والمقصود: أن محب الدنيا يعذب فى قبره، ويعذب يوم لقاء ربه قال تعالى: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (التوبة: الآية: 55).
[*] قال بعض السلف: " يعذبهم بجمعها، وتزهق أنفسهم بحبها، وهم كافرون بمنع حق الله فيها ".
(3) مصدر رزق عظيم للأجر وكسب الحسنات: كما في الحديث الآتي:
(حديث عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فِيْ امرأتك).
(4) ينجي من العذاب العظيم يوم الدين: كما في الأحاديث الآتي:
) حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة.
(حديث جابر في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا تماروا به السفهاء و لا لتخيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار.
(5) كذلك الإخلاص هو أساس أعمال القلوب، وأعمال الجوارح تبع ومكمل له، الإخلاص يعظم العمل الصغير حتى يصبح كالجبل، كما أن الرياء يحقر العمل الكبير حتى لا يزن عند الله هباء قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} [الفرقان: 23](5/306)
(6) الإخلاص مهم جداً لأن أغلب الناس يعيشون في صراعات داخلية ويعانون من أشياء فحرموا البركة والتوفيق إلا من رحمه الله، فكيف يكون النصر و تعلم العلم إلا من المخلصين، الإخلاص مهم في إنقاذنا من الوضع الذي نعيش فيه، فقد أصبح عزيزاً نادراً قليلاً، مشاريع ودعوات تلوثت بالرياء، حركات إسلامية دمرت بسبب افتقاد الإخلاص وبعد أن أريد بها الرئاسة والجاه والمال، وقد بين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن حرص الإنسان على المال والجاه يفسد الدين فساداً كبيراً أكبر من الفساد الحاصل من إطلاق ذئبان جائعان على غنم وتأمل في الحديث الآتي بعين الاعتبار:
(حديث كعب بن مالك في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسدَ لها من حرص المرء على المال و الشرف لدينه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(ما) بمعنى ليس
(ذئبان جائعان) صفة له وفي رواية عاديان والعادي الظالم المتجاوز للحد
(أرسلا في غنم) الجملة في محل رفع صفة
(بأفسد) خبر ما والباء زائدة أي أشد فساداً والضمير في
(لها) للغنم واعتبر فيه الجنسية فلذا أنث وقوله
(من حرص المرء على المال والشرف) عطف على المال والمراد به الجاه والمنصب (لدينه) اللام فيه للبيان، نحوها في قوله {لمن أراد أن يتم الرضاعة} فكأنه قيل هنا بأفسد لأي شيء؟ قيل لدينه، ذكره الطيبي،
(فمقصود الحديث أن الحرص على المال والشرف أكثر إفساداً للدين من إفساد الذئبين للغنم لأن ذلك الأشر والبطر يستفز صاحبه ويأخذ به إلى ما يضره وذلك مذموم لاستدعائه العلو في الأرض والفساد المذمومين شرعاً، قال الحكيم: وضع اللّه الحرص في هذه الأمة ثم زمه في المؤمنين بزمام التوحيد واليقين وقطع علائق الحرص بنور السبحات فمن كان حظه من نور اليقين ونور السبحات أوفر كان وثاق حرصه أوثق والحرص يحتاجه الآدمي لكن بقدر معلوم وإذا لم يكن لحرصه وثاق وهبت رياحه استفزت النفس فتعدى القدر المحتاج إليه فأفسد وعرف بعضهم الحرص بأنه مدد القوة الموضوعة في الآدمي ومثيرها وعمادها. أهـ
[*] (أورد ابن حبان رحمه الله تعالى في روضة العقلاء عن سفيان الثورى قال العالم طبيب الدين والدرهم داء الدين فإذا اجتر الطبيب الداء إلى نفسه فمتى يداوى غيره0(5/307)
[*] يقول ابن أبي جمرة وهو من كبار العلماء: وددت لو أنه كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم ويقعد للتدريس في أعمال النيات ليس إلا، فإنه ما أتى على كثير من الناس إلا من تضييع ذلك.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال: ما رأيت الزهد في شيء أقل منه في الرياسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب، فإذا تورع في الرياسة حامي عليها وعادي.
(7) ومن فوائد الإخلاص أنه يقلب المباحات إلى عبادات وينال بها عالي الدرجات، قال أحد السلف: إني لأستحب أن يكون لي في كل شيء نية حتى في أكلي ونومي ودخولي الخلاء وكل ذلك مما يمكن أن يقصد به التقرب إلى الله. لأن كل ما هو سبب لبقاء البدن وفراغ القلب للمهمات مطلوب شرعاً.
فالنية عند الفقهاء: تمييز العبادات عن العادات وتمييز العبادات عن بعضها البعض، إرادة وجه الله عز و جل.
(8) الإخلاص سبب للمغفرة الكبيرة للذنوب.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه فيغفر فيه كبائر، وإلا فأهل الكبائر كلهم يقولون لا إله إلا الله. كالبغي التي سقت كلباً فقد حضر في قلبها من الإخلاص ما لا يعلمه إلا الله فغفر الله لها.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: غُفِرَ لأمرأة مُومِسَة، مرت بكلب على رأس َرِكيٍّ، يلهث، قال: كاد يقتله العطش، فنزعت خفها، فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء، فَغُفِرَ لها بذلك.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(غُفِرَ) بالبناء للمفعول بضبط المصنف أي غفر اللّه
(لامرأة مُومِسَة) بضم الميم الأولى وكسر الثانية بضبطه
(مرت بكلب على رأس َرِكيٍّ) بفتح الراي وكسر الكاف وشد التحتية بئر
(يلهث) أي يخرج لسانه من شدة الظمأ
(كاد يقتله العطش) لشدته وفي رواية يأكل الثرى من العطش أي التراب الندي
(فنزعت خفها) من رجلها
(فأوثقته) أي شدته
(بخمارها) بكسر الخاء أي بغطاء رأسها والخمار ككتاب ما يغطى به الرأس
(فنزعت) جذبت وقلعت
(له من الماء) أي بالبئر فسقته(5/308)
(فَغُفِرَ لها بذلك) أي بسبب سقيها للكلب على الوجه المشروح فإنه تعالى يتجاوز عن الكبيرة بالعمل اليسير إذا شاء فضلاً منه. قال ابن العربي: وهذا الحديث يحتمل كونه قبل النهي عن قتل الكلاب وكونه بعده فإن كان قبله فليس بناسخ لأنه إنما أمر بقتل كلاب المدينة لا البوادي على أنه وإن وجب قتله يجب سقيه ولا يجمع عليه حرّ العطش والموت، ألا ترى أن المصطفى صلى اللّه تعالى عليه وعلى آله وسلم لما أمر بقتل اليهود شكوا العطش فقال: لا تجمعوا عليهم حرّ السيف والعطش فسقوا واستدل به على طهارة سؤر الكلب لأن ظاهره أنها سقت الكلب من خفها ومنع باحتمال أن تكون صبته في شيء فسقته أو غسلت خفها بعد أو لم تلبسه على أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا، ولو قلنا به فمحله ما لم ينسخ (فائدة) قال شيخنا الشعراني: سقط على قلب زوجتي شيء فوصلت لحالة الموت فصاحت أهلها وإذا بقابل يقول وأنا بمجاز الخلاء خلص الذبابة من ضبع الذباب من الشق الذي تجاه وجهك ونحن نخلص لك زوجتك فوجدته عاضاً عليها فخلصتها فخلصت زوجتي حالاً.
(9) تنفيس الكروب لا يحدث إلا بالإخلاص، والدليل على ذلك حديث الثلاثة الذين حبستهم صخرة ففرج الله همّهم وتأمل في هذا الحديث بعين البصيرة:
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: خرج ثلاثة يمشون فأصابهم المطر، فدخلوا في غار في جبل، فانحطت عليهم صخرة، قال: فقال بعضهم لبعض: ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه.
فقال أحدهم: اللهم إني كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت أخرج فأرعى، ثم أجيء فأحلب فأجيء بالحلاب، فآتي أبواي فيشربان، ثم أسقي الصبية وأهلي وامرأتي، فاحتبست ليلة، فجئت فإذا هما نائمان، قال: فكرهت أن أوقظهما، والصبية يتضاغون عند رجلي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهما، حتى طلع الفجر، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا فرجة نرى منها السماء، قال: ففرج عنهم.
وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أني أحب امرأة من بنات عمي كأشد ما يحب الرجل النساء، فقالت: لا تنال ذلك منها حتى تعطيها مائة دينار، فسعيت حتى جمعتها، فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركتها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا فرجة، قال: ففرج عنهم الثلثين.(5/309)
وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أني استأجرت أجيرا بفرق من ذرة فأعطيته، وأبى ذلك أن يأخذ، فعمدت إلى ذلك الفرق فزرعته، حتى اشتريت منه بقرا وراعيها، ثم جاء فقال: يا عبد الله أعطيني حقي، فقلت: انطلق إلى تلك البقر وراعيها فإنها لك، فقال: أتستهزئ بي؟ قال: فقلت: ما أستهزئ بك ولكنها لك، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا، فكشف عنهم).
(10) وبالإخلاص يرزق الناس الحكمة، ويوفقون للحق والصواب:
قال تعالى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال: 29]
(11) وبالإخلاص يدرك الأجر على عمله وإن عجز عنه بل ويصل لمنازل الشهداء والمجاهدين وإن مات على فراشه.
قال تعالى: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ} [التوبة: 92]
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في غزاة، فقال: إن أقواما بالمدينة خلفنا، ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا فيه، حبسهم العذر.
(حديث أبي كبشة الأنماري الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَحسنِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْماً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الأجرِ سَوَاءٌ، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً فَهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ لاَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلاَ يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فهو بِأَسوءِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلاَ عِلْماً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الوزر سَوَاءٌ.
(12) وبالإخلاص يؤجر المرء ولو أخطأ كالمجتهد والعالم والفقيه، وهو نوى بالاجتهاد استفراغ الوسع وإصابة الحق لأجل الله، فلو لم يصب فهو مأجور على ذلك ..(5/310)
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران و إذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر.
(13) والمرء ينجو من الفتن بالإخلاص، ويجعل له حرز من الشهوات ومن الوقوع في براثن أهل الفسق والفجور، لذلك نجى الله يوسف عليه السلام من امرأة العزيز
قال تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]
لقد مر في الأمة كثير من المخلصين كانت سيرتهم نبراساً لمن بعدهم وقدوة وخيراً، لذلك أبقى الله سيرتهم وذكرهم حتى يقتدي بهم من بعدهم وعلى رأس هؤلاء الأنبياء، النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحواريو الأنبياء والصحابة الذين فتحوا البلاد بإخلاصهم ومن بعدهم من التابعين ..
[*] يقول عبدة بن سليمان: كنا مع سرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم، فلما التقى ساعة فطعنه ازدحم الناس عليه ليعرفوا من هو فإذا هو يلثم وجهه، فإذا هو عبد الله بن المبارك فقال لائماً أأنت يا أبا عمر ممن يشنع علي.
[*] ويقول الحسن: إن كان الرجل جمع القرآن ولما يشعر به الناس، وإن كان الرجل لينفق النفقة الكثيرة ولما يشعر الناس به، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته ولم يشعر الناس به، ولقد أدركت أقواماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملونه في السر فيكون علانية أبداً.
لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ولا يسمع لهم صوت إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]
[*] يقول علي بن مكار البصري الزاهد: ((لأن ألقى الشيطان أحب إلي من أن ألقى فلاناً أخاف أن أتصنع له فأسقط من عين الله)) فقد كان السلف يخشون من قضية المجاملات.
[*] قال الذهبي: يقول ابن فارس عن أبي الحسن القطان: ((أصبت ببصري وأظن أني عوقبت بكثرة كلامي أثناء الرحلة)) قال الذهبي: صدق والله فإنهم كانوا مع حسن القصد وصحة النية غالباً يخافون من الكلام وإظهار المعرفة.
[*] قال هشام الدستوائي: ((والله ما أستطيع أن أقول إني ذهبت يوماً قط أطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل)).
[*] يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وما بين الناس)).(5/311)
(ومن عجائب المخلصين ما حصل لصاحب النفق، حاصر المسلمون حصناً واشتد عليهم رمي الأعداء، فقام أحد المسلمين وحفر نفقاً فانتصر المسلمون، ولا يُعرَف من هو هذا الرجل، وأراد مَسْلَمَة أن يعرف الرجل لمكافأته، ولما لم يجده سأله بالله أن يأتيه، فأتاه طارق بليل وسأله شرطاً وهو أنه إذا أخبره من هو لا يبحث عنه بعد ذلك أبداً، فعاهده، و كان يقول: ((اللهم احشرني مع صاحب النفق)).
(وعمل الخلوة كان أحب إلى السلف من عمل الجلوة، وكان السلف يستحبون أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح لا يعلم عنها زوجة ولا غيرها، امتثالاً للحديثين الآتيين:
(حديث الزبير بن العوام في صحيح الجامع أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من استطاع منكم أن يكون له خَبِءٌ من عمل صالح فليفعل.
خَِبٌِء من عمل صالح: أي من الأعمال الخفيّة التي لا يطّلع عليها أحد من الناس, خالية من الرياء, فتكون خالصة لله تبارك و تعالى مثل صلاة النافلة في جوف الليل أو صدقة السر أو أي عمل آخر من الأعمال الصالحة.
(حديث سعد ابن أبي وقاص في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي.
الغني: الغني عن الناس
الخفي: من لا يريد علواً في الأرض ولا مناصب ولا جاه. الخامل المنقطع إلى العبادة والانشغال بأمور نفسه.
(المجاهدة في إخفاء العمل:
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال: بلغني أن العبد يعمل العمل سراً فلا يزال به الشيطان حتى يغلبه فيكتب في العلانية، ثم لا يزال الشيطان به حتى يحب أن يحمد عليه فينسخ من العلانية فيثبت في الرياء.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال: لا يترك الشيطان الإنسان حتى يحتال له بكل وجه، فيستخرج منه ما يخبر به من عمله، لعله يكون كثير الطواف فيقول: ما كان أجلي الطواف الليلة، أو يكون صائما فيقول ما أثقل السحور أو ما أشد العطش، فإن استطعت أن لا تكون محدثاً ولا متكلماً ولا قارئاً، وإن كنت بليغاً، قالوا: ما أبلغه وأحسن حديثه وأحسن صوته، فيعجبك ذلك فتنتفخ، وإن لم تكن بليغا ولا حسن الصوت قالوا ليس يحسن يحدث وليس صوته بحسن أحزنك وشق عليك، فتكون مرائيا، وإذا جلست فتكلمت ولم تبال من ذمك ومن مدحك من الله فتكلم.
[*] يقول حماد بن زيد: كان أيوب ربما حدث في الحديث فيرقّ وتدمع عيناه، فيلتفت و ينتخط ويقول ما أشد الزكام!!، فيظهر الزكام لإخفاء البكاء.(5/312)
[*] قال الحسن البصري: ((إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها فإذا خشي أن تسبقه قام وذهب وبكى في الخارج)).
[*] يقول محمد بن واسع التابعي: ((إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته لا تعلم)).
(وللإمام الماوردي قصة في الإخلاص في تصنيف الكتب، فقد ألف المؤلفات في التفسير والفقه وغير ذلك ولم يظهر شيء في حياته لما دنت وفاته قال لشخص يثق به: الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي وإنما إذا عاينت الموت و وقعت في النزع فاجعل يدك في يدي فإن قبضت عليها فاعلم أنه لم يقبل مني شيء فاعمد إليها وألقها في دجلة بالليل وإذا بسطت يدي فاعلم أنها قبلت مني وأني ظفرت بما أرجوه من النية الخالصة، فلما حضرته الوفاة بسط يده، فأظهرت كتبه بعد ذلك.
(وكان علي بن الحسن يحمل الخبز بالليل على ظهره يتبع به المساكين بالظلمة، فالصدقة تطفيء غضب الرب، وكان أهل بالمدينة يعيشون لا يدرون من أين معاشهم، فلما مات عرفوا، و رأوا على ظهره آثاراً مما كان ينقله من القرب والجرب بالليل فكان يعول مائة بيت.
(وهكذا كان أحدهم يدخل في فراش زوجته فيخادعها فينسل لقيام الليل وهكذا صام داود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله فكان يأخذ إفطاره ويتصدق به على المساكين ويأتي على العشاء ..
مسألة: متى يكون إظهار العمل مشروعاً؟
[*] قال ابن قدامة: {فصل في بيان الرخصة في قصد إظهار الطاعات} قال: وفي الإظهار فائدة الإقتداء، ومن الأعمال ما لا يمكن الإسرار به كالحج والجهاد، والمظهر للعمل ينبغي أن يراقب قلبه حتى لا يكون فيه حب الرياء الخفي بل ينوي الإقتداء به {إذاً ينبغي أن نحسن نياتنا في الأعمال المظهرة لندفع الرياء وننوي الإقتداء لنأخذ الأجر}، قال ولا ينبغي للضعيف أن يخدع نفسه بذلك، ومثل الذي يظهره وهو ضعيف كمثل إنسان سباحته ضعيفة فنظر إلى جماعة من الغرقى فرحمهم فأقبل إليهم فتشبثوا به وغرقوا جميعاً.
(وفصل الخطاب في هذه المسألة أنها على التفصيل الآتي:
(1) الأعمال التي من السنة أن يكون عملها سرّاً يسرّ.
(2) الأعمال التي من السنة أن يظهرها يظهرها.
(3) الأعمال التي من الممكن أن يسرها أو يظهرها، فإن كان قوياً يتحمل مدح الناس وذمهم فإنه يظهرها وإن كان لا يقوى فيخفي لأن السلامة لا يعدلها شيء فليس له أن يكون كالمصباح يضيء للناس ويحرق نفسه، فإذا قويت نفسه فلا بأس في الإظهار لأن الترغيب في الإظهار خير.(5/313)
ورد عن بعض السلف أنهم كانوا يظهرون بعض أعمالهم الشريفة ليقتدى بهم كما قال بعضهم لأهله حين الاحتضار ((لا تبكوا علي فإني ما لفظت سيئة منذ أسلمت)).
[*] قال أبو بكر بن عياش لولده ((يا بني إياك أن تعصي الله في هذه الغرفة فإني ختمت القرآن فيها اثنتا عشرة ألف ختمة)) من أجل موعظة الولد، فمن الممكن أن يظهر المرء أشياء لأناس معينين مع بقاء الإخلاص في عمله لقصد صالح.
(لله درَ أقوامٍ نُعِّمُوا في الدنيا بالإخلاص في الطاعة، وفازوا يوم القيامة بالربح في البضاعة، وتنزهوا عن التقصير والغفلة والإضاعة، ولبسوا ثياب التقى وارتدوا بالقناعة، وداموا في الدنيا على السهر والمجاعة، فيا فخرهم إذا قامت الساعة.
(لله در أقوام أخلصوا الأعمال وحققوها، وقيدوا شهواتهم بالخوف وأوثقوها، وسابقوا الساعات بالطاعات فسبقوها، وخلصوا أعمالهم من أشراك الرياء وأطلقوها، وقهروا بالرياضة أغراض النفوس الردية فمحقوها.
(ماذا قال بعض العلماء في الإخلاص .. ؟
[*] قال إبراهيم بن أدهم: ما صدق الله عبداً أحب الشهرة.
[*] قال بعضهم: ينبغي للعالم أن يتحدث بنية وحسن قصد، فإن أعجبه كلامه فليصمت وإن أعجبه الصمت فلينطق. فإن خشي المدح فليصمت ولا يفتر عن محاسبة نفسه فإنها تحب الظهور والثناء.
[*] وسُئِل سهل بن عبد الله التستوري: أي شيء أشد على النفس؟ قال: الإخلاص لأنه ليس لها فيه نصيب. فمع الإخلاص تنسى حظوظ النفس.
[*] وقال سفيان: ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي إنها تنقلب علي. إذا أراد أن يجاهد نفسه يجد تقلبات، ولا يدري أهو في إخلاص أم رياء، وهذا طبيعي أن يشعر أنه في صراع لا تسلم له نفسه دائماً فهو يتعرض لهجمات من الشيطان، والنفس الأمارة بالسوء، وهذا فيه خير، أما من اطمأنت نفسه بحاله فهذه هي المشكلة.
[*] قال ابن يحيى بن أبي كثير: تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل.
[*] قال الزبيد اليامي: إني أحب أن تكون لي نية في كل شيء حتى في الطعام والشراب.
[*] عن داود الطائي: رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية وكفاك به خيراً وإن لم تنضب. أي حتى وإن لم تتعب فإن ما حصلته من اجتماع نفسك لله وإخراج حظوظ النفس من قلبك، هذا أمر عظيم.
[*] قال يعقوب: " المخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته ".(5/314)
[*] قال السوسي: " الإخلاص فَقْدُ رؤية الإخلاص، فإن مَنْ شاهد فى إخلاصه الإخلاص فَقد احتاج إخلاصه إلى إخلاص ". وما ذكر إشارة إلى تصفية العمل من العُجْب بالفعل، فإن الإلتفات إلى الإخلاص، والنظر إليه عٌجْب، وهو من جملة الآفات، والخالص ما صفا عن جميع الآفات.
[*] قال أيوب: " تخليص النيات على العُمّال أشد عليهم من جميع الأعمال ".
[*] وقال بعضهم: " إخلاص ساعة نجاة الأبد، ولكنّ الإخلاص عزيزٌ".
[*] وقيل لسهل: أى شىء أشد على النفس؟ قال: " الإخلاص، إذ ليس لها فيه نصيب ".
[*] وقال الفُضَيْل: " ترك العمل من أجل الناس رياء، والعملُ من أجل الناس شرك، والإخلاص: أن يعافيك الله منهما ".
(فضل النيّة:
[*] عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: " أفضل الأعمال أداءُ ما افترض الله تعالى، والورعُ عما حرّم الله، وصدقٌ النية فيما عند الله تعالى ".
[*] وقال بعض السلف: رب عملٍ صغيرٍ تعظمه النية، وربّ عمل كبير تصغيره النية.
[*] وعن يحيى بن أبى كثير: " تعلّموا النية، فإنها أبلغ من العمل ".
[*] وصحّ عن ابن عمر أنه سمع رجلاً عند إحرامه يقول: اللهم إني أريد الحج والعمرة فقال له: " أتُعْلم الناس، أوَ ليس الله يعلم ما فى نفسك": وذلك لأن النية هي: قصد القلب، ولا يجب التلفظ بها في شيء من العبادات وإنما يشرع في الحج والعمرة أن يقول: لبيك اللهم بحجة أو بعمرة أو بعمرة وحجة إن كان قارناً، وهو الذي يسمى بالإهلال.
[*] قال داود: البر همة التقي، ولو تعلقت جميع جوارحه بحب الدنيا لردته يوماً نيته إلى أصلها.
[*] قال يوسف بن أسباط: تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد.
[*] قيل لنافع بن جبير: ألا تشهد الجنازة فقال: كما أنت حتى أنوي. أي انتظر حتى أجاهد نفسي.
[*] قال الفضيل: إنما يريد الله عز وجل منك نيتك وإرادتك.
ومن أصلح الله سريرته أصلح الله علانيته ومن أصلح ما بينه وما بين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، وما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله في صفحات وجهه وفلتات لسانه.
والمخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته ومن شاهد في إخلاصه الإخلاص فإن إخلاصه يحتاج إلى إخلاص.(5/315)
{تنبيه}: (من أعظم الأشياء التي تكون عوناً بعد الله تعالى في حصول الإخلاص إخفاء العمل، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبهما موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث سعد ابن أبي وقاص في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي.
الغني: الغني عن الناس
الخفي: من لا يريد علواً في الأرض ولا مناصب ولا جاه. الخامل المنقطع إلى العبادة والانشغال بأمور نفسه.
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال: بلغني أن العبد يعمل العمل سراً فلا يزال به الشيطان حتى يغلبه فيكتب في العلانية، ثم لا يزال الشيطان به حتى يحب أن يحمد عليه فينسخ من العلانية فيثبت في الرياء.
(خطورة ترك العمل خوف الرياء:
هذا منزلق كشفه الفضيل بن عياض: ترك العمل لأجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك الله منهما.
[*] قال النووي رحمه الله تعالى:
من عزم على عبادة وتركها مخافة أن يراه الناس فهو مرائي" لأنه ترك لأجل الناس" لكن لو ترك العمل ليفعله في الخفاء. فمن ترك العمل بالكلية وقع في الرياء، وكذلك من كان يستحب في حقه إظهار العمل فليظهره كأن يكون عاملاً يقتدى به أو أن العمل الذي يعمله المشروع فيه الإظهار.
{تنبيه}: (من دعا إلى كتم جميع الأعمال الصالحة من جميع الناس؛ هذا إنسان خبيث وقصده إماتة الإسلام، لذلك المنافقون إذا رؤوا أمر خير وسموه بالرياء، فهدفهم تخريب نوايا المسلمين وأن لا يظهر في المجتمع عمل صالح، فهؤلاء ينكرون على أهل الدين والخير إذا رؤوا أمراً مشروعاً مظهراً خصوصاً إذا أظهر عمل خير معرض للأذى فيظهره احتسابا لإظهار الخير فيستهدفه هؤلاء المنافقون فليصبر على إظهاره ما دام لله، قال تعالى: ((الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم)).
(وينبغي أن نفرق بين الرياء ومطلق التشريك في العمل، فمتى يبطل العمل؟ إذا حصل تشريك فيه، ومتى يأثم؟ ومتى لا يأثم؟
وفصل الخطاب أن المسألة على التفصيل الآتي:
(1) أن يعمل لله ولا يلتفت إلى شيء آخر (أعلى المراتب).(5/316)
(2) أن يعمل لله ويلتفت إلى أمر يجوز الالتفات إليه، مثل رجل صام مع نية الصيام لله أراد حفظ صحته، ورجل نوى الحج والتجارة، ورجل جاهد ونظر إلى مغانم، ورجل مشى إلى المسجد وقصد الرياضة، ورجل حضر الجماعة لإثبات عدالته وأن لا يتهم، فهذا لا يبطل الأعمال ولكن ينقص من أجرها ـ والأفضل أن لا تكون موجودة ولا مشركة في العمل ولا داخلة فيه أصلاً.
(3) أن يلتفت إلى أمر لا يجوز الالتفات إليه من الرياء والسمعة وحمد الناس طلباً للثناء ونحو ذلك فيكون علي التفصيل الآتي:
(أ) إذا كان في أصل العمل فإنه يبطله كأن يصلي الرجل لأجل الناس.
(ب) أن يعرض له خاطر الرياء أثناء العمل فيدافعه ويجاهده، فعمله صحيح وله أجر على جهاده.
(جـ) أن يطرأ عليه الرياء أثناء العمل ولا يدافعه و يستمر معه وهذا يبطل العمل.
(د) أن يكون عمله الصالح للدنيا فقط، فيصوم لأجل الحمية والرجيم ولا يطلب الأجر، ويحج للتجارة فقط، ويخرج زكاة أموال لتنمو، ويخرج للجهاد للغنيمة، فهؤلاء أعمالهم باطلة قال تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} [الإسراء: 18]
(هـ) أن يكون عمله رياءً محضاً، وبالرياء يحبط العمل بل ويأثم به الإنسان، لأن هناك أشياء تبطل العمل ولا يأثم صاحبها كخروج ريح أثناء الصلاة، ومن الناس من يرائي في الفتوى للأغنياء والوجهاء وقد يكون لضعفه أمامهم
وقال تعالى: (مَن كَان يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ، ... أُوْلَئِكَ ... الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) {هود/15،16}
) حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة.
(حديث جابر في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا تماروا به السفهاء و لا لتخيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار.
[*] قال بعض السلف: ((إذا رأيت العالم على أبواب الغنى والسلطان فاعلم أنه لص))، أما الذي يذهب لقصد الإنكار والخير فلهو ما نوى.(5/317)
(هناك أشياء تظن من الرياء وليست منه:
(1) إذا حمدك الناس على الخير بدون قصد فهذا عاجل بشرى المؤمنين.
(2) رجل رأى العابدين فنشط للعبادة لرؤيته من هو أنشط منه.
(3) تحسين وتجميل الثياب والنعل وطيب المظهر والرائحة.
(4) كتم الذنوب وعدم التحدث بها، فبعض الناس يظن أنك حتى تكون مخلصاً لابد من الإخبار بالذنوب، نحن مطالبون شرعاً بالستر، وكتم الذنوب ليس رياءً بل هو مما يحبّه الله، بل إن ظن غير ذلك تلبيس من الشيطان وإشاعة للفاحشة وفضح للنفس.
(5) اكتساب شهرة بغير طلبها، كعالم اشتهر وقصده منفعة الناس و بيان الحق ومحاربة الباطل والرد على الشبهات ونشر دين الله، فإن كانت هذه الأعمال وجاءت الشهرة تبعاً لها وليست مقصداً أصلياً فليس من الرياء.
(6) ليس من الرياء أن يشتهر المرء ولكن الشهرة يمكن أن توقع في الرياء!!
(علامات الإخلاص:
(1) الحماس للعمل للدين.
(2) أن يكون عمل السر أكبر من عمل العلانية.
(3) المبادرة للعمل واحتساب الأجر.
(4) الصبر والتحمل وعدم التشكي.
(5) الحرص على إخفاء العمل.
(6) إتقان العمل في السر.
(7) الإكثار من العمل في السر.
مسألة: علامات الإخلاص في البكاء من خشية الله؟
(أولاً: ألا تجد في نفسك محبةَ أن يمدحك الناس لبكائك أو يُثنوا عليك.
فإن أصابك هذا المرض ووجدت في نفسك حب مدح الناس لك والثناء عليك، فالعلاج أن تجيب على الأسئلة التالية، ثم تبلع الإجابات بماء الإخلاص:
س: هل سينفعك العباد بشيء يوم القيامة؟
س: هل سيقف معك أثناء العرض على الله من مدحك ليمدحك أمام الله ويدافع عنك؟
س: ثم هل تعلم أن الممدوح عند الناس قد يكون من شر الناس عند الله؟، فمدح الناس لك ليس مقياساً لقبول طاعاتك.
فلا تنشغل بمدح الناس أو ثنائهم فتتعب نفسك وتضر دينك ويحبط عملك كله.
(ثانياً: ألا تجد في قلبك عجباً بطاعتك:
فقد يبتعد الباكي عن أعين الناس، أو يداريه عنهم طلباً للإخلاص ولكن يتسرب العجب بالعمل إلى نفسه ويرى أنه قد عمل شيئاً عظيماً.
فإن أصابك هذا المرض ـ وهو العجب بالطاعة ـ فالعلاج أن تجيب على الأسئلة التالية أيضاً، وتفعل بها كسابقتها:
س: من صاحب الفضل عليك في هذا الأمر؟
س: من الذي رزقك شرف البكاء من خشيته؟
س: هل المعقول فيمن يُعطى شيئاً لم يخترعه أو يصنعه أن يعجب به أم يبادر بشكر المعطي على تفضله وإنعامه؟
س: ثم هل تضمن حالك غداً؟
س: هل تضمن أنك ستستمر على الطاعة؟(5/318)
س: هل تعلم أيختم لك بالخير أم بالشر؟
س: فهل يعقل أن تعجب بعمل أنت في شك من دوامه؟
نسأل الله الثبات.
(ثالثاً: ألا تجد في قلبك استصغاراً للآخرين أو احتقاراً لهم لأنك صاحب طاعة لم ينالوا شرفها.
فإن أصابك هذا المرض ـ وهو احتقار الآخرين ـ فالعلاج أن تجيب على الأسئلة التالية ثم تلحقها بسابقتها:
س: هل تعلم أن من تزدريه قد يكون أتقى لله منك وأطهر قلباً وأخلص نية وأزكى عملاً؟
س: هل تضمن أن الله قد قبل منك طاعة البكاء من خشيته؟
س: هل تعلم أن الله لعله قبل من هذا الرجل عملاً فأدخله به الجنة، وأنت قد تكون لم يقبل منك صرفاً ولا عدلاً؟
فإن أجبت على هذه الأسئلة وتخلصت من أمراض الإخلاص المذكورة فلا تظن أنك قد حققت الإخلاص، فتكون كالمريض الذي أخذ الدواء فظن أنه قد شفي.
اتهم نفسك دائماً .. واحذر أن تكون مرائياً من حيث لا تعلم.
واعلم أن من ادعى أنه حقق الإخلاص فهو رأس المرائين نعوذ بالله من ذلك.
(2) الدعاء:
[*] (إن من المعلوم شرعاً أن الناس في أمس الحاجة إلى الدعاء لأنهم مفتقرون إلى الله تعالى في جلب مصالحهم ودفع مضارهم، في أمور دينهم ودنياهم، قال تعالى: {يا أيها النَّاسُ أنتُمُ الفُقراءُ إلى اللهِ واللهُ هوَ الغنيُّ الحَميدُ} [فاطر /15]
ومما يوضح ذلك ويبينه الحديث الآتي:
(حديث أبي ذرٍ في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي و جعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل و النهار و أنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني و لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله و من وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه.(5/319)
(فلا يوجد مؤمن إلا ويعلم أن النافع الضار هو الله سبحانه، وأنه تعالى يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، ويرزق من يشاء بغير حساب، وأن خزائن كل شيء بيده، وأنه تعالى لو أراد نفع عبد فلن يضره أحد ولو تمالأ أهل الأرض كلهم عليه، وأنه لو أراد الضر بعبد لما نفعه أهل الأرض ولو كانوا معه. لا يوجد مؤمن إلا وهو يؤمن بهذا كله؛ لأن من شك في شيء من ذلك فليس بمؤمن، قال الله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}
[يونس: 107].
فلا ينفع ولا يضر إلا الله تعالى {إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53]
{وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 67] سقطت كل الآلهة، وتلاشت كل المعبودات وما بقي إلا الله تعالى {ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 67] {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً} [الفتح:11]
لا يسمع دعاء الغريق في لجة البحر إلا الله. ولا يسمع تضرع الساجد في خلوته إلا. ولا يسمع نجوى الموتور المظلوم وعبرته تتردد في صدره، وصوته يتحشرج في جوفه إلا الله. ولا يرى عبرة الخاشع في زاويته والليل قد أسدل ستاره إلا الله {وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى {7} اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى} [طه:8]
(وهذا يقتضي أن جميع الخلق مفتقرون إلى الله تعالى في جلب مصالحهم ودفع مضارهم في أمور دينهم ودنياهم،
قال تعالى: (يَأَيّهَا النّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ) [فاطر / 15]
فالعباد لا يملكون لأنفسهم شيئاً من ذلك كله، وأن من لم يتفضل الله عليه بالهدى والرزق، فإنه يحرمها في الدنيا، ومن لم يتفضل الله عليه بمغفرة ذنوبه أوْبَقَتْه خطاياه في الآخرة (1).
__________
(1) جامع العلوم والحكم لابن رجب رحمه الله 2/ 37.(5/320)
فجميعُ الخلق مفتقرون إلى الله، مفتقرون إلى الله في كل شؤونِهم وأحوالِهم، وفي كلِ كبيرةٍ وصغيره، وفي هذا العصرُ تعلقَ الناسُ بالناسِ، وشكا الناسُ إلى الناس، ولا بئسَ أن يُستعانُ بالناس في ما يقدرون عليه، لكن أن يكونَ المُعتمَدُ عليهم، والسؤال إليهم، والتعلقُ بهم فهذا هو الهلاكُ بعينه، فإن من تعلق بشيٍ وكلَ إليه.
(والإنسان لا يستغني عن ربه طرفة عين ولا أقل من ذلك، ولهذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يردد كثيرا: " لا تكلني إلى نفسي طرفة عين.
(حديث أبي بكرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين و أصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت.
فقيراً جئتُ بابك يا إلهي ......... ولستُ إلى عبادك بالفقيرِ
غنياً عنهمُ بيقينِ قلبي ........... وأطمعُ منك في لفضلِ الكبيرِ
الهي ما سألتُ سواك عونا ...... فحسبي العونُ من ربٍ قديرِ
الهي ما سألتُ سواك عفوا ..... فحسبي العفوُ من ربٍ غفورِ
الهي ما سألتُ سواك هديا ..... فحسبي الهديُ من ربٍ بصيرِ
إذا لم أستعن بك يا الهي ...... فمن عونيِ سواك ومن مجيرِ
إن الفرار إلى الله، واللجوء إليه في كلِ حالٍ وفي كل كربٍ وهم، هو السبيلُ للتخلصَ من ضعفنا وفتورنا وذلنا و هواننا.
إن في هذه الدنيا مصائبَ ورزايا، ومحناً وبلايا، آلامُ تضيقُ بها النفوس، ومزعجاتُ تورث الخوفَ والجزع، كم في الدنيا من عينٍ باكيةٍ؟
وكم فيها من قلب حزين؟
وكم فيها من الضعفاءِ والمعدومين، قلوبُهم تشتعل، ودموعُهم تسيل؟ هذا يَشْكُ علةً وسقما، عزيزٌ قد ذل، وغنيٌ افتقر، وصحيحٌ مرض، رجل يتبرم من زوجه وولده، وآخرُ يشكُ ويئنُ من ظلمِ سيده.
وثالثٌ كسدة وبارت تجارته، شاب أو فتاة يبحث عن عروس، وطالب يشكو كثرة الامتحانات والدروس.
هذا مسحور وذاك مدين، وأخر ابتليَ بالإدمان والتدخين، ورابعُ أصابه الخوفُ ووسوسةُ الشياطين.
وذاك حاجةً وفقرا.
وآخر هماً وقلقا.
تلك هي الدنيا، تضحكُ وتبكي، وتجمعُ وتشتت، شدةُ ورخاءُ وسراءٌ وضراءُ.
وصدق الله العظيم: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ). [الحديد / 23]
فارفع يديك وأسل دمع عينيك، وأظهر فقرك وعجزك، واعترف بِذُلِكَ وضَعْفَك.
(والدعاء سلاحٌ عجيب ٌ فَعَّال وسهمٌ نافذ لا يخيب:(5/321)
إن الحياة قد طبعت على كدر، وقلما يسلم الإنسان من خطر، مصائب وأمراض، حوادث وأعراض، أحزان وحروب وفتن، ظلم وبغي، هموم وغموم.
ويتقلب الناس في هذه الدنيا بين فرح وسرور، و شدة وبلاء، وفقر وغنى وتمر بهم سنين ينعمون فيها، وتعصف بهم أخرى عجاف، يتجرعون فيها الغصص أو يكتوون بنار البُعد والحرمان.
وهذه هي حقيقة الدنيا إقبال وإدبار فرح وحزن، شدة ورخاء، سقم وعافية إلا أن الله تعالى لطيف بعباده رحيم بخلقه، فتح لهم باباً يتنفسون منه الرحمة، وتنزل به على قلوبهم السكينة والطمأنينة، ألا وهو باب الدعاء.
ولا يزال المؤمن بخير ما تعلق قلبه بربه ومولاه، كيف لا يكون كذلك وبيده سلاح لا كأي سلاح، سلاح لا تصنعه مصانع الغرب أو الشرق , إنه أقوى من كل سلاح مهما بلغت قوته ودقته، والعجيب في هذا السلاح أنه عزيز لا يملكه إلا صنف واحد من الناس, لا يملكه إلا المؤمنون الموحدون, إنه سلاح رباني، سلاح الأنبياء والأتقياء على مرّ العصور.
سلاح نجى الله به نوحًا عليه السلام فأغرق قومه بالطوفان , ونجى الله به موسى عليه السلام من الطاغية فرعون, نجى الله به صالحًا, وأهلك ثمود, وأذل عادًا وأظهر هودَ عليه السلام, وأعز محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مواطن كثيرة.
سلاح حارب به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه أعتى قوتين في ذلك الوقت: قوة الفرس, وقوة الروم, فانقلبوا صاغرين مبهورين، كيف استطاع أولئك العرب العزَّل أن يتفوقوا عليهم وهم من هم, في القوة والمنعة, ولا يزال ذلكم السلاح هو سيف الصالحين المخبتين مع تعاقب الأزمان وتغير الأحوال ’ تلكم العبادة وذلكم السلاح هو الدعاء.
هذا السلاح يطفيء نيران الدبابات.
بل إن الاسرى يُفكون بهذا السلاح
جاء مالك الأشجعى إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال أُسر ابنى عوف فقال له النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسل إليه أن رسول الله يأمرك أن تكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله وكانوا قد شدوا قيده فسقط القيد فخرج فإذا هو بناقة لهم فركبها و أقبل فمر بغنم للعدو فاستاقها فجاء بها إلى أبيه وقص عليه الخبر فقال أبوه قف حتى أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله عنها، فلما أخبره بذلك قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اصنع بها ما أحببت ونزل قول الله تعالى (ومن يتق الله يجعل له مخرجا) (1)
__________
(1) - ابن جرير فى تفسيره(5/322)
(والدعاء ينفع مما نزل و مما لم ينزل، وسهمٌ لا يخيب وأعجز الناس من عجز عن الدعاء، وإليك غيضٌ من فيض ونقطةٌ من بحر مما ورد في هذا:
(حديث عائشة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يغني حذر من قدر و الدعاء ينفع مما نزل و مما لم ينزل و إن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة.
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب له فإما أن يعجل له في الدنيا و إما أن يدخر له في الآخرة ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل.
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلاَّ أعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاث: ٍ إِمَّا أنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أنْ يَصْرِف عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا" قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ:" اللَّهُ أكْثَرُ "0
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أبخل الناس من بخل بالسلام وأعجز الناس من عجز عن الدعاء.
(أعجز الناس من عجز عن الدعاء): أعظم ما يشق على المسلم أن يغلق عليه في الدعاء،
[*] قال عمر بن الخطاب:
" أني لا أحمل هم الإجابة ولكن أحمل همّ الدعاء" فاذا فتح على العبد في دعائه من معاني الحمد والثناء دعا الله وحسن الظن به والتعلق والرجاء به وتعظيم الرغبة مما عند الله والثقة بوعد الله فينبغي عليه أن يقبل على الدعاء وأن يصرف همته في ذلك لاسيما في الأزمان والأماكن الفاضلة , وعند نزول الضر وحصول الشدائد, ومن أكثر طرق هذا الباب فتح له, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
[*] يقول جعفر الصادق رضي الله عنه:
عجبت لأربعة كيف يغفلون عن أربع:
عجبت لمن أصابه ضر كيف يغفل عن قول الله: (أَنّي مَسّنِيَ الضّرّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ) [الأنبياء / 83]
والله سبحانه وتعالى يقول: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ) [الأنبياء / 84]
وعجبت لمن أصابه غم كيف يغفل عن قول الله: (لاَّ اله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء /87](5/323)
والله سبحانه وتعالى يقول: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمّ وَكَذالِكَ نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء /88]
وعجبت لمن يخاف كيف يغفل عن: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران /173]
،والله تعالى يقول: (فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء) [آل عمران /174]
وعجبت لمن يمكر به الناس كيف يغفل عن (وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [غافر /44]
، والله تعالى يقول: (فَوقَاهُ اللَّهُ سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوء الْعَذَابِ)
[غافر /45]
أخى: أمن يجيب المضطر إذا دعاه،
أخى: هل عندك أسير تريد فك أسره،
أخى: ألست فى حاجة إلى الله (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله)
أخي: في كل ذلك عليك بالتضرع إلى الله،،،،،،،،،
أخي الحبيب هل وقفت مع نفسك؟
كم مرة انطرحت بين يدي الله؟
كم مرة أحسستَ فيها بصدق المناجاة؟
أليس لك حاجة بل حاجات إلى رب الأرض والسماوات؟
أعجَزتَ أن تنفع نفسك بدعوة صالحة؟ علّ الله أن ينفعك بها.
أخي من أدمن طرق الباب يوشك أن يفتح له ..... زد في الطرق يزاد لك في العطاء ... من رب الارض والسماوات.
إلهي:
كم لك سواي، وما لي سواك، عبيدك سواي كثير وليس لي سيد سواك، فبفقري إليك وغناك عني، وبقوتك وضعفي، وبعزك وذلي، إلا رحمتني وعفوت عني، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عينه، وذل لك قلبه، الله لا تعذب نفساً قد عذبها الخوف منك، ولا تخرس لساناً كل ما يرويه عنك، ولا تقذ (أى لا تعمي) بصراً طالما بكى من مخافتك، ولا تخيب رجاء هو معلق بك، ولا تحرق بالنار وجهاً سجد لعظمتك، ولا تعذب بناناً كتب في طاعتك ولا لساناً دل الناس على شريعتك!! يا أرحم الراحمين!! يا الله.
اللهم يا موضع كل شكوى، ويا سمع كل نجوى، ويا شاهد كل بلوى، يا عالم كل خفية، و يا كاشف كل بلية، يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمائر الصامتين ندعوك دعاءَ من أشدت فاقته، وضعفت قوته، وقلت حيلته دعاء الغرباء المضطرين الذين لا يجدون لكشف ما هم فيه إلا أنت.
يا أرحم الراحمين أكشف ما بنا وبالمسلمين من ضعف وفتور وذل وهوان.(5/324)
يا سامعا لكل شكوى أعن المساكين والمستضعفين وأرحم النساء الثكالى والأطفال اليتامى وذي الشيبة الكبير، إنك على كل شيء قدير.
(ألم يأن لنا أن ننتبه إلى أن الدعاءُ أكرم شيء على الله، شرعه الله لحصول الخير ودفع الشر، فالدعاءُ سبب عظيم للفوز بالخيرات والبركات، وسببٌ لدفع المكروهات والشرورِ والكربات، والدعاءُ من القدَر ومن الأسبابِ النافعة الجالبة لكلِّ خير والدافعة لكل شرّ.
الدعاء به تُفرّجُ الشِّدّائد، وتُنفّسُ الكُرب فكم سمعنا عمن أُغلقت في وجهه الأبواب، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، ثم طَرَقَ باب مسبب الأسباب، وألحّ على الله في الدعاء، ورفع إليه الشكوى، وبكى فَفُتِحَتْ له الأبواب، وانفرج ما به من شِدّة وضيق.
ألم تسمع قصة أولئك الثلاثة الذين دخلوا غاراً فأغْلَقَتْ عليهم الباب صخرةٌ عظيمة، فما كان منهم إلا أن دعوا الله بصالح أعمالِهم وأخلصِها، فانفرجت الصخرةُ وخرجوا يمشون.(5/325)
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم، حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فناء بي في طلب شيء يوما، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي، فأدرتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله أد إلي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون).
(ألم يأن لنا جميعاً أن نمد أيدينا إلى مالك الملك، وإلى مَنْ بيده ملكوت كلّ شيء، وهو يُجير ولا يُجار عليه؟
ونقول:-
يا أمان الخائفين سبحانك ما أحلمك على من عصاك وما أقربك ممن دعاك وما أعطفك على من سألك وما أرافك بمن أملك، من الذي سألك فحرمته، ومن الذي فر إليك فطردته أو لجأ إليك فأسلمته، أنت ملاذنا ومنجانا فلا نعول إلا عليك ولا نفر من خلقك ومنك إلا إليك يا أمان الخائفين.
فلماذا البخل على أنفسنا؟
إلى متى العجز والكسل؟
إن ما بيننا وبين السماء السابعة سوى مسافة دعوة مظلوم.(5/326)
وما بيننا وبين باب ذي المنن سوى قَرْعِهِ وإدامة ذلك.
(فادع يا أخي وزد في الدعاء بالليل والنهار فلن تخيب دعواتك فإن الدعاء سهمٌ لا يخيب:
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب له فإما أن يعجل له في الدنيا و إما أن يدخر له في الآخرة ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل.
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلاَّ أعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاث: ٍ إِمَّا أنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أنْ يَصْرِف عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا" قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ:" اللَّهُ أكْثَرُ "0
أتهزأُ بالدعاءِ وتزدريهِ ... وما تدري بما صنع الدعاءُ
سهامُ الليلِ لا تُخطي ولكن ... لها أمدٌ وللأمدادِ انقضاءُ
(فضائل الدعاء:
(الدعاء له فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم، وللدعاء فضائل لا تحصى، وثمرات لا تعد، وهو طريق النجاة، وسلم الوصول، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين، ومفزع المظلومين، وملجأ المستضعفين، به تُستجلب النعم، وبمثله تُستدفع النقم، والدعاء سبب لتفريج الهموم وزوال الغموم، وانشراح الصدور، وتيسير الأمور، وفيه يناجي العبدُ ربّه، ويعترف بعجزه وضعفه، وحاجته إلى خالقه ومولاه، والدعاء سلاحٌ متين وحرزٌ مكين وسهمٌ صائبٌ لا يخطئ، والموفق من وفق للدعاء، والدعاء شعيرة جليلة، وعبادة فاضلة، بل هو من أفضل العبادات، ما أشد حاجة العباد إليه، وما أعظم ضرورتهم إليه، لا يستغني عنه المسلم بحال من الأحوال، والدعاء ومن أعظم مقامات الألوهية، ومن أعظم ما يرفع البلاء والعقوبات بإذن الله سبحانه وتعالى، بل إن الله عز وجل أخبر إن الدعاء هو العبادة، لأنه ركنها الركين، وأساسها المتين، وقال سبحانه: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ). [سورة غافر، الآية: 60].
وحقيقة الدعاء هو طلب الحاجة ممن يملكها، ونحن محتاجون دائما والله معط متفضل، ونحن فقراء والله الغني، إن هذا التوجه إلى الملك هو العبادة.(5/327)
وسمى الله تعالى الدعاء عبادة، و تكفل بالإجابة لمن دعا، (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ). [سورة التوبة، الآية: 111]. (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً). [سورة النساء، الآية: 122]. فقد قال سبحانه: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ). [سورة البقرة، الآية: 186].
(وقد سأل أعرابي الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟! فسكت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ). [سورة البقرة، الآية: 186].
[*] قال ابن كثير في تفسيره على الآية: المراد أنَّه تعالى لا يُخَيِّبُ دُعَاءَ دَاعٍ ولا يُشْغَلُهُ عنه شيء، بل هو سَمِيعُ الدُّعَاءِ، ففيه تَرْغِيبٌ في الدُّعَاءِ وأنه لا يَضِيعُ لَدَيْهِ سُبْحَانَهُ0
{تنبيه}: (قول الله جل وعلا: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ
(في هذه الآية لفتة عجيبة ينبغي أن ننتبه وأن نلتفت إليها:
ما سئل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن سؤال إلا وكان الجواب من الله تعالى على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله جل وعلا: قل يا محمد كذا وكذا قال الله: يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189] .. وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219] .. يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [البقرة:217] .. وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً [البقرة:222] .. يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الأنفال:1] .. يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب:63]
(إلا في هذه الآية، فلم يقل ربنا جل وعلا لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وإذا سألك عبادي عني فقل، لا والله، وإنما تولى الله جل وعلا بذاته العلية الإجابة على عباده، فقال سبحانه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186] ولم يقل: قل: يا محمد إني قريب،
لماذا؟(5/328)
حتى لا تكون هناك واسطة بين العبد وبين الله جل وعلا، ولو كانت هذه الواسطة هي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا واسطة بين العبد وبين الله، ادع الله جل وعلا في أي وقت شئت، ارفع أكف الضراعة إلى الله، لا تسأل نبياً ولا تسأل ولياً، وإنما سل الله الواحد القهار، ارفع أكف الضراعة إليه في أي وقت شئت، بل وفي أي مكان شئت، لترى الله جل وعلا سميعاً بصيراً مجيب الدعاء.:وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186] لا سؤال إلا منه، ولا طلب إلا منه، ولا رجاء إلا فيه، ولا توكل إلا عليه، ولا تفويض إلا إليه، ولا استعانة إلا به، ولا استغاثة إلا به، ولا ذبح إلا له، ولا نذر إلا له، ولا حلف إلا به، ولا طواف إلا ببيته جل وعلا، فلتكن عقيدتك وليكن توحيدك وإيمانك، أن ترفع إلى الله أكف الضراعة، بقولك: اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك، ومن الأمل إلا فيك، ومن التسليم إلا لك، ومن التفويض إلا إليك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الصبر إلا على بابك، ومن الذل إلا في طاعتك، ومن الرجاء إلا لما في يديك الكريمتين، ومن الرهبة إلا لجلالك العظيم: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله).
الجأ إلى الله جل وعلا، واعلم بأن الله سميع قريب يجيب الدعاء، يسمع دبيب النملة السوداء، تحت الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، قال تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة:1] تقول أمنا عائشة رضي الله عنها: [والله لقد كنت في جانب الغرفة فما سمعت حوار المجادلة، وسمعه الله من فوق سبع سماوات] نعم إنه السميع القريب المجيب: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1] ..
(وبَيَّنَ تعالى أنَّه يُنْعِمُ على من تَوَجَهَ إليه بالدُّعَاء، بِنِعْمَةِ الإجابة ولايَرُدُّهُ خائباً فقال {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} (75 ـ الصافات)(5/329)
[*] قال ابن الجوزي في تفسيره زَادُ اَلْمَسِيرِ على الآية الكريمة {نَادَانَا} أي دَعَانَا، وقال الرازي: هذه اللفظة العظيمة {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} تدل على أن الإجابة من النِّعَمِ العظيمة، فسبحانه عبَّر عن ذاته بصيغة اَلْجَمْعِ فقال {نَادَانَا} والقَادِرُ العَظِيمُ لا يَلِيقُ به إلا الإحْسَانُ العظيم، وسبحانه أعَادَ صيغة الجَمْعِ في قوله {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} ليدل على تَعْظِيمِ تلك النِّعْمَةِ، لا سيما وقد وُصِفَتُ تلك الإجابة بأنَّها نِعْمَتُ الإجابة، والفَاءُ في قوله تعالى {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} يدل على أنَّ حُصُولَ هذه الإجابة مُتَرَتِبٌ على ذلك الدُّعَاءِ، وهذا يدل على أن الدُّعَاءَ بالإخْلاَصِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الإجَابَةِ (1)
(حديث سلمان في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا.
قال العلماء: لا يَخْفَى أنَّ الكَرَمَ والحَيَاءَ إذا اجْتمَعَا يَكْونُ صَاحِبْهُمَا كَمَنْ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ أنَّ يَتْرُكَ العَطَاءَ مِنَ السَّائِلِينَ والضُّعَفَاءِ (2)
ولله درُّ من قال:
أتهزأُ بالدعاءِ وتزدريهِ ... وما تدري بما صنع الدعاءُ
سهامُ الليلِ لا تُخطي ولكن ... لها أمدٌ وللأمدادِ انقضاءُ
(فالدعاء نعمةٌ عظيمة، وَمِنَّةٌ عميمة، امتن الله تعالى بها على عباده، حيث أمرهم بالدعاء، ووعدهم بالإجابة والإثابة.
وشأن الدعاء عظيم، ونفعه عميم، ومكانته عالية في الدين، فما استجلبت النعم بمثله، ولا استدفعت النقم بمثله؛ ذلك أنه يتضمن توحيد الله، وإفراده بالعبادة دون من سواه، وهذا رأس الأمر، وأصل الدين.
(فما أشد حاجة العباد إلى الدعاء، بل ما أعظم ضرورتهم إليه؛ فالمسلم في هذه الدنيا لا يستغني عن الدعاء بحال من الأحوال.
فإن كان راعيًا ولاه الله رعية فما أحوجه إلى الدعاء؛ كي يثبت الله سلطانه، ويعينه على استعمال العدل في رعيته، ويحببه إلى رعيته، ويحبب الرعية إليه.
وإن كان داعيًا إلى الله _ تعالى _ فما أشد حاجته لدعاء ربه، وسؤاله الإعانةَ، والقبول، والتوفيق، والتسديد؛ ليثبت على الحق، ويصبر على عثار الطريق ومشاقه، ولتصيخ له الأسماع، وتَصْغى إليه الأفئدة.
__________
(1) بتصرف يسير عن تفسير الرازي على الآية (75 ـ الصافات)
(2) أنظر شرح سنن ابن ماجه للسندي، حديث رقم: 3855 0(5/330)
وإن كان مجاهدًا في سبيل الله _ فما أعظم حاجته للدعاء، الذي يطلب به النصر، ويستنزل السكينة والثبات في اللقاء، ويسأل ربه خذلان الأعداء، وإنزال الرعب في قلوبهم، وهزيمتَهم، وتفرق كلمتهم.
وإن كان مريضًا فما أشد فاقته وأعظم حاجته للدعاء؛ ليستشفي به من مرضه، ويسأل به كشف كربته، وأن يمن الله عليه بالشفاء والعافية.
وبالجملة فالمسلمون _ بل ومن في الأرض كلهم جميعًا _ بأمسِّ الحاجة للدعاء، وإخلاصه لرب الأرض والسماء؛ ليصلوا بذلك إلى خيري الدنيا والآخرة، فلن يهلك مع الدعاء أحد، فالسعيد من وفق لذلك، والمحروم من حرم لذة العبادة، أو أيس من رحمة الله وكان من القانطين، من وفق للدعاء فقد وفق للقول السديد، والعمل الرشيد.
عجبت لمن ترك الدعاء ووقف بباب البشر وهو يعلم أن دعاؤهم هباء، لا يجلب مرغوباً، ولا يمنع مكروهاً، ولكن لا عجب فليس كل أحدٍ يوفقُ للخير.
(واعلم علم اليقين أنه بدعوةٍ تتقلب الأحوال، فالعقيم يولد له، والسقيم يُشفى، والفقير يُرزق، والشقي يسعد، بدعوةٍ واحدةٍ أُغرق أُهل الأرض جميعهم إلا من شاء الله: وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً [نوح:26]، وهلك فرعون بدعوة موسى وقال موسى: رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى الْحياةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الألِيمَ [يونس:88]، ووهب ما وهب لسليمان بغير حساب بسؤال ربه الوهاب، وشفى الله أيوب من مرضه بتضرعه أَنّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]، وأغيث نبينا محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم بدر بالملائكة، بتَبتُّلِه إلى موالاه، مع قلة العدد وذات اليد، إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9].
(فإذا كان الدعاء بهذه المنزلة العالية والمكانة الرفيعة _ فأجدر بالعبد أن يتفقه فيه، وأن يلم بشيء من أحكامه _ ولو على سبيل الإجمال _؛ حتى يدعو ربه على بصيرة وهدى، بعيدًا عن الخطأ والاعتداء؛ فذلك أرجى لقبول دعائه، وإجابة مسألته.(5/331)
(فلا شيء أكرم على الله من الدعاء، ما استجلبت النِّعم، ولا استدفعت النقم بمثله، به تفرج الهموم، وتزول الغموم، كفاه شرفا قرب الله من عبده حال الدعاء، وأعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأضعفهم رأياً وأدناهم همة من تخلّف عن النداء، الدعاء هو عين المنفعة ورجاء المصلحة، ودعاءُ المسلم بين يدي جواد كريم يعطي ما سُئل، إما معجّلاً وإما مؤجّلاً.
[*] يقول ابن حجر -رحمه الله-: "كل داع يستجاب له، لكن تتنوع الإجابة، فتارة تقع بعين ما دعا به، وتارةً بعِوضه".
(وللدعاء فضائل عظيمة، وثمرات جليلة، وأسرار بديعة، وهاك فضائل الدعاء جملةً وتفصيلا:
[*] (أولاً فضائل الدعاء جملةً:
(1) أن الدعاء طاعة لله وامتثال لأمره تعالى:
(2) السلامة من الكبر:
(3) الدعاء هو العبادة:
(4) الدعاء أكرم شيء على الله:
(5) الدعاء سبب لدفع غضب الله:
(6) الدعاء دليل على التوكل على الله:
(7) الدعاء وسيلة لكبر النفس وعلو الهمة:
(8) الدعاء سلامة من العجز، ودليل على الكياسة:
(9) ثمرة الدعاء مضمونة بإذن الله:
(10) الدعاء سبب لدفع البلاء قبل نزوله:
(11) الدعاء سبب لرفع البلاء بعد نزوله:
(12) الدعاء يفتح للعبد باب المناجاة ولذائذها:
(13) حصول المودة بين المسلمين:
(14) الدعاء من صفات عباد الله المتقين:
(15) الدعاء سبب للثبات والنصرعلى الأعداء:
(16) الدعاء مَفْزَعُ المظلومين، وملجأ المستضعفين:
(17) الدعاء دليل على الإيمان بالله، والاعتراف له بالربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات:
(18) وربنا سبحانه لا يعبأ بعباده لولا ضراعتهم إليه.
(19) والدعاء من صفات أنبياء الله وأصفيائه.
(20) الدعاء نفعه عميم، نفعه يلحق الأحياء في دنياهم، والأمواتَ في لحودهم.
(21) الدعاء بإذن الله تعالى كفيلٌ بدفع البلاء، ويمنع وقوع العذاب والهلاك.
(22) الدعاء أيضاً به يُستنزلُ النصر من الله العلي القدير:
(23) الدعاء يؤكد ثقة العبد بربه، حين يوقن بالإجابة:
[*] (ثانياً فضائل الدعاء تفصيلا:
(1) أن الدعاء طاعة لله وامتثال لأمره تعالى:
قال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر/60]
وقال تعالى: (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [الأعراف/29]
فالداعي مطيع لله، مستجيب لأمره.
(2) السلامة من الكبر:(5/332)
قال تعالى: (وَقَالَ رَبّكُمْ ادْعُونِيَ أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنّ الّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنّمَ دَاخِرِينَ) [غافر / 60]
[*] قال الإمام الشوكاني في هذه الآية: والآية الكريمة دلت على أن الدعاء من العبادة؛ فإنه سبحانه وتعالى أمر عباده أن يدعوه، ثم قال: [إن الذين يستكبرون عن عبادتي].
فأفاد ذلك أن الدعاء عبادة، وأن ترك دعاء الرب _سبحانه_ استكبار، ولا أقبح من هذا الاستكبار.
وكيف يستكبر العبد عن دعاء من هو خالق له، ورازقه، وموجده من العدم، وخالق العالم أجمع، ورازقه، ومحييه، ومميته، ومثيبه، ومعاقبه؟!
فلا شك أن هذا الاستكبار طرف من الجنون، وشعبة من كفران النعم. (1)
(3) الدعاء هو العبادة:
قال تعالى: (وَمَن يَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّه إِنّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) [سورة: المؤمنون - الآية: 117]
(حديث النعمان ابن بشير في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الدعاء هو العبادة.
[*] قال في تُحْفَةِ الأحْوَذِي بشرح جامع الترمذي (2):
إنَّ الدُّعَاءَ هو الْعِبَادَةُ سَوَاءٌ اُسْتُجِيبَ أوْ لَمْ يُسْتَجَبْ لأنَّهُ إِظْهَارُ الْعَبْدِ الْعَجْزَ وَالاحْتِيَاجَ مِنْ نَفْسِهِ وَالاعْتِرَافَ بِأنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إجَابَتِهِ كَرِيمٌ لا بُخْلَ لَهُ ولا فَقْرَ ولا اِحْتِيَاجَ لَهُ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى يَدَّخِرَ لِنَفْسِهِ وَيَمْنَعَهُ مِن عِبَادِهِ، ثُمَّ قال: اِسْتُدِلَّ بِالآيةِ عَلَى أنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ لأنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ وَالْمَأْمُورُ بِهِ عِبَادَةٌ، ثُمَّ نَقَلَ عن الطِّيبِيُّ أنَّه قال: الدُّعَاءُ هو إِظْهَارُ غَايَةِ التَّذَلُّلِ وَالافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ وَالاسْتِكَانَةِ لَهُ وَمَا شُرِعَتْ الْعِبَادَاتُ إِلاَّ لِلْخُضُوعِ لِلْبَارِي سُبْحَانَهُ وَإِظْهَارِ الافْتِقَارِ إليهِ تَعَالىَ0
__________
(1) تحفة الذاكرين للشوكاني ص28.
(2) أنظر باب: الدعوات عن رسول الله، حديث رقم: 3294 0(5/333)
[*] وقال الفَخْرُ الرَّازي (1): لا مَقْصُودَ من جميع التَّكَالِيفِ إلا مَعْرِفَةُ ذُلِّ العُبُودِيَةِ وعِزَّ الرُّبوبِيَةِ، فإذا كان الدُّعَاءُ مُسْتَجْمِعاً لهذين المَقَامَيْنِ، لا جَرَمَ كان الدُّعَاءُ أعْظَمَ أنواع العبادات 0
[*] وقال الشوكاني (2): الآية الكريمة دَلَّتْ على أن الدُّعَاءَ من العبادة، فإنه سبحانه وتعالى أمَرَ عباده أن يَدْعُوهُ ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} فأفاد ذلك أن الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ، وأنَّ تَرْكَ دُعَاءُ الرَّبِّ سبحانه اسْتِكْبَارٌ، ولا أقْبَحَ من هذا الاسْتِكْبَار 0
[*] وقال الفَخْرُ الرَّازي (3): من المعلوم بالضرورة أن الإنسان لا يَنْتَفِعُ في يوم القيامة إلا بطاعة الله تعالى، فلا جَرَمَ كان الاشتغال بالطَّاعَةِ مِنْ أهَمِّ اَلْمُهِمَاتِ، ولَمَّا كان أشرف أنواع الطَّاعات الدُّعَاءُ والتَّضَرُعُ، لا جَرَمَ أمَرَ الله سبحانه وتعالى به في هذه الآية فقال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ} 0
[*] وقال السِنْدِيُّ في شرحه لِسُنَنِ ابن مَاجَه:
الدُّعَاءُ من وظائف العبودية بل أعلاها00 ومن يعلم أن حقيقة العبادة إظُهَارُ التَّذَلُلِ والاِفْتِقَارِ والاِسْتِكَانَةِ، والدُّعَاءُ في ذلك في الغاية القصوى، يَظْهَرُ له سِرُّ كَوْنَ الدُّعَاءِ مُخُّ العِبَادَةِ (4)
[*] وقال الشيخ علي الحُذَيْفِيُّ: الدُّعَاءُ تتحقق به عبادة ربِّ العالمين؛ لأنه يتضمَّن تَعَلُّقَ القلبِ بالله تعالى، والإخلاص له، وعدم الاِلْتِفَاتِ إلى غير الله عزّ وجلّ في جَلْبِِ النَّفْعِ ودَفْعِ الضُّرِ، ويتضمَّن الدُّعَاءُ اليقين بأن الله قدير لا يُعجزه شيء00 ويتضمَّن الدّعاءُ اِفْتِقَارَ العبدِ وشِدَّةَ اضطرارِه إلى ربّه، وهذه المعَاني العظيمةُ هي حقيقةُ العِبادة (5)
__________
(1) أنظر تفسير الرازي على الآية (55 ـ الأعراف)
(2) أنظر تحفة الذاكرين، ص 28 0
(3) أنظر تفسيره على الآية (60 ـ الأعراف)
(4) أنظر شرح السندي لسنن ابن ماجه على الحديث رقم: 3817، وحديث " الدعاء مخ العبادة " رواه الترمذي وضعفه الألباني 0
(5) من خطبة الجمعة في المسجد النبوي بالمدينة المنورة لفضيلة الشيخ: علي الحذيفي بتاريخ: 13 - 4 - 1424هـ وهي بعنوان: فضل الدعاء وآدابه، يمكن قراءتها أو الاستماع إليها عبر موقع: www.alminbar.net على الشبكة العنكبوتية 0(5/334)
(فالدعاء من أعظم العبادة لله تعالى، لأن فيه إظهاراً للذل والفاقة والحاجة إلى الله عز وجل، وفيه خضوع وخشوع له سبحانه من عبده الذي يدعوه.
(فإذا علمت أن الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ، فالأصل فيها: الاِتِّباَعُ وَعَدَمِ الاِعْتِدَاءِ، والاِتِّباَعُ في عِبَادَةِ الدُّعَاء يَجْمَعُ لك أجْرَيْنِ: أجْرُ الدُّعَاءِ، وأجْرُ الاِتِّباَعِ 0
{تنبيه}: (الذي يتأمل في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (الدعاء هو العبادة) يتضح له وضوحاً جلياً كيف أن الله تعالى كرمه فياضٌ وجوده متتابع حيث جعل سؤال عباده له لقضاء حوائجهم من أعظم العبادات وأجلِّ القربات فعظَّم الرغبة عندهم في الدعاء حتى قال (الدعاء هو العبادة)، بل وذم ترك الدعاء وعدَّه استكباراً عليه وهدده بأشدِ أنواع التهديد حيث قال تعالى: (وَقَالَ رَبّكُمْ ادْعُونِيَ أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنّ الّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنّمَ دَاخِرِينَ)
(والدعاءُ تتحقَّق به عبادةُ ربِّ العالمين؛ لأنَّه يتضمَّن تعلّقَ القلب بالله تعالى، والإخلاصَ له، وعدمَ الالتفات إلى غير الله عز وجل في جلبِ النفع ودفع الضرّ، ويتضمَّن الدعاءُ اليقينَ بأنّ الله قدير لا يُعجزه شيء، عليم لا يخفى عليه شيء، رحمن رحيم، حيّ قيّوم، جواد كريم، محسِن ذو المعروف الذي لا ينقطع أبداً، لا يُحَدُّ جودُه وكرمه، ولا ينتهي إحسانُه ومعروفه، ولا تنفد خزائن بركاته.
فالدعاء استعانة من عاجز ضعيف بقوي قادر، واستغاثة من ملهوف برب قادر، وتوجه ورجاءٌ إلى مصرِّفِ الكون ومدبِّر الأمر، لِيُزيلَ عِلَّة، أو يَرْفَعَ مِحْنَة، أو يَكْشِفَ كُرْبَة، أو يُحَقِّقَ رجاءً أو رَغْبَة ... قائلاً
يا أمان الخائفين سبحانك ما أحلمك على من عصاك وما أقربك ممن دعاك وما أعطفك على من سألك وما أرأفك بمن أمَلك، من الذي سألك فحرمته، ومن الذي فر إليك فطردته أو لجأ إليك فأسلمته، أنت ملاذنا ومنجانا فلا نعول إلا عليك ولا نفر من خلقك ومنك إلا إليك يا أمان الخائفين.
إن المؤمن حين يستنفذ الأسبابَ في عمل مشروع، ويستعصي عليه الأمرُ، والأسبابُ لا تُوصِلُهُ إلى ما يسْعَى من أجْلِهِ، ينقلُ الأمر كلَّهُ منْ قدُراتِهِ هو إلى قدرة الله، ويفزَعُ إلى الله تعالى واهبِ الأسباب ويقولُ: يا رب، ويدعو ... فالأسباب إذا تخلَّتْ فلن يتخلى عنه الله ... فهو سبحانه يجيب دعوة المضطرين ...(5/335)
فلأجلِ هذه الصفات العظيمة وغيرِها يُرجى ربُّنا ويُدعى، ويسأله من في السموات والأرض حاجاتِهم باختلاف لغاتِهم فما أعظمَ شأنَ الدعاء، وما أجلَّ آثارَه.
فالدعاء من أعظم العبادات، فيه يتجلى الإخلاص والخشوع، ويظهر صدق الإيمان, وتتمحص القلوب, وهو المقياس الحقيقي للتوحيد، ففي كلامٍ لشيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: إذا أردت أن تعرف صدق توحيدك فانظر في دعائك.
(4) الدعاء أكرم شيء على الله:
(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ليس شيء أكرم على الله من الدعاء.
[*] قال في تُحْفَةُ الأحوذي بشرح جامع الترمذي: لأنَّ فِيهِ إظْهَارَ الفَقْرِ والعَجْزِ والتَّذلُّلِِ والاعْتَرَافِ بِقِوَةِ الله وقُدْرَتِهِ 0
[*] وقال العلماء: اِحْتَلَّ الدعاء تلك المنزلة العظيمة والمكانة الكريمة لِدَلاَلَتِهِ على قُدْرَةِ الله تعالى الغَنِيِّ الجَوَادِ الكَرِيمِ وعَجْزِ الدَّاعِي الفَقِيرِ إلى الله تَعَالَى (1)
اَلْدُّعَاء مِنْ أعْظَمِ أنْوَاعِ اَلْعِبَادَاتِ:
[*] قال ابن رَجَبٍ: اعلم أن سُؤالَ الله عَزَّ وجَلَّ دُونَ خَلْقِهِ هو اِلْمُتَعَيِنُ، لأن السؤال فيه إظهار الذُلِّ من السائل والمَسْكَنَةِ والحَاجَةِ والافْتِقَارِ، وفيه الاعتراف بِقُدْرَةِ المَسْؤولِ على رَفْعِ هذا الضُّرِّ ونَيْلِ المطلوب، وجَلْبِ المَنَافِعِ ودَرْءِ المَضَارِ، ولا يَصْلُحُ الذُلُّ والافْتِقَارُ إلا لله وحده لأنه حقيقة العبادة (2)
[*] قال الشوكاني في هذا الحديث: قيل وجه ذلك أنه يدل على قدرة الله_تعالى_ وعجز الداعي.
والأولى أن يقال: أن الدعاء لمَّا كان هو العبادة، كان أكرم على الله من هذه الحيثية؛ لأن العبادة هي التي خلق الله _سبحانه_ الخلق لها، كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ) [سورة: الذاريات - الأية: 56]
(ولمّا كان الدّعاءُ هو العِبادة فإنّه لا يكون إلا لله وحدَه، فلا يُدعَى من دون الله ملكٌ مقرَّب، ولا نبيّ مرسَل، ولا وليّ ولا جنّيّ، قال الله تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) [الجن /18]
،
__________
(1) أنظر فيض القدير الحديث رقم 7602، ج 5، ص 443 0
(2) أنظر جامع العلوم والحكم (ص180، 181).(5/336)
وقال تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ الها ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ) [الفرقان /68]
، ومن دعَا مخلوقًا من دون الله نبيًّا أو ملكًا أو وليًّا أو جنّيًّا أو ضريحًا ونحوَه فقد وقَع في الشّرك الأكبر، قال الله تعالى: (وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) [المؤمنون / 117]
وقال تبارك وتعالى: (وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظَّالِمِينَ * َإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يونس/106، 107]
وقال تَبارك وتعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ * الُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ) [سبأ / 40،41]
وقال تبارك وتعالى: (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْء إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ) [الرعد / 14]
[*] قال ابن رجب رحمه الله:
والله سبحانه يحبُّ أن يُسأل، ويُرغبُ إليه في الحوائج، ويُلحُّ في سؤاله ودعائه، ويغضب على من لا يسأله، ويستدعي من عباده سؤالَه، وهو قادر على إعطاء خلقه كلهم سؤلهم من غير أن ينقص من ملكه شيء، والمخلوق بخلاف ذلك، يكره أن يسأل ويحب أن لا يسأل؛ لعجزه وفقره وحاجته، ولهذا [*] قال وهب بن منبه - لرجل كان يأتي الملوك -: ويحك تأتي من يغلق عنك بابَه، ويظهر لك فَقْرَه، ويواري عنك غناه، وتدع من يفتح لك بابه نصف الليل ونصف النهار، ويظهر لك غناه، ويقول ادعني أستجب لك.
[*] وقال طاووس لعطاء:
إياك أن تطلب حوائجك إلى من أغلق بابه دونك، ويجعل دونها حجّابَه، وعليك بمن بابُه مفتوح إلى يوم القيامة، أمرك أن تسألَهُ، ووعدك أن يجيبَك ... (1).
__________
(1) - جامع العلوم والحكم (1/ 481).(5/337)
(5) الدعاء سبب لدفع غضب الله: فمن لم يسألِ الله يغضبْ عليه.
(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من لم يسال الله يغضب عليه.
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" وهذا يدلّ على أن رضاه في سؤاله وطاعته، وإذا رضي الرّبّ تبارك وتعالى، فكلّ خير في رضاه، كما أنّ كلّ بلاء ومصيبة في غضبه ".
ففي هذا الحديث دليل على أن الدعاء من العبد لربه من أهم الواجبات، وأعظم المفروضات؛ لأن تجنب ما يغضب الله منه لا خلاف في وجوبه. (1)
[*] قال يحي ابن معاذ:
يا من يغضب على من لا يسأله لا تمنع من سألك.
ولقد أحسن من قال:
لا تسألنَّ بُنَيَّ آدمَ حاجةً ... وسل الذي أبوابُهُ لا تحجبُ
اللهُ يغضبُ إن تركت سؤالَه ... وبنيُّ آدمَ حين يُسألُ يغضبُ
وبنيُّ آدمَ حين يُسألُ يغضبُ
(6) الدعاء دليل على التوكل على الله: فَسِرُّ التوكل على الله وحقيقتُهُ هو اعتماد القلب على الله وحده.
وأعظم ما يتجلى التوكل حال الدعاء؛ ذلك أن الداعي حال دعائه مستعين بالله، مفوض أمره إليه وحده دون سواه.
ثم إن التوكل لا يتحقق إلا بالقيام بالأسباب المأمور بها، فمن عطَّلها لم يصح توكله، والدعاء من أعظم هذه الأسباب إن لم يكن أعظمها.
(7) الدعاء وسيلة لكبر النفس وعلو الهمة: فبالدعاء تكبر النفس وتشرف، وتعلو الهمة وتتسامى؛ ذلك أن الداعي يأوي إلى ركن شديد، ينزل به حاجاته، ويستعين به في كافة أموره، وبهذا يقطع الطمع مما في أيدي الخلق، فيتخلص من أسرهم، ويتحرر من رقهم، ويسلم من مِنَّتِهم؛ فالمنة تصدع قناة العزة، وتنال نيلها من الهمة.
وبالدعاء يسلم من ذلك كله، فيظل مهيب الجناب، موفور الكرامة، وهذا رأس الفلاح، وأسُّ النجاح.
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته لقضاء حاجته ودفع ضرورته_ قويت عبوديته له، وحريته مما سواه؛ فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له_ فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه. (2)
(8) الدعاء سلامة من العجز، ودليل على الكياسة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أبخل الناس من بخل بالسلام و أعجز الناس من عجز عن الدعاء.
(أعجز الناس من عجز عن الدعاء): أعظم ما يشق على المسلم أن يغلق عليه في الدعاء،
[*] قال عمر بن الخطاب:(5/338)
" أني لا أحمل هم الإجابة ولكن أحمل همّ الدعاء" فاذا فتح على العبد في دعائه من معاني الحمد والثناء دعا الله وحسن الظن به والتعلق والرجاء به وتعظيم الرغبة مما عند الله والثقة بوعد الله فينبغي عليه أن يقبل على الدعاء وأن يصرف همته في ذلك لاسيما في الأزمان والأماكن الفاضلة , وعند نزول الضر وحصول الشدائد, ومن أكثر طرق هذا الباب فتح له, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
فأضعف الناس رأيًا، وأدناهم همة، وأعماهم بصيرة_من عجز عن الدعاء؛ ذلك أن الدعاء لا يضره أبدًا، بل ينفعه.
(9) ثمرة الدعاء مضمونة بإذن الله: فإذا أتى الداعي بشرائط الإجابة فإنه سيحصل على الخير، وسينال نصيبًا وافرًا من ثمرات الدعاء ولا بد.
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب له فإما أن يعجل له في الدنيا و إما أن يدخر له في الآخرة ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل.
ففي ما مضى من الأحاديث دليل على أن دعاء المسلم لا يهمل، بل يعطى ما سأله، إما معجلاً، وإما مؤجلاً، تفضلاً من الله_جل وعلا.
[*] قال ابن حجر: كل داع يستجاب له، لكن تتنوع الإجابة؛ فتارة تقع بعين ما دعا به، وتارة بعِوَضِهِ. (1)
(وبين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الله تعالى يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا.
(حديث سلمان في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا.
(10) الدعاء سبب لدفع البلاء قبل نزوله:
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الجواب الكافي:
والدعاء من أنفع الأدوية وهو عدو البلاء يدافعه ويعالجه ويمنع نزوله ويرفعه أو يخففه إذا نزل، وله مع البلاء ثلاث مقامات أحدها أن يكون أقوي من البلاء فيدفعه الثاني أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء فيصاب به العبد ولكن قد يخففه وإن كان ضعيفا الثالث أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه.
(حديث سلمان في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لا يرد القضاء إلا الدعاء و لا يزيد في العمر إلا البر.
[*] قال الشوكاني عن هذا الحديث: فيه دليل على أنه_سبحانه_ يدفع بالدعاء ما قد قضاه على العبد، وقد وردت بهذا أحاديث كثيرة.
وقال: والحاصل أن الدعاء من قدر الله_ عزَّ وجلَّ _ فقد يقضي على عبده قضاءً مقيدًا بأن لا يدعوه، فإذا دعاه اندفع عنه.(5/339)
(11) الدعاء سبب لرفع البلاء بعد نزوله:
(حديث عائشة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يغني حذر من قدر و الدعاء ينفع مما نزل و مما لم ينزل و إن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة.
ومعنى يعتلجان: أن يتصارعان، ويتدافعان.
(ولهذا يجدر بالعبد إذا وجد من نفسه النشاط إلى الدعاء والإقبال عليه أن يستكثر منه؛ فإنه مجاب، وتقضى حاجته بفضل الله، ورحمته، فإنَّ فَتْحَ أبواب الرحمة دليل على إجابة الدعاء.
(12) الدعاء يفتح للعبد باب المناجاة ولذائذها: فقد يقوم العبد لمناجاة ربه، وإنزال حاجاته ببابه _ فَيُفْتَح على قلبه حال السؤال والدعاء من محبة الله، ومعرفته، والذل والخضوع له، والتملق بين يديه _ ما ينسيه حاجته، ويكون ما فتح له من ذلك أحبَّ إليه من حاجته، بحيث يحب أن تدوم له تلك الحال، وتكون آثر عنده من حاجته، ويكون فرحه بها أعظمَ من فرحه بحاجته لو عجلت له وفاته تلك الحال. (1)
[*] قال بعض العُبَّاد: إنه لتكون لي حاجةٌ إلى الله، فأسأله إياها، فيفتح لي من مناجاته، ومعرفته، والتذلل له، والتملق بين يديه _ ما أحبُّ معه أن يُؤخِّر عني قضاءها، وتدوم لي تلك الحال. (2)
(13) حصول المودة بين المسلمين: فإذا دعا المسلم لأخيه المسلم في ظهر الغيب_ استجيبت دعوته، ودل ذلك على موافقة باطنه لظاهره، وهذا دليل التقوى والصدق والترابط بين المسلمين، فهذا مما يقوي أواصر المحبة، ويثبت دعائمها، قال تعالى: (إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرّحْمََنُ وُدّاً) [مريم / 96]
يعني: يَوَدُّن، ويُوَدُّن، يُحِبُّن، ويُحَبُّن، والدعاء _ بلا شك _ من العمل الصالح.
(14) الدعاء من صفات عباد الله المتقين: قال _ جلَّ شأنه _ عن أنبيائه _ عليهم السلام: (إِنّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ) [الأنبياء / 90]
[*] وقال عن عباده الصالحين: (وَالّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاّ لّلّذِينَ آمَنُواْ رَبّنَآ إِنّكَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ) [الحشر / 10] إلى غير ذك من الآيات في هذا المعنى.
__________
(1) انظر مدارج السالكين لابن القيم، 2/ 229.
(2) مدارج السالكين، 2/ 229.(5/340)
(15) الدعاء سبب للثبات والنصرعلى الأعداء:
قال تعالى عن طالوت وجنوده لما برزوا لجالوت وجنوده: (وَلَمّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة /250]
فماذا كانت النتيجة؟
[فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت] [البقرة /251]
(16) الدعاء مَفْزَعُ المظلومين، وملجأ المستضعفين:
فالمظلوم _ أو المستضعف _ إذا انقطعت به الأسباب، وأغلقت في وجهه الأبواب، ولم يجد من يرفع عنه مظلمته، ويعينه على من تسلط عليه وظلمه، ثم رفع يديه إلى السماء، وبث إلى الجبار العظيم شكواه _ نصره الله وأعزه، وانتقم له ممن ظلمه ولو بعد حين.
(ولهذا دعا نوح _ عليه السلام _ على قومه عندما استضعفوه، وكذَّبوه، وردُّا دعوته.
(وكذلك موسى _ عليه السلام _ دعا على فرعون عندما طغى، وتجبر، وتسلط، ورفض الهدى ودين الحق؛ فاستجاب الله لهما، وحاق بالظالمين الخزي في الدنيا، وسوء العذاب في العقبى.
وكذلك الحال بالنسبة لكل من ظُلِم، واستُضْعِف؛ فإنه إن لجأ إلى ربه، وفزع إليه بالدعاء _ أجابه الله، وانتصر له وإن كان فاجرًا.
(حديث ا بن عباس في الصحيحين) قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذٍ ابن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتُردُ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائمَ أموالهم، واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب.
(حديث خزيمة بن ثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اتقوا دعوة المظلوم فإنها تُحْمَلُ على الغمام يقول الله: و عزتي و جلالي لأنصرنك و لو بعد حين.
(حديث ابن عمر في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دعوة المظلوم مستجابة و إن كان فاجرا ففجوره على نفسه.(5/341)
{تنبيه}: (واعلموا بأن الله تعالى لا يرد دعوة المظلوم ولو كانت من كافر، لا تقولوا بأن هذا كافر لا حرمة له، نعم. لا حرمة له؛ لأنه كافر نجس، ولكن لا تظلمه، ولا تأكل عليه حقه، ولا تأخذ منه حقه، أعطه حقه كاملاً موفوراً غير منقوص ولا تظلمه، فلو دعا عليك وهو كافر لاستجاب الله دعوته، وكفره على نفسه، وفجوره على نفسه، أما دعوة المظلوم فيرفعها الله فوق الغمام، ويقول لها: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) وكانت وصية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذ وهو ذاهب إلى اليمن: (واتق دعوة المظلوم -وكم من الناس لا يهتم بها، ولا يأبه لها- فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
اعلم بأن الله يمهلك ولا ينساك ولا يغفل عنك، فإن كنت ظالماً لأحد من عباد الله ولأحد من خلق الله كافراً كان أو مسلماً، فرد إليه المظلمة قبل أن يأتي يوم لا درهم فيه ولا دينار، ولا مناصب ولا كراسي ولا وزارات، ويؤخذ من حسناتك -يا عبد الله- فتعطى لمن ظلمت، حتى إذا ما فنيت حسناتك أُخذ من سيئات من ظلمتهم في الدنيا فطرحت عليك، فطرح صاحب المظالم على وجهه في النار، وهذا هو المفلس، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
[*] قال الإمام الشافعي وما أجمل ما قال:
وربَّ ظلومٍ قد كفيت بحربه ... فأوقعه المقدور أيَّ وقوعِ
فما كان لي الإسلامُ إلا تعبدًا ... وأدعيةً لا تُتَّقى بدروع
وحسبك أن ينجو الظلومُ وخلفه ... سهامُ دعاءٍ من قِسيِّ ركوع
مُرَيَّشة بالهدب من كل ساهرٍ ... منهلة أطرافها بدموع (1)
وقال:
أتهزأ بالدعاء وتزدريه ... وما تدري بما صنع الدعاءُ
سهام الليل لا تخطي ولكن ... له أمدٌ وللأمد انقضاءُ (2)
(وإذا تقطعت بك -أيها المظلوم- الأسباب، وأُغلقت في وجهك الأبواب، فاقرع أبواب السماء، وُبثَّ إلى الجبار اللأواء، فهو مفزع المظلومين، وملجأ المستضعفين، وَعَدَ بنصرة الملهوف، وإجابة المظلوم، ظَلَم رجل سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- فقال سعد: (اللهم أعم بصره، وأطل عمره، عرضه للفتن)،
(قال الراوي: فأنا رأيته بعد قد عمي بصره، وقد سقط حاجبه على عينيه من الكبر، ويقول: كبير مفتون أصابته دعوة سعد.
__________
(1) ديوان الشافعي، تحقيق: د. محمد عبد المنعم خفاجي، ص109.
(2) ديوان الشافعي، ص75.(5/342)
(فيا ويل من وجهت له سهام المظلومين، ورفعت عليه أيدي المستضعفين، فاصبر -أيها المصاب- على ما قدر، فالنصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، واليسر مع العسر، والبلاء المحض هو ما يشغلك عن ربك، وأما ما يقيمك بين يديه ففيه كمالك وعزك، وإذا أقبل اليسر، وحل الفرج، وزالت الغموم، وما أقربَ الأمر، فاحمد الله على ما كشف، ففي الحمد شكر وزيادة نِعَم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر:60].
(17) الدعاء دليل على الإيمان بالله، والاعتراف له بالربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات: فدعاء الإنسان لربه متضمن إيمانه بوجوده، وأنه غني، سميع، بصير، كريم، رحيم، قادر، مستحق للعبادة وحده دون من سواه.
(18) وربنا سبحانه لا يعبأ بعباده لولا ضراعتهم إليه، قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً [الفرقان:77]
(19) والدعاء من صفات أنبياء الله وأصفيائه، إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ [الأنبياء:90]، وإمام الحنفاء يقول: وَأَدْعُو رَبّى عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا [مريم:48].
(20) الدعاء نفعه عميم، نفعه يلحق الأحياء في دنياهم، والأمواتَ في لحودهم، (حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقةٍ جارية أو علمٍ ينتفع به أو ولدٌ صالحٌ يدعو له.
(21) الدعاء بإذن الله تعالى كفيلٌ بدفع البلاء، ويمنع وقوع العذاب والهلاك، وهو سلاح المؤمن، لا شيء من الأسباب أنفع ولا أبلغ في حصول المطلوب منه، هو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه أو يخففه إذا نزل،(5/343)
فالدعاء - بإذن الله - كفيل بدفع البلاء إذا صدر من قلب مؤمن متقٍ خاشعٍ مخبتٍ لله عز وجل، ومن لسان متضرع، ومن كف صادق لله عز وجل. يقول الله عز وجل: (وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). [سورة الأنعام، الآيات: 42 - 45].
(فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ). [سورة الأنعام، الآيات: 43].
(والمعنى: فهلا إذا رأوا العقوبة تنزل بجيرانهم، يشردون من أوطانهم، تستلب أموالهم، تنتهك حرماتهم، تحتل بلادهم، تهدم مقدساتهم تحتل بلادهم، فهلا إذا رأوا ذلك رجعوا وجأروا إلى الله.
هلا تابوا وتركوا ما القوم عليه سائرون خشية أن يصيبهم ما أصابهم؟!.
لا، ولكنهم لجّوا في طغيانهم يعمهون، فترى أهل الربا على الربا، وأهل التلفاز على التلفاز، وأهل الخنا على الخنا، وأهل الغناء على الغناء، وأهل ترك الصلاة على تركها، والنساء المتبرجات هن هن، فلم يغيروا ولم يبدلوا هذا وإنهم يرون عقوبة الله عز وجل.
أخرج الإمام أحمد في تفسير هذه الآية: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ). [سورة الأنعام، الآيات: 44]. عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا رأيت الله يُعْطِي العبدَ من الدنيا على مَعاصيه ما يُحِبُّ، فإنما هو اسْتِدْرَاج. ثم تلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ). [سورة الأنعام، الآيات: 44].(5/344)
وقال سبحانه وتعالى: (فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ). [سورة يونس، الآية: 98]. ذلك أن قوم يونس عليه السلام لما عصوا، وخرج نبيهم ذي النون مغاضباً، وترك قومه ووعدهم بالعقوبة بعد ثلاث ليالي، وقد علموا أنّه لا يكذب لأنه نبي من عند الله عزّ وجل، فخشوا العقوبة وأخذوا نساءهم وأطفالهم وأنعامهم وإبلهم وبقرهم وغنمهم، وجأروا إلى الله عز وجل ثلاثة أيام، وقيل: أربعين ليلة، ونادوا الله سبحانه وتعالى بأسمائه، واستغاثوا، وتابوا إلى الله عزّ وجل، فصرف الله سبحانه وتعالى عنهم العقوبة، وقد أوشكت أن تحل بهم.
(والحاصل أنّ الدعاء بإذن الله نافع في رفع البلاء ودفع العقوبة إذا ما صدر من قلب مؤمن صادق لله عز وجل. ولقد كان نبيكم عليه الصلاة والسلام أفزعُ الناس إلى الدعاء، وخصوصاً إذا ألمت مصيبة أو نزلت نازلة، حتى أنه إذا رأى تغيّراً في أفق الجو لجأ إلى الله عز وجل بالدعاء، وجأر إلى الله سبحانه وتعالى بالتضرّع: (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ). [سورة الأعراف، الآية: 55].(5/345)
واسمعوا واقرأوا قصته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند غزوة الأحزاب، وفي بدر لما خرج لملاقاة المشركين، فقد بات ليلته والناس نائمون، بات ليلته كلها وهو يدعو الله عزّ وجل، وقد وعده الله عزّ وجل أن ينصره، ومع ذلك بات يدعو الله طيلة تلك الليلة، يدعو الله بقلب خاشع، وبكف ضارع يجأر إلى الله عز وجل، ويبكي ويتضرع، ويمرّغ وجهه بين يدي رب العالمين في ظلمات الليالي صلوات الله عليه، ففي الحديث "لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ). [سورة الأنفال، الآية: 9]."
والقصص مشهورة ومعروفة، فحينما يلجأ العبد إلى ربّه وقت الشدة، ويكشف الله عزّ وجل عنه ما يجد: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ). [سورة النمل، الآية: 62].
وقد ذُكر عن بعض الصالحين وغيرهم أنهم دعوا الله عز وجل وقت الشدة، وقد صدقوا اللجأ والاضطرار إلى الله عز وجل، فرفع الله عز وجل عنهم البلاء.(5/346)
[*] وقد ذُكر عن أيوب السختياني عليه رحمة الله، وهو أحد رجال الصحيحين، وأحد الأئمة الأثبات أنّه خرج مع قومه وأهل بلده في الحج، فأصابهم في الصحراء عطش شديد، ونفدت مياههم، فقالوا له: يا أيوب، ألا تستغيث الله عز وجل لنا؟! قال: ومن أنا حتى استغيث الله عز وجل لكم؟! فألحوا عليه، وحلفوا، فاقسم عليهم أن لا يخبروا أحداً بما يحصل. فقالوا: نعم فخط خطاً بعمامته، ودعا الله عزّ وجل، فما أن فرغ من دعائه حتى ثارت تلك الخطة التي خطها بعمامته ماءاً، وشربوا وسقوا، وانصرفوا إلى حجهم.
(وفي رواية عن سعيد ابن عنبسة قال: بينما رجل جالس وهو يعبث بالحصى ويحذف به إذ رجعت حصاة منه عليه فصارت في أذنه، فجهدوا بكل حيلة فلم يقدروا على إخراجها، فبقيت الحصاة في أذنه مدة وهي تألمه، فبينما هو ذات يوم جالس إذ سمع قارئ يقرأ: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ).
فقال الرجل: يا رب أنت المجيب وأنا المضطر فأكشف عني ما أنا فيه، فنزلت الحصاة من أذنه في الحال.
(وروى البيهقي في فضائل الأعمال عن حماد ابن سلمة أن عاصما ابن أبي إسحاق شيخ القراء في زمانه قال: أصابتني خصاصة -أ ي حاجة وفاقة - فجئت إلى بعض إخواني فأخبرته بأمري فرأيت في وجهه الكراهة، فخرجت من منزله إلى الصحراء ثم وضعت وجهي على الأرض وقلت يا مسبب الأسباب، يا مفتح الأبواب، يا سمع الأصوات، يا مجيب الدعوات، يا قاضي الحاجات اكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضل عن من سواك. يلح على الله بهذا الدعاء.
قال فوالله ما رفعت رأسي حتى سمعت وقعت بقربي، فرفعت رأسي فإذا بحدأة طرحت كيسا أحمر فأخذت الكيس فإذا فيه ثمانون دينارا وجوهرا ملفوفا بقطنة، فبعت الجواهر بمال عظيم، وأبقيت الدنانير فاشتريت منها عقارا وحمدت الله تعالى على ذلك.
لا تعجب أيها الأخوة، إن ربي لسميع الدعاء، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
والقصص في ذلك كثيرة ومشهورة.
والحاصل - يا عباد الله - أن المسلم في مثل هذه الأحوال، وفي مثل هذه الظروف عليه أن يلجا إلى الله بالدعاء والتضرع.
وما أحسن ما قال الشاعر
لا تسألن بُني ابن ادم حاجة ** وسل الذي أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله ** وبُنيّ آدم حين يُسأل يغضب
سبحانه وتعالى، نسال الله تعالى أن يجعلنا أفقر عباده إليه، وأغنى خلقه عمن سواه.
(22) الدعاء أيضاً به يُستنزلُ النصر من الله العلي القدير:(5/347)
فالمؤيد بالوحي – عليه الصلاة والسلام كان يجتهد في استنزال النصر بالدعاء.
(حديث بْن عَبّاسٍ رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قال: حَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ قال: لَمّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلَىَ الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلاَثُمِائةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً فَاسْتَقْبَلَ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم الْقِبْلَةَ ثُمّ مَدّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبّهِ: اللّهُمّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي. اللّهُمّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي. اللّهُمّ إنْ تَهْلِكْ هََذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ لاَ تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبّهِ مَادّاً يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتّىَ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَ هُ فَأَلْقَاهُ عَلَىَ مَنْكِبَيْهِ، ثُمّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ: يَا نَبِيّ اللّهِ كَذَاكَ مُنَاشَدَتَكَ رَبّكَ (1) فَإنّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال/9]
فاستجاب الله دعاء نَبِيِّه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ونصره على أعدائه.
(23) الدعاء يؤكد ثقة العبد بربه، حين يوقن بالإجابة:
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ادعوا الله و أنتم موقنون بالإجابة و اعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلبٍ غافلٍ لاه.
والدعاء تعبير عن نفس الإنسان، وعن سماحته، وعن إيمانه وخلقه، فالدعاء يدرب على الدعاء للآخرين، حتى للمخالفين، مما يدرب على العفو والتسامح والحب والإيمان.
(فادع الله تعالى أن يلين قلبك، وأن يرزقك نعمة البكاء من خشيته، واغتنم أوقات الاستجابة وأحوالها: كوقت السحر، وساعة الجمعة وهي آخر ساعة بعد العصر قبل صلاة المغرب، وبين الأذان والإقامة، وفي السجود، وفي السفر، وأثناء الصيام، ووقت الإفطار، وغيرها من أوقات وأحوال الاستجابة.
(3) السعي لتحصيل حلاوة الإيمان:
__________
(1) - وفي رواية لمسلم (كفاك مناشدتك ربك)، وهي كذلك في المسند (1/ 32) وغيره، ويُنظر شرح النووي على مسلم ... (12/ 434).(5/348)
فإن من ثمرات حلاوة الإيمان البكاء من خشية الله (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه). كما في الحديث الآتي:
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (سَبْعَةٌ يُظِلّهُمُ الله في ظِلّهِ يَوْمَ لاَ ظِلّ إِلاّ ظِلّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌ نَشَأَ في ِعِبَادَةِ الله، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلّقٌ في المَسْاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابّا في الله اجْتَمعَا عَلَيه وَتَفَرّقَا عليه، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امرأة ذَاتُ منصبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنّي أَخَافُ الله، وَرَجُلٌ تَصَدّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَهُ)
وقد ذكر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحوال تحصيل حلاوة الإيمان كما في الحديث الآتي:
((حديث أنس الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله و رسوله أحب إليه مما سواهما و أن يحب المرء لا يحبه إلا لله و أن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار.
فحب الله تعالى يجلب حلاوة الإيمان، فكيف نحب الله تعالى؟
نحب الله بمطالعة أسمائه وصفاته، وآثار فضله وإنعامه على خلقه، ورحمته بهم، ونحبه بقراءة كلامه ـ وهو القرآن ـ بتدبر، والتقرب إلى الله بالنوافل، ودوام الذكر بالقلب واللسان، ونحبه بالخلوة به وقت النزول الإلهي في الثلث الأخير من الليل لمناجاته وتلاوة كلامه، ونحبه بطاعته فيما أمر به والابتعاد عما نهى عنه.
وحب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجلب حلاوة الإيمان، فكيف نحب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟
نحبه بمطالعة سيرته، ومعرفة شمائله وأخلاقه، والتشبه به في الظاهر والباطن، وطاعته فيما أمر به، والابتعاد عما نهى عنه.
وكذلك حب عباد الله الصالحين حباً مجرداً من أغراض الدنيا (لا يحبه إلا لله) يجلب حلاوة الإيمان.
وبغض الكفر بمعرفة مظاهره، وصور الشرك، وعواقب الكفر للحذر منه، ومعاداة الكفار والبراء منهم .. كل ذلك يجلب حلاوة الإيمان.
فاحرص على ذلك تكن من الراشدين بإذن الله.
(4) تعلُّم العلم الشرعي، وخصوصاً علم العقيدة:
قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر: 28].(5/349)
وقال تعالى: {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا، وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً، وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [(107 - 109) سورة الإسراء].
وقال أحد السلف في تفسير هذه الآية: (من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق ألا يكون أوتي علماً ينفع، لأن الله نعت العلماء فقال: {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ .. } الآية).
فالعلم الشرعي يورث في القلب خشية ورهبة ..
وعلم العقيدة والتوحيد خصوصاً يزيد الإيمان ويورث في القلب ما لا يورثه غيره من العلوم.
فاحرص على تعلم علم العقيدة وعض عليه بالنواجذ.
(5) ذكر الموت، وما بعده من أهوال:
إن من أعظم الأسباب الجالبة للبكاء من خشية الله ذكر الموت، وما بعده من أهوال وهاك صفوة مسائل ذكر الموت:
(كيف تتناسى الموت؟
(الإكثار من ذِكْرِ الموت:
(فوائد ذكر الموت:
(الأسباب الباعثة على ذكر الموت:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(كيف تتناسى الموت؟
إن الناس في هذه الحياة في غفلة، وأملهم فيها عريض، ولا بد من إلجام النفس بتذكيرها بمصيرها، لتعمر الآخرة بالدنيا، وإن الموت حقيقة قاسية رهيبة، تواجه كل حي فلا يملك لها رداً، وهي تتكرر في كل لحظة ويواجهها الجميع دون استثناء، قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [العنكبوت:57]، إنها نهاية الحياة واحدة فالجميع سيموت لكن المصير بعد ذلك يختلف، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7]، وفي الموت عظة وتذكير وتنبيه وتحذير، وكفى به من نذير، والموت هو الخطب الأفظع والأمر الأشنع والكأس التي طعمها أكره وأبشع، وأنه الحادث الأهدم للذات والأقطع للراحات والأمنيات.
ولكننا مع الأسف الشديد نسيناه أو تناسيناه وكرهنا ذكره ولقياه مع يقيننا أنه لا محالة واقع وحاصل، والعجب من عاقل يرى استيلاء الموت على أقرانه وجيرانه وكيف يطيب عيشه! وكيف لا يستعد له! إن المنهمك في الدنيا، المُكِّبَ على غرورها المحب لشهواتها يغفل قلبه لا محالة عن ذكر الموت، وإذا ذُكّر به كرهه ونفر منه، ومن لم يتذكر الموت اليوم ويستعد له فاجأه في غده وهو في غفلة من أمره وفي شغل عنه.(5/350)
[*] (كتب بعض الحكماء إلى رجل من إخوانه: يا أخي احذر الموت في هذه الدار قبل أن تصير إلى دار تتمنى فيها الموت فلا تجده.
[*] (وكان عمر بن عبد العزيز يجمع كل ليلة الفقهاء فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة ثم يبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة.
[*] (وقال إبراهيم التيمي: شيئان قطعا عني لذة الدنيا ذكر الموت، والوقوف بين يدي الله عز وجل.
[*] (وقال كعب: من عرف الموت هانت عليه مصائب الدنيا وهمومها.
[*] (وقال أشعث: كنا ندخل على الحسن فإنما هو ذكر النار وأمر الآخرة وذكر الموت.
[*] (وقالت صفية رضي الله عنها: إن امرأة اشتكت إلى عائشة رضي الله عنها قسوة قلبها. فقالت لها: أكثري ذكر الموت يرق قلبك، ففعلت فرق قلبها فجاءت تشكر عائشة رضي الله عنها.
[*] قال مالك بن ينار: لو يعلم الخلائق ماذا يستقبلون غداً ما لذوا بعيش أبداً.
وما خاف مؤمن اليوم إلا أمن غداً بحسن اتعاظه وصلاح عمله وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث شداد بن أوس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى: وعزتي و جلالي لا أجمع لعبدي أمنين و لا خوفين إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمعُ عبادي و إن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمعُ عبادي.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:(5/351)
(قال اللّه تعالى وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين: إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع عبادي) فمن كان خوفه في الدنيا أشد كان أمنه يوم القيامة أكثر وبالعكس وذلك لأن من أعطى علم اليقين في الدنيا طالع الصراط وأهواله بقلبه فذاق من الخوف وركب من الأهوال ما لا يوصف فيضعه عنه غداً ولا يذيقه مرارته مرة ثانية وهذا معنى قول بعض العارفين لأنه لما صلى حر مخالفة القوى في الدنيا لم يذقه اللّه كرب الحر في العقبى. قال القرطبي: فمن استحى من اللّه في الدنيا مما يصنع استحى اللّه عن سؤاله في القيامة ولم يجمع عليه حياءين كما لم يجمع عليه خوفين وقال الحرالي: نار الحق في الدنيا للمعترف رحمة من عذاب النار تفديه من نار السطوة في الآخرة ومحمد عليه الصلاة والسلام يعطى الأمن يوم القيامة حتى يتفرغ للشفاعة وما ذاك إلا من الخوف الذي كان علاه أيام الدنيا فلم يجتمع عليه خوفان فكل من كان له حظ من اليقين فعاين منه ما ذاق من الخوف سقط عنه من الخوف بقدر ما ذاق هنا قال العارفون: والخوف خوفان خوف عقاب وخوف جلال والأول يصيب أهل الظاهر والثاني يصيب أهل القلوب والأول يزول والثاني لا يزول أهـ.
ولكن كثيراً من الناس مع الأسف الشديد يضيع عمره في غير ما خلق له، ثم إذا فاجأه الموت صرخ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99] ولماذا ترجع وتعود لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:100] وأين أنت عن هذا اليوم أيها الغافل؟ ألا تعمل وأنت في سعة من أمرك وصحة في بدنك، ولم يدن منك ملك الموت بعد.
إن ما نراه في المقابر أعظم وأكبر معتبر، فحامل الجنازة اليوم محمول غداً لا محالة، ومن يرجع من المقبرة إلى بيته اليوم سيرجع عنه غداً ويُترك وحيداً فريداً في قبره مرتهناً بعمله، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
وحيداً فريداً في التراب وإنما ... قرين الفتى في القبر ما كان يعمل
ولكن ما أقل من اتعظ وما أنذر من اجتهد، إن كان من قصر أمله، وجعل الموت أمام ناظريه عمل بلا شك للآخرة واستفاد من كل لحظة من لحظات عمره في طاعة ربه وتحسر على كل وقت أضاعه بدون عمل صالح يقربه إلى الله، وهو لما قدم من عمل فرح مسرور بالانتقال إلى الدار الآخرة وهذا هو المغبوط حقاً.
قال لقمان لابنه: (يا بني أمرٌ لا تدري متى يلقاك استعد له قبل أن يفجأك.(5/352)
[*] وقال بعض السلف: اعلم أنه لو لم يكن بين يدي العبد المسكين كرب ولا هول ولا عذاب سوى سكرات الموت بمجردها لكان جديراً بأن يتنغص عليه عيشه ويتكدر عليه سروره ويفارقه سهوه وغفلته، وحقيق بأن يطول فكره ويعظم له استعداده، كيف ونحن نعلم أن وراء الموت القبر وظلمته، والصراط ودقته والحساب وشدته، أهوال وأهوال لا يعلم عظمها إلا بالله.
للموت فاعمل بجد أيها الرجل ... واعلم بأنك من دنياك مرتحل
إلى متى أنت في لهو وفي لعب ... تمسي وتصبح في اللذات مشتغل
اعمل لنفسك يا مسكين في مهل ... ما دام ينفعك التذكار والعمل
(الإكثار من ذِكْرِ الموت:
إن الموت حقيقة لم يجادل بها أحد والجميع مقتنع تمام الاقتناع بأنه سيموت ولكن قُلْ: من يضع الموت نصب عينيه؟ وذكر الموت يرقق القلب ويزهد في الدنيا، ولذا أمرنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالاكثار من ذكر الموت كما في الأحاديث الآتية:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أكثروا ذكر هاذم اللذات يعني الموت.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
قَوْلُهُ: (أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ: أَيْ قَاطِعَهَا.، قَالَ مَيْرَكُ صَحَّحَ الطِّيبِيُّ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ حَيْثُ قَالَ شَبَّهَ اللَّذَّاتِ الْفَانِيَةَ وَالشَّهَوَاتِ الْعَاجِلَةَ ثُمَّ زَوَالَهَا بِبِنَاءٍ مُرْتَفِعٍ يَنْهَدِمُ بِصَدَمَاتٍ هَائِلَةٍ, ثُمَّ أَمَرَ الْمُنْهَمِكَ فِيهَا بِذِكْرِ الْهَادِمِ لِئَلَّا يَسْتَمِرَّ عَلَى الرُّكُونِ إِلَيْهَا, يَشْتَغِلَ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْفِرَارِ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ انْتَهَى كَلَامُهُ، لَكِنْ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ فِي الْمُهِمَّاتِ: الْهَاذِمُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ هُوَ الْقَاطِعُ كَمَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا. أهـ(5/353)
[*] (قال الإمام القرطبي رحمه الله: "قال علماؤنا: قوله عليه السلام: أكثروا ذكر هاذم اللذات كلام مختصر وجيز، وقد جمع التذكرة وأبلغ في الموعظة، فإن من ذكر الموت حقيقة ذكره نغص عليه لذته الحاضرة، ومنعه من تمنيها في المستقبل، وزهده فيما كان منها يؤمل، ولكن النفوس الراكدة، والقلوب الغافلة، تحتاج إلى تطويل الوعاظ، وتزويق الألفاظ، وإلا ففي قوله عليه الصلاة والسلام: (أكثروا ذكر هاذم اللذات) مع قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، ما يكفي السامع له، ويشغل الناظر فيه". أهـ
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه و لا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(أكثروا ذكر هاذم) بذال معجمة قاطع وبمهملة مزيل وليس مراداً هنا كذا في روض السهيلي قال ابن حجر وفي ذا النفي نظر
(اللذات) الموت(5/354)
(فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه) قال العسكري لو فكر البلغاء في قول المصطفى صلى اللّه عليه وسلم ذلك لعلموا أنه أتى بهذا القليل على كل ما قيل في ذكر الموت ووصف به نظماً ونثراً ولهذا كان عيسى عليه السلام إذا ذكر عنده الموت يقطر جلده دماً قيل ولا يدخل ذكر الموت بيتاً إلا رضي أهله بما قسم لهم وقال أبو نواس. ألا يا ابن الذين فنوا وماتوا * أما واللّه ما ماتوا لتبقى وقال أبو حمزة الخراساني: من أكثر ذكر الموت حبب إليه كل باق وبغض إليه كل فان. وقال القرطبي: ذكر الموت يورث استشعار الانزعاج عن هذه الدار الفانية والتوجه في كل لحظة إلى الآخرة الباقية ثم إن الإنسان لا ينفك عن حالين ضيق وسعة ونعمة ومحنة فإن كان في حال ضيق ومحنة فذكر الموت يسهل عليه ما هو فيه من الاغترار بها والركون إليها. وقال الغزالي: الموت خطر هائل وخطب عظيم وغفلة الناس عنه لقلة فكرهم فيه وذكرهم له ومن يذكره ليس يذكره بقلب فارغ بل مشغول بالشهوات فلا ينجع ذكره فيه فالطريق أن يفرغ قلبه عن كل شيء إلا ذكر الموت الذي هو بين يديه كمن يريد السفر فإذا باشر ذكر الموت قلبه أثر فيه فيقل حركته وفرحه بالدنيا وينكسر قلبه وأنفع طريق فيه أن يذكر أشكاله فيتذكر موتهم ومصرعهم تحت التراب ويتذكر صورهم في أحوالهم ومناصبهم التي كانوا عليها في الدنيا ويتأمل كيف محى التراب حسن صورهم وتبددت أجزاؤهم في قبورهم ويتموا أولادهم وضيعوا أموالهم وخلت مجالسهم وانقطعت آثارهم.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجة) قال: أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت عليك السلام، فقال لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الميت، قلت يا رسول الله أي المؤمنين أفضل قال أحسنهم خلقا قال فأي المؤمنين أكيس قال أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم لما بعده استعدادا أولئك الأكياس.
فإذا تفكر الإنسان أنه سينتقل من قصره إلى قبره، ومن التنعم بالطعام والشراب إلى التمرغ في التراب، ومن أنس العشرة إلى وحشة الوحدة، ومن الفراش الوثير إلى المصرع الوبيل، وأن الدود سيكون أنيسه، ومنكر ونكير جليسه. إذا تفكر في سكرات الموت وأنها أشد من ضرب بالسيوف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض.
[*] (كان بعض الصالحين ينادي بليل على سور المدينة: الرحيل الرحيل. فلما توفي فقد صوته أمير المدينة، فسأل عنه فقيل: إنه قد مات فقال:(5/355)
ما زال يلهج بالرحيل وذكره ... حتى أناخ ببابه الجمال
فأصابه مستيقظاً متشمراً ... ذا أهبة لم تلهه الآمال
[*] (وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: ويحك يا يزيد! من ذا يصلي عنك بعد الموت؟ من ذا يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا يترضى ربك عنك بعد الموت؟ ثم يقول: أيها الناس! ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟ مَن الموت طالبه .. والقبر بيته .. والتراب فراشه .. والدود أنيسه .. وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر .. كي يكون حاله؟) ثم يبكي رحمه الله.
[*] (وقال التميمي رحمه الله: شيئان قطعا عني لذة الدنيا: ذكر الموت، وذكر الموقف بين يدي الله تعالى.
[*] (وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى يجمع العلماء فيتذكرون الموت والقيامة والآخرة، فيبكون حتى كأن بين أيديهم جنازةَ!!
[*] (وقال الدقاق رحمه الله تعالى: من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، وترك الرضى بالكفاف، والتكاسل في العبادة.
[*] (وقال الحسن رحمه الله تعالى: إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فالتمسوا عشياً لا موت فيه.
إخواني: أكثروا من ذكر هاذم اللذات، وتفكروا في انحلال بناء الذات، وتصوروا مصير الصور إلى الرفات، وأَعدوا عدةً تكفي في الكفات، واعلموا أن الشيطان لا يتسلط على ذاكر الموت وإنما إذا غفل القلب عن ذكر الموت دخل العدو من باب الغفلة 0
[*] (أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه المواعظ عن الحسن البصري رحمه الله تعالى قال:: إن الموت فضح الدنيا فلم يترك لذي لُب به فرحاً.
(وقال أيضاً:
[*] (قال يزيد بن تميم: من لم يردعه الموت والقرآن ثم تناطحت عنده الجبال لم يرتدع 0
[*] وسُئل ابن عياض عن ما بال الآدمي تُستنزع نفسه وهو ساكت وهو يضطرب من القرصة قال: لأن الملائكة توقفه 0
يا بن آدم مثل تلك الصرعة قبل أن تذر كل غرة فتتمنى الرجعة وتسأَل الكرة كَم من محتضر تمنَّى الصحة للعمل هيهات حقر عليه بلوغ الأَمل أَو ما يكفي في الوعظ مصرعه أو ما يشفي من البيان مضجعه 00 أما فاته مقدوره بعد إِمكانه 00 أَما أنت عن قليل في مكانة أما اعتبرت بمن رحل أما وعظتك العبر أما كان لك سمعٌ ولا بصر 0(5/356)
(عباد الله هذه الأيام مطايا، فأين العدة قبل المنايا، أين الأنفة من دار الأذايا، أين العزائم أرضيتم بالدنايا، إن بلية الهوى لا تشبه البلايا، وإن خطيئة الإصرار لا كالخطايا، يا مستورين ستظهر الخبايا، سرية الموت لا تشبه السرايا، قضية الزمان ليست كالقضايا، راعي السلامة يقتل الرعايا، رامي المنون يصمي الرمايا، ملك الموت لا يقبل الهدايا.
(أين آباؤك مروا وسلكوا، أين أقرانك أما رحلوا وانصرفوا، أين أرباب القصور أما أقاموا في القبور وعكفوا، أين الأحباب هجرهم المحبون وصدفوا، فانتبه لنفسك فالمتيقظون قد عرفوا، فستحملك الأهل إلى القبور وربما مروا فانحرفوا.
(يا من لا يتعظ بأبيه ولا بابنه، يا مؤثراً للفاني على جودة ذهنه، يا متعوضا عن فرح ساعة بطول حزنه، يا مسخطاً للخالق لأجل المخلوق ضلالاً لإفنه، أمالك عبرة فيمن ضعضع مشيد ركنه، أما رأيت راحلاً عن الدنيا يوم ظعنه، أما تصرفت في ماله أكف غيره من غير إذنه، أما انصرف الأحباب عن قبره حين دفنه، أما خلا بمسكنه في ضيق سجنه، تنبه والله من وسنه لقرع سنه، ولقى في وطنه ما لم يخطر على ظنه، يا ذلة مقتول هواه يا خسران عبد بطنه.
(أوَ مَا علمت الموت للخلائق مبيد أما تراه قد مزقهم في البيد أما داسهم بالهلاك دوس الحصيد لا بالبسيط ينتهون ولا بالتشديد، أين من كان لا ينظر بين يديه، أين من أبصر العبر ولم ينتفع بعينيه، أين من بارز بالذنوب المطلع عليه.
(كم من ظالم تعدى وجار، فما راعى الأهل ولا الجار بينا هو يعقد عقد الإصرار حل به الموت فحل من حلته الأزرار (فَاعْتَبِرُواْ يَأُوْلِي الأبْصَارِ)
(ما صحبه سوى الكفن إلى بيت البلى والعفن لو رأيته وقد حلت به المحن وشين ذلك الوجه الحسن فلا تسأل كيف صار (فَاعْتَبِرُواْ يَأُوْلِي الأبْصَارِ)
(سال في اللحد صديده وبلى في القبر جديده وهجره نسيبه ووديده وتفرق حشمه وعبيده والأنصار (فَاعْتَبِرُواْ يَأُوْلِي الأبْصَارِ)
(أين مجالسه العالية أين عيشته الصافية أين لذاته الحالية كم كم تسفى على قبره سافية ذهبت العين وأخفيت الآثار (فَاعْتَبِرُواْ يَأُوْلِي الأبْصَارِ)
(تقطعت به جميع الأسباب وهجره القرناء والأتراب وصار فراشه الجندل والتراب وربما فتح له في اللحد باب النار (فَاعْتَبِرُواْ يَأُوْلِي الأبْصَارِ)(5/357)
(خلا والله بما كان صنع واحتوشه الندم وما نفع وتمنى الخلاص وهيهات قد وقع وخلاه الخليل المصافي وانقطع واشتغل الأهل بما كان جمع وتملك الضد المال والدار (فَاعْتَبِرُواْ يَأُوْلِي الأبْصَارِ)
(تدبروا أموركم تدبر ناظر أين السلطان الكبير القاهر كم جمع في مملكته من عساكر وكم بنى من حصون ودساكر وكم تمتع بحلل وأساور وكم علا على المنابر ثم آخر الأمر إلى المقابر العاقل.
(أين الوالدون وما ولدوا، أين الجبارون وأين ما قصدوا، أين أرباب المعاصي على ماذا وردوا، أما جنوا ثمرات ما جنوا وحصدوا، أما قدموا على أعمالهم في مآلهم ووفدوا، أما خلوا في ظلمات القبور بكوا والله وانفردوا، أما ذلوا وقلوا بعد أن عتوا ومردوا، أما طلبوا زادا يكفي في طريقهم ففقدوا، أما حل الموت فحل عقد ما عقدوا، عاينوا والله كل ما قدموا ووجدوا، فمنهم أقوام شقوا وأقوام سعدوا.
(أيها المتيقظون وهم نائمون، أتبنون مالا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون، كونوا كيف شئتم فستنقلون (ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ)
(يا مقيمين سترحلون، يا مستقرين ما تتركون، يا غافلين عن الرحيل ستظعنون، أراكم متوطنين تأمنون المنون (ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ)
(طول نهاركم تلعبون، وطول ليلكم ترقدون، والفرائض ما تؤدون، وقد رضيتم عن الغالي بالدون، لا تفعلوا ما تفعلون (ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ)
(أما الأموال فتجمعون، والحق فيها ما تخرجون وأما الصلاة فتضيعون وإذا صليتم تنقرون أترى هذا إلى كم يكون (ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ)
(أين العتاة المتجبرون، أين الفراعنة المتسلطون أين أهل الخيلاء المتكبرون قدروا أنكم صرتم كهم أما تسمعون (ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ)
(ما نفعتهم الحصون، ولا رد المال المصون، هبت زعزع الموت فكسرت الغصون، قدروا أنكم تزيدون عليهم ولا تنقصون (ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ)
(تقلبوا من اللذات في فنون، وأخرجهم البطر إلى الجنون، فأتاهم ما هم عنه غافلون، (ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ)
(لو حصل لكم كل ما تحبون، ونما جميع ما تؤتون، ونلتم من الأماني ما تشتهون، أينفعكم حين ترحلون (ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ)
(إلى متى وحتى متى تنصحون، وأنتم تكسبون الخطايا وتجترحون أأمنتم وأنتم تسرحون ذئب هلاك فلا تبرحون (ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ)(5/358)
(لا تفرحوا بما تفرحون، فإنه لغيركم حين تطرحون، وإياكم من يراكم من يراكم تمرحون، قد خسرتم إلى الآن فما تربحون (ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ)
(أخي الحبيب:
أذكر الموت ولا أرهبه ... إن قلبي لغليط كالحجر
أطلب الدنيا كأني خالد ... وورائي الموت يقفو بالأثر
وكفى بالموت فاعلم واعظاً ... لمن الموت عليه قدر
والمنايا حوله ترصده ... ليس ينجي المرء منهن المفر
(فوائد ذكر الموت:
لذكر الموت له فوائد لا تحصى، وثمرات لا تعد، وله أهمية كبرى، وثمرات جليلةمنها ما يلي:
(1) أنه يحث على الاستعداد للموت قبل نزوله.
(2) أن ذكر الموت يقصر الأمل، وطول الأمل من أعظم أسباب الغفلة.
(3) أنه يزهد في الدنيا ويرضي بالقليل منها وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه و لا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(أكثروا ذكر هاذم) بذال معجمة قاطع وبمهملة مزيل وليس مراداً هنا كذا في روض السهيلي قال ابن حجر وفي ذا النفي نظر
(اللذات) الموت(5/359)
(فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه) قال العسكري لو فكر البلغاء في قول المصطفى صلى اللّه عليه وسلم ذلك لعلموا أنه أتى بهذا القليل على كل ما قيل في ذكر الموت ووصف به نظماً ونثراً ولهذا كان عيسى عليه السلام إذا ذكر عنده الموت يقطر جلده دماً قيل ولا يدخل ذكر الموت بيتاً إلا رضي أهله بما قسم لهم وقال أبو نواس. ألا يا ابن الذين فنوا وماتوا * أما واللّه ما ماتوا لتبقى وقال أبو حمزة الخراساني: من أكثر ذكر الموت حبب إليه كل باق وبغض إليه كل فان. وقال القرطبي: ذكر الموت يورث استشعار الانزعاج عن هذه الدار الفانية والتوجه في كل لحظة إلى الآخرة الباقية ثم إن الإنسان لا ينفك عن حالين ضيق وسعة ونعمة ومحنة فإن كان في حال ضيق ومحنة فذكر الموت يسهل عليه ما هو فيه من الاغترار بها والركون إليها. وقال الغزالي: الموت خطر هائل وخطب عظيم وغفلة الناس عنه لقلة فكرهم فيه وذكرهم له ومن يذكره ليس يذكره بقلب فارغ بل مشغول بالشهوات فلا ينجع ذكره فيه فالطريق أن يفرغ قلبه عن كل شيء إلا ذكر الموت الذي هو بين يديه كمن يريد السفر فإذا باشر ذكر الموت قلبه أثر فيه فيقل حركته وفرحه بالدنيا وينكسر قلبه وأنفع طريق فيه أن يذكر أشكاله فيتذكر موتهم ومصرعهم تحت التراب ويتذكر صورهم في أحوالهم ومناصبهم التي كانوا عليها في الدنيا ويتأمل كيف محى التراب حسن صورهم وتبددت أجزاؤهم في قبورهم ويتموا أولادهم وضيعوا أموالهم وخلت مجالسهم وانقطعت آثارهم.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجة) قال: أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت عليك السلام، فقال لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الميت، قلت يا رسول الله أي المؤمنين أفضل قال أحسنهم خلقا قال فأي المؤمنين أكيس قال أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم لما بعده استعدادا أولئك الأكياس.
فإذا تفكر الإنسان أنه سينتقل من قصره إلى قبره، ومن التنعم بالطعام والشراب إلى التمرغ في التراب، ومن أنس العشرة إلى وحشة الوحدة، ومن الفراش الوثير إلى المصرع الوبيل، وأن الدود سيكون أنيسه، ومنكر ونكير جليسه. إذا تفكر في سكرات الموت وأنها أشد من ضرب بالسيوف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض.
فأكثر أخي الكريم، من ذكر هادم اللذات، واعلم أنه آت لا محالة، واستعد للحساب وامتحان القبر.
(4) أنه يرغّب في الآخرة وَيُنَشِطُ في العبادة.(5/360)
(5) أنه يهوّن على العبد مصائب الدنيا.
(6) أنه يمنع من الأشر والبطر والتوسع في لذات الدنيا.
(7) أنه يحث على التوبة واستدراك ما فات.
(8) أنه يرقق القلوب ويدمع الأعين، ويجلب باعث الدين، ويطرد باعث الهوى.
(9) أنه يدعو إلى التواضع وترك الكبر والظلم.
(10) أنه يدعو إلى سل السخائم ومسامحة الإخوان وقبول أعذارهم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن معاذ قال: من أكثر ذكر الموت لم يمت قبل أجله ويدخل عليه ثلاث خصال من الخير: أولها المبادرة إلى التوبة، والثانية القناعة برزق يسير، والثالثة النشاط في العبادة. ومن حرص على الدنيا فإنه لا يأكل فوق ما كتب الله له ويدخل عليه من العيوب ثلاث خصال: أولها أن تراه أبداً غير شاكر لعطية الله له، والثاني لا يواسي بشيء مما قد أعطى من الدنيا. والثالث يشتغل ويتعب في طلب ما لم يرزقه الله حتى يفوته عمل الدين.
(الأسباب الباعثة على ذكر الموت:
(1) زيارة القبور:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال * زار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت.
(حديث بريدة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة.
(حديث البراء رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) قال كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جنازة فجلس على شفير القبر فبكى حتى بل الثرى ثم قال يا إخواني لمثل هذا فأعدوا.
(2) زيارة مغاسل الأموات ورؤية الموتى حين يغسلون.
(3) مشاهدة المحتضرين وهن يعانون سكرات الموت وتلقينهم الشهادة.
(4) تشييع الجنائز والصلاة عليها وحضور دفنها.
(5) تلاوة القرآن، ولا سيما الآيات التي تذكر بالموت وسكراته كقوله تعالى: وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق:19]
(6) الشيب والمرض، فإنهما من رسل ملك الموت إلى العباد.
(7) الظواهر الكونية التي يحدثها الله تعالى تذكيراً لعباده بالموت والقدوم عليه سبحانه كالزلازل والبراكين والفيضانات والانهيارات الأرضية والعواصف المدمرة.
(8) مطالعة أخبار الماضين من الأمم والجماعات التي أفناهم الموت وأبادهم البلى.
(6) زيارة القبور:(5/361)
إن من أعظم الأسباب الجالبة للبكاء من خشية الله تعالى زيارة القبور لما فيها من عِظةِ الموت، وتذكر أن الدنيا فانية وأن الآخرة هي الباقية وأن الموت ما منه فوت.
مسألة: ما هو حكم زيارة القبور؟
تسن زيارة القبور للرجال دون النساء
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال * زار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت.
(حديث بريدة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لعن الله زوَّرات القبور.
(حديث البراء رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) قال كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جنازة فجلس على شفير القبر فبكى حتى بل الثرى ثم قال يا إخواني لمثل هذا فأعدوا.
(حديث هانىء مولى عثمان رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) قال: كان عثمان إذا وقف على قبر يبكي حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار ولا تبكي وتبكي من هذا؟ قال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه، وقال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما رأيت منظراً قطُّ إلا والقبر أفظع منه ".
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) ... أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لعن الله زوَّرات القبور.
مسألة: فإن قال قائل أن قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (زوَّرات القبور) للمبالغة فما الجواب؟
الجواب من وجهين:
(الأول): أن كلمة زوَّرات تأتي للمبالغة وتأتي للنسبة كبنّاء ونجّار فيكون الأمر محتملاً للمبالغة أو النسبة، والدليل إذا طرقه الإحتمال بطل به الإستدلال
(الثاني) ثبت عند الترمذي أيضاً لفظ لعن الله زائرات القبور. فإذا لعنت الزائرات فالزوّارات من باب أولى.
(آداب زيارة القبور:
مسألة: ما هي آداب زيارة القبور؟
[*] (آداب زيارة القبور:(5/362)
(1) إذا وصل إلى المقابر يدعو بالدعاء المأثور:
(حديث بريدة الثابت في صحيح مسلم) قال * كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله للاحقون أسأل الله لنا ولكم العافية.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجة) قال: أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت عليك السلام، فقال لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الميت، قلت يا رسول الله أي المؤمنين أفضل قال أحسنهم خلقا قال فأي المؤمنين أكيس قال أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم لما بعده استعدادا أولئك الأكياس.
(2) تحقيق المقصود منها وهي تذكرة الموت والاعتبار والاستعداد للموت:
(3) إذا مر المسلم بقبور الظالمين فعليه أن يبكي ويذكر ما كانوا عليه ويتفكر في عاقبة الظالمين.
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري): أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، لا يصيبكم ما أصابهم).
(4) الدعاء للأموات:
(حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم):أنها قالت كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلما كان ليلتها من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد.
(ما يحرم عند القبور:
مسألة: ما هي الأمور التي يحرم فعلها عند القبور؟
[*] (الأمور التي يحرم فعلها عند القبور:
(1) يحرم الذبح عند القبور:
(حديث أنس الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا عقر في الإسلام.
{تنبيه}: معنى العقر: أصل العقر ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف وهو قائم فنهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه لأنهم كانوا إذا مات الميت عقروا عند قبره شاةً أو بعيراً ويقولون إنه كان يعقر للأضياف فيكافيه بمثل صنيعه بعد وفاته.
(2) يحرم تجصيص القبر والبناء عليه:
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) قال * نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه.
(يجصص): تبيضه بالجص وهوالجير المعروف بعد بنيه.(5/363)
الشاهد: أن الأصل في النهي التحريم، ثم إن بنيه وتجصيصه يجعله مشرفاً وهذا مخالفاً لهدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(حديث أبي الهياج الأسدي الثابت في صحيح مسلم) قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ألا أبعثك على ما بعثني به رسول الله، ألا تدع صورةً إلا طمستها ولا قبراً مشرفاً إلا سويته.
(3) يحرم الجلوس على القبر:
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) قال * نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - * لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلي جلده خير له من أن يجلس على قبر.
وذلك لأن القبر بيت الميت المسلم وحرمته ميتاً كحرمته حياً (لحديث عائشة الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كسر عظم الميت ككسره حياً.
(4) يحرم أن يكتب على القبر شيء:
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجة) قال * نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يكتب على القبر شيئ.
{تنبيه}: (والعلة في ذلك أن الكتابة على القبر تؤدي إلى تعظيمه و تعظيمه يكون سبباً في الشرك ولذا كان النهي حماية لجناب التوحيد وسداً لكل طريقٍ يجر إلى الشرك والعياذ بالله تعالى.
(5) يحرم الصلاة إليها:
(حديث كنّاز بن الحصين الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها.
والأصل في النهي التحريم
(6) يحرم الصلاة عندها ولو بدون استقبال:
(حديث أبي سعيد الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال * الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة.
(7) يحرم بناء المساجد عليها:
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في مرضه الذي مات فيه: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا من قبور أنبيائهم مساجد، يحذر مما صنعوا.
(حديث أبي هريرية الثابت في صحيحيأبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: * لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا وصلوا على فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم.
(8) يحرم السفر إليها:(5/364)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لا تُشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجد الرسول والمسجد الأقصى
(9) يحرم إيقاد السرج عليها لكونه بدعة لا يعرفها السلف الصالح ومن المعلوم شرعا أن كل بدعةٍ ضلالة كما أن فيها إضاعة المال في غير معنى شرعي.
(حديث العرباض بن سارية الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أوصيكم بتقوى الله و السمع و الطاعة و أن أمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة]
(حديث المغيرة بن شعبة الثابت في الصحيحين) قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن الله حرم عليكم: عقوق الأمهات ووأد البنات، ومنع وهات. وكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال).
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[وإضاعة المال]
(10) يحرم كسر عظام الميت لأن حرمته ميتاً كحرمته حيا.
(لحديث عائشة الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كسر عظم الميت ككسره حياً.
(عِظةُ القبور:
زيارتك للمقبرة تجعلك تتفكر أن هذا مآلك شئت أم أبيت فيدفعك هذا إلى أن تقدم إلى مثل هذه الحفرة، تقدم ما يجعلها عليك روضة من رياض الجنة بإذن الله.
[*] (قال عبد الحق الأشبيلي: (فينبغي لمن دخل المقابر أن يتخيل أنه ميت، وأنه قد لحق بهم، ودخل معسكرهم، وأنه محتاج إلى ما هم إليه محتاجون، وراغب فيما فيه يرغبون، فليأت إليهم ما يحب أن يؤتى إليه، وليتحفهم بما يحب أن يتحف به، وليتفكر في تغير ألوانهم، وتقطع أبدانهم، ويتفكر في أحوالهم، وكيف صاروا بعد الأنس بهم والتسلي بحديثهم، إلى النفار من رؤيتهم، والوحشة من مشاهدتهم وليتفكر أيضاً في انشقاق الأرض وبعثرة القبور، وخروج الموتى وقيامهم مرة واحدة حفاة عراة غرلاً، مهطعين إلى الداعي، مسرعين إلى المنادي.(5/365)
[*] (قال محمد بن صبيح: (بلغنا أن الرجل إذا وضع في قبره، فعذب أو أصابه ما يكره، ناداه جيرانه من الموتى: يا أيها المتخلف في الدنيا فبعد إخوانه! أما كان لذلك فينا معتبر؟ أما كان لك في تقدمنا إياك فكرة؟ أما رأيت انقطاع أعمالنا وأنت في المهل؟ فهلا استدركت ما فات إخوانك!!.
[*] (شيع الحسن رحمه الله: جنازة فجلس على شفير القبر فقال: إن أمراً هذا آخره لحقيق أن يزهد في أوله، وإن أمراً هذا أوله لحقيق أن يخاف آخره.
[*] (ووعظ عمر بن عبد العزيز يوماً أصحابه فكان من كلامه أنه قال: إذا مررت بهم فنادهم إن كنت منادياً، وادعهم إن كنت داعياً، ومر بعسكرهم، وانظر إلى تقارب منازلهم .. سل غنيهم ما بقي من غناه؟ .. واسألهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانوا للذات بها ينظرون .. واسألهم عن الجلود الرقيقة، والوجوه الحسنة، والأجساد الناعمة، ما صنع بها الديدان تحت الأكفان؟! .. أكلت الألسن، وغفرت الوجوه، ومحيت المحاسن، وكسرت الفقار، وبانت الأعضاء، ومزقت الأشلاء فأين حجابهم وقبابهم؟ وأين خدمهم وعبيدهم؟ وجمعهم وكنوزهم؟ أليسوا في منازل الخلوات؟ أليس الليل والنهار عليهم سواء؟ أليسوا في مدلهمة ظلماء؟ قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة والمال والأهل.
[*] (وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: "ويحك يا يزيد! من ذا يصلي عنك بعد الموت؟ من ذا يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا يترضى عنك بعد الموت؟ ثم يقول: أيها الناس! ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم .. من الموت موعده .. والقبر بيته .. والثرى فراشه .. والدود أنيسه .. وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر .. كيف يكون حاله؟! "، ثم بكي رحمه الله.
(فيا ساكن القبر غداً! ما الذي غرك من الدنيا؟ أين دارك الفيحاء ونهرك المطرد؟ وأين ثمارك اليانعة؟ وأين رقاق ثيابك؟ وأين طيبك وبخورك؟ وأين كسوتك لصيفك وشتائك؟ .. ليت شعري بأي خديك بدأ البلى .. يا مجاور الهلكات صرت في محلة الموت .. ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا .. وما يأتيني به من رسالة ربي .. ثم انصرف رحمة الله فما عاش بعد ذلك إلا جمعة.
(أخي الحبيب:
تفكر في الذين رحلوا .. أين نزلوا؟ وتذكر القوم نوقشوا وسئلوا .. ولقد ودوا بعد الفوات لو قبلوا .. ولكن هيهات هيهات وقد قبروا.
أما اعتبرت بمن رحل، أما وعظتك العبر، أما كان لك سمعٌ ولا بصر.(5/366)
[*] (أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن عمر بن عبد العزيز خرج مع جنازة فلما دفنها قال: دعوني حتى آتي قبور الأحبة قال: فأتاهم فجعل يدعوا ويبكي إذ هتف به التراب: يا عمر لا تسألني عما فعلت بالأحبة وما فعلت بهم؟ قال: مزقت الأكفان وأكلت اللحم، شدخت المقتلين، وأكلت الحدقتين، ونزعت الكفين من الساعدين، والساعدين من العضدين والعضدين من المنكبين، والمنكبين من الصلب، والقدمين من الساقين، والساقين من الفخذين، والفخذين من الورك، والورك من الصلب، قال: وعمر يبكي فلما أراد أن ينهض قال له التراب: يا عمر ألا أدلك على أكفان لا تبلى؟ قال: وما هي: تقوى الله والعمل الصالح.
[*] (وأورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن ميمون بن مهران قال: خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقابر فلما نظر إلى القبور بكى ثم قال يا أيوب هذه قبور أبائي بني أمية، كأنهم لم يشركوا أهل الدنيا في لذاتهم وعيشتهم، أما تراهم صرعى فدخلت بهم المثلات، واستحكم فيهم البلاء، فأصابت الهوام في أبدانهم مقيلاً، ثم بكى حتى غشي عليه ثم أفاق فقال: فانطلق بنا فو الله ما أعلم أحداً أنعم ممن صار إلى هذه القبور وقد أمن من عذاب الله عز وجل.
[*] (وأورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن ثابت البناني أنه دخل المقابر فبكى فقال: بليت أجسامهم وبقيت أخبارهم فالعهد قريب، واللقاء بعيد.
[*] (روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن سلام بن صالح قال: فُقِدَ الحسن ذات يوم فلما أمسى قال له أصحابه: أين كنت؟ قال: كنت اليوم عند إخوان لي إن نسيت ذكروني، وإن غبت عنهم لم يغتابوني، فقال له أصحابه: نعم الإخوان والله هؤلاء يا أبا سعيد دلنا عليهم قال: هؤلاء أهل القبور.
[*] (وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن عبد الواحد بن زيد أن الحسن قال لأصحابه، وهم في المقابر هم أهل محلة قد كفى من جلس إليهم الكلام وله في الجلوس إليهم الموعظة و الاعتبار.
[*] (روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن عمارة المغربي قال: قال لي محمد بن واسع: ما أعجب إلى منزلك قلت! وما يعجبك من منزلي وهو عند القبور؟! قال: وما عليك يكفون الأذى، ويذكرون الآخرة.
[*] (أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن الحسن أنه مر على مقبرة فقال: يا لهم من عسكر ما أسكتهم، وكم فيهم من مكروب.(5/367)
[*] (أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن
مالك بن دينار قال: خرجت أنا وحسان بن أبي سنان نزور المقابر فلما أشرف عليها سبقته عبرته، ثم أقبل عليّ فقال: يا يحيى هذه عساكر الموتى ينتظرون بها من بقي من الأحياء ثم يصاح بهم صيحة، فإذا هم قيام ينظرون، فوضع مالك يده على رأسه، وجعل يبكي.
[*] (أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن حسين الجعفي قال: أتى رجل قبراً محفوراً، فاطلع في اللحد، فبكى واشتد بكاؤه قال: أنت والله بيتي حقاً، والله إن استطعت لأعمرنك.
[*] (أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن عطاء السلمي أنه كان إذا جن عليه الليل خرج، فوقف على القبور، ثم قال: يا أهل القبور متم فوا موتاه ثم بكى ثم قال: يا أهل القبور عاينتم ما علمتم فوا عملاه ثم يبكي فلا يزال كذلك حتى يصبح.
[*] (أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن علي بن أحمد قال: كان الأسود بن كلثوم يخرج إلى المقابر إذا هدأت العيون، فيقول. يا أهل الغربة والتربة، يا أهل الوحدة والبلى، ثم يبكي حتى يكاد يطلع الفجر، ثم يرجع إلى أهله.
[*] (قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور:
كان العمري الزاهد يلازم المقابر ومعه كتاب لا يفارقه فقيل له في ذلك، قال: ما شيء أوعظ من قبر ولا آنس من كتاب ولا أسلم من الوحدة.
[*] (أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن أبي محرز الطفاوي قال: كفتك القبور مواعظ الأمم السالفة.
(ولله درُ أبي العتاهية حيث قال:
إني سألت التراب: ما فعلت بعدي بجسد وقع فيه الدود متعفرة
فأجابني: صيرت ريحهم يؤذيك بعد روائح عطرة
وأكلت أجساداً منعمة كان النعيم يهزها نضرة
لم يبق غير جماجم عريت بيض تلوح أو أعظم نخرة
[*] (روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن أبي إسحاق: شهدت جنازة رجل من إخواني منذ خمسين سنة فلما دفن وسوي عليه التراب وتفرق الناس، جلست إلى بعض تلك القبور ففكرت فيما كانوا فيه من الدنيا وانقطاع ذلك كله عنهم فأنشدت أقول:
سلام ... على أهل القبور الدوارس ... كأنهم لم يجلسوا في المجالس
ولم يشربوا من بارد الماء شربة ... ولم يأكلوا من بين رطب ويابس
ألا خبروني: أين ... قبر ذليلكم ... وقبر العزيز الباذخ ... المتمارس
وغلبتني عيناي فقمت وأنا محزون.(5/368)
[*] (وروى أبو نعيم بإسناد له أن داود الطائي اجتاز على مقبرة وامرأة عند قبر تقول هذين البيتين فسمعها فكان ذلك سبب توبته يعني سبب انقطاعه عن الدنيا وأسبابها وانشغاله بالآخرة والاستعداد لها. وسمع بكر العابد امرأة عند قبر تقول:
واعمراه ليت شعري بأي خديك بدأ البلى وأي عينيك سالت قبل الأخرى، فخر بكر مغشياً عليه. أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب " ذكر الأموات ".
[*] (وروى ابن أبي الدنيا في كتاب " الخائفين " عن محمد بن الحسين عن عبد الله بن موسى قال: كان الحسين بن صالح إذا صعد المنارة ـ يعني ليؤذن ـ أشرف على المقابر فإذا نظر إلي الشمس تمور على القبور صرخ حتى يسقط مغشياً عليه، فيحمل وينزل به، وشهد يوماً جنازة فلما قرب الميت ليدفن نظر إلى اللحد فارتاع عرقاً، ثم مال، فغشي عليه، فحمل على سرير الميت، فرد إلى منزله.
(وذكر بإسناد عن عيسى بن يونس ـ وذكر الحسين بن صالح ـ فقال: قل ما كنت أجيء في وقت صلاة إلا رأيته مغشيا عليه ينظر إلى المقبرة فيصرخ ويغشى عليه.
(وبإسناده عن عمر بن درهم القريعي دخل المقابر وهو معصوب العين وابنه يقوده فوطىء على قبر وقال يا بني أين أنا؟ قال في الجبان يا أبتاه قال: هاه ثم خر ميتا فحمل إلى أهله من المقابر ميتا، فغسل، ثم رد إلى المقابر، فدفن.
[*] (روى ابن أبي الدنيا في كتاب " القبور" بإسناد له أن امرأة بالمدينة كانت تزهو فدخلت يوما المقابر، فرأت جمجمة، فصرخت ثم رجعت منيبة، فدخل عليها نساؤها فقلن ما هذا؟ فقالت: بكى قلبي لذكر الموت لما رأيت جماجم خوف القبور، ثم قالت: أخرجن من عندي فلا تأتين منكن امرأة إلا امرأة ترغب في خدمة الله عز وجل ثم أقبلت على العبادة حتى ماتت.
[*] (وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن عيسى الخواص أن رجلا من الصدر الأول دخل المقابر، فمر بجمجمة بادية من بعض القبور، فحزن حزنا شديدا، ثم واراها، ثم التفت فلم ير إلا القبور، فحدث نفسه فقال: لو كشفت عن بعضهم فسألته ما رأى قال فأتى في منامه فقيل له: لا تغتر بتشييد القبور من فوقهم، فإن القوم بليت خدودهم في التراب فمن بين مسرور ينتظر ثواب الله عز وجل وبين مغموم آسفا على عقابه، فإياك والغفله عما رأيت، فاجتهد الرجل بعد ذلك اجتهادا شديدا حتى مات.(5/369)
[*] (أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن سلمه البصري قال: وقف رجل على قبر قد بني بناء حسنا، فجعل يتعجب من حسنه، فلما كان في ليلة أتاه آت في منامه فوقف عليه، وإذا رجل قد انمحت آثار وجهه فقال شعرا:
أعجبك القبر وحسن البناء ... والجسم فيه قد حواه البلاء
فاسأل الأموات عن حالهم ... ينبأك عن ذاك ذهاب الجلاء
قال: ثم ولى فاتبعته، فدخل الجبان، فأتى ذلك القبر، فانساب فيه.
[*] (أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن الفضيل بن عياض قال: رأيت رجلاً يبكي، قلت: وما يبكيك؟ قال: أبكاني كلامه قلت: ما هو؟ قال: كنا وقوفاً في المقابر فأنشدوا:
أتيت القبور فسألناها ... أين المعظم والمحتقر
وأين المذل بسلطانه ... وأين القوي إذا ما قدر
ففاتوا جميعاً فما مخبر ... وماتوا جميعاً ومات الخبر
فيا سائلي عن أناس مضوا ... أما لك في ما مضى معتبر
تروح وتغدو وأبلاك الثرى ... فتمحو محاسن تلك الصور
[*] (وأورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور أن بعض الوزراء أوصى أن يكتب على قبره:
«أيها المغرور في الدنيا بعز يقينه، وبأهل وبمال وبقصرٍ تبتنيه، كم عليها قد سحبنا ذيل سلطان منيته، يحسب الأقدار تجري بخلود ترتجيه، إذا طواك الموت طياً فاعتبرنا نحن فيه».
[*] (روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن عبد الله بن صدقة بن مرداس البكري عن أبيه عن شيخ حدثه بقرية من بلاد أنطابلس قال: كان ثلاثة إخوة: أمير يصحب السلطان ويؤمر على المدائن والجلوس، وتاجر موسر مطاع من ناحيته، وزاهد قد تخلى لنفسه وتخلى لعبادة ربه. قال: فحضرت العابد الوفاة فاجتمع عنده إخوانه فقال لهما إذا مت فغسلاني وكفناني وادفناني على نشز من الأرض واكتبا على قبري:
وكيف يلذ العيش من هو عالم ... بأن إله الخلق لا بد سائله
فيأخذ منه مظلمة ... لعباده ... ويجزيه بالخير الذي هو فاعله(5/370)
فإذا أنتما فعلتما ذلك فأتياني كل يوم لعلكما أن تتعظا. قال: ففعلا ذلك، فكان أخوه يركب في جنده حتى يقف على القبر فيقرأ ما على عليه ويبكي فلما كان اليوم الثالث وأراد أن ينصرف سمع هدة من داخل القبر، كاد أن ينصدع لها قلبه، فانصرف مذعوراً فزعاً فلما كان من الليل رأى أخاه في منامه فقال له أي أخي ما الذي سمعت من قبرك؟ قال تلك هدة المقمعة قيل لي رأيت: مظلوما، فلم تنصره، فأصبح مهموما فدعا أخاه وخاصته وقال: ما أرى أراد بما أوصى أن يكتب على قبره غيري، وإني أشهدكم أن لا أقيم بين ظهرانيكم أبدا، قال: فترك الإمارة ولزم الكتابة وكتب إلى عبد الملك بن مروان في ذلك، فكتب أن خلوه وما أراد، فحضرته الوفاة وهو في جبل مع بعض الرعاة فبلغ أخاه فأتاه فقال له إذا مت فادفني إلى جنب أخي وأكتب على قبري:
وكيف يلذ العيش من كان موقنا ... بأن المنايا بغتة ستعاجله
فتسلبه ملكا عظيما ... وتسكنه البيت الذي هو أهله
ثم تعاهدني ثلاثة بعد موتي، وادعو الله لي لعل الله أن يرحمني، ومات ففعل به أخوه ذلك فلما كان في اليوم الثالث وأراد أن ينصرف سمع وجبة في قبره كاد أن يذهل عقله، فرجع حزينا قلقا. فلما كان في الليل إذا بأخيه في منامه قد أتاه قال. فقلت له: أي أخي أتيتنا زائرا قال: يا أخي هيهات بعد المزار فلا مزار، وأطمأنت بنا الدار قلت: يا أخي كيف أنت؟ قال: بخير ما أجمع التوبة لكل خير. قال: فكيف أخي؟ قال: ذلك مع الأئمه الأبرار. قلت: وما أمرنا وراءكم. قال: من قدم شيئا وجده؛ فاغتنم وجدك قبل نقلك، فأصبح أخوه معتزلا ففرق ماله وقسمه وباعه، وأقبل على طاعة ربه، ونشأ له ابن كأهنأ الشباب وجها وجمالاً فأقبل على المكاسب والتجارة حتى بلغ منها الغاية، وحضرت الوفاة أباه وقال له: إذا مت تذكر القبور والتفكر في أحوالهم.
مسألة: ما هي فوائد زيارة القبور؟
(فوائد زيارة القبور:
لزيارة القبور فوائد كثيرة منها ما يلي:
(1) تذكر الموت والآخرة.
(2) تقصر الأمل.
(3) تزهد في الدنيا.
(4) ترقق القلوب.
(5) تدمع الأعين.
(6) تدفع الغفلة.
(7) تورقث الخشية.
(8) تورث الاجتهاد في العبادة.
قال محمد بن واسع لرجل: (ما أعجب إلى منزلك! فقال: وما بعجبك من منزلي وهو عند القبور؟ قال: وما عليك، يكفون الأذى ويذكرون الآخرة!!.
(الفرق بين زيارة الموحدين للقبور، وزيارة المشركين:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان:(5/371)
(أما زيارة الموحدين: فمقصودها ثلاثة أشياء:
أحدها: تذكر الآخرة والاعتبار والاتعاظ. وقد أشار النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى ذلك بقوله: "زُورُوا الْقُبُورَ، فَإٍنّهَا تُذَكرُكُمُ الآخِرَةَ".
الثاني: الإحسان إلى الميت، وأن لا يطول عهده به، فيهجره، ويتناساه، كما إذا ترك زيارة الحي مدة طويلة تناساه، فإذا زار الحي فرح بزيارته وسر بذلك، فالميت أولى، لأنه قد صار في دار قد هجر أهلها إخوانهم وأهلهم ومعارفهم، فإذا زاره وأهدى إليه هدية: من دعائه، أو صدقة، أو أهدى قربة، ازداد بذلك سروره وفرحه، كما يسر الحي بمن يزوره ويهدى له، ولهذا شرع النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم للزائرين أن يدعوا لأهل القبور بالمغفرة والرحمة، وسؤال العافية فقط، ولم يشرع أن يدعوهم، ولا يدعو بهم، ولا يصلى عندهم.
الثالث: إحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة، والوقوف عند ما شرعه الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فيحسن إلى نفسه وإلى المزور.
(وأما الزيارة الشركية فأصلها مأخوذ عن عباد الأصنام.
قالوا: الميت المعظم الذي لروحه قرب ومنزلة ومزية عند الله تعالى لا يزال تأتيه الألطاف من الله تعالى وتفيض على روحه الخيرات. فإذا علق الزائر روحه به، وأدناها منه فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها، كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء ونحوه على الجسم المقابل له.
قالوا: فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بروحه وقلبه إلى الميت، ويعكف بهمته عليه، ويوجه قصده كله وإقباله عليه، بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره. وكلما كان جمع الهمة والقلب عليه أعظم كان أقرب إلى انتفاعه به.
وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا والفارابي وغيرهما. وصرح بها عباد الكواكب في عبادتها.
وقالوا: إذا تعلقت النفس الناطقة بالأرواح العلوية فاض عليها منها النور.
وبهذا السر عبدت الكواكب واتخذت لها الهياكل، وصنفت لها الدعوات، واتخذت الأصنام المجسدة لها. وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها أعياداً، وتعليق الستور عليها، وإيقاد السرج عليها، وبناء المساجد عليها. «وهو الذي قصد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إبطاله ومحوه بالكلية، وسد الذرائع المفضية إليه». فوقف المشركون في طريقه وناقضوه في قصده. وكان صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في شق، وهؤلاء في شق.(5/372)
وهذا الذي ذكره هؤلاء المشركون في زيارة القبور هو الشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها وتشفع لهم عند الله تعالى.
قالوا: فإن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرب عند الله وتوجه بهمته إليه وعكف بقلبه عليه صار بينه وبينه اتصال، يفيض به عليه منه نصيب مما يحصل له من الله. وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وحظوة وقرب من السلطان، فهو شديد التعلق به. فما يحصل لذلك من السلطان من الإنعام والإفضال ينال ذلك المتعلق به بحسب تعلقه به.
فهذا سر عبادة الأصنام، «وهو الذي بعث الله رسله، وأنزل كتبه بإبطاله، وتكفير أصحابه ولعنهم». وأباح دماءهم وأموالهم وسبى ذراريهم، وأوجب لهم النار. والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من الرد على أهله، وإبطال مذهبهم.
قال تعالى: {أَمِ اتخَذُوا مِنْ دُونِ الله شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ} [الزمر:43 - 44].
فأخبر أن الشفاعة لمن له ملك السموات والأرض، وهو الله وحده. فهو الذي يشفع بنفسه إلى نفسه ليرحم عبده. فيأذن هم لمن يشاء أن يشفع فيه. فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له، والذي يشفع عنده إنما يشفع بإذنه له وأمره بعد شفاعته سبحانه إلى نفسه وهى إرادته من نفسه أن يرحم عبده. وهذا ضد الشفاعة الشركية التي أثبتها هؤلاء المشركون ومن وافقهم، وهى التي أبطلها الله سبحانه في كتابه، بقوله تعالى:(5/373)
{وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِى نَفْسٌ عَنْ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شفَاعَةٌ} [البقرة: 123] وقوله {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَنُفْقِوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِىَ يوْمٌ لا بَيْعٌ فِيه وَلا خُلّةُ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254] وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِى وَلا شَفِيعٌ لَعَلّهُمْ يَتّقُونَ} [الأنعام: 51] وقال: {اللهُ الّذِى خَلَقَ السَّموَات وَالأَرْضَ بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثم اُسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَالَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِىٍّ وَلا شَفِيعٍ} [السجدة: 4]. فأخبر سبحانه أنه ليس للعباد شفيع من دونه، بل إذا أراد الله سبحانه رحمة عبده أذن هو لمن يشفع فيه. كما قال تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس: 3]. وقال: {مَنْ ذَا الّذِى يَشْفَعَ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِه} [البقرة: 255] فالشفاعة بإذنه ليست شفاعة من دونه، ولا الشافع شفيع من دونه، بل شفيع بإذنه.
والفرق بين الشفيعين، كالفرق بين الشريك والعبد المأمور.
فالشفاعة التى أبطلها الله: شفاعة الشريك فإنه لا شريك له، والتي أثبتها: شفاعة العبد المأمور الذي لا يشفع ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى يأذن له. ويقول: اشفع في فلان. ولهذا كان أسعد الناس بشفاعته سيد الشفعاء يوم القيامة أهل التوحيد، الذين جردوا التوحيد وخلصوه من تعلقات الشرك وشوائبه، وهم الذين ارتضى الله سبحانه.
قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لَمِنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وقال: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحمنُ وَرَضِى لَهُ قَوْلاً} [طه: 109]
فأخبر أنه لا يحصل يومئذ شفاعة تنفع إلا بعد رضاء قول المشفوع له، وإذنه للشافع فيه، فأما المشرك فإنه لا يرتضيه، ولا يرضى قوله، فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه فإنه سبحانه علقها بأمرين: رضاه عن المشفوع له، وإذنه للشافع، فما لم يوجد مجموع الأمرين لم توجد الشفاعة.(5/374)
وسر ذلك: أن الله له الأمر كله وحده، فليس لأحد معه من الأمر شيء، وأعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عنده: هم الرسل والملائكة المقربون، وهم عبيد محض، لا يسبقونه بالقول، ولا يتقدمون بين يديه، ولا يفعلون شيئاً إلا بعد إذنه لهم، وأمرهم. ولاسيما يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً، فهم مملوكون مربوبون، أفعالهم مقيدة بأمره وإذنه. فإذا أشرك بهم المشرك، واتخذهم شفعاء من دونه، ظناً منه أنه إذا فعل ذلك تقدموا وشفعوا له عند الله، فهو من أجهل الناس بحق الرب سبحانه وما يجب له ويمتنع عليه فإن هذا محال ممتنع، شبيه قياس الرب تعالى على الملوك والكبراء، حيث يتخذ الرجل من خواصهم وأوليائهم من يشفع له عندهم فى الحوائج.
وبهذا القياس الفاسد عبدت الأصنام، واتخذ المشركون من دون الله الشفيع والولي.
والفرق بينهما هو الفرق بين المخلوق والخالق، والرب والمربوب، والسيد والعبد، والمالك والمملوك، والغنى والفقير، والذى لا حاجة به إلى أحد قط، والمحتاج من كل وجه إلى غيره.
فالشفعاء عند المخلوقين: هم شركاؤهم، فإن قيام مصالحهم بهم، وهم أعوانهم وأنصارهم، الذين قيام أمر الملوك والكبراء بهم، ولولاهم لما انبسطت أيديهم وألسنتهم فى الناس، فلحاجتهم إليهم يحتاجون إلى قبول شفاعتهم، وإن لم يأذنوا فيها ولم يرضوا عن الشافع، لأنهم يخافون أن يردوا شفاعتهم، فتنتقض طاعتهم لهم، ويذهبون إلى غيرهم. فلا يجدون بداً من قبول شفاعتهم على الكره والرضا. فأما الغنى الذي غناه من لوازم ذاته، وكل ما سواه فقير إليه بذاته. وكل من في السماوات والأرض عبد له، مقهورون بقهره، مصرفون. بمشيئته، لو أهلكهم جميعاً لم ينقص من عزه وسلطانه وملكه وربوبيته وإلهيته مثقال ذرة.
قال تعالي: {لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الَمْسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِى الأَرْضِ جَمِيعاً وَللهِ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخلق ما يشاء وَاللهُ عَلَى كَل شَىءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 17]، وقال سبحانه في سيدة آي القرآن: آية الكرسي: {لَهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وقال: {قل لله الشّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ} [الزمر: 44].(5/375)
فأخبر أن حال ملكه للسموات والأرض يوجب أن تكون الشفاعة كلها له وحده، وأن أحداً لا يشفع عنده إلا بإذنه، فإنه ليس بشريك، بل مملوك محض، بخلاف شفاعة أهل الدنيا بعضهم عند بعض.
فتبين أن «الشفاعة التي نفاها الله سبحانه في القرآن هي هذه الشفاعة الشركية» التي يعرفها الناس، ويفعلها بعضهم مع بعض، ولهذا يطلق نفيها تارة، بناءً على أنها هي المعروفة المتعاهدة عند الناس، ويقيدها تارة بأنها لا تنفع إلا بعد إذنه، وهذه الشفاعة في الحقيقة هي منه، فإنه الذي أذن، والذي قبل، والذي رضا عن المشفوع والذي وفقه لفعل ما يستحق به الشفاعة وقوله.
فمتخذ الشفيع مشرك، لا تنفعه شفاعته، ولا يشفع فيه، ومتخذ الرب وحده إلهه ومعبوده ومحبوبه، ومرجوه، ومخوفه الذي يتقرب إليه وحده، ويطلب رجاءه، ويتباعد من سخطه هو الذي يأذن الله سبحانه للشفيع أن يشفع فيه.
قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ؟}، إلى قوله: {قُلْ للهِ الشّفَاعَةُ جَمِيعاً} [الزمر: 43 - 44]، وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ الله قُلْ أتُنَبئُونَ اللهَ بمَا لا يعْلمُ فى السَّموَاتِ وَلا فِى الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]، فبين سبحانه أن المتخذين شفعاء مشركون، وأن الشفاعة لا تحصل باتخاذهم هم، وإنما تحصل بإذنه للشافع، ورضاه عن المشفوع.(5/376)
وسر الفرق بين الشفاعتين: أن شفاعة المخلوق للمخلوق، وسؤاله للمشفوع عنده، لا يفتقر فيها إلى المشفوع عنده، لا خلقاً، ولا أمراً، ولا إذناً، بل هو سبب محرك له من خارج، كسائر الأسباب التي تحرك الأسباب، وهذا السبب المحرك قد يكون عند المتحرك لأجله ما يوافقه كمن يشفع عنده في أمر يحبه ويرضاه، وقد يكون عنده ما يخالفه كمن يشفع إليه في أمر يكرهه، ثم قد يكون سؤاله وشفاعته أقوى من المعارض، فيقبل شفاعة الشافع. وقد يكون المعارض الذي عنده أقوى من شفاعة الشافع، فيردها ولا يقبلها، وقد يتعارض عنده الأمران، فيبقى متردداً بين ذلك المعارض الذي يوجب الرد، وبين الشفاعة التي تقتضى القبول، فيتوقف إلى أن يترجح عنده أحد الأمرين بمرجح، فشفاعة الإنسان عند المخلوق مثله: هي سعى في سبب منفصل عن المشفوع إليه يحركه به، ولو على كره منه، فمنزلة الشفاعة عنده منزلة من يشفع يأمر غيره، أو يكرهه على الفعل، إما بقوة وسلطان، وإما يرغبه شفاعته، فلا بد أن يحصل للمشفوع إليه من الشافع إما رغبة ينتفع بها، وإما رهبة منه تندفع عنه بشفاعته. وهذا بخلاف الشفاعة عند الرب سبحانه، فإنه ما لم يخلق شفاعة الشافع، ويأذن له فيها، ويحبها منه، ويرضى عن الشافع، لم يمكن أن توجد، والشافع لا يشفع عنده لحاجة الرب إليه، ولا لرهبته منه، ولا لرغبته فيما لزمه، وإنما يشفع عنده مجرد امتثال أمره وطاعته له، فهو مأمور بالشفاعة، مطيع بامتثال الأمر، فإن أحداً من الأنبياء والملائكة وجميع المخلوقات لا يتحرك بشفاعة ولا غيرها إلا بمشيئة الله تعالى، وخلقه، فالرب سبحانه وتعالى هو الذي يحرك الشفيع حتى يشفع، والشفيع عند المخلوق هو الذي يحرك المشفوع إليه حتى يقبل، والشافع عند المخلوق مستغن عنه في أكثر أموره، وهو في الحقيقة شريكه، ولو كان مملوكه وعبده. فالمشفوع عنده محتاج إليه فيما يناله منه من النفع بالنصر، والمعاونة وغير ذلك، كما أن الشافع محتاج إليه فيما يناله منه: من رزق، أو نصر، أو غيره، فكل منهما محتاج إلى الآخر.
ومن وفقه الله تعالى لفهم هذا الموضع ومعرفته، تبين له حقيقة التوحيد والشرك، والفرق بين ما أثبته الله تعالى من الشفاعة وبين ما نفاه وأبطله، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نوراً فماله مِنْ نُورٍ} [النور: 40].
(استحباب تذكر القبور والتفكير في أحوالهم:(5/377)
(حديث ابن مسعود في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: استحيوا من الله تعالى حق الحياء، قلنا يا نبي الله إنا لنستحي والحمد لله، قال: ليس ذاك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس و ما وعى والبطن و ما حوى وتذكر الموت و البِلى و من أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ) أَيْ حَيَاءً ثَابِتًا لَازِمًا صَادِقًا قَالَهُ الْمُنَاوِيُّ، وَقِيلَ أَيِ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ
(قُلْنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّا لَنَسْتَحْيِي) لَمْ يَقُولُوا حَقَّ الْحَيَاءِ اعْتِرَافًا بِالْعَجْزِ عَنْهُ
(وَالْحَمْدُ لِلَّهِ) أَيْ عَلَى تَوْفِيقِنَا بِهِ
(قَالَ لَيْسَ ذَاكَ) أَيْ لَيْسَ حَقَّ الْحَيَاءِ مَا تَحْسَبُونَهُ بَلْ أَنْ يَحْفَظَ جَمِيعَ جَوَارِحِهِ عَمَّا لَا يَرْضَى
(وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ) الجزء السابع أَيْ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ بِأَنْ لَا تَسْجُدَ لِغَيْرِهِ وَلَا تُصَلِّيَ لِلرِّيَاءِ وَلَا تَخْضَعَ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَلَا تَرْفَعَهُ تَكَبُّرًا
(وَمَا وَعَى) أَيْ جَمَعَهُ الرَّأْسُ مِنَ اللِّسَانِ وَالْعَيْنِ وَالْأُذُنِ عَمَّا لَا يَحِلُّ اسْتِعْمَالُهُ
(وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ) أَيْ عَنْ أَكْلِ الْحَرَامِ
(وَمَا حَوَى) أَيْ مَا اتَّصَلَ اجْتِمَاعُهُ بِهِ مِنَ الْفَرْجِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْيَدَيْنِ وَالْقَلْبِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ مُتَّصِلَةٌ بِالْجَوْفِ، وَحِفْظُهَا بِأَنْ لَا تَسْتَعْمِلَهَا فِي الْمَعَاصِي بَلْ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى (وَتَتَذَكَّرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى) بِكَسْرِ الْبَاءِ مِنْ بَلِيَ الشَّيْءُ إِذَا صَارَ خَلَقًا مُتَفَتِّتًا يَعْنِي تَتَذَكَّرَ صَيْرُورَتَكَ فِي الْقَبْرِ عِظَامًا بِالْبَيِّنَةِ
(وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا) فَإِنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ حَتَّى لِلْأَقْوِيَاءِ قَالَهُ الْقَارِي. وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ: لِأَنَّهُمَا ضَرَّتَانِ فَمَتَى أَرْضَيْتَ إِحْدَاهُمَا أَغْضَبْتَ الْأُخْرَى (فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ) أَيْ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ.(5/378)
520 - وخرج ابن أبى الدنيا بإسناد عن الضحاك قال: قال رجل يا رسول الله من أزهد الناس؟ قال: "من لم ينس القبر والبلى , وترك فضل الدنيا [الدنية] وآثر ما يبقى على ما يفنى , ولم يعد غداً من أيامه , وعد نفسه من أهل القبور ".
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) قال: أخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
[*] (روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن أبي سريج الشامي قال: قال عمر بن عبد العزيز لرجل من جلسائه: يا فلان قد أرقت الليل متفكراً , قال: فيما يا أمير المؤمنين؟ قال في القبر وساكنه , لو رأيت بعد ثالثه في القبر لاستوحشت من قربه بعد طوال الأنس منك بناحيته , ولرأيت بيتاً تجول فيه الهوام , ويجري فيه الصديد وتخترقه الديدان مع تغير الرائحة وبلى الأكفان بعد حسن الهيئة وطيب الرائحة ونقاء الثوب قال: ثم شهق شهقة خر مغشياً.
[*] (أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن
محمد بن كعب القرظي قال: بعثت إلى عمر بن عبد العزيز فقدمت إليه فأدمت النظر إليه فقال: يا ابن كعب إنك لتنظر إلي نظراً ما كنت تنظره إليَّ بالمدينة قلت: أجل يا أمير المؤمنين , يعجبني ما حال من لونك وما حال من جسمك قال: فكيف بك يا ابن كعب لو رأيتني بعد ثالثة في القبر , وقد ثبتت عيناي على وجنتي , وخرج الصديد والدود من منخري , لكنت لي أشد نكرة.
[*] (أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن
وهب بن الورد قال: بلغنا أن رجلاً فقيهاً دخل على عمر بن عبد العزيز فقال: سبحان الله ,كأنه تعجب من أمره الذي هو عليه , وقال له: تغيرت بعدنا! فقال له: وبينت ذلك فعلاً، فقال له: الأمر أعظم من ذلك , فقال له: يا فلان فكيف لو رأيتني بعد ثلاث , وقد أدخلت قبري، وقد خرجت الحدقتان فسالت على الخدين وتقلصت الشفتان عن الأسنان , وانفتح الفم , ونتأ البطن فعلا الصدر , وخرج الصديد من الدبر.(5/379)
[*] (وروى أبو نعيم الحافظ بإسناده أن عمر بن عبد العزيز شيع مرة جنازة من أهله , ثم أقبل على أصحابه ووعظهم , فذكر الدنيا فذمها وذكر أهلها , وتنعمهم فيها , وما صاروا إليه بعدها من القبور , فكان من كلامه أنه قال: إذا مررت بهم فنادهم إن كنت مناديا , وادعهم إن كنت داعياً ومر بعسكرهم , وانظر إلى تقارب منازلهم , سل غنيهم: ما بقي من غناه؟ وسل فقيرهم: ما بقي من فقره؟ واسألهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانوا للذات بها ينظرون، وسلهم عن الجلود الرقيقة والوجوه الحسنة والأجساد الناعمة ما صنع بها الديدان تحت الأكفان، وأكلت اللحمان وعفرت الوجوه، ومحت المحاسن، وكسرت الفقارة، وبانت الأعضاء، ومزقت الأشلاء، وأين حجابهم وقبابهم؟ وأين خدمهم وعبيدهم وجمعهم وكنوزهم وكأنهم ما وطئوا فراشا ًولا وضعوا هنا متكأ، ولا غرسوا شجراً ولا أنزلوهم من اللحد قراراً، أليسوا في منازل الخلوات؟
أليس الليل والنهار عليهم سواء؟ أليسوا في مدلهمة ظلماء، قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة، وكم من ناعم وناعمة أضحوا ووجوههم بالية، وأجسادهم من أعناقهم بائنة، أوصالهم ممزقة، وقد سالت الحدق على الوجنات، وامتلأت الأفواه دماً وصديداً، ودبت دواب الأرض في أجسادهم، ففرقت أعضاءهم، ثم لم يلبثوا إلا يسيراً حتى عادت العظام رميماً، فقد فارقوا الحدائق وصاروا بعد السعة إلى المضائق، قد تزوجت نساءهم، وترددت في الطرق أبناؤهم، وتوزعت القرابات ديارهم وقراهم، فمنهم والله الموسع له في قبره الغض الناظر فيه المتنعم بلذته، يا ساكن القبر غداً ما الذي غرك من الدنيا أين دارك الفيحاء ونهرك المطرد؟ وأين ثمارك اليانعة؟ وأين رقاق ثيابك وأين طيبك ونحورك، وأين كسوتك لصيفك ولشتاءك؟؟ أما رأيته قد زل به الأمر، فلما يدفع عن نفسه دخلاً وهو يرشح عرقاً ويتلمظ عطشاً، يتقلب في سكرات الموت وغمرته، جاء الأمر من السماء، وجاء غالب القدر والقضاء، هيهات: يا مغمض الوالد والأخ والولد، وغاسله، يا مكفن الميت ويا مدخله في القبر، وراجعاً عنه، ليت شعري بأي خديك بدأ البلى يا مجاور الهلكات صرت في محلة الموت، ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا وما يأتيني به من رسالة ربي، ثم انصرف فما عاش بعد ذلك إلا جمعة.(5/380)
(وقد روي عنه من وجوه متعددة أنه قال في آخر خطبة خطبها - رحمة الله عليه - " ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، ثم يرمها بعدكم الباقون كذلك حتى يرد إلى خير الوارثين، وفي كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً قد قضى نحبه فتودعونه، وتدعونه في صدع من الأرض غير ممهد ولا موسد، قد فارقه الأحباب وخلع الأسباب وسكن التراب، وواجه الحساب، غنياً عما خلف، فقيراً إلى ما قدم.
وكان ينشد هذه الأبيات:
من كان حين تصيب الشمس جبهته ... أو الغبار يخالف الشين والشعثا
و يألف الظل كي تبقى بشاشته ... فكيف يسكن يوماً راغماً جدثاً
في ظل مقفرة غبراء مظلمة ... يطيل تحت الثرا في غمه اللبثا
تجهزي ... بجهاز ... تبلغين ... به ... يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا
[*] (أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن
أن النصر بن المنذر قال لإخوانه: زوروا الآخرة بقلوبكم، وشاهدوا الموقف بتوهمكم، وتوسدوا القبور بقلوبكم، واعلموا أن ذلك كائن لا محالة، فاختار لنفسه امرؤٌ ما أحب من المنافع والضرر.
[*] (وأورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن
مضر بن عيسى قال: رحم الله قوماً زاروا إخوانهم بقلوبهم في قبورهم وهم قيام في ديارهم، يشيرون إلى زيارتهم بالفكر في أحوالهم.
[*] (وأورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن
هشام الدستوائي قال: ربما ذكرت الميت إذا كفن في أكفانه فأعظ نفسي.
(ولله درُ ابن المبارك حيث قال:
إن الذي ... دفن ... الأباعد ... و الأقربين صاعداً فصاعداً
عساك يوماً تذكر الملاحدا ... يا من يرمي أن يكون خالدا
شربت فاعلمه حديداً بارداً ... لا بد تلقى طيباً و زائداً
(أحوال السلف في تذكر القبور والتفكير في أحوالهم:
لقد كان السلف الصالح رحمهم الله تعالى مثالاً يُحْتَذى به في تذكر القبور والتفكير في أحوالهم والاعتبار بهم، وهآنذا أذكر لك كلاماً حُقَّ له أن يُنْقَشَ على الصدور وأن يُكْتَبَ بماء الذهب من عمر ابن عبد لعزيز رحمه الله تعالى الذي ملأ الدنيا زهداً وكفافاً وقناعةً وعدلاً، ثم من كلام غيره من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء وحراس العقيدة وحماة السنة وأشياع الحق وأنصار دين الله عز وجل مثل الإمام ابن رجب وابن أبي الدنيا وغيرهم ممن ملأ الدنيا زهداً وكفافاً وقناعةً وعدلاً وعلماً وعملاً: ((5/381)
[*] (أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن عياش، عن أبيه: أن عمر بن عبد العزيز شيع جنازة، فلما انصرفوا تأخر عمر وأصحابه ناحية عن الجنازة، فقال له أصحابه: يا أمير المؤمنين جنازة أنت وليها تأخرت عنها فتركتها وتركتها؟ فقال: نعم، ناداني القبر من خلفي يا عمر بن عبد العزيز ألا تسألني ما صنعت بالأحبة؟ قلت: بلى، قال: خرقت الأكفان، ومزقت الأبدان، ومصصت الدم وأكلت اللحم، ألا تسألني ما صنعت بالأوصال؟ قلت: بلى، قال: نزعت الكفين من الذراعين، والذراعين من العضدين، والعضدين من الكتفين، والوركين من الفخذين، والفخذين من الركبتين، والركبتين من الساقين، والساقين من القدمين، ثم بكى عمر فقال: ألا إن الدنيا بقاؤها قليل، وعزيزها زليل، وغنيها فقير، وشبابها يهرم، وحيها يموت، فلا يغرنكم إقبالها مع معرفتكم بسرعة إدبارها، والمغرور من اغتر بها، أين سكانها الذين بنوا مدائنها، وشققوا أنهارها، وغرسوا أشجارها، وأقاموا فيها أياماً يسيرة، غرتهم بصحتهم، وغزوا بنشاطهم، فركبوا المعاصي، إنهم كانوا والله في الدينا مغبوطين بالأموال على كثرة المنع، محسودين على جمعه، ما صنع التراب بأبدانهم، والرمل بأجسادهم، والديدان بعظامهم وأوصالهم، كانوا في الدنيا على أسرة ممهدة، وفرش منضدة، بين خدم يخدمون، وأهل يكرمون، وجيران يعضدون، فإذا مررت فنادهم إن كنت منادياً، وادعهم إن كنت داعياً، ومر بعسكرهم، وانظر إلى تقارب منازلهم التي كان بها عيشهم، وسل غنيهم ما بقى من غناه، وسل فقيرهم ما بقى من فقره، وسلهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانت إلى اللذات بها ينظرون، وسلهم عن الجلود الرقيقة، والوجوه الحسنة، والأجساد الناعمة، ما صنع بها الديدان؟ محت الألوان، وأكلت اللحمان، وعفرت الوجوه، ومحت المحاسن، وكسرت الفقار وأبانت الأعضاء، ومزقت الأشلاء، وأين حجالهم وقبابهم، وأين خدمهم وعبيدهم، وجمعهم ومكنوزهم، والله ما زودوهم فراشاً، ولا وضعوا هناك متكأً، ولا غرسوا لهم شجراً، ولا أنزلوهم من اللحد قراراً، أليسوا في منازل الخلوات والفلوات أليس الليل والنهار عليهم سواء؟ أليس هم في مدلهمة ظلماء؟ قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة.(5/382)
فكم من ناعم وناعمة أصبحوا ووجوهم بالية، وأجسادهم من أعناقهم نائية، وأوصالهم ممزقة، قد سالت الحدق على الوجنات، وامتلأت الأفواه دماً وصديداً، ودبت دواب الأرض في أجسادهم ففرقت أعضاءهم، ثم لم يلبثوا والله إلا يسيرا حتى عادت العظام رميماً، قد فارقوا الحدائق، فصاروا بعد السعة إلى المضايق، قد تزوجت نساؤهم، وترددت في الطرق أبناؤهم، وتوزعت القرابات ديارهم وتراثهم، فمنهم والله الموسع له في قبره، الغض الناضر فيه، المتنعم بلذته. يا ساكن القبر غداً مالذي غرك من الدنيا، هل تعلم أنك تبقى أو تبقى لك، أين دارك الفيحاء، ونهرك المطرد، وأين ثمرك الناضر ينعه وأين رقاق ثيابك وأين طيبك وأين بخورك، وأين كسوتك لصيفك وشتائك، أما رأيته قد نزل به الأمر فما يدفع عن نفسه وجلا، وهو يرشح عرقاً، ويتلمظ عطشاً، يتقلب من سكرات الموت وغمراته، جاء الأمر من السماء، وجاء غالب القدر والقضاء، جاء من الأمر والأجل ما تمتنع منه، هيهات هيهات، يا مغمض الوالد والأخ والولد وغاسله، يا مكفن الميت وحامله، يا مخليه في القبر وراجعاً عنه، ليت شعري كيف كنت على خشونة الثرى، يا ليت شعري بأي خديك بدأ البلى، يا مجاور الهلكات صرت في محلة الموتى، ليت شعري مالذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا، وما يأتيني به من رسالة ربي، ثم تمثل:
تسر بما يفنى وتشغل بالصبا ... كما غر باللذات في النوم حالم
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم
وتعمل فيما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهايم
ثم انصرف فما بقى بعد ذلك إلا جمعه.
[*] (وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أسد بن زيد قال: كنا مع عمر بن عبد العزيز في جنازة، فلما أن دفن الميت ركب بغلة له صغيرة ثم جاء إلى قبر فركز عليه المقرعه فقال: السلام عليك يا صاحب القبر، قال عمر فنادانى مناد من خلفى وعليك السلام يا عمر بن عبد العزيز عم تسأل؟ فقلت، عن ساكنك وجارك، قال: أما البدن فعندي، والروح عرج به إلى الله عز وجل ما أدري أي شيء حاله، قلت أسألك، عن ساكنك وجارك؟ قال: دمغت المقلتين، وأكلت الحدقتين، ومزقت الأكفان، وأكلت الأبدان.(5/383)
[*] (وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي قرة، قال: خرج عمر بن عبد العزيز على بعض جنائز بني مروان، فلما صلى عليها وفرغ، قال لأصحابه: توقفوا، فوقفوا، فضرب بطن فرسه حتى أمعن في القبور وتوارى عنهم، فاستبطأه الناس حتى ظنوا، فجاء وقد احمرت عيناه، وانتفخت أوداجه، قالوا: يا أمير المؤمنين أبطأت علينا؟ قال: أتيت قبور الأحبة، قبور بني آبائي فسلمت عليهم فلم يردوا السلام، فلما ذهبت أقفى ناداني التراب فقال: ألا تسألني يا عمر عليهم ما لقيت الأحبة؟ قلت: وما لقيت الأحبة؟ قال: خرقت الأكفان، وأكلت الأبدان، ونزعت المقلتين، فذكر نحوه. وزاد: فلما ذهبت أقفي ناداني: يا عمر عليك بأكفان لا تبلى، قلت: وما أكفان لا تبلى؟ قال: اتقاء الله، والعمل الصالح.
[*] (وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي صالح الشامى، قال: قال عمر بن عبد العزيز:
أنا ميت وعز من لا يموت ... قد تيقنت أنني سأموت
ليس ملك يزيله الموت ملكا ... إنما الملك ملك من لا يموت
[*] (وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مفضل بن يونس، قال: قال عمر بن عبد العزيز: لقد نغص هذا الموت على أهل الدنيا ما هم فيه من غضارة الدنيا وزهوتها، فبينا هم كذلك وعلى ذلك أتاهم جاد من الموت فاخترمهم مما هم فيه، فالويل والحسرة هنا لك لمن لم يحذر الموت، ويذكره في الرخاء فيقدم لنفسه خيراً يجده بعدما فارق الدنيا وأهلها، قال: ثم بكى عمر حتى غلبه البكاء فقام.
[*] (أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن جابر بن نوح، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض أهل بيته، أما بعد فإنك إن استشعرت ذكر الموت في ليلك أو نهارك بغض إليك كل فان، وحبب إليك كل باق. والسلام.
[*] (وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أسماء بن عبيد قال: دخل عنبسة بن سعيد بن العاص على عمر بن عبد العزيز، فقال: يا أمير المؤمنين إن من كان قبلك من الخلفاء كانوا يعطون عطايا منعتناها، ولي عيال وضيعة، أفتأذن لي أن أخرج إلى ضيعتي وما يصلح عيالي؟ فقال عمر: أحبكم إلينا من كفانا مؤنته. فخرج من عنده فلما صار عن الباب قال عمر: أبا خالد أبا خالد، فرجع. فقال: أكثر من ذكر الموت فإن كنت في ضيق من العيش وسعه عليك، وإن كنت في سعة من العيش ضيقه عليك.(5/384)
[*] (وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عن جعونة، قال: قال عمر بن عبد العزيز: يا أيها الناس إنما أنتم أغراض تنتضل فيها المنايا، إنكم لا تؤتون نعمة إلا بفراق أخرى، وأية أكلة ليس معها غصة، وأية جرعة ليس معها شرقة، وإن أمْس شاهد مقبول قد فجعكم بنفسه، وخلف في أيديكم حكمته، وإن اليوم حبيب مودع وهو وشيك الظعن، وإن غداً آت بما فيه، وأين يهرب من يتقلب في يدي طالبه، إنه لا أقوى من طالب، ولا أضعف من مطلوب. إنما أنتم سفر تحلون عقد رحالكم في غير هذه الدار، إنما أنتم فروع أصول قد مضت فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله.
[*] (وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبيد الله بن العيزار، قال: خطبنا عمر بن عبد العزيز بالشام على منبر من طين، فحمد الله وأثنى عليه، ثم تكلم بثلاث كلمات فقال: أيها الناس أصلحوا سرائركم تصلح علانيتكم، واعملوا لآخرتكم تكفوا دنياكم، واعلموا أن رجلاً ليس بينه وبين آدم آب حي لمغرق له في الموت. والسلام عليكم.
[*] (وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي الحسن المدائني، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عمر بن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة يعزيه على ابنه: أما بعد، فإنا قوم من أهل الآخرة أسكنا الدنيا، أموات أبناء أموات، والعجب لميت يكتب إلى ميت يعزيه عن ميت. والسلام.
[*] (وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن المفضل التميمي، قال: آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز أن صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن ما في أيديكم أسلاب الهالكين، وسيتركها الباقون كما تركها الماضون، ألا ترون أنكم في كل يوم وليلة تشيعون غادياً أو رائحاً إلى الله تعالى، وتضعونه في صدع الأرض ثم في بطن الصدع، غير ممهد ولا موسد، قد خلع الأسلاب، وفارق الأحباب، وأسكن التراب، وواجه الحساب، فقير إلى ما قدم أمامه، غنى عما ترك بعده. أما والله إني لأقول لكم هذا وما أعرف من أحد من الناس مثل ما أعرف من نفسي، قال: ثم قال بطرف ثوبه على عينه فبكى ثم نزل، فما خرج حتى أخرج إلى حفرته.(5/385)
[*] (وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شعيب بن صفوان، عن عيسى أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى رجل: أما بعد: فإني أوصيك بتقوى لله، والانشمار لما استطعت من مالك وما رزقك الله إلى دار قرارك، فكأنك والله ذقت الموت وعاينت ما بعده بتصريف الليل والنهار فإنهما سريعان في طي الأجل ونقص العمر، لم يفتهما شىء إلا أفنياه، ولا زمن مرا به إلا أبلياه، مستعدان لمن بقى بمثل الذي أصاب من قد مضى، فنستغفر الله لسيء أعمالنا، ونعوذ به من مقته إيانا على ما نعظ به مما نقصر عنه.
[*] (وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبو ربيعة عبيد الله بن عبيد بن عدى الكندي، عن أبيه، عن جده، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عماله، أما بعد: فكأن العباد قد عادوا إلى الله ثم ينبئهم بما عملوا ليجزى الذين أساءوا بما عملوا، ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى، فإنه لا معقب لحكمه ولا ينازع في أمره، ولا يقاطع في حقه الذي استحفظه عباده وأوصاهم به، وإني أوصيك بتقوى الله، وأحثك على الشكر فيما اصطنع عندك من نعمة، وآتاك من كرامة، فإن نعمه يمدها شكره، ويقطعها كفره، أكثر ذكر الموت الذي لا تدري متى يغشاك، ولا مناص ولا فوت، وأكثر من ذكر يوم القيامة وشدته، ثم كن مما أوتيت من الدنيا على وجل، فإن من لا يحذر ذلك ولا يتخوفه توشك الصرعة أن تدركه في الغفلة، وأكثر النظر في عملك في دنياك بالذي أمرت به، ثم اقتصر عليه، فإن فيه لعمري شغلاً عن دنياك، ولن تدرك العلم حتى تؤثره على الجهل، ولا الحق حتى تذر الباطل فنسأل الله لنا ولك حسن معونته، وأن يدفع عنا وعنك بأحسن دفاعه برحمته.
[*] (وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ميمون بن مهران، قال: خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقبرة، فلما نظر إلى القبور بكى ثم أقبل علي فقال: يا أبا أيوب هذه قبور آبائي بني أمية كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذتهم وعيشهم. أما تراهم صرعى قد خلت بهم المثلات، واستحكم فيهم البلاء، وأصابت الهوام في أبدانهم مقيلاً. ثم بكى حتى غشى عليه، ثم أفاق فقال: انطلق بنا فوالله ما أعلم أحداً أنعم ممن صار إلى هذه القبور وقد أمن عذاب الله.(5/386)
(أين من ربح في متاجر الدنيا واكتسب، أين من أعطى وأولى ثم والى ووهب، أما رحل عن قصره الذهب فذهب، أما نازله التلف وأسره العطب، أنفعه بكاء من بكى أو ندب من ندب، أما ندم على كل ما جنى وارتكب، أما توقنون أن طالبه لكم في الطلب تدبروا قول ناصحكم صدق أو كذب.
(يا من في حلل جهله يرفل ويميس، يا مؤثراً الرذائل على أنفس نفيس، يا طويل الأمل ماذا صنع الجليس، يا كثير الخطايا أشْمَتَّ إبليس، من لك إذا فاجأك مُذِلُ الرئيس، واحتوشتك أعوان ملك الموت وحمى الوطيس، ونقلت إلى لحد مالك فيه إلا العمل أنيس.(5/387)
[*] (وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إسماعيل بن إبراهيم بن أبي حبيبة: أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى بعض عماله، أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله ولزوم طاعته، فإن بتقوى الله نجا أولياء الله من سخطه، وبها تحقق لهم ولايته، وبها رافقوا أنبيائهم، وبها نضرت وجوههم، وبها نظروا إلى خالقهم، وهي عصمة في الدنيا من الفتن، والمخرج من كرب يوم القيامة، ولم يقبل ممن بقى إلا بمثل ما رضي عمن مضى ولمن بقى عبرة فيما مضى، وسنة الله فيهم واحدة، فبادر بنفسك قبل أن تؤخذ بكظمك، ويخلص إليك كما خلص إلى من كان قبلك، فقد رأيت الناس كيف يموتون وكيف يتفرقون، ورأيت الموت كيف يعجل التائب توبته وذا الأمل أمله، وذا السلطان سلطانه، وكفى بالموت موعظة بالغة، وشاغلاً عن الدنيا، ومرغباً في الآخرة، فنعوذ بالله من شر الموت وما بعده، ونسأل الله خيره وخير ما بعده، ولا تطلبن شيئاً من عرض الدنيا بقول ولا فعل تخاف أن يضر بآخرتك، فيزري بدينك، ويمقتك عليه ربك، واعلم أن القدر سيجري إليك برزقك، ويوفيك أملك من دنياك بغير مزيد فيه بحول منك ولا قوة، ولا منقوصاً منه بضعف. إن أبلاك الله بفقر فتعفف في فقرك وأخبت لقضاء ربك، واعتبر بما قسم الله لك من الإسلام، ما ذوى منك من نعمة الدنيا فإن في الإسلام خلفاً من الذهب والفضة من الدنيا الفانية. اعلم أنه لن يضر عبداً صار إلى رضوان الله وإلى الجنة ما أصابه في الدنيا من فقر أو بلاء، وأنه لن ينفع عبداً صار إلى سخط الله و وإلى النار ما أصاب في الدنيا من نعمة أو رخاء، ما يجد أهل الجنة من مكروه أصابهم في دنياهم، ما يجد أهل النار طعم لذة نعموا بها في دنياهم، كل شيء من ذلك كأن لم يكن. تشيعون غادياً أو رائحاً إلى الله قد قضى نحبه، وانقضى أجله، وتغيبونه في صدع من الأرض، ثم تدعونه غير متوسد ولا متمهد، فارق الأحبة، وخلع الأسلاب، وسكن التراب، وواجه الحساب، مرتهناً بعمله، فقيراً إلى ما قدم، غنياً عما ترك، فاتقوا الله قبل نزول الموت، وانقضاء موافاته، وأيم الله إني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما أعلم عندي، وأستغفر الله وأتوب إليه.(5/388)
[*] (وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: خطب عمر بن عبد العزيز هذه الخطبة، وكان آخر خطبة خطبها، حمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنكم لم تخلقوا عبثاً، ولم تتركوا سدى، وإن لكم معاداً ينزل الله فيه ليحكم بينكم ويفصل بينكم، وخاب وخسر من خرج من رحمة الله وحرم جنة عرضها السموات والأرض، ألم تعلموا أنه لا يأمن غداً إلا من حذر الله اليوم وخافه وباع نافداً بباق، وقليلاً بكثير، وخوفاً بأمان، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وستصير من بعدكم للباقين، وكذلك حتى تردوا إلى خير الوارثين.
ثم إنكم تشيعون كل يوم غادياً ورائحاً، قد قضى نحبه، وانقضى أجله، حتى تغيبوه في صدع من الأرض، في شق صدع، ثم تتركوه غير ممهد ولا موسد، فارق الأحباب، وباشر التراب، ووجه للحساب، مرتهن بما عمل، غني عما ترك، فقير إلى ما قدم. فاتقوا الله وموافاته وحلول الموت بكم، أما والله إني لأقول هذا وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما عندي وأستغفر الله، وما منكم من أحد يبلغنا حاجته لا يسع له ما عندنا إلا تمنيت أن يبدأ بي وبخاصتي حتى يكون عيشنا وعيشه واحداً، أما والله لو أردت غير هذا من غضارة العيش لكان اللسان به ذلولاً، وكنت بأسبابه عالماً، ولكن سبق من الله كتاب ناطق، وسنة عادلة، دل فيها على طاعته، ونهى فيها عن معصيته، ثم رفع طرف ردائه فبكى وأبكى من حوله.
[*] (وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ميمون بن مهران أنه قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز يوماً وعنده سابق البربري الشاعر، وهو ينشد شعراً، فانتهى في شعره إلى هذه الأبيات:
فكم من صحيح بات للموت آمناً ... أتته المنايا بغتة بعد ما هجع
فلم يستطع إذ جاءه الموت بغتة ... فراراً ولا منه بقوته امتنع
فأصبح تبكيه النساء مقنعاً ... ولا يسمع الداعى وإن صوته رفع
وقرب من لحد فصار مقيله ... وفارق ما قد كان بالأمس قد جمع
فلا يترك الموت الغنى لماله ... ولا معدماً في المال ذا حاجة يدع
قال: فلم يزل عمر يبكى ويضطرب حتى غشى عليه، فقمنا فانصرفنا عنه.
[*] (وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن خالد بن يزيد العمري، قال: سمعت وهيب بن الورد يقول: كان عمر بن عبد العزيز كيراً ما يتمثل بهذه الأبيات:
يرى مستكيناً وهو للهو ماقت ... به عن حديث القوم ما هو شاغله
وأزعجه علم عن الجهل كله ... وما عالم شيئاً كمن هو جاهله
عبوس عن الجهال حين يراهم ... فليس له منهم خدين يهازله(5/389)
تذكر ما يبقى من العيش آجلاً ... فأشغله عن عاجل العيش آجله
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن معاذ قال: من أكثر ذكر الموت لم يمت قبل أجله ويدخل عليه ثلاث خصال من الخير: أولها المبادرة إلى التوبة، والثانية القناعة برزق يسير، والثالثة النشاط في العبادة. ومن حرص على الدنيا فإنه لا يأكل فوق ما كتب الله له ويدخل عليه من العيوب ثلاث خصال: أولها أن تراه أبداً غير شاكر لعطية الله له، والثاني لا يواسي بشيء مما قد أعطى من الدنيا. والثالث يشتغل ويتعب في طلب ما لم يرزقه الله حتى يفوته عمل الدين.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله، قال: سمعت القداح يذكر أن عمر بن عبد العزيز كان إذا ذكر الموت انتفض انتفاض الطير، وبكى حتى تجري دموعه على لحيته.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عمر بن ذر، قال: قال عمر بن عبد العزيز: لولا أن تكون بدعة لحلفت أن لا أفرح من الدنيا بشىء ابداً حتى أعلم ما في وجوه رسل ربي إلى عند الموت، وما أحب أن يهون على الموت لأنه آخر ما يؤجر عليه المسلم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ميمون بن مهران أنه قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز يوماً وعنده سابق البربري الشاعر، وهو ينشد شعراً، فانتهى في شعره إلى هذه الأبيات:
فكم من صحيح بات للموت آمناً ... أتته المنايا بغتة بعد ما هجع
فلم يستطع إذ جاءه الموت بغتة ... فراراً ولا منه بقوته امتنع
فأصبح تبكيه النساء مقنعاً ... ولا يسمع الداعى وإن صوته رفع
وقرب من لحد فصار مقيله ... وفارق ما قد كان بالأمس قد جمع
فلا يترك الموت الغنى لماله ... ولا معدماً في المال ذا حاجة يدع
قال: فلم يزل عمر يبكى ويضطرب حتى غشى عليه، فقمنا فانصرفنا عنه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن خالد بن يزيد العمري، قال: سمعت وهيب بن الورد يقول: كان عمر بن عبد العزيز كثيراً ما يتمثل بهذه الأبيات:
يرى مستكيناً وهو للهو ماقت ... به عن حديث القوم ما هو شاغله
وأزعجه علم عن الجهل كله ... وما عالم شيئاً كمن هو جاهله
عبوس عن الجهال حين يراهم ... فليس له منهم خدين يهازله
تذكر ما يبقى من العيش آجلاً ... فأشغله عن عاجل العيش آجله(5/390)
[*] (أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير: كان أبو بكر الصديق يقول في خطبته: أين الوضاءة الحسنة وجوههم، المعجبون بشبابهم، الذين كانوا لا يعطون الغلبة في مواطن الحرب، أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحيطان قد تضعضع بهم، وصاروا في ظلمات القبور الوحا الوحا النجا النجا.
[*] (وروى ابن أبي الدنيا عن الحسن أنه مر به شاب، وعليه بردة له حسنة فقال: ابن آدم معجب بشبابه، معجب بجماله كأن القبر قد وارى بدنك وكأنك لاقيت عملك، ويحك ذا وقلبك، فإن حاجة الله إلى عباده صلاح قلوبهم.
[*] (أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن الحسن قال: يومان وليلتان لم تسمع الخلائق بمثلهن قط: يوم تبيت مع أهل القبور ولم تبت ليلة قبلها، وليلة صبيحتها يوم القيامة ويوم يأتيك البشير من الله تعالى، إما بالجنة أو النار، ويوم تعطى كتابك بيمينك وإما بشمالك.
[*] (أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن عمر بن ذر أنه كان يقول في مواعظه: لو علم أهل العافية ما تضمنته القبور من الأجساد البالية لجدوا واجتهدوا في أيامهم الخالية خوفاً من يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار.
[*] (أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال: القبر منزل بين الدنيا والآخرة، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
[*] (أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن الحسن قال: أوذنوا بالرحيل، وجلس أولهم على آخرهم وهم يلعبون وقال رجل لبعض السلف: أوصني قال: عسكر الموتى ينتظرونك.
[*] (أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن الحسن أنه شهد جنازة فاجتمع عليه الناس، فقال: اعملوا لمثل هذا اليوم ـ رحمكم الله ـ فإنما هم إخوانكم يقدمونكم، وأنتم بالأثر، أيها المخلف بعد أخيه إنك الميت غداً، والباقي بعدك، والميت في أثرك أولاً بأول حتى توافوا جميعاً قد عمكم الموت واستويتم جميعاً في كربة وعصصة، ثم تخليتم إلى القبور، ثم تنتشرون جميعاً ثم تعرضون على ربكم عز وجل.
[*] (أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن مسروق قال: ما من بيت خير للمؤمن من لحده قد استراح من أمر الدنيا أو من عذاب الله.(5/391)
[*] (أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن بشر بن الحارث قال: نعم المنزل القبر لمن أطاع الله.
[*] (أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن خالد بن أحمد بن أسد قال: أخذت بيدي على جبلة يوماً فأتينا أبا العتاهية فوجدناه في الحرم فانتظرناه فلم يلبث أن جاء فدخل عليه إبراهيم بن مقاتل بن سهل وكان جميلاً فتأمله أبو العتاهية وقال متمثلاً:
يا حسان الوجوه سوف تموتون ... وتبلى الوجوه تحت التراب
فأقبل علي بن جبلة فقال:
أكتب يا مربي شبابه ... للتراب ... سوف يأكل البلى بعض الثياب
يا ذوي الوجوه الحسان المصونات ... وأجسامها الغضاض الرطاب
أكثروا من نعيمها أو أقلوا ... سوف تهدونها لعفر التراب
قد نعتك الأيام نعياً صحيحاً ... تفارق الإخوان والأصحاب
فقال أبوالعتاهية: قل يا حامد، قلت: معك ومع أبي الحسن، قال: نعم فقلت:
يا مقيمين رحلوا ... للذهاب ... أشفير القبور وحطوا الركاب
نعموا ... الأوجه ... الحسان ... فما صونكموها إلا بعفر التراب
و ألبسوا ... ناعم ... الثياب ... ففي الحفر تعرون من جمع الثياب
قد ترون الشباب كيف يموتون ... إذا ... استنضروا ... بماء ... الشباب
[*] (أورد الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه أهوال القبور عن
محمد بن خلف قال: سمعت أبي قال: رجعنا من ميت مع ابن السماك يقول:
تمر أقاربي جنبات قبري ... كأن أقاربي لا يعرفوني
وذووا الأموال يقتسمون مالي ... ولا يألون أن جحدوا ديوني
قد أخذوا سهامهم و عاشوا ... فبالله ما أسرع ما نسوني
قال: وأنشدني أبو جعفر القرشي:
تناجيك أجداث وهن سكوت ... وساكنها تحت التراب خفوت
يا جامع الدنيا لغير بلاغة ... لمن تجمع الدنيا وأنت تموت
قال: وأنشدني الثقفي من قوله:
أما ترى الموت ما ينفك مختطفاً ... من كل ناحية نفساً ينجو بها
قد يعضت أملاً كانت تؤمله ... وقام في الحي ناعيها وباكيها
وأسكنوا الترب تبلى فيه أعظمهم ... بعد النضارة ثم الله يحييها
وصار ما جمعوا فيها وما ادخروا ... بين الأقارب يحويه أدابيها
فاختر لنفسك من أيام مدتها ... واستغفر الله لما أسلفته فيها
ولما انصرف الناس من جنازة داود الطائي رحمه الله أنشد السماك رحمه الله.
انصرف الناس إلى دورهم ... وغودر الميت في رمسه
مرتهن ... النفس ... بأعماله ... لا يرتجي الإطلاق من حبسه
لنفسه ... صالح ... أعماله ... و ما سواها فعلى نفسه
قف بالمقابر وانظر إن وقفت بها ... لله درك ماذا تستر الحفر
ففيهم لك يا مغرور موعظة ... وفيهم لك يا مغتر معتبر(5/392)
قال أبو العتاهية:
رويدك يا ذا القصر في شرفاته ... فإنه عنه تسحب و تدعج
ولا بد من بيت انقطاع ووحشة ... وإن غرك البيت الأنيق المبهج
[*] (روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن مالك بن دينار يقول خرجت أنا وزين القراء حسان بن أبي حسان نزور المقابر فلما أشرف عليها سبقته عبرة ثم أقبل علي فقال يا مالك هذه عساكر الموتى ينتظر بها من يقي من الأحياء ثم يصاح بهم فإذ هم قيام ينظرون قال فوضع مالك يده على رأسه وجعل يبكي ويقول واي ازان روز واي ازان روز يعني ويل من ذلك اليوم ويل من ذلك اليوم.
[*] (روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن أبو عاصم الحنطي قال كنت أمشي مع محمد بن واسع فأتينا على المقابر فدمعت عيناه ثم قال لي يا أبا عاصم لا يغرنك ما ترى من خمودهم فكأنك بهم قد وثبوا من هذه الأجداث فمن بين مسرور ومغموم.
[*] (روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن أبي جعفر الفراء قال كان الحسن بن صالح إذا صعد الصومعة يشرف على أهل القبور فيقول ما أحسن ظاهرك إنما الدواهي بواطنك.
[*] (روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن حجاج الأسود ونحن في جنازة في الجبان قال رأيت في المنام كأني دخلت المقابر وإذا أنا بأهل القبور نيام في قبورهم وقد تشققت عنهم الأرض فمنهم النائم على التراب ومنهم النائم على القباطي ومنهم النائم على السندس والإستبرق ومنهم النائم على الديباج ومنهم النائم على الريحان ومنهم النائم كهيئة المتبسم في نومه ومنهم من أشرق لونه ومنهم حائل اللون قال فبكيت عندما رأيت منهم ثم قلت في منامي رب لو شئت سويت بينهم في الكرامة فنادى مناد من بين تلك القبور يا حجاج هذه منازل الأعمال قال فاستيقظت من كلمته فزعا.
[*] (روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن سلام بن أبي مطيع قال كنا مع محمد بن واسع في جنازة فأسرعوا بها المشي فانتهينا إلى الجبان ولم تتلاحق الناس فانتظروا بها حتى تلاحقوا قال فصلينا عليها ثم انتهينا بها إلى القبر فوضعت وجئت إلى محمد بن واسع فسمعته يقول لرجل إلى جنبه كل يوم ينقل منا إلى المقابر نقلة وكأنك بهذا الأمر قد تمم كاد آخرنا حتى يلحق بأولنا.(5/393)
[*] (روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن نهيم العجلي عن رجل من البصريين قال شهدت الحسن في جنازة واجتمع إليه الناس فقال اعملوا لمثل هذا اليوم رحمكم الله فإنهم إخوانكم تقدموكم وأنتم بالأثر أيها المتخلف بعد أخيه أنت الميت غدا قبل الباقي بعدك والباقي بعدك هو الميت في إثرك أولا فأولا حتى يوافوا جميعا قد عمكم الموت فاستويتم جميعا في غصصه وكربه حتى حللتم جميعا القبور ثم تنشرون جميعا ثم تعرضون على الله وجلا ثم تنفس فخر مغشيا عليه.
[*] (روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن عبد الله بن طلحة بن محمد التيمي قال سمعت سعيد بن السائب الطائفي يقول ونحن في جنازة والله ما ترك الموت للنفس سرورا في أهل ولا ولد والله لقد نقص الموت على المؤمنين الموسع لهم من هذه الدنيا حتى ضيق ذلك عليهم فرفضوه مسرورين برفضه ثم سبقته دمعته فقام.
[*] (روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن سلمان بن صالح قال فقد الحسن ذات يوم فلما أمسى قال له أصحابه أين كنت اليوم قال كنت عند إخوان لي إن نسيت ذكروني وإن غبت عنهم لم يغتابوني فقال له أصحابه هم الإخوان والله هؤلاء يا أبا سعيد دلنا عليهم قال هؤلاء أهل القبور.
[*] (روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن ميمون بن مهران قال دخلت على عمر بن عبد العزيز وعنده سابق البربري الشاعر وهو ينشده شعرا فانتهى في شعره إلى هذه الأبيات:
فكم من صحيح بات للموت آمنا أتته المنايا بغتة بعد ما هجع
فلم يستطيع إذا جاءه الموت بغتة فرارا ولا منه بقوته امتنع
فأصبح يبكيه النساء مقنعا ولا يسمع الداعي وإن صوته رفع
وقرب من لحد فصار مقيله وفارق ما قد كان بالأمس قد جمع
فلا يترك الموت الغني لماله ولا معدما في المال ذا حاجة يدع
فلم يزل عمر يضطرب ويبكي حتى غشي عليه قال فقمنا وانصرفنا عنه.
(ولله درُ من قال:
ماذا تقول وليس عندك حجة لو قد أتاك منغص اللذات
ماذا تقول إذا دعيت فلم تجب وإذا سئلت وأنت في غمرات
ماذا تقول وليس حكمك جائزا فيما تخلفه من التركات
ماذا تقول إذا حللت محلة ليس الثقات لأهله بثقات
[*] (روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن يزيد الرقاشي قال: انظروا إلى هذه القبور سطورا بأفناء الدور تدانوا في خططهم وقربوا في مزارهم وبعدوا في لقائهم سكنوا فأوحشوا وعمروا فأخربوا فمن سمع بساكن موحش وعامر مخرب عن أهل القبور.(5/394)
[*] (روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن المفضل بن يونس قال بلغنا أن عمر بن عبد العزيز قال لمسلمة بن عبد الملك يا مسلمة من دفن أباك قال مولاي فلان قال فمن دفن الوليد قال مولاي فلان قال فأنا أحدثك ما حدثني به حدثني أنه لما دفن أباك والوليد فوضعهم في قبورهم ذهب ليخلي العقد عنهم وجد وجوههم قد حولت في أقفيتهم فانظر يا مسلمة إذا أنا مت فدفنتني فالتمس وجهي فانظر هل ترى بي ما نزل بالقوم أو هل عوفيت من ذلك قال مسلمة فلما مات عمر ووضعته في قبره فلمست وجهه فإذا هو مكانه.
[*] (روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن عمرو بن ميمون قال سمعت عمر بن عبد العزيز يقول كنت فيمن دلى الوليد بن عبد الملك في قبره فنظرت إلى ركبتيه قد جمعتا إلى عنقه فقال ابنه عاش والله أبي عاش ورب الكعبة فقلت عوجل أبوك ورب الكعبة قال فاتعظ بها عمر بعده.
[*] (روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن شعيب بن أبي حمزة قال كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض مدائن الشام أما بعد فكم للتراب في جسد ابن آدم من مأكل وكم للدود في جوفه من طريق مخترق وإني أحذركم ونفسي أيها الناس العرض.
[*] (روى ابن أبي الدنيا بإسناده في كتابه القبور عن محمد بن حرب المكي قال قدم علينا أبو عبد الرحمن العمري العابد واجتمعنا إليه وأتاه وجوه أهل مكة قال فرفع رأسه فلما نظر إلى القصور المحدقة بالكعبة فإذا بأعلى صوته يا أصحاب القصور المشيدة اذكروا ظلمة القبور الموحشة يا أهل التنعم والتلذذ اذكروا الدود والصديد وبلى الأجسام في التراب قال ثم غلبته عيناه فقام.
(7) قراءة القرآن بتدبر، والإكثار من الذكر:
(فضل تدبر القرآن الكريم ومعانيه وأحكامه:
ينبغي عند قراءة القرآن أن يتدبّر القارئ ويتأمل في معاني القرآن وأحكامه، لأن هذا هو المقصود الأعظم والمطلوب الأهم، وبه تنشرح الصدور وتستنير القلوب، قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته} [سورة ص: 29].
في هذه الآية بين الله تعالى أن الغرض الأساس من إنزال القرآن هو التدبر والتذكر لا مجرد التلاوة على عظم أجرها.(5/395)
وفَقُهَ الصحابةُ رضي الله عنهم شرع الله وسنة رسوله فكانوا لا يتعجَّلون مجرد التلاوة دون تدبر، بل كانوا لا يجاوزون عشر آيات حتى يعلموا معانيهن والعمل بهن (رواه الطبري في تفسيره عن ابن مسعود رضي الله عنه). ونهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ختم القرآن في أقل من ثلاث لأنه لن يتحقق تدبره وفقهه.
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث.
(وكان الصحابة رضي الله عنهم لا يتعجلون حفظ القرآن (وهو نافلة) دون تدبره (وهو فرض عين)، بل ثبت في الصحيحين أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مات ولم يحفظ القرآن من الصحابة غير أربعة على اختلاف في أسماء اثنين منهم، وبمجموع الروايات لا يكاد الحفاظ من الصحابة يتجاوز عددهم العشرة، ووصف غيرهم بالقرَّاء لا يعني حفظه كله.
[*] قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إنَّا صعب علينا حفظ القرآن وسهل علينا العمل به، وإن من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به) الجامع لأحكام القرآن 1/ 75.
[*] وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (كان الفاضل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة ونحوها ورزقوا العمل بالقرآن) الجامع لأحكام القرآن 1/ 76.
(وكانوا يحذرون مما آل إليه الحال اليوم في جميع بلاد المسلمين عربًا وعجمًا؛ فقد أمر عمر رضي الله عنه عامله في العراق أن يفرض للحفاظ في الديوان، فلما بلغه أن سبع مئة حفظوا القرآن قال: (إني لأخشى أن يسرعوا إلى القرآن قبل أن يتفقَّهوا في الدين) وكتب إلى عامله ألا يعطيهم شيئاً (عن مالك في العتبية).
(وكانوا يتعلمون الإيمان قبل القرآن ثم يتعلمون القرآن (كما في الحديث الآتي:
(حديثُ جندب ابن عبد الله صحيح ابن ماجة) قال كنا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن فتيانٌ حزَاوِرَة، فتعلمنا الإيمانَ قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآنَ فازددنا به إيمانا.
وتَنْزِلُ السورة فيتعلَّمون حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها. (كما في: بيان مشكل الآثار للطحاوي 4/ 44 عن ابن عمر رضي الله عنهما.) حتَّى لقد ورد عن عمر رضي الله عنه أنه تعلَّم سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة. (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/ 76، ط: دار الكتاب العربي بيروت).(5/396)
[*] قال الحسن البصري رحمه الله: (نزل القرآن ليتدبر ويعمل به فاتخذوا تلاوته عملاً) مفتاح دار السعادة لابن القيم (1/ 187 مكتبة الرياض الحديثة.) [*] وقال ابن القيم رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78]: (ذم الله المحرفين لكتابه والأميين الذين لا يعلمون منه إلا مجرد التلاوة وهي الأماني) بدائع التفسير: 1/ 300. وذكر الشوكاني رحمه الله من تفسيرها: (لا علم لهم إلا مجرد التلاوة دون فهم وتدبر) فتح القدير 1/ 104.
[*] وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: 121]: قال ابن مسعود رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله ولا يحرف الكلم عن مواضعه ولا يتأوَّل منه شيئًا على غير تأويله)، وعن عمر رضي الله عنه: (هم الذين إذا مروا بآية رحمةٍ سألوها من الله، وإذا مروا بآية عذابٍ استعاذوا منها). ولم يفسرها أحد من الفقهاء في الدين بالتجويد أو الحفظ مجردًا عن التدبر.
[*] وقال ابن القيم رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]: (هجر القرآن أنواع)، وذكر منها: (هجر تدبره وتفهمه ومعرفة مراد الله منه) (بدائع التفسير).
[*] وقال ابن كثير رحمه الله تعالى:
(وترك تدبره وتفهمه من هجرانه) (مهذَّب تفسيره، ط: دار السلام 678). وقال ابن القيم رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123]: (وهذه المتابعة هي التلاوة التي أثنى الله على أهلها ... فتلاوة اللفظ جزء مسمى التلاوة المطلقة وحقيقة اللفظ إنما هي الاتباع ... والمقصود التلاوة الحقيقية وهي تلاوة المعنى واتباعه ... وتلاوة المعنى أشرف من تلاوة اللفظ، وأهلها هم أهل القرآن الذين لهم الثناء في الدنيا والآخرة) مفتاح دار السعادة 1/ 42.
[*] وقال ابن القيم رحمه الله: (فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وحلاوة القرآن)،(5/397)
[*] وروي عن أيوب عن أبي جمرة قال: قلت لابن عباس: إني سريع القراءة، إني أقرأ القرآن في ثلاث، قال: (لأن أقرأ سورة من القرآن في ليلة فأتدبرها وأرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كما تقرأ) 1/ 187.
[*] وقال ابن تيمية رحمه الله: (والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه والعمل به فإن لم تكن هذه همة حافظه لم يكن من أهل العلم والدين) (مجموع الفتاوى: 23/ 55)
(معنى التدبر:
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى: التدبر تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله. وقيل في معناه: هو التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه البعيدة.
[*] قال السيوطي رحمه الله تعالى: صفة التدبر أن يشغل القارئ قلبه بالتفكر في معنى ما يتلفظ به فيعرف معنى كل آية، ويتأمل الأوامر والنواهي، ويعتقد قبول ذلك، فإن كان قصر عنه فيما مضى من عمره اعتذر واستغفر، وإذا مر بآية عذاب أشفق وتعوّذ، أو تنزيه نزّه وعظّم، أو دعاء تضرع وطلب.
(وصفة ذلك: أن يشغل قلبه بالتفكر في معنى ما يلفظ به، فيعرف معنى كل آية، ويتأمل الأوامر والنواهي، فإن كان مما قصر عنه فيما مضى اعتذر واستغفر، وإذا مرّ بآية رحمة استبشر وسأل، أو عذاب أشفق وتعوّذ، أو تنزيه نزّه وعظّم، أو دعاء تضرّع وطلب.
وقد ورد الحث الشديد في الكتاب العزيز، وفى السنة الصحيحة على التدبر في معاني القرآن والتفكر في مقاصده وأهدافه.
قال تعالى: (أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىَ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ) [محمد / 24]
وفى هذه الآية الكريمة توبيخ عظيم على ترك التدبر في القرآن.
(والسنة الصحيحة طافحةٌ بما يحث على تدبر القرآن منها ما يلي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه.
[*] قال علي رضى الله عنه: لا خير في عبادة لا فقه فيها، ولا في قراءة لا تدبر فيها.
[*] وقال ابن عباس رضى الله عنهما: لأن أقرأ إذا زلزلت والقارعة أتدبرهما، أحب إليّ من أقرأ البقرة وآل عمران تهذيرا.
[*] وقال ابن مسعود رضى الله عنه: من أراد علم الأولين والآخرين، فليتدبر القرآن.(5/398)
وقد بات الكثير من السلف يتلو أحدهم آية واحدة ليلة كاملة، يرددها ليتدبر ما فيها، وكلما أعادها انكشف له من معانيها، وظهر له من أنوارها، وفاض عليه من علومها وبركاتها.
[*] قال الأحنف بن قيس: عرضت نفسي على القرآن، فلم أجد نفسي بشيء أشبه مني بهذه الآية وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [التوبة/ 102]
{تنبيه}: (واقعنا هو تطبيق جزء من الحديث وهو التلاوة أما الدراسة والتدبر فهي - في نظر بعضنا - تؤخر الحفظ وتقلل من عدد الحروف المقروءة فلا داعي لها.
(حديث حذيفة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ البقرة وآل عمران والنساء في ركعة، لا يمر بآيةِ رحمةٍ إلا سأل ولا بآيةِ عذاب إلا استجار.
(حديث حذيفة رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: صليت مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة فافتتح البقرة ثم المائة فمضى ثم المائتين فمضى فقلت يصلي بها في ركعة فمضى فافتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأ مترسلا إذا مر بآية فيها تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ ثم ركع فقال سبحان ربي العظيم فكان ركوعه نحوا من قيامه ثم رفع رأسه فقال سمع الله لمن حمده فكان قيامه قريبا من ركوعه ثم سجد فجعل يقول سبحان ربي الأعلى فكان سجوده قريبا من ركوعه.
(هذا تطبيق نبوي عملي للتدبر ظهر أثره بالتسبيح والسؤال والتعوذ.
وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يهتم اهتماماً بالغاً بتدبر القرآن وكان أحياناً لا يزال يردد آيةً حتى يصبح
(حديث أبي ذر في صحيحي النسائي وابن ماجة) قال قام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بآيةٍ يرددها حتى أصبح، والآية قال تعالى: (إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
[المائدة / 118]
(فهذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقدم التدبر على كثرة التلاوة، فيقرأ آية واحدة فقط في ليلة كاملة.
وقد تأسى أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به في ذلك فردد تميم بن أوس آيةً حتى أصبح والآية هي (أَمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرَحُواْ السّيّئَاتِ أَن نّجْعَلَهُمْ كَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَوَآءً مّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ) {الجاثية/21)
[*] قال محمد بن كعب القرظي:(5/399)
لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بـ (إذا زلزلت) و (القارعة) لا أزيد عليهما أحب إليَّ من أن أهذَّ القرآن ليلتي هذّاً. أو قال: أنثره نثرا ً.
[*] قال ابن القيم: ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر القرآن وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرها وعلى طرقاتهما وأسبابهما وثمراتهما ومآل أهلهما، وتتل في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصره مواقع العبر.
وتشهده عدل الله وفضله وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله وما يحبه وما يبغضه وصراطه الموصل إليه وقواطيع الطريق وآفاته، وتعرفه النفس وصفاتها ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم وأحوالهم وسيماهم ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة.
فتشهده الآخرة حتى كأنه فيها، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها، وتميز له بين الحق والباطل في كل ما يختلف فيه العالم، وتعطيه فرقاناً ونوراً يفرق به بين الهدى والضلال، وتعطيه قوة في قلبه وحياة واسعة وانشراحاً وبهجة وسروراً فيصير في شأن والناس في شأن آخر؛ فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل.
وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتهديه في ظلم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل، وتبصره بحدود الحلال والحرام وتوقفه عليها؛ لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل، وتناديه كلما فترت عزماته.
تقدمَ الركبُ، وفاتك الدليل، فاللحاقَ اللحاقَ، والرحيلَ الرحيلَ فاعتصم بالله واستعن به وقل: {حسبي الله ونعم الوكيل.
(إنَّ المؤمن عندما يُحسن قراءة القرآن وتدبره يقف على زاد عظيم من معانيه ودلالاته وهداياته، ونحن في عصرنا الحاضر أحوج ما نكون إلى القرآن العظيم، نتلوه ونتدَّبره، نفهمه ونفسِّره، نحيا به ونتعامل معه، نصلح أنفسنا ومجتمعاتنا على هديه، ونقيم مناهج حياتنا على أسسه ومبادئه وتوجيهاته.
[*] يقول الإمام الآجري رحمه الله تعالى:(5/400)
ألا ترون رحمكم الله إلى مولاكم الكريم، كيف يحثُّ خلقه على أن يتدبروا كلامه، ومن تدبَّر كلامه عرف الربّ عز وجل، وعرف عظيم سلطانه وقدرته، وعرف عظيم تفضله على المؤمنين، وعرف ما عليه من فرض عبادته، فألزم نفسه الواجب، فحذر ممَّا حذَّره مولاه الكريم، ورغب فيما رغَّبه فيه، ومن كانت هذه صفته عند تلاوته للقرآن وعند استماعه من غيره، كان القرآن له شفاء، فاستغنى بلا مال، وعزَّ بلا عشيرة، وأنس بما يستوحش منه غيره، وكان همُّه عند تلاوة السورة إذا افتتحها: متى أتعظ بما أتلوه؟ ولم يكن مراده: متى أختم السورة؟ وإنَّما مراده: متى أعقل من الله الخطاب؟ متى أزدجر؟ متى أعتبر؟ لأنَّ تلاوته للقرآن عبادة، والعبادة لا تكون بغفلة.
[*] عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال في القرآن الكريم:
لا تهذوا القرآن هذا لشعر ولا تنثروه نثر الدقل - أي التمر الرديء وفي رواية الرمل - قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة.
[*] وقال الحسن البصري رحمه الله:
"الزموا كتاب الله وتتبعوا ما فيه من الأمثال، وكونوا فيه من أهل البصر، رحم الله عبداً عرض نفسه وعمله على كتاب الله، فإن وافق كتابَ الله حمد الله وسأله الزيادة، وإن خالف كتاب الله أعتب نفسه ورجع من قريب".
(إنَّ التمسك بكتاب الله عزّ وجل تلاوة وتدبراً، عملاً والتزاماً، سبيلُ السعادة في الدارين الدنيا والآخرة، وطريق الفلاح فيهما،
[*] قال ابن عباس رضي الله عنهما:
"تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يَضِلَّ في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. ثم قرأ قوله تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) [طه 123: 126]
(وإذا نظرنا في سير الصحابة ومن بعدهم من سلف هذه الأمة؛ نجدهم قد تلقوا هذا القرآن الكريم مدركين مدى الشرف الذي حباهم الله به، فأقبلوا عليه يحفظونه ويرتلونه آناء وأطراف النهار، جعلوه غذاء أرواحهم وقوت قلوبهم وقرة أعينهم، نفذوا أحكامه وأقاموا حدوده وطبقوا شرائعه، طهرت به نفوسهم وصلحت به أحوالهم، ودعوا الناس إليه ورغبوهم فيه.(5/401)
[*] عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال في القرآن الكريم:
لا تهذوا القرآن هذا لشعر ولا تنثروه نثر الدقل - أي التمر الرديء وفي رواية الرمل - قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة.
[*] قال عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: (لقد عشنا دهرا طويلا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن فتنزل السورة على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها، ثم لقد رأيت رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين الفاتحة إلى خاتمته لا يدري ما آمره ولا زاجره وما ينبغي أن يقف عنده منه، ينثره نثر الدقل!!) ..
[*] قال الحسن البصري: والله! ما تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله، ما يُرى له القرآنُ في خُلُق ولا عمل. قال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ... } النساء: 82.
[*] وقال الحسن أيضاً: نزل القرآن ليُتَدَبَّر ويعمل به؛ فاتخذوا تلاوته عملاً. أي أن عمل الناس أصبح تلاوة القرآن فقط بلا تدبر ولا عمل به.
[*] قال ابن كثير: (يقول الله تعالى آمراً عباده بتدبر القرآن وناهياً لهم عن الإعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة: أفلا يتدبرون القرآن)، فهذا أمر صريح بالتدبر والأمر للوجوب. قال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به} ...
[البقرة: 121]
روى ابن كثير عن ابن مسعود قال: والذي نفسي بيده! إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله.
[*] وقال الشوكاني: يتلونه: يعملون بما فيه، ولا يكون العمل به إلا بعد العلم والتدبر. قال تعالى: {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون} [البقرة: 78]
[*] قال الشوكاني: وقيل: (الأماني: التلاوة) أي: لا علم لهم إلا مجرد التلاوة دون تفهم وتدبر.
[*] وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: ذم الله المحرفين لكتابه والأميين الذين لا يعلمون منه إلا مجرد التلاوة وهي الأماني. قال الله تعالى: {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا} [الفرقان: 30]
[*] قال ابن كثير:
وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وقال ابن القيم: هجر القرآن أنواع ... الرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.
وحتى نتدبر القرآن فعلينا بمراعاة الآتي:(5/402)
(1) مراعاة آداب التلاوة من طهارة ومكان وزمان مناسبين وحال مناسبة وإخلاص واستعاذة وبسملة وتفريغ للنفس من شواغلها وحصر الفكر مع القرآن والخشوع والتأثر والشعور بأن القرآن يخاطبه.
(2) التلاوة بتأنٍ وتدبر وانفعال وخشوع، وألا يكون همه نهاية السورة، الوقوف أمام الآية التي يقرؤها وقفةً متأنيةً فاحصةً مكررةً، النظرة التفصيلية في سياق الآية: تركيبها - معناها - نزولها - غريبها – دلالاتها.
(3) ملاحظة البعد الواقعي للآية؛ بحيث يجعل من الآية منطلقاً لعلاج حياته وواقعه، وميزاناً لمن حوله وما يحيط به.
(4) العودة إلى فهم السلف للآية وتدبرهم لها وتعاملهم معها والاطلاع على آراء بعض المفسرين في الآية.
(5) النظرة الكلية الشاملة للقرآن، الالتفات للأهداف الأساسية للقرآن.
(6) الثقة المطلقة بالنص القرآني وإخضاع الواقع المخالف له.
(7) معايشة إيحاءات النص وظلاله ولطائفه، الاستعانة بالمعارف الثقافات الحديثة، العودة المتجددة للآيات، وعدم الاقتصار على التدبر مرة واحدة؛ فالمعاني تتجدد، ملاحظة الشخصية المستقلة للسورة، التمكن من أساسيات علوم التفسير.
القراءة في الكتب المتخصصة في هذا الموضوع مثل كتاب: (القواعد الحسان لتفسير القرآن) للسعدي، وكتاب (مفاتيح للتعامل مع القرآن) للخالدي، وكتاب (قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله - عز وجل) لعبد الرحمن حبنكة الميداني، وكتاب (دراسات قرآنية) لمحمد قطب.
(فوائد تدبر القرآن:
(1) التدبر في القرآن غاية من غايات إنزاله: يقول الله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} [ص:29]. ومدح الحق جل وعلا من تدبر وانتفع، فذكر من صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} (الفرقان:73)
(وذم من لا يتدبرون القرآن وأنكر عليهم فقال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} [محمد24].
(2) التدبر من علامات الإيمان: {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله}، {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به}
(3) التدبر يزيد الإيمان: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون}.
(4) تدبر القرآن من النصيحة لكتاب الله، قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الدين النصيحة)(5/403)
(حديث تميم ابن أوس الداريِّ الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الدين النصيحة قالوا: لمن يا رسول اللّه قال: للّه وكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم.
(5) ترك التدبر يؤدي إلى قسوة القلب: قال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد: 16]. وهو من أنواع هجر القرآن الذي شكاه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لربه: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) ... [الفرقان:30]
(8) سماع القراءة الخاشعة للقرآن الكريم:
فإنها من الأسباب الجالبة للبكاء من خشية الله تعالى وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعبد الله بن مسعود: (اقْرأ عَليَّ القُرْآن، فَإِنِّي أُحبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي) فقرأ عليْهِ من سُورة النِّساء حتّى بلغ قوله: ((فَكَيفَ إِذاَ جِئنَاَ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَاَ بِكَ عَلى هَؤلاء شَهِيدا))، قال: (حَسْبُكَ الآن). فالتفتُ إليه فَإِذَاَ عَيْنَاهُ تَذْرِفَان.
فاستمع إلى القراءة الخاشعة للقرآن الكريم عن طريق الشرائط المسجلة، فاستمع إن شئت إلى تلاوة محمد صديق المنشاوي يجوب بك بحار الخشية ..
واستمع إن شئت إلى تلاوة أحمد العجمي، وابك ولا تمنع دموعك ..
واستمع إن شئت إلى مشاري راشد أو أبي بكر الشاطري أو غيرهم من أصحاب التلاوة الخاشعة فستجد لذلك بإذن الله أثره العظيم في لين القلب ورقته.
(9) الإكثار من قراءة كتب الرقائق، وسماع المواعظ عن طريق الدروس أو الشرائط المسجلة:
فأما كتب الرقائق: فاحرص على أن تكون لأهل السنة المستدلين بالكتاب والسنة وأقوال السلف، وإياك ثم إياك وكتب الصوفية وأهل البدع، فهي تزيدك بعداً ووحشة أضعاف ما تفيدك.(5/404)
فاحرص على قراءة النسخ المحققة من كتب الإمام ابن القيم [مدارج السالكين]، و [الفوائد]، و [مفتاح دار السعادة]، و [الداء والدواء أو الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي] وغيرها.
وكذلك كتب الشيخ أحمد فريد ومن أروعها: [البحر الرائق في الزهد والرقائق]، و [التقوى الغاية المنشودة والدرة المفقودة]، و [تذكير النفوس المؤمنة بأسباب حسن الخاتمة وسوء الخاتمة]، وغيرها.
واحرص على حضور مجالس الوعظ لمن عرف بموافقة السنة واستدلاله بالصحيح من الأحاديث، فالمواعظ سياط تضرب بها القلوب فتؤثِّر في القلوب كتأثير السياط في البدن.
كان الحسن البصري إذا خرج إلى الناس فكأنه رجل عاين الآخرة، ثم جاء يُخبر عنها، وكانوا إذا خرجوا من عنده خرجوا وهم لا يعدون الدنيا شيئاً ..
وكان سفيان الثوري يتعزَّى بمجالسه عن الدنيا ..
وكان أحمد لا تُذكر الدنيا في مجالسه، ولا تُذكر عنده ..
فإن عجزت أن تجد مجالس للوعظ فإن الله رزقنا نعمة لم يعطها لسلفنا وهي نعمة الشرائط المسجلة، فاحرص على سماع شرائط المواعظ للمشايخ: محمد حسين يعقوب، ومحمد حسان، ونبيل العوضي، وإبراهيم الدويش، وعلي القرني، ومحمد العريفي، وخالد الراشد، وغيرهم ممن عرف بموافقته لأهل السنة والاستدلال بالصحيح من الأحاديث وحسن الأسلوب والصدق في التعبير.
(10) محاسبة النفس:
إن من أهم الأسباب الجالبة للبكاء من خشية الله محاسبة النفس، وهاك صفوة مسائل محاسبة النفس.
(تعريف المحاسبة:
(هل حاسبت نفسك يوماً ما:
(امقت نفسك في جنب الله:
(أقسام محاسبة النفس:
(القسم الأول: محاسبة النفس قبل العمل:
(القسم الثاني: محاسبة النفس بعد العمل:
(كيفية محاسبة النفس؟
(الأدلة على مشروعية المحاسبة:
(أهمية محاسبة النفس:
(مخاطرُ ترك المحاسبة:
(فوائد محاسبة النفس:
(أركان المحاسبة:
(الأسباب المعينة على محاسبة النفس:
ودونك تفصيل ذلك في إيجازٍ غير مُخِّل:
(تعريف المحاسبة:
(المحاسبة في اللغة: مصدر من حاسب يحاسب مأخوذ من حسب حسبتُ الشيء أحسبه حسباناً وحساباً إذا عددته والحساب والمحاسبة عدُّك الشيء.
فالحاصل أن العدّ هو معنى المحاسبة في اللغة، فكأنك إذا جئت تطبقه بالمعنى الاصطلاحي عدّ السيئات .. عدّ العيوب .. وهكذا ..(5/405)
[*] عرّف الماوردي المحاسبة فقال: أن يتصفح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره فإن كان محموداً أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذموماً استدركه إن أمكن وإن لم يمكن فيتبعها بالحسنات لتكفيرها وينتهي عن مثلها في المستقبل.
(وعرّف بعضهم المحاسبة بأنها: قيام العقل على حراسة النفوس من الخيانة ليتفقد زيادتها ونقصانها، وأنه يسأل عن كل فعل يفعله لمَ فعلته، فإن كان لله مضى فيه و إن كان لغير الله امتنع عنه وأنه يلوم نفسه على التقصير والخطأ وإذا أمكن المعاقبة أو صرفها إلى الحسنات الماحية.
(هل حاسبت نفسك يوماً ما:
(أخي الحبيب:
حاسب نفسك في خلوتك وتفكر في انقراض مدتك واعمل في زمان فراغك لوقت شدتك وتدبر قبل الفعل ما يملى في صحيفتك وانظر: هل نفسك معك أو عليك في مجاهدتك لقد سعد من حاسبها وفاز والله من حاربها وقام باستيفاء الحقوق منها وطالبها وكلما ونت عاتبها وكلما تواقفت جذبها وكلما نظرت في آمال هواها غلبها 0
(أخي الحبيب:
هل خلوت بنفسك يوماً فحاسبتها عما بدر منها من الأقوال والأفعال؟ وهل حاولت يوماً أن تَعُدَّ سيئاتك كما تَعُدَّ حسناتك؟ بل هل تأملت يوماً طاعاتك التي تفتخر بذكرها؟! فإن وجدت أن كثيراً منها مشوباً بالرياء والسمعة وحظوظ النفس فكيف تصبر على هذه الحال، وطريقك محفوف بالمكارة والأخطار؟! وكيف القدوم على الله وأنت محمل بالأثقال والأوزار؟ قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ 18 وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:19،18]. وقال تعالى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ [الزمر:54]
[*] (وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وطالبوا بالصدق في الأعمال قبل أن تطالبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا فإنه أهون عليكم في الحساب غداً وتزينوا للعرض الأكبر: (يَومَئِذٍ تُعرَضُونَ لَا تَخفَى مِنكُم خَافِيَةٌ) [الحاقة: 18](5/406)
[*] (وقال الحسن البصري رحمة الله: (أيسر الناس حساباً يوم القيامة الذين حاسبوا أنفسهم لله عز وجل في الدنيا فوقفوا عند همومهم وأعمالهم فإن كان الدين لله هموا بالله وإن كان عليهم أمسكوا وإنما يثقل الحساب على الذين أهملوا الأمور فوجدوا الله قد أحصى عليهم مثاقيل الذر فقالوا: (يَا وَيلَتَنَا مَالِ هَذَا الكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرةً إِلَّا أَحصَاها) [الكهف: 49]
[*] (وقال أبو بكر البخاري: (من نفر عن الناس قل أصدقاؤه ومن نفر عن ذنوبه طال بكاؤه ومن نفر عن مطعمه طال جوعه وعناؤه ونقل توبة بن المعلم أنه نظر يوماً وكان محاسباً لنفسه فإذا هو ابن ستين إلا عاماً فحسبها أياماً فإذا هي إحدى وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم فصرخ وقال: يا ويلتي! ألقى المليك بإحدى وعشرين ألف ذنب وخمسمائة ذنب فكيف ولى في كل يوم عشرون ألف ذنب ثم خر مغشياً عليه فإذا هو ميت فسمعوا هاتفاً يقول: يا لها من ركضة إلى الفردوس الأعلى 0
وقد مدح الله تعالى أهل طاعته بقوله تعالى: {ْ إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ماَ آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}
(المؤمنون الآية 57 - 61).
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) قالت: سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن هذه الآية: (وَالّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [المؤمنون: 60] قالت عائشة هم الذين يشربون الخمر ويسرقون قال لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات.
(أخي الحبيب:(5/407)
كان السلف الصالح رحمهم الله تعالى يتقربون إلى الله بالطاعات، ويسارعون إليه بأنواع القربات، ويحاسبون أنفسهم على الزلات، ثم يخافون ألا يتقبل الله أعمالهم، وإن المؤمن يفجأه الشيء ويعجبه فيقول: والله إني لأشتهيك، وإنك لمن حاجتي، ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات هيهات، حيل بيني وبينك، ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردت إلى هذا؟ مالي ولهذا؟ والله لا أعود إلى هذا أبداً، إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن، وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره، وفي لسانه وفي جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كله.
[*] فهذا الصديق رضي الله عنه: كان يبكي كثيراً، ويقول: ابكوا، فإن لم تبكروا فتباكوا، وقال: والله لوددت أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتعضد.
[*] وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قرأ سورة الطور حتى بلغ قوله تعالى: إن عذاب ربك لواقع [الطور:7]. فبكى واشتد في بكاؤه حتى مرض وعادوه. وكان يمر بالآية في ورده بالليل فتخيفه، فيبقى في البيت أياماً يعاد، يحسبونه مريضاً، وكان في وجهه خطان أسودان من البكاء!!.
وقال له ابن عباس رضي الله عنهما: مصر الله بك الأمصار، وفتح بك الفتوح وفعل، فقال عمر: وددت أني أنجو لا أجر ولا وزر!!.
[*] وكتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى بعض عماله: (حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة، عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته، وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة.
[*] وهذا عثمان بن عفان ـ ذو النورين ـ رضي الله عنه: كان إذا وقف على القبر بكى حتى تبلل لحيته، وقال: لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي، لاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير!!.
[*] وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كان كثير البكاء والخوف، والمحاسبة لنفسه. وكان يشتد خوفه من اثنتين: طول الأمل واتباع الهوى. قال: فأما طول الأمل فينسى الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق.
[*] وقال الحسن رحمه الله تعالى: لا تلقي المؤمن إلا بحساب نفسه: ماذا أردت تعملين؟ وماذا أردت تأكلين؟ وماذا أردت تشربين؟ والفاجر يمضي قدماً لا يحاسب نفسه.
(وقال أيضاً: إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة همته.(5/408)
(وقال أيضاً: المؤمن قوام على نفسه، يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة.
[*] وقال قتادة في قوله تعالى: وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28] أضاع نفسه وغبن، مع ذلك تراه حافظاً لماله، مضيعاً لدينه.
[*] وقال ميمون بن مهران: لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوان، إن لم تحاسبه ذهب بمالك.
[*] وذكر الإمام أحمد عن وهب قال: مكتوب في حكمة آل داود: حق على العاقل ألا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلوا فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجعل، فإن في هذه الساعة عوناً على تلك الساعات وإجماماً للقلوب.
[*] وكان الأحنف بن قيس يجئ إلى المصباح، فيضع إصبعه فيه ثم يقول: حس يا حنيف، ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟
[*] وقال مالك بن دينار: رحمه الله عبداً قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ألزمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل، فكان لها قائداً.
[*] وقال ابن أبي ملكية: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل!!
(أخي الحبيب: ترقب واعظ الله في قلبك، واستفد من مواعظه أيما استفادة واجعل له من سمعك مسمعاً ومن قلبك موقعاً، وقل له بلسان حالك سمعاً وطاعة، ولك الشكر والامتنان وعلى الخضوع والإذعان، وامتثل خشية الرحمن وامتثال القرآن وجنب نفسك العصيان والخذلان واستحواذ الشيطان قَبلَ أن تقولَ نفسٌ: يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ، فيقالُ: هَيْهَاتَ فَاتَ زَمَنُ الإِمْكَانِ، انتهى الزمان وفات الأوان.
(واعظ الله في القلب:(5/409)
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعن جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعند رأس الصراط يقول استقيموا على الصراط ولا تعوجوا، وفوق ذلك داع يدعو كلما هم عبد أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه ثم فسره فأخبر أن الصراط هو الإسلام وأن الأبواب المفتحة محارم الله وأن الستور المرخاة حدود الله والداعي على رأس الصراط هو القرآن والداعي من فوقه هو واعظ الله في قلب كل مؤمن.
فهلا استجبت ـ أخي المسلم ـ لواعظ الله في قلبك؟ وهلا حفظت حدود الله ومحارمه؟ وهلا انتصرت على عدو الله وعدوك، قال تعالى: إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير [فاطر:6]
[*] قال خالد بن معدان - رضي الله عنه - قال: ما من من عبد إلا وله عينان في وجهه يبصر بهما أمر الدنيا، وعينان في قلبه يبصر بهما أمر الآخرة، فإذا أراد الله بعبد خيراً، فتح عينيه اللتين في قلبه، فأبصر بهما ما وعد الله بالغيب، وإذا أراد به غير ذلك، تركه على ما فيه ثم قرأ: أم على قلوب أقفالها [محمد:24]
(امقت نفسك في جنب الله:
إن مما يعين بعد الله تعالى على محاسبة النفس أن تمقت نفسك في جنب الله تعالى:
[*] (كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: رحم الله امرأً أهدى إلي عيوبي وكان يسأل سلمان عن عيوبه، فلما قدم عليه قال: ما الذي بلغك عني مما تكرهه.
قال: أعفني يا أمير المؤمنين فألح عليه، فقال: بلغني أنك جمعت بين إدامين على مائدة وأن لك حلتين حلة بالنهار وحلة بالليل.
قال: وهل بلغك غير هذا؟ قال: لا، قال: أما هذان فقد كفيتهما، وكان يسأل حذيفة ويقول له: أنت صاحب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في معرفة المنافقين فهل ترى علي شيئا من آثار النفاق.
فهو على جلالة قدره وعلو منصبه هكذا كانت تهمته لنفسه رضي الله عنه.
«فكل من كان أرجح عقلا وأقوى في الدين وأعلى منصبًا، كان أكثر تواضعًا»، وأبعد عن الكبر والإعجاب وأعظم اتهامًا لنفسه، وهذا يعتبر نادرًا يعز وجوده.
فقليل في الأصدقاء من يكون مخلصًا صريحًا بعيدًا عن المداهنة متجنبًا للحسد يخبرك بالعيوب ولا يزيد فيها ولا ينقص وليس له أغراض يرى ما ليس عيبا عيبًا أو يخفي بعضها.(5/410)
قيل لبعض العلماء، وقد اعتزل الناس وكان منطويًا عنهم: لِمَ امتنعت عن المخالطة؟ فقال: وماذا أصنع بأقوام يخفون عني عيوبي.
فكانت شهوة صاحب الدين في التنبيه على العيوب، عكس ما نحن عليه، وهو أن أبغض الناس إلينا الناصحين لنا والمنبهين لنا على عيوبنا، وأحب الناس إلينا الذي يمدحوننا مع أن المدح فيه أضرار عظيمة كالكبر والإعجاب والكذب.
وهذا دليل على ضعف الإيمان فإن الأخلاق السيئة أعظم ضررًا من الحيات والعقارب ونحوها.
ولو أن إنسانًا نبهك على أن في ثوبك أو خفك أو فراشك حية أو عقربًا لشكرته ودعوت له وأعظمت صنيعه ونصيحته واجتهدت واشتغلت في إبعادها عنك وحرصت على قتلها.
وهذه ضررها على البدن فقط ويدوم ألمها زمن يسير وضرر الأخلاق الرديئة على القلب ويخشى أن تدوم حتى بعد الموت ولا نفرح بمن ينبهنا عليها ولا نشتغل بإزالتها.
بل نقابل نصح الناصح بقولنا له: تبكيتًا وتخجيلاً وأنت فيك وفيك ناظر نفسك ولا عليك منا كلٌ أبصر بنفسه.
ونشتغل بالعداوة معه عن الانتفاع بنصحه بدل ما نشكره على نصحه لنا بتنبيهه لنا على عيوبنا، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(أخي الحبيب:
عُد على نفسك باللوم والمقت واحذرها فكم ضيعت عليك من وقت، واندم على زمان الهوى فمن كيسك أنفقت، ونادها يا محل كل بلية فقد والله صدقت 0
[*] (روى وهب بن منبه: أن رجلاً صام سبعين سنة يأكل كل سنة إحدى عشرة تمرة وطلب حاجة من الله فلم يعطها فأقبل على نفسه فقال: من قبلك بليت لو كان فيك خيراً أعطيت فنزل إليه ملك فقال: إن ساعتك هذه التي ازدريت فيها على نفسك خير من عبادتك وقد أعطاك الله حاجتك 0
[*] (وقال فضيل بن عياض: أخذت بيد سفيان بن عيينة في هذا الوادي فقلت له: إن كنت تظن أنه قد بقي على وجه الأرض شر مني ومنك فبئس ما ترى 0
إخواني: من تفكر في ذنوبه تاب ورجع ومن تذكر قبيح عيوبه ذل وخضع، ومن علم أن الهوى يسكن تصبر ومن تلمح إساءته لم يتكبر 0
[*] (كان يزيد الرقاشي يقول: والهفاه سبق العابدون وقطع بي وكان قد صام أثنين وأربعين سنة 0(5/411)
(يا من نسي العهد القديم وخان، من الذي سواك في صورة الإنسان من الذي غذاك في أعجب مكان، من الذي بقدرته استقام الجثمان الذي بحكمته أبصرت العينان، من الذي بصنعته سمعت الأذنان، من الذي وهب العقل فاستبان للرشد وبان، من الذي بارزته بالخطايا وهو يستر العصيان، مَنِ الذي تركت شكره فلم يؤاخذ بالكفران، إلى كم تخالفه وما يصبر على الخلاف الأبوان، وتعامله بالغدر الذي لا يرضاه الإخوان، وتنفق في خِلافه ما عَزَّ وهان، ولو علم الناس منك ما يعلم: ما جالسوك في مكان، فارجع إليَّه ما دمت في زمن الإمكان، وتب إليه فإنه الرحيم الرحمن، عساه أن يعفو عما سلف وكان من الذنوب والعصيان.
يا نفس: بادري بالأوقات قبل انصرامها واجتهدي في حراسة ليالي الحياة وأيامها فكأنك بالقبور وقد تشققت وبالأمور وقد تحققت وبوجوه المتقين وقد أشرقت وبرءوس العصاة وقد أطرقت 0 يا نفس: أما الورعون فقد جدلوا وأما الخائفون فد استعدوا وأما الصالحون فقد راحوا وأما الواعظون فقد صاحوا 0
يا نفس: اتعبي قليلاً تستريحي في الفردوس كثيراً كأنك بالتعب قد مضى وبحرصك من اللعب قد مضى وثمر الصبر قد أثمر حلاوة الرضا لا يطمعن البطال في إدراك الأبطال هيهات أن يدرك البطل المجتهد من غاب حين النزال فما شهد حفت الجنة بالمكاره فلا يوصل إليها إلا بالمضض كذلك كل محبوب يلذ وكل عرض من غير مشقة وإلا متى لم يبعد على طالبٍ المشقة: العلم لا يحصل إلا بالنصب والمال لا يجمع إلا بالتعب واسم الجواد لا يناله بخيل ولا يلقب بالشجاع إلا بعد تعب طويل 0 لَولا المشَقَة سادَ الناس كُلَهُم الجود يفقر والإِقبالُ قتَّالُ
(أخي الحبيب:
(أو ما علمت أن معالي الأُمور لا تنال بالفتور، وإنما تنال بالجد والاجتهاد والتشمرِ ليومِ المعاد، وخلعِ الراحة واستفراغ الوسع في الطاعة، أو ما علمت أن من جد وجد ومن زرع حصد، وليس من سهر كمن رقد والأمور تحتاج إلى وثبة أسد، فإذا عزمت فبادر وإذا هممت فثابر، واعلم أنه لا يدرك المفاخر من كان في الصف الآخر.
يا ضعيف العزم: أين أنت والطريق نصب فيه " آدم " وناح لأجله " نوح " ورمي في النار " الخليل " واضطجع للذبح " اسحاق " وبيع " يوسف " بدراهم بخس ونشر بالمناشير " زكريا " وذبح الحصور " يحيى " وضني بالبلاء " أيوب " وزاد على القدر بكاء " داود " وتنغص في الملك عيش " سليمان " وتخير بأرني " موسى " وهام مع الوحوش " عيسى " وعالج الفقر " محمد ".(5/412)
(أقسام محاسبة النفس:
[*] قال ابن القيم رحمه الله: ومحاسبة النفس نوعان: نوعٌ قبل العمل ونوعٌ بعده.
(القسم الأول: محاسبة النفس قبل العمل:
أن يقف عند أول همه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحان العمل به على تركه، [*] قال الحسن رحمه الله: رحم الله عبداً وقف عند همه فإن كان لله مضى وإن كان لغيره تأخر.
هذا النوع من المحاسبة مهم جداً في إيقاع الأعمال على الإخلاص، بدون المحاسبة هذه تقع الأعمال بغير الإخلاص فيهلك الإنسان وهو يعمل (عَامِلَةٌ نّاصِبَةٌ * تَصْلَىَ نَاراً حَامِيَةً) [الغاشية 3،4]، فما استفاد من العمل شيء مع أن ظاهره أعمال صالحة لكن لأنها ليست لله.
وكذلك ينظر ثانياً إذا تحركت نفسه لعمل من الأعمال وقف، هل هذا العمل مقدور عليه أو غير مقدور، فإن كان غير مقدور تركه حتى لا يضيع الوقت، وإن كان مقدوراً عليه وقف وقفة أخرى ونظر هل فعله خير من تركه أو تركه خير من فعله، فإن كان فعله خير من تركه عمله وإن كان تركه خيراً من فعله .. ،وإذا كان فعله فيه مصلحة .. هل سيفعله الآن والباعث عليه الله وإرادة وجهه أو الباعث عليه أمر آخر (جاه المخلوق وثنائهم ومالهم).
وهذه المحاسبة مهمة جداً في وقاية النفس من الشرك الخفي، الأول يقيها من الشرك الأكبر والأصغر ويقيها أيضاً من الشرك الخفي، ولئلا تعتاد النفس الشرك وتقع في مهاوي الرياء،
(لذلك فإن هناك أربع مقامات يحتاج إليها العبد في محاسبة نفسه قبل العمل:
(1) هل هو مقدور له.
(2) هل فعله خير من تركه.
(3) هل هو يفعله لله.
(4) ما هو العون له عليه.
والاستعانة طبعاً بالله ((إياك نعبد وإياك نستعين)).
(القسم الثاني: محاسبة النفس بعد العمل:
وهو على ثلاثة أنواع:
أولاً: محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله، مثل تفويت خشوع في الصلاة وخرق الصيام ببعض المعاصي أو فسوق وجدال في الحج، كيف أوقع العبادة؟ هل على الوجه الذي ينبغي؟ هل وافق السنة؟ هل نقص منها؟ وحق الله في الطاعة ستة أمور كما يلي:
(1) الإخلاص في العمل.
(2) النصيحة لله فيه.
(3) متابعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(4) أن يحسن فيه ويتقن فيه.
(5) أن يشهد منّة الله عليه فيه أنه جاء توفيق من الله وتيسير للعمل الصالح وإعانة منه.(5/413)
(6) أن يشهد تقصيره بعد العمل الصالح، وأنك مهما عملت لله فأنت مقصر.
فيحاسب العبد نفسه هل وفى هذه المقامات حقها؟
ثانياً: محاسبة على عمل كان تركه خير من فعله، كمن يشتغل بمفضول ففاته الفاضل، مثل أن يشتغل بقيام الليل فتفوته صلاة الفجر، أو يشتغل بأذكار وغيرها أفضل منها، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأم المؤمنين: [لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وُزِنَت بما قلتِ لوزنتهن: سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته].
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود) قال: خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عند جويرية وكان اسمها برة فحول اسمها فخرج وهي في مصلاها ورجع وهي في مصلاها فقال لم تزالي في مصلاك هذا قالت نعم قال قد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت لوزنتهن سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.
ثالثاً: محاسبة على أمر معتاد مباح لمَ فعله؟ هل أراد به الله أم الدار الآخرة؟ فيكون رابحاً، أو أراد به الدنيا وعاجلها؟ فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به.
فالمحاسبة تولد عنده أرباح مهمة يحتاجها يوم الحساب، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر: [أن الذي ينفق نفقة على أهله يحتسبها تكون له صدقة] كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي مسعود الأنصاري الثابت الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إذا أنفق الرجلُ على أهله يحتسبها فهو له صدقة)
، وأراد لفت النظر إلى أن ما ينفقه الناس على أهلهم بالعادة إذا كان فيه نية حسنة فليس خارجاً عن الصدقة بل داخل فيها وأجرها، حتى يتشجع الناس للإنفاق على أهليهم ولا يبخلوا على أولادهم، بل يحتسبون الأجر بدون إسراف ولا تقتير.
[*] قال الحسن: " المؤمن قوَّام على نفسه، يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر على غير محاسبة ".(5/414)
إن المؤمن يفاجئه الشيء ويعجبه فيقول: والله إني لأشتهيك، وإنك لمن حاجتي، ولكن والله ما من حيلة إليك، هيهات حيل بيني وبينك ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردت إلى هذا؟! ما لي ولهذا؟ ّ والله لا أعود إلى هذا أبداً. إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن وحال بين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه، وفي بصره، وفي لسانه، وفي جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كله.
[*] قال مالك بن دينار: " رحم الله عبداً قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل، فكان لها قائداً ".
فحق على الحازم المؤمن بالله وباليوم الآخر أن لا يغفل عن محاسبة نفسه، والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها، وخطراتها، فكل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة، يمكن أن يشترى بها كنزاً من الكنوز لا يتناهي نعيمه أبد الآباد، فإضاعة هذه الأنفاس، أو اشتراء صاحبها بها مما يجلب هلاكه خسران عظيم لا يسمح بمثله إلا أجهل الناس وأحمقهم وأقلهم عقلاً، وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن، قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} (آل عمران: من الآية 30).
(كيفية محاسبة النفس؟
[*] قال ابن القيم رحمه الله – مختصر كلامه-:
أن يبدأ بالفرائض فإذا رأى فيها نقص تداركه ثم المناهي "المحرمات" فإذا عرف أنه ارتكب منها شيئاً تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية ثم يحاسب نفسه على الغفلة عما خُلِق له، فإن رأى أنه غفل عما خُلِق له فليتدارك ذلك بالذكر والإقبال على الله ويحاسب نفسه على كلمات الجوارح من كلام اللسان ومشي الرجلين وبطش اليدين ونظر العينين وسماع الأذنين ماذا أردتُ بهذا ولمن فعلته وعلى أي وجه فعلته؟(5/415)
(فيبدأ بالفرائض، ويجب أن نعرف أن جنس الواجبات في الشريعة أعلى من ترك المحرمات، كلاهما لابد منه، لكن للفائدة فجنس فعل الواجب أعلى في الشريعة وأكثر أجراً من جنس ترك المحرم، لأن الواجبات هي المقصود الأصلي وهذه المحرمات ممنوعة، ولكن ما هو الأصل؟ أن تقوم بالواجبات، فأول ما يبدأ بالفرائض فإن رأى منها نقصاً تداركه (الوضوء-الصلاة-الصيام بدون نية- كفارة اليمين) .. ، فاستدراك الخطأ في الواجبات نتيجة للمحاسبة، وهناك تقصير يمكن استدراكه وهناك آخر لا.
(ثم المحرمات والمناهي .. ، فهناك أمور تحتاج التوقف الفوري (كسب حرام – عمل حرام)، وأشياء تدارُكها (التخلص من الأموال الحرام بعد التوبة-أكل حقوق العباد فيعيد المال إلى أصحابه)، وبعضها يحتاج إلى التحلل منها وطلب السماح، وهناك أشياء لا يمكن تداركها إلا بالتوبة والندم وعقد العزم على عدم العودة والإكثار من الحسنات الماحية لأن الله تعالى قال: (وَأَقِمِ الصّلاَةَ طَرَفَيِ النّهَارِ وَزُلَفاً مّنَ الْلّيْلِ إِنّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السّيّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَىَ لِلذّاكِرِينَ) [هود: 114]
ثم يحاسب نفسه على الغفلة عما خُلِق له (الانغماس في الملاهي والألعاب مع أنها ليست حرام)، فيتدارك ذلك بأن يأتي بفترات طويلة تفوقها في الذكر والعبادة والأعمال الصالحة لتعويض الغفلة التي حدثت ..
وهناك طريقة أخرى للمحاسبة وهي محاسبة الأعضاء، ماذا فعلت برجلي؟ بيدي؟ بسمعي؟ ببصري؟ بلساني؟، المحاسبة على الأعضاء تعطي نتيجة فيكون الاستدراك بإشغال الأعضاء في طاعة الله، ثم المحاسبة على النوايا (ماذا أردت بعملي هذ ا؟ وما نيتي فيه؟.
والقلب من الأعضاء ولابد له من محاسبة خاصة لصعوبة المحاسبة في النوايا لأنها كثيراً ما تتقلب فسمّي القلب قلباً من تقلّبه ..
وينبغي للعبد كما أن له في أول نهاره توصية لنفسه بالحق أن يكون له في آخر نهاره ساعة يطالب نفسه فيها ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء.(5/416)
(فينبغي للعبد أن يحاسب نفسه مثل محاسبة الشريك الشحيح لشريكه، وهي صفة مهمة للمحاسبة؛ أن الإنسان يدقق مع نفسه ويفتّش الأمور تفتيشاً بالغاً، فقد يتناسى أشياء وهي خطيرة، ومع النفس لا تصلح المسامحة [رحم الله امرءاً سمحاً إذا باع سمحاً إذا اشترى سمحاً إذا قضى سمحاً إذا اقتضى]، نعم يفوّت للناس ولكن مع نفسه لا يفوّت .. ! فينبغي أن يكون هناك تدقيق زائد للنفس إذا أراد صلاحها.
(ومعاقبة النفس على التقصير مهمة بإلزامها بالفرائض والواجبات والمستحبات بدلاً من المحرمات التي ارتكبتها، والعجب أن الإنسان يمكن أن يعاقب عبده وأمته وأهله وخادمته وسائقه والموظف عنده على سوء الخلق والتقصير ولكن لا يعاقب نفسه على ما صدر عن نفسه من سوء العمل.
مسألة: ما هي العقوبات، في قولنا يعاقب نفسه على التقصير؟
الجواب: اسم العقوبات فيها تسامح وتجوّز، العقوبات المقصود منها أنك تلزم نفسك بطاعات، ولنضرب لذلك أمثلة من السلف كيف كانوا يعاقبون أنفسهم:
(عاقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه نفسه حين فاتته صلاة العصر في جماعة بأن تصدّق بأرض قيمتها مائتي ألف درهم!!
(ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا فاتته صلاة في جماعة أحيا تلك الليلة كلها، وأخّر ليلة صلاة المغرب حتى طلع كوكبان فاعتق رقبتين مع أن وقت الصلاة لم يخرج .. !!
(ابن أبي ربيعة فاتته ركعتا سنة الفجر فأعتق رقبة!!
والتقصير عند السلف من أصحاب النفوس العالية ليس ترك واجب أو فعل محرم، لكن تقصير في واجب و مستحب، أي فوات طاعة مثلاً أو أذكار وأوراد، والمعاقبة بأن يضاعف الأذكار والأوراد.
والنفس لا تستقيم إلا أن تُجَاهد وتُحَاسَب و تُعَاقَب .. ، ومما يعين على معاقبة النفس أو إرغام النفس على استدراك النقص؛ التأمُّل في أخبار المجتهدين. وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين و من قام بمائة آية كتب من القانتين و من قام بألف آية كتب من المقنطرين.
ومن تأمل في حال السلف وماذا كانوا يفعلون مع ندرة النماذج هذه في هذا الزمان لعله يقود إلى معاقبة النفس بإلزامها بمزيد من العبادات والمستحبات إذا قصّرت ..
[*] قالت امرأة مسروق: ما كان يوجد مسروق إلا وساقاه منتفختان من طول الصلاة، والله إن كنت لأجلس خلفه فأبكي رحمة له.(5/417)
[*] وقال أبو الدرداء: لولا ثلاث ما أحببت العيش يوماً واحداً، الظمأ لله بالهواجر، والسجود لله في جوف الليل، ومجالسة قوم ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر.
[*] وأم الربيع كانت تشفق على ولدها من كثرة بكائه وسهره في العبادة فنادته (يا بني لعلك قتلت قتيلاً) قال (نعم يا أماه) قال (فمن هو حتى نطلب أهله فيعفو عنك، فو الله لو يعلمون ما أنت فيه لرحموك وعفوا عنك) قال (يا أماه .. هي نفسي!!).
[*] قال القاسم بن محمد: غدوت يوماً وكنت إذا غدوت بدأت بعائشة رضي الله عنها أسلم عليها، فغدوت يوماً إليها فإذا هي تصلّي الضحى وهي تقرأ (فمن ّ الله علينا ووقانا عذاب السموم) وتبكي وتدعو وتردد الآية وقمت حتى مللت وهي كما هي فلما رأيت ذلك ذهبت إلى السوق فلما فرغت من حاجتي رجعت إليها فوجدتها كما هي ففرغت ورجعت وهي تردد الآية وتبكي وتدعو!
هذه القلوب، سريعة الذنوب، لابد من قرعها ومطالعة ما فيها،
(ومن قواعد المحاسبة توبيخ النفس: لأنها مادامت أمارة بالسوء فتحتاج إلى شدة وتوبيخ والله أمر بتزكيتها وتقويمها، فهي تحتاج إلى سلاسل ولا تنقاد إلا بسلاسل القهر إلى العبادة ولا تمتنع عن الشهوات إلا بهذه السلاسل ولا تنفطم عن اللذات إلا بهذا الحزم معها، فإن أهملت نفسك جمحت وشردت وإن لازمتها بالتوبيخ والمعاتبة والملامة كانت هي النفس اللوامة ويُرجى أن ترتقي بعد ذلك إلى النفس المطمئنة.
كيف يحاسب الإنسان نفسه؟ بماذا يذكر نفسه؟ بنقصها .. بخستها ودناءتها وما تدعو إليه من الحرام وترك الواجب والتفريط في حق الله ..
(الأدلة على مشروعية المحاسبة:
قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مّا قَدّمَتْ لِغَدٍ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ نَسُواْ اللّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولََئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر: 19] تنظر أي تفكر وتتفكر.(5/418)
[*] يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي – رحمه الله -: يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بما يوجبه الإيمان ويقتضيه من لزوم تقواه سراً وعلانية في جميع الأحوال وأن يراعوا ما أمرهم الله به من أوامره وحدوده وينظروا مالهم وما عليهم وماذا حصلوا عليه من الأعمال التي تنفعهم أو تضرهم يوم القيامة فإنهم إذا جعلوا الآخرة نصب أعينهم وقبلة قلوبهم واهتموا للمقام بها اجتهدوا في كثرة الأعمال الموصلة إليها وتصفيتها من القواطع والعوائق التي توقف عن السير أو تعوقهم أو تصرفهم، وإذا علموا أن الله خبير بما يعملون لا تخفى عليه أعمالهم ولا تضيع لديه ولا يهملها أوجب لهم الجد والاجتهاد.
(وقال الشيخ عن هذه الآية: وهذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه وأنه ينبغي له أن يتفقدها فإن رأى زللاً تداركه بالإقلاع عنه والتوبة النصوح والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه وإن رأى نفسه مقصراً في أمر من أوامر الله بذل جهده واستعان بربه في تتميمه وتكميله وإتقانه ويقايس بين منن الله عليه وبين تقصيره هو في حق الله فإن ذلك يوجب الحياء لا محالة، والحرمان كل الحرمان أن يغفل العبد عن هذا الأمر ويشابه قوماً نسوا الله وغفلوا عن ذكره والقيام بحقه وأقبلوا على حظوظ أنفسهم وشهواتها فلم ينجحوا ولم يحصلوا على طائل بل أنساهم الله مصالح أنفسهم وأغفلهم عن منافعها وفوائدها فصار أمرهم فرطاً فرجعوا بخسارة الدارين وغبنوا غبناً لا يمكن تداركه ولا يجبر كسره لأنهم هم الفاسقون.
وقد قال تعالى في كتابه العزيز: (وَتُوبُوَاْ إِلَى اللّهِ جَمِيعاً أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31]، فإذاً ينبغي على العبد أن ينظر في حاله ويحاسبها ويتوب من التقصير فالمحاسبة تقود إلى التوبة قال تعالى: (إِنّ الّذِينَ اتّقَواْ إِذَا مَسّهُمْ طَائِفٌ مّنَ الشّيْطَانِ تَذَكّرُواْ فَإِذَا هُم مّبْصِرُونَ) [الأعراف: 201]
ولا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه ((والشريكان يتحاسبان عند نهاية العمل))، ورُوي عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال لها عند الموت: [ماأحد من الناس أحب إليّ من عمر]، ثم قال: كيف قلت؟ فأعادت عليه كلامه، فقال: [لا أحد أعزّ عليّ من عمر]. فانظر كيف نظر بعد الفراغ من الكلمة فتدبرها وأبدلها بكلمة أخرى لأنه رآها أنسب وأحسن وأدق وأصدق ..(5/419)
[*] قال الحسن البصري رحمه الله: [المؤمن قوّام على نفسه يحاسبها لله وإنما خفّ الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة] ثم قال: [المؤمن يفجأه الشيء يعجبه فيقول والله إنك تعجبني وإنك من حاجتي ولكن هيهات! حيلي بيني وبينك!]، هذا نموذج من الحساب لشيء يعرض للإنسان مزيّن ويعجبه وتميل إليه نفسه ولكنه يتركه لأنه ليس من مصلحته في الآخرة، [ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول ماذا أردتِ بهذا؟!!]، يفرط أي يسبق ويحصل ويقع.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً وقد خرج وخرجت معه حتى دخل حائطاً فسمعته يقول بيني وبينه جدار [يا أمير المؤمنين! بخٍ! بخٍ! والله لتتقين الله أو ليعذبنّك!]، فهو يذكر نفسه بأن هذا اللقب أمير المؤمنين لا يغني عنه من الله شيئاً ..
[*] قال الحسن البصري رحمه الله في قوله تعالى: ((ولا أقسم بالنفس اللوامة)): [لا يلقى المؤمن إلا وهو يعاتب نفسه، ماذا أردت بكلمتي؟ ماذا أردت بأكلتي؟ ماذا أردت بشربتي؟ والفاجر يمضي قدماً لا يعاتب نفسه].
[*] وقال مالك بن دينار رحمه الله: رحم الله عبداً قال لنفسه ألستِ صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمّها ثم خطمها ثم ألزمها كتاب الله تعالى فكان لها قائداً. وهذا من حساب النفس.
[*] وقال ميمون بن مهران: [التقي أشد محاسبة لنفسه من سلطان غاشم ومن شريك شحيح].
[*] وقال إبراهيم التميمي: [مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها فقلت لنفسي: يا نفس أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحاً، قال: فأنتِ في الأمنية فاعملي إذاً لتكوني في الجنة في ذلك النعيم].
[*] قال ابن القيم في إغاثة اللهفان: [إن سائر أمراض القلب إنما تنشأ من جانب النفس فالمواد الفاسدة كلها إليها تنصبّ ثم تنبعث منها إلى الأعضاء وأول ما تنال القلب].
وقد كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في خطبة الحاجة: ((الحمد لله نستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا)) كما في الحديث الآتي: ((5/420)
(حديث ابن مسعود الثابت في صحيح السنن الأربعة) علمنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطبة الحاجة (الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ثم يقرأ ثلاث آيات
*يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون >!! <
* يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا >!! <
* يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون >!! < يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما >!
وقد استعاذ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شرها عموماً ومن شر ما يتولد منها من الأعمال ومن شر ما يترتب على ذلك من المكاره والعقوبات وجمع الاستعاذة من سيئات النفس وسيئات الأعمال فهذا معناه أن هناك أمرين:
(1) أعوذ بك من هذا النوع من الأعمال.
(2) المراد به عقوبات الأعمال التي تسوء صاحبها.
فاستعاذ من صفة النفس وعملها أو استعاذ من العقوبات وأسبابها ويدخل العمل السيء في شر النفس لأن النفس الشريرة تولد سيء العمل فاستعاذ منهما جميعاً ..
وهذا العمل الذي يسوء صاحبه يوم القيامة وهذه النفس الشريرة التي تأمر بسيء العمل؛ لابد من محاسبتها وقد اتفق السالكون إلى الله على اختلاف طرقهم وتباين سلوكهم على أن النفس قاطعة بين القلب وبين الوصول إلى الرب وأن لا يُدخل على الله سبحانه ولا يوصل إليه إلا بعد الظفر بالنفس وكفها عن الشر فإن الناس قسمين:
القسم الأول: قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته وصار طوعاً لنفسه الشريرة الأمّارة بالسوء تحت أوامرها ويعمل على هواها.
القسم الثاني: قسم ظفروا بأنفسهم فقهروها فصارت طوعاً لهم منقادة لأمرهم.
قال بعض أهل الإيمان والحكمة: ((انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بأنفسهم فمن ظفر بنفسه؛ أفلح وأنجح، ومن ظفرت به نفسه خسِر وهلك)).
قال الله تعالى:
{فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعات: الآية: 37 - 41).(5/421)
ومن لم يحاسب نفسه فاته من الخير بقدر ما فاته من المحاسبة ولذلك على المسلم أن يصون نفسه عن المحرمات ويبتعد عن الشبهات ولا سيما أهل العلم فمن لم يصن نفسه بهذا لم ينفعه علمه لأن العلم للعمل كالسلاح للمجاهد فإذا لم يستعمله ماذا يفيده؟ !، وكالأطعمة المدخرة للجائع إذا لم يأكل منها فبماذا تنفعه؟!
يحاول نيل المجد والسيف مغمدٌ: ويأمل إدراك العُلا وهو نائم!
والحاصل: أنه بدون محاسبة لا يمكن الوصول والذي لا يصون نفسه عن ما يخرم المروءة وعن ما يُكره بعد ما يصونها عن الحرام فهذا إنسان هالك، فصيانة النفس أصل الفضائل لأن من أهمل نفسه إتكالاً على العلم الذي عنده (وهذه آفة ينزلق إليها بعض طلبة العلم) ربما لا يحاسبون أنفسهم إتكالاً إلى العلم الذي عندهم فربما يكون هنا الجاهل أو العامي أفضل من هذه الجهة لأنهم يحسون أن أنفسهم قاصرة فيحاسبون ويفتشون، أما بعض الناس الذي يطغيهم العلم فلا يحاسبون أنفسهم ويتكلون على العلم الذي معهم لأنه يرون به رفعة درجة فلماذا يحاسبون فيتركون الحساب والمحاسبة فتظهر القبائح والعورات فيكون الحسد منهم واتباع الهوى والتنازلات في الفتاوى والأخطاء.
فلذلك محاسبة العلماء لأنفسهم وطلبة العلم ينبغي أن تكون أشد ما تكون لأنه إن حاسب نفسه انتفع ونفع الناس وإذا ترك محاسبة نفسه ضلّ وأضلّ، الجاهل لا يقتدي به أحد، لكن هذا الذي ينصب نفسه قدوة في الدعوة والعلم ثم لا يحاسب نفسه يُهلك .. !
أيها العالم إياك الزلل ... واحذر الهفوةَ والخطبَ الجلل
هفوة العالم مستعظمة ... إذ بها أصبح في الخلق مثل!
وعلى زلّته عمدتهم ... فبها يحتج بها من أخطأ وزلّ
لاتقل يستر عليّ العلم زلّتي ... بل بها يحصل في العلم خلل
إن تكن عندك مستحقرة ... فهي عند الله والناس جبل
ليس من يتبعه العلم في ... كل ما دقّ من الأمر وجلّ
مثل من يدفع عنه جهله ... إن أتى فاحشة قيل قد جهل
انظر الأنجم مهما سقطت ... من رآها وهي تهوي لم يُبل
فإذا الشمس بدت كاسفة ... وَجِل الخلق لها كل الوجل
وتراءت نحوها أبصارهم ... في انزعاجٍ واضطرابٍ ووجل
وسرى النقص لهم من نقصها ... فغدت مظلمة منها السُبُل
وكذا العالِم في زلّته ... يفتن العالم طُرّاً و يُضِلّ!
فنحن نرى الآن نماذج كثيرة من إضلال بعض هؤلاء في الفتاوى المتساهلة لأنهم لا يحاسبون أنفسهم وبالتالي يقعون في المزالق وما استقطبهم أهل الشر إليه من الأفخاخ التي نصبوها لهم فقعوا فيها وجاملوا على حساب الدين ..(5/422)
فينبغي على كل الناس أن يحاسبوا أنفسهم الذين عندهم علم والذين ليس لديهم علم، فالذي لديه علم يحاسب نفسه هل عمل به؟ وهل هو يقوم به لله؟ وهل يبلغه؟ أم يكتمه؟ وهل هو مقصّر فيه؟ وهل عبد ربه به؟ وهل بذله للناس صحيحاً أم راعة أهواء بعض القوم فسهّل لهم أشياء بزعمه؟، أما صاحب الجهل فيحاسب نفسه، كيف يعبد الله على جهل؟ متى يزيل الجهل؟ كيف يزيله؟ إلى متى يبقى؟ كيف يتعلم؟ وبماذا يبدأ .... وهكذا ..
والنفس تدعو إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا، والرب يدعو العبد إلى خوفه ونهي النفس عن الهوى والقلب بين الداعيين، يميل إلى هذا الداعي مرة وإلى هذا مرة وهذا موضع الابتلاء والمحنة ..
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه كلاماً مشهوراً محذراً من الإهمال في محاسبة النفس وأنه يقود إلى الهلاك يوم القيامة: [حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم (أعمالكم) قبل أن توزنوا فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم]، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((من نوقش الحساب عُذِّب))، فكيف يتلافى المرء مناقشة الحساب غداً؟!!، بمحاسبة النفس اليوم.
والحساب اليسير صاحبه ناجٍ وسينقلب إلى أهلها مسروراً، أما حاسبناها حساباً شديداً وعذبناها عذاباً نكراً فهذا الحساب الشديد نتيجة عدم المحاسبة الآن ..
وتزينوا للعرض الأكبر ((يومئذٍِ تعرضون لا تخفى منكم خافية))، فقال الحسن رحمه الله: ((لا تلقى المؤمن إلا ويحاسب نفسه، ماذا أردتِ تعملين؟ ماذا أردتِ تشربين؟ ماذا أردتِ تأكلين؟))، وقال قتادة في قوله (وكان أمره فرطاً): [أضاع نفسه وغُبِن]، يحفظ ماله ويضيع دينه!
قال الحسن: «إن العبد لايزال بخير ما كان له واعظ من نفسه وكانت المحاسبة من همته».
ويوجد واعظ في قلب كل مسلم إذا أراد أن يدخل في باب حرام قال: ويلك لا تفتحه، إنك إن تفتحه تلجه!، لا تزح الستار عن باب الحرام، إنك لو نظرت انجذبت، ويلك لا تفتحه، إنك إن تفتحه تلجه! ..
قال ميمون بن مهران: «النفس كالشّريك الخوّان إن لم تحاسبه؛ ذهب بمالك!».
المحاسبة وقت الرخاء سهلة بالنسبة للمحاسبة في وقت الشدة، فرحم الله عبداً قال لنفسه ألستِ صاحبة كذا وكذا؟! هذا نوع من الحساب على المعاصي، وحساب على النوايا كقولك ماذا أردتِ بالعمل والأكلة والشربة ..
(أهمية محاسبة النفس:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:(5/423)
وفي هذه المنزلة يحتاج السالك إلى تمييز ما له مما عليه ليستصحب ما له ويؤدى ما عليه وهو (المحاسبة) وهي قبل (التوبة) في المرتبة.
(وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
ومن منزلة (المحاسبة) يصح له نزول منزلة (التوبة) لأنه إذا حاسب نفسه عرف ما عليه من الحق فخرج منه وتنصل منه إلى صاحبه وهي حقيقة التوبة فكان تقديم (المحاسبة) عليها لذلك أولى.
ولتأخيرها عنها وجه أيضا وهو أن (المحاسبة) لا تكون إلا بعد تصحيح التوبة.
والتحقيق: أن التوبة بين محاسبتين محاسبة قبلها تقتضي وجوبها ومحاسبة بعدها تقتضي حفظها فالتوبة محفوفة بمحاسبتين وقد دل على المحاسبة قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَد} [الحشر: 18] فأمر سبحانه العبد أن ينظر ما قدم لغد وذلك يتضمن محاسبة نفسه على ذلك والنظر هل يصلح ما قدمه أن يلقى الله به أو لا يصلح؟.
والمقصود من هذا النظر: ما يوجبه ويقتضيه من كمال الاستعداد ليوم المعاد وتقديم ما ينجيه من عذاب الله ويبيض وجهه عند الله وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا وتزينوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} أو قال: "على من لا تخفى عليه أعمالكم".انتهى.
(ومن هنا يتضح أنه حق على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر ألا يغفل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها وخطراتها وخطواتها، فكل نَفَس مِنْ أنفاس العمر جوهرة نفيسة يمكن أن يشتري بها كنز من الكنوز لا يتناهى نعيمه أبد الآباد. فإضاعة هذه الأنفاس، أو اشتراء صاحبها ما يجلب هلاكه خسران عظيم، لا يسمح بمثله إلا أجهل الناس وأحمقهم وأقلهم عقلاً، وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران:30]
، إن محاسبة النفس هو طريق استقامتها، وكمالها، وفلاحها، وسعادتها، يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18](5/424)
[*] قال ابن كثير في تفسيره: وقوله: وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وانظروا ماذا ادّخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم.
[*] وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد عن عمر بن الخطاب أنه قال: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً، أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزيّنوا للعرض الأكبر يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18]،
[*] ونقل ابن القيم عن الحسن أنه قال: (المؤمن قوّام على نفسه يحاسب نفسه لله، وإنما خفّ الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة).
[*] وقال وهب فيما ذكره الإمام أحمد رحمه الله: (مكتوب في حكمةآل داود: حق على العاقل، أن لا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوته الذين يخبرونه بعيوبه ويَصدقونه عن نفسه، وساعة يتخلى فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل، فإن في هذه الساعة عوناً على تلك الساعات وإجماماً للقلوب).
[*] وقال ميمون بن مهران: (لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوّان إن لم تحاسبه ذهب بما لك.
[*] وكتب عمر بن الخطاب إلى بعض عماله: (حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضى والغبطة، ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة) [أخرجه البيهقي في الوهد وابن عساكر].
[*] ونقل ابن الجوزي في ذم الهوى عن السلمي قال: سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت أبا محمد الحريري يقول: من استولت عليه النفس صار أسيراً في حكم الشهوات محصوراً في سجن الهوى. وحرَّم الله على قلبه الفوائد، فلا يستلذ كلامه ولا يستحليه، وإن كثر ترداده على لسانه.(5/425)
[*] وقال الشيخ عبد العزيز السلمان رحمه الله في كتابه موارد الظمآن: (فإذا علم أنه مناقش في الحساب عن مثاقيل الذر، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة أحوج ما يكون إلى الحسنات، وغفران السيئات، تحقق أنه لا ينجيه من هذه الأخطار إلا إعتماده على الله، ومعونته على محاسبة نفسه ومراقبتها ومطالبتها في الأنفاس والحركات، ومحاسبتها في الخطرات واللحظات، فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه وحضر عند السؤال جوابه وحسن متقلبه ومآبه.
[*] قال ابن قدامة في منهاج القاصدين: واعلم أن أعدى عدو لك نفسك التي بين جنبيك، وقد خلقت أمارة بالسوء، مَيَّالَةً إلى الشر، وقد أُمِرْتَ بتقويمها وتزكيتها وفطامها من مواردها وأن تقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها، فإن أهملتها جمحت وشردت ولم تظفر بها بعد ذلك وإن لزمتها بالتوبيخ رجونا أن تصير مطمئنة، فلا تغفلن من تذكيرها.
[*] كان توبة بن الصمة من المحاسبين لأنفسهم فحسب يوماً، فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيامها، فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم، فصرخ وقال: يا ويلتي! ألقى ربي بأحد وعشرين ألف ذنب؟ كيف وفي كل يوم آلاف من الذنوب؟ ثم خر مغشياً عليه، فإذا هو ميت، فسمعوا قائلاً يقول: يا لك ركضة إلى الفردوس الأعلى.
{تنبيه}: (ومن أنفع فوائد المحاسبة «الاطلاع على عيوب النفس ومقتها في جنب الله تعالى».
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان:
وفى محاسبة النفس عدة مصالح منها:
الاطلاع على عيوبها، ومن لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته، فإذا اطلع على عيبها مقتها في ذات الله تعالى.
[*] (روى الإمام أحمد عن أبى الدرداء رضي الله عنه قال: "لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتا".
[*] (وقال مُطرِّف بن عبد الله: "لولا ما أعلم من نفسي لقَليْتُ الناس".
[*] (وقال مصرف في دعائه بعرفة: "اللهم لا ترد الناس لأجلى".
[*] (وقال بكر بن عبد الله المزني: "لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أنهم قد غفر لهم، لولا أني كنت فيهم".
[*] (وقال أيوب السختياني: "إذا ذكر الصالحون كنتُ عنهم بمعزل".(5/426)
[*] (ولما احتضر سفيان الثوري دخل عليه أبو الأشهب، وحماد بن سلمة، فقال له حماد: "يا أبا عبد الله، أليس قد أمنت مما كنت تخافه؟ وتقدم على من ترجوه، وهو أرحم الراحمين، فقال: يا أبا سلمة، أتطمع لمثلي أن ينجو من النار؟ قال: إي والله، إني لأرجو لك ذلك".
[*] (وذكر زيد عن مسلم بن سعيد الواسطي قال: أخبرني حماد بن جعفر بن زيد: أن أباه أخبره قال: "خرجنا في غزاة إلى كابل، وفى الجيش: صِلة بن أشيم، فنزل الناس عند العتمة، فصلوا ثم اضطجع فقلت: لأرمقن عمله، فالتمس غفلة الناس، حتى إذا قلت: هدأت العيون وثب فدخل غيضة قريبا منا، فدخلت على أثره، فتوضأ، ثم قام يصلي، وجاء أسد حتى دنا منه، فصعدت في شجرة فتراه التفت أو عده جروا؟ فلما سجد قلت: الآن يفترسه، فجلس ثم سلم ثم قال: أيها السبع، اطلب الرزق من مكان آخر. فولى وإن له لزئيرا، أقول: تصدع الجبال منه. قال فما زال كذلك يصلي حتى كان عند الصبح جلس، فحمد الله تعالى بمحامد لم أسمع بمثلها، ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار، ومثلي يصغر أن يجترئ أن يسألك الجنة، قال: ثم رجع وأصبح كأنه بات على الحشايا، وأصبحت وبي من الفترة شيء الله به عالم".
[*] (وقال يونس بن عبيد: "إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن في نفسي منها واحدة".
وقال محمد بن واسع: "لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد يجلس إلى".
[*] (وذكر ابن أبى الدنيا عن الخلد بن أيوب قال: "كان راهب في بنى إسرائيل فى صومعة منذ ستين سنة. فأتِيَ في منامه. فقيل له: إن فلانا الإسكافي خير منك- ليلة بعد ليلة- فأتى الإسكافي، فسأله عن عمله. فقال: إني رجل لا يكاد يمر بى أحد إلا ظننته أنه فى الجنة وأنا فى النار، ففضل على الراهب بإزرائه على نفسه".
[*] (وذكر داود الطائي عند بعض الأمراء؛ فأثنوا عليه فقال: "لو يعلم الناس بعض ما نحن فيه ما ذل لنا لسان بذكر خير أبدا".
[*] (وقال أبو حفص: "من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات ولم يخالفها في جميع الأحوال، ولم يجرها إلى مكروهها فى سائر أوقاته، كان مغرورا، ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها".
(وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
ومقت النفس في ذات الله من صفات الصديقين، ويدنو العبد به من الله سبحانه في لحظة واحدة أضعاف أضعاف ما يدنو به بالعمل.(5/427)
[*] (ذكر ابن أبي الدنيا عن مالك بن دينار قال: "إن قوما من بني إسرائيل كانوا في مسجد لهم في يوم عيد، فجاء شاب حتى قام على باب المسجد، فقال: ليس مثلي يدخل معكم، أنا صاحب كذا، أنا صاحب كذا؛ يزري على نفسه، فأوحى الله عز وجل إلى نبيهم: إن فلانا صديق".
[*] (وأورد الإمام أحمد عن وهب: "أن رجلا سائحا عبد الله عز وجل سبعين سنة. ثم خرج يوما فقلل عمله وشكا إلى الله تعالى منه. واعترف بذنبه فأتاه آت من الله عز وجل فقال: إن مجلسك هذا أحب إلي من عملك فيما مضى من عمرك".
قال أحمد: وحدثنا عبد الصمد، أبو هلال، عن قتادة قال: قال عيسى ابن مريم عليه السلام: "سلوني، فإني لين القلب، صغير عند نفسي".
[*] (وذكر أحمد أيضا عن عبد الله بن رباح الأنصاري قال "كان داود عليه السلام ينظر أغمص حلقة في بني إسرائيل فيجلس بين ظهرانيهم، ثم يقول: يا رب مسكين بين ظهراني مساكين".
[*] (وذكر عن عمران بن موسى القصير قال: قال موسى عليه السلام: "يا رب أين أبغيك؟ قال: ابغنى عند المنكسرة قلوبهم، فإني أدنو منهم كل يوم باعا، ولولا ذلك انهدموا".
[*] (وفى كتاب الزهد للإمام أحمد: "أن رجلا من بنى إسرائيل تعبد ستين سنة في طلب حاجة. فلم يظفر بها. فقال في نفسه: والله لو كان فيك خير لظفرت بحاجتك، فأتى في منامه، فقيل له: أرأيت ازدراءك على نفسك تلك الساعة؟ فإنه خير من عبادتك تلك السنين".
(ومن فوائد محاسبة النفس: أنه يعرف بذلك حق الله تعالى عليه. ومن لم يعرف حق الله تعالى عليه فإن عبادته لا تكاد تجدي عليه، وهى قليلة المنفعة جدا.
[*] (أورد الإمام أحمد عن وهب قال: "بلغني أن نبي الله موسى عليه السلام مر برجل يدعو ويتضرع، فقال: يا رب ارحمه، فإني قد رحمته، فأوحى الله تعالى إليه: لو دعاني حتى تنقطع قواه ما استجيب له حتى ينظر في حقي عليه".
فَمِنْ أنفع ما للقلب النظر في حق الله على العبد. فإن ذلك يورثه مقت نفسه، والإزدراء عليها، ويخلصه من العجب ورؤية العمل، ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي الله، واليأس من نفسه، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته، فإن من حقه «أن يطاع ولا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر».
فمن نظر في هذا الحق الذي لربه عليه علم عِلْمَ اليقين أنه غير مؤد له كما ينبغي، وأنه «لا يسعه إلا العفو والمغفرة»، وأنه إن أحيل على عمله هلك.(5/428)
فهذا محل نظر أهل المعرفة بالله تعالى وبنفوسهم، وهذا الذي أيأسهم من أنفسهم، وعلق رجاءهم كله بعفو الله ورحمته.
وإذا تأملت حال أكثر الناس وجدتهم بضد ذلك، ينظرون في حقهم على الله، ولا ينظرون في حق الله عليهم. ومن هاهنا انقطعوا عن الله، وحجبت قلوبهم عن معرفته، ومحبته، والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره، وهذا غاية جهل الإنسان بربه وبنفسه.
فمحاسبة النفس هو نظر العبد في حق الله عليه أولا، ثم نظره هل قام به كما ينبغي ثانيا؟ وأفضل الفكر الفكر في ذلك؛ فإنه يُسَيِّر القلبَ إلى الله ويطرحه بين يديه ذليلا خاضعًا منكسراً كسراً فيه جبره، ومفتقرًا فقراً فيه غناه. وذليلاً ذلاً فيه عزه، ولو عمل من الأعمال ما عساه أن يعمل؛ فإذا فاته هذا فالذي فاته من البر أفضل من الذي أتى.(5/429)
(إخواني حاسبوا أنفسكم قبل الحساب، وأعدوا للسؤال جواب، وللجواب صواب، واحفظوا بالتقوى بِتَقْوَى اللهِ الملك العَلام الحَيِّ القَيُّومِ الذي لا يَنَامُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَحْسَنَ فَعَلَيْهِ بالتمام، وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ أساء فَلْيَخْتِم بالحسنى، فالعمل بالختام، أَما أَوضح لكم الطريق المُوصِلَ إلى دَارِ السلام، أَما بعث إليكم مُحَمَّدًا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لتبليغ الشَّرَائِعَ وَالأحْكَامِ، أَما أَنْزَلَ عَلَيْهِ الذِّكْرَ لِيُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا أَوْدَعَهُ فِيهِ مِنْ الأَحْكَام، أَمَا دَعَاكُمْ إِلى التَّوَكّلِ عَلَيْهِ وَالاعْتِصَامِ، أَمَّا حَثَّكُم إلى العَمَلَ فِيمَا يُقَرِّبُ إلى دَارِ السَّلامِ، أَمَّا حَذَّرَكُمْ عَوَاقِبَ مَعَاصِيهِ وَنَهَاكُمْ عَنْ الآثَامِ، أَمَا أنْذَركُم هَوْلَ يَوْمٍ أَطْوَلَ الأَيَّامِ، اليَوْمُ الذي يَشِيبُ فِيهِ الوِلْدَانْ، وَتَنْفَطِرُ فِيهِ السَّمَاءُ، وَتَنْكَدِرُ فِيهِ النُّجُومِ، وَتَظْهَرُ فِيهِ أَمُورٌ عِظَامٌ، أَمَّا خَوَّفكمُ مَوَارِدُ الحَمَامِ، أَمَا ذَكَّرَكُمْ مَصَارِعَ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ الأَنَامِ، أَمَا أَمَدَّكُم بالأبْصَارِ وَالأَسْمَاعِ وَصِحَّةِ الأَجْسَامِ، أَمَا وَعَدَكَمُ بِقَبُولِ تَوْبَةِ التَّائِبِينَ رَحْمَةً مِنْهُ جَرَتْ بِهِ الأَقْلامُ، فَوَاللهِ لَحُقَّ لِهَذَا الرَّبِ العَظِيمِ أَنْ يُطَاعَ فَلا يُعْصَى عَلَى الدَّوَامِ، فَيَا أَيُّهَا الشُّيُوخُ بَادِرُوا فَمَا لِلزرْعِ إِذَا أَحْصَدَ إلا الصِّرَامُ، وَيَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ جُدُّوا في العَمَلِ فُرَبُّ امْرئٍ مَا بَلَغَ التَّمَامَ، وَاحْذَرُوا عِقَابَ رَبِّكُم يَوْمَ يُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ.
(لله درُ أقوامٍ حبسوا النفوس في سجن المحاسبة، وبسطوا عليها ألسن المعاتبة، ومدوا نحوها أكف المعاقبة، وتحق لمن بين يديه المناقشة والمطالبة، فارتفعت بالمعاتبة عيوبهم.
(مخاطرُ ترك المحاسبة:
إن غياب محاسبة النفس نذير غرق العبد في هواه، وما أردى الكفار في لجج العمى إلا ظنهم أنهم يمرحون كما يشتهون بلا رقيب، ويفرحون بما يهوون بلا حسيب، قال سبحانه عنهم: إِنَّهُم كَانُواْ لا يَرجُونَ حِسَاباً [النبأ:27](5/430)
والاطلاع على عيب النفس ونقائصها ومثالبها يلجمها عن الغي والضلال، ومعرفة العبد نفسه وأن مآله إلى القبر يورثه تذللاً وعبودية لله، فلا يُعجب بعمله مهما عظم، ولا يحتقر ذنباً مهما صغر، يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: (لا يتفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتاً) [أخرجه عبد الرزاق في المصنف:11/ 255، وابن أبي شيبة في المصنف:7/ 110)، والطبري في تفسيره:1/ 258، وأبو نعيم في الحلية:1/ 211]
يُحكى أن رجلاً كان يحاسب نفسه، فحسب يوماً سني عمره، فوجدها ستين سنة. فحسب أيامها، فوجدها واحداً وعشرين ألف يوم وخمسمائة يوم.
فصرخ صرخة، و خرّ مغشياً عليه. فلما أفاق قال: يا ويلتاه، أنا آتي ربي بواحد وعشرين ألف ذنب وخمسمائة ذنب؟!
يقول هذا لو كان يقترف ذنباً واحداً في كل يوم، فكيف بذنوب كثيرة لا تحصي؟
ثم قال: آه عليّ، عمرت دنياي، وخربت أخراي، وعصيت مولاي، ثم لا أشتهي النقلة من العمران إلى الخراب. وأنشد:
منازل دنياك شيّدتها ... وخرّبت دارك في الآخرة
فأصبحت تكرهها للخراب ... وترغب في دارك العامرة
(أخي الحبيب: إذا جالست الناس فكن واعظاً لقلبك، فالخلق يراقبون ظاهرك، والله يراقب باطنك، ومن صحح باطنه في المراقبة والإخلاص زين الله ظاهره في المجاهدة والفلاح. والتعرف على حق الله وعظيم فضله ومنه وتذكر كثرة نعمه وآلائه يطأطىء الرأس للجبار جل وعلا، ويدرك المرء معه تقصيره على شكر النعم، وأنه لا نجاة إلا الرجوع إليه، وأن يطاع فلا يعصى، وأن يشكر فلا يكفر.
وإن أضرَّ ما على المكلف إهمال النفس وترك محاسبتها والاسترسال خلف شهواتها حتى تهلك، وهذا حال أهل الغرور الذين يغمضون عيونهم عن المعاصي ويتكلون على العفو، وإذا فعلوا ذلك سهُلت عليهم مواقعة الذنوب والأنس بها والله يقول: يَأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ [الانفطار:6]، يقول الحسن البصري رحمه الله: (لا يليق بالمؤمن إلا أن يعاتب نفسه فيقول لها: ماذا أردت بكلمتي؟ ماذا أردت بأكلتي؟ وأما الفاجر فيمضي قدماً لا يعاقب نفسه) [أخرجه أحمد في الزهد:281، وعزاه في الدر المنثور:8/ 343 إلى عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس].(5/431)
فالمؤمن قَوَّامٌ على نفسه يحاسبها، قال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُم طَائِفٌ مِّنَ الشَّيطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبصِرُونَ [الأعراف:201] وإنما خف الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وشق الحساب على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة، فتوق الوقوع في الزلة، فترك الذنب أيسر من طلب التوبة، وأنبها على التقصير في الطاعات، فالأيام لا تدوم، ولا تعلم متى تكون عن الدنيا راحلاً، وخاطب نفسك قائلا: ماذا قَدَّمَت في عام أدبر؟ وماذا أعددت لعام أقبل؟ يقول الفاروق رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا) [أخرجه ابن المبارك في الزهد:103، وابن أبي شيبة في المصنف:7/ 96، وأبو نعيم في الحلبة:1/ 52، وعلق بعضه الترمذي في الرقاق:2459 بنحوه، وأورده الألباني في السلسلة الضعيفة:1201]
(أخي الحبيب: انتبه أخي من غفلتك وأفق من سُباتك العظيم فالليل والنهار يباعدان من الدنيا ويقربان إلى الآخرة، فكيف بك إذا دق ناقوس الرحيل، وتهيأ الركب للمسير، فوضعوا الزاد، وملئت المزاد، أترضى أن تكون رفيق قومٍ لهم زادٌ وأنت بغير زاد، فطوبى لعبد انتفع بعمره، وحاسب نفسه محاسبةَ الشريك الشحيح على ما مضى، فكل يوم تغرب فيه شمسه ينذرك بنقصان عمرك، والعاقل من اتعظ بأمسه، واجتهد في يومه، واستعد لغده، فخذ الأهبة لآزف النقلة، وأعد الزاد لقرب الرحلة، وخير الزاد التقوى، وأعلى الناس عند الله منزلة أخوفهم منه. سبحانه.
يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَلتَنظُر نَفسٌ مَّا قَدَّمَت لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِير بِمَا تَعمَلُونَ [الحشر:18]
(أخي الحبيب: إن الليل و النهار رأس مال المؤمن؛ ربحها الجنة، وخسرانها النار. والسنة شجرة: الشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمارها. فمن كانت أنفاسه في طاعة؛ فثمرته شجرة طيبة، ومن كانت أنفاسه في في معصية؛ فثمرته حنظل والعياذ بالله، ومن زرع الشوك لا يجني عنباً.
[*] قال ابن مسعود رضي رضي الله عنه: إنكم في ممر من الليل والنهار، في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة. فمن يزرع خير فيوشك أن يحصد رغبة، ومن زرع شراً فيوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارع ما زرع.(5/432)
[*] قال الحسن رحمه الله تعالى: ابن آدم، إنك بين مطيتين يوضعانك: الليل إلى النهار، والنهار إلى الليل، حتى يسلمانك إلى الآخرة. فمن أعظم خطراً منك؟.
ياهذا، إنك لم تزل في هدم عمرك منذ خرجت من بطن أمك. وإنما أنت أيام معدودة، كلما ذهب يوم ذهب بعضك.
[*] وسأل الفضيل رجلاً: كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة. فقال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك، ويوشك أن تبلغ. فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون.
[*] وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: ويحك يا يزيد، من ذا الذي يصلي عنك بعد الموت؟ من ذا الذي يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا الذي يرضي ربك عنك بعد الموت؟ ثم يقول: أيها الناس، ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟.
ولله در القائل:
إذا كنت أعلم علماً يقيناً ... بأن جميع حياتي كساعة
فلم لا أكون ضنيناً بها ... وأجعلها في صلاح وطاعة؟
طوبى لمن سمع ووعى، وحقق ما ادَّعى، ونهى النفس عن الهوى، وعلم أن الفائز من ارعوى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، اللَّهُمَّ يا فالقَ الحب والنَّوَى، يا مُنْشِئَ الأجْسَادِ بَعْدَ البلَى , وفقنا لحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى وأن نتذكر الموت والبلى فنستحي من الله حق الحيا.
(والمحاسبة تصدر من التأمل في هذه النصوص:
قال تعالى: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النّاسُ أَشْتَاتاً لّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرّةٍ خَيْراً يَرَهُ) [الزلزلة 6: 7]
والمحاسبة انطلاقاً من آثار قوله تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلّ نَفْسٍ مّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدّ لَوْ أَنّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً وَيُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ) [آل عمران: 30]
والمحاسبة تنطلق من الإيمان باليوم الآخر وأن الله يحاسب فيه الخلائق وقد حذرنا الله ذلك اليوم فقال تعالى: (وَاتّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمّ تُوَفّىَ كُلّ نَفْسٍ مّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281](5/433)
والمحاسبة تنطلق من الإيمان بأسماء الله وصفاته وأنه تعالى الرقيب المهيمن المطّلع على ما تعمل كل نفس وأنه شهيد على أعمالنا فهو الشهيد على أعمال عباده، جعل علينا كراماً كاتبين يحصون أعمالنا قال تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَوَيْلَتَنَا مَا لِهََذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبّكَ أَحَداً) [سورة: الكهف - الأية: 49]
والمحاسبة تنطلق من إيمان الإنسان بالهدف، بالغرض، أن يعلم أنه لأي شيء خُلِق قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ) [المؤمنون: 115]
قال تعالى: (أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى) [القيامة: 36]
(ومحاسبة النفس طريقة المؤمنين وسمة الموحدين وعنوان الخاشعين، فالمؤمن متق لربه محاسب لنفسه مستغفر لذنبه، يعلم أن النفس خطرها عظيم، وداؤها وخيم، ومكرها كبير وشرها مستطير، فهي أمارة بالسوء ميالة إلى الهوى، داعية إلى الجهل، قائدة إلى الهلاك، توّاقة إلى اللهو إلا من رحم الله، فلا تُترك لهواها لأنها داعية إلى الطغيان، من أطاعها قادته إلى القبائح، ودعته إلى الرذائل، وخاضت به المكاره، تطلعاتها غريبة، وغوائلها عجيبة، ونزعاتها مخيفة، وشرورها كثيرة، فمن ترك سلطان النفس حتى طغى فإن له يوم القيامة مأوىً من جحيم قال تعالى: (فَأَمّا مَن طَغَىَ * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا * فَإِنّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىَ * وَأَمّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النّفْسَ عَنِ الْهَوَىَ * فَإِنّ الْجَنّةَ هِيَ الْمَأْوَىَ) [النازعات 37: 41]
(فوائد محاسبة النفس:
ولمحاسبة النفس فوائد عظيمة ومزايا جسيمة منها ما يلي:
(1) الاطلاع على عيوب نفسه: ومن لم يطلع على عيوب نفسه لم يمكنه إزالتها، والمرء حين يطّلع على عيوب نفسه يكتشف أشياء تدهشك ولا يفقه الرجل حتى يمقت نفسه ويحتقرها في جنب الله.
[*] قال أبو الدرداء: " لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون أشد لها مقتاً ".
[*] وكان بعض السلف يقول في دعائه في عرفة (اللهم لا ترد الناس لأجلي)!،
[*] وقال محمد بن واسع: لو كان للذنوب ريحٌ ما قدر أحد أن يجلس إلىّ.
مع أنه من كبار العباد في هذه الأمة.(5/434)
[*] قال يونس بن عبيد: " إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن في نفسى منها واحدة ".
[*] دخل حمّاد بن سلمة على سفيان الثوري وهو يحتضر فقال: (يا أبا عبد الله أليس قد أمنت مما كنت تخافه وتقدم على من ترجوه وهو أرحم الراحمين؟!) قال: (يا أبا سلمة أتطمع لمثلي أن ينجو من النار) قال: (إي والله إني لأرجو لك ذلك).
[*] وقال جعفر بن زيد: (خرجنا في غزاة إلى كابل وفي الجيش صلة بن أشيم فنزل الناس عند العتمة فصلوا ثم اضطجع فقلت: لأرمقنّ عمله، فالتمس غفلة الناس فانسلّ وثبا فدخل غيظة (مجموعة أشجار ملتفة) قريب منا، فدخلت على أثره فتوضأ ثم قام يصلي فجاء أسد حتى دنا منه فصعدت في شجرة فتراه التفت إليه أو عدّه جرو! فلما سجد قلت الآن يفترسه فجلس ثم سلّم ثم قال: (أيها السبع اطلب الرزق من مكان آخر)، فولّى وإن له زئيراً، فمازال كذلك يصلي حتى كان الصبح فجلس يحمد الله وقال: (اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار ومثلي يستحي أن يسألك الجنة)! ثم رجع وأصبح وكأنه بات على حشاياً، أما أنا فأصبح بي ما الله به عليم من هول ما رأيت!
[*] وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (اللهم اغفر لي ظلمي وكفري)، فقال قائل: (يا أمير المؤمنين هذا الظلم فما الكفر؟) قال: (إن الإنسان لظلوم كفّار)، فإذا تمعّن الإنسان حال السلف عرف حاله والبعد الشديد مابينه وبينهم.
(2) مقارنة حال بحال فينكشف التقصير العظيم.
(أوما علمت أنه لا سكون للخائف، ولا قرار للعارف، كلما ذكر العارف تقصيره ندم على مصابه، وإذا تصور مصيره حذر مما في كتابه، وإذا خطر العتاب بفنائه فالموت من عتابه، فهو رهين القلق بمجموع أسبابه.
(عجبت لنفوسٍ تعرف حقائق المصير، ولا تعرف عوائق التقصير، كيف رضيت بالزاد اليسير، وقد علمت طول المسير، أم كيف أقبلت على التبذير، وقد حُذِّرَتْ غاية التحذير، أما تخاف زَلَلَ التعثير إذا حوسبت على القليل والكثير.
(يا مفرطاً في ساعاته بالليل والنهار، لو علمت ما فات شابهت دموعك الأنهار، يا طويل النوم عُدِمْتَ خيرات الأسحار، لو رأى طرفك ما نال الأبرار، حار يا مخدوعاً بالهوى ساكناً في دار، قد حام حول ساكنها طارق الفناء ودار، سار الصالحون فاجتهد في اتباع الآثار، واذكر بظلام الليل ظلام القبر وخلو الديار، وحارب عدواً قد قتلك بالهوى واطلب الثار، فقد أريتك طريقاً إن سلكتها أمنت العثار، فإن فزت بالمراد فالصيد لمن أثار.(5/435)
(3) ومن التفكر في العيوب أن الإنسان ينظر في عمله ما دخل عليه فيه من العُجب والغرور فيرى نفس كاد أن يهلك ومهما عمل فهو مقصِّر.
(4) أن يخاف الله عز وجل.
(5) ومما يعين على المحاسبة استشعار رقابة الله على العبد وإطلاعه على خفاياه وأنه لا تخفى عليه خافية قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق: 16]
وقال تعالى: (وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِيَ أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [البقرة: 235]
وما أردى الكفار في لجج العمى إلا ظنهم أنهم يمرحون كما يشتهون بلا رقيب، ويفرحون بما يهوون بلا حسيب، قال سبحانه عنهم: إِنَّهُم كَانُواْ لا يَرجُونَ حِسَاباً [النبأ:27]
(6) ومن فوائد المحاسبة التفكر في الأسئلة يوم القيامة وأن تعلم أنك مسئول يوم القيامة، ليس سؤال المذنبين فقط، قال تعالى: (لّيَسْأَلَ الصّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً) [الأحزاب: 8]
وإذا كان الصادقين سيسألهم الله عن صدقهم فما بالك بغيرهم؟! قال تعالى: (فَلَنَسْأَلَنّ الّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنّ الْمُرْسَلِينَ) [الأعراف: 6] وحتى الرسل يُسألون .. !!!
(7) ومن فوائد المحاسبة أن يعرف حق الله تعالى عليه، فإن ذلك يورثه مقت نفسه، والإزراء عليها ويخلصه من العجب ورؤية العمل، ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدى ربه، واليأس من نفسه، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته، فإن من حقه أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا يُنسى وأن يُشكر فلا يُكفر.
(أركان المحاسبة:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
قال صاحب المنازل "المحاسبة لها ثلاثة أركان:
أحدها: أن تقايس بين نعمته وجنايتك".
يعني تقايس بين ما من الله وما منك فحينئذ يظهر لك التفاوت وتعلم أنه ليس إلا عفوه ورحمته أو الهلاك والعطب.(5/436)
وبهذه المقايسة تعلم أن الرب رب والعبد عبد ويتبين لك حقيقة النفس وصفاتها وعظمة جلال الربوبية وتفرد الرب بالكمال والإفضال وأن كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل وأنت قبل هذه المقايسة جاهل بحقيقة نفسك وبربوبية فاطرها وخالقها فإذا قايست ظهر لك أنها منبع كل شر وأساس كل نقص وأن حدها الجاهلة الظالمة وأنه لولا فضل الله ورحمته لتزكيته لها ما زكت أبدا ولولا هداه ما اهتدت ولولا إرشاده وتوقفه لما كان لها وصول إلى خير البتة وأن حصول ذلك لها من بارئها وفاطرها وتوقفه عليه كتوقف وجودها على إيجاده فكما أنها ليس لها
من ذاتها كمال الوجود فليس لها من ذاتها إلا العدم عدم الذات وعدم الكمال فهناك تقول حقا "أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبي".
ثم تقايس بين الحسنات والسيئات فتعلم بهذه المقايسة أيهما أكثر وأرجح قدرا وصفة.
وهذه المقايسة الثانية مقايسة بين أفعالك وما منك خاصة.
قال: "وهذه المقايسة تشق على من ليس له ثلاثة أشياء نور الحكمة وسوء الظن بالنفس وتمييز النعمة من الفتنة".
يعني أن هذه المقايسة والمحاسبة تتوقف على نور الحكمة وهو النور الذي نور الله به قلوب أتباع الرسل وهو نور الحكمة فبقدره ترى التفاوت وتتمكن من المحاسبة.
ونور الحكمة ههنا: هو العلم الذي يميز به العبد بين الحق والباطل والهدى والضلال والضار والنافع والكامل والناقص والخير والشر ويبصر به مراتب الأعمال راجحها ومرجوحها ومقبولها ومردودها وكلما كان حظه من هذا النور أقوى كان حظه من المحاسبة أكمل وأتم.
وأما سوء الظن بالنفس: فإنما احتاج إليه لأن حسن الظن بالنفس يمنع من كمال التفتيش ويلبس عليه فيرى المساويء محاسن والعيوب كمالا فإن المحب يرى مساويء محبوبه وعيوبه كذلك.
فعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا
ولا يسيء الظن بنفسه إلا من عرفها ومن أحسن ظنه بنفسه فهو من أجهل الناس بنفسه.
وأما تمييز النعمة من الفتنة فليفرق بين النعمة التي يرى بها الإحسان واللطف ويعان بها على تحصيل سعادته الأبدية وبين النعمة التي يرى بها الاستدراج فكم من مستدرج بالنعم وهو لا يشعر مفتون بثناء الجهال عليه مغرور بقضاء الله حوائجه وستره عليه وأكثر الخلق عندهم أن هذه الثلاثة علامة السعادة والنجاح ذلك مبلغهم من العلم.(5/437)
فإذا كملت هذه الثلاثة فيه عرف حينئذ أن ما كان من نعم الله عليه بجمعه على الله فهو نعمة حقيقة وما فرقه عنه وأخذه منه فهو البلاء في صورة النعمة والمحنة في صورة المنحة فليحذر فإنما هو مستدرج ويميز بذلك أيضا بين المنة والحجة فكم تلتبس إحداهما عليه بالأخرى!.
فإن «العبد بين مِنَّةٍ من الله عليه وحجةٍ مِنْه عليه» ولا ينفك عنهما فالحكم الديني متضمن لمنته وحجته قال تعالى {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164] وقال تعالى {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} [الحجرات: 17]
وقال تعالى: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149].
والحكم الكوني أيضا متضمن لمنته وحجته فإذا حكم له كونا حكما مصحوبا باتصال الحكم الديني به فهو مِنَّة عليه وإن لم يصحبه الديني فهو حجة مِنْه عليه.
وكذلك حكمه الديني إذا اتصل به حكمه الكوني فتوفيقه للقيام به منة منه عليه وإن تجرد عن حكمه الكوني صار حجة منه عليه فالمنة: باقتران أحد الحكمين بصاحبه والحجة في تجرد أحدهما عن الآخر فكل علم صحبه عمل يرضى الله سبحانه فهو منة وإلا فهو حجة.
وكل قوة ظاهرة وباطنة صحبها تنفيذ لمرضاته وأوامره فهي منة وإلا فهي حجة.
وكل حال صحبه تأثير في نصرة دينه والدعوة إليه فهو منة منه وإلا فهو حجة.
وكل مال اقترن به إنفاق في سبيل الله وطاعته لا لطلب الجزاء ولا الشكور فهو منة من الله عليه وإلا فهو حجة.
وكل فراغ اقترن به اشتغال بما يريد الرب من عبده فهو منة عليه وإلا فهو حجة.
وكل قبول في الناس وتعظيم ومحبة له اتصل به خضوع للرب وذل وانكسار ومعرفة بعيب النفس والعمل وبذل النصيحة للخلق فهو منة وإلا فهو حجة.
وكل بصيرة وموعظة وتذكير وتعريف من تعريفات الحق سبحانه إلى العبد اتصل به عبرة ومزيد في العقل ومعرفة في الإيمان فهي منة وإلا فهي حجة.
وكل حال مع الله تعالى أو مقام اتصل به السير إلى الله وإيثار مراده على مراد العبد فهو منة من الله وإن صحبه الوقوف عنده والرضا به وإيثار مقتضاه من لذة النفس به وطمأنيتها إليه وركونها إليه فهو حجة من الله عليه.(5/438)
فليتأمل العبد هذا الموضع العظيم الخطر ويميز بين مواقع المنن والمحن والحجج والنعم فما أكثر ما يلتبس ذلك على خواص الناس وأرباب السلوك 2:213 {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213].
الركن الثاني من أركان المحاسبة:
وهي أن تميز ما للحق عليك من وجوب العبودية والتزام الطاعة واجتناب المعصية وبين ما لك وما عليك فالذي لك: هو المباح الشرعي فعليك حق ولك حق فأد ما عليك يؤتك ما لك.
ولا بد من التمييز بين ما لك وما عليك وإعطاء كل ذي حق حقه.
وكثير من الناس يجعله كثيرا مما عليه من الحق من قسم ماله فيتحير بين فعله وتركه وإن فعله رأى أنه فضل قام به لاحق أداه.
وبإزاء هؤلاء من يرى كثيرا مما له فعله وتركه من قسم ما عليه فعله أو تركه فيتعبد بترك ما له فعله كترك كثير من المباحات ويظن ذلك حقا عليه أو يتعبد بفعل ما له تركه ويظن ذلك حقا عليه.
مثال الأول: من يتعبد بترك النكاح أو ترك أكل اللحم أو الفاكهة مثلا أو الطيبات من المطاعم والملابس ويرى لجهله أن ذلك مما عليه فيوجب على نفسه تركه أو يرى تركه من أفضل القرب وأجل الطاعات وقد أنكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على من زعم ذلك ففي الصحيح "أن نفرا من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سألوا عن عبادته في السر؟ فكأنهم تقالوها فقال أحدهم: أما أنا فلا آكل اللحم وقال الآخر أما أنا فلا أتزوج النساء وقال الآخر أما أنا فلا أنام على فراش فبلغ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقالتهم فخطب وقال: ما بال أقوام يقول أحدهم: أما أنا فلا آكل اللحم ويقول الآخر أما أنا فلا أتزوج ويقول الآخر: أما أنا فلا أنام على فراش؟ لكني أتزوج النساء وآكل اللحم وأنام وأقوم وأصوم وأفطر فمن رغب عن سنتي فليس مني" فتبرأ ممن رغب عن سنته وتعبد لله بترك ما أباحه لعباده من الطيبات رغبة عنه واعتقادا أن الرغبة عنه وهجره عبادة فهذا لم يميز بين ما عليه وما له.
ومثال الثاني: من يتعبد بالعبادات البدعية التي يظنها جالبة للحال والكشف والتصرف ولهذه الأمور لوازم لا تحصل بدونها البتة فيتعبد بالتزام تلك اللوازم فعلا وتركا ويراها حقا عليه وهي حق له وله تركها كفعل الرياضات والأوضاع التي رسمها كثير من السالكين بأذواقهم ومواجيدهم واصطلاحاتهم من غير تمييز بين ما فيها من حظ العبد والحق الذي عليه فهذا لون وهذا لون.
(ومن أركان المحاسبة: ما ذكره صاحب المنازل فقال:(5/439)
"الثالث أن تعرف أن كل طاعة رضيتها منك فهي عليك وكل معصية عيرت بها أخاك فهي إليك".
رضاء العبد بطاعته دليل على حسن ظنه بنفسه وجهله بحقوق العبودية وعدم عمله بما يستحقه الرب جل جلاله ويليق أن يعامل به.
وحاصل ذلك: أن جهله بنفسه وصفاتها وآفاتها وعيوب عمله وجهله بربه وحقوقه وما ينبغي أن يعامل به يتولد منهما رضاه بطاعته وإحسان ظنه بها ويتولد من ذلك: من العجب والكبر والآفات ما هو أكبر من الكبائر الظاهرة من الزنا وشرب الخمر والفرار من الزحف ونحوها.
«فالرضا بالطاعة من رعونات النفس وحماقتها».
«وأرباب العزائم والبصائر أشد ما يكونون استغفارا عقيب الطاعات لشهودهم تقصيرهم فيها وترك القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه» وأنه لولا الأمر لما أقدم أحدهم على مثل هذه العبودية ولا رضيها لسيده.
وقد أمر الله تعالى وفده وحجاج بيته بأن يستغفروه عقيب إفاضتهم من عرفات وهو أجل المواقف وأفضلها فقال 2:198، 199 {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ، ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة / 198،199] وقال تعالى {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران: 17]
قال الحسن: "مدوا الصلاة إلى السحر ثم جلسوا يستغفرون الله عز وجل" وفي الصحيح "أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثا ثم قال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام" وأمره الله تعالى بالاستغفار بعد أداء الرسالة والقيام بما عليه من أعبائها وقضاء فرض الحج واقتراب أجله فقال في آخر سورة أنزلت عليه {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}.(5/440)
ومن ههنا فهم عمر وابن عباس رضي الله عنهم أن هذا أجَلُ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلمه به فأمره أن يستغفره عقيب أداء ما كان عليه «فكأنه إعلام بأنك قد أديت ما عليك ولم يبق عليك شيء فاجعل خاتمته الاستغفار» كما كان خاتمة الصلاة والحج وقيام الليل وخاتمة الوضوء أيضا أن يقول بعد فراغه "سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين".
(الأسباب المعينة على محاسبة النفس:
هناك أسباب تعين الإنسان على محاسبة نفسه وتسهل عليه ذلك منها:
(1) معرفته أنه كلما اجتهد في محاسبة نفسه اليوم استرح من ذلك غداً، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غداً.
(2) معرفته أن ربح محاسبة النفس ومراقبتها هو سكنى الفردوس، والنظر إلى وجه الرب سبحانه، ومجاورة الأنبياء والصالحين وأهل الفضل.
(3) النظر فيما يؤول إليه ترك محاسبة النفس من الهلاك والدمار، ودخول النار والحجاب عن الرب تعالى ومجاورة أهل الكفر والضلال والخبث.
(4) صحبة الأخيار الذين يحاسبون أنفسهم ويطلعونه على عيوب نفسه، وترك صحبة من عداهم.
(5) النظر في أخبار أهل المحاسبة والمراقبة من سلفنا الصالح.
(6) زيارة القبور والتأمل في أحوال الموتى الذين لا يستطيعون محاسبة أنفسهم أو تدرك ما فاتهم.
(7) حضور مجالس العلم والوعظ والتذكير فإنها تدعو إلى محاسبة النفس.
(8) قيام الليل وقراءة القرآن والتقرب إلى الله تعالى بأنواع الطاعات.
(9) البعد عن أماكن اللهو والغفلة فإنها تنسي الإنسان محاسبة نفسه.
(10) ذكر الله تعالى ودعاؤه بأن يجعله من أهل المحاسبة والمراقبة، وأن يوفقه لكل خير.
(11) سوء الظن بالنفس ومقتها في جنب الله تعالى، فإن حسن الظن بالنفس ينسي محاسبة النفس، وربما رأى الإنسان ـ بسب حسن ظنه بنفسه ـ عيوبه ومساوئه كمالاً.
(11) الخشوع في الصلاة:
إن من أهم الأسباب الجالبة للبكاء من خشية الله الخشوع في الصلاة وهاك صفوة مسائل الخشوع في الصلاة.
[*] (تعريف الخشوع:
(فضل الخشوع:
(حكم الخشوع:
(محل الخشوع:
(إخفاء الخشوع:
(الطرق الموصلة الخشوع:
(نماذج من خشوع السلف:
[*] (تمام الخشوع:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
[*] (تعريف الخشوع:
(الخشوع في اللغة:
هو الخضوع والسكون. قال: {وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً}
[طه: 108] أي سكنت.
(والخشوع في الاصطلاح:(5/441)
هو حضور القلب وخضوعه وانكساره بين يدي الله تعالى.
[*] قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله:
"أصل الخشوع لين القلب ورقنه وسكونه وخضوعه وانكساره وحرقته، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء، لأنها تابعة له " [الخشوع لابن رجب، ص17] فالخشوع محله القلب ولسانه المعبر هو الجوارح. فمتى اجتمع في قلبك أخي في الله – صدق محبتك لله وأنسك به واستشعار قربك منه، ويقينك في ألوهيته وربوبيته، وحاجتك وفقرك إليه. متى اجتمع في قلبك ذلك ورثك الله الخشوع وأذاقك لذته ونعيمه تثبيتاً لك على الهدى، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17]
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]
فاعلم أخي الكريم – أن الخشوع هو توفيق من الله جل وعلا، يوفق إليه الصادقين في عبادته، المخلصين المخبتين له، العاملين بأمره والمنتهين بنهيه. فمن لم يخشع قلبه بالخضوع لأوامر الله لا يتذوق لذة الخشوع ولا تذرف عيناه الدموع لقسوة قلبه وبعده عن الله. قال تعالى {ِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت:45]،فالذي لن تنهه صلاته عن المنكر لا يعرف إلى الخشوع سبيلاُ، ومن كان حاله كذلك، فإنه وإن صلى لا يقيم الصلاة كما أمر الله جل وعلا، قال تعالى: {َاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]
واعلم أخي المسلم بأن الخشوع واجب على كل مصل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ويدل على وجوب الخشوع قول الله جل وعلا، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2]
[الفتاوى 22/ 254]
(فضل الخشوع:
(1) إن الله سبحانه قد امتدح الخاشعين في مواضع كثيرة من كتابه فقال: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:2،1]،
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
[*] و" الخشوع: هو السكون والطمأنينة والتؤدة والوقار والتواضع والحامل عليه الخوف من الله ومراقبته. " تفسير ابن كثير ط. دار الشعب 6/ 414
وقال: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45]،
وقال: خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً [آل عمران:199]،
وقال: وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]،(5/442)
وقال: وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء:109].
(ولما كان الخشوع صفه يمتدح الله بها عبادة المؤمنين، دل على فضله ومكانته عند الله، ودل على حب الله الأهل الخشوع والخضوع، لأن الله سبحانه لا يمدح أحداً بشيء إلا وهو يحبه ويحب من يتعبده به.
وقد ذكر الله الخاشعين والخاشعات في صفات عباده الأخيار وأخبر أنه أعد لهم مغفرة وأجرا عظيماً
قال تعالى: (إِنّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصّادِقِينَ وَالصّادِقَاتِ وَالصّابِرِينَ وَالصّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدّقِينَ وَالْمُتَصَدّقَاتِ والصّائِمِينَ والصّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذّاكِرِينَ اللّهَ كَثِيراً وَالذّاكِرَاتِ أَعَدّ اللّهُ لَهُم مّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) [الأحزاب / 35]
(ولذ كان من السبعة الذين يُظِلّهُمُ الله في ظِلّهِ ظِلّ إِلاّ ظِلّهُ [وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَهُ]
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (سَبْعَةٌ يُظِلّهُمُ الله في ظِلّهِ ظِلّ إِلاّ ظِلّهُ يَوْمَ لاَ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌ نَشَأَ في ِعِبَادَةِ الله، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلّقٌ في المَسْاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابّا في الله اجْتَمعَا عَلَيه وَتَفَرّقَا عليه، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امرأة ذَاتُ منصبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنّي أَخَافُ الله، وَرَجُلٌ تَصَدّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَهُ)
(ووجه الدلالة من الحديث:
أن الخاشع في صلاته يغلب على حاله البكاء في الخلوة أكثر من غيرها, فكان بذلك ممن يظلهم الله في ظله يوم القيامة.
(ولو لم يكن للخشوع إلا فضل الانكسار بين يدي الله، وإظهار الذل والمسكنة له ,لكفى بذلك فضلاً، وذلك لأن الله جل جلاله إنما خلقنا للعبادة
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات56:]
وأفضل العبادات ما كان فيها الانكسار والذل الذي هو سرها ولبها. ولا يتحقق ذلك إلا بالخشوع.(5/443)
الخشوع: يورث انكساراً بين يدي الرب، وحُرقةً من المعاصي والسيئات؛ لأن القلب إذا خشع سكنت خواطره، وترفعت عن الأمور الدنيئة همته، وتجرد من اتباع الهوى مسلكه،
الخشوع: يجعل العبد ينكسر ويخضع لله، ويزول ما فيه من التعاظم والترفع، والتعالي والترفع، والتعالي والتكبر، وتلك درجات في قلوب الناس تتفاوت بتفاوت الإيمان في قلوبهم، وسيطرة الإسلام على نفوسهم.
الخشوع: هو السكون والطمأنينة والتؤدة والوقار والتواضع والخضوع.
(2) والخشوع علم نافع؛ لأن العلم النافع ما أوجب خشية القلوب، لذا: كان يستعيذ من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، ودعوة لا تُسمع، فإن القلب الذي لا يخشع: علمه لا ينفع، ودعاؤه لا يسمع.
(حديث زيد ابن أرقم في صحيح مسلم) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها.
(وهذا العلم النافع نادر وجوده سريع فقده
فهو أول ما يرفع من الأمة، كما جاء في الحديث الآتي:
(حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع حتى لا ترى فيها خاشعا.
وبذهاب الخشوع تكون العبادة بغير روح، وهذا أمر يورث الخوف على القلب، وتفقده دائماً.
(3) وفضائل الخشوع كثيرة: فهو يقرب القلب من الله، فيمتلئ نوراً، فينتفع صاحبه بآيات الله الشرعية، والكونية، ويكون له في كل نظرة عِبرة، وعَبْرة. ويقي صاحبه من غوائل العجب والغرور والإدلال والرياء. وبه تُستنزل رحمة الله (تعالى)،
وأعظمها: حصول البشرى ((وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ)) [الحج: 34]،
وبه ينال الأجر العظيم، فالخشوع طريق الفلاح الموصل إلى الجنة: ((قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ)) [المؤمنون: 1، 2]، ثم قال: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ * الَذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) [المؤمنون: 10، 11]
(حكم الخشوع:
والراجح في حكم الخشوع أنه واجب.
[*] قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:
قال تعالى: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصّبْرِ وَالصّلاَةِ وَإِنّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة / 45](5/444)
وهذا يقتضي ذم غير الخاشعين .. والذم لا يكون إلا لترك واجب أو فعل محرّم وإذا كان غير الخاشعين مذمومين دلّ ذلك على وجوب الخشوع .. ويدل على وجوب الخشوع فيها أيضا قوله تعالى: (قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون .. - إلى قوله - أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون) أخبر سبحانه وتعالى أن هؤلاء هم الذين يرثون فردوس الجنة وذلك يقتضي أنه لا يرثها غيرهم .. وإذا كان الخشوع في الصلاة واجبا وهو المتضمن للسكون والخشوع (هكذا في الأصل ولعلها الخضوع) فمن نقر نقر الغراب لم يخشع في سجوده وكذلك من لم يرفع رأسه في الركوع ويستقر قبل أن ينخفض لم يسكن لأن السكون هو الطمأنينة بعينها فمن لم يطمئن لم يسكن ومن لم يسكن لم يخشع في ركوعه ولا في سجوده ومن لم يخشع كان آثما عاصيا .. ويدل على وجوب الخشوع في الصلاة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توعد تاركيه كالذي يرفع بصره إلى السماء فإنه حركته ورفعه وهو ضد حال الخاشع ..
[مجموع الفتاوى 22/ 553 - 558]
(محل الخشوع:
محل الخشوع: القلب.
وثمرته: تظهر على الجوارح، ولذا قيل: إذا ضرع القلب، خشعت الجوارح، وذلك لأن القلب مَلِك البدن، وأمير الأعضاء، تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده، فالأعضاء تابعة للقلب فإذا فسد خشوعه بالغفلة والوساوس فسدت عبودية الأعضاء والجوارح فإن القلب كالملك والأعضاء كالجنود له فبه يأتمرون وعن أمره يصدرون فإذا عُزل الملك وتعطّل بفقد القلب لعبوديته ضاعت الرعية وهي الجوارح.
ولهذ قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب.
(حديث النعمان بن بشير الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الحلال بين و الحرام بين و بينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه و دينه و من وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا و إن لكل ملك حمى ألا و إن حمى الله تعالى في أرضه محارمه ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب.
(منزلة الخشوع من الإيمان:(5/445)
الخشوع من الإيمان؛ الذي هو في القلب، وإنما يزيد الإيمان بحياة القلب، وذلك بالاشتغال بالعلم النافع والعمل الصالح، كما أنه ينقص بمرض القلب، ويذهب بموته، وذلك بالانصراف إلى الشبهات والشهوات، فعلى المسلم أن يتعاهد قلبه في جميع أحواله ليدفع عنه القسوة؛ فإنها إذا استبدت به منعته الخشوع.
والله (عز وجل) يريد من عباده الترقي في سُلَّمِ الإيمان، ودرجات اليقين، ولذا: عاتب المؤمنين الذين لم يبلغوا قمة الخشوع؛ حيث تدل حركتهم البطيئة على ضعف لا يرضاه الله للعصبة المؤمنة حاملة المنهج الرباني، لتبليغه للناس كافة؛ عاتبهم فقال: ((أََلَمْ يَاًنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ)) [الحديد: 16]،
وفي الآية تلويح بما كان عليه أهل الكتاب من قسوة أورثتهم الفسق في الأعمال، ومن هنا كان التحذير الشديد من مآلهم، حيث طال عليهم الزمان، واستمرت بهم الغفلة، فاضمحل إيمانهم، وذهب إيقانهم.
وقد رأينا ثمرة هذا الخشوع الإيماني في حياة سيد الخاشعين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي كان له في الانكسار لله (تعالى) والذل بين يديه أكمل الأحوال، فقد رؤي يصلي، وفي صدره أزيز كأزيز الرحى ـ أي الطاحون ـ من البكاء.
(حديث عبد الله بن الشخير الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال: أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي فسمعت لصدره أزيزاً كأزيز المرجل من البكاء.
وكذا صاحبه الصديق (رضي الله عنه) كان وجلاً رقيقاً، إذا صلى أو قرأ القرآن بكى، وأما الفاروق فيكفيك أنه مرض مرة لسماع القرآن وعاده الناس في مرضه لا يدرون ما به!، وقد أصاب سهمٌ أحدَ الصحابة وهو في صلاته فأزاله ورماه وأتمّ صلاته.
ومن السلف من كان يقوم في الصلاة كأنه عمود تقع الطيور على رأسه من شدة سكونه وإطالته، ولهم في ذلك أحوال يطول منها عجبنا؛ لأننا لا نرى ذلك في واقع حياتنا.
(إخفاء الخشوع:
التظاهر بالخشوع ممقوت، ومن علامات الإخلاص: إخفاء الخشوع
كان حذيفة رضي الله عنه يقول: إياكم وخشوع النفاق فقيل له: وما خشوع النفاق قال: أن ترى الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع.
وقال الفضيل بن عياض
:(5/446)
كان يُكره أن يُري الرجل من الخشوع أكثر مما في قلبه. ورأى بعضهم رجلا خاشع المنكبين والبدن فقال: يافلان، الخشوع هاهنا وأشار إلى صدره، لاهاهنا وأشار إلى منكبيه. [المدارج 1/ 521]
[*] وقال ابن القيم رحمه الله تعالى مبيّناً الفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق: " خشوع الإيمان هو خشوع القلب لله بالتعظيم و الإجلال و الوقار و المهابة و الحياء، فينكسر القلب لله كسرة ملتئمة من الوجل و الخجل و الحب و الحياء و شهود نعم الله و جناياته هو، فيخشع القلب لا محالة فيتبعه خشوع الجوارح. و أما خشوع النفاق فيبدو على الجوارح تصنعا وتكلفا والقلب غير خاشع، و كان بعض الصحابة يقول: أعوذ بالله من خشوع النفاق، قيل له: و ما خشوع النفاق؟ قال: أن يرى الجسد خاشعا والقلب غير خاشع. فالخاشع لله عبد قد خمدت نيران شهوته، و سكن دخانها عن صدره، فانجلى الصدر و أشرق فيه نور العظمة فماتت شهوات النفس للخوف و الوقار الذي حشي به و خمدت الجوارح و توقر القلب و اطمأن إلى الله و ذكره بالسكينة التي نزلت عليه من ربه فصار مخبتا له، و المخبت المطمئن، فإن الخبت من الأرض ما اطمأن فاستنقع فيه الماء، فكذلك القلب المخبت قد خشع واطمأن كالبقعة المطمئنة من الأرض التي يجري إليها الماء فيستقر فيها، و علامته أن يسجد بين يدي ربه إجلالا له و ذلا و انكسارا بين يديه سجدة لا يرفع رأسه عنها حتى يلقاه. فهذا خشوع الإيمان، وأما القلب المتكبر فإنه قد اهتز بتكبره و ربا فهو كبقعة رابية من الأرض لا يستقر عليها الماء.
و أما التماوت و خشوع النفاق فهو حال عند تكلف إسكان الجوارح تصنعا و مراءاة و نفسه في الباطن شابة طرية ذات شهوات و إرادات فهو يتخشع في الظاهر و حية الوادي و أسد الغابة رابض بين جنبيه ينتظر الفريسة.
[كتاب الروح ص:314 ط. دار الفكر - الأردن.]
(الطرق الموصلة الخشوع:
إن مما يحصّل به المسلم الخشوع:
(1) تلقي أوامر الله (تعالى) بالقبول والامتثال، وعدم معارضتها بشهوة أو رأي.
(2) الحرص على الإخلاص، وإخفاء الأعمال عن الخلق قدر المستطاع، ومطالعة عيوب النفس ونقائص الأعمال ومفسداتها من الكبر والعجب والرياء وضعف الصدق، والتقصير في إكمال العمل وإتمامه.
(3) الإشفاق من رد الأعمال وعدم قبولها.(5/447)
(4) مشاهدة فضل الله وإحسانه، والحياء منه؛ لإطلاعه على تفاصيل ما في القلوب، وتذكر الموقف والمقام بين يديه، والخوف منه، وإظهار الضعف والافتقار إليه والتعلق به دون غيره.
(5) طلب هدايته وتوفيقه وتسديده.
(6) ومن أعظم الطرق: معرفة الله (جل جلاله) بأسمائه الحسنى وصفاته العلا .. والعلم النافع، وهو: العلم بآيات الله الكونية والشرعية، الذي يربط القلب بالله.
وكذلك الإكثار من ذكر الموت، والجنة والنار، والإكثار من ذكر الله تضرعاً وخِيفة، ودعائه تضرعاً وخُفية، فإن ذلك أعظم إيماناً وأبلغ في الأدب، والتعظيم، والتضرع، والخشوع، والإخلاص، وجمعية القلب على الله تعالى)
ويمكن تحصيل ذلك كله بالإقبال على كتاب الله الكريم، مع تعاهد التلاوة، وإدامة النظر، وطول التأمل وكثرة التدبر، الذي يورث الصلة بالله (تعالى)، والمسارعة في الطاعات، واستباق الخيرات، وهو الأمر الذي لأجله أنزل الله القرآن الكريم.
(آثار الخشوع:
يضفي الخشوع على الأفراد والأمم آثاراً كثيرة، منها:
(1) أنه يبعث الحياة في العمل، فيؤتي ثمرته المرجوة وغايته المقصودة.
(2) أنه يجعل العبادة محببة للنفس، خفيفة غير ثقيلة.
(3) المسارعة إلى الإذعان للحق والدعوة إليه، وبذل غاية الوسع في التعليم والدعوة والتربية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(4) توحيد المشاعر والاتجاهات والمقاصد نحو الله (تعالى) لا شريك له، فيتوجه العمل والنشاط والعبادة نحو غاية واحدة، فيحصل من ذلك:
ـ إحياء الأمة وقوتها وانتصارها، بصلاة الخاشعين ودعائهم وإخلاصهم، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
وقد لمسنا آثار الخشوع في حياة سلف هذه الأمة الذين قاموا بأمر الله خير قيام، وحملوا لواء العلم والعبادة والدعوة، وما كان ليحصل ذلك لولا ما تحمله قلوبهم من تعظيم الله ومحبته وخشيته.
وإذا لم يكن الخشوع صفة الدعاة وحالهم، فإن الخطْب جلل، والمصيبة عظيمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(نماذج من خشوع السلف:
كان عبد الله بن الزبير يسجد حتى تنزل العصافير على ظهره ولا تحسبه إلا حائط.
لو رأيت ابن الزبير يصلي كأنه غصن شجرة تهزها الريح والمنجنيق يقع هاهنا وهاهنا وكأنه لا يبالي.(5/448)
(وذكر بعضهم أن حجراً من المنجنيق وقع على شرفة المسجد فطارت فلقة منها فمرت بين لحية ابن الزبير وحلقه، وهو قائم يصلي، فما زال عن مقامه، ولا عرف ذلك في صوته، ولا قطع لها قراءته، ولا ركع دون ما كان يركع، فكان إذا دخل في الصلاة خرج من كل شيء إليها.
(روي أن ابن الزبير كان يوماً يصلي فسقطت حية من السقف تطوقت على بطن ابنه هاشم، فصرخ النسوة وانزعج أهل المنزل، واجتمعوا على قتل الحية، فقتلوها وسَلِم الولد، فعلوا هذا كله وابن الزبير في الصلاة لم يلتفت، ولا درى بما جرى لابنه حتى سلَّم.
(وركع ابن الزبير يوماً فقرأ البقرة وآل عمران والنساء والمائدة وما رفع رأسه.
(وقال يحيى بن وثاب: (كان ابن الزبير إذا سجد وقعت العصافير على ظهره، تصعد وتنزل، ولا تراه إلا جذم حائط.
(روي عن حاتم الأصم أنه سئل عن صلاته، فقال: إذا حانت الصلاة، أسبغت الوضوء، وأتيت الموضع الذي أريد الصلاة فيه، فأقعد فيه حتى تجتمع جوارحي، ثم أقوام ‘لي صلاتي، وأجعل الكعبة بين حاجبي، والصراط تحت قدمي، والجنة عن يميني، والنار عن شمالي، وملك الموت ورائي، وأظنها آخر صلاتي، ثم أقوم يسن يدي الرجاء والخوف ,أكبر تكبيراُ بتحقيق ,وأقرأ بترتيل، وأركع وكوعاً بتواضع وأسجد سجوداً بتخشع .. وأتبعها الإخلاص، ثم لا أدري أقبلت أم لا؟.
[*] قال علي بن الفضيل: (رأيت الثوري ساجداً فطفت سبعة أسابيع - أي 49 شوطاً - قبل أن يرفع رأسه)
[*] قال ابن وهب: (رأيت الثوري في الحرم بعد المغرب صلّى ثم سجد سجدة فلم يرفع حتى نودي بالعشاء.
[*] قال أبو بكر بن عياش: (رأيت حبيب بن أبي ثابت ساجداً، فلو رأيته قلت: ميت. يعني من طول السجود.
[*] كان طلق بن حبيب لا يركع في صلاته إذا افتتح سورة (البقرة) حتى يبلغ (العنكبوت). وكان يقول: أشتهي أن أقوم حتى يشتكي صلبي.
(ومنهم: من إذا دخل في الصلاة خشع قلبه، وسكنت جوارحه، حتى يظن من رآه أنه جماد، بل إن الطير قد يظن ذلك المصلي حائطاً، فيقع على ظهره لشدة سكونه، وهذا السكون دليل على الراحة التي يجدها المصلي في صلاته، إذ لو لم يجد فيها راحة لم يسكن هذا السكون، فإن المرء إذا كان على وضع لا راحة له فيه تكثر حركته، والتفاته، وعبثه.
قال ثابت البناني: (كنتُ أَمُرُّ بعبد الله بن الزبير وهو يصلي خلف المقام، كأنه خشبة منصوبة لا يتحرك.
قال الأعمش: (كان إبراهيم إذا سجد كأنه حائط، ينزل على ظهره العصافير.(5/449)
وكان مسلم بن يسار إذا صلّى كأنه وتد لا يميل لا هكذا ولا هكذا. وقيل: إذا صلى كأنه ثوب ملقى.
[*] قال ميمون بن مهران:
ما رأيت مسلم بن يسار ملتفتا في صلاة قط ولقد انهدمت ناحية من المسجد ففزع أهل السوق لهدتها وإنه لفي المسجد يصلي فما التفت.
وعنه أيضا [أن مسلم بن يسار كان إذا دخل إلى المنزل سكتوا فإذا قام إلى الصلاة تكلموا وضحكوا.
(ومنهم: من إذا دخل في الصلاة انشغل بها عما حوله، حتى لا يشعر بما يحدث عنده وقريباً منه وإن كان عظيماً، ومتى عظمت محبة الشخص لأمر، فإنه ينشغل به حتى عن نفسه، ألم تر كيف قطع النسوة أيديهن لما رأين يوسف فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ [يوسف:31] دهشن برؤيته عن أنفسهم فلم يشعرن بتقطيع أيديهن.
من المصلين من يجد في صلاته لذة تشغله عما حوله، فمنهم من لا يشعر بوقوع شيء أصلاً، ومنهم من يشعر بذلك لكنه لا يلتفت إليه، ولا يعبأ به، فكأنه لم يشعر، لقوة حضوره في صلاته، وانصرافه لها، وعدم اهتمامه بما سواها وانشغاله عنه.
قال ميمون بن مهران: ما رأيت مسلم بن يسار ملتفتاً في صلاة قط، ولقد انهدمت ناحية من المسجد ففزع أهل السوق لهدمها، وإنه في المسجد يصلي فما التفت. ولما هنئ بسلامته عجب وقال: ما شعرت.
(ومنهم: من يصيبه في صلاته وجع شديد وألم، فلا يلتفت له، ويستمر في صلاته، قد أنسته لذة الصلاة شدة الوجع، حتى كأنه لا يحس به.
(ففي إحدى الغزوات قام رجل من الأنصار يصلى ليلاً، فرماه أحد المشركين بسهم فنزعه واستمر في صلاته، فرماه بسهم ثان فنزعه واستمر في صلاته، فرماه بسهم ثالث فنزعه وركع وسجد وأتم صلاته. ثم أنبه صاحبه، فلما رأى ما به من الدم قال: سبحان الله! ألا أنبهتني أول ما رمى؟! قال: كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها.
فانظر كيف صبر على تلك السهام، وتحمَّل ألم الجراح، ولم تطب نفسه أن يقطع قراءته لتلك السورة حتى أتمّها. فكم من لذة يجدها هذا الرجل في صلاته. وكم من راحة وسرور، نسي معه تعب السفر، ومشقة الطريق، وهون عليه ضرب السهام.
[*] الربيع ابن خيثم:(5/450)
عن بكر بن ماعز قال أعطي الربيع فرساً أو اشترى فرساً بثلاثين ألفاً فغزا عليها قال ثم أرسل غلامه يحتش وقام يصلي وربط فرسه فجاء الغلام فقال يا ربيع أين فرسك قال سرقت يا يسار قال وأنت تنظر إليها قال: (نعم يا يسار أني كنت أناجي ربي عز وجل فلم يشغلني عن مناجات ربي شيء اللهم انه سرقني ولم أكن لأسرقه اللهم إن كان غنياً فاهده وإن كان فقيراً فاغنه)، ثلاث مرات
[*] عن بن فروخ قال: (كان الربيع بن خيثم إذا كان الليل ووجد غفلة الناس خرج إلى المقابر فيجول في المقابر يقول: (يا أهل القبور كنتم وكنا، فإذا أصبح كأنه نشر من أهل القبور.
(ومن خشوعهم أنهم كانوا يتأثرون جداً بالجنائز:
قال ثابت البناني: كنا نتبع الجنازة فما نرى إلا متقنعا باكيا أو متقنعا متفكرا.
(علو الهمة في الخشوع:
[*] قال الجنيد: الخشوع تذلل القلوب لعلام الغيوب.
[*] قال ابن كثير:
والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرّغ قلبه لها .. واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون راحة له وقرة له.
[*] قال سعيد بن جبير في قوله تعالى:
(الذين هم في صلاتهم خاشعون) يعني: متواضعون. لا يعرف من عن يمينه ولا من عن شماله ولا يلتفت من الخشوع لله تعالى.
• صار لرب العرش حين صلاته ... نجيّا فيا طوباه لو كان يخشع
[*] قال بعض السلف:
الصلاة كجارية تهدى إلى ملك من الملوك، فما الظن بمن يهدى إليه جارية شلاء أو عوراء ... فكيف بصلاة العبد والتي يتقرب بها إلى الله.
[*] كان ذو النون يقول في وصف العبّاد:
لو رأيت أحدهم وقد قام إلى صلاته، فلما وقف في محرابه، واستفتح كلام سيده، خطر على قلبه أن ذلك المقام هو المقام الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين، فانخلع قلبه وذهل عقله.
[*] (تمام الخشوع:
أن يخضع القلب لله ويذل له، فيتم بذلك خضوع العبد بباطنه وظاهره لله عز وجل،
(وذلك لأن القلب أمير البدن. فإذا خشع القلب .. خشع السمع والبصر والوجه وكل الأعضاء .. حتى الكلام.
ولهذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في ركوعه: (خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي).
(حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا ركع كان كلامه في ركوعه أن يقول اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت وأنت ربي خشع سمعي وبصري ومخي وعظمي لله رب العالمين.(5/451)
(حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا ركع قال اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت وعليك توكلت أنت ربي خشع سمعي وبصري ودمي ولحمي وعظمي وعصبي لله رب العالمين.
[*] قال الحسن رحمه الله:
إياك أن ينظر الله إليك وتنظر إلى غيره .. وتسأل الله الجنة وتعوذ به من النار .. وقلبك ساه لا تدري ما تقول بلسانك.
[*] كان خلف بن أيوب لا يطرد الذباب عن وجهه في الصلاة فقيل له: كيف تصبر؟. قال: بلغني أن الفسّاق يتصبرون تحت السياط ليقال: فلان صبور. وأنا بين يدي ربي، أفلا أصبر على ذباب يقع علي؟.!!
[*] (احذر خشوع النفاق:
[*] قال أبو الدرداء
: استعيذوا بالله من خشوع النفاق. قالوا: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع.
{تنبيه}: (الخشوع عزيزٌ في هذه الأمة وقد أخبر النبي أن أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع.
(حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع حتى لا ترى فيها خاشعا.
(12) الخوف من عدم قبول الأعمال:
إن من أهم الأسباب الجالبة للبكاء من خشية الله الخوف من عدم قبول الأعمال ومن يضمن أن الله تعالى قد قبل عمله، وهذا النوع من الخوف هو الذي نغص عيش الصالحين وأطار نوم المتقين، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) قالت: سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن هذه الآية (وَالّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنّهُمْ إِلَىَ رَبّهِمْ رَاجِعُونَ) [المؤمنون: 60] قالت عائشة هم الذين يشربون الخمر ويسرقون قال لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات.
((أُوْلََئِكَ يُسَارِعُونَ فِي) [المؤمنون: 61])) قال الحسن: عملوا لله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم ..
إن المؤمن جمع إحساناً وخشية، وإن المنافق جمع إساءة وأمناً .. !
إن المؤمن جمع إحساناً وخشية، وإن المنافق جمع إساءة وأمناً .. !(5/452)
والتخويف من عذاب الله أحد مهمات الرسل: قال تعالى {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا} [الكهف: 56] والإنذار هو الإعلام بالشيء الذي يخيف، فالإنذار في لغة العرب كما قال الراغب الأصفهاني في مفرداته: الإنذار إخبار فيه تخويف كما أن التبشير إخبار فيه سرور.
(13) عدم الإكثار من الضحك:
فإن كثرة الضحك تميت القلب بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اتق المحارم تكن أعبد الناس و ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس و أحسن إلى جارك تكن مؤمنا و أحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما و لا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب.
وموت القلب يمنع دمع العين.
(14) الزهد في الدنيا:
إن من أهم الأسباب الجالبة للبكاء من خشية الله الزهد في الدنيا، وهاك صفوة مسائل الزهد في الدنيا.
(تعريف الزهد:
(حقيقة الزهد:
(درجات الزهد وأقسامه:
(حكم الزهد:
(فضائل الزهد:
(أقوال السلف في الزهد:
(حاجة الناس إلى الزهد:
(كيف يزهد العبد في الدنيا ويرغب في الآخرة:
(خصال الزهد:
(رأس الزهد ووسط الزهد وآخر الزهد:
(علامات الزهد:
(ما ليس بزهد ويتوهم أنه زهد:
(الأسباب المعينة على الزهد في الدنيا:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(تعريف الزهد:
الزهد هو: انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه، ولا بد أن المرغوب عنه مرغوباً فيه بوجه من الوجوه فمن رغب عما ليس مطلوباً في نفسه لا يسمى زاهداً فتارك الحجر والتراب وما أشبهه لا يسمى زاهداً وإنما يسمى زاهداً من ترك الدراهم والدنانير.
فالزهد انصراف الرغبة عن الدنيا لحقارتها والإقبال على الآخرة والرغبة فيها لنفاستها، والدنيا كالثلج الموضوع في الشمس لا يزال في الذوبان إلى الانقراض، والآخرة كالجوهر الذي لا فناء له، وبقدر اليقين بالتفاوت بين الدنيا والآخرة تقوى الرغبة في البيع. ... (وقد تعددت عبارات السلف من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء، من الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة في تعريف الزهد في الدنيا وكلها تدور على عدم الرغبة فيها وخلو القلب من التعلق بها.
وهاك غيضٌ من فيض مما ورد في ذلك:(5/453)
[*] قال الإمام أحمد: الزهد في الدنيا قصر الأمل.
[*] وقال سفيان الثوري: الزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ ولا لبس العبا.
[*] وقال سفيان ابن عيينة: الزهد في الدنيا الصبر وارتقاب الموت.
[*] قال الحسن البصري: ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك.
[*] وقال ابن الجلاّء: الزهد هو النظر إلى الدنيا بعين الزوال لتصغر في عينك فيسهل عليك الإعراض عنها.
[*] وقال إبراهيم ابن أدهم رحمه الله تعالى: الزهد فراغ القلب من الدنيا لا فراغ اليد.
وقال بعضهم: الزهد هو انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه، وهو ترك راحة الدنيا طلباً لراحة الآخرة وأن يخلو قلبك مما خلت منه يداك.
[*] وقال عبد الواحد بن زيد: الزهد في الدينار والدرهم.
[*] وسئل الجنيد عن الزهد فقال: استصغار الدنيا، ومحو آثارها من القلب.
[*] وقال أبو سليمان الداراني: الزهد: ترك ما يشغل عن الله.
(أجمع تعريف للزهد:
هذه التعريفات للزهد والتي عرفها أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء، من الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة بينها اختلاف تنوع وليس اختلاف تضاد، ولا شك أن الزهد يشملها جميعا، ولعل أجمع تعريف للزهد هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: " الزهد: هو ترك ما لا ينفع في الآخرة "، وهذا يشمل ترك ما يضر، وترك ما لا ينفع ولا يضر.
،ويعين العبد على ذلك علمه أن الدنيا ظل زائل، وخيال زائر فهي كما قال تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} [الحديد: 20]، و سماها الله {مَتَاعُ الْغُرُورِ} و نهى عن الاغترار بها، لذلك تجد الزاهد ينأى بنفسه عن الدنيا وعزف عنها فهو لا يصانع ولا يضارع ولا يتبع المطامع.
وبيَّن الله تبارك وتعالى في القرآن حقارة الدنيا وسرعة زوالها واستصغار شأنها، وحثهم على عمل ما خلقوا لأجلها وهي العبادة فقال تعالى: (يَأَيَّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورْ) [فاطر:5].
وقال أيضاً: (وَمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَإِنَّ الدَارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون) [العنكبوت:64](5/454)
وقال تعالى: (المَالُ وَالبَنُونَ زِيْنَةُ الحَيَاةِ الدًّنْيَا وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوابَاً وَخَيْرٌ أَمَلاً) [الكهف:64]
وأخبرنا عن سوء عاقبة المغترين، وحذرنا مثل مصارعهم وذم من رضي بها واطمأن إليها، ولعلمه أن وراءها داراً أعظم منها قدراً وأجل خطراً، وهي دار البقاء، يضاف إلى ذلك معرفته وإيمانه الحق بأن زهده في الدنيا لا يمنعه شيئاً كتب له منها، وأن حرصه عليها لا يجلب له ما لم يقض له منها، فمتى تيقن ذلك ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة، فأما ما ينفع في الدار الآخرة فالزهد فيه ليس من الدين بل صاحبه داخل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة:87]
(حقيقة الزهد:
مسألة: ماذا نعني بالزهد؟
نعني بالزهد استصغار الدنيا، والحذر من طغيانها وسيطرتها على القلب.
طلب عمر بن عبد العزيز رحمه الله النصيحة من الحسن رحمه الله تعالى، فكتب إليه الحسن: إن رأس ما هو مصلحك ومصلح به على يديك: الزهد في الدنيا، وإنما الزهد باليقين، واليقين بالتفكر، والتفكر بالاعتبار، فأنت إذا فكرت في الدنيا لم تجدها أهلاً أن تبيع بها نفسك، ووجدت نفسك أهلا أن تكرمها بهوان الدنيا، فإن الدنيا دار بلاء ومنزل قُلْعَةٍ. (أي دار رحيل وانتقال).
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبهما موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي أيوب رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا قمت في صلاتك فَصَلِ صلاةَ مُوَدِّعٍ و لا تكلم بكلام تَعْتَذِرُ منه وأجْمِع اليأس عما في أيدي الناس.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إذا قمت في صلاتك) أي شرعت فيها
(فصل صلاة مودع) أي إذا شرعت فيها فأقبل على الله وحده ودع غيره لمناجاة ربك (ولا تكلم) بحذف إحدى التاءين تخفيفاً
(بكلام تعتذر منه) أي لا تتكلم بشيء يوجب أن يطلب من غيرك رفع اللوم عنك بسببه(5/455)
(وأجْمِع اليأس عما في أيدي الناس) أي اعزم وصمم على قطع الأمل مما في يد غيرك من جميع الخلق فإنه يريح القلب والبدن. وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله قال الراغب: وأكثر ما يقال أجمع فيما يكون جمعا يتوصل إليه بالفكر نحو {أجمعوا أمركم وشركاءكم}
والإياس: القنوط وقطع الأمل
(تنبيه) من البين أن كلا من الكلام المحوح للعذر والإياس مما في أيدي الناس مأمور به لا بقيد القيام إلى الصلاة. أهـ
(حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) قال: أتى النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلٌ فقال: يا رسول الله: أوصني وأوجز، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عليك بالإياس مما في أيدي الناس، وإياك مما يعتذر منه".
فمن زهد في الدنيا رنا بطرفه وقلبه نعيم الجنات، وجوار الكبير المتعال.
(والزهد في الدنيا هو ما كان عليه رسول الله وأصحابه، فهو ليس بتحريم الطيبات وتضييع الأموال، ولا بلبس المرقع من الثياب، ولا بالجلوس في البيوت وانتظار الصدقات، فليس الزهد أن ترفض المال وأن تكون فقيراً، أن تكون عالةً على الناس، أن تكون يدك هي السفلى، ولكن الزهد أن تكسب المال وأن تجعله بيديك لا بقلبك فإن المؤمن القوي خيرٌ وأحبُ إلى الله من المؤمن الضعيف.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان.
ولا شك أن العمل الحلال والكسب الحلال والنفقة الحلال عبادة يتقرب بها العبد إلى الله، بشرط أن تكون الدنيا في الأيدي، ولا تكون في القلوب، وإذا كانت الدنيا في يد العبد لا في قلبه، استوى في عينه إقبالها وإدبارها، فلم يفرح بإقبالها، ولم يحزن على إدبارها.
[*] قال ابن القيم في وصف حقيقة الزهد:
وليس المراد ـ من الزهد ـ رفضها ـ أي الدنيا ـ من الملك، فقد كان سليمان وداود - عليهما السلام- من أزهد أهل زمانهما، ولهما من المال والملك والنساء مالهما.
وكان نبينا من أزهد البشر على الإطلاق وله تسع نسوة.
وكان علي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير وعثمان - رضي الله عنهم- من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال.(5/456)
فلو نظرنا إلى العشرة المبشرين بالجنة لوجدنا أن أكثرهم كانوا من أصحاب رؤوس الأموال الطائلة ومن التجار، فهذا أبو بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف لو نظرنا إليهم بمنظار العصر لقيل عنهم أنهم من أصحاب الملايين، فهل تخلف أحدهم عن غزوة مع رسول الله؟ هل ألهاهم التكاثر فمنعوا الإنفاق في سبيل الله؟ كلا والله ثم كلا، هل سعوا للرئاسة والتفاخر وتزكية النفس وطلب المدح؟ لا والله ما فعلوا، بل هم أبعد الأمة عن هذه الأمور، وكانوا يجودون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ولنصرة دينه ولنصرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن بشر بن الحارث، قال: قيل لسفيان الثوري: أيكون الرجل زاهداً ويكون له المال؟ قال: نعم، إن كان إذا ابتلى صبر وإذا أعطى شكر.
[*] قال يونس بن ميسرة: " ليس الزهادة فى الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة فى الدنيا أن تكون بما فى يد الله أوثق منك بما فى يدك، وأن تكون حالك فى المصيبة وحالك إذا لم تصب بها سواء وأن يكون مادحكم وذامّكم فى الحق سواء ".
ففسر الزهد فى الدنيا بثلاثة أشياء كلها من أعمال القلوب لامن أعمال الجوارح، ولهذا كان أبو سليمان يقول: لاتشهد لأحد بالزهد.
أحدها: أن يكون العبد بما فى يد الله أوثق منه بما فى يد نفسه، وهذا ينشأ من صحة اليقين وقوته، قيل لأبى حازم الزاهد: ما مالك؟ قال: " مالان لا أخشى معهما الفقر: الثقة بالله، واليأس مما فى أيدى الناس ".
وقيل له: أما تخاف الفقر؟ فقل: " أنا أخاف الفقر ومولاى له ما فى السموات، وما فى الأرض، وما بينهما، وما تحت الثرى؟ ".
[*] قال الفضيل رحمه الله: أصل الزهد: الرضى عن الله عزّ وجلّ.
(وقال: القنوع هو الزاهد، وهو الغنى، فمن حقق اليقين، وثق بالله فى أموره كلها، ورضى بتدبيره له، وانقطع عن التعلق بالمخلوقين رجاءاً وخوفاً، ووضعه ذلك من طلب الدنيا بالأسباب المكروهة، ومن كان كذلك كان زاهداً حقاً، وكان من أغنى الناس، وإن لم يكن له شىء من الدنيا، كما قال عمار - رضي الله عنه -: كفى بالموت واعظاً، وكفى باليقين غنى، وكفى بالعبادة شغلاً ".(5/457)
[*] وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: " اليقين أن لا تُرضى الناس بسخط الله، ولا تحسد أحداً على رزق الله، ولا تلم أحداً على مالم يؤتك الله، فإن رزق الله لا يسوقه حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره، فإن الله يقسطه، وعلمه، وحكمته، جعل الروح والفرح فى اليقين والرضى، وجعل الهم والحزن فى السخط والشك ".
الثانى: أن يكون العبد إذا أصيب بمصيبة فى دنياه: من ذهاب مال، أو ولد، أو غير ذلك، أرغب فى ثواب ذلك مما ذهب منه من الدنيا أن يبقى له، وهذا أيضاً ينشأ من كمال اليقين.
[*] قال علىّ كرم الله وجهه: " من زهد فى الدنيا هانت عليه المصيبات ". وقال بعض السلف: لولا مصائب الدنيا لوردنا الآخرة من المفاليس.
الثالث: أن يستوى عند العبد مادحه وذامه فى الحق، وإذا عظمت الدنيا فى قلب العبد اختار المدح وكره الذم، وربما حمله ذلك على ترك كثير من الحق خشية الذم، على فعل كثير من الباطل رجاء المدح.
فمن استوى عنده حامده وذامه فى الحق دلّ على سقوط منزلة المخلوقين من قلبه وامتلاه من محبة الحق، وما فيه رضى مولاه، كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: " اليقين أن لا ترضى الناس بسخط الله ".
وقد مدح الله عزّ وجلّ الذين يجاهدون فى سبيله، ولا يخافون لومة لائم، وقد ورد عن السلف روايات أخرى فى تفسير الزهد.
قال الحسن: " الزاهد الذى إذا رأى أحداً قال: هو أزهد منى ". وسئل بعضهم – أظنه الإمام أحمد – عمن معه مال هل يكون زاهداً؟ قال: " إن كان لايفرح بزيادته ولا يحزن بنقصه فهو زاهد ".
فالزاهد من أتته الدنيا راغمة صفواً عفواً وهو قادر على التنعم بها من غير نقصان جاه وقبح اسم ولا فوات حظ للنفس، فتركها خوفاً من أن يأنس بها، فيكون آنساً بغير الله ومحباً لما سوى الله، ويكون مشركاً في حب الله تعالى غيره. أو تركها طمعاً في ثواب الله في الآخرة فترك التمتع بأشربة الدنيا طمعاً في أشربة الجنة، وترك التمتع بالسراري والنسوان طمعاً في الحور العين، وترك التفرج في البساتين طمعاً في بساتين الجنة وأشجارها، وترك التزين والتجمل بزينة الدنيا طمعاً في زينة الجنة، وترك المطاعم اللذيذة طمعاً في فواكه الجنة وخوفاً من أن يقال له: " أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا" فآثر في جميع ذلك ما وعد على ما تيسر له في الدنيا عفواً صفواً لعلمه بأن ما في الآخرة خير وأبقى، وأن ما سوى هذا فمعاملات دنيوية لا جدوى لها في الآخرة أصلاً.(5/458)
(لقد وعى سلفنا الصالح تلك المعاني، وقدروها حقّ قدرها، فترجموها إلى مواقف مشرفة نقل التاريخ لنا كثيرا منها، وكان حالهم ما قاله الحسن البصري رحمه الله: " أدركت أقواما وصحبت طوائف ما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا إذا أقبل، ولا يأسفون على شيء منها إذا أدبر، وكانت في أعينهم أهون من التراب، كان أحدهم يعيش خمسين سنة أو ستين سنة لم يُطوَ له ثوبٌ، ولم يُنصب له قدرٌ، ولم يجعل بينه وبين الارض شيئاً، ولا أمَرَ مَنْ فى بيته بصنعة طعام قط، فإذا كان الليل، فقيام على أقدامهم يفترشون وجوههم، تجرى دموعهم على خدودهم يناجون ربهم فى فكاك رقابهم، كانوا إذا عملوا الحسنة دأبوا فى شكرها، وسألوا الله أن يقبلها، وإذا عملوا السيئة أحزنتهم، وسألوا الله أن يغفرها، فلم يزالوا على ذلك، ووالله: ما سلموا من الذنوب ولا نجوا إلا بالمغفرة، فرحمة الله عليهم ورضوانه ".
لقد نظروا إليها بعين البصيرة، ووضعوا نُصب أعينهم قول الله تعالى: {يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} (فاطر: 5)، وقوله: {واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح} (الكهف: 45)، فهانت عليهم الدنيا بكلّ ما فيها، واتخذوها مطيّة للآخرة، وسبيلاً إلى الجنّة.
ومن أحسن ما قيل في الزهد كلام الحسن أو غيره: ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك.
فالزهد ليس تجنب المال بالكلية بل تساوي وجوده وعدمه.
فقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يأكل اللحم والحلوى والعسل، ويحب النساء والطيب والثياب الحسنة.
[*] جاء رجل إلى الحسن فقال: إن لي جاراً لا يأكل الفالوذج، فقال الحسن: ولم؟ قال: يقول: لا أؤدي شكره، فقال الحسن: إن جارك جاهل، وهل يؤدي شكر الماء البارد؟.
[*] وقد سئل الإمام أحمد: أيكون الإنسان ذا مال وهو زاهد، قال: نعم، إن كان لا يفرح بزيادته ولا يحزن بنقصانه، أهـ
[*] قال بشر الحافي: قل لمن طلب الدنيا، تهيأ للذل.
قال بشر بن الحارث: قيل لسفيان الثوري: أيكون الرجل زاهدا ويكون له المال؟ قال: نعم إذا ابتلي صبر، وإذا أعطي شكر.(5/459)
هذا هو حقيقة الزهد فالزاهد لا يفرح من الدنيا بموجود، ولا يأسف منها على مفقود امتثالاً لقوله تعالى: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 23]
[*] وقال الحسن: ليس الزهد بإضاعة المال ولا بتحريم الحلال، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يد نفسك، وأن تكون حالك في المصيبة، وحالك إذا لم تصب بها سواء، وأن يكون مادحك وذامك في الحق سواء.
ويشهد لذلك الأحاديث الآتية:
(حديث عمرو بن العاص في صحيح الأدب المفرد) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: نعم المال الصالح للمرء الصالح.
(حديث يسار بن عُبيد في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا بأس بالغنى لمن اتقى و الصحة لمن اتقى خير من الغنى و طيب النفس من النعيم.
(حديث أبي كبشة الأنماري في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَحسنِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْماً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الأجرِسَوَاءٌ، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً فَهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ لاَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلاَ يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فهو بِأَسوءِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلاَ عِلْماً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الوزر سَوَاءٌ.
هذه هي حقيقة الزهد، وعلى هذا فقد يكون العبد أغنى الناس لكنه من أزهدهم؛ لأنه لم يتعلق قلبه بالدنيا، وقد يكون آخر أفقر الناس وليس له في الزهد نصيب؛ لأن قلبه يتقطع على الدنيا.
مسألة: هل الزهد لبس الثياب المرقعة، وصيام الدهر، والابتعاد عن المجتمع، أو غير ذلك؟
الجواب:(5/460)
"ليس الزهد لبس المرقع من الثياب، ولا اعتزال الناس والبعد عن المجتمع، ولا صيام الدهر، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيد الزاهدين، وكان يلبس الجديد من الثياب، ويتزين للوفود وفي الجمع والأعياد، ويخالط الناس، ويدعوهم إلى الخير ويعلمهم أمور دينهم، وكان ينهى أصحابه رضي الله عنهم عن صيام الدهر، وإنما الزهد التعفف عن الحرام، وما يكرهه الله تعالى، وتجنب مظاهر الترف والإفراط في متع الدنيا، والإقبال على عمل الطاعات، والتزود للآخرة بخير الزاد، وخير تفسير له سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العملية.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم" انتهى.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... الشيخ عبد الرزاق عفيفي ... الشيخ عبد الله بن غديان ... الشيخ عبد الله بن قعود.
"فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" (24/ 369).
(درجات الزهد وأقسامه:
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم: الزهد ثلاثة أصناف، فزهد فرض، وزهد فضل، وزهد سلامة، فالفرض الزهد في الحرام، والفضل الزهد في الحلال، والسلامة الزهد في الشبهات.
[*] وقال الغزالي رحمه الله في الإحياء:
الزهد في نفسه يتفاوت بحسب تفاوت قوته على درجات ثلاث:
- الدرجة الأولى وهي السفلى: منها أن يزهد في الدنيا وهو لها مشته وقلبه إليها مائل ونفسه إليها ملتفتة، ولكنه يجاهدها ويكفها، وهذا يسمى المتزهد، وهو مبدأ الزهد في حق من يصل إلى درجة الزهد بالكسب والاجتهاد، والمتزهد يذيب أولاً نفسه ثم كيسه والزاهد أولاً يذيب كيسه ثم يذيب نفسه في الطاعات لا في الصبر على ما فارقه، والمتزهد على خطر، فإنه ربما تغلبه نفسه وتجذبه شهوته فيعود إلى الدنيا وإلى الاستراحة بها في قليل أو كثير.
- الدرجة الثانية: الذي يترك الدنيا طوعاً لاستحقاره إياها بالإضافة إلى ما طمع فيه، كالذي يترك درهماً لأجل درهمين، فإنه لا يشق عليه ذلك وإن كان يحتاج إلى انتظار قليل، ولكن هذا الزاهد يرى لا محالة زهده ويلتفت إليه، كما يرى البائع المبيع ويلتفت إليه فيكاد يكون معجباً بنفسه وبزهده، ويظن في نفسه أنه ترك شيئاً له قدر لما هو أعظم قدراً منه، وهذا أيضاً نقصان.(5/461)
- الدرجة الثالثة وهي العليا: أن يزهد طوعاً ويزهد في زهده فلا يرى زهده، إذ لا يرى أنه ترك شيئاً، لأنه عرف أن الدنيا لا شيء فيكون كمن ترك خزفة وأخذ جوهرة، فلا يرى ذلك معاوضة، ولا يرى نفسه تاركاً شيئاً والدنيا بالإضافة إلى الله تعالى نعيم الآخرة أخس من خزفة بالإضافة إلى جوهرة، فهذا هو الكمال في الزهد. وسببه كمال المعرفة، ومثل هذا الزهد آمن من خطر الالتفات إلى الدنيا، كما أن تارك الخزفة بالجوهرة أمن من طلب الإقالة في البيع.
فهذا تفاوت درجات الزهد، وكل درجة من هذه أيضاً لها درجات، إذ تصبر المتزهد يختلف ويتفاوت أيضاً باختلاف قدر المشقة في الصبر، وكذلك درجة المعجب بزهده بقدر التفاته إلى زهده.
(وأما انقسام الزهد بالإضافة إلى المرغوب فيه أيضاً على ثلاث درجات:
- الدرجة السفلى: أن يكون المرغوب فيه النجاة من النار ومن سائر الآلام كعذاب القبر، ومناقشة الحساب وخطر الصراط وسائر ما بين يدي العبد من الأهوال.
- الدرجة الثانية: أن يزهد رغبة في ثواب الله ونعيمه واللذات الموعودة في جنته من الحور والقصور وغيرها، وهذا زهد الراجين، فإن هؤلاء ما تركوا الدنيا قناعة بالعدم والخلاص من الألم بل طمعوا في وجود دائم ونعيم سرمد لا آخر له.(5/462)
- الدرجة الثالثة وهي العليا: أن لا يكون له رغبة إلا في الله وفي لقائه، فلا يلتفت قلبه إلى الآلام ليقصد الخلاص منها ولا إلى اللذات ليقصد نيلها والظفر بها، بل هو مستغرق الهم بالله تعالى؛ وهو الذي أصبح وهمومه هم واحد؛ وهو الموحد الحقيقي الذي لا يطلب غير الله تعالى؛ لأن من طلب غير الله فقد عبده، وكل مطلوب معبود، وكل طالب عبد بالإضافة إلى مطلبه، وطلب غير الله من الشرك الخفي، وهذا زهد المحبين وهم العارفون لأنه لا يحب الله تعالى خاصة إلا من عرفه، وكما أن من عرف الدينار والدرهم وعلم أنه لا يقدر على الجمع بينهما لم يحب إلا الدينار، فكذلك من عرف الله وعرف لذة النظر إلى وجهه الكريم وعرف أن الجمع بين تلك اللذة وبين لذة التنعم بالحور العين والنظر إلى نقش القصور وخضرة الأشجار غير ممكن، فلا يحب إلا لذة النظر ولا يؤثر غيره، ولا تظنن أن أهل الجنة عند النظر إلى وجه الله تعالى يبقى للذة الحور والقصور متسع في قلوبهم، بل تلك اللذة بالإضافة إلى لذة نعيم أهل الجنة كلذة ملك الدنيا والاستيلاء على أطراف الأرض ورقاب الخلق بالإضافة إلى لذة الاستيلاء على عصفور واللعب به، والطالبون لنعيم الجنة عند أهل المعرفة وأرباب القلوب كالصبي الطالب للعب بالعصفور التارك للذة الملك، وذلك لقصوره عن إدراك لذة الملك لا لأن اللعب بالعصفور في نفسه أعلى وألذ من الاستيلاء بطريق الملك على كافة الخلق. أهـ
[*] قال الإمام أحمد رحمه الله: الزهد على ثلاثة أوجه: الأول ترك الحرام. وهو زهد العوام. والثاني ترك الفضول من الحلال وهو زهد الخواص والثالث: ترك ما يشغل عن الله وهو زهد العارفين.
(حكم الزهد:
مسألة: ما حكم الزهد؟
[*] قال ابن القيم رحمه الله الزهد أقسام:
1ـ زهد في الحرام وهو فرض عين.
2ـ وزهد في الشبهات، وهو بحسب مراتب الشبهة، فإن قويت التحق بالواجب،
إن ضعفت كان مستحباً.
3ـ وزهد في الفضول، وهو زهد فيما لا يعني من الكلام والنظر والسؤال واللقاء وغيره.
4ـ وزهد في الناس.
5ـ وزهد في النفس، بحيث تهون عليه نفسه في الله.
6ـ وزهد جامع لذلك كله، وهو الزهد فيما سوى الله وفي كل ما يشغلك عنه.
وأفضل الزهد إخفاء الزهد .. والقلب المعلق بالشهوات لا يصح له زهد ولا ورع.
(فضائل الزهد:
للزهد فضائلُ عظيمة ومزايا جسيمة والكتاب والسنة طافحان بما يدل على فضائل الزهد، وإليك غيضٌ من فيض ونقطةٌ من بحر مما ورد في فضائل الزهد:(5/463)
(1) من أعظم فضائل الزهد امتثال أمر الله تعالى:
إن الذي يمعن النظر في كتاب الله تعالى إذا تَفَكَّر جلياً وتأمَّل ملياً يجد لا محالة أن الله تعالى الزهد في الدنيا وذم الرغبة فيها في غير موضع فقال تعالى: {وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ} [الرعد: 26]، وقال عز وجل: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس:24]، وقال: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 23]
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم قال: على القلب ثلاثة أغطية، الفرح والحزن والسرور، فإذا فرحت بالموجود فأنت حريص، والحريص محروم، وإذا حزنت على المفقود فأنت ساخط، والساخط معذب، وإذا سررت بالمدح فأنت معجب، والعجب يحبط العمل. ودليل ذلك كله قوله تعالى: (لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىَ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [الحديد: 23]
وقال تعالى حاكياً عن مؤمن آل فرعون أنه قال: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر: 39]
وقال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (الأعلى: 16 - 17)
وقال تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} (الأنفال: من الآية: 67).
(2) التأسي بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سيد الزاهدين وإمام العابدين:(5/464)
إن من يطالع سيرة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سيد الأولين والآخرين يعلم علم اليقين الذي لا يخالطه شك أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سيد الزاهدين وإمام العابدين و يعلم كيف كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويحلب شاته، وما شبع من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض، وكان لربما ظل اليوم يتلوى لا يجد من الدَقَل [ردئ التمر] ما يملأ بطنه، وهاك غيضاً من فيض ونقطةً من بحر مما ورد في ذلك:
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخيط ثوبه و يخصف نعله و يعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(كان يخيط ثوبه ويخصف نعله ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم) من الاشتغال بمهنة الأهل والنفس إرشاداً للتواضع وترك التكبر لأنه مشرف بالوحي والنبوة ومكرم بالمعجزات والرسالة وفيه أن الإمام الأعظم يتولى أموره بنفسه وأنه من دأب الصالحين.
(حديث عائشة رضي الله عنهاالثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفلي ثوبه و يحلب شاته و يخدم نفسه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(كان يفلي ثوبه) بفتح فسكون من فلى يفلي كرمي يرمي ومن لازم التفلي وجود شيء يؤذي في الجملة كبرغوث وقمل فدعوى أنه لم يكن القمل يؤذيه ولا الذباب يعلوه دفعت بذلك وبعدم الثبوت ومحاولة الجمع بأن ما علق بثبوته من غيره لا منه ردت بأنه نفي أذاه وأذاه غذاؤه من البدن وإذا لم يتغذ لم يعش
(ويحلب شاته ويخدم نفسه) عطف عام على خاص فنكتته الإشارة إلى أنه كان يخدم نفسه عموماً وخصوصاً قال المصري: ويجب حمله على أحيان فقد ثبت أنه كان له خدم فتارة يكون بنفسه وتارة بغيره وتارة بالمشاركة وفيه ندب خدمة الإنسان نفسه وأن ذلك لا يخل بمنصبه وإن جل.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم، قال أصحابه وأنت؟ فقال نعم كنت أرعاها على قراريط َ لأهل مكة.
[*] قال الإمام ابن حجر في الفتح:
(ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم):(5/465)
قال العلماء الحكمة في إلهام الأنبياء من رعى الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم الحلم والشفقة لأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى ونقلها من مسرح إلى مسرح ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة ألفوا من ذلك الصبر على الأمة وعرفوا اختلاف طباعها وتفاوت عقولها فجبروا كسرها ورفقوا بضعيفها وأحسنوا التعاهد لها فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم وخصت الغنم بذلك لكونها أضعف من غيرها ولأن تفرقها أكثر من تفرق الإبل والبقر لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة ومع أكثرية تفرقها فهي أسرع انقياد من غيرها وفي ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لذلك بعد أن علم كونه أكرم الخلق على الله ما كان عليه من عظيم التواضع لربه والتصريح بمنته عليه وعلى إخوانه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء
(كنت أرعاها على قراريط َ لأهل مكة):
يعني كل شاة بقيراط يعني القيراط الذي هو جزء من الدينار أو الدرهم.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) قالت: " ما شبع آل محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منذ قدم المدينة من خبز بُرٍ ثلاث ليال تباعاً حتى قبض ".
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا.
قوتاً: أي شيءٌ يسدُ الرمق.
[*] قال الإمام ابن حجر في الفتح:
قوتاً: أي اكفهم من القوت بما لا يرهقهم الى ذل المسألة ولا يكون فيه فضول تبعث على الترفه والتبسط في الدنيا وفيه حجة لمن فضل الكفاف لأنه إنما يدعو لنفسه وآله بأفضل الأحوال.
(حديث عبد الله بن عمر الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (قد أفلح من أسلم ورُزق كفافاً و قنَّعه الله بما آتاه.
[*] قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم:
ورُزق كفافاً: الكفاف الكفاية بلا زيادة ولا نقص، وفيه فضيلة هذه الأوصاف:
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً) أي ما يكف عن الحاجات، ويدفع الضرورات والفاقات، ولا يلحقه بأهل الترفهات. قال القاضي: الفلاح الفوز بالبغية(5/466)
(وقنعه اللّه بما آتاه) بمد الهمزة أي جعله قانعاً بما أعطاه إياه ولم يطلب الزياد لمعرفته أن رزقه مقسوم لن يعدو ما قدر له والفلاح الفوز بالبغية في الدارين والحديث قد جمع بينهما والمراد بالرزق الحلال منه فإن المصطفى صلى اللّه تعالى عليه وعلى آله وسلم مدح المرزوق وأثبت له الفلاح وذكر الأمرين وقيد الثاني بقنع أي رزق كفافاً وقنعه اللّه بالكفاف فلم يطلب الزيادة وأطلق الأوّل ليشمل جميع ما يتناوله الإسلام ذكره الطيبي وصاحب هذه الحالة معدود من الفقراء لأنه لا يترفه في طيبات الدنيا بل يجاهد نفسه في الصبر على القدر الزائد على الكفاف فلم يفته من حال الفقراء إلا السلامة من قهر الرجال وذل المسألة.
(حديث عبيد الله بن محصن الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في جسده عنده قوتُ يومه فكأنما حيزت له الدنيا.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(من أصبح منكم آمنا في سربه) بكسر السين على الأشهر أي في نفسه وروي بفتحها أي في مسلكه وقيل بفتحتين أي في بيته
(معافى في جسده) أي صحيحاً بدنه
(عنده قوت يومه) أي غذاؤه وعشاؤه الذي يحتاجه في يومه ذلك، يعني من جمع اللّه له بين عافية بدنه وأمن قلبه حيث توجه وكفاف عيشه بقوت يومه وسلامة أهله فقد جمع اللّه له جميع النعم التي من ملك الدنيا لم يحصل على غيرها فينبغي أن لا يستقبل يومه ذلك إلا بشكرها بأن يصرفها في طاعة المنعم لا في معصية ولا يفتر عن ذكره
(فكأنما حيزت) بكسر المهملة
(له الدنيا) أي ضمت وجمعت
(بحذافيرها) أي بجوانبها أي فكأنما أعطي الدنيا بأسرها، ومن ثم قال نفطويه: إذا ما كساك الدهر ثوب مصحة * ولم يخل من قوت يحلى ويعذب فلا تغبطن المترفين فإنه * على حسب ما يعطيهم الدهر يسلب وقال: إذا القوت يأتي لك والصحة والأمن * وأصبحت أخا حزن فلا فارقك الحزن وفيه حجة لمن فضل الفقر على الغنى.
(حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ليكف الرجل منكم كزاد الراكب.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(ليكف الرجل منكم) من الدنيا(5/467)
(كزاد الراكب) يعني ليكفك من الدنيا ما يبلغك إلى الآخرة فالمؤمن يتزود منها والفاجر يستمتع فيها والأصل أن من امتلأ قلبه بالإيمان استغنى عن كثير من مؤن دنياه واحتمل المشاق في تكثير مؤن أخراه، وفيه تنبيه على أن الإنسان مسافر لا قرار له فيحمل ما يبلغه المنزلة بين يديه مرحلة مرحلة ويقتصر عليه وفي بعض الكتب المنزلة ابن آدم خذ من الددنيا ما شئت وخذ من الهم أضعافه. (تنبيه) كان بعض العارفين إذا انقضى فصل الشتاء أو الصيف يتصرف في الثياب الذي يلبسها في ذلك الفصل ولا يدخرها إلى الفصل الآخر وهو مقام عيسوي فإن المسيح عليه السلام لم تكن له ثياب تطوى زيادة على ما عليه من جبة صوف أو قطن وكانت مخدته ذراعيه وقصعته بطنه ووضع لبنة على لبنة من طين تحت رأسه فقال له ابليس قد رغبت يا عيسى في الدنيا بعد ذلك الزهد فرمى بهما واستغفر وتاب، وكان أبو حذيفة يقول: أحب الأيام إلي يوم يأتيني الخادم فيقول: ما في بيتنا اليوم شيء نأكله، هذا تأكيد شديد في الترغيب في الزهد، قال العلائي: والباعث عليه قصر الأمل ولهذا أشار إليه بقوله كزاد الراكب تشبيهاً للإنسان في الدنيا بحال المسافر. أهـ
(وكان يربط الحجر على بطنه من الجوع:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يربط الحجر على بطنه من الغرث.
الغرث: الجوع
(حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) قال أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرأيته متغيرا؟ فقلت بأبي أنت ما لي أراك متغيرا قال ما دخل جوفي ما يدخل جوف ذات كبد منذ ثلاث، قال فذهبت فإذا يهودي يسقي إبلا له فسقيت له على كل دلو بتمرة فجمعت تمرا فأتيت به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال من أين لك يا كعب فأخبرته فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتحبني يا كعب قلت بأبي أنت نعم، قال إن الفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى معادنه وإنه سيصيبك بلاء فأعد له تجفافا، قال ففقده النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال ما فعل كعب قالوا مريض فخرج يمشي حتى دخل عليه فقال له أبشر يا كعب فقالت أمه هنيئا لك الجنة يا كعب فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هذه المتألية على الله عز وجل قلت هي أمي يا رسول الله، قال ما يدريك يا أم كعب لعل كعبا قال ما لا ينفعه ومنع ما لا يغنيه.(5/468)
وكان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمر على أهله الهلال ثم الهلال ثم الهلال لا يوقد في بيتهم النار، طعامهم الأسودان: التمر والماء
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) أنها قالت لعروة: ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نار. فقلت: يا خالة، ما كان يُعَيِّشُكُم؟ قالت: الأسودان التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جيران من الأنصار، كانت لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ألبانهم فيسقينا.
[*] قال الإمام ابن حجر في الفتح:
إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين: المراد بالهلال الثالث هلال الشهر الثالث وهو يرى عند انقضاء الشهرين وبرؤيته يدخل أول الشهر الثالث.
وما أوقدت في أبيات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نار: لا يوقد في شيء من بيوته نار لا لخبز ولا لطبخ.
ما كان يُعَيِّشُكُم؟ بضم أوله يقال أعاشه الله أي أعطاه العيش.
الأسودان التمر والماء: الأسودان يطلق على التمر والماء والسواد للتمر دون الماء فنعتا بنعت واحد تغليبا وإذا اقترن الشيئان سميا باسم أشهرهما.
منائح: جمع منيحة بنون وحاء مهملة
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: ما أكل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبزاً مرققاً، ولا شاة مسموطة حتى لقي الله.
[*] قال الحافظ بن حجر في الفتح:
ما أكل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبزاً مرققاً: وأكل المرقق إنما هو لدفع طيبات الدنيا اختيارا لطيبات الحياة الدائمة.
ولا شاة مسموطة: المسموط الذي ازيل شعره بالماء المسخن وشوى بجلده أو يطبخ وإنما يصنع ذلك في الصغير السن الطري وهو من فعل المترفين من وجهين أحدهما المبادرة إلى ذبح ما لو بقي لازداد ثمنه وثانيهما أن المسلوخ ينتفع بجلده في اللبس وغيره.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: ما علمت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكل على سُكُرُّجَةٍ قطُّ، ولا خُبِزَ له مرقَّق قطُّ، ولا أكل على خِوَان قطُّ. قيل لقتادة: فعلى ما كانوا يأكلون؟ قال: على السُّفَر.
[*] قال صاحب تحفة الأحوذي:(5/469)
(سُكُرُّجَةٍ) بِضَمِّ السِّينِ وَالْكَافِ وَالرَّاءِ وَالتَّشْدِيدِ إِنَاءٌ صَغِيرٌ يُؤْكَلُ فِيهِ الشَّيْءُ الْقَلِيلُ مِنَ الْأُدْمِ وَهِيَ فَارِسِيَّةٌ، وَأَكْثَرُ مَا يُوضَعُ فِيهِ الْكَوَامِخُ وَنَحْوُهَا كَذَا فِي النِّهَايَةِ.
قَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: تَرْكُهُ الْأَكْلَ فِي السُّكُرُّجَةِ إِمَّا لِكَوْنِهَا لَمْ تَكُنْ تُصْنَعُ عِنْدَهُمْ إِذْ ذَاكَ أَوِ اسْتِصْغَارًا لَهَا؛ لِأَنَّ عَادَتَهُمْ لِلِاجْتِمَاعِ عَلَى الْأَكْلِ أَوْ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُعَدُّ لِوَضْعِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُعِينُ عَلَى الْهَضْمِ وَلَمْ يَكُونُوا غَالِبًا يَشْبَعُونَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَاجَةٌ بِالْهَضْمِ انْتَهَى.
(عَلَى خِوَانٍ) بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَيُضَمُّ أَيْ مَائِدَةٍ.
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجلس على الأرض و يأكل على الأرض و يعتقل الشاة و يجيب دعوة المملوك على خبز الشعير.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(كان يجلس على الأرض) أي من غير حائل
(ويأكل على الأرض) من غير مائدة ولا خوان إشارة إلى طلب التساهل في أمر الظاهر وصرف الهمم إلى عمارة الباطن وتطهير القلوب وتأسى به أكابر صحبه فكانوا يصلون على الأرض في المساجد ويمشون حفاة في الطرقات ولا يجعلون غالباً بينهم وبين التراب حاجزاً في مضاجعهم قال الغزالي: وقد اتنهت النوبة الآن إلى طائفة يسمون الرعونة نظافة ويقولون هي مبنى الدين فأكثر أوقاتهم في تزيين الظاهر كفعل الماشطة بعروسها والباطن خراب ولا يستنكرون ذلك ولو مشى أحدهم على الأرض حافياً أو صلى عليها بغير سجادة مفروشة أقاموا عليه القيامة وشددوا عليه النكير ولقبوه بالقذر وأخرجوه من زمرتهم واستنكفوا عن مخالطته فقد صار المعروف منكراً والمنكر معروفاً
(ويعتقل الشاة) أي يجعل رجليه بين قوائمها ليحلبها إرشاداً إلى التواضع وترك الترفع.
(ويجيب دعوة المملوك على خبز الشعير) زاد في رواية والإهالة السنخة أي الدهن المتغير الريح وعلمه ذلك أنها بإخبار الداعي أو للعلم بفقره ورثاثة حاله أو مشاهدة غالب مأكوله ونحو ذلك من القرابين الخالية فكان لا يمنعه ذلك من إجابته وإن كان حقيراً وهذا من كمال تواضعه ومزيد براءته من سائر صنوف الكبر وأنواع الترفع.(5/470)
(وكان يقول: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة
(حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخندق، وهم يحفرون، ونحن ننقل التراب على أكتادنا، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اللهم لا عيش الا عيش الآخرة فاغفر للمهاجرين والأنصار).
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح مسلم) قالت: إنما كان فراش رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي ينام عليه أدماً حشوه ليف.
[*] قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم:
وفي الحديث ما كان عليه النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الزهادة في الدنيا والإعراض عن متاعها وملاذها وشهواتها وفاخر لباسها ونحوه واجتزائه بما يحصل به أدنى التجزية في ذلك كله، وفيه الندب للاقتداء به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا وغيره.
[*] وقال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
وَالْأَدَمُ بِفَتْحَتَيْنِ: اسْمٌ لِجَمْعِ الْأَدِيمِ وَهُوَ الْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ عَلَى مَا فِي الْمُغْرِبِ
(حَشْوُهُ لِيفٌ): قَالَ فِي الْقَامُوسِ: لِيفُ النَّخْلِ بِالْكَسْرِ مَعْرُوفٌ. وَقَالَ فِي الصُّرَاحِ لِيفٌ بِالْكَسْرِ يوست درخت خرما. وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ اتِّخَاذِ الْفِرَاشِ،، وَالْوِسَادَةِ وَالنَّوْمِ عَلَيْهَا وَالِارْتِفَاقِ بِهَا، قَالَهُ النَّوَوِيُّ. قَالَ الْقَارِيُّ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُقَالُ فِيهِ بِالِاسْتِحْبَابِ لِمُدَاوَمَتِهِ عَلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِأَنَّهُ أَكْمَلُ لِلِاسْتِرَاحَةِ الَّتِي قُصِدَتْ بِالنَّوْمِ لِلْقِيَامِ عَلَى النَّشَاطِ فِي الْعِبَادَةِ.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) قال نام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حصير فقام وقد أثر في جنبه قلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء فقال ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها.
[*] قال صاحب تحفة الأحوذي:
(فَقَامَ) أَيْ عَنِ النَّوْمِ
(وَقَدْ أَثَّرَ) أَيْ أَثَّرَ الْحَصِيرُ(5/471)
(لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً) بِكَسْرِ الجزء السابع الْوَاوِ وَفَتْحِهَا كَكِتَابٍ وَسَحَابٍ أَيْ فِرَاشًا وَكَلِمَةُ (لَوْ) تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّمَنِّي وَأَنْ تَكُونَ لِلشَّرْطِيَّةِ وَالتَّقْدِيرُ لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ بِسَاطًا حَسَنًا وَفِرَاشًا لَيِّنًا لَكَانَ أَحْسَنَ مِنَ اضْطِجَاعِكَ عَلَى هَذَا الْحَصِيرِ الْخَشِنِ
(مَالِي وَلِلدُّنْيَا) قَالَ الْقَارِي: مَا نَافِيَةٌ أَيْ لَيْسَ لِي أُلْفَةٌ وَمَحَبَّةٌ مَعَ الدُّنْيَا وَلَا لِلدُّنْيَا أُلْفَةٌ وَمَحَبَّةٌ مَعِي حَتَّى أَرْغَبَ إِلَيْهَا، وَأَنْبَسِطُ عَلَيْهَا وَأَجْمَعُ مَا فِيهَا وَلَذَّتِهَا أَوِ اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَيْ: أَيُّ أُلْفَةٍ وَمَحَبَّةٍ لِي مَعَ الدُّنْيَا أَوْ أَيُّ شَيْءٍ لِي مَعَ الْمَيْلِ إِلَى الدُّنْيَا أَوْ مَيْلِهَا إِلَيَّ فَإِنِّي طَالِبُ الْآخِرَةِ وَهِيَ ضَرَّتُهَا الْمُضَادَّةُ لَهَا. قَالَ وَاللَّامُ فِي لِلدُّنْيَا مُقْحَمَةٌ لِلتَّأْكِيدِ إِنْ كَانَ الْوَاوُ بِمَعْنَى مَعَ وَإِنْ كَانَ لِلْعَطْفِ فَالتَّقْدِيرُ مَالِي مَعَ الدُّنْيَا وَمَا لِلدُّنْيَا مَعِي
({اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا} (1)) وَجْهُ التَّشْبِيهِ سُرْعَةُ الرَّحِيلِ وَقِلَّةُ الْمُكْثِ وَمِنْ ثَمَّ خَصَّ الرَّاكِبَ.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) قالت دخلت علي امرأة من الأنصار فرأت فراش رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قطيفة مثنية فبعثت إلي بفراش حشوه الصوف فدخل علي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال ما هذا يا عائشة قالت قلت يا رسول الله فلانة الأنصارية دخلت فرأت فراشك فذهبت فبعثت إلي بهذا فقال رُدِّيْه يا عائشة فو الله لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة.
(حديث أبي بردة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال * دخلت على عائشة فأخرجت إلينا إزارا غليظا مما يصنع باليمن وكساء من التي يسمونها الملبدة قال فأقسمت بالله إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبض في هذين الثوبين.
[*] قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم:
الملبدة: قال العلماء الملبد بفتح الباء وهو المرقع، يقال: لبدت القميص ألبده بالتخفيف فيهما، ولبدته ألبده بالتشديد، وقيل هو الذي ثخن وسطه حتى صار كاللبد.
__________
(1) - سنن أبي داود اللباس (4104).(5/472)
(حديث عمرو بن الحارث رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: ما ترك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دينارا، ولا درهما، ولا عبدا، ولا أمة، إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها، وسلاحه، وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة.
{تنبيه}: (وهذا مثل أعلى في الزهد في الدنيا والتقلل من متاعها , فلقد كان بإمكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يكون أغنى رجل في العرب وربما في العالم , فلقد أفاء الله تعالى عليه في الغزوات أموالا عظيمة, ويكفي مثالا على ذلك غزوة حنين حيث كان يعطي الرجل الواحد مابين جبلين من الغنم والإبل, وأعطى عددا من زعماء العرب وأكابرهم كل واحد مائة من الإبل ولم يدخر لنفسه من ذلك شيئا, والْتَحق - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالرفيق الأعلى وهو على تلك الصفة المذكورة من التقشُّف والزهد البالغ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لو أن عندي مثلَ أحدٍ ذهباٍ ما يسرني أن لا يمَّر عليَّ ثلاث وعندي منه شيءٌ إلا شيءٌ أرْصُدُه لدين.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير.
(لو أن عندي مثلَ أحدٍ) أي جبل أحد
(ذهباً) بالنصب على التمييز قال ابن مالك بوقوع التمييز بعد مثل قليل وجواب لو
(ما يسرني) من السرور بمعنى الفرح
(أن لا يمر عليَّ) بالتشديد
(ثلاث) من الليالي ويجوز الأيام بتكلف
(وعندي منه شيء) أي من الذهب، وفي التقييد بثلاث مبالغة في سرعة الإنفاق
(إلا شيء أرصده) بضم الهمزة وكسر الصاد أعدَّه
(لدين) أي أحفظه لأداء دين لأنه مقدم على الصدقة واستثنى الشيء من الشيء لكون الثاني مقيداً خاصاً ورفعه لكونه جواب لو في حكم النفي وجعل لو هنا للتمني متعقب بالرد وخص الذهب بضرب المثل لكونه أشرف المعادن وأعظم حائل بين الخليقة وبين فوزها الأكبر يوم معادها وأعظم شيء عصى اللّه به وله قطعت الأرحام وأريقت الدماء واستحلت المحارم ووقع التظالم وهو المرغب في الدنيا المزهد في الآخرة وكم أميت به من حق وأحيي به من باطل ونصر به ظالم وقهر به مظلوم فمن سره أن لا يكون عنده منه شيء فقد آثر الآخرة.
(3) أن الله تعالى وصف أهله بالعلم وهو غاية الثناء:(5/473)
قال تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص 79،80]
(4) أن الله تعالى وصف الكفار أنهم يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة:
قال تعالى: {وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ} [إبراهيم 2، 3]
(فمفهومه أن المؤمن هو الذي يتصف بنقيضه وهو أن يستحب الآخرة على الحياة الدنيا.
(5) من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة بنص السنة الصحيحة:
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همّه جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له.
[من كانت الآخرة همّه]: يعني: أي شغله الشاغل، يعمل لها ويرغب فيها عن الآخرة، كان جزائه ما يلي:
جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة:
[ومن كانت الدنيا همّه]: فالإنسان مخلوق من أجل العبادة، فإذا نسي هذا الأمر وأصبح نهماً على الدنيا يريد أن يجمعها من أي جهة كانت، وأصبحت هذه الدنيا همه الوحيد فهذا جزاؤه [جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له]
[جعل الله فقره بين عينيه]: يعني: أنه دائماً مستحضر الفقر يرى الفقر بين عينيه، مهما وجد معه من المال،
[وفرَّق عليه شمله]: فالذي يجمع لك الأمور ويؤلف بين القلوب هو الله سبحانه وتعالى، فالإنسان يجمع من شمال ويمين وربنا يفرق عليه هذا كله ما دام همه الوحيد.(5/474)
[ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له]: فلا تتعب نفسك وتحملها فوق طاقتها فتقصر في عبادة الله سبحانه، وتقول: المال المال، ولكن ابحث عن المال من حلال، واحذر الحرام، واحذر أن تضيع الدين وتضيع الطاعة فيضيع منك الجميع الدنيا والآخرة.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من جعل الهموم هماً واحدا هم المعاد كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك.
من جعل الهموم هماً واحدا هم المعاد: ولو أن كلاً منا في قلبه الآخرة، فسيدرك أن الله سبحانه على كل عمل يقوم به، فإنه إذا قام للصلاة تذكر: الله سيحاسبني على هذه الصلاة فيحسنها، وإذا صام أحسن الصيام، وإذا عمل أي عمل من الأعمال أتقن ذلك العمل، ولا من أجل أن يأخذ الجزاء من الناس، ليس من أجل أن يترقى، ولكن ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه، فإذا كانت الآخرة على بال الإنسان دائماً فإن الله سوف يكفيه أمر دنياه، قال: (كفاه الله هم دنياه).
ومن تشعبت به الهموم: يعني: نسي الآخرة وبدأ يفكر يريد أن يأكل ويشرب ويلبس ويريد كذا وكذا، ويعمل طول النهار وهو يفكر في أمور الدنيا، ناسياً ربه سبحانه فهذا يكون حاله كما في الحديث:
(لم يبال الله في أي أوديته هلك): يعني: في أي مكان هلك لا يبالي الله عز وجل به. فالمؤمن قريب من الله، والله يحبه ويفرح بتوبته وبإقباله عليه، أما الإنسان البعيد عن الله سبحانه وتعالى فإن يهلك في أي واد لا يبالي الله به.
(6) إن من خير الناس من يشنأ الدنيا ويحب الآخرة بنص السنة الصحيحة:
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: خير الناس ذو القلب المخموم و اللسان الصادق قيل: ما القلب المخموم؟ قال: هو التقي النقي الذي لا إثم فيه و لا بغي و لا حسد قيل: فمن على أثره؟ قال: الذي يشنأ الدنيا و يحب الآخرة قيل: فمن على أثره؟ قال: مؤمن في خلق حسن. فمن على أثره؟ قال: الذي يشنأ الدنيا و يحب الآخرة: ومفهوم هذا أن شر الناس الذي يحب الدنيا.(5/475)
كلمات ينبغي أن تكتب بماء الذهب، ونور لا يخرج إلا من مشكاة النبوة، إنها دعوة لإرشاد النفس إلى طريق الخير دعوة امتزجت بالإخلاص المحض.
(مخموم القلب): يقال: خممت الشيء إذا كنسته، وخممت البيت إذا كنسته، مخموم القلب أي أنه يزيل ما علق بقلبه أول بأول، مثلما تكنس البيت وتزيل ما به من النجاسات والقاذورات.
(هو التقي النقي الذي لا إثم فيه و لا بغي و لا حسد): فعلى المسلم أن يربي نفسه على خلق العفو والصفح، وسلامة الصدر من شوائب الغل والحسد، ذلك الحسد الآفة العظيمة والمرض العضال، من سَلِمَ منه فقد سلم، وهو مثل الغيرة يثير الحقد والكراهية، ويدفع إلى تمني وقوع الأذى للشخص المحسود.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري. قال قال عيسى بن مريم عليه السلام: حب الدنيا رأس كل خطيئة، والمال فيه داء كثير، قيل: يا روح الله: ما داؤه؟ قال: لا يؤدي حقه، قالوا: فإن أدى حقه. قال: لا يسلم من الفخر والخيلاء، قالوا: فإن سلم من الفخر والخيلاء؟ قال: يشغله استصلاحه عن ذكر الله.(5/476)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم يقول: ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغض حبيبك، ذم مولانا الدنيا فمدحناها، وأبغضها فأحببناها، وزهدنا فيها فآثرناها ورغبنا في طلبها، وعدكم خراب الدنيا فحصنتموها، ونهيتم عن طلبها فطلبتموها، وأنذركم الكنوز فكنزتموها دعتكم إلى هذه الغرارة دواعيها، فأجبتم مسرعين مناديها، خدعتكم بغرورها ومنتكم، فأنفذتم خاضعين لأمنيتها تتمرغون في زهواتها، وتتمتعون في لذاتها، وتتقلبون في شهواتها، وتتلوثون بتبعاتها، تنشبون بمخالب الحرص عن خزائنها، وتحفرون بمعاول الطمع في معادنها، وتبنون بالغفلة في أماكنها وتحصنون بالجهل في مساكنها، تريدون أن تجاوروا الله في داره، وتحطوا رحالكم بقربه، بين أوليائه وأصفيائه، وأهل ولايته، وأنتم غرقى في بحار الدنيا حيارى، ترتعون في زهواتها، وتتمتعون في لذاتها، وتتنافسون في غمراتها، فمن جَمْعِها ما تشبعون، ومن التنافس فيها ما تَمِلُّون، كذبتم و الله أنفسكم وغرتكم ومنتكم الأماني، وعللتكم بالتواني، حتى لا تعطوا اليقين من قلوبكم، والصدق من نياتكم، وتتنصلون إليه من مساوىء ذنوبكم وتعصوه في بقية أعماركم، أما سمعتم الله تعالى يقول في محكم كتابه: (أَمْ نَجْعَلُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتّقِينَ كَالْفُجّارِ) [ص: 28]. لا تنال جنته إلا بطاعته، ولا تنال ولايته إلا بمحبته، ولا تنال مرضاته إلا بترك معصيته، فإن الله تعالى قد أعد المغفرة للأوابين، وأعد الرحمة للتوابين، وأعد الجنة للخائفين، وأعد الحور للمطيعين، وأعد رؤيته للمشتاقين، قال تعالى: (وَإِنّي لَغَفّارٌ لّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمّ اهْتَدَىَ) [طه: 82]. من طريق العمى إلى طريق الهدى.
(7) إن الزهد في الدنيا من أسباب نيل حب الله تعالى الذي هو غاية كل مؤمن:
(حديث سهل بن سعد الثابت في صحيح ابن ماجة) قال أتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلٌ فقال يا رسول الله: دلني على عملٍ إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:(5/477)
(ازهد) من الزهد بكسر أوله وقد يفتح، وهو لغة: الإعراض عن الشيء احتقاراً، وشرعاً الاقتصار على قدر الضرورة مما يتيقن حله. وقيل أن لا يطلب المفقود حتى يفقد الموجود
(في الدنيا) باستصغار جملتها واحتقار جميع شأنها لتحذير الله تعالى منها واحتقاره لها، فإنك إن فعلت ذلك
(يحبك الله) لكونك أعرضت عما أعرض عنه ولم ينظر إليه منذ خلقه. وفي إفهامه أنك إذا أحببتها أبغضك، فمحبته مع عدم محبتها ولأنه سبحانه وتعالى يحب من أطاعه، ومحبته مع محبة الدنيا لا يجتمعان، وذلك لأن القلب بيت الرب فلا يحب أن يشرك في بيته غيره، ومحبتها الممنوعة هي إيثارها بنيل الشهوات لا لفعل الخير والتقرب بها، والمراد بمحبته غايتها من إرادة الثواب، فهي صفة ذاتية أو الإثابة فهي صفة فعلية (وازهد فيما عند الناس) منها
(يحبك الناس) لأن قلوبهم مجبولة على حبها مطبوعة عليها ومن نازع إنساناً في محبوبه كرهه وقلاه، ومن لم يعارضه فيه أحبه واصطفاه ولهذا قال الحسن البصري لا يزال الرجل كريماً على الناس حتى يطمع في دنياهم فيستخفون به ويكرهون حديثه. وقيل لبعض أهل البصرة: من سيدكم؟ قال الحسن، قال بم سادكم؟ قال: احتجنا لعلمه واستغنى عن دنيانا
ماأعظم هذه الوصية النبوية، وما أشد حاجتنا إلى فهمها، والعمل بمقتضاها، حتى ننال بذلك المحبة بجميع صورها.
{تنبيه}: (الزهد سبباً للمحبة، فمن أحبه الله تعالى فهو في أعلى الدرجات؛ فينبغي أن يكون الزهد في الدنيا من أفضل المقامات، ومفهومه أيضاً أن من محب الدنيا متعرض لبغض الله تعالى.
(أقوال السلف في الزهد:
ولما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الأسوة والقدوة، فقد سار على دربه الأفاضل، فعن على رضي الله عنه أنه قال: طوبى للزاهدين في الدنيا والراغبين في الآخرة أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطاً، وترابها فراشاً، وماءها طيباً، والكتاب شعاراً، والدعاء دثاراً، ورفضوا الدنيا رفضاً.
[*] وكتب أبو الدرداء إلى بعض إخوانه، أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله، والزهد في الدنيا، والرغبة فيما عند الله، فإنك إذا فعلت ذلك أحبك الله لرغبتك فيما عنده، وأحبك الناس لتركك لهم دنياهم، والسلام.
[*] وقال أبو الدرداء حين تولى القضاء في الشام:
في خلافة عثمان، أصبح أبو الدرداء واليا للقضاء في الشام، فخطب بالناس يوما وقال: يا أهل الشام، أنتم الإخوان في الدين، والجيران في الدار، والأنصار على الأعداء، و لكن مالي أراكم لا تستحيون؟؟(5/478)
تجمعون مالا تأكلون، وتبنون مالا تسكنون، وترجون مالا تبلغون، قد كانت القرون من قبلكم يجمعون فيوعون، ويؤملون فيطيلون، ويبنون فيوثقون، فأصبح جمعهم بورا، وأملهم غرورا، وبيوتهم قبورا أولئك قوم عاد، ملئوا ما بين عدن إلى عمان أموالا وأولادا.
ثم ابتسم بسخرية لافحة: من يشتري مني تركة أل عاد بدرهمين؟!
[*] وعن عروة بن الزبير أن أم المؤمنين عائشة جاءها يوماً من عند معاوية ثمانون ألفاً، فما أمسى عندها درهم، قالت لها جاريتها: فهلا اشتريت لنا منه لحماً بدرهم؟ قالت: لو ذكرتني لفعلت.
[*] قال ابن مسعود رضي الله عنه: الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا علم له.
(وقال أيضاً: ركعتين من زاهد قلبه خير له وأحب إلى الله من عبادة المتعبدين المجتهدين إلى آخر الدهر أبداً سرمداً.
(وقال ابن مسعود لأصحابه: أنتم أكثر صلاة وصوماً وجهاداً من أصحاب محمد، وهم كانوا خيراً منكم، قالوا: كيف ذلك؟ قال: كانوا أزهد منكم في
الدنيا وأرغب منكم في الآخرة.
[*] وقال عمر رضي الله عنه: الزهادة في الدنيا راحة القلب والجسد.
(ولما قدم عمر رضي الله عنه الشام تلقاه الجنود وعليه إزار وخفان وعمامة، وهو آخذ برأس راحلته يخوض الماء، فقالوا: يا أمير المؤمنين، يلقاك الجنود وبطارقة الشام وأنت على حالتك هذه، فقال: (إنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فلن نلتمس العز بغيره) ودخل رجل على أبي ذر رضي الله عنه فجعل يقلب بصره في بيته، فقال يا أبا ذر: ما أرى في بيتك متاعاً، ولا أثاثاً، فقال: إن لنا بيتاً نوجه إليه صالح متاعنا وقال: إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه.
[*] وقال على رضي الله عنه: تزوجت فاطمة ومالي ولها فراش إلا جلد كبش، كنا ننام عليه بالليل، ونعلف عليه الناضح (البعير) بالنهار ومالي خادم غيرها، ولقد كانت تعجن، وإن قصتها لتضرب حرف الجفنة من الجهد الذي بها.
(وقال أيضاً: إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل، وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197]
[*] وكان عمرو بن العاص – رضي الله عنه- يخطب بمصر ويقول: ما أبعد هديكم من
هدي نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما هو فكان أزهد الناس في الدنيا وأما أنتم فأرغب الناس فيها.(5/479)
[*] ولما حضرت الوفاة معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لكرى الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر.
[*] وقد ذكر الإمام أحمد أن أفضل التابعين علماً سعيد بن المسيب، أما أفضلهم على جهة العموم والجملة فأويس القرني، وكان أويس يقول: توسدوا الموت إذا نمتم و اجعلوه نصب أعينكم إذا قمتم،
[*] وقال الفضيل: حرام على قلوبكم أن تصيب حلاوة الإيمان حتى تزهدوا في الدنيا.
[*] وقال أبو داود: كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا، ما رأيته ذكر الدنيا قط.
[*] قال مالك بن دينار: يقولون: مالك زاهد. أي زهد عند مالك، وله جبة وكساء. إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز أتته الدنيا فاغرة فتركها.
[*] وصية إمام الزاهدين إبراهيم بن أدهم:
قيل لسلطان الزاهدين إبراهيم بن أدهم {أوصنا بما ينفعنا فقال:
* إذا رأيتم الناس مشغولين بامر الدنيا فاشتغلوا بأمر الآخرة.
* وإذا اشتغلوا بتزيين ظواهرهم فاشتغلوا بتزيين بواطنكم.
* وإذا اشتغلوا بعمارة البساتين والقصور فاشتغلوا بعمارة القبور.
* وإذا اشتغلوا بخدمة المخلوقين فاشتغلوا بخدمة رب العالمين.
* و إذا اشتغلوا بعيوب الناس فاشتغلوا بعيوب أنفسكم.
* واتخذوا من الدنيا زادا يوصلكم الى الآخرة فإنما الدنيا مزرعة الآخرة.
[*] وكان كثير من السلف يعرض لهم بالمال الحلال، فيقولون: لا نأخذه، نخاف أن يفسد علينا ديننا.
[*] وكان حماد بن سلمة إذا فتح حانوته وكسب حبتين قام.
[*] وكان سعيد بن المسيب يتجر في الزيت، وخلف أربعمائة دينار، وقال: إنما تركتها لأصون بها عرضي وديني.
[*] وقال سفيان الثورى: الزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ ولا بلبس العباءة.
(وقال أيضا ً: إذا زهد العبد في الدنيا أنبت الله الحكمة في قلبه، وأطلق بها لسانه، وبصره عيوب الدنيا وداءها ودواءها.
(وقال أيضا ً: عليك بالزهد يبصرك الله عورات الدنيا، وعليك بالورع يخفف الله عنك حسابك، ودع ما يريبك إلى مالا يريبك، وادفع الشك باليقين يسلم لك دينك.
(وقال أيضا ً: لا تصلح القراءة إلا بالزهد، واغبط الأحياء بما تغبط به الأموات، أحبهم على قدر أعمالهم، وذل عند الطاعة، واستعص عند المعصية.
(وقال أيضا ً: لا يكون للقراءة ملح حتى يكون معها زهد.(5/480)
[*] وقال الشافعي في ذم الدنيا والتمسك بها: وما هي إلا جيفة مستحيلة عليها كلاب همهن اجتذابها فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها وان تجتذبها نازعتك كلابها.
[*] وكان أبو سليمان الداراني يقول: كل ما شغلك عن الله، من أهل ومال وولد فهو مشئوم طويت الدنيا عمن هم أفضل منا.
ويكفي أن في الزهد التأسي برسول الله صلي اله عليه وسلم وصحابته الكرام، كما أن فيه تمام التوكل على الله، وهو يغرس في القلب القناعة، إنه راحة في الدنيا وسعادة في الآخرة.
[*] وقال عبد الله بن عون: إن من كان قبلنا كانوا يجعلون للدنيا ما فضل عن آخرتهم، وإنكم تجعلون لآخرتكم ما فضل عن دنياكم.
[*] قال الحسن البصري رحمه الله: " أدركت أقواما وصحبت طوائف ما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا إذا أقبل، ولا يأسفون على شيء منها إذا أدبر، وكانت في أعينهم أهون من التراب "
[*] وقال الحسن: دخلنا على صفوان بن محيريز وهو في بيت من قصب قد مال عليه فقيل له: لو أصلحته. فقال: كم من رجل قد مات، وهو قائم على حاله.
[*] وكان الحسن البصري إذا ذكر له صاحب الدنيا يقول: والله ما بقيت له ولا بقي لها. لقد أخرج منها في خرق.
[*] وقال الحسن رحمه الله: والله لقد أدركت سبعين بدرياً أكثر لباسهم الصوف. [*] قال إبراهيم التيمي: كم بينكم وبين القوم؟ أقبلت عليهم الدنيا فهربوا منها، وأدبرت عنكم فاتّبعتموها.
[*] وقال بلال بن سعد: كفى به ذنباً أن الله تعالى يزهدنا في الدنيا ونحن نرغب فيها.
(والزاهد يحبه الله ويحبه الناس فإن امتلكت فاشكر، وأخرج الدنيا من قلبك، وان افتقرت فاصبر فقد طويت عمن هم أفضل منك، فقد كان نبيك صلي الله عليه وسلم ينام على الحصير حتى يؤثر في جنبه، ومات وفي رف أم المؤمنين عائشة حفنة من الشعير تأكل منها، وكنت إذا دخلت بيوت رسول الله صلي الله عليه وسلم نلت السقف، وخطب عمر بن الخطاب وهو خليفة المؤمنين وعليه إزار به اثنتا عشرة رقعة لقد طويت الدنيا عنهم ولم يكن ذلك لهوانهم على الله، بل لهوان الدنيا عليه سبحانه. فهي لا تزن عنده جناح بعوضه، وركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها.
فلا تأس ولا تجزع على ما فاتك منها، ولا تفرح بما أتاك؛ فالمؤمن لا يجزع من ذلها ولا يتنافس في عزها له شأن وللناس شان، وكن عبداً لله في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك، وسواء أقبلت عليك الدنيا أو أدبرت فإقبالها إحجام، وإدبارها إقدام، والأصل أن تلقاك بكل ما تكره فإذا لاقتك بما تحب فهو استثناء.(5/481)
(وفصل الخطاب في فضائل الزهد: هو ما قاله الفضيل ابن عياض: جعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال: لا يسلم لك قلبك حتى لا تبالي من كل الدنيا، وقيل للفضيل: ما الزهد في الدنيا؟ قال: القنع وهو الغنى، وقيل: ما الورع؟ قال: اجتناب المحارم. وسئل ما العبادة؟ قال: أداء الفرائض. وسئل عن التواضع قال: أن تخضع للحق، وقال: أشد الورع في اللسان، وقال: التعبير كله باللسان لا بالعمل. وقال: جعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا. وقال: قال الله عز وجل: إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني.
(حاجة الناس إلى الزهد:
إن الزهد في الدنيا ليس من نافلة القول، بل هو أمر لازم لكل من أراد رضوان الله تعالى والفوز بجنته، ويكفي في فضيلته أنه اختيار نبينا محمد وأصحابه،
[*] قال ابن القيم رحمه الله: لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، فإيثار الدنيا على الآخرة إما من فساد في الإيمان، وإما من فساد في العقل، أو منهما معاً.
ولذا نبذها رسول الله وراء ظهره هو وأصحابه، وصرفوا عنها قلوبهم، وهجروها ولم يميلوا إليها، عدوها سجناً لا جنة، فزهدوا فيها حقيقة الزهد، ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب، ولوصلوا منها إلى كل مرغوب، ولكنهم علموا أنها دار عبور لا دار سرور، وأنها سحابة صيف ينقشع عن قليل، وخيال طيف ما استتم الزيارة حتى أذن بالرحيل.
(كيف يزهد العبد في الدنيا ويرغب في الآخرة:
[*] قال ابن القيم -رحمه الله-: لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين:
النظر الأول: النظر في الدنيا، وسرعة زوالها وفنائها، واضمحلالها، ونقصها، وخستها، وألم المزاحمة عليها، والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص والنغص، والأنكاد، وآخر ذلك الزوال، والانقطاع، مع ما يعقب من الحسرة والأسف، فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها، وهم في حال الظفر بها، وغم وحزن بعد فواتها، فهذا أحد النظرين.
النظر الثاني: النظر في الآخرة، وإقبالها، ومجيئها ولابد، ودوامها، وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات، والمسرات، والتفاوت الذي بينه وبين ما ههنا، فهي كما قال تعالى: (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الأعلى:17].
فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة.(5/482)
فإذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقل إيثاره، وزهد فيما يقتضي الزهد فيه، فكل أحدٍ مطبوع على أن لا يترك النفع العاجل واللذة الحاضرة إلى النفع الآجل واللذة الغائبة المنتظرة، إلا تبين له فضل الآجل على العاجل، وقويت رغبته في الأعلى الأفضل.
فإذا آثر الفاني الناقص، كان ذلك إما لعدم تبين الفضل له، وإما لعدم رغبته في الأفضل.
وكل واحد من الأمرين يدل على ضعف الإيمان، وضعف العقل والبصيرة فإن الراغب في الدنيا الحريص عليها المؤثر لها، إما أن يُصَدِّق بأن ما هناك أشرف وأفضل وأبقى، وإما أن لا يصدق. فإن لم يصدق بذلك كان عادمًا للإيمان رأسًا، وإن صدق بذلك ولم يؤثره كان فاسد العقل، سيء الاختيار لنفسه، وهذا تقسيم حاضر ضروري، لا ينفك العبد من أحد القسمين منه، فإيثار الدنيا على الآخرة إما من فساد في الإيمان، وإما من فساد في العقل، وما أكثر ما يقوم منهما، ولهذا نبذها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وراء ظهره هو وأصحابه، وصرفوا عنها قلوبهم، وأطرحوها ولم يألفوها، وهجروها ولم يميلوا إليها، وعَدُّوها سجنًا لا جنة، فزهدوا فيها حقيقة الزهد، ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب، ولوصلوا منها إلى كل مرغوب، فقد عرضت عليه مفاتيح كنوزها فردها، وفاضت على أصحابه فآثروا بها، ولم يبيعوا حظهم من الآخرة بها، وعلموا أنها معبر لا ممر، لا دار مقام ومستقر، وأنها دار عبور لا دار سرور، وأنها سحابة صيف تنقشع عن قليل، وخيال طيف ما استتم الزيارة حتى أذّن بالرحيل.
قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما لي وللدنيا، إنما أنا كراكب قال في ظل شجرة، ثم راح وتركها)
وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما الدنيا في الآخرة، إلا كما يدخل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بما ترجع)
وقد توعد سبحانه أعظم الوعيد لمن رضي بالحياة الدنيا واطمأن بها، وغفل عن آياته، ولم يرج لقائه، فقال: ({إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ). [يونس:7، 8].
من كتاب (خواطر إيمانية) لـ د/أحمد فريد(5/483)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شقيق بن إبراهيم البلخي قال: سبعة أبواب يسلك بها طريق الزهاد: الصبر على الجوع بالسرور لا بالفتور، بالرضا لا بالجزع، والصبر على العرى بالفرح لا بالحزن، والصبر على طول الصيام بالتفضل لا بالتعسف، كأنه طاعم ناعم، والصبر على الذل بطيب نفسه لا بالتكره، والصبر على البؤس بالرضا لا بالسخط، وطول الفكرة فيما يودع بطنه من المطعم والمشرب، ويكسو به ظهره من أين، وكيف، ولعل، وعسى. فإذا كان في هذه الأبواب السبعة فقد سلك صدرا من طريق الزهاد وذلك الفضل العظيم.
(خصال الزهد:
- الخصال المطلوبة في تحقق الزهد:
تعددت أقوال السلف من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدُجى في خصال الزهد وهاك صفوة ماقالوه في خصال الزهد:
[*] قال يحيى بن معاذ: لا يبلغ أحد حقيقة الزهد حتى يكون فيه ثلاث خصال:
عمل بلا علاقة، وقول بلا طمع، وعز بلا رياسة.
[*] وقال بعض الحكماء: الزهد خمس خصال: الثقة بالله، والتبرى عن الخلق، الإخلاص في العمل، واحتمال الظلم، والقناعة في اليد
[*] ومن أحسن ما قيل في خصال الزهد ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال» الزهد ثلاثة أحرف (زاي وهاء ودال)، فالزاي زاد للمعاد، والهاء هدي للدين، والدال دوام على الطاعة «. وفي موضع آخر، قال» الزهد ثلاثة أحرف، الزاي ترك الزينة، والهاء ترك الهوى، والدال ترك الدنيا ..
(ومن خصال الزهد: أن يميل على الهوى ولا يميل مع الهوى، والثانية ينقطع الزاهد إلى الزهد بقلبه، وأن يذكر كلما خلا بنفسه كيف مدخله في قبره وكيف مخرجه:
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شقيق البلخي قال: ثلاث خصال هي تاج الزاهد، الأولى أن يميل على الهوى ولا يميل مع الهوى، والثانية ينقطع الزاهد إلى الزهد بقلبه، والثالثة أن يذكر كلما خلا بنفسه كيف مدخله في قبره وكيف مخرجه، ويذكر الجوع والعطش والعرى، وطول القيامة والحساب والصراط، وطول الحساب والفضيحة البادية، فإذا ذكر ذلك شغله عن ذكر دار الغرور، فإذا كان ذلك كان من محبى الزهاد ومن أحبهم كان معهم.
(عشرةٌ من خِصال الزهد:(5/484)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شقيق بن إبراهيم قال: عشرة أبواب من الزهد يسمى الرجل فيها زاهدا إذا فعلها، فإذا خالفها سمى متزهدا، والمتزهد الذي يتشبه بالزهاد في رؤيته وسمعته وخشوعه وقوله، ومدخله ومخرجه، ومطعمه وملبسه، ومركبه، وفعله وحرصه، وحب الدنيا يشهد عليه بخلافه، ترى رضاه رضا الراغبين، وبساطه في كلامه وعجلته بساط الراغبين، وحسده وبغيه وتطاوله وكبره وفخره وسوء خلقه وحفا لسانه وطول خوضه فيما لا يعنيه يدل على نفاق المتزهد، لا على خشوع الزاهد، فاحذر من هذه الصفة، وإذا وجدت فيمن يزعم أنه زاهد الخصال التي أصفها لك فارج له أن يكون في بعض طريق الزهاد، إذا أسرته حسنة وساءته سيئة، وكره أن يحمد بما لم يفعل من البر، فأما إذا لم يفعل يكره هذه كما يكره لحم الخنزير والميتة والدم، وإذا عرف هذه الخصال صرف فيها نهاره وساعاته وليلته وساعاتها، نقص أمله وطال غمه بما أمامه، فإذا شغل نفسه بغير ما خلق له طال حزنه، وعلم أنه مفتون وترك من شغله عن الطاعة في تلك الساعة، فبهذا يجدون حلاوة الزهد، وبه يحترزون من حزب الشيطان، وإن ذكر الله عندهم أحلى من العسل، وأبرد من البرد وأشفى من الماء العذب الصافي عند العطشان في اليوم الصائف، وتكون مجالستهم مع من يصف لهم بالزهاد ويعظهم أحب إليهم وأشهى عندهم ممن يعطيهم الدنانير والدراهم عند الحاجة وذلك بقلوبهم لا بألسنتهم، وأن يخلو أحدهم بالبكاء على ذنوبه وعلى الخوف الشديد أن لا يقبل منه ما يعمل، ويظهر للناس من التبسم والنشاط كأنه ذو رغبة لا ذو رهبة، وأن لا يحدث نفسه أنه خير من أحد من أهل قبلته: وأن يعرف ذنوبه ولا يعرف ذنوب غيره، فإذا كانت فيه هذه الأبواب العشرة كان في طريق الزهاد، فأرجو أن يسلكه إن شاء الله، وسبعة أبواب تتلو هذه الأبواب، التواضع لله بالقلب لا بالتصنع، والخضوع للحق طوعا لا بالاضطرار، وحسن المعاشرة مع من ابتلى بمعاشرتهم لا لرغبة فيما عندهم، والهرب من المنكبين على الدنيا كهرب الحمار من البيطار والنفور عنها كنفور الحمار من زئير السبع، وطلب العافيه من كل ما يخاف عقابه ولا يرجو ثوابه، ومجالسة البكائين على الذنوب، والرحمة لنفسه ولأنفسهم، ومخاطبة العالمين بظاهره لا بقلبه، ولا يتخوف من الكائن بعد الموت والأهوال والشدائد، فإذا فعل ذلك سلك طريق الزهاد ونال أفضل العبادة.(5/485)
(ومن خصال الزهد: الخوف والرجاء والرغبة والرهبة والسخاء وسلامة الصدر واليقين التام:
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم: أقرب الزهاد من الله عز وجل أشدهم خوفا، وأحب الزهاد إلى الله أحسنهم له عملا، وأفضل الزهاد عند الله أعظمهم فيما عنده رغبة، وأكرم الزهاد عليه أتقاهم له، وأتم الزهاد زهدا أسخاهم نفسا وأسلمهم صدرا، وأكمل الزهاد زهدا أكثرهم يقينا.
(ومن خصال الزهد: أن الزاهد يعزف عن القيل والقال ويضع نصب عينيه ومحط نظره وقِبلة قلبه الوحيين الشريفيين الكتاب والسنة الصحيحة يتمسك بهما ويعض عليهما بالنواجذ، وينشغل بهما عن غيرهما، ويستمد من نورهما نوراً ومن ضيائهما لمعاناً ليُضئ له الطريق، وينشغل عن مخالطة أهل الدنيا بقوله تعالى: (لأيّ يَوْمٍ أُجّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ) [المرسلات 12: 15]. يوم يقال: (اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَىَ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [الإسراء: 14].
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم قال: الزاهد يكتفي من الأحاديث والقال والقيل وما كان وما يكون بقول الله تعالى: (لأيّ يَوْمٍ أُجّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ) [المرسلات 12: 15]. يوم يقال: (اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَىَ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [الإسراء: 14]. قال إبراهيم: فبلغني أن الحسن قال في قوله: كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا. لكل آدمي قلادة فيها نسخة عمله، فإذا مات طويت وقلدها، فإذا بعث نشرت. وقيل: اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً.
(ومن خصال الزاهد وهو يصلي:
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن رباح بن الهروي، قال: مر عصام بن يوسف بحاتم الأصم وهو يتكلم في مجلسه، فقال: يا حاتم تحسن تصلي؟ قال: نعم قال: كيف تصلي؟ قال حاتم: أقوم بالأمر وأمشي بالخشية وأدخل بالنية وأكبر بالعظمة وأقرأ بالترتيل والتفكر وأركع بالخشوع وأسجد بالتواضع وأجلس للتشهد بالتمام وأسلم بالسبل والسنة وأسلمها بالإخلاص إلى الله عز وجل وأرجح على نفسي بالخوف أخاف أن لا يقبل مني وأحفظه بالجهد إلى الموت، قال: تكلم فأنت تحسن لصلي.(5/486)
(ومن أخص صفات الزهد هو العلم بالتوحيد لأن التوحيد مُقَدَّمٌ على العمل والأصل الذي يترتب عليه غيره إذ لا ينفعُ مع الشركِ عمل، وإذا لم يكن الزاهد على علم بالتوحيد ربما يقع في الشرك وهو لايدري فلا ينفعه الزهد حينئذ.
قال تعالى: (فَاعْلَمْ أَنّهُ لاَ إِلََهَ إِلا اللّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) (محمد / 19)
(حديث ا بن عباس في الصحيحين) قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذٍ ابن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك
فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتُردُ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لاإله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات، فجعل إخبارهم بالصلاةِ معلقٌ على قبولِ التوحيد فإن لم يقبلوه فلا تخبرهم، وذلك لأن التوحيد مُقَدَّمٌ على العمل والأصلُ الذي يترتب عليه غيره إذ لا ينفع مع الشركِ عمل.
(حديثُ جندب ابن عبد الله صحيح ابن ماجة) قال كنا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن فتيانٌ حزَاوِرَة، فتعلمنا الإيمانَ قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآنَ فازددنا به إيمانا.
معنى حزاوره: جمع حَزْوَر وهو الغلام إذا اشتد وقوى.
[*] قال الشيخ حافظ ابن أحمد الحكمي في سلم الوصول:
أولُ واجبٍِ على العبيدِ ... معرفةُ الرحمنِ بالتوحيدِ
إذ هو من كل الأوامرِ أعظمُ ... وهو نوعان أيا من يفهمُ(5/487)
(ومن أخص صفات الزهد الفقه، فإنه لا يصلح زهد إلا بفقه، لأن الفقه ميزانٌ صحيح ومقياسٌ دقيقٌ معتبر يطَّلع الإنسان من خلاله على حقيقة الزهد وحقيقة الدنيا فيرغب عنها وحقيقة الآخرة فيرغب فيها فيرزقه الله تعالى التوفيق والسداد، ويعصمه من الشطط، ولأنه إذا لم يتفقه في دين الله تعالى لربما فعل أشياء ظناً منه أنها من الزهد وليس الأمر كذلك، لجهله ثم إنه وبفقه الأحكام سيُصححُ عمله الذي سيلقي به ربه ولا سبيل له إلى تصحيح عمله الذي سيلقي به ربه إلا عن طريق الفقه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان ابن عيينة: لا تصلح عبادة إلا بزهد، ولا يصلح زهد إلا بفقه، ولا يصلح فقه إلا بصبر.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عمران القصير، قال: سألت الحسن، عن شيء فقلت: إن الفقهاء يقولون كذا وكذا فقال: وهل رأيت فقيهاً بعينك؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه عز وجل.(5/488)
(ومن أخص صفات الزهد التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل إذ لا معنى للزهد الذي هو من أفضل أبواب تزكية النفس إلا بالتحلي بالفضائل من قراءة القرآن والذكر والدعاء والاستغفار وقيام الليل وبر الوالدين وصلة الرحم والإحسان إلى الجار وعدم إيذائه و إكرام الضيف والتعاون على البر والتقوى والتحلي بآداب الصحبة والأخوة ومعاشرة الخلق و بذل النصيحة وقضاء حوائج المسلمين وخدمتهم وصنع المعروف و شكر المعروف و الحب في الله تعالى والحرص على مجالسة الصالحين ورحمة الصغير وتوقير الكبير وضبط اللسان وحسن الخلق والحِلمِ والأناة و الرفق واحتمال الأذى والعفو والإعراض عن الجاهلين و التواضع وخفض الجناح وإيثار الخمول وعدم الشهرة والصمت وقلةِ الكلام والصدق والحياء والجود والسخاء والإنفاق في وجوه الخير والإيثار والمواساة في السَنَةِ والمجاعة ومجاهدة النفس والهوى، وكذلك لايتم تحقيق الزهد إلا بالتخلي عن الرذائل من اجتناب الغش والخداع للمسلمين و اجتناب الغدر للمسلمين و اجتناب ظلم العباد فإنه بئس الزاد ليوم المعاد و اجتناب مجالس الظالمين و اجتناب إيذاء المسلمين و اجتناب التباغض والتقاطع والتدابر واجتناب الحسد واجتناب احتقار المسلمين واجتناب التجسس على المسلمين وعدم تتبع عورات المسلمين وزلاتهم والتخلي عن رذيلة كثرة الكلام والتخلي عن رذيلة التحدث بكل ما سمع والتخلي عن الكذب والتخلي عن الغناء والاحتراز منه والتخلي والاحتراز من الشعر المحرم والتخلي عن رذيلة الغيبة والتخلي عن رذيلة النميمة والتخلي عن رذيلة ذي الوجهين والاحتراز من فحش القول وبذاءة اللسان و التخلي عن رزيلة الغضب والتخلي عن رذيلة السباب والتخلي عن آفة التكلم فيما لا يعنيه والتخلي عن آفة كثرة المزاح والتخلي عن رذيلة شهادة الزور وحفظ اللسان من قذف المحصنات والعياذ بالله والتخلي عن الجدال العقيم والتخلي عن شهوة الخصومة وحفظ اللسان من الحلف بغير الله وحفظ اللسان عن الحلف بالأمانة وحفظ اللسان عن الحلف باللات والعزى وحفظ اللسان عن الحلف بالله كذباً وحفظ اللسان عن اليمين الغموس وحفظ اللسان من المدح المذموم وحفظ اللسان من اللعن وحفظ اللسان من إخلاف الوعد والتخلي عن رزيلة الكبر والعياذ بالله والاحتراز من رذيلة العجب والعياذ بالله والتخلي من رذيلة البخل والعياذ بالله والاحتراز من رذيلة الحرص والطمع، وسيأتي بسط ذلك في كتاب الآداب إن شاء الله تعالى.(5/489)
(الزاهد والراغب لا يجتمعان بغيتهما مخالفة، وهواهما شتى:
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شقيق البلخي قال: والزاهد والراغب كرجلين يريد أحدهما المشرق والآخر يريد المغرب، هل يتفقان على أمر واحد وبغيتهما مخالفة، وهواهما شتى؟ دعاء الراغب: اللهم ارزقني مالا وولدا وخيرا وانصرني على أعدائي وادفع عني شرورهم وحسدهم وبغيهم وبلاءهم وفتنهم آمين. ودعاء الزاهد: اللهم ارزقني علم الخائفين. وخوف العاملين ويقين المتوكلين. وتوكل الموقنين. وشكر الصابرين. وصبر الشاكرين. وإخبات المغلبين. وإنابة المخبتين. وزهد الصادقين. وألحقني بالشهداء والأحياء المرزوقين. آمين رب العالمين. هذا دعاؤه هل من شيء من دعاء الراغب يحيط به؟ لا والله هذا طريق وذاك طريق.
(رأس الزهد ووسط الزهد وآخر الزهد:(5/490)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي تراب الزاهد، قال: جاء رجل إلى حاتم الأصم، فقال: يا أبا عبد الرحمن أي شيء رأس الزهد ووسط الزهد وآخر الزهد فقال: رأس الزهد الثقة بالله، ووسطه الصبر، وآخره الإخلاص، قال حاتم: وأنا أدعو الناس إلى ثلاثة أشياء: إلى المعرفة وإلى الثقة وإلى التوكل، فأما معرفة القضاء فإن تعلم أن القضاء عدل منه فإذا علمت أن ذلك عدل منه فإنه لا ينبغي لك أن تشكو إلى الناس أو تهتم أو تسخط، ولكنه ينبغي لك أن ترضى وتصبر. وأما الثقة فالإياس من المخلوقين، وعلامة الإياس أن ترفع القضاء من المخلوقين فإذا رفعت القضاء منهم استرحت منهم واستراحوا منك، وإذا لم ترفع القضاء منهم فإنه لابد لك أن تتزين لهم وتتصنع لهم، فإذا فعلت ذلك فقد وقعت في أمر عظيم، وقد وقعوا في أمر عظيم، وتصنع فإذا وضعت عليهم الموت فقد رحمتهم وأيست منهم، وأما التوكل فطمأنينة القلب بموعود الله تعالى، فإذا كنت مطمئنا بالموعود استغنيت غنى لا تفتقر أبداً. قال حاتم: والزهد اسم والزاهد الرجل، وللزهد ثلاث شرايع، أولها الصبر بالمعرفة والاستقامة على التوكل والرضاء بالعطاء، فأما تفسير الصبر بالمعرفة فإذا أنزلت الشدة أن تعلم بقلبك أن الله عز وجل يراك على حالك وتصبر وتحتسب وتعرف ثواب ذلك الصبر، ومعرفة ثواب الصبر أن تكون مستوطن النفس في ذلك الصبر، وتعلم أن لكل شيء وقتا، والوقت على وجهين إما أن يجيء الفرج وإما أن يجيء الموت، فإذا كان هذان الشيئان عندك فأنت حينئذ عارف صابر، وأما الاستقامة على التوكل فالتوكل إقرار باللسان وتصديق بالقلب، فإذا كان مقرا مصدقاً أنه رازق لا شك فيه فإنه يستقيم، والاستقامة على معنيين، أن تعلم أن شيئاً لك وشيئاً لغيرك، وأن كل شيء لك لا يفوتك، والذي لغيرك لا تنالله ولو احتلت بكل حيلة، فإذا كان مالك لا يفوتك فينبغي لك أن تكون واثقا ساكنا فإذا علمت أنك لا تنال ما لغيرك فينبغي لك أن لا تطمع فيه. وعلامة صدق هذين الشيئين أن تكون مشتغلا بالمعروض. وأما الرضا بالعطاء فالعطاء ينزل على وجهين عطاء تهوى أنت فيجب عليك الشكر والحمد، وأما العطاء الذي لا تهوى فيجب عليك أن ترضى وتصبر.
(علامات الزهد:
[*] قال الإمام الغزالي رحمه الله في الإحياء:(5/491)
اعلم أنه قد يظن أن تارك المال زاهد، وليس كذلك؛ فإن ترك المال وإظهار الخشونة سهل على من أحب المدح بالزهد، فكم من الراهبين من ردوا أنفسهم كل يوم إلى قدر يسير من الطعام ولازموا ديراً لا باب له، وإنما مسرة أحدهم معرفة الناس حاله ونظرهم إليه ومدحهم له، فذلك لا يدل على الزهد دلالة قاطعة، بل لا بد من الزهد في المال والجاه جميعاً حتى يكمل الزهد في جميع حظوظ النفس من الدنيا بل قد يدعي جماعة الزهد مع لبس الأصواف الفاخرة والثياب الرفيعة، كما قال الخواص في وصف المدعين إذ قال: وقوم ادعوا الزهد ولبسوا الفاخر من اللباس يموهون بذلك على الناس ليهدى إليهم مثل لباسهم، لئلا ينظر إليهم بالعين التي ينظر بها إلى الفقراء فيحتقروا فيعطوا كما تعطى المساكين، ويحتجون لنفوسهم باتباع العلم وأنهم على السنة، وأن الأشياء داخلة إليهم وهم خارجون منها وإنما يأخذون بعلة غيرهم. هذا إذا طولبوا بالحقائق وألجئوا إلى المضايق، وكل هؤلاء أكلة الدنيا بالدين لم يعنوا بتصفية أسرارهم ولا بتهذيب أخلاق نفوسهم، فظهرت عليهم صفاتهم فغلبتهم فادعوها حالاً لهم، فهم مائلون إلى الدنيا متبعون للهوى. فهذا كله كلام الخواص رحمه الله؛ فإذن معرفة الزهد أمر مشكل، بل حال الزهد على الزاهد مشكل.
وينبغي أن يعول في باطنه على ثلاث علامات:
- العلامة الأولى: أن لا يفرح بموجود ولا يحزن على مفقود، كما قال تعالى: " لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم " بل ينبغي أن يكون بالضد من ذلك: وهو أن يحزن بوجود المال ويفرح بفقده.
- العلامة الثانية: أن يستوي عنده ذامه ومادحه، فالأول علامة الزهد في المال والثاني علامة الزهد في الجاه.
- العلامة الثالثة: ان يكون أنسه بالله تعالى والغالب على قلبه حلاوة الطاعة إذ لا يخلو القلب عن حلاوة المحبة إما محبة الله، وهما في القلب كالماء والهواء في القدح، فالماء إذا دخل خرج الهواء ولا يجتمعان، وكل من أنس بالله اشتغل به ولم يشتغل بغيره، ولذلك قيل لبعضهم: إلى ماذا أفضى بهم الزهد؟ فقال: إلى الأنس بالله؛ فأما الأنس بالدنيا وبالله فلا يجتمعان.
[*] قال يحيى بن معاذ: الدنيا كالعروس، ومن يطلبها يحرص على زينتها و الزاهد يسخم أي يسود وجهها، وينتف شعرها، ويخرق ثوبها، والعارف مشتغل بالله تعالى عنها.
(ما ليس بزهد ويتوهم أنه زهد:
- متعلقات الزهد خمسة أشياء وهي:(5/492)
1 - المال: وليس المراد من الزهد في المال رفضه وعدم السعي لكسبه وتجميعه، وإنما نعم المال الصالح للمرء الصالح، فالمال قد يكون نعمة إذا حصل عليه صاحبه من الحلال وأعانه على طاعة الله سبحانه وتعالى وأنفقه في رضوان الله وفي نصرة قضايا الإسلام والمسلمين، فعلى سبيل المثال أبو بكر الصديق وعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وعمرو بن العاص كانوا من كبار الأثرياء وكانوا يستخدمون أموالهم في طاعة ربهم، أما المال الذي يفسد صاحبه فيدفعه إلى الطغيان والظلم ونشر الفاحشة فإن ذلك المال يكون نقمة على صاحبه، يقول الله تعالى: (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى). [العلق:6،7].
2 - الملك والرئاسة: ليس المراد من الزهد أيضًا رفض الملك والرياسة والوزارة وعدم المشاركة في الحياة السياسية وتركها لأراذل القوم، فسليمان وداود عليهما السلام كانا من أزهد الناس في زمانهما، ولهما من الملك والأموال والنساء ما لا يعلمه إلا الله، كذلك كان يوسف عليه السلام وزيرا على خزائن الأرض قال: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ) [يوسف: 101].
وإنما الملك الذي يطغى صاحبه ويجعله فاسدا مستبدا هو الذي نهى الله عنه، يقول سبحانه: (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الملك) [البقرة:852].
3 - المظهر: فليس من الزهد أن يكون الرجل أشعث أغبر، رث الملابس، كريه الرائحة، حاله وسخ ينفر كل من يراه، ف إن الله جميل يحب الجمال.
(حديث ابن مسعود في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر قيل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا و نعله حسنة قال: إن الله جميل يحب الجمال الكبر بَطَرُ الحقِ و غَمطُ الناس.
4 - ما في أيدي الناس: ويقصد بذلك الزهد عما في أيدي الناس وعدم استشرافه أو التطلع إليه أوالطمع فيه أو محاولة الإستيلاء عليه يطرق غير شرعية، وفي هذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس»
(حديث سهل بن سعد الثابت في صحيح ابن ماجة) قال أتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلٌ فقال يا رسول الله: دلني على عملٍ إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:(5/493)
(ازهد) من الزهد بكسر أوله وقد يفتح، وهو لغة: الإعراض عن الشيء احتقاراً، وشرعاً الاقتصار على قدر الضرورة مما يتيقن حله. وقيل أن لا يطلب المفقود حتى يفقد الموجود
(في الدنيا) باستصغار جملتها واحتقار جميع شأنها لتحذير الله تعالى منها واحتقاره لها، فإنك إن فعلت ذلك
(يحبك الله) لكونك أعرضت عما أعرض عنه ولم ينظر إليه منذ خلقه. وفي إفهامه أنك إذا أحببتها أبغضك، فمحبته مع عدم محبتها ولأنه سبحانه وتعالى يحب من أطاعه، ومحبته مع محبة الدنيا لا يجتمعان، وذلك لأن القلب بيت الرب فلا يحب أن يشرك في بيته غيره، ومحبتها الممنوعة هي إيثارها بنيل الشهوات لا لفعل الخير والتقرب بها، والمراد بمحبته غايتها من إرادة الثواب، فهي صفة ذاتية أو الإثابة فهي صفة فعلية (وازهد فيما عند الناس) منها
(يحبك الناس) لأن قلوبهم مجبولة على حبها مطبوعة عليها ومن نازع إنساناً في محبوبه كرهه وقلاه، ومن لم يعارضه فيه أحبه واصطفاه ولهذا قال الحسن البصري لا يزال الرجل كريماً على الناس حتى يطمع في دنياهم فيستخفون به ويكرهون حديثه. وقيل لبعض أهل البصرة: من سيدكم؟ قال الحسن، قال بم سادكم؟ قال: احتجنا لعلمه واستغنى عن دنيانا
ماأعظم هذه الوصية النبوية، وما أشد حاجتنا إلى فهمها، والعمل بمقتضاها، حتى ننال بذلك المحبة بجميع صورها.
(حديث أبي أيوب رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا قمت في صلاتك فَصَلِ صلاةَ مُوَدِّعٍ و لا تكلم بكلام تَعْتَذِرُ منه وأجْمِع اليأس عما في أيدي الناس.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إذا قمت في صلاتك) أي شرعت فيها
(فصل صلاة مودع) أي إذا شرعت فيها فأقبل على الله وحده ودع غيره لمناجاة ربك (ولا تكلم) بحذف إحدى التاءين تخفيفاً
(بكلام تعتذر منه) أي لا تتكلم بشيء يوجب أن يطلب من غيرك رفع اللوم عنك بسببه
(وأجْمِع اليأس عما في أيدي الناس) أي اعزم وصمم على قطع الأمل مما في يد غيرك من جميع الخلق فإنه يريح القلب والبدن. وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله قال الراغب: وأكثر ما يقال أجمع فيما يكون جمعا يتوصل إليه بالفكر نحو {أجمعوا أمركم وشركاءكم}
واليأس: القنوط وقطع الأمل
(تنبيه) من البين أن كلا من الكلام المحوح للعذر والإياس مما في أيدي الناس مأمور به لا بقيد القيام إلى الصلاة. أهـ(5/494)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء قال سفيان الثوري: الزهد في الدنيا هو الزهد في الناس، وأول الزهد في الناس زهدك في نفسك.
(حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) قال: أتى النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلٌ فقال: يا رسول الله: أوصني وأوجز، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عليك بالإياس مما في أيدي الناس، وإياك مما يعتذر منه".
فمن زهد في الدنيا رنا بطرفه وقلبه نعيم الجنات، وجوار الكبير المتعال.
{تنبيه}: (فإن جاء من الناس للعبد شيء بدون استشراف نفس أو طمع أو تحايل فلا بأس به.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قال: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعطيني العطاءَ، فأقولُ أعطهِ من هو أفقر مني فقال: (خذه، إذا جاءك من هذا المال شيءٌ، وأنت غير مشرفٍ ولا سائل، فخُذهُ، وما لا، فلا تُتْبعِه نفسك)
5 - النفس: ويقصد بذلك عدم إعجاب المرء بنفسه فيظن أنه سيخرق الأرض، أو يبلغ الجبال طولاً، فيتكبر بمنصبه أو بما أعطاه الله من صورة على خلق الله، وإنما يتواضع ويخفض جناحه للمؤمنين، كما أمر الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (واخفض جناحك للمؤمنين) [الحجر:88] (من تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله).
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما نقصت صدقةٌ من مال، وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزا، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله)
(الأسباب المعينة على الزهد في الدنيا:
لما كان الزهد في الدنيا مطلبٌ ثمين لنيل حب الله تعالى كما في الحديث الآتي:
(حديث سهل بن سعد الثابت في صحيح ابن ماجة) قال أتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلٌ فقال يا رسول الله: دلني على عملٍ إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس.
لذا وجب علينا أن نتعرف على الأسباب المعينة على الزهد في الدنيا وأن نتمسك بها وأن نعض عليها بالنواجذ، وهاك الأسباب المعينة على الزهد في الدنيا:
[*] (الأسباب المعينة على الزهد في الدنيا:
(1) النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها ونقصها وخستها وما في المزاحمة عليها من الغصص والنغص والأنكاد.
(2) النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ودوامها وبقائها وشرف ما فيها من الخيرات.(5/495)
(3) الإكثار من ذكر الموت والدار الآخرة.
(4) تشييع الجنائز والتفكر في مصارع الآباء والإخوان وأنهم لم يأخذوا في قبورهم شيئاً من الدنيا ولم يستفيدوا غير العمل الصالح.
(5) التفرغ للآخرة والإقبال على طاعة الله وإعمار الأوقات بالذكر وتلاوة القرآن.
(6) إيثار المصالح الدينية على المصالح الدنيوية:
(7) البذل والإنفاق وكثرة الصدقات:
(8) ترك مجالس أهل الدنيا والاشتغال بمجالس الآخرة:
(9) الإقلال من الطعام والشراب والنوم والضحك والمزاح.
(10) مطالعة سير الزاهدين وبخاصة سيرة النبي وأصحابه:
(إخفاء البكاء:
وبالتأمل في سيرة هؤلاء الصالحين الباكين من خشية الله تعالى نجد أنهم اشتركوا في صفة واحدة على تنوع عباداتهم واجتهاداتهم في طاعة الله تعالى تلك الصفة هي الإخلاص المنافي للرياء فلقد كانوا رضي الله عنهم أبعد الناس عن أن يراهم أحد حال البكاء حرصاً منهم أن لا يدخل العُجْب قلوبهم فتبطل عبادتهم وتراهم شددوا بلسان الحال والمقال على هذه الصفة ابتغاء نيل الأجر كاملاً غير منقوص من رب العالمين لا من مدح المادحين.
[*] قال الحسن البصري:
إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها فإذا خشي أن تسبقه قام.
وقال عبد الكريم بن رشيد: كنت في حلقه الحسن فجعل رجل يبكى وارتفع صوته فقال الحسن إن الشيطان ليبكى هذا الآن.
[*] وكان أيوب السختيانى في ثوبه بعض الطول لستر الحال وكان إذا وعظ فرقَّ فَرَقَ من الرياء فيمسح وجهه ويقول: ما أشد الزكام.
[*] وقال حماد بن زيد: دخلنا على محمد بن واسع في مرضه نعودة قال فجاء يحيى البكاء يستأذن عليه فقالوا: يا أبا عبد الله هذا أخوك أبو سلمه على الباب قال: من أبو سلمه؟ قالوا: يحيى قال: من يحيى؟ قالوا: يحيى البكاء قال حماد: وقد علم أنه يحيى البكاء فقال شر أيامكم يوم نسبتم فيه إلى البكاء.
[*] وعن القاسم بن محمد قال:(5/496)
كنا نسافر مع ابن المبارك فكثيراً ما كان يخطر ببالي فأقول في نفسي بأي شيء فضل هذا الرجل علينا حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة إن كان يصلى آنا نصلى وإن كان يصوم آنا نصوم وإن كان يغزو فآنا نغزو وإن كان يحج آنا لنحج قال فكنا في بعض مسيرتا في طريق الشام ليله نتعشى في بيت إن طفئ السراج فقام بعضنا فأخذ السراج وخرج يستصبح فمكث هنيهة ثم جاء بالسراج فنظرت إلى وجه ابن المبارك ولحيته قد ابتلت من الدموع فقلت في نفسي بهذه الخشية فضل هذا الرجل علينا ولعله حين فقد السراج فصار إلى ظلمه ذكر القيامة.
(سيد البكائين والناس أجمعين حبيبنا محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
لم يكن بكاؤه بشهيق ورفع صوت، ولكن كانت عيناه تدمعان حتى تسيل الدموع، ويسمع لصدره أزيز.
وكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبكي عند سماع القرآن:
((حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعبد الله بن مسعود: (اقْرأ عَليَّ القُرْآن، فَإِنِّي أُحبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي) فقرأ عليْهِ من سُورة النِّساء حتّى بلغ قوله: ((فَكَيفَ إِذاَ جِئنَاَ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَاَ بِكَ عَلى هَؤلاء شَهِيدا))، قال: (حَسْبُكَ الآن). فالتفتُ إليه فَإِذَاَ عَيْنَاهُ تَذْرِفَان.
وكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبكي في الصلاة:
((حديث عبيد بن عمير رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنه قال لعائشة: أخبرينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فسكتت ثم قالت: لمَّا كانت ليلة من الليالي قال: «يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي» قلت: والله إني أحب قربك وأحب ما يسرك، قالت: فقام فتطهَّر ثم قال يصلِّي، قالت: فلم يزل يبكي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بلّ حِجْره، قالت: وكان جالساً فلم يزل يبكي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بل لحيته، قالت: ثم بكى حتى بل الأرض، فجاء بلال يُؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك و ما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً؟ لقد أُنزلت عليَّ الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: {إن في خلق السموات والأرض} (سورة آل عمران، الآية: 190).
((حديث عبد الله بن الشخير الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال: أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي فسمعت لصدره أزيزاً كأزيز المرجل من البكاء.(5/497)
((حديث عبيد بن عمير رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنه قال لعائشة: أخبرينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فسكتت ثم قالت: لمَّا كانت ليلة من الليالي قال: «يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي» قلت: والله إني أحب قربك وأحب ما يسرك، قالت: فقام فتطهَّر ثم قال يصلِّي، قالت: فلم يزل يبكي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بلّ حِجْره، قالت: وكان جالساً فلم يزل يبكي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بل لحيته، قالت: ثم بكى حتى بل الأرض، فجاء بلال يُؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك و ما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً؟ لقد أُنزلت عليَّ الليلة آية ويل لمن قرأها ولميتفكر فيها: {إن في خلق السموات والأرض} (سورة آل عمران، الآية: 190).
(وكان يبكي عند القبور:
((حديث البراء رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) قال كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جنازة فجلس على شفير القبر فبكى حتى بل الثرى ثم قال يا إخواني لمثل هذا فأعدوا.
(بكاء أصحاب النبي رضي الله عنهم:
((حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: خطب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطبة ما سمعت مثلها قط قال: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا). قال فغطى أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجوههم لهم خنين.
ومعنى الحديث: لو أنكم علمتم ما أعلمه من عظمة الله عز وجل، وانتقامه ممن يعصيه، لطال بكاؤكم وحزنكم وخوفكم مما ينتظركم، ولما ضحكتم أصلاً، فالقليل هنا بمعنى المعدوم، وهو مفهوم من السياق.
(بكاء أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -:
اشتهر عنه البكاء في الصلاة حتى أن السيدة عائشة لما قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مروا أبا ((حديث أبي موسى الثابت في الصحيحين) قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس قالت عائشة إنه رجل رقيق إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس. قال مروا أبا بكر فليصل بالناس، فعادت فقال مُري أبا بكر فليصل بالناس فإنكن صواحب يوسف، فأتاه فصلى بالناس في حياة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(بكاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:
كان بكاؤه يسمع من آخر الصفوف، فقد قال عبد الله بن شداد: (سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف يقرأ {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ} [(86) سورة يوسف]).(5/498)
((حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: خطب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطبة ما سمعت مثلها قط قال: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا). قال فغطى أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجوههم لهم خنين.
ومعنى الحديث: لو أنكم علمتم ما أعلمه من عظمة الله عز وجل، وانتقامه ممن يعصيه، لطال بكاؤكم وحزنكم وخوفكم مما ينتظركم، ولما ضحكتم أصلاً، فالقليل هنا بمعنى المعدوم، وهو مفهوم من السياق.
(بكاء أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -:
اشتهر عنه البكاء في الصلاة حتى أن السيدة عائشة لما قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مروا أبا ((حديث أبي موسى الثابت في الصحيحين) قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس قالت عائشة إنه رجل رقيق إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس. قال مروا أبا بكر فليصل بالناس، فعادت فقال مُري أبا بكر فليصل بالناس فإنكن صواحب يوسف، فأتاه فصلى بالناس في حياة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(بكاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:
كان بكاؤه يسمع من آخر الصفوف، فقد قال عبد الله بن شداد: (سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف يقرأ {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ} [(86) سورة يوسف]).
(بكاء عثمان بن عفان - رضي الله عنه -:
كان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: (تذكر الجنة والنار ولا تبكي، وتبكي من هذا؟) قال: (إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج فما بعده أشد منه").
(بكاء عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -:
((حديث إبراهيم بن عبد الرحمن بن الثابت في صحيح البخاري): أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أتي بطعام، وكان صائما، فقال: قتل مصعب بن عمير، وهو خير مني، كفن في بردة: إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه. وأراه قال: وقتل حمزة، وهو خير مني، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.
(بكاء سلمان الفارسي - رضي الله عنه -:
يقول: (أبكاني ثلاث: فراق الأحبة محمد وحزبه، وهول المطلع عند غمرات الموت، والوقوف بين يدي رب العالمين حين لا أدري إلى النار انصرافي أم إلى الجنة).
[*] وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: لأن أدمع دمعه من خشيه الله عز وجل أحب إلى من أن أتصدق بألف دينار.(5/499)
[*] كان ابن عمر إذا قرأ: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} بكى حتى يغلبه البكاء.
(نماذج من بكاء السلف:
[*] قال حماد بن زيد: رأيت ثابتا يبكي حتى تختلف أضلاعه.
[*] وقال جعفر بن سليمان: بكى ثابت البناني حتى كادت عينه تذهب، فجاؤوا برجل يعالجها، فقال: أعالجها على أن تطيعني. قال: وأي شيء؟ قال: على أن لا تبكي.، فقال: فما خيرهما إذا لم يبكيا، وأبى أن يتعالج.
وقرأ ثابت: {تطلع على الأفئدة} قال تأكله إلى فؤاده وهو حي لقد تبلغ فيهم العذاب ثم بكى وأبكى من حوله.
وقال حماد بن سلمة: قرأ ثابت: {أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا} وهو يصلي صلاة الليل ينتحب ويرددها.
[*] وقال الثورى: جلست ذات يوم أحدث ومعنا سعيد بن السائب الطائفي فجعل سعيد يبكى حتى رحمته فقلت: يا سعيد ما يبكيك وأنت تسمعني أذكر أهل الخير وفعالهم؟ فقال: يا سفيان وما يمنعني من البكاء إذا ذكرت مناقب أهل الخير وكنت عنهم بمعزل؟ قال سفيان: حق له أن يبكى.
[*] وقال أبو مُسهر كان الأوزاعى رحمه الله يحيى الليل صلاه وقرآنا وبكاء وأخبرنى بعض إخوانى من أهل بيروت أن أمه كانت تدخل منزل الأوزاعي وتتفقد موضع مصلاه فتجده رطباً من دموعه في الليل.
[*] وعن القاسم بن محمد البغدادى قال كنت جار معروف الكرخى فسمعته ليله في السحر ينوح ويبكى وينشد:
أي شيء تريد منى الذنوب ... شغفت بي فليس عنى تغيب
ما يضر الذنوب لو أعتقتني ... رحمه لي فقد علاني المشيب
[*] عن بشير قال بت عند الربيع ذات ليلة فقام يصلي فمر بهذه الآية ((أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون)) قال فمكث ليلته حتى أصبح ما يجوز هذه الآية إلى غيرها ببكاء شديد.
عن نسير بن ذعلوق قال: (كان الربيع بن خيثم يبكي حتى يبل لحيته من دموعه فيقول أدركنا قوماً كنا في جنوبهم لصوصاً.
[*] عن سفيان قال بلغنا عن أم الربيع بن خيثم كانت تنادي ابنها ربيع تقول يا ربيع ألا تنام فيقول يا أمه من جن عليه الليل وهو يخاف السيئات حق له ألا ينام قال فلما بلغ ورأت ما يلقى من البكاء والسهر نادته فقالت يا بني لعلك قتلت. قتيلا قال نعم يا والدة قد قتلت قتيلا، فقالت ومن هذا القتيل يا بني حتى نتحمل إلى أهله فيغتفرك والله لو يعلمون ما تلقى من السهر والبكاء بعد لقد رحموك فقال يا والدة هو نفسي.
[*] قال الحسن البصري:(5/500)
بلغنا أن الباكي من خشيه الله لا تقطر من دموعه قطره حتى تعتق رقبته من النار وقال أيضاً: لو أن باكيا بكى في ملأ من خشية الله لرحموا جميعا وليس شيء من الأعمال إلا له وزن إلا البكاء من خشية الله فإنه لا يقوم الله بالدمعة منه شيء وقال: ما بكى عبد إلا شهد عليه قلبه بالصدق أو الكذب.
[*] وقال أبو جعفر الباقر:
ما اغرورقت عين عبد بمائها إلا حرم الله وجه صاحبها على النار فإن سالت على الخدين لم يرهق وجهه قتر ولا ذله وما من شيء إلا وله جزاء إلا الدمعة فإن الله يكفر بها بحور الخطايا ولو أن باكيا بكى من خشية الله في أمه رحم الله تلك الأمة.
وقال كعب الأحبار:
لأن أبكى من خشية الله فتسيل دموعي على وجنتي أحب إلى من أن أتصدق بوزني ذهبا.
[*] وعن أبى معشر قال: رأيت عون بن عبد الله في مجلس أبى حازم يبكى ويمسح وجهه بدموعه فقيل له لم تمسح وجهك بدموعك؟ قال: بلغني أنه لا تصيب دموع الإنسان مكانا من جسده إلا حرم الله عز وجل ذلك المكان على النار.
[*] روى أحمد بن سهل قال: قدم علينا سعد بن زنبور فأتيناه فحدثنا قال: كنا على باب الفضيل بن عياض فاستأذنا عليه فلم يؤذن لنا فقيل لنا إنه لا يخرج إليكم أو يسمع القرآن قال وكان معنا رجل مؤذن وكان صيتا فقلنا له: إقرأ فقرأ [ألهاكم التكاثر] ورفع بها صوته فأشرف علينا الفضيل وقد بكى حتى بل لحيته بالدموع ومعه خرقه ينشف بها الدموع من عينيه وأنشأ يقول
بلغت الثمانين أو جزتها ... فماذا أؤمل أو أنتظر
أتى ثمانون من مولدى ... وبعد الثمانين ما ينتظر
عَّلتنى السنون فأبليننى ... ......................
قال ثم خنقته العبره وكان معنا على بن خشرم فأتمه لنا يقول
علتنى السنون فأبليننى ... فرقت عظامى وكل البصر
[*] ابن المنكدر:
* كان محمد بن المنكدر: ذات ليله قائم يصلى إذ استبكى فكثر بكاؤه حتى فزع له أهله فسألوه: ما الذي أبكاك؟ فاستعجم عليهم فتمادى في البكاء فأرسلوا إلى أبى حازم وأخبروه بأمره فجاء أبو حازم إليه فإذا هو يبكى فقال: يا أخي ما الذي أبكاك؟ قد رعت أهلك فقال له إني مرت بي آيه من كتاب الله عز وجل قال: ما هي؟ قال: قول الله تعالى [وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون] قال فبكى أبو حازم معه واشتد بكاؤهما فقال بعض أهله لأبى حازم جئناك لتفرج عنه فزدته، فأخبرهم ما الذي أبكاهما.
[*] الإمام الحجة الحافظ هشام الدستوائي.(5/501)
وقال شاذ بن فياض: بكى هشام الدستوائي حتى فسدت عينه، فكانت مفتوحة، وهو لا يكاد يبصر بها.
[*] قال الحارث بن سعيد كنا عند مالك بن دينار وعنده قارىء يقرأ [إذا زلزلت الأرض زلزالها] فجعل مالك ينتفض وأهل المجلس يبكون حتى انتهى القارىء إلى [فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره] فجعل مالك يبكى ويشهق حتى غشى عليه فحمل بين القوم صريعاً.
* أُتِىَ الحسن البصرى بكوز من ماء ليفطر عليه فلما أدناه إلى فيه بكى وقال ذكرت أمنية أهل النار قولهم [أن أفيضوا علينا من الماء] وذكرت ما أجيبوا به [إن الله حرمهما على الكافرين].
[*] وعن إبراهيم بن الأشعث قال كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة لا يزال يعظ ويذكر ويبكى حتى لكأنه يودع أصحابه ذاهب إلى الآخرة حتى يبلغ المقابر فيجلس فكأنه بين الموتى جلس من الحزن والبكاء حتى يقوم وكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها.
[*] وعن عاصم قال: سمعت شقيق بن مسلمه يقول وهو ساجد رب اغفر لي رب اغفر لي إن تعف عنى تعف عنى تطولا من فضلك وإن تعذبني تعذبني غير ظالم لي قال ثم يبكى حتى أسمع نحيبه من وراء المسجد.
(ذاك والله هو الإيمان الحق الذي ليس بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقة العمل وهؤلاء هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون وإن لم يكن هؤلاء أولياء الله فليس لله ولى.(5/502)
(فصلٌ في منزلة الإخبات:
[*] (عناصر الفصل:
(تعريف الإخبات:
(أثر الإخبات في بناء شخصية المسلم:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(تعريف الإخبات:
مسألة: ما هو الإخبات؟
(الإخبات في اللغة: هو الأرض المنبسطة، والإخبات: أخبت إذا طأطأ حتى يساوى بالأرض، ففي هذا دليل على كمال الانقياد والإذعان فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ [الحج:54] فالإخبات هو عدم الاعتراض, فلو ارتفعت لكان فيها نوع من الاستكبار.
ولهذا يقولون في قلوب الكفار: إنها قلوب متكبرة جبارة, وكثيراً ما يصفهم الله بوصف الاستكبار؛ لأنهم يستكبرون عن عبادة الله وطاعته والانقياد لأمره، فالاستكبار ضد الإخبات.
(والإخبات في الشرع: هو الخضوع الكامل والمطلق، فكأنه التصق بالأرض، فليس لديه أي اعتراض على ما يأتي من عند الله تبارك وتعالى، فهو كما قال الله عز وجل: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الإخبات، قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج:34]
ثم كشف عن معناهم فقال: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج: 35] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [هود: 23]
الخبت في أصل اللغة: المكان المنخفض من الأرض.
(وبه فسر ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة لفظ المخبتين وقالا: هم المتواضعون.
(وقال مجاهد: المخبت المطمئن إلى الله عز وجل قال: والخبت: المكان المطمئن من الأرض.
(وقال الأخفش: الخاشعون.
(وقال إبراهيم النخعي: المصلون المخلصون.
(وقال الكلبي: هم الرقيقة قلوبهم.
(هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا وهذه الأقوال تدور على معنيين: التواضع والسكون إلى الله عز وجل ولذلك عدي بإلى تضمينا لمعنى الطمأنينة والإنابة والسكون إلى الله تعالى.
قال صاحب المنازل: "هو من أول مقامات الطمأنينة يعني بمقامات الطمأنينة «كالسكينة واليقين والثقة بالله ونحوها»(6/1)
(فالإخبات: مقدمتها ومبدؤها قال: وهو ورود المأمن من الرجوع والتردد، لما كان الإخبات أول مقام يتخلص فيه السالك من التردد الذي هو نوع غفلة وإعراض والسالك مسافر إلى ربه سائر إليه على مدى أنفاسه لا ينتهي مسيره إليه ما دام نفسه يصحبه، شبه حصول الإخبات له بالماء العذب الذي يرده المسافر على ظمأ وحاجة في أول مناهله فيرويه مورده ويزيل عنه خواطر تردده في إتمام سفره أو رجوعه إلى وطنه لمشقة السفر فإذا ورد ذلك الماء: زال عنه التردد وخاطر الرجوع كذلك السالك إذا ورد مورد الإخبات تخلص من التردد والرجوع ونزل أول منازل الطمأنينة بسفره وجد في السير.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) قال: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو يَقُولُ رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ وَاهْدِنِي وَيَسِّرْ الْهُدَى لِي وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا لَكَ ذَكَّارًا لَكَ رَهَّابًا لَكَ مِطْوَاعًا لَكَ مُخْبِتًا إِلَيْكَ أَوَّاهًا مُنِيبًا رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي وَاغْسِلْ حَوْبَتِي وَأَجِبْ دَعْوَتِي وَثَبِّتْ حُجَّتِي وَسَدِّدْ لِسَانِي وَاهْدِ قَلْبِي وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ صَدْرِي.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ): أَيْ عَلَى أَعْدَائِي فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِنَ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ.(6/2)
(وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَكْرُ الْخِدَاعُ وَهُوَ مِنَ اللَّهِ إِيقَاعُ بَلَائِهِ بِأَعْدَائِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، وَقِيلَ هُوَ اسْتِدْرَاجُ الْعَبْدِ بِالطَّاعَةِ فَيَتَوَهَّمُ أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ وَهِيَ مَرْدُودَةٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْمَكْرُ الْحِيلَةُ وَالْفِكْرُ فِي دَفْعِ عَدُوٍّ بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ الْعَدُوُّ، فَالْمَعْنَى: (اللَّهُمَّ اهْدِنِي إِلَى طَرِيقِ دَفْعِ أَعْدَائِي عَنِّي وَلَا تَهْدِ عَدُوِّي إِلَى طَرِيقِ دَفْعِهِ إِيَّاهُ عَنْ نَفْسِهِ) كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ.
(وَاهْدِنِي) أَيْ دُلَّنِي عَلَى الْخَيْرَاتِ.
(وَيَسِّرْ لِي الْهُدَى) أَيْ وَسَهِّلِ اتِّبَاعَ الْهِدَايَةِ أَوْ طُرُقَ الدَّلَالَةِ حَتَّى لَا أَسْتَثْقِلَ الطَّاعَةَ وَلَا أَشْتَغِلَ عَنِ الطَّاعَةِ.
(وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ) أَيْ ظَلَمَنِي وَتَعَدَّى عَلَيَّ.
(رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا) أَيْ كَثِيرَ الشُّكْرِ عَلَى النَّعْمَاءِ وَالْآلَاءِ، وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ لِلِاهْتِمَامِ وَالِاخْتِصَاصِ أَوْ لِتَحْقِيقِ مَقَامِ الْإِخْلَاصِ
(لَكَ ذَكَّارًا) أَيْ كَثِيرَ الذِّكْرِ.
(لَكَ رَهَّابًا) أَيْ كَثِيرَ الْخَوْفِ
(لَكَ مِطْوَاعًا) بِكَسْرِ الْمِيمِ مِفْعَالٌ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ كَثِيرَ الطَّوْعِ وَهُوَ الِانْقِيَادُ وَالطَّاعَةُ
(لَكَ مُخْبِتًا) أَيْ خَاضِعًا خَاشِعًا مُتَوَاضِعًا مِنَ الْإِخْبَاتِ قَالَ فِي الْقَامُوسِ: أَخْبَتَ خَشَعَ
(إِلَيْكَ أَوَّاهًا) أَيْ مُتَضَرِّعًا فَعَّالٌ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ أَوَّهَ تَأْوِيهًا وَتَأَوَّهَ تَأَوُّهًا إِذَا قَالَ أَوْهُ أَيْ قَائِلًا كَثِيرًا لَفْظَ أَوْهُ وَهُوَ صَوْتُ الْحَزِينِ. أَيِ اجْعَلْنِي حَزِينًا وَمُتَفَجِّعًا عَلَى التَّفْرِيطِ أَوْ هُوَ قَوْلُ النَّادِمِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ الْمُقَصِّرِ فِي طَاعَتِهِ وَقِيلَ الْأَوَّاهُ الْبَكَّاءُ(6/3)
(مُنِيبًا) أَيْ رَاجِعًا قِيلَ التَّوْبَةُ رُجُوعٌ مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ، وَالْإِنَابَةُ مِنَ الْغَفْلَةِ إِلَى الذِّكْرِ وَالْفِكْرَةِ، وَالْأَوْبَةُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ وَالْمُشَاهَدَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا اكْتَفَى فِي قَوْلِهِ أَوَّاهًا مُنِيبًا بِصِلَةٍ وَاحِدَةٍ لِكَوْنِ الْإِنَابَةِ لَازِمَةً لِلتَّأَوُّهِ وَرَدِيفًا لَهُ فَكَأَنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ.
(رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي) أَيْ بِجَعْلِهَا صَحِيحَةً بِشَرَائِطِهَا وَاسْتِجْمَاعِ آدَابِهَا فَإِنَّهَا لَا تَتَخَلَّفُ عَنْ حَيِّزِ الْقَبُولِ.
(وَاغْسِلْ حَوْبَتِي) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَيُضَمُّ أَيِ امْحُ ذَنْبِي.
(وَأَجِبْ دَعْوَتِي) أَيْ دُعَائِي.
(وَثَبِّتْ حُجَّتِي) أَيْ عَلَى أَعْدَائِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى وَثَبِّتْ قَوْلِي وَتَصْدِيقِي فِي الدُّنْيَا وَعِنْدَ جَوَابِ الْمَلَكَيْنِ.
(وَسَدِّدْ لِسَانِي) أَيْ صَوِّبْهُ وَقَوِّمْهُ حَتَّى لَا يَنْطِقَ إِلَّا بِالصِّدْقِ وَلَا يَتَكَلَّمَ إِلَّا بِالْحَقِّ.
(وَاهْدِ قَلْبِي) أَيْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
(وَاسْلُلْ) بِضَمِّ اللَّامِ الْأُولَى أَيْ أَخْرِجْ مِنْ سَلَّ السَّيْفَ إِذَا أَخْرَجَهُ مِنَ الْغِمْدِ
(سَخِيمَةَ صَدْرِي) أَيْ غِشَّهُ وَغِلَّهُ وَحِقْدَهُ.
(أثر الإخبات في بناء شخصية المسلم:
الأثر الأول: أن الإخبات يعصم المسلم ويحفظه من الوقوع في المعاصي، والميل إلى الشهوات. وذلك أن العصمة تغلب الشهوة وتقهرها، وتستوفي جميع أجزائها، فإذا استوفت العصمة جميع أجزاء الشهوة، فذلك دليل على إخباته ودخوله في مقام الطمأنينة، ونزوله أول منازلها.
وأمر آخر: أن المسلم إن استطاع أن يحمي نفسه من الوقوع في المعاصي، ويعصم نفسه من الميل إلى الشهوات، كان قريبًا من الله ورسوله، بعيدًا عن الشيطان وأعوانه. ويتحقق فيه قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 23](6/4)
الأثر الثاني: أن الإخبات يقوي في المسلم الإرادة، بحيث تستدرك هذه الإرادة القوية ما عنده من غفلة. وذلك أن الإرادة عند أهل الطريق اسم لأول منازل القاصدين إلى الله تعالى. والمريد هو الذي خرج من وطن طبعه ونفسه، وأخذ في السفر إلى الله تعالى والدار الآخرة، فإذا نَزَل في منزلة الإخبات، أحاطت إرادته القوية بما عنده من غفلة، فاستدركها المسلم وانتبه وأخذ حذره قبل أن توقعه غفلته في المحذور.
الأثر الثالث: أن الإخبات يربي المسلم على المحبة الصادقة، التي تجعله يقهر كل ما عداها من مغريات الحياة ومسلياتها، بحيث تهوي السلوة، التي تشغله عن محبوبه وتسقط كالذي يهوي في بئر. وهذا القهر للسلوة هو علامة المحبة الصادقة، أن تقهر فيه وارد السلوة، وتدفنها في هوة لا تحيا بعدها أبدًا، وحاصل هذه الدروس والآثار ثلاثة: أن «عصمته وحمايته تقهر شهوته، وإرادته تقهر غفلته، ومحبته تقهر سلوته»
الأثر الرابع: أن الإخبات يجعل المسلم ذا عزيمة قوية، بحيث لا يوحش قلبَه عارض، ولا يقطع عليه الطريقَ فتنة. والعارض هو الشيء المخالف، الذي يعترضك في طريقك، أي يكون لك في عُرض الطريق، فيمنعك من مواصلة سيرك. وأقوى هذه العوارض، التي تعترض طريق المسلم، عارض وَحشةِ التفرد، أي أن يشعر المسلم بأنه وحده في الطريق، فيستوحش الطريق، ويطول عليه، فيقطع عليه هذا الفكر طريقه، ويجعله يعود من حيث جاء.
أما الإخبات، فإنه يجعله ذا عزيمة قوية، فلا يؤثر عليه عارض الوحشة والتفرد، حيث إنه يشعر بأنه ليس وحده في الطريق، بل الملائكة من حوله على نفس الدرب القويم، الذي يسلكه، لذلك فإن المسلم لا يلتفت إلى تلك العوارض، كما يقول بعض الصالحين الصادقين: انفرادك في طريق طلبك، دليل على صدق الطلب. وقال آخر: «لا تستوحش في طريقك من قلة السالكين، ولا تغتر بكثرة الهالكين».
أما الفتنة التي تقطع عليه الطريق، فهي الواردات، التي تَرِد على القلوب تمنعها من مطالعة الحق وقصده، كحب الدنيا والتعلق بها، أو عدم الإخلاص، وتلوث القلب بالحسد والحقد ... إلخ.
فإذا تمكن المسلم من منزل الإخبات، وصحة الإرادة والطلب، لم يطمع فيه عارض الفتنة. وهذه العزائم لا تصح إلا لمن أشرقت على قلبه أنوار آثار الأسماء والصفات، وتجلت عليه معانيها.(6/5)
الأثر الخامس: أن الإخبات يربي المسلم على الخروج من حظ النفس، وعدم الالتفات إلى مدح الناس وذمهم. وذلك أنه متى استقرت قدم العبد في منزلة الإخبات وتمكن فيها، ارتقت همته، وعلت نفسه عن خطفات المدح والذم، فلا يفرح بمدح الناس، ولا يحزن لذمهم. هذا وصف من خرج من حظ نفسه، وصار قلبه مطرحاً لأشعة أنوار الأسماء والصفات، وذاق قلبه حلاوة الإيمان واليقين.
إن الوقوف عند مدح الناس وذمهم، علامة انقطاع القلب وخلوه من الله، وأنه لم تباشره روح محبته ومعرفته، ولم يذق حلاوة التعلق به، والطمأنينة إليه. ولا يذوق العبد حلاوة الإيمان، وطعم الصدق واليقين، حتى تخرج الجاهلية كلها من قلبه.
(يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "والله لو تحقق الناس في هذا الزمان من قلب رجل، لرموه عن قوس واحدة. وقالوا: هذا مبتدع، ومن دعاة البدع، فإلى الله المشتكى، وهو المسئول الصبر والثبات. فلا بد من لقائه". قال تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى} [طه: 61]، وقال تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]
الأثر السادس: أن الإخبات يربي المسلم على عدم الرضا عن النفس، والمداومة على لومها وتأنيبها. والمراد بالنفس هنا، ما كان معلولاً من أوصاف العبد، مذمومًا من أخلاقه وأفعاله، سواء كان ذلك كسبيًّا، أو خلقيًّا. فالمسلم شديد اللائمة لهذه النفس.
قال تعالى: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)} (القيامة) قال سعيد بن جبير وعكرمة: تلوم على الخير والشر، ولا تصبر على السراء ولا على الضراء. وقال مجاهد: تندم على ما فات وتقول: لِمَ فعلت؟، ولمَ لم أفعل؟. وقال الفراء: ليس من نفس برة ولا فاجرة، إلا وهي تلوم نفسها، إن كانت عملت خيرًا قالت: هلا زدت؟ وإن عملت شرًّا قالت: ليتني لم أفعل. وقال الحسن: هي النفس المؤمنة، إن المؤمن ـ والله ـ ما تراه إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلمة كذا؟ ما أردت بأكلة كذا؟ ما أردت بكذا؟. وإن الفاجر يمضي قدمًا ولا يحاسب نفسه ولا يعاتبها. وقال مقاتل: هي النفس الكافرة تلوم نفسها في الآخرة على ما فرطت في أمر الله في الدنيا.(6/6)
والقصد أن من بذل نفسه لله بصدق، كرِه بقاءه مع النفس، أي أنه يعيش بلا نفس، لأنه يريد أن يتقبلها مَن بُذِلَت له، ولأنه قد قربها له قربانًا. ومن قرب قربانًا فتقبل منه، ليس كمن رُد عليه قربانه، فبقاء نفسه معه دليل على أنه لم يتقبل قربانه. فالنفس جبل عظيم شاهق في طريق السير إلى الله تعالى، وكل سائر لا طريق له إلا على ذلك الجبل، فلا بد أن ينتهي إليه، ولكن منهم من هو شاق عليه، ومنهم من هو سهل عليه، وإنه ليسير على من يسره الله عليه.
وفي ذلك الجبل أودية وعقبات، وشوك ولصوص، يقتطعون الطريق على السائرين ولا سيما أهل الليل المدلجين، فإذا لم يكن معهم عدة الإيمان، ومصابيح اليقين، تتقد بزيت الإخبات، وإلا تعلقت بهم تلك الموانع، وتشبثت بهم تلك القواطع، وحالت بينهم وبين السير.
فإن أكثر السائرين فيه رجعوا على أعقابهم، لما عجزوا عن قطعه واقتحام عقباته. والشيطان على قُلة ذلك الجبل، أي على قمته، يحذر الناس من صعوده وارتفاعه، ويخوفهم منه، فيتفق مشقة الصعود وقعود الشيطان على قُلته، وضعف عزيمة السائر ونيته، فيتولد من ذلك الانقطاع والرجوع. والمعصوم من عصمه الله.
وكلما رقى السائر في ذلك الجبل، اشتد به صياح القاطع وتحذيره وتخويفه، فإذا قطعه وبلغ قُلته، أي قمته، انقلبت تلك المخاوف أمانًا، وحينئذ يسهل السير، وتزول عنه عوارض الطريق، ومشقة عقباتها، ويرى طريقًا واسعًا آمنًا، يفضي به إلى المنازل والمناهل، وعليه الأعلام، وفيه الإقامات قد أعدت لركب الرحمن.
(فصلٌ في منزلة الزهد:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الزهد
قال الله تعالى {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96]
وقال تعالى: (اعْلَمُوَاْ أَنّمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّارَ نَبَاتُهُ ثُمّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الاَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ اللّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَآ إِلاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد: 20]
وقال تعالى {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ} [يونس: 24](6/7)
وقال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف: 45] إلى قوله {وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف: 46]
وقال تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} وقال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 17]
وقال: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131]
وقال تعالى {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} [الكهف /8،7]
وقال: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ} [الزخرف:33] إلى قوله {وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:35]
والقرآن مملوء من التزهيد في الدنيا والإخبار بخستها وقلتها وانقطاعها
وسرعة فنائها والترغيب في الآخرة والإخبار بشرفها ودوامها «فإذا أراد الله بعبد خيرا أقام في قلبه شاهدا يعاين به حقيقة الدنيا والآخرة ويؤثر منهما ما هو أولى بالإيثار» وقد أكثر الناس من الكلام في الزهد وكل أشار إلى ذوقه ونطق عن جاله وشاهده فإن غالب عبارات القوم عن أذواقهم وأحوالهم والكلام بلسان العلم: أوسع من الكلام بلسان الذوق وأقرب إلى الحجة والبرهان،
(وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: «الزهد ترك مالا ينفع في الآخرة» والورع: ترك ما تخاف ضرره في الآخرة وهذه العبارة من أحسن ما قيل في الزهد والورع وأجمعها.
(وقال سفيان الثورى: الزهد في الدنيا قصر الأمل ليس بأكل الغليظ ولا لبس العباء
(وقال الجنيد: سمعت سريا يقول: إن الله عز وجل سلب الدنيا عن أوليائه وحماها عن أصفيائه وأخرجها من قلوب أهل وداده لأنه لم يرضها لهم وقال: الزهد في قوله تعالى: (لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىَ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [الحديد: 23] فالزاهد لا يفرح من الدنيا بموجود ولا يأسف منها على مفقود(6/8)
(وقال يحيى بن معاذ: الزهد يورث السخاء بالملك والحب يورث السخاء بالروح
وقال ابن الجلاء: الزهد هو النظر إلى الدنيا بعين الزوال فتصغر في عينك فيسهل عليك الإعراض عنها.
(وقال ابن خفيف: الزهد وجود الراحة في الخروج من الملك
وقال أيضا: الزهد سلو القلب عن الأسباب ونفض الأيدي من الأملاك وقيل: هو عزوف القلب عن الدنيا بلا تكلف.
(وقال الجنيد: الزهد خلو القلب عما خلت منه اليد وقال الإمام أحمد الزهد في الدنيا قصر الأمل وعنه رواية أخرى: أنه عدم فرحه بإقبالها ولا حزنه على إدبارها فإنه سئل عن الرجل يكون معه ألف دينار هل يكون زاهدا فقال: نعم على شريطة أن لا يفرح إذا زادت ولا يحزن إذا نقصت.
(وقال عبد الله بن المبارك: هو الثقة بالله مع حب الفقر وهذا قول شقيق ويوسف بن أسباط.
(وقال عبد الواحد بن زيد الزهد: الزهد في الدينار والدرهم.
(وقال أبو سليمان الداراني: ترك ما يشغل عن الله وهو قول الشبلي.
(وسأل رويم الجنيد عن الزهد فقال: استصغار الدنيا ومحو آثارها من القلب وقال مرة: هو خلو اليد عن الملك والقلب عن التتبع.
(وقال يحيى بن معاذ: لا يبلغ أحد حقيقة الزهد حتى يكون فيه ثلاث خصال: عمل بلا علاقة وقول بلا طمع وعز بلا رياسة وقال أيضا: الزاهد يسعطك الخل والخردل والعارف يشمك المسك والعنبر وقيل: حقيقته هو الزهد في النفس وهذا قول ذي النون المصري.
(وقيل: الزهد الإيثار عند الاستغاء والفتوة الإيثار عند الحاجة قال الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]
(وقال رجل ليحيى بن معاذ: متى أدخل حانوت التوكل وألبس رداء الزاهدين وأقعد معهم فقال: إذا صرت من رياضتك لنفسك إلى حد لو قطع الله الرزق عنك ثلاثة أيام لم تضعف نفسك فأما ما لم تبلغ إلى هذه الدرجة فجلوسك على بساط الزاهدين جهل ثم لا آمن عليك أن تفتضح.
(وقد قال الإمام أحمد بن حنبل: الزهد على ثلاثة أوجه الأول: ترك الحرام وهو زهد العوام والثاني: ترك الفضول من الحلال وهو زهد الخواص والثالث: ترك ما يشغل عن الله وهو زهد العارفين، وهذا الكلام من الإمام أحمد يأتي على جميع ما تقدم من كلام المشايخ مع زيادة تفصيله وتبيين درجاته وهو من أجمع الكلام وهو يدل على أنه رضي الله عنه من هذا العلم بالمحل الأعلى وقد شهد الشافعي رحمه الله بإمامته في ثمانية أشياء:(6/9)
أحدها: الزهد والذي أجمع عليه العارفون: أن الزهد سفر القلب من وطن الدنيا وأخذه في منازل الآخرة وعلى هذا صنف المتقدمون كتب الزهد كالزهد لعبد الله ابن المبارك وللإمام أحمد ولوكيع ولهناد بن السري ولغيرهم ومتعلقه ستة أشياء: لا يستحق العبد اسم الزهد حتى يزهد فيها وهي المال والصور والرياسة والناس والنفس وكل ما دون الله «وليس المراد رفضها من الملك» فقد كان سليمان وداود عليهما السلام من أزهد أهل زمانهما ولهما من المال والملك والنساء ما لهما وكان نبينا من أزهد البشر على الإطلاق وله تسع نسوة وكان علي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف والزبير وعثمان رضي الله عنهم من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال، وكان الحسن بن علي رضي الله عنه من الزهاد مع أنه كان من أكثر الأمة محبة للنساء ونكاحا لهن وأغناهم وكان عبد الله بن المبارك من الأئمة الزهاد مع مال كثير، وكذلك الليث بن سعد من أئمة الزهاد وكان له رأس مال يقول: لولا هو لتمندل بنا هؤلاء، ومن أحسن ما قيل في الزهد كلام الحسن أو غيره: «ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها أرغب منك فيها لو لم تصبك» فهذا من أجمع كلام في الزهد وأحسنه وقد روي مرفوعا. انتهى.
{تنبيه}: (هذا نبذة يسيرة عن الزهد، ومن أراده مستوفياً في إيجاز غير مُخِل، فليرجع إلى الجزء الأول من الكتاب.
(فصلٌ في منزلة الورع:
[*] (عناصر الفصل:
(تعريف الورع:
(أقسام الورع:
(الفرق بين الورع والزهد:
(فوائد الورع:
(الورع علمٌ يتعلمه الإنسان ويكتسب:
(علامة الورع:
(صورٌ مشرقة من ورع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(صورٌ مشرقة من ورع أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(صور مشرقة من ورع التابعين رحمهم الله:
(أقوال السلف في الورع:
ودونك تفصيل ذلك في إيجازٍ غير مُخِّل:
(تعريف الورع:
الورع لغة: ورِع، يرِعُ، مأخوذ من مادة وَرَعَ التي تدل على الكفّ والانقباض، والورع في اللغة العفة وهي الكفّ عن ما لا ينبغي ويقال توّرع أي تحرّجَ، والورع التقوى.
الورع شرعاً: ترك ما يريبك ونفي ما يعيبك والأخذ بالأوثق وحمل النفس على الأحوط، والورع اجتناب الشبهات ومراقبة الخطرات،(6/10)
[*] وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الورع:"عمّا قد تُخَاف عاقبته وهو ما يعلَم تحريمه وما يُشَك في تحريمه وليس في تركه مفسدة أعظم من فعله - فهذا قيدٌ مهم في الأشياء المشكوك فيها -،وكذلك الاحتيال بفعل ما يشك في وجوبه ولكن على هذا الوجه".
[*] وعرفه ابن القيم رحمه الله بقوله: " ترك ما يخشى ضرره في الآخرة".
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل {إياك نعبد و إياك نستعين} منزلة الورع أيضاً وقد قال تعالى: (يَأَيّهَا الرّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطّيّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون: 51]، و قال تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ) [المدثر: 4] أي نفسك فطهر من الذنب فكنّى عن النفس بالثوب وهذا قول جماعة من المحققين من أهل التفسير، كما قال غيلان الثقفي: وإني بحمد الله لا ثوب غادر لبست، ولا من غدرة أتقَنّعُ.
ولا ريب أن تطهير النفس من النجاسات وتقصيرها من جملة التطهير المأمور به إذ به تمام إصلاح الأعمال والأخلاق والمقصود أن الورع يطهر دنس القلب ونجاساته كما يطهر الماء دنس الثوب ونجاسته، وبين الثياب والقلوب مناسبة ظاهرة.
وقد جمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الورع في كلمة واحدة في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي و ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه)
، فهذا يعم الترك لما لا يعنيه من الكلام والنظر والاستماع والبطش والمشي والفكر وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه الكلمة كافية شافية في الورع.
[*] وقال إبراهيم: ((الورع ترك كل شبهة وترك ما لا يعنيك وترك الفضلات – الأشياء الزائدة-)).
وقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يا أبا هريرة كن ورعاً تكن أعبد الناس)). كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يا أبا هريرة كن ورعا تكن أعبد الناس وكن قنعا تكن أشكر الناس وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا وأحسن جوار من جاورك تكن مسلما وأقل الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:(6/11)
(كن ورعاً تكن أعبد الناس) أي داوم عليه في جميع الحالات حتى يصير طبعاً لك فتكون أعبد الناس لدوام مراقبتك واشتغالك بأفضل العبادات بظاهرك وباطنك بإيثار حقك على حظك وهذا كمال العبودية
ولهذا قال الحسن: ملاك الدين الورع وقد رجع ابن المبارك من خراسان إلى الشام في رد قلم استعاره منها وأبو يزيد إلى همدان لرد نملة وجدها في قرطم اشتراه وقال: غريبة عن وطنها وابن أدهم من القدس للبصرة لرد تمرة، فانظر إلى قوة ورع هؤلاء وتشبه بهم إن أردت السعادة
(وكن قنعا تكن أشكر الناس) لأن العبد إذا قنع بما أعطاه اللّه رضي بما قسم له وإذا رضي شكر فزاده اللّه من فضله جزاء لشكره وكلما زاد شكراً ازداد فضلاً {لئن شكرتم لأزيدنكم}
(وأحب للناس ما تحب لنفسك) من الخير
(تكن مؤمناً) أي كامل الإيمان لإعراضك عن هواك وإن لم تحب لهم ما تحب لنفسك فأنت مؤمناً ناقص الإيمان لمتابعتك هواك
(وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلماً) أي كامل الإسلام فإن المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه(6/12)
(وأقل الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب) وفي رواية البيهقي بدله فإن في كثرة الضحك فساد لقلب وإذا فسد القلب فسد الجسد كله. (تنبيه) الضحك المميت للقلب ينشأ من الفرح والبطر بالدنيا وللقلب حياة وموت فحياته بدوام الطاعة وموته بإجابة غير اللّه من النفس والهوى والشيطان، بتواتر أسقام المعاصي تموت الأجسام بأسقامها واقتصر من أسباب موته على كثرة الضحك وهو ينشأ عن جميعها لانتشائه من حب الدنيا وحبها رأس كل خطيئة بنص الخبر أوحى اللّه إلى داود ومن عصاني فقد مات ومن أسباب موت [ص 53] القلب الأشر والبطر والفرح وإذا مات لم يستجب له اللّه إذا دعاه. (تنبيه) المأمور بالكف عن كثرة الضحك إنما هو أمثالنا أما من ذاق مشرب القوم من الأحباب فليس مراداً بهذا الخطاب، قال بعض العارفين: جلس ذو النون للوعظ والناس حوله يبكون وشاب يضحك فزجره، فأنشأ يقول: كلهم يعبدون اللّه من خوف النار * ويرون النجاة حظا جزيلا ليس لي في الجنان والنار رأي * أنا لا أبتغي بحبي بديلا فقيل له: فإن طردك فما تفعل؟ قال: فإذا لم أجد من الحب وصلا * رمت في النار منزلا ومقيلا ثم أزعجت أهلها ببكائي * بكرة في ضريعها وأصيلا معشر المشركين نوحوا عليّ * أنا عبد أحببت مولىً جليلا لم أكن في الذي ادّعيت صدوقاً * فجزائي منه العذاب الوبيلا وقال ابن عربي: خدمت امرأة من المخبآت العارفات تسمى فاطمة بنت المثنى القرطبي خدمتها وسنها فوق خمس وتسعين سنة وكنت أستحي أنظر إليها من حمرة خديها وحسن نغمتها وجمالها كأنّ عمرها دون عشرين سنة وكانت تضرب بالدف وتفرح وتقول اعتنى بي وجعلني من أوليائه واصطنعني لنفسه فكيف لا أفرح ومن أنا حتى يختارني على ابن جني أهـ.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن: فضيل بن عياض قال: ما يؤمنك أن تكون بارزت الله بعمل مقتك عليه، فاغلق دونك أبواب المغفرة وأنت تضحك، كيف ترى أن يكون حالك؟
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي علي الرازي، قال: صحبت الفضيل بن عياض ثلاثين سنة ما رأيته ضاحكا ولا متبسما إلا يوم مات ابنه علي فقلت له في ذلك فقال: إن الله عز وجل أحب أمراً فأحببت ما أحب الله.
(وفصل الخطاب في تعريف الورع: أن يدع الرجل ما لا بأس به حذراً مما به بأس.
[*] وقال بعضهم: " كنا ندع سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في الحرام".(6/13)
{تنبيه}: (هناك مسألة مهمة جداً في الورع وهي قضية العلم، لأنه لا يمكن التورُّع بدون علم، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلاماً مهماً في هذا؛ قال: " تمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع الواجبات ويفعل المحرمات ويرى ذلك من الورع، كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعاً- فيأتي مثلاً جيش من المسلمين أميره لا يمكن تغييره وعنده فسق وهو في جهاد يقاتل الكفرة فجاء أحدهم فقال أنا أتورع أن أجاهد وراء هذا الفاسق، ماذا سيحصل؟؛ يجتاح العدو البلد وتقع الهزيمة في المسلمين. وأحدهم مات أبوه وعنده أموال مشبوهة وعليه ديون فلما جاء الناس يطالبون حقوقهم فقال الابن: أنا أتورّع أن أقضي ديون أبي من الشبهة فهذا الورع فاسد وهذا الإنسان جاهل، فالجهل يجعل بعض الناس يتركون واجبات بزعم الورع-، ويدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة- غير مكفّرة- أو فجور ويرى ذلك من الورع، ويمتنع عن قبول شهادة العباد وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفية، ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع".
(ومن القواعد في الورع ما نبه عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: ((الواجبات والمستحبات لا يصلح فيها زهدٌ ولا ورع، وأما المحرمات والمكروهات فيصلح فيها الزهد والورع))، وقال رحمه الله أيضاً: ((أما الورع فإنه الإمساك عما يضر- عن المحرمات- أو قد يضر-الشبهات-، فتدخل فيه المحرمات والشبهات لأنها قد تضر فإنه من اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، وأما الورع عما لا مضرة فيه أو فيه مضرة مرجوحة لما تقترن به من جلب منفعة راجحة أو دفع مضرة أخرى راجحة فجهلٌ وظلمٌ وذلك يتضمن ثلاثة أقسام لا يُتَورَّع عنها: المنافع المكافئة والراجحة والخالصة، كالمباح المحض أو المستحب أو الواجب، فإن الورع عنها ضلالة)).
(أقسام الورع:
قسّم بعض العلماء الورع إلى ثلاث مراتب فقالوا:
1 - واجب وهو الإحجام عن المحرمات وهذا للناس كافة.
2 - الوقوف عن الشبهات ويفعله عدد أقل من الناس.
3 - الكفّ عن كثير من المباحات والاقتصار على أقل الضرورات وذلك للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين.(6/14)
وتفصيل ذلك الورع عن المباحات التي تشغل عن الله والآخرة ويكون عمله موافقاً للسنّة فلا يتورّع عن الزواج و الطعام مثلاً.
والورع كما تقدم إذاً عما هو محرم وعن كل شبهة وعن بعض الحلال الذي يُخشى إذا أخذ منه أن يقع في الحرام وإذا أراد خاتمة الورع وأعلى درجة فيه فالورع عن كل ما ليس لله تعالى وبالتالي لو أن الإنسان أخذ من المباح بنية صالح (أكل بنية التقوِّي، نام بنية الاستيقاظ لقيام الليل، تزوج بنية النفقة على الزوجة وكسب الولد وإعفاف النفس وتكثير المسلمين ....... الخ .. ) تنقلب مباحاته إلى طاعات وعبادات وفي هذه الحالة لا يسوغ له التورّع عنها، لكن تتورع عن مباح قد يؤدي إلى حرام أو يشغل قلبك عن الله والدار الآخرة .. ؛ الورع في هذه الحالة سائغ.
والورع كلما أخذ به الإنسان كان أسرع جوازاً على الصراط وأخفّ ظهراً وتتفاوت في الآخرة بحسب التفاوت في درجات الورع وهو تجنب القبائح لصدق النفس وتوفير الحسنات وصيانة الإيمان وكذلك البعد عن حدود الله سبحانه وتعالى وكذلك فإن الإنسان المسلم ينتبه من الاقتراب من حدود الله، لأن الاقتراب منها يوشك أن يوقعه فيها، قال تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتّقُونَ) [البقرة: 187]، وقال تعالى: (ِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ) [البقرة: 229]، والحدود يراد بها أواخر الحلال حيث نهى عن القربان، والحدود من جهة أخرى قد يراد بها أوائل الحرام، فلا تتعدوا ما أباح الله لكم ولا تقربوا ما حرّم الله عليكم، فالورع يخلص العبد من قربان هذه وتعدّي هذه وهو اقتحام الحدود، فمجاوزة الحد في الحلال يمكن أن يوقعه في الكبائر العظيمة.
فإن الإثم ما حاك في صدرك وإن أفتاك عنه الناس كما في الحديث الآتي:
(حديث النواس ابن سمعان في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: البر حسن الخلق و الإثم ما حاك في صدرك و كرهت أن يطلع عليه الناس.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة فإنه من أصول الورع: ((6/15)
(حديث النعمان بن بشير الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الحلال بين و الحرام بين و بينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه و دينه و من وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا و إن لكل ملك حمى ألا و إن حمى الله تعالى في أرضه محارمه ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب.
(حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اجعلوا بينكم و بين الحرام سترا من الحلال من فعل ذلك استبرأ لعرضه و دينه و من أرتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى يوشك أن يقع فيه و إن لكل ملك حمى و إن حمى الله في الأرض محارمه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(اجعلوا بينكم وبين الحرام ستراً) أي وقاية(6/16)
(من الحلال) وهو واحد الستور قال الزمخشري: من المجاز رجل مستور وهتك الله ستره اطلع على مساويه وفلان لا يستتر من الله بستر أي لا يتقي الله فإن (من فعل ذلك) أي جعل بينه وبين الحرام ستراً فقد (استبرأ) بالهمز وقد تخفف طلب البراءة (لعرضه) بصونه عما يشينه ويعيبه وفي المختار الاستبراء عبارة عن التبصر والتعرف احتياطاً (ودينه) عن الذم الشرعي والعرض بكسر العين موضع المدح والذم من الإنسان كما قاله بعض الأعيان قال الزمخشري: تقول اعترض فلان عرضي إذا وقع فيه وتنقصه ومن زعم كالشهاب ابن حجر الهيثمي أن المراد هنا الحسب وما يعده الإنسان من مفاخره ومفاخر آبائه فكأنه نقله من لغة غير ناظر إلى ما يلائم السياق في هذا المحل بخصوصه ومقصود الحديث أن الحلال إذا خيف أن يتولد من فعله خور شرعي في نفسه أو أهله أو سلفه تعين تجنبه ليسلم من الذم والعيب والعذاب ويدخل في زمرة المتقين (ومن أرتع فيه) أي أكل ما شاء وتبسط في المطاعم والملابس كيفما أحب يقال رتعت الماشية أكلت ما شاءت قال الزمخشري: من المجاز رتع القوم أكلوا ما شاءوا في رغد وسعة (كان كالمرتع) بضم الميم وكسر التاء (إلى جنب الحمى) أي جانبه من إطلاق المصدر على المفعول أي المحمي وهو الذي لا يقربه أحد احتراماً لمالكه. قال الراغب: وأصل الجنب الجارحة ثم يستعار في الناحية التي تليها كعادتهم في استعمال سائر الجوارح لذلك نحو اليمين والشمال.(6/17)
وقال الزمخشري: حميت المكان منعته أن يقرب فإذا امتنع وعز قلت أحميته أي صيرته حمى فلا يكون حمىإلا بعد الحماية ومن المجاز حميته أن يفعل كذا إذا منعته (يوشك) بضم المثناة تحت وكسر المعجمة مضارع أوشك بفتحها وهو من أفعال المقاربة وقد وضع لدنو الخبر مثل كاد وعسى في الاستعمال فيجوز أوشك زيد يجيء وأوشك أن يجيء زيد على الأوجه الثلاثة معناه هنا يسرع أو يقرب (أن يقع) بفتح القاف فيه وفي ماضيه (فيه) أي تأكل ماشيته منه فيعاقب والوقوع في شيء السقوط فيه وكل سقوط شديد يعبر عنه به فكما أن الراعي الخائف من عقوبة السلطان يبعد لاستلزام القرب الوقوع المترتب عليه العقاب فكذا حمى الله أي محارمه التي حظرها لا ينبغي قرب حماها ليسلم من ورطتها ومن ثم قال الله تعالى {تلك حدود الله فلا تقربوها} فنهى عن المقاربة حذراً من المواقعة إذ القرب من الشيء يورث داعية وميلاً يأخذ بمجامع القلب ويلهيه عما هو مقتضى الشرع، وقد حرمت أشياء كثيرة لا مفسدة فيها لكونها تجر إليها (وإن لكل ملك) من ملوك العرب (حمى) يحميه عن الناس فلا يقربه أحد خوفاً من سطوته كان الواحد من أشرفهم إذا أراد أن يترك لقومه مرعى استعوى كلباً فما بلغه صوته من كل جهة حظره على غيره (وإن حمى الله في الأرض) في رواية في أرضه (محارمه) معاصيه كما في رواية أبي داود من دخل حماه بارتكاب شيء منها استحق العقوبة ومن قارب يوشك أن يقع فيه فالمحتاط لنفسه ولدينه لا يقاربه ولا يفعل ما يقربه منه وهذا السياق من المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إقامة برهان عظيم على تجنب الشبهات. أهـ
(وحكى لنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن شخصين فيمن قبلنا تورّعا عن شيء اكتشفاه في الأرض كما يلي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اشترى رجل من رجل عقارا له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني، إنما اشتريت منك الأرض، ولم أبتع منك الذهب. وقال الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها، فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ قال أحدهما: لي غلام، وقال الآخر: لي جارية، قال: أنحكوا الغلام الجارية، وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدقا).(6/18)
والإنسان المسلم عليه أن يتورع في الجوانب التي قد يؤدى الولوغ فيها للمهالك سواء في النظر والسمع والشم واللسان واليد والبطن والفرج والمسعى والورع في الشراء والبيع وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(أولاً الورع في النظر:
قال تعالى: (قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَىَ لَهُمْ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) [سورة: النور - الآية: 30]
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال: سألت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري.
(حديث ابن عباس في الصحيحين) قال كان الفضلُ رَدِيْفَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقدمت امرأةٌ من خثعم، فجعل الفضلُ ينظرُ إليها وتنظرُ إليه، وجعل رسول الله يصرفُ وجه الفضل إلى الشقِ الآخر، فقالت يا رسول الله: إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت شيخاً كبيراً لا يثبتُ على الراحلة، أفأحجُ عنه؟ قال نعم. وذلك في حجة الوداع.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كُتب على ابن آدم نصيبه من الزنا، فهو مدرك ذلك لا محالة فالعينان زناهما النظر و الأذنان زناهما الاستماع و اللسان زناه الكلام و اليد زناها البطش و الرجل زناها الخطا و القلب يهوى و يتمنى و يصدق ذلك الفرج أو يكذبه.
(حديث أبي سعيد في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إياكم و الجلوس في الطرقات، قالوا يا رسول الله مل لنا منها بدٌ إنها مجالسنا نتحدثُ فيها، قال فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقه، قالوا وما هو حقُ الطريق؟ قال: غض البصر و كف الأذى و رد السلام و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.
(حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من كان منكن يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ترفع رأسها حتى يرفع الرجال رءوسهم كراهة أن يرين من عورات الرجال.(6/19)
(حديث أَبِي رَيْحَانَةَ رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: حُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ دَمَعَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، حُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ سَهِرَتْ فِي سَبِيلِ اللهِ، حُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ غَضَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ".
(حديث جرير بن عبد الله البجلي في صحيح مسلم) قال: سألت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري.
(حديث بُريدة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعلي يا علي لا تتبع النظرةَ النظرة فإن لك الأولى وليس لك الآخرة.
(حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: يا علي إن لك كنزا في الجنة وإنك ذو قرنيها فلا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة.
(من ابتلي بنظر الفجأة أن يداويه بإتيان امرأته:
(حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه.
(حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن المرأة إذا أقبلت أقبلت في صورة شيطان فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله فإن معها مثل الذي معها.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن بن المبارك عن داود الطائي قال كانوا يكرهون فضول النظر
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن حبان بن موسى قال سمعت عبد الله يقول حفظ البصر أشد من حفظ اللسان.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن وكيع قال خرجنا مع سفيان الثوري في يوم عيد فقال إن أول ما نبدأ به في يومنا غض أبصارنا.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن محمد بن عبد الله الزراد قال خرج حسان بن أبي سنان إلى العيد فقيل له لما رجع يا أبا عبد الله ما رأينا عيدا أكثر نساء منه قال ما تلقتني امرأة حتى رجعت.(6/20)
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن أبي حكيم قال خرج حسان بن أبي سنان يوم العيد فلما رجع قالت له امرأته كم من امرأة حسنة قد نظرت اليوم إليها فلما أكثرت عليه قال ويحك ما نظرت إلا في إبهامي منذ خرجت حتى رجعت إليك.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن أنس قال إذا مرت بك امرأة فغمض عينيك حتى تجاوزك.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن العلاء بن زياد يقول لا تتبع بصرك حسن ردف المرأة فإن النظر يجعل الشهوة في القلب.
(ثانياً الورع في السمع:
(حديث نافع رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) قال: سمع بن عمر مزمارا قال فوضع إصبعيه على أذنيه ونأى عن الطريق وقال لي يا نافع هل تسمع شيئا؟ قال فقلت لا، قال فرفع إصبعيه من أذنيه وقال كنت مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا.
(تحريم الاستماع إلى حديث قومٍ وهم له كارهون:
(حديث ابن عباس في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من تحلَّم بحُلمٍ لم يره كُلِّف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قومٍ وهم له كارهون صُبَّ في أُذنيه الآنكُ يوم القيامة، ومن صور صورةً عُذِّب وكُلِّفَ أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ.
(ثالثاً الورع في الشم:
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن يونس بن أبي الفرات أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أتي بغنائم مسك فأخذ بأنفه فقالوا يا أمير المؤمنين تأخذ بأنفك لهذا قال إنما ينتفع من هذا بريحه فأكره أن أجد ريحه دون المسلمين.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن أبي موسى الأشعري قال لأن يمتلأ منخراي من ريح جيفة أحب إلي من أن يمتلأ من ريح امرأة.(6/21)
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن نعيم بن أبي هند أن عمر بن الخطاب كان يدفع إلى امرأته طيبا للمسلمين كانت تبيعه فتزن فترجح وتنقص فتكسر بأسنانها فتقوم لهم الوزن فعلق باصبعها منه شيء فقالت بأصبعها في فيها فمسحت به خمارها وأن عمر جاء فقال ما هذه الريح فأخبرته خبرها فقال تطيبين بطيب المسلمين فانتزع خمارها فجعل يقول بخمارها في التراب ثم يشمه ثم يصب عليه الماء ثم يقول به في التراب حتى ظن أن ريحه قد ذهبت ثم جاءتها العطارة مرة أخرى فباعت منها فوزنت لها فعلق بأصبعها منها شيء فقالت فأصبعها في فيها ثم قالت بأصبعها في التراب فقالت العطارة ما هكذا صنعت أول مرة فقالت أو ما علمت ما لقيت منه لقيت منه كذا وكذا.
(رابعاً الورع في اللسان:
(حديث عقبة بن عامر في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قلت يا رسول الله ما النجاة؟ قال أملك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك.
(حديث أبي سعيدٍ في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا و إن اعوججت اعوججنا.
(حديث أبي بكر رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ليس شيء من الجسد إلا و هو يشكو ذرب اللسان.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات و إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم.
(حديث سهل بن سعد في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من يضمن لي ما بين لحييه و ما بين رجليه أضمن له الجنة.
(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: تقوى الله وحسن الخلق , وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ قال الفم والفرج.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت.(6/22)
(حديث معاذ في صحيحي الترمذي وابن ماجة) قال قلت يا رسول الله أخبرني بعملٍ يُدخلني الجنة ويباعدني من النار؟ قال لقد سألتني عن عظيم و إنه ليسير على من يسره الله عليه تعبد الله لا تشرك به شيئا و تقيم الصلاة المكتوبة و تؤتي الزكاة المفروضة و تصوم رمضان و تحج البيت ; ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة و الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار و صلاة الرجل في جوف الليل ; ألا أخبرك برأس الأمر وعموده و ذروة سنامه؟ رأس الأمر الإسلام و عموده الصلاة و ذروة سنامه الجهاد ; ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ كف عليك هذا - و أشار إلى لسانه - قال: يا نبي الله! و إنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! و هل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم.
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كف غضبه كف الله عنه عذابه، ومن خزن لسانه ستر الله عورته، ومن أعذر إلى الله قبل عذره»
[*] وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: " والله الذى لا إله إلا هو ليس شىء أحوج إلى طول سجن من لسانى ".
وكان يقول: "يا لسان قل خيراً تغنم، واسكت عن شر تسلم من قبل أن تندم ".
[*] وعن أبى الدرداء - رضي الله عنه - قال: " أنصف أذنيك من فيك وإنما جعل لك أذنان وفم واحدٌ لتسمع أكثر مما تتكلم ".
[*] وعن الحسن البصري قال: كانوا يقولون: إن لسان المؤمن وراء قلبه فإذا أراد أن يتكلم بشيء تدبره بقلبه ثم أمضاه، وإن لسان المنافق أمام قلبه، فإذا هم بشيء أمضاه بلسانه ولم يتدبره بقلبه.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن عمر بن الخطاب اطلع على أبي بكر رحمهما الله وهو يمد لسانه فقال ما تصنع يا خليفة رسول الله؟ قال هذا أوردني الموارد إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ليس شيء من الجسد إلا يشكو إلى الله اللسان على حدته.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن الحسن بن حي قال: فتشت الورع فلم أجده في شيء أقل منه في اللسان.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن الفضيل بن عياض يقول أشد الورع في اللسان.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن يونس بن عبيد يقول إنك لتعرف ورع الرجل في كلامه.(6/23)
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن بن أبي رزمة قال سئل عبد الله يعني بن المبارك أي الورع أشد قال اللسان.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن الفضيل بن عياض قال: الورع في اللسان.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن أرطأة بن المنذر قال تعلم رجل الصمت أربعين سنة بحصاة يضعها في فيه لا ينتزعها إلا عند طعام أو شراب أو نوم.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن عمر بن عبد العزيز قال: إني وجدت متقي الله ملجما.
(خامساً الورع في اليد:
(حديث عبد الله بن عمرو في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده و المهاجر من هجر ما نهى الله عنه.
* (حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أفضل المؤمنين إسلاما من سلم المسلمون من لسانه و يده وأفضل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا و أفضل المهاجرين من هجر ما نهى الله تعالى عنه وأفضل الجهاد من جاهد نفسه في ذات الله عز و جل.
* (حديث أسود بن أصرم رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال لا تبسط يدك إلا إلى خير ولا تقل بلسانك إلا معروفا.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن أبي بكر الهذلي قال بينما نحن مع الحسن إذ مر عليه بن الأهتم يريد المقصورة وعليه جباب خز مختلفة ألوانها قد نضد بعضها فوق بعض فما تفرج عنها قباوة وهو يمشي يتبختر فنظر إليه الحسن نظرة وقال أف أف شامخ بأنفه ثاني عِطفه مصعر خده ينظر في عطفيه أين ينظر في عطفيك في نعم غير مشكورة ولا مذكورة غير المأخوذ بأمر الله فيها ولا أحق الله منها والله أن يمشي أحدهم طبيعته أن يتخلج تخلج المجنون في كل عصب من أعصابه لله نعمة وللشيطان به لعبة فسمع بن الأهتم فرجع يعتذر إليه فقال لا تعتذر إلي وتب إلى ربك أما سمعت قول الله تبارك وتعالى: (وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إِنّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) [الإسراء: 37]
(سادساً الورع في البطن:(6/24)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ثم ذكر الرجل أشعث أغبر يطيل السفر، ومأكله حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له)
(حديث أم عبد الله أخت شداد بن أوس رضي الله عنهما الثابت في السلسلة الصحيحة) أنها بعثت إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقدح لبن عند فطره وذلك في طول النهار وشدة الحر فرد إليها رسولها أنى لك هذا اللبن قالت من شاة لي فرد إليها رسولها أنى لك هذه الشاة قلت اشتريتها من مالي فشرب فلما كان من غد أتت أم عبد الله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت يا رسول الله بعثت إليك بذلك اللبن مرثية لك من طول النهار وشدة الحر فرددت فيه إلي الرسول فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك أمرت الرسل قبلي ألا تأكل إلا طيبا ولا تعمل إلا صالحا.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن يحيى بن سعيد الأموي قال زاملت أبا بكر بن عياش إلى مكة فكان من أورع من رأيت أهدي له رطب برني فقيل له بعد هذا من بستان خالد بن سلمة المخزومي المقبوض عنه فأتى إلى خالد بن سلمة واستحل منهم ونظر إلى قيمة الرطب فتصدق بها.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن الحسن بن عتبة قال: قال رجل لبشر بن الحارث أوصني قال أخمل ذكرك وطيب مطعمك.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن عطاء بن مسلم قال ضاعت نفقة إبراهيم بن أدهم بمكة فمكث يستف الرمل خمسة عشر يوما.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن رجل من خثعم قال دخلت على حسن وحسين وهما يأكلان خبزا وخلا وبقلا فقلت لهما أنتما ابنا أمير المؤمنين وأنتما تأكلان ما أرى وفي الرحبة ما فيها قالا ما أقل علمك بأمير المؤمنين إنما ذاك للمسلمين.(6/25)
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن أم عثمان أن أم ولد كانت لعلي قالت جئت عليا يوما وبين يديه قرنفل مكثوب فقلت يا أمير المؤمنين هب لابنتي من هذا القرنفل قلادة قال: ايتيني درهما بيده هكذا فإنما هذا مال المسلمين أو اصبري حتى يأتيني حظي فأهب لك منه فأبي أن يهب لي منه شيئا.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن أبي صالح الحنفي قال دخلت على أم كلثوم فقالت إئتوا أبا صالح بطعام فأتوني بمرقة فيها جنوب فقلت أتطعموني هذا وأنتم أمراء قالت كيف لو رأيت أمير المؤمنين عليا وأتي بأترج فأخذ الحسن أو الحسين منها أترجة لصبي لهم فانتزعها من يده وقسمها بين المسلمين.
(سابعاً الورع في الفرج:
(حديث سهل بن سعد في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من يضمن لي ما بين لحييه و ما بين رجليه أضمن له الجنة.
(حديث أبي هريرة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: تقوى الله وحسن الخلق , وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ قال الفم والفرج.
(ثامناً الورع في المسعى:
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن عبد الملك بن مروان ما مشيت بالقرآن إلى خزيه منذ قرأته.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن وهب بن منبه قال في حكمة آل داود حق على العاقل أن لا ير طاعنا إلا في ثلاث زاد لمعاد أو مرمة لمعاش أو لذة في غير محرم.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن أحمد بن حاتم الطويل قال بلغني أن عروة بن الزبير قطعت رجله من الآكلة قال إن مما يطيب نفسي عنك أني لم أنقلك إلى معصية لله قط.
(تاسعاً الورع في الشراء والبيع:
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن مسعر قال جاء مجمع التيمي بشاة يبيعها فقال إني أحسب أو أظن في لبنها ملوحة.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن سكن الخرشي قال جاءني يونس بن عبيد بشاة فقال بعها وابرأ من أنها تقلب المعلف وتنزع الوتد ولا تبرأ بعد ما تبيع بين قبل أن تبيع.(6/26)
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن أيوب بن سامري وكان ينزل عندنا داريا فبعث بطعام إلى البصرة مع رجل وأمره أن يبيعه يوم يدخل بسعر يومه فأتاه كتابه إني قدمت البصرة فوجدت الطعام متضعا فحبسته فزاد الطعام فأردت به كذا وكذا فكتب إليه الحجاج إنك قد خنتنا وعملت خلاف ما أمرناك به فإذا أتاك كتابي فتصدق بجميع ثمن ذلك الطعام على فقراء البصرة فليتني أسلم إذا فعلت ذلك.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن أن غلام لحسان بن أبي سنان كتب إليه من الأهواز أن قصب السكر أصابته آقة فاشتر السكر فيما قبلك قال فاشتراه من رجل فلم يأت عليه إلا قليل فإذا فيما اشترى ربح ثلاثين ألفا فأتى صاحب السكر فقال يا هذا إن غلامي كان كتب إلي ولم أعلمك فأقلني فيما اشتريت منك فقال الآخر فقد أعلمتني الآن وطيبته لك قال فرجع فلم يحتمل قلبه قال فأتاه فقال يا هذا إني لم آت هذا الأمر من قبل وجهه فأحب أن يسترد هذا البيع قال فما زال به حتى رد عليه.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن الربيع اليحمدي قال رأيت محمد بن واسع يبيع حمارا بسوق بلخ فقال له رجل أترضاه لي قال لو رضيته لم أبعه.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن معاوية بن قرة قال كان لأبي الدرداء جمل يقال له الدمون فكان إذا استعاره منه رجل قال لا تحمل عليه إلا طاقته فلما كان عند الموت قال يا دمون لا تخاصمني عند ربي فإني لم أكن أحمل عليك إلا ما كنت تطيق.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن هشام بن حسان قال ترك محمد بن سيرين أربعين ألفا فيما لا ترون به اليوم بأسا.
(الفرق بين الورع والزهد:
مسألة: ما الفرق بين الورع والزهد؟
الورع والزهد يشتبه معناهما عند بعض الناس، لكن الفرق بينهما كما
قال ابن القيم رحمه الله في كتاب الروح: الورع ترك ما يضرُّ في الآخرة، والزهد ترك ما لا ينفع، فمقام الزهد أعلى من مقام الورع؛ لأن الورع أن يترك الإنسان ما يضره، والزهد أن يترك ما لا ينفع؛ لأن الأشياء ثلاثة أقسام: ضار، ونافع، وما ليس بضار ولا نافع يعني منها ضار، ومنها نافع، بضار ولا نافع.
فالزاهد يترك شيئين من هذا؛ يترك الضار، ويترك ما ليس بنافع ولا ضار، ويفعل ما هو نافع.
والورعُ يترك شيئاً واحداً منها وهو ما كان ضاراً، ويفعل النافع، ويفعل الشيء الذي ليس فيه نفع ولا ضرر.(6/27)
وبهذا صارت منزلة الزاهد أرفع من منزلة الورع، وربما يطلق أحدهما على الآخر؛ فالورعَ ترك ما يضر، ومن ذلك ترك الأشياء المشتبهة؛ المشتبهة في حكمها، والمشتبهة في حقيقتها، فالأول اشتباه في الحكم والثاني اشتباه في الحال، فالإنسان الورع هو الذي إذا اشتبه الأمر عليه تركه إن كان اشتباهاً في تحريمه، وفعله إن كان اشتباهاً في وجوبه لئلا يأثم بالترك.
[*] والسنة الصحيحة طافحةٌ بالحث على الورع منها ما يلي:
(حديث النعمان بن بشير الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الحلال بين و الحرام بين و بينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه و دينه و من وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا و إن لكل ملك حمى ألا و إن حمى الله تعالى في أرضه محارمه ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب.
وقد تضمن هذا الحديث غرر الفوائد، ودرر الفرائد منها ما يلي:
(1) قسم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأمور إلى ثلاثة أقسام: حلال بيّن، ومشتبه.
فالحلال البيّن؛ كحلَّ بهيمة الأنعام، والحرام البين؛ كتحريم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أشبه ذلك، وكلّ ما في القرآن من كلمة ((أحلَّ)) فهو حلال، ومن كلمة ((حرّم)) فهو حرام، فقوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) (البقرة: 275) هذا حلال بيّن، وقوله تعالى: (وَحَرَّمَ الرِّبا) (البقرة: 275) هذا حرامٌ بيّن.
(2) هناك أمور مشتبهات تخفى على الناس، وأسباب الخفاء كثيرة، منها ألا يكون النصُّ ثابتاً عند الإنسان، يعني يتردد: هل يصح عن الرسول عليه الصلاة والسلام أو لا يصح، ثم إذا صح قد تشتبه دلالته: هل يدل على كذا أو لا يدل؟ ثم إذا دلّ على شيء معين فقد يشتبه: هل له مخصص إن كان عاماًّ؟ هل له مقيد إن كان مطلقاً؟ ثم إذا تبين قد يشتبه: هل هو باقٍ أو منسوخ.
المهم أن أسباب الاشتباه كثيرة، فما هو الطريق إلى حل هذا الاشتباه؟ والجواب: أن الطريق بينه النبي صلى عليه الصلاة والسلام فقال: ((فمن اتقى الشبهات؛ استبرأ لدينه وعرضه)) من أتقاها يعني تجنبها إلى الشيء الواضح البيّن؛ فقد استبرأ لدينه وعرضه.(6/28)
(3) استبرأ لدينه: حيث سلم من الوقوع في المحرم. ولعرضه: حيث سلم من كلام الناس فيه؛ لأنه إذا أخذ الأمور المشتبهة؛ صار عرضة للكلام فيه، كما إذا أتى الأمور البينة الواضح تحريمها.
(4) ثم ضرب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثلاً لذلك بالراعي راعي غنم أو إبل أو بقر ((يرعى حول الحمى)) يعني حول الحمى الذي حماه أحد من الناس لا يرعى فيه أحد، ومعلوم أنه إذا حمي؛ ازدهر وكثُر عشبه أو كثر زرعه؛ لأن الناس لا ينتهكونه بالرعي، فالراعي الذي يرعى حول الحمى، يوشك أن يقع فيه؛ لأن البهائم إذا رأت الخضرة في هذا المحمي، ورأت العشب، فإنها تنطلق إليه وتحتاج إلى ملاحظة ومراقبة كبيرة.
ومع ذلك لو لاحظ الإنسان وراقب، فإنه قد يغفل، وقد تغلبه هذه البهائم، فترتع في هذا الحمى ((كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه)).
ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((ألا وإن لكل ملك حمى)) وهذا يحتمل أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذلك إقراراً له، وأن الملك له أن يحمي مكاناً معيناً يُكثر فيه العشب لبهائم المسلمين؛ وهي البهائم التي تكون في بيت المال؛ كإبل الصدقة، وخيل الجهاد، وما أشبه ذلك.
وأما الذي يحمي لنفسه فإن ذلك حرامٌ عليه، لا يحل لأحد أن يحمي شيئاً من أرض الله يختص بها دون عباد الله، فإن ذلك حرامٌ عليه؛ لأن المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء، والكلأ، والنار" بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: المسلمون شركاء في ثلاث في الماء والكلأ والنار
فالكلأ لا يجوز لأحد أن يحميه فيضع عليه الشبك، أو يضع عنده جنوداً يمنعون الناس من أن يرعوا فيه، فهو غصب لهذا المكان، وإن لم يكن غصباً خاصاً؛ لأنه ليس ملكاً لأحد، لكنه منع لشيء يشترك فيه الناس جميعاً، فهذا لا يجوز، ولهذا قال أهل العلم: يجوز للإمام أن يتخذ حمى مرعى لدواب المسلمين بشرط ألا يضرهم أيضاً.
فقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ألا وإن لكل ملك حمى" يحتمل إنه إقرار، فإن كان كذلك؛ فالمراد به ما يحميه الملك لدواب المسلمين؛ كخيول الجهاد، وإبل الصدقة، وما أشبه ذلك.
والملك له حمى يُحمى سواء بحق أو بغير حق، فإذا جاء الناس يرعون حول الحمى؛ حول الأرض المعشبة المخضرة، فإنهم لا يملكون منع البهائم أن ترتع فيها.(6/29)
ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((ألا وإن حمى الله محارمه)) الله عز وجلَّ أحاط الشريعة بسياج محكم، حمى كل شيء محرم يضر الناس في دينهم ودنياهم حماه، وإذا كان الشيء مما تدعو النفوس إليه شدد السياج حوله إذا كان مما تدعو النفوس إليه؛ فإنه يشدد السياح حوله.
انظر مثلاً إلى الزنى والعياذ بالله، الزنى سببه قوة الشهوة وضعف الإيمان، لكن النفوس تدعوا إليه؛ لأنه جبلة وطبيعة، فجعل حوله سياجاً يبعد الناس عنه فقال: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى) (الاسراء:32)، لم يقل ولا تزنوا، قال (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى) يشمل كل ذريعة توصل إلى الزنى من النظر واللمس والمحادثة وغير ذلك.
كذلك الربا حرمه الله عزَّ وجلَّ، ولما كانت النفوس تطلبه لما فيه من الفائدة؛ حرم كل ذريعة إليه فحرم الحيل على الربا ومنعها، وهكذا جعل الله عزَّ وجلَّ للمحارم حمى له تمنع الناس من الوقوع فيها.
(5) ثم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت؛ صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)).
((مضغة)) يعني قطعة لحم صغيرة بقدر ما يمضغه الإنسان، صغيرة لكن شأنها عظيم، هي التي تدبر الجسد ((إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله)) ليست العين، ولا الأنف، ولا اللسان، ولا اليد، ولا الرجل، ولا الكبد، ولا غيرها من الأعضاء، إنما هي القلب، ولهذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ((اللهم مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم مصرف القلوب صرَّف قلوبنا إلى طاعتك)).
فالإنسان مدار صلاحه وفساده على القلب. ولهذا ينبغي لك أيها المسلم أن تعتني بصلاح قلبك، فلاح الظواهر وأعمال الجوارح طيب، ولكن الشأن كل الشأن في صلاح القلب، يقول الله عن المنافقين: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) (المنافقون: 4) (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ) من الهيئة الحسنة، وحسن عمل الجوارح، وإذا قالوا، قالوا قولاً تسمع له من حسنه وزخرفته، لكن قلوبهم خربة والعياذ بالله (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) (المنافقون: 4) ليس فيها خير.(6/30)
فأنت اعتنِ بصلاح القلب، انظر قلبك هل فيه شيء من الشرك؟ هل فيه شيء من كراهة ما أنزل الله؟ هل فيه شيء من كراهة عباد الله الصالحين؟ هل فيه شيء من الميل إلى الكفار؟ هل فيه شيء من موالاة الكفارة؟ هل فيه شيئاً من الحسد، هل فيه شيء من الغل؟ هل فيه شيء من الحقد؟ وما أشبه ذلك من الأمراض العظيمة الكثيرة في القلوب، فطهر قلبك من هذا وأصلحه، فإن المدار عليه.
(أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ) (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ) (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) (العاديات:9 - 11)، هذا يوم القيامة، العلم على الباطن، في الدنيا العمل على الظاهر، مالنا إلا ظواهر الناس، لكن في الآخرة العمل على الباطن، أصلح الله قلوبنا وقلوبكم.
قال تعالى: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) (الطارق:9) (تُبْلَى) يعني تختبر السرائر فمن كان من المؤمنين؛ ظهر إيمانه، ومن كان من أهل النفاق؛ ظهر نفاقه والعياذ بالله.
لذلك أصلح قلبك يا أخي، لا تكره شريعة الله، لا تكره عباد الله الصالحين، لا تكره أي شيء مما نزَّل الله، فإن كراهتك لشيء مما نزَّل الله كفر بالله تعالى، نسأل الله لنا ولكم الهداية والتوفيق والصلاح.
(حديث النواس ابن سمعان في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: البر حسن الخلق و الإثم ما حاك في صدرك و كرهت أن يطلع عليه الناس.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(البر) بالكسر أي الفعل المرضي الذي هو في تزكية النفس كالبر في تغذية البدن وقوله البر أي معظمه فالحصر مجازي وضده الفجور والإثم ولذا قابله به وهو بهذا المعنى عبارة عما اقتضاه الشارع وجوباً أو ندباً والإثم ما ينهى عنه وتارة يقابل البر بالعقوق فيكون هو الإحسان والعقوق الإساءة
(حسن الخلق) أي التخلق مع الخلق والخالق والمراد هنا المعروف وهو طلاقة الوجه وكف الأذى وبذل النداء وأن يحب للناس ما يحب لنفسه وهو راجع لتفسير [ص 218] البعض له بأنه الإنصاف في المعاملة والرفق في المجادلة والعدل في الأحكام والإحسان في العسر واليسر إلى غير ذلك من الخصال الحميدة
(والإثم ما حاك في صدرك) اختلج في النفس وتردد في القلب ولم يمازج نوره ولم يطمئن إليه.
(فالإثم هو أن الإنسان يتردد في الشيء، ويشك فيه، ولا ترتاح له نفسه، وهذا فيمن نفسه مطمئنة راضية بشرع الله.(6/31)
وأما أهل الفسوق والفجور فإنهم لا يترددون في الآثام، تجد الإنسان منهم يفعل المعصية منشرحاً بها صدره والعياذ بالله، لا يبالي بذلك، لكن صاحبَ الخير الذي وُفق للبر هو الذي يتردد الشيء في نفسه، ولا تطمئن إليه، ويحيك في صدره، فهذا هو الإثم.
وموقف الإنسان من هذا أن يدعه، وأن يتركه إلى شيء تطمئن إليه نفسه، ولا يكون في صدره حرج منه، وهذا هو الورع، ولهذا قال النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام: ((وإن أفتاك الناس وأفتوك)) حتى لو أفتاك مفتٍ بأن هذا جائز، ولكن نفسك لم تطمئن ولم تنشرح إليه فدعه، فإن هذا من الخير والبر.
(وكرهت أن يطّلع عليه الناس) أي وجوههم أو أماثلهم الذي يستحيا منهم وحمله على العموم بعيد المراد بالكراهة هنا الدينية الخارمة فخرج العادية كمن يكره أن يرى آكلاً لنحو حياء أو بخل وغير الخارمة كمن يكره أن يركب بين مشاة لنحو تواضع وإنما كان التأثير في النفس علامة للإثم لأنه لا يصدر إلا لشعورها بسوء عاقبته وظاهر الخبر أن مجرد خطور المعصية إثم لوجود الدلالة ولا مخصص وذا من جوامع الكلم لأن البر كلمة جامعة لكل خير والإثم جامع للشر وقال الحرالي: الإثم سوء اعتداء في قول أو فعل أو حال ويقال للكذوب أثوم لاعتدائه بالقول على غيره.
(حديث وابصة بن معبدٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أتيتُ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: "جئت تسألُ عن البر؟ " قُلتُ نعم، قال: ((استفت قلبك، البرُّ: ما اطمأنت إليه النفسُ، واطمأن إليه القلبُ، والإثم ما حاك في النفسِ وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناسُ وأفتوكَ)
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(استفت قلبك) أي عول على ما فيه لأن للنفس شعوراً بما تحمد عاقبته أو تذم
(وإن) غاية لمقدر دل عليه ما قبله أي فالتزم العمل بما في نفسك ولو
(وإن أفتاك الناسُ وأفتوكَ) بخلافه لأنهم إنما يطلعون على الظواهر(6/32)
قال حجة الإسلام: ولم يرد كل أحد لفتوى نفسه وإنما ذلك لوابصة في واقعة تخصه انتهى قال البعض: وبفرض العموم فالكلام فيمن شرح الله صدره بنور اليقين فأفتاه غيره بمجرد حدس أو ميل من غير دليل شرعي وإلا لزمه اتباعه وإن لم ينشرح له صدره انتهى وبما بحثه صرح حجة الإسلام لكن بزيادة بيان وإحسان فقال ما محصوله ليس للمجتهد أو المقلب إلا الحكم بما يقع له أو لمقلده ثم يقال للورع استفت [ص 496] قلبك وإن أفتوك إذ للإثم حزازات في القلوب فإذا وجد قابض مال مثلاً في نفسه شيئاً منه فليتق الله ولا يترخص تعللاً بالفتوى من علماء الظاهر فإن لفتاويهم قيوداً من الضرورات وفيها تخمينات واقتحام شبهات والتوقي عنها من شيم ذوي الدين وعادات السالكين لطريق الآخرة. (تتمة) قال العارف سهل التستري خرج العلماء والزهاد والعباد من الدنيا وقلوبهم مقفلة ولم تفتح إلا قلوب الصديقين والشهداء ولولا أن إدراك قلب من له قلب بالنور الباطني حاكم على علم الظاهر لما قال المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استفت قلبك، فكم من معان دقيقة من أسرار القرآن تخطر على قلب المتجرد للذكر والفكر وتخلو عنها زبر التفاسير ولا يطلع عليها أفاضل المفسرين ولا محققو الفقهاء المعتبرين.
(حديث عُقبةَ بن الحارثِ رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أنهُ تزوجَ ابنةً لأبي إهاب بن عزيز، فأتتهُ امرأةٌ فقالت: إني قد أرضعتُ عُقبة والتي قد تزوج بها، فقال لها عُقبةُ: ما أعلم أنك أرضعتني ولا أخبرتني، فركب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينةِ، فسألهُ، فقالَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"كيفَ، وقد قيلَ؟! " ففارقها عقبةُ ونكحت زوجا غيرهُ.
إن عقبة تزوج امرأة ابن أبي إهاب، فلما تزوجها جاءت امرأة فقالت: إني أرضعته هو والمرأة التي تزوجها، يعني فيكون أخاً لها من الرضاع، وأخوها من الرضاع يحرم عليها كما يحرم عليها أخوها من النسب؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب))
ولكن لا بد لهذا شروط.
الشرط الأول: أن يكون اللبن من آدمية، فلو اشترك طفلان في الرضاع من شاة أو من بقرة أو من بعير، فإنهما لا يصيران أخوين؛ لأنه لا بد أن يكون الرضاع من آدمية؛ لقوله تعالى: (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) (النساء: 23).(6/33)
الشرط الثاني: لابد أن يكون الرضاع خمس رضعات فأكثر، فإن كان مرة واحدة أو مرتين أو ثلاث مرات أو أربع مرات، فإنه ليس بشيء، ولا يؤثر، فلو أن امرأة أرضعت طفلاً أربع مرات في أربعة أيام كل مرة يشبع، فإنه لا يكون ابناً لها؛ لأنه لا بد من خمس، ولو أرضعته خمس مرات ولو لم يشبع فإنها تكون أماً له ويكون الرضاع محرماً.
الشرط الثالث: لابد أن يكون في زمن الإرضاع، وهو ما قبل الفطام في الحولين، فإن لم يكن في هذا الزمن بأن أرضعته وهو كبير، فإن ذلك لا يؤثر، فلو أن طفلاً له خمس سنوات رضع من امرأة خمس مرات أو عشر مرات، فإنه لا يكون ابناً لها من الرضاع؛ لأنها ليس في زمن الإرضاع.
فهذه الشروط ثلاثة: وإذا ثبت التحريم فإنه ينتشر إلى المرتضع وذريته فقط، ولا ينتشر إلى إخوانه وآبائه وأمهاته، وإنما ينتشر إليه وإلى فروعه فقط وهم ذريته وعلى هذا فيجوز لأخي الطفل الراضع أن يتزوج أخت أخيه من الرضاع، لأنه لا علاقة أو لا تأثير في الرضاع إلا على المرتضع وذريته يعني فروعه.
فأما أصوله وحواشيه: أصوله من آباء وأمهات، حواشيه من إخوة، وأعمام، وأبنائهم، وبناتهم، فإنه لا تأثير لهم في الرضاع، سواء كان أكبر منه أو أصغر منه، وما اشتهر عند العامة من أن أخوته الذين هم أصغر منه يلحقهم حكم الرضاع، فإنه لا صحة له.
بعض العوام يقول: إذا رضع طفل من امرأة صار ابناً لها وصار اخوته الذين من بعده أبناءً لها، وهذا غير صحيح؛ بل جميع اخوته ليس لهم فيها تعلق بوجه من الوجوه.
(حديث علي الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة و الكذب ريبة ... .
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(دع ما يريبك) أي يوقعك في الشك والأمر للند ب لما أن توقي الشبهات مندوب لا واجب على الأصح.
(أي ما شككت فيه فدعه، وهذا أصل من أصول الورع، ولهذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمر بتمرة فلايأكلها خشية أن تكون من الصدقة.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: مر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتمرة في الطريق، قال: (لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها).(6/34)
(إلى ما لا يريبك) أي اترك ما تشك فيه من الشبهات واعدل إلى ما لا تشك فيه من الحلال البين لما سبق أن من اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه قال القاضي: هذا الحديث من دلائل النبوة ومعجزات المصطفى صلى اللّه عليه وسلم فإنه أخبر عما في ضمير وابصة قبل أن يتكلم به والمعنى أن من أشكل عليه شيء والتبس ولم يتبين أنه من أي القبيلين هو فليتأمل فيه إن كان من أهل الاجتهاد ويسأل المجتهدين إن كان من المقلدين فإن وجد ما يسكن إليه نفسه ويطمئن به قلبه وينشرح صدره فليأخذ به وإلا فليدعه وليأخذ بما لا شبهة فيه ولا ريبة هذا طريق الورع والاحتياط.
(ومن ذلك ما إذا كان بينك وبين شخص محاسبة، وحصل زيادة لك من أجل هذه المحاسبة، وشككت فيها فدعها، وإذا شك فيها صاحبك وتركها فتصدق بها، تصدق بها تخلصاً منها، أو تجعلها صدقة معلقة؛ بأن تقول: اللهم إن كانت لي فهي صدقة أتقرب بها إليك، وإن لم تكن لي فهو مالٌ أتخلص بالصدقة به من عذابه.
(والحاصل أن هذا الحديث حديثٌ عظيمٌ في باب الورع: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)). ما تشك فيه أتركه وخذ بالشيء الذي لا يلحقك به قلق ولا شك ولا اضطراب.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري) قالت: كان لأبي بكرٍ الصديق رضي الله عنهُ، غلام يخرجُ لهُ الخرج وكان أبو بكرٍ يأكلُ من خراجه، فجاء يوماً بشيءٍ، فأكل منه أبو بكرٍ، فقال له الغلامُ: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكرٍ؟ وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسانٍ في الجاهلية وما أحسنُ الكهانةَ إلا أني خدعتهُ، فلقيني فأعطاني بذلك هذا الذي أكلت منهُ، فأدخل أبو بكرٍ يده فقاء كلَّ شيءٍ في بطنهِ.
وكان أبو بكر يخارجه: يعني يدعه يشتغل ويضرب عليه خراجاً معيناً، يقول: أئتِ لي كل يوم بكذا وكذا، وما زاد فهو لك.
وهذه المخارجة جائزة بالنسبة للعبيد، إذا كان الإنسان عنده عبيد وقال لهم: اذهبوا اشتغلوا وأتوني كل يوم بكذا وكذا من الدراهم وما زاد فهو لكم؛ فإن هذا جائز؛ لأن العبيد ملك للسيد، فما حصَّلوه فهو له سواء خارجهم على ذلك أم لم يخارجهم.
لكن فائدة المخارجة أن العبد إذا حصَّل ما اتفق عليه مع سيده فإن له أن يبقى من غير عمل، أن يبقى في طلب العلم، أن يبقى مستريحاً في بيته أو أن يشتغل ويأخذ ما زاد.(6/35)
أما بالنسبة للعمال الذين يجلبهم الإنسان إلى البلاد ويقول: اذهبوا وعليكم كل شهر كذا وكذا من الدراهم، فإن هذا حرامٌ وظلم ومخالف لنظام الدولة، والعقد على هذا الوجه باطل، فليس لصاحب العمل شيء مما فرضه على هؤلاء العمال؛ لأن العامل ربما يكدح ويتعب ولا يحصل ما فرضه عليه كفيله، وربما لا يحصل شيئاً أبداً، فكان في هذا ظلم.
أما العبيد فهم عبيد الإنسان، مالهم وما في أيديهم فهو له.
هذا الغلام لأبي بكر، كان أبو بكر قد خارجه على شيء معين يأتي به إليه كل يوم، وفي يوم من الأيام قدّم هذا الغلام طعاماً لأبي بكر فأكله فقال: أتدري ما هذا؟ قال: وما هو؟ قال: هذا عوض عن أجرة كهانة تكهنت بها في الجاهلية وأنا لا أحسن الكهانة، لكنى خدعت الرجل فلقيني فأعطاني إياها.
وعوض الكهانة حرام، سواء كان الكاهن يحسن صنعة الكهانة أو لا يحسن؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن ((حُلوان الكاهن)) كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال:
نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحُلوان الكاهن.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن) أي ما يأخذه على كهانته عن إخباره عن الكائنة المستقبلة بزعمه وهو بضم الحاء وسكون اللام من حلوت الرجل حبوته بشيء أعطيته إياه أو من الحلاوة شبه ما يعطى الكاهن بشيء حلو لأخذه إياه سهلاً بلا كلفة يقال حلوته أطعمته الحلو والنهي يشمل الآخذ والمعطي وفي الأحكام السلطانية ينهى المحتسب من يتكسب بالكهانة واللهو ويؤدَّب عليه الآخذ والمعطي.
فلما قال لأبي بكر هذه المقالة، أدخل أبو بكر يده في فمه فقاء كلّ ما أكل، كل ما أكل قاءه وأخرجه من بطنه لماذا؟ لئلا يتغذى بطنه بحرام. وهذا مال حرام؛ لأنه عوض عن حرام، وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إن الله إذا حرَّم شيئاً حرَّم ثمنه)).
فالأجرة على فعل الحرام حرام، ومن ذلك تأجير بعض الناس دكاكينهم على الحلاقين الذين يحلقون اللحى، فإن هذه الأجرة حرام ولا تحل لصاحب الدكان؛ لأنه استؤجر منه لعمل محرم.(6/36)
ومن ذلك أيضاً تأجير البنوك في المحلات، فإن تأجير البنوك حرام؛ لأن البنك معاملته كلها أو غالبها حرام، وإذا وجد فيه معاملة حلال؛ فهي خلاف الأصل الذي من أجله أنشأ هذا البنك، الأصل في إنشاء البنوك أنها للربا، فإذا أجرَّ الإنسان بيته أو دكانه للبنك فتعامل فيه بالربا فإن الأجرة حرامٌ ولا تحل لصاحب البيت أو صاحب الدكان.
وكذلك من أجَّر شخصاً يبيع المجلات الخليعة أو المفسدة في الأفكار الرديئة ومصادمة الشرع؛ فإنه لا يجوز تأجير المجلات لمن يبيع هذه المحلات؛ لأن الله تعالى قال (وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة:2)، وتأجير المحلات لهؤلاء معونة لهم، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إن الله إذا حرَّم شيئاً حرَّم ثمنه)).
وفي هذا الحديث دليلٌ على شدة ورع أبي بكر رضي الله عنه، فهو جدير بهذا؛ لأنه الخليفة الأول على هذه الأمة بعد نبيها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا كان قول أهل السنة والجماعة إن أبا بكر رضي الله عنه أفضل هذه الأمة؛ لأنه الخليفة الأول.
[*] (فوائد الورع:
للورع فوائد عظيمة ومزايا جسيمة منها ما يلي:
1 - اتقاء عذاب الرحمن وتحقيق راحة البال للمؤمن وطمأنينة النفس وهذه مسألة مهمة جداً.
2 - يكفّ عن الحرام.
3 - يبعده عن إشغال الوقت فيما لا يفيد.
4 - يجلب محبة الله لأن الله يحب المتورّعين.
5 - يفيد استجابة الدعاء، لأن الإنسان إذا طهّر مطعمه ومشربه وتورّع يرفع يديه فيجاب له الدعاء.
6 - مرضاة الرحمن و زيادة الحسنات.
7 - يتفاوت الناس في الدرجات في الجنة بتفاوتهم في الورع.(6/37)
والمسلم إذا نقل قلبه من الدنيا فأسكنه في الآخرة وأقبل على القرآن الكريم انفتحت له الأبواب وكان فيمن يستطيع تحمّل هذا الورع، و هناك حلال محضٌ بيّن وحرام محضٌ ومسائل مشتبهة بينهما، فلبس القطن والكتان والصوف والزواج بعقد صحيح وأخذ المال من الميراث أو هبة من إنسان ماله حلال أو شراء شيء ببيع صحيح، أمور الحلال المحض واضحة، وأمور الحرام واضحة كالميتة والدم والخنزير والخمر ونكاح المحارم ولباس الحرير للرجال وأخذ الأموال المغصوبة والمسروقة والغش والرشوة، أما المشتبهات التي ينبغي للمرء المسلم أن يتورّع عنها مثل: ما اختلف في حلّه وحرمته، مثلاً البغل متولّد ما بين الحمير والخيل، جلود السباع ولو كانت مدبوغة، التورّق وهو أن تشتري شيء بالأقساط وتبيعه نقداً لتحصّل سيولة وبعض العلماء لم يجزه مع أن الراجح جوازه لكن المسألة مختلف فيها، ونحو هذا ..
فالحاصل: أن من أسباب الشبهة تنازع العلماء في شيء معين هل هو حلال أو حرام وكل طائفة لهم أدلتهم، ما ترك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حلالاً إلا بيّنه ولا حراماً إلا بيّنه ولكن بعض الناس يخفى عليهم بعض الحلال أو بعض الحرام، ويتفاوتون في هذا ومن أسباب اختلاف العلماء فيه أنه ينقل في الشيء نصان أحدهما بالتحليل وأحدهما بالتحريم وقد يكون أحدهما صحيح والآخر ضعيف وأحدها ناسخ والآخر منسوخ فيأخذ كل طائفة من العلماء بنص من النصين فيحدث الاختلاف، أحياناً يكون الشيء فيه أمر فيقول بعضهم هذا للوجوب و بعضهم يقول هذا للاستحباب، والورع هو أن تقوم بهذا الأمر. جاء نهي فقال بعض العلماء النهي للتحريم وقال بعضهم النهي للكراهة والورع أن تتركه.
والعلماء أنفسهم قد تشتبه عليهم أشياء فلا يفتون فيها أو يتوقفون عنها، ومن أمثلة الأشياء المشتبهة ما لا يُعلَم له أصل ملكٍ كما يجده الإنسان في بيته فلا يدري أهو له أم لغيره، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها))، ولكن من جهة التحريم والحل، فالأصل في المال الموجود في بيتك أنه لك، فجانب الحل أقوى، لكن إذا أردت الورع وتصدقت بهذا المال أحسن ..(6/38)
وكذلك فإن الشيء قد يجتمع فيه أحياناً سبب للحل وسبب للحرمة، فيتركه الإنسان فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علّمنا عن أمور الأصل فيها الحظر كالأبضاع ولحوم الحيوان فلا تحل إلا بيقين، ولو حصل تردد مثل اجتماع سبب حاظر ومبيح نبقى على الأصل فيها وهو التحريم، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في من أطلق كلبه على صيدٍ فلما جاء ليمسك بالصيد وجد عنده كلباً آخر لا يدري الذي أمسك كلبه أو الكلب الآخر، فإذا كان الكلب المعلَّم يجوز صيده، ومعنى ذلك أن الصيد غير المعلَّم لا يجوز صيده، فماذا يفعل إذا وجد مع الفريسة كلباً آخر لا يدري كلبه الذي صاد أو الكلب الآخر كما في الحديث الآتي:
(حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: سألت النبي عن المِعْرِاض، فقال: (إذا أصاب بِحَدِّه فَكُل، وإذا أصاب بِعَرَضِه فقُتِل عدي بن حاتم رضي الله عنه فلا تأكل). فقلت: أرسل كلبي؟ قال: إذا أرسلت كلبك وسمَيْت فَكُل، قلت فإن أكل؟ قال: فلا تأكل فإنه لم يُمسك عليك إنما أمسك على نفسه، قلت أرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر؟ قال: (فلا تأكل، فإنك سمَّيت على كلبك ولم تسم على الآخر).
، وصل إلى الصيد الذي صاده وقع في الماء فلا يدري هل قتل بالسهم أو قتل بالغرق، الأصل يجوز الأكل مادام السهم أو البندقية خرقت وخزقت وسمّى الله على البندقية وأطلق ولكن وقوع الطائر في الماء يجعله في ريبة هل موت الطائر بفعل الرمية التي رماها أم الغرق فيتركه كما في الحديث الآتي:
(حديث عدي ابن حاتم رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله، فإن وجدته قُتل فكل إلا أن تجده قد وقع في الماء فلا تأكل فإنك لا تدري الماء قتله أم سهمك.
مسألة: لو جاء رجل لأرض أو سجادة وقال لنفسه هذا رجل لديه أبناء قد يكونون بالوا عليها، فأنا لن أصلي عليها، تورّع عن الصلاة عليها فما حكم هذا التورّع، هل هو شرعي أم لا؟
الجواب: هذا تورع غير شرعي لأنه خالف الأصل بدون أي قرينة، والأصل في الأشياء الطهارة، فيكون هذا ورعاً فاسداً.
فسّر الإمام أحمد رحمه الله الشبهة بأنها منزلة بين الحلال والحرام –يعني الحلال المحض والحرام المحض-وقال من اتقاها فقد استبرأ لدينه، وفسرها تارة باختلاط الحلال والحرام.(6/39)
ومن ضمن الأمثلة أيضاً معاملة من ماله مختلط، رجل يرابي ويبيع ويشتري، عنده حلال وحرام، فقال العلماء إذا كان أكثر ماله الحرام قال الإمام أحمد: ينبغي أن يجتنبه إلا أن يكون يسيراً أو لا يُعرَف، والحرام غير معيّن وليس معروفاً، فيجوز الأكل والورع تركه.
وقال الزهري: لا بأس أن يُؤكل منه ما لم يعرف أنه حرام بعينه.
وقال سفيان: تركه أعجبُ إليّ.
وقال الإمام أحمد في المال المشتبه حلاله بحرامه: إن كان المال كثيراً أخرج منه قدر الحرام وتصرّف في الباقي، وإن كان المال قليلاً اجتنبه كله، وهذا لأن القليل إذا تناول منه شيئاً فإنه تبعد معه السلامة من الحرام.
ورخّص قومٌ من السلف في الأكل ممن يُعلَم في ماله حرام ولكن لا يُعلَم على التعيين ما هو الحرام،
وفصل الخطاب في هذه المسألة: يجوز معاملة من ماله مختلط إذا ما علمنا الحرام أين بالضبط والورع ألا يأخذ منه.
وكذلك فإن الاستبراء للدين مهم جداً في حياة الدين المسلم، والإنسان قد لا يشبع من الشبهة وقال الثوري رحمه الله في الرجل يجد في بيته الأفلس والدراهم: أحب إليّ أن يتنزّه عنها إذا لم يدري من أين هي.
ولا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع مالا بأس به حذراً مما به بأس.
ومن تمام التقوى أن يتقِ الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة،
[*] قال الحسن: مازالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام،
[*] وقال الثوري: إنما سمّوا المتقين لأنهم اتقوا مالا يُتّقى.
[*] وقال ابن عمر: إني لأحب أن أدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرقها. [*] وقال سفيان بن عيينة: لا يصيب عبد حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزاً من الحلال وحتى يدع الإثم وما تشابه منه.
فإن الإثم ما حاك في الصدر وكرهت أن يطّلع عليه الناس بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث النواس ابن سمعان في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك و كرهت أن يطلع عليه الناس.(6/40)
والإثم ما حاك في صدرك و كرهت أن يطلع عليه الناس: إشارة إلى أن الإثم ما أثر في الصدر حرجاً وضيقاً وقلقاً واضطراباً فلم ينشرح له الصدر ومع هذا فإنه عند الناس مستنكر بحيث ينكرونه عند اطلاعهم عليه. لكن الإنسان قد يقلق من أشياء لجهله فلينتبه من هذا وليسأل أهل العلم، وهنا تظهر أهمية الاستفتاء وسؤال أهل الذكر الثقات. الصحابة تحرجوا من أن يأكلوا من اللحم الذي صاده أبو قتادة فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكل، و فرّق العلماء بين ما صيد لأجله (لأجل المحرم) وما صاده الحلال لا لأجل المحرم فيجوز للمحرِم أن يأكل منه. لكن لو أن الشخص الحلال غير المحرم صاد لك أنت أيها المحرِم فلا تأكل. والمقصود أن سؤال أهل العلم الثقات مما يريح الإنسان فينبغي أن لا ينسى هذا وأن يكون على ذكر منه. دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت. الإثم حوازّ القلوب تحز في القلوب والنفوس. وكذلك فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة وكان بعض العلماء يعرفون الحديث الضعيف بأمور بقلوبهم وهذا ليس إلا للعلماء النقاد الكبار و أما طلبة العلم العاديين فلا يمكن أن يعرف ذلك بقلبه إلا فيما ندر.(6/41)
وطلب الحلال فرض على كل مسلم، وقد ادعى بعض الجهّال أن الحلال في الأرض انتهى، وبعضهم قال باقي الحشيش والكلأ في البر والأراضي التي ليس لها أحد ونهر الفرات؛ وهذا تضييق على عباد الله ومن الجهل وقلة العلم فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال هذه القاعدة المهمة جداً ((الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات))، والحلال كله طيب ولكن بعضه أطيب من بعض، والحرام كله خبيث ولكن بعضه أخبث من بعض، والإنسان المسلم قد يكون عنده الحلال معلوماً من قبل ثم يقع في شك فلا يلتفت لهذه الوسوسة إذا لم يكن لها دليل ولا قرينة وكذلك قد يكون يعرف الحرام من قبل فيأتي في نفسه وسوسة أن هذا ليس حراماً بدون علم ولا خبر ثقة أفتاه به أهل العلم فلا يلتفت إليه، و قد يعرف الإنسان الحل ويشك في المحرم فيكون الأصل الحل كما تقدم وهناك مثال يضربه بعض الفقهاء ويدل على قلة عقل من وقع فيه قال: اثنان وقفا فجاء طائر فاختلفا هل هذا غراب أم لا؟ فقال أحدهم عليه الطلاق أنه غراب، وقال الآخر عليه الطلاق أنه ليس بغراب، فلما أرادا أن يأتيا للتحقق طار الطائر ولم يدركاه، فصارت مشكلة فزوجة مَن طالق .. !، فبعض الناس يفعل أشياء من قلة العقل، وفي هذه الحالة يقول العلماء: الأصل بقاء النكاح وحل المرأة للرجل، احتمال الطلاق وارد ومشكوك فيه. ولذلك فإن على الإنسان أن لا يورد نفسه في الموارد التي يتسبب بها في الحرج في نفسه وأن يقع في تعذيب النفس والشك، وقد يدخل الشك على بعض الناس في قضايا لا يشرع لهم أبداً السؤال فيها، فهل يجوز لإنسان دخل على بيت مسلم مستور مايعرف عنه أي ريبة، وُضِع له الطعام، أن يقول له: المال الذي اشتريت به هذا العشاء من أين أتيت به. هل هذا من الورع .. ؟!!، وفي ذلك إيذاء للمسلم لأن سؤالك هذا اتهام له .. ! واتهام المسلم ووضعه في موضع الشك بدون قرينة ولا دليل ولا بينة لا يجوز وسوء ظن، وإيذاء المسلم للمسلم حرام.(6/42)
أحياناً تأتي أشياء تستدعي التورع مثلاً إذا دخل حلال قليل في حرام كثير فعند ذلك تكون هذه القضية مما يدفع الإنسان إلى الورع فعلاً. كذلك إذا كانت القضية في الأبضاع واللحوم كما تقدم. مثلاً هناك امرأة ثقة و جئتَ لتخطب فتاة فقالت أنا أرضعتها أو أرضعت أختها، أنا متأكدة أني أرضعت إحدى الأختين، لا أدري أيتهما، فالورع أن تترك الزواج من كلتيهما. مثلاً اثنان ذبحا ذبيحتين، إحداها ذبحها هندوسي والأخرى ذبحها مسلم، جئت لتشتري وأنت تعلم ذلك ولكن لا تدري أيتهما التي ذبحها هذا وأيتهما التي ذبحها الآخر فلا تشتري.
مسألة اللحوم والأبضاع شديدة في الشرع ولذلك يحتاط فيها في أشياء أكثر من غيرها، ولكن بشرط أن لا يصل إلى الوسوسة أيضاً، فلو أن هذه ذبيحة مسلم لا يجوز لك أن تشك فيها. إذاً هناك وسوسة في هذه القضايا لا يجوز الالتفات إليها، وورع الموسوسين مثاله؛
[*] قال ابن حجر في فتح الباري: "ورع الموسوسين كمن يمتنع من أكل الصيد خشية أن يكون الصيد كان لإنسان ثم أفلت منه، وكمن يترك شراء ما يحتاج إليه من مجهول لا يدري أماله حلال أم حرام، وليست هناك علامة تدل على الثاني ".
هناك مسائل من الورع الدقيق لا تليق بكل الأشخاص: قال ابن رجب رحمه الله: " وهاهنا أمر ينبغي التفطّن له وهو أن التدقيق في التوقف عن الشبهات إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها وتشابهت أعماله في التقوى والورع -فهذا لو دقق يقبل منه التدقيق-، أما من يقع في انتهاك المحرمات الظاهرة ثم يريد أن يتورّع عن شيء من دقائق الشبه فإنه لا يحتمل له ذلك بل ينكر عليه" كما قال ابن عمر لأهل العراق لما جاءوا يسألونه عن دم البعوض وفيهم ممن قتل الحسين بن علي رضي الله عنه، قالوا المحرم إذا قتل بعوضة يجوز أم عليه فدية، فقال: "يسألوني عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هما ريحانتاي من الجنة؟!! ".
وسُئِل الإمام أحمد عن رجل يشتري بقلاً ويشترط الخوصة، فقال الإمام أحمد: ما هذه المسائل؟ قالوا: إنه إبراهيم بن أبي نعيم. فقال: إن كان إبراهيم بن أبي نعيم فنعم هذا يشبه ذاك (هو من كبار الزهاد العابدين).ولذلك لما جاء رجل إلى الإمام أحمد يقول إن أمه تأمره بطلاق زوجته، قال: إن كان برّ أمه في كل شيء ولم يبق من برها إلا طلاق زوجته فليفعل .. !(6/43)
فالخلاصة أن الورع منه دقائق لا تليق بأي أحد، بل ينكر على من تورع فيها إذا كان من أولئك الفسقة أو المتساهلين، وعلى أية حال فإن الورع هو من العبادات العظيمة وملاك الدين الورع، والفقية الورع الزاهد المقيم على سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له أجره العظيم يوم الدين، والإنسان ينبغي أن يضع نفسه في الموضع الصحيح في مسألة الورع كما قال الأوزاعي: (كنا نمزح ونضحك فلما صرنا يُقتدى بنا خشيت أن لا يسعنا التبسُّم).
(الورع علمٌ يتعلمه الإنسان ويكتسب:
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إنما العلم بالتعلم و إنما الحلم بالتحلم و من يتحر الخير يعطه و من يتق الشر يُوَقَّه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إنما العلم) أي تحصيله
(بالتعلم) بضم اللام على الصواب كما قاله الزركشي ويروى بالتعليم أي ليس العلم المعتبر إلا المأخوذ عن الأنبياء وورثتهم على سبيل التعليم وتعلمه طلبه واكتسابه من أهله وأخذه عنهم حيث كانوا فلا علم إلا بتعلم من الشارع أو من ناب عنه منابه وما تفيده العبادة والتقوى والمجاهدة والرياضة إنما هو فهم يوافق الأصول ويشرح الصدور ويوسع العقول ثم هو ينقسم لما يدخل تحت دائرة الأحكام ومنه ما لا يدخل تحت دائرة العبادات وإن كان مما يتناوله الإشارة ومنه ما لا تفهمه الضمائر وإن أشارت إليه الحقائق في وضوحه عند مشاهده وتحققه عند متلقيه فافهم قال ابن مسعود تعلموا فإن أحدكم لا يدري متى يحتاج إليه وقال ابن سعد ما سبقنا ابن شهاب للعلم إلا أنه كان يشد ثوبه عند صدره ويسأل وكنا تمنعنا الحداثة وقال الثوري من رق وجهه رق علمه وقال مجاهد لا يتعلم مستحي ولا متكبر وقيل لابن عباس بما نلت هذا العلم قال بلسان سؤول وقلب عقول
(وإنما الحلم بالتحلم) أي ببعث النفس وتنشيطها إليه قال الراغب: الحلم إمساك النفس عن هيجان الغضب والتحكم إمساكها عن قضاء الوطر إذا هاج الغضب
(ومن يتحر الخير يعطه) أي ومن يجتهد في تحصيل الخير يعطه اللّه تعالى إياه(6/44)
(ومن يتق الشر يوقه) زاد الطبراني والبيهقي في روايتيهما ثلاث من كن فيه لم يسكن الدرجات العلى ولا أقول لكم الجنة من تكهن أو استقسم أو ردّه من سفر تطير (تنبيه) قال بعضهم: ويحصل العلم بالفيض الإلهي لكنه نادر غير مطرد فلذا تمم الكلام نحو الغالب قال الراغب: الفضائل ضربان نظري وعملي وكل ضرب منها يحصل على وجهين أحدهما بتعلم بشرى يحتاج إلى زمان وتدرب وممارسة ويتقوى الإنسان فيه درجة فدرجة وإن فيهم من يكفيه أدنى ممارسة بحسب اختلاف الطبائع في الذكاء والبلادة، والثاني يحصل [ص 570] بفيض إلهي نحو أن يولد إنسان عالماً بغير تعلم كعيسى ويحيى عليهما الصلاة والسلام وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام الذين حصل لهم من المعارف بغير ممارسة ما لم يحصل لغيرهم وذكر بعض الحكماء أن ذلك قد يحصل لغير الأنبياء عليهم السلام في الفيئة بعد الفيئة وكلما كان يتدرب فقد يكون بالطبع كصبي يوجد صادق اللّهجة وسخياً وجريئاً وآخر بعكسه وقد يكون بالتعلم والعادة فمن صار فاضلاً طبعاً وعادة وتعلماً فهو كامل الفضيلة ومن كان رذلاً فهو كامل الرذيلة أهـ.
(وهذا الورع يُتَعَلَّم، كما قال الضحّاك بن عثمان رحمه الله: (أدركت الناس وهم يتعلمون الورع وهم اليوم يتعلمون الكلام)، والإنسان إذا تورّع لن يعدم الحلال ولا يظن أنه سيضيق على نفسه ضيقاً لا مخرج منه فإنه يلتمس الورع الشرعي مثلما تقدم.
(علامة الورع:
فصل الخطاب في علامة الورع: {ترك الشبهات} امتثالاً لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك كما في الحديث الآتي:
(حديث علي الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة و الكذب ريبة.
فتمام التقوى أن تتقي الله حتى تترك أحياناً ما ترى بعض الحلال خشية أن تكون حراماً، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يرى تمرة فيريد أن يأكلها فيتركها لأنه يخشى أن تكون سقطت من تمر الصدقة.
وهذا أصل من أصول الورع، ولهذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمر بتمرة فلا يأكلها خشية أن تكون من الصدقة.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: مر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتمرة في الطريق، قال: (لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها).(6/45)
والورع يجب أن يكون ورعاً صحيحاً، فبعض الناس يفعلون الكبائر ثم يتورعون عن الأشياء اليسيرة .. !." عجبتُ لكم يا أهل العراق تقتلون ابن بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم تسألون عن دم البعوض" .. !!!، فلذلك ينبغي أن يكون الورع على أساس، امرئ ترك المحرمات ثم هو آخذ في الإعراض عن المشتبهات، ولذلك لما سُئِل الإمام أحمد رحمه الله عن رجل يشتري البقل ويشترط الخوصة أنه يخشى أن تكون هذه التي تربط بها حزمة البقل غير داخلة في البيع فيشترط على البائع ذلك .. ،قال: ما هذه المسائل .. ؟!!!، قالوا: فلان يفعل ذلك .. إبراهيم بن أبي نعيم .. قال: هذا نعما .. هذا رجل يليق بحاله .. رجل متقي جداً. وهو الذي سُئِل رحمه الله عن رجل له زوجة وأمه تأمره بطلاقها فقال: ((إن كان برّ أمه في كل شيء حتى لم يبقَ إلا طلاق زوجته؛ يفعل، ولكن إن كان يبرها بطلاق زوجته ثم يقوم إلى أمه بعد ذلك فيضربها فلا يفعل .. !)).
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن محمد بن المبارك الصوري قال قلت لراهب ما علامة الورع قال الهرب من مواطن الشبهة.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن بن المبارك يقول لأن أرد درهما من شبهة أحب إلي من أن أتصدق بمائة ألف ومائة ألف حتى بلغ ستمائة ألف.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن الشعبي قال جاء رجلان إلى شريح فقال أحدهما اشتريت من هذا دارا فوجدت فيها عشرة آلاف درهم فقال خذها فقال: لِمَ؟ إنما اشتريت الدار فقال البائع خذها أنت قال لِمَ وقد بعته الدار بما فيها فأدارا الأمر بينهما فأبيا فأتى زيادا فأخبره فقال ما كنت أرى أن أحدا هكذا بقي وقال لشريح أدخل بيت المال فألق في كل جراب قبضة حتى يكون للمسلمين ثم قال للشعبي كيف ترى الأمير قال أبو بكر بن عياش أعجبه ما صنع.
(صورٌ مشرقة من ورع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(1) (حديث عقبة ابن الحارث النوفلي الثابت في صحيح البخاري) قال: صليت وراء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة العصر فسلم ثم قام مسرعاً فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج إليهم فرأى أنهم عجبوا من سرعته فقال: ذكرتُ شيئاً من تبرٍ فأمرت بقسمته.(6/46)
{تنبيه}: (إن هذا التصرف من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعدُّ مثلاً أعلى ونبراساً يُحْتَذى به في الشعور بالمسؤولية , والتحري الدقيق في القضايا المالية , والمبادرة إلى تنفيذ التكاليف الشرعية وإن لم يكن وقت تنفيذها محددا خشية النسيان أو حضور الأجل.
وهذا لون من ألوان التربية النبوية المؤثرة حيث إن خروج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المسجد بهذه الصورة أثار عجب الصحابة وتساؤلهم فتهيأت نفوسهم لاستقبال هذا التوجيه العملي نحو الاهتمام بحقوق المسلمين والإسراع في إيصالها إلى مستحقيها.
(2) (حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: مر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتمرة في الطريق، قال: (لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها).
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إني لأنقلبُ إلى أهلي، فأجدُ التمرة ساقطةً على فراشي، فأرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها)
هذا مثال على شدة ورع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعِظَم خشيته من الله تعالى، وقد حرَّم الله تعالى الصدقة على بني هاشم, وبهذا الورع الشديد والخشية البالغة كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدوة عليا لأمته في ذلك.
(صورٌ مشرقة من ورع أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(حديث أبي قتادة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنه كان مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى إذا كان ببعض طريق مكة، تخلف مع أصحاب له محرمين، وهو غير محرم، فرأى حمارا وحشيا، فاستوى على فرسه، فسأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا، فسألهم رمحه فأبوا، فأخذه ثم شد على الحمار فقتله، فأكل منه بعض أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبى بعض، فلما أدركوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سألوه عن ذلك، قال: (إنما هي طعمة أطعمكموها الله).
إنما هي طعمة اطعمكموها الله: وذلك لأنكم لم تشيروا إلى الصيد وأنتم حرم ولا عاونتم عليه بشيء، لأن ذلك لا يجوز فلا يجوز للمحرم قتل الصيد إلا أن صال عليه فقتله دفعا فيجوز ولا ضمان عليه، وكذلك فإن أبي قتادة لم يصطاد الصيد من أجل المحرم فإن ذلك لا يجوز بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث الصعب بن جثامة الليثي في الصحيحين) أنه أهدى لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودَّان فردَّه عليه فلما رأى ما في وجهه قال إنَّا لم نرده عليك إلا أنَّا حرم.(6/47)
لذا كان ذلك طعمة اطعمكموها الله.
(فانظررحمك الله كيف تورعوا عن الإشارة والمعاونة ‘اى حمارٍ وحشي وهم حرم لأن ذلك لا يجوز وكذلك وعن الأكل منه.
(- صورٌ مشرقة من ورع أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -:
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري)، قالت: كان لأبي بكرٍ الصديق رضي الله عنهُ، غلام يخرجُ لهُ الخرج وكان أبو بكرٍ يأكلُ من خراجه، فجاء يوماً بشيءٍ، فأكل منه أبو بكرٍ، فقال له الغلامُ: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكرٍ؟ وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسانٍ في الجاهلية وما أحسنُ الكهانةَ إلا أني خدعتهُ، فلقيني فأعطاني بذلك هذا الذي أكلت منهُ، فأدخل أبو بكرٍ يده فقاء كلَّ شيءٍ في بطنهِ.
وكان أبو بكر يخارجه: يعني يدعه يشتغل ويضرب عليه خراجاً معيناً، يقول: أئتِ لي كل يوم بكذا وكذا، وما زاد فهو لك.
وهذه المخارجة جائزة بالنسبة للعبيد، إذا كان الإنسان عنده عبيد وقال لهم: اذهبوا اشتغلوا وأتوني كل يوم بكذا وكذا من الدراهم وما زاد فهو لكم؛ فإن هذا جائز؛ لأن العبيد ملك للسيد، فما حصَّلوه فهو له سواء خارجهم على ذلك أم لم يخارجهم.
لكن فائدة المخارجة أن العبد إذا حصَّل ما اتفق عليه مع سيده فإن له أن يبقى من غير عمل، أن يبقى في طلب العلم، أن يبقى مستريحاً في بيته أو أن يشتغل ويأخذ ما زاد.
أما بالنسبة للعمال الذين يجلبهم الإنسان إلى البلاد ويقول: اذهبوا وعليكم كل شهر كذا وكذا من الدراهم، فإن هذا حرامٌ وظلم ومخالف لنظام الدولة، والعقد على هذا الوجه باطل، فليس لصاحب العمل شيء مما فرضه على هؤلاء العمال؛ لأن العامل ربما يكدح ويتعب ولا يحصل ما فرضه عليه كفيله، وربما لا يحصل شيئاً أبداً، فكان في هذا ظلم.
أما العبيد فهم عبيد الإنسان، مالهم وما في أيديهم فهو له.
هذا الغلام لأبي بكر، كان أبو بكر قد خارجه على شيء معين يأتي به إليه كل يوم، وفي يوم من الأيام قدّم هذا الغلام طعاماً لأبي بكر فأكله فقال: أتدري ما هذا؟ قال: وما هو؟ قال: هذا عوض عن أجرة كهانة تكهنت بها في الجاهلية وأنا لا أحسن الكهانة، لكنى خدعت الرجل فلقيني فأعطاني إياها.
وعوض الكهانة حرام، سواء كان الكاهن يحسن صنعة الكهانة أو لا يحسن؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن ((حُلوان الكاهن)) كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال:(6/48)
نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحُلوان الكاهن.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن) أي ما يأخذه على كهانته عن إخباره عن الكائنة المستقبلة بزعمه وهو بضم الحاء وسكون اللام من حلوت الرجل حبوته بشيء أعطيته إياه أو من الحلاوة شبه ما يعطى الكاهن بشيء حلو لأخذه إياه سهلاً بلا كلفة يقال حلوته أطعمته الحلو والنهي يشمل الآخذ والمعطي وفي الأحكام السلطانية ينهى المحتسب من يتكسب بالكهانة واللهو ويؤدَّب عليه الآخذ والمعطي.
فلما قال لأبي بكر هذه المقالة، أدخل أبو بكر يده في فمه فقاء كلّ ما أكل، كل ما أكل قاءه وأخرجه من بطنه لماذا؟ لئلا يتغذى بطنه بحرام. وهذا مال حرام؛ لأنه عوض عن حرام، وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إن الله إذا حرَّم شيئاً حرَّم ثمنه)).
فالأجرة على فعل الحرام حرام، ومن ذلك تأجير بعض الناس دكاكينهم على الحلاقين الذين يحلقون اللحى، فإن هذه الأجرة حرام ولا تحل لصاحب الدكان؛ لأنه استؤجر منه لعمل محرم.
ومن ذلك أيضاً تأجير البنوك في المحلات، فإن تأجير البنوك حرام؛ لأن البنك معاملته كلها أو غالبها حرام، وإذا وجد فيه معاملة حلال؛ فهي خلاف الأصل الذي من أجله أنشأ هذا البنك، الأصل في إنشاء البنوك أنها للربا، فإذا أجرَّ الإنسان بيته أو دكانه للبنك فتعامل فيه بالربا فإن الأجرة حرامٌ ولا تحل لصاحب البيت أو صاحب الدكان.
وكذلك من أجَّر شخصاً يبيع المجلات الخليعة أو المفسدة في الأفكار الرديئة ومصادمة الشرع؛ فإنه لا يجوز تأجير المجلات لمن يبيع هذه المحلات؛ لأن الله تعالى قال (وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة:2)، وتأجير المحلات لهؤلاء معونة لهم، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إن الله إذا حرَّم شيئاً حرَّم ثمنه)).
وفي هذا الحديث دليلٌ على شدة ورع أبي بكر رضي الله عنه، فهو جدير بهذا؛ لأنه الخليفة الأول على هذه الأمة بعد نبيها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا كان قول أهل السنة والجماعة إن أبا بكر رضي الله عنه أفضل هذه الأمة؛ لأنه الخليفة الأول.
(صورٌ مشرقة من ورع عمر - رضي الله عنه -:(6/49)
ومن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد من حديث إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قدم على عمر رضي الله عنه مسك وعنبر من البحرين فقال عمر: والله لوددت أني وجدت امرأة حسنة الوزن تَزِنُ لي هذا الطيب حتى أقسمه بين المسلمين , فقالت له امرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل: أنا جيدة الوزن فهلمَّ أزِنْ لك , قال: لا , قالت: لِمَ؟ قال: - إني أخشى أن تأخذيه فتجعليه هكذا وأدخل أصابعه في صدغيه – وتمسحي به عنقك, فأصيب فضلا على المسلمين (1).
(فهذا مثل من ورع أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه واحتياطه البالغ لأمر دينه , فقد أبى على امرأته أن تتولى قسمة ذلك الطيب حتى لا تمسح عنقها منه فيكون قد أصاب شيئًا من مال المسلمين, وهذه الدِّقة المتناهية في ملاحظة الاحتمالات التي قد توقع في المحرمات أو الشبهات نورٌ يهبه الله تعالى لأوليائه السابقين إلى الخيرات , وفرقان يفرقون به بين الحلال والحرام والحق والباطل, بينما تفوت هذه الملاحظات على الذين لم يشغلوا تفكيرهم بحماية أنفسهم من المخالفات.
(ومن ذلك ما أخرجه المؤرخ أبو زيد عمر بن شبة من خبر عبد الرحمن بن نجيح قال: نزلت على عمر رضي الله عنه , فكانت له ناقة يحلبها , فانطلق غلامه ذات يوم فسقاه لبنا أنكره, فقال: ويحك من أين هذا اللبن لك؟ قال: يا أمير المؤمنين إن الناقة انفلت عليها ولدها فشربها, فحلبت لك ناقة من مال الله , فقال: ويحك تسقيني نارًا , واستحل ذلك اللبن من بعض الناس , فقيل هو لك حلال يا أمير المؤمنين ولحمها (2).
(فهذا مثل من ورع أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه , حيث خشي من عذاب الله جل وعلا لما شرب ذلك اللبن مع أنه لم يتعمد ذلك , ولم تطمئن نفسه إلا بعد أن استحل ذلك من بعض كبار الصحابة رضي الله عنهم الذين يمثلون المسلمين في ذلك الأمر , وهذا الخبر وأمثاله يدل على أن ذكر الآخرة بما فيها من حساب ونعيم أو شقاء قد أخذ بمجامع قلب عمر وملأ عليه تفكيره, حتى أصبح ذلك موجها لسلوكه في هذه الحياة.
(وعن نافع عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان قد فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف في أربعة، وفرض لابن عمر ثلاثة آلاف وخمسمائة فقيل له هو من المهاجرين فلم نقصته من أربعة آلاف؟ قال: إنما هاجر به أبواه لأنه كان صغيراً، ليس هو كمن هاجر بنفسه. [رواه البخاري].
__________
(1) الزهد /119.
(2) تاريخ المدينة المنورة /702.(6/50)
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن الحسن قال بينما عمر بن الخطاب يمشي ذات يوم في نفر من أصحابه إذا صبية في السوق يطرحها الريح لوجهها من ضعفها فقال عمر يا بؤس هذا من يعرف هذه قال له عبد الله أوما تعرفها هذه إحدى بناتك قال وأي بناتي قال بنت عبد الله بن عمر قال فما بلغ بها ما أرى من الضيعة قال إمساكك ما عندك قال إمساكي ما عندي عنها يمنعك أن تطلب لبناتك ما تطلب الأقوام أما والله ما لك عندي إلا سهمك مع المسلمين وسعك أو عجز عنك بيني وبينكم كتاب الله.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن عمر قال إنه لا أجده يحل لي أن آكل من مالكم هذا إلا كما كنت آكل من صلب مالي الخبز والزيت والخبز والسمن قال فكان ربما يؤتى بالجفنة قد صنعت بالزيت ومما يليه منها سمن فيعتذر إلى القوم ويقول إني رجل عربي ولست أستمري الزيت.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن قتادة قال كان معيقيب على بيت مال عمر فكنس بيت المال يوما فوجد فيه درهما فدفعه إلى ابنٍ لعمر، قال معيقيب ثم انصرفت إلى بيتي فإذا رسول عمر قد جاءني يدعوني فجئت فإذا الدرهم في يده فقال لي ويحك يا معيقيب أوجدت علي في نفسك شيئا قال قلت ما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال أردت أن تخاصمني أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الدرهم.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن محمد بن سيرين قال كتب عمر إلى أبي موسى إذا جاءك كتابي هذا فأعط الناس أعطياتهم وأحمل إلي ما بقي مع زياد ففعل فلما كان عثمان كتب إلي أبي موسى بمثل ذلك ففعل فجاء زياد بما معه فوضعه بين يدي عثمان فجاء بن لعثمان فأخذ شيئا فمضى بها فبكى زياد فقال له عثمان ما يبكيك قال أتيت أمير المؤمنين عمرا بمثل ما أتيتك به فجاء بن له فأخذ درهما فأمر به فانتزع منه حتى بكى الغلام وإن ابنك جاء فأخذ هذه فلم أر أحدا قال له شيئا قال عثمان إن عمرا كان يمنع أهله وأقربائه ابتغاء وجه الله أعطي أهلي وأقربائي ابتغاء وجه الله ولن تلقى مثل عمر ولن تلقى مثل عمر ولن تلقى مثل عمر.(6/51)
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري أنه خرج إلى عمر فنزل عليه وكانت لعمر ناقة يحلبها فانطلق غلامه ذات يوم فسقاه لبنا فأنكره فقال ويحك من أين هذا اللبن فقال يا أمير المؤمنين إن الناقة انفلت عليها ولدها فشرب لبنها فحلبت لك ناقة من مال الله فقال له عمر ويحك سقيتني نارا ادع لي علي بن أبي طالب فدعاه فقال إن هذا عمد إلى ناقة من مال الله فسقاني لبنها أفتحله لي قال نعم يا أمير المؤمنين هو لك حلال ولحمها وأوشك أن يجيء من لا يرى لنا في هذا المال حق.
(صورةٌ مشرقة من ورع علي ابن أبي طالب رضي الله عنه:
أخرج ابن عساكر عن الشَّعْبي قال: خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوماً بالكوفة فوقف على باب فاستسقى ماء، فخرجت إليه جارية بإبريق ومنديل فقال لها: يا جارية لمن هذه الدار؟ قالت: لفلان القسطال، فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «لا تشرب من بئر قسطال ولا تستظلن في ظل عشار». كذا في الكنز وقال: ولم أرَ في رجاله من تُكلم فيه. اهـ.
(صورةٌ مشرقة من ورع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما:
كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه سمع صوت زمارة راعٍ، فمشى في الطريق بسرعة وابن عمر كان يضع إصبعيه في أذنيه وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول يا نافع أتسمع فيقول نعم، فيمضي على حاله واضعاً إصبعيه في أذنيه حتى قلت لا، فوضع يديه وأعاد راحلته إلى الطريق. [رواه الإمام أحمد وقال أحمد شاكر إسناده صحيح].
فانظر رحمك الله تعالى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما على الرغم من أن الإنسان غير مكلّف بما يسمع ولكن بما يستمع إليه فلا يجوز تقصّد السماع والتلذذ به.
(صورةٌ مشرقة من ورع معاذ وابن عباس رضي الله عنهما:(6/52)
أخرج أبو نعيم في الحلية عن يحيى بن سعيد أن معاذ ابن جبل رضي الله عنه كانت له امرأتان، فإذا كان يوم إحداهما لم يتوضأ من بيت الأخرى، ثم توفيتا في السقم الذي أَصابهما بالشام والناس في شغل، فدفنتا في حفرة فأسهم بينهما أَيتهما تقدّم في القبر. وعنده أَيضاً من طريق مالك عن يحيى قال: كان تحت معاذ بن جبل إمرأَتان، فإذا كان عند إِحداهما لم يشرب من بيت الأخرى الماء. وأَخرج ابن سعد عن طاووس قال: أَشهد لسمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: أشهد لسمعت عمر رضي الله عنه يهل، فإنا لواقفون في الموقف فقال له رجل: أرأيت حين دَفَع؟ فقال ابن عباس: لا أدري، فعجب الناس من ورع ابن عباس. كذا في المنتخب.
(صورةٌ مشرقة من ورع زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها:
عليهم فزينب رضي الله عنها عصمها الله بالورع في قصة الإفك فمع أنها كانت تنافسها وتساميها.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) قالت: وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال لزينب: ماذا علمت، أو رأيت). فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيرا، قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعصمها الله بالورع.
(صور مشرقة من ورع التابعين رحمهم الله:
(ورع عمر ابن عبد العزيز:
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن فرات بن مسلم قال كنت أعرض على عمر بن عبد العزيز كتبي في كل جمعة فعرضتها عليه فأخذ منها قرطاسا قدر أربع أصابع فكتب فيه حاجة قال فقلت غفل أمير المؤمنين فأرسل من الغد أن جئني بكتبك قال فجئت بها فبعثني في حاجة فلما جئت قال لي: مالنا أن ننظر فيها قلت إنما نظرت فيها أمس قال فاذهب أبعث إليك فلما فتحت كتبي وجدت فيها قرطاسا قدر القرطاس الذي أخذ.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن أبي سنان أن عمر بن عبد العزيز كان يسخن له الماء في مطبخه فقال لصاحب المطبخ أين يسخن هذا الماء قال في المطبخ قال انظر منذ كم تسخنه في المطبخ فأخبرني به قال منذ كذا وكذا قال انظر ما ثمن ذلك الحطب قال كذا وكذا فأخذه عمر فألقاه في بيت المال.(6/53)
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن فاطمة بنت عبد الملك قالت اشتهى عمر بن عبد العزيز يوما عسلا فلم يكن عندنا فوجهنا رجلا على دابة من دواب البريد إلى بعلبك فأتى بعسل فقلنا يوما إنك ذكرت عسلا وعندنا عسل فهل لك فيه قال نعم فأتيناه به فشرب ثم قال من أين لكم هذا العسل قال قلت وجهنا رجلا على دابة من دواب البريد بدينارين إلى بعلبك فاشترى لنا عسلا قال فأرسل إلى الرجل فجاء فقال انطلق بهذا العسل إلى السوق فبعه فاردد إلينا رأس مالنا وانظر الفضل فاجعله في علف دواب البريد ولو كان ينفع المسلمين في لتقيأت.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن بن السماك قال كان عمر بن عبد العزيز يقسم تفاحا بين الناس فجاء ابن له وأخذ تفاحة من ذلك التفاح فوثب إليه ففك يده فأخذ تلك التفاحة فطرحها في التفاح فذهب إلى أمه مستغيثا فقالت له مالك أي بني فأخبرها فأرسلت بدرهمين فاشترت تفاحا فأكلت وأطعمته ورفعت لعمر فلما فرغ مما بين يديه دخل إليها فأخرجت له طبقا من تفاح فقال من أين هذا يا فاطمة فأخبرته فقال رحمك الله والله إن كنت لأشتهيه.
(ورع إبراهيم ابن أدهم:
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن محمد بن يوسف قال كان إبراهيم بن أدهم يلقط الحب مع المساكين فبصر بسنبل فبادر إليه مع المساكين فسبقهم فقالوا له في ذلك فرمى بما معه وقال أنا لم أزاحم أهل الدنيا على دنياهم أزاحم المساكين على معاشهم فكان بعد لا يلقط إلا مع الدواب.
(ورع أيوب بن راشد:
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن رباح بن الجراح قال رأيت أبا شعيب أيوب بن راشد فما رأيت أحدا كان أورع منه كان يكنس حيطان بيته فإذا وقع شيء من حيطان جيرانه جمعه فذهب به إليهم.
(ورع الحسن البصري:
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن الحسن قال ما ضربت ببصري ولا نطقت بلسانين ولا بطشت بيدين ولا نهضت على قدمي حتى أنظر على طاعة أو على معصية فإن كانت طاعة تقدمت وإن كانت معصية تأخرت.
(ورع يوسف بن أسباط:
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن يوسف بن أسباط قال مر طاوس بنهر قد كري فأرادت بغلته أن تشرب فأبى أن يدعها يعني كراة السلطان.
(ورع محمد بن سيرين:(6/54)
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن هشام بن حسان قال ما رأيت أحدا أورع من محمد بن سيرين.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن هشام قال ترك بن سيرين أربعين ألفا فيما لا ترون به اليوم بأسا.
(أقوال السلف في الورع:
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن معاوية بن قرة قال دخلت على الحسن وهو متكئ على سريره فقلت يا أبا سعيد أي الأعمال أحب إلى الله قال الصلاة في جوف الله والناس نيام قلت فأي الصوم أفضل قال في يوم صائف قلت فأي الرقاب أفضل قال أنفسها عند أهلها وأغلاها ثمنا قلت فما تقول في الورع قال ذاك رأس الأمر كله.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن خالد بن معدان قال قيل له أتعرف النية قال ما أعرف النية ولكني أعرف الورع فمن كان ورعا كان تقيا.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن أبي إسماعيل المؤدب قال جاء رجل إلى العمري فقال عظني فأخذ حصاة من الأرض فقال زنة هذه من الورع يدخل قلبك خير لك من صلاة أهل الأرض، قال زدني قال كما تحب أن يكون الله لك غدا فكن له اليوم.
[*] (و ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن الحسن قال ما في الأرض شيء أحبه للناس من قيام الليل قال فقال أبو إياس فأين الورع قال به به ذلك ملاك الأمر.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن الضحاك قال أدركت الناس وهم يتعلمون الورع وهم اليوم يتعلمون الكلام.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن النضر بن محمد: قال نسك الرجل على قدر ورعه.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن أبي وهب محمد بن مزاحم قال قيل لابن المبارك أي شيء أفضل قال الورع قالوا ما الورع قال حتى تنزع عن مثل هذا وأخذ شيئا من الأرض.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن خالد بن معدان قال من لم يكن له حلم يضبط به جهله وورع يحجزه عما حرم الله عليه وحسن صحابة عن يصحبه فلا حاجة لله فيه.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن إبراهيم بن الأشعث قال سألت فضيل بن عياض فقلت أي الأعمال أفضل قال ما لا بد منه قلت أداء الفرائض واجتناب المحارم قال نعم أحسنت يا بخاري وهو الورع.(6/55)
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن الحسن قال أفضل العبادة التفكر والورع.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن يحيى بن أبي كثير قال يقول الناس فلان الناسك فلان الناسك إنما الناسك الوَرِع.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن أبي اليزيد الفيض قال سألت موسى بن أعين عن قول الله تعالى: (إِنّمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتّقِينَ) [المائدة: 27] قال تنزهوا عن أشياء من الحلال مخافة أن يقعوا في الحرام فسماهم الله متقين.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن ضمرة بن حبيب: قال لا يعجبكم كثرة صلاة امرئ ولا صيامه ولكن انظروا إلى ورعه فإن كان ورعا مع ما رزقه الله من العبادة فهو عبد الله حقا.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الورع عن طاوس عن قال: مثل الإسلام كمثل شجرة فأصلها الشهادة وساقها كذا وكذا وورقها كذا شيء سماه وثمرها الورع لا خير في شجرة لا ثمر لها ولا خير في إنسان لا ورع له.
(فصلٌ في منزلة التبتل:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة التبتل
قال الله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل: 8]
والتبتل الانقطاع وهو تفعل من البتل وهو القطع وسميت مريم البتول لانقطاعها عن الأزواج وعن أن يكون لها نظراء من نساء زمانها ففاقت نساء الزمان شرفا وفضلا وقطعت منهن ومصدر بتل تبتلا كالتعلم والتفهم ولكن جاء على التفعيل مصدر تفعل لسرٍ لطيف فإن في هذا الفعل إيذانا بالتدريج والتكلف والتعمل والتكثر والمبالغة فأتى بالفعل الدال على أحدهما بالمصدر الدال على الآخر فكأنه قيل: بتل نفسك إلى الله تبتيلا وتبتل إليه تبتلا ففهم المعنيان من الفعل ومصدره وهذا كثير في القرآن وهو من أحسن الاختصار والإيجاز.
(قال صاحب المنازل: التبتل: "الانقطاع إلى الله بالكلية" وقوله عز وجل: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [الرعد: 14] أي التجريد المحض.(6/56)
(ومراده بالتجريد المحض: التبتل عن ملاحظة الأعواض بحيث لا يكون المتبتل كالأجير الذي لا يخدم إلا لأجل الأجرة فإذا أخذها انصرف عن باب المستأجر بخلاف العبد فإنه يخدم بمقتضى عبوديته لا للأجرة فهو لا ينصرف عن باب سيده إلا إذا كان آبقا والآبق قد خرج من شرف العبودية ولم يحصل له إطلاق الحرية فصار بذلك مركوسا عند سيده وعند عبيده وغاية شرف النفس: دخولها تحت رق العبودية طوعا واختيارا ومحبة لا كرها وقهرا كما قيل: شرف النفوس دخولها في رقهم، والعبد يحوي الفخر بالتمليك، والذي حسن استشهاده بقوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} في هذا الموضع: إرادة هذا المعنى وأنه تعالى صاحب دعوة الحق لذاته وصفاته وإن لم يوجب لداعيه بها ثوابا فإنه يستحقها لذاته «فهو أهلٌ أن يعبد وَحْدَه وَيُدْعَى وَحْدَه وَيُقْصَدُ وَيُشْكَرُ وَيُحْمَدُ وَيُحَبُ وَيُرْجَى وَيُخَاف وَيُتَوَكَل عليه وَيُسْتَعانُ به وُيُسْتَجار به وَيُلْجَأ إليه وَيُصْمَدُ إليه فتكون الدعوة الإلهية الحق له وحده»، ومن قام بقلبه هذا معرفة وذوقا وحالا صح له مقام التبتل والتجريد المحض، وقد فسر السلف دعوة الحق بالتوحيد والإخلاص فيه والصدق ومرادهم: هذا المعنى.
(فقال علي رضي الله عنه دعوة الحق: التوحيد.
(وقال ابن عباس رضي الله عنهما: شهادة أن لا إله إلا الله.
(وقيل: الدعاء بالإخلاص والدعاء الخالص لا يكون إلا لله وحده ودعوة الحق دعوة الإلهية وحقوقها وتجريدها وإخلاصها. أهـ.
( ... فصلٌ في منزلة الرغبة والرهبة:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة
الرغبة قال الله عز وجل: {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} [الأنبياء: 90] والفرق بين الرغبة و الرجاء أن الرجاء طمع والرغبة طلب فهي ثمرة الرجاء فإنه إذا رجا الشيء طلبه والرغبة من الرجاء كالهرب من الخوف فمن رجا شيئا طلبه ورغب فيه ومن خاف شيئا هرب منه. أهـ
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد. ((6/57)
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) قال: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو يَقُولُ رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ وَاهْدِنِي وَيَسِّرْ الْهُدَى لِي وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا لَكَ ذَكَّارًا لَكَ رَهَّابًا لَكَ مِطْوَاعًا لَكَ مُخْبِتًا إِلَيْكَ أَوَّاهًا مُنِيبًا رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي وَاغْسِلْ حَوْبَتِي وَأَجِبْ دَعْوَتِي وَثَبِّتْ حُجَّتِي وَسَدِّدْ لِسَانِي وَاهْدِ قَلْبِي وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ صَدْرِي.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ): أَيْ عَلَى أَعْدَائِي فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِنَ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ.
(وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَكْرُ الْخِدَاعُ وَهُوَ مِنَ اللَّهِ إِيقَاعُ بَلَائِهِ بِأَعْدَائِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، وَقِيلَ هُوَ اسْتِدْرَاجُ الْعَبْدِ بِالطَّاعَةِ فَيَتَوَهَّمُ أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ وَهِيَ مَرْدُودَةٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْمَكْرُ الْحِيلَةُ وَالْفِكْرُ فِي دَفْعِ عَدُوٍّ بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ الْعَدُوُّ، فَالْمَعْنَى: (اللَّهُمَّ اهْدِنِي إِلَى طَرِيقِ دَفْعِ أَعْدَائِي عَنِّي وَلَا تَهْدِ عَدُوِّي إِلَى طَرِيقِ دَفْعِهِ إِيَّاهُ عَنْ نَفْسِهِ) كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ.
(وَاهْدِنِي) أَيْ دُلَّنِي عَلَى الْخَيْرَاتِ.
(وَيَسِّرْ لِي الْهُدَى) أَيْ وَسَهِّلِ اتِّبَاعَ الْهِدَايَةِ أَوْ طُرُقَ الدَّلَالَةِ حَتَّى لَا أَسْتَثْقِلَ الطَّاعَةَ وَلَا أَشْتَغِلَ عَنِ الطَّاعَةِ.
(وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ) أَيْ ظَلَمَنِي وَتَعَدَّى عَلَيَّ.
(رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا) أَيْ كَثِيرَ الشُّكْرِ عَلَى النَّعْمَاءِ وَالْآلَاءِ، وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ لِلِاهْتِمَامِ وَالِاخْتِصَاصِ أَوْ لِتَحْقِيقِ مَقَامِ الْإِخْلَاصِ
(لَكَ ذَكَّارًا) أَيْ كَثِيرَ الذِّكْرِ.
(لَكَ رَهَّابًا) أَيْ كَثِيرَ الْخَوْفِ
(لَكَ مِطْوَاعًا) بِكَسْرِ الْمِيمِ مِفْعَالٌ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ كَثِيرَ الطَّوْعِ وَهُوَ الِانْقِيَادُ وَالطَّاعَةُ(6/58)
(لَكَ مُخْبِتًا) أَيْ خَاضِعًا خَاشِعًا مُتَوَاضِعًا مِنَ الْإِخْبَاتِ قَالَ فِي الْقَامُوسِ: أَخْبَتَ خَشَعَ
(إِلَيْكَ أَوَّاهًا) أَيْ مُتَضَرِّعًا فَعَّالٌ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ أَوَّهَ تَأْوِيهًا وَتَأَوَّهَ تَأَوُّهًا إِذَا قَالَ أَوْهُ أَيْ قَائِلًا كَثِيرًا لَفْظَ أَوْهُ وَهُوَ صَوْتُ الْحَزِينِ. أَيِ اجْعَلْنِي حَزِينًا وَمُتَفَجِّعًا عَلَى التَّفْرِيطِ أَوْ هُوَ قَوْلُ النَّادِمِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ الْمُقَصِّرِ فِي طَاعَتِهِ وَقِيلَ الْأَوَّاهُ الْبَكَّاءُ
(مُنِيبًا) أَيْ رَاجِعًا قِيلَ التَّوْبَةُ رُجُوعٌ مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ، وَالْإِنَابَةُ مِنَ الْغَفْلَةِ إِلَى الذِّكْرِ وَالْفِكْرَةِ، وَالْأَوْبَةُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ وَالْمُشَاهَدَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا اكْتَفَى فِي قَوْلِهِ أَوَّاهًا مُنِيبًا بِصِلَةٍ وَاحِدَةٍ لِكَوْنِ الْإِنَابَةِ لَازِمَةً لِلتَّأَوُّهِ وَرَدِيفًا لَهُ فَكَأَنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ.
(رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي) أَيْ بِجَعْلِهَا صَحِيحَةً بِشَرَائِطِهَا وَاسْتِجْمَاعِ آدَابِهَا فَإِنَّهَا لَا تَتَخَلَّفُ عَنْ حَيِّزِ الْقَبُولِ.
(وَاغْسِلْ حَوْبَتِي) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَيُضَمُّ أَيِ امْحُ ذَنْبِي.
(وَأَجِبْ دَعْوَتِي) أَيْ دُعَائِي.
(وَثَبِّتْ حُجَّتِي) أَيْ عَلَى أَعْدَائِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى وَثَبِّتْ قَوْلِي وَتَصْدِيقِي فِي الدُّنْيَا وَعِنْدَ جَوَابِ الْمَلَكَيْنِ.
(وَسَدِّدْ لِسَانِي) أَيْ صَوِّبْهُ وَقَوِّمْهُ حَتَّى لَا يَنْطِقَ إِلَّا بِالصِّدْقِ وَلَا يَتَكَلَّمَ إِلَّا بِالْحَقِّ.
(وَاهْدِ قَلْبِي) أَيْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
(وَاسْلُلْ) بِضَمِّ اللَّامِ الْأُولَى أَيْ أَخْرِجْ مِنْ سَلَّ السَّيْفَ إِذَا أَخْرَجَهُ مِنَ الْغِمْدِ
(سَخِيمَةَ صَدْرِي) أَيْ غِشَّهُ وَغِلَّهُ وَحِقْدَهُ.(6/59)
{تنبيه}: (لا بدّ لنا من وقْفةٍ في قوله تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} [الأنبياء: 90]، من السَّهل أن ترجو رحمته دون أن تدفع الثَّمَن، ومن السَّهل أيضًا أن تقنط من رحمته لِجَهلٍ مسْتحْكِم ولكنّ البطولة أن تعبُدَهُ راجيًا وخائفًا، راغبًا وراهبًا، رغبةً ورهبةً الوضْع المتوازن يحتاج إلى بطولة، أما التطرّف فسهلٌ جدًّا أبٌ بإمكانه أن يكون سهلاً فَيُعْصَر، وبإمكانه أن يكون عنيفًا جدًّا، كلا الحالتين سهلةٌ على الأب، أما الأب الذي يرجو أولاده عطاءه، ويخافون غضبهُ في الوقت نفسه هذا أب مُرَبٍّ حكيم، وبالمقابل المؤمن الصادق يعبد الله رغبًا ورهبًا، إذا عرف من رحمته لا يطمع بها فَيُقصِّر، وإذا عرف من عقابه لا يدْفعُه العقاب إلى أن ييْأس، أكمل موقف قاله سيّدنا عمر: والله لو علمْتُ أنّ الله معذِّبٌ واحدًا لَخِفْتُ أن أكون أنا، ولو علمْتُ أنّ الله راحمًا واحدًا لرجَوْتُ أن أكون أنا.
لكنّ العلماء فرَّقوا بين الرغبة والرجاء، قالوا: «الرّجاء طمع والرغبة طلب»، طمعٌ وطلبٌ، أو الرجاء ثمرةُ الطَّمع، تطْمعُ فترْغَبُ فإنَّه إذا رجا الشيء طلبهُ، والرغبة من الرَّجاء كالهرب من الخوف، فمن رجا شيئًا طلبه ورغب فيه، ومن خاف شيئًا هرب منه. أهـ
(علامة صِدْق الرّجاء العمل:
قال تعالى: (قُلْ إِنّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَىَ إِلَيّ أَنّمَآ إِلََهُكُمْ إِلََهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا) [الكهف: 110]
، الله عز وجل «ربط الرجاء بالعمل» حيث قال تعالى (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً)،
وقال تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الاَخِرَةَ وَسَعَىَ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مّشْكُوراً) [الإسراء: 19]
أراد الآخرة وسعى لها سعيَها وهو مؤمن، يعني بِشَكلٍ أو بآخر إن لم يُتَرجم العلم إلى عمل فلا قيمة له، إن لم يُتَرجم الإيمان إلى سلوك فلا قيمة له، إن لم يُترْجم التوحيد إلى تقوى لا قيمة له:
وعالم بعِلْمه لم يعملَن ... مُعَذَّبٌ من قبل عبّاد الوثن(6/60)
الراجي طالب، والخائف هارب، والرغبة هي الرجاء حقيقة الرجاء طمَع يحتاج إلى تحقيق، طمعٌ في مغيَّبٍ عنك مَشْكوك في تَحصيله وإن كان متحقِّقًا بِذاته، الجنّة مُتحقِّقة بذاتها، ولكن القلق أن يُسْمحَ لي أن أدخلها أو أن لا أدخلها، بالمناسبة الشيء بالشيء يُذْكر.
(الرّغبة من لوازمها الرِّعايَة:
إن كنتَ راغبًا في شيءٍ عليك أن ترْعاهُ، إن اكْتَمَلَتْ الرغبة اكْتَمَلَ معها خُلُق الرِّعاية، الرِّعاية الإيمانيّة العِلْم كيف يُراعى؟ يُحْفظ ويُعْمَلُ به، آفاتا العلم أن يُنْسى وأن لا يُعْمَلَ به الآن إذا كان هناك رغبة صادقة لا بدّ من أن يتْبَعَ هذه الرغبة الصادقة عملٌ يؤكِّدها، فَرِعايَةُ العلم بالحفْظ، ورِعايَة العلم بالعمل.
فإذا اكتمَلَتْ رغبَتُهُ اكْتَمَلَ مع رغْبته خُلقُ الرِّعاية، يرعى العلم فيحْفظُهُ ويعمل به، ويرْعى العمل بالإحسان والإخلاص، والإحسان هو الإتقان، والإخلاص أن يكون خالصًا لله تعالى، يرعى العلم فيحْفظُهُ ويعمل به، ويرْعى العمل بالإحسان والإخلاص.
ويحفظ العمل من مُفْسِداته، مثلاً أعطى ثمّ منَّ بعْد عطائِهِ، فالمنّ أذْهَبَ ثواب عطائه، وقال العلماء مراتب العلم والعمل ثلاثة: رواية هي مجرّد النقل وحمْلُ المرْوِيّ، ودِرايَةٌ هي فهمهُ وتعَقُّلُ معناه، ورعايةٌ هي العمل بِمُوجِبِه، ما علمهُ، وبِحَسب مُقتضاه.
(فصلٌ في منزلة الرعاية:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الرعاية وهي مراعاة
العلم وحفظه بالعمل، ومراعاة العمل بالإحسان والإخلاص وحفظه من المفسدات، ومراعاة الحال بالموافقة وحفظه بقطع التفريق، «فالرعاية صيانة وحفظ» ومراتب العلم والعمل ثلاثة:
(رواية: وهي مجرد النقل وحمل المروي.
(و دراية: وهي فهمه وتعقل معناه.
(ورعاية: وهي العمل بموجب ما عمله ومقتضاه،(6/61)
«فالنقلة همتهم الرواية والعلماء همتهم الدراية والعارفون همتهم الرعاية» وقد ذم الله من لم يرع ما اختاره وابتدعه من الرهبانية حق رعايته فقال تعالى {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} رهبانية منصوب بابتدعوها على الاشتغال إما بنفس الفعل المذكور على قول الكوفيين وإما بمقدر محذوف مفسر بهذا المذكور على قول البصريين أي وابتدعوا رهبانية وليس منصوبا بوقوع الجعل عليه فالوقف التام عند قوله: ورحمة، ثم يبتدىء ورهبانية ابتدعوها أي لم نشرعها لهم بل هم ابتدعوها من عند أنفسهم ولم نكتبها عليهم.
(ثم قال رحمه الله تعالى:
والقصد: أن الله سبحانه وتعالى ذم من لم يرع قُرْبَةً ابتدعها لله تعالى حق رعايتها فكيف بمن لم يرع قربة شرعها الله ورضيها لعباده وأذن بها وحث عليها. أهـ
لأنّ الله ما كتبها عليهم، لم يستطيعوا رعايتها من هو الخبير؟ الله جلّ جلاله، إذا سمَحَ الله لك بالزواج، وحرمْت أنت نفسكَ من الزواج زهدًا وورعًا، أنت تحرَّكْتَ حركة بِخِلاف فِطْرتك التي فُطِرْت عليها، لن تستطيع رِعايَة هذا المسْلكَ الذي ابْتَدَعْتهُ، لأنَّهم ابْتَدَعوها ولم تَرِد في منهجهم إذًا لن يستطيعوا رعايتها حقّ الرعاية، ما كتبناها عليهم هم حينما كتَبُوها على أنفسهم اِدَّعَوا أنَّه ابْتِغاء رِضْوان الله، ولأنَّها لم تُكْتَب عليهم لمْ يستطيعوا رعايتها، فما رعَوْها حقّ رعايتها.
وأجْمَل ما قيل في هذا المقام قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له»، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد. ((6/62)
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) جاء ثلاثةُ رهطٍ إلى بيوت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسألون عن عبادة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما أخبروا كأنهم تقاُّلوها وقالوا: أين نحن من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أما أنا أصلي الليل أبداً، وقال آخر: وأنا أصوم الدهر أبداً، وقال آخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني.
في هذا المعنى الدقيق، الله جلّ جلاله ذمّ من لمْ يرْعَ قُرْبةً ابْتَدَعها لله تعالى، لم يرْعها حقّ رعايتها، فكيف بِمَن لم يرْعَ قُرْبةً شرعها الله؟ القُربة التي لم يُشَرِّعها الله عاتب الذين ابْتَدَعوها أنَّهم لم يرْعَوْها حق رعايتها، فكيف بالذي لا يرعى عبادة شرعها الله عز وجل، وهي متوافقةٌ مع طبْعِهِ، ومع طاقته وقدرته وإمكاناته.
الآن من أركان الرِّعاية رعايَة الأعمال وفْق النَّمَط الأوْسط مع اسْتصغارها والقيام بها من غير نظرٍ إليها، ثلاث صفات؛ رِعايَة الأعمال أن تأخذ الوضع المعتدل منها، فالإفراط تطرّف، والتفريط تطرّف، وأن تُلقي بِنَفسِكَ إلى التهلكة تهوّر، وأن تجمد عن ملاقاة العدوّ جبْنٌ، والوضْع الوسَطِيّ أن تكون شجاعًا بِتَعَقُّل، أن تمْسِكَ المال بُخلاً، وأن تُلْقِيَهُ جزافًا إسرافًا، أما الوضْع الوسطي كما قال تعالى: (وَالّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) [الفرقان: 67]
أوّل شيء رعاية الأعمال وفْق النَّمَط الأوْسَط، وقالوا الفضيلة وسَطٌ بين طرفين، مع اسْتصغارها والقيام بها من غير نظرٍ إليها، الإنسان إذا رأى عملهُ كبيرًا حجَبَهُ عن الله عز وجل، «لو كان لك عملٌ كالجبال يجب أن ترى أنّ الله تفضَّل به عليك، ولولا أنّ الله عز وجل تفضَّل به عليك لأخذْت ولم تُعْطِ»
(فإذا كانت الهداية إلى الله مصروفة، والاستقامة على مشيئته موقوفة
والعاقبة مغيبة، والإرادة غير مغالبة
فلا تعجبي بإيمانك وعملك وصلاتك وصومك وجميع قربك
فإن ذلك وإن كان من **بك فإنه من خلق ربك وفضله الدار عليك وخيره
فمهما افتخرت بذلك كنت كالمفتخرة بمتاع غيرها
وربما سُلب عنك فعاد قلبك من الخير أخلى من جوف البعير(6/63)
فكم من روضة أمست وزهرها يانع عميم فأصبحت وزهرها يابس هشيم
إذ هبت عليها الريح العقيم
كذلك العبد يمسي وقلبه بطاعة الله مشرق سليم
فيصبح وهو بمعصية الله مظلم سقيم ذلك
فعل العزيز الحليم الخلاق العليم.
مسألة / ما مدى صحة القول الآتي: «ما عبدتُك شوقاً إلى جنَّتك، ولا خوفاً من نارك، وإنما عبدتك شوقاً إلى رؤيتك»؟
الجواب: أن هذا قولٌ باطل لا يصح بل يجب عبادة الله تعالى بمقامات الإيمان الثلاثة المتلازمة، وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غير مُخِّل:
(1) أن العبادة الشرعية عند أهل السنَّة تشمل المحبة والتعظيم، والمحبة تولِّد الرجاء، والتعظيم يولِّد الخوف.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:
العبادة مبنية على أمرين عظيمين، هما: المحبة، والتعظيم، الناتج عنهما: قال تعالى: (إِنّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ) [الأنبياء: 90]، فبالمحبة تكون الرغبة، وبالتعظيم تكون الرهبة، والخوف.
ولهذا كانت العبادة أوامر، ونواهي: أوامر مبنية على الرغبة، وطلب الوصول إلى الآمر، ونواهي مبنية على التعظيم، والرهبة من هذا العظيم.
فإذا أحببتَ الله عز وجل: رغبتَ فيما عنده، ورغبت في الوصول إليه، وطلبتَ الطريق الموصل إليه، وقمتَ بطاعته على الوجه الأكمل، وإذا عظمتَه: خفتَ منه، كلما هممتَ بمعصية استشعرت عظمة الخالق عز وجل، فنفرتَ، (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ) يوسف/ 24.
فهذه مِن نعمة الله عليك، إذا هممتَ بمعصية وجدتَ الله أمامك، فهبتَ، وخفتَ، وتباعدتَ عن المعصية؛ لأنك تعبد الله، رغبة، ورهبة.
" مجموع فتاوى الشيخ العثيمين " (8/ 17، 18).
(2) أن عبادة الأنبياء والعلماء والأتقياء تشتمل على الخوف والرجاء، ولا تخلو من محبة، فمن يرد أن يعبد الله تعالى بإحدى ذلك: فهو مبتدع، وقد يصل الحال به للكفر.
قال الله تعالى – في وصف حال المدعوين من الملائكة والأنبياء والصالحين -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ) [الإسراء/ 57](6/64)
وقال الله تبارك وتعالى – في وصف حال الأنبياء -: (إِِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء/ 90]
قال ابن جرير الطبري – رحمه الله -:
ويعنى بقوله: (رَغَباً): أنهم كانوا يعبدونه رغبة منهم فيما يرجون منه، من رحمته، وفضله.
(وَرَهَباً): يعني: رهبة منهم، من عذابه، وعقابه، بتركهم عبادته، وركوبهم معصيته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
" تفسير الطبري " (18/ 521).
وقال الحافظ ابن كثير – رحمه الله -:
وقوله: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) أي: في عمل القُرُبات، وفعل الطاعات.
(وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا) قال الثوري: (رَغَبًا) فيما عندنا، (وَرَهَبًا) مما عندنا.
(وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أي: مصدِّقين بما أنزل الله، وقال مجاهد: مؤمنين حقّاً، وقال أبو العالية: خائفين، وقال أبو سِنَان: الخشوع هو الخوف اللازم للقلب، لا يفارقه أبداً، وعن مجاهد أيضاً: (خَاشِعِينَ) أي: متواضعين، وقال الحسن، وقتادة، والضحاك: (خَاشِعِينَ) أي: متذللين لله عز وجل، وكل هذه الأقوال متقاربة.
" تفسير ابن كثير " (5/ 370).
((قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
قال بعض السلف: " مَن عبد الله بالحب وحده: فهو زنديق، ومَن عبده بالخوف وحده: فهو حروري – أي: خارجي -، ومَن عبده بالرجاء وحده: فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء: فهو مؤمن موحد.
" مجموع الفتاوى " (15/ 21).
(3) اعتقادهم أن الجنة هي الأشجار والأنهار والحور العين، وغفلوا عن أعظم ما في الجنة مما يسعى العبد لتحصيله وهو: رؤية الله تعالى، والتلذذ بذلك، والنار ليست هي الحميم والسموم والزقوم، بل هي غضب الله وعذابه والحجب عن رؤيته عز وجل.
((قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
ومِن هنا يتبين زوال الاشتباه في قول مَن قال: " ما عبدتُك شوقاً إلى جنَّتك، ولا خوفاً من نارك، وإنما عبدتك شوقاً إلى رؤيتك ".(6/65)
فإن هذا القائل ظنَّ هو ومَن تابعه أن الجنة لا يدخل في مسماها إلا الأكل، والشرب، واللباس، والنكاح، ونحو ذلك مما فيه التمتع بالمخلوقات، ولهذا قال بعض مَن غلط مِن المشائخ لما سمع قوله: (مِنْكُم مَنْ يُريدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَن يُرِيدُ الآخِرَةَ) قال: فأين من يريد الله؟! وقال آخر في قوله تعالى: (إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ المُؤمِنينَ أنْفُسَهُم وَأَمْوَالُهُم بِأَنَّ لَهُم الجَنَّةَ) قال: إذا كانت النفوس والأموال بالجنَّة فأين النظر إليه؟!.
وكل هذا لظنِّهم أنَّ الجنَّة لا يدخل فيها النظر، والتحقيق: أن الجنة هي الدار الجامعة لكل نعيم، وأعلى ما فيها: النظر إلى وجه الله، وهو من النعيم الذي ينالونه في الجنة، كما أخبرت به النصوص، وكذلك أهل النار، فإنهم محجوبون عن ربهم يدخلون النار، مع أن قائل هذا القول إذا كان عارفاً بما يقول فإنما قصده أنك لو لم تخلق ناراً، أو لو لم تخلق جنَّة لكان يجب أن تُعبد، ويجب التقرب إليك، والنظر إليك، ومقصوده بالجنة هنا ما يتمتع فيه المخلوق.
" مجموع الفتاوى " (10/ 62، 63).
(وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
والتحقيق أن يقال: الجنَّة ليست اسماً لمجرد الأشجار، والفواكه، والطعام، والشراب، والحور العين، والأنهار، والقصور، وأكثر الناس يغلطون في مسمى الجنَّة، فإنَّ الجنَّة اسم لدار النعيم المطلق الكامل، ومِن أعظم نعيم الجنَّة: التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه، وقرة العين بالقرب منه، وبرضوانه، فلا نسبة للذة ما فيها من المأكول والمشروب والملبوس والصور إلى هذه اللذة أبداً، فأيسر يسير من رضوانه: أكبر من الجنان وما فيها من ذلك، كما قال تعالى: (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَر) التوبة/ 72، وأتى به مُنَكَّراًَ في سياق الإثبات، أي: أي شيء كان من رضاه عن عبده: فهو أكبر من الجنة.
وفي الحديث الصحيح حديث الرؤية: (فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إلى وجهه)(6/66)
((حديث صُهَيْبٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: في قَوْلِهِ {لِلّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قالَ: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنّةِ الْجَنّةَ، نَادَى مُنَادٍ إِنّ لَكُمْ عِنْدَ الله مَوْعِداً، قَالُوا أَلَمْ يُبَيّضْ وُجُوهَنَا وَيُنَجّينَا مِنَ النّارِ وَيُدْخِلْنَا الْجَنّةَ؟ قَالُوا بَلَى، فَينكشفُ الْحِجَابُ، قالَ: فَوَالله مَا أَعْطَاهُمْ شَيْئاً أَحَبّ إِلَيْهِمْ مِنَ النظَرِ إِلَيْهِ».
ولا ريب أن الأمر هكذا، وهو أجل مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال، ولا سيما عند فوز المحبين هناك بمعية المحبة، فإن (المرء مع مَن أحب)، ولا تخصيص في هذا الحكم، بل هو ثابت، شاهداً، وغائباً، فأي نعيم، وأي لذة، وأي قرة عين، وأي فوز، يداني نعيم تلك المعية، ولذتها، وقرة العين بها، وهل فوق نعيم قرة العين بمعية المحبوب الذي لا شيء أجل منه، ولا أكمل، ولا أجمل قرة عين ألبتة؟.
وهذا - والله - هو العِلم الذي شمَّر إليه المحبون، واللواء الذي أمَّه العارفون، وهو روح مسمَّى الجنَّة وحياتها، وبه طابت الجنة، وعليه قامت.
فكيف يقال: " لا يُعبد الله طلباً لجنَّته، ولا خوفاً من ناره "؟!.
وكذلك النار أعاذنا الله منها، فإن لأربابها من عذاب الحجاب عن الله، وإهانته، وغضبه، وسخطه، والبُعد عنه: أعظم من التهاب النار في أجسامهم، وأرواحهم، بل التهاب هذه النار في قلوبهم: هو الذي أوجب التهابها في أبدانهم، ومنها سرت إليها.
فمطلوب الأنبياء، والمرسلين، والصدِّيقين، والشهداء، والصالحين: هو الجنَّة، ومهربهم: من النار، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
" مدارج السالكين " (2/ 80، 81).
(4) مؤدى تلك المقولة الاستخفاف بخلق الجنة، والنار، والله تعالى خلقهما، وأعدَّ كل واحدة منهما لمن يستحقها، وبالجنة رغَّب العابدين لعبادته، وبالنار خوَّف خلقه من معصيته والكفر به.
(5) كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأل الله الجنَّة، ويستعيذ به من النار، وكان يعلِّم ذلك لأصحابه رضوان الله عليهم، وهكذا توارثه العلماء والعبَّاد، ولم يروا في ذلك نقضاً لمحبتهم لربهم تعالى، ولا نقصاً في منزلة عبادتهم.(6/67)
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث عائشة الثابت في صحيح ابن ماجة) أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمها هذا الدعاء اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله و آجله ما علمت منه و ما لم أعلم و أعوذ بك من الشر كله عاجله و آجله ما علمت منه و ما لم أعلم اللهم إني أسألك من خير ما سألك به عبدك و نبيك و أعوذ بك من شر ما عاذ به عبدك و نبيك اللهم إني أسألك الجنة و ما قرب إليها من قول أو عمل و أعوذ بك من النار و ما قرب إليها من قول أو عمل و أسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيرا.
((حديث أنَسٍ رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: كان أكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ "0
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجلٍ ما تقول في الصلاة قال أتشهد ثم أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار أما والله ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال حولها ندندن.
((حديث البراء رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوئك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل: اللهم إني أسلمت نفسي إليك وألجأت ظهري إليك وفوضتُ أمري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تتكلمُ به.
(قال تقي الدِّين السبكي – رحمه الله -:(6/68)
والعاملون على أصناف: صنف عبدوه لذاته، وكونه مستحقّاً لذلك؛ فإنه مستحق لذلك، لو لم يخلق جنَّة ولا ناراً، فهذا معنى قول من قال: " ما عبدناك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنَّتك "، أي: بل عبدناك لاستحقاقك ذلك، ومع هذا فهذا القائل يسأل الله الجنَّة، ويستعيذ به من النار، ويظن بعض الجهلة خلاف ذلك، وهو جهل، فمَن لم يسأل الله الجنَّة والنجاة من النار: فهو مخالف للسنَّة؛ فإن مِن سنَّة النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، ولما قال ذلك القائل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنه يسأل الله الجنة، ويستعيذ به من النار "، وقال: " ما أُحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ ": قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (حولها ندندن).
فهذا سيد الأولين والآخرين يقول هذه المقالة، فمن اعتقد خلاف ذلك: فهو جاهل، ختَّال.
ومِن آداب أهل السنَّة أربعة أشياء لا بد لهم منها: الاقتداء برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والافتقار إلى الله تعالى، والاستغاثة بالله، والصبر على ذلك إلى الممات.
كذا قال سهل بن عبد الله التستري، وهو كلامٌ حقٌّ.
" فتاوى السبكي " (2/ 560).
(وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
كل ما أعده الله لأوليائه: فهو مِن الجنَّة، والنظر إليه هو من الجنة، ولهذا كان أفضل الخلق يسأل الله الجنَّة، ويستعيذ به من النَّار، ولما سألَ بعضَ أصحابه عما يقول في صلاته، قال: " إني أسأل الله الجنَّة، وأعوذ بالله من النَّار، أما إني لا أُحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ "، فقال: (حولها ندندن).
" مجموع الفتاوى " (10/ 241).
(6) من أراد أن يعبد الله تعالى بالمحبَّة وحدها دون الخوف والرجاء: فدينه في خطر، وهو مبتدع أشد الابتداع، وقد يصل به الحال أن يخرج من ملَّة الإسلام، وبعض كبار الزنادقة يقول: إننا نعبد الله محبة له، ولو كان مصيرنا الخلود في النار!!، ويعتقد بعضهم أنه بالمحبة فقط ينال رضا الله ورضوانه، وهو يشابه بذلك عقيدة اليهود والنصارى، حيث قال تعالى عنهم: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [المائدة/ 18].
(قال تقي الدين السبكي – رحمه الله -:(6/69)
وأما هذا الشخص الذي جرد وصف المحبة، وعبد الله بها وحدها: فقد ربا بجهله على هذا، واعتقد أن له منزلة عند الله رفَعته عن حضيض العبودية، وضآلتها، وحقارة نفسه الخسيسة، وذلتها، إلى أوج المحبة، كأنه آمِنٌ على نفسه، وآخذٌ عهداً من ربِّه أنَّه من المقربين، فضلاً عن أصحاب اليمين، كلا بل هو في أسفل السافلين.
فالواجب على العبد: سلوك الأدب مع الله، وتضاؤله بين يديه، واحتقاره نفسه، واستصغاره إياها، والخوف من عذاب الله، وعدم الأمن من مكر الله، ورجاء فضل الله، واستعانته به، واستعانته على نفسه، ويقول بعد اجتهاده في العبادة: " ما عبدناك حق عبادتك "، ويعترف بالتقصير، ويستغفر عقيب الصلوات، إشارة إلى ما حصل منه من التقصير في العبادة، وفي الأسحار، إشارة إلى ما حصل منه من التقصير، وقد قام طول الليل، فكيف من لم يقم؟!.
" فتاوى السبكي " (2/ 560).
(وقال القرطبي – رحمه الله -:
(وادعوه خوفاً وطمعاً) أمر بأن يكون الإنسان في حالة ترقب، وتخوف، وتأميل لله عز وجل، حتى يكون الرجاء والخوف للإنسان كالجناحين للطائر، يحملانه في طريق استقامته، وإن انفرد أحدهما: هلك الإنسان، قال الله تعالى: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) الحِجر/ 49، 50.
" تفسير القرطبي " (7/ 227).
(فصلٌ في منزلة المراقبة:
[*] (عناصر الفصل:
(تعريف المراقبة:
(من روائع القصص في المراقبة:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(تعريف المراقبة:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة المراقبة
قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235] وقال تعالى {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً} [الأحزاب: 52] وقال تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14] وقال تعالى: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] وقال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19] إلى غير ذلك من الآيات وفي حديث جبريل عليه السلام: أنه سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإحسان فقال له: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك،(6/70)
«المراقبة دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه» فاستدامته لهذا العلم واليقين: هي المراقبة وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيبٌ عليه ناظرٌ إليه سامعٌ لقوله وهو مطلعٌ على عمله كل وقت وكل لحظةٍ وكل نفسٍ وكلُ طرفةِ عينٍ، والغافل عن هذا بِمَعْزِلٍ عن حال أهل البدايات فكيف بحال المريدين فكيف بحال العارفين.
(قال الجريري: من لم يحكم بينه وبين الله تعالى التقوى والمراقبة: لم يصل إلى الكشف والمشاهدة.
(وقيل: من راقب الله في خواطره عصمه في حركات جوارحه.
(وقيل لبعضهم: متى يهش الراعي غنمه بعصاه عن مراتع الهلكة فقال: إذا علم أن عليه رقيبا.
(وقال الجنيد: من تحقق في المراقبة خاف على فوات لحظة من ربه لا غير.
علامة المراقبة إيثار ما أنزل الله وتعظيم ما عظم الله وتصغير ما صغر الله.
(وقيل: الرجاء يحرك إلى الطاعة والخوف يبعد عن المعاصي والمراقبة تؤديك إلى طريق الحقائق.
(وقيل: المراقبة مراعاة القلب لملاحظة الحق مع كل خطرة وخطوة.
(وقال الجريري: أمرنا هذا مبني على فصلين: أن تلزم نفسك المراقبة لله وأن يكون العلم على ظاهرك قائما.
(وقال إبراهيم الخواص: المراقبة خلوص السر والعلانية لله عز وجل.
(وقيل: أفضل ما يلزم الإنسان نفسه في هذه الطريق: المحاسبة والمراقبة وسياسة عمله بالعلم.
(وقال أبو حفص لأبي عثمان النيسابوري: إذا جلست للناس فكن واعظا لقلبك ولنفسك ولا يغرنك اجتماعهم عليك «فإنهم يراقبون ظاهرك والله يراقب باطنك»
وأرباب الطريق مجمعون على أن مراقبة الله تعالى في الخواطر: سبب لحفظها في حركات الظواهر فمن راقب الله في سره: حفظه الله في حركاته في سره وعلانيته و المراقبة هي التعبد باسمه الرقيب الحفيظ العليم السميع البصير فمن عقل هذه الأسماء وتعبد بمقتضاها: حصلت له المراقبة والله أعلم.
(ولله درُ من قال:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل ... خلوت ولكن قل على رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ... ولا أن ما يخفى عليه يغيب
(من روائع القصص في المراقبة:
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: خرج ثلاثة يمشون فأصابهم المطر، فدخلوا في غار في جبل، فانحطت عليهم صخرة، قال: فقال بعضهم لبعض: ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه.(6/71)
فقال أحدهم: اللهم إني كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت أخرج فأرعى، ثم أجيء فأحلب فأجيء بالحلاب، فآتي أبواي فيشربان، ثم أسقي الصبية وأهلي وامرأتي، فاحتبست ليلة، فجئت فإذا هما نائمان، قال: فكرهت أن أوقظهما، والصبية يتضاغون عند رجلي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهما، حتى طلع الفجر، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا فرجة نرى منها السماء، قال: ففرج عنهم.
وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أني أحب امرأة من بنات عمي كأشد ما يحب الرجل النساء، فقالت: لا تنال ذلك منها حتى تعطيها مائة دينار، فسعيت حتى جمعتها، فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركتها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا فرجة، قال: ففرج عنهم الثلثين.
وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أني استأجرت أجيرا بفرق من ذرة فأعطيته، وأبى ذلك أن يأخذ، فعمدت إلى ذلك الفرق فزرعته، حتى اشتريت منه بقرا وراعيها، ثم جاء فقال: يا عبد الله أعطيني حقي، فقلت: انطلق إلى تلك البقر وراعيها فإنها لك، فقال: أتستهزئ بي؟ قال: فقلت: ما أستهزئ بك ولكنها لك، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا، فكشف عنهم).
(الشاهد: «اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركتها» وأنه ما فعل ذلك إلا تيقظه لمراقبة الله تعالى وأنه مُطَّلعٌ على ظاهره وباطنه.
[*] (أورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عن وهب بن منبه قال: «قالت امرأة العزيز ليوسف: القيطون، فادخل معي. قال: إن القيطون لا يسترني من ربي»
[*] (وأورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عن محمد بن يحيى قال: سمعت شيخا يكنى أبا عبد الرحمن العتبي يحدث عن أعرابي قال: «خرجت في بعض ليالي الظلام، فإذا أنا بجارية كأنها علم، فأردتها عن نفسها، فقالت: ويلك أما كان لك زاجر من عقل، إذ لم يكن لك ناه من دين؟ فقلت: إنه والله ما يرانا إلا الكواكب. قالت: فأين مكوكبها؟»
[*] (وأورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عن عن زر بن أبي أسماء: «أن رجلا دخل غيضة فقال: لو خلوت هاهنا بمعصية، من كان يراني؟ فسمع صوتا ملأ ما بين لابتي (1) الغيضة (2) (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14]
(1) اللابة: الصحراء تكثر بها الحجارة السوداء
(2) الغيضة: الأجمة وهي الشجر الملتف(6/72)
[*] (وأورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عن إبراهيم بن الجنيد قال: حدثنا شيخ من عبد القيس قال سمعتهم يقولون: «إن رجلا أراد امرأة عن نفسها فقالت له: أنت قد سمعت الحديث وقرأت القرآن وأنت أعلم، فقال لها: فأغلقي أبواب القصر، فأغلقتها، فدنا منها، فقالت: بقي باب لم أغلقه قال: أي باب؟ قالت: الباب الذي بينك وبين الله تبارك وتعالى. قال: فلم يعرض لها»
[*] (وأورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عن الأصمعي قال: «خلا رجل من الأعراب بامرأة، فهم بالدنيئة حتى تمكن منها، ثم تنحى سليما وجعل يقول: إن امرءا باع جنة عرضها كعرض السماء والأرض بقتر ما بين رجليكِ لقليل البصر بالمساحة»
(فصلٌ في منزلة تعظيم حرمات الله عز وجل:
[*] (عناصر الفصل:
(منزلة تعظيم حرمات الله من منازل السائرين:
(كيف يتم تعظيم حرمات الله تعالى:
[*] (من مظاهر تعظيم حرمات الله عز وجل:
(الذي أهلك المسلمون تهاونهم بصغائر الذنوب:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(منزلة تعظيم حرمات الله من منازل السائرين:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة تعظيم حرمات الله عز وجل
قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30]
(قال جماعة من المفسرين: حرمات الله ههنا مغاضبه وما نهى عنه و تعظيمها ترك ملابستها.
(قال الليث: حرمات الله: ما لا يحل انتهاكها.
(وقال قوم: الحرمات: هي الأمر والنهي.
(وقال الزجاج: الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه.
(وقال قوم: الحرمات ههنا المناسك ومشاعر الحج زمانا ومكانا.
(والصواب: أن الحرمات تعم هذا كله وهي جمع حرمة وهي ما يجب احترامه وحفظه: من الحقوق والأشخاص والأزمنة والأماكن فتعظيمها: توفيتها حقها وحفظها من الإضاعة.
{تنبيه}: (إن المتأمل بعين البصيرة في قوله تعالى {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30] يجد معنىً دقيق في قوله «فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ» لأن تعظيم حرمات الله و شرائعه يعود نفعه إلى الفرد نفسه، إذ يحتسبه الله له، فيجازيه خيرا منه، سواء في الدنيا بزيادة البركات، أو في الآخرة بالجنات.(6/73)
ثم قال الله تعالى: (وَأُحِلّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ إِلاّ مَا يُتْلَىَ عَلَيْكُمْ) [الحج: 30]
إن الله احل لنا بهيمة الأنعام إلا النزر اليسير، كالموقوذة و المتردية و النطيحة و ما أكل السبع، و إن الالتزام بما احل الله و بما حرم، هو جوهر التقوى و أهم مصاديقه.
ثم قال الله تعالى: قال تعالى: (فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزّورِ) [الحج: 30]
هذا الشطر من الآية يبين الأبعاد المعنوية للتقوى، فتنقل الإنسان من اجتناب اللحوم المحرمة، إلى اجتناب الرذائل الخلقية التي تضر بكرامة الإنسان، بل تضر المجتمع و تسيء إليه كله.
(كيف يتم تعظيم حرمات الله تعالى:
لا يكون تعظيم حرماته جل جلاله إلا بعد العلم بوجوبها والإقرار بها والقيام بحقوقها ثم إقامة شرعه وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أن رجلا سأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال أرأيت إذا صليت الصلوات المكتوبات وصمت رمضان وأحللت الحلال وحرمت الحرام ولم أزد على ذلك شيئا أأدخل الجنة؟ قال نعم، قال والله لا أزيد على ذلك شيئا.
((حديث النعمان بن بشير الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب.
إذن فإن المؤمن الحق هو الذي يعظم حرمات الله ويستشعر هيبته ويخضع لجلاله، أما الغافلون والعصاة فيتهاونون بالذنوب ويجاهرون بالمعاصي،
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي موقوفاً) قال: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه قال به هكذا فطار.
(قال بلال بن سعد ـ رحمه الله: (لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى عظم من عصيت).(6/74)
{تنبيه}: (إذا كان يتوجب على المسلمين عموماً أن يكونوا حاضرين في كل مشهد تعظم لله فيه حرمة، ويقام فيه لله قومة، ولدينه بنصرة؛ فإن على العلماء والدعاة وقادة الرأي الواجب مضاعفاً أن يقوموا باحتضان هذا التعظيم ورعايته وترشيده، وفتح آفاق جديدة نحو ترشيده، وفقاً لآليات تأخذ في اعتبارها كل جديد لديها أو كل ما يستجد في المقابل من حملات الطعن والانتهاك لهذه الحرمات من أعداء هذا الدين، الذين لا تطرف لهم عين إلا وهم في مسعى دؤوب للنيل من هذا الدين ومقدساته وحرماته، بما يفرض على هؤلاء النخبة دوراً أكثر فاعلية وتطوراً وإبداعاً.
إن الواجب حتم على هؤلاء النخبة أن يلتئم جمعهم خلال الأيام القليلة الماضية لوضع النقاط على حروف الرغبة في تقديم روشتة علاجية تتضمن آليات توضع على الفور موضع التنفيذ للحؤول دون تفاقم المشكلة الناتجة عن تنامي العداء للإسلام، كما يجب تشكيل لجنة لمراقبة ورصد التعديات على مقدسات المسلمين حول العالم، سواء منها ما يحدث خارج ديار الإسلام، وذاك الذي اخترق حجبنا فنالنا من داخل بلداننا الإسلامية من الطابور الخامس، وإلى مناظرة الفكر العدائي للدين لدى الآخرين بمراكز بحثية لدراسات الاستشراق والغرب، وبمفاعيل الإعلام والفكر والمناظرات الحججية، ولجنة أخرى لملاحقة مجرمي العداء للإسلام ومقدساته قضائياً وفقاً للأنظمة الحقوقية، وحمل الحكومات والهيئات والجهات المعنية على تحمل مسؤولياتها في الدفاع عن مقدسات الإسلام، والضغط على المعتدين بسلاح المقاطعة الاقتصادية وغيرها، وتنسيق الجهود من أجل أن يغادر الحديث عن تعظيم حرمات الله حيز الكلام إلى منطقة الفعل التي حذر أكثر من متحدث من ألا تصل إليها.
وقد قدَّم بعض أهل العلم توصيات ذهبية صادرة عن إخلاص وحسن طوية في مجال واجب الأمة في تعظيم حرمات الله تعالى، هذه التوصيات حُقَّ لها أن تُنْقَش على الصدور وأن تُكتبَ بماء الذهب، فارعها سمعك وفكرك وأن تجد لها في سمعك مسمعاً وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بها ويُوَفِقْك إلى تطبيقها، وهاك التوصيات: ((6/75)
أولاً: حق الأمة الإسلامية في الدفاع عن دينها وعقيدتها وشريعتها، بكل السبل المشروعة سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، ويدعو إلى استثمار عاطفة الجماهير وتوجيهها نحو الوسائل الأرشد، ويحث المسئولين على التكاتف مع الشعوب الإسلامية في حماية هويتها، وحرماتها وقيمها من حالات التجاوز والتطاول على الثوابت داخل ديار المسلمين، والتي تعدّ إحدى أسباب زيادة جرأة بعض غير المسلمين على حرمات الأمة ورموزها.
ثانيًا: التعدي على الحرمات نقطة فاصلة في علاقة الأمة بغيرها، يتم التأكيد على أن الاعتداء على الثوابت والشعائر، سواء كان ذلك من الداخل أم من الخارج، يعتبر اعتداءً على جميع الأمة، تجب الحيلولة دونه. كما أن القيام بهذه الواجبات ينبغي أن يكون فرصة للاجتماع والائتلاف على القواسم المشتركة بين الإسلاميين, على اختلاف بلدانهم وتوجهاتهم.
ثالثًا: الاعتداء على الإنسان المسلم اعتداءٌ على جموع الأمة، فحرمة الإنسان في الإسلام هي من أعظم الحرمات، ولهذا فإن الاعتداء على أرواح وأعراض وأموال المسلمين, هو انتهاك لحرمات الشريعة وحدودها، ((والمسلمون يسعى بذمتهم أدناهم))؛ لذا يطالبون لأجل ذلك بالكفّ عن الاستهانة بالدم المسلم من المعتدين ومن يساندونهم.
رابعًا: التحرك العملي البنّاء لحماية حرمات الأمة مع التأكيد على رفض كل أنواع الاعتداء تجاه عقيدة المسلمين وشريعتهم، فإنه يوصى بتحويل ذلك الرفض النظري إلى تحرك عملي جاد ومستمر على المستويات الرسمية والشعبية؛ لإظهار أن الأمة الإسلامية لا تقبل المساس بمقدساتها وحرماتها.
خامسًا: أهمية تضافر الجهود الإعلامية والفكرية والثقافية للتأكيد على مكانة الأنبياء فقد تفشت ظاهرة انتشار الاستهزاء بأنبياء الله ـ صلوات الله عليهم ـ في وسائل الإعلام الغربية تحديدًا، ومن خلال العديد من المواقع الإلكترونية الغربية، ومن خلال الكثير من الأعمال الفكرية والفنية والثقافية في الحياة الغربية المعاصرة. وصاحَب ذلك تزايد نفس الظاهرة في بعض المنتديات الفكرية العربية، ومن خلال عدد من وسائل الإعلام العربية أيضًا. لذا يوصى أن تتضافر الجهود من أجل الحفاظ على منزلة ومكانة الأنبياء، ولسن الأنظمة الدولية التي ترعى حرمتهم، وتصونها من العبث الفكري والإعلامي والثقافي، وأن تكون الأمة الإسلامية في طليعة المطالبين بذلك.(6/76)
سادسًا: إنشاء ودعم مراكز الدراسات المتخصصة في دراسات الاستشراق والغربن فإن الأمة الإسلامية تعاني من ندرة المراكز الفكرية المتخصصة في التعرف على الفكر الغربي، والقادرة على التصدي للمواقف الفكرية والإعلامية والثقافية الغربية، التي تنال من حرمات الأمة، أو تعتدي على شعائرها ورموزها. لذا, يوصى أن تعنى الأمة في المرحلة القادمة بإنشاء العديد من المراكز الفكرية والإعلامية المتخصصة في فهم الغرب، وفي توجيه دفعة التعامل مع الفكر الغربي، ومع المواقف الإعلامية الغربية التي تؤثر على الأمة الإسلامية سلبًا أو إيجابًا. كما يرى المؤتمر أهمية إيجاد فريق عمل فكري يوصف أفراده بالعلم الشرعي والاطلاع الفكري على الغرب وامتداداته في بلاد المسلمين؛ لإدارة هذه المواجهة الفكرية بكفاءة.
سابعًا: إصدار دراسات متخصصة في استراتيجيات الأمة في تحجيم الإساءات الموجهة ضد دينها وحرماتها: إن قسمًا كبيرًا من أسباب قلة تأثير مواقفنا المعارضة لتلك التصرفات المعادية، يعود إلى نوع من القصور يشوب فهم دوافع المعتدين والمتجرئين على ديننا وثوابتنا، وهو ما يؤدي إلى بعض التضارب والتناقض في المواقف. لذا يوصى بالمزيد من التعمق في دراسة تلك الظاهرة ودوافعها وأبعادها، على أن تتحول فيما بعد إلى دراسات شاملة تكشف جوانب الموضوع، وتطرح استراتيجيات التعامل معه.
ثامنًا: أهمية تفاعل الحكومات والمؤسسات الرسمية مع بقية الأمة، فيجب على الحكومات العربية والإسلامية، والهيئات والفعاليات السياسية والدبلوماسية، اتخاذ مواقف أصح وأصرح، للتعبير عن دين الأمة وهويتها، إذ لا يعقل أن تكون كثير من ردود الأفعال الرسمية تجاه التدخل في تفاصيل الشئون الداخلية، أهم وأكبر من اقتحام واستباحة حرمات الأمة كلها من أطراف خارجية أو داخلية.
تاسعًا: ضرورة تأكيد مناهج الدراسة في العالم الإسلامي على تعظيم الحرمات، واحترام الأنبياء، والاقتداء بالصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ. ويتم ذلك بدعوة إلى وزارات التربية والتعليم في العالم الإسلامي، وإلى القائمين على مسيرة تطوير مناهج التعليم في الأمة الإسلامية للتأكيد على تعظيم الشعائر والأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، والصحابة ـ رضي الله تعالى ـ عنهم من خلال البرامج التعليمية التي تربي الأجيال الناشئة من الأمة على تعظيم حرمات الإسلام.(6/77)
عاشرًا: دعوة وسائل الإعلام في الدول العربية والإسلامية إلى تعظيم حرمات الإسلام والمسلمين، وعدم استفزاز عموم الأمة بالتطاول على الثوابت مع الإنكار التام على بعض وسائل الإعلام في الدول العربية والإسلامية، انسياقها مع الحملات المغرضة في التهجم على حرمات الإسلام وشعائره ورموزه، ويوصى بالمواجهة الرسمية والشعبية الحاسمة لهذه الحملات، ومنع استمرارها بالطرق الشرعية الممكنة. كما يوصى القائمين على وسائل الإعلام العربي والإسلامي, أن يكونوا درعًا للأمة في صد الحملات الخارجية، وأن لا يتحول البعض منهم إلى سلاح ضد الأمة بدلاً من أن يكون سلاحًا لها.
الحادي عشر: إنشاء لجنة إسلامية قانونية للدفاع عن الحرمات الإسلامية، ويتم ذلك بتكوين لجنة قانونية متخصصة تسعى إلى ضمان عدم التعدي على الحرمات الإسلامية، وتجريم الإساءة إلى ثوابت الدين، والملاحقة القضائية والقانونية للمتجاوزين من غير المسلمين أو من المنتسبين إلى الإسلام، وتحميلهم المسئولية الشرعية، والتنسيق مع اللجان الأهلية والحكومية العاملة في المجال نفسه؛ من أجل توحيد الجهود وتعزيزها. وقد بادر بعض القانونيين في كلية الحقوق في الكويت بتقديم مشروع متكامل في هذا الصدد.
الثاني عشر: التركيز على الجهود الدعوية الرامية إلى تعريف الغربيين بالإسلام مع التأكيد على أهمية الجهود الدعوية في الدفاع عن حرمات الأمة عن طريق تعريف الغربيين بالإسلام من خلال البرامج الإعلامية والفكرية الموجهة، والقنوات الفضائية المتخصصة في مخاطبة الغرب، والتركيز على مخاطبتهم بالأساليب الدعوية المناسبة للشخصية الغربية.
الثالث عشر: أهمية دور الجاليات الإسلامية في الغربوالحرص التام على الاستفادة من الجاليات المسلمة في الغرب، كخط دفاع أول في مواجهة ظاهرة التطاول.
[*] (من مظاهر تعظيم حرمات الله عز وجل:
(من تعظيم حرمات الله عز وجل توحيده وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له وطاعته في السر والعلن والسراء والضراء واليقين بأنه لا إله إلا الله.(6/78)
(ومن تعظيم حرمات الله تعالى: تعظيم نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وطاعته فيما أمر والانتهاء عما نهى عنه وزجر، وتقديم أمره ونهيه على أي كان وتصديقه فيما أخبر، والرضا بدينه وإتباع سنته، وقد أيده الله عز وجل بالمعجزات وخصه بالقرآن العظيم الذي هو حجة الله البالغة والمعجزة العظمى. وإن تعظيم كتاب الله وكلام الله تعالى ليس بتزيينه وطباعته و تعليقه فحسب أو بجعله افتتاحًا للمناسبات أو بقراءته على الأموات، بل بإقامة حدوده، والاحتكام إليه، والعمل به، وتعظيم شأنه، والسير على منهجه 0
(ومن تعظيم حرمات الله تعالى تعظيم حرمة المؤمن، واحترام حقوقه، وعدم النيل من كرامته والتعدي عليه، وتعظيم المقدسات الإسلامية، وتعظيم الشعائر الدينية، كتعظيم المسجد الحرام و مسجد رسول الله; - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والأدب مع صاحبه وعدم رفع الصوت عنده، وتعظيم المسجد الأقصى ونصرته ولو بالدعاء، روي عن صلاح الدين الأيوبي رحمه الله ,أنه كان في مجلس ودارت بعض الأحاديث وضحك القوم وهو لا يضحك، فقالوا له: مالك لا تضحك فقال: إني أستحي من الله أن يراني ضاحكًا والمسجد الأقصى بأيدي الصليبيين، كذلك يجب تعظيم بيوت الله كافة والسعي في عمارتها، بذكر الله والمحافظة على أداء صلاة الجماعة فيها.
(ومن تعظيم حرمات الله تعالى: تعظيم حُرمات المُسلمين وبيان حقوقهم والشفقة عليهم ورحمتهم:
(قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى:
قال الله تعالى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) (الحج:30)
وقال تعالى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج:32)، (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الحجر:88)،
وقال تعالى: (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) (المائدة:32).
المسلم له حق على أخيه المسلم، بل له حقوق متعددة، بيَّنها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مواضع كثيرة: منها ما يلي:
منها: إذا لقيه فليسلم عليه، يلقي عليه السلام، يقول: السلام عليكم، ولا يحل له أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام.(6/79)
ولكن لك أن تهجره لمدة ثلاثة أيام، إذا رأيت في هذا مصلحة، ولك أن تهجره أكثر إذا رأيته على معصية أصرّ عليها ولم يتب منها، فرأيت أن هجره يحمله على التوبة، ولهذا كان القول الصحيح في الهجر أنهم رخصوا فيه خلال ثلاثة أيام، وما زاد على ذلك فينظر فيه للمصلحة؛ إن كان فيه خيرٌ فليفعل، وإلا فلا، حتى لو جاهر بالمعصية، فإذا لم يكن في هجره مصلحة فلا تهجره.
و قوله تعالى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) (الحج: 30)، ومن يعظم حرماته: أي ما جعله محترماً من الأماكن أو الأزمان أو الأشخاص، فالذي يعظم حرمات الله فهو خيرٌ له عند ربه، ومن كان يكره أو يشق عليه تعظيم هذا المكان كالحرمين مثلاً والمساجد، أو الزمان كالأشهر الحرم " ذي القعدة وذي الحجة والمحرم ورجب" وما أشبه ذلك، فليحمل على نفسه وليكرهها على التعظيم.
ومن ذلك تعظيم إخوانه المسلمين، وتنزيلهم منزلتهم، فإن المسلم لا يحل له أن يحقر أخاه المسلم، قال النبي عليه الصلاة والسلام: " بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" [352].
" بحسب" الباء هنا زائدة والمعنى: حسبه من الشر أن يحقر أخاه المسلم بقلبه، أو أن يعتدي فيوق ذلك بلسانه أو بيده على أخيه المسلم، فإن ذلك حسبه من الإثم والعياذ بالله،
وكذلك أيضاً تعظيم ما حرمه الله عزّ وجلّ في المعاهدات التي تكون بين المسلمين وبين الكفار، فإنه لا يحل لأحد أن ينقض عهداً بينه وبين غيره من الكفار.
ولكن المعاهدون ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الذين أتموا عهدهم فهؤلاء نتمم عهدهم
القسم الثاني: الذين خانوا أو نقضوا،
قال الله تعالى: (فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:7)، فهؤلاء ينتقض عهدهم كما فعلت قريش في الصلح الذي جرى بينها وبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديبية، فإنهم وضعوا الحرب بينهم عشر سنين، ولكن قريشاً نقضوا العهد، فهؤلاء ينتقض عهدهم، ولا يكون بيننا وبينهم عهد، وهؤلاء قال الله فيهم: (أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةَ) (التوبة:13).(6/80)
والقسم الثالث: من لم ينقض العهد لكن نخاف منه أن ينتقض العهد، فهؤلاء نبلغهم بأن لا عهد بيننا وبينهم، كما قال تعالى: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (لأنفال:58).
فهذه من حرمات الله عزّ وجلّ، وكل الله من زمان أو مكان أو إيمان فهو من حرمات الله عز وجل فإن الواجب على المسلم أن يحترمه، ولهذا قال الله تعالى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّه) (الحج: 30)، وقال: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج:32).
الشعائر: العبادات الظاهرة سواء كانت كبيرة أم صغيرة؛ مثل الطواف بالبيت، والسعى بين الصفا والمروة، والأذان والإقامة، وغيرها من شعائر الإسلام فإنها إذا عظمها الإنسان كان ذلك دليلاً على تقواه، فإن التقوى هي التي تحمل العبد على تعظيم الشعائر. أما ألاية الثالثة فهي قوله تعالي: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الحجر: 88) وفي الاية الأخروي:) لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الشعراء: 215)، والمعني تذلل لهم لهم في المقال والفعال؛ لأن الؤمن مع أخيه رحيم به، شفيق به، كما قال تعالي في وصف النبي صلي الله عليه وسلم ومن معه:) أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (الفتح: 29). وفي قوله تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الحجر: 88)، دليلٌ على أن الإنسان مأمور بالتواضع لإخوانه وإن كان رفيع المنزلة، كما يرتفع الطير بجناحه، فإنه وإن كان رفيع المنزلة فليخفض جناحه وليتذلل وليتواضع لإخوانه. وليعلم أن من تواضع لله رفعه الله عزّ وجلّ، والإنسان ربما يقول لو تواضعت للفقير وكلمت الفقير، أو تواضعت للصغير وكلمته أو ما أشبه ذلك، فربما يكون في هذا وضع لي، وتنزيل من رتبتي، ولكن هذا من وساوس الشيطان، فالشيطان يدخل على الإنسان في كل شيء، قال تعالى عنه: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (لأعراف:16 - 17).(6/81)
فالشيطان يأتي الإنسان ويقول له: كيف تتواضع لهذا الفقير؟ كيف تتواضع لهذا الصغير؟ كيف تكلم فلاناً؟ كيف تمشي مع فلان؟ ولكن من تواضع لله رفعه الله عزّ وجلّ، حتى وإن كان عالماً أو كبيراً أو غنياً، فإنه ينبغي أن يتواضع لمن كان مؤمناً، أما من كان كافراً فإن الإنسان لا يجوز له أن يخفض جناحه له، لكن يجب عليه أن يخضع للحق بدعوته إلى الدين، ولا يستنكف عنه ويستكبر فلا يدعوه، بل يدعوه ولكن بعزة وكرامة، ودون إهانة له، فهذا معنى قوله: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الحجر:88).
وفي الآية الثانية: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الشعراء:215)، فهذه وظيفة المسلم مع إخوانه، أن يكون هيناً ليناً بالقول وبالفعل؛ لأن هذا مما يوجب المودة والألفة بين الناس، وهذه الألفة والمودة أمرٌ مطلوب للشرع، ولهذا نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن كل ما يوجب العداوة والبغضاء، مثل البيع على بيع المسلم, والسوم على سوم المسلم، وغير ذلك مما هو معروف لكثير من الناس،
(الذي أهلك المسلمون تهاونهم بصغائر الذنوب:
الذي أهلك المسلمون أنهم تركوا الكبائر، ووقعوا في الصغائر، هذا ذنبٌ تافه لا قيمة له، أنا لست نبياً، أنا لست صحابياً، صام، وصلى، ولم يرتكب كبيرةً، لم يزن، ولم يسرق، ولم يشرب الخمر، أما الغيبة، والنميمة، والنظر، والشبهات في كسب المال، والشبهات في إنفاق المال، هذا كله تساهل به، فإذا هو بعيدٌ عن الله عزَّ وجل بعداً كبيرا، فإذا الإسلام عنده ثقافة، أو حركاتٌ وطقوس، في بالإسلام جانب فكري، وفي جانب شعائري، الجانب الفكري لا يكفي، لأنه شرطٌ لازمٌ غير كافٍ، والجانب الشعائري لا يكفي حركاتٌ وسكنات لا معنى لها، ولكن الإسلام اتصالٌ بالله، والمشكلة أن الاتصال بالله لا ينعقد إلا إذا كان هناك استقامة على أمر الله.
وتناسى أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((إياكم ومحقرات الذنوب ... )).
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يا عائشة! إياك ومحقرات الذنوب؛ فإن لها من الله طالبا.(6/82)
(حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إياكم و محقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود و جاء ذا بعود حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم و إن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إياكم ومحقرات الذنوب) أي صغائرها لأن صغارها أسباب تؤدي إلى ارتكاب كبارها كما أن صغار الطاعات أسباب مؤدّية إلى تحري كبارها قال الغزالي: صغائر المعاصي يجر بعضها إلى بعض حتى تفوت أهل السعادة بهدم أصل الإيمان عند الخاتمة اهـ. وإن اللّه يعذب من شاء على الصغير ويغفر لمن شاء الكبير ثم إنه ضرب لذلك مثلاً زيادة في التوضيح فقال:
(فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه) يعني أن الصغائر إذا اجتمعت ولم تكفر أهلكت ولم يذكر الكبائر لندرة وقوعها من الصدر الأول وشدة تحرزهم عنها فأنذرهم مما قد لا يكترثون به وقال الغزالي: تصير الصغيرة [ص 128] كبيرة بأسباب منها الاستصغار والإصرار فإن الذنب كلما استعظمه العبد صغر عند اللّه وكلما استصغره عظم عند اللّه لأن استعظامه يصدر عن نفور القلب منه وكراهته له وذلك النفور يمنع من شدة تأثيره به واستصغاره يصدر عن الألفة به وذلك يوجب شدة الأثر في القلب المطلوب تنويره بالطاعة والمحذور تسويده بالخطيئة وقال الحكيم: إذا استخف بالمحقرات دخل التخلط في إيمانه وذهب الوقار وانتقص من كل شيء بمنزلة الشمس ينكسف طرف منها فبقدر ما انكسف ولو كرأس إبرة ينقص من شعاعها وإشراقها على أهل الدنيا وخلص النقصان إلى كل شيء في الأرض فكذا نور المعرفة ينقص بالذنب على قدره فيصير قلبه محجوباً عن اللّه فزوال الدنيا بكليتها أهون من ذلك فلا يزال ينقص ويتراكم نقصانه وهو أبله لا ينتبه لذلك حتى يستوجب الحرمان.(6/83)
هذا عن محقرات الذنوب، ناهيك عن ما يرتكبه البعض من كبائر وموبقات من ربا وزنا ورشوة وعقوق ونحو ذلك .. وإن المرء ليعجب والله أشد العجب! ألم يمل أولئك هذه الحياة؟ ألم يسألوا أنفسهم؟ ثم ماذا في النهاية؟ ماذا بعد كل هذه الشهوات والملذات؟ ماذا بعد هذا اللهو والعبث؟ ماذا بعد هذه الحياة التافهة المملوءة بالمعاصي والمخالفات؟ هل غفل أولئك عما وراء ذلك .. هل غفلوا عن الموت والحساب والقبر والصراط، والنار والعذاب، أهوال وأهوال وأمور تشيب منها مفارق الولدان، ذهبت اللذات وبقيت التبعات، وانقضت الشهوات وأورثت الحسرات، متاع قليل ثم عذاب أليم وصراخ وعويل في دركات الجحيم، فهل من عاقل يعتبر ويتدبر ويعمل لما خلق له ويستعد لما أمامه، أما اعتبرت بمن رحل أما وعظتك العبر أما كان لك سمعٌ ولا بصر.
تا الله لو عاش الفتى في عمره ... ألفاً من الأعوام مالك أمره
متلذذاً فيها بكل نعيم ... متنعماً فيها بنعمى عصره
ما كان ذلك كله في أن يفي ... بمبيت أول ليلة في قبره
إن مثل هؤلاء المساكين الغافلين السادرين في غيّهم قد أغلقت الحضارات الحديثة أعينهم وألهتهم الحياة الدنيا عن حقائقهم ومآلهم، ولكنهم سوف يندمون أشد الندم إذا استمروا في غيهم ولهوهم وعنادهم ولم يفيقوا من غفلتهم وسباتهم ويتوبوا إلى ربهم. يقول تعالى عن مثل هؤلاء: ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:3].
أي دعهم يعيشوا كالأنعام ولا يهتمون إلا بالطعام والشراب واللباس والشهوات!؟. ألم يأن لكل مسلم أن يعلم حقيقة الحياة والغاية التي من أجلها خلق؟
أما والله لو علم الأنام ... لما خلقوا لما غفلوا وناموا
لقد خلقوا لما لو أبصرته ... عيون قلوبهم تاهوا وهاموا
ممات ثم قبر ثم حشر ... وتوبيخ وأهوال عظام
(فصلٌ في منزلة الإخلاص:
[*] (عناصر الفصل:
(تعريف الإخلاص:
(الفرق بين الإخلاص و الصدق:
(الفرق بين الرياء والسمعة وإرادة العبد بعمله الدنيا:
(فضائل الإخلاص:
(المجاهدة في إخفاء العمل:
(ماذا قال بعض العلماء في الإخلاص .. ؟
(فضل إحضار النية في الطاعات:
(فضل إخلاص النيّة:
(خطورة ترك العمل خوف الرياء:
(هناك أشياء تظن من الرياء وليست منه:
(علامات الإخلاص:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(تعريف الإخلاص:
مسألة: ما هو الإخلاص لغةً وشرعا؟(6/84)
الإخلاص لغةً: خلص خلوصاً خلاصاً، أي صفى وزال عنه شوبه، وخلص الشيء صار خالصاً وخلصت إلى الشيء وصلت إليه، وخلاص السمن ما خلص منه. فكلمة الإخلاص تدل على الصفاء والنقاء والتنزه من الأخلاط والأوشاب. والشيء الخالص هو الصافي الذي ليس فيه شائبة مادية أو معنوية. وأخلص الدين لله قصد وجهه وترك الرياء. وقال الفيروز أبادي: أخلص لله ترك الرياء، وكلمة الإخلاص كلمة التوحيد، والمخلصون هم الموحدون والمختارون.
والإخلاص شرعا: هو أن تبتغي بعملك وجه الله تعالى، فإن قصدت بعملك غيره تعالى لم يقبله فهو سبحان أغني الشركاء عن الشرك، فهو تجريد قصد التقرب إلى الله عز وجل عن جميع الشوائب.
(الإخلاص هو أهم أعمال القلوب وأعلاها وأساسها، هو حقيقة الدين ومفتاح دعوة الرسل عليهم السلام قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء} (البينة: من الآية 5).
و قال تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3]
(والإخلاص هو لب العبادة وروحها.
[*] قال ابن حزم: النية سر العبودية وهي من الأعمال بمنزلة الروح من الجسد، ومحال أن يكون في العبودية عمل لا روح فيه، فهو جسد خراب.
(والإخلاص شرط لقبول العمل الصالح الموافق لسنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد أمرنا الله عز وجل به فقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء} (البينة: من الآية 5).
وإليك الأدلة من السنة الصحيحة على ذلك:
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى: " أنا أغني الشركاء عن الشرك، ومن عمل عملاً أشرك معي فيه غيري، تركته وشِركَه ".
(حديث جندب بن عبد الله في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من سمَّع سمَّع الله به ومن يرائي يرائي ... الله به.
) حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة.
(حديث جابر في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا تماروا به السفهاء و لا لتخيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار.(6/85)
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار.
(حديث أبي أمامة في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وجهه.
(حديث أبي سعيد في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ ". قالوا: بلي. قال: " الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته، لما يري من نظر رجل.
{تنبيه}: (قوله: [أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال] وإنما كان كذلك، لأن التخلص منه صعب جداً، ولذلك قال بعض السلف: " ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص "، وقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه "
(الفرق بين الإخلاص و الصدق:
مسألة: ما الفرق بين الإخلاص و الصدق؟
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
وقد تنوعت عبارتهم في الإخلاص و الصدق والقصد واحد.
فقيل: «هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة»
وقيل: «تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين»
وقيل: «التوقي من ملاحظة الخلق حتى عن نفسك»
«و الصدق التنقي من مطالعة النفس»
«فالمخلص لا رياء له» «والصادق لا إعجاب له»
«ولا يتم الإخلاص إلا بالصدق ولا الصدق إلا بالإخلاص» ولا يتمان إلا بالصبر
وقيل: «من شهد في إخلاصه الإخلاص احتاج إخلاصه إلى إخلاص»
فنقصان كل مخلص في إخلاصه: بقدر رؤية إخلاصه فإذا سقط عن نفسه رؤية الإخلاص صار مخلصا مخلصا.(6/86)
(الفرق بين الرياء والسمعة وإرادة العبد بعمله الدنيا:
مسألة: ما الفرق بين الرياء والسمعة وإرادة العبد بعمله الدنيا؟
((الرياء والسمعة) مقصودهما أن يحمد العبد في العبادة، أما إرادة العبد بعمله الدنيا فإنه يريد أمراً مادياً محضاً كمن أذن ليأخذ راتب المؤذن، أو حج ليأخذ المال.
2 - أن يريد المرتبة، كمن تعلم في كلية وأخذ شهادة الدكتوراة لأجل الشهادة والمنزلة فقط وليس للتقرب إلى الله تعالى.
قال تعالى: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ، أُوْلََئِكَ الّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الاَخِرَةِ إِلاّ النّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [سورة: هود - الآيتان:15،16]
قوله تعالى: (من كان يريد الحياة الدنيا). أي: البقاء في الدنيا.
قوله: (وزينتها). أي المال، والبنين، والنساء، والحرث، والأنعام، والخيل المسومة، كما قال الله تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا} [آل عمران: 14].
قوله: (نوف إليهم). فعل مضارع معتل الآخر مجزوم بحذف حرف العلة الياء، لأنه جواب الشرط.
والمعني: أنهم يعطون ما يريدون في الدنيا، ومن ذلك الكفار لا يسعون إلا للدنيا وزينتها، فعجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، كما قال تعالى: {ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمعتم بها} [الأحقاف: 20].
ولهذا لما بكي عمر حين رأي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أثر في جنبه الفراش، فقال: " ما يبكيك؟ ". قال يا رسول الله! كسري وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من نعيم وأنت على هذا الحال. فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم " (1) وفي الحقيقة هي ضرر عليهم، لأنهم إذا انتقلوا من دار النعيم إلى الجحيم، صار عليهم أشد وأعظم في فقد ما متعوا به في الدنيا.
قوله: (وهم فيها إلا يبخسون). البخس: النقص، أي: لا ينقصون مما يجازون فيه، لأن الله عدل لا يظلم، فيعطعون ما أرادوه.
قوله: (أولئك). المشار إليه يريدون الحياة الدنيا وزينتها.(6/87)
قوله: (ليس لهم في الآخرة إلا النار). فيه حصر وطريقة النفي والإثبات، وهذا يعني أنهم لن يدخلوا الجنة، لأن الذي ليس له إلا النار محروم من الجنة والعياذ بالله.
قوله (وحبط ما صنعوا فيها). الحبوط: الزوال، أي: زال عنهم ما صنعوا في الدنيا.
قوله: (وباطل ما كانوا يعملون). (باطل): خبر مقدم لأجل مراعاة الفواصل في الآيات والمبتدأ " ما " في قوله: (ما كانوا يعملون)، فأثبت الله أنه ليس لهؤلاء إلا النار، وأن ما صنعوا في الدنيا قد حبط، وأن أعمالهم باطلة.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: تعس عبد الدينار، و عبد الدرهم، و عبد الخميصة، إن أُعطِيَ رضي، وإن لم يُعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعثٌ رأسُه، مغبَّرةٌ قدماه، إن كان في الحراسة، كان في الحراسة، وإن كان في الساقة، كان في الساقة، إن استأذن، لم يؤذن له، وإن شفع، لم يشفع "
قوله: " تَعِس ". بفتح العين أو كسرها، أي: خاب وهلك.
قوله: " عبد الدينار" الدينار: هو النقد من الذهب، وسماه عبد الدينار، لأنه تعلق به تعلق العبد بالرب فكان أكبر همه، وقدمه على طاعة ربه، ويقال في عبد الدرهم ما قيل في عبد الدينار، والدرهم هو النقد من الفضة.
قوله: " [و عبد الخميصة]، وهذا من يعنى بمظهره، لأن الخميصة كساء جميل، ليس له هم إلا هذا الأمر، فإذا كان عابداً لهذه الأمور لأنه صرف لها جهوده وهمته، فكيف بمن أراد بالعمل الصالح شيئاً من الدنيا فجعل الدين وسيلة للدنيا؟! فهذا أعظم.
قوله: " إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط ". يحتمل أن يكون المعطي هو الله فيكون الإعطاء قدرياً، أي: إن قدر الله له الرزق والعطاء رضي وانشرح صدره، وإن منع وحرم المال سخط بقلبه وقوله، كأن يقول: لماذا كنت فقيراً وهذا غنياً؟ وما أشبه ذلك، فيكون ساخطاً على قضاء الله وقدرة لأن الله منعه.
والله سبحانه وتعالى يعطي ويمنع لحكمةٍ بالغةً قضاها يستوجب الحمد على اقتضاها، ويعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين لمن يحب.
والواجب على المؤمن أن يرضي بقضاء الله وقدره، إن أعطي شكر، وإن منع صبر.(6/88)
ويحتمل أن يراد بالإعطاء هنا الإعطاء الشرعي، أي: إن أعطي من مال يستحقه من الأموال الشرعية رضي، وإن لم يعط سخط، وكلا المعنيين حق، وهما يدلان على أن هذا الرجل لا يرضي إلا للمال ولا يسخط إلا له، ولهذا سمّاه الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبداً له.
قوله:" تعس وانتكس ". تعس، أي: خاب وهلك، وانتكس، أي: أنتكست عليه الأمور بحيث لا تتيسر له، فكلما أراد شيئاً انقلبت عليه الأمور خلاف ما يريد، ولهذا قال:
وإذا شيك فلا انتقش" أي: إذا أصابته شوكة، فلا يستطيع أن يزيل ما يؤذيه عن نفسه.
وهذه الجمل الثلاث يحتمل خبراً منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن حال هذا الرجل، وأنه في تعاسة وانتكاس وعدم خلاص من الأذى، ويحتمل أن يكون من باب الدعاء على من هذه حاله، لأنه لا يهتم إلا للدنيا، فدعا عليه أن يهلك، وأن لا يصيب من الدنيا شيئاً، وأن لا يتمكن من إزالة ما يؤذيه، وقد يصل إلى الشرك عندما يصده ذلك عن طاعة الله حتى أصبح لا يرضي إلا للمال ولا يسخط إلا له.
قوله: " طوبي لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله ". هذا عكس الأول، فهو لا يهتم للدنيا، وإنما يهتم للآخرة، فهو في استعداد دائم للجهاد في سبيل الله.
و" طوبى " فُعْلى من الطيب، وهي اسم تفضيل، فأطيب للمذكر وطوبي للمؤنث، والمعني: أطيب حال تكون لهذا الرجل، وقيل إن طوبي شجرة في الجنة، والأول، أعم،
وقوله: " آخذ بعنان فرسه ". أي ممسك بمقود فرسه الذي يقاتل عليه.
قوله: " في سبيل الله ". ضابطه أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا لا للحمية أو الوطنية أو ما أشبه ذلك، لكن إن قاتل وطنية وقصد حماية وطنه لكونه بلداً إسلامياً يجب الذود عنه، فهو في سبيل الله، وكذلك من قاتل دفاعاً عن نفسه أو ماله أو أهله؛ فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " من قتل دون ذلك، فهو شهيد "، فأما من قاتل للوطنية المحضة، فليس في سبيل الله لأن هذا قتال عصبية يستوي فيه المؤمن والكافر، فإن الكافر يقاتل من أجل وطنه.
قوله: [أشعثٌ رأسه، مغبَّرة قدماه] أي: رأسه أشعث من الغبار في سبيل الله، فهو لا يهتم بحاله ولا بدنه مادام هذا الآمر ناتجاً عن طاعة الله عز وجل وقدماه مغبرة في السير في سبيل الله، وهذا دليل على أن أهم شيء عنده هو الجهاد في سبيل الله، أما أن يكون شعره أو ثوبه أو فراشه نظيفاً، فليس له هم فيه.(6/89)
قوله: [إن كان في الحراسة، فهو في الحراسة، وإن كان في الساقة، كان في الساقة] المعنى أنه يُنكر ذاته فالأمر يستوي عنده سواء كان في المنزلة العليا كمرتبة الحراسة التي تكون في مقدمة الجيش أو في المنزلة الدنيا كالسقي ال ... ي يكون في مؤخرة الجيش فهو لا يحرص على مكانة دنيوية حتى إنه إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع.
قوله:" إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع ". أي: هو عند الناس ليس له جاه ولا شرف، حتى إنه إن استأذن لم يؤذن له، وهكذا عند أهل السلطة ليس له مرتبه، فإن شفع لم يُشَفّع، ولكنه وجيه عند الله وله المنزلة العالية، لأنه يقاتل في سبيله.
والشفاعة: هي التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة.
والاستئذان: طلب الإذن بالشيء.
{تنبيه}: (ولا يتخلص العبد من الشيطان إلا بالإخلاص لقول الله عز وجل:
{إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (ص: الآية 83). وروى أن أحد الصالحين كان يقول لنفسه: " يانفس أخلصى تتخلصى ".
وكل حظ من حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس، ويميل إليه القلب، قلّ أم كثر، إذا تطرق إلى العمل، تكدربه صفوه، وزال به إخلاصه، والإنسان مرتبط فى حظوظه، منغمس فى شهواته، قلما ينفك فعلٌ من أفعاله، وعبادةٌ من عباداته عن حظوظ وأغراض عاجلة من هذه الأجناس، فلذلك قيل: " من سلم له من عمره لحظةٌ واحدةٌ خالصةٌ لوجه الله نجا "، وذلك لعزة الإخلاص، وعُسْرِ تنقية القلب عن الشوائب، فالإخلاص: تنقية القلب من الشوائب كلها، قليلها وكثيرها، حتى يتجرد فيه قصدُ التقرب فلا يكون فيه باعثُ سواه، وهذا لا يتصور إلا من محب لله مستغرق الهم بالآخرة، بحيث لم يبق لحب الدنيا من قلبه قرارٌ، فمثل هذا لو أكل، أو شرب، أو قضى حاجته، كان خالص العمل، صحيح النية، ومن ليس كذلك فبابُ الإخلاص مسدودٌ عليه إلا على الندور.
وكما أن مَنْ غلب عليه حب الله، وحب الآخرة، فاكتسبت حركاتهُ الاعتيادية صفة همه، وصارت إخلاصاً، فالذى يغلب على نفسه الدنيا والعلو والرياسة، وبالجملة غير الله، اكتسبت جميع حركاته تلك الصفة، فلا تسلم له عبادةٌ من صومٍ، وصلاة وغير ذلك إلا نادراً.
فعلاج الإخلاص كسرُ حظوظ النفس، وقطعُ الطمع عن الدنيا، والتجرد للآخرة، بحيث يغلب ذلك على القلب، فإذ ذاك يتيسر به الإخلاص، وكم من أعمل يتعب الإنسان فيها، ويظن أنها خالصةٌ لوجه الله، ويكون فيها من المغرورين، لأنه لم يَرَ وجهَ الآفة ِ.(6/90)
كما حُكى عن بعضهم: أنه كان يصلى دائماً فى الصف الأول، فتأخر يوماً عن الصلاة فصلى فى الصف الثانى، فاعترتْه خجلةٌ من الناس حيث رأوْه فى الصف الثانى، فَعَلم أن مسرته وراحة قلبه منِ الصلاة فى الصف الأول كانت بسبب نظر الناس إليه، وهذا دقيقٌ غامضٌ قَلّما تسلم الأعمال من أمثاله، وقلّ من ينتبه له إلا من وفقه الله تعالى، والغافلون عنه يَرَوْنَ حسناتهم يوم القيامة سيئات، وهم المقصودون بقوله تعالى: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} (الزمر: من الآيتين 47،48).
وبقوله عز وجل: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (الكهف: الآية 103 - 104).
(فضائل الإخلاص:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الإخلاص
قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]
و قال تعالى: (إِنّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ فَاعْبُدِ اللّهَ مُخْلِصاً لّهُ الدّينِ * أَلاَ لِلّهِ الدّينُ الْخَالِصُ) [الزمر/2، 3]
وقال لنبيه: قال تعالى: (قُلِ اللّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لّهُ دِينِي * فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مّن دُونِهِ) [الزمر 14، 15]
و قال تعالى: (قُلْ إِنّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام 162، 163]
وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2]
(قال الفضيل بن عياض: هو أخلصه وأصوبه قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه فقال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا: لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص: أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة ثم قرأ قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف: 110](6/91)
وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 125] «فإسلام الوجه إخلاص القصد والعمل لله والإحسان فيه: متابعة رسوله وسنته» وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان: 23] وهي الأعمال التي كانت على غير السنة أو أريد بها غير وجه الله. أهـ.
وللإخلاص أهمية قصوى فهو منتهى أمل العبد وأقصى غايته للأسباب الآتية:
(1) النجاة تكون بسببه في الآخرة لأن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وجهه.
(حديث أبي أمامة في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وجهه.
(2) اجتماع القلب في الدنيا وزوال الهم لا يكون إلا به:
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همّه جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له.
[من كانت الآخرة همّه]: يعني: أي شغله الشاغل، يعمل لها ويرغب فيها عن الآخرة، كان جزائه ما يلي:
جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة:
[ومن كانت الدنيا همّه]: فالإنسان مخلوق من أجل العبادة، فإذا نسي هذا الأمر وأصبح نهماً على الدنيا يريد أن يجمعها من أي جهة كانت، وأصبحت هذه الدنيا همه الوحيد فهذا جزاؤه [جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له]
[جعل الله فقره بين عينيه]: يعني: أنه دائماً مستحضر الفقر يرى الفقر بين عينيه، مهما وجد معه من المال،
[وفرَّق عليه شمله]: فالذي يجمع لك الأمور ويؤلف بين القلوب هو الله سبحانه وتعالى، فالإنسان يجمع من شمال ويمين وربنا يفرق عليه هذا كله ما دام همه الوحيد.
[ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له]: فلا تتعب نفسك وتحملها فوق طاقتها فتقصر في عبادة الله سبحانه، وتقول: المال المال، ولكن ابحث عن المال من حلال، واحذر الحرام، واحذر أن تضيع الدين وتضيع الطاعة فيضيع منك الجميع الدنيا والآخرة.(6/92)
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من جعل الهموم هماً واحدا هم المعاد كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك.
من جعل الهموم هماً واحدا هم المعاد: ولو أن كلاً منا في قلبه الآخرة، فسيدرك أن الله سبحانه على كل عمل يقوم به، فإنه إذا قام للصلاة تذكر: الله سيحاسبني على هذه الصلاة فيحسنها، وإذا صام أحسن الصيام، وإذا عمل أي عمل من الأعمال أتقن ذلك العمل، ولا من أجل أن يأخذ الجزاء من الناس، ليس من أجل أن يترقى، ولكن ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه، فإذا كانت الآخرة على بال الإنسان دائماً فإن الله سوف يكفيه أمر دنياه، قال: (كفاه الله هم دنياه).
ومن تشعبت به الهموم: يعني: نسي الآخرة وبدأ يفكر يريد أن يأكل ويشرب ويلبس ويريد كذا وكذا، ويعمل طول النهار وهو يفكر في أمور الدنيا، ناسياً ربه سبحانه فهذا يكون حاله كما في الحديث:
(لم يبال الله في أي أوديته هلك): يعني: في أي مكان هلك لا يبالي الله عز وجل به. فالمؤمن قريب من الله، والله يحبه ويفرح بتوبته وبإقباله عليه، أما الإنسان البعيد عن الله سبحانه وتعالى فإن يهلك في أي واد لا يبالي الله به.
سادساً: أن محبها أشد الناس عذاباً بها، وهو معذب فى دوره الثلاث: يعذب فى الدنيا بتحصيلها والسعى فيها ومنازعة أهلها، وفى دار البرزخ بفواتها والحسرة عليها، وكونه قد حيل بينه وبين محبوبه على وجه لا يرجو اجتماعه به أبداً، ولم يحصل له هناك محبوب يعوضه عنه، فهذا أشد الناس عذاباً فى قبره، يعمل الهمّ والحزنُ والغم والحسرة فى روحه ما تعمل الديدان وهوام الأرض فى جسمه.
والمقصود: أن محب الدنيا يعذب فى قبره، ويعذب يوم لقاء ربه قال تعالى: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (التوبة: الآية: 55).
[*] قال بعض السلف: " يعذبهم بجمعها، وتزهق أنفسهم بحبها، وهم كافرون بمنع حق الله فيها ".
(3) مصدر رزق عظيم للأجر وكسب الحسنات: كما في الحديث الآتي: ((6/93)
(حديث عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فِيْ امرأتك).
(4) ينجي من العذاب العظيم يوم الدين: كما في الأحاديث الآتي:
) حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة.
(حديث جابر في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا تماروا به السفهاء و لا لتخيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار.
(5) كذلك الإخلاص هو أساس أعمال القلوب، وأعمال الجوارح تبع ومكمل له، الإخلاص يعظم العمل الصغير حتى يصبح كالجبل، كما أن الرياء يحقر العمل الكبير حتى لا يزن عند الله هباء قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} [الفرقان: 23](6/94)
(6) الإخلاص مهم جداً لأن أغلب الناس يعيشون في صراعات داخلية ويعانون من أشياء فحرموا البركة والتوفيق إلا من رحمه الله، فكيف يكون النصر و تعلم العلم إلا من المخلصين، الإخلاص مهم في إنقاذنا من الوضع الذي نعيش فيه، فقد أصبح عزيزاً نادراً قليلاً، مشاريع ودعوات تلوثت بالرياء، حركات إسلامية دمرت بسبب افتقاد الإخلاص وبعد أن أريد بها الرئاسة والجاه والمال، وقد بين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن حرص الإنسان على المال والجاه يفسد الدين فساداً كبيراً أكبر من الفساد الحاصل من إطلاق ذئبان جائعان على غنم وتأمل في الحديث الآتي بعين الاعتبار:
(حديث كعب بن مالك في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسدَ لها من حرص المرء على المال و الشرف لدينه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(ما) بمعنى ليس
(ذئبان جائعان) صفة له وفي رواية عاديان والعادي الظالم المتجاوز للحد
(أرسلا في غنم) الجملة في محل رفع صفة
(بأفسد) خبر ما والباء زائدة أي أشد فساداً والضمير في
(لها) للغنم واعتبر فيه الجنسية فلذا أنث وقوله
(من حرص المرء على المال والشرف) عطف على المال والمراد به الجاه والمنصب (لدينه) اللام فيه للبيان، نحوها في قوله {لمن أراد أن يتم الرضاعة} فكأنه قيل هنا بأفسد لأي شيء؟ قيل لدينه، ذكره الطيبي،
(فمقصود الحديث أن الحرص على المال والشرف أكثر إفساداً للدين من إفساد الذئبين للغنم لأن ذلك الأشر والبطر يستفز صاحبه ويأخذ به إلى ما يضره وذلك مذموم لاستدعائه العلو في الأرض والفساد المذمومين شرعاً، قال الحكيم: وضع اللّه الحرص في هذه الأمة ثم زمه في المؤمنين بزمام التوحيد واليقين وقطع علائق الحرص بنور السبحات فمن كان حظه من نور اليقين ونور السبحات أوفر كان وثاق حرصه أوثق والحرص يحتاجه الآدمي لكن بقدر معلوم وإذا لم يكن لحرصه وثاق وهبت رياحه استفزت النفس فتعدى القدر المحتاج إليه فأفسد وعرف بعضهم الحرص بأنه مدد القوة الموضوعة في الآدمي ومثيرها وعمادها. أهـ
[*] يقول ابن أبي جمرة وهو من كبار العلماء: وددت لو أنه كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم ويقعد للتدريس في أعمال النيات ليس إلا، فإنه ما أتى على كثير من الناس إلا من تضييع ذلك.(6/95)
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال: ما رأيت الزهد في شيء أقل منه في الرياسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب، فإذا تورع في الرياسة حامي عليها وعادي.
(7) ومن فوائد الإخلاص أنه يقلب المباحات إلى عبادات وينال بها عالي الدرجات، قال أحد السلف: إني لأستحب أن يكون لي في كل شيء نية حتى في أكلي ونومي ودخولي الخلاء وكل ذلك مما يمكن أن يقصد به التقرب إلى الله. لأن كل ما هو سبب لبقاء البدن وفراغ القلب للمهمات مطلوب شرعاً.
فالنية عند الفقهاء: تمييز العبادات عن العادات وتمييز العبادات عن بعضها البعض، إرادة وجه الله عز و جل.
(8) الإخلاص سبب للمغفرة الكبيرة للذنوب.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه فيغفر فيه كبائر، وإلا فأهل الكبائر كلهم يقولون لا إله إلا الله. كالبغي التي سقت كلباً فقد حضر في قلبها من الإخلاص ما لا يعلمه إلا الله فغفر الله لها.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: غُفِرَ لأمرأة مُومِسَة، مرت بكلب على رأس َرِكيٍّ، يلهث، قال: كاد يقتله العطش، فنزعت خفها، فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء، فَغُفِرَ لها بذلك.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(غُفِرَ) بالبناء للمفعول بضبط المصنف أي غفر اللّه
(لامرأة مُومِسَة) بضم الميم الأولى وكسر الثانية بضبطه
(مرت بكلب على رأس َرِكيٍّ) بفتح الراي وكسر الكاف وشد التحتية بئر
(يلهث) أي يخرج لسانه من شدة الظمأ
(كاد يقتله العطش) لشدته وفي رواية يأكل الثرى من العطش أي التراب الندي
(فنزعت خفها) من رجلها
(فأوثقته) أي شدته
(بخمارها) بكسر الخاء أي بغطاء رأسها والخمار ككتاب ما يغطى به الرأس
(فنزعت) جذبت وقلعت
(له من الماء) أي بالبئر فسقته(6/96)
(فَغُفِرَ لها بذلك) أي بسبب سقيها للكلب على الوجه المشروح فإنه تعالى يتجاوز عن الكبيرة بالعمل اليسير إذا شاء فضلاً منه. قال ابن العربي: وهذا الحديث يحتمل كونه قبل النهي عن قتل الكلاب وكونه بعده فإن كان قبله فليس بناسخ لأنه إنما أمر بقتل كلاب المدينة لا البوادي على أنه وإن وجب قتله يجب سقيه ولا يجمع عليه حرّ العطش والموت، ألا ترى أن المصطفى صلى اللّه تعالى عليه وعلى آله وسلم لما أمر بقتل اليهود شكوا العطش فقال: لا تجمعوا عليهم حرّ السيف والعطش فسقوا واستدل به على طهارة سؤر الكلب لأن ظاهره أنها سقت الكلب من خفها ومنع باحتمال أن تكون صبته في شيء فسقته أو غسلت خفها بعد أو لم تلبسه على أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا، ولو قلنا به فمحله ما لم ينسخ (فائدة) قال شيخنا الشعراني: سقط على قلب زوجتي شيء فوصلت لحالة الموت فصاحت أهلها وإذا بقابل يقول وأنا بمجاز الخلاء خلص الذبابة من ضبع الذباب من الشق الذي تجاه وجهك ونحن نخلص لك زوجتك فوجدته عاضاً عليها فخلصتها فخلصت زوجتي حالاً.
(9) تنفيس الكروب لا يحدث إلا بالإخلاص، والدليل على ذلك حديث الثلاثة الذين حبستهم صخرة ففرج الله همّهم وتأمل في هذا الحديث بعين البصيرة:
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: خرج ثلاثة يمشون فأصابهم المطر، فدخلوا في غار في جبل، فانحطت عليهم صخرة، قال: فقال بعضهم لبعض: ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه.
فقال أحدهم: اللهم إني كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت أخرج فأرعى، ثم أجيء فأحلب فأجيء بالحلاب، فآتي أبواي فيشربان، ثم أسقي الصبية وأهلي وامرأتي، فاحتبست ليلة، فجئت فإذا هما نائمان، قال: فكرهت أن أوقظهما، والصبية يتضاغون عند رجلي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهما، حتى طلع الفجر، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا فرجة نرى منها السماء، قال: ففرج عنهم.
وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أني أحب امرأة من بنات عمي كأشد ما يحب الرجل النساء، فقالت: لا تنال ذلك منها حتى تعطيها مائة دينار، فسعيت حتى جمعتها، فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركتها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا فرجة، قال: ففرج عنهم الثلثين.(6/97)
وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أني استأجرت أجيرا بفرق من ذرة فأعطيته، وأبى ذلك أن يأخذ، فعمدت إلى ذلك الفرق فزرعته، حتى اشتريت منه بقرا وراعيها، ثم جاء فقال: يا عبد الله أعطيني حقي، فقلت: انطلق إلى تلك البقر وراعيها فإنها لك، فقال: أتستهزئ بي؟ قال: فقلت: ما أستهزئ بك ولكنها لك، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا، فكشف عنهم).
(10) وبالإخلاص يرزق الناس الحكمة، ويوفقون للحق والصواب:
قال تعالى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال: 29]
(11) وبالإخلاص يدرك الأجر على عمله وإن عجز عنه بل ويصل لمنازل الشهداء والمجاهدين وإن مات على فراشه.
قال تعالى: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ} [التوبة: 92]
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في غزاة، فقال: إن أقواما بالمدينة خلفنا، ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا فيه، حبسهم العذر.
(حديث أبي كبشة الأنماري الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَحسنِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْماً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الأجرِ سَوَاءٌ، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً فَهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ لاَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلاَ يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فهو بِأَسوءِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلاَ عِلْماً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الوزر سَوَاءٌ.
(12) وبالإخلاص يؤجر المرء ولو أخطأ كالمجتهد والعالم والفقيه، وهو نوى بالاجتهاد استفراغ الوسع وإصابة الحق لأجل الله، فلو لم يصب فهو مأجور على ذلك ..(6/98)
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران و إذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر.
(13) والمرء ينجو من الفتن بالإخلاص، ويجعل له حرز من الشهوات ومن الوقوع في براثن أهل الفسق والفجور، لذلك نجى الله يوسف عليه السلام من امرأة العزيز
قال تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]
لقد مر في الأمة كثير من المخلصين كانت سيرتهم نبراساً لمن بعدهم وقدوة وخيراً، لذلك أبقى الله سيرتهم وذكرهم حتى يقتدي بهم من بعدهم وعلى رأس هؤلاء الأنبياء، النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحواريو الأنبياء والصحابة الذين فتحوا البلاد بإخلاصهم ومن بعدهم من التابعين ..
[*] يقول عبدة بن سليمان: كنا مع سرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم، فلما التقى ساعة فطعنه ازدحم الناس عليه ليعرفوا من هو فإذا هو يلثم وجهه، فإذا هو عبد الله بن المبارك فقال لائماً أأنت يا أبا عمر ممن يشنع علي.
[*] ويقول الحسن: إن كان الرجل جمع القرآن ولما يشعر به الناس، وإن كان الرجل لينفق النفقة الكثيرة ولما يشعر الناس به، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته ولم يشعر الناس به، ولقد أدركت أقواماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملونه في السر فيكون علانية أبداً.
لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ولا يسمع لهم صوت إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]
[*] يقول علي بن مكار البصري الزاهد: ((لأن ألقى الشيطان أحب إلي من أن ألقى فلاناً أخاف أن أتصنع له فأسقط من عين الله)) فقد كان السلف يخشون من قضية المجاملات.
[*] قال الذهبي: يقول ابن فارس عن أبي الحسن القطان: ((أصبت ببصري وأظن أني عوقبت بكثرة كلامي أثناء الرحلة)) قال الذهبي: صدق والله فإنهم كانوا مع حسن القصد وصحة النية غالباً يخافون من الكلام وإظهار المعرفة.
[*] قال هشام الدستوائي: ((والله ما أستطيع أن أقول إني ذهبت يوماً قط أطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل)).
[*] يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وما بين الناس)).(6/99)
(ومن عجائب المخلصين ما حصل لصاحب النفق، حاصر المسلمون حصناً واشتد عليهم رمي الأعداء، فقام أحد المسلمين وحفر نفقاً فانتصر المسلمون، ولا يُعرَف من هو هذا الرجل، وأراد مَسْلَمَة أن يعرف الرجل لمكافأته، ولما لم يجده سأله بالله أن يأتيه، فأتاه طارق بليل وسأله شرطاً وهو أنه إذا أخبره من هو لا يبحث عنه بعد ذلك أبداً، فعاهده، و كان يقول: ((اللهم احشرني مع صاحب النفق)).
(وعمل الخلوة كان أحب إلى السلف من عمل الجلوة، وكان السلف يستحبون أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح لا يعلم عنها زوجة ولا غيرها، امتثالاً للحديثين الآتيين:
(حديث الزبير بن العوام في صحيح الجامع أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من استطاع منكم أن يكون له خَبِءٌ من عمل صالح فليفعل.
خَِبٌِء من عمل صالح: أي من الأعمال الخفيّة التي لا يطّلع عليها أحد من الناس, خالية من الرياء, فتكون خالصة لله تبارك و تعالى مثل صلاة النافلة في جوف الليل أو صدقة السر أو أي عمل آخر من الأعمال الصالحة.
(حديث سعد ابن أبي وقاص في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي.
الغني: الغني عن الناس
الخفي: من لا يريد علواً في الأرض ولا مناصب ولا جاه. الخامل المنقطع إلى العبادة والانشغال بأمور نفسه.
(المجاهدة في إخفاء العمل:
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال: بلغني أن العبد يعمل العمل سراً فلا يزال به الشيطان حتى يغلبه فيكتب في العلانية، ثم لا يزال الشيطان به حتى يحب أن يحمد عليه فينسخ من العلانية فيثبت في الرياء.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال: لا يترك الشيطان الإنسان حتى يحتال له بكل وجه، فيستخرج منه ما يخبر به من عمله، لعله يكون كثير الطواف فيقول: ما كان أجلي الطواف الليلة، أو يكون صائما فيقول ما أثقل السحور أو ما أشد العطش، فإن استطعت أن لا تكون محدثاً ولا متكلماً ولا قارئاً، وإن كنت بليغاً، قالوا: ما أبلغه وأحسن حديثه وأحسن صوته، فيعجبك ذلك فتنتفخ، وإن لم تكن بليغا ولا حسن الصوت قالوا ليس يحسن يحدث وليس صوته بحسن أحزنك وشق عليك، فتكون مرائيا، وإذا جلست فتكلمت ولم تبال من ذمك ومن مدحك من الله فتكلم.
[*] يقول حماد بن زيد: كان أيوب ربما حدث في الحديث فيرقّ وتدمع عيناه، فيلتفت و ينتخط ويقول ما أشد الزكام!!، فيظهر الزكام لإخفاء البكاء.(6/100)
[*] قال الحسن البصري: ((إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها فإذا خشي أن تسبقه قام وذهب وبكى في الخارج)).
[*] يقول محمد بن واسع التابعي: ((إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته لا تعلم)).
(وللإمام الماوردي قصة في الإخلاص في تصنيف الكتب، فقد ألف المؤلفات في التفسير والفقه وغير ذلك ولم يظهر شيء في حياته لما دنت وفاته قال لشخص يثق به: الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي وإنما إذا عاينت الموت و وقعت في النزع فاجعل يدك في يدي فإن قبضت عليها فاعلم أنه لم يقبل مني شيء فاعمد إليها وألقها في دجلة بالليل وإذا بسطت يدي فاعلم أنها قبلت مني وأني ظفرت بما أرجوه من النية الخالصة، فلما حضرته الوفاة بسط يده، فأظهرت كتبه بعد ذلك.
(وكان علي بن الحسن يحمل الخبز بالليل على ظهره يتبع به المساكين بالظلمة، فالصدقة تطفيء غضب الرب، وكان أهل بالمدينة يعيشون لا يدرون من أين معاشهم، فلما مات عرفوا، و رأوا على ظهره آثاراً مما كان ينقله من القرب والجرب بالليل فكان يعول مائة بيت.
(وهكذا كان أحدهم يدخل في فراش زوجته فيخادعها فينسل لقيام الليل وهكذا صام داود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله فكان يأخذ إفطاره ويتصدق به على المساكين ويأتي على العشاء ..
مسألة: متى يكون إظهار العمل مشروعاً؟
[*] قال ابن قدامة: {فصل في بيان الرخصة في قصد إظهار الطاعات} قال: وفي الإظهار فائدة الإقتداء، ومن الأعمال ما لا يمكن الإسرار به كالحج والجهاد، والمظهر للعمل ينبغي أن يراقب قلبه حتى لا يكون فيه حب الرياء الخفي بل ينوي الإقتداء به {إذاً ينبغي أن نحسن نياتنا في الأعمال المظهرة لندفع الرياء وننوي الإقتداء لنأخذ الأجر}، قال ولا ينبغي للضعيف أن يخدع نفسه بذلك، ومثل الذي يظهره وهو ضعيف كمثل إنسان سباحته ضعيفة فنظر إلى جماعة من الغرقى فرحمهم فأقبل إليهم فتشبثوا به وغرقوا جميعاً.
(وفصل الخطاب في هذه المسألة أنها على التفصيل الآتي:
(1) الأعمال التي من السنة أن يكون عملها سرّاً يسرّ.
(2) الأعمال التي من السنة أن يظهرها يظهرها.
(3) الأعمال التي من الممكن أن يسرها أو يظهرها، فإن كان قوياً يتحمل مدح الناس وذمهم فإنه يظهرها وإن كان لا يقوى فيخفي لأن السلامة لا يعدلها شيء فليس له أن يكون كالمصباح يضيء للناس ويحرق نفسه، فإذا قويت نفسه فلا بأس في الإظهار لأن الترغيب في الإظهار خير.(6/101)
ورد عن بعض السلف أنهم كانوا يظهرون بعض أعمالهم الشريفة ليقتدى بهم كما قال بعضهم لأهله حين الاحتضار ((لا تبكوا علي فإني ما لفظت سيئة منذ أسلمت)).
[*] قال أبو بكر بن عياش لولده ((يا بني إياك أن تعصي الله في هذه الغرفة فإني ختمت القرآن فيها اثنتا عشرة ألف ختمة)) من أجل موعظة الولد، فمن الممكن أن يظهر المرء أشياء لأناس معينين مع بقاء الإخلاص في عمله لقصد صالح.
(لله درَ أقوامٍ نُعِّمُوا في الدنيا بالإخلاص في الطاعة، وفازوا يوم القيامة بالربح في البضاعة، وتنزهوا عن التقصير والغفلة والإضاعة، ولبسوا ثياب التقى وارتدوا بالقناعة، وداموا في الدنيا على السهر والمجاعة، فيا فخرهم إذا قامت الساعة.
(لله در أقوام أخلصوا الأعمال وحققوها، وقيدوا شهواتهم بالخوف وأوثقوها، وسابقوا الساعات بالطاعات فسبقوها، وخلصوا أعمالهم من أشراك الرياء وأطلقوها، وقهروا بالرياضة أغراض النفوس الردية فمحقوها.
(ماذا قال بعض العلماء في الإخلاص .. ؟
[*] قال إبراهيم بن أدهم: ما صدق الله عبداً أحب الشهرة.
[*] قال بعضهم: ينبغي للعالم أن يتحدث بنية وحسن قصد، فإن أعجبه كلامه فليصمت وإن أعجبه الصمت فلينطق. فإن خشي المدح فليصمت ولا يفتر عن محاسبة نفسه فإنها تحب الظهور والثناء.
[*] وسُئِل سهل بن عبد الله التستوري: أي شيء أشد على النفس؟ قال: الإخلاص لأنه ليس لها فيه نصيب. فمع الإخلاص تنسى حظوظ النفس.
[*] وقال سفيان: ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي إنها تنقلب علي. إذا أراد أن يجاهد نفسه يجد تقلبات، ولا يدري أهو في إخلاص أم رياء، وهذا طبيعي أن يشعر أنه في صراع لا تسلم له نفسه دائماً فهو يتعرض لهجمات من الشيطان، والنفس الأمارة بالسوء، وهذا فيه خير، أما من اطمأنت نفسه بحاله فهذه هي المشكلة.
[*] قال ابن يحيى بن أبي كثير: تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل.
[*] قال الزبيد اليامي: إني أحب أن تكون لي نية في كل شيء حتى في الطعام والشراب.
[*] عن داود الطائي: رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية وكفاك به خيراً وإن لم تنضب. أي حتى وإن لم تتعب فإن ما حصلته من اجتماع نفسك لله وإخراج حظوظ النفس من قلبك، هذا أمر عظيم.
[*] قال يعقوب: " المخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته ".(6/102)
[*] قال السوسي: " الإخلاص فَقْدُ رؤية الإخلاص، فإن مَنْ شاهد فى إخلاصه الإخلاص فَقد احتاج إخلاصه إلى إخلاص ". وما ذكر إشارة إلى تصفية العمل من العُجْب بالفعل، فإن الإلتفات إلى الإخلاص، والنظر إليه عٌجْب، وهو من جملة الآفات، والخالص ما صفا عن جميع الآفات.
[*] قال أيوب: " تخليص النيات على العُمّال أشد عليهم من جميع الأعمال ".
[*] وقال بعضهم: " إخلاص ساعة نجاة الأبد، ولكنّ الإخلاص عزيزٌ".
[*] وقيل لسهل: أى شىء أشد على النفس؟ قال: " الإخلاص، إذ ليس لها فيه نصيب ".
[*] وقال الفُضَيْل: " ترك العمل من أجل الناس رياء، والعملُ من أجل الناس شرك، والإخلاص: أن يعافيك الله منهما ".
(فضل إحضار النية في الطاعات:
[*] (قال النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين:
اعلم أنه ينبغي لمن أراد شيئًا من الطاعات، وإن قل أن يحضر النية وهو: أن يقصد بعمله رضا الله عز وجل، وتكون نيته حال العمل.
ويدخل في هذا جميع العبادات من الصلاة والصوم، والوضوء، والتيمم، والاعتكاف، والحج، والزكاة، والصدقة، وقضاء الحوائج، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وابتداء السلام، ورده، وتشميت العاطس، وإنكار المنكر، والأمر بالمعروف، وإجابة الدعوة، وحضور مجالس العلم والأذكار، وزيارة الأخيار، والنفقة على الأهل، والضيف وإكرام أهل الود، وذوي الأرحام، ومذاكرة العلم، والمناظرة فيه، وتكراره، وتدريسه، وتعليمه، ومطالعته، وكتاباته، وتصنيفه، والفتاوى، وكذلك ما أشبه هذه الأعمال، حتى ينبغي له إذا أكل، أو شرب، أو نام، أن يقصد بذلك التقوي على طاعة الله، أو راحة البدن، للتنشط للطاعة.
-وكذلك إذا أراد جماع زوجته، يقصد إيصالها حقها، وتحصل ولد صالح، يعبد الله تعالى، وإعفاف نفسه، وصيانتها من التطلع إلى حرام، والفكر فيه.
-فمن حُرِمَ النية في هذه الأعمال، فقد حرم خيرًا عظيمًا [كثيرًا]، ومن وُفِقَ لها، فقد أعطي فضلًا جسيمًا. فنسأل الله الكريم التوفيق لذلك؛ وسائر وجوه الخير!
[*] (أورد النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين عن الإمام أحمد قال: حدثنا إسحاق بن خلف قال: حدثنا حفص بن غياث قال: " كان عبد الرحمن بن الأسود رضي الله عنه لا يأكل الخبز إلا بنية ". قلت لإسحاق: وأي شيء النية في أكل الخبز؟ قال: كان يأكل فإذا ثقل عن الصلاة خفف ليخف بها؛ فإذا خف ضعف فأكل ليقوى فكان أكله لها، وتركه لها.
قلت: معنى يخف: أي ينشط وتسهل عليه ويتلذذ بها.(6/103)
وأحمد بن أبي الحواري يقال: بفتح الراء ويكسرها، والكسر أشهر، والفتح سمعته مرات من شيخنا الحافظ أبي البقاء يحكيه عن أهل الإتقان أو عن بعضهم والله تعالى أعلم.
-ودلائل هذه القاعدة ما قدمناه من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).
(فضل إخلاص النيّة:
[*] عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: " أفضل الأعمال أداءُ ما افترض الله تعالى، والورعُ عما حرّم الله، وصدقٌ النية فيما عند الله تعالى ".
[*] وقال بعض السلف: رب عملٍ صغيرٍ تعظمه النية، وربّ عمل كبير تصغيره النية.
[*] وعن يحيى بن أبى كثير: " تعلّموا النية، فإنها أبلغ من العمل ".
[*] وصحّ عن ابن عمر أنه سمع رجلاً عند إحرامه يقول: اللهم إني أريد الحج والعمرة فقال له: " أتُعْلم الناس، أوَ ليس الله يعلم ما فى نفسك": وذلك لأن النية هي: قصد القلب، ولا يجب التلفظ بها في شيء من العبادات وإنما يشرع في الحج والعمرة أن يقول: لبيك اللهم بحجة أو بعمرة أو بعمرة وحجة إن كان قارناً، وهو الذي يسمى بالإهلال.
[*] قال داود: البر همة التقي، ولو تعلقت جميع جوارحه بحب الدنيا لردته يوماً نيته إلى أصلها.
[*] قال يوسف بن أسباط: تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد.
[*] قيل لنافع بن جبير: ألا تشهد الجنازة فقال: كما أنت حتى أنوي. أي انتظر حتى أجاهد نفسي.
[*] قال الفضيل: إنما يريد الله عز وجل منك نيتك وإرادتك.
ومن أصلح الله سريرته أصلح الله علانيته ومن أصلح ما بينه وما بين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، وما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله في صفحات وجهه وفلتات لسانه.
والمخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته ومن شاهد في إخلاصه الإخلاص فإن إخلاصه يحتاج إلى إخلاص.
{تنبيه}: (من أعظم الأشياء التي تكون عوناً بعد الله تعالى في حصول الإخلاص إخفاء العمل، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبهما موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث سعد ابن أبي وقاص في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي.
الغني: الغني عن الناس
الخفي: من لا يريد علواً في الأرض ولا مناصب ولا جاه. الخامل المنقطع إلى العبادة والانشغال بأمور نفسه.(6/104)
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال: بلغني أن العبد يعمل العمل سراً فلا يزال به الشيطان حتى يغلبه فيكتب في العلانية، ثم لا يزال الشيطان به حتى يحب أن يحمد عليه فينسخ من العلانية فيثبت في الرياء.
(خطورة ترك العمل خوف الرياء:
هذا منزلق كشفه الفضيل بن عياض: ترك العمل لأجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك الله منهما.
[*] قال النووي رحمه الله تعالى:
من عزم على عبادة وتركها مخافة أن يراه الناس فهو مرائي" لأنه ترك لأجل الناس" لكن لو ترك العمل ليفعله في الخفاء. فمن ترك العمل بالكلية وقع في الرياء، وكذلك من كان يستحب في حقه إظهار العمل فليظهره كأن يكون عاملاً يقتدى به أو أن العمل الذي يعمله المشروع فيه الإظهار.
{تنبيه}: (من دعا إلى كتم جميع الأعمال الصالحة من جميع الناس؛ هذا إنسان خبيث وقصده إماتة الإسلام، لذلك المنافقون إذا رؤوا أمر خير وسموه بالرياء، فهدفهم تخريب نوايا المسلمين وأن لا يظهر في المجتمع عمل صالح، فهؤلاء ينكرون على أهل الدين والخير إذا رؤوا أمراً مشروعاً مظهراً خصوصاً إذا أظهر عمل خير معرض للأذى فيظهره احتسابا لإظهار الخير فيستهدفه هؤلاء المنافقون فليصبر على إظهاره ما دام لله، قال تعالى: ((الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم)).
(وينبغي أن نفرق بين الرياء ومطلق التشريك في العمل، فمتى يبطل العمل؟ إذا حصل تشريك فيه، ومتى يأثم؟ ومتى لا يأثم؟
وفصل الخطاب أن المسألة على التفصيل الآتي:
(1) أن يعمل لله ولا يلتفت إلى شيء آخر (أعلى المراتب).
(2) أن يعمل لله ويلتفت إلى أمر يجوز الالتفات إليه، مثل رجل صام مع نية الصيام لله أراد حفظ صحته، ورجل نوى الحج والتجارة، ورجل جاهد ونظر إلى مغانم، ورجل مشى إلى المسجد وقصد الرياضة، ورجل حضر الجماعة لإثبات عدالته وأن لا يتهم، فهذا لا يبطل الأعمال ولكن ينقص من أجرها ـ والأفضل أن لا تكون موجودة ولا مشركة في العمل ولا داخلة فيه أصلاً.
(3) أن يلتفت إلى أمر لا يجوز الالتفات إليه من الرياء والسمعة وحمد الناس طلباً للثناء ونحو ذلك فيكون علي التفصيل الآتي:
(أ) إذا كان في أصل العمل فإنه يبطله كأن يصلي الرجل لأجل الناس.
(ب) أن يعرض له خاطر الرياء أثناء العمل فيدافعه ويجاهده، فعمله صحيح وله أجر على جهاده.(6/105)
(جـ) أن يطرأ عليه الرياء أثناء العمل ولا يدافعه و يستمر معه وهذا يبطل العمل.
(د) أن يكون عمله الصالح للدنيا فقط، فيصوم لأجل الحمية والرجيم ولا يطلب الأجر، ويحج للتجارة فقط، ويخرج زكاة أموال لتنمو، ويخرج للجهاد للغنيمة، فهؤلاء أعمالهم باطلة قال تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} [الإسراء: 18]
(هـ) أن يكون عمله رياءً محضاً، وبالرياء يحبط العمل بل ويأثم به الإنسان، لأن هناك أشياء تبطل العمل ولا يأثم صاحبها كخروج ريح أثناء الصلاة، ومن الناس من يرائي في الفتوى للأغنياء والوجهاء وقد يكون لضعفه أمامهم
وقال تعالى: (مَن كَان يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ، ... أُوْلَئِكَ ... الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) {هود/15،16}
) حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة.
(حديث جابر في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا تماروا به السفهاء و لا لتخيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار.
[*] قال بعض السلف: ((إذا رأيت العالم على أبواب الغنى والسلطان فاعلم أنه لص))، أما الذي يذهب لقصد الإنكار والخير فلهو ما نوى.
(هناك أشياء تظن من الرياء وليست منه:
(1) إذا حمدك الناس على الخير بدون قصد فهذا عاجل بشرى المؤمنين.
(2) رجل رأى العابدين فنشط للعبادة لرؤيته من هو أنشط منه.
(3) تحسين وتجميل الثياب والنعل وطيب المظهر والرائحة.
(4) كتم الذنوب وعدم التحدث بها، فبعض الناس يظن أنك حتى تكون مخلصاً لابد من الإخبار بالذنوب، نحن مطالبون شرعاً بالستر، وكتم الذنوب ليس رياءً بل هو مما يحبّه الله، بل إن ظن غير ذلك تلبيس من الشيطان وإشاعة للفاحشة وفضح للنفس.(6/106)
(5) اكتساب شهرة بغير طلبها، كعالم اشتهر وقصده منفعة الناس و بيان الحق ومحاربة الباطل والرد على الشبهات ونشر دين الله، فإن كانت هذه الأعمال وجاءت الشهرة تبعاً لها وليست مقصداً أصلياً فليس من الرياء.
(6) ليس من الرياء أن يشتهر المرء ولكن الشهرة يمكن أن توقع في الرياء!!
(علامات الإخلاص:
[*] (أورد النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين عن ذي النون رضي الله تعالى عنه قال: ثلاث من علامات الإخلاص:
(1) استواء المدح والذم من العامة.
(2) ونسيان رؤية الأعمال في الأعمال.
(3) واقتضاء ثواب العمل في الآخرة.
[*] (أورد النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين عن أبي عثمان المغربي رحمه الله تعالى قاله: " الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق ".
[*] (وأورد النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين عن حذيفة المرعشي رحمه الله تعالى فقال: " الإخلاص أن تستوي أفعال العبد في الظاهر والباطن ".
[*] (وأورد النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين عن فضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: " ترك العمل لأجل الناس رياء! والعمل لأجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك الله منهما ".
[*] (وأورد النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين عن الإمام التابعي مكحول رضي الله عنه قال: ما أخلص عبد قط أربعين [يومًا] إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه ولسانه.
[*] (وأورد النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين عن سهل التستري رحمه الله تعالى قال: من زهد في الدنيا أربعين يومًا، صادقًا مخلصًا من قلبه في ذلك، ظهرت له الكرمات؛ ومن لم تظهر له فإنه عدم الصدق في زهده!.
فقيل لسهل: كيف تظهر له الكرامات؟ قال: يأخذ ما يشاء، كما يشاء، من حيث يشاء.
(وقال سهل التستري رحمه الله تعالى: نظر الأكياس في تفسير الإخلاص فلم يجدوا غير هذا: أن تكون حركته وسكونه في سره وعلانيته لله تعالى وحده، لا يمازجه شيء، لا نفس، ولا هوى، ولا دنيا.
(فصلٌ في منزلة التهذيب والتصفية:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة التهذيب والتصفية
«وهو سبك العبودية في كير الامتحان طلبا لإخراج ما فيها من الخبث والغش».(6/107)
(قال صاحب المنازل: التهذيب: محنة أرباب البدايات وهو شريعة من شرائع الرياضة يريد: أنه صعب على المبتدي فهو له كالمحنة وطريقة للمرتاض الذي قد مرن نفسه حتى اعتادت قبوله وانقادت إليه.
قال: وهو على ثلاث درجات. الأولى: تهذيب الخدمة؛ أن لا يخالجها جهالة. ولا يشوبها عادة، ولا يقف عندها همة.
أي: تخليص العبودية، وتصفيتها من هذه الأنواع الثلاثة.
وهي: «مخالجة الجهالة، وشوب العادة، ووقوف همة الطالب عندها»
(النوع الأول: مخالطة الجهال. فإن الجهالة متى خالطت العبودية، أوردها العبد غير موردها. ووضعها في غير موضعها، وفعلها في غير مستحقها، وفعل أفعالا يعتقد أنها صلاح. وهي إفساد لخدمته وعبوديته، بأن يتحرك في موضع السكون، أو يسكن في موضع التحرك. أو يفرق في موضع جمع، أو يجمع في موضع فرق، أو يطير في موضع سفوف، أو يسف في موضع طيران، أو يقدم في موضع إحجام، أو يحجم في موضع إقدام، أو يتقدم في موضع وقوف، أو يقف في موضع تقدم. ونحو ذلك من الحركات، التي هي في حق الخدمة كحركات الثقيل البغيض في حقوق الناس.
فالخدمة ما لم يصحبها علم ثان بآدابها وحقوقها، غير العلم بها نفسها، كانت في مظنة أن تبعد صاحبها، وإن كان مراده بها التقرب. ولا يلزم حبوط ثوابها وأجرها فهي إن لم تبعده عن الأجر والثواب أبعدته عن المنزلة والقربة. ولا تنفصل مسائل هذه الجملة إلا بمعرفة خاصة بالله وأمره، ومحبة تامة له، ومعرفة بالنفس وما منها.
(النوع الثاني: شوب العادة: وهو أن يمازج العبودية حكم من أحكام عوائد النفس تكون منفذة لها، معينة عليها، وصاحبها يعتقدها قربة وطاعة، كمن اعتاد الصوم ـ مثلا ـ وتمرن عليه. فألفته النفس، وصار لها عادة تتقاضاها أشد اقتضاء. فيظن أن هذا التقاضي محض العبودية. وإنما هو تقاضي العادة.
(وعلامة هذا أنه إذا عرض عليها طاعة دون ذلك، وأيسر منه، وأتم مصلحة لم تؤثرها إيثارها لما اعتادته وألفته. كما حكي عن بعض الصالحين من الصوفية قال: حججت كذا وكذا حجة على التجريد، فبان لي أن جميع ذلك كان مشوبا بحظي. وذلك أن والدتي سألتني أن أستقي لها جرعة ماء. فثقل ذلك على نفسي. فعلمت أن مطاوعة نفسي في الحجات كان بحظ نفسي وإرادتها. إذ لو كانت نفسي فانية لم يصعب عليها ما هو حق في الشرع.(6/108)
(النوع الثالث: وقوف همته عند الخدمة. وذلك علامة ضعفها وقصورها. فإن العبد المحض لا تقف همته عند الخدمة. بل همته أعلى من ذلك؛ إذ هي طالبة لرضا مخدومه. فهو دائما مستصغر خدمته له. ليس واقفا عندها. والقناعة تحمد من صاحبها إلا في هذا الموضع. فإنها عين الحرمان. فالمحب لا يقنع بشيء دون محبوبه، فوقوف همة العبد مع خدمته وأجرتها: سقوط فيها وحرمان.
(فصلٌ في منزلة التوكل:
[*] (عناصر الفصل:
(تعريف التوكل:
(حقيقة التوكل:
(الفرق بين الحسب والتأييد:
(تحقيق مراتب التوكل:
(الأمور التي تضاد التوكل:
(فضائل التوكل:
(حكم التوكل:
(صورٌ من توكل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(صورٌ مشرقة للمتوكلين على الله:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(تعريف التوكل:
(التوكلُ هو: صدقُ الاعتماد على الله تعالى في جلب النفعِ أو دفع الضُرِ، وذلك بالأخذِ بالأسبابِ المشروعة دون التعلقِ بها ثم الرضا بالمقضي.
{تنبيه}: (لا يتمُ التوكلُ إلا بشيئين أساسيين:
(1) التفويضُ قبل حدوثِ المقضي: فبعد أن يصدُق الإنسان في اعتماده على الله يُفَوِّضُ أمره إلى الله تعالى بمعنى أنه يُلقي أمره إلى الله يُصَرِّفْه كيف يشاء.
(2) الرضا بعد حدوث المقضي: فمن لم يرضى بالمقضي فتوكله فاسد، ولذا يحسن بالإنسان أن يقول بعد تحقيقِ أسبابِ التوكل [اللهم إنا فوضنا أمرنا إليك راضِين بما قضيت فاقدر لنا الخيرَ حيث كان]
{تنبيه}: (من لم يأخذ بالأسبابِ المشروعةِ فتوكله فاسد، فمثلاً لو أن إنسان زعم أنه صدق في اعتماده على الله تعالى في حصولِ الولد ولكنه لم يتزوج فهل يُعَدُ هذا متوكلاً على الله؟ بالطبع لا، ليس هذا توكلاً إنما هذا سفهٌ وحماقة.
ولعل أوضح حديثٍ يبين ُ التوكلَ بشقَيْه قبل حدوث المقضي وبعده هو حديث الاستخارة.
(حديثُ جابر في صحيح البخاري) قال كان رسولُ الله يُعلمُنا الاستخارة في الأمورِ كلها كالسورةِ من القرآن، إذا همَّ أحدكم بالأمرِ فليركع ركعتين من غيرِ الفريضةِ ثم يقول: اللهم إني أستخِيرُك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدرُ ولا أقدرُ وتعلمُ ولا أعلمُ وأنت علاَّمُ الغيوب، اللهم إن كنت تعلمُ أن هذا الأمرَ خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبةِ أمري _ أو قال عاجل أمري وآجله _ فاقدره لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمرَ شرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبةِ أمري فاصرفْه عني واصرفني عنه ثم ارضِني به، ويُسَمِّي حاجته.(6/109)
{تنبيه}: (من حقق التقوى والتوكل، اكتفي بذلك في مصالح دينه ودنياه.
قال الله عز وجل: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}
[الطلاق: من الآية 2، 3]
وقال تعالى: (وَمَن يَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق / 3]
(حديث عُمَرَ بنِ الْخَطّابِ رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لَوْ أَنّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكّلُونَ عَلَى الله حَقّ تَوَكّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطّيْرُ تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً».
[*] قال أبو حاتم الرازى: هذا الحديث أصل في التوكل وأنه من أعظم الأسباب التي يستجلب بها الرزق.
[*] وقال سعيد ابن جبير: " التوكل جماع الإيمان"، وتحقيق التوكل لا ينافي الأخذ بالأسباب التي قدر الله سبحانه وتعالى المقدرات بها، وجرت سنته في خلقه بذلك، فإن الله تعالى أمر بتعاطى الأسباب، مع أمره بالتوكل، فالسعى في الأسباب بالجوارح طاعة لله، والتوكل بالقلب عليه إيمان به، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ} (النساء: من الآية 71).
[*] قال سهل: " من طعن في الحركة يعنى في السعى والكسب فقد طعن في السنة، من طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان"، فالتوكل حال النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والكسبُ سنته فمن عمل على حاله فلا يتركن سننه.
وقيل: " عدم الأخذ بالأسباب طعن في التشريع، والاعتقاد في الأسباب طعن في التوحيد ".
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اعقِلْهَا وَتَوَكَلْ.
(والأعمال التي يعملها العبد ثلاثة أقسام:
(القسم الأول: الطاعات التي أمر الله بها عباده، وجعلها سبباً للنجاة من النار ودخول الجنة، فهذا لابد من فعله، مع التوكل على الله عز وجل فيه، والاستعانة به عليه، فإنه لا حول ولا قوة إلا به، وما شاء سبحانه كان وما لم يشأ لم يكن، فمن قصّر في شيء مما وجب عليه من ذلك استحق العقوبة في الدنيا والآخرة شرعاً وقدراً.
قال يوسف بن أسباط: " قال اعملْ عملَ رجل لا ينجيه إلا عَمَلُه، وتوكل توكل رجل لا يصيبه إلا ما كُتب له ".(6/110)
(القسم الثاني: ما أجرى الله العادة به في الدنيا وأمر عباده بتعاطيه كالأكل عند الجوع، والشرب عند العطش، والاستظلال من الحر، والتدفؤ من البرد، ونحو ذلك، فهذا أيضاً واجب على المرء تعاطى أسبابه ومن قصّر فيه حتى تضرر بتركه – مع القدرة على استعماله – فهو مفرط يستحق العقوبة.
(القسم الثالث: ما أجرى الله العادة به في الدنيا في الأعم الأغلب، وقد يخرق العادة في ذلك لمن شاء من عباده وهي أنواع: كالأدوية مثلاً وقد اختلف العلماء: هل الأفضل لمن أصابه المرض لتداوى أم تركه لمن حقق التوكل على الله؟
فيه قولان مشهوران، وظاهر كلام الإمام أحمد أن التوكل لمن قوى عليه للحديث الآتي:
(حديثُ ابن عباس في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: عُرِضت عليَّ الأمم فجعل يمرُ النبي معه الرجل والنبيُ معه الرجلان والنبي معه الرهط والنبي ليس معه أحد، ورأيتُ سواداً كثيراً سدَّ الأفق فرجوتُ أن تكون أمتي فقِيل هذا موسى وقومه، ثم قِيل ليَ انظر هكذا وهكذا فرأيتُ سواداً كثيراً سدَّ الأفق فقِيل هؤلاء أمتُك ومع هؤلاءِ سبعون ألفاً يدخلون الجنةَ بغيرِ حساب فتفرَّقَ الناسُ ولم يبينْ لهم، فتذاكرَ أصحابُ النبيِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا نحن وُلدنا في الشرك ولكن هؤلاء أبناؤنا، فبلغ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال {هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون} فقام عُكَّاشةُ ابن مِحصن فقال: أمنهم أنا يا رسولَ الله؟ قال: أنت منهم، فقام آخر فقال أمنهم أنا؟ قال: سبقك بها عُكَّاشة.
ومن رجح التداوي قال: إنه حال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي كان يداوم عليه – وهو لا يفعل إلا الأفضل – وحمل الحديث على الرقى المكروهة، التي يخشى منها الشرك، بدليل أنه قرنها بالكي والطيرة وكلاهما مكروه.
[*] قال مجاهد، وعكرمة، والنَخعى، وغير واحد من السلف: لا يرخص في تلك السبب بالكلية إلا لمن انقطع قلبه عن الاستشراف إلى المخلوقين بالكلية.
[*] سئل إسحق بن راهويه: هل للرجل أن يدخل المفازة بغير زاد؟ فقال: " إن كان الرجل مثل عبد الله بن جبير فله أن يدخل المفازة بغير زاد، وإلا لم يكن له ".
(حقيقة التوكل:
[*] قال الزبيدي في تاج العروس:(6/111)
الثقة بما عند الله واليأس مما في أيدي الناس، فالتوكل على الله اعتماد القلب على الله مع الأخذ بالأسباب، مع كامل اليقين أن تعلم أن الله هو الرازق الخالق المحيي المميت لا إله غيره ولا رب سواه.
والتوكل يتناول التوكل على الله ليعينه الله على فعل ما أمره والتوكل على الله ليعطيه ما لا يقدر عليه، وكلاهما كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، فالاستعانة تكون على الأعمال والتوكل أعمّ من ذلك فالتوكل مجلبة لمنفعة، ودفع لمضرة.
قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59]
فكن شاكراً لله ولا تخشَ شيئاً إذا فوضت أمرك لله، كن رجّاعاً لله متكلاً عليه؛ حينها ينصرك الله.
حقيقة التوكل عبادة واستعانة قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123]
وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10]
وقال تعالى: {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30]
(انظر للمقارنة للتوكل مع العبادة والاستعانة بالله، فالتوكل أعمّ في جلب المنافع وهو دفع المضار حتى لو كانت في أشياء دنيوية والاستعانة على العبادة.
(والتوكل أعم من الاستعانة و قد جمع الله بين الأصلين في غير موضع كقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، فالعبادة له والاستعانة به والتوكل عليه وحده لا شريك له، الله عز وجل إذا توكل عليه العبد يكفيه و هو حسب من توكل عليه والحسب هو الكافي، يمنع الشر عنك، يكفيك ما أهمك، يكفيك عدوك ..
لما قال الله لنبيه (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال: 64]، بعض الناس يظنون أن المعنى حسبك الله والمؤمنون حسبك أيضاً، يعني يكفونك مع الله، هذا خطأ بل حسبك الله وحسب من اتبعك، يكفيك ويكفيهم .. حسبك وحسبهم .. كلكم .. أنت وهم .. ، ولا يجوز حمل الآية على المعنى الآخر ..(6/112)
ولذلك الآية الأخرى ({وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62]
نعم هنا ممكن ..
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن حاتماً الأصم قال ـ وكان من جملة أصحاب شقيق البلخي ـ وسأله رجل فقال: علام بنيت أمر هذا في التوكل؟ قال: على خصال أربع: علمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت به نفسي وعلمت أني لا أخلو من عين الله حين كنت فأنا مستحي منه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن حاتماً الأصم يقول: من أصبح وهو مستقيم في أربعة أشياء فهو يتقلب في رضا الله: أولها الثقة بالله ثم التوكل ثم الإخلاص ثم المعرفة، والأشياء كلها تتم بالمعرفة.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أحمد بن عبد الله، قال: قيل لحاتم غلام شقيق: علام بنيت علمك؟ قال: على أربع، عليّ فرض لا يؤديه غيري فأنا به مشغول وعلمت أن رزقي لا يجاوزني إلى غيري فقد وثقت به وعلمت أني لا أخلو من عين الله طرفة عين فأنا منه مستحي، وعلمت أن لي أجلا يبادرني فأبادره.
(الفرق بين الحسب والتأييد:
مسألة: هل المؤمن يكفي يكون حسباً؟ ...
الجواب: لا، لكن يكون ناصراً ومؤيداً.
أيدك بالمؤمنين .. أن يؤيدونك وينصرونك .. هذه لا إشكال فيها .. ولا تضاد التوحيد ..
ولكن إذا قلت يكفونك .. من ذا يقدر على الكفاية .. ؟ .. من الذي يستطيع أن يكون حسباً يكفي غيره كل شر من الشرور؟ .. ما يقدر على هذا إلا الله سبحانه وتعالى ..
مسألة: ما معنى ({لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى} [آل عمران: 111]؟
مثل أذى الحر والبرد والجوع والعطش أما أن يضره العدو بما يبلغ به مراده (يعني الشيء الذي يريده العدو فيه) لا .. يعني إذا توكلت على الله لن يضروك إلا أذى، والآية دليلٌ أوفى على أن هناك فرقٌ شاسع بين الأذى والضر.
يعني الشيء الذي لابد منه ولكن ليس على ما يشتهي ويريد العدو .. ، يعني أثر خفيف .. مثل ما يحدث لك من الحر والبرد والجوع والعطش .. ، لكن لا يستطيعون أن يبلغوا ما يريدونه ويتمنونه إذا توكلت على الله ..
(وإذا كان الله قد جعل لكل عمل جزاء من جنسه فقد جعل جزاء التوكل عليه الكفاية، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، ولو كاده كل من في الأرض جميعاً .. !!
ولله درُّ من قال:
وإذا دجى ليل الخطوب وأظلمت سبل الخلاص وخاب فيها الآمل
وأيست من وجه النجاة فما لها سبب ولا يدنو لها متناول(6/113)
يأتيك من ألطافه الفرج الذي لم تحتسبه وأنت عنه غافل
والثقة بالله سبحانه وتعالى والتوكل عليه وتفويض الأمور يليه يريح العبد نفسياً، لأنه الواحد مهما بذل أسباب ستبقى ثغرات يتحسب منها، ويبذل كذا وكذا لكن هذه لا يستطيع أن يفعل فيها شيء، ولو جاءوا ما استطعت .. ولو كادوا لي من هذه الجهة ما لي حيلة .. وضعنا احتياطات من هنا ومن هنا ولكن لو جاءوا من هنا لو فعلوا من هنا ماعندنا احتياطات ... !!، فيصبح العبد مهموماً حتى مع اتخاذ بعض الأسباب .. هناك أشياء لا يقدر عليها فالتوكل يريحه نفسياً .. الأشياء التي لا حيلة له فيها؛ الذي لا يتوكل قلق منها قلق جداً منها لأنه لم يعمل شيء في الموضوع، لكن من يتوكل على الله كفاه الله ما أهمه.
[*] قال الشيخ محمد المنجد حفظه الله في سلسلة أعمال القلوب:
قال لي أحدهم بعد الحج من أهل الشيشان: (جاء الروس اقتحموا علينا، وكنا في بيت فحاصرونا، وهرب من هرب، وبقيت أنا ذهبت إلى حفرة بجانب البيت يلقى فيها محصول البطاطس، ألقيت نفسي فيها ثم اقتحموا البيت و ابتدؤوا التفتيش و علا صياحهم واقتربوا من مكاني وأنا ماعندي سلاح ولا أستطيع أن أهرب .. حفرة .. ، قال لا عندي إلا التوكل على الله وتذكرت موقف من السيرة وآية من القرآن وجعلت أقرأها فسمعت القائد يقول للجندي اذهب وفتش الحفرة، وسمعت وقع خطواته وهو يقترب شيئاً فشيئاً من الحفرة وأنا في الحفرة وأنا مثل الفأر بالمصيدة، وأطل عليّ ونظر إليّ وذهب وقال لا يوجد أحد في الحفرة .. !، أنا استغربت .. عيني في عينه .. !!!!!!)، قلت له: وماذا كنت تقرأ؟، قال: إني تذكرت والذي خطر على بالي في ذلك الموقف القصة في سورة يس .. (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون) .. ما عندي إلا التوكل على الله ..
فهناك أحوال كثيرة المخلوق لا يستطيع أن يفعل فيها شيئاً مادياً .. ماعنده إلا هذا التوكل ..
(تحقيق مراتب التوكل:
(التوكل على الله لابد من تحقيق مراتب فيه وهي كما يلي:
(1) معرفة الرب وصفاته، من قدرته وكفايته وقيوميته، أنت تتوكل على الله وتعتمد عليه يجب أن تكون مؤمنا بقوة الله وقدرته وأنه يكفيك، فالذين يعطلون أسماء الله وصفاته ويلحدون فيها سيخلون بهذه المرتبة ..(6/114)
(2) إثبات الأسباب والمسببات وأنها لا تستقل بنفسها في التأثير، وإن جحد الأسباب وقال كل سبب معطل، هذا غبي مجنون .. ، هناك أسباب، تَنْكِحُ ليأتيك الولد وتبذر ليخرج الزرع .. ، ولذلك أتت القاعدة الذهبية {اعقلها وتوكل} بنص السنة المحمدية كما في الحديث الآتي:
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اعقِلْهَا وَتَوَكَلْ.
وأحياناً لا يجد الواحد إلا الدعاء، ونعم السبب .. ، والله عز وجل عَلَمَ عباده الأخذ بالأسباب فقال: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) الملك: 15]
وقال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ}
[الجمعة:10]
(فالذي يقول لا أعمل شيئاً حتى يأتيني رزقي جاهل بشرع الله وجاهل بقدر الله .. ، قال {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20].
يضربون: أي يسافرون و يذهبون ويتاجرون، وكان أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتاجرون في البر والبحر .. ويعملون في نخيلهم وكان غسل الجمعة .. لماذا أمروا به .. ؟ .. لأنهم كانوا عمال أنفسهم .. يعملون في الحر والنخيل .. العرق يرشح على ملابس الصوف فيكون لها رائحة كريهة في المسجد، فقيل لهم (لو اغتسلتم) كما في البخاري،
[*] ولما سئل الإمام أحمد رحمه الله عن هؤلاء الذين يزعمون أنهم متوكلة ويقولون نقعد وأرزاقنا على الله عز وجل، قال الإمام أحمد: هذا قول رديء أليس الله قد قال (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة 9،10].؟،
[*] وقال صالح بن أحمد بن حنبل: سئل أبي عن قوم لا يعملون ويقولون نحن المتوكلون فقال: هؤلاء مبتدعون) ..
(3) ومن المقامات التي يجب تحقيقها رسوخ القدم في طريق التوحيد .. ، فالعبد إذا حقق التوحيد كان له من التوكل النصيب العظيم {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129] توحيد وتوكل بعده ..
(4) الاعتماد على الله عز وجل في كل الأمور، بحيث يفوض إليه سائر أموره ..(6/115)
(5) أن يحسن الظن بالله عز وجل وتفويض الأمور إلى الله عز وجل كلها ويكون بيد الله أوثق منه بما في يده، لا يضطرب قلبه ولا يبالي بإقبال الدنيا وإدبارها لأن اعتماده على الله .. ، فحاله كحال إنسان أعطاه ملك درهم فَسُرِقَ منه، فقال الملك عندي أضعافه فلا تهتم .. متى جئت أعطيتك أضعافه من خزائني، فمن يعلم أن الله ملك الملوك خزائنه ملأى فلا يقلق إذا فات شيء فإن الغني يعطيه الله بدلاً منه .. فَيُحْسِنُ الظن بالله عز وجل امتثالاً للحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملٍ خيرٌ منهم، وإن تقَّرب إليَّ شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إليَّ ذراعا تقربت إليه باعا و إن أتاني مشيا أتيته هَرْوَلَةً.
فحسن الظن يدعو إلى التوكل على الله، أنت تتوكل على من تظن أنه سينفعك، وإن الإنسان إذا علم وتيقن أن الله هو الغني القادر الحسب الكافي فيتوكل عليه ..
(6) استسلام القلب لله سبحانه وتعالى، فإذا استسلم كاستسلام العبد الذليل لسيده وانقياده له حصل التوكل ..
(7) التفويض، قال تعالى: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} [غافر: 44] أي أتوكل عليه وأستعينه مع مقاطعتي و مباعدتي لكم خدعتموني ..
[*] قال ابن مسعود: إن أشد آية في القرآن تفويضاً" ومن يتوكل على الله فهو حسبه"،
[*] قال ابن القيم رحمه الله نقلاً عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: المقدور يكتنفه أمران: التوكل قبله والرضا بعده"من وجهة نظر الدين والتوحيد"، فمن توكل على الله قبل الفعل ورضى بالمقضي بعد الفعل فهذا إنسان قائم بالعبودية فعلاً) .. ولذلك انظر إلى دعاء الاستخارة: واقدر لي الخير حيث كان كله ثم ارضني به، فالتوكل إذاً على الله تفويض قبل وقوع المقدور ورضى بعد وقوع المقدور ..
(الأمور التي تضاد التوكل:
(1) التطير والتشاؤم .. قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لا طيرة) كما في الحديث الآتي:
(حديثُ أبي هريرةَ في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا عدوى ولا طِيَرَة ولا هامةُ ولا صفر وفرَّ من المجذومِ فرارك من الأسد.(6/116)
والتطير والتشاؤم من الشيء المرئي أو المسموع، كمن يرى أعور فيتشائم به، ويرى طيراً ذهب شمالاً فيتشاءم به، يريد أن يذهب لسفر أو زواج فيلغي المشروع .. ، هذا ينافي التوكل على الله .. ، قال مثلاً كرسي الحجز في الطائرة 13 .. هذا ما أركب فيه .. هذا شؤم .. ، تجنب الرقم 13 ليس من الأسباب المشروعة إطلاقاً، ذهب يضرب صفقة مع رفيقه فرأى حماته، فقال هذا نذير شؤم .. ما دخلها .. ؟!!، فالتطير والتشاؤم منافي للتوحيد،
(ولما جاء أحد المنجمين لعلي رضي الله عنه وهو خارج لقتال البغاة، قال هنا الآن نوء العقرب إذا خرجت يا علي ستخسر في المعركة وتنهزم فخرج علي ثقة بالله وتوكلاً عليه وكتب الله له في تلك الغزوة والخروج البركة والخير والفلاح والانتصار، ولذلك المرء يتعمد مخالفة العرافين والكهنة .. ، فإذا قال له كاهن خروجك هذا شر والنجم كذا فليقل بل مخالفة لك وإيماناً بالتوحيد وإيماناً بالسنة سأخرج و أخالفك يا أيها الدجال والمشعوذ .. وإتيان الكهان والتعلق بهم .. ، تعليق التمائم يخالف التوكل .. ، لأن الإنسان (من تعلق شيئاً وكل إليه) بنص السنة الصحيحة كما في الحديثين الآتيين:
(حديث ابن مسعود في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن الرُقى والتمائمَ والتِوَلَةَ شرك.
(حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئاً وُكِلَ إِلَيْهِ».(6/117)
(لذلك فإن الإنسان لو علق أشياء ولو بالقرآن يتعلق قلبه بالجلد هذا والورق والحبر المكتوب مع أن المفترض أن يتعلق قلبه بالله وليس بأوراق وجلود يجعلها على معصمه أو يعلقها في رقبته، وبعضهم يقول هذه أسباب .. !!!! .. ،هذا خلافنا مع بعض الناس .. أمرنا باتخاذ أسباب شرعية .. أو أي أسباب .. ؟!!!! .. ، التوكل لابد أن يكون معه أسباب شرعية .. ، فالذي يلبس حلقة أو خيط أو يتبرك بالأشجار ويكتب التعاويذ ويعلقها هذه أسباب غير مشروعة فكيف تتخذها .. ؟!!. (من تعلق شيئاً وكل إليه) وحرم من التوكل على الله وصار توكله على هذا الشيء الموضوع، لذلك ترى الناس الذين توحيدهم ضعيف يكثر من هذه الأشياء .. يعلق في السيارة والبيت وعلى رقبته وأولاده ومنها أشياء شركية وكذا .. لأنه يريد أي أسباب .. ما عنده توحيد وتوكل قوي فهو خائف ويريد أي سبب فيفعل أي شيء ولو كان غير مشروع، لذلك ينقلب على عقبيه ويرتد على دبره ولا يحصل له ما يريد ويبقى في خوف وهم ..
(2) ولابد في التوكل على الله من السعي في طلب الرزق، وهذا مهم جداً في عصر شاعت فيه البطالة، بعض الناس يتواكلون على بعض، والابن على أبيه والأخ على أخته الموظفة، وكثير منهم لا يريدون العمل، والله أرشدنا وفتح أبواب لطلب الرزق وأشياء مذكورة في الكتاب والسنة منها ما يلي:
(أ) العمل باليد فإنه ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من عمل يده بنص السنة الصحيحة كما يلي:
(حديث المقدام بن معد يكرب الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (ما أكل أحدٌ طعامٌ قط، خيرٌ من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكلُ من عمل يده)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (والذي نفسي بيده، لأن يأخذ أحدكم حَبْله، فيحتطبَّ على ظهره، خيرٌ له من أن يأتيَ رجلاً فيسألَه، أعطاهُ أو مَنَعه)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (كان زكرياء نجاراً)
(ب) التجارة وهي عمل كثير من المهاجرين وكذلك الأنصار قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10]
وعبد الرحمن بن عوف قال: (دلوني على السوق)(6/118)
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: قدم عبد الرحمن بن عوف، فآخى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، وعند الأنصاري أمرأتان، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال: بارك الله في أهلك ومالك، دلوني على السوق، فأتى السوق فربح شيئا من أقط وشيئا من سمن، فرآه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أيام وعليه وضر من صفرة، فقال: (مَهْيَم يا عبد الرحمن) فقال: تزوجت أنصارية، قال: (فما سقت اليها)، قال وزن نواة من ذهب، قال: (أولم ولو بشاة).
وكان الصحابة يغدون إلى السوق ويشترون ويبيعون بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا، ثم يتلو: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات - إلى قوله - الرحيم}. إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون.
(ج) الحرث والغرس والزرع، والزراعة فيها ميزة في التوكل على الله أكثر من غيرها فالمزارع إذا بذر عنده في قلبه توكل على الله أكثر من التاجر، كلهم يحتاجون التوكل لكن الزارع أكثر، فبعضهم قدم الزراعة من هذه الجهة لما فيها من مزيد تعلق القلب من الله في رجاء حصول النماء والنبات لهذا المحصول و بأن الثمرة تظهر ولا يصيبها آفة وهكذا ..
ثم إن الإنسان يبذل الأسباب في العلاج لأنه ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له شفاء بنص السنة الصحيحة كما يلي:
(حديث أسامة ابن شريك الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: تداووا عباد الله فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد: الهرم.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما أنزل الله داءاً إلا أنزل له شفاء ا.
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن عز وجل.
(حديث ابن عباس الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الدواء من القدر و قد ينفع بإذن الله تعالى.(6/119)
(لكن الأسباب في العلاج غير طلب أسباب الرزق، لأن التداوي ماهو إلا أخذ بالأسباب في هذا المجال ..
(فضائل التوكل:
(1) التوكل مقام جليل عظيم الأثر، بل ومن أعظم واجبات الإيمان وأفضل الأعمال والعبادات المقربة إلى الرحمن، وأعلى مقامات توحيد الله سبحانه وتعالى، فإن الأمور كلها لا تحصل إلا بالتوكل على الله والاستعانة به، ومنزلة التوكل قبل منزلة الإنابة لأنه يتوكل في حصول مراده فهي وسيلة والإنابة غاية، وهو من أجل المراتب وأفضلها وأعمها قدراً ..
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
التوكل نصف الدين والنصف الثاني الإنابة فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة والإنابة هي العبادة.
والتوكل متعلق بكل أمور العبد الدينية التي لا تتم الواجبات والمستحبات إلا بها. ومنزلته أجمع وأوسع المنازل ولا تزال معمورة بالنازلين لسعة متعلق التوكل وكثرة حوائج العالمين .. !!
التوكل يتعلق بكل شيء واجبات ومستحبات ومباحات ولقد كثرت حوائج الناس ولابد لهم من التوكل على الله في قضائها.
فمنزلة التوكل تشتد الحاجة إليها وعباد الله تعالى حقاً إذا نابهم أمر من الأمور فروا إلى الله منيبين إليه ومتوكلين عليه، وبذلك يسهل الله الصعاب وييسر الله العسير ويحقق العبد ما يريد وهو مطمئن البال هاديء النفس راضٍ بما قضاه الله عز وجل وقدره.
[*] قال ابن القيم رحمه الله: ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل من مكانه وكان مأموراً بإزالته لأزاله.
فالمسلم لا يرى التوكل على الله في جميع أعماله واجباً فقط بل يراه فريضة دينية ليس متعلقاً فقط بالأمور الدينية بل بالأمور الدنيوية وليس بالأمور الدنيوية وطلب الرزق فقط بل بعبادة الله سبحانه وتعالى فهو عقيدة، قال تعالى: {وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]
ولهذا كان التوكل على الله نصف الدين، بل هو الواجب لأنه أصل من أصول الإيمان.
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
فإن التوكل على الله واجب من أعظم الواجبات كما أن الإخلاص لله واجب وقد أمر الله بالتوكل في غير آية أعظم مما أمر بالوضوء وغسل الجنابة، ونهى عن التوكل على غيره سبحانه.
[*] قال ابن القيم رحمه الله: والتوكل جامع لمقام التفويض والاستعانة والرضا لا يتصور وجودٌ بدونها.(6/120)
[*] وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: ((الأصل الجامع الذي تتفرع عنه الأفعال والعبادات هو التوكل على الله وصدق الالتجاء إليه والاعتماد بالقلب عليه وهو خلاصة التفريد ونهاية تحقيق التوحيد الذي يثمر كل مقام شريف من المحبة والخوف والرجاء والرضا به رباً وإلهاً والرضا بقضائه بل ربما أوصل التوكل بالعبد إلى التلذذ بالبلاء وعدّه من النعماء {كما في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب} فسبحان من يتفضل على من يشاء بما شاء والله ذو الفضل العظيم)).
(فالتوكل هو أحد مباني توحيد الإلهية كما يدل على ذلك قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وأيضاً يدل عليه قوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123] وقوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129]
وهذا التوكل لا يقوم به على وجه الكمال إلا خواص المؤمنين كما في صفة السبعين ألفاً، فالذي يحقق التوكل ليس كل الناس بل هم طائفة قليلة من الناس ذكرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديثُ ابن عباس في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: عُرِضت عليَّ الأمم فجعل يمرُ النبي معه الرجل والنبيُ معه الرجلان والنبي معه الرهط والنبي ليس معه أحد، ورأيتُ سواداً كثيراً سدَّ الأفق فرجوتُ أن تكون أمتي فقِيل هذا موسى وقومه، ثم قِيل ليَ انظر هكذا وهكذا فرأيتُ سواداً كثيراً سدَّ الأفق فقِيل هؤلاء أمتُك ومع هؤلاءِ سبعون ألفاً يدخلون الجنةَ بغيرِ حساب فتفرَّقَ الناسُ ولم يبينْ لهم، فتذاكرَ أصحابُ النبيِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا نحن وُلدنا في الشرك ولكن هؤلاء أبناؤنا، فبلغ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال {هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون} فقام عُكَّاشةُ ابن مِحصن فقال: أمنهم أنا يا رسولَ الله؟ قال: أنت منهم، فقام آخر فقال أمنهم أنا؟ قال: سبقك بها عُكَّاشة.(6/121)
وكان من الصحابة المتوكلين عمران بن حصين وهو من سادات المتوكلين، رضي الله عنه، الذي كان به بواسير وكان يصبر على ألمها فكانت الملائكة تسلم عليه فاكتوى فانقطع تسليم الملائكة عليه ثم ترك الكي وصبر على الألم فعاد سلام الملائكة عليه.
(2) التوكل على الله صفة علية من صفات عباد الرحمن وشعار يتميزون به عمن سواهم وعلامة بارزة لأهل الإيمان كما قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].
لا يرجون سواه ولا يقصدون إلا إياه ولا يلوذون إلا بجنابه ولا يطلبون الحوائج إلا منه ولا يرغبون إلا إليه ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه المتصرف بالملك لا شريك له ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب كما قال ابن كثير رحمه الله،
[*] وقال سعيد بن جبير: التوكل على الله جماع الإيمان.
وقال عز وجل عن أوليائه إبراهيم والذين آمنوا معه: (رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4]. أي توكلنا عليك في جميع أمورنا وسلمناها إليك وفوضناها إليك.
ولقوة إيمانهم وتوكلهم أمر الله أن نتخذهم أسوة حسنة {إبراهيم والذين آمنوا معه} هكذا توكلوا على الله وسلموا لله الأمور تسليماً مطلقاً. صحبوا التوكل في جميع أمورهم مع بذل جهد في رضا الرحمن.
وأصحاب نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة أحد الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل،
(حديث عن ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: {حسبنا الله ونعم الوكيل}. قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قالوا: {إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}.
فالتوكل هو عدة المؤمنين يوم يتوعدهم الناس ويخوفونهم بكثرة الأعداء. فكان أول شيء وآخر شيء قاله إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار حسبنا الله ونعم الوكيل.(6/122)
(3) ومن الآيات الدالة على فضل التوكل قوله تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38].
فإذا كان المؤمنون دائماً متوكلون على الله ملتجئون إليه بقولهم حسبنا الله ونعم الوكيل فأولى بأنبيائه أن يكونا أكمل توحيداً أو توكلاً من غيرهم.
وقد أمر الله بالتوكل وحث على ذلك في مواضع كثيرة كما في قوله تعالى (إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122] في سبعة مواضع في القرآن الكريم: كما يلي:
{فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79]
{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123]
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 58]
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]
فالتوكل سبب لنيل محبة الله وهي الصفة التي تميز بها المؤمنون عن غيره ولذلك أوجب الله التوكل.
(4) وصار المتوكل على الله من عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً، ونعتهم الله بالمقام الجليل العظيم. وضمن الله لمن توكل عليه القيام بأمره وكفايته أي أن يكفيه همه وأن ينصره ويحفظه فالله ناصر دينه وكتابه والله كافٍ عبده بأمان، قال تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} سورة الطلاق* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2،3].(6/123)
[*] يقول ابن كثير رحمه الله: ومن يتق الله فيما أمره به وترك ما نهاه عنه يجعل له من أمره مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب أي من جهة لا تخطر بباله. وفي هذه الآية فضل التوكل وأنه من أعظم الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار كما في الحديث الآتي:
(حديث عُمَرَ بنِ الْخَطّابِ رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لَوْ أَنّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكّلُونَ عَلَى الله حَقّ تَوَكّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطّيْرُ تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً».
فأفئدة الطير مليئة بالتوكل على الله ولو أننا توكلنا على الله كما يتوكل الطير لرزقنا مثل ما يرزق الطير،
(وقد وصف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المتوكل على الله بوصفين:
(1) السعي في طلب الرزق.
(2) الاعتماد على مسبب الأسباب.
وهذا الحديث مهم في فهم قضية التوكل وفي الأخذ بالأسباب لأن الطير تغدو أي تذهب في الصباح وتبحث عن الرزق وتخرج من أعشاشها وهذا عمل وسعي وجهد وهو الطيران وترجع محملة بالطعام لنفسها ولأفراخها، إذاً فالسعي في طلب الرزق هو الاعتماد القوي على مسبب الأسباب المباحة، وقد قال تعالى: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 49]
والعزيز هو الارتباط ما بين نهاية الآية والتوكل والعزيز الذي لا يذل من استجار به ولا يضيع من لاذ بجنابه حكيم يدبر من توكل عليه بحكمته تدبيراً حسناً. قال ابن كثير – رحمه الله -: ومن يتوكل على الله أي يعتمد على جنابه فإن الله عزيز حكيم والتوكل مركب السائر الذي لا يتأتى السير إلا به ومتى نزل عنه انقطع فوراً وتوقف عن السير وهذا ما لاحظه ابن القيم رحمه الله وهذا يبين منزلة التوكل وفضل التوكل.
(5) ومما يدل على فضله وعلو منزلته أن الله أمر به في أكمل الأحوال والعبدات والمقامات كما يلي:
(المقام الأول مقام العبادة:
قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123] فأمر الله رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين والخلق بالعبادة والتوكل.(6/124)
وقال تعالى: (({وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} * {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب: 3]، توكل على الله في جميع أحوالك وأمورك فهذا التوجيه لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليتوكل على الله ويتقيه ويعبده ويتبع ما يوحى إليه من ربه فهو أمر له ولأمته من بعده إلى يوم القيامة.
(المقام الثاني مقام الدعوة:
فجاء الخطاب لرسول الله والأصل هو خطاب لأمته إلا إذا دل الدليل على تخصيص له قال تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129]
فهو الذي تنتهي إليه القوة والملك والعظمة والجاه وهو حسب من لاذ به ويكفي من استجار به ويدفع عنه الشر عز وجل ويحميه، ونوح عليه السلام أيضاً في مجال الدعوة: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ} [يونس: 71]
فهذه الدعوة من نوح عليه السلام والإنذار الطويل والتذكير المستمر الذي رافقه وقابله من قومه تكذيب وإعراض بعدما بلغ الضيق منه توكل على الله وفوض الأمر إليه وهو ماضٍ في الدعوة. إذاً الداعية إلى الله إذا جُوبه بالإعراض من المدعوين والصدود والرد وعدم الاستجابة فإنه يتوكل على الله والله يكفيه شر هؤلاء المعرضين. ويوسع صدره الذي ضيقوه بإعراضهم.
(المقام الثالث مقام الحكم والقضاء:
قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10](6/125)
فالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره كله إلى الله، أناب إلى ربه وتوكل عليه وفوض أمره لله، كيف يتحاكم الناس لغير الله إذا اختلفوا بشيء من الأمر، وهذا النبي الذي أرسله يُترَك ولا يتحاكم إليه وهو أولى أن يتحاكم إليه ليقول قول الفصل فيما اختلفوا فيه وكيف يتوجهون في أمر من الأمور إلى جهات أخرى والنبي موجود يقضي، فما دام القاضي والحاكم على الحق المبين فلا يبالي بما يعوقه وبمن يرد حكمه وبمن يرفض التحاكم إلى الشريعة التي يقتضي بها فإذا الحاكم والقاضي عليه التوكل على الله.
(المقام الرابع مقام الجهاد وقتال الأعداء:
قال تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
[آل عمران: 121]
فمع أنه يعد العدة ويجهز الجيش ويعيّن الأماكن ويرتب الجيش أي يأخذ بالأسباب ومع ذلك أمر بالتوكل لأن النصر بيد الله قال تعالى: {إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160]
فكأنه يقول لهم إن كنتم في حال ضعف فالنصر بيد الله فتوكلوا عليه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المائدة: 11]
ولو كنتم في حال الكثرة والقوة أيضاً فيجب عليكم أن تتوكلوا فإنكم إذا ما لم تتوكلوا على الله فلن تنفعكم الكثرة {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25]
ولو كانوا في معركة وأرخى لهم العدو جناح الذل وريش الوداعة وظن المؤمنون أن المعركة قد انتهت فلابد أن يبقى الارتباط والتوكل على الله ولو قال العدو نريد السلم وخنعوا {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} سورة [الأنفال: 61]
(المقام الخامس مقام المشورة:(6/126)
قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]
(فأخذ المشورة من باب الأخذ بالأسباب فآراء الناس أسباب تعين على الاهتداء إلى الصواب وأخذ القرار الصحيح، ولكن لا ينفك المؤمن في هذه الحالة حتى لو عندهم كبار المستشارين عن التوكل على الله. ولذلك بعض هؤلاء يغترون ويظنون أن وجود آراء المستشارين يغني عن التوكل وأنه عنده الخبراء الكبار وعنده المستشارون العظماء ونقول يمكن أن يضل هؤلاء كلهم ويأمرون بقرارات خاطئة، وقد يشيرون لأمر صائب ويخطئون في تنفيذه، إذاُ لابد من التوكل على الله حتى مع أخذ الآراء.
فالتوكل لا ينقطع مع أن المعركة انتهت والحرب وضعت أوزارها وخنع الأعداء للسلم و ذلوا واستسلموا، وفي الحديبية كان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قادراً على مواصلة الجهاد والقتال بل كان مستعداً لاقتحام مكة وقال بايعوني على الموت، ولكن جنح للسلم لما جنحوا لها لعل أن تكون فرصة الدعوة مواتية، لذلك فقد دخل في الإسلام بعد الحديبية أضعاف أضعاف ما كان قبله وفي سنوات أقل، إذاً لو طلبوا السلم والحرب الآن توقفت فتوكل على الله وإن أرادوا خداعكم فإن الله حسبك ولابد من استمرار التوكل على الله حتى في حال الغلبة والانتصار على العدو، وفي قصة موسى قال تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} * قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 22، 23]
(المقام السادس مقام طلب الرزق:
قال تعالى: {فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى: 36](6/127)
وقال: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2،3]
(المقام السابع مقام العهود والمواثيق:
وقد أخبر الله عن يعقوب عليه السلام في قصة يوسف وأخوته، قال تعالى: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [يوسف: 66]
والموثق هو العهود والأيمان المغلظة، قال تعالى: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67]
(المقام الثامن مقام الهجرة في سبيل الله:
وهو عظيم وأليم على النفس أن يترك الإنسان مأواه وداره وأمواله ويتغرب ويضحي بعشيرته وبذكريات حبيبته ولكن يهوّن عليه التوكل على الله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل 41، 42]
ومن الذي يهون الهجرة والفرقة هو التوكل على الله. مهاجرة الحبشة الذين اشتد عليهم الأذى هاجروا هجرتين مشهورتين والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاحبه أيضاً هاجروا وفي طريق الهجرة حصل ابتلاء وخوف {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40]
(المقام التاسع مقام إبرام عقود البيع والإجارة والزواج:(6/128)
موسى عليه السلام لما اتفق مع الرجل الصالح على أن يزوجه ابنته على أن يأجره ثماني حجج أجير وراعي غنم وإذا أتم عشراً فهذا حسن وليس بواجب {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 28]
(حكم التوكل:
مسألة: ما حكم التوكل؟
حكم التوكل واجب مثل أصل محبة الله والصبر والإنابة، قال تعالى: {وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]
ولهذا كان التوكل على الله نصف الدين، بل هو الواجب لأنه أصل من أصول الإيمان.
،بل إن التوكل شرط الإيمان. والمفهوم من الآية ((وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) أنه إذا انتفى التوكل انتفى الإيمان.
وأمر الله بالتوكل وقرنه بالإيمان ليدل بذلك على أنهما جزءان إذ التوكل على الوكيل هو الإيمان فأمر بالتوكل قولاً وعملاً بعد الإخبار عن محبته للمتوكل عليه (({قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الملك: 29]. واشترط للإيمان التوكل قال تعالى: {وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]
وهذه جاءت في قصة موسى عليه السلام (({وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} [يونس: 84] إذ لابد من هذا لهذا.
[*] قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: معنى الآية أن موسى عليه السلام أمر قومه بدخول الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم ولا يرتدوا على أدبارهم خوفاً من الجبارين بل يمضوا قدماً لا يخافونهم ولا يهابونهم متوكلين على الله في هزيمتهم مصدقين بصحة وعده لهم إن كانوا مؤمنين.
(صورٌ من توكل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
لقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سيد المتوكلين على ربه تعالى، ودونك صورٌ من توكل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((6/129)
لما نزل مع أصحابه في واد فعلق سيفه في شجرة فتفرق الناس في الوادي يستظلون في الشجر فلم يرعهم إلا والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعوهم فأتوه فإذا بشخص وسيف ساقط فقال الرسول إن رجلاً أتاني وأنا نائم فاتخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي فلم أشعر إلا والسيف صلفاً أي مسلولاً .. انتبه النبي والسيف فوق رأسه .. أين المهرب .. ؟! .. فقال من يمنعك مني .. ؟!! قلت: الله ..
(حديث جابر رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: غزونا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزوة نجد، فلما أدركته القائلة، وهو في واد كثير العضاه، فنزل تحت شجرة واستظل بها وعلق سيفه، فتفرق الناس في الشجر يستظلون، وبينا نحن كذلك إذ دعانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجئنا، فإذا أعرابي قاعد بين يديه، فقال: (إن هذا أتاني وأنا نائم، فاخترط سيفي، فاستيقظت وهو قائم على رأسي، مخترط صلتا، قال: من يمنعك مني؟ قلت: الله، فشامه ثم قعد، فهو هذا). قال: ولم يعاقبه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(وقد تضمن هذا الحديث غرر الفوائد، ودرر الفرائد منها ما يلي:
فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: الله هذه كلمة فيها التوكل والتفويض والاستعانة وكل شيء .. قال: فشام السيف أي أغمده .. وفي رواية سقط السيف من يده .. ، هاهو ذا جالس.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن أبا بكر حدثه فقال: قلت للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه!! فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يا أبابكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما).
(هذا هو التوكل والتفويض يظهر فعلاً في أوقات الأزمات جلياً واضحاً .. أن هذا العبد قلبه مفتقر إلى الرب متوكل عليه مفوض أمره إليه خصوصاً إذا لم يكن هناك أسباب تتخذ إلا تفويض الأمر إلى الله ..
(وجاء الإنكار من ابن عباس رضي الله عنه على بعض أهل اليمن الذين يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون فإذا قدموا مكة سألوا الناس مدوا أيديهم .. فأنزل الله (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) ..
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}.
(صورٌ مشرقة للمتوكلين على الله:
(وهاك قصة لطيفة لامرأة نامت على الدعاء والتوكل ووجدته مضاعفاً من عند الله .. !!(6/130)
(حديث رجل من الطفاوة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن امرأة كانت فيه (يعني بيتا في المدينة، فخرجت في سرية من المسلمين، وتركت ثنتي عشرة عنزا لها وصيصتها؛ كانت تنسج بها، قال: ففقدت عنزا من غنمها وصيصتها، فقالت: يا رب إنك قد ضمنت لمن خرج في سبيلك أن تحفظ عليه، وإني قد فقدت عنزا من غنمي وصيصتي، وإني أنشدك عنزي وصيصتي، قال: فجعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يذكر شدة مناشدتها لربها تبارك وتعالى. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فأصبحت عنزها ومثلها، وصيصتها ومثلها، وهاتيك فائتها فاسألها إن شئت.
(صيصتها) هي الصنارة التي يغزل بها و ينسج كما في " النهاية ".
(فصلٌ في منزلة الثقة بالله تعالى:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الثقة بالله تعالى
قال صاحب المنازل: الثقة: سواد عين التوكل ونقطة دائرة التفويض وسويداء قلب التسليم وصدر الباب بقوله تعالى لأم موسى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} [القصص: 7] فإن فعلها هذا هو عين ثقتها بالله تعالى إذ لولا كمال ثقتها بربها لما ألقت بولدها وفلذة كبدها في تيار الماء تتلاعب به أمواجه وجريانه إلى حيث ينتهي أو يقف.
ومراده: أن «الثقة خلاصة التوكل ولبه» كما أن سواد العين: أشرف ما في العين وأشار بأنه نقطة دائرة التفويض إلى أن مدار التوكل عليه وهو في وسطه كحال النقطة من الدائرة فإن النقطة هي المركز الذي عليه استدارة المحيط ونسبة جهات المحيط إليها نسبة واحدة وكل جزء من أجزاء المحيط مقابل لها كذلك الثقة هي النقطة التي يدور عليها التفويض
وكذلك قوله: «سويداء قلب التسليم» فإن القلب أشرف ما فيه سويداؤه وهي المهجة التي تكون بها الحياة وهي في وسطه فلو كان التفويض قلبا لكانت الثقة سويداءه ولو كان عيناً. أهـ
[*] (أورد النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين عن الشافعي رضي الله تعالى عنه: خير الدنيا والآخرة في خمس خصال:
(1) غنى النفس،
(2) وكف الأذى،
(3) كسب الحلال،
(4) ولباس التقوى،
(5) والثقة بالله عز وجل على كل حال.
(فصلٌ في منزلة التسليم:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة التسليم:(6/131)
وهي نوعان: «تسليم لحكمه الديني الأمري» «وتسليم لحكمه الكوني القدري» (فأما الأول: فهو تسليم المؤمنين العارفين قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء: 65]
فهذه ثلاث مراتب: «التحكيم وسعة الصدر بانتفاء الحرج والتسليم»
(وأما التسليم للحكم الكوني: فمزلة أقدام ومضلة أفهام حير الأنام وأوقع الخصام وهي مسألة الرضا بالقضاء.
(وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
أن التسليم للقضاء يحمد إذا لم يؤمر العبد بمنازعته ودفعه ولم يقدر على ذلك كالمصائب التي لا قدرة له على دفعها وأما الأحكام التي أمر بدفعها: فلا يجوز له التسليم إليها بل العبودية: مدافعتها بأحكام أخر أحب إلى الله منها.
لكانت سوادها ولو كان دائرة لكانت نقطتها.
(فصلٌ في منزلة الصبر:
[*] (عناصر الفصل:
(الإيمان نصف صبر ونصف شكر:
(أولاً الصبر:
(تعريف الصبر:
(أنواع الصبر باعتبار مُتَعَلَقِه:
(حاجة الناس إلى الصبر:
(الصبر الجميل والصفح الجميل والهجر الجميل:
(حكم الصبر:
(فضائل الصبر:
(الأخبار الواردة في فضيلة الصبر:
(أنواع الناس في الصبر:
(مراتب الصبر:
(مجالات الصبر:
(الصبر خلق يمكن تحصيله واكتسابه بترويض النفس وتمرينها:
(آفات في طريق الصبر:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غير مُخِّل:
(الإيمان نصف صبر ونصف شكر:
إن من المعلوم شرعاً أن الإيمان نصفان، نصف صبر ونصف شكر قال تعالى: (إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ) [إبراهيم / 5]
(حديث صهيب بن سنان رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له.
(ولما كان الإيمان نصفين فنصف صبر ونصف شكر، كان حقيقاً على من نصح نفسه وأحب نجاتها وآثر سعادتها أن لا يهمل هذين الأصلين العظيمين، وأن يجعل سيره إلى الله عز وجل في هذين الطريقين القاصدين، ليجعله الله يوم القيامة مع خير الفريقين.
(أولاً الصبر:
(تعريف الصبر:(6/132)
(الصبر لغة: هو المنع والحبس قال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الكهف: 28]، يعني احبس نفسك معهم، والصبر حبس النفس عن الجزع واللسان عن التشكي والجوارح عن لطم الخدود وشق الثياب ونحوهما، ويقال صبر يصبر صبراً، وصبَر نفسه.
[*] (قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:
الصبر في اللغة الحبس وكل من حبس شيئا فقد صبره ومنه المصبورة التي نهى عنها وهي الدجاجة ونحوها تتخذ غرضا وترمى حتى تقتل وسمى رمضان شهر الصبر لأنه شهر تحبس فيه النفس عما تنازع إليه من المطعم والمشرب والمنكح والصابر حابس لنفسه عما تنازع إليه من المشتهى أو شكوى ألم وسمى الصابر في المصيبة صابرا لأنه حبس نفسه عن الجزع.
[*] (وحكى أبو بكر بن الأنباري عن بعض العلماء أنه قال إنما سُمِّيَ الصبر صبرا لأن تمرره في القلب وإزعاجه للنفس كتمرر الصبر في الفم.
واعلم وفقك الله أن الصبر مما يأمر به العقل وإنما الهوى ينهى عنه فإذا فوضلت فوائد الصبر وما تجلب من الخير عاجلا وآجلا بانت حينئذ فضائل العقل وخساسة الهوى.
(وقال أيضاً: ولا يقدر على استعمال الصبر إلا من عرف عيب الهوى وتلمح عقبي الصبر فحينئذ يهون عليه ما صبر عليه وعنه، وبيان ذلك بمثل وهو أن امرأة مستحسنة مرت على رجلين فلما عرضت لهما اشتهيا النظر إليها فجاهد أحدهما نفسه وغض بصره فما كانت إلا لحظة ونسي ما كان، وأوغل الآخر في النظر فعلقت بقلبه فكان ذلك سبب فتنته وذهاب دينه فبان لك أن مداراة المعصية حتى تذهب أسهل من معاناة التوبة حتى تقبل وقد قال بعض السلف من تخايل الثواب خف عليه العلم. أهـ
(والصبر شرعا: فهو حبس النفس عن الجزع واللسان عن التشكي، والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب، ونحوهما.
وقيل: هو خلق فاضل من أخلاق النفس يمتنع به من فعل ما لا يحسن ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها.
[*] سئل عنه الجنيد فقال: " تجرع المرارة من غير تعبس ".
[*] وقال ذو النون المصري: " هو التباعد عن المخالفات، والسكون عند تجرع غُصص البلية، وإظهار الغنى مع الحلول الفقر بساحات المعيشة ".
وقيل: " الصبر هو الوقوف مع البلاء بحسن الأدب ".
وقيل: " هو الغنى في البلوى بلا ظهور شكوى ".
ورأى أحد الصالحين رجلاً يشتكى إلى أخيه فقال له: يا هذا، والله ما زدت على أن شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك.(6/133)
وقيل في ذلك:
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما ... تشكى الرحيم إلى الذي لا يرحم
والشكوى نوعان: شكوى إلى الله عز وجل وهذه لا تنافي الصبر، كقول يعقوب - عليه السلام -: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ} (يوسف: من الآية 86) مع قوله:: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} (يوسف: من الآية 83)
والنوع الثاني: شكوى المبتلى بلسان الحال أو المقال، فهذه لا تجامع الصبر بل تضاده وتبطله.
وساحة العافية أوسع للعبد من ساحة الصبر، ولا يناقض هذا قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وما أعطا أحد عطاءاً خيراً وأوسع من الصبر "، فإن هذا بعد نزول البلاء فساحة الصبر أوسع الساحات، أما قبل نزوله فساحة العافية أوسع.
والنفس مطية العبد التي يسير عليها إلى الجنة أو النار، والصبر لها بمنزلة الخطام والزمام للمطية، فإن لم يكن للمطية خطام ولا زمام شردت في كل مذهب، وحفظ من خطب الحجاج: " إقدعوا هذه النفوس فإنها طلعة إلى كل سوء، فرحم الله امرءاً جعل لنفسه خطاماً وزماماً فقادها بخاطمها إلى طاعة الله، وصرفها بزمامها عن معاصي الله، فإن الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذابه.
والنفس لها قوتان: قوة الإقدام وقوة الإحجام، .. فحقيقة الصبر أن يجعل قوة الإقدام مصروفة إلى ما ينفعه، وقوة الإحجام إمساكا عما يضره، ومن الناس من يصبر على قيام الليل ومشقة الصيام، ولا يصبر على نظرة محرمة، ومنهم من يصبر على النظر والإلتفات إلى الصور، ولا صبر له على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد.
وقيل: الصبر شجاعة النفس، ومن ها هنا أخذ القائل قوله: " الشجاعة صبر ساعة "، والصبر والجزع ضدان، كما أخبر سبحانه وتعالى عن أهل النار: {سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} (إبراهيم: من الآية 21)
(أنواع الصبر باعتبار مُتَعَلَقِه:
الصبر باعتبار مُتَعَلَقِه ثلاثة أقسام:
(1) صبر على طاعة الله.
(2) صبر عن معصية الله.
(3) صبر على أقدار الله المؤلمة.
مسألة: كيف يحصل الصبر على الطاعة؟
الصبر على الطاعة ينشأُ من معرفة أسباب الصبر على المعاصي ومن معرفة ما تجلبه الطاعة من العواقب الحميدة والآثار الجميلة، ومن أَقوى أسبابها: الإيمان والمحبة، فكلما قوى داعي الإيمان والمحبة في القلب كانت استجابته للطاعة بحسبه.
مسألة: أي الصبرين أفضل صبر العبد عن المعصية، أم صبره على الطاعة؟
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه طريق الهجرتين:(6/134)
مسألة تكلم فيها الناس، وهى أي الصبرين أفضل صبر العبد عن المعصية، أم صبره على الطاعة؟ فطائفة رجحت الأول وقالت: الصبر عن المعصية من وظائف الصدّيقين، كما قال بعض السلف: أعمال البر يفعلها البر والفاجر، ولا يقوى على ترك المعاصي إلا صدّيق. قالوا: ولأن داعي المعصية أشد من دواعي ترك الطاعة، فإن داعي المعصية أمر وجودي تشتهيه النفس وتلتذ به، والداعي إلى ترك الطاعة الكسل والبطالة والمهانة، ولا ريب أن داعي المعصية أقوى.
قالوا: ولأن العصيان قد اجتمع عليه داعي النفس والهوى والشيطان وأسباب الدنيا وقرناءُ الرجل وطلب التشبه والمحاكاة وميل الطبع، وكل واحد من هذه الدواعي يجذب العبد إلى المعصية ويطلب أثره، فكيف إذا اجتمعت وتظاهرت على القلب؟ فأي صبر أَقوى من صبر عن إجابتها؟ ولولا أَن الله يصبره لما تأْتى منه الصبر.
وهذا القول كما ترى حجته في غاية الظهور، ورجحت طائفة الصبر على الطاعة بناءً منها على أن فعل المأْمور أَفضل من ترك المنهيات، واحتجت على ذلك بنحو من عشرين حجة. ولا ريب أن فعل المأمورات إنما يتم بالصبر عليها، فإذا كان فعلها أفضل كان الصبر عليها أفضل، وفصل النزاع في ذلك أن هذا يختلف باختلاف الطاعة والمعصية: فالصبر على الطاعة [العظيمة] الكبيرة أفضل من الصبر عن المعصية الصغيرة الدنية، والصبر عن المعصية الكبيرة أفضل من الصبر على الطاعة الصغيرة، وصبر العبد على الجهاد مثلاً أفضل وأعظم من صبره عن كثير من الصغائر، وصبره عن كبائر الإثم والفواحش أعظم من صبره على صلاة الضحى، وصوم يوم تطوعاً ونحوه، فهذا فصل النزاع فى المسألة. والله أعلم.
مسألة: كيف يحصل الصبر عن المعصية؟
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه طريق الهجرتين:
الصبر عن المعصية ينشأُ من أسباب عديدة:
أحدها: علم العبد بقبحها ورذالتها ودناءَتها، وأن الله إنما حرَّمها ونهى عنها صيانة وحماية عن الدنايا والرذائل، كما يحمى الوالد الشفيق والده عما يضره. وهذا السبب يحمل العاقل على تركها ولو لم يعلق عليها وعيد بالعذاب.
السبب الثاني: الحياءُ من الله سبحانه، فإن العبد متى علم بنظره إليه ومقامه عليه وأنه بمرأَى منه ومسمع ـ وكان حييّاً ـ استحى من ربه أن يتعرض لمساخطه.(6/135)
السبب الثالث: مراعاة نعمه عليك وإحسانه إليك، فإن الذنوب تزيل النعم ولا بد، فما أذنب عبد ذنباً إلا زالت عنه نعمة من الله بحسب ذلك الذنب، فإن تاب وراجع رجعت إليه أو مثلها، وإن أصر لم ترجع إليه، ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمة حتى تسلب النعم كلها، قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} * [الرعد: 11]، وأعظم النعم الإيمان، وذنب الزنا والسرقة وشرب الخمر وانتهاب النهبة يزيلها ويسلبها.
وقال بعض السلف: أذنبت ذنباً فحرمت قيام الليل سنة. وقال آخر: أذنبت ذنباً فحرمت فهم القرآن. وفى مثل هذا قيل:
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
وبالجملة فإن «المعاصي نار النعم تأْكلها كما تأْكل النار الحطب»، عياذاً بالله من زوال نعمته وتحويل عافيته.
السبب الرابع: خوف الله وخشية عقابه. وهذا إنما يثبت بتصديقه في وعده ووعيده والإيمان به وبكتابه وبرسوله. وهذا السبب يقوى بالعلم واليقين ويضعف بضعفهما. قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} * [فاطر:28]، وقال بعض السلف: كفى بخشية الله علماً وبالاغترار بالله جهلاً.
السبب الخامس: محبة الله سبحانه وهى أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه. فإن المحب لمن يحب مطيع، وكلما قوى سلطان المحبة في القلب كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى، وإنما تصدر المعصية والمخالفة من ضعف المحبة وسلطانها وفرق بين من يحمله على ترك معصية سيده خوفه من سوطه وعقوبته، وبين من يحمله على ذلك حبه لسيده، وفى هذا قال عمر: ((نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه)) يعنى أنه لو لم يخف من الله لكان في قلبه من محبة الله وإجلاله ما يمنعه من معصيته.
فالمحب الصادق عليه رقيب من محبوبه يرعى قلبه وجوارحه، وعلامة صدق المحبة شهود هذا الرقيب ودوامه.(6/136)
وههنا لطيفة يجب التنبه لها، وهى أن المحبة المجردة لا توجب هذا الأثر ما لم تقترن بإجلال المحبوب وتعظيمه، فإذا قارنها بالإجلال والتعظيم أوجبت هذا الحياءَ والطاعة، وإلا فالمحبة الخالية عنهما إنما توجب نوع أنس وانبساط وتذكر واشتياق، ولهذا يتخلف عنها أثرها وموجبها، ويفتش العبد قلبه فيرى فيه نوع محبة لله، ولكن لا تحمله على ترك معاصيه. وسبب ذلك تجردها عن الإجلال والتعظيم، فما عمر القلب شيء كالمحبة المقترنة بإجلال الله وتعظيمه، وتلك من أفضل مواهب الله لعبده أو أفضلها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ.
السبب السادس: شرف النفس وزكاؤها وفضلها وأنفتها وحميتها أن تختار الأسباب التي تحطها وتضع قدرها، وتخفض منزلتها وتحقرها، وتسوى بينها وبين السفلة.
السبب السابع: قوة العلم بسوءِ عاقبة المعصية، وقبح أثرها والضرر الناشئ منها: من سواد الوجه، وظلمة القلب، وضيقه وغمه، وحزنه وأَلمه، وانحصاره، وشدة قلقه واضطرابه، وتمزق شمله. وضعفه عن مقاومة عدوه، وتعريه من زينته والحيرة في أَمره وتخلى وليه وناصره عنه، وتولى عدوه المبين له، وتوارى العلم الذي كان مستعداً له عنه، ونسيان ما كان حاصلاً له أَو ضعفه ولا بد، ومرضه الذي إذا استحكم به فهو الموت ولا بد، فإِن الذنوب تميت القلوب، ومنها ذله بعد عزة، ومنها أن يصير أسيراً في يد أعدائه بعد أن كان ملكاً متصرفاً يخافه أعداؤه، ومنها أن يضع تأثيره فلا يبقى له نفوذ في رعيته ولا في الخارج فلا رعيته تطيعه إذا أَمرها، ولا ينفذ في غيرهم، ومنها زوال أَمنه وتبدله به مخافة، فأخوف الناس أشدهم إساءة، ومنها زوال الأُنس والاستبدال به وحشة، وكلما ازداد إساءة ازداد وحشة، ومنها زوال الرضا واستبداله بالسخط، ومنها زوال الطمأْنينة بالله والسكون إليه والإيواء عنده واستبدال الطرد والبعد منه، ومنها وقوعه في بئر الحسرات، فلا يزال في حسرة دائمة كلما نال لذة نازعته نفسه إلى نظيرها إن لم يقض منها وطراً، أو إلى غيرها إن قضى وطره منها، وما يعجز عنه من ذلك أضعاف أضعاف ما يقدر عليه، وكلما اشتد نزوعه وعرف عجزه اشتدت حسرته وحزنه.(6/137)
فيالها ناراً قد عذب بها القلب في هذه الدار قبل نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة، ومنها فقره بعد غناه فإنه كان غنياً بما معه من رأْس مال الإيمان وهو يتجر به ويربح الأرباح الكثيرة، فإذا سلب رأْس ماله أصبح فقيراً معدماً، فإما أن يسعى بتحصيل رأْس مال آخر بالتوبة النصوح والجد والتشمير وإلا فقد فاته ربح كثير بما أضاعه من رأْس ماله، ومنها نقصان رزقه، فإن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه، ومنها ضعف بدنه، ومنها زوال المهابة والحلاوة التي لبسها بالطاعة فتبدل بها مهانة وحقارة، ومنها حصول البغضة والنفرة منه في قلوب الناس، ومنها ضياع أعز الأشياءِ عليه وأنفسها وأعلاها، وهو الوقت الذي لا عوض منه، ولا يعود إليه أبداً، ومنها طمع عدوه فيه وظفره به، فإِنه إِذا رآه منقاداً مستجيباً لما يأْمره اشتد طمعه فيه وحدث نفسه بالظفر به وجعله من حزبه حتى يصير هو وليه دن مولاه الحق، ومنها الطبع والرين على قلبه، فإن العبد إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن أذنب ذنباً آخر نكت فيه نكتة أُخرى ولا تزال حتى تعلو قلبه، فذلك هو الران، قال الله تعالى: {كَلا بَل رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكسِبُونَ} * [المطففين: 14]، ومنها أنه يحرم حلاوة الطاعة، فإذا فعلها لم يجد أثرها في قلبه من الحلاوة والقوة ومزيد الإيمان والعقل والرغبة في الآخرة، فإن الطاعة تثمر هذه الثمرات ولا بد. ومنها أن تمنع قلبه من ترحله من الدنيا ونزوله بساحة القيامة، فإن القلب لا يزال مشتتاً مضيعاً حتى يرحل من الدنيا وينزل في الآخرة، فإذا نزل فيها أقبلت إليه وفود التوفيق والعناية من كل جهة، واجتمع على جمع أَطرافه وقضاءِ جهازه وتعبئة زاده ليوم معاده، وما لم يترحل إلى الآخرة ويحضرها فالتعب والعناءُ والتشتت والكسل والبطالة لازمة له لا محالة.
ومنها إعراض الله وملائكته وعباده عنه، فإن العبد إذا أعرض عن طاعة الله واشتغل بمعاصيه أعرض الله عنه فأعرضت عنه ملائكته وعباده، كما أنه إذا أقبل على الله أقبل الله عليه وأقبل بقلوب خلقه إليه، ومنها أن الذنب يستدعى ذنبا آخر، ثم يقوى أحدهما بالآخر فيستدعيان ثالثاً، ثم تجتمع الثلاثة فتستدعى رابعاً، وهلم جرا حتى تغمره ذنوبه وتحيط به خطيئته.(6/138)
قال بعض السلف: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها، (ومنها علمه بفوات ما هو أحب إليه وخير له منها من جنسها وغير جنسها، فإنه لا يجمع الله لعبده بين لذة المحرمات في الدنيا ولذة ما في الآخرة.
كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} * [الأحقاف: 20]، فالمؤمن لا يذهب طيباته في الدنيا، بل لا بد أن يترك بعض طيباته للآخرة.
وأما الكافر فإنه لا يؤمن بالآخرة فهو حريص على تناول حظوظه كلها وطيباته في الدنيا، (ومنها علمه بأن أعماله هي زاده ووسيلته إلى دار إقامته، فإن تزود من معصية الله أوصله ذلك الزاد إلى دار العصاة والجناة، وإن تزود من طاعته وصل إلى دار أهل طاعته وولايته،
(ومنها علمه بأَن عمله هو وليه في قبره وأنيسه فيه وشفيعه عند ربه والمخاصم والمحاج عنه، فإن شاء جعله له، وإن شاء جعله عليه، ومنها علمه بأن أعمال البر تنهض بالعبد وتقوم به وتصعد إلى الله به، فبحسب قوة تعلقه بها يكون صعوده مع صعودها، وأعمال الفجور تهوى به وتجذبه إلى الهاوية وتجره إلى أسفل سافلين، وبحسب قوة تعلقه بها يكون هبوطه معها ونزوله إلى حيث تستقر به، قال الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ والعملُ الصَالِحُ يَرْفَعُهُ} * [فاطر: 10]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ} * [الأعراف: 40]، فلما لم تفتح أبواب السماء لأعمالهم بل أغلقت عنها، لم تفتح لأرواحهم عند المفارقة بل أُغلقت عنها.
وأهل الإيمان والعمل الصالح لما كانت أبواب السماء مفتوحة لأعمالهم حتى وصلت إلى الله سبحانه، فتحت لأرواحهم حتى وصلت إليه تعالى وقامت بين يديه، فرحمها وأمر بكتابة اسمها فى عليين، ومنها خروجه من حصن الله الذي لا ضيعة على من دخله، فيخرج بمعصيته منه إلى حيث يصير نهباً للصوص وقطاع الطريق.
فما الظن بمن خرج من حصن حصين لا تدركه فيه آفة إلى خربة موحشة هي مأْوى اللصوص وقطاع الطريق فهل يتركون معه شيئاً من متاعه؟
(ومنها أنه بالمعصية قد تعرّض لمحق بركته في كل شيء من أمر دنياه وآخرته فإن الطاعة تجلب للعبد بركات كل شيء والمعصية متحق منه كل بركة.(6/139)
وبالجملة فآثار المعصية القبيحة أكثر من أن يحيط بها العبد علماً، وآثار الطاعة الحسنة أكثر من أن يحيط بها علماً فخير الدنيا والآخرة بحذافيره في طاعة الله، وشر الدنيا والآخرة بحذافيره في معصيته.
السبب الثامن: قصر الأمل، وعلمه بسرعة انتقاله، وأنه كمسافر دخل قرية وهو مزمع على الخروج منها، أو كراكب قال في ظل شجرة ثم سار وتركها. فهو لعلمه بقلة مقامه وسرعة انتقاله حريص على ترك ما يثقله حمله ويضره ولا ينفعه، حريص على الانتقال بخير ما بحضرته، فليس للعبد أنفع من قصر الأمل ولا أضر من التسويف وطول الأمل.
السبب التاسع: مجانبة الفضول في مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه واجتماعه بالناس، فإن قوة الداعي إلى المعاصي إنما تنشأُ من هذه الفضلات، فإنها تطلب لها مصرفاً فيضيق عليها المباح فتتعداه إلى الحرام. ومن أعظم الأشياء ضرراً على العبد بطالته وفراغه، فإن النفس لا تقعد فارغة، بل إن لم يشغلها بما ينفعها شغلته بما يضره ولا بد.
السبب العاشر: وهو الجامع لهذه الأسباب كلها: ثبات شجرة الإيمان في القلب، فصبر العبد عن المعاصي إنما هو بحسب قوة إيمانه، فكلما كان إيمانه أقوى كان صبره أتمّ وإذا ضعف الإيمان ضعف الصبر، فإن من باشر قلبه الإيمان بقيام الله عليه ورؤيته له، وتحريمه لما حرم عليه، وبغضه له، ومقته لفاعله وباشر قلبه الإيمان بالثواب والعقاب والجنة والنار، وامتنع من أن لا يعمل بموجب هذا العلم.
ومن ظن أنه يقوى على ترك المخالفات والمعاصي بدون الإيمان الراسخ الثابت فقد غلط، فإذا قوى سراج الإيمان في القلب، وأَضاءَت جهاته كلها به، وأشرق نوره في أرجائه، سرى ذلك النور إلى الأعضاء، وانبعث إليها، فأسرعت الإجابة لداعي الإيمان، وانقادت له طائعة مذللة غير متثاقلة ولا كارهة بل تفرح بدعوته حين يدعوها، كما يفرح الرجل بدعوة حبيبه المحسن إليه إلى محل كرامته. فهو كل وقت يترقب داعيه، ويتأهب لموافاته. والله يختص برحمته من يَشاءُ، والله ذو الفضل العظيم. أهـ
مسألة: كيف يتم تحصيل الصبر على البلاء؟
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه طريق الهجرتين:
الصبر على البلاء ينشأُ من أسباب عديدة:
أحدها: شهود جزائها وثوابها.
الثاني: شهود تكفيرها للسيئات ومحوها لها.
الثالث: شهود القدر السابق الجاري بها، وأنها مقدرة في أُم الكتاب قبل أن يخلق فلا بد منها، فجزعه لا يزيده إلا بلاءً.(6/140)
الرابع: شهوده حق الله عليه في تلك البلوى، وواجبه فيها الصبر بلا خلاف بين الأُمة، أو الصبر والرضا على أحد القولين، فهو مأْمور بأداء حق الله وعبوديته عليه فى تلك البلوى، فلا بد له منه وإلا تضاعفت عليه.
الخامس: شهود ترتبها عليه بذنبه، كما قال الله تعالى: {وَمَآ أصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيَكُمْ} * [الشورى: 30]، فهذا عام في كل مصيبة دقيقة وجليلة، فيشغله شهود هذا السبب بالاستغفار الذي هو أعظم الأسباب في دفع تلك المصيبة. قال على بن أبى طالب: ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رفع بلاءٌ إلا بتوبة.
السادس: أن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختاره وقسمها وأن العبودية تقتضى رضاه بما رضي له به سيده ومولاه، فإن لم يوف قدر المقام حقه فهو لضعفه، فلينزل إلى مقام الصبر عليها، فإن نزل عنه نزل إلى مقام الظلم وتعدى الحق.
السابع: أن يعلم أن هذه المصيبة هي دواءٌ نافع ساقه إليه الطبيب العليم بمصلحته الرحيم به، فليصبر على تجرعه، ولا يتقيأْه بتسخطه وشكواه فيذهب نفعه باطلاً.
الثامن: أن يعلم أن في عُقبى هذا الدواءِ من الشفاءِ والعافية والصحة وزوال الأَلم ما لم تحصل بدونه، فإذا طالعت نفسه كراهة هذا الدواء ومرارته فلينظر إلى عاقبته وحسن تأْثيره. قال تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُم، وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} * [البقرة: 216].
وقال الله تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} * [النساء: 19] وفى مثل هذا القائل:
لعلّ عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجسام بالعلل
التاسع: أن يعلم أن «المصيبة ما جاءَت لتهلكه وتقتله، وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه»، فيتبين حينئذ هل يصلح لاستخدامه وجعله من أوليائه وحزبه أم لا؟ فإن ثبت اصطفاه واجتباه وخلع عليه خلع الإكرام وأَلبسه ملابس الفضل وجعل أولياءَه وحزبه خدماً له وعوناً له، وإن انقلب على وجه ونكص على عقبيه طرد وصفع قفاه وأُقصى وتضاعفت عليه المصيبة، وهو لا يشعر في الحال بتضاعفها وزيادتها، ولكن سيعلم بعد ذلك بأن المصيبة في حقه صارت مصائب، كما يعلم الصابر أن المصيبة فى حقه صارت نعماً عديدة.(6/141)
وما بين هاتين المنزلتين المتباينتين إلا صبر ساعة، وتشجيع القلب في تلك الساعة. والمصيبة لا بد أن تقلع عن هذا وهذا، ولكن تقلع عن هذا بأَنواع الكرامات والخيرات، وعن الآخر بالحرمان والخذلان، لأن ذلك تقدير العزيز العليم، وفضل الله يؤتيه من يشاءُ والله ذو الفضل الْعظيم.
العاشر: أن يعلم أن الله يربى عبده على السراء والضراء، والنعمة والبلاء، فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال. فإن العبد على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال، وأما عبد السراء والعافية الذي يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته. فلا ريب أن الإيمان الذي يثبت على محل الابتلاء والعافية هو الإيمان النافع وقت الحاجة، وأما إيمان العافية فلا يكاد يصحب العبد ويبلغه منازل المؤمنين، وإنما يصحبه إيمان يثبت على البلاءِ والعافية.
فالابتلاء كير العبد [محل] إيمانه: فإما أن يخرج تبراً أحمر، وإما أن يخرج زغلاً [غضاً]، وإما أن يخرج فيه مادتان ذهبية ونحاسية، فلا يزال به البلاءُ حتى يخرج المادة النحاسية من ذهبه، ويبقى ذهباً خالصاً فلو علم العبد أن نعمة الله عليه في البلاءِ ليست بدون نعمة الله عليه في العافية لشغل قلبه بشكره ولسانه، اللَّهم أعنِّى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وكيف لا يشكر من قيض له ما يستخرج خبثه ونحاسه وصيره تبراً خالصاً يصلح لمجاورته والنظر إليه فى داره؟ فهذه الأسباب ونحوها تثمر الصبر على البلاء، فإن قويت أثمرت الرضا والشكر، فنسأل الله أن يسترنا بعافيته، ولا يفضحنا بابتلائه بمنه وكرمه.
والصبر أيضاً نوعان:
(1) بدني.
(2) نفسي.
وكل منهما قسمان: اختياري واضطراري، فصارت القسمة أربعة كما يلي:
(1) بدني اختياري: تعاطي الأعمال الشاقة.
(2) بدني اضطراري: الصبر على ألم الضرب، لأنه يضرب وماله حيلة إلا الصبر.
(3) نفسي اختياري: صبر النفس عن فعل مالا يحسن شرعاً، مكروه مثلاً.
(4) نفسي اضطراري: صبر النفس عن فقد المحبوب الذي حيل بينها وبينه بحيث لو لم تصبر هذا الصبر لوقعت في الجزع المحرم أو النياحة أو لطم الخدود أو شق الجيوب أو قص وحلق الشعور ونحو ذلك.(6/142)
والبهائم تشارك الإنسان في النوعين الاضطراريين ولكن الصبر الاختياري هو الذي يميز الإنسان عن البهيمة، ولهذا كان الاختيارى أكمل من الاضطرارى، فإن الاضطرارى يشترك فيه الناس و يتأتى ممن لا يتأتى منه الصبر الاختيارى ولذلك كان صبر يوسف - عليه السلام - عن مطاوعة امرأة العزيز أعظم من صبره على ما ناله من إخوته لما ألقوه في الجب.
[*] قال رجل من أهل الحكمة: ما غلبني رجل كما غلبني شاب من مرو، قال لي مرة ما الصبر، قلت: إن وجدنا أكلنا وإن فقدنا صبرنا، قال: هذا ما تفعله كلاب مرو عندنا!، قلت فما الصبر عندكم؟ قال: إن فقدنا صبرنا وإن وجدنا آثرنا وأعطينا لغيرنا.
(وعلى ذلك هناك صبر تشارك فيه البهائم الإنسان ولكن هناك صبر يتفوق به المسلم الإنسان على البهيمة والدابة، وقد تجد من الكفار من يصبر على المصائب ويتجلد ولا ينهار ولكن لا يرجو من وراء ذلك جزاء من عند ربه ولا أجراً يوم القيامة ..
وكذلك فإن الصبر متعلق بالتكليف لأن الله ابتلى العباد بواجبات لابد أن يفعلوها ومحرمات لابد أن يتركوها، وأقدار لابد أن يصبروا عليها، فلا يقعوا في الجزع والتسخط و شكوى الخالق إلى المخلوقين.
فالإنسان لا يستغنى عن الصبر في حال من الأحوال لأنه يتقلب بين أمر يجب عليه امتثاله وتنفيذه، ونهي يجب عليه اجتنابه وتركه، وقدر يجرى عليه اتفاقا، ونعمة يجب شكر المنعم بها عليه وإذا كانت هذه الأحوال لا تفارقه، فالصبر لازم له إلى الممات.
وكل ما يلقى العبد في هذه الدار لا يخلو من نوعين:
أحدهما: يوافق هواه ومراده.
والآخر: يخالفه، وهو محتاج إلى الصبر في كل منهما، أما النوع الموافق لغرضه كالصحة، والجاه، والمال، فهو أحوج شيء إلى الصبر فيها من وجوه:
أحدهما: أن لا يركن إليها، ولا يغتر بها، ولا تحمله على البطر، والفرح المذموم الذي لا يحب الله أهله.
والثاني: أن لا ينهمك في نيلها.
والثالث: أن يصبر على أداء حق الله فيها.
والرابع: أن يصبر عن صرفها من الحرام، قال بعض السلف: " البلاء يصبر عليه المؤمن والكافر، ولا يصبر على العافية إلا الصديقون ".
[*] وقال عبد الرحمن بن عوف: ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر!!، ولذلك يحذر الله عباده من فتنة المال، والأزواج والأولاد. فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} (المنافقون: من الآية 9)(6/143)
أما النوع الثاني المخالف للهوى: فلا يخلو إما أن يرتبط باختيار العبد كالطاعات والمعاصي، أو لا يرتبط أوله باختياره كالمصائب، أو يرتبط أوله باختياره ولكن لا اختيار له في إزالته بعد الدخول فيه.
فها هنا ثلاثة أقسام:
(القسم الأول:
ما يرتبط باختياره، وهو جميع أفعاله التي توصف بكونها طاعة أو معصية فأما الطاعة فالعبد محتاج إلى الصبر عليها لأن النفس بطبعها تنفر عن كثير من العبودية، أما في الصلاة فلما فيها من الكسل وإيثار الراحة لا سيما إذ اتفق مع ذلك قسوة القلب، ورين الذنب والميل إلى الشهوات، ومخالطة أهل الغفلة.
وأما الزكاة فلما في طبع النفس من الشح والبخل، وكذلك الحج، والجهاد للأمرين جميعاً.
ويحتاج العبد إلى الصبر على الطاعة في ثلاثة أحوال: قبل الشروع في الطاعة، وذلك بتصحيح النية، والإخلاص في الطاعة، وحين الشروع في الطاعة، وذلك بالصبر على دواعي التقصير والتفريط، واستصحاب النية ولا يعطله قيام الجوارح بالعبودية عن حضور قلبه بين يديه سبحانه.
والثالثة بعد الفراغ من الطاعة، وذلك بالصبر على ما يبطلها، فليس الشأن في الإتيان بالطاعة، وإنما الشأن في حفظها مما يبطلها، فيصبر عن رؤيتها والعجب بها والتكبر، وكذلك يصبر عن نقلها من ديوان السر إلى ديوان العلانية، فإن العبد يعمل العمل سراً بينه وبين الله سبحانه، فيكتب في ديوان السر، فإن تحدث به نقل من ديوان السر إلى ديوان العلانية، فلا يظن أن بساط الصبر انطوى بالفراغ من العمل.
(أما الصبر عن المعاصي فأمره ظاهر، وأعظم ما يعين عليه قطع المألوفات، ومفارقة الأعوان عليه في المجالسة والمحادثة.
(القسم الثاني:
مالا يدخل تحت الاختيار، وليس للعبد حيلة في دفعه كالمصائب، وهي إما أن تكون مما لا صنع لآدمى فيه كالموت والمرض والثانى: ما أصابه من جهة آدمى كالسب والضرب.
فالنوع الأول: للعبد فيه أربعة مقامات: مقام العجز، وهو الجزع والشكوى , والثاني: مقام الصبر، والثالث: مقام الرضى، والرابع: مقام الشكر وهو بأن يشهد البلية نعمة فيشكر المبتلى عليها.
وما أصابه من جهة الناس فله فيه هذه المقامات مضافاً إليها أربعة أخر: الأول: مقام العفو، والثاني: مقام سلامة الصدر من إرادة التشفي، الثالث: مقام القدر، والرابع: مقام الإحسان إلى المسىء.
(القسم الثالث:(6/144)
مما يكون وروده باختياره، فإذا تمكن منه لم يكن له اختيار، ولا حيلة في دفعه.
(حاجة الناس إلى الصبر:
إن من المعلوم شرعاً أن حاجة الناس إلى الصبر حاجةً مُلِحةً ماسةً فهم يحتاجونه حاجتهم لتنفس الهواء وشرب الماء، يحتاجونه في الصبر على الطاعة ويحتاجونه في الصبر عن المعصية ويحتاجونه في الصبر على أقدار الله وخاصةً تقلبات الزمان التي لا مناص منها، وهاك أروع القصص في تقلبات الزمان لتعلم مدى الحاجة الماسة للصبر عليها:
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور والأحزان عن بن عباس قال ما من قوم قال لهم الناس طوبى إلا خبأ لهم الدهر يوما يسوءهم
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور والأحزان عن بن مسعود قال لكل فرحة ترحا وما من بيت مُلِيء فرحا إلا مُلِيء ترحا.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور والأحزان عن سعيد بن أبي بردة قال ما ينتظر من الدنيا إلا كل محزن أو فتنة تنتظر.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور والأحزان عن محمد بن سيرين قال ما كان ضحك قط إلا كان من بعده بكاء.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور والأحزان عن خالد بن سعيد الأموي قال أتى إسحاق بن طلحة بن عبيد الله هندا بنت النعمان بن المنذر فقال أتيتك لتخبرينا عن ملكك وملك أهل بيتك؟ قالت: لقد رأيتنا ونحن من أعز الناس وأشده ملكا ثم ما غابت الشمس حتى رأيتنا من أذل الناس وإني أخبرك أنه حق على الله لا يملأ دارا حبرة إلا ملأها عبرة وقد كان كسرى غضب على النعمان غضبة نفرت منها في بلاد العرب ثم رضي عنه فرد إليه ملكه فقالت أخت النعمان حين رجع إليه ملكه يا أخي قد رد الله إلينا ملكنا ورجع إلينا حسن حالنا وإني لأرثي لك ولي مما الدهر مطلع به علينا.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور والأحزان عن الأصمعي أن هانئ بن أبي قبيصة رأى حرقة بنت النعمان تبكي فقال لها لعل أحدا آذاك قالت لا ولكني رأيت غضارة في أهلكم وقل ما امتلأت دار سرورا إلا امتلأت حزنا.(6/145)
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور والأحزان عن عمر بن بكير أن زيادا وقف على هند بنت النعمان فسألها أن تحدثه فقالت أصبحنا ذا صباح وما في العرب أحد إلا يرجونا ثم أمسينا وما في العرب أحد إلا يرحمنا.
[*] (أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور والأحزان عن محبوب العابد قال مررت بدار من دور الكوفة غداة فسمعت جارية تنادي من داخل الدار «ألا يا دار لا يدخلك حزن» ولا يذهب بساكنك الزمان ثم مررت بالدار فإذا الباب وقد علته كآبة ووحشة فقلت ما شأنهم قالوا مات سيدهم مات رب الدار فوقفت على باب الدار فقرعته وقلت إني سمعت من ههنا صوت جارية تقول
ألا يا دار لا يدخلك حزن ولا يذهب بساكنك الزمان فقالت امرأة من الدار وبكت يا عبد الله إن الله تعالى يغير ولا يغير والموت غاية كل مخلوق فرجعت والله من عندهم باكيا.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور عن بكار بن منقذ قال خرجنا مع الحسن إلى السوق فإذا جارية تقول يا أبتاه مثل يومك لا أرى قال الحسن وأبوك مثل يومه ما رأى يا بنية دليني على منزلك فانطلقت بين يديه وانطلق الحسن ونحن معه حتى وقف على باب الدار فنادى يا أهل هذه الدار ما لي أرى هذا الباب مهجورا بعد أن كان معمورا قال فنادته امرأة من داخل الدار يا عبد الله هكذا أبواب الأرامل واليتامى فانصرف الحسن باكيا.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور عن عروة بن الزبير قال كلمت بنت ملك من ملوك الشام شبب بها عبد الرحمن بن أبي بكر قد كان رآها فيما يقدم الشام فلما فتح الله على المسلمين وقتل أبوها أصابوها فقال المسلمون لأبي بكر يا خليفة رسول الله أعط هذه الجارية عبد الرحمن قد سلمناها له قال أبو بكر كلكم على ذلك قالوا نعم فأعطاها له وكان لها بساط في بلادها لا تذهب إلى الكنيف ولا إلى حاجة إلا بسط لها ورمي بين يديها رمانتان من ذهب تتلهى بهما قال وكان عبد الرحمن إذا خرج من عندها ثم رجع إليها رأى في عينيها أثر البكاء فيقول ما يبكيك اختاري خصالا أيها شئت إما أن أعتقك وأنكحك قالت لا أبتغيه وإن أحببت أن أردك إلى قومك قالت لا أريد وإن أحببت رددتك على المسلمين قالت لا أريد قال فأخبرني ما يبكيك قالت أبكي للملك من يوم البؤس.(6/146)
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور عن الأصمعي قال اشتد جزع سليمان بن عبد الملك على ابنه أيوب أتى إليه المعزون من الآفاق فقال رجل منهم إن امرأ حدث نفسه بالبقاء في الدنيا ثم ظن أن المصائب لا تصيبه فيها لغير جيد الرأي.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور عن أبي كنانة قال أخبرني بريد ليزيد بن المهلب قال حملت حملين مسك من خراسان إلى سليمان بن عبد الملك فانتهيت إلى باب ابنه أيوب وهو ولي العهد فدخلت عليه فإذا دار مجصصة حيطانها وسقوفها وإذا فيها وصفاء ووصائف عليهم ثياب صفرة وحلي الذهب ثم أدخلت دارا أخرى فإذا حيطانها وسقوفها خضر وإذا وصفاء ووصائف عليهم ثياب خضر وحلي الزمرد قال فوضعت الحملين بين يدي أيوب وهو قاعد على سرير معه امرأته لم أعرف أحدهما من صاحبه فانتهب المسك من بين يديه فقلت له أيها الأمير اكتب لي براءة فزبرني فخرجت فأتيت سليمان فأخبرته بما كان فقال قد عرفنا قصتك فكتب لي براءة ثم عدت بعد أحد عشر يوما فإذا أيوب وجميع من كان معه في داره قد ماتوا أصابهم الطاعون.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور عن النعمان بن بشير قال وفدني أبو بكر الصديق في عشرة من العرب إلى اليمن فبينا نحن ذات يوم نسير إذ مررنا إلى جانب قرية أعجبنا عمارتها فقال بعض أصحابنا لو ملنا إليها فدخلنا فإذا هي قرية أحسن ما رأيت كأنها زخائف الرقم وإذا قصر أبيض بفنائه شيب وشبان وإذا جوار نواهد أبكار قد أحجم الثدي على نحورهن قد أخذن المهزام وهن يدرن وسطهن جارية قد علتهن جمالا بيدها دف تضربه وتقول
معشر الحساد موتوا كمدا
كذا نكون ما بقينا أبدا
غيب عنا ما نعانا حسدا(6/147)
وكان جده الشقي الأنكدا وإذا غدير من ماء وإذا سرج ممدود كثير المواشي والإبل والبقر والخيل والأفلاء وإذا قصور مستديرة فقلت لأصحابنا لو وضعنا رحالنا فتأخذ العيون مما ترى حظا وتقضي النفوس منه وطرا فبينا نضع رحالنا إذ أقبل قوم من قبل القصر الأبيض على أعناقهم البسط فبسطوا لنا ثم مالوا علينا بأطايب الطعام وألوان الأشربة فاسترحنا وأرحنا ثم نهضنا للرحلة فأقبل القوم وقالوا إن سيد هذه القرية يقرئكم السلام ويقول اعذروني على تقصير إن كان مني فإني مشغول بعرس لنا وإن أحببتم فدعونا لهم وبركنا فعمدوا إلى ما بقي من ذلك الطعام فملئوا منه سفرنا فقضيت سفري ورجعت متنكبا لذلك الطريق فغبرت برهة من الدهر ثم وفدني معاوية في عشرة من العرب ليس معي أحد ممن كان في الوفد فبينا أحدثهم بحديث القرية وأهلها إذ قال رجل منهم أليس هذا الطريق الآخذ إليها فانتهينا إليها فإذا هي دكادك وتلول وأما القصور فخراب ما يبين منها إلا الرسوم وأما الغدير فليس فيه قطرة من الماء وأما السرج فقد عفا ودثر أمره فبينا نحن وقوف متعجبون إذ لاح لنا شخص من ناحية القصر الأبيض فقلت لبعض الغلمان انطلق حتى نستبرىء ذلك الشخص فقال لبثت أن عاد مرعوبا فقلت له ما وراءك فقال أتيت ذلك الشخص فإذا عجوز عمياء فراعتني فلما سمعت حسي قالت أسألك بالذي بلغك سالما إلا أخذت على عينك ورحت حتى دخلت في التل ثم قالت سل عما بدا لك فقلت أيتها العجوز الغابرة من أنت وممن أنت فأجابتني بصوت ما يبين أنا عميرة بنت دوبل سيد أهل هذه القرية في الزمن الأول
أنا ابنة من قد كان يقري وينزل
ويحنو على الضيفان والليل أليل
من معشر صاروا رميما أبوهم(6/148)
أبو الجحاف بالخير دوبل قلت ما فعل أبوك وقومك؟ قالت أفناهم الزمان وأبادتهم الليالي والأيام وبقيت بعدهم كالمزج بوأه الوكر قلت هل تذكرين زمانا كان لكم في عرس وإذا جوار أخذن المهزام وسطهن جارية بيدها دف تضرب به وتقول أيها الحساد موتوا كمدا فشهقت واستعبرت وقالت والله إني لأذكر ذلك العام والشهر واليوم والعرس كانت أختي وأنا صاحبة الدف قال فقلت لها هل لك أن نحملك على أوطاء دوابنا ونغدوك بغذاء أهلها قالت كلا عزيز علي أن أفارق هذه الأعظم حتى أؤول إلى ما ألو إليه قلت من أين طعامك قالت يمر بي الركب في القرط فيلقون إلي من الطعام ما يكفيني والذي أكتفي به يسير وهذا الكوز مملوء ماء ما أدري ما يأتيني به ولكن أيها الركب معكم امرأة قلنا لا قالت معكم من الثياب البياض قلنا نعم وألقينا إليها ثوبين جديدين فتجللت بهما وقالت رأيت البارحة كأني عروس أتهادى من بيت إلى بيت وقد ظننت أن هذا يوم أموت فيه فأردت امرأة تلي أمري فلم تزل تحدثنا حتى مالت فنزعت نزعا يسيرا وماتت فيممناها وصلينا عليها ودفناها فلما قدمت على معاوية حدثته بالحديث فبكى ثم قال لو كنت مكانكم لحملتها ثم قال ولكن سبق القدر.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور عن نابل بن نجيح قال كان باليمامة رجلان ابنا عم فكثر مالهما فوقع بينهما ما يقع بين الناس فرحل أحدهما عن صاحبه قال فإني ليلة قد ضجرت برغاء الإبل والغنم والكثرة إذ أخذت بيد صبي لي وعلوت في الجبل فأنا كذلك إذ أقبل السيل فجعل مالي يمر بين ولا أملك منه شيئا حتى رأيت ناقة لي قد علق خطامها بشجرة فقلت لو نزلت إلى هذه فأخذتها لعلي أنجو عليها أنا وبني هذا فنزلت فأخذت الخطام وجذبها السيل فرجع علي غصن الشجرة فذهب ماء إحدى عيني وأفلت الخطام من يدي فذهبت الناقة ورجعت إلى الصبي فوجدته قد أكله الذئب فأصبحت لا أملك شيئا فقلت لو ذهبت إلى بن عمي لعله يعطيني شيئا فمضيت إليه فقال لي قد بلغني ما أصابك والله ما أحببت أنه قد أخطأك فكان ذلك أشد مما أصابني فقلت أمضي إلى الشام فأطلب فلما دخلت إلى دمشق إذا الناس يتحدثون أن عبد الملك بن مروان أصيب بابن له فاشتد حزنه عليه فأتيت الحاجب فقلت إني أحدث أمير المؤمنين بحديث يعزيه عن مصيبته هذه فقال أذكر ذلك له وذكره فقال أدخله فأدخلني فحدثته بمصيبتي فقال قد عازيتني بمصيبتك عن مصيبتي وأمر لي بمال فعدت وتراجعت حالي.(6/149)
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور أن عروة بن الزبير على الوليد بن عبد الملك ومعه ابنه محمد بن عروة فدخل محمد بن عروة دار الدواب فضربته دابة فمات ووقعت في رجل عروة الآكلة فقال له الوليد اقطعها قال لا فترقت إلى ساقه فقال الوليد اقطعها وإلا أفسدت جسدك فقطعت بالمنشار وهو يسبح لم يمسكه أحد فقال لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ولم يدع ورده تلك الليلة.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور أنه قدم على الوليد بن عبد الملك ذلك اليوم قوم من بني عبس فيهم رجل ضرير فسأله عن عينيه فقال له بت ليلة في بطن واد ولا أعلم في الأرض عبسيا يزيد ماله على مالي فطرقنا سيل فذهب ما كان لي من أهل وولد ومال غير صبي مولود وبعير وكان البعير صعبا فند فوضعت الصبي واتبعت البعير فلم أجاوزه حتى سمعت صيحة الصبي فرجعت إليه ورأس الذئب في بطنه يأكله واستدبرت البعير لأحبسه فنفحني برجله فأصاب وجهي فحطمه وذهبت عيناي فأصبحت لا أهل ولا مال ولا ولد فقال الوليد انطلقوا به إلى عروة فيخبره خبره ليعلم أن في الناس من هو أعظم منه بلاء.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور عن سعيد أبي عثمان من أهل العلم ثقة قال نظر إلى امرأته فقال ما رأيت مثل هذا الحسن وهذه النضارة وما ذاك إلا من قلة الحزن فقالت يا عبد الله والله إني ليذبحني الحزن ما يشركني فيه أحد قال وكيف قالت ذبح زوجي شاة مضحيا ولي صبيان يلعبان فقال أكبرهما للأصغر أريك كيف صنع أبي بالشاة فعقله فذبحه فما شعرنا به إلا متشحطا فلما استحلت الصيحة هرب الغلام ناحية الجبل فرهقه ذئب فأكله ونحن لا نعلم وقد اتبعه أبوه يطلبه فمات عطشا فأفردني الدهر قال فكيف صبرك فقالت لو رأيت في الجزع دركا ما اخترت عليه.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور عن إبراهيم التيمي قال نزل بنا حي من أحياء العرب فأصابهم داء فماتوا وبقيت منهم جويرية مريضة فلما أفاقت جعلت تسأل عن أمها وأبيها وأخيها وأختها فيقال مات ماتت مات ماتت فرفعت يديها وقالت:
ولولا الأسى ما عشت في الناس ساعة
ولكن متى ناديت جاوبني مثلي(6/150)
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور عن عبد الله بن الأجلح الكندي قال كانت امرأة من بني عامر بن صعصعة وكان لها تسعة من الأولاد فدخلوا غارا وأمهم معهم فخرجت لحاجة وتركتهم فرجعت وقد سقط الغار عليهم فجعلت تسمع أنينهم حتى ماتوا فقالت:
إما تصيبك من الأيام جائحة
فما لقي ما لقيت العام من أحد
ربيتهم تسعة حتى إذا اتسقوا
أفردت منهم كقرن الأعضب الوحد
وكل أم وإن سرت بما ولدت
يوما ستثكل ما ربت من الولد
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور عن أبي بحر البكراوي عن أمه قالت خرجنا هاربين من طاعون القنيات فنزلنا قريبا من سنام قالت وجاء رجل من العرب معه بنون له عشرة فنزل قريبا منا مع بنيه فلم يمض إلا أيام حتى مات بنوه أجمعون وكان يجلس بين قبورهم فيقول
بنفسي فتية هلكوا جميعا
برابية مجاورة سناما
أقول إذا ذكرت العهد منهم
بنفسي تلك اصداء وهاما
فلم أر مثلهم هلكوا جميعا
ولم أر مثل هذا العام عاما
قالت وكان يبكي من سمعه
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور عن محمد بن عبد الله القرشي قال ذكر أعرابي قوما تغيرت حالهم فقال كانوا والله في عيش رقيق الحواشي فطواه الدهر بعد سعة حتى لبسوا أيديهم من القر ولم نر والله دارا أغر من الدنيا ولا طالبا أغشم من الموت ومن عصف عليه الليل والنهار أحراه ومن وكل به الموت أفناه.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور عن أحمد بن محمد المهري قال حدثني رجل من عبد القيس قال دخلت بنت النعمان بن المنذر على معاوية فقال لها أخبريني عن حالكم كيف كانت قالت أطيل أم أقصر قال لا بل قصري فقالت أمسينا مساء وليس في العرب أحد إلا وهو يرغب إلينا ويرهب منا فأصبحنا صباحا وليس في العرب أحد إلا ونحن نرغب إليه ونرهب منه ثم قالت
بينا نسوس الناس في كل بلدة
إذا نحن فيهم سوقة نتنصف
فأف لدنيا لا يدوم نعيمها
تقلب تارات بنا وتصرف(6/151)
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور عن حاجب بن عمر أبو خشينة قال مر زياد بالحيرة فقيل له إن في هذا القصر ابنة النعمان بن المنذر ملك العرب فقال ميلوا إلى باب القصر فدنا منه فقال قولوا لها فلتدن من الباب فدنت فقال لها زياد أخبريني عن دهركم قالت أفسر أو أجمل قال بل أجملي قالت فإنا أصبحنا ذا صباح وما في العرب أهل بيت أغبط عند الناس منا فما آبت الشمس حتى رحمنا عدونا.
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور عن هاشم السلمي قال أعرس رجل من الحي على ابنه قال فاتخذوا لذلك لهوا قال وكانت منازلهم إلى جانب المقابر فوالله إنهم لفي لهوهم ذلك ليلا إذ سمعوا صوتا منكرا أفزعهم فاصغوا مطرقين فإذا هاتف يهتف من بين القبور
يا أهل لذة دنيا لا تدوم لهم
إن المنايا تبيد اللهو واللعبا
كم قد رأيناه مسرورا بلذته
أمسى فريدا من الأهلين مغتربا قال فوالله ما لبثوا بعد ذلك أياما حتى مات الفتى المزوج
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور أن عبد الملك بن مروان وقف على قبر معاوية وعليه ينبوتة تهتز فقال الحمد لله عشرين سنة أميرا وعشرين سنة خليفة ثم صرت إلى هذا
هل الدهر والأيام إلا كما ترى
رزية مال أو فراق حبيب
[*] (وأورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه الاعتبار وأعقاب السرور أن عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية رجلا لعبد الملك بن مروان فلما مات عبد الملك وتصدع الناس عن قبره وقف عليه فقال له أنت عبد الملك الذي كنت تعدني فأرجوك وتوعدني فأخافك أصبحت وليس معك من ملكك غير ثوبيك وليس لك منه غير أربعة أذرع في عرض ذراعين ثم انكفأ إلى أهله فاجتهد في العبادة حتى صار كأنه شن بال فدخل عليه بعض أهله فعاتبه في نفسه وإضراره بها فقال لقائله أسألك عن شيء تصدقني عنه ما بلغه علمك قال نعم قال أخبرني عن حالك التي أنت عليها أترضاها للموت قال اللهم لا قال فاعتزمت على النقال منها إلى غيرها قال ما أشجعت رأيي في ذلك قال أفتأمن أن يأتيك الموت على حالك التي أنت عليها قال اللهم لا قال فبعد الدار التي أنت فيها معتمل قال اللهم ولا قال حال ما أقام عليها عاقل ثم انكفأ إلى مصلاه.
(الصبر الجميل والصفح الجميل والهجر الجميل:(6/152)
سئل الشيخ الإمام العالم العامل الحبر الكامل شيخ الإسلام ومفتي الأنام تقي الدين ابن تيمية أيده الله وزاده من فضله العظيم عن الصبر الجميل و الصفح الجميل والهجر الجميل وما أقسام التقوى والصبر الذي عليه الناس؟
فأجاب رحمه الله:
الحمد لله أما بعد فإن الله أمر نبيه بالهجر الجميل والصفح الجميل والصبر الجميل:
فالهجر الجميل: هجر بلا أذى.
الصفح الجميل: صفح بلا عتاب.
والصبر الجميل: صبر بلا شكوى قال يعقوب عليه الصلاة والسلام (قَالَ إِنّمَآ أَشْكُو بَثّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ) مع قوله (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىَ مَا تَصِفُونَ) فالشكوى إلى الله لا تنافي الصبر الجميل ويروى عن موسى عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول اللهم لك الحمد واليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ومن دعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللهم اليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت
[كتاب الزهد والورع والعبادة، الجزء 1، صفحة 99]
(حكم الصبر:
أصل الصبر واجب، الصبر من حيث الجملة واجب، والله أمر به قال تعالى: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصّبْرِ وَالصّلاَةِ وَإِنّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة: 45]
وقال تعالى: (يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتّقُواْ اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 200]
ونهى عن ضده قال تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لّهُمْ) [الأحقاف: 35]
و قال تعالى: (يَآأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا لَقِيتُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلّوهُمُ الأدْبَارَ) [سورة: الأنفال - الأية: 15]
ورتب عليه خيري الدنيا والآخرة.
(لكن عندما نأتي إلى التفصيل فالصبر منه ما هو صبر واجب، يأثم الإنسان إذا لم يصبر ومنه ما هو صبر مستحب فهو واجب في الواجبات و واجب عن المحرمات و مستحب عن المكروهات و إذا صبر عن المستحب ولم يفعله فصبره مكروه، ومما يدل علىأن الصبر قد لا يكون لازماً قول الله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصّابِرينَ) [النحل: 126]،(6/153)
فهذا يدل على أن الصبر قد لا يكون لازماً لأنك مخيّر بين أن تعاقب من عاقبك؟، ما الحكم الشرعي؟،يجوز لك القصاص فتنتقم منه بمثل ما ظلمك، ما حكم الصبر وعدم الانتقام؟، مستحب، فإذا ً لو قلت ما حكم الصبر على صلاة الفجر؟، واجب، ما حكم الصبر عند المصيبة بمنع النفس عن النياحة؟ واجب، ما حكم الصبر عن الانتقام ممن أساء إليك بمثل ما أساء؟ مستحب ..
فالصبر إذاً منه ما يكون واجباً ومنه ما يكون مستحباً والصبر جاء في صيغة المفاعلة في القرآن فقال {وصابروا}، وهذه عادة ما تكون إلا بين طرفين {وصابروا}، فمعنى ذلك أن هناك مغالبات بين المسلم والعدو، وأننا لابد أن نصابر أنفسنا على باطلهم وعلى جهادهم وعلى مقاتلتهم ومرابطتنا في الثغور وثباتنا عليها حتى لا ينفذوا إلينا من هذه الجهات فهذا صبر مهم جداً ..
(فضائل الصبر:
إن الله سبحانه جعل الصبر جواداً لا يكبو، وصارماً لا ينبو، وجنداً غالباً لا يهزم، وحصناً حصيناً لا يُهْدَم، فهو والنصر أخوان شقيقان، فالنصر مع الصبر، وهو أنصر لصاحبه من الرجال بلا عدّة ولا عدد، ومحله من الظفر محل الرأس من الجسد، وهو سبيل النجاح والفلاح، وهو طريق النجاة، وسلم الوصول، ومنهاج القاصدين، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين،
،وهو فضيلة يحتاج إليها الإنسان في دينه ودنياه، فحال الإنسان إما بين صبر على أمر يجب عليه امتثاله وتنفيذه، ونهي يجب عليه اجتنابه وتركه، وقدر يجري عليه اتفاقاً، ونعمة يجب عليه شكر المنعم عليها، وإذا كانت هذه الأحوال لا تفارقه فالصبر لازم إلى الممات، فالحياة لا تستقيم إلا بالصبر، فهو دواء المشكلات لدار الابتلاء، والصبر زاد المجاهد إذا أبطأ عنه الصبر، وزاد الداعية إذا أبطأ عنه الناس بالإجابة، وزاد العالم في زمن غربة العلم، بل هو زاد الكبير والصغير، والرجل والمرأة، فبالصبر يعتصمون وإليه يلجئون وبه ينطلقون.
[*] قال الإمام أحمد – رحمه الله – في كتاب الزهد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((وجدنا خير عيشنا بالصبر))،إن الله وصف الصابرين بأوصاف وخصّهم بخصائص لم تكن لغيرهم، وذكر الصبر في نحو تسعين موضعاً من الكتاب الكريم، وأضاف أكثر الدرجات والخيرات إلى الصبر وجعلها ثمرة له.
(وهاك غيضاً من فيض ونقطةً من بحر مما ورد في فضائل الصبر:(6/154)
(1) مدح الله عز وجل في كتابه الصابرين، وأخبر أنه إذا كانت الأعمال لها أجر معلوم محدود فإن الصبر أجره لا حد له وهو سبحانه يؤتيهم أجرهم بغير حساب.
قال تعالى: (إِنّمَا يُوَفّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10]
أي: كالماء المنهمر.
(2) إن للصابرين معيّة مع الله، ظفروا بها بخير الدنيا والآخرة، وفازوا بها بنعمة الله الظاهرة والباطنة ومن كان معه الله تعالى فمن عليه: فقال تعالى: {وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: من الآية 46)
(3) وجعل سبحانه الإمامة في الدين منوطة بالصبر واليقين فقال تعالى – وبقوله اهتدى المهتدون:: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة: الآية 24)
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((بالصبر واليقين؛ تُنال الإمامة في الدين)).
(4) وأخبر تعالى أن الصبر خيرٌ لأهله مؤكداً باليمين، فقال تعالي: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} (النحل: من الآية 126)
وأخبر أن مع الصبر والتقوى لا يضر كيدٌ العدو ولو كان ذا تسليط، فقال تعالى: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (آل عمران: من الآية 120)
(5) وعلق الفلاح بالصبر والتقوى، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران: الآية 200)
وأخبر عن محبته لأهله، وفي ذلك أعظم ترغيب للراغبين، فقال تعالى: {وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (آل عمران: من الآية 146)
(6) وبشّر الصابرين بثلاث لم يجعلها لغيرهم، كل منها خير مما عليه أهل الدنيا يتحاسدون: فقال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة: من الآية 155 والآية 156، 157)
(7) وجعل الفوز بالجنة، والنجاة من النار، لا يحظى به إلا الصابرون، فقال عز وجلّ:: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} (المؤمنون: الآية 111)(6/155)
(8) وخص في الانتفاع بآياته أهل الصبر، وأهل الشكر، تمييزاً لهم بهذا الحظ الموفور، فقال في أربع آيات من كتابه جل وعلا: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (من الآيات: إبراهيم: 5، لقمان 31، سبأ 19، الشورى 33)
(9) أخبر الله تعالى عن مضاعفة الأجر للصابرين قال تعالى: (أُوْلََئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مّرّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ) [القصص: 54]
(10) وجعل الصبر سبحانه وتعالى عوناً وعدة وأمر بالاستعانة به، قال تعالى: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصّبْرِ وَالصّلاَةِ وَإِنّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة: 45]
(11) وعلّق النصر على الصبر والتقوى قال تعالى: (بَلَىَ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هََذَا يُمْدِدْكُمْ رَبّكُمْ بِخَمْسَةِ آلآفٍ مّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوّمِينَ) [آل عمران: 125]
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: النصر مع الصبر و الفرج مع الكرب: و إن مع العسر يسرا.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(النصر) من اللّه للعبد على أعداء دينه ودنياه إنما يكون
(مع الصبر) على الطاعة وعن المعصية فهما أخوان شقيقان متلازمان والثاني بسبب الأول وقد أخبر اللّه أنه مع الصابرين أي بهدايته ونصره المبين قال {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} ومن خيريته لهم كونه سبباً لنصرهم على أعدائهم وأنفسهم ولهذا لا يحصل الظفر لمن انتصر لنفسه غالباً [ص 299] قال بعض العارفين: الصبر أنصر لصاحبه من الرجال ومحله من الظفر محل الرأس من الجسد
(والفرج) يحصل سريعاً
(مع الكرب) فلا يدوم معه الكرب فعلى من نزل به أن يكون صابراً محتسباً راجياً سرعة الفرج حسن الظن بربه فإنه أرحم من كل راحم
(وإن مع العسر يسرا) كما نطق به القرآن مرتين ولن يغلب عسر يسرين لأن النكرة إذا أعيدت تكون غير الأولى والمعرفة عينها غالباً قال البعض: وجعل مع على بابها هو الظاهر إذ أواخر أوقات الصبر والكرب والعسر أوائل أوقات مقابلها فتحققت المقارنة وقيل إن نظر للعلم الأزلي فهي متقارنة إذ لا ترتب فيه أو للوجود الحقيقي فمع بمعنى بعد لأن بينهما تضاداً فلا تتصور المقارنة اهـ. وأطيل في رده بما لا يلاقيه عند التأمل.(6/156)
(10) وجعل سبحانه الصبر والتقوى جنة عظيمة من كيد العدو ومكره قال تعالى: (وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتّقُواْ لاَ يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [آل عمران: 120]
(11) وأخبر سبحانه أن ملائكته تسلّم في الجنة على الصابرين قال تعالى: (سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىَ الدّارِ) [الرعد: 24]
(12) وجعل الله الصبر منزلة فوق منزلة المعاقِب لمن عاقبه بمثل العقوبة فهو أفضل وأكثر أجراً قال تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصّابِرينَ) [النحل: 126]
(13) ورتب المغفرة والأجر الكبير على الصبر مع العمل الصالح قال تعالى: (إِلاّ الّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أُوْلََئِكَ لَهُمْ مّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [هود: 11]
(14) وجعل الصبر على المصائب من عزم الأمور وهذه مرتبة لا ينالها أي أحد قال تعالى: (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاُمُورِ) [الشورى: 43]
(15) وأوصى لقمان الرجل الصالح الحكيم ولده بأن يصبر على ما أصابه في سبيل الله قال تعالى: (يَبُنَيّ أَقِمِ الصّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىَ مَآ أَصَابَكَ إِنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاُمُورِ) [لقمان: 17]
(16) ووعد الله المؤمنين بالنصر والظفر، وهي كلمته التي سبقت لهم نالوها بالصبر قال تعالى: (وَتَمّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ الْحُسْنَىَ عَلَىَ بَنِيَ إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ) [الأعراف: 137]
(17) وعلّق تعالى محبته بالصبر، وجعلها لأهل الصبر قال تعالى: (وَكَأَيّن مّن نّبِيّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبّ الصّابِرِينَ) [آل عمران: 146]
وأخبر عن خصال من الخير لا يلقاها إلا الصابرون فقال تعالى في أهل العلم الذين علموا قومهم المفتونين بقارون قال تعالى: (وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللّهِ خَيْرٌ لّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقّاهَآ إِلاّ الصّابِرُونَ) [القصص: 80](6/157)
وعند الدفع بالتي هي أحسن قال تعالى: (وَمَا يُلَقّاهَا إِلاّ الّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقّاهَآ إِلاّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ) [فصلت: 35]
(18) وأخبر أنه لا ينتفع بآياته ولا يستفيد منها إلا صاحب الصبر المكثر منه فأتى به بصيغة المبالغة في قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىَ بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ وَذَكّرْهُمْ بِأَيّامِ اللّهِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ) [سورة: إبراهيم: 5]
وفي سورة لقمان قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللّهِ لِيُرِيَكُمْ مّنْ آيَاتِهِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ) [لقمان: 31]
وبعد قصة سبأ قال تعالى: (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزّقْنَاهُمْ كُلّ مُمَزّقٍ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ) [سبأ: 19]
وفي ذكر النعمة بالسفن على العباد تنقل أنفسهم وبضائعهم قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلاَمِ) [الشورى: 32]
فهذه أربع مواضع في القرآن الكريم تدل على أنه لا ينتفع بالآيات إلا أهل الصبر والشكر، الدين كله صبر وشكر، الإيمان نصفان صبر وشكر، حياة المسلم كلها صبر وشكر، ماذا يوجد في الطاعات والعبادات والتقرب إلى الله غير الصبر والشكر .. ؟ !
(19) وأثنى الله على عبده أيوب بأحسن الثناء لأنه صبر فقال تعالى: (إِنّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نّعْمَ الْعَبْدُ إِنّهُ أَوّابٌ) [ص: 44]
فمدحه بقوله نعم العبد لأنه صبر.
(20) وحكم الله بالخسران حكماً عاماً على من لم يكن من أهل الصبر قال تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * ِإلاّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصّبْرِ) [العصر 1: 3]
(21) وخص الله أهل الميمنة (أصحاب اليمين) بأنهم أهل الصبر والمرحمة قال تعالى: (ثُمّ كَانَ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ) [البلد: 17]
(22) وقرن الصبر بأركان الإسلام ومقامات الإيمان فقرنه بالصلاة قال تعالى: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصّبْرِ وَالصّلاَةِ وَإِنّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة: 45](6/158)
وقرنه بالأعمال الصالحة قال تعالى: (إِلاّ الّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أُوْلََئِكَ لَهُمْ مّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [هود: 11]
وقرنه بالتقوى قال تعالى: (إِنّهُ مَن يَتّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 90]
وقرنه بالتواصي بالحق قال تعالى: (إِلاّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصّبْرِ) [العصر: 3]
وقرنه بالرحمة قال تعالى: (ثُمّ كَانَ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ) [البلد: 17]
وقرنه باليقين قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة: 24]
وقرنه بالصدق قال تعالى: (وَالصّادِقِينَ وَالصّادِقَاتِ وَالصّابِرِينَ وَالصّابِرَاتِ) [الأحزاب: 35]
فنعم المنزلة منزلة الصبر ونعم الخلق خلق الصبر ونعم أهله أهل الصبر.
(23) والصبر طريق الجنة قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنّةَ وَلَمّا يَأْتِكُم مّثَلُ الّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مّسّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضّرّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتّىَ يَقُولَ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىَ نَصْرُ اللّهِ أَلآ إِنّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) [البقرة: 214]
والصبر لدخول الجنة وسبب النجاة من النار، فالجنة حفت بالمكاره، والنار حفت بالشهوات، فكيف تدخل الجنة بدون صبر على المكاره؟، وكيف تقي نفسك النار بدون صبر عن الشهوات؟، وقد نبّه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على المعنى اللطيف في هذا الحديث، حفت الجنة بالمكاره؛ علمنا أنه لا طريق للجنة إلا عبر المكاره، لأنه قال حُفّت، من جميع الجهات، فإذا ما ركبت المكاره لا تدخل الجنة، والمكاره هي ما تكرهه النفس من المجاهدة اللازمة لأداء العبادات (صلاة الفجر – الوضوء في البرد- الصبر على المصائب- الجهاد .... )،فلا يمكن دخول الجنة إلا باختراق المكاره، ولا يمكن اختراقها إلا بالصبر، وأما النار فإنها حفت بالشهوات، ولا يمكن منع النفس من الدخول في النار إلا إذا صبر عن المعاصي وامتنع عن المعصية وحبس نفسه عن ذلك فهذه إذاً فضائل هذا الخلق الكريم.(6/159)
(24) والصبر آخية المؤمن التي يجول ثم يرجع إليها، وساقُ إيمانه التي لا اعتماد له إلا عليها، فلا إيمان لمن لا صبر له، وإن كان فإيمان قليل في غاية الضعف، وصاحبه ممن يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنةٌ انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، ولم يحظ منها إلا بالصفقة الخاسرة، فخير عيش أدركه السعداء بصبرهم، وترقوا إلى أعلي المنازل بشكرهم فساروا بين جناحي الصبر والشكر إلى جنات النعيم، لقوله تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (الحديد: من الآية 21)
(الأخبار الواردة في فضيلة الصبر:
إن الذي يمعن النظر في السنة الصحيحة يجد أن السنة الصحيحة طافحةٌ بما يدل على فضيلة الصبر منها ما يلي:
(حديث أم سلمة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيرا فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون قالت فلما مات أبو سلمة أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت يا رسول الله إن أبا سلمة قد مات قال قولي اللهم اغفر لي وله وأعقبني منه عقبى حسنة قالت فقلت فأعقبني الله من هو خير لي منه محمدا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من يرد الله به خيرا يصب منه.
(حديث ابن مسعود الثابت في الصحيحين) قال: دخلت على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يوعك فمسسته بيدي فقلت يا رسول الله إنك لتوعك وعكا شديدا فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم قال فقلت ذلك أن لك أجرين فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجل ثم قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سيئاته كما تحط الشجرة ورقها.
(حديث سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه و إن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض و ما عليه خطيئة.(6/160)
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن عظم الجزاء مع عظم البلاء و إن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا و من سخط فله السخط.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: مثل المؤمن كمثل خامة الزرع من حيث أتتها الريح كفأتها فإذا سكنت اعتدلت و كذلك المؤمن يكفأ بالبلاء و مثل الفاجر كالأرزة صماء معتدلة حتى يقصمها الله تعالى إذا شاء.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال: لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يعد البلاء نعمة والرخاء مصيبة وحتى لا يبالي من أكل الدنيا، وحتى لا يحب أن يحمد على عبادة الله عز وجل.
(حديث صهيب ابن سنان الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير و ليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر و كان خيرا له و إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: عجبت للمؤمن إن الله تعالى لم يقض له قضاء إلا كان خيرا له.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: النصر مع الصبر و الفرج مع الكرب: و إن مع العسر يسرا.
(حديث أنس الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه - يريد بعينيه - ثم صبر عوضته منهما الجنة.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ إذا قبضتُ صفيَّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة.
(حديث أبي قتادة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمله وهو صحيح مقيم)(6/161)
(حديث خبَّاب بن الأرتِّ رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: شكونا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو متوسِّد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: (قد كان من قبلكم، يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمَّنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).
(حديث عطاء ابن أبي رباح في الصحيحين) قال: قال لي ابن عباس رضيَ الله عنهما ألا أُريك امرأةً من أهل الجنة؟ قلتُ بلى، قال هذه المرأةُ السوداء، أتت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت إني أُصرع وإني أتكشف فادعُ الله لي. قال إن شئتِ صبرتِ ولكِ الجنة وإن شئتِ دعوتُ الله أن يُعافيكِ فقالت أصبر، فقالت إني أتكشف فادعُ الله لي ألا أتكشف فدعا لها.
(حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أوعليك كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو مُوبِقها.
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) مر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بامرأة تبكي عند قبر فقال: اتقي الله واصبري فقالت إليك عني فإنك لم تُصب بمصيبتي ولم تعرفه، فقيل لها إنه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأتت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم تجد عنده بوابين فقالت لم أعرفك فقال إنما الصبر عند الصدمة الأولى.
(حديث أم سلمة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول! < إنا لله وإنا إليه راجعون >! اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها قالت فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخلف الله لي خيرا منه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(6/162)
(حديث أبي موسى الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك و استرجع فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة و سموه بيت الحمد.
(حديث أبي ثعلبة الخُشَنِّي رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن من ورائكم أيام الصبر، للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم. قالوا: يا نبي الله! أو منهم؟ قال: بل منكم.
(أيام الصبر هي أيام الابتلاء في الدين والشهوات المستعرة والشبهات المستحكمة ومع ذلك المرء صابر لدينه. فسماها أيام الصبر لأنه لا يستعمل فيها إلا الصبر ولا حلّ إلا الصبر والصبر هو القائد وهو الملاذ والحصن الحصين، الذي من دخله عُصِم ..
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن من ورائكم زمان صبر للمتمسك فيه أجر خمسين شهيدا منكم.
{تنبيه}: (أيام الصير هذه هي أيام غربة الدين كما في الأحاديث الآتية
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غيبا كما بدأ، فطوبى للغرباء. قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس.
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " طوبى للغرباء , قيل: و من الغرباء يا رسول الله؟ قال: ناسٌ صالحون قليلٌ في ناسٍ سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ".
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(طوبى للغرباء) قال الطيبي: فعلى من الطيب قلبوا الياء واواً للضمة قبلها قيل معناه أصيبوا خيراً على الكتابة لأن إصابة الخير تستلزم طيب العيش فأطلق اللازم وأريد الملزوم قالوا: يا رسول اللّه من هم قال:(6/163)
(ناس صالحون في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم) وفي رواية بدله من يبغضهم أكثر ممن يحبهم ومن ثم قال الثوري: إذا رأيت العَالِم كثير الأصدقاء فاعلم أنه مخلط لأنه لو نطق بالحق لأبغضوه قال الغزالي: وقد صار ما ارتضاه السلف من العلوم غريباً بل اندرس وما أكب الناس عليه فأكثره مبتدع وقد صار علوم أولئك غريبة بحيث يمقت ذاكرها (فائدة) حكى في علم الاهتداء أنه مات فقير فلما جرّد للغسل وجد على عنقه بين الجلد واللحم مكتوباً طوبى لك يا غريب.
(أخرج أبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: لخير أعمله اليوم أحب إليَّ من مثليه مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنا كنّا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تهمنا الآخرة ولا تهمنا الدنيا، وإنا اليوم قد مالت بنا الدنيا. وأخرجه الطبراني عن عبد الله نحوه؛ قال الهيثيم: ورجاله رجال الصحيح.
(الآثار الواردة في فضل الصبر:
ومن الآثار الواردة في فضل الصبر ما يلي:
[*] (أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى عن علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: اعلموا أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ألا وإنه لا إيمان لمن لا صبر له.
[*] قال بعض السلف: لولا مصائب الدنيا لوردنا الآخرة من المفاليس ".
[*] قال سفيان بن عيينة في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة: من الآية 24)
لما أخذوا برأس الأمر جعلناهم رؤوساً، ولما أرادوا قطع رجل عروة ابن الزبير قالوا له: لو سقيناك شيئاً كيلا تشعر بالوجع، قال: إنما ابتلاني ليرى صبري أفأعارض أمره؟!
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري قال: ليس بفقيه من لم يعد البلاء نعمة، والرخاء مصيبة.
[*] قال عمر بن عبد العزيز: " ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه فعاضه مكانها الصبر إلا كان ما عوضه خيراً مما انتزعه.
[*] ومرض أبو بكر الصديق فعادوه فقالوا: ألا ندعو لك الطبيب، فقال " قد رآني الطبيب، قالوا: فأى شيء قال لك؟ فقال: قال: " إني فعال ما أريد ".
[*] وروُى أن سعيد بن جبير قال: " الصبر: اعتراف العبد لله بما أصابه منه واحتسابه عند الله، ورجاء ثوابه، وقد يجزع العبد وهو يتجلد لا يرى منه إلا الصبر ".(6/164)
فقوله: اعتراف العبد لله بما أصابه كأنه تفسير لقوله: {إِنَّا لِلّهِ} (البقرة: من الآية 156). فيعترف أنه ملك لله يتصرف فيه مالكه بما يريد، وراجياً بهما عند الله كأنه تفسير لقوله: {وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} (البقرة: من الآية 156). أي نرد إليه فيجزينا على صبرنا، ولا يضيع أجر المصيبة.
(لله درُّ أقوامٍ امتثلوا ما أمروا، وزجروا عن الزلل فانزجروا، فإذا لاحت الدنيا غابوا وإذا بانت الأخرى حضروا فلو رأيتهم في القيامة إذا حشروا (إِنّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوَاْ)
(جن عليهم الليل فسهروا، وطالعوا صحف الذنوب فانكسروا، وطرقوا باب المحبوب واعتذروا، وبالغوا في المطلوب ثم حذروا، فانظر بماذا وعدوا في الذكر وذكروا (إِنّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوَاْ)
(ربحوا والله وما خسروا، وعاهدوا على الزهد فما غدروا، واحتالوا على نفوسهم فملكوا وأسروا، وتفقدوا أنه المولى فاعترفوا وشكروا (إِنّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوَاْ)
(بيوتهم في خلوها كالصوامع، وعيونهم تنظر بالتقى من طرف خاشع، والأجفان قد سحت سحب المدامع، تسقى بذر الفكر الذي بذروا (إِنّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوَاْ)
(استوحشوا من كل جليس شغلاً بالمعنى النفيس، وزموا مطايا الجد فسارت العيس، وبادروا الفرصة ففاتوا إبليس لا وقفوا ولا فتروا (إِنّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوَاْ)
(أنواع الناس في الصبر:
الناس في الصبر أنواع وهذا تقسيم شيخ الإسلام ابن تيمية لأنه سبر نفوس الناس حسب ما رأى من الدين:
(1) أهل الصبر والتقوى، وهم الذين أنعم الله عليهم من أهل السعادة في الدنيا والآخرة، صبروا على طاعته وصبروا على ترك محارمه.
(2) ناس عندهم تقوى بلا صبر، فقد يكون هناك رجل عابد زاهد قوام صوام متصدق منفق ذاكر قانت لكن إذا نزلت به المصيبة ينهار، فعنده تقوى لكن إذا نزلت به مصيبة انهار.
[*] قال ابن الجوزي:
رأيت كبيراً قارب الثمانين كان يحافظ على الجماعة فمات ولد لابنته فقال ما ينبغي لأحد أن يدعو فإنه لا يستجيب.(6/165)
فالحاصل أنه من الناس من عنده عبادة لكن لا يصبر ولا يتجلد ولا يقاوم عند المصيبة فينهار. بل إن أحد هؤلاء قال: عندي كذا أولاد لا أخشى عليهم إلا منه! - تعالى الله انظر إلى الكفر إذا وصل إلى درجات في هذا الباب، سوء ظنه بالله، ماذا تنفع الصلاة وهذه عقيدته التي في قلبه؟ قال تعالى: (قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالْلّيْلِ وَالنّهَارِ مِنَ الرّحْمََنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِمْ مّعْرِضُونَ) [الأنبياء: 42]،
و قال تعالى: (لَهُ مُعَقّبَاتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ) [الرعد:11]
فالحاصل الذي ليس عنده صبر لا تنفعه عبادته.
(3) ناس لديهم صبر بلا تقوى. مثل الفجار لكنهم جلدين يصبرون على ما يصيبهم ككثير من اللصوص وقطاع الطرق يصبرون على الآلام والمشاق لنيل الحرام، وكذلك طلاب الرياسة والعلو، يصبرون على أنواع من الأذى لا يصبر عليها أكثر الناس. فهو من أجل أن يصل إلى هدفه يضيع صلوات ويأكل حرام ولا يبالي فعنده صبر بلا تقوى وغالب هؤلاء لا يرجون من الله جزاء على صبرهم، فالصبر لديهم خلق مفطورين عليه. ويوجد من الكفار من يتجلّد عند المصيبة فقد جاء مدح الروم في حديث عمرو بن العاص: ((أسرع الناس إفاقة بعد مصيبة))، تقع عليهم الكارثة فيستدركونها بسرعة، ومن تأمل ما حدث لهم وهم النصارى بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، كيف تهدمت بلادهم فما أسرع ما أعادوا بنائها وأعادوا مسيرة الاقتصاد و الإنتاج والزراعة والصناعة وقد مات منهم أكثر من أربعين مليون قال: وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من العشق، يصبرون على ما يهوونه من المحرمات من أنواع الأذى، فربما هذا المعشوق يجعل العاشق يتعذب من أجله ويشتغل لأجله ويحاول إرضائه بشتى الطرق، فعنده صبر ولكن بلا تقوى وهكذا .. ،وقد يصبر الرجل على ما يصيبه من مصائب كالمرض والفقر ولا يكون فيه تقوى إذا قدر، إذا قدر صار جباراً شقياً.
(4) وهو شر الأقسام، لا يتقون إذا قدروا ولا يصبرون إذا ابتلوا قال تعالى: (إِنّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسّهُ الشّرّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) [المعارج 19: 21]
(مراتب الصبر:(6/166)
والصبر مراتب فالصبر على طاعة الله أعلى منزلة من الصبر عن المعاصي والصبر عن المعاصي أعلى منزلة من الصبر على الأقدار. فالصبر على الواجبات أعلى أنواع الصبر لأن جنس فعل الواجبات أعلى درجة عند الله من جنس ترك المحرمات، وأجر ترك المحرمات أكبر من أجر الصبر على المصائب، لأن الصبر على الواجب والصبر على ترك الحرام عملية اختيارية، لكن لما نزلت به المصيبة، شيء بدون اختياره، ليس له إلا كف النفس والصبر.
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن يوسف عليه السلام:
" كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها الذي دعته إليه من الحرام أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجبّ"، فصبره على الفاحشة أكمل وأعظم وأكثر أجراً من صبره على السجن وإلقاء إخوته له لأن الأول فيه شيء اختياري وصبره عليها صبر رضا ومحاربة للنفس لا سيما مع وجود الأسباب القوية المزينة للحرام فكان شاباً أعزباً وغريباً عند البلد و عبداً مملوكاً والمرأة جميلة وصاحبة منصب وهي التي دعته فسقطت الحواجز النفسية ثم استعانت عليه بكيد النسوة وهددته بالسجن، ثم إن زوجها ليست عنده غيرة قال تعالى: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هََذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ) [يوسف: 29]، وغُلّقت الأبواب وغاب الرقيب، فصار داعي الزنا قوي جداً جداً ولكنه صبر عليه الصلاة و السلام، أما الأمور الأخرى من السجن وإلقاء أخوته له في الجبّ فجرت عليه بغير اختياره ولا كسب له فيها.
(مجالات الصبر:
(1) الصبر على بلاء الدنيا قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد: 4]
مشقة وعناء وبلاء وفتن، والله تعالى يقول: (وَلَنَبْلُوَنّكُمْ بِشَيْءٍ مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الأمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثّمَرَاتِ وَبَشّرِ الصّابِرِينَ) [البقرة: 155]
الصبر على مشتهيات النفس قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ) [المنافقون: 9]،
(ولذلك قال بعض السلف: " ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر .. ! ".وقالوا: " البلاء يصبر عليه المؤمن والعافية لا يصبر عليها إلا صدّيق". والصبر على مشتهيات النفس لابدّ أن يكون من وجوه أربعة كما قال ابن القيم رحمه الله:
1 - أن لا يركن إليها ولا يغترّ بها.
2 - أن لا ينهمك في نيلها ويبالغ في استقصائها.
3 - أن يصبر على أداء حق الله فيها.(6/167)
4 - أن لا يصرفها في حرام.
(2) الصبر عن التطلع إلى ما بيد الآخرين، وعن الاغترار بما ينعمون به من مال وبنين، فبعض قوم قارون ما صبروا فقالوا: (قَالَ الّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا يَلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ) [القصص: 79]،
و قال تعالى: (أَيَحْسَبُونَ أَنّمَا نُمِدّهُمْ بِهِ مِن مّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاّ يَشْعُرُونَ) [المؤمنون 55: 56]
و قال تعالى: (وَلاَ تَمُدّنّ عَيْنَيْكَ إِلَىَ مَا مَتّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ) [طه: 131]
(3) الصبر على طاعة الله، وهذا أعظم أنواع الصبر وأشده على النفوس قال تعالى: (رّبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ) [مريم: 65]،
اصطبر أكمل وأبلغ من اصبر فالزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى
و قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) [طه: 132] على الصلاة وعلى أمر الزوجة بالصلاة،
(والصبر على الطاعة له ثلاث أحوال:
(أ) قبل الطاعة بتصحيح النية وطرد شوائب الرياء.
(ب) حال الطاعة أن لا تغفل عن الله فيها ولا تتكاسل عن أدائها وتراعي واجباتها وأركانها والخشوع في الصلاة.
(ج) بعد الفراغ منها بأن لا تفشي ما عملت وتُعجَب به وتُسَمّع به في المجالس قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالأذَىَ) [البقرة: 264]
و قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوَاْ أَعْمَالَكُمْ) [محمد: 33](6/168)
(4) الصبر على مشاق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى فإنه غير خافٍ على الدعاة حال الناس اليوم من البعد عن الدين و البعد هذا يستلزم دعوة كبيرة وإنكاراً للمنكرات وصدع بالحق، فها هو عمر بن عبد العزيز لما استشعر المسؤولية الكبيرة في تغيير الانحرافات المتراكمة من سنوات طويلة في العهود السابقة قال: "إني أعاجل أمراً لا يعين عليه إلا الله" .. !.فنوح عليه السلام صبر هذا الصبر العظيم في الدعوة تسعمائة وحمسين سنة، ألف سنة إلا خمسين عاماً على جميع أنواع الابتلاءات قال تعالى: (قَالَ رَبّ إِنّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيَ إِلاّ فِرَاراً * وَإِنّي كُلّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوَاْ أَصَابِعَهُمْ فِيَ آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً) [نوح 5: 7]، وهكذا سراً وجهاراً ماترك فرصة إلا قام بالدعوة، ثم الدعوة ليست عملية سهلة لأن الإنسان يجد كيد من الأعداء وحسد حتى من الناس الذين يظنهم معهم والقريبين منه على ما آتاه الله من فضله فيتمنون أن يوقع به ويضر ويتوقف ولذلك لابد للداعية أن يصبر في الداخل والخارج، القريبين والبعيدين، مع الناس الذين هم ضده علناً أو الذين يضمرون له الشر في داخل أنفسهم، قال تعالى: (لَتُبْلَوُنّ فِيَ أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الّذِينَ أَشْرَكُوَاْ أَذًى كَثِيراً) [آل عمران: 186]،
والحل .. {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتّقُواْ فَإِنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاُمُورِ}،
قال تعالى: (وَاصْبِرْ عَلَىَ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) [المزمل: 10]،
فالرسل كان من رأس مالهم وبضاعتهم الصبر على إيذاء أقوامهم بل أكّدوا على ذلك وقالت الرسل لأقوامهم: قال تعالى: (وَلَنَصْبِرَنّ عَلَىَ مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُتَوَكّلُونَ) [إبراهيم: 12](6/169)
وقال تعالى: (وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىَ مَا كُذّبُواْ وَأُوذُواْ حَتّىَ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نّبَإِ الْمُرْسَلِينَ) [الأنعام: 34]، وهكذا يصبر الداعية على طول الطريق وعقباته وبطء النصر وتأخره، {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنّةَ وَلَمّا يَأْتِكُم مّثَلُ الّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مّسّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضّرّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتّىَ يَقُولَ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىَ نَصْرُ اللّهِ أَلآ إِنّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) [البقرة: 214]
و قال تعالى: (حَتّىَ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرّسُلُ وَظَنّوَاْ أَنّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّيَ مَن نّشَآءُ وَلاَ يُرَدّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [يوسف: 110](6/170)
(5) إن هناك صبراً حين البأس وفي الحرب وعند لقاء العدو والتحام الصفين فيكون الصبر شرط للنصر والفرار كبيرة ولذلك أوجب الله الثبات قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ) [الأنفال: 45] وحذر من الفرار وتولي الأدبار وعندما تضطرب المعركة وينفرط العقد فيكون الصبر أشد قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ) [آل عمران: 142] و قال تعالى: (وَمَا مُحَمّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفإِنْ مّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىَ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ) [آل عمران: 144]، وحدثنا الله عن الثلة المؤمنة البقية الباقية بعد عمليات الترشيح المستمرة في قصة طالوت، قال تعالى: (مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) [البقرة: 249] وعصوه من قبل ومن بعد وما بقي معه إلا قليل، {فَلَمّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ}، حتى الذين جاوزا النهر كان بعضهم استسلاميين فقالوا: {لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ}، {قَالَ الّذِينَ يَظُنّونَ أَنّهُمْ مُلاَقُواْ اللّهِ كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ}، لذلك كان المسلمون صُبُر عند اللقاء، يصبرون وكانوا يتناقلون بينهم عبارة " إنما النصر صبرُ ساعة"، والمراغمة والمدافعة الآن بين فريقين، الذي يصبر أكثر هو الذي ينتصر، فأوصى الله عباده بالصبر على ما يلاقونه من ضرر الناس وأن لا يقابلوا السيئة بمثلها قال تعالى: (وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السّيّئَةُ ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ) [فصلت: 34]،
فالصبر يكون أحياناً للمعلم على أذى التلميذ، للداعية على أذى المدعوّ، للمربي على أذى المتربي وهكذا .. ، ولذلك يقول الخضر لموسى: (قَالَ إِنّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىَ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً [الكهف: 68]،(6/171)
فتعهّد وقال: (قَالَ سَتَجِدُنِيَ إِن شَآءَ اللّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً) [الكهف: 69]، تعهد ولكنه لم يستطع أن يصبر في تلك المواقف، فإذاً الصبر له مواقف ومواطن وحالات ومجالات ينبغي علينا أن نكون من الصابرين لله فيها ...
(الصبر خلق يمكن تحصيله واكتسابه بترويض النفس وتمرينها:
ورد في السنة الصحيحة ما يفيد أن الصبر خلق يمكن تحصيله واكتسابه بترويض النفس فهناك أناس جبلهم الله على الصبر وبعضهم جبله على قليل منه، فلو كان عند المرء نقص في هذا العمل من أعمال القلوب فيمكن تحصيله بالمران والرياضة النفسية والتدريب عليه والمجاهدة، فهو شيء ممكن اكتسابه وليس شيئاً فطرياً فقط لا يمكن الزيادة عليه، والدليل على أن الصبر خلق مكتسب وليس خلق فطري فقط كما في الأحاديث الآتية:
(حديث أَبِي سَعِيدٍ الثابت في الصحيحين) أَنّ نَاساً مِنَ الأنْصَارِ سَأَلُوارسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَعْطَاهُمْ، ثُمّ سَألُوه فَأَعْطاهُمْ، حتى نَفِد ما عنده فقال: َ مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يستعفف يُعِفّهُ الله، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ الله، وَمَنْ يَتَصَبّرْ يُصَبّرْهُ الله، وَمَا أُعْطِيَ أحَدٌ عطاءاً خَيْراً وَأَوْسَعَ مِنَ الصّبْرِ)
فقد يكون إنسان جزع بأصل طبعه لكن لما علم فضل الصبر وأجره وأهميته ومكانته في الدين قرر ألا يمر بحادث وموقف في حياته إلا ويستعمل الصبر ويجاهد نفسه عليه ويجبرها عليه حتى تصبح صبّارة.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إنما العلم بالتعلم و إنما الحلم بالتحلم و من يتحر الخير يعطه و من يتق الشر يُوَقَّه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إنما العلم) أي تحصيله(6/172)
(بالتعلم) بضم اللام على الصواب كما قاله الزركشي ويروى بالتعليم أي ليس العلم المعتبر إلا المأخوذ عن الأنبياء وورثتهم على سبيل التعليم وتعلمه طلبه واكتسابه من أهله وأخذه عنهم حيث كانوا فلا علم إلا بتعلم من الشارع أو من ناب عنه منابه وما تفيده العبادة والتقوى والمجاهدة والرياضة إنما هو فهم يوافق الأصول ويشرح الصدور ويوسع العقول ثم هو ينقسم لما يدخل تحت دائرة الأحكام ومنه ما لا يدخل تحت دائرة العبادات وإن كان مما يتناوله الإشارة ومنه ما لا تفهمه الضمائر وإن أشارت إليه الحقائق في وضوحه عند مشاهده وتحققه عند متلقيه فافهم قال ابن مسعود تعلموا فإن أحدكم لا يدري متى يحتاج إليه وقال ابن سعد ما سبقنا ابن شهاب للعلم إلا أنه كان يشد ثوبه عند صدره ويسأل وكنا تمنعنا الحداثة وقال الثوري من رق وجهه رق علمه وقال مجاهد لا يتعلم مستحي ولا متكبر وقيل لابن عباس بما نلت هذا العلم قال بلسان سؤول وقلب عقول
(وإنما الحلم بالتحلم) أي ببعث النفس وتنشيطها إليه قال الراغب: الحلم إمساك النفس عن هيجان الغضب والتحكم إمساكها عن قضاء الوطر إذا هاج الغضب
(ومن يتحر الخير يعطه) أي ومن يجتهد في تحصيل الخير يعطه اللّه تعالى إياه
(ومن يتق الشر يوقه) زاد الطبراني والبيهقي في روايتيهما ثلاث من كن فيه لم يسكن الدرجات العلى ولا أقول لكم الجنة من تكهن أو استقسم أو ردّه من سفر تطير (تنبيه) قال بعضهم: ويحصل العلم بالفيض الإلهي لكنه نادر غير مطرد فلذا تمم الكلام نحو الغالب قال الراغب: الفضائل ضربان نظري وعملي وكل ضرب منها يحصل على وجهين أحدهما بتعلم بشرى يحتاج إلى زمان وتدرب وممارسة ويتقوى الإنسان فيه درجة فدرجة وإن فيهم من يكفيه أدنى ممارسة بحسب اختلاف الطبائع في الذكاء والبلادة، والثاني يحصل [ص 570] بفيض إلهي نحو أن يولد إنسان عالماً بغير تعلم كعيسى ويحيى عليهما الصلاة والسلام وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام الذين حصل لهم من المعارف بغير ممارسة ما لم يحصل لغيرهم وذكر بعض الحكماء أن ذلك قد يحصل لغير الأنبياء عليهم السلام في الفيئة بعد الفيئة وكلما كان يتدرب فقد يكون بالطبع كصبي يوجد صادق اللّهجة وسخياً وجريئاً وآخر بعكسه وقد يكون بالتعلم والعادة فمن صار فاضلاً طبعاً وعادة وتعلماً فهو كامل الفضيلة ومن كان رذلاً فهو كامل الرذيلة.
(الأسباب المعينة على الصبر:
مسألة: ما هي الأسباب المعينة على الصبر؟(6/173)
هناك أسباب تكون عوناً بعد الله تعالى في اكتساب فضيلة الصبر منها ما يلي:
(1) المعرفة بطبيعة الحياة الدنيا وما جُبِلت عليه من المشقة والعناء وأن الله خلق الإنسان في كبد وأنه كادح إلى ربه كدحاً فملاقيه وأن الآلام والتنغيص من طبيعة هذه الدنيا والابتلاءات قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنّكُمْ بِشَيْءٍ مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الأمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثّمَرَاتِ وَبَشّرِ الصّابِرِينَ) [البقرة: 155]
(ولله درُّ من قال:
جُبِلت على كَدَرٍ وأنت تُرِيْدها ... صفوٌ من الآلام والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها ... متقلب في الماء جذوة نار
ومن لا يعرف هذه الحقيقة سيتفاجأ بالأحداث، أما الذي يعرف طبيعة الحياة الدنيا إذا حصل له أي ابتلاء ومنغصات فإن الأمر عنده يهون.
(2) الإيمان بأن الدنيا كلها ملك لله تعالى، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، قال تعالى: (وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ) [النحل: 53]،
ولذلك فإن الإنسان إذا حرم من شيء وابتلي يقول: {إنا لله وإنا إليه راجعون}، لا يوجد كلمة أبلغ في علاج المصاب وأنفع له عند المصيبة من تذكير العبد نفسه بهذين الأصلين. والدنيا فانية، والعبد وأهله وماله ملك لله، والمال وأولاده جعلوا عنده عاريّة، وصاحب العارية متى ما شاء استردها، ومصير الناس العودة إلى الله سبحانه وتعالى. وأم سليم لما فقهت هذا فكان لها مع أبي طلحة ذلك الموقف المشهور فلما مات ولده الذي يحبه فقالت: (يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوماً أعاروا أهل بيت عارية فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟) قال: لا .. إن العارية مؤداة، قالت: (إن الله أعارنا فلاناً – ولدنا- ثم أخذه منا) فاسترجع ..
(3) معرفة الجزاء والثواب على هذا الصبر .. وقد تقدم ذكر شيء من هذا .. {نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون}، يوفون أجرهم بغير حساب ..
(4) الثقة بحصول الفرج، والله جعل مع كل عسر يسرين رحمة منه سبحانه، قال تعالى: (فَإِنّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح 5، 6]،
فالعسر معرفة بأل، و يسر نكرة، فالعسر هو نفسه و يسر يسر ٌثانٍ، ولن يغلب عسرٌ يسرين. والله تعالى جعل اليسر مع العسر وليس بعده،
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: النصر مع الصبر و الفرج مع الكرب: و إن مع العسر يسرا.(6/174)
ولذلك فالله ينزل المعونة على قدر البلاء، والله لا يخلف الميعاد، قال تعالى: (فَاصْبِرْ إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ وَلاَ يَسْتَخِفّنّكَ الّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ) [الروم: 60] والفجر ينبلج ولو بعد ليل طويل ..
إن نبي الله يعقوب صبر على فقد يوسف والولد الثاني، وقال: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) [يوسف -: 18]} لا تسخّط فيه ولا جزع، وقال: {عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً}، فبعض الناس يصبرون صبراً غير جميل، والصبر الجميل ليس فيه تشكّي للمخلوقين، قال تعالى: (قَالَ إِنّمَآ أَشْكُو بَثّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [يوسف: 86]
أَشْكُو بَثّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ: أي وليس إليكم.
(5) الاستعانة بالله تعالى واللجوء إلى حماه وطلبة معونته سبحانه، قالها موسى لقومه: (قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُوَاْ إِنّ الأرْضَ للّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ) [الأعراف: 128]،
وحاجة الصابرين إلى الاستعانة عظيمة جداً ولذلك كان التوكل جانباً للمعونة من الله قال تعالى: (الّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَىَ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ) [النحل: 42]
الإيمان بالقضاء والقدر من أعظم ما يعين على الصبر، وأن يعلم العبد أن قضاء الله نافذ وأن يستسلم لما قضاه وقدره مما لا حيلة له به، قال تعالى: (مَآ أَصَابَ مِن مّصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ فِيَ أَنفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّن قَبْلِ أَن نّبْرَأَهَآ إِنّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ) [الحديد: 22]،
ثم إن العبد يعلم أن الجزع والهلع والتبرم والاعتراض والتشكّي والتضجر لا يجدي شيئاً ولا يعيد مفقوداً فلا حلّ إلا بالصبر، والعاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد سبعة أيام .. !، أي يستسلم.
(6) التأمل في قصص الصابرين من أعظم الأسباب المعينة على الصبر:
فهذا نوحٌ عليه السلام صبر في دعوته لقومه صبراً عظيماً دام ألف سنة إلا خمسين عاماً جاهد ودعوة، وصبر على الإيذاء والسخرية، اتهموه بالجنون والسحر والضلال وهو يقابل ذلك بالصبر حتى قالوا: قال تعالى: (قَالُواْ لَئِنْ لّمْ تَنْتَهِ يَنُوحُ لَتَكُونَنّ مِنَ الْمُجْرِمِينَ) [الشعراء: 116] وصبر ..(6/175)
وإبراهيم عليه السلام تعرض لمحنة عظيمة ويصبر صبر الموحد الموقن بوعد الله، حتى لما ألقي في النار قال: {حسبي الله ونعم الوكيل}، حتى لما أُمِر بذبح ولده صبر وهمّ بذبح الولد، وأخذ السكين وأضطجع الولد استسلاماً لأمر الله، والله ابتلاه بهذا الأمر فصبر.
وموسى عليه السلام واجه التهديد والإيذاء من قومه وقوم فرعون قبلهم، فصبر على دعوة قومين!.
والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لما تذكر أخيه موسى: {يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر}.
إبراهيم لما أُمِر بترك ولده وهو حديث عهد ولادة، وقد كان عقيماً، جاءه اسماعيل بعد سنوات طويلة جداً وهو شيخ كبير، وجاءه الأمر من الله اتركه وأمه في وادٍ غير ذي زرع!، مانال الخليل هذه المرتبة من شيء قليل، فمضى ولم يلتفت ولم يتحسر ولم يتردد، حتى قالت هاجر: لمن تتركنا؟ آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، فرجع للشام ورزقه الله من سارة بإسحاق ومن ورائه يعقوب.
وعيسى عليه السلام عانى من بني إسرائيل من التهم الباطلة، تآمروا على قتله وصلبه وصبر حتى رفعه الله إليه.(6/176)
وخاتم الأنبياء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كم تعرض للأذى والاضطهاد، قالوا عنه مجنون ساحر كذاب خائن، وأشد شيء على الصادق أن يتهم بالكذب ,أشد شيء على العاقل أن يقال عنه مجنون، وأشد شيء على الأمين أن يتهم بالخيانة، وأشد شيء على المؤمن أن يقال عنه شاعر ساحر به جنّة، وهو أكمل الخلق وأصدقهم وأعقلهم، ووضعوا الشوك وأخرجوه من بلده، وذهب للطائف يعرض نفسه على القبائل، وأحسّ بالاضطهاد وخرج من مكة لا يدري من الهم لم يستفق إلى في قرن الثعالب، حتى تآمروا على قتله قال تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال: 30]، وقتلوا بعض أصحابه وعذبوا بعضهم، وأشد شيء على النبي أن يرى أتباعه يضطهدون ويقتلون أمامه، يمر عليهم فيقول: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)، وهكذا صبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أتاه اليقين من ربّه بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة حتى لما ذهب المدينة لا يُظَنّ أن مجالات الصبر قد خفّت لأنه عانى من المنافقين معاناة عظيمة، يكفي حادثة الإفك، وصبر على كيد اليهود، ووضعوا له السم، وكانت نوبات الحمى تنتابه حتى مات في آخر نوبة منها فكان في ذلك أجله وهكذا أصحابه، بلال، سمية، صهيب، عمار، مقداد، أبو بكر، صهروهم في الشمس وعذبوهم ..
وهذا الصحابي خبيب، يسجن ليقتل ويصلب ..
ولست أبالي حين أقتل مسلماً: على أي جنبٍ كان في الله مصرعي
والمرأة التي قُتِل أبوها وأخوها وزوجها في يوم أحد فصبرت على ما حصل لها من هذه الأقدار، فماتوا في رفعة الدين ونصرة الدين وجهاد الكفار، وهكذا سار على هذا المنوال التابعون وتابعو التابعين ..(6/177)
وعروة بن الزبير من أفاضل التابعين وأخيار التابعين، كان له ولد اسمه محمد من أحسن الناس وجهاً، دخل على الوليد في ثياب جميلة فقال الوليد: هكذا تكون فتيان قريش، ولا دعا بالبركة فقالوا أنه أصابه بالعين، خرج هذا محمد بن عروة بن الزبير من المجلس فوقع في اصطبل للدواب فلا زالت الدواب تطأه حتى مات، ثم مباشرة وقعت الآكلة (الغرغرينا) في رجل عروة وقالوا لابد من نشرها بالمنشار وقطعها حتى لا تسري لأماكن الجسد فيهلك، فنشروها فلما وصل المنشار إلى القصبة (وط الساق) وضع رأسه على الوسادة فغشي عليه ثم أفاق والعرق يتحدّر من وجهه وهو يهلل ويكبّر ويذكر الله، فأخذها وجعل يقلبها ويقبلها في يده وقال: ((أما والذي حملني عليك إنه ليعلم أنني ما مشيت بك إلى حرام ولا إلى معصية ولا إلى ما لا يرضي الله))، ثم أمر بها فغسلت وطيبت وكفنت وأمر بها أن تقدم إلى المقبرة، لما جاء من السفر بعد أن بترت رجله وفقد ولده قال لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً، ولما قالوا: نسقيك شيئاً يزيل عقلك؟ قال: إنما ابتلاني ليرى صبري، ورفض.
وأبوقلابة ممن ابتلي في بدنه ودينه، وأريدعلى القضاء وهرب إلى الشام فمات بعريضة وقد ذهبت يداه ورجلاه وبصره وهو مع ذلك حامد شاكر.
أحمد بن بنصر الخزاعي من كبار علماء السلف كان قوالاً بالحق آمراً بالمعروف، نهاءً عن المنكر، ثبت في محنة خلق القرآن، حملوه إلى سامراء فجلس مقيداً وعرض عليه الرجوع عن القول بأن القرآن كلام الله المنزل وعرض عليه القول بخلق القرآن فرفض، وقاموا عليه بحرب نفسية وجسدية .. ، فيقوم القاضي عند خليفة السوء فيقول إنه حلال الدم، ووافقه من كان حاضراً، وأحمد بن أبي دؤاد قال شيخ كبير، يتظاهر بالشفقة عليه، فقال الخليفة: ما أراه إلا مؤدياً لكفره فأخذ السيف وقال إني أحتسب خطاي إلى هذا الكافر .. !، فضرب به عنقه بعد أن مدوا رأسه بحبل، ونصب رأسه بالجانب الشرقي من بغداد، يقول أحد أهل العلم جعفر بن محمد الصائغ رأيت أحمد بن نصر الخزاعي حين قُتِل قال رأسه لا إله إلا الله وهذا من كراماته رحمه الله، قال الإمام أحمد رحمه الله عنه: جاد بنفسه في سبيل الله.(6/178)
والإمام أحمد نفسه كيف صبر في محنة خلق القرآن؟، حُمِل هو ومحمد بن نوح وهو شاب وليس عالماً لكن صبر مع الإمام أحمد، فحُمِل إلى المأمون، يشاء الله أن محمد بن نوح يمرض ويوصي الإمام أحمد: أنت إمام وأنا أموت ولا أحد يأبه لي، فاصبر .. ، ويموت محمد في الطريق، ويؤخذ الإمام أحمد رحمه الله مقيد، ودخل عليه بعض الناس قبل الدخول على الخليفة (هناك أحاديث في التقية والمرء عند الشدة يمكن أن يورِّي حتى تمضي العاصفة)، قال: كيف تصنعون بحديث خبّاب؟ إنه من كان قبلكم يُنشَر أحدهم بالمنشار ثم لا يصده ذلك عن دينه فيئسوا منه وتركوه، وقال اللهم لا تريني وجه المأمون، فمات المأمون قبل أن يصل أحمد، ووصل الخليفة الذي بعده والمحنة مازالت مستمرة، فيقول له: يا أحمد إنها والله نفسك، إنه لا يقتلك بالسيف ولكن يضربك ضرباً بعد ضرب حتى تموت، قال ناظَر ابن أبي دؤاد، فأسكت، هاتوا شيء من القرآن أقول به، هاتوا شيء من السنة أقول به فلا يأتون بدليل، يقول الخليفة لأحمد: تعرف صالح الرشيدي؟،قال: سمعت باسمه، قال: كان مؤدبي، فسألته عن القرآن فخالفني، ولما خالفني وأصر على أن القرآن غير مخلوق أُمِرت به فوطيء وسُحِبَ حتى مات، قال: هاتوا العقابين والسياط، قال: اءتوني بغيرها، ثم قال الخليفة للجلادين: تقدموا واضربوه، وربطوا الإمام أحمد، وكل فرد منهم يضرب سوطين و بأقوى ما عنده ويقول الخليفة للجلاد: شدّ يداً قطع الله يدك .. ،(6/179)
لينال أحمد رحمه الله أعظم العذاب بالضرب على أيديهم، ثم يقول الخليفة علامَ تقتل نفسك إني عليك لشفيق وجعل ذلك القائم على رأسه الحارس ينخسه بالسيف، وذاك يقول ويحك يا أحمد ما أجبتني، أجبني إلى أي شيء يكون لك فيه فرج حتى أطلقك فيقول: يا أمير المؤمنين أعطني شيئاً من كتاب الله ومن سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم يأتي الجلاد ويضرب وهكذا تستمر عملية الضرب حتى قال ذهب عقلي فأفقت والأقياد في يدي فقال لي رجل كببناك على وجهك وجعلنا فوقك حصيراً ووطئنا عليك فقال ماشعرت بذلك، أتوني بأكل فقلت لا أفطر وكان صائماً، ثم جاؤوا به والدم يسيل في ثوبه فصلى فقال أحدهم: صليت والدم يسيل في ثوبك؟ قال أحمد: صلى عمر وجرحه يثعب دماً، ثم مكث في السجن ثم خُلّي عنه بعد 28 شهراً، ثم جُعِل في الإقامة الجبرية، في بيته، وليس هناك أصعب على العالم من أن يتوقف عن نشر العلم، سئل أحدهم عن الإمام أحمد رحمه الله فقال: رجل هانت عليه نفسه في سبيل الله فبذلها كما هانت على بلال نفسه، لولا أحمد لذهب الإسلام.
فيا ضعيف العزم الطريق طويل .. تعب فيه آدم .. وجاهد فيه نوح .. وألقي في النار إبراهيم .. واضطجع للذبح إسماعيل .. وشق بالمنشار زكريا وذبح الحصور يحيى وقاسى الضر أيوب وزاد على المقدار بكاء داود، واتهم بالسحر والجنون نبي الله الكريم وكسرت رباعيته وشج رأسه ووجهه وقُتِل عمر مطعوناً وذو النورين علي والحسين وسعيد بن جبير وعذب ابن المسيب ومالك .. ، فالشاهد أنه في النهاية لا سبيل إلا الصبر ..
(ولذلك يقول عمر رضي الله عنه: ((أدركنا أفضل عيشنا بالصبر))،يعني ما طابت الحياة إلا بالصبر مع مافيها من المنغصات والشدائد، فهو العمل القلبي الذي تطيب معه الحياة ولا تطيب بدونه، ولذلك ينبغي على العبد أن لا يفعل شيئاً ينافي الصبر، مثل شكوى الخالق للمخلوق والتبرم والتضجر فإما أن يخبر الإنسان الطبيب بعلته ليداويه فلا بأس ..
والأنين .. الألم .. ما يحدث من صوت من المريض المتألم .. ، هناك أنين استراحة وتفريح فلا يكره، وأنين شكوى فيكره ففيه تفصيله ..
ومما ينافي الصبر ما يحدث من النائحات وغيرهم وحتى من الرجال الآن من لطم الرأس والخد و ضرب الوجه باليدين والكفين والنياحة .. واويلاه .. واثبوراه ..(6/180)
ولذلك فإن المسلم عليه أن يتقي الله سبحانه وتعالى وأن يسلك سبيل الصابرين، نسأل الله عزوجل أن يجعلنا منهم، وأن يرزقنا هذا الخلق الكريم، إنه جواد كريم ..
(آفات في طريق الصبر:
هناك آفات في طريق الصبر تعوق الحصول على الصبر ومن ثم تمنع من النصر لأن النصر مع الصبر بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: النصر مع الصبر و الفرج مع الكرب: و إن مع العسر يسرا.
ومن هذه الآفات ما يلي:
(1) قضية الاستعجال قال تعالى: (خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) [الأنبياء: 37]،
الإنسان يجب أن يصبر ويتأنى والثمرة تأتي ولو بعد حين .. ، قال تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لّهُمْ) [الأحقاف: 35].لقد باءت دعوات بالفشل .. لماذا؟ .. لأن أصحابها لم يصبروا ..
(حديث خبَّاب بن الأرتِّ رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: شكونا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو متوسِّد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: (قد كان من قبلكم، يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمَّنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).
(2) الغضب ينافي الصبر، ولذلك لما خرج يونس مغاضباً قومه ابتلاه الله بالحوت، فتعلم الصبر في بطن الحوت قال تعالى: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ) [القلم: 48].، ولولا أنه كان من المسبّحين قبل أن يبتلعه الحوت للبث في بطنه إلى يوم يبعثون، لذلك العبادة في وقت الرخاء تجلب الفرج في وقت الشدة، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، ولذلك لما نادى يونس في بطن الحوت؛ عرفت الملائكة صوته لأنها كانت تسمعه وهو يذكر الله في حال الرخاء ..(6/181)
(3) اليأس أعظم عوائق الصبر، ولذلك حذر يعقوب أولاده منه قال تعالى: (يَبَنِيّ اذْهَبُواْ فَتَحَسّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رّوْحِ اللّهِ إِنّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رّوْحِ اللّهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف: 87] إذاً إضاءة شمعة الأمل دواء اليأس والاستعانة بالله هي الأمل، لأن الله لا يخيب ولا يضيع من رجاه ويأتي الفرج ولو بعد حين ..
كما أن اليأس من روح الله من الكبائر بنص الكتاب والسنة الصحيحة كما يلي:
(حديث ابن عباس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الكبائر: الشرك بالله و الإياس من روح الله و القنوط من رحمة الله.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(الكبائر) جمع كبيرة قال أبو البقاء: وهي من الصفات الغالبة التي لا يكاد يذكر الموصوف معها
(الشرك باللّه) أي أن تجعل للّه نداً وتعبد معه غيره من حجر أو شجر أو شمس أو قمر أو نبي أو شيخ أو جني أو نجم أو غير ذلك قال اللّه تعالى {إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وقال {إنه من يشرك باللّه فقد حرم اللّه عليه الجنة ومأواه النار} فمن أشرك به ومات مشركاً فهو من أصحاب النار قلت: كما أن من آمن به ومات مؤمناً فمن أهل الجنة وإن عذب
(والإياس من روح اللّه) بفتح الراء (والقنوط من رحمة اللّه) قال القاضي: ليس لقائل أن يقول كيف عد الكبائر هنا ثلاثاً أو أربعاً وفي حديث آخر سبعاً لأنه لم يتعرض للحصر في شيء من ذلك ولم يعرب به كلامه أما في هذا الحديث فظاهر وأما في رواية السبع فلأن الحكم مطلق والمطلق لا يفيد الحصر فإن قلت بل الحكم فيه كلي إذ اللام في الكبائر للاستغراق قلت لو كانت للاستغراق لا للجنس كان المعنى كل واحدة من هذه الخصال وهو فاسد أما في رواية اجتنبوا السبع الموبقات فإنه لا يستدعي عدم اجتناب غيرها ولا أن غيرها غير موبق لا بلفظه ولا بمعناه ومفهوم اللقب ضعيف مزيف.
(فصلٌ في منزلة الرضا:
[*] (عناصر الفصل:
(تعريف الرضا:
(حكم الرضا:
(الرضا له أصلٌ و مراتبٌ أعلى من الأصل:
(لا يُشْرَع الرضا بالمنهيّات:
(إمكان تحصيل الرضا واكتسابه:
(الفرق بين الرضا والصبر:
(مقامات الرضا:
(درجات الرضا:
(الفرق بين الرضا بالله والرضا عن الله:
(ثمرات الرضا:
(الرضا لا يتعارض مع الدعاء:
(الرضا لا يتنافى مع البكاء على الميّت:
(أقوال السلف رحمهم الله في الرضا:(6/182)
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غير مُخل:
(تعريف الرضا:
الرضا لغة ً: ضد السخط ومنه قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ".
الرضا: يقال (في عيشةٍ راضيةٍ)، أي: مرضيةٍ ذات رضا.
الرضوان: الرضا الكثير.
الرضا شرعاً: رضا العبد عن الله: أن لا يكره ما يجري به قضاؤه، و رضا الله عن العبد أن يراه مؤتمراً بأمره منتهياً عن نهيه.
أرضاه: أي أعطاه ما يرضى به، و ترضَّاه: أي طلب رضاه.
و لمَّا كان أعظم رضا هو رضا الله سبحانه و تعالى؛ خُصَّ لفظ الرضوان بما كان من الله تعالى: (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللّهِ وَرِضْوَاناً) [الفتح: 29]
وقال تعالى: (يُبَشّرُهُمْ رَبّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنّاتٍ لّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مّقِيمٌ) [التوبة: 21]. و إذا نظرنا إلى هذا الرضا في القرآن فإننا سنجده في عدد من المواضع منها ما يلي:
(1) قال الله عز و جل في العمل ابتغاء مرضاته سبحانه: (وَمِنَ النّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) [البقرة: 207]،
يشري نفسه: يبيع نفسه بما وعد الله به المجاهدين في سبيله،
ابتغاء مرضاة الله: أي أن هذا الشاري يشري (يكون مشترياً حقاً)
إذا اشترى طلب مرضاة الله. .
* كذلك في الصدقات، قال تعالى: (وَمَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مّنْ أَنْفُسِهِمْ) [البقرة: 265] أي: يتصدقون بها و يحملون في سبيل الله و يقوّون أهل الحاجة من الغزاة و المجاهدين طاعةً لله و طلباً لمرضاته. .
* و قال الله عن الذين يعملون أعمال البر ابتغاء رضاه. .
(لاّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مّن نّجْوَاهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَآءَ مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) [النساء: 114]، فأخبر تعالى عن عاقبة هذا بقوله: ((فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)) إذا فعله ابتغاء مرضاة الله. .
(2) و قد رضي الله الإسلام ديناً لهذه الأمة، فهذا مما رضيه سبحانه. .
قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً) [المائدة: 3] أي: رضيتُ لكم أن تستسلموا لأمري و تنقادوا لطاعتي على ما شرعته لكم و أن تستسلموا لشرعي و تنقادوا إليه طاعةً منكم لي(6/183)
(3) و كذلك قوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مّمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ) [المائدة 15، 16]))، فيهدي سبحانه بهذا الكتاب المبين و يرشد و يسدِّد. .
(والرضا من الله سبحانه و تعالى أن يقبل العبد و هو مدح و ثناء، و كذلك فإنه ... عز و جل يرضى عنه و يقتضي رضاه على العبد الثناء عليه ومدحه. .
(4) و قال عز و جل عن المنافقين و هم يحلفون الأيمان. .
قال تعالى: (يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ) [التوبة: 62]
فهؤلاء المنافقين يريدون بالأيمان الكاذبة الخداع، و يريدون الكيد للمسلمين و يحلفون الأيمان الفاجرة أنهم لا يريدون شراً بالمسلمين و أنهم لا يريدون المكيدة لهم، و لكنّ الله أبى أن يقبل المسلمون منهم هذا. . و لو أنهم كانوا صادقين لأرضوا ربهم تبارك و تعالى و ليس أن يسعوا في إرضاء المخلوقين. .
(5) و كذلك فإن الله سبحانه ذكر في كتابه العزيز الذي يبني المساجد ابتغاء مرضاة الله ..
قال تعالى: (أَفَمَنْ أَسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ تَقْوَىَ مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مّنْ أَسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ) [التوبة: 109] فهؤلاء الذين بنوا المساجد خير أيها الناس عندكم من الذين ابتدؤوا البناء على اتقاء الله بطاعته في بنائه و أداء فرائضه و رضا من الله لبنائهم، فما فعلوه هو خير لهم. أما الذين ابتدؤوا بناءهم على شفا جرف هار فستكون عاقبتهم في النار، فأيّ الفريقين خيرٌ إذاً؟!!
(6) كذلك أثنى الله على الفقراء المهاجرين الذين خرجوا من مكة إلى المدينة و تركوا ديارهم و أموالهم يبتغون فضلاً من الله و رضواناً قال تعالى: (لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلََئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ) [الحشر: 8](6/184)
(7) و كذلك أراد الله أن يولّي نبيه قِبلة يرضاها فجعل يحوّل النبي صلى الله عليه و سلم
و يصرف بصره في السماء يتمنى أن تحوّل القِبلة من بيت المقدس إلى الكعبة حتى أنزل الله
((فلنولّينّك قِبلة ترضاها)) أي: فلنصرفنّك عن بيت المقدس إلى قِبلة تهواها و تحبّها.
قال تعالى: (قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّمَآءِ فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) [البقرة: 144]
(8) أداء الواجبات سبيل إلى رضوان الله عز و جل. .
قال تعالى: (الّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلََئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) [التوبة: 20]. . و النتيجة؟!! (يُبَشّرُهُمْ رَبّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنّاتٍ لّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مّقِيمٌ) [التوبة: 21]
(9) وكذلك الصبر على الطاعة و العبادة يؤدي إلى حصول الرضا من العبد على الرب و من الرب على العبد، و من العبد عن الرب و من الرب عن العبد. .
قال تعالى: (فَاصْبِرْ عَلَىَ مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الْلّيْلِ فَسَبّحْ وَأَطْرَافَ النّهَارِ لَعَلّكَ تَرْضَىَ) [طه: 130]
(10) والله يرضي أهل الإيمان و الدين لَمَّا ضحَّوا في سبيله، يرضيهم و يعطيهم يوم القيامة حتى يأخذوا كل ما كانوا يرجونه و زيادة.
قال تعالى: (وَالّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ قُتِلُوَاْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنّهُمُ اللّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنّ اللّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنّهُمْ مّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنّ اللّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) [الحج 58،59]
(11) وإن الصحابة لما جاهدوا في سبيله و اتبعوا نبيه و دافعوا عن شريعته و نشروا دينه و بلّغوا شريعته. .
قال تعالى: (لّقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) [الفتح: 18] و هؤلاء الذين هاجروا في سبيل الله لا يوادّون من حادّ الله و رسوله و لو كانوا آباءهم
أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان و أيّدهم بروحٍ منه و يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم و رضوا عنه ..(6/185)
فالرضا هنا متبادل بين الرب و العبد. .
و يوم القيامة ستكون العيشة الراضية عاقبة هؤلاء و أهل اليمين، قال تعالى: (فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ * إِنّي ظَنَنتُ أَنّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رّاضِيَةٍ) [الحاقة 19: 21]، و قال تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نّاعِمَةٌ * لّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ) [الغاشية 8، 9]، و قال تعالى: (يَأَيّتُهَا النّفْسُ الْمُطْمَئِنّةُ * ارْجِعِي إِلَىَ رَبّكِ رَاضِيَةً مّرْضِيّةً) [الفجر 27، 28]،
و قال تعالى: (وَسَيُجَنّبُهَا الأتْقَى * الّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكّىَ * وَمَا لأحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تُجْزَىَ * إِلاّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبّهِ الأعْلَىَ * وَلَسَوْفَ يَرْضَىَ) [17: 21]))،
و قال تعالى: (فَأَمّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رّاضِيَةٍ) [القارعة 6: 7] ورضا الله عز و جل أعلى مطلوب للنبيّين و الصديقين. .
قال تعالى: (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّآ * إِذْ نَادَىَ رَبّهُ نِدَآءً خَفِيّاً * قَالَ رَبّ إِنّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّي وَاشْتَعَلَ الرّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبّ شَقِيّاً * وَإِنّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لّدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّاً) [مريم 2: 6]
قال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نّبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصّلاَةِ وَالزّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيّاً) [مريم 54: 55]
وماذا فعل موسى عندما استعجل لقاء الله؟! و لماذا استعجل؟!!
قال تعالى: (وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يَمُوسَىَ * قال تعالى: (قَالَ هُمْ أُوْلآءِ عَلَىَ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَىَ) [طه 83، 84] .. استعجل الخير و اللقاء لينال رضا الله. .
و كذلك سليمان عليه السلام لما سمع كلام النملة تبسم ضاحكاً من قولها، و قال رَبّ أَوْزِعْنِيَ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الّتِيَ أَنْعَمْتَ عَلَيّ وَعَلَىَ وَالِدَيّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ:(6/186)
قال تعالى: (فَتَبَسّمَ ضَاحِكاً مّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِيَ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الّتِيَ أَنْعَمْتَ عَلَيّ وَعَلَىَ وَالِدَيّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصّالِحِينَ) [النمل: 19]
وكذلك فإن هذا الإنسان الذي يبلغ أشده و يبلغ أربعين سنة يقول صاحبه:
قال تعالى: (حَتّىَ إِذَا بَلَغَ أَشُدّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِيَ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الّتِيَ أَنْعَمْتَ عَلَيّ وَعَلَىَ وَالِدَيّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرّيّتِيَ إِنّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الأحقاف: 15]
وهذا مطلوب الصحابة لمّا عبدوا الله يبتغون فضلاً من الله و رضواناً ..
و يوم القيامة: الفئة هذه المرضيّ عنها هي التي تشفع و الذين لا يرضى الله عنهم
ليسوا من أهل الشفاعة. .
قال تعالى: (يَوْمَئِذٍ لاّ تَنفَعُ الشّفَاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرّحْمََنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) [طه: 109]
فأهل رضاه يشفعون. .
و قال تعالى: (وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَىَ) [الأنبياء: 28]
و شرع الله لنا ديناً يرضيه لنا قال تعالى: (وَلَيُمَكّنَنّ لَهُمْ دِينَهُمُ الّذِي ارْتَضَىَ لَهُمْ) [النور: 55]
(و من الأمور التي ينبغي على العبد: أن يرضى بما قَسَمُ الله له. .
و يعمل الزوج لكي ترضى زوجاته عن عيشهنّ بالعدل بينهنّ قال تعالى: (تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوِيَ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَىَ أَن تَقَرّ أَعْيُنُهُنّ وَلاَ يَحْزَنّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنّ كُلّهُنّ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَلِيماً) [الأحزاب: 51]
وإذا انتقلنا إلى سنّة النبي صلى الله عليه و سلم، نجد أن السنة والسنة الصحيحة طافحةٌ بالأحاديث عن الرضا منها ما يلي:
(أخبر أن الله يرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها و يشرب الشربة فيحمده عليها.
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها.
(أخبر أن رضا الرب في رضا الوالد:(6/187)
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: رضا الرب في رضا الوالد و سخط الرب في سخط الوالد.
(أخبر أن السواك مطهرة للفم و مرضاة للرب.
(حديث عائشة الثابت في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب)
(أخبر أن من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه و أرضى عنه الناس.
(حديث معاوية في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، و من التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس.
(أخبر أن ملائكته تلعن المتمردة على زوجها الناشزة عن فراشه حتى يرضى عنها.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبي عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها.
(أخبر أنه عندما مات ولده لا يقول إلا ما يُرضي الرب:
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال دخلنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أبي سيف القين وكان ظئرا لإبراهيم عليه السلام فأخذ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إبراهيم فقبله وشمه ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تذرفان فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه وأنت يا رسول الله فقال يا بن عوف إنها رحمة ثم أتبعها بأخرى فقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يُرضى ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون.
{تنبيه}: ظئرا: أي زوج المرضعة وهو معنى مستعار.
(علّمنا في السجود في الدعاء اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك:
(حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم) قالت: فقدت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة فالتمسته بيدي فوقعت يدي على قدميه وهما منصوبتان وهو يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك و بمعافاتك من عقوبتك و أعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
هذا الرضا شأنه عظيم و أمره كبير و منزلته في الدين عالية ..
هذا الرضا عليه مدار أمورٍ كثيرةٍ من الأمور الصالحات، هذا الرضا الذي هو من منازل السائرين و السالكين، ما حكمه؟
(حكم الرضا:
مسألة: هل الرضا واجبٌ؟! أم مستحبٌ؟!
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله:(6/188)
وأما الرضا فقد تنازع العلماء و المشايخ من أصحاب الإمام أحمد و غيرهم في الرضا بالقضاء، هل هو واجبٌ أو مستحبٌ على قولين: فعلى الأول يكون من أعمال المقتصدين، و على الثاني يكون من أعمال المقرَّبين. و الخلاصة: أن أصل الرضا واجب و منازله العليا مستحبّة.
(الرضا له أصلٌ و مراتبٌ أعلى من الأصل:
فيجب الرضا من جهة الأصل: فالذي ليس عنده رضا عن الله و الدين و الشرع و الأحكام فهذا ليس بمسلمٍ.
فلابد لكلِّ مسلمٍ موحّدٍ يؤمن بالله و اليوم الآخر من درجةٍ من الرضا، أصل الرضا لابد أن يكون متوفّراً؛ لأنه واجبٌ بنص الكتاب والسنة الصحيحة كما يلي:
قال تعالى: (فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُواْ فِيَ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مّمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً) [النساء: 65]
وهذا هو الرضا
وقال تعالى: (وَلَوْ أَنّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنّآ إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ) [التوبة: 59] ..
وقال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنّهُمُ اتّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ اللّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) [محمد:28]
(حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:" ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسولاً".
(ذاق طعم الإيمان): يدل على أن للإيمان طَعْمًا. الطعم عادة إنما يكون باللسان، طعم العسل، وطعم التمر مثلا وحلاوة الطعام اللذيذ. ولكن للإيمان أيضا طعم، ليس خاصا باللسان ولا بالفم، ولكن بالبدن كله، يكون أثر الإيمان في البدن كله، يجد نشوة وحلاوة في بدنه كُلِّهِ؛ في رأسه، وفي قدميه، وفي يديه، وفي بطنه، وفي ظهره، يجد للإيمان طعما.
(من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، و بمحمد نبيا):
فإذا رضيت بالله ربا فإنك تعبده وتطيعه، وإذا رضيت بالإسلام دينا فإنك تطبقه وتعمل به، وإذا رضيت بنبوة محمد به نبيا، فإنك تتبعه وتطيعه وتسير على نهجه، وتجعله أسوتك وقدوتك. وإذا ظهر منك خلاف ذلك فذلك نقص في الرضا. إذا ظهر من الإنسان نقص في الاتباع، أو الطواعية، أو في التأسي، أو في العبادة -دل ذلك على نقصه في هذا الرضا، أنه لم يكن رضاه رضا كاملا، بل رضا ناقص.
(لا يُشْرَع الرضا بالمنهيّات:(6/189)
لا يُشْرَع الرضا بالمنهيّات كما لا تُشْرَع محبتها؛ لأن الله لا يرضاها و لا يحبها و الله لا يحب الفساد و لا يرضى لعباده الكفر .. و هؤلاء المنافقين يُبَيّتون ما لا يرضى من القول، بل اتبعوا ما أسخط الله و كرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم. .
فالرضا الثابت بالنص هو أن يرضا بالله رباً و بالإسلام ديناً و بمحمدٍ صلى الله عليه و سلم نبياً، يرضا بما شرعه الله لعباده من تحريم حرامٍ أو إيجاب واجبٍ أو إباحة مباحٍ، يرضا عن الله سبحانه و تعالى و يرضا عن قضائه و قدره و يحمده على كل حالٍ و يعلم أن ذلك لحكمةٍ، و إن حصل التألم بوقوع المقدور ..
فإن قال قائل: لماذا يحمد العبدُ ربَّه على الضراء؟ إذا مسّه الضراء؟ .. فالجواب من وجهين:
(1) أن تعلم أن الله أحسنَ كل شيءٍ خلَقه و أتقنَه، فأنت راضٍ عما يقع في أفعاله؛ لأن هذا من خلقه الذي خلقه، فالله حكيم لم يفعله إلا لحكمةٍ بالغةٍ قضاها يستوجب الحمد على اقتضاها.
(2) أن الله أعلم بما يصلحك و ما يصلح لك من نفسك، و اختياره لك خيرٌ من اختيارك لنفسك.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: عجبت للمؤمن إن الله تعالى لم يقض له قضاء إلا كان خيرا له.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(عجبت للمؤمن إن اللّه تعالى) قال أبو البقاء الجيد: إن بالكسر على الاستئناف ويجوز الفتح على معنى في أن اللّه أو من أن اللّه
(لم يقض له قضاء إلا كان خيراً له) توجيهه ما زاده في بعض الروايات إن إصابته ضراء صبر وإن أصابته سراء شكر فإنه إن كان موسراً فلا يقال فيه وإن كان معسراً فمعه ما يطيب عيشه وهو القناعة والرضى بما قسم وأما الفاجر فأمره بالعكس إن كان معسراً فلا إشكال وإن كان موسراً فالحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه. قال الحرالي: من جعل الرضى غنيمة في كل كائن لم يزل غانماً.
و ليس ذلك إلا للمؤمن وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:" ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسولاً".(6/190)
[*] قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: معنى الحديث صح إيمانه واطمأنت به نفسه، وظاهر باطنه لأن رضاه بالمذكورات دليل لثبوت معرفته ونفاذ بصيرته ومخالطته بشاشة قلبه لأن من رضي أمراً سهل عليه فكذا المؤمن إذا دخل قلبه الإيمان سهل عليه طاعات الله تعالى ولذت له والله تعالى أعلم.
فهذا حديثٌ عظيمٌ: فالمسلم في أذكار الصباح و المساء و في أذكار الأذان بعد " أشهد أن محمداً رسول الله " الثانية يقول: ((رضيتُ بالله رباً و بالإسلام ديناً و بمحمد نبياً)) ..
رضا بربوبيته سبحانه و رضا برسوله صلى الله عليه و سلم و الانقياد و التسليم و لذلك (فمن حصلت له هذه الأمور الأربعة: الرضا بربوبيته و ألوهيته سبحانه و الرضا برسوله و الانقياد له و الرضا بدينه و التسليم له فهو الصدِّيق حقاً ..
و هي سهلةٌ بالدعوى، و لكن ما أصعبها عند الامتحان!!!
(أما الرضا بالله: فيتضمّن الرضا بمحبته وحده و الرضا بعبادته وحده أن تخافه وحده ترجوه و تتبتّل إليه و تتذلل إليه عز و جل و تؤمن بتدبيره و تحب ذلك و تفرده بالتوكل عليه و الاستعانة به و تكون راضياً عما يفعل عز و جل.
ترضى بما قدّر و حكم .. حَكَم أن الزنا حرامٌ، و أن الربا حرامٌ، و أن بر الوالدين واجبٌ، و أن الزكاة فرضٌ، فيجب أن ترضى بحكمه ..
قدّر عليك أشياء من فقرٍ، و ضيق حالٍ، فيجب أن ترضى ..
(والرضا بمحمدٍ صلى الله عليه و سلم نبياً: أن تؤمن به و تنقاد له و تستسلم لأمره و يكون أولى بك من نفسك، و أنه لو كان موجوداً صلى الله عليه و سلم و وجِّهَ إليه سهمٌ وجب عليك أن تتلقاه عنه و أن تفتديه بنفسك، و أن تموت فداءً له.
و ترضى بسنّته فلا تتحاكم إلا إليها ..
ترضى بسنّته فلا ترجع إلا إليها و لا تُحَكِّم إلا هي ..
(والرضا بالإسلام ديناً: فما في الإسلام من حكمٍ أو أمرٍ أو نهيٍ فإنك ترضى عنه تماماً و ليس في نفسك أيّ حرجٍ و تُسَلِّم تسليماً كاملاً لذلك ولو خالف هواك و لو كان أكثر الناس على خلافه و لو كنتَ في غربةٍ و لو كانت عليك الأعداء مجتمعون فيجب أن ترضى بأحكام الدين و تسعى لتنفيذها و إن خالفتَ العالم ..
(إمكان تحصيل الرضا واكتسابه:
مسألة: الرضا هل هو شيءٌ موهبيٌّ أم كسبيٌّ؟ أي: هل يُوهَبُ من الله أم يمكن للعبد تحصيله؟ هل هو فطريٌّ أم العبد يُحَصِّل هذا بالمجاهدة و رياضة النفس إذا روَّض نفسه؟!!
فصل الخطاب في هذه المسألة:(6/191)
أن الرضا كسبيٌّ باعتبار سببه، موهبيٌّ باعتبار حقيقته ..
فإذا تمكن العبد في أسباب الرضا و غرس شجرة الرضا في قلبه جنى الثمرة ..
لأن الرضا آخر التوكل ..
بعدما يعجز التوكل يأتي الرضا ..
و الذي ترسخ قدمه في طريق التوكل ينال الرضا ..
لأن بعد التوكل و التسليم و التفويض يحصُل الرضا، و بدونها لا يحصل الرضا،
و لذلك لو قال أحدهم: نريد تحصيل الرضا، نقول له: يجب أن يكون لديك توكلٌ صحيحٌ و تسليمٌ و تفويضٌ ثم ينتج الرضا بعد ذلك ..
و لذلك لم يُوجِب الله على عباده المنازل العالية من الرضا؛ لأن ذلك شيءٌ صعبٌ جداً، و أكثر النفوس ربما لا يحصُل لها ذلك ..
فالله ندب إليه و لم يوجبه (ليس أساس الرضا و إنما ما فوق ذلك) ..
فإذا حصل للعبد شيءٌ فإنه لابد أن يكون محفوفاً بنوعيه من الرضا: رضا قبله، و رضا بعده ..
و كذلك الرضا من الله عز و جل عن العبد إنما هو ثمرة رضا العبد عن الرب سبحانه، فإذا رضيتَ عن الله رضي الله عنك ..
والرضا باب الله الأعظم و جَنة الدنيا و مُسْتَراح العارفين و حياة المحبين و نعيم العابدين وهو من أعظم أعمال القلوب ..
[*] قال يحيى بن معاذ لما سئل: متى يبلغ العبد إلى مقام الرضا؟ قال: ((إذا أقام نفسه على أربعةِ أصولٍ يُعامِل بها ربه ..
يقول: إن أعطيتني قبلتُ، و إن منعتني رضيتُ، و إن تركتني عبدتُ، و إن دعوتني أجبتُ.
و الرضا إذا باشر القلب؛ فإنه يدل على صحة العلم و ليس الرضا و المحبة كالرجاء و الخوف، فمن الفروق أن أهل الجنة مثلاً لا يخافون في الجنة و لا يرجون مثل رجاء الدنيا .. لكن لا يفارقهم الرضا أبداً ..
فإن دخلوا الجنة فارقهم الخوف ((لا خوفٌ عليهم و لا هم يحزنون)) ..
في الدنيا هناك خوف .. إذا دخلوا الجنة زال الخوف .. أما الرضا فلا يزول .. خارج الجنة وداخلها .. الرضا موجودٌ ..
الخوف و الرجاء في الدنيا ليس موجوداً عند أهل الجنة يفارقون العبد في أحوال ..
أما الرضا فلا يفارق العبد لا في الدنيا و لا في البرزخ و لا في الآخرة و لا في الجنة، ينقطع عنهم الخوف؛ لأن الشيء الذي كانوا يخافونه أمِنوه بدخولهم الجنة، و أما الشيء الذي كانوا يرجونه فقد حصل لهم، أما الرضا فإنه لا يزال معهم و إن دخلوا الجنة: معيشتهم راضيةٌ و هم راضون، و رضوا عن الله، و راضون بثوابه و ما آتاهم في دار السلام ..
مسألة: هل يشترط أن الرضا إذا حصل لا يكون هناك ألمٌ عند وقوع مصيبة؟!(6/192)
الجواب: ليس من شروط الرضا ألا يحس العبد بالألم و المكاره، بل من شروط الرضا عدم الاعتراض على الحكم و ألا يسخط، و لذلك فإن الرضا لا يتناقض مع وجود التألم و كراهة النفس لما يحصل من مكروه ..
فالمريض مثلاً يرضى بشرب الدواء مع أنه يشعر بمرارته و يتألم لمرارته، لكنه راضٍ بالدواء مطمئنٌ بأخذه مقبلٌ على أخذه، لكنه في ذات الوقت يَطْعَم مرارة الدواء ..
والصائم رضي بالصوم و صام و سُرَّ بذلك .. لكنه يشعر بألم الجوع .. هل بشعوره بألم الجوع يكون غير راضٍ بالصيام؟! لا .. هو راضٍ بالصيام و يشعر بالجوع ..
والمجاهد المخلص في سبيل الله راضٍ عند الخروج للجهاد .. و مُقْدِمٌ عليه .. مقتنع به ..
لكن يحس بالألم .. و التعب .. و الغبار .. و النعاس .. و الجراح ..
إذاً لا يشترط أن يزول الألم و الكراهية للشيء إذا حصل الرضا، لكن بعض أصحاب المقامات العالية جداً يستلذّون بالألم إذا حصل في الجهاد أو الصيام ..
لكن لا يشترط أن الفرد إذا أحس بالألم في العبادة أن يكون غير راضٍ .. ليس شرطاً.,.
وطريق الرضا طريقٌ مختصرٌ قريبةٌ جداً، لكن فيها مشقةٌ، و ليست مشقتها أصعب من مشقة المجاهدة، و لكن تعتريها عقبتان أو ثلاث:
(1) همةٌ عاليةٌ:
(2) نفسٌ زكيّةٌ:
(3) توطين النفس على كل ما يَرِدُ عليها من الله تعالى ..
و يسهُل ذلك على العبد إذا عرف ضعفه و قوة ربه، و جهله و علم ربه،
و عجزه و قدرة ربه .. و أن الله رحيمٌ شفيقٌ به، بارٌّ به، فهو البرُّ الرحيم ..
فالعبد إذا شهد هذه المقامات رضي، فالله عليمٌ حكيمٌ وهو رؤوفٌ، وهو أعلم بما يُصْلِح العبد من العبد، و توقن أن ما اختاره لك هو الأفضل و الأحسن ..
عباراتٌ أحياناً ترد لكن الإنسان إذا آمن بها وصل إلى المطلوب ..
أحياناً هناك مقاماتٌ إيمانيةٌ يبلغها الإنسان بقلبه و يأخذ بها أجراً عظيماً يرتقي بها عند الله وهي عبارةٌ عن تفكّراتٍ (يفكّر فيها فيهتدي إليها فيأخذ بها فيحصل على المطلوب فلم يبذل جهداً بل هي أشياءٌ تأمليةٌ) ..
فالتفكّر من أعظم العبادات ...
فإذا تفكّر العبد أن ما يختاره له ربه هو الأحسن و الأفضل ..
فإذا آمن بها الإنسان رضي ..
و تحصيل الرضا غير معقّدٍ .. كيف؟!
أن تؤمن بأن ما اختاره الله لك وقدّره عليك هو أحسن شيءٍ لك .. سواءً كان موتُ ولدٍ أو مرضٍ أو تركُ وظيفةٍ ..(6/193)
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: عجبت للمؤمن إن الله تعالى لم يقض له قضاء إلا كان خيرا له.
فيجب عليك أخي الحبيب أن تضع هذا الحديث نصب عينيك لا يفارق عينيك فتعلم علم اليقين الذي لا يخالطه شك أن الله تعالى «لم يقض لك قضاء إلا كان خيرا لك» وإن رأيته على غير حقيقته بنظرك القاصر وعلمك الضئيل فتذكر قوله تعالى:: (وَعَسَىَ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لّكُمْ وَعَسَىَ أَن تُحِبّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرّ لّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 216]
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه طريق الهجرتين:
إذا ابتلى الله عبده بشيء من أَنواع البلايا والمحن فإن رده ذلك الابتلاء والمحن إلى ربه وجمعه عليه وطرحه ببابه فهو علامة سعادته وإرادة الخير به. والشدة بَتْرَاء لا دوام لها وإن طالت، فتقلع عنه حين تقلع وقد عوض منها أجلّ عوض وأفضله، وهو رجوعه إلى الله بعد أن كان شارداً عنه، وإقباله عليه بعد أن كان نائباً عنه وانطراحه على بابه بعد أن كان معرضاً، وللوقوف على أبواب غيره متعرضاً.
وكانت البلية في حق هذا عين النعمة، وإن ساءَته وكرهها طبعه ونفرت منها نفسه فربما كان مكروه النفوس إِلى محبوبها سبباً ما مثله سبب وقوله تعالى في ذلك هو الشفاءُ والعصمة: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيئاً وَهُوَ شَر لَكُمْ، وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} * [البقرة: 216]، وإِن لم يَرُدُه ذلك البلاءُ إليه بل شرد قلبه عنه ورده إلى الخلق وأنساه ذكر ربه والضراعة إليه والتذلل بين يديه والتوبة والرجوع إليه فهو علامة شقاوته وإرادة الشر به، فهذا إذا أقلع عنه البلاء رده إلى حكم طبيعته وسلطان شهوته ومرحه وفرحه، فجاءت طبيعته القدرة بأنواع الأشر والبطر والإعراض عن شكر المنعم عليه بالسراء كما أعرض عن ذكره والتضرع إليه فى الضراء فبلية هذا وبال عليه وعقوبة ونقص في حقه، وبلية الأول تطهير له ورحمة وتكميل. وبالله التوفيق. أهـ
فأنت قد تجهل لماذا هو أحسن شيءٍ!! أنت لا تعلم لماذا لو أعطاك ليس مصلحتك!!
أنت في حال الفقر لا تعلم لماذا ليس في مصلحتك أن تحصّل المال .. و هكذا ..
فنتيجة إذا اعترف العبد بجهله و آمن بعلم ربه و أن اختياره له أولى و أفضل
و أحسن من اختياره لنفسه ..
وصلنا إلى الرضا ..(6/194)
فطريق المحبة و الرضا تسير بالعبد و هو مستلقٍ على فراشه فيصير أمام الركب بمراحل!!
هناك أناسٌ يعملون و يجهدون و صاحب الرضا بعبادته القلبية يسبقهم بمراحل،
و هم من خلفه مع أنه على فراشه و هم يعملون؛ لأنه راضٍ عن الله و يتفكّر في هذا الأمر ويؤمن به فيقترب من الله و أناسٌ لم يصلوا لهذا المستوى و يعملون و يجهدون ...
لذلك أعمال القلوب مهمةٌ جداً؛ لأن المرء يمكن يبلغ بها مراتب عند الله و هو قاعدٌ ..
و هذا لا يعني ألا يعمل و لا يصلي ..
و قد يكون هناك أناسٌ آخرين أكثر منه عملاً (صيام
صدقة
حج)، لكنهم أقل منه درجةً ..
لماذا؟!!
لأنك بهذا العلم بأعمال القلوب قد تحصّل مراتب عند الله أكثر منهم؛ لأن عمل القلب نفسه يرفع العبد في كثيرٍ من الأحيان أكثر من عمل الجوارح
فأبو بكر ما سبق أهل هذه الأمة لأنه أكثرهم صلاةً و قياماً في الليل ... هناك أناسٌ أكثر منه في عمل العبادات و الجوارح ... لكن سبقهم بشيءٍ وَقَرَ في نفسه ..
الرضا عن الله لو تحققت في صدر العبد؛ تميز بين مستويات العباد و ترفع هذا فوق هذا .. ينبغي التفطّن لها .. كما تعمل بالجوارح هناك أعمال قلوبٍ لا تقل أهميةً بل هي أعلى منها، مع الجمع بين الواجب من هذا و ذاك ..
و لكن قد يدرك الإنسان أحياناً بتفطّنه و تأمله و تفكّره و إيمانه مراتب أعلى من الذي أكثر منه عملاً بالجوارح .. و لذلك يقول ابن القيّم: ((فطريق الرضا و المحبة تسيّر العبد و هو مستلقٍ على فراشه فيصبح أمام الركب بمراحل)) " و هو على فراشه " ..
(الفرق بين الرضا والصبر:
الصبر: هو حبس النفس وكفها عن السخط –مع وجود الألم – وتمنى زوال ذلك، وكف الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع،
والرضا: انشراح الصدر، وسعته بالقضاء، وترك زوال الألم – وإن وجد الإحساس بالألم – لكن الرضا يخففه بما يباشر القلب من روح اليقين والمعرفة، وإذا قوى الرضى فقد يزيل الإحساس بالألم بالكلية.
[*] قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: " إن الله تعالى بقسطه وعلمه جعل الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهمّ والحزن في الشك والسخط ".
[*] وقال علقمة في قوله تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: من الآية11]
هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضى.(6/195)
(حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:" ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسولاً".
(حديث سعد بن أبي وقاص الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال حين يسمع النداء: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله رضيت بالله ربا و بمحمد رسولا و بالإسلام دينا غفر الله له ما تقدم من ذنبه.
(حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال رضيت بالله ربا و بالإسلام دينا و بمحمد نبيا وجبت له الجنة.
[*] ونظر علىّ بن أبى طالب - رضي الله عنه - إلى عدىّ بن حاتم كئيباً، فقال: مالي أراك كئيباً حزيناً؟ فقال: وما يمنعني وقد قتل ابناي وفقئت عيني فقال: يا عدى من رضي بقضاء الله جرى عليه وكان له أجر، ومن لم يرض بقضاء الله جرى عليه وحبط عمله.
[*] دخل أبو الدرداء - رضي الله عنه - على رجل يموت وهو يحمد الله فقال أبو الدرداء: أصبت إن الله عز وجل إذا قضى قضاء أحب أن يرضى به.
[*] وقال أبو معاوية في قوله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: من الآية 97] الرضا والقناعة.
قال الحسن: " من رضى بما قسم له وسعه وبارك الله فيه، ومن لم يرض لم يسعه، ولم يبارك له فيه ".
[*] وقال عمر بن عبد العزيز: " ما بقى لي سرور إلا في مواقع القدر"، وقيل له ما تشتهي؟ فقال: " ما يقضى الله عز وجل ".
[*] وقال عبد الواحد بن زيد: " الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين.
[*] وقال بعضهم: " لن يُرى في الآخرة أرفع درجات من الراضين عن الله تعالى في كل حال، فمن وهب له الرضا فقد تبلغ أفضل الدرجات"
[*] وأصبح أعرابي وقد ماتت له أباعر (جمع بعير) كثيرة فقال:
لا والذي أنا عبدٌ في عبادته ... لولا شماتة أعداء ذوى إحن
ما سرني أن إبلي في مباركها ... وأن شيئاً قضاه الله لم يكن
(مقامات الرضا:
للرضا مقامات منها ما يلي:
(المقام الأول: الرضا بما قسم الله و أعطاه من الرزق و هذا ممكنٌ يجيده بعض العوامّ.
(المقام الثاني: الرضا بما قدّره الله و قضاه وهي مرتبة أعلى من المقام الأول.
(المقام الثالث: أن يرضى بالله بدلاً من كل ما سواه وهي مرتبة أعلى من المقامين الأول والثاني.(6/196)
هذه منازل قد يأتي البعض بواحدةٍ و لا يقدر على الأخرى، و قد يأتي البعض بجزءٍ من الدرجة .. و لا يحقق كل الدرجة ..
قد يرضى عن الله فيما قسم له من الزوجة و لا يرضى بما قسم له في الراتب .. مثلاً ..
قد يصبر على سرقة المال .. و لا يصبر على فقد الولد ..
(و أما أن الإنسان يرضى بالله عن كل ما سواه، معنى ذلك أن يهجر كل شيءٍ لا يؤدي إلى الله (ملاهٍ
ألعاب
أمورٌ مباحةٌ لا تقود إلى الله) فالمشتغل بها لا يعتبر أنه رضي بالله عن كل ما سواه .. هذه حالةٌ خاصةٌ لشخصٍ مع الله دائماً، كل شيءٍ أي عملٍ أي حركةٍ أي سكنةٍ كلها طريقٌ إلى الله تؤدي إلى مرضاة الله.
(درجات الرضا:
للرضا درجات منها ما يلي:
(1) الرضا بالله رباً و تسخّط عبادة ما دون الله، و هذا قطب رحى الإسلام لابد منه، أن ترضى بالله و لا ترضى بأي إلهٍ آخر .. (بوذا .. ما يعبده المشركون .. اليهود .. النصارى)، لم يتخذ غير الله رباً يسكن إليه في تدبيره و ينزل به حوائجه ..
و هذا محرومٌ منه غلاة الصوفية المشركون عبّاد القبور، فينزلون حوائجهم بالأولياء و الأقطاب و يسألونهم و يستغيثون بهم و يتوكّلون عليهم و يرجون منهم ما لا يقدر عليه إلا الله ..
لو آمنوا بالله حقاً لطلبوا المدد من الله و لم يذهبوا إلى المخلوقين في قبورهم، يقولون:
يا فلان المدد، يا فلان أغثنا .. !!
ثم يأتي الصوفية و يقولون: نحن متخصّصون بالقلوب و قد ضيّعوا الأساس .. !!
قال تعالى: (قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبّ كُلّ شَيْءٍ) [الأنعام: 164]
[*] قال ابن عباس رضي الله عنهما: " يعني سيداً و إلهاً، فكيف أطلب رباً غيره و هو ربُّ كل شيءٍ؟!! "
وقال تعالى: (قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) [الأنعام: 14] يعني: أ غير الله أتخذ معبوداً وناصرا و مُعيناً و ملجأً؟!!
ولياً: من الموالاة التي تتضمّن الحب و الطاعة ..
و قال تعالى: (أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الّذِيَ أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصّلاً) [الأنعام: 114]
هل أرضى بحَكَمٍ آخر يحكم بيني و بينكم غير الله بكتابه و سنّة نبيه صلى اله عليه و سلم ..(6/197)
فلو قال أحدهم: أنا أرضى بالقانون الوضعيّ يحكم بيننا .. هذا لا يمكن أن ينطبق عليه أنه يؤمن بالله ربا .. !! إذاً هناك أناسٌ يدّعون الرضا بالله ثم يخالفون في تعاملاتهم قاعدةً و أساساً من أعظم الأسس .. ، فإذا رضيت بالله رباً: يجب أن ترضى به حَكَماً
قال تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ للّهِ) [الأنعام: 57] و من خصائصه سبحانه: أن التحكيم و الحُكْمَ له سبحانه وحده ..
ثم إذا تأملتَ هذه الأمور عرفتَ أن كثيراً من الناس يدّعون الرضا بالله رباً و بالإسلام ديناً و بمحمدٍ نبياً ثم هنا يخالفون حكم الله و يرضون بحكم غيره و يخالفون السنّة و هناك يميلون و يوالون أصحاب دياناتٍ أخرى، فأين هم من هذه الثلاثة؟؟!!
و القرآن مليءٌ بوصف المشركين أنهم اتخذوا من دون الله أولياء!! من تمام الإيمان صحة الموالاة و مدار الإسلام على أن يرضى العبد بعبادة الله وحده و يسخط عبادة غيره .. ،
(الفرق بين الرضا بالله والرضا عن الله:
(الرضا بالله: الرضا بأنه الله و أنه المعبود فقط لا غيره و أن الحكم له فقط لا لغيره و أن نرضى بما شرع. و لا يمكن أن يدخل فيه المؤمن و الكافر معاً، لا يكون إلا للمؤمن فقط.
(الرضا عن الله: أي: ترضى بما قضى و قدّر .. تكون راضياً عن ربك فيما أحدث لك و خلَق من المقادير .. و يدخل فيه المؤمن و الكافر ..
(ولابد من اجتماع الأمرين معاً: الرضا بالله و لرضا عن الله، و الرضا بالله أعلى شأناً و أرفع قدراً؛ لأنها مختصّةٌ بالمؤمنين. و الرضا عن الله مشتركةٌ بين المؤمن و الكافر؛ لأن الرضا بالقضاء قد يصح من المؤمن و الكافر، فقد تجد تصرّف كافرٍ فتقول: هذا راضٍ بالقضاء و مسلّم و لا اعتراض عنده، لكنه لم يرضَ بالله رباً.
فالرضا بالله رباً آكد الفروض باتفاق الأمّة .. فمن لا يرضى بالله رباً فلا يصح له إسلامٌ و لا عملٌ لأنه من المعلوم شرعا أن التوحيد مقدمٌ على العمل والأصلُ الذي يترتبُ عليه غيره إذ لا ينفع مع الشركِ عمل.
(حكم الرضا بالقضاء:
مسألة: ما حكم الرضا بالقضاء؟
يجب التفصيل أولاً في قضيّة القضاء:
(1) قضاءٌ شرعيٌّ: و هو ما شرعه الله لعباده قال تعالى: (وَقَضَىَ رَبّكَ أَلاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ إِيّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) [الإسراء: 23]
قضى علينا و شرع .. قد يلتزم العباد به و قد لا يلتزمون به ..(6/198)
(2) قضاءٌ كونيٌّ: كُنْ فيكون .. إذا قضى الله بموتِ شخصٍ .. أو مرضٍ .. أو شفاءٍ .. أو غنىً .. أو فقرٍ .. أو نزولِ مطرٍ .. إذا قضاها فلا رادّ لقضائه، قضاءٌ كونيٌّ .. لا يستخلف .. لابد أن يقع .. كُنْ فيكون ..
مسألة: ما الفرق بين القضاء الشرعي والكوني؟
الفرق بين القضاء الشرعي والكوني أن القضاء الكوني لا بد فيها من وقوع المراد، وقد يكون المراد فيها محبوبا إلى الله، وقد يكون غير محبوب، وأما القضاء الشرعي فلا يلزم فيها وقوع المراد، ولا يكون المراد فيها إلا محبوبا لله.
مسألة: هل إيمان أبو بكرٍ الصديق قضاء شرعي أم كوني؟
إيمان أبو بكرٍ الصديق قضاء شرعي وكوني
[قضاء كوني] لأن إيمانه وقع
[قضاء شرعي] لأنه يوافق الكتاب والسنة
مسألة: هل كفر أبي طالب قضاء شرعي أم كوني؟
كفر أبي طالب قضاء كوني لأنه وقع وإن كان ذلك لا يحبه الله تعالى لأنه سبحانه لا يرضى لعباده الكفر.
{تنبيه}: (بالنسبة للقضاء الشرعي أن يكون عندنا رضا به قطعاً و هو أساس الإسلام و قاعدة الإيمان .. لابد أن نرضى بدون أي حرجٍ و لا منازعةٍ و لا معارضةٍ ..
قال تعالى: (فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُواْ فِيَ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مّمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً) [النساء: 65]
لكن الرضا بالمقادير التي تقع، هناك فرقٌ بين الرضا و الصبر، الرضا بالمقدور
و الصبر على المقدور ..
(الرضا درجةٌ أعلى من الصبر ..
ليس الرضا عمليةً سهلةً .. و على ذلك يُحْمَل كلام من قال من العلماء إن الرضا ليس بواجبٍ في المقدور ..
الله لم يوجب على عباده أن يرضوا بالمقدور (المصائب)؛ لأن هذه الدرجة لا يستطيعها كل العباد، و لكن أوجب عليهم الصبر، و هناك فرقٌ بين الرضا و الصبر ..
قد يصبر الإنسان و هو يتجرّع المرارة و ألم المصيبة، و يمسك نفسه و يحبسها عن النياحة و شقّ الجيب أو قول شيءٍ خطأٍ، فنقول: هو صابرٌ ..
لكن هل وصل إلى مرحلة الرضا؟!!
يعني هل وصل إلى مرحلة الطمأنينة و الرضا بهذه المصيبة؟!!
ليس كل الناس يصلون إلى هذا ..
لا يجوز لطم الخدود و لا النياحة و لا شقّ الجيب؛ لأن هذا ضد الصبر الواجب، فالرضا لم يوجبه الله على كل عباده .. لكن من وصل إلى الرضا شأنه عظيمٌ ..
[*] قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الرضا بالقضاء ثلاثة أنواعٍ:
(1): الرضا بالطاعات: و حكمها طاعةٌ ..(6/199)
(2): الرضا بالمصائب: فهذا مأمورٌ به، فهو إما واجبٌ أو مستحبٌّ ..
أما الواجب: فهو ما يوازي الصبر و هو الدرجة الأولى من الرضا ..
أما الدرجة العليا من الرضا عند المصيبة التي فيها سكينة النفس التامة: فهذا عزيزٌ لا يصل إليه إلا قلّةٌ من المخلوقين ..
و الله من رحمته لم يوجبه عليهم؛ لأنهم لا يستطيعونه ..
(3) الرضا بالمعصية: معصيةٌ .. ) ..
مسألة: ما حكم الرضا بالكفر والفسوق والعصيان كأن يرى في أهله الخبث و هو راضٍ؟
الجواب: أن الرضا بالمعصية معصيةٌ حرامٌ ..
الرضا بالكفر .. كفرٌ ..
حكم الرضا بالمعصية .. لا يجوز ..
بل الإنسان مأمورٌ ببغض المعصية، و الله لا يحب الفساد و لا يرضى لعباده الكفر و لا يحب المعتدين و لا يحب الظلم و لا الظالمين ..
(ثمرات الرضا:
الرضا عمل عظيم من أعمال القلوب و من رؤوسها وللرضا ثمراتٌ كثيرةٌ منها ما يلي:
(1) الرضا و الفرح و السرور بالرب تبارك و تعالى .. و النبي صلى الله عليه
و سلم كان أرضى الناس بالله و أسرّ الناس بربه و أفرحهم به تبارك و تعالى ..
فالرضا من تمام العبودية و لا تتم العبودية بدون صبرٍ و توكلٍ و رضا و ذلٍّ و خضوعٍ و افتقارٍ إلى الله ..
(2) إن الرضا يثمر رضا الرب عن عبده، فإن الله عز و جل رضي بمن يعبده عمّن يعبده على من يعبده و إذا ألححتَ عليه و طلبتَه و تذلّلتَ إليه أقبل عليك.
(3) الرضا يخلّص من الهمّ و الغمّ و الحزن و شتات القلب و كسف البال و سوء الحال، ولذلك فإن باب جنة الدنيا يفتَح بالرضا قبل جنة الآخرة؛ فالرضا يوجب طمأنينة القلب و بَرْده و سكونه و قراره بعكس السخط الذي يؤدي إلى اضطراب القلب و ريبته و انزعاجه و عدم قراره
فالرضا ينزِل على قلب العبد سكينةً لا تتنزّل عليه بغيره و لا أنفع له منها؛ لأنه متى ما نزلت على قلب العبد السكينة: استقام و صلُحت أحواله و صلُح باله، و يكون في أمنٍ و دَعَةٍ و طيبِ عيشٍ ..
(4) الرضا يخلّص العبد من مخاصمة الرب في الشرائع و الأحكام و الأقضية ..
فمثلاً إبليس لما أُمِر بالسجود عصى؟ رفض؟(6/200)
لم يرضَ .. كيف أسجد لبشرٍ خلقتَه من ترابٍ؟ .. فعدم الرضا من إبليس أدّى إلى اعتراضٍ على أمر الله .. فإذاً منافقو عصرنا الذين لا يرضون بحكم الله في الربا و الحجاب وتعدّد الزوجات في كل مقالاتهم في مخاصمةٍ مع الرب سبحانه .. لماذا؟!!! ... كلامهم يدور على مخاصمة الرب في شرعه و إن لم يصرّحوا بهذا .. ! فالرضا يخلّص الإنسان من هذه المخاصمة ..
(6) الرضا من العدل .. الرضا يُشْعِر العبد بعدل الرب .. و لذلك كان صلى الله عليه و سلم يقول: ((عدلٌ فيَّ قضاؤك)) كما في الحديث الآتي:
(حديث ابن مسعود في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما أصاب عبداً همٌ ولا حزنٌ فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكلِ اسمٌ هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدٌ من خلقك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبي ونورَ بصري وجلاء حزني وذهاب همِّي إلا أذهب الله همَّه وأبدله مكانه فرجاً.
والذي لا يشعر بعدل الرب فهو جائرٌ ظالمٌ، فالله أعدل العادلين حتى في العقوبات ..
فقطع يد السارق عقوبةٌ، فالله عدَل في قضائه و عقوباته فلا يُعْتَرض عليه لا في قضائه و لا في عقوباته ..
وعدم الرضا لأحد سببين: إما لفواتِ شيءٍ أخطأك و أنت تحبه و تريده .. أو لشيءٍ أصابك و أنت تكرهه و تسخطه .. فيحصل للشخص الذي ليس عنده رضا قلقٌ و اضطرابٌ إذا نزل به ما يكره و فاته ما يحب حصل له أنواع الشقاء النفسي، و إذا كان راضياً لو نزل به ما يكره أو فاته ما يحب ما شقي و لا تألّم؛ لأن الرضا يمنع عنه هذا الألم، فلا هو يأسى على ما فاته و لا يفرح بما أوتي .. قال تعالى: (لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىَ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ) [الحديد: 23] *
الرضا مفيدٌ جداً لأنه يجعل المرء لا يأسف على ما فاته و لا يحزن و لا يتكدّر
على ما أصابه؛ لأنه مقدّرٌ مكتوبٌ ..
(6) الرضا يفتح باب السلامة من الغشّ و الحقد و الحسد؛ لأن المرء إذا لم يرضَ بقسمة الله سيبقى ينظر إلى فلانٍ و فلانٍ .. فيبقى دائماً عينه ضيقةٌ و حاسدٌ ومتمنٍّ زوال النعمة عن الآخرين .. و السخط يدخل هذه الأشياء في قلب صاحبه ..
(7) الرضا يجعلك لا تشكّ في قضاء الله و قدره و حكمته و علمه .. فتكون مستسلماً لأمره معتقداً أنه حكيمٌ مهما حصل .. لكن الإنسان الساخط يشكّ ويوسوس له الشيطان ما الحكمة هنا و هنا؟؟ .. !!(6/201)
(ولذلك (الرضا و اليقين) أخوان مصطحبان ..
و (السخط و الشكّ) توأمان متلاصقان .. !!
فإذا استطعتَ أن تعمل الرضا مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر خيراً كثيراً ..
(8) من أهم ثمرات الرضا: أنه يثمر الشكر. . .
فصاحب السخط لا يشكر .. فهو يشعر أنه مغبونٌ و حقّه منقوصٌ و حظّه مبخوسٌ .. !! لأنه يرى أنه لا نعمة له أصلاً .. !!
فالسخط نتيجة كفران المنعم و النعم .. !!!
والرضا نتيجة شكران المنعم و النعم .. !!!
(9) الرضا يجعل الإنسان لا يقول إلا ما يرضي الرب ..
السخط يجعل الإنسان يتكلّم بما فيه اعتراضٌ على الرب، و ربما يكون فيه قدحٌ في الرب عز و جل ..
صاحب الرضا متجرّدٌ عن الهوى .. و صاحب السخط متّبعٌ للهوى ..
ولا يجتمع الرضا و اتباع الهوى، لذلك الرضا بالله و عن الله يطرد الهوى ..
صاحب الرضا و اقفٌ مع اختيار الله ..
يحسّ أن عنده كنزٌ إذا رضي الله عنه أكبر من الجنة ..
لأن الله عندما ذكر نعيم الجنة قال: قال تعالى: (وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مّنَ اللّهِ أَكْبَرُ) [التوبة: 72]
رضا الله إذا حصل هو أكبر من الجنة و ما فيها ..
و الرضا صفة الله و الجنة مخلوقةٌ .. و صفة الله أكبر من مخلوقاته كلها ..
رضا الله أكبر من الجنة .. !!!
(10) الرضا يخلّص العبد من سخط الناس .. لأن الله إذا رضي عن العبد أرضى عنه الناس .. و العبد إذا سعى في مرضاة الله لا يبالي بكلام الناس ..
أما المشكلة إذا سعى في مرضاة الناس فسيجد نفسه متعباً؛ لأنه لن يستطيع إرضاءهم فيعيش في شقاءٍ .. أما من يسعى لرضا الله فلا يحسب لكلام الناس أي حسابٍ و لن يتعبَ نفسياً .. و لو وصل إليه كلام الناس فلن يؤذيَه نفسياً و لن يبالي مادام الله راضياً عنه ..
(حديث معاوية في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، و من التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس.
(11) الله يعطي الراضي عنه أشياءَ لم يسألها، و لا تكون عطايا الله نتيجة الدعاء فقط مادام في مصلحته ..
(12) الرضا يفرّغ قلب العبد للعبادة .. فهو في صلاته خالٍ قلبُه من الوساوس .. في الطاعة غير مشتّت الذهن .. فيستفيد من العبادة .. الرضا يركّز و يصفّي الذهن فينتفع صاحبه بالعبادة ..(6/202)
(13) الرضا له شأنٌ عجيبٌ مع بقية أعمال القلوب الصالحة، فأجره لا ينقطع و ليس له حدٌّ بخلاف أعمال الجوارح، فأجرها له حدٌّ تنتهي بمدّةٍ معينةٍ .. فعمل الجوارح محدودٌ .. لكن عمل القلب غير محدودٍ ..
فأعمال الجوارح تتضاعف على حدٍّ معلومٍ محسوبٍ .. أما أعمال القلوب فلا ينتهي تضعيفها و إن غابت عن بال صاحبها .. كيف؟؟!!
(فمثلاً إنسانٌ راضٍ يفكّر بذهنه و قلبه أنه راضٍ عن الله و عن قضائه، عرضت له مسألةٌ حسابيّةٌ فانشغل ذهنه بها .. العلماء يقولون: أجر الرضا لا ينقطع و إن شُغِل الذهن بشيءٍ ثانٍ؛ لأن أصله موجودٌ و لو انشغل القلب بشيءٍ ثانٍ الآن ..
(وإنسانٌ يخاف الله، أحياناً يحصل له بكاءٌ و وجلٌ نتيجة هذا الخوف، لو انشغل باله مع ولده يضمّد جراح ولده و نسي موضوع التأمل في الخوف و ما يوجب البكاء و الخشية فلازال أجره على الخوف مستمرّاً؛ لأنه عملٌ قلبيٌّ مركوزٌ في الداخل لم ينتهِ أجره بل هو مستمرٌّ .. و هذا من عجائب أعمال القلوب. . .
و هذا يمكن أن يوضِّح لماذا أجر أعمال القلوب أكثر من أجر أعمال الجوارح، مع أنه لابد من أعمال الجوارح طبعاً .. لأنه إذا لم يكن هناك أعمال جوارح فالقلب خرِبٌ ..
(الرضا لا يتعارض مع الدعاء:
مسألة: هل الرضا لا يتعارض مع الدعاء؟
الجواب: لا 00 لأن الدعاء يرضي الله و هو مما أمر الله به ..
مسألة: هل الإنسان إذا دعا أن يزيل الله عنه مصيبةً لا يكون راضياً؟!!
الجواب: لا .. ليس هكذا .. لأن الله تعالى قال: (وَقَالَ رَبّكُمْ ادْعُونِيَ أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60] و قال تعالى: (تَتَجَافَىَ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) [السجدة: 16] يدعون ربهم يريدون نعماً و دفعَ نقمٍ.
فالدعاء لجلبِ منفعةٍ أو دفعِ مضرّةٍ .. فلأن الله قال: ادعوني و لأن الدعاء يرضي الله، فإن الدعاء لا يتعارض مع الرضا ..
فالمرء لو كان راضياً بالمعصية و سأل الله أن يزيل أثرها أو يعوّضه خيراً، لم يعارضِ الدعاءُ الرضا .. لأن الله أمرنا أن نسأله الرزق قال تعالى: (فَابْتَغُواْ عِندَ اللّهِ الرّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ) [العنكبوت: 17]
(الرضا لا يتنافى مع البكاء على الميّت:
مسألة: هل الرضا يتنافى مع البكاء على الميّت؟!!
[*] قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:(6/203)
البكاء على الميت على وجه الرحمة حسنٌ مستحبٌّ و ذلك لا ينافي الرضا، بخلاف البكاء عليه لفوات حظه منه .. و بهذا يُعْرَف قوله صلى الله عليه و سلم لما بكى على الميت: إنها رحمة كما في الحديث الآتي:
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال دخلنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أبي سيف القين وكان ظئرا لإبراهيم عليه السلام فأخذ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إبراهيم فقبله وشمه ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تذرفان فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه وأنت يا رسول الله فقال يا بن عوف إنها رحمة ثم أتبعها بأخرى فقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يُرضى ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون.
{تنبيه}: ظئرا: أي زوج المرضعة وهو معنى مستعار.
وينبغي أن نفرّق؛ لأن النبي صلى الله عليه و سلم لما رأى ولده إبراهيم يموت بكى لماذا بكى؟ .. هل بكى رحمةً أو تأسّفاً على فقد الولد!!.، بكى رحمة بلا شك.
وإن هذا ليس كبكاء من يبكي لحظِّه إلا لرحمة الميت، فإن الفضيل بن عياض لما مات ابنه علي ضحك و قال: (رأيت أن الله قد قضى، فأحببتُ أن أرضى بما قضى الله به) .. فحاله حالٌ حسنٌ بالنسبة لأهل الجزع، و أما رحمة الميت مع الرضا بالقضاء و حمد الله على كل حالٍ كما قال صلى الله عليه و سلم فهذا أكمل ..
فإذا قيل: أيهما أكمل: النبي صلى الله عليه و سلم بكى رحمةً بالميت أو الذي من السلف ضحك؟؟!!
بكاء رحمة الميت مع حمد الله و الرضا بالقضاء أكمل، كما قال تعالى: (ثُمّ كَانَ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ) [البلد: 17] فذكر الله التواصي بالصبر
والتواصي بالمرحمة ..
(والناس في الصبر أربعة أقسامٍ:
(1) منهم من يكون فيه صبرٌ بقوةٍ (ما فيه رحمة).
(2) و منهم من يكون فيه رحمةٌ بقوةٍ (ينهار).
(3) و منهم من يكون فيه القسوة و الجزع (جمع الشر من الطرفين).
(4) المؤمن المحمود الذي يصبر على ما يصيبه و يرحم الناس.
(ومما يجب أن يعلم أنه لا يُسَوِّغُ في العقل و لا في الدين طلب رضا المخلوقين
بإطلاقٍ؛ لوجهين:
أحدهما: أن هذا غير ممكن، كما قال الشافعي: (رضا الناس غايةٌ لا تُدْرَك)، فعليك بالأمر الذي يصلحك فالزمه و دع ما سواه و لا تعانِه(6/204)
والثاني: أنّنا مأمورون أن نتحرّى رضا الله و رسوله قال تعالى: (وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ) [التوبة: 62]
مسألة: هل نحن مكلّفون أن نرضي الناس كلهم؟!!
لا، لسنا مكلّفين؛ لسببين:
أحدهما: لأنه غير ممكنٍ.
والثاني: لأننا مكلّفون بإرضاء الله و ليس بإرضاء الناس ..
(أقوال السلف رحمهم الله في الرضا:
[*] قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (إن الله إذا قضى قضاءً أحبَّ أن يُرضى به من قِبَل العباد) ..
[*] قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن الله بقسطه و عدله جعل الرَّوح و الفرح في اليقين و الرضا و جعل الهمّ و الحزن في الشكّ) ..
[*] قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (أصبحتُ و ما لي سرورٌ إلا في مواضع القضاء و القدر).
فينعكس هذا على نفسه انشراحاً و طمأنينةً، و من وصل إلى هذه الدرجة كان عيشه كله في نعيمٍ و سرورٍ قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنّهُ حَيَاةً طَيّبَةً) [سورة: النحل - الأية: 97]
قال بعض السلف: (الحياة الطيبة هي الرضا و القناعة) ..
[*] قال عبد الواحد بن زيدٍ رحمه الله: (الرضا باب الله الأعظم و جنة الدنيا
و مُستراح العابدين) .. و ربما رضي المبتلى حتى لم يَعُدْ يشعر بالألم ..
عذابه فيك عذبُ ... * * * ... و بُعْدُه نَيْلُ قُرْبِ .. !
[*] وكذلك قال عمر بن الخطاب لأبي موسى رضي الله عنهما: (أما بعد: فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعتَ أن ترضى و إلا فاصبر) .. هذا مما تقدّم أن الرضا منزلةٌ أعلى من الصبر ..
[*] وقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (إذا تُوُفِّي العبد المؤمن أرسل الله إليه مَلَكين و تحفةً من الجنة، فيقال: اخرجي أيتها النفس المطمئنة إلى رَوْحٍ و ريحانٍ و ربٍّ عنكِ راضٍ) ..
[*] وقال ميمون بن مهران رحمه الله: (من لم يرضَ بالقضاء فليس لحمقه دواءٌ))
[*] ونقل عبد الله بن المبارك رحمه الله عبارة: (يا بنيّ إنما تستدلّ على تقوى الرجل بثلاثة أشياءٍ: لحُسْن توكله على الله فيما نابَه، و لحُسْن رضاه فيما آتاه، و لحُسْن زهده فيما فاته) ..
فمنزلة الرضا هي التي تثمر محبة الله و النجاة من النار و الفوز بالجنة و رضوان الله وحُسْن ظنّ العبد بربه و النفس المطمئنّة و الحياة الطيبة ..
(فصلٌ في منزلة الشكر:
[*] (عناصر الفصل:
(تعريف الشكر:
(أقسام الشكر:
(فضائل الشكر:
(حقيقة الشكر:
(أقسام الخلق في شكر النعمة:(6/205)
(نماذج من شكر السلف رحمهم الله تعالى:
(واجبنا نحو الله في النعم:
(الوسائل التي تؤدي إلى الشكر:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غير مُخِّل:
(تعريف الشكر:
(الشكر لغةً: الاعتراف بالإحسان، شكرت الله- شكرت لله- شكرت نعمة الله. فالشكر في اللغة هو ظهور أذر الغذاء في جسم الحيوان، والشكور من الدواب ما يكفيه العلف القليل أو الذي يسمن على العلف القليل. والشكر خلاف الكفر.
والشكر الثناء على المحسن بما أولاه من معروف، وتقول شكرته وشكرت له وقيل اللام أنصح، والشكران خلاف الكفران.
اشتكرت السماء أي اشتد وقع مطرها. واشتكر الضرع أي امتلأ لبناً.
والشكر الزيادة والنماء.
(الشكر اصطلاحا:
فصل الخطاب الشكر اصطلاحا: هو الثناء على المنعم بما أولاكه من معروف.
وشكر العبد يدور على ثلاثة أركان – لايكون شكراً إلا بمجموعهما وهي:
(1) الاعتراف بالنعمة باطناً:
(2) والتحدث بها ظاهراً:
(3) والاستعانة بها على طاعة الله:
فالشكر يتعلق بالقلب واللسان، والجوارح، لاستعمالها في طاعة المشكور وكفها عن معاصيه.
(أقسام الشكر:
[*] قال الإمام إبن رجب: والشكر بالقلب واللسان والجوارح.
(أولاً الشكر بالقلب:
علم القلب وذلك بأن يعلم أن الله هو المنعم بكل النعم التي يتقلب فيها [الناس يشكرون المعبر ولا يشكرون المصدر!!]، وهذا مهم في تربية الأطفال، أن يُعرَّف من أين جاءت النعم قال تعالى: (يَأَيّهَا النّاسُ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللّهِ يَرْزُقُكُمْ مّنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ فَأَنّىَ تُؤْفَكُونَ) [فاطر: 3]
أول نعمة؛ نعمة الخلق والإيجاد، ورصد النعم والتعرف إليها مرحلة تمهيدية للشكر، وجاءت كثير من الآيات بإحصاء النعم ليكتشف الإنسان كثرتها فيعلم أن النعم لا يمكن حصرها قال تعالى: (وَإِن تَعُدّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَآ إِنّ اللّهَ لَغَفُورٌ رّحِيمٌ) [النحل: 18]
ولكن ذُكِر لنا أشياء فرعية وأصلية، والفروع نردها إلى أصولها، كالصحة فهي نعمة أصلية وما يتفرع منها من النعم (الحركة، المشي، العمل، الرياضة، النوم، الأكل، الشرب، السفر)، كذلك المال والوقت والعلم كلها نعم أصلية.(6/206)
وتستطيع أن تضم النعم إلى ما يحاذيها ويشابهها، أنعم علينا بوصفنا مخلوقات بعد الخلق والإيجاد ثم نعمة الآدمية والإنسانية وأنعم علينا بوصفنا مسلمين من نعمة الهداية والإيمان. ونعمة التربية التي ترتقي بالفرد درجة بعد درجة وتعلم علماً بعد علم حتى يبلغ كماله، وفوق كل ذلك نعمة النبوة للذين اصطفاهم الله، والصديقين والشهداء و الصالحين.
إن عرض النعم على العامة أمر مهم جداً وهو قضية في الدعوة، فالله عز وجل خص الآدمي أنه خلقه بيده، قال تعالى: (قَالَ يَإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ) [ص: 75]
قال تعالى: (اللّهُ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقاً لّكُمْ وَسَخّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ * وَسَخّر لَكُمُ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخّرَ لَكُمُ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ * وَآتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ) [إبراهيم 32: 34]
وذكر في سورة النحل (سورة النعم): قال تعالى: (وَهُوَ الّذِي سَخّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَىَ فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لّعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ وَبِالنّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ * أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكّرُونَ * قال تعالى: (وَإِن تَعُدّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَآ إِنّ اللّهَ لَغَفُورٌ رّحِيمٌ) [النحل 14: 18]
و قال تعالى: (وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّمّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلّكُمْ تُسْلِمُونَ) [النحل: 81](6/207)
هذه المنة للإيمان بعد الإسلام أو الإسلام أولاً قال تعالى: (يَمُنّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاّ تَمُنّواْ عَلَيّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللّهُ يَمُنّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِنُ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [الحجرات: 17]
قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ) [المائدة: 3]
(ومن نعمة الهداية يكون الأمن والسكينة والفرج والمغفرة والرحمة والبركة والتيسير وسعة الرزق.
ومن مقاصد ووسائل الدعوة أنك تحدث المدعوين بنعم الله عليهم ليحصل الشكر قال تعالى: (إِنّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النّاسِ وَلََكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ) [غافر: 61].
فبعض الناس اتجهوا إلى أشياء غريبة في تفسير النعم أو نسبتها إلى مصادر باطلة ليست هي، مثل الذي فعله قارون لما ذكر بنعمة الله عليه فقال (قَالَ إِنّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىَ عِلْمٍ عِندِيَ) [القصص: 78]،
فالغرور يجعلهم ينسبون النعمة إلى غير المنعم، وهذا فعل الأشقياء فالله تعالى يقول: (وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ) [النحل: 53]
و قال تعالى: (فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ) [الطارق: 5]
و قال تعالى: (فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَىَ طَعَامِهِ) [عبس: 24]
و قال تعالى: (أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ) [الواقعة: 69]
و قال تعالى: (وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ) [الحجر: 22]
قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَآءَ الّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ) [الواقعة 68: 70]
(ثانياً الشكر باللسان:
لسان المرء يُعْرِبُ عما في قلبه، فإذا امتلأ القلب بشكر الله لهج اللسان بحمده والثناء عليه وذكره، وتأمل ما في أذكار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الحمد والشكر لرب العالمين ..(6/208)
إن الذي يُمْعِن النظر في هدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجد أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتقلب في حمد الله وذكره تعالى وكان يذكر الله تعالى على كل أحيانه قائماً وقاعداً وعلى جنب، وإليك بيان تفصيلي لذكر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على كل أحيانه من حيث يستيقظ إلى أن ينام.
(ذكر الاستيقاظ من النوم:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:"يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نائم ثلاث عقد يضرب على كل عقدةٍ مكانها عليك ليل طويل فارقد فإن استيقظ وذكر الله تعالى انحلت عقدة فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقده كلها فأصبح نشيطاً طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان".
قوله: على قافية رأس أحدكم: القافية آخر الرأس وقافية كل شيءٍ آخره ومن قافية الشعر.
وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فأصبح نشيطاً طيب النفس" معناه: لسروره بما وفقه الله الكريم له من الطاعة ووعده به من ثوابه مع ما يبارك في نفسه وتصرفه في كل أموره مع ما زال عنه من عقد الشيطان وتثبيطه.
انحلت عقده كلها: قال الألباني رحمه الله تعالى: قلت في تفسير "العقد" أقوال، والأقرب أنه على حقيقته بمعنى السحر للإنسان ومنعه من القيام، كما يعقد الساحر من سحره، كما أخبر بذلك المولى تعالى ذكره في كتابه الكريم {ومن شر النفاثات في العقد} فالذي خذل يعلم فيه، والذي وفق يصرف عنه، ومما يدل على أنه على الحقيقة ما رواه ابن ماجه عن أبي هريرة مرفوعاً " على قافية رأس أحدكم حبل فيه ثلاث عقد" الحديث، وما رواه ابن خزيمة وذكره المصنف في هذا الباب عن جابر رضي الله عنه " على رأس جرير معقود" وفسر الجرير بالحبل. أ. هـ. (1)
(حديث حذيفة في الصحيحين) قال كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أوى إلى فراشه قال: باسمك اللهم أموت وأحيا، وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا استيقظَ أحدُكُم فليقُلْ: الحمدُ لله الذي ردَّ عليَّ رُوحي, وعافاني في جَسَدي, وأذِنَ لي بذِكْرِهِ.
(الذكر عند دخول الخلاء:
الذكر عند دخول الخلاء تقول: بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث.
__________
(1) صحيح الترغيب (ص324).(6/209)
(حديث علي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ستر ما بين أعين الجن و عورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول: بسم الله.
(حديث أنس في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخُبُثُ و الخبائث.
(الذكر بعد الخروج من الخلاء:
الذكر الذي نقوله بعد الخروج من الخلاء تقول: غفرانك.
(حديث عائشة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج من الغائط قال: غفرانك.
(الذكر قبل الوضوء:
الذكر الذي نقوله قبل الوضوء: بسم الله.
(حديث أبي هريرة في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا صلاةَ لمن لا وضوء له و لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه.
(الذكر بعد الفراغ من الوضوء:
الذكر الذي نقوله بعد الفراغ من الوضوء: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله اللهم اجعلني من التوابين و اجعلني من المتطهرين.
(حديث عمر في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من أحدٍ يتوضأ فيبلغ أو يسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء.
(حديث عمر صحيحي أبي داوود الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أن محمدا عبده و رسوله اللهم اجعلني من التوابين و اجعلني من المتطهرين فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء.
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: مِنَ توضأَ ثمَّ قالَ: سبحانَك اللهمَّ وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنتَ, أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ, كُتِبَ في رقٍّ ثم طُبِعَ بطابِعٍ, فلم يُكسر إلى يوم القيامة.
(الذكر عند الخروج من المنزل:
الذكر الذي نقوله عند الخروج من المنزل: بسم الله توكلت على الله لا حول و لا قوة، اللهم إني أعوذ بك أن أَضلَ أو أُضل أو أَزلَّ أو أُزلَّ أو أَظلم أو أُظلم أو أَجهل أو يُجْهَلَ عليَّ.(6/210)
(حديث أنس في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله توكلت على الله لا حول و لا قوة إلا بالله فيقال له: حسبك قد هديت و كفيت و وقيت فيتنحى له الشيطان فيقول له شيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي و كفي و وقي؟.
(حديث أم سلمة في صحيح السنن الأربعة) قالت: ما خرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بيتي قط إلا رفع طَرْفَه إلى السماء فقال: اللهم إني أعوذ بك أن أَضلَ أو أُضل أو أَزلَّ أو أُزلَّ أو أَظلم أو أُظلم أو أَجهل أو يُجْهَلَ عليَّ.
(الذكر عند دخول المنزل:
يُسلم على أهله ويصلي ركعتين:
(حديث أبي أمامة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاثةٌ كلُّهمْ ضامنٌ على الله إن عاش رُزقِ وكُفِيَ, وإن ماتَ أدخلَهُ اللهُ الجنّة, من دخل بيتَه فَسَلَّمَ، فهو ضامنٌ على الله ومن خرج إلى المسجد فهو ضامن على الله ومن خرج في سبيل الله فهو ضامن على الله.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا خرَجت من مَنْزلك فَصَلّ ركعتين يمنعانكَ من مخرجِ السوءِ, وإذا دَخَلْتَ إلى منزلك فصَلّ ركعتين يمنعانكَ من مدخل السوء.
(ذكر الخروج إلى المسجد:
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قال: فأتاه بلالاً فآذنه بالصلاة فقام ولم يتوضأ وكان في دعائه: اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً، واجعل لي نوراً).
(الذكر عند دخول المسجد:
(حديث عبد الله ابن عمرو الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دخل المسجد قال أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم.
(حديث فاطمة بنت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) قالت كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دخل المسجد يقول بسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج قال بسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك.(6/211)
اغفر لي: أي استر ذنوبي وتجاوز عن عيوبي، وأصل الغَفْر التغطية، والمغفرة: إلباس الله تعالى العفوَ للمذنبين.
(الذكر عند الخروج من المسجد:
(حديث فاطمة بنت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) قالت كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دخل المسجد يقول بسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج قال بسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليسلم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليقل اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم.
(الذكر عند لبس الثوب:
الذكر عند لبس الثوب أن تقول: الحمد لله الذي كساني هذا و رزقنيه من غير حول مني و لا قوة.
(حديث معاذ بن أنس الجُهَني في صحيح السنن الأربعة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أكل طعاما ثم قال: الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام و رزقنيه من غير حول مني و لا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه و من لبس ثوبا فقال: الحمد لله الذي كساني هذا و رزقنيه من غير حول مني و لا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر.
(ذكر لبس الثوب الجديد:
الذكر عند لبس الثوب الجديد أن تقول: تقول: اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه أسألك من خيره و خير ما صنع له و أعوذ بك من شره و شر ما صنع له
(حديث أبي سعيد في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كان إذا استجد ثوبا سماه باسمه قميصا أو عمامة أو رداء ثم يقول: اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه أسألك من خيره و خير ما صنع له و أعوذ بك من شره و شر ما صنع له.
(الدعاء لمن لبس ثوباً جديدا:
الدعاء عند لبس ثوباً جديدا تقول له: البس جديدا و عش حميدا و مت شهيدا.
(حديث ابن عمر في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى على عمر قميصاً أبيضاً فقال: ثوبك هذا غسيلٌ أم جديد؟ قال لا بل غسيل، قال: البس جديدا و عش حميدا و مت شهيدا.(6/212)
(حديث أمِّ خالدٍ بِنتِ سعيد بن العاصِ ضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ُتِيَ بِكسوةٍ فِيهَا خميِصةٌ صغيرةٌ فقالَ: مَنْ ترونَ أحقَّ بهذهِ؟ فسكَتََ القومُ فقالَ: ائتُوني بأمِّ خالدٍ، فأُتِيَ بِهَا, فألْبَسَهَا إيَّاهَا, ثمَّ قالَ: أبْلِي وأَخْلِقِي مرَّتيِن.
(الذكر عند دخول المنزل:
الذكر الذي نقوله عند دخول المنزل: إني أسألك خير المولج و خير المخرج باسم الله ولجنا و باسم الله خرجنا و على الله ربنا توكلنا.
(حديث أبي موسى الأشعري في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا ولج الرجل بيته فليقل: اللهم إني أسألك خير المولج و خير المخرج باسم الله ولجنا و باسم الله خرجنا و على الله ربنا توكلنا ثم يسلم على أهله.
(الذكر عند دخول المسجد:
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دخل المسجد قال: أعوذ بالله العظيم و بوجهه الكريم و سلطانه القديم من الشيطان الرجيم و قال: فإذا قال ذلك قال الشيطان حُفِظ مني سائر اليوم.
(حديث فاطمة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) قالت كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دخل المسجد قال: بسم الله و السلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي و افتح لي أبواب رحمتك و إذا خرج قال: بسم الله و السلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي و افتح لي أبواب فضلك.
(الذكر عند الخروج من المسجد:
(حديث فاطمة في صحيحي الترمذي وابن ماجة) قالت كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دخل المسجد قال: بسم الله و السلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي و افتح لي أبواب رحمتك و إذا خرج قال: بسم الله و السلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي و افتح لي أبواب فضلك.
[*] (أذكار الأذان:
(أذكار الأذان تقول مثل ما يقول المؤذن إلا في قوله {حي على الصلاة حي على الفلاح} تقول: لا حول و لا قوة إلا بالله.
(ثم تقول عقب تشهد المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله رضيت بالله ربا و بمحمد رسولا و بالإسلام دينا
*ثم تصلي على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد فراغك من إجابة المؤذن(6/213)
(ثم تقول: اللهم رب هذه الدعوة التامة و الصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة و الفضيلة و ابعثه مقاما محمودا الذي وعدته.
(ثم تدعو بين الأذان والإقامة فإن الدعاء بينهما لا يُرد.
(حديث أبي سعيد في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن.
(حديث عمر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله فقال أشهد أن لا إله إلا الله ثم قال أشهد أن محمدا رسول الله فقال أشهد أن محمدا رسول الله فقال أشهد أن محمدا رسول الله ثم قال حي على الصلاة فقال لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال حي على الفلاح قال لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال الله أكبر الله أكبر فقال الله أكبر الله أكبر ثم قال لا إله إلا الله فقال لا إله إلا الله خالصا من قلبه دخل الجنة.
(حديث معاوية في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سمع المؤذن قال مثل ما يقول حتى إذا بلغ: حي على الصلاة حي على الفلاح قال: لا حول و لا قوة إلا بالله.
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله و أرجوا أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة.
(حديث سعد بن أبي وقاص في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من قال حين يسمع النداء: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله رضيت بالله ربا و بمحمد رسولا و بالإسلام دينا غفر الله له ما تقدم من ذنبه.
(حديث جابر في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة و الصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة و الفضيلة و ابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفا عتي يوم القيامة.
(حديث أنس في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لا يُرَدُ الدعاء بين الأذان والإقامة.
[*] (الأذكار داخل الصلاة:
(دعاء الاستفتاح:(6/214)
(ثبت في السنة الصحيحة أكثر من دعاء للاستفتاح وكلها صحيحة وليس بينها تعارض، والصواب فيها أن تقرأ أحدها تارةً والأخرى تارة لأن هذا من قبيل اختلاف التنوع وليس اختلاف التضاد ولذا فالأفضل في مثل هذه المواطن أن نأتي بالذكر هذا تارةً والثاني تارة.
(حديث أبي سعيد في صحيح السنن الأربعة) قال: كان إذا استفتح الصلاة قال: سبحانك اللهم و بحمدك و تبارك اسمك و تعالى جدك و لا إله غيرك.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسكت بين التكبير وبين القراءة إسكاتةً هُنَيهةَ فقلت بأبي وأمي يا رسول الله إسكاتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من الخطايا كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد.
(ذكر الركوع:
(حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول إذا ركع سبحان ربي العظيم ثلاث مرات وإذا سجد قال سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات.
(حديث عائشة في الصحيحين) قالت كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي.
(حديث عائشة في صحيح مسلم) أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في ركوعه وسجوده: سبُّوحٌ قدوسٌ ربُ الملائكة والروح.
(ذكر الرفع من الركوع:
(حديث رفاعةَ بن رافعٍ الزُرقي في صحيح البخاري) قال كنا نصلي وراء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما رفع رأسه من الركعة قال سمع الله لمن حمده قال رجلٌ وراءه ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فلما انصرف قال: من المتكلم؟ قال أنا، قال: رأيت بضعةً وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أول.
(حديث أبي سعيدٍ في صحيح مسلم) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رفع رأسه من الركوع قال: ربنا لك الحمد ملئ السموات والأرض وما بينهما وملئ ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحقُ ما قال العبد وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا مُعطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
(ذكر السجود:
(حديث عائشة في الصحيحين) قالت كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي.(6/215)
(حديث عائشة في صحيح مسلم) أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في ركوعه وسجوده: سبُّوحٌ قدوسٌ ربُ الملائكة والروح.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في سجوده: "" اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله وأوله وآخره.
(حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم) قالت: فقدت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة فالتمسته بيدي فوقعت يدي على قدميه وهما منصوبتان وهو يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك و بمعافاتك من عقوبتك و أعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح النسائي) قالت فقدت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .. فطلبته فإذا هو ساجد يقول: اللَّهُمَّ اغفِرْ لِي مَا أسررتُ ومَا أعلَنْتُ.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح النسائي) فقدتُ رسولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة فإذا هو راكعٌ أو سَاجِدٌ يقول: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وبِحمدِكَ لا إلهَ إلا أنتَ.
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح النسائي) قالَ كانَ رسولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في سجوده: اللَّهُمَّ اجعلْ في قَلْبي نُوراً, واجْعَلْ في سَمْعِي نُوراً, واجْعَلْ في بَصَري نُوراً, واجْعَلْ مِنْ تَحْتِي نُوراً, واجْعَلْ مِنْ فَوقِي نُوراً, وعَنْ يميني نُوراً, وعَنْ يَساري نُوراً, واجْعَلْ أمَامِي نُوراً, واجْعَلْ خَلْفِي نُوراً, وأعْظِم لِي نُوراً.
(الذكر بين السجد تين:
(حديث حذيفة في صحيحي أبي داوود والنسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول بين السجد تين رب اغفر لي رب اغفر لي.
(حديث ابن عباس في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول بين السجد تين اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني وارزقني.
اغفر لي: أي استر ذنوبي وتجاوز عن عيوبي، وأصل الغَفْر التغطية، والمغفرة: إلباس الله تعالى العفوَ للمذنبين.
وارحمني: الرحمة هي الرقة والعطف.
وعافني: العَفْو هو التجاوزُ عن الذَّنْب وتركُ العِقَاب عليه، وأصله المَحْوُ والطَّمْسُ، فالعفو: محو الذنوب، والعافية: أن تسلم من الأسقام والبلايا.
وارزقني: أي انفعني وهب لي.
(الذكر بعد التشهد الأخير وقبل التسليم:(6/216)
(حديث أبي بكرٍ الصديق في الصحيحين) أنه قال لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمني دعاءاً أدعو به في صلاتي قال: قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم.
(حديث عليٍ في صحيح مسلم) قال كان رسول الله إذا قام إلى الصلاة يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: اللهم اغفر لي ما قدَّمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت.
(حديث عائشة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو في الصلاة يقول: "" اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم "" فقال له قائل ما أكثر ما تستعيذ من المغرم يا رسول الله فقال: "" إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف.
(المأثم): هو الأمر الذي يأثم به الإنسان, أو هو الإثم نفسه, وضعاً للمصدر موضع الاسم,
(المغرم): ويريد به الدين, بدليل تمام الحديث قالت عائشة: فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم يا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال:
(إنَّ الرَّجل إذا غَرِمَ, حدَّث فكذَبَ, ووعَدَ فأخلَفَ)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجلٍ ما تقول في الصلاة قال أتشهد ثم أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار أما والله ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال حولها ندندن.
[*] (أذكار ختام الصلاة:
(تقول: " أستغفر الله، استغفر الله، اللهم أنت السلام، ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ". http://tholog.50webs.com/azkar.htm - _ftn15
( تقول: اللهم أعني على ذكرك و شكرك و حسن عبادتك
(وتقرأ آية الكرسي دبر كل صلاة.
(وتقرأ المُعَوِّذات دبر كل صلاة.
(وتقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضلُ وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.
(وتسبح الله تعالى ثلاثاً وثلاثين وتحمد الله تعالى ثلاثاً وثلاثين وتكبر الله تعالى ثلاثاً وثلاثين(6/217)
(وتقول تمام المائة: لا لإله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
(وهاك الأدلة على ذلك:
(حديث ثوبان رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا وقال اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ذا الجلال والإكرام.
(حديث معاذ في صحيحي أبي داوود والنسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يا معاذ! و الله إني لأحبك أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك و شكرك و حسن عبادتك.
(حديث أبي أمامة الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت.
(حديث عقبة بن عامر في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال أمرني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أقرأ المُعَوِّذات دبر كل صلاة.
(حديث عبد الله بن الزبير الثابت في صحيح مسلم) قال كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا انصرف من الصلاة قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضلُ وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا و ثلاثين و حمد الله ثلاثا و ثلاثين و كبر الله ثلاثا و ثلاثين فتلك تسع و تسعون و قال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير غفرت خطاياه و إن كانت مثل زبد البحر.
(حديث المغيرة في الصحيحين) كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفعُ ذا الجد منك الجد.
(كيفية تسبيح النبي صلى الله?عليه و سلم:
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) قال: رأيت رسول الله صلى الله?عليه و سلم يعقد التسبيح بيمينه.(6/218)
(حديث يُسَيْرَةَ بن ياسر رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يا معشر النساء اعقدن بالأنامل فإنهن مَسئُولاتٌ مُستنطَقَاتٌ.
[*] قال صاحب تحفة الأحوذي:
مَسئُولاتٌ مُستنطَقَاتٌ: يعني أنهن يشهدن بذلك فكان عقدهن بالتسبيح من هذه الحيثية أولى من السبحة والحصى ويدل على جواز عد التسبيح بالنوى والحصى.
[تحفة الأحوذي (9/ 322)]
{تنبيه}: (فهذا هو السنة في عدّ الذكر المشروع عدّه, إنما هو باليد, وباليمنى فقط, فالعدّ باليسرى أو باليدين معاً, أو بالحصى كل ذلك خلاف السنة.
(ذكر سجود التلاوة:
(حديث عائشة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في سجود القرآن بالليل في السجدة مراراً سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته.
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله إني رأيتني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة فَسَجَدتُ فَسَجَدَتْ الشجرةُ لسجودي فسمعتُها وهي تقول اللهم اكتب لي بها عندك أجرا وضع عني بها وزرا واجعلها لي عندك ذخرا وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود قال الحسن قال لي بن جريج قال لي جدك قال بن عباس فقرأ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سجدة ثم سجد قال فقال بن عباس فسمعته وهو يقول مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة.
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي.
(حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم) أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في ركوعه وسجوده سبوح قدوس رب الملائكة والروح.
(الذكر في صلاة الاستسقاء:
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داود) قال: أتت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بواكي فقال اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا مريعا نافعا غير ضار عاجلا غير آجل قال فأطبقت عليهم السماء.
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود) قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا استَسقى قالَ: اللَّهمَّ اسقِ عِبادكَ وبهائمكَ, وانشر رحمَتَك, وأَحْيي بَلَدَكَ الَمِّيتَ.
(الذكر إذا رأى المطر:(6/219)
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رأى المطر قال: اللهم صيباً نافعاً.
(الذكر بعد نزول الغيث:
(حديث زيد بن خالد الجُهني الثابت في الصحيحين) قال صلى لنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الصبح بالحديبية على إثرِ سماءٍ كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال الله: أصبح من عبادي مؤمن بي و كافر فأما من قال: مطرنا بفضل الله و رحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب و أما من قال: مطرنا بنوء كذا و كذا فذلك كافر بي و مؤمن بالكواكب.
(ما يقول إذا زاد المطر وخِيف منه:
(حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال أصابت الناس سنة على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب على المنبر يوم الجمعة قام أعرابي فقال يا رسول الله هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا أن يسقينا قال فرفع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه وما في السماء قزعة قال فثار سحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته قال فمطرنا يومنا ذلك وفي الغد ومن بعد الغد والذي يليه إلى الجمعة الأخرى فقام ذلك الأعرابي أو رجل غيره فقال يا رسول الله تهدم البناء وغرق المال فادع الله لنا فرفع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه وقال اللهم حوالينا ولا علينا قال فما جعل يشير بيده إلى ناحية من السماء إلا تفرجت حتى صارت المدينة في مثل الجوبة حتى سال الوادي وادي قناة شهرا ولم يجيء أحد من ناحية إلا حدث بالجود.
(الذكر عند رؤية الريح:
(حديث أبي بن كعب في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون، فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الريحُ من روحِ الله, تأتي بالرحمة, وتأتي بالعذابِ, فإذا رأيتموها فلا تَسُبُّوها, واسألوا الله خيرها, واستعيذُوا بالله من شرِّها.(6/220)
(حديث عائشةرضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا عصفتِ الريحُ قال: اللهمَّ إني أسألكَ خيرها, وخير ما فيها, وخيرَ ما أرسلتْ به, وأعوذ بكَ من شرها, وشرِّ ما فيها, وشرِّ ما أرسلتْ به.
(حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا اشتدَّت الرِّيحُ قالَ: اللَّهمَّ لَقَحاً لا عَقيماً.
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في السلسلة الصحيحة) أن رجلاً نازعته الريح رداءه على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلعنها, فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تلعن الريح فإنها مأمورة وإنه من لعن شيئاً ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه.
(الذكر إذا سمع الرعد:
(حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنه الثابت في صحيح الأدب المفرد) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سمع الرَّعد ترك الحديث وقال: سبحان الذي {يُسبِّح الرَّعد بحمده والملائكة مِن خيفتِه} [الرعد: 13]
(الذكر لمن رأى الهلال:
(حديث طلحة ابن عُبيد الله في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رأى الهلال قال: اللهم أهله علينا باليمن و الإيمان و السلامة و الإسلام ربي و ربك الله.
(الاستعاذة عند روية القمر:
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ بيدها, فأشار بها إلى القمر, فقال: استعيذي باللهِ من هذا [يعني: القمر] ,فإنَّهُ الغاسقُ إذا وَقَبَ.
[*] قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى:
في الحديث دلالة على جواز الإشارة باليد إلى القمر, خلافاً لما نقل عن بعض المشايخ من كراهة ذلك, والحديث يردُّ عليه. أهـ
(الذكرعند صياح الديكة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله، فإنها رأت ملكا، وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنه رأى شيطانا).
(الاستعاذة عند سماع نباح الكلاب ونهيق الحمير بالليل:(6/221)
(حديث جابر عبد الله رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا سمعتم نباح الكلاب ونهيق الحمر بالليل فتعوذوا بالله فإنهن يَرَيْنَ مالا ترون.
(الذكر لمن استصعب عليه أمر:
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اللهمَّ لا سهلَ إلا ما جعلتَه سهلاً, وأنتَ تجعلُ الحزنَ إذا شئتَ سهلاً.
(الذكر في المجلس:
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) قال: إن كنا لنعد لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المجلس الواحد مائة مرة رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم.
(حديث ابن عمر في صحيح الترمذي) قال قلما كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقوم من مجلسٍ حتى يدعو بهؤلاء الكلمات: اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا و بين معاصيك و من طاعتك ما تبلغنا به جنتك و من اليقين ما تُهوِّنُ به علينا مصيبات الدنيا و متعنا بأسماعنا و أبصارنا و قوتنا ما أحييتنا و اجعله الوارث منا و اجعل ثأرنا على من ظلمنا و انصرنا على من عادانا و لا تجعل مصيبتنا في ديننا و لا تجعل الدنيا أكبر همنا و لا مبلغ علمنا و لا تسلط علينا من لا يرحمنا.
(ذكر كفارة المجلس:
(حديث ابن مسعود في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كفارة المجلس أن يقول العبد: سبحانك اللهم و بحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك أستغفرك و أتوب إليك.
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم ربنا و بحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك و أتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك ... .
(حديث أبي مدينة الدارمي رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) قال: كان الرجلان من أصحابِ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهُما على الآخر: {والعصرِ إنَّ الإنْسانَ لَفِي خُسْرِ} ثم يُسلّم أحدهما على الآخر.
(الذكر لذهاب الغضب:(6/222)
(حديث سليمان بن صرد في الصحيحين) قال: استب رجلان عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن عنده جلوس وأحدهما يسب صاحبه مغضبَّاً قد احمر وجهه فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
(ذكر شراء الدابة أو السيارة:
(حديث أبي عبد الله ابن عمرو الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا تزوج أحدكم امرأة أو اشترى خادما فليقل اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه وأعوذ بك من شرها ومن شر ما جبلتها عليه.
(ذكر شراء الدابة أو السيارة:
(حديث أبي عبد الله ابن عمرو الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا تزوج أحدكم امرأة أو اشترى خادما فليقل اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه وأعوذ بك من شرها ومن شر ما جبلتها عليه.
[*] (أذكار الصباح والمساء:
(ينبغي لطالب العلم أن يتمسك بأذكار الصباح والمساء وأن لا يتركها ما دام حياً فإنها حِصنٌ حصين وحرزٌ متين، وقد حثنا الله تعالى على أذكار الصباح والمساء لقوله تعالى (فَاصْبِرْ عَلَىَ مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) {ق/39}
وقوله تعالى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بالْعَشِيّ والإِبْكارِ) [غافر: 55] وقوله تعالى: (وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بالغُدُوّ والآصَالِ) [الأعراف: 205]
قال أهل اللغة: الآصال جمع أصيل: وهو ما بين العصر والمغرب.
وقوله تعالى: (وَلاتَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الأنعام: 52]
قال أهل اللغة: العشيّ: ما بين زوال الشمس وغروبها.
وقوله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللَّهُ أنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ، يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بالْغُدُوّ والآصَالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) [النور: 36]
وقوله تعالى: (إنَّا سَخَّرْنا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بالْعَشِيّ وَالإِشْرَاقِ) [ص: 18](6/223)
(حديث ابن مسعود في صحيح مسلم) قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أمسى قال: أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله , ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ربِّ أسألك خيرَ ما في هذه الليلة وخيرَ ما بعدها وأعوذ بك من شر هذه الليلة وشرِ ما بعدها، رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر، رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر، وإذا أصبح قال ذلك أيضاً: أصبحنا وأصبح الملك لله.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا أصبحتم فقولوا اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإذا أمسيتم فقولوا اللهم بك أمسينا وبك أصبحنا وبك نحيا وبك نموت وإليك المصير.
(حديث أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لفاطمة رضي الله تعالى عنها: ما يمنكِ أنْ تسمعي ما أُوصيكِ به؟ أنْ تقولي: إذا أصبحتِ وإذا أمسيتِ يا حيُّ يا قيومُ برحمتِكَ أستغيثُ, أصلحْ لي شأنيَ كلَّه, ولا تَكِلْني إلى نفسي طَرفةَ عين.
(حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أنه قال: يارسول الله، مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت، وإذا أمسيت قال: "" قل: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شىء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، وشر الشيطان وشركه "" قال: "" قلها إذا أصبحت وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعك.
(حديث عبد الرحمن بن أبزى في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أصبح و إذا أمسى قال: أصبحنا على فطرة الإسلام و كلمة الإخلاص و دين نبينا محمد و ملة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما و ما كان من المشركين.
(حديث شداد بن أوس في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سيدُ الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني و أنا عبدك و أنا على عهدك و وعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي و أبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت من قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة و من قالها من الليل و هو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة.(6/224)
(حديث عبد الله بن خُبيب في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قل (قل هو الله أحد والمُعَوِّذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كلِ شيء)
(حديث عثمان في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من عبد يقول في صباح كل يوم و مساء كل ليلة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض و لا في السماء و هو السميع العليم ثلاث مرات فيضره شيء.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب و كتبت له مائة حسنة و محيت عنه مائة سيئة و كانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي و لم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل عملا أكثر من ذلك.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير بعد ما يصلي الغداة عشر مرات كتب الله له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات وكان له بعدل عتق رقبتين من ولد إسماعيل، وإن قالها حين يمسي كان له مثل ذلك وكن له حجاباً من الشيطان حتى يصبح ... .
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال: سبحان الله و بحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه و إن كانت مثل زبد البحر.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال حين يصبح و حين يمسي: سبحان الله العظيم و بحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ذلك و زاد عليه.
(حديث ابن عمر في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) قال لم يكن رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الله يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح {اللهم إني أسألك العفو و العافية الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي و أهلي و مالي، اللهم استر عوراتي و آمن روعاتي و احفظني من بين يدي و من خلفي و عن يميني و عن شمالي و من فوقي و أعوذ بك أن اغتال من تحتي.
(حديث أبي الدر داء في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من صلى عليَّ حين يصبح عشراً وحين يمسي عشراً أدركته شفاعتي يوم القيامة.(6/225)
(حديث أبي بكرة في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو: اللهم عافني في بدني اللهم عافني في سمعي اللهم عافني في بصري اللهم إني أعوذ بك من الكفر و الفقر اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر لا إله إلا أنت.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) قال جاء رجلٌ إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال يا رسول الله ما لقيت من عقربٍ لدغتني البارحة، قال: أما لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك.
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال حين يمسي ثلاث مرات {أعوذ بكلمات الله التامات ون شر ما خلق} لم يضره حَمَة تلك الليلة}
(معنى حَمة: أي ذوات السموم
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به؟ أن تقولي إذا أصبحت و إذا أمسيت: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله و لا تكلني إلى نفسي طرفة عين.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن أبي بكرٍ رضي الله تعالى عنه قال يا رسول الله مُرْني بكلماتٍ أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت، قال قل اللهم فاطر السموات و الأرض عالم الغيب و الشهادة رب كل شيء و مليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي و من شر الشيطان و شركه قلها إذا أصبحت و إذا أمسيت و إذا أخذت مضجعك.
(حديث أبي أيوب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال إذا أصبح لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات كتب الله له بهن عشر حسنات ومحا بهن عشر سيئات ورفع له بهن عشر درجات وكن له عدل عتاقة أربع رقاب وكن له حرسا حتى يمسي ومن قالهن إذا صلى المغرب دبر صلاته فمثل ذلك حتى يصبح.
(حديث عبدِ الرحمنِ بنِ أبي بَكْرَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أنَّهُ قالَ لأبِيِه: يَا أبت ِإنِّي أسمعُكَ تدعُو كُلّ غَدَاةٍ: اللهمّ عَافِنِي في بَدَنِي, اللهُمَّ عَافِنِي في سَمعِي, اللَّهُمَّ عِافِنِي في بصَري, لا إلهَ إلا أنتَ. اللَّهُمَّ إنّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الكُفْرِ, وَ الفَقْرِ, اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ, لا إلهَ إلا أَنْتَ, تُعِيدُهَا ثَلاثاً حِينَ تُصْبحُ, وثَلاثاً حِينَ تُمسِي, فَتَدعُو بِهِنًَّ.(6/226)
(حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال حين يُصبحُ: لا إله إلاّ اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ, وله الحمْدُ, يُحيي ويُميت, وهو على كُلّ شيء قديرٌ ـ عشرَ مرّاتٍ ـ كتب اللهُ له بكلّ واحدةٍ قالَها عَشر حسناتٍ وحطَ عنه بها عشرَ سيِّئات, ٍ ورفعه اللهُ بها عشرَ دَرَجاتٍ, وكُنَّ له كعشرِ رقاب, وكُنَّ له مَسلَحةً من أوّلِ النهار إلى آخره, ولم يَعْمل يومئذٍ عملاً يقْهَرُهُنّ, فإنْ قالها حين يُمْسي فكذلك.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه.
[*] قال النووي رحمه الله تعالى:
ظاهر إطلاق الحديث أنه يحصل هذا الأجر المذكور في هذا الحديث من قال هذا التهليل مائة مرة في يومه سواء قاله متوالية أو متفرقة في مجالس أو بعضها أول النهار وبعضها آخره لكن الأفضل أن يأتي بها متوالية في أول النهار ليكون حرزاً له في جميع نهاره.
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال: سبحان الله مئةَ مرَّةٍ قبلَ طلوعِ الشمسِ وقبلَ غُروبها, كان أفضلَ من مائة بَدَنَة ومن قال: الحمد الله مائةَ مرة قبلَ طلوعِ الشمسِ, وقبلَ غُروبها, كان أفضلَ مِن مائة فِرسٍ يُحمَلُ عليها في سبيل الله ومن قال الله أكبر مائة مرة, قبلَ طلوعِ الشمسِ وقبلَ غُروبها, كان أفضلَ من عتقِ مائة رقبةٍ ومن قال لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريك له, له الملك وله الحمد, وهو على كلّ شيء قدير مائةَ مرة قبل طلوعِ الشمسِ وقبل غُروبها, لم يَجيء يومَ القيامة أحدٌ بعملٍِ أفضلَ من عملِه, إلا مَن قال مثلَ قوله, أو زاد عليه.
(حديث أبيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) قال للجن فما يُنجينا منكم؟ قال: هذه الآية التي في سورة {البقرة}: {اللهُ لا إله إلا هو الحيُّ القَيُّومُ .... } من قالها حين يُمسي, أجيرَ منا حتى يُصبحَ, ومن قالها حين يُصبحُ أجيرَ منَا حتى يُمسي. فلما أصبح أتى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر ذلك له فقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صدق الخبيث.
(ما يقال في الصباح خاصة:(6/227)
(حديث المنيذر رضي الله عنه صاحب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) كان يكون بإفريقية قال سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول من قال إذا أصبح رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا فأنا الزعيم لآخذن بيده حتى أدخله الجنة.
(حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال رضيت بالله ربا و بالإسلام دينا و بمحمد نبيا وجبت له الجنة.
(حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:" ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسولاً".
(ذاق طعم الإيمان): يدل على أن للإيمان طَعْمًا. الطعم عادة إنما يكون باللسان، طعم العسل، وطعم التمر مثلا وحلاوة الطعام اللذيذ. ولكن للإيمان أيضا طعم، ليس خاصا باللسان ولا بالفم، ولكن بالبدن كله، يكون أثر الإيمان في البدن كله، يجد نشوة وحلاوة في بدنه كُلِّهِ؛ في رأسه، وفي قدميه، وفي يديه، وفي بطنه، وفي ظهره، يجد للإيمان طعما.
(من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، و بمحمد نبيا):
فإذا رضيت بالله ربا فإنك تعبده وتطيعه، وإذا رضيت بالإسلام دينا فإنك تطبقه وتعمل به، وإذا رضيت بنبوة محمد به نبيا، فإنك تتبعه وتطيعه وتسير على نهجه، وتجعله أسوتك وقدوتك. وإذا ظهر منك خلاف ذلك فذلك نقص في الرضا. إذا ظهر من الإنسان نقص في الاتباع، أو الطواعية، أو في التأسي، أو في العبادة -دل ذلك على نقصه في هذا الرضا، أنه لم يكن رضاه رضا كاملا، بل رضا ناقص.
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود) قال: خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عند جويرية وكان اسمها برة فحول اسمها فخرج وهي في مصلاها ورجع وهي في مصلاها فقال لم تزالي في مصلاك هذا قالت نعم قال قد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت لوزنتهن سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما أصبحتُ غداةً قط إلا استغفرتُ الله فيها مائةَ مرةٍ.
{تنبيه}: (ويستحب في أذكار الصباح أن يديم الذكر حتى تطلع الشمس فيُكتب له أجر حجةٍ وعمرةٍ تامةٍ بإذن الله تعالى.(6/228)
(حديث أنس في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلعَ الشمسُ ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجةٍ وعمرةٍ تامةٍ تامةٍ تامة.
(ما يقال عند المساء خاصة:
(حديث أنس في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلعَ الشمسُ ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجةٍ و عمرةٍ تامةٍ تامةٍ تامة.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) قال جاء رجلٌ إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال يا رسول الله ما لقيت من عقربٍ لدغتني البارحة، قال: أما لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك.
{تنبيه}: (وبعد أن يؤدي ذكر الله تعالى تجده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتقلب في نعمة ذكر الله تعالى في حركاته وسكناته وفي كل أحواله، فإذا أراد تناول الطعام ذكر الله وإذا ذهب للسوق ذكر الله وإذا رأى ما يحب ذكر الله وإذا رأى ما يكره ذكر الله وحال الكرب له ذكرٌ لله وإذا رأى مبتلى ذكر الله. وإليك غيضٌ من فيض مما ورد في السنة الصحيحة من هذه الأذكار.
[*] (ذكر الطعام:
(الذكر قبل تناول الطعام:
(حديث عمر بن أبي سلمى رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: كنت غلاماً في حجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يا غلام، سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك). فما زالت تلك طعمتي بعد.
(حديث عائشة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إذا أكل أحدكم طعاما فليقل باسم الله فإن نسي في أوله فليقل: بسم الله على أوله و آخره.
(حديث ابن عباس في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من أطعمه الله طعاما فليقل: اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وارزقنا خيرا منه و من سقاه الله لبنا فليقل: اللهم بارك لنا فيما رزقتنا و زدنا منه فإني لا أعلم ما يجزئ من الطعام و الشراب إلا اللبن.
(ما يقول إذا شرب اللبن:
(حديث ابن عباس في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من أطعمه الله طعاما فليقل: اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وارزقنا خيرا منه و من سقاه الله لبنا فليقل: اللهم بارك لنا فيما رزقتنا و زدنا منه فإني لا أعلم ما يجزئ من الطعام و الشراب إلا اللبن.(6/229)
(الذكر بعد الفراغ من الطعام:
(حديث أبي أمامة في صحيح البخاري) قال كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا فرغ من طعامه قال: الحمد لله الذي كفانا وأرْوَانا غير مَكْفيٍّ ولا مكفور.
(معنى كفانا: من الكفاية الشاملة لجميع النعم وهذا عام، وذكر الري بعده من باب ذكر الخاص بعد العام.
(معنى غير مكفيٍّ: أي ما أكلناه ليس كافياً عما بعده
(معنى ولا مكفور: أي لا نكفر بنعم الله تعالى الذي أسبغها علينا سبحانه.
(حديث معاذ بن أنس الجُهَنِي في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أكل طعاما ثم قال: الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام و رزقَنيه من غير حول مني و لا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه و من لبس ثوبا فقال: الحمد لله الذي كساني هذا و رزقنيه من غير حول مني و لا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر.
(حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أكل أو شرب قال: الحمد لله الذي أطعم وسقى وسوغه وجعل له مخرجا.
وسوغه: أي سهل كلاً من نزول اللقمة ونزول الشراب في الحلق.
(دعاء الضيف لأهل الطعام إذا فرغ من أكله:
(حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) قال: نزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أبي قال فقربنا إليه طعاما ووطبة فأكل منها ثم أتي بتمر فكان يأكله ويلقي النوى بين إصبعيه ويجمع السبابة والوسطى قال شعبة هو ظني وهو فيه إن شاء الله إلقاء النوى بين الإصبعين ثم أتي بشراب فشربه ثم ناوله الذي عن يمينه قال فقال أبي وأخذ بلجام دابته ادع الله لنا فقال اللهم بارك لهم في ما رزقتهم واغفر لهم وارحمهم.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاء إلى سعد بن عبادة فجاء بخبز وزيت فأكل ثم قال النبي أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة.
(حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: اللهمَّ أطعِم من أطعمني, وأسقِ من سقاني.
(دعاء الصائم إذا أفطر عند قوم:(6/230)
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاء إلى سعد بن عبادة فجاء بخبز وزيت فأكل ثم قال النبي أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة.
[*] قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى:
واعلم أن هذا الذكر ليس مقيداً بعد إفطاره, بل هو مطلق وقوله: ((أفطر عندكم الصائمون)) ليس هو إخباراً, بل دعاء لصاحب الطعام بالتوفيق حتى يفطر الصائمون عنده ... وليس في الحديث التصريح بأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان صائماً فلا يجوز تخصيصه بالصائم. أهـ
(دعاء الصائم عند فطره:
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أفطر قال: (ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجرُ إن شاء الله)
(التسمية عند الشراب:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْرَبُ في ثلاثة أنفاسٍ, إذا أَدنى الإناءَ إلى فمِهِ سمَّى اللهَ تعالى, وإذا أخَّرَه حمَدَ اللهَ تعالى, يَفْعَلُ ذلك ثلاثَ مراتٍ.
(ذكر المتزوج إذا دخل على زوجته ليلة العرس:
(حديث أبي عبد الله ابن عمرو الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا تزوج أحدكم امرأة أو اشترى خادما فليقل اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه وأعوذ بك من شرها ومن شر ما جبلتها عليه.
(الدعاء للمتزوج:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رفأ الإنسان إذا تزوج قال بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) قالت: تزوجني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأتتني أمي فأدخلتني الدار، فإذا نسوة من الأنصار في البيت، فقلن: على الخير والبركة، وعلى خير طائر.
(الذكر قبل الجماع:
(حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبداً.(6/231)
قوله: لم يضره: أي لا يصيبه الشيطان بأذى.
وفيه استحباب التسمية والدعاء والمحافظة على ذلك حتى في حالة الجماع والاعتصام بذكر الله ودعائه من الشيطان والتبرك باسمه والاستعاذة به من جميع الأسماء، وفيه إشارة إلى أن الشيطان ملازم لابن آدم لا يفتر عنه إلا إذا ذكر الله تعالى.
(الذكر لمن خاف قوماً:
(حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كان إذا خافَ قوماً قالَ: اللَّهمَّ إنَّا نجعَلُكَ في نُحُورِهم, ونعُوذُ بكَ منْ شُرورهم.
(حديث عن ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: {حسبنا الله ونعم الوكيل}. قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قالوا: {إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}.
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) قال: قلنا يوم الخندق يا رسول الله! هل من شيء نقوله, قد بلغت القلوب الحناجر قال: نعم, اللهم استر عوراتنا, وآمن روعاتنا)) قال: فضرب الله وجوه أعدائه بالريح فهزمهم الله.
(الذكر عند دخول القرية أو البلدة إذا أراد دخولها:
(حديث صهيب رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) قال كان إذا أرادَ دخولَ قريةٍ لم يدخلها حتى يقولَ: اللهمَّ ربَّ السماواتِ السبعِ وما أظلّتْ, وربّ الأرضين السبع وما أقلّت, وربَّ الشياطين وما أضلَّت, ورب الرياح وما ذرت, أسألُكَ خيرها وخير ما فيها وأعوذ بك من شرِّها وشرِّ ما فيها.
(الذكر لمن نزل منزلاً في سفر أو غيره:
(حديث خولة بنت حكيم السلمية رضي الله عنها الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من نزل منزلا ثم قال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك.
(ذكر ركوب الدابة:(6/232)
(حديث علي بن ربيعة في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال شهدت علي بن أبي طالب أتي بدابةٍ ليركبها، فلما وضع رجله على الركاب قال بسم الله، فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، ثم قال: الحمد لله ثلاثاً، الله أكبر ثلاثاً، سبحانك إني ظلمتُ نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك.، فقلت من أي شيء ضحكت يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صنع كما صنعتُ ثم ضحك.
(ذكر دخول السوق:
(حديث ابن عمر في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال حين يدخل السوق: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد يُحيي ويُميت وهو حيٌ لا يموت بيده الخير و هو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحى عنه ألف ألف سيئةٍ وبنى له بيتاً في الجنة.
(الذكر إذا كان مسافراً وودَّع المقيم:
(حديث أبي هريرة في صحيح ابن ماجة) قال ودعني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه.
(ذكر المقيم للمسافر:
(حديث ابن عمر في صحيح ابن ماجة) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أشخص السرايا يقول للشاخص: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك.
(ذكر المسافر:
(حديث ابن عمر في صحيح مسلم) أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبر ثلاثا ثم قال! سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون >! اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل وإذا رجع قالهن وزاد فيهن آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون.
(دعاء صلاة الاستخارة:(6/233)
(حديثُ جابر في صحيح البخاري) قال كان رسولُ الله يُعلمُنا الاستخارة في الأمورِ كلها كالسورةِ من القرآن، إذا همَّ أحدكم بالأمرِ فليركع ركعتين من غيرِ الفريضةِ ثم يقول: اللهم إني أستخِيرُك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدرُ ولا أقدرُ وتعلمُ ولا أعلمُ وأنت علاَّمُ الغيوب، اللهم إن كنت تعلمُ أن هذا الأمرَ خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبةِ أمري _ أو قال عاجل أمري وآجله _ فاقدره لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمرَ شرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبةِ أمري فاصرفْه عني واصرفني عنه ثم ارضِني به، ويُسَمِّي حاجته.
(الذكر إذا رأى الإنسان ما يحب:
(حديث عائشة في صحيح ابن ماجة) قالت كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رأى ما يحب قال الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وإذا رأى ما يكره قال الحمد لله على كل حال.
(الذكر إذا رأى الإنسان ما يكره:
(حديث عائشة في صحيح ابن ماجة) قالت كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رأى ما يحب قال الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وإذا رأى ما يكره قال الحمد لله على كل حال.
(الذكر عند الكرب:
(حديث ابن عباس في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول عند الكرب لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كربه أمر قال يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث.(6/234)
[*] قال المناوي رحمه الله تعالى: في تأثير هذا الدعاء في دفع هذا الهم والغم مناسبة بديعة فإن صفة الحياة متضمنة لجميع صفات الكمال مستلزمة لها وصفة القيمومية متضمنة لجميع صفات الأفعال، ولهذا قيل إن اسمه الأعظم هو الحي القيوم والحياة التامة تضاد جميع الآلام والأجسام الجسمانية والروحانية، ولهذا لما كملت حياة أهل الجنة لم يلحقهم هم ولا غم ونقصان الحياة يضر بالأفعال وينافي القيمومية فكمال القيمومية بكمال الحياة فالحي المطلق التام الحياة لا يفوته صفة كمال البتة والقيوم لا يتعذر عليه فعل ممكن البتة فالتوصل بصفة الحياة والقيمومية له تأثير في إزالة ما يضاد الحياة وتغير الأفعال فاستبان أن لاسم الحي القيوم تأثيراً خاصاً في كشف الكرب وإجابة الرب. اهـ.
(الذكر عند الهم والحزن:
(حديث أنس في الصحيحين) قال كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم و الحزن و العجز و الكسل و الجبن و البخل و ضلع الدين و غلبة الرجال.
(حديث ابن مسعود في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما أصاب عبداً همٌ ولا حزنٌ فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكلِ اسمٌ هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدٌ من خلقك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبي ونورَ بصري وجلاء حزني وذهاب همِّي إلا أذهب الله همَّه وأبدله مكانه فرجاً.
(الذكر لمن رأى مبتلى:
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من رأى مبتلى فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به و فضلني على كثير ممن خلق تفضيلا لم يصبه ذلك البلاء.
(كفارة المجلس:
(حديث ابن مسعود في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كفارة المجلس أن يقول العبد: سبحانك اللهم و بحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك أستغفرك و أتوب إليك.
(حديث أبي هريرة في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم ربنا و بحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك و أتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك.
(ذكر سداد الدين:(6/235)
(حديث علي في صحيح الترمذي) «أَنّ مُكَاتِباً جاءَهُ فقالَ إنّي قَدْ عَجْزِتُ عنْ كِتَابَتِي فَأَعِنّي، قالَ أَلاَ أُعَلّمُكَ كَلِمَاتٍ عَلّمَنِيهِنّ رَسُولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ صِيرٍ دَيْناً أَدّاهُ الله عَنْكَ. قالَ قُلْ اللّهُمّ اكْفِني بِحَلاَلِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَاغْنِني بِفَضْلِكَ عمن سِوَاكَ».
[*] (الأذكار قبل النوم:
(1) قراءة آية الكرسي:(6/236)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: وكلني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة). قال: قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة، وعيالا فرحمته فخليت سبيله، قال: (أما إنه قد كذبك، وسيعود). فعرفت أنه سيعود، لقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنه سيعود). فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يا أباهريرة ما فعل أسيرك). قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا، فرحمته فخليت سبيله، قال: (أما إنه كذبك، وسيعود). فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات تزعم لا تعود، ثم تعود، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}. حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما فعل أسيرك البارحة). قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: (ما هي). قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}. وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير - فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة). قال: لا، قال: (ذاك شيطان).
(2) (حديث عائشة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أوى إلى فراشه جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما (قل هو الله وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس) ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات.(6/237)
(3) (حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) قال: * كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا إذا أخذنا مضجعنا أن نقول (اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى ومنزل التوراة والإنجيل والقرآن أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين وأغننا من الفقر.
(4) (حديث حذيفة في الصحيحين) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أوى إلى فراشه قال: باسمك اللهم أموت وأحيا، وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتتا وإليه النشور.
(5) (حديث البراء في الصحيحين) قال، قال لي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوئك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك و فوضت أمري إليك و ألجأت ظهري إليك رغبة و رهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت و بنبيك الذي أرسلت فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة و اجعلهن آخر ما تتكلم به.
(6) (حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ثم ليضطجع على شقه الأيمن ثم ليقل: باسمك ربي وضعت جنبي و بك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها و إن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين.
(7) (حديث علي في الصحيحين) أن فاطمة أتت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى – وبلغها أنه قد جاءه رقيق – فلم تصادفه فذكرت ذلك لعائشة فلما جاء أخبرته عائشة، قال فجاء وقد أخذنا مضاجعنا فذهبنا نقوم له فقال على مكانكما فقعد بيني وبيننا حتى وجدت برد قدمه على بطني فقال ألا أدلكما على خيرٍ مما سألتما، إذا أخذتما مضاجعكما - أو أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين واحمدا ثلاثا وثلاثين وكبِّرا أربعاً وثلاثين فهو خير لكما من خادم.
(حديث حفصة في صحيح أبي داود) قالت كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد أن يرقد وضع يده اليمنى تحت خَدِّه ثم يقول: اللهم قِني عذابك يوم تبعث عبادك.(6/238)
(حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أنه قال: يارسول الله، مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت، وإذا أمسيت قال: "" قل: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شىء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، وشر الشيطان وشركه "" قال: "" قلها إذا أصبحت وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعك.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أوى إلى فراشه قال: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا, وكفانا وآوانا, فكم ممن لا كافيَ له ولا مُؤوي.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ن قالَ حين يأْوي إلى فراشِه: لا إلهَ إلا اللهُ, وحدَه لا شريكَ لهُ, له الملْكُ, وله الحمْدُ، هو على كلِّ شيءٍ قديرٌ, ولا حولَ ولا قوَّة إلا بالله, سبحانَ اللهِ, والحمدُ لله, ولا إله إلا اللهُ, واللهُ أكبرُ , غُفِرتْ ذنوبُه أو قالَ: خطاياهُ وأنْ كانَت مثْلَ زَبدِ البحْرِ.
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: منَ قالَ إذا أوَى إلى فِراشِه: الحمدُ لله الذي كفَاني وآواني, الحمدُ لله الذي أطْعمني وسقاني, الحمدُ لله الذي مَنَّ عليَّ وأفضلَ اللَّهُمَّ إنِّي أسألُك بعزَّتك أنْ تُنجيني من النَّار, فقدْ حَمِدَ اللهَ بجميعِ محامدِ الخلقِ كلِّهم.
(حديث أبي الأزهر الأنماري رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أخَذَ مضجعَهُ منَ اللّيِل قالَ: ــسْمِ الله وضَعتُ جَنْبي, اللهمَّ اغفِرْ ليِ ذْنبي, وَاخسَأ شَيْطاني, وفُكَّ رِهَاني, وثَقِّلْ مِيزاني, واجعلْني في النَّديِّ الأعلى.
(حديث جابر في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا ينام حتى يقرأ ألم تنزيل السجدة وتبارك الذي بيده الملك.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الترمذي) قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا ينامُ حتى يقرأ: {الزُّمَرَ} و {بني إسرائيلَ}.
((حديث العِرْبَاضِ بن سَارِيَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لا يَنَامُ حتَّى يَقْرَأَ المسبِّحَاتِ, ويقُولُ: فيها آيةٌ خيرٌ مِنْ ألْفِ آيَةِ.
والمسبِّحاتِ: هي السور التي تُفتتح بقولَ تعالى بـ {سَبَّح َ} أو(6/239)
{يُسَبِّح} وهى: [حديد, والحشر, والصف, والجمعة, والتغابن, والأعلى]
(ذكر الفزع من النوم:
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا فزع أحدكم من النوم فليقل: أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه و عقابه و شر عباده و من همزات الشياطين و أن يحضرون فإنها لن تضره.
(حديث خالد بن الوليد رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) قال: كنت أُفْزَعُ بالليل, فأتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: إني أفزع بالليل فآخذ سيفي فلا ألقى شيئاً إلا ضربته بسيفي, فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:ألا أعلمك كلماتٍ علّمني الروح الأمين؟ فقلت: بلى, فقال قل: أعوُذُ بكلماتِ الله التَّامَّاتِ التي لا يجاوزُهن برٌ ولا فاجرٌ, من شرِّ ما ينزُل من السماءِ وما يعرجُ فيها, ومن شرِّ فتن الليلِ والنّهارِ, ومِنْ كلّ طارقٍ, إلا طارق يطرُقُ بخيرٍ, يا رحمان.
(الذكر لمن تضَوَّر من الليل:
(حديث عائشة في صحيح الجامع) قالت كان إذا تضور من الليل قال: لا إله إلا الله الواحد القهار رب السموات و الأرض و ما بينهما العزيز الغفار.
(معنى تّضَوَّر: أي تلوى وتقلب ظهراً لبطن
(الذكر لمن تعارَّ من الليل:
(حديث عبادة بن الصامت الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من تعارَّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير، سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر و لا حول و لا قوة إلا بالله ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا استجيب له، فإن فتوضأ و صلى قُبلت صلاته.
(معنى تعارَّ: بتشديد الراء أي استيقظ في أي ساعة من الليل.
(الذكر لمن قام من الليل يتهجد:(6/240)
(حديث ابن عباس في الصحيحين) قال كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا تهجد من الليل قال: اللهم لك الحمد أنت قيمُ السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق، والنبيون والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وأخرت وأسررت وأعلنت أنت المقدِّم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت.
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفتتح صلاته إذا قام من الليل قالت كان إذا قام من الليل افتتح صلاته فقال اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
(ذكر التهجد:
(حديث الحسن بن علي في صحيح السنن الأربعة) قال علمني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلمات أقولهن في الوتر {اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت}
(حديث علي في صحيح أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في آخر وتره: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك و بمعافاتك من عقوبتك و أعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
(ما يقول إذا وضع ثوبه لنوم ونحوه:
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سترُ ما بينَ أعْيُنِ الجنِّ وعوْراتِ بني آدمَ إذا وضعَ أحدهم ثوبهُ أنْ يقولَ: بسمِ الله.
(الذكر إذا رأى في منامه ما يكرهه:
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها، فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها وليحدِّث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هي من الشيطان، فليستعذ من شرها، ولا يذكرها لأحد، فإنها لا تضره.(6/241)
(حديث أبي قتادة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه فلينفث حين يستيقظ ثلاث مرات، ويتعوَّذ من شرها، فإنها لا تضره.
الحُلْم: بضم الحاء وسكون اللام وبضمها: هو الرؤيا وبالضم والسكون فقط هو رؤية الجماع في النوم، وهو المراد هنا.
فليتفُل بضم الفاء وكسرها أي: فليبزق.
وقيل: التفل أقل من البزق، والنفث أقل من التفل.
(الذكر إذا صعد شرفاً أو هبط في واد:
(حديث أبي موسى في الصحيحين) قال كنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزاةٍ فجعلنا لا نصعد شرفاً ولا نعلو شرفاً ولا نهبطُ في وادٍ إلا رفعنا صوتنا بالتكبير فدنا منا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم ل تدعون أصمَّ ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً بصيرا، ثم قال: يا عبد الله بن قيس ألا أعلمك كلمةً هي من كنوز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن هنا يتضح أن الإنسان إذا منحه الله تعالى التوفيق والسداد لا يزال لسانه رطباً من ذكر الله تعالى في كل وقتٍ وحين.(6/242)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن بشار، قال: كان إبراهيم بن أدهم يقول هذا الكلام في كل جمعة إذا أصبح عشر مرات، وإذا أمسى يقول مثل ذلك: مرحباً بيوم المزيد، والصبح الجديد، والكاتب الشهيد، يومنا هذا يوم عيد، اكتب لنا فيه ما نقول: بسم الله الحميد المجيد، الرفيع الودود، الفعال في خلقه ما يريد. أصبحت بالله مؤمناً وبلقاء الله مصدقاً، وبحجته معترفاً، ومن ذنبي مستغفراً، ولربوبية الله خاضعاً، ولسوى الله جاحداً، وإلى الله تعالى فقيراً، وعلى الله متوكلاً، وإلى الله منيباً، أشهد الله وأشهد ملائكته وأنبياءه ورسله وحملة عرشه، ومن خلق ومن هو خالق بأن الله لا الله الأ هو وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن الجنة حق، والنار حق، والحوض حق، والشفاعة حق، ومنكرا ونكيرا حق، ولقاءك حق، ووعدك حق، والساعة آتيه لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، على ذلك أحيا وعليه أموت وعليه أبعث أن شاء الله، اللهم أنت ربي لا رب لي الأ أنت، خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك اللهم من شر كل ذي شر.(6/243)
اللهم أني ظلمت نفسي فاغفر لي ذنوبي أنه لا يغفر الذنوب الأ أنت، واهدني لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وأميرف عني سيئها فإنه لا يصرف سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك والخير كله بيديك، وأنا لك أستغفرك وأتوب إليك، آمنت اللهم بما أرسلت من رسول وآمنت اللهم بما أنزلت من كتاب، صلى الله وسلم على محمد وعلى الله وسلم كثيرا خاتم كلامي ومفتاحه، وعلى أنبيائه ورسله أجمعين آمين يا رب العالمين، اللهم أوردنا حوضه، واسقنا بكأسه مشربا مريا سائغا هذهياً لا نظماً بعده أبدا، واحشرنا في زمرته غير خزايا ولا ناكسين ولا مرتأبين ولا مقبوحين ولا مغضوبا علينا ولا ضالين، اللهم أدهمني من فتن الدنيا ووفقني لما تحب من العمل وترضى، وأصلح لي شأني كله وثبتني بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولا تضلني وأن كنت ظالما سبحانك سبحانك يا علي يا عظيم يا باري يا رحيم يا عزيز يا جبار، سبحان من سبحت له السموات بأكنافها، وسبحان من سبحت له الجبال بأصواتها، وسبحان من سبحت له البحار بأمواجها وسبحان من سبحت له الحيتأن بلغاتها وسبحان من سبحت له النجوم في السماء بأبراقها، وسبحان من سبحت له الشجر بأصولها ونضارتها، وسبحان من سبحت له السموات السبع والأرضون السبع ومن فيهذه ومن عليهذه، سبحانك سبحانك يا حي يا حليم، سبحانك لا الله الأ أنت وحدك.
(ثالثاً الشكر بالجوارح:
[*] قال رجل لأبى حازم: ما شكر العينين يا أبا حازم؟
فقال: إني رأيت بهما خيراً أعلنته، وإن رأيت بها شراً سترته.
قال فما شكر الأذنين؟
قال: إن سمعت بهما خيراً وعيته، وإن سمعت بهما شراً دفعته.
قال: فما شكر اليدين؟
قال لا تأخذ بهما ما ليس لهما، ولا تمنع حقاً لله هو فيهما.
قال: فما شكر البطن؟
أن يكون أسفله طعاما وأعلاه علماً.
قال: فما شكر الفرج؟
قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِين فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُون} (المؤمنون: الآية 5 – 7).
قال: فما شكر الرجلين؟
قال: إن علمت ميتاً تغبطه استعملت بهما عمله، وإن مقته رغبت عن عمله وأنت شاكرالله.
وأما من شكر بلسانه، ولم يشكر بجميع أعضائه، فمثله كمثل رجل له كساء فأخذ بطرفه ولم يلبسه، فما ينفعه ذلك من الحر، والبرد، والثلج، والمطر.(6/244)
وكتب بعض العلماء إلى أخ له: أما بعد فقد أصبح بنا من نعم الله مالا نحصيه من كثرة ما نعصيه، فما ندرى أيهما نشكر، أجميل ما يَسّر، أم قبيح ما ستر؟!.
(وفصل الخطاب في الشكر بالجوارح؛ العمل الصالح، فعند بلوغ الأربعين يجتهد الإنسان في عمل الصالحات، قال تعالى: (حَتّىَ إِذَا بَلَغَ أَشُدّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِيَ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الّتِيَ أَنْعَمْتَ عَلَيّ وَعَلَىَ وَالِدَيّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ) [الأحقاف: 15]، فسأل الله العمل الصالح عقب سؤاله التوفيق على شكر نعمته يعني أن الشكر باللسان وحده لا يكفي.
ومن وسائل الشكر بالجوارح الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة و كل تحميدة صدقة و كل تهليلة صدقة و كل تكبيرة صدقة و أمر بالمعروف صدقة و نهي عن المنكر صدقة و يجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى.
فكيف يؤدي شكر ثلاث مائة وستين مفصل؟، كل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، وعدد المفاصل ثلاث مائة وستين إذا شكرها المرء [أمسى يومه وقد زحزح عن النار].
والصدقات كثيرة جمعها ابن رجب في شرحه الأربعين النووية [الصدقات البدنية- المالية-الخبرة من تعليم صنعة أو تصنع لأخرق- التفهيم – التعليم – الوقت – الجاه ... ]، فذو القرنين مثلاً علم شعباً جاهلاً صناعة السدود حتى تقيهم شر أعدائهم.
المقصود أن المسلم عليه أن يشكر ربه بجوارحه بسائر أنواع الصدقات وكل معروف صدقة ولا يغني شكر يوم عن يوم آخر.
وليس هناك تعارض بين شكر الله وشكر الناس، لأن الله أمر بشكر الناس، وهو سبحانه الذي أرشدنا إلى شكر الناس إذا صنعوا لنا معروفاً أن نكافئهم وأولهم الوالدين قال تعالى: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) [لقمان: 14]
(حديث أبي هريرة في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من لا يشكر الناس لا يشكر الله.
فليس شكر المخلوق قادحاً في شكر الخالق بل المشكلة فيمن يشكر المخلوق ولا يشكر الخالق وهذه هي المصيبة، وهناك فرق بين شكر العبد وشكر الرب، فشكر الرب فيه خضوع وذل وعبودية ولا يجوز لشكر العبد أن تعبده وإنما تعطيه شيء مقابل شيء، وتدعو له وتثني عليه ..(6/245)
شكر الله أيضاً يختلف عن شكر الناس من جهة العبودية والدرجة ومافيه من أنواع الطاعات له سبحانه وتعالى ..
والإنسان الذي لا يشكر الناس إنسان لئيم وحريٌ به أن لا يشكر الله ..
والنعم تزيد بالشكر وتحفظ من الزوال بالشكر بالزيادة قال تعالي: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: الآية 7)
قال تعالى: (وَلاَ تَتَمَنّوْاْ مَا فَضّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىَ بَعْضٍ لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنّسَآءِ نَصِيبٌ مّمّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنّ اللّهَ كَانَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً) [النساء: 32]
مسألة: ما هو الفرق بين الحمد والشكر؟
الحمد يتضمن مدح المحمود والثناء عليه بذكر محاسنه ولو لم يحسن إليك بشيء لأنه مستحق للحمد بصفاته، ويكون باللسان أكثر ما يكون بغيره، والشكر لمن أحسن إليك و إحسان الشاكر إلى المشكور يكون بالقلب واللسان والجوارح.
(فضائل الشكر:
(1) أمر الله تعالى عباده بشكره والاعتراف بفضله وقرن الله ذكره بشكره وكلاهما المراد بالخلق والأمر والصبر خادم لهما ووسيلة إليهما وعوناً عليهما، فقد قرن الله الشكر بالذكر فقال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152]
وقال تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14]
(2) قرن الله سبحانه وتعالى الشكر بالإيمان، وأخبر أنه لا غرض له في عذاب خلقه إن شكروا وآمنوا به، فقال تعالى: {مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ} (النساء: من الآية 147) أي وفيتم حقه وما خلقتم من أجله وهو الشكر بالإيمان.
(3) وأخبر سبحانه عن أهل الشكر هم المخصوصون بمنته عليهم من بين عبادة فقال عز وجل: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} (الأنعام: الآية 53)
(4) وقسم الناس إلى شكور وكفور، فأبغض الأشياء إليه الكفر وأهله، وأحب الأشياء إليه الشكر وأهله، قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (الإنسان: الآية 3)(6/246)
وقال تعالى: إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7]
(5) وأخبر سبحانه أن حفظ النعم واستمرارها وعدم زوالها وزيادتها مقرون بالشكر قال تعالي: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: الآية 7)
والمزيد منه لا نهاية له كما لا نهاية لشكره، أين إخوتي الشاكرين للنعم؟ أين الحافظون للذمم؟ أين أهل الفضل والكرم؟
(6) الله يرضى عمل الشاكرين ويرضى الشكر قال تعالى: {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الزمر: 7]
فيقارن الله بين الشكر والكفر وأنهما ضدّان قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]
والشاكرون في هذه الآيات الذين ثبتوا على نعمة الإيمان ولم ينقلبوا على أعقابهم. فمن الناس من لا يصمد عند الابتلاء والمحنة فيكفر ولا يثبت، ومنهم من يظهر لربه حقيقة ما في قلبه عند المحنة والابتلاء، فيتعالى لسانه بذكر ربه وحمده فيثبت ويشكر شكراً عملياً بالقلب واللسان والجوارح.
(7) أخبر سبحانه وتعالى أن إبليس من مقاصده أن يمنع العباد من الشكر، فتعهد إبليس بأشياء قال تعالى: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17]، فإبليس يريد حرمانهم من الشكر والقعود بينهم وبينه.(6/247)
(8) وصف الله الشاكرين بأنهم قليل من عباده قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يقول: [اللهم اجعلني من الأقلين] فقال ما هذا؟ قال: [يا أمير المؤمنين: الله تعالى يقول {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [هود: 40] ويقول ((وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)) ويقول: (ق إِلاّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مّا هُمْ) [ص: 24] قال عمر: صدقت .. !!، وإذا كان الشكر من صفات الأنبياء والمؤمنين فإنه ليس كذلك عند كل الناس فإن كثيراً منهم يتمتعون بالنعم ولا يشكرونها.
(9) أثنى الله على أول رسول بعثه إلى أهل الأرض بالشكر وهو نوح عليه السلام قال تعالى: (ذُرّيّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً) [الإسراء: 3] إشارة إلى الاقتداء به.
(10) أخبر سبحانه أن الشاكرين هم أهل عبادته، وأن من لم يشكره لا يكون من أهل عبادته، فقال سبحانه: وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172]
(11) أمر سبحانه وتعالى عبده موسى أن يتلقى ما آتاه من النبوة والرسالة والتكليف بالشكر قال تعالى: (قَالَ يَمُوسَىَ إِنّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ وَكُنْ مّنَ الشّاكِرِينَ) [الأعراف: 144]
(12) أول وصية أوصى بها الإنسان بعدما عقل أن يشكر له ثم لوالديه قال تعالى: (وَوَصّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمّهُ وَهْناً عَلَىَ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيّ الْمَصِيرُ) [لقمان: 14]
(13) أخبر الله أن رضاه في شكره قال تعالى: (وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر: 7]
(14) وبيّن سبحانه أن الشكر هو أفضل الخصال وأعلاها، ولذلك أثنى به على خليله إبراهيم وجعله غاية صفاته، فقال تعالى:: (إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ) [النحل 120، 121].
فمن صفات الأمة القدوة الذي يؤتم به بالخير يعدل مثاقيل من أهل الأرض أنه كان قانتاً لله شاكراً لأنعمه فجعل الشكر غاية خليله.(6/248)
(15) الشكر هو الغاية من الخلق قال تعالى: (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل: 78].
فهذه غاية الخلق، أما غاية الأمر قال تعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلّةٌ فَاتّقُواْ اللّهَ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ) [آل عمران: 123]
فكما قضى الله لهم بالنصر فليشكروا هذه النعمة.
(16) وأخبر سبحانه أنه لا يعذب الشاكرين من عباده فقال سبحانه: مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً [النساء:147]
(17) وأطلق سبحانه جزاء الشاكرين إطلاقاً وهو أكرم الأكرمين، وجعله عليه سبحانه فقال عز وجل: وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آل عمران:145]. وقال سبحانه: وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]
(وفصل الخطاب:
أن الشكر غاية الخلق وغاية الأمر فخلق ليشكر وأمر ليشكر قال تعالى: (فَاذْكُرُونِيَ أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ) [البقرة: 152]،
والشكر مراد لنفسه والصبر مراد لغيره، أنت تصبر لأجل أن يحدث ما يترتب عليه وما يؤدي إليه من الأشياء، والشكر غاية في نفسه والصبر وسيلة إلى غيره وإلى ما يحمد وليس مقصوداً لنفسه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن حذيفة المرعشي، قال: دخلنا مكة مع إبراهيم بن أدهم، فإذا شقيق البلخي قد حج في تلك السنة فاجتمعنا في شق الطواف فقال إبراهيم لشقيق: على أي شيء أصلتم أصلكم؟ قال: أصلنا أصلنا على أنا إذا رزقنا أكلنا وإذا منعنا صبرنا، فقال إبراهيم: هكذا تفعل كلاب بلخ، فقال له شقيق: فعلى ماذا أصلتم؟ قال: أصلنا على أنا إذا رزقنا آثرنا وإذا منعنا شكرنا وحمدنا، فقام شقيق فجلس بين يدي إبراهيم فقال: يا أستاذ أنت أستاذنا.
(16) من أعظم فضائل الشكر التأسي بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان عبدا شكوراً بنص السنة الصحيحة: وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث عائشة الثابت في الصحيحين) قالت: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلتُ له لم تصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر، فقال أفلا أحبُ أن أكونَ عبدا شكوراً)
والله يرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها:(6/249)
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها.
فكان هذا الجزاء العظيم الذي هو أكبر أنواع الجزاء كما قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ} (التوبة: من الآية 72).
[*] قال عمر ابن عبد العزيز: " قيدوا نعم الله بشكر الله" وذكر ابن أبى الدنيا عن علىّ بن أبى طالب - رضي الله عنه - أنه قال لرجل من همذان: " أن النعمة موصولة بالشكر والشكر يتعلق بالمزيد، وهما مقرونان في قرن، فلن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد.
[*] وقال الحسن: أكثروا من ذكر هذه النعم، فإن ذكرها شكر، وقد أمر الله نبيه أن يحدث بنمعمة ربه فقال: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى: الآية 11).
والله تعالى يحب أن يرى أثرُ نعمته على عبده، فإن ذلك شكرها بلسان الحال.
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده.
[*] وكان أبو المغيرة إذا قيل له: كيف أصبحت يا أبا محمد؟ قال: " أصبحنا مغرقين في النعم، عاجزين عن الشكر، يتحبب إلينا ربنا وهو غنىٌ عنا، ونتمقت إليه ونحن إليه محتاجون ".
[*] وقال شريح: " ما أصيب عبدٌ بمصيبة إلا كان لله عليه فيها ثلاث نعم: ألا تكون كانت في دينه، وألا تكون أعظم مما كانت، وأنها لابد كائنة فقد كانت ".
[*] وقال يونس بن عبيد: قال رجل لأبى تميمة، كيف أصبحت؟ قال: " أصبحت بين نعمتين لا أدرى أيتها أفضل: ذنوب سترها الله علىّ فلا يستطيع أن يعيرنى بها أحد، ومودة قذفها الله في قلوب العباد لا يبلغه، ا عملى ".
[*] وعن سفيان في قوله تبارك وتعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} (القلم: من الآية 44).
قال: يسبغ عليهم النعم ويمنعهم الشكر، وقال غير واحد،: " كلما أحدثوا ذنبا أحدث لهم نعمة ".
(وفي منازل ((إياك نعبد وإياك نستعين)) ذكر ابن القيم في الشكر أيضاً سبعة عشر وجهاً وهي:
(1) أنه من أعلى المنازل.
(2) فوق منزلة الرضا والزيادة، فالرضا مندرج في الشكر ويستحيل وجود الشكر بدونه.
(3) نصف الإيمان شكر ونصفه صبر.
(4) أمر الله به ونهى عن ضده.
(5) أثنى على أهله ووصفهم بخواص خلقه.
(6) جعله غاية خلقه وأمره.
(7) وعد أهله بأحسن الجزاء.
(8) جعله سبباً للمزيد من فضله.(6/250)
(9) حارساً وحافظاً للنعمة.
(10) أهل الشكر هم المنتفعون بآياته.
(11) اشتق لهم اسماً من أسمائه (الشكور) وهو يوصل الشاكر إلى مشكوره بل يعيد الشاكر مشكوراً.
(12) غاية الرب من عبده.
(13) سمى نفسه شاكراً وشكوراً، وسمى الشاكرين بهذا الاسم فأعطاهم من وصفه وسماهم باسمه وحسبك بهذا محبة للشاكرين وفضلاً.
(14) أخبر الله عن قلة الشاكرين في عباده.
(15) الشكر لابد معه من مزيد.
الشكر عكوف القلب على محبة المنعم، والجوارح على طاعته وجريان اللسان بذكره والثناء عليه.
والشكر يتعلق بأمور ثلاث: القلب واللسان والجوارح، ومعنى الشكر ينطوي على معرفة ثلاثة أمور وهي معاني الشكر الثلاثة.
أولآً معرفة النعمة: استحضارها في الذهن وتمييزها والتيقن منها، فإذا عرف النعمة توصل إلى معرفتها بمعرفة المنعم بها ولو على وجه التفصيل، وهذا ما نجده في القرآن الكريم ليستحضر العبد هذه النعم فيشكر. وإذا عرف النعمة سيبحث العقل عن المنعم فإذا عرف المنعم أحبّه فإذا أحبه جد في طلبه وشكره ومن هنا تحصل العبادة لأنها طريق شكر المنعم وهو الله.
ثانياً قبول النعمة: تلقيها بإظهار الفقر إلى المنعم والحاجة إليه وأن وصول النعم تمّ بغير استحقاق، فالله أعطانا النعم منّة وتفضّل.
ثالثاً الثناء بها: الثناء على المنعم المتعلق بالنعمة نوعان:
عام: وهو أن تصفه بالجود والكرم والبر والإحسان وسعة العطاء ونحو ذلك.
خاص: أن تتحدث بنعمه عليك وتخبر بوصولها إليك قال تعالى: (وَأَمّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ) [سوة: الضحى: 11]
والتحديث المأمور به هنا فيه قولان كما يلي:
القول الأول: أن تذكر وتعدد (أنعم الله علي بكذا وكذا ... ) ولذلك قال بعض المفسرين اشكر ما ذكره من النعم عليك في هذه السورة من جبرك يتيماً وهدايتك بعد الضلال وإغنائك بعد العيلة.
القول الثاني: أن تستعملها في طاعته.
فالتحدث بالنعمة من الثناء على الله، فتثني على الله بالأسماء المناسبة لمقام الشكر (المنان، الكريم، ذو الفضل العظيم، الله واسع، عطاؤه كثير).
(حديث ابن عمر في صحيحي أبي داوود والنسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من استعاذكم بالله فأعيذوه و من سألكم بالله فأعطوه و من دعاكم فأجيبوه ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه.
(ومن الثناء كقول جزاك الله خير، و الدعاء أيضاً وسيلة للشكر.(6/251)
(حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ.
[*] قال لعلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ) أَيْ بَعْدَ عَجْزِهِ عَنْ إِثَابَتِهِ أَوْ مُطْلَقًا
(جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا) أَيْ خَيْرَ الْجَزَاءِ أَوْ أَعْطَاكَ خَيْرًا مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ) أَيْ بَالَغَ فِي أَدَاءِ شُكْرِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ اعْتَرَفَ بِالتَّقْصِيرِ وَأَنَّهُ مِمَّنْ عَجَزَ عَنْ جَزَائِهِ وَثَنَائِهِ فَفَوَّضَ جَزَاءَهُ إِلَى اللَّهِ لِيَجْزِيَهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا قَصُرَتْ يَدَاكَ بِالْمُكَافَأَةِ, فَلْيَطُلْ لِسَانُكَ بِالشُّكْرِ وَالدُّعَاءِ.
[*] وقال ابن القيم: [الدين نصفان، نصف شكر ونصف صبر، فهو قاعدة كل خير، والشكر مما يحبه الله فهو يحب أن يُشكر عقلاً وشرعاً وفطرةُ]، فوجوب شكره أظهر من كل واجب، وقد فاوت الله بين عباده بالنسبة للنعم الظاهرة والباطنة وفي خلقهم وأخلاقهم و أديانهم وأرزاقهم ومعايشهم. لذلك فقد روى الإمام أحمد في كتاب الزهد: [قال موسى هلاّ سويت بين عبادك قال إني أحببت أن أشكر]، فالتفاوت بين العباد يؤدي إلى الشكر.
وقد تنازع أهل العلم بين الفقير الصابر والغني الشاكر، أيهما أفضل في كلام طويل، والظاهر أن كل واحد في حق صاحبه أفضل، فالشكر في حق الغني أفضل والصبر في حق الفقير أفضل.
(حقيقة الشكر:
أخي المسلم الموفق: الشكر من أعلى المنازل وأرقى المقامات، وهو نصف الإيمان، فالإيمان نصفان؛ نصف شكر ونصف صبر. والشكر مبني على خمس قواعد:
الأولى: خضوع الشاكر للمشكور.
الثانية: حبّه له.
الثالثة: اعترافه بنعمته.
الرابعة: ثناؤه عليه بها.
الخامسة: ألا يستعمل النعمة فيما يكره المنعم.
فالشكر إذن هو: الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع، وإضافة النعم إلى موليها، والثناء على المنعم بذكر إنعامه، وعكوف القلب على محبته، والجوارح على طاعته، وجريان اللسان بذكره.
(أقسام الخلق في شكر النعمة:
أقسام الخلق في شكر النعمة ثلاثة:
(1) شاكر للنعمة مثني بها.
(2) جاحد لها كاتم لها.(6/252)
(3) مظهر أنه من أهلها وهو ليس من أهلها، ومن المعلوم شرعاً أن المتشبع بما لم يعطَ كلابس ثوبي زور بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الْمُتَشَبّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ، كَلاَبِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ".
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
قال العلماء: معناه المتكثر بما ليس عنده بأن يظهر أن عنده ما ليس عنده يتكثر بذلك عند الناس ويتزين بالباطل فهو مذموم كما يذم من لبس ثوبي زور، قال أبو عبيد وآخرون: هو الذي يلبس ثياب أهل الزهد والعبادة والورع ومقصوده أن يظهر للناس أنه متصف بتلك الصفة ويظهر من التخشع والزهد أكثر مما في قلبه، فهذه ثياب زور ورياء، وقيل هو كمن لبس ثوبين لغيره وأوهم أنهما له، وقيل هو من يلبس قميصاً واحداً ويصل بكميه كمين آخرين فيظهر أن عليه قميصين. وحكى الخطابي قولاً آخر أن المراد هنا بالثوب الحالة والمذهب والعرب تكنى بالثوب عن حال لابسه ومعناه أنه كالكاذب القائل ما لم يكن، وقولاً آخر أن المراد الرجل الذي تطلب منه شهادة زور فيلبس ثوبين يتجمل بهما فلا ترد شهادته لحسن هيئته والله أعلم.
والتحدث بالنعمة المأمور به ينبغي أن يكون ذلك في النفس وعند الآخرين ولكن إذا كان عند حاسديها فإن كتم ذكرها ليس من كفرها فهو لم يكتم ذكر النعمة شحاً بذلك وتقصيراً في حق الله لكن لدرء مفسدة وهي حسد صاحب العين وكيده وضرره ودفع الضرر من المقاصد الشرعية، وعليه يحمل الحديث الآتي:
(حديث معاذ في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان) بالكسر أي كونوا لها كاتمين عن الناس واستعينوا بالله على الظفر بها ثم علل طلب الكتمان لها بقوله
(فإن كل ذي نعمة محسود) يعني إن أظهرتم حوائجكم للناس حسدوكم فعارضوكم في مرامكم وموضع الخبر الوارد في التحدث بالنعمة ما بعد وقوعها وأمن الحسد وأخذ منه أن على العقلاء إذا أرادوا التشاور في أمر إخفاء التحاور فيه ويجتهدوا في طي سرهم(6/253)
[*] قال بعض الحكماء: من كتم سره كان الخيار إليه ومن أفشاه كان الخيارعليه وكم من إظهار سر أراق دم صاحبه ومنع من بلوغ مأربه ولو كتمه كان من سطوته آمناً ومن عواقبه سالماً وبنجاح حوئجه فائزاً
[*] وقال بعضهم: سرك من دمك فإذا تكلمت فقد أرقته وقال أنو شروان من حصن سره فله بتحصينه خصلتان الظفر بحاجته والسلامة من السطوات. وفي منثور الحكم انفرد بسرك ولا تودعه حازماً فيزول ولا جاهلاً فيحول لكن من الأسرار ما لا يستغني فيه عن مطالعة صديق ومشورة ناصح فيتحرى له من يأتمنه عليه ويستودعه إياه فليس كل من كان على الأموال أميناً كان على الأسرار أميناً. والعفة عن الأموال أيسر من العفة عن إذاعة الأسرار قال الراغب: وإذاعة السر من قلة الصبر وضيق الصدور ويوصف به ضعف الرجال والنساء والصبيان والسبب في صعوبة كتمان السر أن للإنسان قوتين آخذة ومعطية وكلتاهما تتشوف إلى الفعل المختص بها ولولا أن الله وكل المعطية بإظهار ما عندها لما أتاك بالأخبار من لم تزوده فصارت هذه القوة تتشوف إلى فعلها الخاص بها فعلى الإنسان أن يمسكها ولا يطلقها إلا حيث يجب إطلاقها.
أما مقابلة النعمة فلايمكن في حق الله قال تعالى: (لَن يَنَالَ اللّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا) [الحج: 37]، فلا سبيل إلى المجازاة ويبقى في قضية الثناء عليه استعمالها فيما يرضيه، أما المجازاة فلا سبيل إليها ولا ينتفع الله بخلقه شيء.
(نماذج من شكر السلف رحمهم الله تعالى:
(شكر عمر أن رفع الله منزلته وقوله في الشكر والصبر:
وأَخرج ابن سعد وابن عساكر عن سليمان بن يسار قال: مرَّ عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بضَجنانَ فقال: لقد رأَيتني وإني لأرعى على الخطاب في هذا المكان، وكان ـ والله ـ ما علمتُ فظاً عليظاً، ثم أصبحت إلى أمر أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال متمثلاً:
لا شيء فيما ترى إلاّ بشاشته
يبقى الإِله ويُودي المالُ والولدُ
ثم قال لبعيره حَوْب. كذا في منتخب الكنز.
وأخرج ابن عساكر عن عمر رضي الله عنه قال: لو أَتيت براحلتين: راحلة شكر، وراحلة
صبر؛ لم أبالِ أيهما ركبت. كذا في المنتخب.
(قول عمر في رجل مبتلي وفي رجل آخر في هذا الأمر:(6/254)
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة رضي الله عنه قال: مرّ عمر ابن الخطاب برجل مبتلى أعمى أصم وأبكم، فقال لمن معه: هل ترون في هذا من نعم الله شيئاً؟ قالوا: لا، قال: بلى ألا ترون يبول فلا يعتصر ولا يلتوي يخرج به بوله سهلاً، فهذه نعمة من الله. كذا في الكنز.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن إبراهيم قال: سمع عمر رضي الله عنه رجلاً يقول: اللهمَّ إني أستنفق نفسي ومالي في سبيلك، فقال عمر: أو لا يسكت أحدكم فإن ابتلي صبر وإن عوفي شكر. كذا في الكنز.
(قول عمر لرجل سلّم عليه وكتابه لأبي موسى وقوله في أهل الشكر:
وأخرج مالك وابن المبارك والبيهقي عن أنس رضي الله عنه أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وسلّم عليه رجل فردّ عليه السلام ثم سأله عمر: كيف أنت؟ فقال: أحمد إليك الله، فقال عمر: ذلك الذي أردتُ منك. كذا في الكنز. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنهما ـ: اقنع برزقك من الدنيا فإنَّ الرحمن فضَّل بعض عباده على بعض في الرزق، بلاء يبتلي به كلاً، فيبتلي به من بسط له كيف شكره، وشكره لله أداء للحق الذي افترض عليه فيما رزقه وخوَّله. كذا في الكنز؛ وأخرج الدينوري عن عمر قال: أهل الشكر مع مزيد من الله فالتمسوا الزيادة، وقد قال الله: {لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ} (سورة إبراهيم: الآية: 7). كذا في الكنز.
(شكر عثمان أن لم يصادف قوماً كانوا على أمر قبيح:
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن سليمان بن موسى أن عثمان بن عفان رضي الله عنه دُعى إلى قوم كانوا على أمر قبيح، فخرج إليهم فوجدهم قد تفرقوا ورأى أثراً قبيحاً، فحمد الله إذ لم يصادفهم وأعتق رقبة.
(قول علي في النعمة والشكر:(6/255)
وأخرج البيهقي عن علي رضي الله عنه قال: إنَّ النعمة موصولة بالشكر، والشكر متعلق بالمزيد، وهما مقرونان في قَرَن، ولن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع من العبد. وعند ابن ماجه والعسكري عن محمد بن كعب القرظي قال: قال علي بن أبي طالب: ما كان الله ليفتح باب الشكر ويخزن باب المزيد، وما كان الله ليفتح باب الدعاء ويخزن باب الإِجابة، وما كان الله ليفتح باب التوبة ويخزن باب المغفرة. أتلو عليكم من كتاب الله. قال الله تعالى: {ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (سورة غافر، الآية: 60)، وقال: {لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ} (سورة إبراهيم، الآية: 7)، وقال: {اذكروني أذكركم} (سورة البقرة، الآية: 152)، وقال: {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر ا يجد ا غفورا رحيما} (سورة النساء، الآية: 110). كذا في الكنز.
(قول أبي الدرداء وعائشة وأسماء في الشكر:
وأخرج ابن عساكر عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ما أمسيت ليلة وأصبحت لم يرمني الناس فيها بداهية إلا رأيتها نعمة من الله عليَّ عظيمة. وعنده أيضاً عنه قال: من لم يرَ أن لله عليه نعمة إلا في الأكل والشرب فقد قلَّ فهمه وحَضَر عذابه. كذا في الكنز. وأخرجه أبو نعيم في الحلية (1220 و210) عنه نحوه بالوجهين.
وأخرجه ابن أبي الدنيا وابن عساكر عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما من عبد يشرب الماء القَرَاح فيدخل بغير أذى ويخرج بغير أذى إلا وجب عليه الشكر. كذا في الكنز. وأخرجه الطبراني في الكبير عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أنه لما قتل ابن الزبير رضي الله عنهما كان عندها شيء أعطاها إياه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفَط ففقدته، فأخذت تطلبه، فلما وجدته خرّت ساجدة. قال الهيثمي: إسناده حسن وفي بعض رجاله كلام.
(واجبنا نحو الله في النعم:
(1) الخضوع له، خضوع الشاكر للمشكور.
(2) حبه له، حب الشاكر للمشكور.
(3) اعترافه بنعمته عليه (الإقرار).
(4) الثناء عليه بها.
(5) أن لا يستعملها فيما يكره بل يستعملها فيما يرضيه.
وإذا كانت النعم تتفاضل فهل يتفاضل الشكر؟ نعم.
(الوسائل التي تؤدي إلى الشكر:
(1) من الوسائل التي تؤدي إلى الشكر أنك تنظر إلى من هو دونك فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي: ((6/256)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(انظروا إلى من هو أسفل منكم) أي في أمور الدنيا أي الأحق والأولى ذلك
(ولا تنظروا إلى من هو فوقكم) فيها
(فهو أجدر) أي فالنظر إلى من هو أسفل لا إلى من هو فوق حقيق
(أن لا تزروا) أي بأن لا تحتقروا
(نعمة اللّه عليكم) فإن المرء إذا نظر إلى من فضل عليه في الدنيا طمحت له نفسه واستصغر ما عنده من نعم اللّه وحرص على الازدياد ليلحقه أو يقاربه وإذا نظر للدون شكر النعمة وتواضع وحمد. قال الغزالي: وعجب للمرء كيف لا يساوي دنياه بدينه أليس إذا لامته نفسه فارقها يعتذر إليها بأن في الفساق كثرة فينظر أبداً في الدين إلى من هو دونه لا لمن فوقه أفلا يكون في الدنيا كذلك. وقال الحكيم: لا يزال الإنسان يترقى في درجات النظر علواً علواً كلما نال درجة سما به حرصه إلى النظر إلى ما فوقها فإذا نظر إلى من دونه في درجات الدين اعتراه العجب فأعجب بنفسه فطال بتلك الدرجة على الخلق واستطال [ص 60] فرمى به من ذلك العلو فلا يبقى منه عضو إلا انكسر وتبدّد وكذا درجات الدنيا إذا رمى ببصره إلى من دونه تكبر عليه فتاه على اللّه بكبره وتجبر على عباده فخسر دينه وقد أخذ هذا الحديث محمود الورّاق فقال: لا تنظرن إلى ذوي الـ * مؤثل والرياش فتظل موصول النها * ر بحسرة قلق الفراش وانظر إلى من كان مثـ * لك أو نظيرك في المعاش تقنع بعيش كيف كا * ن وترض منه بانتعاش. أهـ
(فمما يحفظ العبد من ترك الشكر عندما ينظر إلى من هو فوقه أن هذه قسمة الله، قال تعالى: (وَهُوَ الّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ إِنّ رَبّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنّهُ لَغَفُورٌ رّحِيمٌ) [الأنعام: 165]
(2) ومن الوسائل التي تؤدي إلى الشكر أن يعلم العبد أنه مسئول عن النعمة، قال تعالى: (ثُمّ لَتُسْأَلُنّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النّعِيمِ) [التكاثر: 8]، وهو كذلك محاسب عليها حتى الماء البارد، وليس أحدٌ يناقش الحساب يوم القيامة إلا عُذِّب بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي: ((6/257)
(حديث عائشة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ليس أحدٌ يحاسب ُ يوم القيامة إلا هلك. فقلت يا رسول الله: أليس قد قال الله (فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما ذلك العرض وليس أحدٌ يناقش الحساب يوم القيامة إلا عُذِّب.
ويشتط الناس في فهم شكر ما أسبغ الله عليهم من النعم لدرجة أنهم يحرمون أنفسهم منها، والله تعالى رضي لنا أن نستمتع وأن نشكر، قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للّهِ إِن كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة: 172]
(فلا يمكن أن يكون الشكر بتحريم الحلال وهذا من مباديء الصوفية، فالله رضي لنا أن نستخدم النعم المباحات ونشكره عليها سبحانه وتعالى، ولو كان شرطاً في الانتفاع بالنعمة أداء ثمنها شكراً؛ ما وفّت كل أعمال العباد ولا على نعمة واحدة فتشكر الله وتعترف بالنعم وتستغفر من التقصير بشكر النعمة، فتقول أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي تأسياً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما في الحديث الآتي:
(حديث شداد بن أوس في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سيدُ الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني و أنا عبدك و أنا على عهدك و وعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي و أبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت من قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة و من قالها من الليل و هو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة.
(فالحل أن نستخدم النعم فيما يرضي الله ونثني عليه ونشكره ونستغفره من التقصير في الشكر وهو تعالى رضي منا بهذا ..
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها.
(حديث عمران بن حصين رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أفضل عباد الله يوم القيامة: الحَمَّادُون.
الحَمَّادُون: أي: الذين يكثرون حمد الله جل وعلا.
(وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبداً شكوراً بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي: ((6/258)
حديث عائشة الثابت في الصحيحين) قالت: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلتُ له لم تصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر، فقال أفلا أحبُ أن أكونَ عبدا شكوراً)
(وتأمل في هذا الحديث بعين البصيرة كيف كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثلاً أعلى في شكره لله تعالى مع كونه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر، فيشكر الله على المغفرة.
(3) ومن الوسائل التي تؤدي إلى الشكر أن ندعو الله أن يعيننا على الشكر فتقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك تأسياً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما في الحديث الآتي:
(حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود و النسائي) أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ بيده وقال يا معاذ والله إني لأحبك والله إني لأحبك فقال أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
(4) أن يرعى قلبه رعاية تامة حتى يكون قلبه شاكراً تأسياً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما في الحديث الآتي:
(حديث ثوبان رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
ليتخذ أحدكم قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على أمر الآخرة.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(ليتخذ أحدكم قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً وزوجة مؤمنة تعينه على أمر الآخرة) قاله لما نزل في الذهب والفضة ما نزل فقالوا: فأي مال نتخذ فذكره قال حجة الإسلام: فأمر باقتناء القلب الشاكر وما معه بدلاً من المال.
{تنبيه}: (إن أمور الخير يمكن اكتسابها بترويض النفس عليها فإنما العلم بالتعلم و إنما الحلم بالتحلم و من يتحر الخير يعطه و من يتق الشر يُوَقَّه كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إنما العلم بالتعلم و إنما الحلم بالتحلم و من يتحر الخير يعطه و من يتق الشر يُوَقَّه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إنما العلم) أي تحصيله(6/259)
(بالتعلم) بضم اللام على الصواب كما قاله الزركشي ويروى بالتعليم أي ليس العلم المعتبر إلا المأخوذ عن الأنبياء وورثتهم على سبيل التعليم وتعلمه طلبه واكتسابه من أهله وأخذه عنهم حيث كانوا فلا علم إلا بتعلم من الشارع أو من ناب عنه منابه وما تفيده العبادة والتقوى والمجاهدة والرياضة إنما هو فهم يوافق الأصول ويشرح الصدور ويوسع العقول ثم هو ينقسم لما يدخل تحت دائرة الأحكام ومنه ما لا يدخل تحت دائرة العبادات وإن كان مما يتناوله الإشارة ومنه ما لا تفهمه الضمائر وإن أشارت إليه الحقائق في وضوحه عند مشاهده وتحققه عند متلقيه فافهم قال ابن مسعود تعلموا فإن أحدكم لا يدري متى يحتاج إليه وقال ابن سعد ما سبقنا ابن شهاب للعلم إلا أنه كان يشد ثوبه عند صدره ويسأل وكنا تمنعنا الحداثة وقال الثوري من رق وجهه رق علمه وقال مجاهد لا يتعلم مستحي ولا متكبر وقيل لابن عباس بما نلت هذا العلم قال بلسان سؤول وقلب عقول
(وإنما الحلم بالتحلم) أي ببعث النفس وتنشيطها إليه قال الراغب: الحلم إمساك النفس عن هيجان الغضب والتحكم إمساكها عن قضاء الوطر إذا هاج الغضب
(ومن يتحر الخير يعطه) أي ومن يجتهد في تحصيل الخير يعطه اللّه تعالى إياه
(ومن يتق الشر يوقه) زاد الطبراني والبيهقي في روايتيهما ثلاث من كن فيه لم يسكن الدرجات العلى ولا أقول لكم الجنة من تكهن أو استقسم أو ردّه من سفر تطير
(تنبيه) قال بعضهم: ويحصل العلم بالفيض الإلهي لكنه نادر غير مطرد فلذا تمم الكلام نحو الغالب قال الراغب: الفضائل ضربان نظري وعملي وكل ضرب منها يحصل على وجهين أحدهما بتعلم بشرى يحتاج إلى زمان وتدرب وممارسة ويتقوى الإنسان فيه درجة فدرجة وإن فيهم من يكفيه أدنى ممارسة بحسب اختلاف الطبائع في الذكاء والبلادة، والثاني يحصل [ص 570] بفيض إلهي نحو أن يولد إنسان عالماً بغير تعلم كعيسى ويحيى عليهما الصلاة والسلام وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام الذين حصل لهم من المعارف بغير ممارسة ما لم يحصل لغيرهم وذكر بعض الحكماء أن ذلك قد يحصل لغير الأنبياء عليهم السلام في الفيئة بعد الفيئة وكلما كان يتدرب فقد يكون بالطبع كصبي يوجد صادق اللّهجة وسخياً وجريئاً وآخر بعكسه وقد يكون بالتعلم والعادة فمن صار فاضلاً طبعاً وعادة وتعلماً فهو كامل الفضيلة ومن كان رذلاً فهو كامل الرذيلة.(6/260)
(وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلم أصحابه أن يحمدوا الله على الأكلة أو الشربة كما في الحديث الآتي:
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها.
[*] قال الحسن البصري رحمه الله:
إن الله ليمتع بالنعمة ماشاء فإذا لم يشكر عليها قلبها عذاباً ولهذا كانوا يسمون الشكر (الحافظ) لأنه يحفظ النعم الموجودة و (الجالب) لأنه يجلب النعم المفقودة.
هكذا يحفظ ويحصّل من علو منزلة الشكر وعظمه عند الله، ولا ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد الذي هو قيد النعم، فهو يقيد النعمة ألا تنقلب ولا تهرب.
[*] قال عمر بن عبد العزيز:
قيدوا نعم الله بشكر الله، والشكر مع المعافاة عند بعض أهل العلم أعظم من الصبر على الابتلاء. فقال مطرف بن عبد الله: لأن أعافي فأشكر أحبُّ إليّ من أن أُبتلى فأصبر.
فإذا رزقت الشكر على النعمة فإن هذا لا يقل عن الصبر على المصيبة.
[*] قال الحسن: [أكثروا من ذكر هذه النعم فإن ذكرها شكر وقد أمر الله تعالى نبيه أن يحدث بنعمة ربه قال تعالى: (وَأَمّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ) [الضحى: 11]
والله يحب من عبده أن يرى أثر نعمته على عبده فإن ذلك شكرها بلسان الحال كما في الحديث الآتي:
(حديث عمران بن حصين رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله إذا أنعم على عبد نعمة يحب أن يرى أثر نعمته على عبده.
{تنبيه}: (فصل الخطاب في مسألة أن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده أن يكون لها ضابط وحد الشرعي، فإذا أردت أن تظهر نعم الله عليك فإن ذلك مقيد في عدم الخيلاء والإسراف كما في الحديث الآتي:
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا ما لم يخالطه إسراف أو مخيلة.
[*] وقال الحسن:
إذا أنعم الله على قوم سألهم الشكر فإذا شكروه كان قادراً على أن يزيدهم وإذا كفروه كان قادراً على أن يبعث عليهم عذاباً.
(وقد ذم الله الكنود وهو الذي لا يشكر نعمه، قال الحسن: (إِنّ الإِنسَانَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ) [العاديات: 6] أي يعد المصائب وينسى النعم.(6/261)
وهذا في النساء أظهر، فلو أحسنت إلى إحداهن الدهر وطيلة العمر ثم رأت منك تقصيراً قالت مارأيت منك خيراً قط!، وهذا ظلم، والنساء أكثر أهل النار لأنهم يكفرن العشير، وإذا كان ترك شكر نعمة الزوج يؤدي إلى جهنم فما حال من يكفر نعمة الله .. ؟!!
مسألة: كيف نجمع بين قوله تعالى (وَأَمّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ) وبين قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود؟
[*] فصل الخطاب في هذه المسألة أنها على التفصيل الآتي:
الأصل أنه يجب علينا أن نكثر من ذكر هذه النعم فإن ذكرها شكر وقد أمر الله تعالى نبيه أن يحدث بنعمة ربه قال تعالى: (وَأَمّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ) [الضحى: 11]
والله يحب من عبده أن يرى أثر نعمته على عبده فإن ذلك شكرها بلسان الحال كما في الحديث الآتي:
(حديث عمران بن حصين رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله إذا أنعم على عبد نعمة يحب أن يرى أثر نعمته على عبده.
ويكون ذلك مقيد في عدم الخيلاء والإسراف كما في الحديث الآتي:
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا ما لم يخالطه إسراف أو مخيلة.
ولكن ينبغي أن يحدث بذلك عند أهل الصدق الذين يحبون لإخوانهم الخير ولا يحسدونهم على نعم الله تعالى فإن وُجد حاسد فله أن يكتم النعمة عنده فهذا خاص. فإذا وجد حاسد فكتمانها لأجل الحسد وليس كفران بالنعمة، وعليه يحمل الحديث الآتي:
(حديث معاذ في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود.
(5) ومن الوسائل التي تؤدي إلى الشكر التحدث بنعمة الله:
فالتحدث بنعمة الله شكر وتركها كفر ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: التحدث بنعمة الله شكر و تركها كفر و من لا يشكر القليل لا يشكر الكثير و من لا يشكر الناس لا يشكر الله و الجماعة بركة و الفرقة عذاب.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:(6/262)
(التحدث بنعمة اللّه شكر) أي إشاعتها من الشكر {وأما بنعمة ربك فحدث} والشكر ثلاثة أقسام شكر اللسان بالتحدث [ص 280] بالنعمة وشكر الأركان بالقيام بالخدمة وشكر الجنان بالاعتراف بأن كل نعمة منه تعالى
(وتركها كفر) أي ستر وتغطية لما حقه الإظهار والإذاعة قال بعض العارفين: ذكر النعم يورث الحب في اللّه ثم هذا الخبر موضعه ما لم يترتب على التحدث بها ضرر كحسد وإلا فالكتمان أولى كما يفيده قول الزمخشري: وإنما يجوز مثل هذا إذا قصد أن يقتدى به وأمن على نفسه الفتنة وإلا فالستر أفضل ولو لم يكن فيه إلا التشبه بأهل السمعة والرياء لكفى
(ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير) فاشكر لمن أعطى ولو سمسمة
(ومن لا يشكر الناس لا يشكر اللّه) أي من كان طبعه وعادته كفران نعمة الناس وترك الشكر لمعروفهم كان عادته كفران نعم اللّه وترك الشكر له أو المراد أن اللّه لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس وينكر معروفهم لاتصال أحد الأمرين بالآخر
(والجماعة بركة والفرقة عذاب) أي اجتماع جماعة المسلمين وانتظام شملهم زيادة خير وأو أجر وتفرقهم يترتب عليه من الفتن والحروب والقتل وغير ذلك مما هو أعظم من كل عذاب في الدنيا وأمر الآخرة إلى اللّه. (فائدة} أخرج في الحلية عن وهب أن بعض الأنبياء عليه السلام سأل ربه عن سبب سلب بلعام بعد تلك الآيات والكرامات فقال تعالى: إنه لم يشكرني يوماً على ما أعطيته ولو شكرني على ذلك مرة واحدة لما سلبته نعمتي.
كان عمر بن عبد العزيز إذا قلّب بصره في نعمة أنعمها الله عليه قال: [اللهم إني أعوذ بك أن أبدّل نعمتك كفراً وأن أكفرها بعد أن عرفتها وأن أنساها ولا أثني بها]، لأن الله ذم الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار.
وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا فرغ من طعامه قال: الحمد لله الذي كفانا وأرْوَانا غير مَكْفيٍّ ولا مكفور كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي أمامة في صحيح البخاري) قال كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا فرغ من طعامه قال: الحمد لله الذي كفانا وأرْوَانا غير مَكْفيٍّ ولا مكفور.
(6) ومن الوسائل التي تؤدي إلى الشكر أن سجود الشكر تأسياً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي بكرة الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا جاءه أمرَ سرورٍ أو بُشِّر به خر ساجدا شكرا لله تعالى.(6/263)
وأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - لما جاءه قتل مسيلمة المرتد الذي ألب عليه العرب وأشد الناس على المسلمين خرّ لله ساجداً، وعلي رضي الله عنه لما رأى ذا الثدية في الخوارج أسود مخدّج مقطوع اليد عند العضد مثل حلمة المرأة، وأنه علامة وآية أنه سيقاتل الخوارج أمرهم فبحثوا في جثث القتلى وأخرجوه؛ سجد علي رضي الله عنه شكراً لله. وكعب بن مالك سجد في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما بشر بتوبة الله عليه.
{تنبيه}: (السنة لم ترد بسجود الشكر يومياً لكنها وردت في النعم المتجددة والتي تذكر بالنعمة المستديمة، ولأن هذه النعم المتجددة العظيمة لها وقع في النفوس والقلوب أعلق بها وأهنأ والإنسان يُعزّى بفقدها فإن ما توجبه من فرح النفس وانبساطها والذي يدفع الأشر والبطر عند نزول النعمة فجأة.
ومن النعم المتجددة كما يقول أحد السلف: بشّرت الحسن بموت الحجاج وهو مختفٍ فخرّ لله ساجداً، فموت ظالم نعمة و ولادة مولود، وجاء الخبر في الانتصار.
(فصلٌ في منزلة الحياء:
[*] (عناصر الفصل:
(الحياء من منازل السائرين:
(تعريف الحياء:
(فضل الحياء:
(رقابة الله على عباده توجب الحياء منه سبحانه:
(أنواع الحياء:
(درجات الحياء:
(أفضل الحياء وأكمله:
(حياء الله تعالى:
(حياء الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(نماذج من الحياء:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(الحياء من منازل السائرين:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الحياء
قال الله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14] وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1] وقال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 1
(ثم ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله الأحاديث الآتية:
(حديث ابن عمر في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرَّ على رجلٍ وهو يعظُ أخاه في الحياء فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعْه فإن الحياء من الإيمان.
(حديث عمران ابن حصين في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الحياءُ لا يأتي إلا بخير.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الإيمان بضع و سبعون شعبة فأفضلها قول: لا إله إلا الله و أدناها إماطة الأذى عن الطريق و الحياء شعبة من الإيمان.(6/264)
(حديث أبي سعيد في الصحيحين) قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشد حياء من العذراء في خدرها فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناه في وجهه.
(حديث أبي مسعودٍ الأنصاري في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت.
(ثم قال رحمه الله تعالى:
وفي هذا قولان:
أحدهما: أنه أمر تهديد ومعناه الخبر أي من لم يستح صنع ما شاء.
والثاني: أنه أمر إباحة أي انظر إلى الفعل الذي تريد أن تفعله فإن كان مما لا يستحيى منه فافعله والأول أصح وهو قول الأكثرين.
(حديث ابن مسعود في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: استحيوا من الله تعالى حق الحياء، قلنا يا نبي الله إنا لنستحي والحمد لله، قال: ليس ذاك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس و ما وعى والبطن و ما حوى وتذكر الموت و البِلى و من أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء.
(تعريف الحياء:
الحياء خُلق يبعث على ترك القبائح، ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق، فالحياء مشتق من الحياة, فعلى قدر حياة القلب يكون الحياء. والحياء قسمان: حياء جبلي فطري وحياء مكتسب.
(القسم الاول الحياء الفطري: وهو ما فطر الله الإنسان عليه كحياء الرجل والمرأة من كشف العورة أمام الناس ... ومن جنس هذا الحياء حياء آدم وحواء لما أكلا من الشجرة المحرمة فبدت سوءاتهما فأسرعا بالجبلة والفطرة بستر هذه العورة بورق من شجر الجنة, قال تعالى: (فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنّةِ وَعَصَىَ ءَادَمُ رَبّهُ فَغَوَىَ) [طه: 121]
(القسم الثاني الحياء المكتسب: وهو الحياء الإيماني الذي يحجب ويمنع المؤمن من فعل المعاصي والدنايا حياء من الله سبحانه وتعالى, وهذا الحياء يتولد في القلب «من رؤية النعم مع رؤية التقصير في حق المنعم» فيستحيي العبد حينئذ من الله, إذ يرى نعم الله عليه تتوالى ويرى تقصيره لا ينقطع في حق سيده ومولاه.
لذلك لما احتضر الاسود بن يزيد رحمه الله تعالى بكى بكاء المرأة الثكلى, فدخل عليه بعض أحبابه وقالوا: ماهذا الجزع؟ لم هذا البكاء؟ فقال الأسود بن يزيد: ومالي لا أجزع, ومن أحق بذلك مني؟ ثم نظر إلى السماء وهو على فراش الموت وقال: والله وإن غفر لي ذنوبي لاستحييت منه مما صنعت يداي.(6/265)
ولما دخل ابو حامد الخلقاني على إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى .. قال أبو حامد وهو ينظرإالى الإمام: إن قال لي يوما أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب عن خلقى وبالعصيان تأتيني فما قولي له لما يعاتبني ويقصيني. فنظرإليه الإمام وقال: أَعِدْهَا بالله عليك فكرر له الأبيات فدخل الإمام داره وهو يبكي ويردد تلك الأبيات.
(فضل الحياء:
مسألة: ما هو فضل الحياء؟
خلق الحياء فإنه من أفضلِ الصفات وأجلَّ القربات، فالحياء خصلة حميدة، تكف صاحبها عما لا يليق والحياءُ لا يأتي إلا بخير، والحياء قرين الإيمان فإذا نزع أحدهما نزع الآخر، وهو مما أدركنا من كلام النبوة الأولى. وما انتشرت الفواحش والمعاصي والذنوب إلا بسبب نزع الحياء من قلوب الخلق، والحياء له فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم، فهو نعمةٌ عظيمة، وَمِنَّةٌ جسيمة، نعمة كبرى، ومنحة عظمى، شأنه عظيم، ونفعه عميم، له فضائل لا تحصى، وثمرات لا تعد، وله أهمية كبرى، وثمرات جليلة، وفضائل عظيمة، وأسرار بديعة، وهو طريق النجاة، وسلم الوصول، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين، وهو من أشرف العبادات و أجلّ الطاعات، وإليك غيض من فيض ونقطة من بحر مما ورد في فضل الحياء:
(أولا: الحياء صفة من صفات الله تعالى:
ولو لم يكن للحياء فضل سوى أنه صفةٌ من صفات الله عز وجل لكفى, فالله سبحانه وتعالى حييٌ ستير يستحيي من خلقه, والخلق لا يستحيون منه إلا من رحم ربي, خيره إلينا نازل, وشرنا إليه صاعد, رحماته تتنزل علينا وذنوبنا ترفع إليه, يتحبب إلينا بالنعم وهو الغني عنا, ونتبغض إليه بالمعاصي ونحن أحوج إليه بل ولا نستغني عنه طرفة عين , ومع ذلك إذا رفعنا إليه أكف الضراعة غفر الذنب وفرح بالتوبة إليه، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث سلمان الثابت في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا.
(قال ابن القيم رحمه الله:
ومن اتصف بصفة من صفات الله عز وجل قادته تلك الصفة الى ربه فأدخلته عليه وقربته من رحمته".
(ثانياً الحياء شعبةٌ من الإيمان:(6/266)
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان).
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".
(حديث ابن عمر في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرَّ على رجلٍ وهو يعظُ أخاه في الحياء فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعْه فإن الحياء من الإيمان.
((حديث ابن عمر الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الحياء و الإيمان قرنا جميعا فإذا رُفِعَ أحدهما رفع الآخر.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة والبذاء من الجفاء والجفاء في النار.
(حديث أبي أمامة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الحياء والعي شعبتان من الإيمان والبذاء والبيان شعبتان من النفاق.
(ثالثاًالحياء خلق الاسلام:
((حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن لكل دين خلقاً وخلق الإسلام الحياء.
(رابعاً الحياءُ لا يأتي إلا بخير:
الحياءُ لا يأتي إلا بخير بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث عمران ابن حصين في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الحياءُ لا يأتي إلا بخير.
(خامساً الحياءُ خُلُقٌ يبعث على اجتناب القبيح:
(حديث أبي مسعودٍ الأنصاري في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت.
(وأفضلُ الحياء أن تستحي من الله حق الحياء:
(حديث ابن مسعود في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: استحيوا من الله تعالى حق الحياء، قلنا يا نبي الله إنا لنستحي والحمد لله، قال: ليس ذاك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس و ما وعى والبطن و ما حوى وتذكر الموت و البِلى و من أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء.
[*] قال سفيان بن عينيه: "كما فتح القدير"1/ 488(6/267)
(فليحفظ الرأس وما وعى: ما جمعه من الحواس الظاهرة والباطنة حتى لا يستعملها إلا فيما يحل.
(وليحفظ البطن وما حوى:
أي وما جمعه الجوف باتصاله به، من القلب والفرج واليدين والرجلين فان هذه الأعضاء متصلة بالجوف فلا يستعمل منها شيء في معصية الله فان الله ناظر إلى العبد لا يواريه شي.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
والحياء من الحياة ومنه الحيا للمطر لكن هو مقصور وعلى حسب
حياة القلب يكون فيه قوة خلق الحياء وقلة الحياء من موت القلب والروح فكلما كان القلب أحيى كان الحياء أتم.
(قال الجنيد رحمه الله: «الحياء رؤية الآلاء ورؤية التقصير» فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء «وحقيقته خلق يبعث على ترك القبائح» ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق.
(ومن كلام بعض الحكماء: أحيوا الحياء بمجالسة من يستحيي منه وعمارة القلب: بالهيبة والحياء فإذا ذهبا من القلب لم يبق فيه خير.
(وقال ذو النون: الحياء وجود الهيبة في القلب مع وحشة ما سبق منك إلى ربك والحب ينطق والحياء يسكت والخوف يقلق.
(وقال السري: إن الحياء والأنس يطرقان القلب فإن وجدا فيه الزهد والورع وإلا رحلا.
(رقابة الله على عباده توجب الحياء منه سبحانه:
(أخي الحبيب:(6/268)
اجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك، واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه، وخضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه. فالحياء على قدر حياة القلب، وكلما كان القلب أحيا كان الحياء أتم. وأشد آية باعثة على الحياء قول الله عز وجل: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:14]. وقول الله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16] أي: وملائكتنا أقرب إليه من حبل الوريد، وهذا بإجماع علماء التفسير. ويقول الله عز وجل: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:80]. ويقول الله عز وجل: أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ [فصلت:54]. وقال الله عز وجل: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المجادلة:6]. وقال الله عز وجل: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا [الأحزاب:52]. وقال الله عز وجل: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الملك:13]. وقال الله عز وجل: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19]. ومن أسماء الله عز وجل الرقيب والعليم والخبير والحكيم والمحصي والشهيد، وكلها خاصة بعلم الله عز وجل. فالعليم: الذي يعلم جميع المعلومات. والحكيم: الذي يعلم دقائق العلم. والشهيد: الذي يعلم ما غاب وما حضر، والمحصي: الذي لا تغيب عن علمه غائبة. والخبير: الذي يعلم دقائق العلم، ويعلم الكليات كما يعلم الجزئيات، وكلها خاصة بصفة العلم لله تبارك وتعالى. وعلم الله عز وجل ليس كعلم المخلوقين، فالله تبارك وتعالى يعلم ما كان وما هو كائن وما لم يكن لو كان كيف يكون. وهو العليم أحاط علماً بالذي في الكون من سر ومن إعلان وكذاك يعلم ما يكون غداً وما قد كان والموجود في ذا الآن وكذاك أمر لم يكن لو كان كيـ ـف يكون ذا الأمر ذا إمكان فعلم المخلوقين قاصر، «مبدوء بجهل ويعتريه النسيان»، وأما علم الله عز وجل فهو علم كامل.
(قال ابن عمر رضي الله عنهما: لا يجد عبد صريح الإيمان حتى يعلم أن الله عز وجل معه، ويعلم أن الله تعالى يراه، فلا يعمل سراً يفتضح به يوم القيامة.
(أخي الحبيب:(6/269)
احذر أن تكون ممن إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها: وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث ثوبان رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً فيجعلها الله عز وجل هباءاً منثوراً قال ثوبان يا رسول الله صفهم لنا جَلِّهِم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم قال أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها.
«فاحذر أن تكون ولياً لله في العلانية عدواً له في السر»، وأن تكون حالك مثل حال كنيف مزين بالسراميك وباطنه وحشوه القاذورات، فلا تتجمل للناس وتطلع الله على القبيح من أمرك، «فلم جعلت الله أهون الناظرين إليك؟» أفكان الله عز وجل أهون عليك من بعض خلقه؟ لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر إلى كبرياء من واجهته به. وموقف لك لا تنساه أبداً وإن نسيت نفسك، وهو موقفك بين يدي الله عز وجل، كما جاء في حديث عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما منكم أحد إلا سيخلو بربه ليس بينه وبينه ترجمان). فهذا الموقف لن تنساه أبداً، فليكن ولاؤك المطلق وخوفك المطلق وحياؤك المطلق من الله عز وجل، فاعمل لهذا اليوم حتى لا يموت القلب، وحتى لا يموت الورع،
(يقول الجراح قائد الجيوش الأموية: تركت الذنوب أربعين سنة حياء من الله عز وجل، ثم أدركني الورع. أي: بعد أربعين سنة مَنَّ عليَّ بالورع في النظر، وفي الشم، وفي الكلام. فهذا المقام إن ذكرته وجعلته منك على بال فلن تقرب المعصية أبداً، ومثلما تميت الذنوب الحياء فكذلك الحياء لا يأتي إلى فاسق أو فاجر أبداً.(6/270)
(ويقول ابن دقيق العيد: والله ما تكلمت كلمة ولا فعلت فعلاً منذ أربعين سنة إلا وأعددت له جواباً بين يدي الله عز وجل. ولذلك كان من مقام المراقبة أن تقول: الله ناظر وشاهد ومطلع علي، وهذا درجة من درجات الحياء، وهذا مثل المرأة التي راودها رجل على الفاحشة، فقالت: انظر هل يرانا من أحد؟ فقال لها: ما يرانا إلا الكواكب، قالت له: فأين مكوكبها؟ ورجل خلا بامرأة بعد أن نام أهل القافلة وكانت في طريقها إلى الحج، وقال لها: ما أتيت في هذه القافلة من أجل حج ولا غيره، وإنما أتيت فيها لتخرجي فيها فأخلو بك، فقالت: انظر هل نام أهل القافلة جميعاً؟ فقال لها: نعم، قالت: انظر فهل نام الله؟ ثم صعقت المرأة وغشي عليها، فولى الرجل هارباً.
(حقيقة الحياء:
والحياء رؤية آلاء الله تبارك وتعالى عليك، ورؤية التقصير منك في حق الله عز وجل، فيتولد منهما وبينهما خُلق يبعث على ترك القبيح. فرؤية الآلاء والتقصير يتولد منهما خُلق يسمى الحياء، يبعث على ترك القبيح، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أبي مسعودٍ الأنصاري الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت.
(أنواع الحياء:
(أولاً الحياء من الله:
المسلم يتأدب مع الله تعالى ويستحيي منه؛ فيشكر نعمة الله، ولا ينكر إحسان الله وفضله عليه، ويمتلئ قلبه بالخوف والمهابة من الله، وتمتلئ نفسه بالوقار والتعظيم لله، ولا يجاهر بالمعصية، ولا يفعل القبائح والرذائل؛ لأنه يعلم أن الله مُطَّلِعٌ عليه يسمعه ويراه، وقد قال تعالى عن الذين يفعلون المعاصي دون حياء منه سبحانه: قال تعالى: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ) [النساء: 108]
فالحياء من الله: ألا يراك حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك.
فالمسلم يستحي من ربه أن يراه على معصيته ومخالفته، وإذا فعل ذنبًا أو معصية، فإنه يخجل من الله خجلا شديدًا، ويعود سريعًا إلى ربه طالبًا منه العفو والغفران، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد. ((6/271)
((حديث ابن مسعود الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: استحيوا من الله تعالى حق الحياء، قلنا يا نبي الله إنا لنستحي والحمد لله، قال: ليس ذاك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس و ما وعى والبطن و ما حوى وتذكر الموت و البِلى و من أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء.
فقد بيّن في هذا الحديث علامات الحياء من الله عز وجل أنها تكون بحفظ الجوارح عن معاصي الله، وبتذكر الموت، وتقصير الأمل في الدنيا، وعدم الانشغال عن الآخرة بملاذ الشهوات والانسياق وراء الدنيا، فالذي يستحي من الله يجتنب ما نهاه عنه في كل حالاته، في حال حضوره مع الناس وفي حال غيبته عنهم.
وهذا حياء العبودية والخوف والخشية من الله عز وجل وهو الحياء المكتسب من معرفة الله، ومعرفة عظمته، وقربه من عباده، واطلاعه عليهم، وعلمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور. وهذا الحياء من أعلى خصال الإيمان، بل هو من أعلى درجات الإحسان. كما في الحديث: {الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك}
(أركان الحياء من الله تعالى:
(الركن الأول: (فليحفظ الرأس وما وعى)، فالرأس وما فيه من جوارح تحفظها لله عز وجل، حتى الخطرات وحديث النفس تحفظه لله عز وجل، وأول خيانة الصديقين حديثهم مع أنفسهم، فاحفظ حديث النفس لله عز وجل، يقول بعضهم: ظللت عشرين سنة حارساً لنفسي من الخطرات، أي: يحاسب نفسه على الخطرات. فيا أخي! إذا مرت بك الوساوس والخطرات فاضبطها بضابطين من الكتاب والسنة. فيحفظ الرأس وما وعى، فلا يتأثر بأفكار الصحف الصفراء التي هي من ضمن الثقافات الضرار.
(الركن الثاني: (والبطن وما حوى) يعني: لا يدخل في بطنه وفي جوفه إلا الحلال، فيبحث عن الحلال ويدقق في هذه المسألة.
(الركن الثالث: (وتذكر الموت و البِلى)، فمن ذكر الموت هانت عليه شهواته.
(الركن الرابع: (و من أراد الآخرة ترك زينة الدنيا)، فيستحي من الله عز وجل أن يراه مرابطاً على مفسدة، مقيماً على جيفة، عاكفاً على دنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضه، فيستحي من الله عز وجل أن يراه ملتفتاً إلى الدنيا، والدنيا لعب ولهو، واللعب واللهو لا يليق بمن شبوا عن الطوق وتركوا دنيا اللعب للصغار، فيعلم أن الملك يدعوه إلى جواره في أرض غرس غراسها الرحمن بيده، فكيف يراه منشغلاً بالدنيا وقد عكف قلبه على محبتها؟(6/272)
(ثانياً الحياء من الملائكة:
ثم بعد ذلك الاستحياء من الملائكة ومن أخلاقهم، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه: (ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة). كما في الحديث الآتي:
(حديث عائشة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قالت * كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مضطجعا في بيتي كاشفا عن فخذيه أو ساقيه فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسوى ثيابه قال محمد ولا أقول ذلك في يوم واحد فدخل فتحدث فلما خرج قالت عائشة دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك فقال ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة.
(حديث عائشة رضي الله عنه الثابت في صحيح الأدب المفرد) أن أبا بكر استأذن على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وهو مضطجعٌ على فراش عائشة، لابساً مرط عائشة- فأذن لأبي بكر وهو كذلك، فقضى إليه حاجته، ثم انصرف. ثم استأذن عمر رضي الله عنه، فأذن له وهو كذلك، فقضى إليه حاجته، ثم انصرف. قال عثمان: ثم استأذنت عليه، فجلس. وقال لعائشة: "اجمعي إليك ثيابك". فقضيت إليه حاجتي ثم انصرفتُ. قال: فقالت عائشة: يا رسول الله! لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما فزعت لعثمان؟ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن عثمان رجل حيي، وإني خشيت أن أذنتُ له- وأنا على تلك الحال- أن لا يبلغ إليّ في حاجته".
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في دين الله عمر وأصدقهم حياء عثمان وأقضاهم علي بن أبي طالب وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وأفرضهم زيد بن ثابت ألا وإن لكل أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح.(6/273)
فسيدنا عثمان كان يغتسل في ثيابه حياء من الله عز وجل، وما يقيم صلبه إلا وثوبه عليه. فانظروا مقام الصحابة ومقامنا، فنحن مطالبون أن نستحيي من الملائكة، قال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ [الانفطار:10] أي: فاستحيوا منهم. كِرَامًا كَاتِبِينَ [الانفطار:11] يعني: لا ألأم ممن لا يستحي من الكرام. وقد تلقى رجلاً كبيراً عظيم القدر من الصالحين لا يقدر العاصي أن يعمل عيبه أمامه، ولذلك يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أوصيك أن تستحي من الله كما تستحي من الرجل الصالح من قومك).
(حديث سعيد بن يزيد بن الأزور رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أوصيك أن تستحي من الله تعالى كما تستحي من الرجل الصالح من قومك.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(أوصيك أن تستحي من اللّه كما تستحي من الرجل الصالح من قومك) قال ابن جرير: هذا أبلغ موعظة وأبين دلالة بأوجز إيجاز وأوضح بيان إذ لا أحد من الفسقة إلا وهو يستحي من عمل القبيح عن أعين أهل الصلاح وذوي الهيئات والفضل أن يراه وهو فاعله واللّه مطلع على جميع أفعال خلقه فالعبد إذا استحى من ربه استحياءه من رجل صالح من قومه تجنب جميع المعاصي الظاهرة والباطنة فيا لها من وصية ما أبلغها وموعظة ما أجمعها. (تنبيه) قال الراغب: حق الإنسان إذا همّ بقبيح أن يتصوّر أحداً من نفسه كأنه يراه فالإنسان يستحي ممن يكبر في نفسه ولذلك لا يستحي من الحيوان ولا من الأطفال ولا من الذين لا يميزون ويستحي من العالم أكثر مما يستحي من الجاهل ومن الجماعة أكثر ما يستحي من الواحد والذين يستحي منهم الإنسان ثلاثة: البشر ثم نفسه ثم اللّه تعالى ومن استحى من الناس ولم يستحي من نفسه فنفسه عنده أخس من غيره ومن استحى منها ولم يستح من اللّه فلعدم معرفته باللّه ففي ضمن الحديث حث على معرفة اللّه تعالى.
وقال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ [الانفطار:10 - 11].(6/274)
(ويقول ابن أبي ليلى: ما على أحدكم إذا خلا بنفسه أن يقول: أهلاً بملائكة ربي، والله لا أعدمكم اليوم خيراً، خذوا على بركة الله، سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر. وكان الرجل يستشعر إذا خلا بنفسه أن معه الملائكة، فيقول: يا ملكاي! ادعوا الله لي، فأنتما أطوع لله مني. وهؤلاء السلف كان عندهم رقة، يعرفها من قرأ كتب التراجم، وأما نحن فخشب مسندة، لا ذوق ولا أدب ولا رقة شعور ولا علم ولا جهاد ولا شجاعة ولا أي شيء. ذهب الرجال الصالحون وأخرت نتن الرجال لذا الزمان المنتن.
(وكان يقول مالك بن دينار: ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب فنريد أن نرتفع إلى مقام الاستحياء من الملائكة، وما ظنك بالرجل الذي تستحيي منه الملائكة؟! وما ظنك بأناس تشتاق إليهم الجنة؟! فإذا قيل لك: إن الجنة تشتاق لناس، وناس يشتاقون إلى الجنة، فإن بينهما درجات كبيرة.
(ثالثاً الحياء من الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
والمسلم يستحي من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيلتزم بسنته، ويحافظ على ما جاء به من تعاليم سمحة، ويتمسك بها ويعض عليها بالنواجذ لأنه يعلم علم اليقين الذي لا يخالطه شك أن النجاة من الضلال مقرونة بالتمسك بالوحيين كلاهما.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (تركتُ فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض)
((حديث المقدام بن معد يكرب الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ألا وإني أُوتيت القرآن ومثله معه.
((حديث المقدام بن معد يكرب الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يوشك الرجل متكئأً على أريكته يُحدَّث بحديثٍ من حديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلالٍ استحللناه وما وجدنا فيه من حرامٍ حرَّمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرَّم الله.
(رابعاً الحياء من الناس:(6/275)
المسلم يستحي من الناس، فلا يُقَصِّر في حق وجب لهم عليه، ولا ينكر معروفًا صنعوه معه، ولا يخاطبهم بسوء، يكف العبد عن فعل ما لا يليق به، فيكره أن يطلع الناس منه على عيب ومذمة فيكفه الحياء عن ارتكاب القبائح ودناءة الأخلاق، ولا يكشف عورته أمامهم، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث معاوية بن حيده الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك قيل: إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت أن لا يرينها أحد فلا يرينها قيل: إذا كان أحدنا خاليا؟ قال: الله أحق أن يستحيا منه من الناس.
والذي يستحي من الناس لا بد أن يكون مبتعداً عما يذم من قبيح الخصال وسيء الأعمال والأفعال، فلا يكون سباباً، ولا نماماً أو مغتاباً، ولا يكون فاحشاً ولا متفحشاً، ولا يجاهر بمعصية، ولا يتظاهر بقبيح. فحياؤه من الله يمنعه من فساد الباطن، وحياؤه من الناس يمنعه من ارتكاب القبيح والأخلاق الدنيئة، وصار كأنه لا إيمان له، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أبي مسعودٍ الأنصاري الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت.
(ومعنى الحديث: إن لم يستح صنع ما شاء من القبائح والنقائص، فإن المانع له من ذلك هو الحياء وهو غير موجود، ومن لم يكن له حياء انهمك في كل فحشاء ومنكر، وهذا الحديث معناه واضحاً وضوح الشمس لأن الحياء و الإيمان قرنا جميعا فإذا رُفِعَ أحدهما رفع الآخر كما في الحديث الآتي:
((حديث ابن عمر الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الحياء و الإيمان قرنا جميعا فإذا رُفِعَ أحدهما رفع الآخر.(6/276)
وقد دل الحديث على أن من فقد الحياء لم يبق ما يمنعه من فعل القبائح، فلا يتورع عن الحرام. ولا يخاف من الآثام، ولا يكف لسانه عن قبيح الكلام. ولهذا لما قل الحياء في هذا الزمان أو انعدم عند بعض الناس كثرت المنكرات، وظهرت العورات، وجاهروا بالفضائح، واستحسنوا القبائح. وقلت الغيرة على المحارم أو انعدمت عند كثير من الناس، بل صارت القبائح والرذائل عند بعض الناس فضائل، وافتخروا بها، فمنهم المطرب والملحن والمغني الماجن، ومنهم اللاعب الناعب الذي أنهك جسمه وضيّع وقته في أنواع اللعب، وأقل حياء وأشد تفاهة من هؤلاء المغنيين واللاعبين من يستمع لغوهم، أو ينظر ألعابهم، ويضيع كثيرا من أوقاته في ذلك.
(قال سلمان الفارسي - رضي الله عنه -:إن الله إذا أراد بعبده هلاكاً نزع منه الحياء، فإذ نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتاً ممقتاً. فإذا كان مقيتاً ممقتاً نزع منه الأمانة، فلم تلقه إلا خائناً مخوناً. فإذا كان خائناً مخوناً نزع منه الرحمة، فلم تلقه إلا فظاً غليظاً. فإذا كان فظاً غليظاً نزع ربقة الإيمان من عنقه، فإذا نزع ربقة الإيمان من عنقه، لم تلقه إلا شيطاناً لعيناً ملعناً.
(قال الشعبي رحمه الله تعالى:"مر عمر رضي الله عنه في طرق المدينة المنورة فسمع امرأة تقول:
ألا طال هذا الليل واسود جانبه، وأرقني ألا حبيبا ألاعبه. فوَ الله لولا الله لا شيء غيره، لزُعزِع من هذا السرير جوانبه.
مخافة ربي والحياء يكفني، وإكرام بعلي أن تنال مراكبه.
وقال عمر بعدما أتي بالمرأة: أي شيء منعك؟ قالت الحياء وإكرام عرضي.
فكتب عمر رضي الله عنه إلى صاحب زوجها فأقفله إليها".
(ولله درُّ من قال:
إذا لم تخش عاقبة الليالي، ولم تستحي فاصنع ما تشاء.
فلا والله ما في العيش خير، ولا الدنيا إذا ذهب الحياء.
يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي الحياء.
{تنبيه}: (خلق الحياء لا يمنع المسلم من أن يقول الحق، أو يطلب العلم أو يسأل عن شيءٍ لا يعلمه، أو يأمر بمعروف، أو ينهي عن منكر، فإذا أدى الحياء إلى تفويت مصلحة شرعية كان مذموماً وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد. ((6/277)
((حديث أم سلمة الثابت في الصحيحين) أن أم سليم قالت يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق، فهل على المرأة غسل إذا احتلمت؟ قال: إذا رأت الماء. فغططت أم سلمة تعني وجهها، وقالت يا رسول الله وتحتلم المرأة؟ قال نعم. تربت يمينك، فبم يشبهها ولدُها.
(وفي الحديث منقبة لنساء الصحابة رضي الله عنهن، حيث لم يمنعهن الحياء من السؤال والتفقّه في دين الله عز وجل.
ولذا قالت عائشة رضي الله عنها: نعم النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين. رواه مسلم
وهذا بخلاف بعض النساء في زماننا هذا، يخجلن أن يسألن عما أهمّهن من أمور دينهن، ولكنهن لا يخجلن من محادثة بائع أو سائق ونحوهم!
(درجات الحياء:(6/278)
(الدرجة الأولى من درجات الحياء: أن تبغض إليك المعصية، فإذا علمت أن الله قريب منك فسيحملك هذا على استقباح الجناية، فتنظر إلى أدنى ذنب بأنه كبير في حق الله عز وجل؛ لأنك تعلم أن الله ناظر إليك في كل لحظة، وأنت مقيم على معصيته وعلى مخالفة أمره دق أو جل، صغر أم كبر، فقل: يا رب! أتراك ترحم من لم تقر عيناه بالمعاصي حتى علم أن لا عين تراه غيرك! فلا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى كبرياء من واجهته بها. فالدرجة الأولى من الحياء تبغض إليك المعصية، وتحملك على استقباح الجناية، وتمنعك عن الشكوى لغير الله عز وجل، إلى درجة أن إحدى العابدات عندما جاءت إلى الإمام أحمد تسأله الأسئلة التي لا يسأل عنها العلماء اليوم، فقالت له: يا إمام! أنين المريض شكوى؟ قال: ما سمعت مثل هذا السؤال من قبل، ونرجو ألا يكون كذلك، قالت: يا إمام! إذا مرت الظاهرية ـ وهم أناس من الأمراء الظلمة ـ غزلنا غزلنا على ضوئها، فهل نبينه للناس، قال: افعلي ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، ثم قال لابنه عبد الله: تتبعها إلى أي البيوت تدخل، فقال له: دخلت في بيت بشر، قال: من بيتهم خرج الورع. فالإمام أحمد غابت عنه هذه المسألة، حتى كان في مرض الموت، فقيل له: إن طاوساً يقول: أنين المريض شكوى، وفي البداية كان الإمام أحمد يقول: نرجو ألا يكون كذلك، فغابت عنه هذه المسألة، ثم فهمها الإمام عند الموت، فما أنَّ ابن حنبل حتى مات، ولذلك تجد العباد يقولون: تفقهوا في مذاهب الإخلاص.(6/279)
وأشرف العلوم علم الأسماء الحسنى، فتعرف على كل اسم، وكيف تتعبد لله عز وجل بهذا الاسم والصفة، وانظر الصفات في المخلوقات، فتجد نفسك في وادٍ والناس في وادٍ آخر، فعندما تعرف مثلاً اسم المقيت من أسماء الله عز وجل، وتعرف أن المقيت هو الذي يعطي كل مخلوق قوته الضروري، وتعرف مثلاً أن عدد أنواع النمل 12000 نوع، وتحت كل نوع آلاف الملايين، وهذا صنف واحد، ثم الحشرات أكثر من ألف نوع، والطيور والأسماك كذلك، والنجوم لا يحصى عددها؟ والمجرات مائة ألف مليون مجرة، هذا في الجزء المرئي من السماء فقط، وعدد النجوم في كل مجرة ما يقرب من مائة ألف مليون نجم، وهذه تحتوي على نواة ونوية، وكل شيء حي يحتوي على خلايا حيه، والخلايا فيها سيتوبلازم وجدار للخلية ونواة ونوية، فمن الذي يعطي لكل مخلوق من هذه المخلوقات قوته الضروري في وقت واحد؟ وكم أمات وأحيا في وقت واحد؟ فإذا علمت هذا استحييت أن يراك الله راكناً إلى بعض خلقه، وهو ملك الملوك، وجبار السماوات والأرض، ومن له ملك الدنيا والآخرة، وملك السماوات السبع والأرضين السبع وما بينهما وما تحت الثرى: ورب عليم بذات الصدور يدين لعزته الكابر يدين له النجم في أفقه يدين له الفلك الدائر تدين البحار وحيتانها وماء سحاباتها القاطر تدين النجاد تدين الوهاد يدين له الزاحف الناشر فكل عبيد له، وكل له قانتون، قهرهم بحكمه وبملكه، وأمره ومشيئته نافذة في خلقه. إذا علمت أنه قريب منك فيقبح بك الشكوى إلى غيره: وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم قال تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]، والشكوى إلى الله ليست بشكوى.
(الدرجة الثانية من درجات الحياء: علمك بقرب الله عز وجل فتبغض إليك كثرة المخالطة.(6/280)
(الدرجة الثالثة من درجات الحياء: وهي التي يقول عنها الإمام ابن القيم: شهود الحضرة وانجذاب القلب والروح من الكائنات وعكوفه على رب البريات. وهناك درجات في القرب من الله عز وجل لا تحيط بها الأفهام، فتطير القلوب إلى الله عز وجل وتسجد تحت العرش، فمثلاً: بالله عليك هل حال قلبك هذا اليوم كحاله وأنت في أيام الاعتكاف وعكوف القلب وجمعيته على الله عز وجل في العشر الأواخر من رمضان؟ وأنت تريد أن تختم المصحف كل يوم؟ ويجوز لك العلماء الوصال إلى قبل أكلة السحور بقليل، فتجمع ما بين السحور والإفطار وأنت في أيام جمعية القلب وعكوفه على رب البريات. فعندما يكون القلب عاكف على رب البريات في كل لحظه، في رمضان وشوال، وكل الأيام عنده ليلة القدر كيف يكون هذا الرجل! ولو أن شخصاً سمع الشيخ المنشاوي يقرأ الزمر أو آل عمران أنه يريد أن يطير طيراناً، فما ظنك إذا كنت كل لحظات حياتك هكذا، فإنك تجد معاني في القرب لا تكيفها الأفهام ولا تحيط بها العقول، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلىَّ عبدي بشيءٍ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليِّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله الذي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنَّه، وما ترددتُ عن شيءٍّ أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته.
فهذه لا تحيط بها الأفهام.
(أفضل الحياء وأكمله:
ونهاية الحياء وكماله ألا تستحيي من الحق، وقدم الحياء من الله عز وجل على الحياء من الناس، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أبي سعيد الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يمنعنَّ رجلاً هيبةُ الناس أن يقول بحقٍ إذا علمه.(6/281)
فيؤثر الحياء من الله عز وجل على الحياء من الناس. فالحياء الشرعي لا يمنعك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما الذي يمنعك شيء آخر غير الحياء، وهو الجبن والخوف والهلع، فتركك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حياء من الناس ليس من الحياء في شيء، بل هو من الخور والهلع والجبن.
(حياء الله تعالى:
من صفات الله تعالى أنه حَيِي سِتِّيرٌ، يحب الحياء والستر، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث يعلى الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله حَييٌ سِتير يحبُ الحياءَ والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر.
(من استحيا من الله استحيا الله تعالى منه:
(حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه الثابت في الصحيحين): أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينما هو جالس في المسجد والناس معه، إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذهب واحد، قال: فوقفا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأما أحدهما: فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر: فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبا، فلما فرغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه).
مسألة: ما معنى حياء الله تعالى من عبده؟
حياء الرب من عبده حياء كرم وبر وجود وجلال، فإنه تبارك وتعالى حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً.
((حديث سلمان الثابت في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا.
(حياء الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشد الناس حياءً، وكان إذا كره شيئًا عرفه الصحابة في وجهه. وكان إذا بلغه عن أحد من المسلمين ما يكرهه لم يوجه له الكلام، ولم يقل: ما بال فلان فعل كذا وكذا، بل كان يقول: ما بال أقوام يصنعون كذا، دون أن يذكر اسم أحد حتى لا يفضحه، ولم يكن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاحشًا ولا متفحشًا، ولا صخابًا (لا يحدث ضجيجًا) في الأسواق.(6/282)
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أبي سعيد الثابت في الصحيحين) قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشد حياء من العذراء في خدرها فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناه في وجهه.
((حديث أبي سعيد الثابت في الصحيحين) قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناه في وجهه.
((حديث عائشة الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا بلغه عن الرجل شيء لم يقل: ما بال فلان يقول؟ و لكن يقول: ما بال أقوام يقولون كذا و كذا.
((حديث عبد الله ابن عمرو الثابت في صحيح البخاري) قال لم يكن فاحشا ولا متفحشا وقال قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن من أخيركم أحسنكم خلقا.
(نماذج من الحياء:
(حياء موسى عليه السلام:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن موسى كان رجلا حييا ستيرا، لا يرى من جلده شيء استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يستتر هذا التستر، إلا من عيب بجلده: إما برص وإما أدرة، وإما آفة، وإن الله أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى، فخلا يوما وحده، فوضع ثيابه على الحجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر، فأخذ ثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضربا بعصاه، فوالله إن بالحجر لندبا من أثر ضربه، ثلاثا أو أربعا أو خمسا، فذلك قوله تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ آذَوْاْ مُوسَىَ فَبرّأَهُ اللّهُ مِمّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ اللّهِ وَجِيهاً) [الأحزاب: 69]
(حياء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
((حديث أبي سعيد الثابت في الصحيحين) قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناه في وجهه.
(حياء أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -:(6/283)
قال: أيها الناس! استحيوا من الله، فوالله ما خرجت لحاجة ـ يعني: لقضاء حاجة ـ منذ أسلمت إلا وأنا مقنع رأسي حياء من الله عز وجل. فانظر إلى نفسك وأنت في هذه الحال، تحمل أمعاءك الغليظة ودورة المياه، فأنت كنيف متحرك، أفلا تستحي من الله عز وجل أن تعصيه، فقد خلقك من ماء مهين فاستحي منه، فما زال يخرج منك الغائط وأنت تأنف من رائحته، هذا حياء سيدنا أبو بكر الصديق.
(حياء محمد بن سيرين رحمه الله تعالى:
(قال محمد بن سيرين رحمه الله تعالى: ما غشيت امرأة قط في يقظة ولا نوم حتى في المنام غير أم عبد الله، وإني لأرى المرأة في المنام، فأعلم أنها لا تحل لي فأصرف بصري. فهو متحكم في نفسه في المنام. فيا ليتنا في يقظتنا كابن سيرين في المنام، فهو في منامه إذا رأى المرأة لا تحل له يصرف بصره، وأنت في يقظتك أتصرف بصرك؟
وانظر إلى حياء المرأة في قوله تعالى: فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ [القصص:25] وكأن الأرض حياء وهي تمشي عليها. وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ليس للنساء وسط الطريق) فالنساء يمشين على جنب.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ليس للنساء وسط الطريق.
(حياء سيدتنا فاطمة عليها السلام بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أبيها، حين جاءت تسأله خادماً فاستحيت، فقال: (ما جاء بك يا بنية؟! قالت: جئت أسلم عليك، فاستحيت من أبيها مرة واثنتين وثلاثاً، وربما أتاها وهي في مخدعها وعلي وقد أوشكا على النوم، فتدخل رأسها في المتاع حياء من أبيها رضي الله عنها).
(حياء الصديقة بنت الصديق أم المؤمنين فكان كمال الحياء في النساء، تقول: كنت أدخل البيت الذي دفن فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي رضي الله عنه واضعة ثوبي، وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فكانت تتخفف من بعض ثيابها، قالت: فلما دفن عمر رضي الله عنه كنت أدخل مجموعة معدودة علي الثياب حياء من عمر رضي الله عنه بعد موته.
فهذا هو الحياء في أكمل صوره. فلا والله ما في المرء خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء.
(ولله درُّ من قال:
أنا العبد الذي كسب الذنوبا ... وصدته المعاصي أن يتوبا
أنا العبد الذي أضحى حزيناً ... على زلاته قلقاً كئيبا
أنا العبد الذي سطرت عليه ... صحائف لم يخف فيها الرقيبا
أنا العبد المسيء عصيت سراً ... فمالي الآن لا أبدي النحيبا(6/284)
أنا العبد المفرط ضاع عمري ... فلم أرع الشبيبة والمشيبا
أنا العبد الغريق بلج بحرٍ ... أصيح لربما ألقى مجيبا
أنا العبد السقيم من الخطايا ... وقد أقبلت ألتمس الطبيبا
أنا العبد المخلف عن أناسٍ ... حووا من كل معروفٍ نصيبا
أنا العبد الشرير ظلمت نفسي ... وقد وافيت بابكم منيبا
أنا العبد الحقير مددت كفي ... إليكم فادفعوا عني الخطوبا
أنا الغدار كم عاهدت عهداً ... وكنت على الوفى به كذوبا
أنا المهجور هل لي من شفيعٍ ... يكلم في الوصال لي الحبيبا
أنا المضطر أرجو منك عفواً ... ومن يرجو رضاك فلن يخيبا
أنا المقطوع فارحمني وصلني ... ويسر منك لي فرجاً قريبا
فوا أسفي على عمرٍ تقضى ... ولم أكسب به إلا الذنوبا
وأحذر أن يعاجلني مماتٌ ... يحير لهول مصرعه اللبيبا
ويا حزناه من نشري وحشري ... ليومٍ يجعل الولدان شيبا
تفطرت السماء به ومارت ... وأصبحت الجبال به كثيبا
إذا ما قمت حيراناً ظميا ... حسير الطرف عرياناً سليبا
ويا خجلاه من قبح اكتسابي ... إذا ما أبدت الصحف العيوبا
وذلة موقفٍ لحساب عدلٍ ... أكون به على نفسي حسيبا
ويا حذراه من نار تلظى ... إذا زفرت فأقلعت القلوبا
تكاد إذا بدت تنشق غيظاً ... على من كان معتدياً مريبا
فيا من مدّ في كسب الخطايا ... خطاه أما بدا لك أن تتوبا
ألا فاقلع وتب واجتهد فإنا ... رأينا كل مجتهدٍ مصيبا
وأقبِل صادقاً في العزم واقصد ... جناباً ناضراً عطراً رحيبا
وكن للصالحين أخاً وخلاً ... وكن في هذه الدنيا غريبا
وكن عن كل فاحشةٍ جباناً ... وكن في الخير مقداماً نجيبا
ولاحظ زينة الدنيا ببغضٍ ... تكن عبداً إلى المولى حبيبا
فمن يخبر زخارفها يجدها ... مخادعةً لطالبها حلوبا
وغض عن المحارم منك طرفاً ... طموحاً يفتن الرجل الأريبا
فخائنة العين كأسد غابٍ ... إذا ما أهملت وثبت وثوبا
ومن يغضض فضول الطرف عنها ... يجد في قلبه روحاً وطيبا
ولا تطلق لسانك في كلامٍ ... يجر عليك أحقاداً وحوبا
ولا يبرح لسانك كل وقتٍ ... بذكر الله ريّاناً رطيبا
وصل إذا الدجى أرخى سدولاً ... ولا تكن للظّلام به هيوبا
تجد أجرأ إذا أدخلت قبراً ... فقدت به المعاشر والنسيبا
وصم مهما استطعت تجده رياً ... إذا ما قمت ظمآناً سغيبا
وكن متصدقاً سراُ وجهراً ... ولا تبخل وكن سمحاً وهوبا
تجد ما قدمته يداك ظلاً ... عليك إذا اشتكى الناس الكروبا
وكن حسن الخلائق ذا حياءٍ ... طليق الوجه لا شكساً قطوبا
فيا مولاي جد بالعفو وارحم ... عبيداً لم يزل يشكي الذنوبا
وسامح هفوتي وأجب دعائي ... فإنك لم تزل أبداً مجيبا
وشفِّع فيّ خير الخلق طراً ... نبياً لم يزل أبداً حبيبا(6/285)
هو الهادي المشفّع في البرايا ... وكان لهم رحيماً مستجيبا
عليه من المهمين كل وقتٍ ... صلاة تملأ الأكوان طيبا
(فصلٌ في منزلة الصدق:
[*] (عناصر الفصل:
(الصدق من منازل إياك نعبد وإياك نستعين:
(تعريف الصدق:
(مراتب الصدق:
(من أقوال السلف في الصدق:
(حث الشريعة على التحلي بالصدق:
(شرح آية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ):
(ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً:
(صور من حياة الأنبياء والصالحين مع الصدق:
(مجالات الصدق:
(دواعي الصدق:
(علامات الصدق:
(أمور مهمة في الصدق وأهله:
(الصدق المذموم:
(الحث على الاهتمام بتربية الأولاد على الصدق:
(الصدق في البيع والشراء:
(الكذب أضراره وعواقبه:
(تحريم الكذب في الرؤيا:
(عقوبة الكذب:
(تحذير السلف من الكذب:
(دواعي الكذب:
(تحريم الكذب في المزاح:
(لا تجمعن جوعا وكذبا:
(علامات الكذب:
(مواطن جواز الكذب:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(الصدق من منازل إياك نعبد وإياك نستعين:(6/286)
منزلة الصدق من منازل إياك نعبد وإياك نستعين: والصدق له فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم، فهي نعمةٌ عظيمة، وَمِنَّةٌ جسيمة، نعمة كبرى، ومنحة عظمى، شأنه عظيم، ونفعه عميم، له فضائل لا تحصى، وثمرات لا تعد، وله أهمية كبرى، وثمرات جليلة، وفضائل عظيمة، وأسرار بديعة، وهو طريق النجاة، وسلم الوصول، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين، وهو منزل القوم الأعظم الذي منه تنشأ المنازل كلها، والطريق الأقوم الذي من لم يَسِرْ عليه فهو من المنقطعين الهالكين، به تميز أهل النفاق من أهل الإيمان، وأهل الجنان من أهل النيران، وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلاً إلا أرداه وصرعه، من صال به لم ترد صولته، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته، هو روح الأعمال ومحك الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، وهو الباب الذي يدخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدين وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية على النبوة التي هي أرفع درجات العالمين، ومن مساكن النبيين تجري العيون والأنهار إلى مساكن الصديقين، كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مدد متصل ومعين. وقد أمر الله سبحانه وتعالى أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين، وخص الله المنعم عليهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119] وقال تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) [النساء:69].
وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن أهل البر وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم من الإيمان والإسلام، والصدقة والصبر بأنهم أهل الصدق، فقال تعالى: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)
[البقرة:177](6/287)
وهذا صريح في أن الصدق في الأعمال الظاهرة والباطنة وأنه هو الإيمان والإسلام. وأخبر سبحانه وتعالى أنه في يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذاب الله إلا صدقه، قال تعالى: (هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [المائدة:119].
وعقد البخاري رحمه الله تعالى في كتابه الجامع الصحيح باباً بعنوان: باب قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119] وما ينهى عن الكذب.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الصدق
«وهي منزلة القوم الأعظم الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين» «والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين» وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان وسكان الجنان من أهل النيران وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه ولا واجه باطلا إلا أرْدَاه وَصَرَعَه، من صال به لم ترد صولته ومن نطق به علت على الخصوم كلمته، فهو روح الأعمال وَمَحَكُ الأحوال والحامل على اقتحام الأهوال والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، «وهو أساس بناء الدين وعمود فسطاط اليقين» ودرجته تالية لدرجة النبوة التي هي أرفع درجات العالمين ومن مساكنهم في الجنات: تجري العيون والأنهار إلى مساكن الصديقين كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مدد متصل ومعين.
(وقد أمر الله سبحانه أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين: وخص المنعم عليهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69] «فهم الرفيق الأعلى وحسن أولئك رفيقا» ولا يزال الله يمدهم بأنعمه وألطافه ومزيده إحسانا منه وتوفيقا، ولهم مرتبة المعية مع الله فإن الله مع الصادقين ولهم منزلة القرب منه إذ درجتهم منه ثاني درجة النبيين.(6/288)
(وأخبر تعالى أن من صدقه فهو خير له فقال: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد: 21]
(وأخبر تعالى عن أهل البر وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم: من الإيمان والإسلام والصدقة والصبر بأنهم أهل الصدق فقال: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] وهذا صريح في أن الصدق بالأعمال الظاهرة والباطنة وأن الصدق هو مقام الإسلام والإيمان.
(وقسم الله سبحانه الناس إلى صادق ومنافق فقال: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ
وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب: 24]
(والإيمان أساسه الصدق والنفاق أساسه الكذب فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما محارب للآخر وأخبر سبحانه أنه في يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلا صدقه، قال تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: 119] وقال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 34] فالذي جاء بالصدق: هو من شأنه الصدق في قوله وعمله وحاله فالصدق في الأقوال: استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها والصدق في الأعمال: استواء الأفعال على الأمر والمتابعة كاستواء الرأس على الجسد.
والصدق في الأحوال: استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص واستفراغ الوسع وبذل الطاقة فبذلك يكون العبد من الذين جاءوا بالصدق وبحسب كمال هذه الأمور فيه وقيامها به: تكون صديقيته ولذلك كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه: ذروة سنام الصديقية سمي الصديق على الإطلاق و الصديق أبلغ من الصدوق والصدوق أبلغ من الصادق(6/289)
فأعلى مراتب الصدق: مرتبة الصديقية وهي كمال الانقياد للرسول مع كمال الإخلاص للمرسل.
(وقد أمر الله تعالى رسوله أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق فقال: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} [الإسراء: 80]
(وأخبر عن خليله إبراهيم أنه سأله أنه يهب له لسان صدق في الآخرين فقال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84]
(وبشر عباده بأن لهم عنده قدم صدق ومقعد صدق فقال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2] وقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54 - 55] فهذه خمسة أشياء: مدخل الصدق ومخرج الصدق ولسان الصدق وقدم الصدق ومقعد الصدق وحقيقة الصدق في هذه الأشياء: هو الحق الثابت المتصل بالله الموصل إلى الله وهو ما كان به وله من الأقوال والأعمال وجزاء ذلك في الدنيا والآخرة فمدخل الصدق ومخرج الصدق: أن يكون دخوله وخروجه حقا ثابتا بالله وفي مرضاته بالظفر بالبغية وحصول المطلوب ضد مخرج الكذب ومدخله الذي لا غاية له يوصل إليها ولا له ساق ثابتة يقوم عليها كمخرج أعدائه يوم بدر ومخرج الصدق كمخرجه هو وأصحابه في تلك الغزوة وكذلك مدخله المدينة: كان مدخل صدق بالله ولله وابتغاء مرضاة الله فاتصل به التأييد والظفر والنصر وإدراك ما طلبه في الدنيا والآخرة بخلاف مدخل الكذب الذي رام أعداؤه أن يدخلوا به المدينة يوم الأحزاب فإنه لم يكن بالله ولا لله بل كان محادة لله ورسوله فلم يتصل به إلا الخذلان والبوار وكذلك مدخل من دخل من اليهود المحاربين لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حصن بني قريظة فإنه لما كان مدخل كذب: أصابه معهم ما أصابهم «فكل مدخل معهم ومخرج كان بالله ولله وصاحبه ضامن على الله فهو مدخل صدق ومخرج صدق»(6/290)
(وكان بعض السلف إذا خرج من داره: رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إني أعوذ بك أن أخرج مخرجا لا أكون فيه ضامنا عليك، يريد أن لا يكون المخرج مخرج صدق ولذلك فسر مدخل الصدق ومخرجه: بخروجه من مكة ودخوله المدينة، ولا ريب أن هذا على سبيل التمثيل فإن هذا المدخل والمخرج من أجل مداخله ومخارجه وإلا فمداخله كلها مداخل صدق ومخارجه مخارج صدق «إذ هي لله وبالله وبأمره ولابتغاء مرضاته» وما خرج أحد من بيته ودخل سوقه أو مدخلا آخر إلا بصدق أو بكذب فمخرج كل واحد ومدخله: لا يعدو الصدق والكذب والله المستعان.
((وأما لسان الصدق: فهو الثناء الحسن عليه من سائر الأمم بالصدق، ليس ثناء بالكذب كما قال عن إبراهيم وذريته من الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} [مريم: 50]
والمراد باللسان ههنا: الثناء الحسن فلما كان الصدق باللسان وهو محله أطلق الله سبحانه ألسنة العباد بالثناء على الصادق جزاء وفاقا وَعَبَرَ به عنه فإن اللسان يراد به ثلاثة معان: هذا واللغة كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] وقوله: {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم: 22] وقوله: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103] ويراد به الجارحة نفسها كقوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16]
((وأما قدم الصدق: ففسر بالجنة وفسر بمحمد وفسر بالأعمال الصالحة وحقيقة القدم ما قدموه وما يقدمون عليه يوم القيامة وهم قدموا الأعمال والإيمان بمحمد ويقدمون على الجنة التي هي جزاء ذلك فمن فسره بها أراد: ما يقدمون عليه ومن فسره بالأعمال وبالنبي: فلأنهم قدموها وقدموا الإيمان به بين أيديهم فالثلاثة قدم صدق.
((وأما مقعد الصدق: فهو الجنة عند الرب تبارك وتعالى ووصف ذلك كله بالصدق مستلزم ثبوته واستقراره وأنه حق ودوامه ونفعه وكمال عائدته فإنه متصل بالحق سبحانه كائن به وله فهو صدق غير كذب وحق غير باطل ودائم غير زائل ونافع غير ضار وما للباطل ومتعلقاته إليه سبيل ولا مدخل.
((ومن علامات الصدق: طمأنينة القلب إليه، ومن علامات الكذب: حصول الريبة.
(ثم ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله الأحاديث الآتية:(6/291)
(حديث علي الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة و الكذب ريبة.
(ثم قال رحمه الله تعالى:
فجعل الصدق مفتاح الصديقية ومبدأها وهي غايته فلا ينال درجتها كاذب البتة لا في قوله ولا في عمله ولا في حاله ولا سيما كاذب على الله في أسمائه وصفاته ونفي ما أثبته أو إثبات ما نفاه عن نفسه فليس في هؤلاء صديق أبدا وكذلك الكذب عليه في دينه وشرعه بتحليل ما حرمه وتحريم ما لم يحرمه وإسقاط ما أوجبه وإيجاب ما لم يوجبه وكراهة ما أحبه واستحباب ما لم يحبه كل ذلك مناف للصديقية وكذلك الكذب معه في الأعمال: بالتحلي بحلية الصادقين المخلصين والزاهدين المتوكلين وليس في الحقيقة منهم «فلذلك كانت الصديقية كمال الإخلاص والانقياد والمتابعة للخبر والأمر ظاهرا وباطنا» حتى إن صدق المتبايعين يحل البركة في بيعهما وكذبهما يمحق بركة بيعهما كما في الصحيحين عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما: محقت بركة بيعهما.
(تعريف الصدق:
الصدق هو: مطابقة القول الضمير والمخبر عنه، فإذا طابق قولك ما في ضميرك والشيء الذي تخبر عنه فأنت صادق، والعكس بالعكس، فإذا انخرم شرط لم يكن صدقاً، بل إما أن يكون كذباً أو متردداً بينهما ـ يعني بين الصدق والكذب ـ كقول المنافق: محمد رسول الله، فهو من جهة المطابقة للمخبر عنه وهو النبي عليه الصلاة والسلام كذلك فإنه رسول الله حقاً، لكن من جهة ما يعتقده المنافق في ضميره فهو كذاب، ويصح أن يقال كذب؛ لمخالفة قوله لضميره. وقد يستعمل الصدق والكذب في الاعتقاد وفي الفعل كما قال الصحابي للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إنا قوم صدق في القتال] في الحرب، ومنه قوله تعالى: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا [الصافات:105] عملنا بمقتضاها إذاً: هو قول الحق المطابق للواقع والحقيقة.
(مراتب الصدق:
والصدق على مراتب، والصادقون على مراتب، فالصدِّيق أبلغ من الصدوق، والصدوق أبلغ من الصادق، فأعلى مراتب الصدق هي مرتبة الصديقية التي أشار الله إليها بقوله تعالى: (فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ) [النساء:69] وسمي أبو بكر الصديق صديقاً لكثرة تصديقه للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(6/292)
(من أقوال السلف في الصدق:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
(قال عبد الواحد بن زيد: الصدق الوفاء لله بالعمل.
(وقيل: موافقة السر النطق.
(وقيل: استواء السر والعلانية يعني أن الكاذب علانيته خير من سريرته كالمنافق الذي ظاهره خير من باطنه:
(وقيل: الصدق القول بالحق في مواطن الهلكة.
(وقيل: كلمة الحق عند من تخافه وترجوه.(6/293)
(وقال الجنيد: الصادق يتقلب في اليوم أربعين مرة والمرائي يثبت على حالة واحدة أربعين سنة، وهذا الكلام يحتاج إلى شرح وقد يسبق إلى الذهن خلافه وأن الكاذب متلون لأن الكذب ألوان فهو يتلون بتلونه والصادق مستمر على حالة واحدة فإن الصدق واحد في نفسه وصاحبه لا يتلون ولا يتغير لكن مراد الشيخ أبي القاسم صحيح غير هذا فإن المعارضات والواردات التي ترد على الصادق لا ترد على الكاذب المرائي بل هو فارغ منها فإنه لا يرد عليه من قبل الحق موارد الصادقين على الكاذبين المرائين ولا يعارضهم الشيطان كما يعارض الصادقين فإنه لا أرب له في خربة لا شيء فيها وهذه الواردات توجب تقلب الصادق بحسب اختلافها وتنوعها فلا تراه إلا هاربا من مكان إلى مكان ومن عمل إلى عمل ومن حال إلى حال ومن سبب إلى سبب لأنه يخاف في كل حال يطمئن إليها ومكان وسبب: أن يقطعه عن مطلوبه فهو لا يساكن حالة ولا شيئا دون مطلوبه فهو كالجوال في الآفاق في طلب الغنى الذي يفوق به الأغنياء والأحوال والأسباب تتقلب به وتقيمه وتقعده وتحركه وتسكنه حتى يجد فيها ما يعينه على مطلوبه وهذا عزيز فيها فقلبه في تقلب وحركة شديدة بحسب سعة مطلوبه وعظمته وهمته أعلى من أن يقف دون مطلبه على رسم أو حال أو يساكن شيئا غيره فهو كالمحب الصادق الذي همته التفتيش على محبوبه، وكذا حال الصادق في طلب العلم وحال الصادق في طلب الدنيا فكل صادق في طلب شيء لا يستقر له قرار ولا يدوم على حالة واحدة وأيضا: فإن الصادق مطلوبه رضا ربه وتنفيذ أوامره وتتبع محابه فهو متقلب فيها يسير معها أين توجهت ركائبها ويستقل معها أين استقلت مضاربها فبينا هو في صلاة إذ رأيته في ذكر ثم في غزو ثم في حج ثم في إحسان للخلق بالتعليم وغيره من أنواع النفع ثم في أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو في قيام بسبب فيه عمارة الدين والدنيا ثم في عيادة مريض أو تشييع جنازة أو نصر مظلوم إن أمكن إلى غير ذلك من أنواع القرب والمنافع فهو في تفرق دائم لله وجمعية على الله لا يملكه رسم ولا عادة ولا وضع ولا يتقيد بقيد ولا إشارة ولا بمكان معين يصلى فيه لا يصلى في غيره وزي معين لا يلبس سواه وعبادة معينة لا يلتفت إلى غيرها مع فضل غيرها عليها أو هي أعلى من غيرها في الدرجة وبعد ما بينهما كبعد ما بين السماء والأرض فإن البلاء والآفات والرياء والتصنع وعبادة النفس وإيثار مرادها والاشارة إليها: كلها في هذه الأوضاع والرسوم والقيود التي(6/294)
حبست أربابها عن السير إلى قلوبهم فضلا عن السير من قلوبهم إلى الله تعالى فإذا خرج أحدهم عن رسمه ووضعه وزيه وقيده وإشارته ولو إلى أفضل منه استهجن ذلك ورآه نقصا وسقوطا من أعين الناس وانحطاطا لرتبته عندهم وهو قد انحط وسقط من عين الله
وقد يحس أحدهم ذلك من نفسه وحاله ولا تدعه رسومه وأوضاعه وزيه وقيوده: أن يسعى في ترميم ذلك وإصلاحه وهذا شأن الكذاب المرائي الذي يبدي للناس خلاف ما يعلمه الله من باطنه العامل على عمارة نفسه ومرتبته وهذا هو النفاق بعينه ولو كان عاملا على مراد الله منه وعلى الصدق مع الله: لأثقلته تلك القيود وحبسته تلك الرسوم ولرأى الوقوف عندها ومعها عين الانقطاع عن الله لا إليه ولما بالى أي ثوب لبس ولا أي عمل عمل إذا كان على مراد الله من العبد فكلام أبي القاسم الجنيد حق كلام راسخ في الصدق عالم بتفاصيله وآفاته ومواضع اشتباهه بالكذب وأيضا «فحمل الصدق كحمل الجبال الرواسي لا يطيقه إلا أصحاب العزائم» فهم يتقلبون تحته تقلب الحامل بحمله الثقيل «والرياء والكذب خفيف كالريشة» لا يجد له صاحبه ثقلا البتة فهو حامل له في أي موضع اتفق بلا تعب ولا مشقة ولا كلفة فهو لا يتقلب تحت حمله ولا يجد ثقله.
(وقال بعضهم: لا يشم رائحة الصدق عبد داهن نفسه أو غيره.
(وقال بعضهم: الصادق الذي يتهيأ له أن يموت ولا يستحيي من سره لو كشف قال الله تعالى: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94] قلت: هذه الآية فيها للناس كلام معروف قالوا: إنها معجزة للنبي أعجز بها اليهود ودعاهم إلى تمني الموت وأخبر: أنهم لا يتمنونه أبدا وهذا علم من أعلام نبوته إذ لا يمكن الاطلاع على بواطنهم إلا بأخبار الغيب ولم ينطق الله ألسنتهم بتمنيه أبدا.
(وقال سهل بن عبد الله: أول خيانة الصديقين: حديثهم مع أنفسهم.
(وقال يوسف بن أسباط: لأن أبيت ليلة أعامل الله بالصدق أحب إلي من أضرب بسيفي في سبيل الله.(6/295)
(وقال الحارث المحاسبي: الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الخلق من أجل صلاح قلبه ولا يحب اطِّلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله، ولا يكره أن يطلع الناس على السيء من عمله، فإن كراهته لذلك دليل على أنه يحب الزيادة عندهم وليس هذا من علامات الصديقين وفي هذا نظر لأن كراهته لاطلاع الناس على مساوىء عمله من جنس كراهته للضرب والمرض وسائر الآلام وهذا أمر جبلي طبيعي ولا يخرج صاحبه عن الصدق لا سيما إذا كان قدوة متبعا فإن كراهته لذلك من علامات صدقة لأن فيها مفسدتين: مفسدة ترك الاقتداء به واتباعه على الخير وتنفيذه ومفسدة اقتداء الجهال به فيها فكراهيته لاطلاعهم على مساوئ عمله: لا تنافي صدقه بل قد تكون من علامات صدقه نعم المنافي للصدق: أن لا يكون له مراد سوى عمارة حاله عندهم وسكناه في قلوبهم تعظيما له فلو كان مراده تنفيذا لأمر الله ونشرا لدينه وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر ودعوة إلى الله: فهذا الصادق حقا والله يعلم سرائر القلوب ومقاصدها وأظن أن هذا هو مراد المحاسبي بقوله: ولا يكره اطلاع الناس على السيء من عمله فإنهم يريدون ذلك فضولا ودخولا فيما لا يعني فرضي الله عن أبي بكر الصديق حيث قال: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة والله لو منعوني عناقا أو عقالا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقاتلتهم عليه فهذا وأمثاله يعدونه ويرونه من سيء الأعمال عند العوام والجهال.
(وقال بعضهم: من لم يؤد الفرض الدائم لم يقبل منه الفرض المؤقت قيل: وما الفرض الدائم قال: الصدق.
(وقيل: من طلب الله بالصدق أعطاه مرآة يبصر فيها الحق والباطل.
(وقيل: عليك بالصدق حيث تخاف أنه يضرك فإنه ينفعك ودع الكذب حيث ترى أنه ينفعك فإنه يضرك.
(وقيل: ما أملق تاجر صدوق:
[*] (أورد النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين عن الأستاذ القشيري رحمه الله قال: الصدق عماد الأمر، وبه تمامه، وفيه نظامه، قال: وأقل الصدق استواء السر والعلانية.
[*] (وأورد النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين عن " سهل " رحمه الله تعالى قال: " لا يشم رائحة الصدق عبد داهن نفسه أو غيره ".
[*] (وأورد النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين عن ذي النون رحمه الله أنه قال: الصدق سيف الله، وما وضع على شيء إلا قطعه.(6/296)
[*] (وأورد النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين عن الإمام العارف الحارث المحاسبي رحمه الله تعالى قال: الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الخلق من أجل صلاح قلبه؛ ولا يحب إطلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله؛ ولا يكره أن يطلع الناس على السيء من عمله، فإن كراهته لذلك دليل على أنه يحب الزيادة عندهم؛ وليس هذا من إخلاص الصديقين!
[*] (وأورد النووي رحمه الله تعالى في كتابه بستان العارفين عن الجنيد رضي الله عنه قال: " الصادق يتقلب في اليوم أربعين مرة ". والمرائي يثبت على حالة واحدة أربعين سنة! ".
(قال النووي رحمه الله تعالى:
قلت: معناه أن الصادق يدور مع الحق كيف كان؛ فإذا رأى الفضل الشرعي في أمر عمل به، وإن خالف ما كانت عليه عادته، وإذا عرض أهم منه في الشرع ولا يمكن الجمع بينهما، انتقل إلى الأفضل، ولا يزال هكذا، وربما كان في اليوم الواحد على مائة حال، أو ألف أو أكثر، على حسب تمكنه في المعارف وظهور الدقائق له واللطائف.
وأما المرائي: فيلزم حالة واحدة بحيث لو عرض له مهم يرجحه الشرع عليها في بعض الأحوال لم يأت بهذا المهم؛ بل يحافظ على حالته لأنه يرائي بعبادته وحاله المخلوقين، فيخاف من التغير ذهاب محبتهم إياه فيحافظ على بقائها!
«والصادق يريد بعبادته وجه الله تعالى، فحيث رجح الشرع حالًا صار إليه»، ولا يعرج على المخلوقين.
(حث الشريعة على التحلي بالصدق:
وقد حثت الشريعة على التحلي بهذا الخلق العظيم، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موضحاً ما أمر الله: (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119]
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث ابن مسعودٍ الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر و إن البر يهدي إلى الجنة و ما يزال الرجل يصدق و يتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا و إياكم و الكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور و إن الفجور يهدي إلى النار و ما يزال الرجل يكذب و يتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا.(6/297)
((حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة اصدقوا إذا حدثتم و أوفوا إذا وعدتم و أدوا إذا ائتمنتم و احفظوا فروجكم و غضوا أبصاركم و كفوا أيديكم.
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: خير الناس ذو القلب المخموم و اللسان الصادق قيل: ما القلب المخموم؟ قال: هو التقي النقي الذي لا إثم فيه و لا بغي و لا حسد قيل: فمن على أثره؟ قال: الذي يشنأ الدنيا و يحب الآخرة قيل: فمن على أثره؟ قال: مؤمن في خلق حسن. فمن على أثره؟ قال: الذي يشنأ الدنيا و يحب الآخرة: ومفهوم هذا أن شر الناس الذي يحب الدنيا.
إذاً: صاحب اللسان الصادق والقلب المخموم، السليم من الإثم والبغي والحسد هو خير الناس. وقد كان أحب الحديث إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصدقه، وورد ذلك في صحيح البخاري: لما جاء وفد هوازن مسلمين فسألوا النبي عليه الصلاة والسلام أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم؛ لأن أموالهم وسبيهم قد أخذت من قبل المسلمين في المعركة، لكن القوم الكفار أسلموا بعد ذلك، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (معي من ترون وأحب الحديث إليَّ أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين، إما السبي وإما المال.) إلى آخر الحديث الذي فيه تنازل المسلمين عن السبي لصالح وفد هوازن الذين جاءوا مسلمين.
(شرح آية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ):
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119] الأمر بالكون مع أهل الصدق حسنٌ بعد قصة الثلاثة الذين خلفوا، هذه الآية قال الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119] كانت بعد ذكر قصة الثلاثة الذي خلفت التوبة عليهم وأرجأ الله أمرهم امتحاناً لهم ولبقية المؤمنين، وجاء المنافقون من الأعراب يعتذرون ويكذبون، وهؤلاء الثلاثة صدقوا الله ورسوله فأرجأ الله التوبة عليهم وسموا بالمخلفين وكان مما أمر الله به في الآيات التي جاءت تعقيباً على تلك القصة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119].(6/298)
(قال القرطبي رحمه الله تعالى: الأمر بالكون مع أهل الصدق حسنٌ بعد قصة الثلاثة الذين خلفوا حين نفعهم صدقهم وذهب بهم عن منازل المنافقين.
قال مطرف: سمعت مالك بن أنس يقول: [قل ما كان رجل صادقاً لا يكذب إلا متع بعقله ولم يصبه ما يصيب غيره من الهرم والخرف] هذا من فوائد الصدق.
وقوله تعالى: (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119] اختلف فيهم: فقيل خطاب لمن آمن من أهل الكتاب: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119] أي: المؤمنين والصادقين قيل: خطاب لمن آمن من أهل الكتاب، وقيل: هو خطاب لجميع المؤمنين أن اتقوا مخالفة الله وكونوا مع الصادقين الذي خرجوا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا مع المنافقين، وقيل: كونوا على مذهب الصادقين وسبيلهم، وقيل: هم الأنبياء، أي: كونوا معهم بالأعمال الصالحة فتدخلوا الجنة بسببها فتكونوا معهم أيضاً.
ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً:(6/299)
والحديث العظيم المشهور في الصدق الذي يبين فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصدق ويوصيهم به: (فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً). والكذب -أيضاً- (لا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار). قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الآخر: (عليكم بالصدق فإنه مع البر وهما في الجنة، وإياكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار، وسلوا الله اليقين والمعافاة). وهذا الحديث الذي فيه قوله: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة) عليكم بالصدق أي: الزموه، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق -يعني- في قوله وعمله ويبالغ ويجتهد حتى يكتب عند الله صديقاً، فهذا يعني أن الصدق لا يصل إليه الإنسان إلا بالمجاهدة، ولا يزال يصدق ويتحرى الصدق، يتعمد ويتحرى ويقصد الصدق، ولا يزال ديدنه وعادته حتى يصل إلى المرحلة العظيمة وهي أنه عند الله صديقاً، يكتب أي: يثبت عند الله. قال الإمام النووي معلقاً على الحديث: فيه فضيلة الصدق وملازمته وإن كان فيه مشقة فإن عاقبته خير. (حتى يكتب عند الله صديقاً) فيه إشارة إلى حسن خاتمة هذا الرجل؛ لأنه قال: (ولا زال يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً) فإذا كتب عند الله صديقاً فهذه إشارة إلى حسن خاتمته، وإشارة إلى أن الصدق مأمول العواقب.
(ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً:
والجولة الآن مع الأنبياء والصالحين في الصدق كما حكى الله تعالى عنهم. أمر الله رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً) [الإسراء:80]. وأخبر عن خليله إبراهيم أنه سأله أن يهب له لسان صدقٍ في الآخرين، فقال: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) [الشعراء:84].(6/300)
وبشر الله عباده بأن لهم قدم صدق عند ربهم، وأنه لهم مقعد صدق، فقال تعالى: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [يونس:2] وقال: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر:54 - 55].
((قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
وهذه خمسة أشياء: مدخل صدق، ومخرج صدق، ولسان صدق، وقدم صدق، ومقعد صدق، فأما مدخل الصدق ومخرج الصدق بأن يكون دخوله وخروجه حقاً شرعياً موافقاً للكتاب والسنة في أي أمر من الأمور، وهو ضد مخرج الكذب ومدخل الكذب الذي لا غاية له يوصل إليها، فمخرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو وأصحابه في غزوة بدر هو مخرج صدق، ومخرج الأعداء من كفار قريش إلى غزوة بدر هو مخرج كذب، ومدخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة كان مدخل صدق في الله وابتغاء مرضاة الله، هاجر وترك الوطن والأهل ابتغاء مرضاة الله؛ فاتصل به التأييد والظفر والنصر، بخلاف مدخل الكذب الذي رام أعداؤه أن يدخلوا به المدينة يوم الأحزاب فإنه لم يكن لله ولا بالله، بل كان محاداً لله ورسوله فلم يتصل به إلا الخذلان والبوار. وفسر مدخل الصدق ومخرجه بخروجه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة ودخوله المدينة وهذا مثال على ذلك وليس هو كل مدخل الصدق ومخرج الصدق وإنما هو مثال عليه. والنبي عليه الصلاة والسلام مداخله ومخارجه كلها كانت مداخل صدق ومخارج صدق، لا يخرج من المدينة ويدخل بلداً، أو يدخل في أمرٍ أو يخرج من أمرٍ إلا لله وبالله، وما خرج أحدٌ من منزله ودخل سوقه أو مدخلاً آخر إلا بصدقٍ أو كذب، فمدخل كل واحد منا ومخرجه لا يعدو الصدق والكذب، كلنا الآن نغدو ونذهب، ندخل في أمر ونخرج من آخر، ندخل في مكان ونخرج من آخر، ولذلك الدعاء بأن يدخلنا الله مدخل صدق ويخرجنا مخرج صدق هو في الحقيقة دعاء لله أن يسددنا في جميع أقوالنا وأعمالنا، وأن يكون إقدامنا على الأمور وخروجنا من الأمور موافقاً للكتاب والسنة.
أما لسان الصدق الذي جاء في دعاء الخليل إبراهيم فهو الثناء الحسن عليه من سائر الأمم صدقاً لا كذباً، وقد استجاب الله له فصار الناس يثنون على إبراهيم بعد موت إبراهيم بآلاف السنين، يثنون عليه ويذكرون سيرته ويتأسون به.(6/301)
وأما قدم الصدق الذي وعد الله به المؤمنين فقد فسر بالجنة، وحقيقة القدم ما قدموه في الدنيا من الأعمال والإيمان، وما يقدمون عليه في الآخرة وهي الجنة التي هي جزاؤهم وهو مقعد الصدق (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) [القمر:54 - 55] أي: هي الجنة عند الرب تبارك وتعالى.
((صور من حياة الأنبياء والصالحين مع الصدق:
(من صفات النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصادق الأمين:
كان من صفات النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصادق الأمين وساعده ذلك في دعوته لما قام يدعو الكفار، كما جاء في صحيح البخاري، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قال: لما نزلت: {وأنذر عشيرتك الأقربين}. ورهطك منهم المخلصين، خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى صعد الصفا، فهتف: (يا صباحاه). فقالوا: من هذا، فاجتمعوا إليه، فقال: (أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي). قالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد). قال أبو لهب: تبا لك، ما جمعتنا إلا لهذا، ثم قام. فنزلت: {تبت يدا أبي لهب وتب}.
صدق الرجل يساعد في نشر دعوته: «ما جربنا عليك كذبا» قال: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [المسد:1 - 5]).
وكان من الأشياء التي استدلت بها خديجة على صدق النبي عليه الصلاة والسلام في بعثته وأن الله لم يتخل عنه أنه بعدما جاءه الملك في غار حراء وقال له: اقرأ فرجع خائفاً مضطرباً، فقالت له خديجة لما قال لها لقد خشيت على نفسي، قالت: «كلا فوالله لا يخزيك الله أبداً، والله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق». إذاً: هذا الصدق منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان معيناً له في دعوته، وكان من أدلة صدقه في بعثته وفيما أخبر به عن نبوته.
(يوسف الصديق عليه السلام:(6/302)
ويوسف عليه السلام كان صادقاً؛ لذلك اعترف له الرجل الذي جاء يستفتيه فقال: (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ) [يوسف:46] فأرسلوا أحد السجينين اللذين كانا مع يوسف إلى يوسف في السجن ليسأله لأنه قال لهم: أنا آتيكم بالجواب، ذهب إليه فقال: (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) [يوسف:46] وصفه بالمبالغة في الصدق حسبما علمه وجربه من أحواله في مدة إقامته في السجن، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي للمستفتي أن يعظم المفتي: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ [يوسف:46].
(أبو بكر الصديق مع الصدق:
(حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: كنت جالسا عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه، حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أما صاحبكم فقد غامر). فسلم وقال: إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى علي، فأقبلت إليك، فقال: (يغفر الله لك يا أبا بكر). ثلاثا، ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر، فسأل: أثم أبو بكر، فقالوا: لا، فأتى إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسلم، فجعل وجه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتمعر، حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم، مرتين، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدق. وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي). مرتين، فما أوذي بعدها.
(أبو ذر مع الصدق:
ومن الصحابة المشهورين بالصدق أيضاً أبو ذر رضي الله تعالى عنه،
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق من أبي ذر.
(كعب بن مالك وصدقه في حادثة تبوك:(6/303)
وكذلك من الصحابة المشهورين بالصدق كعب بن مالك رضي الله عنه، قال حين تخلف عن تبوك: (والله ما أنعم الله علي من نعمة بعد إذ هداني أعظم من صدقي لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا أكون كذبت فأهلك كما هلك الذين كذبوا حين أُنزل الوحي: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [التوبة:95]) الحديث في البخاري. وفي البخاري أيضاً عن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب بن مالك لما عمي قال: [سمعت كعب بن مالك يحدث فينا حين تخلف عن قصة تبوك فقال: والله ما أعلم أحداً أبلاه الله في صدق الحديث أحسن مما أبلاني، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى يومي هذا كذباً أبداً] سنوات طويلة، وأنزل الله عز وجل على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:117 - 119].
(مجالات الصدق:
وللصدق مجالات عديدة منها:
(أولاً: الصدق في الأقوال:(6/304)
الصدق يكون في الأقوال كما قلنا سابقاً، وهو: استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها، فحق على كل عبد أن يحفظ ألفاظه ولا يتكلم إلا بالصدق. وصدق اللسان أشهر أنواع الصدق وأظهرها، وأن يتحرز من الكذب ومن المعاريض التي تجانس الكذب، وينبغي أن يراعي معنى الصدق في ألفاظه التي يناجي بها ربه كقوله: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، فإن كان قلب العبد منصرفاً عن الله منشغلاً عن الدنيا وهو يقول: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض في الصلاة في الاستفتاح فهو كاذب. ومن الأقوال التي ينبغي الحرص على الصدق فيها: الحلف والقسم، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تحلفوا بآبائكم من حلف بالله فليصدق و من حلف له بالله فليرض و من لم يرض بالله فليس من الله.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (رأى عيسى بن مريم رجلا يسرق، فقال له: أسرقت؟ قال: كلا، والله الذي لا إله إلا هو، فقال عيسى: آمنت بالله، وكذبت عيني).
((حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تحلفوا بآبائكم من حلف بالله فليصدق و من حلف له بالله فليرض و من لم يرض بالله فليس من الله.
(اليمين على نية المستحلف:
فلا يجوز لك أن توري فيه، ولا تجوز التورية في القسم عند القاضي أو عند الشخص الذي تريد أن تقسم له إذا كان صاحب حق، فلا تنفعك توريتك في اليمين، وهي حرام والواجب أن تكون يمينك على ما يصدقك به صاحبك ويفهم من كلامك، فلو حلف أنه مثلاً لم يأخذ منه مالاً ونوى في نفسه أنه لم يأخذ منه مالاً في هذا المجلس فلا ينفعه ذلك ولا يجعل المال حلالاً له، يمينك على ما صدقك به صاحبك، والحقوق لا يجوز لك أبداً التورية فيها.
((حديث عمر الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) وما أعظم هذا الحديث.(6/305)
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اليمين على نية المستحلف.
(ثانياً: الصدق في الأفعال:
ومن مجالات الصدقِ الصدق في الأفعال: وهو استواء الفعل على الأمر والمتابعة كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام وكما أمر، كاستواء الرأس على الجسد، وهو أن تصدق السريرة العلانية حتى لا تدل أعمالهم الظاهرة من الخشوع ونحوه على أمر في باطنه، والباطن بخلافه، فالمراءون أعمالهم الظاهرة بخلاف بواطنهم، فلذلك ليسوا بصادقين في أعمالهم، والأعمال منها ما يكون أعمال قلب ومنها ما يكون أعمال جوارح.
(والأمثلة في الصدق مع الله والإخلاص لله كثيرة ومنها: قصة الثلاثة الذين أطبق عليهم الغار فقال بعضهم لبعض: إنه والله لا ينجيكم إلا الصدق فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق الله فيه، توسلوا إلى الله بصالح أعمالكم، فكان كل واحد يذكر أرجى ما عمل في حياته لله وأصدق ما حصل منه لله حتى كان السبب في انفراجها ذلك الرجل الذي وفر أجرة الأجير وحفظها كأمانة ونماها له أيضاً حتى صارت وادياً من المال وجاء الأجير فصدقه في هذا المال المحفوظ عنده وأعطاه إياه وسلمه كاملاً بعد تنميته. هل أخذ أجرة على التنمية؟ بل هل التنمية واجبة عليه؟ لا. لكنه نماه مجاناً ولم يأخذ أجرة على التنمية ولم يذكر في الحديث أنه قال له: جزاك الله خيراً أو أثنى عليه، فاستاقه فلم يبقِ منه شيئاً، حتى ما قال: خذ نصفه أو خذ أرباحه وأعطني أجرتي فقط، أخذه فلم يبقِ منه شيئاً فكان الفرج بسبب الدعوة الأخيرة مع الدعوات السابقة.(6/306)
((حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم، حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسَدَّتْ عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبقُ قبلهما أهلا ولا مالا، فَنَاءَ بِي في طلب شيء يوما، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي، فأردتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سَنَة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أُجَرَاء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله أَدِّ إلي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون).
{تنبيه}: (بعض الناس قد يصدقون في تعبيراتهم الفعلية وقد يكذبون، وقد يفعل الإنسان فعلاً يوهم به حدوث شيء لم يحدث أو يعبر به عن وجود شيء غير موجود وذلك على سبيل المخادعة، فالمخادعة مثلما تكون بالقول تكون بالفعل أيضاً، وربما يكون الكذب في الأفعال أشد خطراً وأقوى تأثيراً من الكذب في الأقوال.(6/307)
من أمثلة الكذب في الأفعال ما فعله إخوة يوسف: (وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ) [يوسف:16] هذه بكاء كذب ليس ببكاء حقيقي ولا صحيح: (وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) [يوسف:18] جعلوا في القميص دماً، ذبحوا شاة فصبغوها فجعلوا الدم في هذا القميص، ليقولوا: إن الذئب قد أكله، ولكن نبي الله يعقوب بفطنته وفراسته عرف أن هذا القميص مصبوغ بدم كذب، فليس فيه تشقيق ولا آثار مخالب ولا أنياب، فاستغرب من كلامهم واستعجب وقال: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) [يوسف:18]
ما أعجب هذا الذئب الذي يخلع القميص عن الولد ثم يأكل الولد وليس في القميص آثار مخالب ذلك الأسد أو أنياب الذئب ولذلك جاءوا على قميصه بدم كذب، وجاءوا أباهم عشاءً يبكون بكاء كذب، إذاً: الكذب يكون في الأقوال ويكون في الأفعال وقالوا ـ كذباً ـ: (يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) [يوسف:17]
فجمعوا بين الكذب في القول والكذب في العمل. وكذلك فإن الأعمال التي يقوم بها المراءون ولو شيدوا مساجد وطبعوا كتباً وعملوا صدقات، إذا كانوا يقصدون الرياء فإنها أعمال كذب وليست بصدق. وقد يكون الكذب في الحركات التعبيرية، كإشارات اليد والعين، والحاجب والرأس، فإن كانت مطابقة للواقع فهي صدق وإن كانت مخالفة فهي كذب، فلو سئل إنسان مثلاً: هل أودع فلان عندك مالاً؟ فهز برأسه نافياً دون أن يتكلم وقد أودع صاحبه عنده المال فعلاً فإن هذه الحركة كذب.
(ثالثاً: الصدق في النية والإرادة:
ومن مجالات الصدق: الصدق في النية والإرادة كما ذكرنا المثال عليه سابقاً وهو الإخلاص في قصة أصحاب الغار الثلاثة. ولنعلم أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة: عالم وقارئ ومجاهد، لأنهم ما أرادوا وجه الله. كما في الحديث الآتي: ((6/308)
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأُتِيَ به فَعَرَّفَه نِعَمَه فَعَرَفَهَا قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأُتِيَ به فَعَرَّفَه نِعَمَه فَعَرَفَهَا قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأُتِيَ به فَعَرَّفَه نِعَمَه فَعَرَفَهَا قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن يُنْفَقَ فيها إلا أنفقتُ فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقالَ هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار.
(أما الصادقون في النية والعمل، الذين يصدقون الله فإن الله يصدقهم ويصدقهم ويأتي لهم بالنتائج التي يحبها سبحانه وتعالى، ومن الأمثلة التي وردت في السنة ما جاء في حديث شداد بن الهاد الآتي:
(حديث شداد بن الهاد رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فآمن به واتبعه ثم قال أهاجر معك فأوصى به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعض أصحابه فلما كانت غزوة غنم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبيا فقسم وقسم له فأعطى أصحابه ما قسم له وكان يرعى ظهرهم فلما جاء دفعوه إليه فقال ما هذا قالوا قسم قسمه لك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخذه فجاء به إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال ما هذا قال قسمته لك قال ما على هذا اتبعتك ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى ها هنا وأشار إلى حلقه بسهم فأموت فأدخل الجنة فقال إن تصدق الله يصدقك فلبثوا قليلا ثم نهضوا في قتال العدو فأتى به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحمل قد أصابه سهم حيث أشار فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهو هو قالوا نعم قال صدق الله فصدقه ثم كفنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قدمه فصلى عليه فكان فيما ظهر من صلاته اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك فقتل شهيدا أنا شهيد على ذلك.(6/309)
(وكذلك الصدق يكون فيما يريد العبد أن يعزم عليه في المستقبل كما هو حال هذا الصحابي، فبعض الناس يقول: إن آتاني الله مالاً لأتصدقن ولأفعلن، هذه عزيمة لشيء في المستقبل، وقد تكون حقاً: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب:23]
(وقد تكون كذباً: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ) [التوبة:75 - 77].
(وكذلك فإن الصدق يكون في الأحوال كلها وهذه رتبة الصديقين الذين يصدقون في الأقوال والأعمال والنيات والعزائم.
(دواعي الصدق:
الصدق له دواعٍ كثيرة منها ما يلي:
(أولاً: العقل السليم:
فإن العقل الصحيح يدفع إلى الصدق.
(ثانياً: الشرع المؤكد:
الفطرة التي فطر الله الناس عليها والعقول السليمة تحب الصدق وتميل إليه وتنفر من الكذب، والدين يرد فيصدق العقل الصحيح، فالدين لا شك أنه ورد باتباع الصدق وحظر الكذب، لكن الدين يزيد أشياء على الفطرة، والفطرة السليمة لا تعطي التفصيلات لكن تميل إلى الحق، فالعقل قد يقول بجواز الكذب إذا كان فيه مصلحة أو لدفع مضرة؛ لكن يأتي الدين فيقول: إن الكذب كله حرام لا يجوز، إلا في حال الضرورة والقلب مطمئن بالإيمان.
(ثالثاً المروءة:
فهي خلق مانع من الأخلاق المشينة كالكذب.
(رابعاً حب التعود على الصدق:
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إنما العلم بالتعلم و إنما الحلم بالتحلم و من يتحر الخير يعطه و من يتق الشر يُوَقَّه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إنما العلم) أي تحصيله.(6/310)
(بالتعلم) بضم اللام على الصواب كما قاله الزركشي ويروى بالتعليم أي ليس العلم المعتبر إلا المأخوذ عن الأنبياء وورثتهم على سبيل التعليم وتعلمه طلبه واكتسابه من أهله وأخذه عنهم حيث كانوا فلا علم إلا بتعلم من الشارع أو من ناب عنه منابه وما تفيده العبادة والتقوى والمجاهدة والرياضة إنما هو فهم يوافق الأصول ويشرح الصدور ويوسع العقول ثم هو ينقسم لما يدخل تحت دائرة الأحكام ومنه ما لا يدخل تحت دائرة العبادات وإن كان مما يتناوله الإشارة ومنه ما لا تفهمه الضمائر وإن أشارت إليه الحقائق في وضوحه عند مشاهده وتحققه عند متلقيه فافهم قال ابن مسعود تعلموا فإن أحدكم لا يدري متى يحتاج إليه وقال ابن سعد ما سبقنا ابن شهاب للعلم إلا أنه كان يشد ثوبه عند صدره ويسأل وكنا تمنعنا الحداثة وقال الثوري من رق وجهه رق علمه وقال مجاهد لا يتعلم مستحي ولا متكبر وقيل لابن عباس بما نلت هذا العلم قال بلسان سؤول وقلب عقول
(وإنما الحلم بالتحلم) أي ببعث النفس وتنشيطها إليه قال الراغب: الحلم إمساك النفس عن هيجان الغضب والتحكم إمساكها عن قضاء الوطر إذا هاج الغضب
(ومن يتحر الخير يعطه) أي ومن يجتهد في تحصيل الخير يعطه اللّه تعالى إياه.
(ومن يتق الشر يوقه) زاد الطبراني والبيهقي في روايتيهما ثلاث من كن فيه لم يسكن الدرجات العلى ولا أقول لكم الجنة من تكهن أو استقسم أو ردّه من سفر تطير.
(تنبيه) قال بعضهم: ويحصل العلم بالفيض الإلهي لكنه نادر غير مطرد فلذا تمم الكلام نحو الغالب قال الراغب: الفضائل ضربان نظري وعملي وكل ضرب منها يحصل على وجهين أحدهما بتعلم بشرى يحتاج إلى زمان وتدرب وممارسة ويتقوى الإنسان فيه درجة فدرجة وإن فيهم من يكفيه أدنى ممارسة بحسب اختلاف الطبائع في الذكاء والبلادة، والثاني يحصل [ص 570] بفيض إلهي نحو أن يولد إنسان عالماً بغير تعلم كعيسى ويحيى عليهما الصلاة والسلام وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام الذين حصل لهم من المعارف بغير ممارسة ما لم يحصل لغيرهم وذكر بعض الحكماء أن ذلك قد يحصل لغير الأنبياء عليهم السلام في الفيئة بعد الفيئة وكلما كان يتدرب فقد يكون بالطبع كصبي يوجد صادق اللّهجة وسخياً وجريئاً وآخر بعكسه وقد يكون بالتعلم والعادة فمن صار فاضلاً طبعاً وعادة وتعلماً فهو كامل الفضيلة ومن كان رذلاً فهو كامل الرذيلة.
(ولله درُ من قال:
عود لسانك قول الصدق تحظ ... به إن اللسان لما عودت معتاد(6/311)
موكل بتقاضي ما سلمت له ... في الخير والشر فانظر كيف ترتاد
إذاً: الصدق عادة إذا كان الرجل لا زال يصدق ويتحرى الصدق يكون الصدق له في النهاية سجية وعادة ويكون سهلاً، أما في أول الأمر فيكون صعباً يحتاج إلى مجاهدة؛ لأن النفس أمارة بالسوء، تقول: اكذب فالكذب فيه منفعة، اكذب فالكذب يرفع عنك المضرة ونحو ذلك، ولكن إذا جاهد العبد نفسه فإنه يصل إلى مرتبة الصدق.
(علامات الصدق:
للصدق علامات، منها ما يلي:
(أولاً: اطمئنان القلب له:
يحدثك الشخص أحياناً بحديث فترتاح إليه نفسك وتطمئن، كما أن من علامات الكذب حصول الريبة والشك، يخالج نفسك الشعور بأن هذا ليس بصحيح فإن الصدق طمأنينة و الكذب ريبة كما في الحديث الآتي:
((حديث علي الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة و الكذب ريبة.
لو قال قائل: كيف نستدل على الصدق؟ نقول: من علامات الصدق: أن تطمئن نفسك للكلام، ومن علامات الكذب أن لا تطمئن نفسك للكلام، وهذه نفس المؤمن طبعاً، أما نفس الإنسان العاصي قد تطمئن للكذب وتشك في الصدق.
(ثانياً: كتمان المصائب والطاعات:
وكراهة اطلاع الخلق على ذلك، فهو يصبر لله على الطاعة وعلى المكروه، ونحن ـ في موضوع الصدق ـ «لنا الظاهر وَنَكِلُ إلى الله السرائر»، قد يخبرك أشخاص بأشياء وأنت لا تدري عن حقيقتها فلك ظاهر حالهم، فإن كان الذي يظهر لك من حاله الصدق فاقبل كلامه، وإن كان الذي يظهر لك منه الكذب والفسق والفجور فاتهمه، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة.(6/312)
وهذه مقولة عظيمة من عمر رضي الله عنه، انظر إلى حال الرجل من بني إسرائيل لما جاءه صديق له يستسلفه ألف دينار، قال صاحب المال: ائتني بالشهداء أشهدهم، قال: كفى بالله شهيداً، قال: فائتني بالكفيل لو هربت يكون بدلاً منك، ولو عجزت يسدد عنك، قال: كفى بالله كفيلاً، قال: صدقت، ظهر له من حال صاحبه الصدق، فدفعها إليه وحصلت القصة بعد ذلك، حيث ذهب الرجل وتاجر وعبر البحر وجاء الموعد المحدد ولم يجد سفينة ليرجع بها؛ ليعطي المال لصاحبه فما عنده حيلة، فأخذ خشبة ونقرها ووضع فيها الألف دينار، ودعا الله عز وجل فقال: هذه حيلتي فأوصل هذه الأمانة ورمى الخشبة في البحر، وخرج صاحبه في الشاطئ الآخر على الموعد يتلمس هذا الرجل على الموضع المضروب بينهما ليأتي، لكنه لم يجد سفينة ولم يأتِ أحد ووجد خشبة تتهادى على الماء فقال: آخذها حطباً لأهلي، فأخذها فنشرها فإذا فيها الألف دينار والرسالة من صاحبه، فأدى الله الأمانة عن ذلك الرجل.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن رجلا من بني إسرائيل سأل رجلا أن يسلفه ألف دينار , فقال له: ائتني بشهداء أشهدهم عليك , فقال: كفى بالله شهيدا. قال: فائتني بكفيل. قال: كفى بالله كفيلا. قال: صدقت. قال: فدفع إليه ألف دينار إلى أجل مسمى فخرج في البحر و قضى حاجته و جاء الأجل الذي أجل له , فطلب مركبا فلم يجده فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار , و كتب صحيفة إلى صاحبها ثم زجج موضعها , ثم أتى بها البحر فقال: اللهم إنك قد علمت أني استسلفت من فلان ألف دينار فسألني شهودا و سألني كفيلا , فقلت: كفى بالله كفيلا فرضي بك و قد جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه بحقه فلم أجد و إني استودعتكها , فرمى بها في البحر! فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبا يقدم بماله فإذا هو بالخشبة التي فيها المال ,
فأخذها حطبا فلما كسرها وجد المال و الصحيفة فأخذها , فلما قدم الرجل قال له: إني لم أجد مركبا يخرج , فقال: إن الله قد أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة , فانصرف بالألف راشدا.
(أمور مهمة في الصدق وأهله:
(الاستدلال على الصدق من مظانه:(6/313)
يستدل على الصدق من أهله ومظانه، كما حصل في قصة الإفك التي اتهمت فيها عائشة رضي الله عنها، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يبحث عن الحقيقة ويسأل ويتحرى .. يسأل من؟ (أشار علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال له: وسل الجارية تصدقك، ـ بريرة جارية عند عائشة معروفة بالصدق والأمانة، تاريخها صدق وأمانة وهي ملازمة لعائشة، وتعرف سرها وتطلع في بيتها على الأمور الكثيرة ـ فقال النبي عليه الصلاة والسلام لبريرة، ولم يسأل الناس الآخرين البعيدين، الإنسان عندما يريد الصدق يتحرى الصدق من مظانه، هل رأيتِ من شيء يريبك؟ قالت: ما رأيت أمراً أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن ـ يعني الشاة ـ فتأكله).
(تصديق الحق ... :
ومن الأمور المهمة أن نصدق الحق، لذلك تجد كثيراً من الأحاديث فيها صدقت .. صدقت .. صدقت، صدق فلان .. صدق فلان، وأعلى أنواع التصديق ما يصدق الله به عبده ونبيه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فيخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء فيأتي الوحي تصديقاً لكلام نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما حصل في خيبر، قال أبو هريرة والحديث في البخاري (شهدنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيبر فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لرجل ممن معه يدعي الإسلام: هذا من أهل النار، فلما حضر القتال قاتل الرجل من أشد القتال، وكثرت به الجراح فأثبتته وعجز عن الحركة، فجاء رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله! أرأيت الرجل الذي تحدثت أنه من أهل النار قد قاتل في سبيل الله من أشد القتال فكثرت به الجراح، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أما إنه من أهل النار، فكاد بعض المسلمين أن يرتاب، فبينما هو على ذلك إذ وجد الرجل ألم الجراح فأهوى بيده إلى كنانته فانتزع منها سهماً فانتحر به، فاشتد رجال من المسلمين إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: يا رسول الله! صدق الله حديثك قد انتحر فلان فقتل نفسه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا بلال قم فأذن، ألا يدخل الجنة إلا مؤمن، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر).(6/314)
لو قال واحد: كيف يقاتل مع المسلمين؟ نقول: إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وهذا له أمثلة كثيرة في الواقع، فتجد الرجل ينشر العلم ويطبع الكتب ويبني المساجد، ويفعل أشياء ينتفع بها المسلمون وهو فاجر، نقول: هذا لا يجعل فجوره صلاحاً إذا كانت نيته ليست لله لكن هذا مصداق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام: إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر. وقد صدق الله صحابة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فمن ضمن تلك الأمثلة ما روى البخاري رحمه الله عن زيد بن أرقم قال: (كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن أبي بن سلول يقول: لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا * لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون:7 - 8] فذكرت ذلك لعمي، فذكر عمي ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام فدعاني، فحدثته بالذي سمعت فأرسل إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا، وكذبني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصدقهم بما ظهر من حلفهم، فأصابني غمٌ لم يصبني مثله قط، فجلست في بيتي وقال عمي: ما أردت إلا أن كذبك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومقتك فأنزل الله تعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ... [المنافقون:1] .. الآيات وأرسل إلي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقرأها، قال: قد صدقك الله يا زيد) نزلت الآية تصديقاً للصحابي. ونحن نأخذ الحق ونصدقه ولو كان مصدره رجلاً كافراً، ولو كان مصدره الشيطان، إذا كان حقاً نصدق به ولا يمنعنا جرم الكافر أن نصدق كلامه إذا كان حقاً، وبعض أهل الكتاب كانوا يخبرون بأشياء من الصدق والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصدقهم، مثل المرأتان اليهوديتان اللتان جاءتا إلى عائشة يخبرانها عن عذاب القبر، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام فصدق كلام اليهوديتين بعذاب القبر.(6/315)
من الأمثلة عن جابر رضي الله عنه قال: (لما رجعت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مهاجرة البحر الذين ذهبوا إلى الحبشة - قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم لما رجعوا: ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة، قالت فتية منهم: بلى يا رسول! بينا نحن جلوس مرت بنا عجوزٌ من عجائز رهبانهم تحمل على رأسها قُلَّةً من ماء فمرت بفتىً منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها، ثم دفعها فخرت على ركبتيها فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت العجوز التفتت إليه فقالت: سوف تعلم يا غُدر ـ يعني يا غادر ـ إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون كيف أمري وأمرك عنده غداً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: صدقت .. صدقت، كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم؟) حديث حسن حسنه الألباني في مختصر العلو. وكذلك فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد صدق كلاماً قاله الشيطان لما وكل أبا هريرة بحفظ بيت المال وجاء الشيطان بهيئة رجل يحثو منه، فألقى أبو هريرة القبض عليه في أول ليلة وثاني ليلة وثالث ليلة وفي النهاية قال له: إني أعلمك آية إذا قلتها قبل النوم حفظك الله لا يقربك شيطان، قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ... ) [البقرة:255] وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح. أبو هريرة حريص على الخير، أطلق الرجل لأجل هذه الفائدة فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أما إنه قد صدقك وهو كذوب! تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليالٍ يا أبا هريرة؟ قال: لا. قال: فذاك شيطان) إذاً: قد يصدق الكذوب، فإذا قال صدقاً فإننا نقبله ولا نقول: لا؛ لأنهم يكذبون أو فجرة لا نقبل منهم شيئاً ولا نصدقهم، بل نصدق ما قالوه إذا وافق الدين.(6/316)
والنبي عليه الصلاة والسلام صدق أحد أحبار اليهود، قال: (يا محمد! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع فيقول: أنا الملك، فضحك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر -صدقه بالضحك الذي هو كناية عن الرضا والإقرار بما قاله- ثم قرأ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]).
(الصدق المذموم:
هل هناك صدق مذموم؟ الجواب: نعم، من الصدق المذموم: الغيبة والنميمة والسعاية، ولو ذكره بما ليس فيه، لكان هذا بهتاناً، لكن لو ذكرته بما فيه وقلت أنا صادق .. فربما عذر المغتاب نفسه بأنه يقول حقاً لكن هذا بعيد عن الصواب ومخالف للأدب؛ لأنه ولو كان في الغيبة صادقاً فقد هتك ستراً كان صونه أولى، وجاهر من أسر وأخفى، وربما دعا المغتاب وهذه نكتة لطيفة يشير إليها الماوردي رحمه الله في كتاب أدب الدنيا والدين، يقول: فلان فيه كذا وفعل وفعل فهذا الرجل إذا كان مصراً على فسفه وأنت تأتي وتعلن ما فعل الرجل، ربما دعا المغتاب ذلك إلى إظهار ما كان يستره والمجاهرة بما كان يخفيه، يقول: مادام أن الأمر يفتضح بين الناس، سأبهى بالفسق وأعلن به ما دمت قد افتضحت، فهل الذي ذكره وأفشى أمره ساعده على الخير؟ لا. لم يفده إلا فساد أخلاقه بدون صلاح.
(صدق النمام:(6/317)
وكذلك النمام والقتات، النمام يمكن أن يكون في نقل الكلام في غاية الأمانة لا يزيد ولا ينقص من الكلام، يذهب للشخص الآخر يقول: فلان قال عنك في المجلس الفلاني كذا وكذا وكذا، عابك وقال عنك كذا وكذا وكذا، ونقل الكلام بأمانة وبصدق ما كذب ولا افترى، فما حكم هذه النميمة ما حكم هذا الصدق في النقل؟ حرام، نميمة، النمام الذي يكون مع القوم يتحدثون فينم حديثهم وينقله. ما هو الفرق بين النمام والقتات؟ النمام عرفناه فمن هو القتات؟ النمام الذي يكون مع القوم فيسمع الكلام وينقله للإفساد، والقتات الذي يسمع إليهم وهم لا يعلمون فينقل خبرهم، أي: يتجسس عليهم ويسمع كلامهم وينقله ولا يكذب، ولا يزيد ولا ينقص، ينقل بدقة لكن لأجل الفساد، فهذا من المتجسسين وكلاهما لا يدخلان الجنة لأن الحديث جاء: (لا يدخل الجنة قتات) وكذلك: (لا يدخل الجنة نمام).
(صدق الوشاية:
أما السعاية فهي الوشاية: أن يشي بإنسان عند صاحب سلطان أو منصب لكي يوقع به، وهذه السعاية والوشاية هي شر الثلاثة؛ لأنها تجمع إلى مذمة الغيبة، ولؤم النميمة، التغرير بالنفوس والأموال، ووردت أمثلة وقصص لهذا فمما ذكره ابن عبد البر في بهجة المجالس قال: استراح رجل إلى جليس له في السلطان، يعني: رجل تكلم مع رجل في المجلس فوقع في السلطان فاستراح ووثق بالذي أمامه فتكلم في السلطان ـ هذا الآخر كان غير ثقة ولا يحفظ الحديث ـ فذهب إلى السلطان وقال: فلان قال عنك كذا وكذا وكذا، فرفع ذلك عليه، فلما أوقف السلطان ذلك القائل فقال له: أنت الذي قلت عني كذا وكذا وكذا، فأنكر أن يكون أحد سمع ذلك منه، فقال السلطان: بل فلان سمع ذلك منك هل ترضى به؟ قال: نعم. على أساس أنه صديق وصاحب، فكشف الستر عن الرجل، وكان قد خبأه عنده فقال: بلى أنت قلت ذلك لي، فسكت المرفوع عليه ساعة ثم أنشأ يقول:
أنت امرؤ إما ائتمنتك خالياً ... فخنت وإما قلت قولاً بلا علم
فأنت من الأمر الذي قلت ... بيننا بمنزلة بين الخيانة والإثم
إما أنك خائن أو آثم. وسعي بأحدهم إلى سلطان وكان السلطان عاقلاً فقال للساعي والواشي: أتحب أن نقبل منك ما تقول فيه على أن نقبل منه ما يقول فيك؟ قال: لا. قال: فكف عن الشر يكف عنك الشر.
(تصديق العرافين والكهان:(6/318)
ومن التصديق المحرم تصديق العرافين والكهان وهذا أعظم الأشياء وأخطرها؛ لأنه يتعلق بالتوحيد، وهو يقدح فيه قدحاً بليغاً، بل إن الذي يصدق العرافين والكهان يكون مشركاً بالله العظيم؛ لأنه يعتقد أن هناك من الناس من دون الله من يعلم الغيب، والله يقول: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) [النمل:65]
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد.
فلو ذهب رجل إلى الكاهن وقال انظر لي فلانة هذه التي أنا مقدم على زواجي منها، اكشف لي المستقبل، اقرأ الكف والفنجان، اضرب بالودع، انظر لي هل هي خير أو شر في المستقبل، إلى غير ذلك، وذهب الكاهن وادعى النظر ثم قال له: إنها خير لك في المستقبل فصدق السائل الكاهن فإذا صدقه فقد كفر ولا شك في ذلك. وكثير من الناس يأتون إلى الكهان لهذه الأسباب فيقعون في الشرك والعياذ بالله، وإن قال أنا أذهب وأجرب، آخذ كلامه وأجرب، فنقول: مجرد ذهابك إليه حرام وإن فعلت فإنك لا تكفر لكن لا تقبل لك صلاة الأربعين يوماً، هذه هي العقوبة، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث صفية بنت أبي عُبيد الثابت في صحيح مسلم) عن بعض أزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة.
فالكهان قد يصدقون ويأتيهم خبر موثوق، ثقة ثقة فكيف ذلك؟
اسمع إلى الحديث الآتي:
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) قالت: سأل أناس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الكهان، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ليسوا بشيء). قالوا: يا رسول الله، فإنهم يحدثون أحياناً بالشيء يكون حقاً؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تلك الكلمة من الحق، يخطفها الجني، فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة).(6/319)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كالسلسة على صفوان ـ قال علي: وقال غيره: صفوان، ينفذهم ذلك ـ فإذا فزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم، قالوا للذي قال: الحق، وهو العلي الكبير. فيسمعها مسترقو السمع، ومسترقو السمع هكذا واحد فوق الآخر ـ ووصف سفيان بيده وفرج بين أصابع يده اليمنى، نصبها بعضها فوق بعض ـ فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي بها إلى صاحبه فيحرقه، وربما لم يدركه حتى يرمي بها الذي يليه، إلى الذي هو أسفل منه، حتى يلقوها إلى الأرض ـ وربما قال سفيان: حتى تنتهي إلى الأرض ـ فتلقى على فم الساحر، فيكذب معها مائة كذبة، فيصدق فيقولون: ألم يخبرنا يوم كذا وكذا، يكون كذا وكذا، فوجدنا حقا؟ للكلمة التي سمعت من السماء).
(معنى (إذا قضى الله الأمر في السماء): بأمر معين، بقبض روح فلان، بمرض فلان، بشفاء فلان، بولد فلان وولادة فلان ونحو ذلك:
((ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كالسلسة على صفوان) مثل جر سلسلة على الصخر، فكذلك صوت أجنحة الملائكة الخاضعة لأوامر الله النازلة إليهم والتي لابد لهم من تنفيذها: (فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير، (فيسمعها مسترقو السمع: الجن يركب بعضهم فوق بعض إلى السماء يسترقون السمع، ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض.
(فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي بها إلى صاحبه فيحرقه: فأحرقه وما معه من الخبر، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيصل الخبر إلى الكاهن ويكون هذا فعلاً خبر ثقة صحيح مؤكد؛ لأنه مصدره من السماء عن طريق هؤلاء الجن المسترقين، لكن هذا الكاهن يعمل هذا الخبر الواحد الصحيح وسيلة لكي يدخل الناس في الشرك ويوقعهم في الشرك والعياذ بالله(6/320)
- فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمع من السماء. أي: الكاهن يقول: سوف يحدث كذا يوم كذا، ويحدث كذا يوم كذا، وواحد من هذه الكذبات الكثيرة صدق، ومشكلة الناس أنهم لا يتذكرون إلا الصدق، وأما كذبات الكاهن الأخرى فلا يتذكرونها، يقولون: فعلاً فلان قال لنا يوم كذا سيحدث كذا وحدث فعلاً، هذا رجل مجرب فعلاً يعلم ما في الغيب فاذهبوا إليه. والله عز وجل قادر على أن يحرق الجن مسترقي السمع قبل أن يصلوا إلى السماء أصلاً، لكن الله عز وجل شاء أن يجعل هذا الحدث فتنة ليرى من يثبت على الدين والتوحيد ومن لا يثبت.
تصديق أمراء السوء:
ومن التصديق المحرم تصديق أمراء السوء، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أعيذك بالله يا كعب بن عجرة من أمراء يكونون من بعدي فمن غشي أبوابهم فصدقهم في كذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولا يرد علي الحوض ومن غشي أبوابهم أو لم يغش فلم يصدقهم في كذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وسيرد علي الحوض.
فالحاصل أن الصدق نافع جداً في أشياء كثيرة: فهو ينفع الداعية إلى الله عز وجل؛ لأن الناس يتأثرون بالصادق ويظهر صدق الداعية في وجهه وصوته، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يتحدث إلى أناس لا يعرفونه فيقولون: والله ما هو بوجه كذاب ولا صوت كذاب، ولا شك أن ظهور أثر الصدق في وجه الداعية وصوته يؤثر على المخاطب ويحمله على قبول القول واحترام ما يصدر من الداعية لأن الكلام إذا خرج من القلب وصل إلى القلب، إلا إذا كان أعمى القلب، ومهما يكن من أمر فإن الصدق ضروري لكل مسلم.
(الحث على الاهتمام بتربية الأولاد على الصدق:(6/321)
وكذلك من الأمور المهمة في التربية: تربية الأولاد على الصدق، لابد أن يتربى المسلمون جميعاً على الصدق، لكن من الأشياء المهمة تربية الأولاد على الصدق، فالإسلام يوصي أن تغرس فضيلة الصدق في نفوس الأطفال حتى يشبوا عليها وقد ألفوها في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عبد الله بن عامر رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) قال: دعتني أمي يوما ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاعد في بيتنا فقالت ها تعال أعطيك فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما أردت أن تعطيه قالت أعطيه تمرا فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أما إنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
من قال لصبي: تعال هاك، ثم لم يعطه فهي كذبة).
(فهذه الحركة التي تفعلها بعض الأمهات تقبض يدها وتقول للولد: تعال أعطيك، لو كانت يدها فارغة فهي كاذبة، وتكتب عليها كذبة،
فانظر كيف يعلم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآباء والأمهات أن ينشئوا أولادهم نشأة يقدسون فيها الصدق، ويتنزهون عن الكذب، ولو تجاوز الآباء والأمهات عن هذه الأمور وقالوا: هذه توافه وهينة؛ فإن الأطفال سيكبرون وهم يعتبرون الكذب هيناً وهو عند الله عظيم. أما الكذب فلا شك أنه جماع كل شر، وقبل أن ندخل في موضوع الكذب إذا كان الوقت سيسعفنا في ذلك، فإن هناك بعض الأمور السريعة عن الصدق وهي:
(الصدق في البيع والشراء:
من المجالات المهم فيها الصدق: البيع والشراء. وما أكثر الكذب ـ الآن ـ في البيع والشراء؛ فإن الصدق في البيع والشراء سبب للبركة بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
((حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما).(6/322)
والآن الناس يغشون في الحراج وفي أسواق السيارات وغيرها، ولذلك كثير منهم لا بركة في مكاسبهم، وخصوصاً الذين يشتغلون في معارض السيارات من هؤلاء الدلالين وغيرهم، يقولون: (سكر في مويه) (ملح في مويه) و (كومة حديد) وسيارة لا تفتح ولا تغلق، لا تمشي إلى الخلف ولا إلى الأمام، ثم يقولون: برئت الذمة، وهم يعلمون الخلل الذي فيه، فهذا حرام، ولو رضي المشتري فهو حرام. ونحن في هذا الزمان وهو آخر الزمان، أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام أن الكذب سيفشو فيه، والصدق سيقل، وأن الصادقين سيضطهدون، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة.
في أمر عامة الناس، وكل أهل البلد، يتكلم في أمرهم الرجل التافه، فما أشبه زماننا هذا بما أخبر به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث الصحيح.
إذاً: هذا عصر يفشو فيه الكذب ويقل الصدق، ولذلك المؤمنون يتحرون الصدق ولا يدفعهم ألم الغربة إلى أن يكونوا مع الكذابين ولو كثر الكذب، ولقد أصبح الكذب ـ الآن ـ من أهون الأشياء عند الناس، تجد السنترال في الشركة أو الذي يرد على الهاتف في البيت يكذب، فلان موجود؟ لا. غير موجود، ويحلف على هذه الأشياء، فنسأل الله السلامة والعافية.
(الكذب أضراره وعواقبه:
الكذب جماع كل شر، وأصل كل ذم وما ذاك إلا لسوء عواقبه وخبث نتائجه
وما شيء إذا فكرت فيه ... بأذهب للمروءة والجمال
من الكذب الذي لا خير ... فيه وأبعد بالبهاء عن الرجال
والنبي عليه الصلاة والسلام كان يحارب الكذب محاربة شديدة، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد. ((6/323)
((حديث ابن مسعود الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر و إن البر يهدي إلى الجنة و ما يزال الرجل يصدق و يتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا و إياكم و الكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور و إن الفجور يهدي إلى النار و ما يزال الرجل يكذب و يتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا.
((حديث ابن عمر في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أفرى الفِرى أن يُريَ الرجل عينيه ما لم تريا.
((حديث عائشة الثابت في صحيح الجامع) قالت: كان أبغض الخلق إليه الكذب.
((حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع) قالت: كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا اطلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة لم يزل معرضاً عنه حتى يحدث توبة.
((حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب و إذا وعد أخلف و إذا ائتمن خان.
((حديث عبد الله ابن عمرو الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أربعٌ من كن فيه كان منافقا خالصا و من كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان و إذا حدث كذب و إذا عاهد غدر و إذا خاصم فجر.
((حديث أبي أمامة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اكفلوا لي بست أكفل لكم بالجنة: إذا حدث أحدكم فلا يكذب و إذا ائتمن فلا يخن و إذا وعد فلا يخلف و غضوا أبصاركم و كفوا أيديكم و احفظوا فروجكم.
(تحريم الكذب في الرؤيا:
((حديث ابن عباس الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من تحلَّم بحُلمٍ لم يره كُلِّف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قومٍ وهم له كارهون صُبَّ في أُذنيه الآنكُ يوم القيامة، ومن صور صورةً عُذِّب وكُلِّفَ أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ.
(عقوبة الكذب:
وعقوبة الكذاب شديدة بعد الموت كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في الرؤيا الصادقة التي رآها، وأخبر عنها لما سأل الملكين فقالا: (أما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، ثم ينتقل إلى الجانب الآخر ويعملون به مثل ذلك، فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق) فهذه عقوبته. وتأمل الحديث الآتي: ((6/324)
(حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: كان رسول اًلله صلى اًلله عليه وسلم ـ يعني ـ مما يكثر أن يقول لأصحابه: (هل رأى أحد منكم من رؤيا). قال: فيقصُّ عليه من شاء الله أن يقصَّ، وإنه قال ذات غداة: (إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي انطلق، وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه، فيتدهده الحجر ها هنا، فيتبع الحجر فيأخذه، فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل به مرَّة الأولى، قال: قلت لهما: سبحان الله ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا، فأتينا على رجل مستلق لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلُّوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقَّي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه - قال: وربما قال أبو رجاء: فيشقُّ - قال: ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه فيفعل مثل مل فعل المرة الأولى، قال: قلت: سبحان الله ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا، فأتينا على مثل التنُّور - قال: وأحسب أنه كان يقول - فإذا فيه لغط وأصوات، قال: فاطَّلعنا فيه، فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا، قال: قلت لهما: ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا، فأتينا على نهر - حسبت أنه كان يقول - أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة، فيفغر له فاه فيلقمه حجراً فينطلق يسبح، ثم يرجع إليه كلما رجع إليه فغر له فاه فألقمه حجراً، قال: قلت لهما: ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا، فأتينا على رجل كريه المرآة، كأكره ما أنت راء رجلاً مرآة، فإذا عنده نار يحشُّها ويسعى حولها، قال: قلت لهما: ما هذا؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا، فأتينا على روضة معتمة، فيها من كل لون الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل، لا أكاد أرى رأسه طولاً في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قطُّ، قال: قلت لهما: ما هذا ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا فانتهينا إلى(6/325)
روضة عظيمة، لم أر روضة قطُّ أعظم منها ولا أحسن، قال: قالا لي: ارق فيها، قال: فارتقينا فيها، فانتهينا إلى مدينة مبنيَّة بلبن ذهب ولبن فضة، فأتينا باب المدينة فاستفتحنا ففتح لنا فدخلناها، فتلقَّانا فيها رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء، وشطر كأقبح ما أنت راء، قال: قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، قال: وإذا نهر معترض يجري كأن ماءه المحض في البياض، فذهبوا فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة، قال: قالا لي: هذه جنة عدن وهذاك منزلك، قال: فسما بصري صعداً، فإذا قصر مثل الربابة البيضاء، قال: قالا لي: هذاك منزلك، قال: قلت لهما: بارك الله فيكما ذراني فأدخله، قالا: أما الآن فلا، وأنت داخله، قال: قلت لهما: فإني قد رأيت منذ الليلة عجباً، فما هذا الذي رأيت؟ قال: قالا لي: أما إنا سنخبرك، أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة، وأما الرجل الذي أتيت عليه، يشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، فإنه الرجل يغدو من بيته، فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق، وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل بناء التنُّور، فإنهم الزناة والزواني، وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجارة، فإنه آكل الربا، وأما الرجل الكريه المرآة، الذي عند النار يحشُّها ويسعى حولها، فإنه مالك خازن جهنم، وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة). قال: فقال بعض المسلمين: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وأولاد المشركين، وأما القوم الذين كانوا شطراً منهم حسن وشطراً منهم قبيح، فإنهم قوم خلطوا عملاً صالحا وآخر سيِّئاً، تجاوز الله عنهم).(6/326)
(قال الحسن البصري عن هذه النوعية: [خرج عندنا رجل في البصرة فقال: لأكذبن كذبة يتحدث بها الوليد، قال الرجل: فما رجعت إلى منزلي حتى ظننت أنها حق لكثرة ما رأيت الناس يتحدثون بها] هو الذي كذبها يقول: ما رجعت إلى منزلي حتى ظننت أنها حق لكثرة ما رأيت الناس يتحدثون بها. فهؤلاء الذين يروجون الإشاعات، ويختلقون الأخبار، ويستغلون الوسائل المختلفة لنشرها؛ فتعم المجتمع لأنها تسمع بجميع الوسائل المسموعة، لا شك أن عذابهم يوم البرزخ أليم، وعذابهم يوم القيامة أشد ألماً وأنكى وأخزى، ولا يقول الناس: هؤلاء أعداء الله ينشرون الأكاذيب ويخونون الأمين ويزعمون أن فلاناً صادق وهو خائن، ويروجون الإشاعات، ويغيرون الواقع، ويتهمون الأبرياء، والناس يروج عليهم هذا الكذب؛ لأنهم ليس عندهم هذه الوسائل التي أمامهم، نقول: رويداً .. سيأتي موعدهم عند الله، فإن الله عز وجل لا يضيع عنده حق وستكون عقوبة هؤلاء أليمة. الواحد قبل مجيء هذه الوسائل الحديثة التي تنشر الأخبار وتذيعها كان يكذب، وتنتشر الكذبة في الحي أو في البلد؛ لكن الآن عبر هذه الوسائل صار الكذب ينتشر في أقطار الأرض، فكيف يكون العذاب؟ أشد وأنكى.
(تحذير السلف من الكذب:
ولما علم الصالحون خطورة الكذب وأنه ثلث النفاق، وأنه يهدي إلى الفجور؛ خافوه على أنفسهم. عندما حضرت الوفاة عبد الله بن عمر قال: [إنه كان خطب إلي ابنتي رجل من قريش، وقد كان مني إليه شبه الوعد، وأخاف أن ألقى الله بثلث النفاق أشهدكم أني زوجته]. وكان الأئمة يستدلون بحركات الناس وأفعالهم وكلامهم على صدقهم، والبخاري لما خرج يطلب الحديث من رجل فرآه يشير إلى دابته برداء كأن فيه شعيراً وليس فيه شيء رجع وقال: «لا آخذ الحديث عمن يكذب على البهائم».
وقال الأحنف بن قيس: ما كذبت من يوم أسلمت إلا مرة واحدة. وكان السلف يدققون فيه جداً، لقي أحمد رحمه الله بعض أصحابه فقال: كيف حال أولادك؟ فقال الرجل: يقبلون يديك، قال الإمام أحمد: لا تكذب.
(قال بعض السلف: «من استحلى رضاع الكذب عسر عليه الفطام».
(وقال بعضهم لولده: يا بني! احذر الكذب فإنه شهي كلحم العصفور من أكل منه شيئاً لم يصبر عنه.
(وقال الأصمعي: قيل لكذاب: ما يحملك على الكذب؟ قال: أما إنك لو تغرغرت بمائه ما نسيت حلاوته. وقيل للكذاب هل صدقت قط؟ فقال: أخاف أن أقول لا فأصدق.
(دواعي الكذب:
والكذب له دواع كثيرة منها ما يلي: ((6/327)
أن يجلب لنفسه مغنماً أو يدفع عن نفسه ضرراً، أو أن يقول: الناس لا يقبلون حديثي ويقبلون عليّ إلا إذا كذبت، ولأني لا أجد من الأخبار الصحيحة ما أطرفهم به ويستظرفون به حديثي، فيستحل الكذب ويأتي بعجائب وغرائب من أجل أن يضحك الناس ويجمعهم حوله. وقد يكون الكذب من أجل التشفي بالخصم فيكذب عليه لأجل تشويه سمعته مثلاً وهكذا. وهذا الكذب خلق ذميم من اعتاده صعب عليه جداً أن يتخلص منه، لأن العادة طبع ثانٍ، إنسان فيه طبع يولد من بطن أمه فيه، والعادة التي يتعود عليها الإنسان طبع ثانٍ ويصعب جداً تغيير الطباع.
(تحريم الكذب في المزاح:
وبعض الناس يستسهلون الكذب في المزاح ويحسبون أنه مجال للهو، ويختلقون الأخبار من أجله، والإسلام أباح الترويح عن القلوب لكن ليس بالكذب فإن الكذب في المزاح محرم بتص السنة الصحيحة، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الترمذي) قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا قال: إني لا أقول إلا حقاً.
((حديث معاوية ابن حيدة الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ويلٌ للذي يُحَدِّثُ فيكذبُ ليضحك به القوم ويلٌ له ويلٌ له.
((حديث أبي أمامة الثابت في صحيح أبي داود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء و إن كان محقا، و بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب و إن كان مازحا، و بيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه.
(والشاهد: أن الناس يطلقون الأعنة لأخيلتهم في تلفيق الأضاحيك ولا يحسون حرجاً في إدارة الحديث المفترى المكذوب، ليتندر بالخصوم ويسخر منهم أو بخلق الله، وهذا اللهو بالكذب حرام ولا شك فيه، فقد يلجأ الإنسان للكذب للتملص من خطأ وقع فيه، وهذا غباء وهوان، وهو فرار من شر إلى شر أشد منه، فالواجب أن يعترف بخطئه فلعل صدقه ينجيه ويكون سبباً في مسح هفوته، ومما يروى عن الحجاج هذا الظالم الباغي الفاجر أنه كان إذا صدقه الخصم عفا عنه.
(لا تجمعن جوعا وكذبا:(6/328)
يأتيك في البيت تريد أن تضيفه فيقول: لا أشتهي ولا أريد, وهو يشتهي لكن يعتبر أنها من الحرج أو شيء من هذا القبيل فيكون قد وقع في الكذب، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(وهذه حال كثير من الناس إما أن يقول لا أريد لكن يقول لا أشتهي وهو يشتهي فهذا من الكذب. هذه بعض الأمثلة التي تقع، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الصادقين، وأن يباعد بيننا وبين الكذب، وأن يحفظ ألسنتنا وقلوبنا منه، إنه سميع قريب مجيب، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.
(علامات الكذب:
وكذلك فإن للكذب علامات وأمارات كما قلنا في الصدق، فمن علامات الكذاب ما يلي: (أولاً: أنك إذا لقنته حديثاً تلقنه ولم يكن بينه وبين ما حكيته فرق عنده، وأخذ مباشرة أي شيء تقوله.
ثانياً: أنك إذا شككته فيه تشكك حتى يكاد يرجع عنه.
ثالثاً: إنك إذا رددت عليه قوله، حصر وارتبك ولم يكن عنده نصرة المحتجين، ولا برهان الصادقين، إذا رددت عليه أبلس، أما الصادق إذا رددت عليه قوله ثبت عليه.
رابعاً: وكذلك ما يظهر عليه من الريبة والتخبط في الكلام؛ لأن هذا لا يمكن أن يدفعه عن نفسه، كما قالوا: الوجوه مرايا تريك أسرار البرايا.
(ولله درُ من قال:
حسب الكذوب من البلية ... بعض ما يحكى عليه
فإذا سمعت بكذبة ... من غيره نسبت إليه
من أضرار الكذب أن الكذاب ينسب إليه حتى الأشياء التي لم يكذب فيها، فيكذب على الكذاب، ولو تحرى الصدق يبقى متهماً، إذا عرف الكذاب بالكذب لم يكد يصدق في شيء وإن كان صادقاً، ومن آفة الكذاب نسيان كذبه؛ ولذلك فإن الكذاب يكون في منزلة وضيعة بين الناس.
(مواطن جواز الكذب:
مسألة: هل هناك أمور يجوز فيها الكذب؟
الجواب: نعم يجوز الكذب في الحرب، وإصلاح ذات البين، وبين الزوجين، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أم كلثوم بنت عقبة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ليس الكذاب بالذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا.
زاد مسلم (ولم أسمعه يُرَخَّص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها)(6/329)
((حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يحل الكذب إلا في ثلاث: يحدث الرجل امرأته والكذب في الحرب والكذب ليصلح بين الناس.
{تنبيه}: (النبي عليه الصلاة والسلام قد استخدم التورية، ولذلك نقول: الكذب يجوز في حالات لكن اللجوء إلى التورية أحسن، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه قد استخدم التورية فسئل عن النبي عليه الصلاة والسلام ومن معه فقال: هذا هادٍ يهديني السبيل فظنوا أنه على هداية الطريق وهو على هداية سبيل الخير.
ومن الأشياء التي يجوز الكذب فيها: بين الزوجين، ليس الكذاب الذي ينمي خيراً أو يقول خيراً، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً، أو ليصلح ما بينه وبين زوجته لو كذب عليها فإنه لا يعتبر بذلك كاذباً ولكن الإنسان يستخدم المعاريض كما ذكرنا. كان إبراهيم إذا طلبه إنسان لا يحب لقاءه خرجت الجارية فقالت: اطلبوه في المسجد، وهذا من المعاريض. وقال إسحاق بن هانئ: كنا عند أحمد بن حنبل في منزله ومعه المروذي أحد طلبته ومهنا طالب آخر، فدق داق الباب فقال: المروذي هنا؟ فكأن المروذي كره أن يعلم موضعه، فوضع مهنا إصبعه في راحته وقال: ليس المروذي هاهنا، والطارق يسمع، وما يصنع المروذي هاهنا، فضحك أحمد ولم ينكر.
(أما أهل الكتاب فإنا لا نصدقهم ولا نكذبهم فإذا وافق ما ورد عنهم الكتاب والسنة أقررنا وإذا خالف الكتاب والسنة رفضناه، إذاً لا نوافق ولا نخالف ولا نصدق ولا نكذب، لأنه إما أن يكون حقاً فنكذب به أو باطلاً فنصدق به، فنكون قد وقعنا في محذور.
(فصلٌ في منزلة الإيثار:
[*] (عناصر الفصل:
(الإيثار من منازل السائرين إلى رب العالمين:
(تعريف الإيثار والفرق بين المؤاثرة والإيثار:
((أهم الأسباب التي تعين على الإيثار:
((أقسام الإيثار:
((درجات الإيثار:
(مراتب العطاء:
(مراتب الجود:
(إيثار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(أروع القصص في الإيثار:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
(الإيثار من منازل السائرين إلى رب العالمين:
((قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الإيثار قال الله تعالى(6/330)
{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] فالإيثار ضد الشح فإن المؤثر على نفسه تارك لما هو محتاج إليه والشحيح: حريص على ما ليس بيده فإذا حصل بيده شيء شح عليه وبخل بإخراجه فالبخل ثمرة الشح والشح يأمر بالبخل.
(ثم ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله الحديث الآتي:
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إياكم والشح؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالشح: أمرهم بالبخل فبخلوا، أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا.
(ثم قال رحمه الله تعالى:
(فالبخيل: من أجاب داعي الشح.
(والمؤثر: من أجاب داعي الجود كذلك السخاء عما في أيدي الناس هو السخاء وهو أفضل من سخاء البذل قال عبد الله بن المبارك: سخاء النفس عما في أيدي الناس أفضل من سخاء النفس بالبذل.
وهذا المنزل: هو منزل الجود والسخاء والإحسان وسمي بمنزل الإيثار لأنه أعلى مراتبه فإن المراتب ثلاثة:
إحداها: أن لا ينقصه البذل ولا يصعب عليه فهو منزلة السخاء.
الثانية: أن يعطي الأكثر ويبقي له شيئا أو يبقى مثل ما أعطى فهو الجود.
الثالثة: أن يؤثر غيره بالشيء مع حاجته إليه وهي مرتبة الإيثار وعكسها الأثرة وهو استئثاره عن أخيه بما هو محتاج إليه وهي المرتبة التي قال فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأنصار رضي الله عنهم: إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض والأنصار: هم الذين وصفهم الله بالإيثار في قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9](6/331)
فوصفهم بأعلى مراتب السخاء وكان ذلك فيهم معروفا وكان قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما من الأجواد المعروفين حتى إنه مرض مرة فاستبطأ إخوانه في العيادة فسأل عنهم فقالوا: إنهم كانوا يستحيون مما لك عليهم من الدين فقال: أخزى الله مالا يمنع الإخوان من الزيارة ثم أمر مناديا ينادي: من كان لقيس عليه مال فهو منه في حل فما أمسى حتى كسرت عتبة بابه لكثرة من عاده وقالوا له يوما: هل رأيت أسخى منك قال: نعم نزلنا بالبادية على امرأة فحضر زوجها فقالت: إنه نزل بك ضيفان فجاء بناقة فنحرها وقال: شأنكم فلما كان من الغد جاء بأخرى فنحرها فقلنا: ما أكلنا من التي نحرت البارحة إلا اليسير فقال: إني لا أطعم ضيفاني البائت فبقينا عنده يومين أو ثلاثة والسماء تمطر وهو يفعل ذلك فلما أردنا الرحيل وضعنا مائة دينار في بيته وقلنا للمرأة: اعتذري لنا إليه ومضينا فلما طلع النهار إذا نحن برجل يصيح خلفنا: قفوا أيها الركب اللئام أعطيتموني ثمن قراي ثم إنه لحقنا وقال: لتأخذنه أو لأطاعننكم برمحي فأخذناه وانصرف، فتأمل سر التقدير حيث قدر الحكيم الخبير سبحانه استئثار الناس على الأنصار بالدنيا وهم أهل الإيثار ليجازيهم على إيثارهم إخوانهم في الدنيا على نفوسهم بالمنازل العالية في جنات عدن على الناس فتظهر حينئذ فضيلة إيثارهم ودرجته ويغبطهم من استأثر عليهم بالدنيا أعظم غبطة وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، فإذا رأيت الناس يستأثرون عليك مع كونك من أهل الإيثار فاعلم أنه لخير يراد بك والله سبحانه وتعالى أعلم
(تعريف الإيثار والفرق بين المؤاثرة والإيثار:
الإيثار هو أن يقدم الإنسان حاجة غيره من الناس على حاجته، برغم احتياجه لما يبذله، فقد يجوع ليشبع غيره، ويعطش ليروي سواه.
ومنزلة الإيثار مأخوذةٌ من قولهِ تعالى: (وَالّذِينَ تَبَوّءُوا الدّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىَ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9]
إن من أعظم الصفات التي يتصفُ بها المؤمن «صفة الإيثار»، ومن صِفات الكافر والفاسق والفاجر: «الأَثَرَةَ» الأثرة هي حب النفس، وتفضيلها على الآخرين، فهي عكس الإيثار،(6/332)
فالكافر يؤثِرُ ذاتهُ على كلِّ نفس، يبني حياتهُ على موت الناس، وغِناهُ على فقر الناس، ومجدهُ على أنقاض الناس، وأَمنهُ على خوف الناس.
بينما المؤمن من خصائصهِ الكُبرى و صِفاتهِ العُظمى وسِماتهِ الأساسية أنهُ يُؤثِرُ الآخرين على نفسه والدليل هؤلاء الأنصار أثنى الله عليهم فقال تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىَ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة)
«فأنت إذا آثرتَ الآخرين وأنتَ في بحبوحةٍ كبيرة فهذه مؤاثرة، و إذا آثرتَ الآخرين وأنتَ في خصاصة وشظف من العيش فهو إيثار»
القسم الثاني من الآية (وَمَن يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) يُقابل الإيثار .. الشُح ..
الإنسانُ بينَ شُحٍ وإيثار، إن كانَ مؤمناً فهو يؤثر، وإن كانَ غير مؤمنٍ فهو شحيح.
الشحيحُ حريصٌ على ما ليسَ في يدهِ، يُنفق لَلامَهُ .. لماذا تُنفق يا رجل، هذا المال دعهُ لكَ، ادخره لوقت الشِدة، لماذا تُنفق أ مجنون أنت. الشحيحُ حريصٌ على ما ليسَ في يدهِ، فإذا حصلَ هذا في يدهِ كانَ بهِ أشح وبَخِلَ بإخراجه والبخلُ صِفةٌ ماديّةٌ أساسُها الشُح، من الداخل شُح، من الخارج بُخل، ومن يوقَ مرض الشُح .. هذا مرض .. مرض عُضال " ومن يوقَ شُحَّ نفسهِ فأؤلئكَ هم المفلحون " فالبخلَ سلوكُ النفسِ الشحيحة، والعطاءُ سلوكُ النفسِ المؤاثِرة الكريمة.
وقد حذرنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الشح، وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث جابر بن عبد الله الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم.
((حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يجتمع غبار في سبيل الله و دخان جهنم في جوف عبد أبدا و لا يجتمع الشح و الإيمان في قلب عبد أبدا.
(فالسِمةُ الأساسيةُ، الصِفةُ الثابتة، الحركة اليومية لغير المؤمن هي الشُح، والصفة البارزة للمؤمن هي المؤاثرة والإيثار.(6/333)
((قالَ ابن المبارك رحمه الله تعالى: سخاء النفسِ عمّا في أيدي الناسِ أفضلُ من سخاء النفسِ بالبذل .. الإنسان إذا تعففَ عن أموال الناس هذا أولُ مراتب الإيثار فإذا أعطاهم كانَ أرقى. .. «العطاء لا يُبنى إلا على التعفف تتعففُ أولاً وتُعطي ثانياً».
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
((حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) قال: جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إني مجهود، فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. ثم أرسل إلى الأخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء فقال: من يضيف هذا الليلة رحمة الله.؟ فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله. فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ فقالت: لا، إلا قوت صبياني. قال: فعليهم بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل، فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه قال: فقعدوا وأكل الضيف. فلما أصبح غدا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: قد عجب الله عز وجل من صنيعكم.
(وقفة مع هذا الحديث العظيم:
إن المتأمل في الحديث العظيم بعين البصيرة ويمْعِنِ النظر فيه ويجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبه موقِعاً يجد أن هذا الحديث العظيم العجيب؛ الذي يبين حال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه حيث جاءه رجل فقال: ((يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إني مجهود)) يعني مجهد من الفقر والجوع، وهو ضيف على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأرسل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى زوجاته واحدة تلو الآخرى يسألها هل عندها شيء، فكانت كلّ واحدة تقول: ((لا والذي يعثك بالحق ما عندي إلا الماء)).
تسعة أبيات للرسول عليه الصلاة والسلام ليس فيها إلا الماء، مع أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو شاء أن يسيّر الله الجبال معه ذهباً لسارت، لكنه عليه الصلاة والسلام كان أزهد الناس في الدنيا، كل بيوته التسعة ليس فيها شيء إلا الماء.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((من يُضيف هذا الليلة)) يعني هذا الضيف.(6/334)
فقال رجلٌ من الأنصار: ((أنا يا رسول)) أنا أضيفه. ((فانطلق به إلى رحله، فقال لآمراته: هل عندك شيء؟ قالت: لا؛ إلا قوت صبياني)) يعني ليس عندها في البيت إلا العشاء لهم تلك الليلة فقط. فقال: ((أكرمي ضيف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)) وأمرها أن تشغل أولادها وتلهيهم.
حتى إذا جاء وقت الطعام نومتهم، وأطفأت المصباح، ورأت الضيف أنهم يأكلون معه ففعلت، هدأت الصبيان وعللتهم ونومتهم، فناموا على غير عشاء، ثم إن العشاء لما قدم أطفأت المصباح وأرت الضيف أنها تأكل هي وزوجها معه، وهما لا يأكلان، فشبع الضيف وباتا طاويين، يعني غير متعشيين إكراماً لضيف الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم إنه أصبح فغدا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره الرسول عليه الصلاة والسلام أن الله قد عجب من صنيعهما تلك الليلة، والعجب هنا عجب استحسان، استحسن عز وجل صنيعهما من تلك الليلة لما يشتمل عليه من الفوائد العظيمة.
(وفي هذا الحديث من الفوائد ما يلي:
أولاً: بيان حال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما هو عليه من شظف العيش وقلة ذات اليد، مع أنه عليه الصلاة والسلام أكرم الخلق على الله، ولو كانت الدنيا تساوي عند الله شيئاً؛ لكان أبر الناس بها وأحقهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكنها لا تساوي شيئاً.
قال ابن القيم رحمه الله:
لو ساوت الدنيا جناح بعوضة ... لم يسق منها الرب ذا الكفران
لكنها والله أحقر عنده ... من ذا الجناح القاصر الطيران
أحقر من جناح البعوضة عند الله؛ فليست بشيء.
(ومنها: حسن أدب الصحابة مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن هذا الأنصاري رضي الله عنه قال لزوجته: ((أكرمي ضيف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)) ولم يقل أكرمي ضيفنا مع أن الذي أضافه في الحقيقة هو هذا الرجل، لكنه أضافه نيابة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، فجعله ضيفاً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(ومنها: إنه يجوز عرض الضيافة على الناس، ولا يعد هذا من المسالة المذمومة، أولاً لأنه لم يعين، فلم يقل: يا فلان ضيف هذا الرجل حتى نقول: إنه أحرجه، وإنما هو على سبيل العموم، فيجوز للإنسان مثلاً إذا نزل به ضيف وكان مشغولاً، أو ليس عنده ما يضيفه به، أن يقول لمن حوله: من مضيف هذا الرجل؟ ولا حرج في ذلك
(ومنها: الإيثار العظيم من هذا الرجل الأنصاري، حيث بات هو وزوجته وصبيته من غير عشاء إكراماً لهذا الضيف الذي نزل ضيفاً على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(6/335)
(ومنها: أنه ينبغي للإنسان ألا يُري ضيفه أنه مانّ عليه، أو أن الضيف مضيق عليه، ومحرج له؛ لأن الرجل أمر بإطفاء المصباح حتى لا يظن الضيف أنه ضيق عليهم وحرمهم العشاء، وهذا مأخوذ من أدب الخليل إبراهيم عليه السلام حين نزلت به الملائكة ضيوفاً (فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) (الذريات:26)، حينئذٍ، لكنه راغ إلى أهله، أي ذهب بسرعة وخفية لئلا يخجل الضيف.
(ومنها: أنه يجوز للإنسان أن يؤثر الضيف ونحوه على عائلته.
ومن تأمل سنة الرسول عليه الصلاة والسلام وهديه وهدي أصحابه؛ وجد فيها من مكارم الأخلاق ومعالي الآداب ما لو سار الناس عليه لنالوا بذلك رفعة الدنيا والآخرة. وفقنا الله وإياكم لما فيه الخير في الدنيا والآخرة.
((حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: طعام الإثنين كافي الثلاثة وطعام الثلاثة كافي الأربعة
((حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: طعام الواحد يكفي الإثنين وطعام الإثنين يكفي الأربعة وطعام الأربعة يكفي الثمانية.
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
هذا فيه الحث على المواساة في الطعام وأنه وإن كان قليلاً حصلت منه الكفاية المقصودة ووقعت فيه بركة تعم الحاضرين عليه والله أعلم.
(حديث سهل ابن سعد - رضي الله عنه - الثابت في صحيح البخاري) قال: جاءت امرأة ببردة، قال: أتدرون ما البردة؟. فقيل له: نعم، هي الشملة، منسوج في حاشيتها. قالت: يا رسول الله، إني نسجت هذه بيدي أكسوكها، فأخذها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محتاجا إليها، فخرج إلينا وإنها إزاره، فقال رجل من القوم: يا رسول الله، اكسنيها. فقال: (نعم). فجلس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المجلس، ثم رجع فطواها، ثم أرسل بها إليه، فقال له القوم: ما أحسنت، سألتها إياه، لقد علمت أنه لا يرد سائلا. فقال الرجل: والله ما سألته إلا لتكون كفني يوم أموت. قال سهل: فكانت كفنه.(6/336)
((حديث أنس الثابت في الصحيحين) قال: كان أبو طلحة أكثُر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحبُ أموالهِ إليه بَيْرحَاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدخلها ويشرب من ماءٍ فيها طيب، قال أنس: فلما أُنزلت هذه الآية (لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىَ تُنْفِقُواْ مِمّا تُحِبّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ) قام أبو طلحة إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال يا رسول الله إن الله تبارك وتعالى يقول: (لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىَ تُنْفِقُواْ مِمّا تُحِبّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ) وإن أحبَّ أموالي إليَّ بَيْرحَاء وإنها صدقة لله أرجو برَّها وزُخّرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخٍ ذلك مالٌ رابح ذلك مالٌ رابح، وقد سمعتُ ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة: أفعلُ يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبنى عمه)
{تنبيه}: (بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن طعام الواحد يكفي الإثنين، وأن طعام الإثنين يكفي الأربعة، وأن طعام الأربعة يكفي الثمانية، وهذا حث منه عليه الصلاة والسلام على الإيثار، يعني أنك لو أتيت بطعامك الذي قدرت أنه يكفيك، وجاء رجلٌ آخر فلا تبخل، لا تبخل عليه وتقول هذا طعامي وحدي، بل أعطه حتى يكون كافياً للاثنين.
وكذلك لو جاء اثنان بطعامهما، ثم جاءهما اثنان، فلا يبخلان عليه ويقولان هذا طعامنا، بل يطمعانهما؛ فإن طعامهما يكفيهما ويكفي الإثنين، وهكذا الأربعة مع الثمانية.
وإنما ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام هذا من أجل أن يؤثر الإنسان بفضل طعامه على أخيه.
وكذلك أيضاً حديث أبي سعيد ((من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له)).
وذكر أنواعاً ولم يبادر فيقول من كان له فضل زاد مثلاً لئلا يخجل الرجل، بل قال: ((من كان له فضل ظهر))، والرجل لا يحتاج إلى الظهر، لأنه كان على راحلته، لكن هذا من حسن خطاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
يقول الراوي: ((حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل)) يعني أن الإنسان يبذل كل ما عنده حتى لا يبقى معه فضل، يعني من الطعام والشراب والرحل وغير ذلك، وهذا كله من باب الإيثار.(6/337)
(وأما حديث سهل بن سعد، فإن امرأة جاءت وأهدت إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بردة، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يرد الهدية؛ بل يقبل الهدية ويثيب عليها صلوات الله وسلامه عليه، وهذا من كرمه وحسن خلقه، فتقدم رجل إليه، فقال: ما أحسن هذا، طلبها من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففعل الرسول عليه الصلاة والسلام، خلعها وطواها، وأعطاه إياها.
فقيل للرجل: كيف تطلبها من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنت تعلم أنه لا يرد سائلاً؟ فقال: والله ما طلبتها لألبسها، ولكن لتكون كفني رضي الله عنه، فأبقاها عنده فصارت كفنه، ففي هذا إيثار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على نفسه؛ لأنه آثر بها هذا الرجل مع أن الذي يظهر أنه في حاجة لها.
(وأما قصة أبي طلحة وتصدقه بِبَيْرُحاء فقد ضرب أروع المثل في امتثال قوله تعالى (لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىَ تُنْفِقُواْ مِمّا تُحِبّونَ).
((أهم الأسباب التي تعين على الإيثار:
(1) الرغبة في مكارم الأخلاق، والتنزه عن سيئها، إذ بحسب رغبة الإنسان في مكارم الأخلاق يكون إيثاره؛ لأن الإيثار أفضل مكارم الأخلاق.
(2) بُغض الشُّحِّ، فمن أبغض الشُّحَّ علم ألا خلاص له منه إلا بالجود والإيثار.
(3) تعظيم الحقوق، فمتى عظمت الحقوق عند امرئٍ قام بحقها ورعاها حق رعايتها، وأيقن أنه إن لم يبلغ رتبة الإيثار لم يؤد الحقوق كما ينبغي فيحتاط لذلك بالإيثار.
(4) العزوف عن الدنيا، والإقبال على الآخرة، فمن عظمت في عينه الآخرة هان عليه أمر الدنيا، وعلم أن ما يعطيه في الدنيا يُعطاه يوم القيامة أحوج ما يكون إليه.
(5) توطين النفس على تحمل الشدائد والصعاب،
فإن ذلك مما يعين على الإيثار، إذ قد يترتب على الإيثار قلة ذات اليد وضيق الحال أحيانًا، فما لم يكن العبد موطنًا نفسه على التحمل لم يطق أن يعطي مع حاجته.
((أقسام الإيثار:
الإيثار ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ممنوع، والثاني: مكروه أو مباح، والثالث: مباح.
(القسم الأول (الممنوع):
فهو أن تؤثر غيرك بما يجب عليك شرعاً فإنه لا يجوز أن تقدم غيرك فيما يجب عليك شرعاً.(6/338)
ومثاله إذا كان معك ماء يكفي لوضوء رجل واحد، وأنت لست على وضوء، وهناك صاحب لك ليس على وضوء فالماء لك، لكن إما أن يتوضأ به صاحبك وتتيمم أنت، أو تتوضأ أنت ويتيمم صاحبك، ففي هذه الحال لا يجوز أن تعطيه الماء وتتيمم أنت؛ لأنك واجد للماء، والماء في ملكك، ولا يجوز العدول عن الماء إلى التيمم إلا لعادم.
فالإيثار في الواجبات الشرعية حرام، ولا يحل؛ أنه يستلزم إسقاط الواجب عليك.
(القسم الثاني (وهو المكروه):
فالإيثار بالأمور المستحبة، وقد كرهه بعض أهل العلم وأباحه بعضهم، لكن تركه أولى لا شك إلا لمصلحته.
ومثاله: أن تؤثر غيرك في الصف الأول الذي أنت فيه، مثل أن تكون أنت في الصف الأول في الصلاة، فيدخل إنسان فتقوم عن مكانك وتؤثره به، فقد كره أهل العلم هذا، وقالوا: إن هذا دليلٌ على أن الإنسان يرغب عن الخير، والرغبة عن الخير مكروهة، إذ كيف تقدم غيرك إلى مكان فاضل أنت أحق به منه؟!
وقال بعض العلماء: تركه أولى إلا إذا كان فيه مصلحة، كما لو كان أبوك وتخشى أن يقع في قلبه شيء عليك فتؤثره بمكانك الفاضل، فهذا لا بأس به.
(القسم الثالث (المباح):
وهذا المباح قد يكون مستحباً، وذلك أن تؤثر غيرك في أمر غير تعبدي، أي تؤثر غيرك وتقدمه على نفسك في أمر غير تعبدي.
مثل: أن يكون معك طعام وأنت جائع، وصاحب لك جائع مثلك ففي هذه الحال إذا آثرته فإنك محمود على هذا الإيثار؛ لقول الله تبارك وتعالى في وصف الأنصار: (وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ َ) [الحشر:9].
ووجه إيثارهم على أنفسهم أن المهاجرين لم قدموا المدينة تلقاهم الأنصار بالإكرام والاحترام والإيثار بالمال، حتى أن بعضهم يقول لأخيه المهاجري: إن شئت أن أتنازل عن إحدى زوجتي لك فعلت؛ يعني يطلقها فيتزوجها المهاجريّ بعد بمضي عدتها. وهذا من شدة إيثاره رضي اله عنهم لإخوانهم المهاجرين.
وقال تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) [الانسان:8]
يعني يطعمون الطعام وهم يحبونه مسكيناً ويتيماً وأسيراً، ويتركون أنفسهم، هذا أيضاً من باب الإيثار.
((درجات الإيثار:(6/339)
لقد قسم بعض العلماء الإيثار إلى مراتب ودرجات، فقد قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
الأولى: أن تُؤْثِرَ الخلقَ على نفسك فيما لا يخْرُمُ عليك دِينًا، ولا يقطع عليك طريقًا، ولا يُفسد عليك وقتًا، يعني أن تُقدمهم على نفسك في مصالحهم، مثل: أن تطعِمهم وتجوع، وتكسوهم وتعرَى، وتسقيهم وتظمأ، بحيثُ لا يؤدي ذلك إلى ارتكاب إتلافٍ لا يجوز في الدين، وكلُّ سببٍ يعود عليك بصلاح قلبك ووقتك وحالك مع الله فلا تؤثِر به أحدًا، فإن آثرت به فإنما تُؤْثِر الشيطان على الله وأنت لا تعلم.
الثانية: إيثارُ رضا الله على رضا غيره وإن عظمت فيه المحن وثقلت فيه المؤن وضعف عنه الطول والبدن، وإيثار رضا الله عز وجل على غيره، هو أن يريد ويفعل ما فيه مرضاته، ولو أغضب الخلْق، وهي درجة الأنبياء، وأعلاها لِلرسل عليهم صلوات الله وسلامه. وأعلاها لأولي العزم منهم، وأعلاها لنبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعليهم، فإنه قاومَ العالم كُله وتجرد للدعوة إلى الله، واحتمل عداوة البعيد والقريب في الله تعالى، وآثر رضا الله على رضا الخلق من كل وجه، ولم يأخذه في إيثار رضاه لومةُ لائم، بل كان همُّه وعزْمُه وسعيه كله مقصورًا على إيثار مرضاة الله وتبليغ رسالاته، وإعلاء كلماته، وجهاد أعدائه؛ حتى ظهر دين الله على كل دين، وقامت حجته على العالمين، وتمت نعمتُهُ على المؤمنين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاد، وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه، فلم ينل أحدٌ من درجةِ هذا الإيثار ما نالَ، صلوات الله وسلامه عليه.
هذا وقد جرت سنة الله التي لا تبديل لها أن من آثر مرضاة الخلق على مرضاته: أن يُسخط عليه من آثر رضاه، ويخذُله من جهته، ويجعل محنته على يديه، فيعود حامدُهُ ذامًّا، ومن آثر مرضاته ساخطًا، فلا على مقصوده منهم حصل، ولا إلى ثواب مرضاة ربه وصل، وهذا أعجز الخلقِ وأحمقهم.
قال الشافعي رحمه الله: " رضا الناس غايةٌ لا تدرك فعليك بما فيه صلاحُ نفسك فالزمهُ"، ومعلومٌ أن لا صلاح للنفس إلا بإيثار رضا ربها ومولاها على غيره، ولقد أحسن من قال:
فليتك تحلُو والحياةُ مريرَةٌ .. .. .. وليتك ترضى والأنامُ غِضَابُ
وليت الذي بيني وبينك عامرٌ .. .. .. وبيني وبين العالمين خرابُ
إذا صحَّ منك الودُّ فالكّلُّ هينٌ .. .. .. وكل الذي فوق التراب تراب(6/340)
الثالثة: أن تنسب إيثارك إلى الله دون نفسك، وأنه هو الذي تفرد بالإيثار لا أنت، فكأنك سلمت الإيثار إليه، فإذا آثرت غيرك بشيء؛ فإن الذي آثره هو الحق لا أنت فهو المؤثر على الحقيقة، إذ هو المُعطي حقيقةً.
(مراتب العطاء:
الحقيقة أن هناك ثلاثةَ مراتب متعلّقة بالعطاء وهي «الإيثارُ، السخاءُ، الجودُ»
(فالإيثار: أن تعطي الكثير وتبقي القليل، وهو أعلى مراتب العطاء.
(والسخاء: أن تعطي القليل وتبقي الكثير.
(والجود: أن تعطي بقدر ما تبقي.
(مراتب الجود:
مسألة: ما هي مراتب الجود:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:
و الجود عشر مراتب:
(أحدها: الجود بالنفس وهو أعلى مراتبه كما قال الشاعر:
يجود بالنفس إذ ضن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية
الجود.
(الثانية: الجود بالرياسة وهو ثاني مراتب الجود فيحمل الجواد جوده على امتهان رياسته والجود بها والإيثار في قضاء حاجات الملتمس.
(الثالثة: الجود براحته ورفاهيته وإجمام نفسه فيجود بها تعبا وكدا في مصلحة غيره ومن هذا جود الإنسان بنومه ولذته لمسامره كما قيل: متيم بالندى لو قال سائله هب لي جميع كرى عينيك لم ينم.(6/341)
(الرابعة: الجود بالعلم وبذله وهو من أعلى مراتب الجود والجود به أفضل من الجود بالمال لأن العلم أشرف من المال والناس في الجود به على مراتب متفاوتة وقد اقتضت حكمة الله وتقديره النافذ: أن لا ينفع به بخيلا أبدا ومن الجود به: أن تبذله لمن يسألك عنه بل تطرحه عليه طرحا ومن الجود بالعلم: أن السائل إذا سألك عن مسألة: استقصيت له جوابها جوابا شافيا لا يكون جوابك له بقدر ما تدفع به الضرورة كما كان بعضهم يكتب في جواب الفتيا نعم أو لا مقتصرا عليها ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في ذلك أمرا عجيبا: كان إذا سئل عن مسألة حكمية ذكر في جوابها مذاهب الأئمة الأربعة إذا قدر ومأخذ الخلاف وترجيح القول الراجح وذكر متعلقات المسألة التي ربما تكون أنفع للسائل من مسألته فيكون فرحه بتلك المتعلقات واللوازم: أعظم من فرحه بمسألته وهذه فتاويه رحمه الله بين الناس فمن أحب الوقوف عليها رأى ذلك فمن جود الإنسان بالعلم: أنه لا يقتصر على مسألة السائل بل يذكر له نظائرها ومتعلقها ومأخذها بحيث يشفيه ويكفيه وقد سأل الصحابة رضي الله عنهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المتوضىء بماء البحر فقال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته فأجابهم عن سؤالهم وجاد عليهم بما لعلهم في بعض الأحيان إليه أحوج مما سألوه عنه وكانوا إذا سألوه عن الحكم نبههم على علته وحكمته كما سألوه عن بيع الرطب بالتمر فقال: أينقص الرطب إذا جف قالوا: نعم قال: فلا إذن ولم يكن يخفى عليه نقصان الرطب بجفافه ولكن نبههم على علة الحكم وهذا كثير جدا في أجوبته مثل قوله: إن بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئا بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق وفي لفظ: أرأيت إن منع الله الثمرة: بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق فصرح بالعلة التي يحرم لأجلها إلزامه بالثمن وهي منع الله الثمرة التي ليس للمشتري فيها صنع وكان خصومه يعني شيخ الإسلام ابن تيمية يعيبونه بذلك ويقولون:
سأله السائل عن طريق مصر مثلا فيذكر له معها طريق مكة والمدينة وخراسان والعراق والهند وأي حاجة بالسائل إلى ذلك ولعمر الله ليس ذلك بعيب وإنما العيب: الجهل والكبر وهذا موضع المثل المشهور:
لقبوه بحامض وهو خل مثل من لم يصل إلى العنقود
(الخامسة: الجود بالنفع بالجاه كالشفاعة والمشي مع الرجل إلى ذي سلطان ونحوه وذلك زكاة الجاه المطالب بها العبد كما أن التعليم وبذل العلم زكاته.(6/342)
(السادسة: الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه كما قال: يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين اثنين: صدقة ويعين الرجل في دابته فيحمله عليها أو يرفع له عليها متاعه: صدقة والكلمة الطيبة: صدقة وبكل خطوة يمشيها الرجل إلى الصلاة: "صدقة ويميط الأذى عن الطريق": صدقة متفق عليه.
(السابعة: الجود بالعرض كجود أبي ضمضم من الصحابة رضي الله عنهم كان إذا أصبح قال: اللهم إنه لا مال لي أتصدق به على الناس وقد تصدقت عليهم بعرضي فمن شتمني أو قذفني: فهو في حل فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من يستطيع منكم أن يكون كأبي ضمضم وفي هذا الجود من سلامة الصدر وراحة القلب والتخلص من معاداة الخلق ما فيه.
(الثامنة: الجود بالصبر والاحتمال والإغضاء وهذه مرتبة شريفة من مراتبه وهي أنفع لصاحبها من الجود بالمال وأعز له وأنصر وأملك لنفسه وأشرف لها ولا يقدر عليها إلا النفوس الكبار فمن صعب عليه الجود بماله فعليه بهذا الجود فإنه يجتني ثمرة عواقبه الحميدة في الدنيا قبل الآخرة وهذا جود الفتوة قال تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] وفي هذا الجود قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40] فذكر المقامات الثلاثة في هذه الآية: مقام العدل وأذن فيه ومقام الفضل وندب إليه ومقام الظلم وحرمه.
(التاسعة: الجود بالخلق والبشر والبسطة وهو فوق الجود بالصبر والاحتمال والعفو وهو الذي بلغ بصاحبه درجة الصائم القائم وهو أثقل ما يوضع في الميزان قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط إليه" وفي هذا الجود من المنافع والمسار وأنواع المصالح ما فيه والعبد لا يمكنه أن يسع الناس بحاله ويمكنه أن يسعهم بخلقه واحتماله.(6/343)
(العاشرة: الجود بتركه ما في أيدي الناس عليهم فلا يلتفت إليه ولا يستشرف له بقلبه ولا يتعرض له بحاله ولا لسانه وهذا الذي قال عبد الله ابن المبارك: إنه أفضل من سخاء النفس بالبذل فلسان حال القدر يقول للفقير الجواد: وإن لم أعطك ما تجود به على الناس فجد عليهم بزهدك في أموالهم وما في أيديهم تفضل عليهم وتزاحمهم في الجود وتنفرد عنهم بالراحة ولكل مرتبة من مراتب الجود مزيد وتأثير خاص في القلب والحال والله سبحانه قد ضمن المزيد للجواد والإتلاف للممسك والله المستعان.
(إيثار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(حديث سهل ابن سعد - رضي الله عنه - الثابت في صحيح البخاري) قال: جاءت امرأة ببردة، قال: أتدرون ما البردة؟. فقيل له: نعم، هي الشملة، منسوج في حاشيتها. قالت: يا رسول الله، إني نسجت هذه بيدي أكسوكها، فأخذها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محتاجا إليها، فخرج إلينا وإنها إزاره، فقال رجل من القوم: يا رسول الله، اكسنيها. فقال: (نعم). فجلس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المجلس، ثم رجع فطواها، ثم أرسل بها إليه، فقال له القوم: ما أحسنت، سألتها إياه، لقد علمت أنه لا يرد سائلا. فقال الرجل: والله ما سألته إلا لتكون كفني يوم أموت. قال سهل: فكانت كفنه.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال: أن رجلا سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غنما بين جبلين فأعطاه إياه فأتى قومه فقال أي قوم أسلموا فوالله إن محمدا ليعطي عطاء ما يخاف الفقر فقال أنس إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها.
(أروع القصص في الإيثار:
(إيثار أبي طلحة وأهله لضيف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:(6/344)
((حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين) قال: جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إني مجهود، فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. ثم أرسل إلى الأخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء فقال: من يضيف هذا الليلة رحمة الله.؟ فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله. فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ فقالت: لا، إلا قوت صبياني. قال: فعليهم بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل، فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه قال: فقعدوا وأكل الضيف. فلما أصبح غدا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: قد عجب الله عز وجل من صنيعكم.
(وقفة مع هذا الحديث العظيم:
إن المتأمل في الحديث العظيم بعين البصيرة ويمْعِنِ النظر فيه ويجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبه موقِعاً يجد أن هذا الحديث العظيم العجيب؛ الذي يبين حال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه حيث جاءه رجل فقال: ((يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إني مجهود)) يعني مجهد من الفقر والجوع، وهو ضيف على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأرسل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى زوجاته واحدة تلو الآخرى يسألها هل عندها شيء، فكانت كلّ واحدة تقول: ((لا والذي يعثك بالحق ما عندي إلا الماء)).
تسعة أبيات للرسول عليه الصلاة والسلام ليس فيها إلا الماء، مع أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو شاء أن يسيّر الله الجبال معه ذهباً لسارت، لكنه عليه الصلاة والسلام كان أزهد الناس في الدنيا، كل بيوته التسعة ليس فيها شيء إلا الماء.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((من يُضيف هذا الليلة)) يعني هذا الضيف.
فقال رجلٌ من الأنصار: ((أنا يا رسول)) أنا أضيفه. ((فانطلق به إلى رحله، فقال لآمراته: هل عندك شيء؟ قالت: لا؛ إلا قوت صبياني)) يعني ليس عندها في البيت إلا العشاء لهم تلك الليلة فقط. فقال: ((أكرمي ضيف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)) وأمرها أن تشغل أولادها وتلهيهم.
حتى إذا جاء وقت الطعام نومتهم، وأطفأت المصباح، ورأت الضيف أنهم يأكلون معه ففعلت، هدأت الصبيان وعللتهم ونومتهم، فناموا على غير عشاء، ثم إن العشاء لما قدم أطفأت المصباح وأرت الضيف أنها تأكل هي وزوجها معه، وهما لا يأكلان، فشبع الضيف وباتا طاويين، يعني غير متعشيين إكراماً لضيف الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(6/345)