَّ التكبير شأنُه عظيم وثوابُه عند الله جزيل وقد تكاثرت النصوص في الحث عليه والترغيب فيه وذكر ثوابه.
قال تعالى {وَقُلِ الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الإسراء/111]
وقال تعالى في شأن الصيام: {وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة /185]
وقال تعالى في شأن الحج وما يكون فيه من نُسك يَتقرَّب فيه العبدُ إلى الله: {لَن يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ} [الحج /37]
وقال تعالى -: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر 3:1]
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وهو بصدد بيان تفضيل التكبير وعظم شأنه:
«ولهذا كان شعائرُ الصلاة والأذان والأعياد والأماكن العالية هو التكبير، وهو أحد الكلمات التي هي أفضل الكلام بعد القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يجئ في شيء من الأثر بدل قول الله أكبر، الله أعظم؛ ولهذا كان جمهور الفقهاء على أن الصلاة لا تنعقد إلا بلفظ التكبير، فلو قال: الله أعظم لم تنعقد به الصلاة لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم». وهذا قول مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف وداود وغيرهم، ولو أتى بغير ذلك من الأذكار مثل: سبحان الله، والحمد لله لَم تنعقد به الصلاة.
ولأنَّ التكبيرَ مختصٌّ بالذكر في حال الارتفاع كما أن التسبيح مختص بحال الانخفاض كما في السنن عن جابر بن عبد الله قال: «كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا علونا كبرنا وإذا هبطنا سبحنا فوضعت الصلاة على ذلك» ........ ». اهـ.(7/190)
ثم إنَّ التكبيرَ مصاحِبٌ للمسلم في عبادات عديدة وطاعات متنوعة فالمسلم يكبر الله عند ما يكمل عدَّة الصيام، ويكبر في الحج كما سبق الإشارة إلى دليل ذلك من القرآن الكريم، وأما الصلاة فإنَّ للتكبير فيها شأناً عظيماً ومكانة عالية، ففي النداء إليها يشرع التكبير وعند الإقامة لها، وتحريمها هو التكبير، بل إنَّ تكبيرة الإحرام ركن من أركان الصلاة، ثم هو يصاحب المسلم في كلِّ خفض ورفع من صلاة.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم ثم يكبر حين يركع ثم يقول سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركوع ثم يقول وهو قائم ربنا ولك الحمد ثم يكبر حين يهوي ساجدا ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يكبر حين يسجد ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يفعل مثل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها ويكبر حين يقوم من الثنيتين بعد الجلوس.
(وبهذا فالتكبير يتكرر مع المسلم في صلاته مرات كثيرة، فالصلاة الرباعية فيها اثنتان وعشرون تكبيرة، والثنائية فيها إحدى عشرة تكبيرة، وكلُّ ركعة فيها خمسُ تكبيرات، وعلى هذا فالمسلم يكبر الله في اليوم والليلة في الصلوات الخمس المكتوبة فقط أربعاً وتسعين تكبيرة، فكيف إذا كان محافظاً مع ذلك على الرواتب والنوافل، وكيف إذا كان محافظاً على الأذكار التي تكون أدبار الصلوات وفيها التكبير ثلاثٌ وثلاثون مرة، فالمسلم إذا كان محافظاً على الصلوات الخمس مع السنن الرواتب وعددُها ثنتا عشرة ركعة مع الشفع والوتر ثلاث ركعات ومحافظاً على التكبير المسنون أدبار الصلوات ثلاثا وثلاثين مرة فإنَّ عدد تكبيره لله في يومه وليلته يكون ثلاثمائة واثنتين وأربعين تكبيرة، ولا ريب أنَّ هذا فيه دلالة على فضيلة التكبير حيث جعل الله للصلاة منه هذا النصيب الوافر، فإذا ضُمَّ إلى ذلك التكبيرُ في الأذان للصلاة والإقامة لها ممّن يؤذِن أو يُحافظ على إجابة المؤذِن، زاد بذلك عدد تكبيره في يومه وليلته، فإنَّ عدد ما يكون فيهما من تكبيرات في اليوم والليلة خمسون تكبيرة، فإنَّ عدد التكبير بذلك يزيد.
ثم إنَّ المسلم إذا كان محافظاً على التكبير المطلق غير المقيد بوقت فإن عدد تكبيره لله في أيامه ولياليه لا يحصيه إلا الله - سبحانه -.(7/191)
والتكبير ركنٌ من أركان الصلاة، فتحريمها لا يكون إلاّ به، وهذا يُشعِر ولا ريب بمكانة التكبير من الصلاة، وأنّ الصلاة إنما هي تفاصيل للتكبير الذي هو تحريمها، يقول ابن القيّم - رحمه الله -: « ... لا أحسن من كون التكبير تحريماً لها، فتحريمها تكبير الربّ تعالى الجامع لإثبات كلِّ كمال له، وتنزيهه عن كلِّ نقص وعيبٍ، وإفراده وتخصيصه بذلك، وتعظيمه وإجلاله، فالتكبير يتضمّن تفاصيل أفعال الصلاة وأقوالها وهيآتها، فالصلاة من أوّلها إلى آخرها تفصيل لمضمون ((الله أكبر))، وأيّ تحريم أحس-ن من هذا التحريم المتضمّن للإخلاص والتوحيد!. اهـ.
(وبهذا يتبيّن مكانةُ التكبير وجلالةُ قدره وعِظمُ شأنه من الدين، فليس التكبيرُ كلمةً لا معنى لها، أو لفظةً لا مضمون لها، بل هي كلمةٌ، عظيمٌ شأنها، رفيعٌ قدرها تتضمّن المعاني الجليلةَ والمدلولاتِ العميقةَ والمقاصد السامية الرفيعة.
[*] قال ابن جرير - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} «يقول وعظِّم ربَّك يا محمد بما أمرك أن تعظِّمه به من قول وفعل، وأطِعه فيما أمرك ونهاك.
[*] وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - في تفسير الآية نفسها: أي: عظِّمه تعظيماً شديداً، ويظهر تعظيم الله في شدّة المحافظة على امتثال أمره واجتناب نهيه والمسارعة إلى كلِّ ما يرضيه.
وفي هذا إشارةٌ إلى أنّ الدِّينَ كلَّه يُعدُّ تفصيلاً لكلمة الله أكبر، فالمسلم يقوم بالطاعات جميعها والعبادات كلّها تكبيراً لله وتعظيماً لشأنه وقياماً بحقِّه سبحانه، وهذا ممّا يبيّن عظمةَ هذه الكلمة وجلالةَ قدرها، ولهذا يروى عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه قال: «قول العبد: الله أكبر، خيرٌ من الدنيا وما فيها»، فالله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
(صفة التكبير:
للعلماء في صفته على أقوال:
الله أكبر .. الله أكبر .. لا إله إلا الله، الله أكبر .. الله أكبر .. ولله الحمد "
الثاني: " الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر .. لا إله إلا الله، الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر .. ولله الحمد "
الثالث: " الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر .. لا إله إلا الله، الله أكبر .. الله أكبر .. ولله الحمد ".
والأمر واسع في هذا لعدم وجود نص عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحدد صيغة معينة.
(أقسام التكبير:
التكبير ينقسم إلى قسمين:(7/192)
(1) مطلق: وهو الذي لا يتقيد بشيء، فيُسن دائماً، في الصباح والمساء، قبل الصلاة وبعد الصلاة، وفي كل وقت.
(2) التكبير المقيد فإنه يبدأ من فجر يوم عرفة إلى غروب شمس آخر أيام التشريق - بالإضافة إلى التكبير المطلق – فإذا سَلَّم من الفريضة واستغفر ثلاثاً وقال: " اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام " بدأ بالتكبير.
هذا لغير الحاج، أما الحاج فيبدأ التكبير المقيد في حقه من ظهر يوم النحر.
(الكنز السابع: التهليل:
[*] (فضائل لا إله إلاَّ الله:
(إنَّ كلمة التوحيد: لا إله إلاّ الله، هي أفضل هؤلاء الكلمات الأربع، وأجلّهنّ وأعظمهنّ؛ هي مفتاح العبودية الأعظم فلا إله إلا الله قامت بها السماوات والأرض ولا إله إلا الله فطرة الله التي فطر الناس عليها ولا إله إلا الله أول دعوة الرسل لأقوامهم، ولأجلها خُلقت الخليقةُ، وأُرسلت الرسلُ، وأُنزلت الكتبُ، وبها افترق الناس إلى مؤمنين وكفار، وسعداء أهل الجنة وأشقياء أهل النار، فهي العروة الوثقى، وهي كلمة التقوى، وهي أعظم أركان الدِّين وأهم شعب الإيمان، وهي سبيل الفوز بالجنة والنجاة من النار، وهي كلمة الشهادة، ومفتاح دار السعادة، وأصل الدين وأساسه ورأس أمره، وفضائل هذه الكلمة وموقعها من الدين فوق ما يصفُه الواصفون ويعرفه العارفون، بل فوق ما يخطر ببال أو يدور في الخيال، (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِماً بِالقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) [آل عمران / 18]
(ولهذا فإنَّ لهذه الكلمة الجليلة فضائلَ عظيمةً، وفواضلَ كريمةً، ومزاياً جمّةً، لا يُمكن لأحد استقصاؤها، ومما ورد في فضل هذه الكلمة في القرآن الكريم أنَّ الله - تبارك وتعالى جعلها زُبدةَ دعوة الرسل، وخلاصةَ رسالاتهم، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء/25]،
وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل/36](7/193)
وقال تعالى في أول سورة النحل: (يُنَزِّلُ المَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَّشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ) [النحل/2]، وهذه الآية هي أول ما عدّد الله على عباده من النعم في هذه السورة، فدلّ ذلك على أنَّ التوفيق لذلك هو أعظم نعم الله تعالى التي أسبغها على عباده كما قال تعالى: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان/20].
قال مجاهد: "لا إله إلا الله"
[*] وقال سفيان بن عيينة: "ما أنعم الله على عبد من العباد نعمةً أعظم من أن عرَّفهم لا إله إلا الله"
(ومن فضائلها: أنَّ الله وصفها في القرآن بأنَّها الكلمة الطيّبة، قال تعالى (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حَينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [إبراهيم/24]
وهي القول الثابت في قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم/27]
وهي العهد في قوله تعالى: (لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا) [مريم/87]،
روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّه قال: "العهد: شهادة أن لا إله إلا الله، ويتبرّأ إلى الله عز وجل من الحول والقوة، وهي رأس كلِّ تقوى"
(ومن فضائلها: أنَّها العروة الوثقى التي من تمسّك بها نجا، ومن لم يتمسّك بها هلك، قال تعالى: {فَمَن يَّكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة/256]، وقال تعالى: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى} [لقمان/22]
(ومن فضائلها: أنَّها الكلمة الباقية التي جعلها إبراهيم الخليل عليه السلام في عقِبِه لعلهم يرجعون، قال الله - تعالى -: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف 28:26](7/194)
(وهي كلمة التقوى التي ألزمها الله أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكانوا أحقَّ بها وأهلَها، قال الله - تعالى -: {إِذْ َجَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاِهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الفتح/26]
[*] روى أبو إسحاق السبيعي، عن عمرو بن ميمون قال:
ما تكلّمَ الناس بشيء أفضل من لا إله إلا الله، فقال سعد بن عياض: "أتدري ما هي يا أبا عبد الله؟ هي والله كلمة التقوى ألزمها الله أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانوا أحقّ بها وأهلَها رضي الله عنهم"
(ومن فضائل هذه الكلمة: أنَّها منتهى الصواب وغايته، قال الله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالمَلاَئِكَةُ صَفاًّ لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} [النبأ/38]
[*] روى علي بن طلحة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} أنَّه قال: "إلا من أذنَ له الربّ عز وجل بشهادة أن لا إله إلا لله، وهي منتهى الصواب"
[*] وقال عكرمة: "الصواب: لا إله إلا الله"
(ومن فضائلها: أنَّها هي دعوة الحق المرادة بقوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَآءُ الكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} [الرعد/14]
ومن فضائلها: أنَّها هي الرابطة الحقيقية التي اجتمع عليها أهل دين الإسلام، فعليها يُوالون ويعادون، وبها يُحبّون ويُبغضون، وبسببها أصبح المجتمع المسلم كالجسد الواحد وكالبنيان المرصوص يَشُدُّ بعضها بعضاً.
[*] قال الشيخ العلاّمة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في كتابه أضواء البيان: "(7/195)
والحاصل أنَّ الرابطة الحقيقية التي تَجمع المفترقَ وتؤلف المختلف هي رابطة لا إله إلا الله، ألا ترى أنَّ هذه الرابطة التي تجمع المجتمع الإسلامي كلَّه كأنَّه جسدٌ واحدٌ، وتجعله كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً، عطفت قلوب حملة العرش ومن حوله من الملائكة على بني آدم في الأرض مع ما بينهم من الاختلاف، قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كَلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ} [غافر 9:7]،
فقد أشار الله تعالى إلى أنَّ الرابطة التي ربطت بين حملة العرش ومن حوله وبين بني آدم في الأرض حتى دعوا الله لهم هذا الدعاء الصالح العظيم إنَّما هي الإيمان بالله تعالى،
إلى أن قال رحمه الله: وبالجملة فلا خلاف بين المسلمين أنَّ الرابطة التي تربط أفراد أهل الأرض بعضهم ببعض وتربط بين أهل الأرض والسماء هي رابطة لا إله إلا الله، فلا يجوز ألبتة النداءُ برابطة غيرها" اهـ.
(ومن فضائل هذه الكلمة: أنَّها أفضل الحسنات، قال الله تعالى: {مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} [النمل/89]
[*] وقد ورد عن ابن مسعود، وابن عباس، وأبي هريرة، وغيرهم: أنَّ المراد بالحسنة: "لا إله إلا الله"
[*] وعن عكرمة رحمه الله في قول الله عز وجل: {مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} قال: "قول: لا إله إلا الله. قال: له منها خير؛ لأنَّه لا شيء خير من لا إله إلا الله"
وقد ثبت في المسند وغيره عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله عَلِّمني عملاً يُقرّبني من الجنة ويُباعدني من النار. فقال: "إذا عملتَ سيّئةً فاعمل حسنةً فإنَّها عشر أمثالها". قلت: يا رسول الله، أفَمِنَ الحسنات لا إله إلا الله؟ قال: "نعم هي أحسن الحسنات" [حسنه الألباني في كلمة الإخلاص](7/196)
فهذه بعض فضائل هذه الكلمة العظيمة، من خلال ما ورد في القرآن الكريم، وفيما يلي ذكر لبعض فضائلها من خلال ما ورد من ذلك في سنة النبي الكريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(فمن فضائلها: أنها أول يطالب به العبد ليدخل في الدين الذي لا يقبل الله تعالى سواه:
(حديث ابن عباس في الصحيحين) قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذٍ ابن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتُردُ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائمَ أموالهم، واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب.
(ومن فضائلها: أنَّها أفضلُ الأعمال وأكثرُها تضعيفاً، وتَعدِلُ عِتقَ الرِّقاب، وتكون لقائلها حِرزًا من الشيطان،
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب و كتبت له مائة حسنة و محيت عنه مائة سيئة و كانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي و لم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل عملا أكثر من ذلك.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير بعد ما يصلي الغداة عشر مرات كتب الله له عشر حسنات ومحى عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات وكان له بعدل عتق رقبتين من ولد إسماعيل، وإن قالها حين يمسي كان له مثل ذلك وكن له حجاباً من الشيطان حتى يصبح ... .
(ومن فضائلها: أنَّها أفضل ما قاله النبيّون:
(حديث عبد الله ابن عمرو الثابت في صحيح الترمذي) أن النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
(ومن فضائلها: أنَّها ترجحُ بصحائف الذنوبِ يوم القيامة:(7/197)
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يُصَاحُ برجل من أمتي يوم القيامة على رءوس الخلائق فَيُنْشَرُ له تسعةٌ وتسعون سجلا كل سجل مد البصر ثم يقول الله عز وجل هل تنكر من هذا شيئا؟ فيقول لا يا رب فيقول: أظلمتك كتبتي الحافظون؟ ثم يقول ألك عن ذلك حسنة فيهاب الرجل فيقول لا، فيقول بلى إن لك عندنا حسنات وإنه لا ظلم عليك اليوم فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله قال فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات! فيقول إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة.
ولا ريب أنَّ هذا قد قام بقلبه من الإيمان ما جعل بطاقته التي فيها لا إله إلا الله تطيش بتلك السِجلاّت، إذ الناس متفاضلون في الأعمال بحسب ما يقوم بقلوبهم من الإيمان، وإلا فكم من قائل لا إله إلا الله لا يحصل له مثل هذا لضعف إيمانه بها في قلبه،
(حديثُ أنس الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يخرجُ من النار من قال لاإله إلا الله وفي قلبه وزنُ شُعَيْرَةٍ من خير، ويخرجُ من النارِ من قال لاإله إلا الله وفي قلبه وزنُ بُرَةٍ من خير ويخرجُ من النارِ من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرةٍ من خير.
(فدلّ ذلك على أنَّ أهل لا إله إلا الله متفاوتون فيها بحسب ما قام في قلوبهم من إيمان.
(ومن فضائل هذه الكلمة: أنَّها لو وُزِنت بالسموات والأرض رجحت بهنّ:
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في سلسلة الأحاديث الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أنَّ نوحاً قال لابنه عند موته: آمُرُك بلا إله إلا الله، فإنَّ السموات السبع والأرضين السبع لو وُضعت في كفة، ووُضعت لا إله إلا الله في كفة رجحت بهنّ لا إله إلا الله، ولو أنَّ السموات السبع في حلقة مبهمة لقصمتهنّ لا إله إلا الله"
(ومن فضائلها: أنَّها ليس لها دون الله حجاب، بل تخرق الحُجب حتى تصل إلى الله عز وجل:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما قال عبدٌ لا إله إلا الله مخلصاً إلا فُتحت له أبواب السماء حتى تُفضي إلى العرش ما اجتَنَب الكبائر"
(ومن فضائلها: أنَّها نجاةٌ لقائلها من النار:(7/198)
(حديث عِتبان ابن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنَّ الله حرّم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله"
(ومن فضائل هذه الكلمة: أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعلها أفضل شُعب الإيمان:
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".
(ومن فضائلها: أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر أنَّها أفضلُ الذِّكر:
(حديث جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " أفْضَلُ الذِّكْرِ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ " 0
(ومن فضائلها: أنَّ من قالها خالصاً من قلبه يكون أسعد الناس بشفاعة الرسول الكريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم القيامة:
(حديثُ أبي هريرة صحيح البخاري): قال. قلت يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ لقد ظننتُ يا أبا هريرةَ أن لا يسأ لني عن هذا الحديثِ أحدٌ أوَّلَ منك لما رأيتُ من حرصكَ على الحديث، أسعدُ الناسِ بشفاعتي يوم القيامةِ من قال لا إ له إ لا الله خالصاً من قِبِلِ نفسه.
(ومن فضائلها: أن بها يعصم دم العبد وماله:
(حديث أبي مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله.
(ومن فضائل لا إله إلا الله أنها تحرم على النار من قالها صادقاً مخلصاً:
(حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله.
(ومن فضائلها أن بها يدخل العبد الجنة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أشهد أن لا إله إلا الله و أني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة.
(ومن فضائلها أنه من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة:
(حديث معاوية الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة.(7/199)
(ومن فضائل لا إله إلا الله أنها إذا رسخت في قلب العبد بددت ضباب الذنوب وغيومها: (حديث عبد الله بن عمرو في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يُصاحُ برجلٍ من أمتي يوم القيامة على رءوس الخلائق فينشر له تسعة و تسعون سجلا كل سجل مد البصر ثم يقول الله تبارك و تعالى: هل تنكر من هذا شيئا؟ فيقول: لا يا رب فيقول: أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب ثم يقول: ألك عذر ألك حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة و إنه لا ظلم عليك اليوم فتخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا عبده و رسوله فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة و البطاقة في كفة فطاشت السجلات و ثقلت البطاقة.
(معنى لا إله إلا الله:
معنى هذه الكلمة الطيبة فإن كثيراً من الناس لا يعرف معناها وقد لا يدرك حقيقة مضمونها ولا شك أن هذا سبب كبير في تخلف هذه الفضائل عن قائلها أيها المؤمنون إن معنى قولكم: لا إله إلا الله أنكم تقرون بأنه {لا معبود بحق إلا الله تعالى} فلا يستحق أحد أن يصرف له شيء من العبادات القلبية كالمحبة والخوف والرجاء والتوكل غير الله تعالى ولا يستحق أحد أن يصرف له شيء من العبادات العملية من صلاة ونذر وذبح ودعاء غيره سبحانه بل الواجب أن يفرد جل وعلا بجميع العبادات الظاهرة والباطنة.
فإن أخل العبد بشيء من ذلك فصرف العبادة لغير الله تعالى فإن لا إله إلا الله لا تنفعه بشيء بل هو مشرك كافر متوعد بقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار} [المائدة: 72] فاحذروا الشرك يا عباد الله فإن خطره عظيم اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك ونحن نعلم ونستغفرك مما لا نعلم.
{تنبيه}: (حريٌ بنا في هذا المقام أن نتعرف على شروط كلمة التوحيد وفضل أهل التوحيد لأن التوحيد هو أول ما يجب أن يتعلمه العبد من دينه لأن التوحيد مقدم على العمل والأصل الذي يترتب عليه غيره إذ لا ينفع مع الشرك عمل.
(شروطُ كلمةِ التوحيد:
(لكلمةِ التوحيدِ شروطٌ سبعة لا ينتفعُ قائلها إلا بعد أن يستكملها وهي:
1) العلمُ المنافي للجهل
2) اليقينُ المنافي للشك
3) القبولُ المنافي للرد
4) الانقياد، ويتمُ ذلك بأداء حقوقها وهي الأعمالُ الواجبة إخلاصاً للهِ وطلباً لمرضاته.(7/200)
5) الصدقُ المنافي للنفاق
6) الإخلاصُ المنافي للشرك.
7) المحبةُ لهذه الكلمة ولما دلَّت عليه والسرورُ بذلك بخلاف ما عليه المنافقون.
[*] قال الشيخُ حافظُ الحكمي في سُلمِ الوصول:
وبشروطٍ سبعةٍ قد قُيِدتْ ... وفي نصوصِ الوحي حقاً وردت
فإنه لم ينتفعْ قَائِلُها ... بالنطقِ إلا حيثُ يستكمِلُها
العلمُ واليقينُ والقبولُ ... والانقيادُ فادرِ ما أقولُ
والصدقُ والإخلاصُ والمحبةْ ... وفقك الله لما أحبَّه
مسألة: ما الفرق بين القبولِ والانقياد؟
(القبولُ يكونُ بالأقوال، والانقياد يكونُ بالأفعال.
(أول ما يجب على العبد أن يتعلمه من دينه هو التوحيد:
لأن التوحيد مُقَدَّمٌ على العمل والأصل الذي يترتب عليه غيره إذ لا ينفعُ مع الشركِ عمل.
قال تعالى: (فَاعْلَمْ أَنّهُ لاَ إِلََهَ إِلا اللّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) (محمد / 19)
(حديث ا بن عباس في الصحيحين) قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذٍ ابن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك
فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتُردُ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب.
الشاهد: قوله ... - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لاإله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات، فجعل إخبارهم بالصلاةِ معلقٌ على قبولِ التوحيد فإن لم يقبلوه فلا تخبرهم، وذلك لأن التوحيد مُقَدَّمٌ على العمل والأصلُ الذي يترتب عليه غيره إذ لا ينفع مع الشركِ عمل.
(حديثُ جندب ابن عبد الله صحيح ابن ماجة) قال كنا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن فتيانٌ حزَاوِرَة، فتعلمنا الإيمانَ قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآنَ فازددنا به إيمانا.
معنى حزاوره: جمع حَزْوَر وهو الغلام إذا اشتد وقوى.
[*] قال الشيخ حافظ ابن أحمد الحكمي في سلم الوصول:
أولُ واجبٍِ على العبيدِ ... معرفةُ الرحمنِ بالتوحيدِ
إذ هو من كل الأوامرِ أعظمُ ... وهو نوعان أيا من يفهمُ(7/201)
(لا يكون توحيد إلا بنفيْ وإثبات:
المقصود بذلك أن التوحيد يتضمن نفي الشرك وإثبات التوحيد لله تعالى.، فإن كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) تتضمن هذين الشقين
(لا إله) نفي الألوهيةِ الحقةِ عن غيرِ الله
(إلا الله) إثباتُ الألوهيةِ الحقةِ لله تعالى
(فضل التوحيد:
للتوحيدِ فضلٌ عظيمٌ وأجرٌ جسيم وهاك بعضَ فضائله:
(1) أصحابُ التوحيدِ يفوزون بخيري الدنيا والآخرة
قال تعالى: (الّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوَاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلََئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مّهْتَدُونَ) (الأنعام /82)
لهم الأمن: في الدنيا، وهم مهتدون: في الدنيا
وهذا –ولاشك – هو خيري الدنيا والآخرة، فليس في الدنيا أنفعُ من أن تكون على هدى، ولذا كان أنفعُ دعاء هو (اهدنا الصراط المستقيم) ولذا نقوله في كل ركعةٍ من الصلوات.
وليس في الآخرةِ أنفعُ من أن تكون آمناً في يومٍ لا ينفعُ فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.
(حديثُ ابن مسعودٍ في الصحيحين) قال لما نزلت: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ أولئك لهم الأمن وهم مهتدون. شق ذلك على المسلمين وقالوا أينا لم يظلم نفسه، قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس ذلك، إنما هو الشرك، ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تُشركْ بالله إن الشرك لظلمٌ عظيم.
(2) أن الله تعالى لا يقبلُ العملَ إلا من الموحدين.
قال تعالى: (قُلْ إِنّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَىَ إِلَيّ أَنّمَآ إِلََهُكُمْ إِلََهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا) (الكهف /110)
(حديثُ أبي هريرةَ صحيح مسلم): أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال - قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاءِ عن الشرك، من عمل عملاً أشركَ فيه معي غيري تركته وشركه.
(حديثُ جندب ابن عبد الله في الصحيحين): أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من سمَّعَ سمَّعَ الله به ومن يُرائي يُرائي الله به.
(حديثُ أبي أُمامة صحيح النسائي): أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن الله تعالى لا يقبلُ من العملِ إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وَجهُهُ
(3) أصحابُ التوحيدِ يفوزون بشفاعة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(7/202)
(حديثُ أبي هريرة في الصحيحين): أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لكلِ نبيٍ دعوةٌ مستجابةٌ فتعجَّلَ كل نبيٍ دعوته، وإني اختبأتُ دعوتي شفاعةٌ لأُمتي يوم القيامة، فهي نائلةٌ إن شاء الله من مات من أمتي لا يشركْ بالله شيئاً.
(حديثُ أبي هريرة صحيح البخاري): قال. قلت يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ لقد ظننتُ يا أبا هريرةَ أن لا يسأ لني عن هذا الحديثِ أحدٌ أوَّلَ منك لما رأيتُ من حرصكَ على الحديث، أسعدُ الناسِ بشفاعتي يوم القيامةِ من قال لا إ له إ لا الله خالصاً من قِبِلِ نفسه.
(4) أصحابُ التوحيد لا يخلدون في النار:
وأصحاب التوحيدِ في ذلك قسمان:
(القسمُ الأول: من مات على التوحيدِ وعمل بشروطِ لا إله إلا الله وكان على تقوى واستقامة فهذا يدخلُ الجنةَ دون أن تمسَّه النار فقد حرَّمه الله على النار، وعليه يحملُ الحديثُ الآتي:
(حديثُ أنس في الصحيحين): أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعاذَ رَدِيفه على الرحل، قال يا معاذ: قال لبيك يا رسول الله وسعديك، قال:، يا معاذ، قال لبيك يا رسول الله وسعديك (ثلاثاً) قال: ما من أحدٍ يشهدُ أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرَّمه الله على النار، قال يا رسول الله أفلا أخبرُ به الناسَ فيستبشرون؟ قال: إذاً يتكلوا. وأخبر بها معاذ ٌ عند موته تأثما ً.
(تأثماً): أي خشية ُالوقوع ِِ في الإثم ِ الحاصل من كتمان ِ العلم.
(القسمُ الثاني:
من مات على التوحيدِ ولكن له ذنوبٌ أوْ بقته فلا نقولُ إنه في النار، ولكنه تحت مشيئةِ الإله النافذة إن شاء عفا عنه وإن شاء آخذه، ولكنه يدخلُ الجنة َ يوما ً من الأيام ِ أصابه قبل ذلك اليوم ِ ما أصابه.
(حديثُ أبي ذرٍ في الصحيحين): قال أتيتُ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليه ثوبٌ أبيض وهو نائم ثم أتيتهُ وقد استيقظ فقال: ما من عبدٍ قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا أدخله الله الجنة. قلتُ وإن زنى وإن سرق؟ قال وإن زنى وإن سرق. قلتُ وإن زنى وإن سرق؟ قال وإن زنى وإن سرق. قلتُ وإن زنى وإن سرق؟ قال وإن زنى وإن سرق على رغمِ أنفِ أبي ذر.(7/203)
(حديثُ أنس في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يخرجُ من النارِ من قال لا إله إلا الله وفي قلبهِ وزنُ شُعيرةِ من خير، ويخرجُ من النارِ من قال لا إله إلا الله وفي قلبهِ وزن بُرةٍ من خير، ويخرجُ من النارِ من قال لا إله إلا الله وفي قلبهِ وزنِ ذَرةٍ من خير.
(حديثُ أبي سعيدٍ صحيح الترمذي): أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يخرجُ من النارِ من كان في قلبهِ مثقالُ ذرةٍ من إيمان.
(5) تكفيرُ الذنوب:
(حديثُ عُبَادةَ ابن الصامت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من شهدَ أن لا إله إلا الله وحده لا شَرِيكَ له وأن محمداً عبدُ الله ورسولُه
وأن عيسى عبدُ اللهِ ورسولُه وكلمتُه ألقاها إلى مريمَ وروحٌ منه والجنةُ حقٌ والنارُ حقٌ أدخله الله الجنةَ على ما كان من العمل.
(حديثُ أنس صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يَقُولُ: «قالَ الله تَبَارَكَ وتعَالى: يا ابنَ آدَمَ إِنّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى ما كانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِي. يا ابنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَت ذُنُوبُكَ عَنَانَ السّمَاءِ ثُمّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِي. يا ابنَ آدَمَ إنّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرْضِ خَطَايَا ثُمّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بي شَيْئاً لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً».
(معنى تحقيق التوحيد: تخليصُه وتصفيته من الشرك.
{تنبيه}: (لا يتحقق التوحيد إلا بشيئين متلازمين هما
(1) إثباتُ التوحيد لله
(2) نفيُ الشرك والبراءة من أهله
مسألة: ما المقصود بإثبات التوحيد لله؟
المقصودُ بإثبات ِالتوحيدِ لله إفرادُ الله بما يختصُ به من توحيدِ الربوبيةِ والألوهيةِ والأسماءِ والصفات.
مسألة ما معنى توحيد الربوبيه؟
توحيد الربوبيةِ هو إفرادُ الله بالخلق ِ والملك ِ والتدبير.
والدليلُ قوله تعالى (ألا له الخلقُ والأمر) {الأعراف / 54}
والأمرُ هنا معناه التدبير.
وقوله تعالى (لله ملك السموات والأرض) {المائدة / 17}
الشاهد: تقديم ما حقَّه التأخير يفيدُ الحصر
{تنبيه}: (التدبير الذي يختصُ به الله تعالى نوعان هما:
(تدبيرٌ كوني: فالله تعالى يدبرُ أمور الكون وما فيه، هو المحيي المميت الخافض الرافع المعطي المانع المعز المذل يُولج الليل في النهار ويلج النهار في الليل(7/204)
قال تعالى: (قُلِ اللّهُمّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمّنْ تَشَآءُ وَتُعِزّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنّكَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)،تُولِجُ اللّيْلَ فِي الْنّهَارِ وَتُولِجُ النّهَارَ فِي الْلّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيّتَ مِنَ الْحَيّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) {آل عمران / 26، 27}
(تدبيرٌ شرعي: يحلل ويحرِّم.
مسألة: ما معنى توحيد الأ لوهية؟
توحيدُ الأ لوهية هو {إفرادُ الله بالعبادة}، أي لا معبود بحقٍ إلا الله.
والدليلُ قوله تعالى قال تعالى: (شَهِدَ اللّهُ أَنّهُ لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران /18)
وقوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنّهُ لاَ إِلََهَ إِلا اللّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) (محمد / 19)
مسألة ما معنى توحيد الأسماءِ والصفات؟
توحيدُ الأسماء ِ والصفات هو إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله من الأسماء ِ الحسنى والصفاتِ العُلى.
{تنبيه}: (في هذا النوع من التوحيد ضابطين أساسيين:
(1) لا نصفُ الله تعالى إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال الإمامُ أحمد رحمه الله: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسَه أو وَصفَه به رسوله لا يتجاوزُ القرآن والحديث.
(2) أن يكون وصفنا لله تعالى بغيرِ تحريفٍ ولا تعطيل ولا تكيفٍ ولا تمثيل.
مسألة: ما معنى التحريف؟
التحريفُ نوعان:
(النوع الأول: تحريفٌ لفظي كتغيير حرفٍ بحرف، أو زيادة حرف كمن يقول (استوى على العرش) استولى، وقوله حطه أي حنطه. نعوذ بالله من الضلال والخبال.
النوعُ الثاني: تحريفٌ معنوي وهو التأويلُ بغير دليل، لأي صرف النص عن ظاهره بغير دليلٍ شرعي وهو ما يُسمى بالتأويلِ الفاسد، كحا لِ بعض الفرق الضالة الذين يفسرون قوله تعالى {بل يداه مبسوطتان} فيفسرون يداه بالسماوات والأرض، نعوذ بالله من الضلالِ والخبال.
مسألة: ما معنى التعطيل؟
التعطيلُ هو إنكارُ صفاتِ الله تعالى إما كلها أو بعضها، وكون الإنكارُ عن طريقتين: إما التحريف أو التكذيب(7/205)
{تنبيه}: (التعطيلُ أعم من التحريف، يكون تعطيلٌ وتحريف، وإن كان التعطيلُ بالإنكار يكون تعطيلٌ فقط.
مسألة: ما معنى التكييف؟
(التكييف ذكرُ كيفيةٍ للصفة، وهذا منهيٌ عنه، ولما سُئلَ الإمامُ مالك رحمه الله تعالى عن قوله تعالى (الرحمن على العرش استوى) كيف استوى؟ قال:
الاستواء غيرُ مجهول (أي من حيثُ المعنى)
والكيفُ غير معقول (أي لا تدركه العقول)
والإيمانُ به واجب (لأنه سبحانه أثبته لنفسه)
والسؤالُ عنه بدعة (لأن الصحابة َلم يسألوا عنه وهم أحرصُ الناسِ على الخير وأعلم الناسِ بما يجيزه الشرع.
مسألة: ما معنى التمثيل؟
التمثيلُ هو مماثلة صفات الله تعالى بصفاتِ المخلوقين، وهذا من الضلالِ والخبال لأن الله تعالى يقول (ليس كمثلهِ شئٌ وهو السميعُ البصير) [الشورى / 11]
{تنبيه} التكييف أعم من التمثيل، لأن التكييفَ إن كان له مماثل كان تكييفاً وتمثيلاٌ، وإن لم يكن له مماثل كان تكييفاٌ فقط.
[*] قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله تعالى:
وكلِ ما لهُ من الصفاتِ ... أثبتها في محكمِ الآياتِ
أوْصَحَّ فيما قاله الرسولُ ... فحقَّهُ التسليمُ والقبولُ
نُمِرُّها صريحةً كما أتتْ ... مع اعتقادنا لما له اقتدتْ
من غيرِ تحرِيفٍ ولا تعطيلِ ... وغيرِ تمثيلٍ ولا تكييفِ
مسألة: ما الدليل على أنه لا يتحققُ التوحيدُ إلا بنفي الشركِ والبراءةِ من أهله؟
(الدليلُ على نفي الشرك قوله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلّ أُمّةٍ رّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطّاغُوتَ فَمِنْهُم مّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُمْ مّنْ حَقّتْ عَلَيْهِ الضّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ) (النحل / 36)
وقوله تعالى: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىَ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً) (النساء / 36)
والدليلُ على البراءةِ من أهلِ الشرك قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنّنِي بَرَآءٌ مّمّا تَعْبُدُونَ) (الزخرف / 26)(7/206)
وقوله تعالى: (لاّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ يُوَآدّونَ مَنْ حَآدّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوَاْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلََئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلََئِكَ حِزْبُ اللّهِ أَلاَ إِنّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة / 22)
(كلمةُ التوحيدِ تتضمنُ أنواعَ التوحيدِ الثلاثة على التفصيلِ الأتي:
كلمةُ التوحيدِ اشتملت على توحيدِ الألوهيةِ مطابقة، واشتملت على توحيدِ الربوبيةِ وتوحيدِ الأسماءِ والصفات تضمناً.
{تنبيه}: (دلالةُ المطابقة: دلالةُ اللفظ على ما وُضِع له في لغةِ العرب.
ودلالةُ التضمن: معناها دلالةُ اللفظِ على جزءِ معناه كدلالةِ الإنسان على بعضِ أجزائه.
(الكنز الثامن: الاستغفار:
(معنى الاستغفار:
الاستغفار هو طلب المغفرة من العزيز الغفار وطلب الإقالة من العثرات من غافر الذنب وقابل التوب، والمغفرة هي وقاية شر الذنوب مع سترها،
أي أن الله عز وجل يستر على العبد فلا يفضحه في الدنيا ويستر عليه في الآخرة فلا يفضحه في عرصاتها ويمحو عنه عقوبة ذنوبه بفضله ورحمته.
قال ابن الأثير:
في أسماء الله تعالى الغَفّار والغَفور، وهما من أبنية المبالغة، ومعناهما الساتر لذنوب عباده وعُيوبهم المُتجاوِز عن خطاياهم وذنوبهم. وأصل الغَفْر التغطية. يقال: غفر الله لك غفراً وغفراناً ومغفرة. والمغفرة إلباس الله تعالى العفو للمُذنبين.
قال ذو النون المصري: الاستغفار جامع لِمَعانٍ:
أولهما: الندم على ما مضى
الثاني: العزم على الترك
والثالث: أداء ما ضيعت من فرض الله
الرابع: رد المظالم في الأموال والأعراض والمصالحة عليها
الخامس: إذابة كل لحم ودم نبت على الحرام
السادس: إذاقة ألم الطاعة كما وجدت حلاوة المعصية.
ماهو الفرق بين الاستغفار والتوبة؟
الاستغفار: هو طلب المغفرة من العزيز الغفار وطلب الإقالة من العثرات من غافر الذنب وقابل التوب، والمغفرة هي وقاية شر الذنوب مع سترها،
أي أن الله عز وجل يستر على العبد فلا يفضحه في الدنيا ويستر عليه في الآخرة فلا يفضحه في عرصاتها ويمحو عنه عقوبة ذنوبه بفضله ورحمته.(7/207)
والتوبة: هي الرجوع إلى الله تعالى والإنابة إليه.
والاستغفار من أعظم الأذكار التي ينبغي للعبد أن يكثر منها،
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) قال: إن كنا لنعد لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المجلس الواحد مائة مرة رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم.
(والاستغفار يكون توبة إذا جمع معاني التوبة وشروطها، وهي الإقلاع عن الذنب إن كان متلبسا به وعقد العزم على أن لا يعود إليه فيما بقي من عمره، والندم على ما فات، وبذلك تتداخل التوبة والاستغفار فيكون الاستغفار توبة والتوبة طلب مغفرة.
مسألة: هل التسبيح أفضل أم الاستغفار؟
[*] قال ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى في الوابل الصيب: وقلت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يوماً سئل بعض أهل العلم: أيما أنفع للعبد التسبيح أو الاستغفار؟
فقال: إذا كان الثوب نقياً فالبخور وماء الورد أنفع له وإن كان دنساً فالصابون والماء الحار أنفع له، فقال لي رحمه الله تعالى: فكيف والثياب لا تزال دنسة؟ أهـ
(فضل الاستغفار:
ينبغي على طالب العلم أن يلزم الاستغفار وأن يتمسك به وأن يعض عليه بالنواجذ وأن يغرف منه غرفاً لأنه دواء الذنوب فطوبى لمن وُجِد في صحيفته استغفارٌ كثير، وللاستغفار فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم وهاك بعض فضائله:
(1) أنه طاعة لله عز وجل وامتثال أمر الله تعالى، والله تعالى تارة يؤمر به كقوله تعالى (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المزمل/20)
وقال تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [سورة النصر: 3]
وتارة يذكر الله عز وجل أنه يغفر لمن استغفره كقوله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً) (النساء/110)
قال تعالى {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة آل عمران: 135]
وتارة يمدح أهله كقوله تعالى: (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ) (آل عمران/17)،(7/208)
ولقد أمر الله تعالى رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو أتقى الخلق بإخلاص الدين وإدامة الاستغفار، فقال عز وجل: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ اله إِلاَ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19].
والاستغفار جاء على ألسنة أنبياء الله ورسله:
فعلى لسان نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوه ُ) [فصلت: 6]
وقال على لسان نبيّه هود عليه الصلاة والسلام: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ) [هود:52]
وجاء على لسان صالح عليه الصلاة والسلام: (يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ) [هود:61]
وعلى لسان شعيب عليه الصلاة والسلام (وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) [هود:90]
(2) التأسي بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
فلقد كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ملازماً للاستغفار آناء الليل وأطراف النهار:
(حديث الأغرِّ المُزني في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يا أيها الناس! توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة.
[*] قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: والمراد هنا ما يتغشى القلب. قال القاضى: قيل المراد الفترات والغفلات عن الذكر الذي كان شأنه الدوام عليه فإذا فَتَرَ عنه أو غفل عدّ ذلك ذنبا واستغفر منه.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة.
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي.
(حديث أبي بكر الصديق الثابت في الصحيحين) أنه قال لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كبيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم.(7/209)
(حديث عليٍّ الثابت في صحيح مسلم) قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام إلى الصلاة يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت.
(حديث عبد الله بن بُسر في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال طوبى لمن وُجد في صحيفته استغفارا كثيرا.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وَلَجَاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا فرغ من صلاته بادر إلى الاستغفار،
(حديث ثوبان الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا ثم قال: اللهم أنت السلام و منك السلام تباركت يا ذا الجلال و الإكرام.
وحجاج بيت الله الحرام مأمورون بالاستغفار بعد الإفاضة من عرفة والمشعر الحرام، ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة:199].
[*] وروى مكحول عن أبي هريرة قال: ما رأيت أكثر استغفاراً من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[*] وقال مكحول: ما رأيت أكثر استغفارا من أبي هريرة. وكان مكحول كثير الاستغفار.
(3) الاستغفار سبب لغفران الذنوب:
قال تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا) [سورة: نوح: 10]
(حديث أبي سعيد في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن إبليس لعنه الله قال وعزتك وجلالك لا أبرح أُغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم، فقال الله عز وجل: وعزتي وجلالي لا ابرح أغفر لهم ما استغفروني.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وَلَجَاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم.(7/210)
(حديث أنس في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى: يا ابنَ آدَمَ إِنّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى ما كانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِي. يا ابنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَت ذُنُوبُكَ عَنَانَ السّمَاءِ ثُمّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِي. يا ابنَ آدَمَ إنّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرْضِ خَطَايَا ثُمّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بي شَيْئاً لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً».
(معنى عنان السماء: قيل هو السحاب وقيل هو ما عَنَّ لك منها أي ما ظهر لك منها.
وقد ورد في حديث أنس أهم الأسباب التي يغفر الله عز وجل بها الذنوب وهي:
أحدها: الدعاء مع الرجاء:
يا ابنَ آدَمَ إِنّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى ما كانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِي، فإن الدعاء مأمور به موعود عليه بالإجابة،
كما قال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر/60)
فالدعاء سبب مقتض للإجابة مع استكمال شرائطه وانتفاء موانعه،
وقد تتخلف الإجابة لانتفاء بعض شروطه أو وجود بعض موانعه،
ومن أعظم شرائطه حضور القلب ورجاء الإجابة من الله تعالى،
فمن أعظم أسباب المغفرة أن العبد إذا أذنب ذنبًا لم يرج مغفرة من غير ربه،
ويعلم أنه لا يغفر الذنوب ويأخذ بها غيره فقوله: " إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي " يعني على كثرة ذنوبك وخطاياك،
ولا يتعاظمني ذلك ولا أستكثره.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إذا دعا أحدكم فليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه.
فذنوب العباد وإن عظمت فإن عفو الله ومغفرته أعظم منها،
[*] كما قال الإمام الشافعي عند موته:
وَلمّا قَسَا قَلْبِي وَضَاقَت مَذَاهِبِي ... جَعَلْتُ الرَّجَا مِنِّي لِعَفْوكَ سُلَّمًا
تَعَاظَمَنِي ذَنْبِي فَلَمَّا قَرَنْتُهُ ... بِعَفْوِكَ رَبِّي كَانَ عَفْوُكَ أَعظَمَ
الثاني الاستغفار: فلو عظمت الذنوب وبلغت الكثرة عنان السماء ـ وهو السحاب،
وقيل: ما انتهى إليه البصر منها ـ ثم استغفر العبد ربه عز وجل، فإن الله يغفرها له.
روي عن لقمان أنه قال لابنه: يا بني عود لسانك اللهم اغفر لي فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلاً.
وقال الحسن: أكثروا من الاستغفار في بيوتكم وعلى موائدكم وفي طرقكم وفي أسواقكم وفي مجالسكم وأينما كنتم، فإنكم ما تدرون متي تنزل المغفرة.(7/211)
الثالث التوحيد: وهو السبب الأعظم ومن فقده حُرِمَ المغفرة،
ومن أتى به فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة.
قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء/166) [*] قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في معنى قوله: " يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة"
يُعْفَى لأهل التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشرك ما لا يعفى لمن ليس كذلك،
فلو لقى الموحد الذي لم يشرك بالله ألبتة ربه بقراب الأرض خطايا أتاه بقرابها مغفرة، ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده، فإن التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب؛ لأنه يتضمن من محبة الله وإجلاله وتعظيمه وخوفه ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب، ولو كانت قراب الأرض، فالنجاسة عارضةٌ، والدافع لها قوي، ومعنى " قُراب الأرض " ملؤها أو ما يقارب ذلك، ولكن هذا مع مشيئة الله عز وجل، فإن شاء غفر بفضله ورحمته، وإن شاء عذب بعدله وحكمته، وهو المحمود على كل حال.
قال بعضهم: الموحد لا يلقى في النار كما يلقى الكفار، ولا يبقى فيها كما يبقى الكفار،
فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله فيه وقام بشروطه كلها بقلبه ولسانه وجوارحه أو بقلبه ولسانه عند الموت أوجب ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلها ومنعه من دخول النار بالكلية،
فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه أخرجت منه كل ما سوى الله محبة وتعظيمًا وإجلالاً ومهابة وخشية ورجاء وتوكلاً، وحينئذٍ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها ولو كانت مثل زبد البحر، وربما قلبتها حسنات،
فإن هذا التوحيد هو الإكسير الأعظم، فلو وضعت ذرة منه على جبال الذنوب والخطايا لقلبتها حسنات،
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: كما أن الله عز وجل لا يقبل طاعات المشركين فنرجو أن يغفر الله عز وجل ذنوب الموحدين أو معناه.
(4) الاستغفار سبب لنزول سبب لنزول الأمطار:
قال تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا)
[سورة: نوح:10،11]
(5) الإمداد بالأموال والبنين:
قال تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) [سورة: نوح:12:10]
(6) دخول الجنات:(7/212)
قال تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) [سورة: نوح:12:10]
[*] جاء ثلاثة إلى الحسين بن علي رضي الله تعالى عنه واشتكى الأول قلة المطر فقال له أكثر من الاستغفار، واشتكى الثاني العقم فقال له أكثر من الاستغفار، واشتكى الثالث جدب الأرض وقلة النبات فقال له أكثر من الاستغفار. فقال له أحد جلسائه: يا ابن رسول الله كلُ الثلاثةِ مختلف الشكاية وأنت وحدت الجواب بينهم فقال رضي الله تعالى عنه أما قرأتم قول الله تعالى (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبّكُمْ إِنّهُ كَانَ غَفّاراً، يُرْسِلِ السّمَآءَ عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لّكُمْ جَنّاتٍ وَيَجْعَل لّكُمْ أَنْهَاراً) [سورة: نوح:12:10] أهـ
(7) زيادة القوة بكل معانيها:
قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ} [سورة هود: 52]
(8) الاستغفار من أسباب تنزل الرحمات الإلهية قال تعالى: لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46]
(9) دفع البلاء:
قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33].
(10) والمستغفرون يمتعهم ربهم متاعاً حسناً، فيهنئون بحياة طيبة، ويسبغ عليهم سبحانه مزيداً من فضله وإنعامه: وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود:3].
(11) وبالاستغفار تُختتم العبادات ليُقِرَ العبدُ بتقصيرهِ فيُغفرُ له ذنبه قال تعالى: في الحج: (ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [البقرة:199]
(12) وأثنى الله على المستغفرين بأوقات السحر فقال: (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ)
[آل عمران:17]
(13) الاستغفار سبب لإيتاء كل ذي فضل فضله:(7/213)
قال تعالى على لسان نبيّه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) [هود:3]
(14) وبالاستغفار يُودّع الميت:
(حديث عثمان بن عفان الثابت في صحيح أبي داود) قال * كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل.
(15) وبالاستغفار تتحاتّ الخطايا والذنوب:
(حديث زيد بن حارثة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له وإن كان قد فر من الزحف.
الآثار الواردة في فضل الاستغفار:
[*] قال عليٌّ رضي الله تعالى عنه: ما ألهم الله سبحانه عبداً الاستغفار وهو يريد أن يعذبه
[*] وقال قتادة رحمه الله تعالى: إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم فأما داؤكم فالذنوب وأما دواؤكم فالاستغفار.
[*] قال بكر عبد الله المزني: أنتم تكثرون من الذنوب فاستكثروا من الاستغفار، فإن الرجل إذا وجد في صحيفته بين كل سطرين استغفار سرّه مكان ذلك.
[*] قال سفيان الثوري لجعفر بن محمد بن علي بن الحسين:
لا أقوم حتى تحدثني. قال له جعفر: أنا أحدثك، وما كثرة الحديث لك بخير. يا سفيان إذا أنعم الله عليك بنعمة فأحببت بقائها ودوامها فأكثر من الحمد والشكر عليها، فإن الله عز وجل قال في كتابه: (لئن شكرتم لأزيدنكم) وإذا استبطأت الرزق فأكثر من الاستغفار، فإن الله تعالى قال في كتابه: (استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا) يا سفيان إذا حَزَبَك أمرٌ من سلطان أو غيره فأكثر من: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنها مفتاح الفرج، وكنز من كنوز الجنة. فعقد سفيان بيده وقال ثلاث ونصف ثلاث. قال جعفر: عقلها والله أبو عبد الله، ولينفعنه الله بها.
[*] وفي وصية علي بن الحسن المسلمي: وأكثر ذكر الموت، وأكثر الاستغفار مما قد سلف من ذنوبك، وسل الله السلامة لما بقي من عمرك.
طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً. كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(7/214)
[*] كان الإمام أحمد بن حنبل يريد أن يقضي ليلته في المسجد ولكن مُنع من المبيت في المسجد بواسطة حارس المسجد، حاول معه الإمام ولكن لا جدوى، فقال له الإمام سأنام موضع قدمي، وبالفعل نام الإمام أحمد بن حنبل مكان موضع قدميه فقام حارس المسجد بجرّه لإبعاده من مكان المسجد، وكان الإمام أحمد بن حنبل شيخ وقور تبدو عليه ملامح الكبر، فرآه خباز فلما رآه يُجرّ بهذه الهيئة عرض عليه المبيت، وذهب الإمام أحمد بن حنبل مع الخباز، فأكرمه ونعّمه، وذهب الخباز لتحضير عجينه لعمل الخبز، المهم أن الإمام أحمد بن حنبل سمع الخباز يستغفر ويستغفر، ومضى وقت طويل وهو على هذه الحال فتعجب الإمام أحمد بن حنبل، فلما أصبح سأل الإمام أحمد الخباز عن استغفاره في الليل:
فأجابه الخباز: أنه طوال ما يحضر عجينه ويعجن فهو يستغفر
فسأله الإمام أحمد: وهل وجدت لاستغفارك ثمره؟
والإمام أحمد سأل الخباز هذا السؤال وهو يعلم ثمرات الاستغفار و يعلم فضل الاستغفار وفوائده.
فقال الخباز: نعم، والله ما دعوت دعوة إلا أُجيبت، إلا دعوة واحدة!
فقال الإمام أحمد: وما هي؟
فقال الخباز: رؤية الإمام أحمد بن حنبل!
فقال الإمام أحمد: أنا أحمد بن حنبل والله إني جُررت إليك جراً!!
(فهذه بعض فضائل الاستغفار ومنافعه جلاّها لنا ربنا في كتابه، وأفصح عنها رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما صح من خبره، تَحْمِلُ أهل الإيمان وأرباب التقوى على البدار بالتوبة وكثرة الاستغفار، غير أن هذه المنح الإلهية والفضائل الربانية إنما تحصل للمستغفرين الله تعالى حقاً وصدقاً، إذ الاستغفار ليس بأقوال ترددها الألسن، وعبارات تكرر بين الحين والآخر فحسب، وإنما الاستغفار الحق ما تواطأ عليه القلب واللسان، وندم صاحبه على ما بدر منه من ذنوب وآثام، وعزم ألا يعود على اقتراف شيء من ذلك، إذ هذه أركان التوبة النصوح التي أمر الله تعالى بها العباد، ووعد عليها تكفير الخطيئات والفوز بنعيم الجنات، فقال عز شأنه: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [التحريم:8]،
[*] قال الإمام القرطبي -رحمه الله-:(7/215)
"قال علماؤنا: الاستغفار المطلوب هو الذي يحل عقد الإصرار، ويثبت معناه في الجنان، وليس التلفظ بمجرد اللسان، فمن استغفر بلسانه، وقلبه مصرّ على معصيته، فاستغفراه يحتاج إلى استغفار"، وقال بعض العلماء: "من لم يكن ثمرةُ استغفاره تصحيحُ توبته فهو كاذب، والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه".
[*] وروي عن الحسن البصري أنه قال: استغفارنا يحتاج إلى استغفار.
(وإن من نفاذ البصيرة، وصدق الإيمان كثرة التوبة والاستغفار على الدوام، فذلك هدي رسول الهدى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع أن الله تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يقول أبو هريرة -رضي الله عنه-: (ما رأيت أكثر استغفاراً من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -).
(وهكذا شأن أرباب العزائم وأهل الإيمان الخلّص، يلجئون إلى الله على الدوام، ويكثرون التوبة والاستغفار، صادقين مخلصين غير يائسين ولا مصرين، قد ملأت خشية الله قلوبهم، ورسخت في مقام الإحسان أقدامهم، فهم بين مراقبة ربهم وشهود أعمالهم الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ [آل عمران:16، 17] , أولئك هم العارفون المتقون، يؤدون الفرائض، ويكثرون من الطاعات والنوافل، ثم يسارعون إلى الاستغفار خشية التقصير أو الإخلال فيما قدموا من صالح الأعمال، كَانُواْ قَلِيلاً مّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17،18].
(فضل الاستغفار لعامة المؤمنين
(حديث عبادة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمنٍ حسنة.
(أهمية الاستغفار في حق النساء:
الاستغفار في حق النساء مهم جداً لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما جاء النساء، قال
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:(7/216)
عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال * يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار فقالت امرأة منهن جزلة ومالنا يا رسول الله أكثر أهل النار قال تكثرن اللعن وتكفرن العشير وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن قالت يا رسول الله وما نقصان العقل والدين قال أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل فهذا نقصان العقل وتمكث الليالي ما تصلي وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين.
(أفضل الاستغفار:
أفضل الاستغفار أن يبدأ بالثناء على ربه، ثم يثني بالاعتراف بذنبه، ثم يسأل ربه بعد ذلك المغفرة كما في حديث سيد الاستغفار:
(حديث شداد بن أوس في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سيدُ الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني و أنا عبدك و أنا على عهدك و وعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي و أبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت من قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة و من قالها من الليل و هو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة.
وقوله: " أبوء لك بنعمتك علي " أي أعترف لك،
و " أبوء بذنبي " أي أعترف وأقر بذنبي.
(ومن أفضل الاستغفار أن يقول العبد: " أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب.
(حديث زيد بن حارثة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له وإن كان قد فر من الزحف.
(الكنز التاسع: الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(فضل الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
إن الله تعالى بقدرته وسلطانه بعث نبينا محمد وخصّه وشرّفه بتبليغ الرسالة فكان رحمةً للعالمين وإماماً للمتقين وجعله هادياً للطريق القويم فلزم على العباد طاعته وتوقيره والقيام بحقوقه ومن حقوقه أن الله اختصه بالصلاة عليه وأمرنا بذلك في كتابه الحكيم وسنة نبيه الكريم حيث كتب مضاعفة الأجر لمن صلّى عليه فما أسعد من وفق لذلك.
(وعلى ذلك فينبغي على طالب العلم أن يلزم الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما لها من فضائل عظيمة ومزايا جسيمة منها ما يلي:
1) امتثال أمر الله تعالى حيث أمر بالصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في محكم التنزيل:(7/217)
قال تعالى: (إِنّ اللّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلّونَ عَلَى النّبِيّ يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ صَلّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً) [الأحزاب / 56]
2) حصول عشر صلوات من الله تعالى على المصلي على النبي إذا صلى على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرةً واحدة.
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله و أرجوا أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة ... .
(3) يُحَطُ عنه عشر خطيئات ويُرْفعُ له عشر درجات.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من صلى عليَّ صلاة واحدة، صلى اللَّه عليه عشر صلوات، وحُطت عنه عشر خطيئات، ورُفعت له عشر درجات.
3) أنها سببٌ لنيل شفاعة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من صلى عليَّ أو سأل ليَ الوسيلة حقت عليه شفا عتي يوم القيامة.
4) أنها سبب لكفاية العبد هم الدنيا وهم الآخرة.
(حديث أبي بن كعب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قال: قلت يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي فقال ما شئت قال قلت الربع قال ما شئت فإن زدت فهو خير لك قلت النصف قال ما شئت فإن زدت فهو خير لك قال قلت فالثلثين قال ما شئت فإن زدت فهو خير لك قلت أجعل لك صلاتي كلها قال إذا تُكْفَى هَمُك ويغفر لك ذنبك.
{تنبيه}: ( ... المقصود بالصلاة هنا الدعاء.
[*] قال المنذري: قوله: «فكم أجعل لك من صلاتي» معناه: إني أكثر الدعاء، فكم أجعل لك من دعائي صلاة عليك؟ [الترغيب والترهيب جـ2 ص389]
[*] وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي: قوله: «أجعل لك صلاتي كلها» أي أصرف بصلاتي عليك جميع الذي كنت أدعو به لنفسي. وقوله: «إذًا تُكفى همك» يعني إذا صرفت جميع أزمان دعائك في الصلاة عليَّ أُعطيت خَيْريْ الدنيا والآخرة [تحفة الأحوذي جـ7 ص129، 130]
(5) أنها سبب لغفران الذنوب:(7/218)
(حديث أبي بن كعب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قال: قلت يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي فقال ما شئت قال قلت الربع قال ما شئت فإن زدت فهو خير لك قلت النصف قال ما شئت فإن زدت فهو خير لك قال قلت فالثلثين قال ما شئت فإن زدت فهو خير لك قلت أجعل لك صلاتي كلها قال إذا تكفى همك ويغفر لك ذنبك.
6) أنها ترمي بصاحبها على طريق الجنة.
(حديث ابن عباس في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من نسيَ الصلاة عليَّ خطئ طريق الجنة.
{تنبيه}: (المقصود بالنسيان هنا هو الترك كقوله تعالى: (قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَىَ) (طه – 126)، وليس المقصود بالنسيان هنا الذهول لأن الإنسان لا يؤاخذ بالنسيان.
7) أنها تنفي عن العبد اسم (البخيل) إذا صلى عليه عند ذكره:
(حديث علي في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: البخيلُ الذي من ذكرت عنده فلم يصلي عليّ.
8) أخبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن من لم يصلي عليه فقد خاب وخسر وألصقت أنفه بالتراب، وما ذلك إلا لفوات الأجر والفضل.
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي و رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له و رغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة.
9) أنه يرجى إجابة دعائه إذا قدمها بين يدي الدعاء:
(حديث عمر في صحيح الترمذي موقوفاً) قال: إن الدعاء موقوفٌ بين السماء والأرض حتى تصلي على نبيك - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(حديث فضالة بن عُبيد الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا يدعو في صلاته لم يمجد الله تعالى ولم يصل على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عجَّل هذا ثم دعاه فقال له أو لغيره إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله عز وجل وعز والثناء عليه ثم يصلي على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يدعو بعد بما شاء.
(حديث ابن مسعود الثابت في صحيح الترمذي) قال كنت أصلي و النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وعمر معه، فلما جلست بدأت بالثناء على الله ثم الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم دعوت لنفسي فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سل تُعطه سل تُعطه.(7/219)
(حديث عمر الثابت في صحيح الترمذي موقوفا) قال: إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(10) أنها سبب لقرب العبد منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم القيامة:
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة.
(11) أنها سبب لعرض اسم المصلي عليه وذكره عنده:
(حديث أوس بن أوس رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أكثرُوا علي من الصلاةِ يومَ الجمعةِ, فإنَّ صلاتَكم معروضةٌ عليَّ. قالوا كيف تعرض عليك وقد أرمت؟ قال إن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن لله تعالى ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام.
(وكفى بالعبد نبلاً أن يذكر اسمه بالخير بين يدي رسول الله.
(12) أنها سبب لرد النبي الصلاة والسلام على المصلي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما مِنْ أحَدٍ يُسلِّمُ عليَّ, إلا رَدَّ الله عليَّ رُوحي حتَّى أرُدّ عليهِ السَّلامَ.
(13) أنها سبب لطيب المجلس، وأن لا يعود حسرة على أهله يوم القيامة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما جلس قومٌ مجلسا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترةٌ فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم.
ترةٌ: حسرة وندامة
(معنى الصلاة والسلام على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيما) ً [الأحزاب:56]
[*] قال ابن كثير رحمه الله: المقصود من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى بأنه تصلي عليه الملائكة ثم أمر الله تعالى العالم السفلي بالصلاة والسلام عليه، ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعاً) أ. هـ.(7/220)
[*] قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في جلاء الأفهام: (والمعنى أنه إذا كان الله وملائكته يصلون على رسوله فصلوا عليه أنتم أيضاً صلوا عليه وسلموا تسليماً لما نالكم ببركة رسالته ويمن سفارته، من خير شرف الدنيا والآخرة) أ. هـ.
(وقال أيضاً: «معنى صلاة اللَّه على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: الثناء على الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والعناية به، وإظهار شرفه، وفضله وحرمته، وصلاتنا على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: تعني أننا نطلب من اللَّه الزيادة في ثنائه على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإظهار فضله وشرفه وتكريمه وتقريبه له [جلاء الأفهام ص261، 262]
وقد ذُكر في معنى الصلاة على النبي أقوال كثيرة، والصواب ما قاله أبو العالية:
[*] قال أبو العالية: «صلاة اللَّه ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء –أي: أنَّ الملائكة تطلب من اللَّه الزيادة من ثنائه على النبي. أهـ
[*] وقال ابن عباس: «يصلون: يَُبِّركون» -أي: يدعون له بالبركة- البخاري -كتاب التفسير- باب 10.
[*] قال الحليمي: «معنى الصلاة على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: تعظيمه، فمعنى قولنا: اللهم صلِّ على محمدٍ: عظِّم محمدًا.
[*] قال ابن حجر: «المراد تعظيمه في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دينه، وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بإجزال مثوبته وتشفيعه في أمته، وإبداء فضيلته بالمقام المحمود.
(وقال أيضًا: «معنى صلاة اللَّه على نبيه: ثناؤه عليه وتعظيمه، وصلاة الملائكة وغيرهم: طلب ذلك له من اللَّه -تعالى-، والمراد طلب الزيادة، لا طلب أصل الصلاة [فتح الباري جـ11 ص16].
(حُكم الصلاة على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله عشرة أقوال في المسألة؛ فمن العلماء من قال: إنها سنة بإطلاق، ومنهم من قال: إنها واجبة بإطلاق، ومنهم من قال: إنها واجبة في الصلاة وسنة في غيرها، وهي أقوال كثيرة، ولكن الراجح بالنسبة لحكم الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة -والله تعالى أعلم- أنها ركن من أركان الصلاة، وهذا هو الراجح من مذهب الإمام أحمد رحمه الله؛ فهي كقراءة الفاتحة أو القيام أو الركوع وما أشبه ذلك.(7/221)
أما في غير الصلاة، فهي واجبة عند ذكره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يجوز أن تترك إلا إذا سها عنها الإنسان أو نسيها. أما مع التذكر فلا يجوز للإنسان أن يترك الصلاة عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولو تكرر ذكره في المجلس، وهذا جزء يسير من حقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أمته.
ومما يدل على وجوب الصلاة على النبي ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله عشرة أقوال في المسألة؛ فمن العلماء من قال: إنها سنة بإطلاق، ومنهم من قال: إنها واجبة بإطلاق، ومنهم من قال: إنها واجبة في الصلاة وسنة في غيرها، وهي أقوال كثيرة، ولكن الراجح بالنسبة لحكم الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة -والله تعالى أعلم- أنها ركن من أركان الصلاة، وهذا هو الراجح من مذهب الإمام أحمد رحمه الله؛ فهي كقراءة الفاتحة أو القيام أو الركوع وما أشبه ذلك.
أما في غير الصلاة، فهي واجبة عند ذكره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يجوز أن تترك إلا إذا سها عنها الإنسان أو نسيها. أما مع التذكر فلا يجوز للإنسان أن يترك الصلاة عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولو تكرر ذكره في المجلس، وهذا جزء يسير من حقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أمته.
(ومما يدل على وجوب الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خارج الصلاة الأدلة الآتية:
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي و رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له و رغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة.
رغم أنف: يعني لصق بالتراب ذلاً وهوانًا.
(حديث علي في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: البخيلُ الذي من ذكرت عنده فلم يصلي عليّ.
(حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أتاني جبريل فقال: يا محمد! من أدرك أحد والديه فمات فدخل النار فأبعده الله قل: آمين فقلت: آمين قال: يا محمد من أدرك شهر رمضان فمات فلم يغفر له فأدخل النار فأبعده الله قل: آمين فقلت: آمين قال: و من ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات فدخل النار فأبعده الله قل: آمين فقلت: آمين.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما جلس قومٌ مجلسا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترةٌ فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم.
ترةٌ: حسرة وندامة(7/222)
(حديث ابن عباس في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ك من نسيَ الصلاة عليَّ خطئ طريق الجنة.
(معنى التسليم على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
السلام: هو السلامة من النقائص والآفات فإن ضم السلام إلى الصلاة حصل بها المطلوب وزال به المرهوب فبالسلام يزول المرهوب وتنتفي النقائص وبالصلاة يحصل المطلوب وتثبت الكمالات - قاله الشيخ محمد بن عثيمين.
والسلام معناه طلب السلامة من الآفات، فهذه الصيغة فيها سؤال الله تعالى أن يحقق الخيرات لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالثناء عليه في الملأ الأعلى وإزالة الآفات والسلامة منها.
مسألة: لماذا خُصَّ المؤمنون بالسلام دون اللَّه والملائكة؟
الجواب: لأن السلام هو تسليم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مما يؤذيه، فلما جاءت هذه الآية عقيب ذِكْر ما يؤذي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيم} [الأحزاب:53]، والأذية إنما هي من البشر، فناسب التخصيص بهم والتأكيد، وإليه الإشارة بما ذكره بعده». [الفتوحات الإلهية للعجيلي جـ3 ص454.
[*] (المواطن التي يستحب فيها الصلاة والسلام على النبي ويرغب فيها:
(1) قبل الدعاء:
(حديث فضالة بن عُبيد الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا يدعو في صلاته لم يمجد الله تعالى ولم يصل على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عجَّل هذا ثم دعاه فقال له أو لغيره إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله عز وجل وعز والثناء عليه ثم يصلي على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يدعو بعد بما شاء.
(حديث ابن مسعود الثابت في صحيح الترمذي) قال كنت أصلي و النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وعمر معه، فلما جلست بدأت بالثناء على الله ثم الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم دعوت لنفسي فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سل تُعطه سل تُعطه.
(حديث عمر الثابت في صحيح الترمذي موقوفا) قال: إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[*] وقال ابن عطاء: للدعاء أركان وأجنحة وأسباب وأوقات. فإن وافق أركانه قوي، وإن وافق أجنحته طار في السماء، وإن وافق مواقيته فاز، وإن وافق أسبابه نجح.(7/223)
فأركانه: حضور القلب والرقة والاستكانة والخشوع وتعلق القلب بالله وقطعهالأسباب، وأجنحته الصدق، ومواقيته الأسحار، وأسبابه الصلاة على النبي)
(2) بعد ترديد الأذان:
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله و أرجوا أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة.
(3) عند ذكره وسماع اسمه أو كتابته:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: رَغِمَ أنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلّ عَلَيّ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ. وَرَغِم أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الكِبَرَ فَلمْ يُدْخِلاَهُ الْجَنّةَ)
(4) الإكثار من الصلاة عليه يوم الجمعة:
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أكثروا الصلاة عليَّ يوم الجمعة وليلةَ الجمعة, فمنْ صلَّى عليَّ صلاة صلَّى الله عليه عشراً.
(حديث أوس بن أوس رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أكثرُوا علي من الصلاةِ يومَ الجمعةِ, فإنَّ صلاتَكم معروضةٌ عليَّ. قالوا كيف تعرض عليك وقد أرمت؟ قال إن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء.
[*] قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في زاد المعاد: ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سيد الأنام ويوم الجمعة سيد الأيام فللصلاة عليه في هذا اليوم مزية ليست لغيره مع حكمة أخرى وهي أن كل خير نالته أمته في الدنيا والآخرة فإنما نالته على يده فجمع الله لأمته به بين خيري الدنيا والآخرة فأعظم كرامة تحصل لهم فإنما تحصل يوم الجمعة فإن فيه بعثهم إلى منازلهم وقصورهم في الجنة وهو يوم المزيد له إذا دخلوا الجنة وهو يوم عيد لهم في الدنيا ويوم فيه يسعفهم الله تعالى بطلباتهم وحوائجهم ولا يرد سائلهم وهذا كله إنما عرفوه وحصل لهم بسببه وعلى يده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمن شكره وحمده وأداء القليل من حقه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نكثر من الصلاة عليه في هذا اليوم وليلته. ا هـ. (1)
__________
(1) زاد المعاد (1/ 283).(7/224)
(5) الصلاة على النبي في الرسائل وما يكتب بعد البسملة:
قال القاضي عياض: (ومن مواطن الصلاة التي مضى عليها عمل الأمة ولم تنكرها: ولم يكن في الصدر الأول، وأحدث عند ولاية بني هاشم - الدولة العباسية - فمضى عمل الناس في أقطار الأرض. ومنهم من يختم به أيضاً الكتب)
(6) عند دخول المسجد وعند الخروج منه:
(حديث فاطمة بنت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) قالت كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دخل المسجد يقول بسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج قال بسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك.
(7) في الصباح والمساء:
(حديث أبي الدر داء في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من صلى عليَّ حين يصبح عشراً وحين يمسي عشراً أدركته شفاعتي يوم القيامة.
(8) بعد التشهد الأخير في الصلاة:
(حديث فضالة بن عُبيد الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا يدعو في صلاته لم يمجد الله تعالى ولم يصل على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عجَّل هذا ثم دعاه فقال له أو لغيره إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله عز وجل وعز والثناء عليه ثم يصلي على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يدعو بعد بما شاء.
(حديث ابن مسعود الثابت في صحيح الترمذي) قال كنت أصلي و النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وعمر معه، فلما جلست بدأت بالثناء على الله ثم الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم دعوت لنفسي فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سل تُعطه سل تُعطه.
(9) عند ختام المجلس.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما جلس قومٌ مجلسا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترةٌ فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم.
ترةٌ: حسرة وندامة
(صفة الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(حديث كعب بن عُجرة الثابت في الصحيحين) قال: قلت يا رسول الله كيف الصلاة عليكم أهل البيت فإن الله قد علمنا كيف نسلم عليكم؟ قال: قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم و على آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.(7/225)
(أبي حميد الساعدي الثابت في الصحيحين) قال: قالوا: يا رسول اللَّه، كيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزوجه وذريته كما باركت على إبراهيم، إنك حميد مجيد.
(التحذير من ترك الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمدًا:
عدَّ بعض العلماء ترك الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمدًا عند سماع ذكره من الكبائر:
[*] قال الإمام ابن حجر في كتاب الزواجر عن اقتراف الكبائر:
الكبيرة الستون ترك الصلاة على النبي عند سماع ذكره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أهـ
(إن من ترك الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع حرمانه من الخيرات الكثيرة، فإنه تصيبه أوصاف تذم فعله وتصفه بصفات لا يتمناها المسلم لنفسه، منها ما يلي:
(1) الدعاء عليه برغم الأنف:
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي و رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له و رغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة.
رغم أنف: يعني لصق بالتراب ذلاً وهوانًا.
{تنبيه}: ( ... إن المسلم حين يعلم أن الحديث جمع بين العاق لوالديه عند الكبر، وبين من أدرك رمضان فلم يغفر له، وبين من ذكر عنده النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فلم يصل عليه، يدرك مدى العقوبة التي تنتظر هذا الذي لا يصلي على النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إذا ذكر اسمه.
(2) وصفه بالبخل:
(حديث علي في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: البخيلُ الذي من ذكرت عنده فلم يصلي عليّ.
(3) وصفه بالبعد:
(حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أتاني جبريل فقال: يا محمد! من أدرك أحد والديه فمات فدخل النار فأبعده الله قل: آمين فقلت: آمين قال: يا محمد من أدرك شهر رمضان فمات فلم يغفر له فأدخل النار فأبعده الله قل: آمين فقلت: آمين قال: و من ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات فدخل النار فأبعده الله قل: آمين فقلت: آمين.
(4) يخطئ طريق الجنة:
(حديث ابن عباس في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ك من نسيَ الصلاة عليَّ خطئ طريق الجنة.
(5) أن من جلس في مجلس فلم يذكروا الله ولم يصلوا على رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كان هذا المجلس عليهم حسرة يوم القيامة:(7/226)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما جلس قومٌ مجلسا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترةٌ فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم.
ترةٌ: حسرة وندامة
مسألة: ما هو حكم كتابة اسم الرسول الكريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدون الصلاة أو السلام عليه؟
هذا من الجفاء والتقصير في حق النبي المصطفى والرسول المجتبى عليه الصلاة والسلام.
بل كره العلماء إفراد السلام عليه دون الصلاة، بأن يقول: "عليه السلام".
كما كرهوا كتابة الصلاة عليه مختصرة كـ: (ص) أو (صلعم) ونحوها.
[*] قال السيوطي رحمه الله تعالى: وينبغي أن يحافظ على كتابة الصلاة والتسليم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يسأم من تكراره، ومن أغفله حُرم حظاً عظيماً. أ. هـ.
[*] وقال السخاوي رحمه الله تعالى: قال حمزة الكناني: كنت أكتب الحديث فكنت أكتب عند ذكر النبي ولا أكتب وسلم، فرأيت النبي في المنام فقال: "مالك لا تتم الصلاة عليّ؟ " فما كتبت بعد صلى الله عليه إلا كتبت: "وسلم".أ. هـ.
[*] وقال أيضاً: صرَّح ابن الصلاح بكراهة الاقتصار على: "عليه السلام" فقط. أ. هـ.
[*] نقل الإمام البيهقي في شُعبِ الإيمان عن الحَلِيمي أنه قال:
معلوم أن حقوقَ رسولِ الله صلى الله عليه أجلُّ وأعظمُ وأكرمُ وألزمُ لنا، وأوجب علينا من حقوقِ الساداتِ على مماليكهم، والآباءِ على أولادِهم؛ لأن الله تعالى أنقذنا به من النار في الآخرة، وعصمَ به لنا أرواحَنا وأبدانَنا وأعراضَنا وأموالَنا وأهلينا وأولادَنا في العاجلة وهدانا به، كما إذا أطعناه أدّانا إلى جنات النعيم، فأية نعمةٍ توازي هذه النعم؟ وأيّةُ مِنّةٍ تُداني هذه المِنن؟
ثم إنه جل ثناؤه ألزمنا طاعتَه، وتَوعّدنا على معصيته بالنار، ووعدنا بأتِّباعه الجنة.
فأيُّ رُتْبَةٍ تضاهي هذه الرتبة؟
وأيّةُ درجةٍ تساوي في العُلى هذه الدرجة؟
فَحَقٌّ علينا إذاً أن نحبَّه ونجلَّه ونعظِّمَه ونهيبه أكثر من إجلال كلِّ عبدٍ سيدَه، وكلِّ وَلَدٍ والدَه، وبمثل هذا نطق الكتاب، ووردت أوامر الله جل ثناؤه، قال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:156]، فأخبر أن الفلاحَ إنما يكون لمن جمع إلى الإيمان به تعزيرَه، ولا خلاف في أن التعزير ههنا التعظيم،(7/227)
وقال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح:9]
فَأبَانَ أن حقَّ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمته أن يكونَ معزراً موقّراً مَهيباً، ولا يُعامل بالاسترسال والمباسطة كما يُعامِل الأكْفَاء بعضُهم بعضاً، قال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً} [النور:63]
فقيل في معناه: لا تجعلوا دعائه إياكم كدعاءِ بعضِكم بعضاً فتؤخِّروا إجابته بالأعذار والعلل التي يؤخِّرُ بها بعضُكم إجابة بعض، ولكن عَظِّموه بسرعةِ الإجابة، ومعاجلةِ الطاعة، ولم تُجعل الصلاة لهم عذراً في التخلف عن الإجابة إذا دعا أحدَهم وهو يصلي، إعلاماً لهم بأن الصلاة إذا لم تكن عذراً يُستباح به تأخير الإجابة، فما دونها من معاني الأعذار أبعد. انتهى كلامه رحمه الله.
ومِنْ جَعْلِ دعاء الرسول كدعاء بعضنا بعضاً أن يُذكر اسمه كما يُذكر اسم غيره دون صلاة ولا تسليم.
وهذا لازم من لوازم محبته.
وترك الصلاة على رسول الله عليه الصلاة والسلام عند ذِكره علامة على البخل (حديث علي في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: البخيلُ الذي من ذكرت عنده فلم يصلي عليّ.
ومن ذُكر عنده النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو ذَكّرّه هو فلم يُصلِّ عليه فهذا علامة حِرمان، لقوله عليه الصلاة والسلام: "من نسي الصلاة عليّ خطئ طريق الجنة"
(حديث ابن عباس في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ك من نسيَ الصلاة عليَّ خطئ طريق الجنة.
فعلى أهل العلم أن يكونوا أسوة وقدوة، وأن يُعظّموا نبي الله، وقد تقدم قوله تبارك وتعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، وتقدم قول الحليمي: فأخبر أن الفلاحَ إنما يكون لمن جمع إلى الإيمان به تعزيره، ولا خلاف في أن التعزير ههنا التعظيم. أ. هـ.
(حُكم جهر المؤذن بالصلاة على النبي بعد الأذان:(7/228)
إن جهر كثير من المؤذنين بالصلاة على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عقب الأذان بدعة لم يفعلها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والمؤذنون في عهده، ولم يفعلها الصحابة والخلفاء الراشدون والتابعون مع عِلْمهم بفضل الصلاة على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وحرصهم على الطاعات، ولو كان ذلك خيرًا لسبقونا إليه، ومن المعلوم أن ألفاظ الأذان عبادة مبنية على التوقيف، لا يجوز الزيادة فيها ولا النقصان.
(حديث عائشة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد.
(حديث عائشة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد.
[*] قال الإمام مالك بن أنس:
«من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أن محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خان الرسالة؛ لأن اللَّه -تعالى- يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِين} [المائدة:3]، فما لم يكن يومئذ دينًا، فلا يكون اليوم دينًا [الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم جـ6 ص225]
حكم الصلاة على غير نبينا محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
سوف نتناول الحديث عن هذه المسألة من عِدة وجوه بإيجاز شديد:
أولاً: الصلاة على الأنبياء والمرسلين: قال ابن القيم: «سائر الأنبياء والمرسلين يُصلى عليهم ويُسلَّم». [جلاء الأفهام ص627]
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: صلوا على أنبياء اللَّه ورسله فإن اللَّه بعثهم كما بعثني.
ثانيًا: الصلاة على آل نبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جميعًا بمعنى أن نقول: اللهم صلِّ على آل محمد. قال ابن القيم: «آل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصلي عليهم بلا خلاف بين الأمة». [جلاء الأفهام ص636]
ثالثًا: هل يُصلى على آل نبينا محمد منفردين؟ بمعنى أن يفرد واحد منهم بالذكر، فيُقال: اللهم صلِّ على علي، أو اللهم صلِّ على الحسن أو الحسين أو فاطمة ونحو ذلك، وهل يُصلى على أحد من الصحابة ومَنْ بَعْدهم؟
[*] قال الإمام النووي -رحمه اللَّه- عند الإجابة عن هذين السؤالين: «الصحيح، الذي عليه الأكثرون أنه مكروه كراهة تنزيه، لأنه شعار أهل البدع، وقد نُهينا عن شعارهم [الأذكار للنووي ص159](7/229)
[*] قال ابن القيم: «إن الرافضة إذا ذكروا أئمتهم يصلون عليهم بأسمائهم، ولا يصلون على غيرهم ممن هو خير منهم وأحب إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فينبغي أن يُخالفوا في هذا الشعار [جلاء الأفهام ص640]
فائدة هامة: قال الإمام النووي: «اتفق العلماء على جواز جَعْل غير الأنبياء تبعًا لهم في الصلاة، فيُقال: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد وأصحابه وأزواجه وذريته وأتباعه، للأحاديث الصحيحة في ذلك، وقد أُمرنا به في التشهد، ولم يزل السلف عليه خارج الصلاة أيضًا [الأذكار للنووي ص160]
(الكنز العاشر: لا حول ولا قوة إلا بالله:
(معنى لا حول ولا قوة إلا بالله:
معناها: لا تَحَوُّلُ للعبد من حال إلى حال ولا قوة له على ذلك إلا بمعونة الله وتوفيقه، لا يستطيع أن يتحول من المرض إلى الصحة، ومن البلية إلى العافية، ومن الضعف إلى القوة، ومن الضلال إلى الهداية إلا بمعونة الله وتوفيقه، لولا معونة الله لما استطاع الإنسان أن يتحول من حال إلى حال إلا بالله، من الشدة إلى الرخاء، من الضعف إلى القوة، من المعصية إلى الطاعة، من الضلال إلى الهداية، من المرض إلى الصحة، من الفقر إلى الغنى، من الترك إلى الفعل .. وهكذا.
[*] قال ابن رجب رحمه الله:
المعنى: لا تحوّل للعبد من حال إلى حال، ولا قوة له على ذلك إلاّ بالله، وهذه كلمة عظيمة وهي كنز من كنوز الجنّة.
[*] وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: إنّ العالم العلوي والسفلي له تَحَوُّل من حال إلى حال، وذلك التَحَوُّل لا يقع إلا بقوة يقع بها التحول، فذلك الحول وتلك القوة قائمة بالله وحده، وليست بالتحويل، فيدْخل في هذا كلّ حركة في العالم العلوي والسفلي، وكلّ قوة على تلك الحركة كحركة النبات، وحركة الطبيعة، وحركة الحيوان، وحركة الفلك، وحركة النفس والقلب، والقوة على هذه الحركات التي هي حول، فلا حول ولا قوة إلاّ بالله.
(لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ملجأ كل هارب ومأوى كل خائف.
(لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم نقي بها أنفسنا وديننا وأهلنا ومالنا
(لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ننجو بها من إبليس وخيله ورجله وشياطينه ومردته وأعوانه وجميع الإنس والجن وسرورهم.
(لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم نمتنع بها من ظلم من أراد ظلمنا من جميع خلق الله.
(لا حول ولا قوة إلا بالله نكف بها عدوان من اعتدى علينا من جميع خلق الله.(7/230)
(لا حول ولا قوة إلا بالله نتعس بها جهد من بغى علينا من جميع خلق الله.
(لا حول ولا قوة إلا بالله نضعف بها كيد من كادنا من جميع خلق الله.
(لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم نزيل بها مكر من مكر بنا من جميع خلق الله.
(لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم نبطل بها سعي من سعى علينا من جميع خلق الله.
(لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم نذل بها من تعزز علينا من جميع خلق الله.
(لا حول ولا قوة إلا بالله نهين بها من أهاننا من جميع خلق الله.
(لا حول ولا قوة إلا بالله نقصم بها ظالمنا من جميع خلق الله.
(لا حول ولا قوة إلا بالله نستدفع بها شر من أرادنا بشر من جميع خلق الله
(لا حول ولا قوة إلا بالله استغاثة بعزة الله لا حول ولا قوة إلا بالله استغاثة بقوة الله
لا حول ولا قوة إلا بالله استجارة بقدرة الله.
لا حول ولا قوة إلا بالله نحصن بها روحنا وأعضائنا وشعرنا وبشرنا.
لا حول ولا قوة إلا بالله نستعين بها على محيانا ومماتنا وعند نزول ملك الموت بنا ومعالجة سكراته وغمراته.
(فضل كلمة لا حول ولا قوة إلا بالله:
(1) لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة بنص السنة الصحيحة:
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ألا أدلك على كلمة هي كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله.
(حديث حازم بن حرملة الأسلمي رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) قال: مررت بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لي: يا حازم! أكْثر منْ قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنّها من كنوز الجنّة.
معنى كنز من كنوز: سمي هذه الكلمة كنزاً لنفاستها وصيانتها، ولا حول ولا قوة إلا بالله من ذخائر الجنة ومحصلات نفائسها ويحصل لقائله ثواباً نفيساً يدخر له في الجنة.
[*] قال النووي رحمه الله تعالى: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة" قال العلماء: سبب ذلك أنها كلمة استسلام وتفويض إلى الله تعالى واعتراف بالإذعان له وأنه لا صانع غيره ولا راد لأمره وأن العبد لا يملك شيئاً من الأمر.
(ومعنى الكنز هنا: أنه ثواب مدخر في الجنة وهو ثواب نفيس كما أن الكنز النفيس أموالكم. ويدل لذلك الحديث الآتي:
(حديث سعد بن عبادة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ألا أدلك على باب من أبواب الجنة؟ " قلت: بلى قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله.(7/231)
[*] قال ابن القيّم رحمه الله: لمّا كان الكنز هو المال النفيس المجتمع الذي
يخفى على أكثر النّاس، وكان هذا شأن هذه الكلمة، كانت كنزاً من كنوز الجنة، فأوتيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كنز تحت العرش، وكان قائلها أسلم واستسلم لمن أزمّة الأمور بيديه، وفوّض أمره إليه.
(وقال: إنّ العالم العلوي والسفلي له تحول من حال إلى حال، وذلك التحول لا يقع إلا بقوة يقع بها التحول، فذلك الحول وتلك القوة قائمة بالله وحده، وليست بالتحويل، فيدْخل في هذا كلّ حركة في العالم العلوي والسفلي، وكلّ قوة على تلك الحركة كحركة النبات، وحركة الطبيعة، وحركة الحيوان، وحركة الفلك، وحركة النفس والقلب، والقوة على هذه الحركات التي هي حول، فلا حول ولا قوة إلاّ بالله.
(وقال: هذه الكلمة لها تأثير عجيب في معاناة الأشغال الصعبة، وتحمّل المشاق، والدخول على الملوك ومن يُخاف، وركوب الأهوال.
(وبيّن رحمه الله في زاد المعاد: أنّ لهذه الكلمة تأثيراً قوياً في دفع داء
الهم والغم والحزن. قال: لما فيها من كمال التفويض والتبري من الحول والقوة
إلاّ به، وتسليم الأمر كلّه له، وعدم منازعته في شيء منه، وعموم ذلك لكل
تحول من حال إلى حال في العالم العلوي والسفلي والقوة على ذلك التحول، وأنّ ذلك بالله وحده، فلا يقوم لهذه الكلمة شيء.
قال: ولها تأثير عجيب في طرد الشيطان.
[*] وقال شيخ الإسلام رحمه الله: هذه الكلمة بها تحمل الأثقال، وتكابد الأهوال،
وينال رفيع الأحوال.
(وقال: هذه الكلمة كلمة استعانة، لا كلمة اسْترجاع، وكثير من النّاس يقولها عند المصائب بمنزلة الاسترجاع، ويقولها جزعاً لا صبرا ً.
[*] قال النووي رحمه الله: ((قال العلماء: سبب ذلك أنّها كلمة اسْتسلام وتفويض إلى الله تعالى، واعْتراف بالإذعان له، وأنّه لا صانع غيره، ولا رادّ لأمره، وأنّ العبد لا يملك شيئاً من الأمر، ومعنى الكنز هنا: أنّه ثواب مدّخر في الجنّة، وهو ثواب نفيس، كما أنّ الكنز أنفس أموالكم.
(2) تكون سبب في قبول الدعاء:
((حديث عبادة بن الصامت الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من تعارَّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير، سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر و لا حول و لا قوة إلا بالله ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا استجيب له، فإن توضأ و صلى قُبلت صلاته.(7/232)
معنى تعارَّ: أي استيقظ
(3) تكون سبباً في هداية العبد وكفايته ووقايته من الشيطان:
(حديث أنس في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله توكلت على الله لا حول و لا قوة إلا بالله فيقال له: حسبك قد هديت و كفيت و وقيت فيتنحى له الشيطان فيقول له شيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي و كفي و وقي؟.
(4) من مكفرات الذنوب:
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما على الأرض أحد يقول لا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله إلا كفرت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر.
{تنبيه}: (المراد بالذنوب المكفَّرة هنا أي: الصغائر للحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الصلوات الخمس و الجمعة إلى الجمعة و رمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر.
(فقيّد التكفير باجتناب الكبائر؛ لأنَّ الكبيرة لا يُكفِّرها إلا التوبة.
(الكنز الحادي عشر: الدعاء:
(تعريف الدعاء وحقيقته:
(تعريف الدعاء في اللغة: الدعاء لغة: الطلب والابتهال: يُقال: دعوتُ الله أدعوه دعاءً: ابتهلت إليه بالسؤال ورغبت فيما عنده من الخير (1) ودعا الله: طلب منه الخير ورجاه منه، ودعا لفلان: طلب الخير له، ودعا على فلان: طلب له الشر (2).
(تعريف الدعاء في الشرع: أما في الشرع فقد عرف بعدة تعريفات لعل أفضلها هو تعريف الإمام الضياء اللامع ابن القيم
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى: الدعاء هو طلب ما ينفع الداعي، وطلب كشف ما يضره أو دفعه.
وحقيقته: إظْهَارُ الافْتِقَارِ إلى الله تعالى، والتَّبرُؤ من الحول والقوة، وهو سِمَةُ العبودية، واسْتِشْعَارُ الذِّلْةِ البَشَرِيَّةِ، وفيه معنى الثَّنَاءُ على الله عزَّ وجلَّ، وإضافة الجُودِ والكَرَمِ إليه (3).
__________
(1) المصباح المنير 1/ 194.
(2) المعجم الوسيط1/ 268.
(3) أنظر شأن الدعاء، ص 4 0(7/233)
[*] وقال الشيخ علي الحذيفي: حقيقة الدعاءِ تَعْظِيمُ الرَّغْبَةِ إلى الله في قضاءِ الحاجاتِ الدُنْيِوِيَةِ والأخْرَوِيَةِ، وكَشْفِ الكُرُبَاتِ ودَفْعِِ الشُّرُورِ والمَكْرُوهَاتِ الدُّنيوية والأخْرَوِيَةِ (1).
فَضْلُ اَلْدُّعَاء وَبَيَانُ أنَّ اَلْدُّعَاء مِنْ أعْظَمِ أنْوَاعِ اَلْعِبَادَاتِ
? أنواع الدعاء:
[*] (كل دعاء ورد في الكتاب والسنة فإنه يتناول نوعين اثنين، ويندرج تحتهما، وهذان النوعان هما:
(1) دعاء المسألة.
(2) دعاء العبادة.
الأول: دعاء المسألة، وهو السؤال والطلب من الله تعالى، كأن تقول: رب اغفر لي واهدني، فهذا دعاء عبادة وطلب من الله عز وجل، وهذا واضح معروف.
الثاني: دعاء العبادة، فالصلاة دعاء، والصوم دعاء، والحج دعاء، وذلك لأن العبد الذي يتلبس بعبادة من هذه العبادات يفعل ذلك ولسان حاله: يا رب أنت أمرتني فاستجبت لك وأطعتك، وهاأنذا متلبس بهذه العبادة فاقبلها مني، وهذا فيه معنى التضرع والسؤال والدعاء، وأصل معنى الصلاة في اللغة هو الدعاء، فالثناء والعبادة المحضة من أفضل الدعاء، فاستحضار مثل هذه المعاني يقرّب العبد من ربه، ويجعل العبادة أكثر قرباً إلى مقاصدها التعبدية.
[*] قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: كل ما ورد في القرآن من الأمر بالدعاء، والنهي عن دعاء غير الله، والثناء على الداعين _ يتناول دعاء المسألة، ودعاء العبادة.
وهذه قاعدة نافعة؛ فإن أكثر الناس إنما يتبادر لهم من لفظ الدعاء والدعوة _ دعاء المسألة فقط، ولا يظنون دخول جميع العبادات في الدعاء.
وهذا خطأ جرهم إلى ما هو شر منه؛ فإن الآيات صريحة في شموله لدعاء المسألة، ودعاء العبادة.
تعريف دعاء المسألة: هو أن يطلب الداعي ما ينفعه، وما يكشف ضره.
أو هو ما تضمن مسألة، أو طلبًا، كأن يقول الداعي: أعطني، أكرمني، وهكذا ...
[*] (وهذا النوع على ثلاثة أضرب:
(1) سؤال الله ودعاؤه: كمن يقول: اللهم ارحمني واغفر لي، فهذا من العبادة لله.
(2) سؤال غير الله فيما لا يقدر عليه المسئول: كأن يطلب من ميت أو غائب أن يطعمه، أو يغيثه، أو أن يشفي مرضه، فهذا شرك أكبر.
__________
(1) من خطبة الجمعة في المسجد النبوي بالمدينة النبوية لفضيلة الشيخ: علي الحذيفي بتاريخ: 13 - 4 - 1424هـ وهي بعنوان: فضل الدعاء وآدابه، يمكن قراءتَها أو الاستماع إليها عبر موقع: www.alminbar.net(7/234)
(3) سؤال غير الله فيما يقدر عليه المسؤول: كأن يطلب من حيٍّ قادرٍ حاضرٍ أن يطعمه، أو يعينه فهذا جائز.
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد مضت السُّنَّةُ أن الحيَّ يطلب منه الدعاء كما يطلب منه سائر ما يقدر عليه.
وأما المخلوق الغائب والميت فلا يطلب منه شيء. (1)
ومن هذا قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام: (فَاسْتَغَاثَهُ الّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الّذِي مِنْ عَدُوّهِ) [القصص / 15]
(تعريف دعاء العبادة: أما دعاء العبادة فهو شامل لجميع القربات الظاهرة والباطنة؛ لأن المتعبد لله طالب وداعٍ بلسان مقاله ولسان حاله ربَّه قبولَ تلك العبادة، والإثابة عليها، فهو العبادة بمعناها الشامل.
(ولهذا لو سألت أي عابد مؤمن: ما قَصْدُك بصلاتك، وصيامك، وحجك، وأدائك لحقوق الله وحق الخلق؟ _ لكان قلب المؤمن ناطقًا قبل أن يجيبك لسانه: بأن قصدي من ذلك رضا ربي، ونيل ثوابه، والسلامة من عقابه؛ ولهذا كانت النية شرطًا لصحة الأعمال وقبولها وإثمارها الثمرة الطيبة في الدنيا والآخرة. (2)
ولهذا فَصَرْفُ دعاء العبادة لغير الله يعد شركًا أكبر؛ لأن من يدعو غير الله إنما يتقرب إليه حتى يجيب دعاءه، ويثيبه على فعله.
(وهكذا دعاء المسألة إلا فيما يوجه للمخلوق الحي، الحاضر، القادر؛ فليس من العبادة؛ لقصة موسى المذكورة في سورة القصص، وهي قوله_سبحانه: (فَاسْتَغَاثَهُ الّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الّذِي مِنْ عَدُوّهِ) [القصص / 15]
والأدلة في ذلك كثيرة.
(تلازم نوعي الدعاء: من خلال ما مضى يتبين لنا أن نوعي الدعاء متلازمان؛ ذلك أن الله _ عز وجل _ يُدعى لجلب النفع ودفع الضر دعاء المسألة، ويدعى خوفًا ورجاءً دعاء العبادة؛ فعلم أن النوعين متلازمان؛ فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة. (3)
(أمثلة لتلازمهما (4):
(1) قال تعالى: (وَقَالَ رَبّكُمْ ادْعُونِيَ أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر/ 60] أي أستجب طلبكم، وأتقبل عملكم.
__________
(1) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية تحقيق عبد القادر الأرناؤوط ص165.
* ... من تعليقات سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز.
(2) القواعد الحسان، ص155.
* من تعليقات سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز.
(3) انظر بدائع الفوائد، 3/ 3.
(4) انظر مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 10/ 237 _ 240 والقواعد الحسان، ص 155_157.(7/235)
ولهذا قال تعالى: (إِنّ الّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنّمَ دَاخِرِينَ) [غافر / 60]]، فسمى ذلك عبادة؛ وذلك لأن الداعي دعاء المسألة يطلب سؤله بلسان المقال، والعابد يطلب من ربه القبول والثواب، ومغفرة الذنوب بلسان الحال.
(2) قال تعالى: (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ) [الأعراف / 29
فَوَضْعُ كلمة الدِّين موضع كلمة العبادة_ وهو كثير في القرآن _ يدل على أن الدعاء هو لب الدين، وروح العبادة.
ومعنى الآية هنا: أخلصوا له إذا طلبتم حوائجكم، وأخلصوا له أعمال البر والطاعة.
(3) قال تعالى: (وَإِذَا مَسّ الإِنسَانَ الضّرّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً) [يونس / 12]
يدخل في قوله: دعانا (دعاءُ المسألة)؛ فإنه لا يزال مُلِحًّا بلسانه، سائلاً دفع ضرورته.
ويدخل في (دعاء العبادة)؛ فإن قلبه في هذه الحال يكون راجيًا طامعًا، منقطعًا عن غير الله، عالمًا أنه لا يكشف ما به من سوء إلا الله، وهذا دعاء عبادة.
(4) قال تعالى: (ادْعُواْ رَبّكُمْ تَضَرّعاً وَخُفْيَةً) [الأعراف / 55]
فقوله تعالى ادعوا يدخل فيه الأمران؛ فكما أن من كمال دعاء الطلب كثرةَ التضرع، والإلحاح، وإظهار الفقر والمسكنة، وإخفاء ذلك، وإخلاصه _ فكذلك دعاء العبادة؛ فإن العبادة لا تتم، ولا تكمل إلا بالمداومة عليها، ومقارنة الخشوع، والخضوع، وإخفائها، وإخلاصها لله _ تعالى _.
(5) قال تعالى: (فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلََهاً آخَرَ) [الشعراء / 213]
وقوله تعالى: (وَمَن يَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ) [المؤمنون / 117] وقوله تعالى (فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللّهِ أَحَداً) [الجن / 18]
يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة؛ فكما أن من طلب من غير الله حاجة لا يقدر عليها إلا الله فهو مشرك كافر _ فكذلك من عبد مع الله غيره فهو مشرك كافر.
(6) وقوله تعالى قال تعالى: (وَللّهِ الأسْمَآءُ الْحُسْنَىَ فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف /180] يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة.
أما دعاء المسألة فإنه يسأل الله تعالى في كل مطلوب باسم يناسب ذلك المطلوب ويقتضيه، فمن سأل رحمة الله ومغفرته دعاه باسم الغفور الرحيم، ومن سأل الرزق سأله باسم الرزاق، وهكذا ...(7/236)
أما دعاء العبادة فهو التعبد لله _ تعالى _ بأسمائه الحسنى، فيفهم أولاً معنى ذلك الاسم الكريم، ثم يديم استحضاره بقلبه حتى يمتلئ قلبه منه؛ فالأسماء الدالة على العظمة والكبرياء تلأ القلب تعظيمًا وإجلالاً لله _ تعالى _.
والأسماء الدالة على الرحمة، والفضل، والإحسان تملأ القلب طمعًا في فضل الله، ورجاء رَوْحِه ورحمته.
والأسماء الدالة على الود، والحب، والكمال تملأ القلب محبة، وَوُدًّا، وتألُّهًا، وإنابة إلى الله _ تعالى _.
والأسماء الدالة على سعة علمه، ولطيف خُبره _ توجب مراقبة الله، والحياء منه، وهكذا ...
وهذه الأحوال التي تتصف بها القلوب هي أكمل الأحوال، وأجل الأوصاف، ولا يزال العبد يجاهد نفسه عليها حتى تنجذب نفسه وروحه بدواعيه منقادة راغبة، وبهذه الأعمال القلبية تكمل الأعمال البدنية.
[*] (حاجة الناس إلى الدعاء:
[*] (إن من المعلوم شرعاً أن الناس في أمس الحاجة إلى الدعاء لأنهم مفتقرون إلى الله تعالى في جلب مصالحهم ودفع مضارهم، في أمور دينهم ودنياهم، قال تعالى: {يا أيها النَّاسُ أنتُمُ الفُقراءُ إلى اللهِ واللهُ هوَ الغنيُّ الحَميدُ} [فاطر /15]
ومما يوضح ذلك ويبينه الحديث الآتي:
(حديث أبي ذرٍ في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي و جعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل و النهار و أنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني و لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله و من وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه.(7/237)
(فلا يوجد مؤمن إلا ويعلم أن النافع الضار هو الله سبحانه، وأنه تعالى يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، ويرزق من يشاء بغير حساب، وأن خزائن كل شيء بيده، وأنه تعالى لو أراد نفع عبد فلن يضره أحد ولو تمالأ أهل الأرض كلهم عليه، وأنه لو أراد الضر بعبد لما نفعه أهل الأرض ولو كانوا معه. لا يوجد مؤمن إلا وهو يؤمن بهذا كله؛ لأن من شك في شيء من ذلك فليس بمؤمن، قال الله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}
[يونس: 107].
فلا ينفع ولا يضر إلا الله تعالى {إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53]
{وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 67] سقطت كل الآلهة، وتلاشت كل المعبودات وما بقي إلا الله تعالى {ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 67] {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً} [الفتح:11]
لا يسمع دعاء الغريق في لجة البحر إلا الله. ولا يسمع تضرع الساجد في خلوته إلا. ولا يسمع نجوى الموتور المظلوم وعبرته تتردد في صدره، وصوته يتحشرج في جوفه إلا الله. ولا يرى عبرة الخاشع في زاويته والليل قد أسدل ستاره إلا الله {وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى {7} اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى} [طه:8]
(وهذا يقتضي أن جميع الخلق مفتقرون إلى الله تعالى في جلب مصالحهم ودفع مضارهم في أمور دينهم ودنياهم،
قال تعالى: (يَأَيّهَا النّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ) [فاطر / 15]
فالعباد لا يملكون لأنفسهم شيئاً من ذلك كله، وأن من لم يتفضل الله عليه بالهدى والرزق، فإنه يحرمها في الدنيا، ومن لم يتفضل الله عليه بمغفرة ذنوبه أوْبَقَتْه خطاياه في الآخرة (1).
__________
(1) جامع العلوم والحكم لابن رجب رحمه الله 2/ 37.(7/238)
فجميعُ الخلق مفتقرون إلى الله، مفتقرون إلى الله في كل شؤونِهم وأحوالِهم، وفي كلِ كبيرةٍ وصغيره، وفي هذا العصرُ تعلقَ الناسُ بالناسِ، وشكا الناسُ إلى الناس، ولا بئسَ أن يُستعانُ بالناس في ما يقدرون عليه، لكن أن يكونَ المُعتمَدُ عليهم، والسؤال إليهم، والتعلقُ بهم فهذا هو الهلاكُ بعينه، فإن من تعلق بشيٍ وكلَ إليه.
(والإنسان لا يستغني عن ربه طرفة عين ولا أقل من ذلك، ولهذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يردد كثيرا: " لا تكلني إلى نفسي طرفة عين.
(حديث أبي بكرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين و أصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت.
فقيراً جئتُ بابك يا إلهي ......... ولستُ إلى عبادك بالفقيرِ
غنياً عنهمُ بيقينِ قلبي ........... وأطمعُ منك في لفضلِ الكبيرِ
الهي ما سألتُ سواك عونا ...... فحسبي العونُ من ربٍ قديرِ
الهي ما سألتُ سواك عفوا ..... فحسبي العفوُ من ربٍ غفورِ
الهي ما سألتُ سواك هديا ..... فحسبي الهديُ من ربٍ بصيرِ
إذا لم أستعن بك يا الهي ...... فمن عونيِ سواك ومن مجيرِ
إن الفرار إلى الله، واللجوء إليه في كلِ حالٍ وفي كل كربٍ وهم، هو السبيلُ للتخلصَ من ضعفنا وفتورنا وذلنا و هواننا.
إن في هذه الدنيا مصائبَ ورزايا، ومحناً وبلايا، آلامُ تضيقُ بها النفوس، ومزعجاتُ تورث الخوفَ والجزع، كم في الدنيا من عينٍ باكيةٍ؟
وكم فيها من قلب حزين؟
وكم فيها من الضعفاءِ والمعدومين، قلوبُهم تشتعل، ودموعُهم تسيل؟ هذا يَشْكُ علةً وسقما، عزيزٌ قد ذل، وغنيٌ افتقر، وصحيحٌ مرض، رجل يتبرم من زوجه وولده، وآخرُ يشكُ ويئنُ من ظلمِ سيده.
وثالثٌ كسدة وبارت تجارته، شاب أو فتاة يبحث عن عروس، وطالب يشكو كثرة الامتحانات والدروس.
هذا مسحور وذاك مدين، وأخر ابتليَ بالإدمان والتدخين، ورابعُ أصابه الخوفُ ووسوسةُ الشياطين.
وذاك حاجةً وفقرا.
وآخر هماً وقلقا.
تلك هي الدنيا، تضحكُ وتبكي، وتجمعُ وتشتت، شدةُ ورخاءُ وسراءٌ وضراءُ.
وصدق الله العظيم: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ). [الحديد / 23]
فارفع يديك وأسل دمع عينيك، وأظهر فقرك وعجزك، واعترف بِذُلِكَ وضَعْفَك.
(والدعاء سلاحٌ عجيب ٌ فَعَّال وسهمٌ نافذ لا يخيب:(7/239)
إن الحياة قد طبعت على كدر، وقلما يسلم الإنسان من خطر، مصائب وأمراض، حوادث وأعراض، أحزان وحروب وفتن، ظلم وبغي، هموم وغموم.
ويتقلب الناس في هذه الدنيا بين فرح وسرور، و شدة وبلاء، وفقر وغنى وتمر بهم سنين ينعمون فيها، وتعصف بهم أخرى عجاف، يتجرعون فيها الغصص أو يكتوون بنار البُعد والحرمان.
وهذه هي حقيقة الدنيا إقبال وإدبار فرح وحزن، شدة ورخاء، سقم وعافية إلا أن الله تعالى لطيف بعباده رحيم بخلقه، فتح لهم باباً يتنفسون منه الرحمة، وتنزل به على قلوبهم السكينة والطمأنينة، ألا وهو باب الدعاء.
ولا يزال المؤمن بخير ما تعلق قلبه بربه ومولاه، كيف لا يكون كذلك وبيده سلاح لا كأي سلاح، سلاح لا تصنعه مصانع الغرب أو الشرق , إنه أقوى من كل سلاح مهما بلغت قوته ودقته، والعجيب في هذا السلاح أنه عزيز لا يملكه إلا صنف واحد من الناس, لا يملكه إلا المؤمنون الموحدون, إنه سلاح رباني، سلاح الأنبياء والأتقياء على مرّ العصور.
سلاح نجى الله به نوحًا عليه السلام فأغرق قومه بالطوفان , ونجى الله به موسى عليه السلام من الطاغية فرعون, نجى الله به صالحًا, وأهلك ثمود, وأذل عادًا وأظهر هودَ عليه السلام, وأعز محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مواطن كثيرة.
سلاح حارب به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه أعتى قوتين في ذلك الوقت: قوة الفرس, وقوة الروم, فانقلبوا صاغرين مبهورين، كيف استطاع أولئك العرب العزَّل أن يتفوقوا عليهم وهم من هم, في القوة والمنعة, ولا يزال ذلكم السلاح هو سيف الصالحين المخبتين مع تعاقب الأزمان وتغير الأحوال ’ تلكم العبادة وذلكم السلاح هو الدعاء.
هذا السلاح يطفيء نيران الدبابات.
بل إن الاسرى يُفكون بهذا السلاح
جاء مالك الأشجعى إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال أُسر ابنى عوف فقال له النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسل إليه أن رسول الله يأمرك أن تكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله وكانوا قد شدوا قيده فسقط القيد فخرج فإذا هو بناقة لهم فركبها و أقبل فمر بغنم للعدو فاستاقها فجاء بها إلى أبيه وقص عليه الخبر فقال أبوه قف حتى أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله عنها، فلما أخبره بذلك قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اصنع بها ما أحببت ونزل قول الله تعالى (ومن يتق الله يجعل له مخرجا) (1)
__________
(1) - ابن جرير فى تفسيره(7/240)
(والدعاء ينفع مما نزل و مما لم ينزل، وسهمٌ لا يخيب وأعجز الناس من عجز عن الدعاء، وإليك غيضٌ من فيض ونقطةٌ من بحر مما ورد في هذا:
(حديث عائشة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يغني حذر من قدر و الدعاء ينفع مما نزل و مما لم ينزل و إن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة.
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب له فإما أن يعجل له في الدنيا و إما أن يدخر له في الآخرة ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل.
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلاَّ أعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاث: ٍ إِمَّا أنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أنْ يَصْرِف عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا" قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ:" اللَّهُ أكْثَرُ "0
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أبخل الناس من بخل بالسلام وأعجز الناس من عجز عن الدعاء.
(أعجز الناس من عجز عن الدعاء): أعظم ما يشق على المسلم أن يغلق عليه في الدعاء،
[*] قال عمر بن الخطاب:
" أني لا أحمل هم الإجابة ولكن أحمل همّ الدعاء" فاذا فتح على العبد في دعائه من معاني الحمد والثناء دعا الله وحسن الظن به والتعلق والرجاء به وتعظيم الرغبة مما عند الله والثقة بوعد الله فينبغي عليه أن يقبل على الدعاء وأن يصرف همته في ذلك لاسيما في الأزمان والأماكن الفاضلة , وعند نزول الضر وحصول الشدائد, ومن أكثر طرق هذا الباب فتح له, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
[*] يقول جعفر الصادق رضي الله عنه:
عجبت لأربعة كيف يغفلون عن أربع:
عجبت لمن أصابه ضر كيف يغفل عن قول الله: (أَنّي مَسّنِيَ الضّرّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ) [الأنبياء / 83]
والله سبحانه وتعالى يقول: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ) [الأنبياء / 84]
وعجبت لمن أصابه غم كيف يغفل عن قول الله: (لاَّ اله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء /87](7/241)
والله سبحانه وتعالى يقول: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمّ وَكَذالِكَ نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء /88]
وعجبت لمن يخاف كيف يغفل عن: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)
[آل عمران /173]
،والله تعالى يقول: (فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء)
[آل عمران /174]
وعجبت لمن يمكر به الناس كيف يغفل عن (وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [غافر /44]
، والله تعالى يقول: (فَوقَاهُ اللَّهُ سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوء الْعَذَابِ)
[غافر /45]
أخى: أمن يجيب المضطر إذا دعاه،
أخى: هل عندك أسير تريد فك أسره،
أخى: ألست فى حاجة إلى الله (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله)
أخي: في كل ذلك عليك بالتضرع إلى الله،،،،،،،،،
أخي الحبيب هل وقفت مع نفسك؟
كم مرة انطرحت بين يدي الله؟
كم مرة أحسستَ فيها بصدق المناجاة؟
أليس لك حاجة بل حاجات إلى رب الأرض والسماوات؟
أعجَزتَ أن تنفع نفسك بدعوة صالحة؟ علّ الله أن ينفعك بها.
أخي من أدمن طرق الباب يوشك أن يفتح له ..... زد في الطرق يزاد لك في العطاء ... من رب الارض والسماوات.
إلهي:
كم لك سواي، وما لي سواك، عبيدك سواي كثير وليس لي سيد سواك، فبفقري إليك وغناك عني، وبقوتك وضعفي، وبعزك وذلي، إلا رحمتني وعفوت عني، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عينه، وذل لك قلبه، الله لا تعذب نفساً قد عذبها الخوف منك، ولا تخرس لساناً كل ما يرويه عنك، ولا تقذ (أى لا تعمي) بصراً طالما بكى من مخافتك، ولا تخيب رجاء هو معلق بك، ولا تحرق بالنار وجهاً سجد لعظمتك، ولا تعذب بناناً كتب في طاعتك ولا لساناً دل الناس على شريعتك!! يا أرحم الراحمين!! يا الله.
اللهم يا موضع كل شكوى، ويا سمع كل نجوى، ويا شاهد كل بلوى، يا عالم كل خفية، و يا كاشف كل بلية، يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمائر الصامتين ندعوك دعاءَ من أشدت فاقته، وضعفت قوته، وقلت حيلته دعاء الغرباء المضطرين الذين لا يجدون لكشف ما هم فيه إلا أنت.
يا أرحم الراحمين أكشف ما بنا وبالمسلمين من ضعف وفتور وذل وهوان.(7/242)
يا سامعا لكل شكوى أعن المساكين والمستضعفين وأرحم النساء الثكالى والأطفال اليتامى وذي الشيبة الكبير، إنك على كل شيء قدير.
(ألم يأن لنا أن ننتبه إلى أن الدعاءُ أكرم شيء على الله، شرعه الله لحصول الخير ودفع الشر، فالدعاءُ سبب عظيم للفوز بالخيرات والبركات، وسببٌ لدفع المكروهات والشرورِ والكربات، والدعاءُ من القدَر ومن الأسبابِ النافعة الجالبة لكلِّ خير والدافعة لكل شرّ.
الدعاء به تُفرّجُ الشِّدّائد، وتُنفّسُ الكُرب فكم سمعنا عمن أُغلقت في وجهه الأبواب، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، ثم طَرَقَ باب مسبب الأسباب، وألحّ على الله في الدعاء، ورفع إليه الشكوى، وبكى فَفُتِحَتْ له الأبواب، وانفرج ما به من شِدّة وضيق.
ألم تسمع قصة أولئك الثلاثة الذين دخلوا غاراً فأغْلَقَتْ عليهم الباب صخرةٌ عظيمة، فما كان منهم إلا أن دعوا الله بصالح أعمالِهم وأخلصِها، فانفرجت الصخرةُ وخرجوا يمشون.(7/243)
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم، حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فناء بي في طلب شيء يوما، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي، فأدرتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله أد إلي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون).
(ألم يأن لنا جميعاً أن نمد أيدينا إلى مالك الملك، وإلى مَنْ بيده ملكوت كلّ شيء، وهو يُجير ولا يُجار عليه؟
ونقول:-
يا أمان الخائفين سبحانك ما أحلمك على من عصاك وما أقربك ممن دعاك وما أعطفك على من سألك وما أرافك بمن أملك، من الذي سألك فحرمته، ومن الذي فر إليك فطردته أو لجأ إليك فأسلمته، أنت ملاذنا ومنجانا فلا نعول إلا عليك ولا نفر من خلقك ومنك إلا إليك يا أمان الخائفين.
فلماذا البخل على أنفسنا؟
إلى متى العجز والكسل؟
إن ما بيننا وبين السماء السابعة سوى مسافة دعوة مظلوم.(7/244)
وما بيننا وبين باب ذي المنن سوى قَرْعِهِ وإدامة ذلك.
(فادع يا أخي وزد في الدعاء بالليل والنهار فلن تخيب دعواتك فإن الدعاء سهمٌ لا يخيب:
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب له فإما أن يعجل له في الدنيا و إما أن يدخر له في الآخرة ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل.
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلاَّ أعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاث: ٍ إِمَّا أنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أنْ يَصْرِف عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا" قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ:" اللَّهُ أكْثَرُ "0
أتهزأُ بالدعاءِ وتزدريهِ ... وما تدري بما صنع الدعاءُ
سهامُ الليلِ لا تُخطي ولكن ... لها أمدٌ وللأمدادِ انقضاءُ
(هل يدعو العبد ربه مع أن الله يعلم حاجته ... :
(يردد البعض حديث لفظه: (علمه بحالي يغني عن سؤالي) ويستدلون به على أنه لا حاجة للإنسان أن يدعو الله، لأن الله يعلم حاجة الإنسان، فما صحة هذا الكلام فما الجواب؟
الجواب:
أن هذا القول قول باطل، لأنه مناف للإيمان بالقدر، وتعطيل للأسباب، وترك لعبادة هي أكرم العبادات على الله عز وجل.
فالدعاء أمره عظيم وشأنه جليل، فبه يرد القدر، وبه يرفع البلاء، فهو ينفع مما نزل ومما لم ينزل. وهاك غيضٌ من فيض مما نزل في فضل الدعاء:
(حديث النعمان بن بشير في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الدعاء هو العبادة، ثم تلا قوله تعالى: (وَقَالَ رَبّكُمْ ادْعُونِيَ أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنّ الّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنّمَ دَاخِرِينَ)
(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من لم يسأل الله يغضب عليه.
(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ليس شيء أكرم على الله من الدعاء.
(حديث سلمان في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا.(7/245)
(حديث سلمان في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لا يرد القضاء إلا الدعاء و لا يزيد في العمر إلا البر.
(حديث عائشة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يغني حذر من قدر و الدعاء ينفع مما نزل و مما لم ينزل و إن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة.
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب له فإما أن يعجل له في الدنيا و إما أن يدخر له في الآخرة ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل.
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلاَّ أعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاث: ٍ إِمَّا أنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أنْ يَصْرِف عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا" قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ:" اللَّهُ أكْثَرُ "0
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أبخل الناس من بخل بالسلام وأعجز الناس من عجز عن الدعاء.
(وربما استشهد بعض من يترك الدعاء كبعض الصوفية بحديث: (حسبي من سؤالي علمه بحالي)، وهذا الحديث باطل لا أصل له، تكلم عليه العلماء، وبينوا بطلانه.
[*] فقد ذكره البغوي في تفسير سورة الأنبياء مشيراً إلى ضعفه فقال:
(وروي عن أبي بن كعب أن إبراهيم قال حين أوثقوه ليلقوه في النار: (لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين، لك الحمد، ولك الملك، لا شريك لك، ثم رموا به في المنجنيق إلى النار، واستقبله جبريل فقال: يا إبراهيم، لك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، فقال جبريل: فاسأل ربك، فقال إبراهيم: حسبي من سؤالي علمه بحالي) تفسير البغوي معالم التنزيل 5/ 347
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا الحديث:
(وأما قوله: حسبي من سؤالي علمه بحالي فكلام باطل، خلاف ما ذكره الله عن إبراهيم الخليل وغيره من الأنبياء، من دعائهم لله، ومسألتهم إياه، وهو خلاف ما أمر الله به عباده من سؤالهم له صلاح الدنيا والآخرة). مجموع الفتاوى 8/ 539
[*] وقال الشيخ الألباني عن هذا الحديث:(7/246)
(لا أصل له، أورده بعضهم من قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو من الإسرائيليات، ولا أصل له في المرفوع) سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/ 28 (21)
وقال بعد ذلك عن الحديث: (وقد أخذ هذا المعنى بعض من صنف في الحكمة على الطريقة الصوفية فقال: سؤالك منه - يعني الله تعالى - اتهام له) سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/ 29
ثم قال رحمه الله تعليقاً على تلك المقولة: (هذه ضلالة كبرى، فهل كان الأنبياء صلوات الله عليهم متهمين لربهم حين سألوه مختلف الأسئلة؟) سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/ 29
(حكم الدعاء:
ذهب جمهور العلماء إلى أن الدعاء واجب على كل مسلم، للأدلة التالية:
قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ) [سورة: الذاريات - الأية: 56] وقد ورد في تفسير هذه الآية أي أن الله خلق المخلوقات ليعبدوه ويعرفوه ويخضعوا له ويتذللوا، سَيَدْخُلُونَ جَهَنّمَ دَاخِرِينَ)
فإذا كان الدعاء هو العبادة، وغاية خلق الجن والإنس العبادة أي "الدعاء" كان لزاماً على كل مسلم الالتجاء إلى الله –تعالى- والخضوع له، والتذلل بالدعاء في كل وقت وحين.
لذا حري بنا أن نرقى بفهمنا لمعنى الدعاء إلى معناه الأسمى، أن تدعو الله لا لأنك محتاج إليه، بل لأن هذا الدعاء جزءٌ من عبوديتك لله تعالى.
(حكم ترك الدعاء:
إن من صفات المسلم الحق الانصياع لما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه، ولما كان الله - سبحانه وتعالى - أمرنا بأن ندعوه، وجب علينا الالتزام بأمره، وتركنا للدعاء يلحق بنا الإثم والمعصية، ويكفيك ما وصف الله – تعالى- به من ترك دعاءه في الآية الكريمة تأملها معي - رحمك الله - قال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ). [سورة غافر، الآية: 60].
وقد أمر الله - تعالى - بالدعاء، ووصف من لم يستجب لأمره بأنه مستكبر، وهدد وتوعد هؤلاء المستكبرين بأنهم سيدخلون جهنم - والعياذ بالله -، وبينت السنة الصحيحة أن من لم يسال الله يغضب عليه كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من لم يسأل الله يغضب عليه.
فجعل غضب الله - عز وجل - من نصيب من ترك الدعاء والالتجاء إلى الله.
[*] (فضائل الدعاء:(7/247)
(الدعاء له فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم، وللدعاء فضائل لا تحصى، وثمرات لا تعد، وهو طريق النجاة، وسلم الوصول، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين، ومفزع المظلومين، وملجأ المستضعفين، به تُستجلب النعم، وبمثله تُستدفع النقم، والدعاء سبب لتفريج الهموم وزوال الغموم، وانشراح الصدور، وتيسير الأمور، وفيه يناجي العبدُ ربّه، ويعترف بعجزه وضعفه، وحاجته إلى خالقه ومولاه، والدعاء سلاحٌ متين وحرزٌ مكين وسهمٌ صائبٌ لا يخطئ، والموفق من وفق للدعاء، والدعاء شعيرة جليلة، وعبادة فاضلة، بل هو من أفضل العبادات، ما أشد حاجة العباد إليه، وما أعظم ضرورتهم إليه، لا يستغني عنه المسلم بحال من الأحوال، والدعاء ومن أعظم مقامات الألوهية، ومن أعظم ما يرفع البلاء والعقوبات بإذن الله سبحانه وتعالى، بل إن الله عز وجل أخبر إن الدعاء هو العبادة، لأنه ركنها الركين، وأساسها المتين، وقال سبحانه: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ). [سورة غافر، الآية: 60].
وحقيقة الدعاء هو طلب الحاجة ممن يملكها، ونحن محتاجون دائما والله معط متفضل، ونحن فقراء والله الغني، إن هذا التوجه إلى الملك هو العبادة.
وسمى الله تعالى الدعاء عبادة، و تكفل بالإجابة لمن دعا، (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ). [سورة التوبة، الآية: 111]. (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً). [سورة النساء، الآية: 122]. فقد قال سبحانه: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ). [سورة البقرة، الآية: 186].
(وقد سأل أعرابي الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟! فسكت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ). [سورة البقرة، الآية: 186].
[*] قال ابن كثير في تفسيره على الآية: المراد أنَّه تعالى لا يُخَيِّبُ دُعَاءَ دَاعٍ ولا يُشْغَلُهُ عنه شيء، بل هو سَمِيعُ الدُّعَاءِ، ففيه تَرْغِيبٌ في الدُّعَاءِ وأنه لا يَضِيعُ لَدَيْهِ سُبْحَانَهُ0(7/248)
{تنبيه}: (قول الله جل وعلا: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ
(في هذه الآية لفتة عجيبة ينبغي أن ننتبه وأن نلتفت إليها:
ما سئل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن سؤال إلا وكان الجواب من الله تعالى على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله جل وعلا: قل يا محمد كذا وكذا قال الله: يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189] .. وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219] .. يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [البقرة:217] .. وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً [البقرة:222] .. يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الأنفال:1] .. يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب:63]
(إلا في هذه الآية، فلم يقل ربنا جل وعلا لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وإذا سألك عبادي عني فقل، لا والله، وإنما تولى الله جل وعلا بذاته العلية الإجابة على عباده، فقال سبحانه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186] ولم يقل: قل: يا محمد إني قريب،
لماذا؟(7/249)
حتى لا تكون هناك واسطة بين العبد وبين الله جل وعلا، ولو كانت هذه الواسطة هي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا واسطة بين العبد وبين الله، ادع الله جل وعلا في أي وقت شئت، ارفع أكف الضراعة إلى الله، لا تسأل نبياً ولا تسأل ولياً، وإنما سل الله الواحد القهار، ارفع أكف الضراعة إليه في أي وقت شئت، بل وفي أي مكان شئت، لترى الله جل وعلا سميعاً بصيراً مجيب الدعاء.:وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186] لا سؤال إلا منه، ولا طلب إلا منه، ولا رجاء إلا فيه، ولا توكل إلا عليه، ولا تفويض إلا إليه، ولا استعانة إلا به، ولا استغاثة إلا به، ولا ذبح إلا له، ولا نذر إلا له، ولا حلف إلا به، ولا طواف إلا ببيته جل وعلا، فلتكن عقيدتك وليكن توحيدك وإيمانك، أن ترفع إلى الله أكف الضراعة، بقولك: اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك، ومن الأمل إلا فيك، ومن التسليم إلا لك، ومن التفويض إلا إليك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الصبر إلا على بابك، ومن الذل إلا في طاعتك، ومن الرجاء إلا لما في يديك الكريمتين، ومن الرهبة إلا لجلالك العظيم: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله).
الجأ إلى الله جل وعلا، واعلم بأن الله سميع قريب يجيب الدعاء، يسمع دبيب النملة السوداء، تحت الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، قال تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة:1] تقول أمنا عائشة رضي الله عنها: [والله لقد كنت في جانب الغرفة فما سمعت حوار المجادلة، وسمعه الله من فوق سبع سماوات] نعم إنه السميع القريب المجيب: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1] ..
(وبَيَّنَ تعالى أنَّه يُنْعِمُ على من تَوَجَهَ إليه بالدُّعَاء، بِنِعْمَةِ الإجابة ولايَرُدُّهُ خائباً فقال {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} (75 ـ الصافات)(7/250)
[*] قال ابن الجوزي في تفسيره زَادُ اَلْمَسِيرِ على الآية الكريمة {نَادَانَا} أي دَعَانَا، وقال الرازي: هذه اللفظة العظيمة {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} تدل على أن الإجابة من النِّعَمِ العظيمة، فسبحانه عبَّر عن ذاته بصيغة اَلْجَمْعِ فقال {نَادَانَا} والقَادِرُ العَظِيمُ لا يَلِيقُ به إلا الإحْسَانُ العظيم، وسبحانه أعَادَ صيغة الجَمْعِ في قوله {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} ليدل على تَعْظِيمِ تلك النِّعْمَةِ، لا سيما وقد وُصِفَتُ تلك الإجابة بأنَّها نِعْمَتُ الإجابة، والفَاءُ في قوله تعالى {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} يدل على أنَّ حُصُولَ هذه الإجابة مُتَرَتِبٌ على ذلك الدُّعَاءِ، وهذا يدل على أن الدُّعَاءَ بالإخْلاَصِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الإجَابَةِ (1)
(حديث سلمان في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا.
قال العلماء: لا يَخْفَى أنَّ الكَرَمَ والحَيَاءَ إذا اجْتمَعَا يَكْونُ صَاحِبْهُمَا كَمَنْ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ أنَّ يَتْرُكَ العَطَاءَ مِنَ السَّائِلِينَ والضُّعَفَاءِ (2)
ولله درُّ من قال:
أتهزأُ بالدعاءِ وتزدريهِ ... وما تدري بما صنع الدعاءُ
سهامُ الليلِ لا تُخطي ولكن ... لها أمدٌ وللأمدادِ انقضاءُ
(فالدعاء نعمةٌ عظيمة، وَمِنَّةٌ عميمة، امتن الله تعالى بها على عباده، حيث أمرهم بالدعاء، ووعدهم بالإجابة والإثابة.
وشأن الدعاء عظيم، ونفعه عميم، ومكانته عالية في الدين، فما استجلبت النعم بمثله، ولا استدفعت النقم بمثله؛ ذلك أنه يتضمن توحيد الله، وإفراده بالعبادة دون من سواه، وهذا رأس الأمر، وأصل الدين.
(فما أشد حاجة العباد إلى الدعاء، بل ما أعظم ضرورتهم إليه؛ فالمسلم في هذه الدنيا لا يستغني عن الدعاء بحال من الأحوال.
فإن كان راعيًا ولاه الله رعية فما أحوجه إلى الدعاء؛ كي يثبت الله سلطانه، ويعينه على استعمال العدل في رعيته، ويحببه إلى رعيته، ويحبب الرعية إليه.
وإن كان داعيًا إلى الله _ تعالى _ فما أشد حاجته لدعاء ربه، وسؤاله الإعانةَ، والقبول، والتوفيق، والتسديد؛ ليثبت على الحق، ويصبر على عثار الطريق ومشاقه، ولتصيخ له الأسماع، وتَصْغى إليه الأفئدة.
__________
(1) بتصرف يسير عن تفسير الرازي على الآية (75 ـ الصافات)
(2) أنظر شرح سنن ابن ماجه للسندي، حديث رقم: 3855 0(7/251)
وإن كان مجاهدًا في سبيل الله _ فما أعظم حاجته للدعاء، الذي يطلب به النصر، ويستنزل السكينة والثبات في اللقاء، ويسأل ربه خذلان الأعداء، وإنزال الرعب في قلوبهم، وهزيمتَهم، وتفرق كلمتهم.
وإن كان مريضًا فما أشد فاقته وأعظم حاجته للدعاء؛ ليستشفي به من مرضه، ويسأل به كشف كربته، وأن يمن الله عليه بالشفاء والعافية.
وبالجملة فالمسلمون _ بل ومن في الأرض كلهم جميعًا _ بأمسِّ الحاجة للدعاء، وإخلاصه لرب الأرض والسماء؛ ليصلوا بذلك إلى خيري الدنيا والآخرة، فلن يهلك مع الدعاء أحد، فالسعيد من وفق لذلك، والمحروم من حرم لذة العبادة، أو أيس من رحمة الله وكان من القانطين، من وفق للدعاء فقد وفق للقول السديد، والعمل الرشيد.
عجبت لمن ترك الدعاء ووقف بباب البشر وهو يعلم أن دعاؤهم هباء، لا يجلب مرغوباً، ولا يمنع مكروهاً، ولكن لا عجب فليس كل أحدٍ يوفقُ للخير.
(واعلم علم اليقين أنه بدعوةٍ تتقلب الأحوال، فالعقيم يولد له، والسقيم يُشفى، والفقير يُرزق، والشقي يسعد، بدعوةٍ واحدةٍ أُغرق أُهل الأرض جميعهم إلا من شاء الله: وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً [نوح:26]، وهلك فرعون بدعوة موسى وقال موسى: رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى الْحياةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الألِيمَ [يونس:88]، ووهب ما وهب لسليمان بغير حساب بسؤال ربه الوهاب، وشفى الله أيوب من مرضه بتضرعه أَنّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]، وأغيث نبينا محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم بدر بالملائكة، بتَبتُّلِه إلى موالاه، مع قلة العدد وذات اليد، إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9].
(فإذا كان الدعاء بهذه المنزلة العالية والمكانة الرفيعة _ فأجدر بالعبد أن يتفقه فيه، وأن يلم بشيء من أحكامه _ ولو على سبيل الإجمال _؛ حتى يدعو ربه على بصيرة وهدى، بعيدًا عن الخطأ والاعتداء؛ فذلك أرجى لقبول دعائه، وإجابة مسألته.(7/252)
(فلا شيء أكرم على الله من الدعاء، ما استجلبت النِّعم، ولا استدفعت النقم بمثله، به تفرج الهموم، وتزول الغموم، كفاه شرفا قرب الله من عبده حال الدعاء، وأعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأضعفهم رأياً وأدناهم همة من تخلّف عن النداء، الدعاء هو عين المنفعة ورجاء المصلحة، ودعاءُ المسلم بين يدي جواد كريم يعطي ما سُئل، إما معجّلاً وإما مؤجّلاً.
[*] يقول ابن حجر -رحمه الله-: "كل داع يستجاب له، لكن تتنوع الإجابة، فتارة تقع بعين ما دعا به، وتارةً بعِوضه".
(وللدعاء فضائل عظيمة، وثمرات جليلة، وأسرار بديعة، وهاك فضائل الدعاء جملةً وتفصيلا:
[*] (أولاً فضائل الدعاء جملةً:
(1) أن الدعاء طاعة لله وامتثال لأمره تعالى:
(2) السلامة من الكبر:
(3) الدعاء هو العبادة:
(4) الدعاء أكرم شيء على الله:
(5) الدعاء سبب لدفع غضب الله:
(6) الدعاء دليل على التوكل على الله:
(7) الدعاء وسيلة لكبر النفس وعلو الهمة:
(8) الدعاء سلامة من العجز، ودليل على الكياسة:
(9) ثمرة الدعاء مضمونة بإذن الله:
(10) الدعاء سبب لدفع البلاء قبل نزوله:
(11) الدعاء سبب لرفع البلاء بعد نزوله:
(12) الدعاء يفتح للعبد باب المناجاة ولذائذها:
(13) حصول المودة بين المسلمين:
(14) الدعاء من صفات عباد الله المتقين:
(15) الدعاء سبب للثبات والنصرعلى الأعداء:
(16) الدعاء مَفْزَعُ المظلومين، وملجأ المستضعفين:
(17) الدعاء دليل على الإيمان بالله، والاعتراف له بالربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات:
(18) وربنا سبحانه لا يعبأ بعباده لولا ضراعتهم إليه.
(19) والدعاء من صفات أنبياء الله وأصفيائه.
(20) الدعاء نفعه عميم، نفعه يلحق الأحياء في دنياهم، والأمواتَ في لحودهم.
(21) الدعاء بإذن الله تعالى كفيلٌ بدفع البلاء، ويمنع وقوع العذاب والهلاك.
(22) الدعاء أيضاً به يُستنزلُ النصر من الله العلي القدير:
(23) الدعاء يؤكد ثقة العبد بربه، حين يوقن بالإجابة:
[*] (ثانياً فضائل الدعاء تفصيلا:
(1) أن الدعاء طاعة لله وامتثال لأمره تعالى:
قال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر/60]
وقال تعالى: (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [الأعراف/29]
فالداعي مطيع لله، مستجيب لأمره.
(2) السلامة من الكبر:(7/253)
قال تعالى: (وَقَالَ رَبّكُمْ ادْعُونِيَ أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنّ الّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنّمَ دَاخِرِينَ) [غافر / 60]
[*] قال الإمام الشوكاني في هذه الآية: والآية الكريمة دلت على أن الدعاء من العبادة؛ فإنه سبحانه وتعالى أمر عباده أن يدعوه، ثم قال: [إن الذين يستكبرون عن عبادتي].
فأفاد ذلك أن الدعاء عبادة، وأن ترك دعاء الرب _سبحانه_ استكبار، ولا أقبح من هذا الاستكبار.
وكيف يستكبر العبد عن دعاء من هو خالق له، ورازقه، وموجده من العدم، وخالق العالم أجمع، ورازقه، ومحييه، ومميته، ومثيبه، ومعاقبه؟!
فلا شك أن هذا الاستكبار طرف من الجنون، وشعبة من كفران النعم. (1)
(3) الدعاء هو العبادة:
قال تعالى: (وَمَن يَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّه إِنّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) [سورة: المؤمنون - الآية: 117]
(حديث النعمان ابن بشير في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الدعاء هو العبادة.
[*] قال في تُحْفَةِ الأحْوَذِي بشرح جامع الترمذي (2):
إنَّ الدُّعَاءَ هو الْعِبَادَةُ سَوَاءٌ اُسْتُجِيبَ أوْ لَمْ يُسْتَجَبْ لأنَّهُ إِظْهَارُ الْعَبْدِ الْعَجْزَ وَالاحْتِيَاجَ مِنْ نَفْسِهِ وَالاعْتِرَافَ بِأنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إجَابَتِهِ كَرِيمٌ لا بُخْلَ لَهُ ولا فَقْرَ ولا اِحْتِيَاجَ لَهُ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى يَدَّخِرَ لِنَفْسِهِ وَيَمْنَعَهُ مِن عِبَادِهِ، ثُمَّ قال: اِسْتُدِلَّ بِالآيةِ عَلَى أنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ لأنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ وَالْمَأْمُورُ بِهِ عِبَادَةٌ، ثُمَّ نَقَلَ عن الطِّيبِيُّ أنَّه قال: الدُّعَاءُ هو إِظْهَارُ غَايَةِ التَّذَلُّلِ وَالافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ وَالاسْتِكَانَةِ لَهُ وَمَا شُرِعَتْ الْعِبَادَاتُ إِلاَّ لِلْخُضُوعِ لِلْبَارِي سُبْحَانَهُ وَإِظْهَارِ الافْتِقَارِ إليهِ تَعَالىَ0
__________
(1) تحفة الذاكرين للشوكاني ص28.
(2) أنظر باب: الدعوات عن رسول الله، حديث رقم: 3294 0(7/254)
[*] وقال الفَخْرُ الرَّازي (1): لا مَقْصُودَ من جميع التَّكَالِيفِ إلا مَعْرِفَةُ ذُلِّ العُبُودِيَةِ وعِزَّ الرُّبوبِيَةِ، فإذا كان الدُّعَاءُ مُسْتَجْمِعاً لهذين المَقَامَيْنِ، لا جَرَمَ كان الدُّعَاءُ أعْظَمَ أنواع العبادات 0
[*] وقال الشوكاني (2): الآية الكريمة دَلَّتْ على أن الدُّعَاءَ من العبادة، فإنه سبحانه وتعالى أمَرَ عباده أن يَدْعُوهُ ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} فأفاد ذلك أن الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ، وأنَّ تَرْكَ دُعَاءُ الرَّبِّ سبحانه اسْتِكْبَارٌ، ولا أقْبَحَ من هذا الاسْتِكْبَار 0
[*] وقال الفَخْرُ الرَّازي (3): من المعلوم بالضرورة أن الإنسان لا يَنْتَفِعُ في يوم القيامة إلا بطاعة الله تعالى، فلا جَرَمَ كان الاشتغال بالطَّاعَةِ مِنْ أهَمِّ اَلْمُهِمَاتِ، ولَمَّا كان أشرف أنواع الطَّاعات الدُّعَاءُ والتَّضَرُعُ، لا جَرَمَ أمَرَ الله سبحانه وتعالى به في هذه الآية فقال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ} 0
[*] وقال السِنْدِيُّ في شرحه لِسُنَنِ ابن مَاجَه:
الدُّعَاءُ من وظائف العبودية بل أعلاها00 ومن يعلم أن حقيقة العبادة إظُهَارُ التَّذَلُلِ والاِفْتِقَارِ والاِسْتِكَانَةِ، والدُّعَاءُ في ذلك في الغاية القصوى، يَظْهَرُ له سِرُّ كَوْنَ الدُّعَاءِ مُخُّ العِبَادَةِ (4)
[*] وقال الشيخ علي الحُذَيْفِيُّ: الدُّعَاءُ تتحقق به عبادة ربِّ العالمين؛ لأنه يتضمَّن تَعَلُّقَ القلبِ بالله تعالى، والإخلاص له، وعدم الاِلْتِفَاتِ إلى غير الله عزّ وجلّ في جَلْبِِ النَّفْعِ ودَفْعِ الضُّرِ، ويتضمَّن الدُّعَاءُ اليقين بأن الله قدير لا يُعجزه شيء00 ويتضمَّن الدّعاءُ اِفْتِقَارَ العبدِ وشِدَّةَ اضطرارِه إلى ربّه، وهذه المعَاني العظيمةُ هي حقيقةُ العِبادة (5)
__________
(1) أنظر تفسير الرازي على الآية (55 ـ الأعراف)
(2) أنظر تحفة الذاكرين، ص 28 0
(3) أنظر تفسيره على الآية (60 ـ الأعراف)
(4) أنظر شرح السندي لسنن ابن ماجه على الحديث رقم: 3817، وحديث " الدعاء مخ العبادة " رواه الترمذي وضعفه الألباني 0
(5) من خطبة الجمعة في المسجد النبوي بالمدينة المنورة لفضيلة الشيخ: علي الحذيفي بتاريخ: 13 - 4 - 1424هـ وهي بعنوان: فضل الدعاء وآدابه، يمكن قراءتها أو الاستماع إليها عبر موقع: www.alminbar.net على الشبكة العنكبوتية 0(7/255)
(فالدعاء من أعظم العبادة لله تعالى، لأن فيه إظهاراً للذل والفاقة والحاجة إلى الله عز وجل، وفيه خضوع وخشوع له سبحانه من عبده الذي يدعوه.
(فإذا علمت أن الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ، فالأصل فيها: الاِتِّباَعُ وَعَدَمِ الاِعْتِدَاءِ، والاِتِّباَعُ في عِبَادَةِ الدُّعَاء يَجْمَعُ لك أجْرَيْنِ: أجْرُ الدُّعَاءِ، وأجْرُ الاِتِّباَعِ 0
{تنبيه}: (الذي يتأمل في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (الدعاء هو العبادة) يتضح له وضوحاً جلياً كيف أن الله تعالى كرمه فياضٌ وجوده متتابع حيث جعل سؤال عباده له لقضاء حوائجهم من أعظم العبادات وأجلِّ القربات فعظَّم الرغبة عندهم في الدعاء حتى قال (الدعاء هو العبادة)، بل وذم ترك الدعاء وعدَّه استكباراً عليه وهدده بأشدِ أنواع التهديد حيث قال تعالى: (وَقَالَ رَبّكُمْ ادْعُونِيَ أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنّ الّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنّمَ دَاخِرِينَ)
(والدعاءُ تتحقَّق به عبادةُ ربِّ العالمين؛ لأنَّه يتضمَّن تعلّقَ القلب بالله تعالى، والإخلاصَ له، وعدمَ الالتفات إلى غير الله عز وجل في جلبِ النفع ودفع الضرّ، ويتضمَّن الدعاءُ اليقينَ بأنّ الله قدير لا يُعجزه شيء، عليم لا يخفى عليه شيء، رحمن رحيم، حيّ قيّوم، جواد كريم، محسِن ذو المعروف الذي لا ينقطع أبداً، لا يُحَدُّ جودُه وكرمه، ولا ينتهي إحسانُه ومعروفه، ولا تنفد خزائن بركاته.
فالدعاء استعانة من عاجز ضعيف بقوي قادر، واستغاثة من ملهوف برب قادر، وتوجه ورجاءٌ إلى مصرِّفِ الكون ومدبِّر الأمر، لِيُزيلَ عِلَّة، أو يَرْفَعَ مِحْنَة، أو يَكْشِفَ كُرْبَة، أو يُحَقِّقَ رجاءً أو رَغْبَة ... قائلاً
يا أمان الخائفين سبحانك ما أحلمك على من عصاك وما أقربك ممن دعاك وما أعطفك على من سألك وما أرأفك بمن أمَلك، من الذي سألك فحرمته، ومن الذي فر إليك فطردته أو لجأ إليك فأسلمته، أنت ملاذنا ومنجانا فلا نعول إلا عليك ولا نفر من خلقك ومنك إلا إليك يا أمان الخائفين.
إن المؤمن حين يستنفذ الأسبابَ في عمل مشروع، ويستعصي عليه الأمرُ، والأسبابُ لا تُوصِلُهُ إلى ما يسْعَى من أجْلِهِ، ينقلُ الأمر كلَّهُ منْ قدُراتِهِ هو إلى قدرة الله، ويفزَعُ إلى الله تعالى واهبِ الأسباب ويقولُ: يا رب، ويدعو ... فالأسباب إذا تخلَّتْ فلن يتخلى عنه الله ... فهو سبحانه يجيب دعوة المضطرين ...(7/256)
فلأجلِ هذه الصفات العظيمة وغيرِها يُرجى ربُّنا ويُدعى، ويسأله من في السموات والأرض حاجاتِهم باختلاف لغاتِهم فما أعظمَ شأنَ الدعاء، وما أجلَّ آثارَه.
فالدعاء من أعظم العبادات، فيه يتجلى الإخلاص والخشوع، ويظهر صدق الإيمان, وتتمحص القلوب, وهو المقياس الحقيقي للتوحيد، ففي كلامٍ لشيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: إذا أردت أن تعرف صدق توحيدك فانظر في دعائك.
(4) الدعاء أكرم شيء على الله:
(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ليس شيء أكرم على الله من الدعاء.
[*] قال في تُحْفَةُ الأحوذي بشرح جامع الترمذي: لأنَّ فِيهِ إظْهَارَ الفَقْرِ والعَجْزِ والتَّذلُّلِِ والاعْتَرَافِ بِقِوَةِ الله وقُدْرَتِهِ 0
[*] وقال العلماء: اِحْتَلَّ الدعاء تلك المنزلة العظيمة والمكانة الكريمة لِدَلاَلَتِهِ على قُدْرَةِ الله تعالى الغَنِيِّ الجَوَادِ الكَرِيمِ وعَجْزِ الدَّاعِي الفَقِيرِ إلى الله تَعَالَى (1)
اَلْدُّعَاء مِنْ أعْظَمِ أنْوَاعِ اَلْعِبَادَاتِ:
[*] قال ابن رَجَبٍ: اعلم أن سُؤالَ الله عَزَّ وجَلَّ دُونَ خَلْقِهِ هو اِلْمُتَعَيِنُ، لأن السؤال فيه إظهار الذُلِّ من السائل والمَسْكَنَةِ والحَاجَةِ والافْتِقَارِ، وفيه الاعتراف بِقُدْرَةِ المَسْؤولِ على رَفْعِ هذا الضُّرِّ ونَيْلِ المطلوب، وجَلْبِ المَنَافِعِ ودَرْءِ المَضَارِ، ولا يَصْلُحُ الذُلُّ والافْتِقَارُ إلا لله وحده لأنه حقيقة العبادة (2)
[*] قال الشوكاني في هذا الحديث: قيل وجه ذلك أنه يدل على قدرة الله_تعالى_ وعجز الداعي.
والأولى أن يقال: أن الدعاء لمَّا كان هو العبادة، كان أكرم على الله من هذه الحيثية؛ لأن العبادة هي التي خلق الله _سبحانه_ الخلق لها، كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ) [سورة: الذاريات - الأية: 56]
(ولمّا كان الدّعاءُ هو العِبادة فإنّه لا يكون إلا لله وحدَه، فلا يُدعَى من دون الله ملكٌ مقرَّب، ولا نبيّ مرسَل، ولا وليّ ولا جنّيّ، قال الله تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) [الجن /18]
،
__________
(1) أنظر فيض القدير الحديث رقم 7602، ج 5، ص 443 0
(2) أنظر جامع العلوم والحكم (ص180، 181).(7/257)
وقال تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ الها ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ) [الفرقان /68]
، ومن دعَا مخلوقًا من دون الله نبيًّا أو ملكًا أو وليًّا أو جنّيًّا أو ضريحًا ونحوَه فقد وقَع في الشّرك الأكبر، قال الله تعالى: (وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) [المؤمنون / 117]
وقال تبارك وتعالى: (وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظَّالِمِينَ * َإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يونس/106، 107]
وقال تَبارك وتعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ * الُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ) [سبأ / 40،41]
وقال تبارك وتعالى: (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْء إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ) [الرعد / 14]
[*] قال ابن رجب رحمه الله:
والله سبحانه يحبُّ أن يُسأل، ويُرغبُ إليه في الحوائج، ويُلحُّ في سؤاله ودعائه، ويغضب على من لا يسأله، ويستدعي من عباده سؤالَه، وهو قادر على إعطاء خلقه كلهم سؤلهم من غير أن ينقص من ملكه شيء، والمخلوق بخلاف ذلك، يكره أن يسأل ويحب أن لا يسأل؛ لعجزه وفقره وحاجته، ولهذا [*] قال وهب بن منبه - لرجل كان يأتي الملوك -: ويحك تأتي من يغلق عنك بابَه، ويظهر لك فَقْرَه، ويواري عنك غناه، وتدع من يفتح لك بابه نصف الليل ونصف النهار، ويظهر لك غناه، ويقول ادعني أستجب لك.
[*] وقال طاووس لعطاء:
إياك أن تطلب حوائجك إلى من أغلق بابه دونك، ويجعل دونها حجّابَه، وعليك بمن بابُه مفتوح إلى يوم القيامة، أمرك أن تسألَهُ، ووعدك أن يجيبَك ... (1).
__________
(1) - جامع العلوم والحكم (1/ 481).(7/258)
(5) الدعاء سبب لدفع غضب الله: فمن لم يسألِ الله يغضبْ عليه.
(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من لم يسال الله يغضب عليه.
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" وهذا يدلّ على أن رضاه في سؤاله وطاعته، وإذا رضي الرّبّ تبارك وتعالى، فكلّ خير في رضاه، كما أنّ كلّ بلاء ومصيبة في غضبه ".
ففي هذا الحديث دليل على أن الدعاء من العبد لربه من أهم الواجبات، وأعظم المفروضات؛ لأن تجنب ما يغضب الله منه لا خلاف في وجوبه. (1)
[*] قال يحي ابن معاذ:
يا من يغضب على من لا يسأله لا تمنع من سألك.
ولقد أحسن من قال:
لا تسألنَّ بُنَيَّ آدمَ حاجةً ... وسل الذي أبوابُهُ لا تحجبُ
اللهُ يغضبُ إن تركت سؤالَه ... وبنيُّ آدمَ حين يُسألُ يغضبُ
وبنيُّ آدمَ حين يُسألُ يغضبُ
(6) الدعاء دليل على التوكل على الله: فَسِرُّ التوكل على الله وحقيقتُهُ هو اعتماد القلب على الله وحده.
وأعظم ما يتجلى التوكل حال الدعاء؛ ذلك أن الداعي حال دعائه مستعين بالله، مفوض أمره إليه وحده دون سواه.
ثم إن التوكل لا يتحقق إلا بالقيام بالأسباب المأمور بها، فمن عطَّلها لم يصح توكله، والدعاء من أعظم هذه الأسباب إن لم يكن أعظمها.
(7) الدعاء وسيلة لكبر النفس وعلو الهمة: فبالدعاء تكبر النفس وتشرف، وتعلو الهمة وتتسامى؛ ذلك أن الداعي يأوي إلى ركن شديد، ينزل به حاجاته، ويستعين به في كافة أموره، وبهذا يقطع الطمع مما في أيدي الخلق، فيتخلص من أسرهم، ويتحرر من رقهم، ويسلم من مِنَّتِهم؛ فالمنة تصدع قناة العزة، وتنال نيلها من الهمة.
وبالدعاء يسلم من ذلك كله، فيظل مهيب الجناب، موفور الكرامة، وهذا رأس الفلاح، وأسُّ النجاح.
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته لقضاء حاجته ودفع ضرورته_ قويت عبوديته له، وحريته مما سواه؛ فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له_ فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه. (2)
(8) الدعاء سلامة من العجز، ودليل على الكياسة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أبخل الناس من بخل بالسلام و أعجز الناس من عجز عن الدعاء.
(أعجز الناس من عجز عن الدعاء): أعظم ما يشق على المسلم أن يغلق عليه في الدعاء،
[*] قال عمر بن الخطاب:(7/259)
" أني لا أحمل هم الإجابة ولكن أحمل همّ الدعاء" فاذا فتح على العبد في دعائه من معاني الحمد والثناء دعا الله وحسن الظن به والتعلق والرجاء به وتعظيم الرغبة مما عند الله والثقة بوعد الله فينبغي عليه أن يقبل على الدعاء وأن يصرف همته في ذلك لاسيما في الأزمان والأماكن الفاضلة , وعند نزول الضر وحصول الشدائد, ومن أكثر طرق هذا الباب فتح له, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
فأضعف الناس رأيًا، وأدناهم همة، وأعماهم بصيرة_من عجز عن الدعاء؛ ذلك أن الدعاء لا يضره أبدًا، بل ينفعه.
(9) ثمرة الدعاء مضمونة بإذن الله: فإذا أتى الداعي بشرائط الإجابة فإنه سيحصل على الخير، وسينال نصيبًا وافرًا من ثمرات الدعاء ولا بد.
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب له فإما أن يعجل له في الدنيا و إما أن يدخر له في الآخرة ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل.
ففي ما مضى من الأحاديث دليل على أن دعاء المسلم لا يهمل، بل يعطى ما سأله، إما معجلاً، وإما مؤجلاً، تفضلاً من الله_جل وعلا.
[*] قال ابن حجر: كل داع يستجاب له، لكن تتنوع الإجابة؛ فتارة تقع بعين ما دعا به، وتارة بعِوَضِهِ. (1)
(وبين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الله تعالى يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا.
(حديث سلمان في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا.
(10) الدعاء سبب لدفع البلاء قبل نزوله:
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الجواب الكافي:
والدعاء من أنفع الأدوية وهو عدو البلاء يدافعه ويعالجه ويمنع نزوله ويرفعه أو يخففه إذا نزل، وله مع البلاء ثلاث مقامات أحدها أن يكون أقوي من البلاء فيدفعه الثاني أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء فيصاب به العبد ولكن قد يخففه وإن كان ضعيفا الثالث أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه.
(حديث سلمان في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لا يرد القضاء إلا الدعاء و لا يزيد في العمر إلا البر.
[*] قال الشوكاني عن هذا الحديث: فيه دليل على أنه_سبحانه_ يدفع بالدعاء ما قد قضاه على العبد، وقد وردت بهذا أحاديث كثيرة.
وقال: والحاصل أن الدعاء من قدر الله_ عزَّ وجلَّ _ فقد يقضي على عبده قضاءً مقيدًا بأن لا يدعوه، فإذا دعاه اندفع عنه.(7/260)
(11) الدعاء سبب لرفع البلاء بعد نزوله:
(حديث عائشة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يغني حذر من قدر و الدعاء ينفع مما نزل و مما لم ينزل و إن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة.
ومعنى يعتلجان: أن يتصارعان، ويتدافعان.
(ولهذا يجدر بالعبد إذا وجد من نفسه النشاط إلى الدعاء والإقبال عليه أن يستكثر منه؛ فإنه مجاب، وتقضى حاجته بفضل الله، ورحمته، فإنَّ فَتْحَ أبواب الرحمة دليل على إجابة الدعاء.
(12) الدعاء يفتح للعبد باب المناجاة ولذائذها: فقد يقوم العبد لمناجاة ربه، وإنزال حاجاته ببابه _ فَيُفْتَح على قلبه حال السؤال والدعاء من محبة الله، ومعرفته، والذل والخضوع له، والتملق بين يديه _ ما ينسيه حاجته، ويكون ما فتح له من ذلك أحبَّ إليه من حاجته، بحيث يحب أن تدوم له تلك الحال، وتكون آثر عنده من حاجته، ويكون فرحه بها أعظمَ من فرحه بحاجته لو عجلت له وفاته تلك الحال. (1)
[*] قال بعض العُبَّاد: إنه لتكون لي حاجةٌ إلى الله، فأسأله إياها، فيفتح لي من مناجاته، ومعرفته، والتذلل له، والتملق بين يديه _ ما أحبُّ معه أن يُؤخِّر عني قضاءها، وتدوم لي تلك الحال. (2)
(13) حصول المودة بين المسلمين: فإذا دعا المسلم لأخيه المسلم في ظهر الغيب_ استجيبت دعوته، ودل ذلك على موافقة باطنه لظاهره، وهذا دليل التقوى والصدق والترابط بين المسلمين، فهذا مما يقوي أواصر المحبة، ويثبت دعائمها، قال تعالى: (إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرّحْمََنُ وُدّاً) [مريم / 96]
يعني: يَوَدُّن، ويُوَدُّن، يُحِبُّن، ويُحَبُّن، والدعاء _ بلا شك _ من العمل الصالح.
(14) الدعاء من صفات عباد الله المتقين: قال _ جلَّ شأنه _ عن أنبيائه _ عليهم السلام: (إِنّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ) [الأنبياء / 90]
[*] وقال عن عباده الصالحين: (وَالّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاّ لّلّذِينَ آمَنُواْ رَبّنَآ إِنّكَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ) [الحشر / 10] إلى غير ذك من الآيات في هذا المعنى.
__________
(1) انظر مدارج السالكين لابن القيم، 2/ 229.
(2) مدارج السالكين، 2/ 229.(7/261)
(15) الدعاء سبب للثبات والنصرعلى الأعداء:
قال تعالى عن طالوت وجنوده لما برزوا لجالوت وجنوده: (وَلَمّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة /250]
فماذا كانت النتيجة؟
[فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت] [البقرة /251]
(16) الدعاء مَفْزَعُ المظلومين، وملجأ المستضعفين:
فالمظلوم _ أو المستضعف _ إذا انقطعت به الأسباب، وأغلقت في وجهه الأبواب، ولم يجد من يرفع عنه مظلمته، ويعينه على من تسلط عليه وظلمه، ثم رفع يديه إلى السماء، وبث إلى الجبار العظيم شكواه _ نصره الله وأعزه، وانتقم له ممن ظلمه ولو بعد حين.
(ولهذا دعا نوح _ عليه السلام _ على قومه عندما استضعفوه، وكذَّبوه، وردُّا دعوته.
(وكذلك موسى _ عليه السلام _ دعا على فرعون عندما طغى، وتجبر، وتسلط، ورفض الهدى ودين الحق؛ فاستجاب الله لهما، وحاق بالظالمين الخزي في الدنيا، وسوء العذاب في العقبى.
وكذلك الحال بالنسبة لكل من ظُلِم، واستُضْعِف؛ فإنه إن لجأ إلى ربه، وفزع إليه بالدعاء _ أجابه الله، وانتصر له وإن كان فاجرًا.
(حديث ا بن عباس في الصحيحين) قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذٍ ابن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتُردُ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائمَ أموالهم، واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب.
(حديث خزيمة بن ثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اتقوا دعوة المظلوم فإنها تُحْمَلُ على الغمام يقول الله: و عزتي و جلالي لأنصرنك و لو بعد حين.
(حديث ابن عمر في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوة المظلوم مستجابة و إن كان فاجرا ففجوره على نفسه.(7/262)
{تنبيه}: (واعلموا بأن الله تعالى لا يرد دعوة المظلوم ولو كانت من كافر، لا تقولوا بأن هذا كافر لا حرمة له، نعم. لا حرمة له؛ لأنه كافر نجس، ولكن لا تظلمه، ولا تأكل عليه حقه، ولا تأخذ منه حقه، أعطه حقه كاملاً موفوراً غير منقوص ولا تظلمه، فلو دعا عليك وهو كافر لاستجاب الله دعوته، وكفره على نفسه، وفجوره على نفسه، أما دعوة المظلوم فيرفعها الله فوق الغمام، ويقول لها: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) وكانت وصية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذ وهو ذاهب إلى اليمن: (واتق دعوة المظلوم -وكم من الناس لا يهتم بها، ولا يأبه لها- فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
اعلم بأن الله يمهلك ولا ينساك ولا يغفل عنك، فإن كنت ظالماً لأحد من عباد الله ولأحد من خلق الله كافراً كان أو مسلماً، فرد إليه المظلمة قبل أن يأتي يوم لا درهم فيه ولا دينار، ولا مناصب ولا كراسي ولا وزارات، ويؤخذ من حسناتك -يا عبد الله- فتعطى لمن ظلمت، حتى إذا ما فنيت حسناتك أُخذ من سيئات من ظلمتهم في الدنيا فطرحت عليك، فطرح صاحب المظالم على وجهه في النار، وهذا هو المفلس، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
[*] قال الإمام الشافعي وما أجمل ما قال:
وربَّ ظلومٍ قد كفيت بحربه ... فأوقعه المقدور أيَّ وقوعِ
فما كان لي الإسلامُ إلا تعبدًا ... وأدعيةً لا تُتَّقى بدروع
وحسبك أن ينجو الظلومُ وخلفه ... سهامُ دعاءٍ من قِسيِّ ركوع
مُرَيَّشة بالهدب من كل ساهرٍ ... منهلة أطرافها بدموع (1)
وقال:
أتهزأ بالدعاء وتزدريه ... وما تدري بما صنع الدعاءُ
سهام الليل لا تخطي ولكن ... له أمدٌ وللأمد انقضاءُ (2)
(وإذا تقطعت بك -أيها المظلوم- الأسباب، وأُغلقت في وجهك الأبواب، فاقرع أبواب السماء، وُبثَّ إلى الجبار اللأواء، فهو مفزع المظلومين، وملجأ المستضعفين، وَعَدَ بنصرة الملهوف، وإجابة المظلوم، ظَلَم رجل سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- فقال سعد: (اللهم أعم بصره، وأطل عمره، عرضه للفتن)،
(قال الراوي: فأنا رأيته بعد قد عمي بصره، وقد سقط حاجبه على عينيه من الكبر، ويقول: كبير مفتون أصابته دعوة سعد.
__________
(1) ديوان الشافعي، تحقيق: د. محمد عبد المنعم خفاجي، ص109.
(2) ديوان الشافعي، ص75.(7/263)
(فيا ويل من وجهت له سهام المظلومين، ورفعت عليه أيدي المستضعفين، فاصبر -أيها المصاب- على ما قدر، فالنصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، واليسر مع العسر، والبلاء المحض هو ما يشغلك عن ربك، وأما ما يقيمك بين يديه ففيه كمالك وعزك، وإذا أقبل اليسر، وحل الفرج، وزالت الغموم، وما أقربَ الأمر، فاحمد الله على ما كشف، ففي الحمد شكر وزيادة نِعَم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر:60].
(17) الدعاء دليل على الإيمان بالله، والاعتراف له بالربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات: فدعاء الإنسان لربه متضمن إيمانه بوجوده، وأنه غني، سميع، بصير، كريم، رحيم، قادر، مستحق للعبادة وحده دون من سواه.
(18) وربنا سبحانه لا يعبأ بعباده لولا ضراعتهم إليه، قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً [الفرقان:77]
(19) والدعاء من صفات أنبياء الله وأصفيائه، إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ [الأنبياء:90]، وإمام الحنفاء يقول: وَأَدْعُو رَبّى عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا [مريم:48].
(20) الدعاء نفعه عميم، نفعه يلحق الأحياء في دنياهم، والأمواتَ في لحودهم، (حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقةٍ جارية أو علمٍ ينتفع به أو ولدٌ صالحٌ يدعو له.
(21) الدعاء بإذن الله تعالى كفيلٌ بدفع البلاء، ويمنع وقوع العذاب والهلاك، وهو سلاح المؤمن، لا شيء من الأسباب أنفع ولا أبلغ في حصول المطلوب منه، هو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه أو يخففه إذا نزل،(7/264)
فالدعاء - بإذن الله - كفيل بدفع البلاء إذا صدر من قلب مؤمن متقٍ خاشعٍ مخبتٍ لله عز وجل، ومن لسان متضرع، ومن كف صادق لله عز وجل. يقول الله عز وجل: (وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). [سورة الأنعام، الآيات: 42 - 45].
(فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ). [سورة الأنعام، الآيات: 43].
(والمعنى: فهلا إذا رأوا العقوبة تنزل بجيرانهم، يشردون من أوطانهم، تستلب أموالهم، تنتهك حرماتهم، تحتل بلادهم، تهدم مقدساتهم تحتل بلادهم، فهلا إذا رأوا ذلك رجعوا وجأروا إلى الله.
هلا تابوا وتركوا ما القوم عليه سائرون خشية أن يصيبهم ما أصابهم؟!.
لا، ولكنهم لجّوا في طغيانهم يعمهون، فترى أهل الربا على الربا، وأهل التلفاز على التلفاز، وأهل الخنا على الخنا، وأهل الغناء على الغناء، وأهل ترك الصلاة على تركها، والنساء المتبرجات هن هن، فلم يغيروا ولم يبدلوا هذا وإنهم يرون عقوبة الله عز وجل.
أخرج الإمام أحمد في تفسير هذه الآية: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ). [سورة الأنعام، الآيات: 44]. عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا رأيت الله يُعْطِي العبدَ من الدنيا على مَعاصيه ما يُحِبُّ، فإنما هو اسْتِدْرَاج. ثم تلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ). [سورة الأنعام، الآيات: 44].(7/265)
وقال سبحانه وتعالى: (فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ). [سورة يونس، الآية: 98]. ذلك أن قوم يونس عليه السلام لما عصوا، وخرج نبيهم ذي النون مغاضباً، وترك قومه ووعدهم بالعقوبة بعد ثلاث ليالي، وقد علموا أنّه لا يكذب لأنه نبي من عند الله عزّ وجل، فخشوا العقوبة وأخذوا نساءهم وأطفالهم وأنعامهم وإبلهم وبقرهم وغنمهم، وجأروا إلى الله عز وجل ثلاثة أيام، وقيل: أربعين ليلة، ونادوا الله سبحانه وتعالى بأسمائه، واستغاثوا، وتابوا إلى الله عزّ وجل، فصرف الله سبحانه وتعالى عنهم العقوبة، وقد أوشكت أن تحل بهم.
(والحاصل أنّ الدعاء بإذن الله نافع في رفع البلاء ودفع العقوبة إذا ما صدر من قلب مؤمن صادق لله عز وجل. ولقد كان نبيكم عليه الصلاة والسلام أفزعُ الناس إلى الدعاء، وخصوصاً إذا ألمت مصيبة أو نزلت نازلة، حتى أنه إذا رأى تغيّراً في أفق الجو لجأ إلى الله عز وجل بالدعاء، وجأر إلى الله سبحانه وتعالى بالتضرّع: (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ). [سورة الأعراف، الآية: 55].(7/266)
واسمعوا واقرأوا قصته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند غزوة الأحزاب، وفي بدر لما خرج لملاقاة المشركين، فقد بات ليلته والناس نائمون، بات ليلته كلها وهو يدعو الله عزّ وجل، وقد وعده الله عزّ وجل أن ينصره، ومع ذلك بات يدعو الله طيلة تلك الليلة، يدعو الله بقلب خاشع، وبكف ضارع يجأر إلى الله عز وجل، ويبكي ويتضرع، ويمرّغ وجهه بين يدي رب العالمين في ظلمات الليالي صلوات الله عليه، ففي الحديث "لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ). [سورة الأنفال، الآية: 9]."
والقصص مشهورة ومعروفة، فحينما يلجأ العبد إلى ربّه وقت الشدة، ويكشف الله عزّ وجل عنه ما يجد: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ). [سورة النمل، الآية: 62].
وقد ذُكر عن بعض الصالحين وغيرهم أنهم دعوا الله عز وجل وقت الشدة، وقد صدقوا اللجأ والاضطرار إلى الله عز وجل، فرفع الله عز وجل عنهم البلاء.(7/267)
[*] وقد ذُكر عن أيوب السختياني عليه رحمة الله، وهو أحد رجال الصحيحين، وأحد الأئمة الأثبات أنّه خرج مع قومه وأهل بلده في الحج، فأصابهم في الصحراء عطش شديد، ونفدت مياههم، فقالوا له: يا أيوب، ألا تستغيث الله عز وجل لنا؟! قال: ومن أنا حتى استغيث الله عز وجل لكم؟! فألحوا عليه، وحلفوا، فاقسم عليهم أن لا يخبروا أحداً بما يحصل. فقالوا: نعم فخط خطاً بعمامته، ودعا الله عزّ وجل، فما أن فرغ من دعائه حتى ثارت تلك الخطة التي خطها بعمامته ماءاً، وشربوا وسقوا، وانصرفوا إلى حجهم.
(وفي رواية عن سعيد ابن عنبسة قال: بينما رجل جالس وهو يعبث بالحصى ويحذف به إذ رجعت حصاة منه عليه فصارت في أذنه، فجهدوا بكل حيلة فلم يقدروا على إخراجها، فبقيت الحصاة في أذنه مدة وهي تألمه، فبينما هو ذات يوم جالس إذ سمع قارئ يقرأ: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ).
فقال الرجل: يا رب أنت المجيب وأنا المضطر فأكشف عني ما أنا فيه، فنزلت الحصاة من أذنه في الحال.
(وروى البيهقي في فضائل الأعمال عن حماد ابن سلمة أن عاصما ابن أبي إسحاق شيخ القراء في زمانه قال: أصابتني خصاصة -أ ي حاجة وفاقة - فجئت إلى بعض إخواني فأخبرته بأمري فرأيت في وجهه الكراهة، فخرجت من منزله إلى الصحراء ثم وضعت وجهي على الأرض وقلت يا مسبب الأسباب، يا مفتح الأبواب، يا سمع الأصوات، يا مجيب الدعوات، يا قاضي الحاجات اكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضل عن من سواك. يلح على الله بهذا الدعاء.
قال فوالله ما رفعت رأسي حتى سمعت وقعت بقربي، فرفعت رأسي فإذا بحدأة طرحت كيسا أحمر فأخذت الكيس فإذا فيه ثمانون دينارا وجوهرا ملفوفا بقطنة، فبعت الجواهر بمال عظيم، وأبقيت الدنانير فاشتريت منها عقارا وحمدت الله تعالى على ذلك.
لا تعجب أيها الأخوة، إن ربي لسميع الدعاء، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
والقصص في ذلك كثيرة ومشهورة.
والحاصل - يا عباد الله - أن المسلم في مثل هذه الأحوال، وفي مثل هذه الظروف عليه أن يلجا إلى الله بالدعاء والتضرع.
وما أحسن ما قال الشاعر
لا تسألن بُني ابن ادم حاجة ** وسل الذي أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله ** وبُنيّ آدم حين يُسأل يغضب
سبحانه وتعالى، نسال الله تعالى أن يجعلنا أفقر عباده إليه، وأغنى خلقه عمن سواه.
(22) الدعاء أيضاً به يُستنزلُ النصر من الله العلي القدير:(7/268)
فالمؤيد بالوحي – عليه الصلاة والسلام كان يجتهد في استنزال النصر بالدعاء.
(حديث بْن عَبّاسٍ رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قال: حَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ قال: لَمّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلَىَ الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلاَثُمِائةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً فَاسْتَقْبَلَ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم الْقِبْلَةَ ثُمّ مَدّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبّهِ: اللّهُمّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي. اللّهُمّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي. اللّهُمّ إنْ تَهْلِكْ هََذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ لاَ تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبّهِ مَادّاً يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتّىَ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَ هُ فَأَلْقَاهُ عَلَىَ مَنْكِبَيْهِ، ثُمّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ: يَا نَبِيّ اللّهِ كَذَاكَ مُنَاشَدَتَكَ رَبّكَ (1) فَإنّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال/9]
فاستجاب الله دعاء نَبِيِّه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ونصره على أعدائه.
(23) الدعاء يؤكد ثقة العبد بربه، حين يوقن بالإجابة:
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ادعوا الله و أنتم موقنون بالإجابة و اعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلبٍ غافلٍ لاه.
والدعاء تعبير عن نفس الإنسان، وعن سماحته، وعن إيمانه وخلقه، فالدعاء يدرب على الدعاء للآخرين، حتى للمخالفين، مما يدرب على العفو والتسامح والحب والإيمان.
[*] (شروط الدعاء:
الشرط: لغة العلامة، واصطلاحاً: ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود، ولا عدم لذاته (2).
__________
(1) - وفي رواية لمسلم (كفاك مناشدتك ربك)، وهي كذلك في المسند (1/ 32) وغيره، ويُنظر شرح النووي على مسلم ... (12/ 434).
(2) الفوائد الجلية في المباحث الفرضية لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ص12 وعدة الباحث في أحكام التوارث للشيخ عبد العزيز الناصر الرشيد ص4.(7/269)
للدعاء شروط عديدة لا بد من توفرها؛ كي يكون الدعاء مستجابًا مقبولاً عند الله، وهاك شروط الدعاء جملةً وتفصيلا:
[*] (أولاً شروط الدعاء جملة ً:
(1) الإخلاص لله تعالى:
(2) متابعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
(3) أن يكون الداعي عالمًا بأن الله _ وحده _ هو القادر على إجابة دعائه:
(4) أن يتوسل إلى الله بأحد أنواع التوسل المشروعة:
(5) تجنب الاستعجال:
(6) الدعاء بالخير:
(7) حسن الظن بالله _ عز وجل _:
(8) حضور القلب:
(9) الدعاء بما شُرِعَ:
(1) إطابة المأكل:
(11) تجنب الاعتداء في الدعاء:
(12) ألا يشغل الدعاء عن أمر واجب، أو فريضة حاضرة:
(13) العزمُ والجَزم ُوالجِدُّ في الدعاء:
[*] (ثانياً شروط الدعاء تفصيلا ً:
(1) الإخلاص لله تعالى:
والإخلاص: هو تصفية الدعاء والعمل من كل ما يشوبه، وصرف ذلك كله لله وحده، و هو أن تبتغي بعملك وجه الله تعالى، فإن قصدت بعملك غيره تعالى لم يقبله فهو سبحان، لا شرك فيه، ولا رياء ولا سمعة، ولا طلباً للعرض الزائل، ولا تصنعاً وإنما يرجو العبد ثواب الله ويخشى عقابه، ويطمع في رضاه.
قال تعالى: " فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون " [غافر 14]، وقال تعالى: " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء " [البينة /5].
قال تعالى: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا) [الكهف / 110]
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى: " أنا أغني الشركاء عن الشرك، ومن عمل عملاً أشرك معي فيه غيري، تركته وشِركَه ".
فلا يدعو إلا الله: فلا يجوز له أن يسأل إلا الله، أو أن يدعو غيره معه؛ لأن هذا شرك بالله تعالى.
قال تعالى: (وَأَنّ الْمَسَاجِدَ لِلّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللّهِ أَحَداً) [الجن / 18]
(حديث ابن عباس في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يا غلام! إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله و إذا استعنت فاستعن بالله و اعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك و لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك بشيء إلا قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام و جفت الصحف.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[إذا سألت فاسأل الله] وهذا هو التوحيد العملي.(7/270)
(2) متابعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
قال تعالى: " واتبعوه لعلكم تهتدون " [الأعراف/ 158].
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) (آل عمران: من الآية 31).
والمتابعة شرطٌ في جميع العبادات، لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف /110]
والعمل الصالح هو ما كان موافقاً لشرع الله تعالى ويُراد به وجه الله سبحانه. فلا بد أن يكون الدعاء والعمل خالصاً لله صواباً على شريعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1)،
(ولهذا قال الفضيل بن عياض في تفسير قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (2).
قال: هو أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟
فقال: ”إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة“ (3). ثم قرأ قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (4).
(حديثُ أبي أُمامة صحيح النسائي): أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن الله تعالى لا يقبلُ من العملِ إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وَجهُهُ.
فيجب على المسلم أن يكون متبعاً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل أعماله، لأن العمل الذي لا يكون على شريعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكون باطلاً،
(حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد.
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير 3/ 109.
(2) سورة الملك، الآيتان: 1، 2.
(3) انظر: مدارج السالكين لابن القيم 2/ 89.
(4) سورة الكهف، الآية: 110.(7/271)
(3) أن يكون الداعي عالمًا بأن الله _ وحده _ هو القادر على إجابة دعائه: فلا يجلب له النفع إلا الله، ولا يكشف عنه السوء إلا هو، فهو سبحانه على كل شيء قدير، لأنه تعالى يقول للشيء كن فيكون، قال سبحانه: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [النحل /40]
وقال سبحانه: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس /82]. ومما يزيد ثقة المسلم بربه تعالى أن يعلم أن جميع خزائن الخيرات والبركات عند الله تعالى، قال سبحانه: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَآئِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر /21].
قال تعالى: (أَمّن يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السّوَءَ) [النمل / 62] وهذا هو التوحيد العلمي الاعتقادي _ توحيد الربوبية _.
(4) أن يتوسل إلى الله بأحد أنواع التوسل المشروعة: لأن هناك توسلاتٍ مشروعةً، وهناك توسلات ممنوعة، سيأتي ذكرها فيما بعد.
(ومن التوسلات المشروعة ما يلي:
أ: التوسل باسم من أسماء الله _ عز وجل _ أو صفة من صفاته: كأن يقول: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الرحمن الرحيم _ أن ترحمني، وتغفر لي، أو أن يقول: يا رحمن ارحمني، يا كريم أكرمني، أو يقول: أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء، أو برحمتك أستغث.
قال تعالى: (وَللّهِ الأسْمَآءُ الْحُسْنَىَ فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف /: 180]
ب_ التوسل إلى الله بصالح الأعمال: كأن يقول المسلم: اللهم إني أسألك بإيماني بك، أو بمحبتي لك، أو باتباعي لرسولك، أو أن يذكر بين يدي دعائه عملاً صالحًا عَمِلَه ثم يتوسل به إلى الله _ تعالى _.
ويدل على ذلك قوله تعالى: (الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَآ إِنّنَآ آمَنّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النّارِ) [سورة: آل عمران - الأية: 16]
وقوله تعالى: قال تعالى: (رّبّنَآ إِنّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبّكُمْ فَآمَنّا رَبّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنّا سَيّئَاتِنَا وَتَوَفّنَا مَعَ الأبْرَارِ) [آل عمران/ 193] ومن ذلك ما تضمنته قصة أصحاب الغار، فإن كلاًّ منهم توسل إلى الله بعمل صالح فاستجاب الله لهم.(7/272)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن ثلاثة في بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمى، بدا لله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكا، فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، قد قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب عنه، فأعطي لونا حسنا، وجلدا حسنا، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: الإبل - أو قال البقر، هو شك في ذلك: أن الأبرص والأقرع: قال أحدهما الإبل، وقال الأخر البقر - فأعطي ناقة عشراء، فقال: يبارك لك فيها. وأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن، ويذهب عني هذا، قد قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب، وأعطي شعرا حسنا، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر، قال: فأعطاه بقرة حاملا، وقال يبارك لك فيها. وأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: يرد الله إلي بصري، فأبصر به الناس، قال: فمسحه فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطاه شاة والدا، فأنتج هذان وولد هذا، فكان لهذا واد من إبل، ولهذا واد من بقر، ولهذا واد من غنم، ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين، تقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال، بعيرا أتبلغ عليه في سفري. فقال له: إن الحقوق كثيرة، فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرا فأعطاك الله؟ فقال: لقد ورثت لكابر عن كابر، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت. وأتى الأقرع في صورته وهيئته، فقال له مثل ما قال لهذا، فرد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذبا صيرك الله إلى ما كنت. وأتى الأعمى في صورته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل، وتقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى فرد الله بصري، وفقيرا فقد أغناني، فخذ ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخدته لله، فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك).
جـ_ التوسل إلى الله بدعاء رجل صالح حي حاضر قادر: ويدل على ذلك الحديث الآتي:(7/273)
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال أصابت الناس سنة على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب على المنبر يوم الجمعة قام أعرابي فقال يا رسول الله هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا أن يسقينا قال فرفع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه وما في السماء قزعة قال فثار سحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته قال فمطرنا يومنا ذلك وفي الغد ومن بعد الغد والذي يليه إلى الجمعة الأخرى فقام ذلك الأعرابي أو رجل غيره فقال يا رسول الله تهدم البناء وغرق المال فادع الله لنا فرفع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه وقال اللهم حوالينا ولا علينا قال فما جعل يشير بيده إلى ناحية من السماء إلا تفرجت حتى صارت المدينة في مثل الجوبة حتى سال الوادي وادي قناة شهرا ولم يجيء أحد من ناحية إلا حدث بالجود.
ومن ذلك ما جاء من توسل الصحابة بدعاء العباس (1).
(حديث عمر ابن الخطاب الثابت في صحيح البخاري) قال: كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا قال فيسقون.
د_ إظهار الافتقار والذلة، والاعتراف بالذنب والتقصير: كأن يقول العبد: اللهم إني عبدك الفقير المقصر على نفسه _ أسألك بأن تغفر لي.
ويدل على ذلك قوله _ تعالى _ عن يونس _ عليه السلام قال تعالى: (فَنَادَىَ فِي الظّلُمَاتِ أَن لاّ إِلََهَ إِلاّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّي كُنتُ مِنَ الظّالِمِينَ) [الأنبياء / 87] وقوله عن موسى _ عليه السلام: قال تعالى: (رَبّ إِنّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص /24]
(5) تجنب الاستعجال: وذلك بألا يستعجل العبد الإجابة إذا دعا، وألا يستبطئ الإجابة إذا تأخرت؛ فإن الاستعجال من الآفات التي تمنع أثر الدعاء.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يستجاب أحدكم ما لم يعجل، يقول دعوت فلم يُستَجِبْ لي.
__________
(1) جاء في صحيح البخاري عن أنس _ رضي الله عنه _: =أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا _ "_ فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال فيسقون+. البخاري4/ 209.(7/274)
وفي هذا الحديث أدب من آداب الدعاء، وهو أن يلازم الطلب، ولا ييأس من الإجابة؛ لما في ذلك من الانقياد، والاستسلام، وإظهار الافتقار. (1)
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن الآفات التي تمنع أثر الدعاء عليه أن يستعجل العبد، ويستبطئ الإجابة، فيستحسر، ويدع الدعاء.
وهو بمنزلة من بذر بذرًا، أو غرس غرسًا، فجعل يتعاهده، ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله. (2)
فلا تستبطئ الإجابة وألِحَّ على الله في المسألة، فالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكث يدعو على رعل وذكوان شهراً، وربك حييّ كريم يستحي من عبده إذا رفع يده إليه، أن يردها صفراً، فادع وَرَبُّكَ الأَكْرَم، وألق نفسك بين يديه، وسلّم الأمر كله إليه، واعزم المسألة، وأعظم الرغبة فما رَدَّ سائله، ولا خاب طالبه، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالخلق لم تسدَّ فاقته، ومن أنزلها بالرب فنِعْم الرزاق هو، فلازم الطلب فالمعطي كريم، والكاشف قدير، ولا تستعجل الإجابة إذا دعوت، ولا تستبطئها إذا تأخَّرت، ومن يُكثر قرع الأبواب يوشك أن يفتح له.
وهذا موسى عليه السلام وقف داعياً يقول: (رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى الْحياةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ) [يونس / 88]
وأخوه هارون عليه السلام يؤمن على الدعاء، فاستجاب الله دعاءهما وقال سبحانه: (قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا) [يونس / 89]
[*] قال العلماء: كان بين الدعاء والإجابة أربعون سنة.
(فعلى المؤمن أن يدعو الله، وأن يلح على الله في الدعاء، ولا يعجل في الإجابة، وينتظر الفرج من الله، وكما قال الشاعر اليمني الموحد في قصيدته التي سماها الجوهرة:
لطائف الله وإن طال المدى ... كلمح الطرف إذا الطرف سجى
كم فَرَج بعد إياس أتى ... وكم إياس قد أتى بعد النوى
[*] قال مُورِّقٌ العجلي: ((ما امتلأت غضباً قط، ولقد سألت الله حاجة منذ عشرين سنة فما شفعني فيها وما سئمت من الدعاء)) [نزهة الفضلاء ص 398].
(6) الدعاء بالخير: فحتى يكون الدعاء مقبولاً عند الله _ فلا بد أن يكون في الخير بعيدًا عن الإثم وقطيعة الرحم.
__________
(1) فتح الباري 11/ 141.
(2) الجواب الكافي ص10.(7/275)
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب له فإما أن يعجل له في الدنيا و إما أن يدخر له في الآخرة ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل.
(7) حسن الظن بالله _ عز وجل _:
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ادعوا الله و أنتم موقنون بالإجابة و اعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلبٍ غافلٍ لاه.
[*] قال سفيان ابن عيينة رحمه الله تعالى: لا يمنعنَّ أحدكم من الدعاء ما يعلم من نفسه فإن الله تعالى أجاب دعاء شرِ الخلق إبليس لعنه الله إذ قال: رَبّ فَأَنظِرْنِي إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ
(قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِي إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [سورة: الحجر - الآية: 36]
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملٍ خيرٌ منهم، وإن تقَّرب إليَّ شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إليَّ ذراعا تقربت إليه باعا و إن أتاني مشيا أتيته هَرْوَلَةً.
(وحسن الظن هو الباعث على العمل، والذي يلزم منه تحري الإجابة عند الدعاء، والقبولِ عند التوبة، والمغفرة عند الاستغفار، والإثابة عند العمل.
وأما ظن المغفرة والإثابة والإجابة مع الإصرار على الذنوب، والتقصير في العمل _ فليس من حسن الظن في شيء، بل هو من الأماني الباطلة، الناشئة عن الجهل والغرور.
[*] قال الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى: في قوله تعالى في الحديث القدسي: أنا عند ظن عبدي بي: فيه ترغيب من الله لعباده بتحسين ظنونهم، وأنه يعاملهم على حسابها؛ فمن ظن به خيرًا أفاض عليه جزيل خيراته، وأسبل عليه جميل تفضلاته، ونثر عليه محاسن كراماته، وسوابغ عطياته.
ومن لم يكن في ظنه هكذا لم يكن الله _ تعالى _ له هكذا.
وهذا هو معنى كونه _ سبحانه وتعالى _ عند ظن عبده؛ فعلى العبد أن يكون حسن الظن بربه في جميع حالاته، ويستعين على تحصيل ذلك باستحضاره ما ورد من الأدلة الدالة على سعة رحمة الله _ سبحانه وتعالى. (1)
__________
(1) تحفة الذاكرين ص 12.(7/276)
(8) حضور القلب: فينبغي للداعي أن يكون حاضر القلب، متفهمًا لما يقول، مستشعرًا عظمة من يدعوه؛ إذ لا يليق بالعبد الذليل أن يخاطب ربه ومولاه بكلام لا يعيه هذا الداعي، وبِجُمَلٍ قد اعتاد تكرارها دون فهم لفحواها، أو أن تجري على لسانه _ هكذا _ على سبيل العادة.
بعض الناس قد يدعو وهو غافل القلب، ساهٍ لاهٍ، لا يدري ما يدعو به، فقد يدعو على نفسه وهو لا يشعر، فهذا الدعاء صاحبه غير مخلص، غير صادق فيما يدعو، ومعلوم أن الله تعالى قد لا يستجيب دعاء من كان هذا حاله، لكن ربما صدر الدعاء من قلب غير صادق ولكن أبواب السماء مشرعة فيقبل دعاؤه والله قادر على كل شيء،
(حديث ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: " مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ "
والآية دالة على الخشوع والخضوع لله حال الدعاء، لأن ذلك موقف ذل وانكسار وعبودية لله عز وجل، فينبغي على الداع عند دعائه أن يُظهر الفاقة والحاجة لله تعالى، فيستحضر قلبه وجوارحه، ويئوب إلى ربه وينطرح بين يديه حتى يستجيب دعاءه.
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ادعوا الله و أنتم موقنون بالإجابة و اعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلبٍ غافلٍ لاه.
[*] قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: واعلم أن مقصور الدعاء هو حضور القلب كما سبق بيانه، والدلائل عليه أكثر من أن تحصر، والعلم به أوضح من أن يذكر. (1)
(9) الدعاء بما شُرِعَ: فينبغي للداعي أن يدعو ربه بالأدعية المشروعة الواردة في الكتاب والسنة، أو على الأقل ألا يصادم الأدعية المشروعة بالأدعية البدعية، كأن يتوسل بجاه النبي"أو بالأدعية والتوسلات الشركية، كأن يدعو غير الله _ عز وجل _ من الأموات والغائبين وغيرهم.
(10) إطابة المأكل: وهو من شروط إجابة الدعاء، فأطب مطعمك ومشربك، وتعفف عن الشبهات.
قال تعالى: (إِنّمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتّقِينَ) [المائدة / 27]
__________
(1) الأذكار ص356.(7/277)
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا فقال تعالى (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم) وقال (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك.
{تنبيه}: (وفى الحديث إشارة إلى الأسباب التي تقتضى إجابته، وإلى ما يمنع من إجابته.
فذكر من الأسباب التي تقتضى إجابة الدعاء أربعة:
أحدها: إطالة السفر، والسفر بمجرده يقتضى إجابة الدعاء كما فى الحديث الآتي: (حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاث دعوات مستجابات: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده.
(ومتى طال السفر كان أقرب إلى إجابة الدعاء، لأنه مظنةُ حصول انكسار النفس بطول الغربة عن الأوطان وتحمُّل المشاق. والانكسار من أعظم أسباب إجابة الدعاء.
الثاني: حصول التبذّل فى اللباس، والهيئة، بالشَّعَث والإغبار، وهو من المقتضيات لإجابة الدعاء كما فى الحديث المشهور.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك.
{تنبيه}: (قد يوجد من لا يؤبه به لفقره وضعفه وذلته؛ لكنه عزيز على الله تعالى لا يرد له سؤالاً، ولا يخيب له دعوة فالعبرة بالصلاح لا بالقوة.
(الثالث: (من أسباب قبول الدعاء:
مدّ يديه إلى السماء، (حديث سلمان في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا.
والرابع: الإلحاح على الله عز وجل بتكرير ذكر ربوبيته، وهو من أعظم ما يُطلب به إجابةُ الدعاء، مستفاداً من قوله (يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب).
(11) تجنب الاعتداء في الدعاء:
قال تعالى: (ادْعُواْ رَبّكُمْ تَضَرّعاً وَخُفْيَةً إِنّهُ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ) [الأعراف /55](7/278)
(حديث عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور و الدعاء.
(12) ألا يشغل الدعاء عن أمر واجب، أو فريضة حاضرة: كأن يشتغل بالدعاء عن صلاة حاضرة كصلاة الفجر، أو الظهر، أو العصر، أو نحوها.
أو أن يترك القيام بحق الضيف إذا زاره، ويشتغل بالدعاء.
أو أن يدع خدمة الوالدين إذا احتاج إليه؛ بحجة اشتغاله بالدعاء.
فلا ينبغي الاشتغال بالدعاء عن أمر واجب، أو فريضة حاضرة.
(ولعل في قصة جريج العابد ما يشير إلى ذلك؛
ففي الصحيحين عن حميد بن هلال عن أبي رافع عن أبي هريرة أنه قال:=كان جريج يتعبد في صومعته، فجاءت أمُّه.
قال حميد: فوصف لنا أبو رافع صفة أبي هريرة لصفة رسول الله _ صلى الله عليه _ أُمَّه حين دعته كيف جعلت كفها فوق حاجبها، ثم رفعت رأسها إليه تدعوه، فقالت: يا جريج، إني أُمُّك، كلِّمْني، فصادفته يصلي فقال: اللهم أمي وصلاتي، فاختار صلاته، فقالت: اللهم إني هذا جريجٌ وهو ابني وإني كلمته فأبى أن يكلمني؛ اللهم فلا تُمِتْه حتى تريه وجوه المومسات.
قال: ولو دعت عليه أن يفتن لفتن، قال: وكان راعي ضأنٍ يأوي إلى دَيْرِه، قال: فخرجت امرأة من القرية، فوقع عليها الراعي، فحملت، فولدت غلامًا، فقيل: ما هذا؟ قالت: من صاحب هذا الدير.
قال: فجاؤوا بفؤوسهم، ومساحيهم، فنادوه، فصادفوه يصلي، فلم يكلمهم.
قال: فأخذوا يهدمون ديره، فلما رأى ذلك نزل إليهم.
فقالوا له: سل هذا، قال فتبسم، ثم مسح راس الصبي، فقال: من أبوك؟
قال: أبي راعي الضأن، فلما سمعوا ذلك منه، قالوا: نبني ما هدمنا من ديرك بالذهب والفضة.
قال: لا، ولكن أعيدوه ترابًا كما كان، ثم علاه. (1)
وفي رواية لمسلم: فتذاكر بنو إسرائيل جريجًا وعبادته، وكانت امرأة بغيٌّ يُتَمَثَّلُ بحسنها، فقالت: إن شئتم لأَفْتِنَنَّه لكم.
قال: فتعرضت له، فلم يلتفت إليها، فأتت راعيًا كان يأوي إلى صومعته، فأَمْكَنَتْه من نفسها، فوقع عليها، فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جريج، فأتوه، فاستنزلوه وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟
قالوا زنيت بهذه البغي، فحملت منك.
فقال: أين الصبي؟
__________
(1) البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله [واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها] مريم:16، (3436)، ومسلم كتاب البر والصلة باب تقديم الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها [2550، واللفظ لمسلم.(7/279)
فجاؤوا به، فقال: دعوني حتى أصلي، فصلَّى، فلما انصرف أتى الصبيَّ، فطعن في بطنه، وقال: يا غلام! من أبوك؟ قال: فلان الراعي الحديث.
[*] قال النووي رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث:
قال العلماء: هذا دليل على أنه كان الصواب في حقه إجابتها؛ لأنه كان في صلاة نفل، والاستمرار فيها تطوع لا واجب، وإجابة الأم وبرها واجب، وعقوقها حرام، وكان يمكنه أن يخفف الصلاة ويجيبها ثم يعود إلى صلاته.
فلعله خشي أنها تدعوه إلى مفارقة صومعته، والعود إلى الدنيا ومتعلقاتها وحظوظها، وتضعف عزمه فيما نواه وعاهد عليه. (1)
(13) العزمُ والجَزم ُوالجِدُّ في الدعاء:
يجب على المسلم إذا سأل ربه فإنه يجزم ويعزم بالدعاء، ولهذا نهى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الاستثناء في الدعاء.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، ارحمني إن شئت ارزقني إن شئت، وليعزم مسألته، إنه يفعل ما يشاء لا مكره له).
قال الشيخ عبد الرحمن آل الشيخ:
"بخلاف العبد؛ فإنه قد يعطي السائل مسألته لحاجته إليه، أو لخوفه أو رجائه، فيعطيه مسألته وهو كاره، فاللائق بالسائل للمخلوق أن يعلق حصول حاجته على مشيئة المسئول، مخافة أن يعطيه وهو كاره، بخلاف رب العالمين؛ فإنه تعالى لا يليق به ذلك لكمال غناه عن جميع خلقه، وكمال جوده وكرمه، وكلهم فقير إليه، محتاج لا يستغني عن ربه طرفة عين، فاللائق بمن سأل الله أن يعزم المسألة، فإنه لا يعطي عبده شيئاً عن كراهة، ولا عن عظم مسألة" - فتح المجيد (ص 471) بتصرف يسير.
[*] (آداب الدعاء:
للدعاء آداب ينبغي لطالب العلم أن يحيط بها علماً وأن يتبعها حتى يكون دعاؤه أرجى للقبول، وقد قال ابن القيم - رحمه الله - كلمة تلخص آداب الدعاء:
يقول: "ألا أدلك على دعاء لا يرد أبداً ... ادعُ الله وأنت موقن بالإجابة، بخشوع، وارفع يديك، وألح في الدعاء، وتوسل إلى الله بأسمائه، وتملق إلى الله بإنعامه، واخشع له، وذل له، وتصدق بعد أن تدعو، هذا الدعاء لا يكاد يرد".
[*] (وهاك آداب الدعاء جملةً وتفصيلا:
(أولاً آداب الدعاء جملةً:
(1) الوضوء:
(2) السواك:
(3) استقبال القبلة ورفع اليدين:
(4) حمد الله والثناء على الله قبل الدعاءِ، والصلاة على النبي:
(5) الدعاء باسم الله الأعظم:
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 16/ 82.(7/280)
(6) الإقرار بالذنب، والاعتراف بالخطيئة:
(7) الجزم في الدعاء، والعزم في المسألة:
(8) يعظم الرغبة فإن الله تعالى لا يتعاظمه شيء أعطاه:
(9) الإلحاح بالدعاء:
(10) الدعاء ثلاثًا:
(11) أن يتخير جوامع الدعاء ومحاسن الكلام:
(12) أن يقدم بين يدي دعائه عملاً صالحًا:
(13) يتوسل إلى الله تعالى بأنواع التوسل المشروعة:
(14) الطموح وعلو الهمة:
(15) أن يكون غرض الداعي جميلاً حسنًا:
(16) يخفِضُ صوته في الدعاء بين المخافتة والجهر:
(17) إظهار الداعي الشكوى إلى الله، والافتقار إليه:
(18) الخشوع والخضوع:
(19) البكاء حال الدعاء:
(20) التضرع إلى الله في الدعاء:
(21) التواضع والتبذل في اللباس والهيئة:
(22) الرغبة والرهبة:
(23) الدعاء في كل الأحوال في الشدة والرخاء، وفي المنشط والمكره:
(24) اختيار الاسم المناسب من أسماء الله الحسنى، أو الصفة المناسبة حال الدعاء:
(25) ألا يحجر رحمة الله في الدعاء:
(26) أن يسأل الله كل صغيرة وكبيرة:
(27) يدعو لوالديه مع نفسه:
(28) أن يدعو لإخوانه المؤمنين:
(29) أن يبدأ الداعي بنفسه:
(30) يترصد للدعاء الأوقات الشريفة:
(31) التأمين على الدعاء من المستمع:
(32) تجنب الدعاء على الأهل، والمال، والنفس:
(33) ألا يتكلف السجع:
(34) الإعراب بلا تكلف:
(35) أن تلقي باللوم على نفسك:
(36) الالتزام بالأدعية المأثورة:
[*] (ثانياً آداب الدعاء تفصيلا:
(1) الوضوء:
((حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) لما فرغ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حنين، وفيه قال: فدعا بماء فتوضأ ثم رفع يديه فقال: {اللهم اغفر لعبيد أبي عامر} ورأيت بياض أبطيه.
(2) السواك: ووجه ذلك أن الدعاء عبادة باللسان؛ فتنظيف الفم عند ذلك أدب حسن؛ ولهذا جاءت السنة المتواترة بمشروعية السواك للصلاة، والعلة في ذلك تنظيف المحل الذي يكون الذكر به في الصلاة. (1)
(حديث عائشة الثابت في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب)
(3) استقبال القبلة ورفع اليدين:
__________
(1) انظر تحفة الذاكرين ص44.(7/281)
(حديث عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: (اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإِسْلامِ لا تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ) فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ. . . الحديث.
[*] قال النووي رحمه الله في شرح مسلم:
فِيهِ اِسْتِحْبَاب اِسْتِقْبَال الْقِبْلَة فِي الدُّعَاء، وَرَفْع الْيَدَيْنِ فِيهِ.
(حديث سلمان في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا.
(حديث ابن عباس في صحيح أبي داوود موقوفاً) قال: المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك أو نحوهما والاستغفار أن تشير بأُصبع واحدة والابتهال أن تمد يديك جميعا.
وفي البخاري: استقبل رسول الله"الكعبة فدعا على قريش. (1)
ورفع اليدين إنما يكون في الدعاء العام، وما ورد الدليل على مشروعية رفع اليدين فيه، كرفع اليدين في الدعاء عند الصفا والمروة، وفي الاستسقاء يوم الجمعة ونو ذلك، لأن هناك أدعية لا ترفع فيها الأيدي مثل دعاء دخول المنزل، والخروج منه، ودخول الخلاء، والخروج منه.
{تنبيه}: (عند رفع اليدين بالدعاء يكون باطن الكف إلى السماء على صفة الطالب المتذلل الفقير المنتظر أن يُعْطَى (حديث مالك بن يسار رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها.
مسألة: هل يضم يديه عند رفعهما أو يجعل بينهما فرجة؟
نص الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "الشرح الممتع" (4/ 25) أنها تكون مضمومة. ونص كلامه: " وأما التفريج والمباعدة بينهما فلا أعلم له أصلا لا في السنة ولا في كلام العلماء " انتهى.
(4) حمد الله والثناء على الله قبل الدعاءِ، والصلاة على النبي:
__________
(1) البخاري (3960) المغازي، باب دعاء النبي"على كفار قريش.(7/282)
(حديث فضالة ابن عُبيد في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله تعالى و الثناء عليه ثم ليصل على النبي ثم ليدع بعد بما شاء.
(حديث عمر في صحيح الترمذي موقوفاً) قال: إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء إلى السماء حتى تصلي على نبيك - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في الأذكار ص 176:
(أجمع العلماء على استحباب ابتداء الدعاء بالحمد لله تعالى والثناء عليه، ثم الصلاة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك تختم الدعاء بهما، والآثار في هذا الباب كثيرة مرفوعة).
واعلم بأن الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها ثلاث مراتب:
" إحداها: أن يُصلى عليه قبل الدعاء، وبعد حمد الله تعالى لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(حديث فضالة ابن عُبيد في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله تعالى و الثناء عليه ثم ليصل على النبي ثم ليدع بعد بما شاء.
(حديث عمر في صحيح الترمذي موقوفاً) قال: إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء إلى السماء حتى تصلي على نبيك - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والمرتبة الثانية: أن يُصلى عليه في أول الدعاء وأوسطه وآخره.
والمرتبة الثالثة: أن يصلى عليه في أوله وآخره، ويجعل حاجته متوسطة بينهما "انتهى كلام ابن القيم بتصرف من كتاب جلاء الأفهام ص 531
(5) الدعاء باسم الله الأعظم:
(6) الإقرار بالذنب، والاعتراف بالخطيئة:
ولذلك فإن دعاء يونس _ عليه السلام_ من أعظم الأدعية إن لم يكن أعظمها، وما ذلك إلا لأنه ضمنه اعترافه بوحدانية الله _ عز وجل _ وإقراره بالذنب والخطيئة والظلم للنفس، كما قال_تعالى _ عنه: قال تعالى: (فَنَادَىَ فِي الظّلُمَاتِ أَن لاّ إِلََهَ إِلاّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّي كُنتُ مِنَ الظّالِمِينَ) [الأنبياء / 87]
وكذلك الحال بالنسبة للدعاء العظيم المسمى بسيد الاستغفار، والذي يعد أفضل صيغ الاستغفار، ومن أسباب أفضليته أنه تضمن الإقرار بالذنب، والاعتراف بالخطيئة،(7/283)
(حديث شداد بن أوس في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سيدُ الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني و أنا عبدك و أنا على عهدك و وعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي و أبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت من قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة و من قالها من الليل و هو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة.
(7) الجزم في الدعاء، والعزم في المسألة:
((حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت اللهم ارزقني إن شئت و ليعزم المسألة فإنه يفعل ما يشاء لا مكره له.
[*] قال الشيخ عبد الرحمن آل الشيخ:
"بخلاف العبد؛ فإنه قد يعطي السائل مسألته لحاجته إليه، أو لخوفه أو رجائه، فيعطيه مسألته وهو كاره، فاللائق بالسائل للمخلوق أن يعلق حصول حاجته على مشيئة المسئول، مخافة أن يعطيه وهو كاره، بخلاف رب العالمين؛ فإنه تعالى لا يليق به ذلك لكمال غناه عن جميع خلقه، وكمال جوده وكرمه، وكلهم فقير إليه، محتاج لا يستغني عن ربه طرفة عين، فاللائق بمن سأل الله أن يعزم المسألة، فإنه لا يعطي عبده شيئاً عن كراهة، ولا عن عظم مسألة" - فتح المجيد (ص 471) بتصرف يسير.
(8) يعظم الرغبة فإن الله تعالى لا يتعاظمه شيء أعطاه:
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إذا دعا أحدكم فليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه.
(9) الإلحاح بالدعاء:
الإلحاح: الإقبال على الشيء ولزوم المواظبة عليه، يقال: ألحَّ السحابُ: دام مطره، وألحَّت الناقة: لزمت مكانها، وألحَّ الجمل: لزم مكانه وحَرَن، وألحَّ فلان على الشيء: واظب عليه، وأقبل عليه (1).
فالعبد يكثر من الدعاء، ويكرره، ويلحُّ على الله بتكرير ربوبيته وإلهيته، وأسمائه وصفاته، وذلك من أعظم ما يطلب به إجابة الدعاء، والإلحاح من الآداب الجميلة، التي تدل على صدق الرغبة فيما عند الله _ عز وجل، فكن ملحاحاً في دعائك، راجياً عفو ربك، طالباً مغفرته، راغباً في جنته ونعيمه، طامعاً في عطائه وغناه فهو سبحانه يستحي أن يرد عبده خائباً إذا سأله.
__________
(1) انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 4/ 236، والمصباح المنير ص550، والقاموس المحيط ص306.(7/284)
[*] وقال ابن القيم رحمه الله في "الداء والدواء" ص 25:
ومن أنفع الأدوية: الإلحاح في الدعاء اهـ.
(الإلحاح على الله عز وجل بتكرير ذكر ربوبيته، وهو من أعظم ما يُطلب به إجابةُ الدعاء، للحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا فقال تعالى (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم) وقال (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك.
(مستفاداً من قوله (يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب).
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة، من باب كان نحو دار القضاء، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائما، ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله يغثنا. فرفع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يديه، ثم قال: (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا). قال أنس: ولا والله، ما نرى في السماء من سحاب، ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار. قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت. فلا والله ما رأينا الشمس ستا. ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة - يعني الثانية - ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائم يخطب، فاستقبله قائما، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها عنا. قال: فرفع رسول الله يديه، ثم قال: (اللهم حولينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب، وبطون الأودية ومنابت الشجر). قال: فأقلعت، وخرجنا نمشي في الشمس.
الشاهد: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا).
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال: كان النبي ... - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دعا دعا ثلاثا وإذا سأل سأل ثلاثا.(7/285)
(وقال ابن كثير في وصف حال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة بدر: بات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى جذع شجرة ويكثر في سجوده أن يقول: يا حي يا قيوم يكرر ذلك ويلظ عليه الصلاة والسلام بقيام الليل بالبكاء حتى الصباح وهو يقول ” اللهم لا تودع منى، اللهم لا تخذلني، اللهم لا تتركني، اللهم أنشدك ما وعدتني ” يكررها حتى يسقط رداؤه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من وراءه فقال يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك .. فأنزل الله (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ)
[الأنفال: 9]
[*] وفي كتاب الزهد للإمام أحمد (305) عن قتادة:
قال مورق: ما وجدت للمؤمن مثلاً إلا رجلاً في البحر على خشبة فهو يدعو: يارب ... يارب .. لعل الله أن ينجيه.
[*] قال الأوزاعي: أفضل الدعاء الإلحاح على الله عز وجل والتضرع إليه.
[*] قال أبوالدرداء: من يُكثر قرع الباب، باب الملك يوشك أن يُستجاب له ”.
[*] قال الترمذى: والإلحاح فى الدعاء مما يفتح الإجابة، ويدل على إقبال القلب، ويحصل بتكراره مرتين أو ثلاثاً وأكثر، لكن الاقتصار على الثلاث مرات أعدل إتباعاً للحديث ” شرح سنن النسائي.
(وإنما صار المُلِّحُ محبوباً لأنه لا ينقطع رجاؤه، فهو يسأل فلا يرى إجابة، فلا يزال يُلحُّ ولا ينقطع رجاؤه، ولا يدخله اليأس، فذلك لعلمه بالله تعالى، وصحة قلبه وصدق عبوديته، واستقامة وجهته، فمن صدق الله في دعوته استعمل اللسان، وانتظر القلب مشيئته، فلا يضيق ولا ييأس، لأن قلبه صار معلقا بمشيئته فانتظار المشيئة أفضل ما يَقْدُمُ به على ربه، وهو صفوة العبودية، واستعمال اللسان عبادة لأن في السؤال اعترافاً بأنها له، وانتظار مشيئته لقضائه عبادة فهو بين عبادتين وجهتين وأفضل الدعاء من داوم عليه.
وأهل اليقين يدعون ويلحون، فإن أجاب قبلوا، وإن تأخر صبروا، وإن منع رضوا وأحسنوا الظن، وهم في الأحوال سكنون مطمئنون ينتظرون مشيئته ”.
«اللهم اجعلنا من أهل اليقين الذين يدعون ويلحون القابلين بقضاءك الصابرين على بلاءك المحسنين الظن بك الراضين الساكنين المطمئنين المنتظرين دائماً مشيئتك راضين بها.»(7/286)
(إذاً فإذا دعوت ربك مرة أخي عند ضائقة أو كرب أو غير ذلك ولم تجد نتيجة فلا تجزع أو تيأس أو تترك الدعاء ولكن أَلِّحْ على الله فى التضرع والابتهال والدعاء لعل الله جل وعلا يحب سماع صوتك
{تنبيه}: (أما حديث إن الله يحب الملحين في الدعاء ضعفه الألباني رحمه الله في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة المجلد الثاني.
(10) الدعاء ثلاثًا:
كما جاء في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود الطويل، وفيه:=فلما قضى النبي"صلاته _ رفع صوته، ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثلاثًا، ثم قال: اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش. (1)
[*] قال النووي رحمه الله:
فِيهِ: اِسْتِحْبَاب تَكْرِير الدُّعَاء ثَلاثًا. وَقَوْله: (وَإِذَا سَأَلَ) هُوَ الدُّعَاء , لَكِنْ عَطَفَهُ لاخْتِلافِ اللَّفْظ تَوْكِيدًا اهـ.
[*] وقال البخاري رحمه الله:
بَاب تَكْرِير الدُّعَاء، ثم ذَكَرَ فِيهِ حَدِيث عَائِشَة رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا الله تعالى، وكَرَّرَ الدعاء لما سحره لبيد بن الأعصم اليهودي، قالت عائشة: حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ دَعَا ثُمَّ دَعَا. . . الحديث. رواه البخاري (6391) ومسلم (2189) واللفظ له.
__________
(1) مسلم (1794) الجهاد والهجرة، باب ما لقي النبي"من أذى المشركين.(7/287)
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة، من باب كان نحو دار القضاء، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائما، ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله يغثنا. فرفع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يديه، ثم قال: (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا). قال أنس: ولا والله، ما نرى في السماء من سحاب، ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار. قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت. فلا والله ما رأينا الشمس ستا. ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة - يعني الثانية - ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائم يخطب، فاستقبله قائما، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها عنا. قال: فرفع رسول الله يديه، ثم قال: (اللهم حولينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب، وبطون الأودية ومنابت الشجر). قال: فأقلعت، وخرجنا نمشي في الشمس.
الشاهد: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا).
(11) أن يتخير جوامع الدعاء ومحاسن الكلام:
بدلاً من التطويل، والحشو، والتفصيل الذي لا لزوم له فقد كان رسول الله"يستحب الجوامع من الدعاء، ويدع ما سوى ذلك.
(حديث عائشة في صحيح أبي داود) قالت كان رسول الله يستحب الجوامع من الدعاء وَيَدَعُ ما سوى ذلك.
(ومن المعلوم شرعاً أنه لا سبيل إلى تحصيل جوامع الدعاء إلا عن طريق الالتزام بأدعية النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه أُعطي جوامع الكلم كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي موسى في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أُعطيت الكلام وجوامعه وخواتمه.
وفي السنة الصحيحة ما تشتمل على جوامع الكلم بل تشتمل على خيري الدنيا والآخرة، منها ما يلي:
(حديث عائشة في صحيح ابن ماجة) أن رسول الله علمها هذا الدعاء اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله و آجله ما علمت منه و ما لم أعلم و أعوذ بك من الشر كله عاجله و آجله ما علمت منه و ما لم أعلم اللهم إني أسألك من خير ما سألك به عبدك و نبيك و أعوذ بك من شر ما عاذ به عبدك و نبيك اللهم إني أسألك الجنة و ما قرب إليها من قول أو عمل و أعوذ بك من النار و ما قرب إليها من قول أو عمل و أسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيرا.(7/288)
(حديث عمار ابن ياسر في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو بهذا الدعاء اللهم بعلمك الغيب و قدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي و توفني إذا علمت الوفاة خيرا لي، اللهم وأسألك خشيتك في الغيب و الشهادة و أسألك كلمة الحق في الرضا و الغضب و أسألك القصد في الفقر و الغنى و أسألك نعيما لا ينفد و قرة عين لا تنقطع و أسألك الرضا بالقضاء و أسألك برد العيش بعد الموت و أسألك لذة النظر إلى وجهك و الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة و لا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان و اجعلنا هداة مهتدين.
(حديث أبي هريرة في صحيح أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني وزدني علماَ.
{تنبيه}: (مما يجب التنبيه عليه اَلتَّفْصِيلُ الزائد في اَلْدُّعَاءِ (كَثْرَةُ اَلألْفَاظِ) من صور الاعتداء في الدعاء:
(حديث أبي نَعَامَةَ الثابت في صحيح أبي داود) عن ابن لِسَعْدٍ أنه قال: سَمِعَنِي أبِي وَأنَا أقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا وَبَهْجَتَهَا وَكَذَا وَكَذَا وَأعُوذُ بِكَ مِنْ النَّارِ وَسَلاسِلِهَا وَأغْلالِهَا وَكَذَا وَكَذَا فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ " فَإِيَّاكَ أنْ تَكُونَ مِنْهُمْ، إنَّكَ إِنْ أعْطِيتَ الْجَنَّةَ أعْطِيتَهَا وَمَا فِيهَا مِنْ الْخَيْرِ، وَإنْ أعِذْتَ مِنْ النَّارِ أعِذْتَ مِنْهَا وَمَا فِيهَا مِنْ الشَّرِّ.
[*] قال ابن تيمية (1):
الدُّعَاءُ ليس كُلُّهُ جائزاً، بل فيه عُدْوَانٌ مُحَرَّم، والمَشْرُوعُ (2) لا عُدْوَانَ فيه، وأن العُدْوَانَ يَكُونُ تَارَة ًبِكَثْرَةِ الألْفَاظِ، وتَارَةً في المَعَانِي، كما فَسَّرَ الصحابة ذلك 000 ثم أورد الأحاديث المذكورة سابقاً 0
[*] قال في عون المعبود بشرح سنن أبي داود:
__________
(1) الفتاوى، ج 22، ص 277 0
(2) أي الوارد في القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبوية المطهرة 0(7/289)
الْجَامِعَة لِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَة وَهِيَ مَا كَانَ لَفْظه قَلِيلاً وَمَعْنَاهُ كَثِيرًا، كما في قوله تعالى {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الآخِرَة حَسَنَة وَقِنَا عَذَاب النَّار} ومِثل الدُّعَاء بِالْعَافِيَةِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة (1)
(فمن صور الاعتداء تَكْثِيرُ الكلام الذي لا دَاعِيَّ له ولا حاجة إليه، والتَّكَلِِّفِ في ذِكْرِ التَّفَاصِيلِ، كأن يدعو ربَّهُ أن يرحمه إذا وُضِعَ في اللحد تحت التراب والثرى، وكذلك أن يرحمه إذا سالت العيون وبليت اللحوم، وأن يرحمه إذا تركه الأصحاب وتولى عنه الأهل والأحباب (2)، أو يدعو على عدوه أن يُخْرِسَ الله لسانه ويُشِلَّ يده، ويُجَمِدَ الدَّمَ في عُرُوقِه000 0
ومما لا شك فيه أن النتيجة الطبيعية لهذا الاعتداء هو إصابة اَلْمُصَلِينَ بِاَلْمَلَلِ، والملل يُذْهِِبُ التَّدَبُرَ والخُشُوعِ ويُوِديِ بِاَلْمُصَلِي إلى الغَفْلَةِ، وهي حالة مَنْهِيٌّ عنها إذ لا تتناسب ومقام التَّذَلُّلِ والطَّلَبِ من الله تعالى اَلْمُطَّّلِعِ على أحوال النُّفُوسِ وما تُكِنُّهُ الصُّدُورِ 0
فَاَلإطَالَةِ اَلْمُمِلَّةِ تُرْهِقُ اَلْمُصَلِي وَتُصِيبُهُ بَاَلْمَلَلِ وَاَلْغَفْلَةِ، وَقَدْ وَرَدَ نَهْيُ اَلْغَافِلَةُ قُلُوبُهُمُ عَنْ اَلْدُّعَاءِ:
(وكذلك يتخير لدعائه أحسن الألفاظ وأنبلها، وأجمعها للمعاني بما يليق بمناجاة الله تعالى: [*] قال الخطابي رحمه الله تعالى: ولْيَتَخَيَّرْ لدعائه، والثناء على ربه أحسن الألفاظ، وأنبلها، وأجمعها للمعاني؛ لأنه مناجاة العبد سَيِّدَ السادات، الذي ليس له مثل، ولا نظير. (3)
، ولا سبيل إلى تحصيل ذلك أيضاً إلا في الالتزام بأدعية النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه أعلم الناس بربه وأخشاهم له، وأعظمهم ثناءاً على ربه سبحانه، ومن السنة النبوية الكثير من ذلك منها منا يلي:
__________
(1) يشير إلى الحديث الشريف: " اسألوا الله العفو والعافية فإن أحدا لم يُعْطَ بعد اليقين خيرا من العافية ... "0 (رواه الترمذي، أنظر صحيح الترمذي رقم 2821) والعفو معناه التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه، والعافية: أن تسلم من الأسقام والبلايا وهو ضد المرض0
(2) ويكفيه أن يدعوا بالرَّحمة عند الممات 0
(3) شأن الدعاء ص15.(7/290)
(حديث أبي سعيدٍ في صحيح مسلم) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رفع رأسه من الركوع قال: ربنا لك الحمد ملئ السموات والأرض وما بينهما وملئ ما شيءت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحقُ ما قال العبد وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا مُعطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
(حديث علي في صحيح أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في آخر وتره: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك و بمعافاتك من عقوبتك و أعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
(حديث ابن عباس في الصحيحين) قال كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا تهجد من الليل قال: اللهم لك الحمد أنت قيمُ السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق، والنبيون والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وأخرت وأسررت وأعلنت أنت المقدِّم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت.
(12) أن يقدم بين يدي دعائه عملاً صالحًا:
أن يقدم بين يدي دعائه عملاً صالحًا: كأن يتصدق، أو يحسن إلى مسكين، أو يصلي ركعتين، أو يصوم، أو غير ذلك؛ ليكون هذا العمل وسيلة إلى الإجابة.
فإن نبي الله يونس عليه السلام لم يزل يرفع له عمل صالح ودعوة مستجابة.
(فيجئ الجواب الإلهي له:
(فَلَوْلاَ أَنّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ)
[الصافات 143، 144]
(أتاه الجواب بالنجاة (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجّيْنَاهُ مِنَ الْغَمّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ)
[الأنبياء / 88]
[*] قال الحسن البصري:
"ما كان ليونس صلاة في بطن الحوت, ولكن قدم عملاً صالحًا في حال الرخاء فذكره الله في حال البلاء, وإن العمل الصالح ليرفع صاحبه فإذا عثر وجد متكأً".
{تنبيه}: (هنا نذكر قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعلُ المعروف يقي مصارع السوء.
(حديث أبي سعيد الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (صدقةُ السر تُطفئُ غضب الرب، وصلةُ الرحم تزيدُ في العمر، وفعلُ المعروف يقي مصارع السوء)(7/291)
ويدل على ذلك حديث الثلاثة الذي انطبقت عليهم الصخرة في الغار؛ فإن النبي"حكى عنهم أن كل واحد منهم توسل بأعظم أعماله التي عملها لله _ عز وجل _ فاستجاب الله دعاءهم، وارتفعت عنهم الصخرة، وكان ذلك بحكايته"سنة لأمته.
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم، حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فناء بي في طلب شيء يوما، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي، فأدرتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله أد إلي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون).
[*] قال وهب بن منبة (رحمة الله):
العمل الصالح يبلغ الدعاء، ثم تلا قوه تعالى: (اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) [فاطر /10].
[*] وقال بعضهم: يستحب لمن وقع في شدة أن يدعو بصالح عمله.(7/292)
{تنبيه}: (التوسل بالاعمال الصالحة لا يتحقق الا أهل الطاعات ... الذين اضاءت انوار الصالحات من صحائفهم. فاؤلئك هم الذين اذا توسلوا الى الله تعالى باعمالهم الصالحة قبل توسلهم وكان العمل الصالح خير شفيع لهم. .
[*] قال وهب بن منبه:
مثل الذي يدعو بغير عمل كمثل الذي يرمي بغير وتر.
(13) يتوسل إلى الله تعالى بأنواع التوسل المشروعة:
والوسيلة لغة: القربة، والطاعة، وما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به إليه. يقال: وسَّل فلان إلى الله تعالى توسيلاً: عمل عملاً تقرب به إليه. ويقال: وسَلَ فلان إلى الله تعالى بالعمل يَسِلُ وَسْلاً وتوسُّلاً وتوسيلاً: رغب وتقرب إليه. أي: عمل عملاً تقرب به إليه (1).
[*] قال الراغب الأصفهاني:
الوسيلة: التوصل إلى الشيء برغبة، وهي أخص من الوصيلة لتضمُّنها معنى الرغبة، قال تعالى: {وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة /35]
وحقيقة الوسيلة إلى الله تعالى مراعاة سبيله بالعلم، والعبادة، وتحري مكارم الشريعة. وهي كالقربة، والواسِلُ: الراغب إلى الله تعالى (2).
ومعنى قوله تعالى: {وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه (3).
النوع الأول: التوسل في الدعاء باسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته، كأن يقول الداعي قي دعائه: اللهم إني أسألك بأنك أنت الرحمن الرحيم، اللطيف الخبير، أن تعافيني، أو يقول: أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن ترحمني وتغفر لي، ولهذا قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}
[الأعراف /180]
ومن دعاء سليمان عليه الصلاة والسلام ما قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} ... [النمل /19]
__________
(1) انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 5/ 185، والقاموس المحيط ص1379، والمصباح المنير ص660.
(2) مفردات غريب ألفاظ القرآن ص871.
(3) تفسير ابن كثير 2/ 53، وانظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص5 - 160. والتوسل أنواعه وأحكامه للشيخ الألباني، ص8 - 156.(7/293)
(حديث أنس في صحيح السنن الأربعة) قال سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.
(حديث بريدة في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا يقول: اللهم إني أسألك أني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.
(حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوة ذي النون إذ دعا بها و هو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له.
(وذو النون: هو نبي الله يونس _ عليه السلام _،
(والنون: الحوت.
فهذا سيدنا يونس عليه السلام ألقي في اليم فالتقمه الحوت وأسدل الليل البهيم ستاره المظلم عليه، فالتجأ إلى الله {أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، فأنجاه الله، حتى إذا خرج إلى شاطئ السلامة، تلقفته يد الرحمة الإلهية والعناية الربانية فأظلته تحت شجرة اليقطين.
قال تعالى {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87 - 88].
{تنبيه}: (هذا الدعاء من أعظم أنواع الدعاء، لاشتماله على الآتي:
أولاً: على توحيد الله (لا إله إلا أنت)
وهو أعظم وسيلة إلى الله تعالى، وأعظم طاعة وأعظم وقربة.
ثم ثنى بالتنزيه (سبحانك) تنزيه الله عما لا يليق به عز وجل، فكل ما يفعل، وكل ما يقدر فله فيه الحكمة البالغة، فهو منزه عما لا يليق بجلاله وكماله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعظيم شأنه.
ثم ثلث ببيان عجزه وضعفه وفقره وظلمه لنفسه، وهكذا كل عبد بالنسبة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ينبغي له أن يكون كذلك إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87](7/294)
النوع الثاني: التوسل إلى الله تعالى بعملٍ صالح قام به الداعي، كأن يقول المسلم: اللهم بإيماني بك، أو محبتي لك، أو اتباعي لرسولك أن تغفر لي.
أو يقول: اللهم إني أسألك بمحبتي لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإيماني به أن تفرج عني. ومن ذلك أن يذكر الداعي عملاً صالحاً ذا بال، فيه خوفه من الله سبحانه، وتقواه إياه، وإيثاره رضاه على كل شيء، وطاعته له جل شأنه، ثم يتوسل به إلى الله في دعائه، ليكون أرجى لقبوله وإجابته.
ويدل على مشروعية ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران /16]
وقوله تعالى: {رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}
[آل عمران /53]
ومن ذلك ما تضمنته قصة أصحاب الغار فإن كلاً منهم ذكر عملاً صالحاً تقرب به إلى الله ابتغاء وجهه سبحانه، فتوسل بعمله الصالح فاستجاب الله له.(7/295)
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم، حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فناء بي في طلب شيء يوما، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي، فأدرتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله أد إلي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون).
النوع الثالث: التوسل إلى الله تعالى بدعاء الرجل الصالح الحي الحاضر:
كأن يقع المسلم في ضيق شديد، أو تحل به مصيبة كبيرة، ويعلم من نفسه التفريط في جنب الله تبارك وتعالى، فيحب أن يأخذ بسبب قوي إلى الله تعالى، فيذهب إلى رجل يعتقد فيه الصلاح، والتقوى، أو الفضل والعلم بالكتاب والسنة فيطلب منه أن يدعو له ربه، ليفرج عنه كربه، ويزيل عنه همه. ومن ذلك الحديث الآتي:(7/296)
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال أصابت الناس سنة على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب على المنبر يوم الجمعة قام أعرابي فقال يا رسول الله هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا أن يسقينا قال فرفع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه وما في السماء قزعة قال فثار سحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته قال فمطرنا يومنا ذلك وفي الغد ومن بعد الغد والذي يليه إلى الجمعة الأخرى فقام ذلك الأعرابي أو رجل غيره فقال يا رسول الله تهدم البناء وغرق المال فادع الله لنا فرفع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه وقال اللهم حوالينا ولا علينا قال فما جعل يشير بيده إلى ناحية من السماء إلا تفرجت حتى صارت المدينة في مثل الجوبة حتى سال الوادي وادي قناة شهرا ولم يجيء أحد من ناحية إلا حدث بالجود.
ومن ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يطلب من العباس عم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدعو لهم الله عز وجل أن يغيثهم فيغيثهم سبحانه.
(حديث عمر ابن الخطاب الثابت في صحيح البخاري) قال: كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا قال فيسقون.
ومن ذلك حديث أويس القرني الآتي:
(حديث عمر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل.
(14) الطموح وعلو الهمة:
فمن الآداب التي يحسن بالداعي أن يتحلى بها _ أن يكون طموحًا، ذا نفس كبيرة، وهمة عالية، راغبًا فيما عند الله من عظيم الثواب.
ويومىء إلى هذا المعنى _ دعاء نبي الله سليمان _ عليه السلام _ عندما قال _ كما أخبر الله عنه قال تعالى: (رَبّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاّ يَنبَغِي لأحَدٍ مّن بَعْدِيَ إِنّكَ أَنتَ الْوَهّابُ) [ص / 35]
فنبي الله سليمان _ عليه السلام _ حصل منه ما حصل عندما آلى أن يطوف على نسائه جميعًا؛ لتلد كل واحدة منهن مجاهدًا يجاهد في سبيل الله، ولم يستثنِ _ عليه السلام _ ولم يقل: إن شاء الله. (1)
__________
(1) انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/ 35_39.(7/297)
وعندما أدرك ما وقع فيه لم يكتف بأن يسأل الله المغفرة فحسب، ولكنه _ لكبر نفسه، وعلو همته، وعلمه بسعة فضل ربه _ سأله مع ذلك أن يهب له ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده!
فماذا كانت النتيجة؟
لقد استجاب الله دعاءه، وسخر له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، والشياطين كل بناء وغواص، وآخرين مقرنين في الأصفاد، ثم قال تعالى: (هََذَا عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىَ وَحُسْنَ مَآبٍ) [ص 39، 40]
وعلو الهمة موضوع غاية في الأهمية يجب على كلِ مسلم أن يحيط به علماً وهاك غيضٌ من فيض مما ورد في علو الهمة ومسائلة:
(تعريف علو الهمة:
الهمة في اللغة: ما هم به من الأمر ليفعل.
الهمة في الاصطلاح: الباعث على الفعل، وعرف بعضهم علو الهمة بأنه: استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور.
قال الشاعر مصوراً طموح المؤمن
إذا كنت في أمر مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم
[*] وعرف ابن القيم علو الهمة بقوله:
"علو الهمة ألا تقف -أي النفس- دون الله وألا تتعوض عنه بشيء سواه ولا ترضى بغيره بدلاً منه ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به والفرح والسرور والابتهاج به بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية، فالهمة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور لا يرضى بمساقطهم ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم، فإن الهمة كلما علت بعدت عن وصول الآفات إليها، وكلما نزلت قصدتها الآفات"
(الحث على علو الهمة والتحذير من سقوطها:
[*] قال الخليفة عمر الفاروق رضي الله عنه:
"لا تصغرنّ همتك فإني لم أر أقعد بالرجل من سقوط همته"
[*] وقال ابن القيم: "لا بد للسالك من همة تسيره وترقيه وعلم يبصره ويهديه" [*] وقال ابن نباتة رحمه الله:
حاول جسيمات الأمور ولا تقل ... إن المحامد والعلى أرزاق
وارغب بنفسك أن تكون مقصرا ... عن غاية في الطلاب سباق
(أقسام الهمة:
تُقَسَّم الهمة تقسيمين فتقسم من حيث الرفعة وضدها إلى عالية وساقطة.
وتقسم من حيث الاستعداد الفطري إلى وهبية ومكتسبة.
وليس معنى أن منها ما هو فطري أنها لا سبيل لزيادة رفعتها بل هي مثل باقي الصفات العقلية والخلقية كالذكاء والذاكرة وحسن الخلق.
[*] قال ابن القيم:(7/298)
"وقد عرفت بالدليل أن الهمة مولودة مع الآدمي، وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات فإذا حثثت سارت ومتى رأيت في نفسك عجزاً فَسَلِ المنعم أو كسلاً فالجأ إلى الموفق، فلن تنال خيراً إلا بطاعته، ولن يفوتك خير إلا بمعصيته"
مراتب الهمم:
(حديث أبي كبشة الأنماري الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ
رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَحسنِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْماً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الأجرِ سَوَاءٌ، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً فَهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ لاَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلاَ يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فهو بِأَسوءِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلاَ عِلْماً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الوزر سَوَاءٌ.
وعلى نحو هذا التقسيم والتمثيل النبوي ينقسم الناس وتتفاوت منازلهم في الهمة:
(1) منهم من يطلب المعالي بلسانه وليس له همة في الوصول إليها ويصدق عليه قول الشاعر:
وما نيل المطالب بالتمني ... ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
(2) ومنهم من لا يطلب إلا سفاسف الأمور ودناياها ويجتهد في تحصيلها، وهذا -إن اهتدى- يكون سباقاً للخيرات: "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا".
(3) وفريق ساقط الهمة يهوى سفاسف الأمور ويقعد به العجز عنها، فهو من سقط المتاع وهو كمن وصف الشاعر:
إني رأيت من المكارم حسبكم ... أن تلبسوا خز الثياب وتشبعوا
فإذا تذكرت المكارم يوما ... في مجلس أنتم به فتقنعوا
(4) وأعلى الهمم همة من تسمو مطالبه إلى ما يحبه الله ورسوله فهنيئاً له ومن أمثالهم الأسلمي وعكاشة بن محصن وبين كل مرتبتين مراتب كثيرة تتفاوت فيها الناس تفاوتاً بينا.
وإذا استعرضنا التاريخ نجد أن العلية من الناس والقادة الذين تركوا أثرهم في التاريخ هم أصحاب الهمم العالية.
(نماذج من الصحابة لعلو الهمة:
(1) ربيعة ابن كعب الأسلمي: الذي سأل النبي مرافقته في الجنة.(7/299)
(حديث ربيعة ابن كعب الأسلمي الثابت في صحيح مسلم) كنت آتي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوضوئه وحاجته فقال لي سلني فقلت أسألك مرافقتك في الجنة قال أو غير ذلك قلت هو ذاك قال فأعنى على نفسك بكثرة السجود.
(حديث ربيعة ابن كعب الأسلمي الثابت في صحيح مسلم) كنت آتي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوضوئه وحاجته فقال لي سلني فقلت أسألك مرافقتك في الجنة قال أو غير ذلك قلت هو ذاك قال فأعنى على نفسك بكثرة السجود.
(2) عكاشة بن محصن بادر فقال: "الذي سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... أن يكون من السبعين ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب.
(حديثُ ابن عباس في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: عُرِضت عليَّ الأمم فجعل يمرُ النبي معه الرجل والنبيُ معه الرجلان والنبي معه الرهط والنبي ليس معه أحد، ورأيتُ سواداً كثيراً سدَّ الأفق فرجوتُ أن تكون أمتي فقِيل هذا موسى وقومه، ثم قِيل ليَ انظر هكذا وهكذا فرأيتُ سواداً كثيراً سدَّ الأفق فقِيل هؤلاء أمتُك ومع هؤلاءِ سبعون ألفاً يدخلون الجنةَ بغيرِ حساب فتفرَّقَ الناسُ ولم يبينْ لهم، فتذاكرَ أصحابُ النبيِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا نحن وُلدنا في الشرك ولكن هؤلاء أبناؤنا، فبلغ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال {هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون} فقام عُكَّاشةُ ابن مِحصن فقال: أمنهم أنا يا رسولَ الله؟ قال: أنت منهم، فقام آخر فقال أمنهم أنا؟ قال: سبقك بها عُكَّاشة.
(حديث أَبَي أُمَامَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وعدني ربى أن يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِى سَبْعِينَ أَلْفاً لاَ حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلاَ عَذَابَ مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفاً وَثَلاَثُ حَثَيَاتٍ مِنْ حَثَيَاتِ ربيِ».
(3) أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه:
لعلوهِمَّتُهُ أراد يفعل أبواب الخير كلها ولا يقنع ببعضها دون الأخرى وذلك لأن نفسه التي بين جنبيه نفسٌ توَّاقةٌ للخير، فقد بلغت همَتُه عنان السماء وصار غارقاً في على الهمةِ إلى الأذقان، ولا عجب فإنه الصِّدِّيق صاحب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأفضل الأمة بع نبيها - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
"ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة فهل يدعي أحد من تلك الأبواب كلها، قال نعم وأرجوا أن تكون منهم ... ".(7/300)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
من أنفق زوجين في سبيل الله، نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي وأمي يا رسول الله، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟. قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم.
من أنفق زوجين: اللَّهِ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ اثْنَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَدِرْهَمَيْنِ أَوْ دِينَارَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ دِينَارٌ وَدِرْهَمٌ وَمَعْنَى ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ أَقَلُّ مَا يَقَعُ بِهِ التَّكْرَارُ مِنَ الْعِبَادَةِ وَمَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ الْعَمَلَ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَنْ صَلَّى صَلَاتَيْنِ أَوْ صَامَ يَوْمَيْنِ أَوْ جَاهَدَ مَرَّتَيْنِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْإِنْفَاقِ فِيمَا قَدَّمْنَاهُ أَظْهَرُ وَلَفْظُ الْجِهَادِ وَالْغَزْوِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَظْهَرُ.
(نُودِيَ فِي الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ) يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ أَعَدَّهُ اللَّهُ لَك فَأَقْبِلْ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ هَذَا خَيْرُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ لَك لِأَنَّهُ فِي الْخَيْرِ وَالثَّوَابِ الَّذِي أُعِدَّ لَك.
فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ وَمَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ أَغْلَبَ أَعْمَالِهِ وَأَكْثَرَهَا وَقَدْ تَغْلِبُ عَلَى عَمَلِ الرَّجُلِ الصَّلَاةُ فَتَكُونُ أَكْثَرَ أَعْمَالِهِ وَيَغْلِبُ عَلَى أَعْمَالِهِ الصَّوْمُ فَيَكُونُ أَكْثَرَ أَعْمَالِهِ وَكَذَلِكَ الْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ فَمَنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَى عِبَادَتِهِ نَوْعٌ مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ نُودِيَ مِنْ الْبَابِ الْمُخْتَصِّ بِهِ(7/301)
(يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى مَنْ يُدْعَى مِنْ هَذِهِ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ ضَرُورَةٌ فِي أَنْ يُدْعَى مِنْ غَيْرِهَا وَأَنَّ الدُّعَاءَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهَا يَكْفِي فِي التَّنَاهِي فِي الْخَيْرِ وَسَعَةِ الثَّوَابِ لَكِنَّهُ مَعَ مَا فِي الدُّعَاءِ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَبْوَابِ مِنْ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ هَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ جَمِيعِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ الْخَيْرِ وَأَوْسَعُ مِنْ إنْعَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَنْ أَطَاعَهُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ وَمَنْ دُعِيَ مِنْ هَذِهِ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَهُ إِنَّ دُخُولَك مِنْ هَذَا الْبَابِ أَفْضَلُ مِنْ دُخُولِك عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَلَكِنَّهُ يُدْعَى بِأَنْ يُقَالَ لَهُ إِنَّ لَك هَاهُنَا خَيْرًا وَعَدَهُ اللَّهُ لَك لِعِبَادَتِك الْمُخْتَصَّةِ بِالدُّخُولِ عَلَى هَذَا الْبَابِ أَوْ لِعِبَادَتِك الَّتِي هِيَ سَبَبُ أَنْ تُدْعَى مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(وسؤال أبى بكر يريد به شخصا اجتمعت فيه خصال الخير من صلاة وصيام وصدقة وجهاد ونحو ذلك، بحيث يدعى من جميع تلك الأبواب.
[*] (أسباب المؤدية لعلو الهمة:
(1) الإخلاص:
فنسيان رؤية المخلوقين بدوام النظر إلي الخالق تبارك وتعالى يحث على الأخذ بمعالي الأمور؛ لأن الناقد بصير.
[*] يقول الإمام بن القيم رحمه الله:
لقاح الهمة العالية: النية الصالحة، فإذا اجتمعا بلغ العبد المراد.
(2) الصدق:
فالصادق في عزمه وفي فعله صاحب همة عالية وبصدقه في العزم والفعل يسعد في الدارين، فصدق العزيمة الجزم وعدم التردد، وصدق الفعل هو بذل الجهد واستفراغ الوسع لتحقيق ما عزم عليه، فيأمن صاحب العزم الصادق من ضعف الهمة والإرادة، و يمنعه صدقه في الفعل من الكسل والفتور.
(3) العلم:
فمن استوى عنده العلم والجهل، أو كان قانعا بحاله وما هو عليه، فكيف تكون له همة أصلا؟ فالعلم يرتقي بالهمة، ويرفع طالبه عن حضيض الجهل والتقليد ويصفي نيته.(7/302)
" والعلم يورث صاحبه الفقه بمراتب الأعمال، فتبقى فضول المباحات التي تشغله عن التعبد – كفضول الأكل والنوم – ويراعي التوازن والوسطية بين الحقوق والواجبات، امتثالا لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أعط كل ذي حقه حقه".
ويبصره بتحيل إبليس وتلبيسه عليه، كي يحول بينه وبين ما هو أعظم ثوابا ". (علو الهمة للشيخ محمد إسماعيل).
[*] قال ابن القيم رحمه الله:
إن السالك على حسب علمه بمراتب الأعمال ونفائس الكسب، تكون معرفته بالزيادة والنقصان في حاله وإيمانه.
(4) اليقظة والمسارعة:
بحيث يفارق العبد بيقظته جموع الغافلين، ويعرض عن أفعال الجاهلين ويخلع ثوب النوم والرقاد، فلا يقر له قرار حتى يسكن في جنة عرضها السموات والأرض:
فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيَّمُ
ولكننا سبيُ العدو فهل ترى نعود إلي أوطاننا ونُسَلَّمُ
فلا ينبغي لمن أراد الارتقاء بهمته أن يرتمي في أحضان الغافلين وإلا عضّ أسنة الندم.
دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذا الجوشن الضبابي بعد بدر إلى الإسلام، فقال: "هل لك إلى أن تكون من أوائل هذا الأمر؟ ". قال: لا. قال: "فما يمنعك منه؟ ". قال: رأيت قومك كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، فأنظر: فإن ظهرت عليهم آمنت بك واتبعتك، وإن ظهروا عليك لم أتبعك .. فكان ذو الجوشن يتوجع على تركه الإسلام حين دعاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذا ما علا المرء رام العلا ويقنع بالدون من كان دونا
(5) الحزم وعدم التردد:
فإن التردد يفوِّت على العبد الفوز بالخيرات، ويبقيه في مكانه في الوقت الذي يسير فيه الركب فيصل الحازم إلى مبتغاه،
وصدق القائل:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تترددا
وقال آخر:
ومشتت العزمات ينفق عمره حيران لا ظفرٌ ولا إخفاق
فلا تتوقف مترددا أو قلقا، ولا تضيع نفسك بالشكوك التي لا تلد إلا الشكوك، واستمع إلى قال تعالى: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتَوَكّلِينَ) [آل عمران / 159]
قال تعالى: (فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُواْ اللّهَ لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ) [محمد / 21]
(6) معرفة قيمة النفس وشرفها:(7/303)
وليس المقصود بهذا أن يغتر العبد أو يعجب بنفسه ويتكبر، إنما المقصود أن يعلم أنه في الخليقة شيء آخر لا يشبهه أحد، فيحرص على أن يرفع قيمته، ويغلي ثمنه بعمله الصالح، وبعلمه ونبوغه، واطلاعه ومثابرته وبحثه وتثقيف عقله، وصقل ذهنه، وإشعال الطموح في روحه، والنبل في نفسه؛ لتكون قيمته عالية وغالية.
فيا أيها الحبيب، يا من أسجد الله لك ملائكته بالأمس، وجعلهم اليوم في خدمتك، كم من ملك في السماوات ما ذاقوا غمضا ليس لهم رتبة: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع). كم من ملك في السماوات ما ذاقوا طعاما ولا شرابا ليس لهم شرف: "ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ". الملائكة تصلي عليك ما استقمت، وحملة العرش يستغفرون لك، يا هذا فتش عن نفسك، واعرف قدرها تسم بهمتك إلى العظيم.
(7) الدعاء:
وإنما جعلناه خاتمة الأسباب التي نتحدث عنها في هذا المقال لأنه الباب الأوسع والأقرب للفوز بأنواع الخيرات، وهو باب لا منازع فيه، فإنه ليس شيء أكرم على الله من الدعاء، وإن أعجز الناس من عجز عن الدعاء بنص السنة الصحيحة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أبخل الناس من بخل بالسلام وأعجز الناس من عجز عن الدعاء.
(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ليس شيء أكرم على الله من الدعاء.
فادخل على مولاك من باب الذل والافتقار، وناجه:
إلهي وسيدي ومولاي، أنت أصلحت الصالحين وأعليت هممهم فاجعلنا منهم وألحقنا بهم في عليين.
[*] (ثمرات الهمة العالية:
(1) قيق كثير من الأمور التي يعدها عامة الناس خيالاً يتحقق ومن أمثلة ذلك بناء أمة مؤمنة في الجزيرة العربية التي يشيع فيها الجهل والشرك وذلك في فترة وجيزة، وابن ياسين استطاع أن يقود بعصابة قليلة من أصحابه المربِّيين دولة انتصرت على جيوش الأسبان بعد استشهاده،
(2) الوصول إلى مراتب عليا في العبادة والزهد.
قال معاذ رضي الله عنه على فراش الموت: "اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا ولا طول المكث فيها لجري (لعله لكري) الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن كنت أحب البقاء لمكابدة الليل الطويل وظمأ الهواجر في الحر الشديد ولمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر" ... .
(3) البعد عن سفاسف الأمور ودناياها:(7/304)
لما فرَّ عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس من العباسيين أهديت إليه جارية جميلة فنظر إليها وقال: "إن هذه من القلب والعين بمكان وإن أنا اشتغلت عنها بهمتي فيما أطلبه ظلمتها، وإن اشتغلت بها عن ما أطلبه ظلمت همتي، ولا حاجة لي بها الآن وردها على صاحبها".
(4) صاحب الهمة العالية يُعْتَمَدُ عليه وتناط به الأمور الصعبة وَتُوكَلُ إليه:
وهذا أمر مشاهد معروف فإن المديرين والرؤساء عادة يطمحون للعمل مع صاحب الهمة العالية ويستعدون للتضحية معه حتى ولو كلفهم ذلك الكثير. وقد قيل: "ذو الهمة وإن حط نفسه تأبى إلا العلو، كالشعلة من النار يخفيها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعاً".
(5) صاحب الهمة العالية يستفيد من حياته أعظم استفادة وتكون أوقاته مثمرة بناءة.
[*] وقال الإمام ابن عقيل الحنبلي:
إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة وبصري عن مطالعة أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح".
[*] وكان الإمام النووي يقرأ كل يوم اثني عشر درساً شرحاً وتصحيحاً، ويقول لتلميذه بارك الله في وقتي.
ويقول د. مَارْدِن: "كل رجل ناجح لديه نوع من الشباك يلتقط به نحاتات وقراضات الزمان، ونعني بها فضلات الأيام والأجزاء الصغيرة من الساعات مما يكنسه معظم الناس بين مهملات الحياة. وإن الرجل الذي يَدَّخِرُ كل الدقائق المفردة وأنصاف الساعات والأعياد غير المنتظرة والفسحات التي بين وقت وآخر، والفترات التي تنقضي في انتظار أشخاص يتأخرون عن مواعيد مضروبة لهم، ويستعمل كل هذه الأوقات ويستفيد منها ليأتي بنتائج باهرة يدهش لها الذين لم يفطنوا لهذا السر العظيم الشأن"
(6) صاحب الهمة العالية قدوة للناس.
(7) تغيير طريقة حياة الشعوب والأفراد:
[*] يقول الشيخ محمد الخضر حسين:
"يسموا هذا الخلق بصاحبه إلى النهايات من معالي الأمور فهو الذي ينهض بالضعيف فإذا هو عزيز كريم، ويرفع القوم من السقوط ويبدلهم بالخمول نباهة وبالاضطهاد حرية وبالطاعة العمياء شجاعة أدبية ... أما صغير الهمة فإنه يَبْصُر بخصومه في قوة وسطوة فيذوب أمامهم رهبة، ويطرق إليهم رأسه حطة ثم لا يَلْبَثُ أن يسير في ركبهم ويسابق إلى حيث تحط أهواؤهم".
[*] (وسائل ترقية الهمة:
(1) المجاهدة:
قال تعالى: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا".
(2) الدعاء الصادق والالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى.
(3) اعتراف الشخص بقصور همته.(7/305)
وهذا يستلزم أيضاً أن لا ينكر أنه قادر على تغيير همته وتطويرها إلى الأحسن.
4 – قراءة سيرة السلف الصالح.
[*] يقول ابن القيم: " ... ولقد نظرت في ثبت الكتب الموقوفة في المدرسة النظامية فإذا هو يحتوي على نحو ستة آلاف مجلد وفي ثبت كتب أبي حنيفة وكتب الحميدي و ... فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم وقدر هممهم وحفظهم وعبادتهم وغرائب علومهم ما لا يعرفه من لم يطالع فصرت أستزري ما الناس فيه وأحتقر همم الطلاب ولله الحمد".
[*] وقال محمد بن علي الأسلمي: قمت ليلة سَحراً لآخذ النوبة على ابن الأَخْرَمِ فوجدت قد سبقني ثلاثون قارئاً ولم تدركني النوبة إلى العصر.
(5) مصاحبة صاحب الهمة العالية.
(6) مراجعة جدول الأعمال اليومي ومراعاة الأولويات والأهم فالمهم.
(7) التنافس والتنازع بين الشخص وهمته.
ومعنى ذلك أن على مريد تطوير همته أن يحمل نفسه أعباءً وأعمالاً يومية لم تكن موجودة في حياته بحيث يحدث نوع من التحدي داخل النفس، ويجب أن تكون هذه الإضافة مدروسة بعناية وإحكام حتى لا يصاب الشخص بالإحباط.
(8) الدأب في تحصيل الكمالات والتشوق إلى المعرفة يقول عمر بن عبد العزيز رحمهُ الله: "إن نفسي تواقة وإنها لم تعط من الدنيا شيئاً إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه ... "
(9) الابتعاد عن كل ما من شأنه الهبوط بالهمة وتضييعها مثل:
أ – كثرة الزيارات للأقارب بدون هدف شرعي صحيح ولا غرض دنيوي فيه فائدة معتبرة.
ب – كثرة الزيارات للأصحاب فيكثر المزاح وتقل الفائدة.
ج – الانهماك في تحصيل المال بدعوى التجارة وحيازة المال النافع للإسلام وأهله، ثم ينقلب الأمر إلى تحصيل محض للدنيا وانغماس فيها.
د – تكليف الموظف نفسه بعملين صباحي ومسائي دون ضرورة لذلك.
هـ - كثرة التمتع بالمباحات.
و – الاستجابة للصوارف الأسرية استجابة كلية أو شبه كلية.
[*] يقول محمد بن حسن موسى:
"وقد دخلت علينا في حياتنا الأسرية كثير من التقاليد الغريبة في أمر الاحتفاء الزائد بالأهل والأولاد ودعوى ضرورة بناء مستقبلهم وغير ذلك مما حاصله نسيان الكفالة الإلهية والضمان الرباني"
ز – التسويف قال الشاعر:
ولا أؤخر شغل اليوم عن كسلٍ ... إلى غدٍ إن يوم العاجزين غَدُ
ح – الكسل والفتور.
قال الصاحب: "إن الراحة حيث تعب الكرام أوْدَع لكنها أوضع والقعود حيث قام الكرام أسعل لكنه أسفل" (21) وقال الشاعر:
كأن التواني أنكح العجز بنته ... وساق إليها حين أنكحها مهرا(7/306)
فراشاً وطيئاً ثم قال له اتكئ ... فَقُصْراكما لا شك أن تلدا فقرا
ط – مُلاحظة الخلق وتقليدهم والاقتداء بهم، فأكثر الخلق مفرطون.
[*] (مظاهر علو الهمة:
(1) تحرقه على ما مضى من أيامه وكأنه لم يكن قط صاحب الهمة المتألق المنجز لكثير من الأمور.
(2) كثرة همومه وتألمه لحالة المسلمين.
(3) موالاته النصيحة وتقديم الحلول والاقتراحات لمن يرجو منهم التغيير والإصلاح.
(4) طلبه للمعالي دائماً.
(5) كثرة شكواه من ضيق الوقت.
(6) قوة عزمه وثبات رأيه وقلة تردده، فهو إذا قرر أمراً راشداً لا يسرع بنقضه، بل يستمر فيه ويثبت عليه حتى يقضيه ويجني ثمرته، ولا شك أن كثرة التردد ونقض الأمر من بعد إبرامه من علامات تدني الهمة.
لكل إلى شأو العُلا حركات ... ولكن قليل في الرجال الثبات
(كيفيَّة استثمار همم الناس:
للناس ثلاثة أقسام:
(1) قسم ضائع مضيع يترك إلى حين إفاقته.
(2) قسم محافظ على الفرائض.
(فهذا القسم إن كان من أهل اليسار والغنى يوجه إلى المشاركة والتنافس في أعمال الخير العامة مثل بناء المساجد وإغاثة المنكوبين ومساعدة الجمعيات والهيئات الإسلامية الخيرية.
(وإن كانوا من ذوي الدخول المتوسطة يوجهون إلى سماع الدروس والخطب التي يعدها خطباء مرموقون.
(التوضيح والتنبيه والقيام بالنصيحة وبيان أن باستطاعتهم توجيه جهودهم إلى ما هو أنفع.
(توجيههم للقراءة النافعة.
(3) قسم – وهو المعول عليه بعد الله سبحانه وتعالى – ملتزم بدينه ومحافظ عليه يطمح إلى القيام بما يجب عليه وهذا يوجه إلىالدعوة إلى الله تعالى على بصيرة وحمل هم هذا الدين.
[*] (محاذير أمام أهل الهمم العالية:
(1) صاحب الهمة العالية تحلق به همته دائماً فتأمره بإنجاز كثير من الأعمال المتداخلة في وقت واحد فليطعها بقدر ولا يستبعد ما تأمره به وفي الوقت نفسه لا يَقُمْ به كلِّها بل يأخذ منه بقدر ما يعرف من إسعاف همته له بالقيام به.
(2) صاحب الهمة العالية معرض لنصائح تثنيه عن همته وتحاول أن تذكره دائماً بأنه ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ... فالحصيف لا يلتفت إلى هذه النصائح إلا بقدر.
[*] قال ابن نباتة السعدي:
أعاذلتي على إتعاب نفسي ... ورعيي في الدجى روض السهادِ
إذا شام الفتى برق المعالي ... فأهون فائت طيب الرقادِ
(3) صاحب الهمة معرض لسهام العين والحسد فعليه بالأذكار المأثورة ليدرأ عن نفسه ما قد يصيبه.(7/307)
(4) صاحب الهمة تعتريه فترْة وضعف قليل لما يراه من تدني همم غالب الخلق فلا يحزن وليوطن نفسه على الإحسان والنصيحة.
(5) أهل الهمة العالية قد يكونون مفرطين في بعض الأمور التي ربما لا يرون فيها تعلقاً مباشراً بعلو هممهم مثل حقوق الأهل والأقارب، فعلى من أصيب بشيء من ذلك أن يصلحه ولو بالقدر الذي يبعد عنه سهام اللائمين.
(6) قد تؤدي الهمة العالية بصاحبها إلى التحمس الزائد فيستعجل ويرتكب من الأخطاء ما كان يمكن تلافيه بقليل من التعقل وحساب العواقب، وعلى من وقع في مثل هذا أن يعرف السنن الكونية، وأن الأمر لا يحسم بين عشية وضحاها.
(7) أهل الهمة العالية قد يتعرضون لإثارة الخلافات الفقهية بينهم فينتج عن ذلك الذم والمقت، ومن أصبح ذلك ديدنه فستتخلف همته وتقعد به عن معالي الأمور.
(8) قد يتعرض صاحب الهمة إلى عدم المداومة مع أن أبرز سمات صاحب الهمة العالية المداومة وعدم الانقطاع فإن أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قل بنص السنة الصحيحة.
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: خيرُ الأعمال أدومها وإن قل.
(فهمة متوسطة العلو تدوم خير من همة عزيمة متقطعة
[*] يقول أبو المواهب بن صَرْصَرَى:
لم أَرَ مِثْل أبي القاسم ابن عساكر ولا من اجتمع فيه ما اجتمع فيه من لزوم طريقة واحدة مدة أربعين سنة من لزوم الصلوات في الصف الأول إلا من عذر والاعتكاف في شهر رمضان وعشر ذي الحجة وعدم التطلع إلى تحصيل الأملاك وبناء الدور فقد أسقط عن نفسه ذلك.
[*] وقال أبو العباس ثعلبٌ:
"ما فقدت إبراهيم الحربي من مجلس لغة ولا نحو خمسين سنة"
(15) أن يكون غرض الداعي جميلاً حسنًا:
كأن يتوسل الداعي إلى الله فيما أجاب دعوته أنه سيترتب على تلك الإجابة عمل صالح، كأن يقول آمين: اللهم ارزقني مالاً؛ لأسلطه على هلكته في الحق، ولأنصر به دين الإسلام، أو: اللهم ارزقني علمًا؛ كي أعلم العباد دين الله، وأنشر الخير بينهم، أو: اللهم ارزقني زوجة؛ لأتعفف بها عن المحارم وهكذا ...(7/308)
ويشير إلى ذلك قوله _ تعالى _ عن موسى _ عليه السلام _ قال تعالى: (قَالَ رَبّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسّرْ لِيَ أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مّن لّسَانِي * يَفْقَهُواْ قَوْلِي * وَاجْعَل لّي وَزِيراً مّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِيَ أَمْرِي * كَيْ نُسَبّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً) [طه 25: 35]
فماذا كانت النتيجة؟
لقد أجاب الله سؤله، ومنَّ عليه مرة أخرى.
ويشير إليه _ أيضًا _ الحديث الآتي:
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا جاء الرجل يعود مريضا فليقل: اللهم اشف عبدك فلانا ينكأ لك عدوا أو يمش لك إلى الصلاة.
(16) يخفِضُ صوته في الدعاء بين المخافتة والجهر:
قال تعالى: (ادْعُواْ رَبّكُمْ تَضَرّعاً وَخُفْيَةً إِنّهُ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ) [الأعراف / 55]
وقال تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف / 205]
فنادِ ربك بقلب حاضر بصوت خَافِت، فهذا زكريا عليه السلام: نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً [مريم:3]، هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً [آل عمران:38]، فرزقه الله يحيى نبيا.
(حديث أبي موسى في الصحيحين) قال كنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزاةٍ فجعلنا لا نصعد شرفاً ولا نعلو شرفاً ولا نهبطُ في وادٍ إلا رفعنا صوتنا بالتكبير فدنا منا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً بصيرا، ثم قال: يا عبد الله بن قيس ألا أعلمك كلمةً هي من كنوز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله.
هذا ولخفض الصوت والإسرار بالدعاء _ فوائد عديدة، وأسرار بديعة،
[*] وقد أشار العلامة ابن القيم إلى شيء منها، فمن ذلك ما يلي:
أولاً _ أنه أعظم إيمانًُا؛ لأن صاحبه يعلم أن الله يسمع دعاءه الخفي، وليس كالذي قال: إن الله يسمع إن جهرنا، ولا يسمع إن أخفينا.(7/309)
ثانيًا _ أنه أعظم في الأدب والتعظيم: ولهذا فإن الملوك لا تُخَطَبُ، ولا تُسْأَل برفع الصوت، وإنما تخفض عندهم الأصوات بمقدار ما يسمعونه، ومن رفع صوته عندهم مقتوه، ولله المثل الأعلى؛ فإذا كان يسمع الكلام الخفي _ فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت.
ثالثًا _ أنه أبلغ في التضرع والخشوع: الذي هو روح الدعاء، ولبه، ومقصوده؛ فإن الخاشع الذليل الضارع إنما يسأل مسألة مسكين ذليل، ولا يتأتى ذلك مع رفع الصوت، بل مع خفضه.
رابعًا _ أنه أبلغ في الإخلاص.
خامسًا _ أنه أبلغ في جمعية القلب على الله في الدعاء؛ فإن رفع الصوت يفرقه، ويشتته.
سادسًا _ أنه دال على قرب صاحبه من الله: وأنه لاقترابه منه، وشدة حضوره يسأله مسألة أقرب شيء إليه، فيسأله مسألة مناجاة القريب للقريب، لا مسألة نداء البعيد للبعيد.
وهذا من النكت السرية البديعة جدًا.
سابعًا _ أنه أدعى لدوام الطلب والسؤال؛ فإن اللسان _ والحالة هذه _ لا يمل، والجوارح لا تتعب، بخلاف ما إذا رفع صوته؛ فإنه قد يكل لسانه، وتضعف بعض قواه، وهذا نظير من يقرأ أو يكرر رافعًا صوته؛ فإنه لا يطول له ذلك، بخلاف من يخفض صوته.
ثامنًا _ أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع، والمشوشات، والمضعفات؛ فإن الداعي إذا أخفى دعاءه لم يَدْر به أحد، فلا يحصل هناك تشويش، ولا غيره.
وإذا جهر به تفطنت له الأرواح الشريرة، والخبيثة من الجن والإنس، فشوشت عليه ولا بد، ومانعته، وعارضته، ولو لم يكن إلا أنَّ تعلقها به يفرق عليه همته، فيضعف أثر الدعاء _ لكفى.
ومن له تجربة يعرف هذا، فإذا أسر الدعاء وأخفاه أمن هذه المفسدة.
تاسعًا _ الأمن من شر الحاسدين؛ ذلك أن أعظمَ النعم نعمةُ الإقبالِ على الله، والتعبد له، والانقطاع إليه، والتبتل إليه، ولكل نعمة حاسد على قدرها دَقَّتْ أو جَلَّتْ.
ولا نعمة أعظم من هذه النعمة؛ فأنْفُسُ الحاسدِينَ المنقطعين متعلقةٌ بها، وليس للمحسود أسلمُ من إخفاء نعمته عن الحاسد، وأن لا يقصد إظهارها له، وكم من صاحب قلب وجَمْعِيَّةٍ وحال مع الله قد تحدث بها، فسلبه إياها الأغيار، فأصبح يقلب كفيه. (1)
(17) إظهار الداعي الشكوى إلى الله، والافتقار إليه:
قال_ تعالى _ عن أيوب _ عليه السلام:
: (وَأَيّوبَ إِذْ نَادَىَ رَبّهُ أَنّي مَسّنِيَ الضّرّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ) [الأنبياء / 83]
__________
(1) انظر بدائع الفوائد 3/ 6_10، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 15/ 15_20.(7/310)
إن سيدنا أيوب عليه السلام نزل به من الضر ما غدا صبره عليه مضرب الأمثال، فالتجأ إلى ربه مناجيا، فكشف الله عنه ضره وأكرمه بزيادة فضل.
قال تعالى {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:83 - 84].
[*] قال العلامة النسفي رحمه الله في تفسيره:
" إنما شكا إليه تلذذا بالنجوى، لا منه تضررا بالشكوى، والشكاية إليه غاية القرب كما قال تعالى (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)
[يوسف /86]
، كما أن الشكاية منه غاية البعد " [تفسير النسفي 3/ 89].
وعن زكريا _ عليه السلام _ دعاءه: قال تعالى: (وَزَكَرِيّآ إِذْ نَادَىَ رَبّهُ رَبّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ) [الأنبياء / 89]
فأظهر -أيها الداعي- الشكوى إلى الله، والافتقار إليه، فهو جابر المنكسرين وإله المستضعفين، يقول يعقوب عليه السلام: إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ [يوسف:68]، فهو صاحب كل نجوى، وسامع كل شكوى، وكاشف كل بلوى، يده تعالى ملأى لا تغيضها نفقة، سحَّاء الليل والنهار، ما أُمِّل تعالى لنائبة فخيَّبها، وما رُجي لعظيم فقطعها، لا يؤمَّل لكشف الشدائد سواه، بيده مفاتيح الخزائن، بابه مفتوح لمن دعاه،
وعن موسى _ عليه السلام _ دعاءه قال تعالى: (رَبّ إِنّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص / 24]
[*] قال ابن المبارك: قدمت المدينة في عام شديد القحط، فخرج الناس يستسقون، فخرجت معهم، إذ أقبل غلام أسود، عليه قطعتا خيش، قم اتَّزر بإحداهما، وألقى الأخرى على عاتقه، فجلس إلى جنبي، فسمعته يقول: إلهي أخْلَقَتِ الوجوهَ عندك كثرةُ الذنوب، ومساوىء الأعمال، وقد حَبَسْتَ عنا غيث السماء؛ لتؤدب عبادك بذلك، فأسألك يا حليمًا ذا أناة، يا من لا يعرف عباده منه إلا الجميل _ أن تسقيهم الساعةَ الساعةَ، فلم يزل يقول: الساعة الساعة حتى اكتست السماء بالغمام، وأقبل المطر من كل جانب. (1)
__________
(1) إحياء علوم الدين، 1/ 308.(7/311)
[*] قال ابن رجب رحمه الله تعالى: وقد كان بعض الخائفين يجلس بالليل ساكناً مطرقاً برأسه ويمد يديه كحال السائل، وهذا من أبلغ صفات الذل وإظهار المسكنة والافتقار، ومن افتقار القلب في الدعاء، وانكساره لله عز وجل، واستشعاره شدة الفاقةِ، والحاجة لديه. وعلى قدر الحرقةِ والفاقةِ تكون إجابة الدعاء، قال الأوزاعي: كان يقال: أفضل الدعاء الإلحاح على الله والتضرع إليه)) [الخشوع في الصلاة ص72].
(18) الخشوع والخضوع:
قال تعالى: (إِنّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ) [الأنبياء / 90]
وقال تعالى: (ادْعُواْ رَبّكُمْ تَضَرّعاً وَخُفْيَةً إِنّهُ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ) [الأعراف / 55]
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح الترمذي) قال خرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للاستسقاء متذللاً متواضعاً متخشِّعاً متضرعا.
[*] (تعريف الخشوع:
(الخشوع في اللغة:
هو الخضوع والسكون. قال: {وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً}
[طه: 108] أي سكنت.
(والخشوع في الاصطلاح:
هو حضور القلب وخضوعه وانكساره بين يدي الله تعالى.
[*] قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله:
"أصل الخشوع لين القلب ورقنه وسكونه وخضوعه وانكساره وحرقته، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء، لأنها تابعة له " [الخشوع لابن رجب، ص17] فالخشوع محله القلب ولسانه المعبر هو الجوارح. فمتى اجتمع في قلبك أخي في الله – صدق محبتك لله وأنسك به واستشعار قربك منه، ويقينك في ألوهيته وربوبيته، وحاجتك وفقرك إليه. متى اجتمع في قلبك ذلك ورثك الله الخشوع وأذاقك لذته ونعيمه تثبيتاً لك على الهدى، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17]
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69](7/312)
فاعلم أخي الكريم – أن الخشوع هو توفيق من الله جل وعلا، يوفق إليه الصادقين في عبادته، المخلصين المخبتين له، العاملين بأمره والمنتهين بنهيه. فمن لم يخشع قلبه بالخضوع لأوامر الله لا يتذوق لذة الخشوع ولا تذرف عيناه الدموع لقسوة قلبه وبعده عن الله. قال تعالى {ِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت:45]،فالذي لن تنهه صلاته عن المنكر لا يعرف إلى الخشوع سبيلاُ، ومن كان حاله كذلك، فإنه وإن صلى لا يقيم الصلاة كما أمر الله جل وعلا، قال تعالى: {َاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]
واعلم أخي المسلم بأن الخشوع واجب على كل مصل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ويدل على وجوب الخشوع قول الله جل وعلا، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2]
[الفتاوى 22/ 254]
(فضل الخشوع:
(1) إن الله سبحانه قد امتدح الخاشعين في مواضع كثيرة من كتابه فقال: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:2،1]،
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
[*] و" الخشوع: هو السكون والطمأنينة والتؤدة والوقار والتواضع والحامل عليه الخوف من الله ومراقبته. " تفسير ابن كثير ط. دار الشعب 6/ 414
وقال: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45]،
وقال: خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً [آل عمران:199]،
وقال: وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]،
وقال: وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء:109].
(ولما كان الخشوع صفه يمتدح الله بها عبادة المؤمنين، دل على فضله ومكانته عند الله، ودل على حب الله الأهل الخشوع والخضوع، لأن الله سبحانه لا يمدح أحداً بشيء إلا وهو يحبه ويحب من يتعبده به.
وقد ذكر الله الخاشعين والخاشعات في صفات عباده الأخيار وأخبر أنه أعد لهم مغفرة وأجرا عظيماً(7/313)
قال تعالى: (إِنّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصّادِقِينَ وَالصّادِقَاتِ وَالصّابِرِينَ وَالصّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدّقِينَ وَالْمُتَصَدّقَاتِ والصّائِمِينَ والصّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذّاكِرِينَ اللّهَ كَثِيراً وَالذّاكِرَاتِ أَعَدّ اللّهُ لَهُم مّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) [الأحزاب / 35]
(ولذ كان من السبعة الذين يُظِلّهُمُ الله في ظِلّهِ ظِلّ إِلاّ ظِلّهُ [وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَهُ]
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (سَبْعَةٌ يُظِلّهُمُ الله في ظِلّهِ ظِلّ إِلاّ ظِلّهُ يَوْمَ لاَ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌ نَشَأَ في ِعِبَادَةِ الله، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلّقٌ في المَسْاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابّا في الله اجْتَمعَا عَلَيه وَتَفَرّقَا عليه، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امرأة ذَاتُ منصبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنّي أَخَافُ الله، وَرَجُلٌ تَصَدّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَهُ)
(ووجه الدلالة من الحديث:
أن الخاشع في صلاته يغلب على حاله البكاء في الخلوة أكثر من غيرها, فكان بذلك ممن يظلهم الله في ظله يوم القيامة.
(ولو لم يكن للخشوع إلا فضل الانكسار بين يدي الله، وإظهار الذل والمسكنة له ,لكفى بذلك فضلاً، وذلك لأن الله جل جلاله إنما خلقنا للعبادة
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات56:]
وأفضل العبادات ما كان فيها الانكسار والذل الذي هو سرها ولبها. ولا يتحقق ذلك إلا بالخشوع.
الخشوع: يورث انكساراً بين يدي الرب، وحُرقةً من المعاصي والسيئات؛ لأن القلب إذا خشع سكنت خواطره، وترفعت عن الأمور الدنيئة همته، وتجرد من اتباع الهوى مسلكه،
الخشوع: يجعل العبد ينكسر ويخضع لله، ويزول ما فيه من التعاظم والترفع، والتعالي والترفع، والتعالي والتكبر، وتلك درجات في قلوب الناس تتفاوت بتفاوت الإيمان في قلوبهم، وسيطرة الإسلام على نفوسهم.
الخشوع: هو السكون والطمأنينة والتؤدة والوقار والتواضع والخضوع.(7/314)
(2) والخشوع علم نافع؛ لأن العلم النافع ما أوجب خشية القلوب، لذا: كان يستعيذ من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، ودعوة لا تُسمع، فإن القلب الذي لا يخشع: علمه لا ينفع، ودعاؤه لا يسمع.
(حديث زيد ابن أرقم في صحيح مسلم) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها.
(وهذا العلم النافع نادر وجوده سريع فقده
فهو أول ما يرفع من الأمة، كما جاء في الحديث الآتي:
(حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع حتى لا ترى فيها خاشعا.
وبذهاب الخشوع تكون العبادة بغير روح، وهذا أمر يورث الخوف على القلب، وتفقده دائماً.
(3) وفضائل الخشوع كثيرة: فهو يقرب القلب من الله، فيمتلئ نوراً، فينتفع صاحبه بآيات الله الشرعية، والكونية، ويكون له في كل نظرة عِبرة، وعَبْرة. ويقي صاحبه من غوائل العجب والغرور والإدلال والرياء. وبه تُستنزل رحمة الله (تعالى)،
وأعظمها: حصول البشرى ((وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ)) [الحج: 34]،
وبه ينال الأجر العظيم، فالخشوع طريق الفلاح الموصل إلى الجنة: ((قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ)) [المؤمنون: 1، 2]، ثم قال: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ * الَذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ))
[المؤمنون: 10، 11].
(حكم الخشوع
والراجح في حكم الخشوع أنه واجب.
[*] قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:
قال تعالى: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصّبْرِ وَالصّلاَةِ وَإِنّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ)
[البقرة / 45](7/315)
وهذا يقتضي ذم غير الخاشعين .. والذم لا يكون إلا لترك واجب أو فعل محرّم وإذا كان غير الخاشعين مذمومين دلّ ذلك على وجوب الخشوع .. ويدل على وجوب الخشوع فيها أيضا قوله تعالى: (قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون .. - إلى قوله - أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون) أخبر سبحانه وتعالى أن هؤلاء هم الذين يرثون فردوس الجنة وذلك يقتضي أنه لا يرثها غيرهم .. وإذا كان الخشوع في الصلاة واجبا وهو المتضمن للسكون والخشوع (هكذا في الأصل ولعلها الخضوع) فمن نقر نقر الغراب لم يخشع في سجوده وكذلك من لم يرفع رأسه في الركوع ويستقر قبل أن ينخفض لم يسكن لأن السكون هو الطمأنينة بعينها فمن لم يطمئن لم يسكن ومن لم يسكن لم يخشع في ركوعه ولا في سجوده ومن لم يخشع كان آثما عاصيا .. ويدل على وجوب الخشوع في الصلاة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توعد تاركيه كالذي يرفع بصره إلى السماء فإنه حركته ورفعه وهو ضد حال الخاشع ..
[مجموع الفتاوى 22/ 553 - 558]
(محل الخشوع: القلب.
وثمرته: تظهر على الجوارح، ولذا قيل: إذا ضرع القلب، خشعت الجوارح، وذلك لأن القلب مَلِك البدن، وأمير الأعضاء، تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده، فالأعضاء تابعة للقلب فإذا فسد خشوعه بالغفلة والوساوس فسدت عبودية الأعضاء والجوارح فإن القلب كالملك والأعضاء كالجنود له فبه يأتمرون وعن أمره يصدرون فإذا عُزل الملك وتعطّل بفقد القلب لعبوديته ضاعت الرعية وهي الجوارح.
ولهذ قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب.
(حديث النعمان بن بشير الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الحلال بين و الحرام بين و بينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه و دينه و من وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا و إن لكل ملك حمى ألا و إن حمى الله تعالى في أرضه محارمه ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب.
(منزلة الخشوع من الإيمان:(7/316)
الخشوع من الإيمان؛ الذي هو في القلب، وإنما يزيد الإيمان بحياة القلب، وذلك بالاشتغال بالعلم النافع والعمل الصالح، كما أنه ينقص بمرض القلب، ويذهب بموته، وذلك بالانصراف إلى الشبهات والشهوات، فعلى المسلم أن يتعاهد قلبه في جميع أحواله ليدفع عنه القسوة؛ فإنها إذا استبدت به منعته الخشوع.
والله (عز وجل) يريد من عباده الترقي في سُلَّمِ الإيمان، ودرجات اليقين، ولذا: عاتب المؤمنين الذين لم يبلغوا قمة الخشوع؛ حيث تدل حركتهم البطيئة على ضعف لا يرضاه الله للعصبة المؤمنة حاملة المنهج الرباني، لتبليغه للناس كافة؛ عاتبهم فقال: ((أََلَمْ يَاًنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ)) [الحديد: 16]،
وفي الآية تلويح بما كان عليه أهل الكتاب من قسوة أورثتهم الفسق في الأعمال، ومن هنا كان التحذير الشديد من مآلهم، حيث طال عليهم الزمان، واستمرت بهم الغفلة، فاضمحل إيمانهم، وذهب إيقانهم.
وقد رأينا ثمرة هذا الخشوع الإيماني في حياة سيد الخاشعين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي كان له في الانكسار لله (تعالى) والذل بين يديه أكمل الأحوال، فقد رؤي يصلي، وفي صدره أزيز كأزيز الرحى ـ أي الطاحون ـ من البكاء.
(حديث عبد الله بن الشخير الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال: أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي فسمعت لصدره أزيزاً كأزيز المرجل من البكاء.
وكذا صاحبه الصديق (رضي الله عنه) كان وجلاً رقيقاً، إذا صلى أو قرأ القرآن بكى، وأما الفاروق فيكفيك أنه مرض مرة لسماع القرآن وعاده الناس في مرضه لا يدرون ما به!، وقد أصاب سهمٌ أحدَ الصحابة وهو في صلاته فأزاله ورماه وأتمّ صلاته.
ومن السلف من كان يقوم في الصلاة كأنه عمود تقع الطيور على رأسه من شدة سكونه وإطالته، ولهم في ذلك أحوال يطول منها عجبنا؛ لأننا لا نرى ذلك في واقع حياتنا.
(إخفاء الخشوع:
التظاهر بالخشوع ممقوت، ومن علامات الإخلاص: إخفاء الخشوع
كان حذيفة رضي الله عنه يقول: إياكم وخشوع النفاق فقيل له: وما خشوع النفاق قال: أن ترى الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع.
وقال الفضيل بن عياض
:(7/317)
كان يُكره أن يُري الرجل من الخشوع أكثر مما في قلبه. ورأى بعضهم رجلا خاشع المنكبين والبدن فقال: يافلان، الخشوع هاهنا وأشار إلى صدره، لاهاهنا وأشار إلى منكبيه. [المدارج 1/ 521]
[*] وقال ابن القيم رحمه الله تعالى مبيّناً الفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق: " خشوع الإيمان هو خشوع القلب لله بالتعظيم و الإجلال و الوقار و المهابة و الحياء، فينكسر القلب لله كسرة ملتئمة من الوجل و الخجل و الحب و الحياء و شهود نعم الله و جناياته هو، فيخشع القلب لا محالة فيتبعه خشوع الجوارح. و أما خشوع النفاق فيبدو على الجوارح تصنعا وتكلفا والقلب غير خاشع، و كان بعض الصحابة يقول: أعوذ بالله من خشوع النفاق، قيل له: و ما خشوع النفاق؟ قال: أن يرى الجسد خاشعا والقلب غير خاشع. فالخاشع لله عبد قد خمدت نيران شهوته، و سكن دخانها عن صدره، فانجلى الصدر و أشرق فيه نور العظمة فماتت شهوات النفس للخوف و الوقار الذي حشي به و خمدت الجوارح و توقر القلب و اطمأن إلى الله و ذكره بالسكينة التي نزلت عليه من ربه فصار مخبتا له، و المخبت المطمئن، فإن الخبت من الأرض ما اطمأن فاستنقع فيه الماء، فكذلك القلب المخبت قد خشع واطمأن كالبقعة المطمئنة من الأرض التي يجري إليها الماء فيستقر فيها، و علامته أن يسجد بين يدي ربه إجلالا له و ذلا و انكسارا بين يديه سجدة لا يرفع رأسه عنها حتى يلقاه. فهذا خشوع الإيمان، وأما القلب المتكبر فإنه قد اهتز بتكبره و ربا فهو كبقعة رابية من الأرض لا يستقر عليها الماء.
و أما التماوت و خشوع النفاق فهو حال عند تكلف إسكان الجوارح تصنعا و مراءاة و نفسه في الباطن شابة طرية ذات شهوات و إرادات فهو يتخشع في الظاهر و حية الوادي و أسد الغابة رابض بين جنبيه ينتظر الفريسة.
[كتاب الروح ص:314 ط. دار الفكر - الأردن.]
(الطرق الموصلة الخشوع:
إن مما يحصّل به المسلم الخشوع:
(1) تلقي أوامر الله (تعالى) بالقبول والامتثال، وعدم معارضتها بشهوة أو رأي.
(2) الحرص على الإخلاص، وإخفاء الأعمال عن الخلق قدر المستطاع، ومطالعة عيوب النفس ونقائص الأعمال ومفسداتها من الكبر والعجب والرياء وضعف الصدق، والتقصير في إكمال العمل وإتمامه.
(3) الإشفاق من رد الأعمال وعدم قبولها.(7/318)
(4) مشاهدة فضل الله وإحسانه، والحياء منه؛ لإطلاعه على تفاصيل ما في القلوب، وتذكر الموقف والمقام بين يديه، والخوف منه، وإظهار الضعف والافتقار إليه والتعلق به دون غيره.
(5) طلب هدايته وتوفيقه وتسديده.
(6) ومن أعظم الطرق: معرفة الله (جل جلاله) بأسمائه الحسنى وصفاته العلا .. والعلم النافع، وهو: العلم بآيات الله الكونية والشرعية، الذي يربط القلب بالله.
وكذلك الإكثار من ذكر الموت، والجنة والنار، والإكثار من ذكر الله تضرعاً وخِيفة، ودعائه تضرعاً وخُفية، فإن ذلك أعظم إيماناً وأبلغ في الأدب، والتعظيم، والتضرع، والخشوع، والإخلاص، وجمعية القلب على الله تعالى)
ويمكن تحصيل ذلك كله بالإقبال على كتاب الله الكريم، مع تعاهد التلاوة، وإدامة النظر، وطول التأمل وكثرة التدبر، الذي يورث الصلة بالله (تعالى)، والمسارعة في الطاعات، واستباق الخيرات، وهو الأمر الذي لأجله أنزل الله القرآن الكريم.
(آثار الخشوع:
يضفي الخشوع على الأفراد والأمم آثاراً كثيرة، منها:
(1) أنه يبعث الحياة في العمل، فيؤتي ثمرته المرجوة وغايته المقصودة.
(2) أنه يجعل العبادة محببة للنفس، خفيفة غير ثقيلة.
(3) المسارعة إلى الإذعان للحق والدعوة إليه، وبذل غاية الوسع في التعليم والدعوة والتربية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(4) توحيد المشاعر والاتجاهات والمقاصد نحو الله (تعالى) لا شريك له، فيتوجه العمل والنشاط والعبادة نحو غاية واحدة، فيحصل من ذلك:
ـ إحياء الأمة وقوتها وانتصارها، بصلاة الخاشعين ودعائهم وإخلاصهم، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
وقد لمسنا آثار الخشوع في حياة سلف هذه الأمة الذين قاموا بأمر الله خير قيام، وحملوا لواء العلم والعبادة والدعوة، وما كان ليحصل ذلك لولا ما تحمله قلوبهم من تعظيم الله ومحبته وخشيته.
وإذا لم يكن الخشوع صفة الدعاة وحالهم، فإن الخطْب جلل، والمصيبة عظيمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(نماذج من خشوع السلف:
كان عبد الله بن الزبير يسجد حتى تنزل العصافير على ظهره ولا تحسبه إلا حائط.
لو رأيت ابن الزبير يصلي كأنه غصن شجرة تهزها الريح والمنجنيق يقع هاهنا وهاهنا وكأنه لا يبالي.(7/319)
(وذكر بعضهم أن حجراً من المنجنيق وقع على شرفة المسجد فطارت فلقة منها فمرت بين لحية ابن الزبير وحلقه، وهو قائم يصلي، فما زال عن مقامه، ولا عرف ذلك في صوته، ولا قطع لها قراءته، ولا ركع دون ما كان يركع، فكان إذا دخل في الصلاة خرج من كل شيء إليها.
(روي أن ابن الزبير كان يوماً يصلي فسقطت حية من السقف تطوقت على بطن ابنه هاشم، فصرخ النسوة وانزعج أهل المنزل، واجتمعوا على قتل الحية، فقتلوها وسَلِم الولد، فعلوا هذا كله وابن الزبير في الصلاة لم يلتفت، ولا درى بما جرى لابنه حتى سلَّم.
(وركع ابن الزبير يوماً فقرأ البقرة وآل عمران والنساء والمائدة وما رفع رأسه.
(وقال يحيى بن وثاب: (كان ابن الزبير إذا سجد وقعت العصافير على ظهره، تصعد وتنزل، ولا تراه إلا جذم حائط.
(روي عن حاتم الأصم أنه سئل عن صلاته، فقال: إذا حانت الصلاة، أسبغت الوضوء، وأتيت الموضع الذي أريد الصلاة فيه، فأقعد فيه حتى تجتمع جوارحي، ثم أقوام ‘لي صلاتي، وأجعل الكعبة بين حاجبي، والصراط تحت قدمي، والجنة عن يميني، والنار عن شمالي، وملك الموت ورائي، وأظنها آخر صلاتي، ثم أقوم يسن يدي الرجاء والخوف ,أكبر تكبيراُ بتحقيق ,وأقرأ بترتيل، وأركع وكوعاً بتواضع وأسجد سجوداً بتخشع .. وأتبعها الإخلاص، ثم لا أدري أقبلت أم لا؟.
[*] قال علي بن الفضيل: (رأيت الثوري ساجداً فطفت سبعة أسابيع - أي 49 شوطاً - قبل أن يرفع رأسه)
[*] قال ابن وهب: (رأيت الثوري في الحرم بعد المغرب صلّى ثم سجد سجدة فلم يرفع حتى نودي بالعشاء.
[*] قال أبو بكر بن عياش: (رأيت حبيب بن أبي ثابت ساجداً، فلو رأيته قلت: ميت. يعني من طول السجود.
[*] كان طلق بن حبيب لا يركع في صلاته إذا افتتح سورة (البقرة) حتى يبلغ (العنكبوت). وكان يقول: أشتهي أن أقوم حتى يشتكي صلبي.
(ومنهم: من إذا دخل في الصلاة خشع قلبه، وسكنت جوارحه، حتى يظن من رآه أنه جماد، بل إن الطير قد يظن ذلك المصلي حائطاً، فيقع على ظهره لشدة سكونه، وهذا السكون دليل على الراحة التي يجدها المصلي في صلاته، إذ لو لم يجد فيها راحة لم يسكن هذا السكون، فإن المرء إذا كان على وضع لا راحة له فيه تكثر حركته، والتفاته، وعبثه.
قال ثابت البناني: (كنتُ أَمُرُّ بعبد الله بن الزبير وهو يصلي خلف المقام، كأنه خشبة منصوبة لا يتحرك.
قال الأعمش: (كان إبراهيم إذا سجد كأنه حائط، ينزل على ظهره العصافير.(7/320)
وكان مسلم بن يسار إذا صلّى كأنه وتد لا يميل لا هكذا ولا هكذا. وقيل: إذا صلى كأنه ثوب ملقى.
[*] قال ميمون بن مهران:
ما رأيت مسلم بن يسار ملتفتا في صلاة قط ولقد انهدمت ناحية من المسجد ففزع أهل السوق لهدتها وإنه لفي المسجد يصلي فما التفت.
وعنه أيضا [أن مسلم بن يسار كان إذا دخل إلى المنزل سكتوا فإذا قام إلى الصلاة تكلموا وضحكوا.
(ومنهم: من إذا دخل في الصلاة انشغل بها عما حوله، حتى لا يشعر بما يحدث عنده وقريباً منه وإن كان عظيماً، ومتى عظمت محبة الشخص لأمر، فإنه ينشغل به حتى عن نفسه، ألم تر كيف قطع النسوة أيديهن لما رأين يوسف فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ [يوسف:31] دهشن برؤيته عن أنفسهم فلم يشعرن بتقطيع أيديهن.
من المصلين من يجد في صلاته لذة تشغله عما حوله، فمنهم من لا يشعر بوقوع شيء أصلاً، ومنهم من يشعر بذلك لكنه لا يلتفت إليه، ولا يعبأ به، فكأنه لم يشعر، لقوة حضوره في صلاته، وانصرافه لها، وعدم اهتمامه بما سواها وانشغاله عنه.
قال ميمون بن مهران: ما رأيت مسلم بن يسار ملتفتاً في صلاة قط، ولقد انهدمت ناحية من المسجد ففزع أهل السوق لهدمها، وإنه في المسجد يصلي فما التفت. ولما هنئ بسلامته عجب وقال: ما شعرت.
(ومنهم: من يصيبه في صلاته وجع شديد وألم، فلا يلتفت له، ويستمر في صلاته، قد أنسته لذة الصلاة شدة الوجع، حتى كأنه لا يحس به.
(ففي إحدى الغزوات قام رجل من الأنصار يصلى ليلاً، فرماه أحد المشركين بسهم فنزعه واستمر في صلاته، فرماه بسهم ثان فنزعه واستمر في صلاته، فرماه بسهم ثالث فنزعه وركع وسجد وأتم صلاته. ثم أنبه صاحبه، فلما رأى ما به من الدم قال: سبحان الله! ألا أنبهتني أول ما رمى؟! قال: كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها.
فانظر كيف صبر على تلك السهام، وتحمَّل ألم الجراح، ولم تطب نفسه أن يقطع قراءته لتلك السورة حتى أتمّها. فكم من لذة يجدها هذا الرجل في صلاته. وكم من راحة وسرور، نسي معه تعب السفر، ومشقة الطريق، وهون عليه ضرب السهام.
[*] الربيع ابن خيثم:(7/321)
عن بكر بن ماعز قال أعطي الربيع فرساً أو اشترى فرساً بثلاثين ألفاً فغزا عليها قال ثم أرسل غلامه يحتش وقام يصلي وربط فرسه فجاء الغلام فقال يا ربيع أين فرسك قال سرقت يا يسار قال وأنت تنظر إليها قال: (نعم يا يسار أني كنت أناجي ربي عز وجل فلم يشغلني عن مناجات ربي شيء اللهم انه سرقني ولم أكن لأسرقه اللهم إن كان غنياً فاهده وإن كان فقيراً فاغنه)، ثلاث مرات
[*] عن بن فروخ قال: (كان الربيع بن خيثم إذا كان الليل ووجد غفلة الناس خرج إلى المقابر فيجول في المقابر يقول: (يا أهل القبور كنتم وكنا، فإذا أصبح كأنه نشر من أهل القبور.
(ومن خشوعهم أنهم كانوا يتأثرون جداً بالجنائز:
قال ثابت البناني: كنا نتبع الجنازة فما نرى إلا متقنعا باكيا أو متقنعا متفكرا.
(علو الهمة في الخشوع:
[*] قال الجنيد: الخشوع تذلل القلوب لعلام الغيوب.
[*] قال ابن كثير:
والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرّغ قلبه لها .. واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون راحة له وقرة له.
[*] قال سعيد بن جبير في قوله تعالى:
(الذين هم في صلاتهم خاشعون) يعني: متواضعون. لا يعرف من عن يمينه ولا من عن شماله ولا يلتفت من الخشوع لله تعالى.
• صار لرب العرش حين صلاته ... نجيّا فيا طوباه لو كان يخشع
[*] قال بعض السلف:
الصلاة كجارية تهدى إلى ملك من الملوك، فما الظن بمن يهدى إليه جارية شلاء أو عوراء ... فكيف بصلاة العبد والتي يتقرب بها إلى الله.
[*] كان ذو النون يقول في وصف العبّاد:
لو رأيت أحدهم وقد قام إلى صلاته، فلما وقف في محرابه، واستفتح كلام سيده، خطر على قلبه أن ذلك المقام هو المقام الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين، فانخلع قلبه وذهل عقله.
[*] (تمام الخشوع:
أن يخضع القلب لله ويذل له، فيتم بذلك خضوع العبد بباطنه وظاهره لله عز وجل،
(وذلك لأن القلب أمير البدن. فإذا خشع القلب .. خشع السمع والبصر والوجه وكل الأعضاء .. حتى الكلام.
ولهذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في ركوعه: (خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي).
(حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا ركع كان كلامه في ركوعه أن يقول اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت وأنت ربي خشع سمعي وبصري ومخي وعظمي لله رب العالمين.(7/322)
(حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا ركع قال اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت وعليك توكلت أنت ربي خشع سمعي وبصري ودمي ولحمي وعظمي وعصبي لله رب العالمين.
[*] قال الحسن رحمه الله:
إياك أن ينظر الله إليك وتنظر إلى غيره .. وتسأل الله الجنة وتعوذ به من النار .. وقلبك ساه لا تدري ما تقول بلسانك.
[*] كان خلف بن أيوب لا يطرد الذباب عن وجهه في الصلاة فقيل له: كيف تصبر؟. قال: بلغني أن الفسّاق يتصبرون تحت السياط ليقال: فلان صبور. وأنا بين يدي ربي، أفلا أصبر على ذباب يقع علي؟.!!
[*] (احذر خشوع النفاق:
[*] قال أبو الدرداء
: استعيذوا بالله من خشوع النفاق. قالوا: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع.
{تنبيه}: (الخشوع عزيزٌ في هذه الأمة وقد أخبر النبي أن أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع.
(حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع حتى لا ترى فيها خاشعا.
(19) البكاء حال الدعاء:
لقد أثنى الله في كتابة الكريم في أكثر من موضع على البكائين من خشيته
قال تعالى: (وَيَخِرّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) [الإسراء / 109]
قال تعالى: (إِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرّحْمََنِ خَرّواْ سُجّداً وَبُكِيّاً) [مريم / 58]
والسنة طافحةٌ بما يدل على فضل البكاء من خشية الله تعالى منها ما يلي:
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل و شاب نشأ في عبادة الله و رجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، و رجل دعته امرأة ذات منصب و جمال فقال: إني أخاف الله و رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه و رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه.
[*] قال القرطبي: فيض العين بحسب الذاكر وما ينكشف له فبكاؤه خشيه من الله تعالى حال أوصاف الجلال وشوقاً إليه سبحانه حال أوصاف الجمال.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال
:لا يلج النار رجل بكي من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم.
قال المباركفوري في تحفة الأحوذي:(7/323)
قوله [لا يلج] من الولوج أي لا يدخل [رجل بكى من خشيه الله] فإن الغالب من الخشية امتثال الطاعة واجتناب المعصية [حتى يعود اللبن في الضرع]
هذا من باب التعليق بالمحال كقوله تعالى: (حَتّىَ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) [الأعراف / 40]
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله.
قال المباركفوري في تحفة الأحوذي:
[عينان لا تمسهما النار] أي لا تمس صاحبهما فعبر بالجزء عن الجملة وعبر بالمس إشارة إلى امتناع ما فوقه بالأولى [عين بكت من خشيه الله] وهى مرتبه المجاهدين مع النفس التائبين عن المعصية سواء كان عالماً أو غير عالم [وعين باتت تحرس في سبيل الله] وهى مرتبة المجاهدين في العبادة وهى شاملة لأن تكون في الحج أو طلب العلم أو الجهاد أو العبادة والأظهر أن المراد به الحارس للمجاهدين لحفظهم عن الكفار.
(حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلا قول الله عز وجل في إبراهيم! < رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني >! وقال عيسى عليه السلام! < إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم >! فرفع يديه وقال اللهم أمتي أمتي وبكى فقال الله عز وجل يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يبكيك فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما قال وهو أعلم فقال الله يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك.
(نماذج من بكاء السلف:
[*] وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: لأن أدمع دمعه من خشيه الله عز وجل أحب إلى من أن أتصدق بألف دينار.
[*] كان ابن عمر إذا قرأ: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} بكى حتى يغلبه البكاء.
[*] قال حماد بن زيد: رأيت ثابتا يبكي حتى تختلف أضلاعه.
[*] وقال جعفر بن سليمان: بكى ثابت البناني حتى كادت عينه تذهب، فجاؤوا برجل يعالجها، فقال: أعالجها على أن تطيعني. قال: وأي شيء؟ قال: على أن لا تبكي.، فقال: فما خيرهما إذا لم يبكيا، وأبى أن يتعالج.
وقرأ ثابت: {تطلع على الأفئدة} قال تأكله إلى فؤاده وهو حي لقد تبلغ فيهم العذاب ثم بكى وأبكى من حوله.(7/324)
وقال حماد بن سلمة: قرأ ثابت: {أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا} وهو يصلي صلاة الليل ينتحب ويرددها.
[*] وقال الثورى: جلست ذات يوم أحدث ومعنا سعيد بن السائب الطائفي فجعل سعيد يبكى حتى رحمته فقلت: يا سعيد ما يبكيك وأنت تسمعني أذكر أهل الخير وفعالهم؟ فقال: يا سفيان وما يمنعني من البكاء إذا ذكرت مناقب أهل الخير وكنت عنهم بمعزل؟ قال سفيان: حق له أن يبكى.
[*] وقال أبو مُسهر كان الأوزاعى رحمه الله يحيى الليل صلاه وقرآنا وبكاء وأخبرنى بعض إخوانى من أهل بيروت أن أمه كانت تدخل منزل الأوزاعي وتتفقد موضع مصلاه فتجده رطباً من دموعه في الليل.
[*] وعن القاسم بن محمد البغدادى قال كنت جار معروف الكرخى فسمعته ليله في السحر ينوح ويبكى وينشد:
أي شيء تريد منى الذنوب ... شغفت بي فليس عنى تغيب
ما يضر الذنوب لو أعتقتني ... رحمه لي فقد علاني المشيب
[*] عن بشير قال بت عند الربيع ذات ليلة فقام يصلي فمر بهذه الآية ((أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون)) قال فمكث ليلته حتى أصبح ما يجوز هذه الآية إلى غيرها ببكاء شديد.
عن نسير بن ذعلوق قال: (كان الربيع بن خيثم يبكي حتى يبل لحيته من دموعه فيقول أدركنا قوماً كنا في جنوبهم لصوصاً.
[*] عن سفيان قال بلغنا عن أم الربيع بن خيثم كانت تنادي ابنها ربيع تقول يا ربيع ألا تنام فيقول يا أمه من جن عليه الليل وهو يخاف السيئات حق له ألا ينام قال فلما بلغ ورأت ما يلقى من البكاء والسهر نادته فقالت يا بني لعلك قتلت. قتيلا قال نعم يا والدة قد قتلت قتيلا، فقالت ومن هذا القتيل يا بني حتى نتحمل إلى أهله فيغتفرك والله لو يعلمون ما تلقى من السهر والبكاء بعد لقد رحموك فقال يا والدة هو نفسي.
[*] قال الحسن البصري:
بلغنا أن الباكي من خشيه الله لا تقطر من دموعه قطره حتى تعتق رقبته من النار وقال أيضاً: لو أن باكيا بكى في ملأ من خشية الله لرحموا جميعا وليس شيء من الأعمال إلا له وزن إلا البكاء من خشية الله فإنه لا يقوم الله بالدمعة منه شيء وقال: ما بكى عبد إلا شهد عليه قلبه بالصدق أو الكذب.
[*] وقال أبو جعفر الباقر:(7/325)
ما اغرورقت عين عبد بمائها إلا حرم الله وجه صاحبها على النار فإن سالت على الخدين لم يرهق وجهه قتر ولا ذله وما من شيء إلا وله جزاء إلا الدمعة فإن الله يكفر بها بحور الخطايا ولو أن باكيا بكى من خشية الله في أمه رحم الله تلك الأمة.
وقال كعب الأحبار:
لأن أبكى من خشية الله فتسيل دموعي على وجنتي أحب إلى من أن أتصدق بوزني ذهبا.
[*] وعن أبى معشر قال: رأيت عون بن عبد الله في مجلس أبى حازم يبكى ويمسح وجهه بدموعه فقيل له لم تمسح وجهك بدموعك؟ قال: بلغني أنه لا تصيب دموع الإنسان مكانا من جسده إلا حرم الله عز وجل ذلك المكان على النار.
[*] روى أحمد بن سهل قال: قدم علينا سعد بن زنبور فأتيناه فحدثنا قال: كنا على باب الفضيل بن عياض فاستأذنا عليه فلم يؤذن لنا فقيل لنا إنه لا يخرج إليكم أو يسمع القرآن قال وكان معنا رجل مؤذن وكان صيتا فقلنا له: إقرأ فقرأ [ألهاكم التكاثر] ورفع بها صوته فأشرف علينا الفضيل وقد بكى حتى بل لحيته بالدموع ومعه خرقه ينشف بها الدموع من عينيه وأنشأ يقول
بلغت الثمانين أو جزتها ... فماذا أؤمل أو أنتظر
أتى ثمانون من مولدى ... وبعد الثمانين ما ينتظر
عَّلتنى السنون فأبليننى ... ......................
قال ثم خنقته العبره وكان معنا على بن خشرم فأتمه لنا يقول
علتنى السنون فأبليننى ... فرقت عظامى وكل البصر
[*] ابن المنكدر:
* كان محمد بن المنكدر: ذات ليله قائم يصلى إذ استبكى فكثر بكاؤه حتى فزع له أهله فسألوه: ما الذي أبكاك؟ فاستعجم عليهم فتمادى في البكاء فأرسلوا إلى أبى حازم وأخبروه بأمره فجاء أبو حازم إليه فإذا هو يبكى فقال: يا أخي ما الذي أبكاك؟ قد رعت أهلك فقال له إني مرت بي آيه من كتاب الله عز وجل قال: ما هي؟ قال: قول الله تعالى [وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون] قال فبكى أبو حازم معه واشتد بكاؤهما فقال بعض أهله لأبى حازم جئناك لتفرج عنه فزدته، فأخبرهم ما الذي أبكاهما.
[*] الإمام الحجة الحافظ هشام الدستوائي.
وقال شاذ بن فياض: بكى هشام الدستوائي حتى فسدت عينه، فكانت مفتوحة، وهو لا يكاد يبصر بها.
[*] قال الحارث بن سعيد كنا عند مالك بن دينار وعنده قارىء يقرأ [إذا زلزلت الأرض زلزالها] فجعل مالك ينتفض وأهل المجلس يبكون حتى انتهى القارىء إلى [فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره] فجعل مالك يبكى ويشهق حتى غشى عليه فحمل بين القوم صريعاً.(7/326)
* أُتِىَ الحسن البصرى بكوز من ماء ليفطر عليه فلما أدناه إلى فيه بكى وقال ذكرت أمنية أهل النار قولهم [أن أفيضوا علينا من الماء] وذكرت ما أجيبوا به [إن الله حرمهما على الكافرين].
[*] وعن إبراهيم بن الأشعث قال كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة لا يزال يعظ ويذكر ويبكى حتى لكأنه يودع أصحابه ذاهب إلى الآخرة حتى يبلغ المقابر فيجلس فكأنه بين الموتى جلس من الحزن والبكاء حتى يقوم وكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها.
[*] وعن عاصم قال: سمعت شقيق بن مسلمه يقول وهو ساجد رب اغفر لي رب اغفر لي إن تعف عنى تعف عنى تطولا من فضلك وإن تعذبني تعذبني غير ظالم لي قال ثم يبكى حتى أسمع نحيبه من وراء المسجد.
(ذاك والله هو الإيمان الحق الذي ليس بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقة العمل وهؤلاء هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون وإن لم يكن هؤلاء أولياء الله فليس لله ولى.
(خفاء البكاء:
وبالتأمل في سيرة هؤلاء الصالحين الباكين من خشية الله تعالى نجد أنهم اشتركوا في صفة واحدة على تنوع عباداتهم واجتهاداتهم في طاعة الله تعالى تلك الصفة هي الإخلاص المنافي للرياء فلقد كانوا رضي الله عنهم أبعد الناس عن أن يراهم أحد حال البكاء حرصاً منهم أن لا يدخل العُجْب قلوبهم فتبطل عبادتهم وتراهم شددوا بلسان الحال والمقال على هذه الصفة ابتغاء نيل الأجر كاملاً غير منقوص من رب العالمين لا من مدح المادحين.
[*] قال الحسن البصري:
إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها فإذا خشي أن تسبقه قام.
وقال عبد الكريم بن رشيد: كنت في حلقه الحسن فجعل رجل يبكى وارتفع صوته فقال الحسن إن الشيطان ليبكى هذا الآن.
[*] وكان أيوب السختيانى في ثوبه بعض الطول لستر الحال وكان إذا وعظ فرقَّ فَرَقَ من الرياء فيمسح وجهه ويقول: ما أشد الزكام.
[*] وقال حماد بن زيد: دخلنا على محمد بن واسع في مرضه نعودة قال فجاء يحيى البكاء يستأذن عليه فقالوا: يا أبا عبد الله هذا أخوك أبو سلمه على الباب قال: من أبو سلمه؟ قالوا: يحيى قال: من يحيى؟ قالوا: يحيى البكاء قال حماد: وقد علم أنه يحيى البكاء فقال شر أيامكم يوم نسبتم فيه إلى البكاء.
[*] وعن القاسم بن محمد قال:(7/327)
كنا نسافر مع ابن المبارك فكثيراً ما كان يخطر ببالي فأقول في نفسي بأي شيء فضل هذا الرجل علينا حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة إن كان يصلى آنا نصلى وإن كان يصوم آنا نصوم وإن كان يغزو فآنا نغزو وإن كان يحج آنا لنحج قال فكنا في بعض مسيرتا في طريق الشام ليله نتعشى في بيت إن طفئ السراج فقام بعضنا فأخذ السراج وخرج يستصبح فمكث هنيهة ثم جاء بالسراج فنظرت إلى وجه ابن المبارك ولحيته قد ابتلت من الدموع فقلت في نفسي بهذه الخشية فضل هذا الرجل علينا ولعله حين فقد السراج فصار إلى ظلمه ذكر القيامة.
(20) التضرع إلى الله في الدعاء:
(تعريف التضرع:
التضرع لغةً: يدو ر حول الطلب بذل وخضوع واستكانة، ومادة ضرع تدل على لينٍ في الشيء، ومن هذا الباب ضرع الشاة، فلو نظرت إلى صغير الحيوان حين يلتقم ثدي أمه، فيلح ويرتفع وينخفض ويجتهد بكل قوته كي يجذب هذا اللبن الذي به حياته لعرفت مدى الارتباط بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي للتضرع.
التضرع شرعا: هو دعاء الله وسؤاله بذل وخشوع وإظهار للفقر والمسكنة، وهذا الحالة يحبها ربنا ويرضاها، بل أمر عباده بها:
(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (الأعراف:55)
(ضرورة التضرع لله:
الإنسان لا يستغني عن ربه طرفة عين ولا أقل من ذلك، ولهذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يردد كثيرا: " لا تكلني إلى نفسي طرفة عين.
(حديث أبي بكرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين و أصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت.
ولله درُّ من قال:
لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا وبتُّ أشكو إلى مولاي ما أجد
وقلت يا أملي في كل نائبة ومن عليه لكشف الضر أعتمد
أشكو إليك أموراً أنت تعلمها مالي إلى حملها صبر ولا جلد
وقد مددت يدي بالذل مبتهلاً إليك يا خير من مدت إليه يد
فلا تردنها يا رب خائبة فبحر جودك يروي كل من يرد
(نريد أن يكون المسلمين أولياء عباداً أتقياء تتزلزل الجبال إذا رفعوا أيديهم بالدعاء نريد قلوباً مخبتة منيبة .. نريد الرجل الذي إذا رفع يديه لا يردها الله تبارك وتعالى إلا وقد حقق له ما يريد، وإن الله تعالى حيي كريم كما جاء في الحديث الآتي:(7/328)
(حديث سلمان في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا.
نريد الذي يدعو على جبار فيقصمه الله عز وجل، نريد من يدعو على دولة الكفر؛ فيدمرها رب العالمين، نريد من يدعو على ظالم من الظلمة؛ فينتقم الله منه ويجعله عبرة وآية للعالمين،
ونريد مثل محمد بن واسع وهو من موالي زهران، أي أنه من هذه القبيلة الخيرة الطيبة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {مولى القوم منهم}.
إن قتيبة بن مسلم الباهلي رحمه الله، كان يعد الجيوش لحرب أكبر جبهة كانت في تاريخ العالم الإسلامي وفي تاريخ الفتوحات، وهي الجبهة الشرقية حيث الهند والصين والترك، وهي أعتى الشعوب في القتال؛
فكان يريد أن يقاتل وأن يجاهد هؤلاء، فأعد العدة المادية كاملة وبقيت العدة الأخرى، لأنه لا ينسى أحدٌ من قادة المسلمين وصية عمر بن الخطاب لسعد بن أبي وقاص: [واعلم أن المسلمين إنما ينصرهم الله تبارك وتعالى بطاعتهم لله وبمعصية عدوهم له، فإذا استوينا نحن وهم في المعصية؛ كان لهم الفضل علينا في القوة]
أي: فنحن عدتنا الطاعة، وكفى بها عدة، ففي تلك الليلة أعد كل شيء وبيت للهجوم ثم قال: اذهبوا فالتمسوا هل في المسجد أحد -هكذا نريد مثل هؤلاء تقي خفي لا يدري عنه أحد، ولكنه يأتي بدعوة هي خير من هذه الجيوش كلها، أو رديفة ومساندة لهذه الجيوش كلها- قالوا: ما وجدنا فيه إلا محمد بن واسع رافعاً إصبعه -أي: يدعو بإصبع واحدة- قال: إصبعه تلك أحب إلي من ثلاثين ألف فارس.
(وذلك لأنه إذا قال: يارب، استُجيب له بإذن الله تبارك وتعالى؛ لأنهم يبيتون لربهم سجداً وقياماً، ويفزعون إليه تبارك وتعالى، فهم جنده، والدين دينه والدعوة دعوته، والجند جنده والعباد عبيده، والأعداء أعداؤه.
إذاً: لا بد أن يفزعوا إليه ولا بد أن ينادوه وأن يتضرعوا إليه.
[*] (واعلم أن الغاية من أخذ العباد بالبأساء والضراء أن يتضرعوا إلى الله:
إن العباد قد يغفلون في أوقات الرخاء عن هذه العبادة الجليلة لكن لا ينبغي أن يغفلوا عنها في أوقات البلاء والمحنة ولو أنهم غفلوا في الحالين لعرضوا أنفسهم لعقوبة الله:(7/329)
قال تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 44،45)
إن من أعظم أسباب دفع البلاء تضرع العبد لربه جل وعلا كما بيّن الله في كتابه الكريم: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
) ... الأنعام:43،42
(فالغاية من أخذ العباد بالبأساء والضراء أن يتضرعوا إلى الله.
إن العباد قد يغفلون في أوقات الرخاء عن هذه العبادة الجليلة لكن لا ينبغي أن يغفلوا عنها في أوقات البلاء والمحنة ولو أنهم غفلوا في الحالين لعرضوا أنفسهم لعقوبة الله: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 44،45)
(ولقد أخبر الله تعالى عن أقوام ابتلاهم وتوعدهم بالعذاب فاستكان بعضهم وتضرع إلى الله فكشف الله عنهم عذاب الدنيا، وأخبر عن آخرين ابتلاهم وتوعدهم لكنهم تكبروا وتجبروا وما استكانوا ولا تضرعوا فأخذهم العذاب.
أما الأولون الذين تضرعوا فمنهم قوم يونس عليه السلام الذين قال الله عنهم: (فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) (يونس:98)
[*] وقد ذكر بعض المفسرين:
أن قوم يونس خرجوا إلى الطرقات واصطحبوا نساءهم وأطفالهم ودوابهم ودعوا وجأروا إلى الله، وقيل: إنهم ظلوا على هذه الحالة أياما يدعون ويستغيثون ويتضرعون ويبكون فكشف الله عنهم عذاب الدنيا منةً منه وفضلا.(7/330)
أما الآخرون الذين لم يظهروا الفقر والضراعة فقد قال عنهم: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ* حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) (المؤمنون: 76،77)
[*] (الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيد المتضرعين:
لقد كانت حياة رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلها لله، فكان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير من تضرع إلى الله في الشدة والرخاء، وقد رأيناه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل أحواله متضرعا خاشعا متذللا لربه تبارك وتعالى.
(في الاستسقاء:
خرج متبذلا متواضعا متضرعا حتى أتى المصلى فلم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير وصلى ركعتين كما كان يصلي في العيد.
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح الترمذي) قال خرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للاستسقاء متذللاً متواضعاً متخشِّعاً متضرعا.
(وعند رمي الجمار:
فإنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يرمي الجمار في أيام التشريق إذا زالت الشمس، ويكبر مع كل حصاة، فإذا رمى الأولى وقف يدعوا ويتضرع، وكذا بعد الثانية، أما الثالثة فلم يكن يقف عندها.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبر على إثر كل حصاة، ثم يتقدم حتى يسهل، فيقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلا، ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل، ويقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلا، ويدعو ويرفع يديه، ويقوم طويلا، ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرف، فيقول: هكذا رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعله.
وفي الجهاد:
رأيناه يتضرع ويدعو في بدر ويستنصر ربه حتى أنزل الله المدد: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) (الأنفال:9)
وفي يوم الأحزاب:
دعا ربه وتضرع حتى صرف الله عن المسلمين الشر وكفاهم كيد أعدائهم.
وعند الكرب:
يذكر ربه ويذل له ويدعوه:
(حديث ابن عباس في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول عند الكرب لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم.(7/331)
(حديث أبي بكرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين و أصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كربه أمر قال يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث.
وهكذا كان في كل أحواله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهكذا تعلم منه أصحابه وعلموا مَنْ بعدهم.
نسأل الله أن يجعلنا أفقر خلقه إليه، وأغناهم به عمن سواه.
(كيفية التضرع:
أرأيتم العجل الصغير من البقر أو من الإبل أو من أي شيء، كيف يرضع! وكيف يفعل إذا لم يرضع! أرأيتم تلك الحالة؟
وكيف يرتفع وينزل ويحاول ويحاول ويمتص ويحرص وهكذا، فالضراعة مأخوذة من ذلك؛ فالواحد لا يرفع يده اللهم اغفر لي، ويمر منها كبعض الناس، بدون تضرع، بل اجعله دعاء ضراعة وتضرع والتمس الخير من عند الله لعله أن ينزل عليك، وبنفس الحرص والرغبة والشدة القلبية التي يفعلها هذا الصغير من الحيوان وهو يأخذ من الضرع، واطلب ذلك سواءً أكان مطراً أم غيثاً، أم رحمة أم نصراً أم رزقاً أم توفيقاً أم أي شيء.
تضرع إلى الله فبالضراعة يدفع الله تبارك وتعالى العذاب؛ ولهذا يقول سبحانه: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا
اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون:76] أي: لو أن الناس استكانوا لربهم
فما معنى الاستكانة؟
الاستكانة: هي الطمأنينة والخضوع الكامل الذي يناسب الهون، الذين يمشون على الأرض هوناً أي: مستكينين- وتضرعوا إلى الله عز وجل؛ لكشف الله تعالى عنهم العذاب كائناً ما كان.
وليس الحال كحالنا اليوم: إذا نزل العذاب جرينا وراء الأسباب، وانتقلنا من سبب إلى سبب إلى سبب، حتى نضيع في أودية لا نهاية لها، والطريق سهل والاتصال بالله تبارك وتعالى ميسور؛ ونتضرع إليه فيكون كل ما نريد بإذن الله تبارك وتعالى من خيره وفضله.
(وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً) [الفرقان: 64]
أي: وهاتان الحالتان في الصلاة؛
سُجَّداً: السجود فأقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد؛
وَقِيَاماً: القيام فأفضل الصلاة طول القنوت والقيام، وهو الذي يجعل الإنسان مثلما رأت تلك البنت أو الجارية ذلك الرجل كأنه خشبة.(7/332)
فبالسجود وبالقيام وبالدعاء وبتدبر الآيات والتفكر فيها في القيام ترى العجب، وبالبكاء في السجود ترى العجب الآخر، سبحان الله العظيم!
ولهذا جاء عن بعض السلف في تدبر الآيات وفي قراءة آية واحدة من كتاب الله مواقف عجيبة جداً وكيف تفعل الآية في القلوب؛ فكيف بك إذا قرأ المئات من الآيات، حتى كان بعضهم يريد أن يصلي بعض الليل أو ثلثه، ولا يشعر إلا وقد طلع عليه الفجر، فإلى الفجر وهو ما يزال واقف لا يشعر بالوقت؛ لأنه يستغرق بعمق في هذه الآيات وفي معانيها.
وكما قرأ بعضهم قول الله تعالى: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ [سبأ:54]
فكيف حيل بينهم وبين ما يشتهون.
فيشتهي الإنسان في هذه الدنيا، المال والراحة والزوجة والبيت وهو في هذا التعب كله ويعمل فيه، فتأتي لحظة ثم يحال بينهم وبين ما يشتهون، ولو فكر الواحد كيف يحال بينهم في لحظة واحدة يسلب هذا كله الملك، والمال، والمنصب، والسلطان، والزوجة، والبيت وكل شيء فإذا حيل بينك وبين ما تشتهي وبدأت تفكر: ماذا قدمت وماذا أمامك؟
فهذه هي العبرة، لو فكر الإنسان وتأمل، كيف أنه يحال بينه وبين ما يشتهي وبين ما تعب. فسنوات من عمرك وأنت تزين هذه العمارة، ومالك كله قضيته وأنت تتفنن في هذه الحديقة، وفي اختيار هذا المنزل، ثم يقال لك: ارجع إلى ما أترفت فيه، لماذا تركض؟
ولماذا تذهب؟
فحيل بينهم وبين ما يشتهون، أي: بنزول الموت وبنزول العذاب ينتهي كل شيء؛ ثم يحاسب عليها ويتمنى
أنه سلم منها -على الأقل- حتى يخفف عليه الحساب؛ لكنه يحاسب عليها، ويتمتع بها غيره؛ وهذا من ضيق الدنيا وخستها وحقارتها إذا قورنت بالآخرة.
مسألة: ما هي أسباب التضرع إلى الله؟
الجواب:
ذكرنا أن الإنسان في كل وقت محتاج إلى أن يدعو الله، وأن يتضرع إليه، ولعلنا لو رجعنا إلى المعنى اللغوي للتضرع لأفادنا في معرفة المعنى الشرعي، فالتضرع: كلمة اشتقت من الضَرع، والضَرع معروف لذوات الخف من الحيوان، كالإبل والبقر التي يكون فيها ضَرع.(7/333)
والتضرع أن يأتي صغير هذه الحيوان فيرتضع ويلتقم هذا الثدي، فتراه عند ارتضاعه يلح ويرتفع ويحاول بكل قوته أن يجذب هذا اللبن الذي لا يمكن أن يعيش إلا به، نعمة من الله وفضلاً، ففي هذه الصورة البيانية مثل هذا الضرع، من جهة أن أصل خروج المولود هو من هذه الأم، كما أن أصل نموه -بإذن الله تعالى- ناشئ عن هذه الأم، ثم هو لهذا لا يمكن أن يستغني عنها، فلو قطع عنه اللبن لما أمكن أن يعيش أبداً بهذا الشكل.
وكذلك أيضاً أصل الإنسان وجوده، هو من رحمة الله وفضله، ثم هو لذلك يحتاج أن يرفع يديه وأن يتضرع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويلح في الدعاء، ويجتهد بحرص على ما يقيم حياته ويدفع عنه الشر والسوء، كما يجتهد ويلح ويحرص ذلك الحيوان عندما يرتضع من الثدي أو الضرع، ففي كل وقت وفي كل لحظة، نحن لا نستغني عن الله، ولهذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو بقوله: {ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين.
(حديث أبي بكرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين و أصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت.
فانظر إلى هؤلاء الكفار الذين وكلهم الله إلى أنفسهم -قديماً وحديثاً- واستدرجهم بالنعم فظنوا أنهم أقوى ما يكونون، فعندها يخذلهم الله عز وجل، فيفقدون قواهم ويكونون أحوج ما يكونون إليه، فيسقطون وإذا بهم لا شيء، وتذهب كل قوة إلا من عصمه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وحفظه بقوته، فأسباب التضرع كامنة في كل حركة من حركاتك، فأنت في كل يوم تحتاج إلى أن يرفع الله عنك البلاء، وأن يرزقك وأن يعطيك الصحة والعافية، وأن يوفقك لطاعته، فعليك أن تتمسك بدينه وألا تستغني عنه لحظة، ولذا فأسباب التضرع والدعاء قائمة.
(من لوازم التضرع الابتعاد عن المعاصي:
مسألة: هل ينفعنا التضرع الآن ولا تزال المنكرات بيننا لم تتغير؟
الجواب:
هذا من ذاك، نريد أن نغير المنكر لا أن ندعوا الله ونُصِر على المنكر، لكن التضرع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يستلزم الإقلاع عما نحن فيه من المنكر، ولا شك أن من يدعو الله صادقاً بقلب خالص، ويبتعد ويتجنب معاصي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يقرب منها أن الله يستجيب له؛ لأن التضرع إلى الله لا يقصد به مجرد الدعاء فقط، بل يقصد به -أيضاً- الإقلاع عن الذنوب وترك المعاصي.(7/334)
يجب أن نصلي الصلوات الخمس جماعة حيث ينادى بهن، وأن نتلافى التقصير، ونقبل على قراءة كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن ننكر المنكرات، بل يجب أن نحيي شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيننا، في مجتمعاتنا وفي أسواقنا وفي مجالسنا وفي كل مكان.
وإنه لجدير بكل مؤمن أن يراجع نفسه مع كتاب الله، وأن ينظر فيما ابتلى الله تبارك وتعالى به الأمم من قبل، والشعوب من حولنا، وأن نعلم جميعاً أنه لا ملجأ من الله إلا إليه، ولا مفزع من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلا إليه، فلنكن صادقين في قولنا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]
ولنكن صادقين في توكلنا على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولنكن صادقين في اعتصامنا بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولنكن صادقين في دعوى أننا نسير على عقيدة السلف، وعلى منهج السلف الصالح، وأننا متمسكون بعقيدة الحق وشريعة الحق، ولنصدق الله؛ يصدقنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولنتب إلى الله ولنجعل ما جاء أو استشرف أو استجد من الفتن سبباً لأن نكف عما حرم الله، وأن نتوب عما أجرمنا، وعما أسلفنا دولاً وأفراداً وجماعات، فهذا واجبنا جميعاً أن نعلم أن هذه المصائب والفتن والمحن، نذير من الله تعالى، فإن تبنا واستغفرنا وأصلحنا، دفعه الله تبارك وتعالى عنا بما يشاء.
(وإذا لم نقلع عن الذنوب والمعاصي فيجب أن نتوقع الابتلاء والعذاب والمصيبة، ما دمنا في هذه الذنوب والمعاصي، التي لا أرى حاجة لأن أعددها وأذكرها فهي ملء السمع والبصر ولا تخفى على أحد منا، فذنوبنا هي السبب، فما وقع بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، كما أن أسباب النجاة بين أيدينا، وأن رحمة الله تبارك وتعالى بالمؤمنين ولله الحمد غير غائبة عنا، ولكن علينا أن نأخذ بهذه الأسباب ونتضرع إلى الله بصدق، وإلا تعرضنا لعقوبة الأمن من مكر الله تعالى ما دمنا مقيمين على المعاصي، وتأمل قوله تعالى (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ *أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأعراف:97 - 98](7/335)
أي: ما المانع وما الموجب وما المقتضي للغفلة والإعراض وقسوة القلب وعدم اللجوء إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والتضرع إليه، أهو الأمن؟! فكيف يأمنون والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قادر! والله تبارك وتعالى قوي! والله تعالى عزيز ذو انتقام! كيف يأمنون أن يأتيهم بأس الله بياتاً وهم نائمون!
وكم من أمةٍ جاءها ذلك البأس فأخذهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مصبحين، كما أخذ الله قوم لوط أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [هود:81] فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ [الحجر:83] أو (مُشْرِقِينَ) هكذا أخذ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كثيراً من الأمم، أخذهم بياتاً أو مع الإشراق أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ
[الأعراف:98].
وقد أخذ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أيضاً أمماً أخرى وأهلكها، وعذبها وهي ترى العذاب، ومن ذلك ما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن قوم عاد فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا [الأحقاف:24]
نعوذ بالله من القسوة ومن الغفلة- حتى لما رأوا العذاب قالوا: هذا عارض ممطرنا، فما ظنوه إلا استمراراً لهم في الخير واستمراراً للعطاء والنعمة، وما ظنوه إلا سيستمر، وهم لا يحسبونه استدراجاً بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف:25] فكانوا بعد ذلك كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [القمر:20]
وهكذا كل أمة يجب عليها ألا تأمن من مكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [الأعراف:100] لا يصح ولا يجوز لأي أحد أن ينسى، أو يغفل، أو يكف عن التضرع إلى الله والتوبة إليه، والأخذ بالأسباب الواقية من عذابه، والمؤدية إلى النجاة من انتقام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهكذا يجب على الناس أمماً وأفراداً.
أما من كان حاله غير ذلك، فإنما مثله مثل الذي قال: وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً [مريم:77] فرد الله عليه: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً
[مريم:78].(7/336)
هل أعطانا الله تبارك وتعالى عهداً وميثاقاً أن يعذب الأمم ويبتليها ولا يبتلينا؟ لا والله، ومن أين لنا ذلك؟! فقد رأينا عِبَرَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ورأينا أيام الله التي فعلها بالأمم التي قبلنا، ورأينا ما حدث في أوروبا في الحرب العالمية الثانية، وسمع الناس بذلك.
أقول: الأمة في مجموعها علمت بذلك، ثم رأى الناس ما حل بأهل لبنان مع ما كانوا فيه من الرخاء والنعمة، لكن لما طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد صب الله عليهم سوط عذاب، وجعل الفتنة فيما بينهم، وكان الهرج -القتل- حتى أن القاتل لا يدري فيما قَتل ولا المقتول فيما قُتل، ولا يخفى ذلك على أحد.
(من التضرع القنوت في الصلاة:
مسألة: هل يكون التضرع أيضاً في القنوت في الصلوات كما قنت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟
الجواب:
نعم، القنوت من التضرع، ولا بأس به -إن شاء الله- فإذا لم يُفعل جماعةً فنستطيع أن نفعله فُرَادَى، والدعاء فُرَادَى وفي جوف الليل والإنسان خال بربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من أرجى أنواع الدعاء، وكل منا يدرك ذلك -ولله الحمد- فافعلوه، وهل يضيرنا في شيء؟!
بل هو والله خير لنا في الدنيا والآخرة، فهذا الدعاء خير لنا في معادنا وفي مآلنا بل نحتاجه، ونؤجر عليه، ونثاب عليه، كما في حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بأن نُعطى ما دعونا أو نعطى من الخير مثله أو يُصرف عنا من الشر مثله، فالدعاء كله خير، وكله بركة، فإذا دعونا الله فلنستحي بطبيعة الحال أن نعصيه، بل يجب أن يجدنا حيث أمرنا، وأن لا يجدنا حيث نهانا، والله المستعان.
(النجاة من عقوبة الله تكون بالدعاء والتضرع:
وإن مما شرعه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وجعله سبباً -بل هو من أعظم الأسباب- لاتقاء عذابه وسخطه، دعائه والتضرع إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والتوبة والاستغفار والإنابة، فنحن في هذه الأيام أحوج ما نكون إليها، وإن كنا محتاجين إليها في كل وقت وفي كل حين؛ لكن مع هذه الفتن ومع هذه الأحداث فنحن أحوج ما نكون إلى أن لا ننسى ذلك.(7/337)
ولا سيما أن الذين أخاطبهم جلهم من طلبة العلم -ولله الحمد- وفيهم الدعاة والأئمة والخطباء، وبهم تتأثر الأمة -إن شاء الله- وينتشر الخير فيها، فيجب أن ننشر هذا الحق وهذا الخير، وأن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا، وأن نجتهد في دفع هذا البلاء عن الأمة ببيان أسباب الوقاية منه -بإذن الله تبارك وتعالى- وهذا من أعظمها كما بين الله عز وجل ذلك، بل إن الله تبارك وتعالى جعل التضرع غاية كما ذكرنا في الآية السابقة وهي قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ [الأعراف:94] وفي الآية الأخرى وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ [الأنعام:42]
فالأخذ بالبأساء وهي: الحروب والضراء، وهي تعم الفتن والجدب والقحط وكل ما من شأنه أن يضار الناس، الغاية منها لعلهم يضرعون -أي: كي يضرعوا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فإن الناس إن لم يعرفوا الله تبارك وتعالى في الرخاء فلا بد أن يتعرفوا إليه في الشدة، وإن من أعظم وأكثر الناس قسوة وأعظمهم غفلة الذين لا يتضرعون إلى الله لا في الرخاء ولا في الشدة، ولهذا قال عز وجل في الأنعام: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:43 - 45]
فانظروا إلى إمهال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى للأمم السابقة ففي أول الأمر أخذهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلما لم يتضرعوا وقست قلوبهم حلت ووقعت عليهم العقوبة، فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء، استدراجاً من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لهم.
ومن هنا قال لنبيه وللمؤمنين: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ [آل عمران:196] لأن هذا فتح من الله؛ يفتح الله عليهم أبواب كل شيء ثم في النهاية إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102](7/338)
فيأخذهم بغتة؛ لأنه قد أنذرهم وقد خلت من قبلهم المثُلات وقد جاءتهم النذر، ولكنهم أعرضوا ونسوا ما ذكروا به، فعند ذلك يقطع دابرهم بأليم عقابه، نسأل الله العفو والعافية.
(حال من تضرع ومن أبى التضرع:
فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا [الأنعام:43] فلو أنهم تضرعوا إلى الله لكشف عنهم السوء، ولهذا استثنى الله تبارك وتعالى من الأمم قوم يونس يقول الله تعالى: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [يونس:98]
فذكر المفسرون من السلف رحمهم الله في هذه الآية أن قوم يونس خرجوا إلى الصعدات، وجأروا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وخرجوا بأطفالهم ونسائهم ودوابهم، وقيل: إنهم ظلوا على هذه الحالة أربعين ليلة وهم يستغيثون ويتضرعون ويدعون ويبكون ويستغفرون فكشف الله تبارك وتعالى عنهم العذاب في هذه الحياة الدنيا، وهذا من فضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ومن سعة رحمته.
أما الذين يصرون ويعاندون ويستكبرون على الله ولا يتضرعون إليه ولا ينيبون؛ فإنه يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وهذا ما بينه في سورة الأنعام وكما بينه أيضاً في آيات الأعراف السابقة، ويقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف:96]
فهناك ذكر أنهم فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:44] وقال هنا: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف:96] وليس أبواب كل شيء؛ ولكن بركات، والبركة في أي أمر حلت فهي خير، أما الذي لا بركة فيه فلا خير فيه. وإن كان كثيراً وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]
(21) التواضع والتبذل في اللباس والهيئة:
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح الترمذي) قال خرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للاستسقاء متبذللاً متواضعاً متخشِّعاً متضرعا.
[*] (التواضع:
قال تعالى: (وَعِبَادُ الرّحْمََنِ الّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىَ الأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً) [الفرقان / 63](7/339)
[*] قال ابن كثير رحمه الله:
القول في تأويل قوله تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا}. يقول تعالى ذكره: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا} بالحلم والسكينة والوقار غير مستكبرين , ولا متجبرين , ولا ساعين فيها بالفساد ومعاصي الله.
[*] قال القرطبي رحمه الله:
قال ابن عباس: بالطاعة والمعروف والتواضع.
وقال الحسن: حلماء إن جهل عليهم لم يجهلوا. وقيل: لا يتكبرون على الناس. قلت: وهذه كلها معان متقاربة , ويجمعها العلم بالله والخوف منه , والمعرفة بأحكامه والخشية من عذابه وعقابه ; جعلنا الله منهم بفضله ومنه.
(حديث عِياضِ بن حمار في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد و لا يبغي أحد على أحد.
(تعريف التواضع:
التواضع هو: عقد القلب على صَغار النفس المؤثر في عواطفه وميوله وجوارحه في مقابل اللَّه سبحانه وتعالى، وفي مقابل رسله وأوليائه المعصومين، وفي مقابل المؤمنين.
(فضل التواضع:
التواضع خلق حميد، وجوهر لطيف يستهوي القلوب، ويستثير الإعجاب والتقدير وهو من أخصّ خصال المؤمنين المتّقين، ومن كريم سجايا العاملين الصادقين، ومن شِيَم الصالحين المخبتين. التواضع هدوء وسكينة ووقار واتزان، التواضع ابتسامة ثغر وبشاشة وجه ولطافة خلق وحسن معاملة، بتمامه وصفائه يتميّز الخبيث من الطيب، والأبيض من الأسود والصادق من الكاذب، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما نقصت صدقة من مال و ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله.
إن المتواضع يبدأ من لقيه بالسلام، ويجيب دعوة من دعاه، كريم الطبع، جميل العشرة، طلق الوجه، باسم الثغر رقيق القلب، متواضعا من غير ذلة، جواداً من غير سرف.
نعم .. فاقد التواضع عديم الإحساس، بعيد المشاعر، إلى الشقاوة أقرب وعن السعادة أبعد، لا يستحضر أن موطئ قدمه قد وطأه قبله آلاف الأقدام، وأن من بعده في الانتظار، فاقد التواضع لا عقل له، لأنه بعجبه وأنفته يرفع الخسيس، ويخفض النفيس، كالبحر الخضم تسهل فيه الجواهر والدرر، ويطفو فوقه الخشاش والحشاش. فاقد التواضع قائده الكبر وأستاذه العجب، فهو قبيح النفس ثقيل الطباع يرى لنفسه الفضل على غيره.(7/340)
إن التواضع لله تعالى خُلُق يتولّد من قلب عالم بالله سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله وتعظيمه ومحبته وإجلاله. إن التواضع هو انكسار القلب للرب جل وعلا وخفض الجناح والذل والرحمة للعباد، فلا يرى المتواضع له على أحد فضلاً ولا يرى له عند أحد حقاً، بل يرى الفضل للناس عليه، والحقوق لهم قبله. فما أجمل التواضع، به يزول الكِبَرُ، وينشرح الصدر، ويعم الإيثار، وتزول القسوة والأنانية والتشفّي وحب الذات.
(أنواع التواضع:
التواضع نوعان هما:
(1) محمود، وهو ترك التطاول على عباد الله والإزراء بهم.
(2) مذموم، وهو تواضع المرء لذي الدنيا رغبة في دنياه.
فالعاقل يلزم مفارقة التواضع المذموم على الأحوال كلها، ولا يفارق التواضع المحمود على الجهات كلها.
(أمورٌ من التواضع:
(1) اتّهام النفس والاجتهاد في علاج عيوبها وكشف كروبها وزلاتها {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}
(2) مداومة استحضار الآخرة واحتقار الدنيا، والحرص على الفوز بالجنة والنجاة من النار، وإنك لن تدخل الجنة بعملك، وإنما برحمة ربك لك.
(3) التواضع للمسلمين والوفاء بحقوقهم ولين الجانب لهم، واحتمال الأذى منهم والصبر عليهم قال تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر / 88]
(4) معرفة الإنسان قدره بين أهله من إخوانه وأصحابه ووزنه إذا قُورن بهم
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما نقصت صدقة من مال و ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا و ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله.
(5) غلبة الخوف في قلب المؤمن على الرجاء، واليقين بما سيكون يوم القيامة
قال تعالى: {َوبَدَا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} [الزمر /47]
(6) التواضع للدين والاستسلام للشرع، فلا يُعارض بمعقول ولا رأي ولا هوى.
(7) الانقياد التام لما جاء به خاتم الرسل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن يُعبد الله وفق ما أمر، وأن لا يكون الباعث على ذلك داعي العادة.
(8) ترك الشهوات المباحة، والملذّات الكمالية احتساباً لله وتواضعاً له مع القدرة عليها، والتمكن منها
(حديث معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من ترك اللباس تواضعا لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها.(7/341)
معنى قوله (حلل الإيمان) يعني ما يعطى أهل الإيمان من حلل الجنة
(9) التواضع في جنب الوالدين ببرّهما وإكرامهما وطاعتهما في غير معصية، والحنو عليهما والبِشْرُ في وجههما والتلطّف في الخطاب معهما وتوقيرهما والإكثار من الدعاء لهما في حياتهما وبعد مماتهما
قال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}.
[الإسراء /24]
(10) التواضع للمرضى بعيادتهم والوقوف بجانبهم وكشف كربتهم، وتذكيرهم بالاحتساب والرضا والصبر على القضاء
(11) تفقّد ذوي الفقر والمسكنة، وتصفّح وجوه الفقراء والمحاويج وذوي التعفف والحياء في الطلب, ومواساتهم بالمال والتواضع لهم في الحَسَب، يقول بشر بن الحارث: "ما رأيت أحسن من غني جالسٍ بين يدي فقير".
(تواضع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(حديث الأسود بن يزيد الثابت في صحيح البخاري) قال: سألت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صنع في البيت؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله، تعني خدمة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم، قال أصحابه وأنت؟ فقال نعم كنت أرعاها على قراريط َ لأهل مكة.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لو دُعِيتُ إلى ذراعٍ أو كُرَاعٍ لأجبت و لو أُهْدِيَ إليَّ ذراعٍ أو كُرَاعٍ لقبلت ... .
(حديث أنس في صحيح البخاري) قال: كانت ناقةٌ لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسمى العضباء وكانت لا تُسبق، فجاء أعرابي على قَعُودٍ له فسبقها فاشتد ذلك على المسلمين فقالوا: سُبقت العضباء! قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن حقا على الله تعالى أن لا يرفع شيئا من أمر الدنيا إلا وضعه.
{تنبيه}: (وكلما زاد تواضع طالب العلم زاد مقدار الحكمة عنده وتعلم العلم ومتى تكبر قلَّت حكمته ومنع العلم
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من آدمي إلا في رأسه حكمة بيد ملك فإذا تواضع قيل للملك ارفع حكمته و إذا تكبر قيل للملك: دع حكمته.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كان يخيط ثوبه و يخصف نعله و يعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم.(7/342)
(حديث عائشة رضي الله عنهاالثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كان يفلي ثوبه و يحلب شاته و يخدم نفسه.
(حديث عمر في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تطروني لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله و رسوله.
(حديث سهل بن حنيف رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كان يأتي ضعفاء المسلمين و يزورهم و يعود مرضاهم و يشهد جنائزهم.
(حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ابغوني الضعفاء فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم.
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجلس على الأرض و يأكل على الأرض و يعتقل الشاة و يجيب دعوة المملوك على خبز الشعير.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يزور الأنصار ويسلّم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم".
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
كانت الأمة من إماء أهل المدينة، لتأخذ بيد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتنطلق به حيث شاءت.
(حديث أبي مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) قال أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل فكلمه فجعل ترعد فرائصه فقال له هون عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد.
(القديد): هو اللحم المملح المجفف في الشمس
(ويقابله التكبُّر:
والتكبر هو: التعالي على اللَّه سبحانه، وهذا كفر باللَّه، أو على رسوله أو الإمام، وهذا كفر بالرسول أو الإمام، أو على المؤمنين، وهذا هو التكبُّر المألوف بين المسلمين الذين لم يهذِّبوا أنفسهم، وهي معصية عظيمة.
وفرق التكبُّر عن الكِبر هو: أنّ الكِبْر مجرد تعاليه على غيره في نفسه. أمّا التكبُّر فهو: إظهار الكِبْر وإبرازه بجوارحه. وفرق الكبر عن العُجْب: أن الكِبْر يكون بالقياس إلى غيره، وهو اللَّه أو الرسول والإمام أو المؤمنون. والعُجْب ما يكون في الإنسان من رؤيته إلى نفسه بالعظمة والزهو والتبختر بذلك ولو من دون قياس بغيره، وهذا - أيضاً - من المعاصي العظيمة.
وقد ذم الله تعالى الكبر في كتابه في أكثر من موضع، قال تعالى:(7/343)
قال تعالى: (وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إِنّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) [الإسراء / 37]
[*] قال ابن كثير رحمه الله:
يقول تعالى ناهيا عباده عن التجبر والتبختر في المشية
(وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً) أي متبخترا متمايلا مشي الجبارين
(إِنّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ): أي لن تقطع الأرض بمشيك
(وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) أي بتمايلك وفخرك وإعجابك بنفسك بل قد يجازى فاعل ذلك بنقيض قصده كما ثبت في الصحيح
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: بينما رجل يمشي في حُلةٍ تُعْجِبْه نَفْسُه مُرَّجِلٍ رأسَه إذ خسف الله به فهو يتجلجلُ في الأرض إلى يوم القيامة.
وكذلك أخبر الله تعالى عن قارون أنه خرج على قومه في زينته وأن الله تعالى خسف به وبداره الأرض
وفي الحديث " من تواضع لله رفعه الله فهو في نفسه حقير وعند الناس كبير ومن استكبر وضعه الله في نفسه كبير وعند الناس حقير حتى لهو أبغض إليهم من الكلب والخنزير.
[*] قال القرطبي رحمه الله:
(وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً) هذا نهي عن الخيلاء وأمر بالتواضع. والمرح: شدة الفرح. وقيل: التكبر في المشي. وقيل: تجاوز الإنسان قدره. وقال قتادة: هو الخيلاء في المشي. وقيل: هو البطر والأشر.
(إِنّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ): يعني لن تتولج باطنها فتعلم ما فيها ويقال: خرق الثوب أي شقه , وخرق الأرض قطعها. والخرق: الواسع من الأرض. أي لن تخرق الأرض بكبرك ومشيك عليها
(وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) أي لن تساوي الجبال بطولك ولا تطاولك. " ولن تبلغ الجبال طولا " بعظمتك , أي بقدرتك لا تبلغ هذا المبلغ , بل أنت عبد ذليل , محاط بك من تحتك ومن فوقك , والمحاط محصور ضعيف , فلا يليق بك التكبر.
[*] قال الطبري رحمه الله:
(وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً): ولا تمش في الأرض مختالا مستكبرا
(إِنّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ): إنك لن تقطع الأرض باختيالك
(وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) بفخرك وكبرك
قال تعالى: (وَلاَ تُصَعّرْ خَدّكَ لِلنّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [لقمان / 18](7/344)
إن من نبذ خلق التواضع وتعالى وتكَبَّر، إنما هو في حقيقة الأمر معتدٍ على مقام الألوهية، طالباً لنفسه العظمة والكبرياء، متناسياً جاهلاً حق الله تعالى عليه، من عصاة بني البشر، متجرِّئٌ على مولاه وخالقه ورازقه، منازع إياه صفة من صفات كماله وجلاله وجماله، إذ الكبرياء والعظمة له وحده.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى: العزُ إزاري والكبرياءُ ردائي فمن نازعني عذبته.
والعُجب من جملة أسباب الكبر، فإنَّ من أُعجب بنفسه تعالى على غيره. والسنة طافحةُ بذم العجب وتشنيع فعله والتنفير منه.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: بينما رجل يمشي في حلةٍ تُعْجِبْه نفْسُه ... مُرَّجِلٌ رأسَه يختالُ في مِشْيته إذ خسف الله به الأرض فهو يتجَلْجَلُ في الأرض إلى يوم القيامة.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاث منجيات: خشية الله تعالى في السر و العلانية و العدل في الرضا و الغضب و القصد في الفقر و الغنى و ثلاث مهلكات: هوى متبع و شح مطاع و إعجاب المرء بنفسه.
(حديث معاوية في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من سرَّه أن يتمثل له الرجال قياماً، فليتبوأ مقعده من النار.
[*] (التبذّل فى اللباس والهيئة:
التبذل في اللباس والهيئة بالشعث والإغبار وهو أيضا من المقتضيات لإجابة الدعاء للحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك.
أشعث أغبر: علامة على الابتذال والتذلل فهو أشعث في لباسه أغبر في هيئته في شكله في شعره.
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح الترمذي) قال خرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للاستسقاء متبذللاً متواضعاً متخشِّعاً متضرعا.
[*] وكان مطرف بن عبد الله قد حبس له ابن أخ فلبس خلقان ثيابه وأخذ عكازا بيده فقيل له ما هذا قال أستكين لربي لعله أن يشفعني في ابن أخي الثالث.(7/345)
{تنبيه}: (قد يوجد من لا يؤبه به لفقره وضعفه وذلته؛ لكنه عزيز على الله تعالى لا يرد له سؤالاً، ولا يخيب له دعوة فالعبرة بالصلاح لا بالقوة.
(22) الرغبة والرهبة:
وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُواْ لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء /90]
[*] قال ابن كثير رحمه الله: قال الثوري رغبا فيما عندنا ورهبا مما عندنا "
[*] قال القرطبي رحمه الله:
أي يفزعون إلينا فيدعوننا في حال الرخاء وحال الشدة. وقيل: المعنى يدعون وقت تعبدهم وهم بحال رغبة ورجاء ورهبة وخوف , لأن الرغبة والرهبة متلازمان.
[*] قال الطبري رحمه الله:
رغبا أنهم كانوا يعبدونه رغبة منهم فيما يرجون منه من رحمته وفضله ورهبا يعني رهبة منهم من عذابه وعقابه , بتركهم عبادته وركوبهم معصيته.
(فالرغبة في الدعاء هي الاتجاه إلى الله خشوعا من الإنسان، ورفعا للأمر إليه دائما، وهذا ما يضمن الصلة الدائمة بين العبد وربه ..
فإذا أتى حسنة، دعا الله أن يتقبلها ..
وإذا أتى عملا صالحا، دعا الله أن يبارك فيه ..
وإذا أصابته شدة، دعا الله أن يخففها عنه ..
وإذا جاءه خير شكر الله، ودعاه ألا يكون فتنة ..
وإذا مشى خطوة، دعا الله أن يوفقه فيها ..
وإذا اتخذ قرار، دعا الله ألا يكون ظالما فيه ..
وهكذا هو يعيش مع الله في كل لحظة، رغبة في إرضائه، واتباع منهجه.
ثم يأتي المعنى الثاني وهو الرهبة .. أي الخوف من الله تعالى والإيمان بقدرته وقوته .. والدعاء هنا يجعل الداعي يذكر الحي القيوم القائم على ملكه، لا يتركه، ويجعل الداعي يعلم أن الله سبحانه لا تأخذه سنة ولا نوم .. ومن هنا فإنه يعرف يقينا أنه لا يستطيع أن يخدع الله، لأن المواجهة هنا ليست بين متساويين .. ولهذا فالذي يحاول أن يخدع الله فإنما يخدع نفسه .. لأن الله يملك كل القدرات بلا حدود ولا قيود.
وهذه الرهبة تجعل العبد لا يخالف منهج الله .. فهو يخشى الله حينما توسوس به نفسه من شر، فيستعيذ به .. هذه هي الرهبة هي قمة أخرى من قمم الإيمان .. تجعل الإنسان يرقب نفسه في السر والعلانية، ويعلم أن ما يخفيه في السر يعلمه الله .. ويؤمن بأنه لا يستطيع أن يخدع الله ..
ولذلك فإن الذين يخشون الناس ولا يخشون الله إنما يعتقدون أنهم بخداعهم البشر هم أذكى منهم، وأنهم حصلوا على فوز كبير .. بينما هم في الحقيقة قد عموا عن أن الله سبحانه وتعالى يعلم سرهم وجهرهم.(7/346)
(23) الدعاء في كل الأحوال في الشدة والرخاء، وفي المنشط والمكره:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد و الكرب فليكثر الدعاء في الرخاء.
{تنبيه}: (إن من أهم أسباب رد الدعاء على صاحبه سوء حال الداعي فالكثير منا لا يدعو الله ولا يلجأ ولا يستغيث ولا يستنصر إلا في الشدة والضراء وعند الرخاء والسرور ننسى الله ونبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة.
والمعنى: من أحب أن يستجيب الله له عند الشدائد، وهي الحادثة الشاقة، والكُرَب: وهي الغم الذي يأخذ النفس، فليكثر الدعاء في حالة الصحة والفراغ والعافية، لأن من شيمة المؤمن أن يلجأ إلى الله تعالى ويكون دائم الصلة به، ويلتجئ إليه قبل الاضطرار (1). قال الله تعالى في يونس عليه الصلاة والسلام حينما دعاه فأنجاه واستجاب له: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (2).
وقد حرص السلف رضوان الله عليهم على الدعاء في سائر شؤونهم فقد كانوا يسألون الله في كل شيء حتى العلف لدوابهم والملح في الطعام "
وكثير من الناس لايدعو الله إلا في الشدائد والأزمات, وهذا مسلك خطأ والمشروع للمؤمن أن يدعو الله في السراء والضراء وإذا كان دائم الاتصال بالله أجيبت دعوته في الشدائد.
(هذا يونس بن متّى نبي الله يسقط في لجج البحار فيبتلعه الحوت فهو في ظلمة جوف الحوت في ظلمة جوف البحر في ظلمة الليل, في ظلمات ثلاث, فلا أحد يعلم مكانه, ولا أحد يسمع نداءه, ولكن يسمع نداءه من لا يخفى عليه الكلام, ويعلم مكانه من لا يغيب عنه مكان, فدعا وقال وهو على هذه الحال: (وَذَا النّونِ إِذ ذّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنّ أَن لّن نّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىَ فِي الظّلُمَاتِ أَن لاّ إِلََهَ إِلاّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّي كُنتُ مِنَ الظّالِمِينَ) [الأنبياء / 87]
فسمعت الملائكة دعائه, فقالت: صوت معروف في أرض غريبة, هذا يونس لم يزل يرفع له عمل صالح ودعوة مستجابة.
{تنبيه}: (هذا الدعاء من أعظم أنواع الدعاء، لاشتماله على الآتي:
أولاً: على توحيد الله (لا إله إلا أنت)
__________
(1) انظر: تحفة الأحوذي 9/ 324.
(2) سورة الصافات، الآيتان: 143، 144.(7/347)
وهو أعظم وسيلة إلى الله تعالى، وأعظم طاعة وأعظم وقربة.
ثم ثنى بالتنزيه (سبحانك) تنزيه الله عما لا يليق به عز وجل، فكل ما يفعل، وكل ما يقدر فله فيه الحكمة البالغة، فهو منزه عما لا يليق بجلاله وكماله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعظيم شأنه.
ثم ثلث ببيان عجزه وضعفه وفقره وظلمه لنفسه، وهكذا كل عبد بالنسبة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ينبغي له أن يكون كذلك إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]
(فيجئ الجواب الإلهي له:
(فَلَوْلاَ أَنّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ)
[الصافات 143، 144]
(أتاه الجواب بالنجاة (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجّيْنَاهُ مِنَ الْغَمّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ)
[الأنبياء / 88]
[*] قال الحسن البصري:
"ما كان ليونس صلاة في بطن الحوت, ولكن قدم عملاً صالحًا في حال الرخاء فذكره الله في حال البلاء, وإن العمل الصالح ليرفع صاحبه فإذا عثر وجد متكأً".
{تنبيه}: (هنا نذكر قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفعلُ المعروف يقي مصارع السوء.
(حديث أبي سعيد الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (صدقةُ السر تُطفئُ غضب الرب، وصلةُ الرحم تزيدُ في العمر، وفعلُ المعروف يقي مصارع السوء)
هناك فرق بين من عرف الله في الرخاء ومن ضيعه, فرق بين من أطاع الله في الرخاء ومن عصاه.
فمن عامل الله بالتقوى والطاعة في حال رخائه عامله الله باللطف والإعانة في حال شدته.
أذكرك أخي خبر الثلاثة من بني إسرائيل الذين قص النبي عليه السلام قصتهم, وأخبر خبرهم, يوم أن آواهم المبيت إلى غار فتدهدهت عليهم صخرة عظيمة أغلقت فم الغار, فإذا الغار صندوق مغلق محكم الإغلاق, مقفل موثق الإقفال.
إن نادوا فلن يسمع نداؤهم, وإن استنجدوا فلا أحد ينجدهم, وإن دفعوا فسواعدهم أضعف وأعجز من أن تدفع صخرة عظيمة سدت باب هذا الغار, وكانت كربة, وكانت شدة, فلم يجدوا وسيلة يتوسلون بها في هذه الشدة إلا أن يتذكروا معاملتهم في الرخاء, فدعوا الله في الشدة بصالح أعمالهم في الرخاء. وإليك الحديث:
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: خرج ثلاثة يمشون فأصابهم المطر، فدخلوا في غار في جبل، فانحطت عليهم صخرة، قال: فقال بعضهم لبعض: ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه.(7/348)
فقال أحدهم: اللهم إني كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت أخرج فأرعى، ثم أجيء فأحلب فأجيء بالحلاب، فآتي أبواي فيشربان، ثم أسقي الصبية وأهلي وامرأتي، فاحتبست ليلة، فجئت فإذا هما نائمان، قال: فكرهت أن أوقظهما، والصبية يتضاغون عند رجلي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهما، حتى طلع الفجر، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا فرجة نرى منها السماء، قال: ففرج عنهم.
وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أني أحب امرأة من بنات عمي كأشد ما يحب الرجل النساء، فقالت: لا تنال ذلك منها حتى تعطيها مائة دينار، فسعيت حتى جمعتها، فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركتها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا فرجة، قال: ففرج عنهم الثلثين.
وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أني استأجرت أجيرا بفرق من ذرة فأعطيته، وأبى ذلك أن يأخذ، فعمدت إلى ذلك الفرق فزرعته، حتى اشتريت منه بقرا وراعيها، ثم جاء فقال: يا عبد الله أعطيني حقي، فقلت: انطلق إلى تلك البقر وراعيها فإنها لك، فقال: أتستهزئ بي؟ قال: فقلت: ما أستهزئ بك ولكنها لك، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا، فكشف عنهم).
{تنبيه}: (انظر إلى حال هؤلاء الثلاثة:
دعا أحدهم ببره والديه, يوم أتى فوجدهما نائمين، وطعامهما قدح من لبن في يده، وصبيته يتضاغون من الجوع, وكان بين خيارين إما أن يوقظ الوالدين من النوم, وإما أن يطعم الصبية!! فلم يختر أيًا من هذين الخيارين, ولكن اختار خيارًا ثالثًا وهو أن يقف والقدح على يده والصبية يتضاغون عند قدميه، ينتظر استيقاظ الوالدين الكبيرين, والوالدان يغطان في نوم عميق حتى انبلج الصبح وأسفر الفجر فاستيقظا، وبدأ بهما وأعرض عن حنان الأبوة وقدم عليه حنان البنوة على الأبوة فشرب أبواه وانتظر بنوه.
((اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه)).(7/349)
ثم دعا الآخر, فتوسل إلى الله بخشيته لله ومراقبته يوم أن قدر على المعصية, وتمكن من الفاحشة ووصل إلى أحب الناس إليه، ابنة عمه, بعد أن اشتاق إليها طويلاً وراودها كثيرًا وحاول فأعيته المحاولة, حتى إذا أمكنته الفرصة واستطاع أن يصل إلى شهوته وينال لذته خاطبت فيه تلك المرأة مراقبة الله فقالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه, فارتعد القلب واقشعر الجلد, ووجفت النفس وتذكر مراقبة الله تعالى فوقه، فقام عنها, وهي أحب الناس إليه وترك المال الذي أعطاها.
((اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه)).
ودعا الثالث فتوسل بعمل صالح قربه, وهو الصدق والأمانة حيث استأجر أجراء فأعطاهم أجرهم, وبقي واحد لم يأخذ أجره فنمّاه وضارب فيه, فإذا عبيد وماشية وثمر.
ثم جاء الأجير بعد زمن طويل يقول: أعطني حقي.
لقد كان يستطيع أن يقول: هذا حقك أصوعٌ من طعام, ولكنه كان أمينًا غاية الأمانة, نزيهًا غاية النزاهة, فقال: حقك ما تراه, كل هذا الرقيق, وكل هذه الماشية, كلها لك, فكانت مفاجأة لم يستوعبها عقل هذا الأجير الفقير, فقال: "اتق الله ولا تستهزء بي" فقال: يا عبد الله إني لا أستهزء بك, إن هذا كله لك, فاستاقه جميعًا, ولم يترك له شيئًا.
((اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه)).
وتنامت دعواتهم , وتنامت مناجاتهم، فإذا الشدة تفرج والضيق يتسع, وإذا النور يشع من جديد فيخرجون من الغار يمشون (1).
فيامن يريد جواب دعاءه أصلح حالك في الرخاء مع ربك يكن معك في حال شدتك.
(24) اختيار الاسم المناسب من أسماء الله الحسنى، أو الصفة المناسبة حال الدعاء:
كأن يقول: يا رحيم ارحمني، يا كريم أكرمني، يا شافي اشفني، رب هب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب وهكذا.
ومن السنة الصحيحة ما يدل على ذلك، منها ما يلي:
(حديث أبي بكرٍ الصديق في الصحيحين) أنه قال لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمني دعاءاً أدعو به في صلاتي قال: قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم.
(حديث عائشةَ في الصحيحين) قالت كان رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أتى مريضاً أو أُتِيَ به إليه قال: أذْهِب البأس ربِ الناس اشفِ أنت الشافي لاشفاء إلا شفاءك شفاءاً لايُغادرُ سقماً.
__________
(1) رواها البخاري ح (2272)، ومسلم ح (2743(7/350)
(25) ألا يحجر رحمة الله في الدعاء:
والمقصود بالتحجير تخصيص أناس معينين، واقتصار الدعاء لهم دون غيرهم كأن يقول: اللهم اسق مزرعتي وحدها، أو اللهم أصلح أولادي دون غيرهم، أو ربِّ ارزقني وارحمني دون سواي، فرحمت الله تعالى قريب من المحسنين، فلا يقول: اللهم اغفر لي ولا تغفر لأحد معي.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: قام رسول الله"في صلاة، وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا، فلما سلَّم النبي"قال للأعرابي: لقد حجَّرتَ واسعًا _ يريد رحمة الله.
أو يقول: اللهم لا تغفر لفلان من الناس، فرحمت الله وسعت كل شيء، ورحمته سبحانه سبقت غضبه، بل ربما أدى ذلك إلى خطورة عمل من قال به، فقد يوصله ذلك إلى أن يتآلى على الله تعالى وهذا أمرٌ خطير وشرٌ مستطير قد يكون سبب في إحباط اللهع تعالى عمل المتألي على الله تعالى إذا كان أقسم على الله تعالى عن عُجب والعياذ بالله تعالى من ذلك.
(حديث جندب بن عبد الله في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان! فقال الله تعالى من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان! إني قد غفرت له وأحبطتُ عملك.
(26) أن يسأل الله كل صغيرة وكبيرة:
أن يسأل الله كل صغيرة وكبيرة:
وهذا الأمر يغفل عنه كثير من الناس، فتراهم لا يلجأون إلى الله ولا يسألونه إلا إذا نزلت بهم عظائمُ الأمور، وشدائدها.
أما ما عدا ذلك فلا يسألونه؛ لظنهم أنه أمر يسير لا داعي لسؤال الله من أجله.
وهذا خطأ؛ فاللائق بالمسلم أن يسأل ربه كل صغيرة؛ فلو لم ييسر الله أكل الطعام _ مثلاً _ لما استطاع الإنسان أكله، ولو لم ييسر لبس النعل لما استطاع الإنسان لبسه.
قال": سلوا الله كل شيء، حتى الشسع (1)، فإن الله _ تعالى _ لو لم ييسره لم ييسر. (2)
__________
(1) الشسع: أحد سيور النعل وهو الذي يدخل بين الأصبعين، ويدخل طرفه في الثقب الذي في صدر النعل. انظر لسان العرب، 8/ 180.
(2) أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (356) باب ما يقول إذا انقطع شسعه، والترمذي 4/ 292 الدعوات، وضعفه الشيخ الألباني في الضعيفة (1362)، ولكن الحديث صحيح من قول عائشة موقوفًا عليها _ رضي الله عنها _، انظر مسند أبي يعلى (4560) 8/ 45، وعمل اليوم والليلة (357)، قال الهيثمي في الحديث: رجاله رجال الصحيح غير محمد بن عبيد الله وهو ثقة. المجمع 10/ 150.(7/351)
فقوله: حتى الشسع إشارة أن ما فوقه أولى وأولى.
(27) يدعو لوالديه مع نفسه:
أوصى الله تعالى ببر الوالدين في مواضع كثيرة من كتابه العزيز، بل وقرن حقهما بحقه مما يدل على فضل بر الوالدين وَعِظَمِ حقهما
فقال تعالى (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى) (النساء: من الآية36)
وقال تعالى (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً)
(الإسراء: من الآية23)
(وندب الله تعالى إلى الدعاء للوالدين حينما يدعو الإنسان لنفسه في غير ما موضع في كتابه العزيز منها ما يلي:
وقال تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم /41]
وقال تعالى إخباراً عن نوح عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَارًا} [نوح /28]
إن بر الوالدين يعنى الإحسان إليهما بالمال والجاه والنفع البدني وهو واجب، ولا شك إن من أعظم أمور البر للوالدين الدعاء لهما وخاصةً بعد موتهما ولذا ندب النبي إلى الدعاء لهما بعد موتهما وبين أن الدعاء للوالدين بعد موتهما من الأمور التي يصل ثوابها لميت بعد موته كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقةٍ جارية أو علمٍ ينتفع به أو ولدٌ صالحٌ يدعو له.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الرجل لتُرْفَع درجته في الجنة فيقول: أنى لي هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك.
مسألة: هل الدعاء للوالدين بعد موتهما أفضل أم الصدقة؟
دلت السنة الصحيحة بما لا يدع مجالاً للشك أن أنفع شيء للوالدين بعد موتهما هو الدعاء لهما، فالدعاء لهما بعد موتهما أنفع من سائر أعمال البر من الصدقة وغيرها.
[*] قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:(7/352)
ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدعاء بمقام التحديث عن العمل فكان هذا دليلا على أن الدعاء للوالدين بعد موتهما أفضل من الصدقة عنهما، وأفضل من العمرة لهما وأفضل من قراءة القرآن لهما وأفضل من الصلاة لهما لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يمكن أن يعدل عن الأفضل إلى المفضول، بل لابد أن يبين عليه الصلاة والسلام ما هو الأفضل، ويبين جواز المفضول، وقد بين في هذا الحديث ما هو الأفضل.
(أما بيان جواز المفضول، ففي الحديث الآتي:
(لحديث عائشة الثابت في الصحيحين) أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال * يا رسول الله إن أمي افتلتت نفسها وأظنها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها قال نعم.
{تنبيه}: (يتضح لنا من هذا الحديث فائدتان عظيمتان هما:
[1] أن الدعاء للوالدين من أعظم أمور البر بهما
[2] أن الدعاء للوالدين بعد موتهما أفضل من التصدق عنهما وأفضل من الحج والعمرة عنهما ما داما قد أديا الفريضة من حجٍ أو عمرة، ومن هنا يتضح لنا القاعدة الذهبية التي ذكرها الحافظ بن حجر في الفتح وهي: {اتباع السنة أولة من كثرة العمل}
(28) أن يدعو لإخوانه المؤمنين:
فهذا من مقتضيات الأخوة، ومن أسباب إجابة الدعوة؛ قال تعالى: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) [محمد / 19]
وذكر عن نوح _ عليه السلام _ قوله قال تعالى: (رّبّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) [نوح / 28]
(حديث عبادة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمنٍ حسنة.
ويحسن أن يُخص بالدعاء _ الوالدان، والعلماء، والصالحون، والعبَّاد، ومن في صلاحهم صلاح لأمر المسلمين كأولياء الأمور وغيرهم ...
ويحسن به _ أيضًا _ أن يدعو للمستضعفين والمظلومين من المسلمين، وأن يدعو على الظالمين الذين في هلاكهم نصر للإسلام والمسلمين، وراحة للمستضعفين والمظلومين.
(29) أن يبدأ الداعي بنفسه:
قال تعالى (رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ) [الحشر / 10]
(حديث أبيِّ بن كعب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "كان إذا ذكر أحدًا فدعا له بدأ بنفسه.
وهذا ليس بلازم لمن أراد أن يدعو لغيره كما هو وارد في كثير من الأدعية، حيث يدعو الإنسان لغيره دون نفسه.(7/353)
وقد يقال: إذا أراد الدعاء لنفسه ولغيره فليبدأ بنفسه ثم يُثَنِّي بغيره، وإذا أراد الدعاء لغيره فَحَسْب فلا يلزم أن يبدأ بنفسه، كما مر في دعاء النبي"لعبيد بن عامر؛ حيث دعا لعبيد دون أن يدعو لنفسه.
(30) يترصد للدعاء الأوقات الشريفة:
كيوم عرفة من السنة ن ورمضان من الشهور، ويوم الجمعة من الأسبوع، ووقت السحر من ساعات الليل، وقد ثيت في السنة الصحيحة بان فضل هذه الأوقات الشريفة وإليك بعض ما ورد في هذا:
(فضل يوم عرفة:
(حديث عائشة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة.
(حديث أبي قتادة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في يوم عرفة: أحتسب على الله أن يكفر السنة الماضية والمستقبلة.
(فضل رمضان:
(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين و مردة الجن و غلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب و فتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب و ينادي مناد كل ليلة: يا باغي الخير أقبل و يا باغي الشر أقصر و لله عتقاء من النار و ذلك كل ليلة.
(فضل يوم الجمعة:
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر يوم الجمعة فقال فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه وأشار بيده يقللها
(فضل ساعة السحر:
قال الله تعالى: (وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات /18]
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ينزل ربنا تبارك و تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له.
(حديث عَن أبي أُمَامَةَ الباهلي رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قَالَ: «قِيلَ لرَسُولَ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيّ الدّعَاءِ أسْمَعُ؟ قالَ: جَوْف اللّيْلِ الاَخِرُ، وَدُبُرَ الصّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ».
(فضل الدعاء بين الآذان والإقامة:
(حديث أنس في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يُردُ الدعاء بين الآذان والإقامة.
(فضل الدعاء في السجود:
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أقربُ ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء.(7/354)
(31) التأمين على الدعاء من المستمع:
كما في قصة دعاء موسى وهارون _ عليهما السلام _ على فرعون وآله.
قال المفسرون: كان موسى يدعو، وهارون يؤمن. (1)
ولهذا قال _ تعالى _: [قد أجيبت دعوتكما] يونس،89.
(32) تجنب الدعاء على الأهل، والمال، والنفس:
لأن الدعاء يقصد منه جلب النفع ودفع الضر، والدعاء على الأهل، والمال، والنفس _ لا مصلحة وراءه، بل هو ضرر محض على الداعي نفسه؛ فماذا سيجني من فساد أهله، وماله، ونفسه؟
(حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم؛ لا توافقوا من الله ساعةً يُسأل فيها عطاءً فيستجيب لكم.
(33) ألا يتكلف السجع:
ذلك أن حال الداعي حال ذلة وضراعة، والتكلف لا يناسب ذلك.
قال بعضهم: ادع بلسان الذلة والافتقار، لا بلسان الفصاحة والانطلاق. (2)
[*] قال الخطابي: ويكره في الدعاء السجع، وتكلف صفة الكلام له. (3)
(فصل الخطاب في مسألة السجع:
السجع المذموم في الدعاء، هو المتكلف، لأنه يذهب بالخشوع والخضوع والإخلاص، ويلهي عن الضراعة والافتقار وفراغ القلب،
(حديث عِكْرِمَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ حَدِّثِ النَّاسَ كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّةً فَإِنْ أَبَيْتَ فَمَرَّتَيْنِ فَإِنْ أَكْثَرْتَ فَثَلَاثَ مِرَارٍ وَلَا تُمِلَّ النَّاسَ هَذَا الْقُرْآنَ وَلَا أُلْفِيَنَّكَ تَأْتِي الْقَوْمَ وَهُمْ فِي حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِهِمْ فَتَقُصُّ عَلَيْهِمْ فَتَقْطَعُ عَلَيْهِمْ حَدِيثَهُمْ فَتُمِلُّهُمْ وَلَكِنْ أَنْصِتْ فَإِذَا أَمَرُوكَ فَحَدِّثْهُمْ وَهُمْ يَشْتَهُونَهُ فَانْظُرِ السَّجْعَ مِنَ الدُّعَاءِ فَاجْتَنِبْهُ فَإِنِّي عَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا ذَلِكَ، يَعْنِي لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا ذَلِكَ الِاجْتِنَابَ ".
فلا ينبغي للداعي أن يتكلف السجع، وصنعة الكلام، ويحاول أن يأتي بكلمات لا يفهمها أغلب الناس، بل يرفق بالناس ويأتي بدعاء مفهوم معلوم، لا تعقيد فيه ولا غموض، ولا يحتاج إلى فك لرموزه،
__________
(1) انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/ 411.
(2) إحياء علوم الدين، 1/ 306.
(3) شأن الدعاء ص17.(7/355)
وأما ما يحصل من ذلك بلا تكلف وإنما كان ناشئاً عن حفظ أو فصاحة وإعمال فكر ونحو ذلك فلا بأس به بل ربما كان حسناً، فلقد ثبت مثل ذلك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما في الحديث الآتي:
(حديث عَبْدَاللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، هَازِمَ الْأَحْزَابَ، اهزمهم وانصرنا عليهم "، فهذا السجع كان يصدر من غير قصد، ولأجل هذا جاء في غاية الانسجام.
والسجع هو الكلام المقفى بدون وزن، والمنهي عنه من السجع هو التكلف فيه؛ لأنه ينافي الخشوع والخضوع _ كما مر _.
(34) الإعراب بلا تكلف:
فالإعراب عماد الكلام، وجماله، ووشيه؛ فيحسن بالعبد وهو يناجي ربَّه أن يُعْرب عما يقول قدر المستطاع، خصوصًا إذا كان إمامًا يدعو والناس يُؤَمِّنون خلفه، على ألا يَصِلَ ذلك إلى حد التكلف، وألا يجعل همته مصروفة إلى تقويم لسانه؛ لأن ذلك يذهب الخشوع الذي هو لب الدعاء.
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ينبغي للداعي إذا لم تكن عادته الإعراب ألا يتكلف الإعراب، قال بعض السلف: إذا جاء الإعراب ذهب الخشوع.
وهذا كما يكره تكلف السجع في الدعاء، فإذا وقع بغير تكلف فلا بأس؛ فإن أصل الدعاء من القلب، واللسان تابع القلب، ومن جعل همته في الدعاء تقويم لسانه أضعف توجه قلبه. (1)
(35) أن تلقي باللوم على نفسك:
وهي من أهمها، فقد يكون سبب عدم الإجابة وقوعك أنت في بعض المعاصي، أو التقصير وإخلالك بالدعاء أو تعديك فيه، فمن أعظم الأمور أن تتهم نفسك وتنسب التقصير وعدم الإجابة لنفسك، فهذا من أعظم الذل والافتقار لله.
[*] قال ابن رجب رحمه الله يقول:
إن المؤمن إذا استبطأ الفرج ويئس منه ولا سيما بعد كثرة الدعاء وتضرعه ولم يظهر له أثر الإجابة، رجع إلى نفسه باللائمة يقول لها إنما أتيت من قبلك، ولو كان فيك خيرا لأُجبت، وهذا اللوم أحب إلى الله من كثير من الطاعات، فإنه يوجب انكسار العبد لمولاه، واعترافه له بأنه ليس بأهل لإجابة دعائه، فلذلك يسرع إليه حين إذ إجابة الدعاء، وتفريج الكرب، فإنه تعالى عند المنكسرة قلوبهم من أجله، وعلى قدر الكسر يكون الجبر. انتهى كلامه.
(36) الالتزام بالأدعية المأثورة:
__________
(1) مجموع الفتاواى، 22/ 489.(7/356)
وذلك لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأعلم بربه جل وعلا والأتقى لله والأخشى لله، ولآنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث بجوامع الكلم:
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: جاء ثلاث رهط إلى بيوت أزواج النبي، يسألون عن عبادة النبي، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من النبي؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله أتي لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، فبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي.
(كيفية الدعاء بأسماء الله الحسنى:
مسألة: كيف ندعو الله بأسماء الله الحسنى؟
قال تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْالَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْيَعْمَلُونَ" [الأعراف/ 180]
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة.
[*] قال محمد بن صالح العثيمين-رحمه الله-
ندعو الله بأسماء الله الحسنى بأن تقدمها بين يدي دعائك متوسلًا بها إلى الله، أو أن تختم بها دعاءك، مثال الأول: أن تقول: اللهم يا غفور اغفر لي، يا رحيم ارحمني، وما أشبه ذلك. ومثال الثاني أن تقول: رب اغفر لي و ارحمني إنك أنت الغفور الرحيم.
(حديث أبي بكرٍ الصديق في الصحيحين) أنه قال لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمني دعاءاً أدعو به في صلاتي قال: قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم.
(حديث عائشةَ في الصحيحين) قالت كان رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أتى مريضاً أو أُتِيَ به إليه قال: أذْهِب البأس ربِ الناس اشفِ أنت الشافي لاشفاء إلا شفاءك شفاءاً لايُغادرُ سقماً.
وكما يجوز التوسل إلى الله-تعالى-بأسمائه عند الدعاء؛ فإنه يجوز أن يتوسل الإنسان بصفات الله عند الدعاء، كما في الأحاديث الآتية:(7/357)
(حديث عمار ابن ياسر في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو بهذا الدعاء اللهم بعلمك الغيب و قدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي و توفني إذا علمت الوفاة خيرا لي، اللهم و أسألك خشيتك في الغيب و الشهادة و أسألك كلمة الحق في الرضا و الغضب و أسألك القصد في الفقر و الغنى و أسألك نعيما لا ينفد و قرة عين لا تنقطع و أسألك الرضا بالقضاء و أسألك برد العيش بعد الموت و أسألك لذة النظر إلى وجهك و الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة و لا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان و اجعلنا هداة مهتدين
(حديثُ جابر في صحيح البخاري) قال كان رسولُ الله يُعلمُنا الاستخارة في الأمورِ كلها كالسورةِ من القرآن، إذا همَّ أحدكم بالأمرِ فليركع ركعتين من غيرِ الفريضةِ ثم يقول: اللهم إني أستخِيرُك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدرُ ولا أقدرُ وتعلمُ ولا أعلمُ وأنت علاَّمُ الغيوب، اللهم إن كنت تعلمُ أن هذا الأمرَ خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبةِ أمري _ أو قال عاجل أمري وآجله _ فاقدره لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمرَ شرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبةِ أمري فاصرفْه عني واصرفني عنه ثم ارضِني به، ويُسَمِّي حاجته.
فالتوسل إلى الله تعالى في الدعاء بأسمائه أو بصفاته سواء كان ذلك على سبيل العموم أو على سبيل الخصوص هو من الأمور المطلوبة، ومن التوسل بأسماء الله على سبيل العموم ما جاء في الحديث الآتي:
(حديث ابن مسعود في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما أصاب عبداً همٌ ولا حزنٌ فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكلِ اسمٌ هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدٌ من خلقك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبي ونورَ بصري وجلاء حزني وذهاب همِّي إلا أذهب الله همَّه وأبدله مكانه فرجاً.
(فإنه ما دعا به داعٍ مهموم أو مغموم إلا فرج الله به عنه، ففيه التوسل بأسماء الله عامة اسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، لكنه لم يعددها.
{تنبيه}: (يجب على الإنسان حينما يدعو الله بأسماء الله الحسنى أن يختار الإسم الذي يُلائم حاله، فالمريض يدعو الله به، فإذا كان مريضا قال: اشف أنت الشافي، وإذا سأل مغفرة الذنوب قال يا غفور اغفر لي، وهكذا، وهاك من السنة الصحيحة ما يدل على ذلك: ((7/358)
(حديث أبي بكرٍ الصديق في الصحيحين) أنه قال لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمني دعاءاً أدعو به في صلاتي قال: قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم.
(حديث عائشةَ في الصحيحين) قالت كان رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أتى مريضاً أو أُتِيَ به إليه قال: أذْهِب البأس ربِ الناس اشفِ أنت الشافي لاشفاء إلا شفاءك شفاءاً لايُغادرُ سقماً.
مسألة: ما معنى من أحصاها دخل الجنة؟
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة.
(معنى من أحصاها دخل الجنة:
[*] قال ابن القيم في كتاب بدائع الفوائد:
ومراتب الإحصاء ثلاث:
المرتبه الأولى: إحصاء ألفاظها وعددها
(هو الله _ الرحمن – الرحيم - الملك - القدوس _ ............... )
إلى أخر الأسماء الثابتة في كتاب الله وسنه نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
المرتبة ألثانيه من مراتب الإحصاء:
فهم معانيها: وهذا أيضا يندرج تحت معنى من أحصاها إذا الإحصاء لا يتوقف عند الحفظ فحسب، هذه مرتبه من المراتب، ثم يجب علينا الفهم لهذه الأسماء فما معنى الملك – القدوس ما معنى الرحمن، هذا يندرج تحت من حفظها وفهم معانيها
المرتبة الثالثة: هي دعاء الله بها بالأسماء والصفات امتثالا لأمره جل وعلا
لقوله تعالى (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)
فيكون معنى أحصاها أي ((حفظها وفهم معانيها ودعا الله بها عز وجل)
مسألة: هل أسماء الله الحسنى محصورة في تسعةً وتسعين اسما؟
القول الصحيح الذي دلت عليه السنة الصحيحة وتجتمع فيه الأدلة أن أسماء الله غير محصورة في تسعة وتسعين اسما.
[*] قال الإمام النووي رحمه الله تعليقاً على قول النبي " إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر" متفق عليه.
قال رحمه الله: " واتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه والله، فليس معناه: أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين، وإنما مقصود الحديث أن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة، فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء، ولهذا جاء في الحديث الآخر: " أسألك بكل اسم سميت به نفسك أو استأثرت به في علم الغيب عندك ".
[*] قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:(7/359)
أسماء الله غير محصورة بعدد معين؛ لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الدعاء المأثور (أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحد من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك)
(حديث ابن مسعود في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما أصاب عبداً همٌ ولا حزنٌ فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكلِ اسمٌ هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدٌ من خلقك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبي ونورَ بصري وجلاء حزني وذهاب همِّي إلا أذهب الله همَّه وأبدله مكانه فرجاً.
وما استأثر الله بعلمه فلا سبيل إلى حصره والإحاطة به. والجمع بين هذا وبين قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثابت في الصحيحين عن أبي هريرة: (إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة). أن معني هذا الحديث: إن من أسماء الله تسعة وتسعين اختصت بان من أحصاها دخل الجنة، فلا ينافي أن يكون له أسماء أخرى غيرها، ونظير ذلك أن تقول: عندي خمسون درعا أعددتها للجهاد، فلا ينافي أن يكون عندك دروع أخرى. ومعني إحصاء أسماء الله أن يعرف لفظها ومعناها، ويتعبد لله مقتضاها.
وهذا الحديث ثابت في السلسلة الصحيحة:
(حديث ابن مسعود في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما أصاب عبداً همٌ ولا حزنٌ فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكلِ اسمٌ هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدٌ من خلقك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبي ونورَ بصري وجلاء حزني وذهاب همِّي إلا أذهب الله همَّه وأبدله مكانه فرجاً.
مسألة: ما هو منهج أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته؟
منهج أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته:
طريقتهم إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.(7/360)
التحريف: التحريف لغة: التغيير، واصطلاحا: تغيير لفظ النص أو معناه. مثال تغيير اللفظ تغيير قوله تعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيما) (النساء: من الآية164). من رفع الجلالة إلى نصبها فيكون التكليم من موسى لا من الله. ومثال تغيير المعني: تغيير معني استواء الله على عرشه من العلو والاستقرار إلى الاستيلاء والملك؛ لينتفي عنه معني الاستواء الحقيقي.
التعطيل لغة ً: الترك والتخلية
و التعطيل اصطلاحا: إنكار ما يجب لله من الأسماء والصفات، أما كليا كتعطيل الجهمية
، وأما جزئيا كتعطيل الأشعرية الذين لم يثبتوا من صفات الله إلا سبع صفات، مجموعة في قوله: ... حي عليم قدير والكلام له
إرادة وكذاك السمع والبصر
(التكييف والتمثيل والفرق بينهما:
التكييف إثبات كيفية الصفة كان يقول: استواء الله على عرشه كيفيته كذا وكذا، والتمثيل إثبات مماثل للشيء كان يقول: يد الله مثل يد الإنسان.
والفرق بينهما أن التمثيل ذكر الصفة مقيدة بمماثل، والتكييف ذكرها غير مقيدة به.
حكم هذه الأربعة المتقدمة:
كلها حرام ومنها ما هو كفر أو شرك، ومن ثم كان أهل السنة والجماعة متبرئين من جميعها.
الواجب في نصوص الأسماء والصفات:
الواجب إجراؤها على ظاهرها وإثبات حقيقتها لله على الوجه اللائق به؛ وذلك لوجهين:
(1) إن صرفها عن ظاهرها مخالف لطريقة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه.
(2) أن صرفها إلى المجاز قول على الله بلا علم وهو حرام.
أسماء الله وصفاته توقيفية، وهي من المحكم من وجه ومن المتشابه من وجه.
أسماء الله وصفاته توقيفية، والتوقيفي ما توقف إثباته أو نفيه على الكتاب والسنة، بحيث لا يجوز إثباته ولا نفيه إلا بدليل منهما، فليس للعقل في ذلك مجال لأنه شيء وراء ذلك.
وأسماء الله وصفاته من المحكم في معناها؛ فان معناها معلوم، ومن المتشابه في حقيقتها؛ لان حقائقها لا يعلمها إلا الله. والمحكم ما كان واضحا وعكسه المتشابه.
كيف يتم الإيمان بأسماء الله؟
إذا كان الاسم متعديا فتمام الإيمان به إثبات الاسم وإثبات الصفة التي تضمنها، وإثبات الأثر الذي يترتب عليه، مثل: (الرحيم) فتثبت الاسم وهو الرحيم، والصفة وهي الرحمة، والأثر وهو انه سبحانه يرحم بهذه الرحمة.
وان كان الاسم لازما فتمام الإيمان به إثباته وإثبات الصفة التي تضمنها، مثل: (الحي) تثبت الاسم وهو الحي والصفة وهي الحياة. وعلى هذا فكل اسم متضمن لصفة ولا عكس.
(ما هو اسم الله الأعظم؟(7/361)
الراجح من أقوال العلماء أن اسم الله الأعظم مؤلَّف من عدة أسماء، بناء على الأحاديث الواردة فيه كما في الأحاديث الآتية:
(حديث بُريدة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع رجلاً يقول اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحدُ الصمد الذي لم يلد ولم يُولد ولم يكن له كفواً أحد فقال: لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعِيَ به أجاب وإذا سُئِلَ به أعطى.
[*] وقال الحافظ ابن حجر:
وهو أرجح من حيث السند من جميع ما ورد في ذلك.
(حديث أنس في صحيح السنن الأربعة) قال سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.
(حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) وفاتحة آل عمران: (آلم الله لا إله إلا هو الحي القيوم)
(حديث أبي أمامة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (اسم الله الأعظم في ثلاث سور من القرآن البقرة وآل عمران وطه). قال القاسم فالتمستها فإذا هي آية الحي القيوم.
[*] (أوقات فاضلة يستجاب فيها الدعاء:
(أولاً أوقات فاضلة يستجاب فيها الدعاء جملة:
(1) ليلة القدر:
(2) العشر الأوائل من ذي الحجة:
(3) الدعاء في جوف الليل ووقت السحر:
(4) دبر الصلوات المكتوبة:
(5) بين الأذان والإقامة:
(6) عند النداء للصلوات المكتوبة:
(7) عند زحف الصفوف والتحامها في المعركة:
(8) عند نزول الغيث:
(9) ساعة من الليل:
(10) الساعة التي في يوم الجمعة:
(11) عند شرب ماء زمزم:
(12) في السجود:
(13) الدعاء يوم عرفة:
(14) في شهر رمضان:
(ثانياً أوقات فاضلة يستجاب فيها الدعاء تفصيلاً:
(1) ليلة القدر:
(حديث عائشة الثابت في صحيح الترمذي) قالت: (قُلْتُ يا رَسُولَ الله أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أيّ لَيْلَةٍ لَيْلَة القَدْرِ مَاذا أقُولُ فِيهَا؟ قالَ: قُولِي اللّهُمّ إِنّكَ عَفُوّ تُحِبُ العَفْوَ فاعْفُ عَنّي)
(2) العشر الأوائل من ذي الحجة:(7/362)
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (ما من أيامٍ العملُ الصالح فيها أحبُ إلى الله من هذه الأيام يعني أيام العشر قالوا ولا الجهاد في سبيل الله قال: ولا الجهادُ في سبيل الله إلا أحدُ خرج يجاهد بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء)
ومن أعظم الأعمال الصالحة التوجه إلى الله تعالى بالدعاء، فالعشر من ذي الحجة أيام فاضلة، وهي أفضل أيام العام على الإطلاق.
{تنبيه}: (واختلف أهل العلم في أيهما أفضل: العشر الأول من ذي الحجة، أم العشر الأواخر من رمضان؟
فالعشر الأول من ذي الحجة فيها عدة مزايا: فيها يوم عرفة، يكفر الله به ذنوب سنتين، سنة ماضية، وسنة قادمة، وفيها الحج، وبه يكفر الله جميع خطايا الإنسان، وفيها يوم النحر، وفيه أيام منى، وفيها المبيت بالمزدلفة، وفيها الحلق والتقصير، وفيها ذبح الأضاحي والهدي تقرباً إلى الله تعالى.
أما أيام العشر الأواخر من رمضان، ففيها ليلة القدر، وأن الله تعالى يعتق فيها رقاب عباده من النار.
فأقول اختلف العلماء في هذه المسألة إلى قولين:
القول الأول: أن الأيام العشر الأول من ذي الحجة أفضل لما تقدم.
القول الثاني: أن الأيام العشر الأواخر من رمضان أفضل لما تقدم.
ولعل أفضل الأقوال، ما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، حيث قال: " أيام العشر من ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، وليالي العشر من رمضان أفضل من ليالي العشر من ذي الحجة ". والعلم عند الله تعالى، وإن كنت أرى رجحان القول الأول، وهو أن العشر من ذي الحجة أفضل من العشر من رمضان لما ذكر من مزايا.
(3) الدعاء في جوف الليل ووقت السحر:
قال تعالى في وصف عباده المؤمنين: (وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات / 18]
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ينزل ربنا تبارك و تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له.
(4) دبر الصلوات المكتوبة:
(حديث عَن أبي أُمَامَةَ الباهلي رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قَالَ: «قِيلَ لرَسُولَ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيّ الدّعَاءِ أسْمَعُ؟ قالَ: جَوْف اللّيْلِ الاَخِرُ، وَدُبُرَ الصّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ».
وأوصى _ عليه الصلاة والسلام _ معاذًا أن يقول في دبر كل صلاة: اللهم أعِنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.(7/363)
(حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و النسائي) أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ بيده وقال يا معاذ والله إني لأحبك والله إني لأحبك فقال أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
(هذا وقد اختلف في قوله دبر كل صلاة هل هو قبل السلام أو بعده؟.
[*] قال ابن القيم: دُبُرُ الصلاة يحتمل قبل السلام وبعده، وكان شيخنا _ يعني ابن تيمية _ يرجح أن يكون قبل السلام، فراجعته فيه فقال: دبر كل شيء منه، كدبر الحيوان. (1)
[*] قال الشيخ محمد ابن عثيمين: الدبر هو آخر كل شيء منه، أو هو ما بعد آخره. (2)
ورجح أن الدعاء دبر الصلوات المكتوبة أنه قبل السلام.
وقال: ما ورد من الدعاء مقيدًا بدبر فهو قبل السلام.
وما ورد من الذكر مقيدًا بدبر فهو بعد الصلاة؛ لقوله _ تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِكُمْ) [النساء / 103]
(5) بين الأذان والإقامة:
(حديث أنس الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يردُ الدعاء بين الأذان والإقامة.
(6) عند النداء للصلوات المكتوبة:
(حديث سهل بن سعد الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثنتان لا تردان: الدعاء عند النداء وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضا.
(7) عند زحف الصفوف والتحامها في المعركة:
(حديث سهل بن سعد الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثنتان لا تردان: الدعاء عند النداء وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضا.
(8) عند نزول الغيث:
(حديث عن سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثنتان ما تردان: الدعاء عند النداء و تحت المطر.
(9) ساعة من الليل:
(حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة.
(10) الساعة التي في يوم الجمعة:
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر يوم الجمعة فقال فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه وأشار بيده يقللها.
__________
(1) زاد المعاد 1/ 305.
(2) من إملاءات شيخنا محمد ابن عثيمين في درس زاد المعاد.(7/364)
{تنبيه}: (وقد اختلف العلماء في تحديد وقتها، فقيل: إنها وقت دخول الخطيب، وقيل: إنها بعد العصر، ورجح هذا القول ابن القيم. (1)
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ”وعندي أن ساعة الصلاة ساعة تُرجى فيها الإجابة أيضاً، فكلاهما ساعة إجابة، وإن كانت الساعة المخصوصة هي آخر ساعة بعد العصر فهي ساعة معينة من اليوم، لا تتقدم ولا تتأخر. وأما ساعة الصلاة فتابعة للصلاة تقدمت أو تأخرت، لأن لاجتماع المسلمين وصلاتهم وتضرعهم وابتهالهم إلى الله تعالى تأثيراً في الإجابة. فساعة اجتماعهم ساعة تُرجى فيها الإجابة وعلى هذا تتفق الأحاديث كلها ... “ (2).
(11) عند شرب ماء زمزم:
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجة):أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ماء زمزم لما شُرب له.
(12) في السجود:
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أقربُ ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء.
(13) الدعاء يوم عرفة في عرفة للحاج:
(حديث عبد الله ابن عمرو الثابت في صحيح الترمذي) أن النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
(14) في شهر رمضان:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة و غلقت أبواب جهنم و سلسلت الشياطين)
(15) عند الدعاء بـ”دعوة ذي النون“:
فهذا سيدنا يونس عليه السلام ألقي في اليم فالتقمه الحوت وأسدل الليل البهيم ستاره المظلم عليه، فالتجأ إلى الله {أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، فأنجاه الله، حتى إذا خرج إلى شاطئ السلامة، تلقفته يد الرحمة الإلهية والعناية الربانية فأظلته تحت شجرة اليقطين.
قال تعالى {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87 - 88].
__________
(1) انظر زاد المعاد لابن القيم، 1/ 378_396.
(2) زاد المعاد بتحقيق الأرناؤوط 2/ 394.(7/365)
(حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:" ألا أخْبِرُكُمُ بِشَيْءٍ إذَا نَزَلَ بِرَجُلِ مِنْكُمُ كَرْبٌ أو بَلاَءٌ مِنْ أمْرِ الدُّنْياَ دَعَا بِهِ فَفُرِّجَ عنه؟ دُعَاءُ ذِي النُّوُنِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ أنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ".
(وذو النون: هو نبي الله يونس عليه السلام.
(والنون: الحوت.
(16) بعد زوال الشمس قبل الظهر:
(حديث عبد الله بن السائب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي أربعاً بعد أن تزول الشمس قبل الظهر، وقال: ”إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، وأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح.
[*] (أحوال وأوضاع يستجاب فيها الدعاء:
(أولاً: أحوال وأوضاع يستجاب فيها الدعاء جملةً:
(1) دعاء المسلم عقب الوضوء:
(2) عند قراءة الفاتحة واستحضار ما يقال فيها:
(3) عند رفع الرأس من الركوع وقول سمع الله لمن حمده:
(4) عند التأمين في الصلاة:
(5) بعد الصلاة على النبي"في التشهد الأخير:
(6) عند اجتماع المسلمين في مجالس الذكر0
(7) عند صياح الديكة:
(8) في حالة إقبال القلب واشتداد الإخلاص:
(9) عند الدعاء بـ:،لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين:
(10) عند الدعاء حال المصيبة بـ:،إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها:
(11) في حال دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب:
(12) دعاء الناس بعد وفاة الميت:
(13) دعوة المضطر:
(14) دعوة المظلوم:
(15) دعوة الوالد على ولده:
(16) دعوة المسافر:
(17) دعاء الوالد لولده:
(18) دعوة الصائم:
(19) دعاء الولد الصالح لوالديه:
(20) دعاء الغازي في سبيل الله:
(21) دعاء الحاج:
(22) دعاء المعتمر:
(23) الدعاء عند المريض:
(24) الدعاء عند التَّعَارّ من الليل، وقول الدعاء الوارد في ذلك:
(23) من بات طاهرا على ذكر الله:
(24) عند شرب ماء زمزم مع النية الصادقة.
(25) عند دعاء الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.
(ثانياً: أحوال وأوضاع يستجاب فيها الدعاء تفصيلا:
(1) دعاء المسلم عقب الوضوء:
(حديث عمر في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ? ما من أحدٍ يتوضأ فيبلغ أو يسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء.(7/366)
(حديث عمر صحيحي أبي داوود الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أن محمدا عبده و رسوله اللهم اجعلني من التوابين و اجعلني من المتطهرين فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء.
(2) عند قراءة الفاتحة واستحضار ما يقال فيها:
عند قراءة الفاتحة واستحضار ما يقال فيها:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثا غير تمام فقيل لأبي هريرة رضي الله عنه إنا نكون وراء الإمام فقال اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد! < الحمد لله رب العالمين >! قال الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال! < الرحمن الرحيم >! قال الله تعالى أثنى علي عبدي وإذا قال! < مالك يوم الدين >! قال مجدني عبدي وقال مرة فوض إلي عبدي فإذا قال! < إياك نعبد وإياك نستعين >! قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال! < اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين >! قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.
* [معنى خداج أي فاسدة]
(3) عند رفع الرأس من الركوع وقول سمع الله لمن حمده:
(حديث رِفاعة بن رافعٍ الزُرْقِي الثابت في صحيح البخاري) قال: كنا نصلي وراء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما رفع رأسه من الركعة قال سمع الله لمن حمده قال رجل وراءه ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فلما انصرف قال: من المتكلم؟ قال أنا، قال: رأيت بضعةً وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أوَّل.
(حديث أبي سعيد الثابت في صحيح مسلم) قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رفع رأسه من الركوع قال: ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
(4) عند التأمين في الصلاة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه.
(5) بعد الصلاة على النبي"في التشهد الأخير:(7/367)
(حديث ابن مسعود الثابت في صحيح الترمذي) قال كنت أصلي و النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وعمر معه، فلما جلست بدأت بالثناء على الله ثم الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم دعوت لنفسي فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سل تُعطه سل تُعطه.
(6) عند اجتماع المسلمين في مجالس الذكر0
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن لله ملائكة يطوفون في الطرقات يلتمسون الذكر فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجاتكم فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا فيسألهم ربهم و هو أعلم منهم: ما يقول عبادي؟ فيقولون: يسبحونك و يكبرونك و يحمدونك و يمجدونك فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا و الله ما رأوك فيقول: كيف لو رأوني؟ فيقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة و أشد لك تمجيدا و أكثر لك تسبيحا فيقول: فما يسألوني؟ فيقولون: يسألونك الجنة فيقول: و هل رأوها؟ فيقولون: لا و الله يا رب ما رأوها فيقول: فكيف لو أنهم رأوها؟ فيقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا و أشد لها طلبا و أعظم فيها رغبة قال: فمم يتعوذون؟ فيقولون: من النار فيقول الله: هل رأوها؟ فيقولون: لا و الله يا رب ما رأوها فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارا و أشد لها مخافة فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم فيقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة! فيقول: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم.
(7) عند صياح الديكة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله، فإنها رأت ملكا، وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنه رأى شيطانا).
(8) في حالة إقبال القلب واشتداد الإخلاص:
(كما في قصة أصحاب الغار.(7/368)
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم، حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فناء بي في طلب شيء يوما، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي، فأدرتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله أد إلي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون).
(9) عند الدعاء بـ:،لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين:
(حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوة ذي النون إذ دعا بها و هو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له.
(وذو النون: هو نبي الله يونس _ عليه السلام _،
(والنون: الحوت.(7/369)
فهذا سيدنا يونس عليه السلام ألقي في اليم فالتقمه الحوت وأسدل الليل البهيم ستاره المظلم عليه، فالتجأ إلى الله {أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، فأنجاه الله، حتى إذا خرج إلى شاطئ السلامة، تلقفته يد الرحمة الإلهية والعناية الربانية فأظلته تحت شجرة اليقطين.
قال تعالى {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87 - 88].
[*] قال القرطبي في تفسير هذه الآية:
وفي الخبر في هذه الآية شرط الله لمن دعاه أن يجيبه كما أجابه، وينجيه كما أنجاه، وهو قوله: [وكذلك ننجي المؤمنين] (1)
[*] وقال ابن كثير في قوله تعالى: [وكذلك ننجي المؤمنين]: أي إذا كانوا في الشدائد، ودعونا منيبين إلينا، ولا سيما إذا دعوا بهذا الدعاء في حال البلاء؛ فقد جاء الترغيب به في الدعاء به عند سيد الأنبياء. (2)
{تنبيه}: (هذا الدعاء من أعظم أنواع الدعاء، لاشتماله على الآتي:
أولاً: على توحيد الله (لا إله إلا أنت)
وهو أعظم وسيلة إلى الله تعالى، وأعظم طاعة وأعظم وقربة.
ثم ثنى بالتنزيه (سبحانك) تنزيه الله عما لا يليق به عز وجل، فكل ما يفعل، وكل ما يقدر فله فيه الحكمة البالغة، فهو منزه عما لا يليق بجلاله وكماله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعظيم شأنه.
ثم ثلث ببيان عجزه وضعفه وفقره وظلمه لنفسه، وهكذا كل عبد بالنسبة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ينبغي له أن يكون كذلك إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]
(10) عند الدعاء حال المصيبة بـ:،إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها:
(حديث أم سلمة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول! < إنا لله وإنا إليه راجعون >! اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها قالت فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخلف الله لي خيرا منه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 11/ 334.
(2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/ 187(7/370)
فالاسترجاع ملجأ وملاذ لذوي المصائب، ومعناه باختصار: إن لله توحيد وإقرار بالعبودية والملك، وإن إليه راجعون إقرار بأن الله يهلكنا ثم يبعثنا.
إذا فالأمر كله لله، ولا ملجأ منه إلا إليه، والله عز وجل يقول: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة 155: 157]
[*] قال ابن كثير في تفسير هذه الآية:
قال عمر: نعم العدلان، ونعمت العلاوة، [أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة] فهذان العدلان.
و [أولئك هم المهتدون] فهذه العلاوة، وهي ما توضع بين العدلين، وهي زيادة في الحلم، فكذلك هؤلاء، أُعطوا ثيابهم، وزيدوا أيضًا. (1)
(11) في حال دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب:
(حديث أبي الدرداء الثابت في صحيح مسلم) النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به آمين ولك بمثل.
فلا تنسنا أخي الحبيب بدعوة منك في ظهر الغيب، واعلم بأن الله جل وعلا سيستجيب منك هذه الدعوة وسيعطيك مثلها بموعود النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(12) دعاء الناس بعد وفاة الميت:
(حديث أم سلمة الثابت في صحيح مسلم) قالت دخل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه ثم قال إن الروح إذا قبض تبعه البصر فضج ناس من أهله فقال لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون ثم قال اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبة في الغابرين واغفر لنا وله يا رب العالمين وأفسح له في قبره ونور له فيه.
(13) دعوة المضطر:
فالله _ تبارك وتعالى _ يجيب المضطر إذا دعاه ولو كان مشركًا، (فكيف إذا كان مسلمًا عاصيًا مفرطًا في جنب الله؟
(بل كيف إذا كان مؤمنًا برًّا تقيًّا؟
قال تعالى: (أَمّن يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السّوَءَ) [النمل / 62]
[*] قال ابن كثير في تفسير الآية السابقة:
أي من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه، والذي لا يكشف ضر المضرورين سواه؟. (2)
[*] قال البغوي: المضطر: المكروب المجهود. (3)
__________
(1) تفسير ابن كثير 1/ 188.
(2) تفسير ابن كثير 3/ 358.
(3) معالم التنزيل للبغوي 6/ 173.(7/371)
[*] وقال الزمخشري: المضطر: الذي أحوجه مرض، أو فقر، أو نازلة من نوازل الدهر إلى اللجأ والتضرع إلى الله. (1)
[*] وقال القرطبي: ضَمِنَ الله _ تعالى _ إجابة المضطر إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه.
والسبب في ذلك أن الضرورة إليه باللجأ ينشأ عن الإخلاص، وقطع القلب عما سواه، وللإخلاص عنده _ سبحانه _ موقع وذِمَّة، وُجِدَ من مؤمن أو كافر، طائع أو فاجر. (2)
(ألم تر حال المشركين في الجاهلية الأولى كيف يتخلّون عن آلهتهم ويَدْعُون الله مخلصين له الدين وذلك إذا ركبوا في الفلك، واضطربت بهم الأمواج، كما في قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)
[يونس / 22].
والمشركون ما كانوا يفزعون لآلهتهم عند الشدائد، بل كانوا يلجئون إلى الله، إذ النفوس جُبلت على الالتجاء لله وحده عند حصول المكروه؛ إلا ما يكون من بعض مشركي زماننا! فإن ملجأهم ومفزعهم (الولي) أو (القطب)، فأبو جهل أفقهُ من هؤلاء!!
تأمّل قول الله تبارك وتعالى: (وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)
[لقمان / 32]
[*] قال ابن القيم – رحمه الله –:
التوحيد مَفْزَعُ أعدائه وأوليائه؛ فأما أعداؤه فينجيهم من كُرب الدنيا وشدائدها: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)
[العنكبوت / 65]
، وأما أولياؤه فينجيهم به من كربات الدنيا والآخرة وشدائدها، ولذلك فزع إليه يونس فنجّاه الله من تلك الظلمات، وفزع إليه أتباع الرسل فَنَجَوا بِهِ (3) مما عُذِّبَ به المشركون في الدنيا، وما أُعِدّ لهم في الآخرة، ولما فزع إليه فرعون عند معاينة الهلاك وإدراك الغرق له لم ينفعه؛ لأن الإيمان عند المعاينة لا يُقبل. هذه سنة الله في عباده. فما دُفِعَتْ شدائد الدنيا بمثل التوحيد ... (4).
__________
(1) الكشاف للزمخشري 3/ 149.
(2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 13/ 223.
(3) - أي بالتوحيد.
(4) - الفوائد (ص 79).(7/372)
(حديث عائشة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يغني حذر من قدر و الدعاء ينفع مما نزل و مما لم ينزل و إن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة.
وهذا الحديث يوضح أن الوقاية من المصائب تكون بالدعاء بينما لا ينجح الحذر في رد هذه المصائب ولكن مع اعتبار قول الله (وخذوا حذركم)
(جاء رجل إلى أبى الدرداء فقال يا أبى الدرداء لقد احترق بيتك فقال ما احترق ولم يكن الله ليفعل ذلك، بكلمات سمعتها من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قالها فى أول نهاره لم تصبه مصيبة حتى يمسى ومن قالها آخر النهار لم تصبه مصيبة حتى يصبح. وقد قلتها اليوم.
(اللهم أنت ربى، لا إله إلا أنت عليك توكلت وأنت رب العرش العظيم، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم أعلم أن الله على كل شىء قدير و أن الله قد أحاط بكل شىء علما، اللهم إنى أعوذ بك من شر نفسى ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إن ربى على صراط مستقيم) ثم قال انهضوا بنا، فقام وقاموا معه فانتهوا إلى داره وقد احترق ما حولها، ولم يصبها شىء) (1).
إلهي ...
بك استجير ومن يجير سواكا ... فأجرضعيفاً يحتمي بحماكا
إني ضعيف استعين على قوى ... ذنبي ومعصيتي ببعض قواكا
أذنبت يا ربي وآذتني ذنوبٌ ... مالها من غافر إلا كا
أنا كنت يا ربي أسير غشاوةٍ ... رانت على قلبي فضل سناكا
واليوم يا ربي مسحت غشاوتي ... وبدأت بالقلب البصير أراكا
يا غافر الذنب العظيم وقابلاً ... للتوب قلب تائبٌ ناجاكا
(أَمّن يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إِذَا دَعَاهُ)
من الذي يفزع إليه المكروب ويستغيث به المنكوب وتصمد إليه الكائنات وتسأله المخلوقات وتلهج بذكره الألسن وتؤلهه القلوب إنه الله لا اله إلا هو، وحق علينا أن ندعوه في الشدة والرخاء والسراء والضراء ونفزع إليه في المُلمات ونتوسل إليه في الكربات وننطرح على عتبات بابه سائلين باكين ضارعين منيبين حينها يأتي مدده ويصل عونه ويسرع فرجه ويحل فتحه
(أَمّن يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إِذَا دَعَاهُ)
فينجي الغريق ويرد الغائب ويعافي المبتلى وينصر المظلوم ويهدي الضال ويشفي المريض ويفرج عن المكروب.
__________
(1) - انظر الوابل الصيب لابن القيم، الأذكار للنووى.(7/373)
إذا نزلت بك النوازل وألمَّت بك الخطوب فالهج بذكره واهتف باسمه واطلب مدده واسأله فتحه ونصره مرغ الجبين لتقديس اسمه لتحصل على تاج الحرية وأرغم الأنف في طين عبوديته لتحوز وسام النجاة مد يديك وارفع كفيك أطلق لسانك أكثر من طلبه بالغ في سؤاله ألح عليه الزم بابه انتظر لطفه ترقب فتحه اشد باسمه أحسن ظنك فيه انقطع إليه تبتل إليه تبتيلا حتى تسعد وتفلح ..
(أَمّن يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إِذَا دَعَاهُ)
يا له من رب رحيم ودود لطيف شكور ..... يتودد إلى عباده وهو الغني عنهم .... يأمرك بأن تدعوه وهو الغني عن دعائك
إنه الملك _جل وعلا_ الذي يفزع إليه المكروب ويستغيث به المنكوب وتلجا إليه كل المخلوقات.
(فاذا نزلت بك النوازل وأحاطت بك المصائب وألمَّت بك الخطوب فما عليك إلا أن ترفع أكف الضراعة لتطلب منه العون والمدد وتمرغ الجبين لتبل الحصى بدموع التوبة والندم وتنخلع من حولك وقوتك إلى حول الله وقوته وتقول بلسان الحال والمقال: اللهم إني أبرا من الثقة إلا بك ومن الأمل إلا فيك ,ومن التسليم الا لك, ومن التوكل الا عليك, ومن الرضا الا عليك ومن الامل الا فيك ومن الصبر إلا على بابك ,ومن الذل إلا في طاعتك ,ومن الرهبة إلا لجلالك العظيم ,ومن الرجاء إلا في يديك الكريمتين ..
_إذا نزلت بك المصائب فقل: يا الله
_إذا خانك الرفيق والصديق فقل: يا الله
_إذا ضاع المال والعيال فقل: يا الله
_إذا اجتمع عليك أهل الأرض فقل: يا الله
الزم بابه .... وتبتل إليه ..... وترقب فتحه ونصره .... وارفع إليه اكف الضراعة .... وأحسن الظن به ... واطلب منه العون والمدد.
فهو الذي يشفي المريض ويعافي المبتلى ويسد الدين عن المديون وينصر كل مظلوم ويهدي كل ضال ومحروم ويرد الغائب ويفك اسر المسجون.
(أَمّن يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إِذَا دَعَاهُ)
يا صاحب الهم إن الهمَّ مُنْفَرِج
أبشر بخير فان الفارجَ الله
اليأس يقطع أحيانا بصاحبه
لا تيأسن فان الكافي الله
إذا بُلِيْتَ فاتق بالله وارضَ به
فان الذي يكشف البلوى هو الله
الله يحدث بعد العسر ميسرة
لا تعجزن فان الصانع الله
والله ما لك غير الله من احد
فحسبك الله في كل لك الله
(أَمّن يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إِذَا دَعَاهُ)
عندما تغلق جميع الأبواب بوجهك!!!!!
عندما لا يوجد أي منفذ لحل المعضلة!!!!!
عندما تغدوا مضطرا ولا حيلة لك!!!!!
عندما لا تستطيع فتح الأقفال وإزالة الحواجز عن طريقك!!!!!(7/374)
ألا نعرف كلنا بان هناك نور يشرق وبصيص أمل ينتظرنا ويفتح لنا أبواب الرحمة الإلهية بوجه المتحيرين ألا وهو الله عز وجل،،،،،،
هذه حقيقة يدركها الكل حتى المشركين لأن وجود الله عز وجل موجود بالفطرة
وفي النفس الإنسانية!!!! لا ترى عند تتلاطم أمواج البحر ينسى الإنسان كل
شيء ويتوجه نحو الله عز وجل؟؟؟؟؟
وهذه حالة الاضطرار التي يعيشها الإنسان يكون مغمضاً عينيه عن عالم الماديات ويكون قلبه وروحه بين يدي الله عز وجل وكل شيء له ومنه فعند تحقق هذا الإدراك يكون الإنسان في حالة الاضطرار ويوفر لنفسه شرط من شروط استجابة الدعاء!!!!!
(أَمّن يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إِذَا دَعَاهُ)
(وهاك قصصاً تبكي الصخور لمن استجاب الله تعالى لهم حال الاضطرار:
[*] يقول الشيخ على الطنطاوي:
«أسرد عليكم قصة أسرة أمريكية فيها ستة أولاد، أبوهم فلاح متين البناء قويّ الجسد ماضي العزم، وأمهم امرأة عاقلة مدبّرة حازمة، فتربى الأولاد على الصبر والاحتمال حتى صاروا رجالاً قبل أوان الرجولة. وخرج الصغير يومًا يلعب، وكان في الثالثة عشرة، فقفز من فوق صخرة عالية قفزة وقع منها على ركبته، وأحس بألم فيها، ألم شديد لا يصبر عليه ولد مثله، ولكنه احتمله وصبر عليه، ولم يخبر أحدًا وأصبح فغدا على مدرسته يمشي على رجله، والألم يزداد وهو يزداد صبرًا عليه، حتى مضى يومان فظهر الورم في رجله وازرقَّ، وعجز أن يخطو عليها خطوة واحدة، فاضطربت أمه وجزع أبوه وسألاه عن خبره؟ فأخبرهما الخبر فأضجعوه في فراشه وجاءوا بالطبيب فلما رآها علم أنه قد فات أوان العلاج وأنها إن لم تُقطع فورًا مات الولد من تسمم الدم، فانتحى بأبيه ناحية وخبّره بذلك همسًا، يحاذر أن يسمع الولد قوله، ولكنّ الولد سمع، وعرف أنها ستقطع رجله، فصرخ: لا، لا تقطعوا رجلي، لا تقطعوا رجلي، أبي أنقذني، حاول أن يقفز على رجل واحدة ويهرب منهم فأمسك به أبوه وردَّه إلى فراشه، فنادى أمه نداء يقطع القلوب: أمي، أمي، أنقذيني، أمي ساعديني، لا يقطعوا رجلي، ووقفت الأم المسكينة حائرة تحس كأن كبدها تتمزق؛ قلبها يدعوها إلى نجدة ابنها ويفيض حنانًا عليه وحبًا له، وعقلها يمنعها ويناديها أن تفتدي حياته برجله، ولم تدر ماذا تصنع؟(7/375)
فوقفت وقلبها يتفطر ودمعها يتقاطر، وهو ينظر إليها نظر الغريق إلى من ظن أنه سينقذه، فلما رآها لا تتحرك، يئس منها، كما يئس من أبيه من قبل، وجعل ينادي أخاه [إِدغار] بصوت يختلط فيه النداء بالبكاء والعويل: إِدغار إِدغار، أين أنت يا إِدغار؟ أسرع فساعدني، إنهم يريدون أن يقطعوا رجلي، إدغار إدغار، وسمع أخوه إدغار ـ وهو أكبر منه بقليل ـ صراخه، فأقبل مسرعًا، فشد قامته ونفخ صدره، ووقف دون أخيه متنمِّرًا مستأسدًا، وفي عينيه بريق من عزيمة لا تُقهر، وأعلن أنه لن يدع أحدًا يقترب منه، وكلمه أبوه، ونصحته أمه، وهو يزداد حماسة، وأخوه يختبئ وراءه ويتمسك به، فيشدّ ذلك من عزمه، وحاول أبوه أن يزيحه بالقوّة، فهجم على أبيه وعلى الطبيب الذي جاء يساعده، واستأسد واستيأس، والإنسان إذا استيأس صنع الأعاجيب. ألا ترون الدجاجة إذا هجم أحد على فراخها كيف تنفش ريشها وتقوم دون فراخه؟ والقطة إذا ضويقت كيف تكشِّر عن أنيابها وتبدي مخالبها؟ إن الدجاجة تتحول صقرًا جارحًا، والقطة تغدو ذئبًا كاسرًا، و [إدغار] صار رجلا قويًا، وحارسًا ثابتًا، يتزحزح الجدار ولا يتزحزح عن مكانه. وتركوه آملين أن يملَّ أو يكلَّ، فيبعد عن أخيه ولكنه لم يتزحزح، وبقي يومين كاملين واقفًا على باب غرفة أخيه يحرسه، لم يأكل في اليومين إلا لقيمات، قربوها إليه، ولم ينم إلا لحظات، والطبيب يجئ ويروح، ورجل الولد تزداد زرقة وورمًا، فلما رأى الطبيب ذلك نفض يده وأعلن أنها لم تبق فائدة من العملية الجراحية وأن الولد سيموت وانصرف، ووقفوا جميعًا أمام الخطر المحدق.
ماذا يصنع الناس في ساعة الخطر؟!
إن كل إنسان مؤمنًا كان أو كافرًا يعود ساعة الخطر إلى الله؛ لأن الإيمان مستقر في كل نفس حتى في نفوس الكفار، ولذلك قيل له: [كافر]، والكافر في لغة العرب [الساتر] ذلك أنه يستر إيمانه ويغطيه، بل يظن هو نفسه أن الإيمان قد فقد من نفسه، فإذا هزّته الأحداث ألقت عن غطاءه فظهر. قريش التي كانت تعبد هُبل واللات والعزى، إنما كانت تعبدها ساعة الأمن، تعبدها هزلا منها، فإذا جدَّ الجدُّ، وركب القرشيون السفينة، وهاج البحر من حولها بموج كالجبال، وصارت سفينتهم بيد الموج كريشة في كفّ الرياح، وظهر الخطر، وعمّ الخوف، بدأ الإيمان الكامن في أعماق النفس، فلم تُدْعَ اللات والعزى ولا هاتيك(7/376)
[المَسْخرات]، ولكن دعت الله رب الأرض والسماوات، وعندما تغرق السفينة وتبقى أنت على لوح من الخشب بين الماء والسماء، لا تجد ما تصنع إلا أن تنادي: يا الله. هذا فرعون الذي طغى وبغى، وتكبّر وتجبر، حتى قال أحمق مقالة قالها إنسان قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} ... [النازعات:24] لما أدرك الغرقُ فرعون قال: {آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ... [يونس:90].
وعندما تضل في الصحراء، ويحرق العطش جوفك، وترى الموت يأتيك من كل مكان، لا تجد ما تصنع إلا أن تنادي: يا الله!، وعندما تتعاقب سنوات القحط، ويمتد انقطاع المطر. وفي غمرة المعركة العابسة التي يرقص فيها الموت، وعندما يشرف المريض ويعجز الأطباء يكون الرجوع إلى الله. هنالك ينسى الملحد إلحاده، والماديُّ ماديته، والشيوعيّ شيوعيّته ويقول الجميع: يا الله!.لما ذهب الطبيب واستحكم اليأس وملأ قلوب الجميع: قلب الولد الخائف، وأخيه المستأسد المتنمّر، وأبيه وأمه، واستشعروا العجز، ولم تبق في أيديهم حيلة، وبلغوا مرتبة [المضطر]، مدّوا أيديهم إلى الله يطلبون منه الشفاء وحده، ويطلبونه بلا سبب يعرفونه. لأنها قد تقطعت بهم الأسباب،(7/377)
(والله الذي يشفي بسبب الدواء والطبّ، قادر على أن يشفي بلا طب ولا دواء. مدّوا أيديهم وجعلوا يقولون: يا الله!! يدعون دعاء المضطر، والله يجيب دعوة المضطر ولو كان فاسقًا، ولو كان كافرًا، ما دام قد التجأ إليه، واعتمد عليه، ووقف ببابه، وعلق أمله به وحده، يُجيب دعوته إن طلب الدنيا، أما الآخرة فلا تُجاب فيها دعوته لأنه كافر لا يؤمن بالآخرة. هؤلاء كفار قريش لما دعوا الله مخلصين له الدين استجاب دعاءهم ونجاهم إلى البر، بل هذا شرّ الخلق إبليس لمّا دعا دعاء المضطر، قال: {رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} ... [الحجر:36]، قال له: {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ} ... [الحجر:37].ولو أمعنتم النظر في أسلوب القرآن لوجدتم أن الله لم يخبر في القرآن إِخبارًا أنه يجيب دعوة المضطر، لأن ذلك مشاهد معلوم، ولكن ذكره حجة على المشركين فقال: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ {60} أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ {61} أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} ... [النمل: 60 - 62].
(يا أيها القراء إنهم لما دعوا نظروا فإذا الورم بدأ يخف والزُّرقة تمحى والألم يتناقص، ثم لم يمض يومان حتى شفيت الرِجل تمامًا، وجاء الطبيب فلم يكد يصدق ما يراه!!.(7/378)
(ستقولون هذه قصة خيالية أنت اخترعتها وتخيلتها، فما قولكم إن دللتكم على صاحبها، إن هذا الولد صار مشهورًا ومعروفًا في الدنيا كلها، وهو الذي روى القصة بلسانه، هذا الولد هو: أيزنهاور القائد العام لجيوش الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، ورئيس أمريكا بعد ذلك!!.وقد وقعت لي أنا حوادث رأيتُها وعشتُها، أو وقعت لمن كان حولي سمعتُها وتحققت منها. سنة 1957، مرضت مرضة طويلة لخيانة من طبيب شاب شيوعي، وضع لي جرثومة يسمونها العصيّات الزرقاء، قليلة نادرة في بلادنا، وكانت شكواي من حصاة في الكلية أقاسي من نوباتها آلامًا لا يعرف مداها إلا من قاساها، فانضممت إليها أمراض أخرى لم يكن لي عهد بها، وقضيت في المستشفى؛ مستشفى الصحة المركزي الكبير في دمشق، ثم في مستشفى كلية الطب بضعة عشر شهرًا، أقيم فيه، ثم أخرج منه ثم أعود إليه، وكانوا كل يوم يفحصون البول مرتين، وينظرون ما فيه،
فلما طال بي الأمر، وضاق مني الصدر، توجهت إلى الله فسألته إحدى الراحتين، الشفاء إن كان الشفاء خيرًا لي، أو الموت إن كان في الموت خيرٌ لي ـ وكان يدعو لي كثير ممن يحبني وإن كنت لا أستحق هذا الحب من الأقرباء ومن الأصدقاء ـ فلما توجهت ذلك اليوم إلى الله مخلصًا له نيتي، واثقًا بقدرته على شفائي، سكن الألم، وتباعدت النوبات، وفحصوا البول كما كانوا يفحصونه كل يوم، فإذا به قد صفا، وزال أكثر ما كان فيه وعجب الأطباء واندهشوا، اجتمعوا يبحثون.
فقلت لهم: لا تتعبوا أنفسكم فهذا شيء جاء من وراء طِبِّكم، إن الله الذي أمرنا أن نطلب الشفاء من الطب ومن الدواء، قادر على أن يشفي بلا طب ولا دواء.(7/379)
ولما قدمت المملكة سنة 1382هـ أقمت سنة في الرياض، ثم جئت مكة فلبثت فيها إلى الآن، كان معنا فيها رجل من الشام لا أسميه، كان مقيمًا في الرياض هو وأمه، فعرض له عمل اقتضى سفره إلى لبنان، كرهت أمه هذا السفر لئلا تبقى وحدها، فلما حلّ موعده حمل ثقله [أي حقائبه وأشياءه] إلى المطار فسلمه إلى الشركة وذهب إلى بيته على أن يأتي الفجر ليسافر. ورجا أمه أن توقظه قبيل الفجر، فلم توقظه حتى بقى لموعد قيام الطيارة ثلاث أرباع الساعة، فقام مسرعًا وأخذ سيارة وحثَّ السائق على أن يبلغ به المطار ويضاعف له الأجر، وجعل يدعو الله أن يلحق بالطيارة قبل أن تطير، ولما وصل وجد أنه لا يزال بينه وبين الموعد ربع ساعة، فدخل المقصف وقعد على الكرسي فنام، ونودي من المكبر على ركاب الطائرة أن يذهبوا إليها، فلم يسمع هذا النداء وما صحا حتى كانت الطيارة قد علت في الجو، وكنت معه، فجعل يعجب كيف دعا الله بهذا الإخلاص دعاء المضطر ولم يستجب له؟.
وجعلت أهون الأمر عليه، وأقول له: إن الله لا يردّ دعوة داعٍ مخلص مضطر أبدًا، ولكن الإنسان يدعو بالشر دعاءه بالخير، والله أعلم بمصلحته منه، وأهمّ الغضب والحزن عن إدراك ما أقول.
أفتدرون ماذا كانت خاتمة هذه القصة؟
لعل منكم من يذكر طيارة شركة الشرق الأوسط التي سقطت تلك السنة، وهلك من كان فيها؟ هذه هي الطيارة التي حزن على أنها فاتته. إن الإنسان قد يطلب من الله ما يضره، ولكن الله أرحم به من نفسه، وإذا كان الأب يأخذ ولده الصغير إلى السوق فيرى اللعبة فيقول: أريدها، فيشتريها له، ويبصر الفاكهة الجميلة، فيوصله إليه، ويطلب الشُّكولاته فيشتري له ما يطلبه فإذا مرَّ على الصيدلية ورأى الدواء الملفوف بالورقة الحمراء، فأعجبه لونه، فطلبه، هل يشتريه له وهو يعلم أنه يضره؟ إذا كان الأب وهو أعرف بمصلحة ولده لا يعطيه كل ما يطلب لأنه قد يطلب ما لا يفيده، فالله أرحم بالعباد من آبائهم ومن أمهاتهم ومن ذويهم» .... [كتاب الباب الذي لا يغلق في وجه سائل ص 1 - 20: الشيخ على الطنطاوي
(هذه قصه واقعيه حدثت في وقتنا الحاضر لمعلمة في مكه المكرمه 0(7/380)
كان هناك مجموعه من المعلمات تعاقدنا مع سائق يوصلهن من منازلهن للمدرسه والعكس وكان هذا السائق يعرف وقت صرف الرواتب وفي يوم ركبنا المعلمات معه ويعرف أنهن استلمن رواتبهن فأخذ السائق بتوصيل المعلمات واحد تلو الأخرى وبقيت معلمه واحده تنظر دورها أن يوصلها الى منزلها ولكنها تفأجأت أن السائق غير من طريق البيت واخذ يتجه إلى طريق جدة أخذت المعلمه تناديه يافلان يا فلان هذا ليس طريق المنزل لكن لم يرد عليها وبعد محاولات فاشله لاستعطافه أيقنت انه طمع فيها، أثناء قيادته السياره سجدت المعلمه على أرضية السياره وأخذت تدعو يامغيث 0000000
وخرجت هذه الدعوه من قلب مكروب!!!
وفجأه!!!!
ضرب السائق فرامل لأن هناك سياره اعترضته رفعت المعلمه رأسها تخيلوا من كان في السياره المعترضه
إنه أبوها وأخوها فرحت لوهله ثم انتابها خوف لوجودها في هذا المكان مع السائق ماذا سيقول أباها وأخاها عنها!!!
وفتح أبوها الباب واخذ بيد ابنته إلى السياره و انطلق مباشره دون التكلم مع السائق ولا مع ابنته ودارت الأفكار برأس
المعلمه؟؟ وصلوا إلى البيت نزلت المعلمه مسرعه نحو أمها حتى تشرح لها الوضع قبل دخول والدها تفأجأت بوجود والدها و اخوها على مائدة الغداء أماه م م م متى كيف اشلون كانو في السياره يامههههه وانا سبقتهم في الدخول
أجابت الأم هم موجودون منذ ساعتين. إذن من الذين كانوا في السياره؟؟؟
هل تعرفون من هم؟؟
إنهم الملائكة ومن رحمة الله بها انه جعلهم على صورة والدها واخوها حتى لا تخاف
يا الله انك أرحم بنا من امهاتنا
) (وهذه قصةٌ مُبْكِيَة
هذة قصة حقيقية حصلت أحداثها ما بين الرياض وعفيف لأن صاحبة القصة أقسمت على كل من يسمعها أن ينشرها للفائدة فتقول:
لقد كنت فتاة مستهترة اصبغ شعري بالأصباغ الملونة كل فترة وعلى الموضة وأضع المناكير ولا أكاد أزيلها إلا للتغيير، أضع عبايتي على كتفي أريد فقط فتنة الشباب لا إغوائهم، أخرج إلى الأسواق متعطرة متزينة ويزين إبليس لي المعاصي ما كبر منها وما صغر وفوق هذا كلة لم اركع لله ركعة واحدة بل لا اعرف كيف اصلي والعجيب أني مربية
أجيال معلمة يشار لها بعين احترام فقد كنت ادرس في احد المدارس البعيدة من مدينة الرياض فقد كنت اخرج من منزلي مع صلاة الفجر ولا أعود حتى صلاة العصر المهم أننا كنا مجموعة من المعلمات وكنت أنا الوحيدة التي لم أتزوج.(7/381)
فمنهن المتزوجة حديثا ومنهن الحامل ومنهن التي أخذت أجازة أمومة وأيضا كنت أنا الوحيدة التي نزع مني الحياء فقد كنت أحدث السائق وأمازحه كأنة أحد أقاربي ومرت الأيام وما زلت على طيشي وضلالي وفي صباح احد الايام استيقظت متأخرة وخرجت بسرعة وركبت السيارة وعندما التفتت لم أجد سواي في المقاعد الخلفية سألت السائق فقال فلانة مريضة وفلانة قد ولدت و. و. فقلت في نفسي ما دام الطريق طويل سأنام حتى نصل فنمت ولم استيقظ إلا من وعرة الطريق فنهضت خائفة ورفعت الستار ما هذا الطريق وما الذي صار؟؟؟؟ فلان أين تذهب بي؟؟؟؟؟؟؟ قال لي بكل وقاحة الآن ستعرفين فقد عرفت مخططه قلت له وكلي خوف يا فلان أما تخاف الله أتعلم عقوبة ما تنوي فعله وكلام كثير أريد أن أثنيه عما يريد فعلة وكنت اعلم أني هالكة لا محالة فقال بثقة إبليسية لعينة أما خفتي الله أنتي؟
وأنتي تضحكين بغنج وميوعة وتمازحينني؟؟؟؟ ولا تعلمين أنك فتنتيني وأني لن أتركك حتى آخذ ما أريد بكيت صرخت ولكن المكان بعيد ولا يوجد سوى أنا وهذا الشيطان المارد مكان صحراوي مخيف ... مخيف ... رجوتة وقد أعياني البكاء وقلت بيأس واستسلام إذاً دعني أصلي لله ركعتين لعل اللة يرحمني فوافق بعد أن توسلت علية نزلت من السيارة وكأني أقاد إلى ساحة الإعدام صليت ولأول مرة في حياتي صليتها بخوف وبرجاء والدموع تملأ مكان سجودي توسلت لله تعالى أن يرحمني ويتوب علي وصوتي الباكي يقطع هدوء المكان وفي لحظة وأنا أنهي صلاتي
تتوقعون مالذي حدث؟
وكانت المفاجأة ما الذي أراه؟
إنني أرى سيارة أخي قادمة نعم إنه أخي وقد قصد المكان بعينة لم أفكر بلحظة كيف عرف مكاني ولكني فرحت بجنون وأخذت اقفز ... وأنادي ... وذلك السائق ينهرني ولكني لم أبالي به .... من أرى أنه أخي الذي يسكن الشرقية وأخي الآخر الذي يسكن معنا فنزل أحدهما وضرب السائق بعصا غليظة وقال اركبي مع احمد في السيارة وأنا سآخذ هذا السائق واضعة في سيارة بجانب الطريق ... ركبت مع احمد والذهول يعصف بي وسألته هاتفةً كيف عرفتما بمكاني وكيف جئت من الشرقية؟ ومتى؟(7/382)
قال في البيت تعرفين كل شيء وركب محمد معنا وعدنا للرياض وأنا غير مصدقة لما يحدث وعندما وصلت إلى المنزل ونزلت من السيارة قالا لي أخوتي اذهبي إلى أمنا واخبريها الخبر وسنعود بعد قليل ونزلت مسرعة اخبر أمي دخلت عليها في المطبخ واحتضنتها وأنا ابكي واخبرها بالقصة قالت لي بذهول وأحمد فعلا في الشرقية وأخوك محمد ما زال نائما فذهبنا إلى غرفة محمد فوجدناه فعلا نائم أيقظته كالمجنونة لأساله ما الذي يحدث فأقسم بالله العظيم أنة لم يخرج من غرفتة ولا يعلم بالقصة؟
ذهبت إلى سماعة الهاتف تناولتها وأنا أكاد أجن فسالت أخي الآخر فقال ولكنني في عملي الآن *********** بعدها بكيت
وعرفت كل إلي حصل إنهما ملكين أرسلهما ربي لينقذني فحمدت الله تعالى على ذلك وكانت هي سبب هدايتي ولله
الحمد والمنة بعدها انتقلت الى منطقة عفيفة وابتعدت عن كل ما يذكرني بالماضي المليء بالمعاصي والذنوب.
[*] قال مالك بن دينار:
خرجت إلى الحج وفيما أنا سائر في البادية، إذ رأيت غراباً فى فمه رغيف، فقلت: هذا غراب يطير وفى فمه رغيف، إن له لشأناً، فتتبعته حتى نزل عند غار، فذهبت إليه فإذا بي أرى رجلا مشدوداً لا يستطيع فكاكاً، والرغيف بين يديه، فقلت للرجل: من تكون؟ قال: أنا من الحجاج وقد أخذ اللصوص مالي و متاعي وشدوني و ألقوني في هذا الموضع، كما ترى وصبرت على الجوع
أياماً ثم توجهت إلى ربى بقلبي وقلت: يا من قال في كتابه العزيز:
(أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء (فأنا مضطر فارحمني فأرسل الله إلى هذا الغراب بطعامي.
في هذا الموقف نرى حال الداعي قد أثر في إجابة دعوته فقد كان مضطراً فقد كل الأسباب ولم يبق له إلا باب السماء .. والله حرمه من الأسباب ليتعلم أن يتعلق قلبه برب الأسباب لا بالأسباب حتى إذا عاد للحياة الطبيعية و أصبحت الأسباب فى يده لم يلتفت إليها. .....
((قصة الحسن البصري مع الحجاج بن يوسف الثقفي)
بنى الحجاج بن يوسف الثقفى داراً بواسط بالعراق فدعا الناس للفرجة والدعاء بالبركة ..(7/383)
فذهب الحسن البصرى رضى الله عنه إلى هناك فوقف خطيباً في الناس ليلفت الناس عن الانبهار بالزخارف إلى كراهية الظلم الذى يمارسه الحجاج بن يوسف وقال فيه كلاما غليظا، فلما أشفق الناس عليه من بطش الحجاج قال: لقد أخذ الله ميثاق أهل العلم لتبيننه للناس ولا تكتمونه ... ثم انصرف ولما بلغ الحجاج ما حدث استشاط غيظاً ولام أتباعه على عدم الرد عليه و أخبرهم أنه سيجعله عبرة للناس و أرسل فى طلبه وأعد فى مجلسه النطع والسياف فظن الناس أنه قاتله وقبل أن يدخل الحسن البصرى إلى مجلس الحجاج
تمتم بكلمات فلما دخل عليه فوجىء الناس بأن الحجاج يحسن استقباله وأجلسه بجواره وطيب لحيته وسأله فى بعض المسائل ثم أذن له بالإنصراف ..
وما أن غادر الحسن البصرى المجلس حتى جرى الحاجب خلفه وسأله ناشدتك الله ما هذه الكلمات التى كنت تتمتم بها فإن الحجاج ما استدعاك ليطيب لحيتك؟
فقال الحسن: قلت: اللهم ياولى نعمتى وملاذى عند كربتى، اللهم اجعل عقوبته لى برداً وسلاما كما جعلت النارب ردا وسلاماًً على إبراهيم.
((قصة لمريض شفاه الله تعالى بالدعاء)
والقصة لصديق يعمل مهندسا كان قد أصيب بالتهاب رئوي أدى إلى خراج على الرئة ..
حاول الأطباء علاجه مدة شهرين كاملين وأعطوه كل أنواع المضادات بلا فائدة، حتى فقد وزنه واقترب من نهايته ..
وفى يوم من الأيام وبعد مغادرة الأطباء للمستشفى الذى كان يقيم فيه توجه إلى ربه وقال: يا من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء اشفني وعافني.
وأخذ يبتهل ويردد الدعاء حتى شعر أن شيئاً في صدره يريد أن يخرج وبعد سعال خفيف خرجت كرة من الصديد وضعها في إناء بجواره وشعر بتحسن تام بعدها لقد أصبح قادراً على الحركة مرة أخرى، وكانت المفاجأة حينما جاء الأطباء فى الغد ..
ووضع الطبيب سماعته على صدره فلم يسمع شيئا مما كان يسمعه ووجد ابتسامته تعلو وجهه وقبل أن ينطق الطبيب قال صديقي: لقد شفاني الله بالدعاء.
فكم من مرضى أقرباء لنا حاروا مع العلاجات والأطباء فلابد من أن ننصحهم مع أخذهم بأسباب الشفاء ومع استمرارهم فى الدواء أن يتضرعوا ويلجأوا إلى ربهم عز وجل بالدعاء (دعاء المضطر) والله هو الذى يجيب فهو قادر على كل شىء سبحانه ...
(14) دعوة المظلوم:(7/384)
(حديث ا بن عباس في الصحيحين) قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذٍ ابن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتُردُ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائمَ أموالهم، واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب.
(حديث خزيمة بن ثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اتقوا دعوة المظلوم فإنها تُحْمَلُ على الغمام يقول الله: و عزتي و جلالي لأنصرنك و لو بعد حين.
(حديث ابن عمر في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوة المظلوم مستجابة و إن كان فاجرا ففجوره على نفسه.
(والشواهد على إجابة دعوة المظلوم لا تكاد تحصر، ومنها ما جاء في قصة سعد بن أبي وقاص مع أهل الكوفة لما شكوه إلى عمر بن الخطاب.
قال أبو عوانة، وجماعة: حدثنا عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال:=شكا أهل الكوفة سعدًا إلى عمر فقالوا: إنه لا يحسن أن يصلي، فقال سعد: أما أنا فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله، صلاتي العشيِّ لا أخرم منها، أركد في الأوليين، وأحذف في الأخريين.
فقال عمر: ذلك الظن بك يا أبا إسحاق.
فبعث رجلاً يسألون عنه بالكوفة، فكانوا لا يأتون مسجدًا من مساجد الكوفة إلا قالوا خيرًا، حتى أتوا على مسجد لبني عبسٍ، فقال رجل يقال له أبو سعد: أما إذا نشدتمونا بالله فإنه كان لا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية، ولا يسير بالسرية.
(فقال سعد: اللهم إن كان كاذبًا فأعم بصره، وأطل عمره، وعَرِّضْهُ للفتن.
قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد يتعرض للإماء في السكك، فإذا قيل له: كيف أنت؟ قال: كبير مفتون أصابتني دعوة سعد. (1)
[*] وقال الذهبي:
يقال إن رجلاً وشى على بسر بن سعيد عند الوليد بن عبد الملك بأنه يعيبكم.
__________
(1) رواه أحمد 1/ 175_180، والبخاري (755)، في الأذان، باب وجوب قراءة الإمام والمأموم في الصلوات كلها، ومسلم (453) في الصلاة، باب القراءة في الظهر والعصر، والنسائي 2/ 217 باب الركود في الأوليين.(7/385)
قال: فأحضره وسأله، فقال: لم أَقُلْهُ؛ اللهم إن كنتُ صادقًا فأرني به آية، فاضطرب الرجل فمات. (1)
[*] (فيا أيها المظلوم (يا صاحب الحقِ المهضوم (يا من صار مَغْمُومَاً من جُرْحِهِ المَكْلُوم (يا من كان غَيْظُهُ من الظلم مَكْتُوم (يا من صار وَجُهُ من الأسى مَحْمُوم (هَوِّنْ عَلَيْك يا أخي، فإن الدنيا أمرها معلوم، فهي للظالم لا تدوم، (سيقتَصُ الله لك من فِعلهم المشئوم (وعند الله تَجْتَمِعُ الخصوم ويُقْتَصُ من الظَالِم للمَظلوم.
(15) دعوة الوالد على ولده:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاث دعوات مستجابات: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده.
وهذه النقطة من أخطر النقاط، وأفرد لها أسطراً، وجزءاً خاصاً لأهميتها، فهي تتعلق بانتكاسة الأولاد وفسادهم، من هدايتهم وصلاحهم، حيث يدور عليها صلاح الأبناء من عدمه، وهدايتهم من غوايتهم، فكم من الآباء والأمهات من لا يخاف الله تعالى في أبنائه وبناته، فلا تسمعه إلا داعياً عليهم، لاعناً لهم، مغضباً مزمجراً، عبوساً مكشراً، فربما أدى ذلك إلى انحرافهم عن جادة الطريق، وربما كان نتيجة لذلك بعدهم عن منهج الله تعالى، وبالتالي تتلقفهم أيدي العابثين، فيصبحوا في زمرتهم وينقلب الحال إلى أسوأ مما يُتصور ويُتوقع، ولا سيما ونحن في عصر انفتحت فيه الآفاق العلمية والعقدية والدينية والأسرية، بسبب انتشار الفضائيات ووسائل الإعلام المختلفة، حتى أصبح العالم وكأنه حجرة واحدة، فلا يسوغ لولي الأمر أن يدعو على أبنائه، بل الواجب عليه أن يُكثر من الدعاء لهم، حتى يكونوا صلحاء علماء دعاة يستفيد منهم مجتمعهم، وتستفيد منهم أمتهم.
__________
(1) سير أعلام النبلاء للذهبي 4/ 595.(7/386)
وهناك آباء على العكس من ذلك يحبون أبناءهم ويعاملونهم معاملة الأخ والصديق، لكن لا يخلو لسانه من دعاء عليهم حال غضبه، وهذه هي الطامة الكبرى، والفاجعة العظمى، فكم من ابنٍ ضل طريق الصواب، وأخطأ سبيل الهداية بسبب دعاء والده أو والدته عليه، وكذلك الفتاة، ويدل على خطورة الدعاء على الأبناء، وأنه قد يكون فتنة لهم، هذا الحديث، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَانَ جُرَيْجٌ يَتَعَبَّدُ فِي صَوْمَعَةٍ فَجَاءَتْ أُمُّهُ، قَالَ حُمَيْدٌ: فَوَصَفَ لَنَا أَبُو رَافِعٍ صِفَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ لِصِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّهُ حِينَ دَعَتْهُ كَيْفَ جَعَلَتْ كَفَّهَا فَوْقَ حَاجِبِهَا ثُمَّ رَفَعَتْ رَأْسَهَا إِلَيْهِ تَدْعُوهُ، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ أَنَا أُمُّكَ كَلِّمْنِي فَصَادَفَتْهُ يُصَلِّي فَقَالَ اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلَاتِي فَاخْتَارَ صَلَاتَهُ فَرَجَعَتْ ثُمَّ عَادَتْ فِي الثَّانِيَةِ فَقَالَتْ يَا جُرَيْجُ أَنَا أُمُّكَ فَكَلِّمْنِي قَالَ اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلَاتِي فَاخْتَارَ صَلَاتَهُ فَقَالَتِ اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا جُرَيْجٌ وَهُوَ ابْنِي وَإِنِّي كَلَّمْتُهُ فَأَبَى أَنْ يُكَلِّمَنِي اللَّهُمَّ فَلَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ الْمُومِسَاتِ قَالَ وَلَوْ دَعَتْ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتَنَ لَفُتِنَ قَالَ وَكَانَ رَاعِي ضَأْنٍ يَأْوِي إِلَى دَيْرِهِ قَالَ فَخَرَجَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْقَرْيَةِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا الرَّاعِي فَحَمَلَتْ فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَقِيلَ لَهَا مَا هَذَا قَالَتْ مِنْ صَاحِبِ هَذَا الدَّيْرِ قَالَ فَجَاءُوا بِفُؤُوسِهِمْ وَمَسَاحِيهِمْ فَنَادَوْهُ فَصَادَفُوهُ يُصَلِّي فَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ قَالَ فَأَخَذُوا يَهْدِمُونَ دَيْرَهُ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ نَزَلَ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُ سَلْ هَذِهِ قَالَ فَتَبَسَّمَ ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَ الصَّبِيِّ فَقَالَ مَنْ أَبُوكَ قَالَ أَبِي رَاعِي الضَّأْنِ فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْهُ قَالُوا نَبْنِي مَا هَدَمْنَا مِنْ دَيْرِكَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قَالَ لَا وَلَكِنْ أَعِيدُوهُ تُرَابًا كَمَا كَانَ ثُمَّ عَلَاهُ " [أخرجه البخاري ومسلم واللفظ له].(7/387)
وللفائدة: فالذين تكلموا في المهد خمسة، منهم من ذُكر في الحديث التالي:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ عِيسَى وَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ كَانَ يُصَلِّي جَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ فَقَالَ أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي فَقَالَتِ اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ فَتَعَرَّضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ وَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَقَالَتْ مِنْ جُرَيْجٍ فَأَتَوْهُ فَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ وَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى ثُمَّ أَتَى الْغُلَامَ فَقَالَ مَنْ أَبُوكَ يَا غُلَامُ قَالَ الرَّاعِي قَالُوا نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ لَا إِلَّا مِنْ طِينٍ وَكَانَتِ امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنًا لَهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ فَقَالَتِ اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ فَتَرَكَ ثَدْيَهَا وَأَقْبَلَ عَلَى الرَّاكِبِ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهَا يَمَصُّهُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَصُّ إِصْبَعَهُ ثُمَّ مُرَّ بِأَمَةٍ فَقَالَتِ اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ فَتَرَكَ ثَدْيَهَا فَقَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا فَقَالَتْ لِمَ ذَاكَ فَقَالَ الرَّاكِبُ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ وَهَذِهِ الْأَمَةُ يَقُولُونَ سَرَقْتِ زَنَيْتِ وَلَمْ تَفْعَلْ " [متفق عليه واللفظ للبخاري].
(فخطر الدعاء على الأبناء عظيم، فهو مستجاب وباب القبول له مفتوح.
وكم هم الآباء الذين يشتكون من مشاكل أبنائهم من انحراف وسوء خلق، وضعف دين، وعدم توفيق في العمل والدراسة إلى غير ذلك من الأمور، وإذا سألناه: هل تدعو لهم أم تدعو عليهم؟ قال: أدعو عليهم.(7/388)
فكيف يريد مثل هذا الأب، أو تلك الأم السعادة والهناء والتوفيق والصلاح للأبناء وهم يدعون عليهم، وقد سبقت الإشارة إلى التحذير من الدعاء على الولد لأن الدعاء والحالة تلك مستجاب، ألا فليتق الله أولئك الآباء والأمهات الذين لا تفتر ألسنتهم من الدعاء على أبنائهم، وليعلموا أنهم سبب من أسباب ضياع أبنائهم، وسبب لفسادهم، وسبب لانتكاستهم، بل ربما كانوا سبباً في سوء خاتمتهم والعياذ بالله.
جاء رجل إلى عبد الله بن المبارك رحمه الله، يشكو إليه سوء خلق ولده، فقال له: أدعوت عليه، قال الأب: نعم، قال: أنت أفسدته.
وقصة الرجل الذي جاء إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يشكو أن ولده صفعه على وجهه، فقال: هل علمته القرآن؟ قال: لا، قال: هل علمته السنة؟ قال: لا، قال: هل علمته ألاق العلماء والصالحين، قال: لا، قال: حسبك ثور فضربك.
فالتربية السليمة الصحيحة وفق منهج الله تعالى، ووفق سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي المخرج، وهي الملجأ بإذن الله تعالى من هذه الكوارث والفتن التي تحدث في البيوت جراء انحراف الأبناء والبنات، فيجب على كل أب وأم، أن يكون لهم جلسة مع الأبناء جميعاً صغيرهم وكبيرهم، يتم فيها تداول الأحاديث حول التربية الإسلامية، وقراءة سير العلماء والصالحين والمربين، والاستفادة من الكتب الخاصة بهذا الشأن.
(30) دعوة المسافر:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاث دعوات مستجابات: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده.
[*] قال ابن رجب:
"والسفر بمجرده يقتضي إجابة الدعاء ... ومتى طال السفر كان أقرب إلى إجابة الدعاء؛ لأنه مظنة حصول انكسار النفس بطول الغربة عن الأوطان وتحمل المشاق، والانكسار من أعظم أسباب إجابة الدعاء" (1).
(16) دعاء الوالد لولده:
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاث دعوات لا تُرَدُّ: دعوة الوالد لولده، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر.
(17) دعوة المظلوم:
__________
(1) - جامع العلوم والحكم (1/ 269).(7/389)
(حديث ا بن عباس في الصحيحين) قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذٍ ابن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتُردُ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائمَ أموالهم، واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب.
(حديث خزيمة بن ثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اتقوا دعوة المظلوم فإنها تُحْمَلُ على الغمام يقول الله: و عزتي و جلالي لأنصرنك و لو بعد حين.
(حديث ابن عمر في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوة المظلوم مستجابة و إن كان فاجرا ففجوره على نفسه.
(والشواهد على إجابة دعوة المظلوم لا تكاد تحصر، ومنها ما جاء في قصة سعد بن أبي وقاص مع أهل الكوفة لما شكوه إلى عمر بن الخطاب.
قال أبو عوانة، وجماعة: حدثنا عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال:=شكا أهل الكوفة سعدًا إلى عمر فقالوا: إنه لا يحسن أن يصلي، فقال سعد: أما أنا فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله، صلاتي العشيِّ لا أخرم منها، أركد في الأوليين، وأحذف في الأخريين.
فقال عمر: ذلك الظن بك يا أبا إسحاق.
فبعث رجلاً يسألون عنه بالكوفة، فكانوا لا يأتون مسجدًا من مساجد الكوفة إلا قالوا خيرًا، حتى أتوا على مسجد لبني عبسٍ، فقال رجل يقال له أبو سعد: أما إذا نشدتمونا بالله فإنه كان لا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية، ولا يسير بالسرية.
(فقال سعد: اللهم إن كان كاذبًا فأعم بصره، وأطل عمره، وعَرِّضْهُ للفتن.
قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد يتعرض للإماء في السكك، فإذا قيل له: كيف أنت؟ قال: كبير مفتون أصابتني دعوة سعد. (1)
__________
(1) رواه أحمد 1/ 175_180، والبخاري (755)، في الأذان، باب وجوب قراءة الإمام والمأموم في الصلوات كلها، ومسلم (453) في الصلاة، باب القراءة في الظهر والعصر، والنسائي 2/ 217 باب الركود في الأوليين.(7/390)
(وعن سعد أيضاً: أن رجلاً قام يسب علياً رضي الله عنه، فدافع سعد عن علي، واستمر الرجل في السب والشتم، فقال سعد: اللهم اكفنيه بما شئت.
فانطلق بعيرٌ من الكوفة فأقبل مسرعاً، لا يلوي على شيء، وأخذ يدخل من بين الناس حتى وصل إلى الرجل، ثم داسه بخفيه، حتى قتله أمام مشهد ومرأى من الناس.
[*] وقال الذهبي:
يقال إن رجلاً وشى على بسر بن سعيد عند الوليد بن عبد الملك بأنه يعيبكم.
قال: فأحضره وسأله، فقال: لم أَقُلْهُ؛ اللهم إن كنتُ صادقًا فأرني به آية، فاضطرب الرجل فمات. (1)
(18) دعوة الوالد على ولده:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاث دعوات مستجابات: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده.
(19) دعوة المسافر:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاث دعوات مستجابات: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده.
[*] قال ابن رجب:
"والسفر بمجرده يقتضي إجابة الدعاء ... ومتى طال السفر كان أقرب إلى إجابة الدعاء؛ لأنه مظنة حصول انكسار النفس بطول الغربة عن الأوطان وتحمل المشاق، والانكسار من أعظم أسباب إجابة الدعاء" (2).
(20) دعاء الوالد لولده:
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاث دعوات لا تُرَدُّ: دعوة الوالد لولده، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر.
(21) من بات طاهرا على ذكر الله:
(حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من مسلم يبيت على ذكر الله طاهرا، فيتعار من الليل، فيسأل الله خيرا من الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه.
(22) عند شرب ماء زمزم مع النية الصادقة.
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجة):أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ماء زمزم لما شُرب له.
(23) عند دعاء الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.
__________
(1) سير أعلام النبلاء للذهبي 4/ 595.
(2) - جامع العلوم والحكم (1/ 269).(7/391)
(حديث أنس في صحيح السنن الأربعة) قال سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.
(حديث بريدة في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا يقول: اللهم إني أسألك أني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.
[*] (الأماكن الفاضلة التي يستجاب فيها الدعاء:
(أولاً الأماكن الفاضلة التي يستجاب فيها الدعاء جملةً:
(1) الملتَزَم وهو بجوار الحجر الأسود:
(2) التعلق بأستار الكعبة من غير تمسح أو طلب تبرّك:
(3) الدعاء في الطواف:
(4) الدعاء على الصفا والمروة:
(5) والدعاء يوم عرفة بعرفة:
(6) الدعاء عند المشعر الحرام:
(7) الدعاء عند رمي الجمرة الدنيا والوسطى:
(8) المسجد الحرام على وجه الخصوص، ومكة على وجه العموم.
(ثانياً الأماكن الفاضلة التي يستجاب فيها الدعاء تفصيلاً:
(1) الملتَزَم وهو بجوار الحجر الأسود:
الملتَزَم وهو بجوار الحجر الأسود، وسمي كذلك لأن الناس يلتزمونه بصدورهم وأيديهم، وهو ما بين الحجر الأسود إلى باب الكعبة.
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) قال: كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يُلزِق صدره ووجهه بالمُلتَزَم ... .
[*] وقال ابن عباس – رضي الله عنهما –:
الملتَزم ما بين الركن والباب (1).
وعنه – رضي الله عنه – أنه كان يَلْزَمُ ما بين الركن والباب، وكان يقول: ما بين الركن والباب يدعى المُلْتَزَم، لا يَلْزَم ما بينهما أحد يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه (2).
[*] وعن مجاهد أنه قال:
كانوا يَلْتَزِمُون ما بين الركن والباب ويَدْعُون (3).
[*] وقال محمد بن عبد الرحمن العبدي:
رأيت عكرمة بن خالد، وأبا جعفر وعكرمة مولى ابن عباس، يلتزمون ما بين الركن وباب الكعبة (4)
(2) التعلق بأستار الكعبة من غير تمسح أو طلب تبرّك:
__________
(1) - رواه عبد الرزاق (5/ 76) و ابن أبي شيبة (3/ 236)، ورواه مالك في الموطأ (1/ 424) بلاغاً.
(2) - رواه البيهقي في الكبرى (5/ 164)
(3) - رواه ابن أبي شيبة (3/ 236).
(4) - رواه ابن أبي شيبة (3/ 236).(7/392)
التعلق بأستار الكعبة من غير تمسح أو طلب تبرّك فلا حرج فيه، وكان التعلّق معروفاً، وهو يدلّ على اللجوء والاستعاذة بالله.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: دخل رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاء رجل فقال: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة! فقال: اقتلوه ... .
وذلك أنه قتل رجلاً من الأنصار ثم ارتد ولحق بالمشركين (1)
وقال – عليه الصلاة والسلام – في أربعة نفر: اقتلوهم وأن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة (2)
(وهذا يدلّ على أن التعلّق بأستار الكعبة له أصل، وكان معروفاً، ولم يُنكره النبي صلى الله عليه على آله وسلم.
إلا أنه لا يُتعلّق بأستار الكعبة تبركاً.
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله –:
ولما كانت الكعبة بيت الله الذي يُدعى ويُذكر عنده، فإنه سبحانه يستجار به هناك، وقد يُستمسك بأستار الكعبة ... (3).
(3) الدعاء في الطواف:
الطواف صلاة إلا أن الله أباح فيه الأكل والكلام، فهو يشبه الصلاة من حيث الخشوع والخضوع لله تعالى، واحترام الموقف الذي يقفه العبد أمام الله عز وجل، فيقضي وقت الطواف بقراءة القرآن، والأذكار، والدعاء.
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الطوافُ حول البيت مثلُ الصلاة إلا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير.
__________
(1) - يُنظر لذلك التمهيد لابن عبد البر (6/ 167).
(2) - رواه النسائي (7/ 105) والضياء في المختارة (3/ 248) والحاكم (2/ 62) وابن أبي شيبة (7/ 404)
(3) - مجموع الفتاوى (15/ 227).(7/393)
وهنا أنبه إخواني المسلمين بأن يحذروا من تلك الكتيبات التي تحتوي على أدعية خاصة بكل شوط من أشواط الطواف أو السعي، وكذلك الحذر من استخدام واستئجار المطوفين، فكل تلك الأعمال بدعية لا أصل لها في الشريعة، فالإنسان يدعو الله عز وجل بما شاء من الدعاء، وهل هناك أعظم من سؤال الله الجنة، والاستعاذة به من النار، وأن يثبت الله العبد على هذا الدين حتى يلقى ربه تبارك وتعالى، ولا داعي أبداً لاستعمال كتبات أو مطوفين، فلن يكون المطوف أحرص من العبد على نفسه، ولن يكون المطوف أخلص في الدعاء للعبد من نفسه، فلا بد من أخذ الحيطة والحذر من ذلك، ويدعو العبد بما فتح الله عليه من الدعاء وليس بلازم أن يحفظ أدعية يدعو بها، بل ربما كان بعضها غير مفهوم ولا معلوم، فلربما دعا المسلم على نفسه، أو أمن على دعاء هو عليه وليس له.
(4) الدعاء على الصفا والمروة:
الدعاء على الصفا والمروة: يكون باستقبال البيت في الدعاء بعد التكبير ثلاثاً، ثم يقول الذكر الوارد في السنة ثلاثاً، ويدعو بين ذلك.
[*] قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:
يقول الله أكبر وهو رافع يديه كرفعهما في الدعاء ثلاث مرات، ويقول ما ورد ومنه: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده " ثم يدعو بما أحب، ثم يعيد الذكر مرة ثانية، ثم يدعو بما أحب، ثم يعيد الذكر مرة ثالثة، وينزل متجهاً إلى المروة. " الشرح الممتع " (7/ 268).
ويكون الدعاء في ابتداء الأشواط لا في انتهائها، إذ ليس ثمة دعاء على المروة عند نهاية الأشواط.
[*] قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:
وبه نعرف أيضاً أن الدعاء على الصفا والمروة يكون في ابتداء الأشواط لا في انتهائها، وأن آخر شوط على المروة ليس فيه دعاء؛ لأنه انتهى السعي، وإنما يكون الدعاء في مقدمة الشوط كما كان التكبير أيضاً في الطواف في مقدمة الشوط، وعليه فإذا انتهى من السعي عند المروة ينصرف، وإذا انتهى من الطواف عند الحجر ينصرف، ولا حاجة إلى التقبيل، أو الاستلام، أو الإشارة، والذي نعلل به دون أن يعترض معترض أن نقول هكذا فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم. " الشرح الممتع " (7/ 352)(7/394)
(حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال: فلما دنا من الصفا قرأ! < إن الصفا والمروة من شعائر الله >! أبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا.
[*] قال ابن عبد البر:
وفيه - أي حديث جابر- أن الصفا والمروة موضع دعاء تُرجى فيه الإجابة (1).
بالإضافة إلى عرفة فإنها من المواطن التي يستجاب فيها الدعاء، فهي جمعت بين الزمان والمكان.
(5) الدعاء يوم عرفة بعرفة:
(الدعاء يوم عرفة بعرفة يستمر إلى غروب الشمس، وعلى الحاج أن يكثر من الدعاء في هذا اليوم.
(حديث عبد الله ابن عمرو الثابت في صحيح الترمذي) أن النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
(6) الدعاء عند المشعر الحرام:
وذلك بمزدلفة، قال تعالى: " فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين " [البقرة 198]،
(حديث بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أنه كَانَ يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ، فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِاللَّيْلِ، فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ مَا بَدَا لَهُمْ، ثُمَّ يَدْفَعُونَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ، وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ مِنًى لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا قَدِمُوا رَمَوُا الْجَمْرَةَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: " أَرْخَصَ فِي أُولَئِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
(حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال جابر رضي الله عنه عن حجة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة، فدعاه وكبَّره، وهلَّله، ووحَّده فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس“ الحديث.
__________
(1) - التمهيد (2/ 91).(7/395)
والدعاء عند المشعر الحرام يكون بعد صلاة الفجر ليلة عيد الأضحى لمن كان حاجاً، كما مرّ في حديث جابرِ بنِ عبدِ اللّهِ – رضي الله عنهما –قال: ثُمّ ركبَ القصواءَ حتّى وقفَ على المَشعرِ الحرامِ، واستقبلَ القبلةَ، فدعا اللّهَ، وكبّرَهُ، وهلّلَهُ، ووحّدَهُ، حتى أسفر جداً
(7) الدعاء عند رمي الجمرة الدنيا والوسطى:
ويكون ذلك في أيام التشريق، ولا يشرع الدعاء بعد رمي الجمرة الكبرى لا في يوم النحر ولا بعده.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبر على إثر كل حصاة، ثم يتقدم حتى يسهل، فيقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلا، ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل، ويقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلا، ويدعو ويرفع يديه، ويقوم طويلا، ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرف، فيقول: هكذا رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعله.
(8) المسجد الحرام على وجه الخصوص، ومكة على وجه العموم.
مكة – شرّفها الله وحرسها – هي البلد الأمين، وفيها بيت الله، ولذا تُضاعف الحسنات في الحرم، وتعظم السيئات فيه.
وكانت قريش تُعظِّم البيت والدعاء عنده.(7/396)
ولذا لما صلّى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يجيء بِسَلَى جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم (1) فجاء به فنظر حتى إذا سجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضعه على ظهره بين كتفيه. قال ابن مسعود: وأنا أنظر لا أغني شيئا لو كانت لي مَنَعَة. قال: فجعلوا يضحكون ويحيل (2) بعضهم على بعض ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ساجد لا يرفع رأسه، حتى جاءته فاطمة فطرحت عن ظهره فرفع رأسه ثم قال: اللهم عليك بقريش – ثلاث مرات – فشقّ عليهم إذ دعا عليهم. قال: وكانوا يَرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة (3). ثم سمّى: اللهم عليك بأبي جهل وعليك بعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط – وعد السابع فلم نحفظه – قال ابن مسعود: فوالذي نفسي بيده لقد رأيت الذين عد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صرعى في القليب قليب بدر (4).
[*] قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله –:
وفي الحديث تعظيم الدعاء بمكة عند الكفار، وما ازدادت عند المسلمين إلاّ تعظيماً، وفيه معرفة الكفار بِصِدْقِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لخوفهم من دعائه، ولكن حملهم الحسد على ترك الانقياد له (5).
وأما بقية المساجد فللأحاديث الواردة في فضل الدعاء بين الأذان والإقامة، والغالب في حال المسلم أنه يكون في المسجد في هذا الوقت.
والذي يظهر أن الوقت والمكان اجتمعا في الدعاء بين الأذان والإقامة. والله أعلم.
(أسباب إجابة الدعاء:
لإجابة الدعاء أسباب عديدة، وهاك أسباب إجابة الدعاء جملةً وتفصيلا:
[*] (أولاً أسباب إجابة الدعاء جملةً:
(1) الإخلاص لله تعالى حال الدعاء:
(2) قوة الرجاء، وشدة التحري في انتظار الفرج:
(3) التوبة من المعاصي:
__________
(1) - هو عقبة بن أبي مُعيط - لعنه الله -.
(2) - قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/ 417): " ويُحيل بعضهم " كذا هنا بالمهملة من الإحالة، والمراد أن بعضهم ينسب فعل ذلك إلى بعض بالإشارة تهكما، أي يثب بعضهم على بعض من المرح والبطر، ولمسلم من رواية زكريا " ويَميل " بالميم، أي من كثرة الضحك.
(3) - قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/ 418): ويمكن أن يكون ذلك مما بقي عندهم من شريعة إبراهيم عليه السلام.
(4) - رواه البخاري. كتاب الوضوء. باب إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته ... (1/ 65).
(5) - فتح الباري (1/ 419)(7/397)
(4) السلامة من الغفلة:
(5) اغتنام الفرص:
(6) كثرة الأعمال الصالحة:
(7) التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض:
(8) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
(9) بر الوالدين:
(10) الصبر وعدم الاستعجال:
(11) أن يتحرى الحلال في مطعمه:
(12) حسن الظن بالله تعالى:
(13) حضور القلب:
(14) اليقين والثقة بالله تعالى:
[*] (ثانيا أسباب إجابة الدعاء تفصيلا:
(1) الإخلاص لله تعالى حال الدعاء:
فهو السبب الأعظم لإجابة الدعاء، فكلما اشتد الإخلاص وقوي كلما كانت الإجابة أولى وأحرى، ولا أدل على ذلك من دعاء نبي الله ذي النون _ عليه السلام _ وهو في بطن الحوت، ودعاء أصحاب الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة.
[*] قال ابن عقيل:
يقال: لا يستجاب الدعاء بسرعة إلا لمخلص أو مظلوم. (1)
(فالإخلاص هو الذي تدور عليه دوائر الإجابة.
قال تعالى: (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) [الأعراف / 29]
فمن دعا ربه غير مخلص له فهو حقيق بأن لا يجاب إلا أن يتفضل الله عليه وهو ذو الفضل العظيم.
والإخلاص فيه ألا يدعو إلا الله سبحانه، فإن الدعاء عبادة من العبادات، بل هو من أشرف الطاعات وأفضلِ القربات، ولا يقبل الله من ذلك إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم، قال الله تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً)
[الجن /18]
، وقال تعالى: (فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [غافر /14]، و عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)) (2).
[*] قال ابن رجب:
"هذا منزع من قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة /5]
، فإن السؤال هو دعاؤه والرغبة إليه، والدعاء هو العبادة".
وقال: "واعلم أن سؤال الله عز وجل دون خلقه هو المتعين, لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار، وفيه الاعتراف بقدرة المسئول على رفع هذا الضر ونيل المطلوب، وجلب المنافع ودرء المضار، ولا يصلح الذل والافتقار إلا لله وحده لأنه حقيقة العبادة" (3).
__________
(1) كتاب الفنون لابن عقيل الحنبلي 2/ 750.
(2) رواه أحمد (1/ 293، 307)، والترمذي (2511)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7957).
(3) - جامع العلوم والحكم (ص180، 181)(7/398)
{تنبيه}: (إن الدعاء حال الإخلاص أبلغُ في حصول المقصود، وأقرب إلى انكسار القلب، وصدقِ اللجؤ إلى الله سبحانه وتعالى. لذا كانت دعوة المضطر مستجابَة:
(أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) [النمل /62].
(2) قوة الرجاء، وشدة التحري في انتظار الفرج:
فكلما قوي الرجاء، واشتدت الحاجة، وتطلعت النفوس للإجابة، وبلغ بها انتظار الفرج ذروته كلما جاء الفرج، وأقبل اليسر، وزالتالغموم، وانجابت الهموم؛ فإن مع العسر يسرًا، وإن مع الشدة فرجًا.
فهذا نبي الله يعقوب _ عليه السلام _ قال أول ما صنع أبناؤه بأخيهم يوسف _ عليه السلام _ ما صنعوا: (بَلْ سَوّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىَ مَا تَصِفُونَ) [يوسف / 18]
(وعندما فقد بنيامين أخا يوسف، وفقد ابنه الأكبر الذي قال
(فَلَنْ أَبْرَحَ الأرْضَ حَتّىَ يَأْذَنَ لِيَ أَبِيَ أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) [يوسف / 80]
قال: [بَلْ سَوّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [يوسف / 83]
(وعندما اشتد به البلاء، وبلغ به الكرب المنتهى، وعوتب على تذكر يوسف _ عليه السلام _ وطُلِبَ منه أن يسلو عنه، ويترك ما هو فيه _ قال: (إِنّمَآ أَشْكُو بَثّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)
[يوسف / 86]
(وعندما عظم بلاؤه، واشتد رجاؤه قال:
(يَبَنِيّ اذْهَبُواْ فَتَحَسّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رّوْحِ اللّهِ إِنّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رّوْحِ اللّهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف / 87]
فماذا كانت النتيجة؟
(لقد أجاب الله دعاء عبده، وكان عند حسن ظنه به؛ فلقد عجل فرجه، ونفس كربته، وأفرح قلبه، وجمعه بأحبته، وفلذات كبده، هذا في الدنيا، وإن له في الآخرة للحسنى.
[*] قال الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي معلقًا على تلك القصة:
وفي هذا دليل على أن أصفياء الله إذا نزلت بهم الكوارث والمصيبات _ قابلوها في أول الأمر بالصبر، والاستعانة بالمولى، وعندما ينتهي، وتبلغ الشدة منتهاها _ يقابلونها بالصبر، والطمع في الفرج والرجاء، فيوفقهم الله للقيام بعبوديته في الحالتين.(7/399)
ثم إذا كشف عنهم البلاء قابلوا ذلك بالشكر والثناء على الله، وزيادة المعرفة بلطفه. (1)
(3) التوبة من المعاصي:
كما قال تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبّكُمْ إِنّهُ كَانَ غَفّاراً * يُرْسِلِ السّمَآءَ عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لّكُمْ جَنّاتٍ وَيَجْعَل لّكُمْ أَنْهَاراً) [نوح 10: 12]
قيل لسفيان: لو دعوت الله؟ قال: إن ترك الذنوب هو الدعاء. (2)
أخي: إن أكثر أولئك الذي يشكون من عدم إجابة الدعاء آفتهم المعاصي فهي خلف من كل مصيبة. .
[*] قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه):
بالورع عما حرم الله يقبل الله الدعاء والتسبيح.
[*] قال بعض السلف:
لا تستبطئ الاجابة وقد سددت طرقها بالمعاصي.
[*] وذكر الإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل رضي الله عنهما في كتاب الزهد لأبيه: أن بني إسرائيل قد أصابهم بلاء، فخرجوا إلى الصعيد يسألون الله جل وعلا، فأوحى الله إلى نبيهم وقال: قل لهم: الآن خرجتم إلى الصعيد بأبدان نجسة -نجستها المعاصي والذنوب- ورفعتم إلي أكفاً قد سفكتم بها الدماء، وملأتم بيوتكم من الحرام، الآن وقد اشتد غضبي عليكم، فلن تزدادوا مني إلا بعداً.
اخي المسلم: ها هي المعاصي قد عمت وتطاير شررها في كل مكان. وقد غفل الغافلون .. وهم في غيهم منهمكون.
ولكن اذا نزلت المصيبة صاروا يجارون بدعاء الله تعالى فما اتعسهم وما اقل نصيبهم من اجابة الدعوات.
اخي المسلم: فالتوبة ... . التوبة ... .. ولتنظف طريق الدعاء من الأوساخ.
ليجد دعاؤك طريقه الى الاستجابة ... والا كيف ترجو اخي الاجابة اذا كنت ممن يبارز ربه تعالى في ليلك ونهارك؟
أخي: إن مثل العاصي في دعائه كمثل رجل حارب ملكا من ملوك الدنيا ونابذه العداوة زمنا طويلا، وجاءه مرة يطلب إحسانه ومعروفة. فما ظنك أخي بهذا الرجل؟ اتراه يُدرك مطلوبه؟ كلا فانه لن يدرك مطلوبه الا اذا صفا الود بينه وبين ذلك الملك.
فذاك أخي مثل العاصي الذي يبيت ويصبح وهو في معصية الله، ثم اذا وقعت به شده يرجو من الله ان يجيب دعاءه. فاحذر اخي عاقبة المعاصي ... فانك لن تسعين على إدراك الدعاء المستجاب بشيء أقوى من ترك المعاصي .. فترك المعاصي مفتاح لباب الدعاء المستجاب ..
أعانني الله وإياك لطاعته ... و عصمني وإياك من معاصية ومساخطه
__________
(1) فوائد مستنبطة من قصة يوسف لابن سعدي، 1/ 142 من المجموعة الخامسة من مؤلفات ابن سعدي.
(2) جامع العلوم والحكم 1/ 276.(7/400)
{تنبيه}: (قد يكون العبد مثقلاً بالذنوب والمعاصي، فيرى أنه من العار عليه، ومن التعدي على ربه أن يدعوه، وهذا خطأ محض، فأكثر العباد افتقاراً إلى الله تعالى أهل الذنوب والمعاصي، هم أكثر من يحتاج إلى اللجوء إلى الله عز وجل بأن ينقذهم منها قبل أن يموتوا على فعلها فتكون الخاتمة سيئة والعاقبة وخيمة.
فقد يأتي الشيطان إلى العبد ويسول له ويلقي في روعه أنه مثقل بالذنوب، وأن نفسه أحقر من أن يسأل الله تعالى أن يثبته ويعصمه من ذلك، وهذا تلبيس من إبليس، يريد به القضاء على العبد وأن يغرقه في لجج المعاصي والآثام، حتى يلقى الله تعالى وهو مثقل بها، فمن عرف ذلك فعليه أن يدحر عدوه ويخذله ولا يمكنه من نفسه، بل عليه أن يجد في الدعاء ويكثر منه، ولا تثنيه معاصيه وذنوبه عن الدعاء والإلحاح إلى الله عز وجل في ذلك، يقول [*] سفيان بن عيينة رحمه الله:
" لا يمنعن أحداً من الدعاء من الدعاء ما لم يعلم في نفسه ـ يعني من التقصير ـ فإن الله قد أجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين قال: " رب أنظرني إلى يوم يبعثون "، ولهذا جاء في الحديث القدسي:" أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني " [أخرجه مسلم].
(4) السلامة من الغفلة:
وذلك بحضور القلب وخشوعه، واستحضاره لمعاني الدعاء، فذلك من أعظم أسباب الإجابة.
أما استيلاء الغفلة، واستحكام الشهوة فمن أعظم موانع الإجابة.
[*] قال يحيى بن معاذ:
من جمع الله عليه قلبه في الدعاء لم يردَّه. (1)
[*] قال ابن القيم تعليقًا على ذلك:
قلت: إذا اجتمع عليه قلبه، وصدقت ضرورته وفاقته، وقوي رجاؤه _ لا يكاد يرد دعاؤه. (2)
(5) اغتنام الفرص:
وذلك بتحري أوقات الإجابة، والمبادرة لاغتنام الأحوال، والأوضاع، والأماكن التي هي مظان إجابة الدعاء.
(6) كثرة الأعمال الصالحة:
فالأعمال الصالحة سبب عظيم لرفع الدعاء وتقبله؛ فالدعاء من الكلمِ الطيب، والكلمُ الطيب يصعد إلى الله، ويحتاج إلى عمل صالح يرفعه.
قال تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطّيّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر / 10]
وكما في قصة أصحاب الغار؛ فإن أعمالهم الصالحة شفعت لهم، وكانت سببًا في إجابة دعائهم.
[*] قال وهب بن منبه:
مثل الذي يدعو بغير عمل كمثل الذي يرمي بغير وتر.
__________
(1)، (4) ... الفوائد لابن القيم ص73.(7/401)
وعنه قال: العمل الصالح يبلغ الدعاء، ثم تلا قوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطّيّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر / 10]
(7) التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلىَّ عبدي بشيءٍ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليِّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله الذي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنَّه، وما ترددتُ عن شيءٍّ أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته.
(8) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
فهذا من أعظم أسباب إجابة الدعاء؛ لأنه من أعظم الأعمال الصالحة، ولأن تركه موجب لرد الدعاء وعدم الإجابة.
(حديث حذيفة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لتأمُرنّ بالمعروف و لتنهَوْنَّ عن المنكر أو يبعث الله عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لهم.
[*] قال أهل العلم:
"لذا يمكن الجزم بأن ترك القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مانع من موانع إجابة الدعاء، فعلى كل مسلم يرغب بصدق أن يكون مستجاب الدعوة القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب طاقته وجهده" (1).
(9) بر الوالدين:
وقد مر بنا قصة أصحاب الغار وأن فيهم رجلاً كان بارًّا بوالديه، وكذلك دعاء الولد البار لوالديه.
هذه بعض أسباب إجابة الدعاء، وبالجملة فالإتيان بشرائط الدعاء، وآدابه، وتجنب ما يخالف ذلك كفيل _ بإذن الله _ بإجابة الدعاء.
وكذلك عكس هذه الأمور يعد من أسباب رد الدعاء؛ فاستبطاء الإجابة، وأكل الحرام، والاعتداء في الدعاء، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكثرة الذنوب والمعاصي وغيرها _ كل ذلك من موانع إجابة الدعاء.
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
والأدعية والتعويذات بمنزلة السلاح، والسلاحُ بضاربه، لا بحَدِّه فقط؛ فمتى كان السلاح سلاحًا تامًّا لا آفة به، والساعد ساعدًا قويًّا، والمانع مفقودًا _ حصلت النكاية في العدو.
ومتى تخلَّف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير.
__________
(1) - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لصالح الدرويش (ص 34).(7/402)
فإن كان في نفسه غير صالح، أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء، أو كان ثمَّ مانعٌ من الإجابة _ لم يحصل الأثر. (1)
(10) الصبر وعدم الاستعجال:
فلا ينبغي للعبد أن يستعجل الإجابة إذا دعا، وألا يستبطئ الإجابة إذا تأخرت؛ فإن الاستعجال من الآفات التي تمنع أثر الدعاء.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يستجاب أحدكم ما لم يعجل، يقول دعوت فلم يُستَجِبْ لي.
[*] قال ابن حجر رحمه الله تعالى: "وفي هذا الحديث أدب من آداب الدعاء، وهو أن يلازم الطلب، ولا ييأس من الإجابة؛ لما في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار" (2) -
[*] وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
"ومن الآفات التي تمنع أثر الدعاء أن يتعجل العبد ويستبطئ الإجابة فيستحسر ويدع الدعاء، وهو بمنزلة من بذر بذراً أو غرس غرساً فجعل يتعاهده ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله" (3).
ومعنى يستحسر: ينقطع.
فلا تستبطئ الإجابة وألِحَّ على الله في المسألة، فالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكث يدعو على رعل وذكوان شهراً، وربك حييّ كريم يستحي من عبده إذا رفع يده إليه، أن يردها صفراً، فادع وَرَبُّكَ الأَكْرَم، وألق نفسك بين يديه، وسلّم الأمر كله إليه، واعزم المسألة، وأعظم الرغبة فما رَدَّ سائله، ولا خاب طالبه، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالخلق لم تسدَّ فاقته، ومن أنزلها بالرب فنِعْم الرزاق هو، فلازم الطلب فالمعطي كريم، والكاشف قدير، ولا تستعجل الإجابة إذا دعوت، ولا تستبطئها إذا تأخَّرت، ومن يُكثر قرع الأبواب يوشك أن يفتح له.
ولله درُّ من قال:
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
إن الأمور إذا انسدت مسالكها ... فالصبر يفتح منا كل ما ارتجا
لا تيأسن وإن طالت مطالبة ... إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
[*] قال ابن القيم رحمه الله:
"قلت: إذا اجتمع عليه قلبه وصدقت ضرورته وفاقته وقوي رجاؤه فلا يكاد يرد دعاؤه". وصدق رحمه الله أليس أرحم الراحمين هو القائل: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوء وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء الأرْضِ أَءلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ) (4).
__________
(1) الجواب الكافي ص14.
(2) - الفتح (11/ 141)
(3) - الجواب الكافي (ص 10)
(4) - النمل:62(7/403)