قال تعالى: (لاّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَىَ وَفَضّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً * دَرَجَاتٍ مّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً) [النساء 95: 96]
[*] (ذكر ابن جرير عن هشام ابن حسان عن جبلة بن عطية عن أبن محيريز قال فضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه قال هي سبعون درجة ما بين الدرجتين عدو الفرس الجواد المضمر سبعين عاما.
[*] (وقال ابن المبارك أنبأنا سلمة بن نبيط عن الضحاك في قوله تعالى لهم درجات عند ربهم قال بعضهم أفضل من بعض فيرى الذي قد فضل به فضله ولا يرى الذي هو أسفل منه أنه فضل عليه أحد من الناس.
وتأمل قوله كيف أوقع التفضيل أولا بدرجة ثم أوقعه ثانيا بدرجات، فقيل الأول بين القاعد المعذور والمجاهد، والثاني بين القاعد بلا عذر والمجاهد،
وقال تعالى: (أَفَمَنِ اتّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) [آل عمران 162: 163]
وقال تعالى قال تعالى: (إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَىَ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ * الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلََئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال 2: 4](2/354)
وقال تعالى: (مّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نّرِيدُ ثُمّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الاَخِرَةَ وَسَعَىَ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مّشْكُوراً * كُلاّ نّمِدّ هََؤُلآءِ وَهََؤُلآءِ مِنْ عَطَآءِ رَبّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبّكَ مَحْظُوراً * انظُرْ كَيْفَ فَضّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ وَلَلاَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) [الإسراء18 - 21]
فهنا بين الله سبحانه أن أهل الآخرة يتفاضلون فيها أكثر مما يتفاضل الناس في الدنيا وأن درجات الآخرة أكبر من درجات الدنيا.
واعلم أخي الكريم: أن تفاضل الجنان يشمل التفاضل بين خيراتها من أبنية وعيون وأشجار وفواكه ونساء. قال تعالى: (فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ) [الرحمن]، وبعد وصفهما قال تعالى: (وَمِن دُونِهِمَا جَنّتَانِ) [الرحمن: 62]،
أي دون الجنتين الأوليتين في الخير والمقام والمنزلة.
فأما عن الفاكهة فقال في الأوليتين: (فِيهِمَا مِن كُلّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ) [الرحمن 52]، فذكر أن في كل صنف من الفواكه شكلين. أما في الجنتين الأخيرتين فذكر مطلق الفاكهة من غير ذكر الزوجين فقال تعالى: (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمّانٌ) [الرحمن: 68]،
وأما عن الأثاث فذكر في الأوليتين: (مُتّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنّتَيْنِ دَانٍ) [الرحمن 54]،
وقال في الأخريتين: (مُتّكِئِينَ عَلَىَ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيّ حِسَانٍ) [الرحمن: 76] ولا شك أن الفرش أفضل من الزخرف وأن الإستبرق أفضل من العبقري.
وهكذا الأمر في نسائهما وخضرتهما كما هو ظاهر في الآيات. وما هذا التفاضل إلا تسلية من الله لعباده الصالحين الذين تحملوا مشاق السفر في رحلة الدنيا وصبروا على ما أصابهم من ضر في سبيل الله وحده, وعاشوا بين أهليهم غرباء .. لما كانوا عليه من التمسك بالكتاب والسنة. ومما يدل على تفاضل أهل الجنة الأحاديث الآتية: ((2/355)
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق، من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم. قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: (بلى، والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين.
والغابر: هو الذاهب الماضي الذي قد تدلى للغروب وفي التمثيل به دون الكواكب المسامت للرأس وهو أعلى فائدتان هما:
أحدهما بعده عن العيون.
والثانية أن الجنة درجات بعضها أعلى من بعض وإن لم تسامت العليا السفلى كالبساتين الممتدة من رأس الجبل إلى ذيله والله أعلم.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، «كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض»، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تَفجَّر أنهار الجنة.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فِي الْجَنَّةِ مِائَةُ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مِائَةُ عَامٍ».
{تنبيه}: (الحديثُ يدلُّ على أنها غاية في العلو والارتفاع , ولا ينفي أن يكون درج الجنة أكثر من مائة, إذ المراد منه الإخبار بأن هذه الدرجات المائة هي للمجاهدين في سبيل الله, لا الإخبار بحصر درجات الجنة, ويؤيد ذلك أن منزلة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوق هذا كله ,فهو في درجة ليس فوقها درجة, أمَّا هذه الدرجات المائة ينالها آحاد أمته بالجهاد.
والجنة مقببة أعلاها وأوسعها ووسطها هو الفردوس وسقفه العرش كما قال في الحديث الصحيح إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة فوقه عرش الرحمن ومنه تفجر انهار الجنة.
ولعظم سعة الجنة وغاية ارتفاعها يكون الصعود من أدناها إلى أعلاها بالتدريج شيئا فشيئا درجة فوق درجة كما في الحديث الآتي:
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يقال لصاحب القرآن: اقرأ و ارق و رتل كما كنت ترتل في دار الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها.(2/356)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سأل موسى ربه فقال: يا رب ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما يدخل أهل الجنةِ الجنة فيقال له: ادخل الجنة فيقول: أي رب كيف و قد نزل الناس منازلهم و أخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مُلْكِ مَلِكٍ من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب فيقول: لك و مثله و مثله و مثله و مثله فقال في الخامسة: رضيت رب فيقول هذا لك وعشرة أمثاله و لك ما اشتهت نفسك و لذت عينك فيقول رضيت رب! قال: رب فأعلاهم منزلة قال أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي و ختمت عليها فلم تر عين و لم تسمع أذن و لم يخطر على قلب بشر قال ومصداقة في كتاب الله عز وجل (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مّآ أُخْفِيَ لَهُم مّن قُرّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [السجدة 17]
فهذه الجنة وهذه درجاتها, قد بنيت وهيئت لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد, ففيها والله يحمد التنافس بالطاعة والقربات وإليها تجب المسارعة بالخيرات والحسنات فأين ذوو الهمم العالية, وقد دعوا إلى السباق, وأين طلاب السمو, وقد قرب اللحاق.
فلا تتصور ـ أخي الكريم ـ أن ذلك النعيم المقيم, ينال بالراحة والتفكه , بل إن طريقه وعر طويل ودربه قد حف بالمكاره والعقبات فلا يسلكه إلا مشمر عن ساعد الجد مخلص قد باع نفسه وماله يبتغي بذلك الجنة , وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات".
(الشهداء ممن ينالون الدرجات العلى:
أخبرنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الشهداء في سبيل الله ممن ينالون تلك الدرجات العلى كما في الحديث الآتي:
(حديث نعيم بن همار رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أفضل الشهداء الذين يقاتلون في الصف الأول فلا يلفتون وجوههم حتى يقتلوا أولئك يتلبطون في الغرف العلى من الجنة يضحك إليهم ربك فإذا ضحك ربك إلى عبد في موطن فلا حساب عليه.
ولك أن تتصور نفسك يا عبد الله وقد رفع الله درجتك ومنزلتك في الجنة مع الأنبياء والشهداء, وما ذلك على الله بعزيز .. إذا صدقت الله فأجبت داعيه إذ يقول:(2/357)
قال تعالى: (يَقَوْمِ إِنّمَا هََذِهِ الْحَيَاةُ الدّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنّ الاَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيّئَةً فَلاَ يُجْزَىَ إِلاّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلََئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ) [غافر 39: 40]
(أعلى درجاتها واسم تلك الدرجة:
أعلى منزلة في الجنة هي الوسيلة .. وهي بإذن الله لنبينا محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله و أرجوا أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة.
وقد بينت السنة الصحيحة أن الوسيلة درجة عند الله ليس فوقها درجة كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الوسيلة درجة عند الله ليس فوقها درجة فسلوا الله أن يؤتيني الوسيلة.
مسألة: لماذا سميت درجة النبي الوسيلة؟
سميت درجة النبي الوسيلة لأنها أقرب الدرجات إلى عرش الرحمن وهي أقرب الدرجات إلى الله.
(ولما كان رسول أعظم الخلق عبودية لربه وأعلمهم به وأشدهم له خشية وأعظمهم له محبة كانت منزلته أقرب المنازل إلى الله وهي أعلى درجة في الجنة وأمر النبي أمته أن يسألوها له لينالوا بهذا الدعاء زلفى من الله وزيادة الإيمان وأيضا فإن الله سبحانه قدرها له بأسباب منها دعاء أمته له بها بما نالوه على يده من الإيمان والهدى صلوات الله وسلامه عليه وقوله حلت عليه يروى عليه وله فمن رواه باللام فمعناه حصلت له ومن رواه بعلى فمعناه وقعت عليه شفاعتي والله أعلم.
(ارتقاء العبد و هو في الجنة من درجة إلى درجة أعلى منها:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الرجل لتُرْفَع درجته في الجنة فيقول: أنى لي هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إن الرجل) يعني الإنسان المؤمن ولو أنثى
(لترفع درجته في الجنة فيقول أنى هذا) أي من أين لي هذا ولم أعمل عملاً يقتضيه وفي نسخة أنى لي ولفظ لي ليس في خط المصنف.(2/358)
(فيقال) أي تقول له الملائكة أو العلماء هذا.
(باستغفار ولدك لك) من بعدك، دل به على أن الاستغفار يحط الذنوب ويرفع الدرجات وعلى أنه يرفع درجة أصل المستغفر إلى ما لم يبلغها بعمله فما بالك بالعامل المستغفر ولو لم يكن في النكاح فضل إلا هذا لكفى وكان الظاهر أن يقال لاستغفار ليطابق اللام في لي لكن سد عنه أن التقدير كيف حصل لي هذا فقيل حصل لك باستغفار ولدك وقيل إن الابن إذا كان أرفع درجة من أبيه في الجنة سأل أن يرفع أبوه إليه فيرفع وكذلك الأب إذا كان أرفع وذلك قوله سبحانه وتعالى {لا تدرون أيهم أقرب نفعاً}.
(أعلى أهل الجنة منزلة:
أعلى أهل الجنة منزلة هو سيد ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: (تِلْكَ الرّسُلُ فَضّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ مّنْهُمْ مّن كَلّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) [البقرة: 253]
[*] (قال مجاهد وغيره:
(مّنْهُمْ مّن كَلّمَ اللّهُ): موسى.
(وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ): هو محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله و أرجوا أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة.
وقد بينت السنة الصحيحة أن الوسيلة درجة عند الله ليس فوقها درجة كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الوسيلة درجة عند الله ليس فوقها درجة فسلوا الله أن يؤتيني الوسيلة.
مسألة: لماذا سميت درجة النبي الوسيلة؟
سميت درجة النبي الوسيلة لأنها أقرب الدرجات إلى عرش الرحمن وهي أقرب الدرجات إلى الله.(2/359)
(ولما كان رسول أعظم الخلق عبودية لربه وأعلمهم به وأشدهم له خشية وأعظمهم له محبة كانت منزلته أقرب المنازل إلى الله وهي أعلى درجة في الجنة وأمر النبي أمته أن يسألوها له لينالوا بهذا الدعاء زلفى من الله وزيادة الإيمان وأيضا فإن الله سبحانه قدرها له بأسباب منها دعاء أمته له بها بما نالوه على يده من الإيمان والهدى صلوات الله وسلامه عليه وقوله حلت عليه يروى عليه وله فمن رواه باللام فمعناه حصلت له ومن رواه بعلى فمعناه وقعت عليه شفاعتي والله أعلم.
(أدنى أهل الجنة منزلة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سأل موسى ربه فقال: يا رب ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما يدخل أهل الجنة الجنة فيقال له: ادخل الجنة فيقول: أي رب كيف و قد نزل الناس منازلهم و أخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مُلْكِ مَلِكٍ من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب فيقول: لك و مثله و مثله و مثله و مثله فقال في الخامسة: رضيت رب فيقول هذا لك وعشرة أمثاله و لك ما اشتهت نفسك و لذت عينك فيقول رضيت رب! قال: رب فأعلاهم منزلة قال أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي و ختمت عليها فلم تر عين و لم تسمع أذن و لم يخطر على قلب بشر قال ومصداقة في كتاب الله عز وجل (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مّآ أُخْفِيَ لَهُم مّن قُرّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [السجدة 17](2/360)
(حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في الصحيحين): أن الناس قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هل تضارُّون في القمر ليلة البدر). قالوا: لا يا رسول الله، قال: (فهل تضارُّون في الشمس ليس دونها سحاب). قالوا: لا يا رسول الله، قال: (فإنكم ترونه كذلك، يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتَّبعه، فيتَّبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتَّبع من كان يعبد القمر القمر، ويتَّبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها شافعوها، أو منافقوها - شك إبراهيم - فيأتيهم الله فيقول: أنا ربكم، فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاءنا ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتَّبعونه، ويُضرب الصراط بين ظهري جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيزها، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلِّم سلِّم وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، هل رأيتم السعدان).(2/361)
قالوا: نعم يا رسول الله، قال: (فإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم المؤمن يبقى بعمله، أو الموبَق بعمله، أو الموثَق بعمله، ومنهم المخردل، أو المجازى، أو نحوه، ثم يتجلى، حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد، وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار، أمر الملائكة أن يُخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئاً، ممن أراد الله أن يرحمه، ممن يشهد أن لا إله إلا الله، فيعرفونهم في النار بأثر السجود، تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود، حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار قد امتُحِشوا، فيُصَبُّ عليهم ماء الحياة، فينبتون تحته كما تنبت الحِبَّةُ في حَميل السيل، ثم يفرغ الله من القضاء بين العباد، ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار، هو آخر أهل النار دخولاً الجنة، فيقول: أي ربِّ اصرف وجهي عن النار، فإنه قد قشبني ريحها، وأحرقني ذكاؤها، فيدعو الله بما شاء أن يدعوه، ثم يقول الله: هل عسيت إن أعطيت ذلك أن تسألني غيره، فيقول: لا وعزتك لا اسألك غيره، ويعطي ربه من عهود ومواثيق ما شاء، فيصرف الله وجهه عن النار، فإذا أقبل على الجنة ورآها سكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أي ربِّ قدمني إلى باب الجنة، فيقول الله له: ألست قد أعطيت عهودك ومواثيقك أن لا تسألني غير الذي أعطيت أبداً، ويلك يا ابن آدم ما أغدرك، فيقول: أي رب، ويدعو الله حتى يقول: هل عسيت إن أعطيت ذلك أن تسأل غيره، فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره، ويعطي ما شاء من عهود ومواثيق، فيُقَدِّمه إلى باب الجنة، فإذا قام إلى باب الجنة انْفَهَقَتْ له الجنة، فرأى ما فيها من الحبرة والسرور، فيسكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أي ربِّ أدخلني الجنة، فيقول الله: ألست قد أعطيت عهودك ومواثيقك أن لا تسأل غير ما أعطيت، فيقول: ويلك يا ابن آدم ما أغدرك، فيقول: أي ربِّ لا أكوننَّ أشقى خلقك، فلا يزال يدعو حتى يضحك الله منه، فإذا ضحك منه قال له: ادخل الجنة، فإذا دخلها قال الله له: تمنَّهْ، فسأل ربه وتمنى، حتى إن الله ليذَكِّرُهُ، يقول: كذا وكذا، حتى انقطعت به الأماني، قال الله: ذلك وعشرة أمثاله معه).(2/362)
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:» يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم». .فذكر الحديث إلى أن قال:» حتى يمرّ الذى يُعْطى نوره على ظهر قدميه يحبو على وجهه ويديه ورجليه, تخرُّ يدُ وتعلّق يدُ, وتخرّ رِجل وتعلّق رجل وتصيب جوانبه النار, فلا يزال كذلك حتى يخلصِ, فإذا خلص وقف عليها فقال: الحمد لله الذى أعطانى ما لَم يُعْطِ أحداً إذْ نجَّانى منها بعد إذْ رأيتها, قال: فيُنْطلق به إلى غدير ـ نهر ماء ـ عند باب الجنة فيغتسل, فيعود إليه ريح أهل الجنة وألوانهم, فيرى ما فى الجنة من خَلَل الباب, فيقول: رب أدخلنى الجنة, فيقول له: أتسألنى الجنة وقد نجيتك من النار؟ فيقول: رب اجعل بينى وبينها حجاب لا أسمع حسيسها, قال: فيدخل الجنة ويُرفع له منزل أمام ذلك كأن ما هو فيه إليه حُلْم, فيقول: رب أعطنى ذلك المنزل, فيقول له: لعلك إن أَعْطَيْتُكهُ تسأل غيره, فيقول: لا وعزتك لا أسأل غيره وأى منزل أحسن منه؟ فيعطاه, فينزله ويرى أمام ذلك منزلً كأن ما هو فيه إليه حلم, قال: رب أعطنى ذلك المنزل, فيقول: لا وعزتك يارب وأى منزل أحسن منه؟ فُيعْطاه فينزله ثم يسكت, فيقول الله عز جل ذكره: مالك لا تسأل؟ فيقول: رب قد سألتك حتى استحيَيْتُك وأقسمتُ حتى استحييْتُك, فيقول الله جل ذكره: ألم ترض أن أُعطيك مثل الدنيا منذ خلقتها إلى يوم أفنيْتُها وعشرة أضعافه؟ فيقول: أتهزأ بى وأنت رب العزة؟ فيضحك الرب تبارك وتعالى من قوله, قال: فرأيت عبد الله بن مسعود إذا بلغ هذا المكان من هذا الحديث ضحك حتى تبدو أضراسه, قال: فيقول الرب تبارك وتعالى: لا ولكنى على ذلك قادر, سَلْ, فيقول: ألْحقنى بالناس, فيقول: الْحَقْ بالناس, فينطلق يرمل فى الجنة حتى إذا دنا من الناس رُفع له قصر من دُرَّة فيخرُّ ساجداً فيقال له: ارفع رأسك مالك؟ فيقول: تراءى لى ربى, فيقال: إنما هو منزل من منازلك. قال: ثم يَلْقى رجلاً فيتهيَّأ للسجود له فيقال له: مَهْ!! فيقول: رأيت أنك مَلَك من الملائكة, فيقول: إنما أنا خازن من خُزَّانك وعبد من عبيدك تحت يدىَّ ألف قَهْرَمان ـ خازن ـ على ما أنا عليه،(2/363)
قال: فينطلق أمامه حتى يفتح له القصر, قال: وهو من درة مجوّفة سقائفها وأبوابها وأغلاقها ومفاتيحها منها, تستقبله جوهرة خضراء مبطّنة بحمراء فيها سبعون باباً كل باب يُفضى إلى جوهرة خضراء على غير لون الأخرى, وفى كل جوهرة سُرُر وأزواج ووصائف أدناهن حوراء عيناء عليها سبعون حُلّة يرى مخ ساقها من وراء حللها, كبدها مرآته وكبده مرآتها, إذا أعرض عنها إعراضة ازدادت فى عينه سبعين حسناً»
(آخر أهل الجنة دخولا إليها:
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها، وآخر أهل الجنة دخولاً، رجل يخرج من النار حبواً، فيقول الله: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها، فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا ربي وجدتها ملأى، فيقول: اذهب فادخل الجنة، فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها، أو: إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا، فيقول: أتسخر مني، أو: تضحك مني وأنت الملك). فلقد رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضحك حتى بدت نواجذه، وكان يقال: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: آخر من يدخل الجنة رجل فهو يمشي مرة ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة، فإذا ما جاوزها التفت إليها فقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئا ما أعطاه أحدا من الأولين والآخرين فترفع له شجرة، فيقول: أي رب أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها وأشرب من مائها، فيقول الله عز وجل: يا ابن آدم لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها؟ فيقول لا يا رب ويعاهده أن لا يسأله غيرها؛ وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فيستظل بظلها ويشرب من مائها.
ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى، فيقول: أي رب أدنني من هذه لأشرب من مائها وأستظل بظلها لا أسألك غيرها، فيقول: يا ابن آدم ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟ فيقول: لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها فيعاهده أن لا يسأله غيرها وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها فيستظل بظلها ويشرب من مائها.(2/364)
ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين، فيقول: أي رب أدنني من هذه لأستظل بظلها وأشرب من مائها لا أسألك غيرها، فيقول: يا ابن آدم ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟ قال: بلى يا رب هذه لا أسألك غيرها، وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليها، فيدنيه منها.
فإذا أدناه منها فيسمع أصوات أهل الجنة فيقول: أي رب أدخلنيها، فيقول: يا ابن آدم ما يصريني منك؟ أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟ قال: يا رب أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟
فضحك ابن مسعود، فقال: ألا تسألوني مم أضحك؟ فقالوا: مم تضحك؟ قال:
من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟ فيقول: إني لا أستهزئ منك ولكني على ما أشاء قادر. وفي رواية: قدير.
(ثمن الجنة:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح:
عرض الرب تعالى سلعته الجنة على عباده وثمنها الذي طلبه منهم وعقد التبايع الذي وقع بين المؤمنين وبين ربهم:
قال تعالى: (إِنّ اللّهَ اشْتَرَىَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنّ لَهُمُ الّجَنّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىَ بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 111]
«فجعل سبحانه ها هنا الجنة ثمنا لنفوس المؤمنين وأموالهم» بحيث إذا بذلوها فيه استحقوا الثمن وعقد معهم هذا العقد وأكده بأنواع من التأكيد:
أحدها: إخبارهم سبحانه وتعالى بصيغة الخبر المؤكد باداة أن.
الثاني: الأخبار بذلك بصيغة الماضي الذي قد وقع وثبت واستقر.
الثالث: إضافة هذا العقد إلى نفسه سبحانه وأنه هو الذي اشترى هذا المبيع.
الرابع: أنه أخبر بأنه وعد بتسليم هذا الثمن وعدا لا يخلفه ولا يتركه.
الخامس: أنه أتى بصيغة على التي للوجوب إعلاما لعباده بأن ذلك حق عليه أحقه هو على نفسه.
السادس: أنه أكد ذلك بكونه حقا عليه.
السابع: أنه أخبر عن محل هذا الوعد وأنه في أفضل كتبه المنزلة من السماء وهي التوراة والإنجيل والقرآن.
الثامن: إعلامه لعباده بصيغة استفهام الإنكار «وَمَنْ أَوْفَىَ بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ» وأنه لا أحد أوفى بعهده منه سبحانه.(2/365)
التاسع: أنه سبحانه وتعالى أمرهم أن يستبشروا بهذا العقد ويبشر به بعضهم بعضا بشارة مَنْ قد تم له العقد ولزم بحيث لا يثبتُ فيه خيار ولا يعرض له ما يفسخه.
العاشر: أنه أخبرهم إخبارا مؤكدا بأن ذلك البيع الذي بايعوه به هو الفوز العظيم والبيع ههنا بمعنى المبيع الذي أخذوه بهذا الثمن وهو الجنة وقوله بايعتم به أي عاوضتم و ثامنتم به ثم ذكر سبحانه أنه هذا العقد الذي وقع العقد وتم لهم دون غيرهم وهم التائبون
مما يكره العابدون له بما يحب الحامدون له على ما يحبون وما يكرهون السائحون وفسرت السياحة بالصيام وفسرت بالسفر في طلب العلم وفسرت بالجهاد وفسرت بدوام الطاعة والتحقيق فيها أنها سياحة القلب في ذكر الله ومحبته والإنابة إليه والشوق إلى لقائه ويترتب عليها كل ما ذكر من الأفعال ولذلك وصف الله سبحانه نساء النبي اللاتي لو طلق أزواجه بدله بهن بأنهن سائحات وليست سياحتهن جهادا ولا سفرا في طلب علم ولا إدامة صيام وإنما هي سياحة قلوبهن في محبة الله تعالى وخشيته والإنابة إليه ذكره. أهـ
وأفهمت الآية خطر النفس الإنسانية وشرفها وعظم مقدارها فإن السلعة إذا خفي عليك قدرها فانظر إلى المشتري لها من هو، وانظر إلى الثمن المبذول فيها ما هو، وانظر إلى ما جرى على يده عقد التبايع، فالسلعة النفس والله سبحانه المشتري لها والثمن لها جنات النعيم، والسفير في هذا العقد خير خلقه من الملائكة وأكرمهم عليه وخيرهم من البشر وأكرمهم عليه.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ أَلاَ إِنّ سِلْعَةَ الله غَالِيَةٌ أَلاَ إِنّ سِلْعَةَ الله الْجَنّةُ».
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(مَنْ خَافَ) أَيِ الْبَيَاتَ وَالْإِغَارَةَ مِنَ الْعَدُوِّ وَقْتَ السَّحَرِ.
(أَدْلَجَ) بِالتَّخْفِيفِ مِنْ سَارَ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَبِالتَّشْدِيدِ مِنْ آخِرِهِ.(2/366)
(وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ) أَيْ وَصَلَ إِلَى الْمَطْلَبِ. قَالَ الجزء السابع الطِّيبِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَالِكِ الْآخِرَةِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ عَلَى طَرِيقِهِ وَالنَّفْسَ وَأَمَانِيَّهُ الْكَاذِبَةَ أَعْوَانُهُ، فَإِنْ تَيَقَّظَ فِي مَسِيرِهِ وَأَخْلَصَ النِّيَّةَ فِي عَمَلِهِ أَمِنَ مِنَ الشَّيْطَانِ وَكَيْدِهِ، وَمِنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ بِأَعْوَانِهِ ثُمَّ أَرْشَدَ إِلَى أَنَّ سُلُوكَ طَرِيقِ الْآخِرَةِ صَعْبٌ، وَتَحْصِيلَ الْآخِرَةِ مُتَعَسِّرٌ لَا يَحْصُلُ بِأَدْنَى سَعْيٍ فَقَالَ.
(أَلَا) بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ.
(إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ) أَيْ مِنْ مَتَاعِهِ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ
(غَالِيَةٌ) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ رَفِيعَةُ الْقَدْرِ
(أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ) يَعْنِي؛ ثَمَنُهَا الْأَعْمَالُ الْبَاقِيَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ تعالى: (التّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السّائِحُونَ الرّاكِعُونَ السّاجِدونَ الاَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [التوبة: 112]
{تنبيه}: (هنا أمر يجب التنبيه عليه وهو أن الجنة إنما تدخل برحمة الله تعالى وليس عمل العبد مستقلا بدخولها وإن كان سببا ولهذا أثبت الله تعالى دخولها بالأعمال في قوله تعالى: (وَتِلْكَ الْجَنّةُ الّتِيَ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزخرف: 72] ونفى رسول الله دخولها بالأعمال كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لن يُدخِل أحداً عملُه الجنة). قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (لا، ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني الله بفضلٍ ورحمة، فسدِّدوا وقاربوا، ولا يتمنينَّ أحدكم الموت: إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً، وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب.
ولا تنافي بين الأمرين لوجهين:
أحدهما: ما ذكره سفيان وغيره قال كانوا يقولون «النجاة من النار بعفو الله ودخول الجنة برحمته واقتسام المنازل والدرجات بالأعمال».(2/367)
والثاني: أن الباء التي نفت الدخول هي باء المعاوضة التي يكون فيها أحد العوضين مقابلا للآخر والباء التي أثبتت الدخول هي باء السببية التي تقتضي سببية ما دخلت عليه لغيرة وأن لم يكن مستقلا بحصوله وقد جمع النبي بين الأمرين بقوله: (لن يُدخِل أحداً عملُه الجنة). قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (لا، ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني الله بفضلٍ ورحمة، فسدِّدوا وقاربوا.
ومن عرف الله تعالى وشهد مشهد حقه عليه ومشهد تقصيره وذنوبه وأبصر هذين المشهدين بقلبه عرف ذلك وجزم به والله سبحانه وتعالى المستعان.
(طلب أهل الجنة لها من ربهم وطلبها لهم:
قال تعالى: (رّبّنَآ إِنّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبّكُمْ فَآمَنّا رَبّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنّا سَيّئَاتِنَا وَتَوَفّنَا مَعَ الأبْرَارِ * رَبّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتّنَا عَلَىَ رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [آل عمران 193: 194] والمعنى وآتنا ما وعدتنا على ألسنة رسلك من دخول الجنة.
فالجنة تسأل ربها أهلها وأهلها يسألونه إياها والملائكة تسألها لهم والرسل يسألونه إياها لهم ولأتباعهم ويوم القيامة يقيمهم سبحانه بين يديه يشفعون فيها لعباده المؤمنين وفي هذا من تمام ملكه وإظهار رحمته وإحسانه وجوده وكرمه وإعطائه ما سئل ما هو من لوازم أسمائه وصفاته واقتضائها لآثارها ومتعلقاتها فلا يجوز تعطيلها عن آثارها وأحكامها فالرب تعالى جواد له الجود كله يحب أن يسئل ويطلب منه ويرغب إليه فخلق من يسأله وألهمه سؤاله وخلق له ما يسأله إياه فهو خالق السائل وسؤاله ومسئوله وذلك لمحبته سؤال عباده له ورغبتهم إليه وطلبهم منه وهو يغضب إذا لم يسئل الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسئل يغضب وأحب خلقه إليه أكثرهم وأفضلهم له سؤالا وهو يحب الملحين في الدعاء وكلما ألح العبد عليه في السؤال أحبه وقربه وأعطاه في الحديث من لم يسأل الله يغضب عليه فلا إله إلا هو أي جناية جنت القواعد الفاسدة على الإيمان وحالت بين القلوب وبين معرفة ربها وأسمائه وصفات كماله ونعوت جلاله والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
والسنة الصحيحة طافحةُ بالحث على سؤال الله تعالى الجنة والاستجارة من النار منها ما يلي: ((2/368)
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من سأل الله الجنة ثلاث مرات قالت الجنة اللهم أدخله الجنة ومن استجار من النار ثلاث مرات قالت النار اللهم أجره من النار.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ) بِأَنْ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسَالِكُ الْجَنَّةَ، أَوْ قَالَ اللَّهُمَّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ
(ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) أَيْ كَرَّرَهُ فِي مَجَالِسَ أَوْ مَجْلِسٍ بِطَرِيقِ الْإِلْحَاحِ عَلَى مَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ الإلحاح فيه
(قَالَتِ الْجَنَّةُ) بِبَيَانِ الْحَالِ أَوْ بِلِسَانِ الْقَالِ لِقُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى إِنْطَاقِ الْجَمَادَاتِ وَهُوَ الظَّاهِرُ
(اللَّهُمَّ أَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ) أَيْ دُخُولًا أَوَّلِيًّا أَوْ لُحُوقًا آخِرِيًّا
(وَمَنِ اسْتَجَارَ) أَيِ اسْتَحْفَظَ
(مِنَ النَّارِ) بِأَنْ قَالَ اللَّهُمَّ أَجِرْنِي مِنَ النَّارِ
(قَالَتِ النَّارُ اللَّهُمَّ أَجِرْهُ) أَيِ احْفَظْهُ أَوْ أَنْقِذْهُ
(مِنَ النَّارِ) أَيْ مِنْ دُخُولِهِ أَوْ خُلُودِهِ فِيهَا.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما استجار عبد من النار سبع مرات في يوم إلا قالت النار: يا رب إن عبدك فلانا قد استجارك مني فأجره، ولا يسأل الله عبد الجنة في يوم سبع مرات إلا قالت: يا رب! إن عبدك فلانا سألني فأدخله الجنة.
وقد كان جماعة من السلف لا يسألون الله الجنة ويقولون حسبنا أن يجيرنا من النار فمنهم أبو الصهباء صلة بن أشيم صلى ليلة إلى السحر ثم رفع يديه وقال اللهم أجرني من النار أو مثلي يجترئ أن يسألك الجنة ومنهم عطاء السلمي كان لا يسأل الجنة فقال له صالح المري أن أبان حدثني عن أنس أن النبي قال يقول الله عز وجل انظروا في ديوان عبدي فمن رأيتموه سألني الجنة أعطيته ومن أستعذ بي من النار أعذته فقال عطاء كفاني أن يجيرني من النار ذكرها أبو نعيم.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل ما تقول في الصلاة قال أتشهد ثم أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار أما والله ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال حولها ندندن.
مسألة: ما معنى حولها ندندن؟(2/369)
الدندنة في اللغة: هي الكلام البليغ الذي يدور حول هدف معين، أو هي الصوت الهامس الذي تُسمع نغماته ولكن قد لا يُفهم معناه، طالما لم يجهر به قائله.
وجنة الفردوس هي هدفنا جميعاً ندندن حولها في كلّ عباداتنا، وكتاباتنا، وأقولنا، وأفعالنا، ندور في فلكها ونطوف حول محورها، سواء أكان هدفنا مباشراً أم غير مباشر، مستدلين في ذلك بهدي الهادي الأمين حبيبنا محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلوات والتسليم.
(أسماء الجنة ومعانيها:
«الجنة لها عدة أسماء باعتبار صفاتها ومسماها واحد باعتبار الذات»
فهي مترادفة من هذا الوجه وتختلف باعتبار الصفات فهي متباينة من هذا الوجه.
(الاسم الأول: الجنة وهو الاسم العام المتناول لتلك الدار وما اشتملت عليه من أنواع النعيم واللذة والبهجة والسرور وقرة الأعين وأصل اشتقاق هذه اللفظة من الستر والتغطية ومنه الجنين لاستتاره في البطن والجان لاستتاره عن العيون والمجن لستره ووقايته الوجه والمجنون لاستتار عقله وتواريه عنه والجان وهي الحية الصغيرة الرقيقة ومنه سُمِّيَ البستان جنة لأنه يستر داخله بالأشجار ويغطيه ولا يستحق هذا الاسم إلا موضع كثير الأشجار مختلف الأنواع، قال تعالى: (تِلْكَ الجَنَّةُ الَتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِياًّ) {مريم:63}
وقال تعالى: (وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) {الأعراف 43} ..
(الاسم الثاني: دار السلام، وقد سماها الله بهذا الاسم في قوله تعالى: (لَهُمْ دَارُ السّلاَمِ عِندَ رَبّهِمْ) [الأنعام: 127]
وقوله تعالى: (وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَىَ دَارِ السّلاَمِ) [يونس: 25] وهي أحق بهذا الاسم فإنها دار السلامة من كل بلية وآفة ومكروه وهي دار الله واسمه سبحانه وتعالى السلام الذي سَلَّمَهَا وَسَلَّم أهلها.
قال تعالى: (وَتَحِيّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ) [يونس: 10]
قال تعالى: (وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىَ الدّارِ) [الرعد 23: 24]
والرب تعالى يسلم عليكم من فوقهم كما قال تعالى: (لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مّا يَدّعُونَ * سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رّبّ رّحِيمٍ) [يس 57: 58](2/370)
(الاسم الثالث: دار المقامة قال تعالى حكاية عن أهلها قال تعالى: (وَقَالُواْ الْحَمْدُ للّهِ الّذِيَ أَذْهَبَ عَنّا الْحَزَنَ إِنّ رَبّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الّذِيَ أَحَلّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) [فاطر 34: 35]
قال مقاتل: أنزلنا دار الخلود أقاموا فيها أبدا لا يموتون ولا يتحولون منها أبدا قال الفراء والزجاج المقامة مثل الإقامة يقال أقمت بالمكان إقامة ومقامة ومقاما.
(الاسم الرابع: جنة المأوى قال تعالى: (عِندَهَا جَنّةُ الْمَأْوَىَ) [النجم: 15]
والمأوى مفعل من أوى يأوي إذا انضم إلى المكان وصار إليه واستقر به وقال عطاء عن ابن عباس هي الجنة التي يأوي إليها جبريل والملائكة وقال مقاتل والكلبي هي جنة تأوي إليها أرواح الشهداء وقال كعب جنة المأوى جنة فيها طير خضر ترتع فيها أرواح الشهداء وقالت عائشة رضي الله عنها وزر بن حبيش هي جنة من الجنان والصحيح أنه اسم من أسماء الجنة كما قال تعالى: (وَأَمّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النّفْسَ عَنِ الْهَوَىَ * فَإِنّ الْجَنّةَ هِيَ الْمَأْوَىَ) [النازعات 40: 41]
(الاسم الخامس: جنات عدن فقيل هي اسم لجنة من الجنان والصحيح أنه اسم لجنة الجنان وكلها جنات عدن قال تعالى: (جَنّاتِ عَدْنٍ الّتِي وَعَدَ الرّحْمََنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً) [مريم: 61]
وقال تعالى: (جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) [فاطر: 33]
وقال تعالى: (وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ) [التوبة: 72]
والاشتقاق يدل على أن جميعها جنات عدن فإنه من الإقامة والدوام يقال عدن بالمكان إذا أقام به وعدنت البلد توطنته وعدنت الإبل بمكان كذا لزمته فلم تبرح منه قال الجوهري ومنه جنات عدن أي إقامة ومنه سمي المعدِن بكسر الدال لأن الناس يقيمون فيه الصيف والشتاء ومركزه كل شيء معدنه والعادن الناقة المقيمة في المرعى.
(الاسم السادس: دار الحيوان قال تعالى: (وَإِنّ الدّارَ الاَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ) [العنكبوت: 64](2/371)
والمراد الجنة عند أهل التفسير قالوا وأن الآخرة يعني الجنة لهي الحيوان لهي دار الحياة التي لا موت فيها فقال الكلبي هي حياة لا موت فيها قال وقال الزجاج هي دار الحياة الدائمة.
(الاسم السابع: الفردوس قال تعالى: (أُوْلََئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون 10: 11]
وقال تعالى: (إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) [الكهف: 107]
والفردوس اسم يقال على جميع الجنة ويقال على أفضلها وأعلاها كأنه أحق بهذا الاسم من غيره من الجنات وأصل الفردوس البستان والفراديس البساتين قال كعب هو البستان الذي فيه الأعناب وقال الليث الفردوس جنة ذات كروم يقال كرم مفردس أي معرش وقال الضحاك هي الجنة الملتفة بالأشجار وهو اختيار المبرد وقال الفردوس فيما سمعت من كلام العرب الشجر الملتف والأغلب عليه العنب وجمعه الفراديس.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، «كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض»، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تَفجَّر أنهار الجنة.
(الاسم الثامن: جنات النعيم قال تعالى: (إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَهُمْ جَنّاتُ النّعِيمِ) [لقمان: 8]
وهذا أيضا اسم جامع لجميع الجنات لما تضمنته من الأنواع التي يتنعم بها من المأكول والمشروب والملبوس والصور والرائحة الطيبة والمنظر البهيج والمساكن الواسعة وغير ذلك من النعيم الظاهر والباطن.(2/372)
(الاسم التاسع: المقام الأمين قال تعالى: (إِنّ الْمُتّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ) [الدخان: 51] والمقام الأمين موضع الإقامة، والأمين الآمن من كل سوء وآفة ومكروه وهو الذي قد جمع صفات الأمن كلها فهو آمن من الزوال والخراب وأنواع النقص وأهله آمنون فيه من الخروج والنغص والنكد والبلد الأمين الذي قد أمن من أهله فيه مما يخالف منه سواهم وتأمل كيف ذكر سبحانه الأمن في قوله تعالى (إِنّ الْمُتّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ) وفي قوله تعالى: (يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ) [الدخان: 55] فجمع لهم بين أمن المكان وأمن الطعام فلا يخافون انقطاع الفاكهة ولا سوء عاقبتها ومضرتها وأمن الخروج منها فلا يخافون ذلك وأمن من الموت فلا يخافون فيها موتا.(2/373)
(الاسم العاشر: مقعد الصدق قال تعالى: (إِنّ الْمُتّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مّقْتَدِرِ) [القمر 54: 55] فسمى جنته مقعد صدق لحصول كل ما يراد من المقعد الحسن فيها كما يقال مودة صادقة إذا كانت ثابتة تامة وحلاوة صادقة وحملة صادقة ومنه الكلام الصدق لحصول مقصوده منه وموضع هذه اللفظة في كلامهم الصحة والكمال ومنه الصدق في الحديث والصدق في العمل والصديق الذي يصدق قوله بالعمل والصدق بالفتح الصلب من الرماح ويقال للرجل الشجاع أنه لذو مصدق أي صادق الحملة وهذا مصداق هذا أي ما يصدقه ومنه الصداقة لصفاء المودة والمخالة ومنه صدقني القتال وصدقني المودة ومنه قدم صدق ولسان صدق ومدخل صدق ومخرج صدق وذلك كله للحق الثابت المقصود الذي يرغب فيه بخلاف الكذب الباطل الذي لا شيء تحته وهو لا يتضمن أمرا ثابتا قط وفسر قوم صدق بالجنة وفسر بالأعمال التي تنال بها الجنة وفسر بالسابقة التي سبقت لهم من الله وفسر بالرسول الذي على يده وهدايته نالوا ذلك والتحقيق أن الجميع حق فإنهم سبقت لهم من الله الحسنى بتلك السابقة أي بالأسباب التي قدرها لهم على يد رسوله وأدخر لهم جزاءها يوم القيامة ولسان الصدق وهو لسان الثناء الصادق بمحاسن الأفعال وجميل الطرائق وفي كونه لسان صدق إشارة إلى مطابقته للواقع وأنه إثناء بحق لا بباطل ومدخل الصدق ومخرج الصدق هو المدخل والمخرج الذي يكون صاحبه فيه ضامنا على الله وهو دخوله وخروجه بالله ولله وهذه الدعوة من أنفع الدعاء للعبد فإنه لا يزال داخلا في أمر وخارجا من أمر فمتى كان دخوله لله وبالله وخروجه كذلك كان قد أدخل مدخل صدق واخرج مخرج صدق والله المستعان.
(عدد الجنات:
عدد الجنات وأنها نوعان جنتان من ذهب وجنتان من فضة.
الجنة اسم شامل لجميع ما حوته من البساتين والمساكن والقصور وهي جنات كثيرة جدا كما
كما في الحديث الآتي:
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: أصيب الحارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله، قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى تر ما أصنع، فقال: (ويحك، أو هبلت، أو جنة واحدة هي، إنها جنان كثيرة، وإنه في جنة الفردوس).
قال تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنّتَانِ) [الرحمن: 46](2/374)
وقد قال تعالى ولمن خاف مقام ربه جنتان فذكرهما ثم قال ومن دونهما جنتان فهذه أربع.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: جنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبر، على وجهه في جنة عدن.
وثبت في رواية حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه قال حماد لا أعلمه إلا قد رفعه قال جنتان من ذهب للمقربين ومن دونهما جنتان من ورق لأصحاب اليمين أخرجه الطبري وابن أبي حاتم ورجاله ثقات.
(أبواب الجنة وخزنتها:
هيا بنا نطرق أبواب الجنة لنسيح بفكرنا في ملكوت الله فيها وما أودع فيها من بديع الأسرار لعباده الأخيار.
قال تعالى: (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ) [ص:50]
وَهَذَا المآبُ الحَسَنُ هُوَ جَنّاَتُ اسْتِقْرَارٍ وَإِقَامَةٍ مُفَتَّحَةٌ أَبْوَابُهَا إِكْرَاماً لَهُمْ لِيَدْخُلُوهَا آمِنِينَ.
وعن الحسن، وذكر أبواب الجنة، فقال: أبواب يُرى ظاهرها من باطنها، فَتكلم وتَكلم، فتهمهم انفتحي انغلقي، فتفعل. (1)
قال تعالى: (وَسِيقَ الّذِينَ اتّقَوْاْ رَبّهُمْ إِلَى الّجَنّةِ زُمَراً حَتّىَ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) [الزمر: 73]
والخزنة جمع خازن ومثل حفظة وحافظ وهو المؤتمن على الشيء الذي قد استحفظه.
(حديث أنس في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: آتي باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك.
(حديث سهل بن سعد الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (في الجنة ثمانية أبواب، فيها بابٌ يُسمى الريَّان لا يدخله إلا الصائمون)
__________
(1) - تفسير الطبري - (ج 18 / ص 221) حسن(2/375)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أنفق زوجين في سبيل الله، نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي وأمي يا رسول الله، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟. قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم.
وَقَوْله: (فِي سَبِيل اللَّه) قِيلَ: هُوَ عَلَى الْعُمُوم فِي جَمِيع وُجُوه الْخَيْر، وَقِيلَ: هُوَ مَخْصُوص بِالْجِهَادِ، وَالْأَوَّل أَصَحّ وَأَظْهَر. هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي.
قَوْله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (نُودِيَ فِي الْجَنَّة: يَا عَبْد اللَّه هَذَا خَيْر) قِيلَ: مَعْنَاهُ: لَك هُنَا خَيْر وَثَوَاب وَغِبْطَة. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ هَذَا الْبَاب فِيمَا نَعْتَقِدهُ خَيْر لَك مِنْ غَيْره مِنَ الْأَبْوَاب لِكَثْرَةِ ثَوَابه وَنَعِيمه، فَتَعَالَ فَادْخُلْ مِنْهُ، وَلَا بُدّ مِنْ تَقْدِير مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ كُلّ مُنَادٍ يَعْتَقِد ذَلِكَ الْبَاب أَفْضَل مِنْ غَيْره. قَوْله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْل الصَّلَاة دُعِيَ مِنْ بَاب الصَّلَاة) وَذَكَرَ مِثْله فِي الصَّدَقَة وَالْجِهَاد وَالصِّيَام. قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ: مَنْ كَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ فِي عَمَله وَطَاعَته ذَلِكَ.
قَوْله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَاحِب الصَّوْم: (دُعِيَ مِنْ بَاب الرَّيَّان) قَالَ الْعُلَمَاء: سُمِّيَ بَاب الرَّيَّان تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْعَطْشَان بِالصَّوْمِ فِي الْهَوَاجِر سَيُرْوَى وَعَاقِبَتُهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الرِّيِّ (1).
(حديث عمر في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من أحدٍ يتوضأ فيبلغ أو يسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء.
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (ج 3 / ص 475)(2/376)
(حديث عمر صحيحي أبي داوود الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أن محمدا عبده و رسوله اللهم اجعلني من التوابين و اجعلني من المتطهرين فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء.
(حديث عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
" فَأُقَعْقِعُهَا " أَيْ أُحَرِّكُهَا لِتُصَوِّتَ وَالْقَعْقَعَةُ حِكَايَةُ حَرَكَةِ الشَّيْءِ يُسْمَعُ لَهُ صَوْتٌ "
[*] (أورد ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح عن خليد عن الحسن مفتحة أبوابها قال أبواب ترى وذكرا أيضا عن خليد عن قتادة قال أبواب يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها تتكلم وتكلم وتفهم ما يقال لها انفتحي انغلقي.
[*] (وأورد ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح عن الفزاري قال لكل مؤمن في الجنة أربعة أبواب فباب يدخل عليه منه زواره من الملائكة وباب يدخل عليه منه أزواجه من الحور العين وباب مقفل فيما بينه وبين أهل النار يفتحه إذا شاء ينظر إليهم لتعظم النعمة عليه وباب فيما بينه وبين دار السلام يدخل منه على ربه إذا شاء
أنفق زوجين في سبيل الله، نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي وأمي يا رسول الله، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟. قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم.
(خزنة الجنة:
خزنة: جمع خازن , كحفظة: جمع حافظ
قال تعالى: (وَسِيقَ الَذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) {الزمر 73}(2/377)
وَيُوِجَّهُ المُتَّقُونَ إِلَى الجَنَّةِ جَمَاعَاتٍ إِثْرَ جَمَاعَاتٍ: المُقَرَّبُونَ، ثُمَّ الأَبْرَارُ، ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ. . فَإِذَا وَصَلُوا الجَنَّةَ تُفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابُهَا لاسْتِقْبَالِهِمْ، وَيَسْتَقْبِلُهُمْ حُرَّاسُهَا (خَزَنُتهَا) بالتَّحِيَةِ وَالسَّلاَمِ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ: طَابَتْ أَعْمَالُكُمْ وَأَقْوَالُكُمْ، وَطَابَ سَعْيُكُمْ وَجَزَاؤُكُمْ، فَادْخُلُوا الجَنَّةَ لِتَمْكُثُوا فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً.
وهذه الآية الكريمة تثبت وجود خزنة للجنة, وهم من الملائكة، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «آتِى بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَسْتَفْتِحُ فَيَقُولُ الْخَازِنُ مَنْ أَنْتَ فَأَقُولُ مُحَمَّدٌ. فَيَقُولُ بِكَ أُمِرْتُ لاَ أَفْتَحُ لأَحَدٍ قَبْلَكَ» (1).
وهذا الحديث كما يثبت وجود خزنة للجنَّة, يثبت كذلك فضل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكرامته.
(حديث أبي ذر رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من عبد مسلم ينفق من كل مال له زوجين في سبيل الله إلا استقبلته حجبة الجنة كلهم يدعوه إلى ما عنده قلت وكيف ذلك قال إن كانت إبلا فبعيرين وإن كانت بقرا فبقرتين.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح:
قد سمى الله سبحانه وتعالى كبير هذه الخزنة رضوان وهو اسم مشتق من الرضا وسمى خازن النار مالكا وهو اسم مشتق من الملك وهو القوة والشدة حيث تصرفت حروفه.
(عدد أبواب الجنة:
إنَّ جنة عالية غالية عظيمة ذات أبواب واسعة عظيمة تليق بسعتها وتدل على علو منزلتها وقدرها، وعدد أبوابها ثمانية:
(حديث سهل بن سعد الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (في الجنة ثمانية أبواب، فيها بابٌ يُسمى الريَّان لا يدخله إلا الصائمون)
__________
(1) - صحيح مسلم (507)(2/378)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أنفق زوجين في سبيل الله، نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي وأمي يا رسول الله، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟. قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم.
(حديث عمر في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من أحدٍ يتوضأ فيبلغ أو يسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء.
(حديث عمر صحيحي أبي داوود الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أن محمدا عبده و رسوله اللهم اجعلني من التوابين و اجعلني من المتطهرين فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء.
(حديث عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل.
(سعة أبواب الجنة:
إنَّ جنة عالية غالية عظيمة ذات أبواب واسعة عظيمة تليق بسعتها وتدل على علو منزلتها وقدرها، وعدد أبوابها ثمانية:
(حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن ما بين مصراعين في الجنة لمسيرة أربعين سنة.(2/379)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: كنا مع النبي في دعوة فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهس منها نهسة وقال أنا سيد الناس يوم القيامة، هل تدرون مم ذاك يجمع لله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيبصرهم الناظر ويسمعهم الداعي وتدنو منهم الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس ألا ترون إلى ما أنتم فيه وإلى ما بلغكم ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم فيقول بعض الناس لبعض أبوكم آدم فيأتونه فيقولون يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك وأسكنك الجنة ألا تشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا فقال إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله وإنه نهاني عن الشجرة فعصيت نفسي نفسي نفسي ذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحا فيقولون يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وقد سماك لله عبدا شكورا ألا ترى إلى ما نحن فيه ألا ترى إلى ما بلغنا ألا تشفع لنا إلى ربك فيقول إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه قد كان لي دعوة دعوت بها على قومي نفسي نفسي نفسي ذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقولون أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول لهم إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني كنت كذبت ثلاث كذبات فذكرها نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى فيأتون موسى فيقولون يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسالاته(2/380)
وبكلامه على الناس اشفع لنا إلى ربك أما ترى إلى ما نحن فيه فيقول إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قد قتلت نفسا لم أومر بقتلها نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى فيأتون عيسى فيقولون يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول عيسى إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ولم يذكر ذنبا نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد فيأتوني فيقولون يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي ثم يقال يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول أمتي يا رب أمتي يا رب أمتي يا رب فيقال يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ثم قال والذي نفسي بيده «إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وَبُصْرَى».
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
(المصراعان) بكسر الميم جانبا الباب ,
(وهجر) بفتح الهاء والجيم وهي مدينة عظيمة هي قاعدة بلاد البحرين , قال الجوهري في صحاحه: (هجر) اسم بلد مذكر مصروف قال: والنسبة إليه (هاجري) , وقال أبو القاسم الزجاجي في الجمل: (هجر) يذكر ويؤنث قلت: وهجر هذه غير هجر المذكورة في حديث " إذا بلغ الماء قلتين بقلال هجر " تلك قرية من قرى المدينة كانت القلال تصنع بها وهي غير مصروفة , وقد أوضحتها في أول شرح المهذب.
وأما (بُصْرَى) فبضم الباء وهي مدينة معروفة بينها وبين دمشق نحو ثلاث مراحل , وهي مدينة حوران بينها وبين مكة شهر.
(صفة أبواب الجنة وأنها ذات حلق:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
" فَأُقَعْقِعُهَا " أَيْ أُحَرِّكُهَا لِتُصَوِّتَ وَالْقَعْقَعَةُ حِكَايَةُ حَرَكَةِ الشَّيْءِ يُسْمَعُ لَهُ صَوْتٌ "(2/381)
[*] (أورد ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح عن خليد عن الحسن مفتحة أبوابها قال أبواب ترى وذكرا أيضا عن خليد عن قتادة قال أبواب يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها تتكلم وتكلم وتفهم ما يقال لها انفتحي انغلقي.
[*] (وأورد ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح عن الفزاري قال لكل مؤمن في الجنة أربعة أبواب فباب يدخل عليه منه زواره من الملائكة وباب يدخل عليه منه أزواجه من الحور العين وباب مقفل فيما بينه وبين أهل النار يفتحه إذا شاء ينظر إليهم لتعظم النعمة عليه وباب فيما بينه وبين دار السلام يدخل منه على ربه إذا شاء.
(أول من يقرع باب الجنة:
(حديث أنس في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: آتي باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك.
(أول من يدخلون الجنة وصفاتهم:
- «أول الناس دخولاً الجنة هو النبي محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم أمته»
(حديث أنس في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: آتي باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد.
فهذه الأمة المحمدية أسبق الأمم خروجاً من الأرض, وأسبقهم إلى أعلى مكان في الموقف, وأسبقهم إلى ظلّ العرش , وأسبقهم إلى الفصل والقضاء بينهم, وأسبقهم إلى جواز الصراط , وأسبقهم إلى دخول الجنة.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح:
فهذه الأمة أسبق الأمم خروجا من الأرض وأسبقهم إلى أعلى مكان في الموقف وأسبقهم إلى ظل العرش وأسبقهم إلى الفصل والقضاء بينهم واسبقهم إلى الجوار على الصراط وأسبقهم إلى دخول الجنة فالجنة محرمة على الأنبياء حتى يدخلها محمد ومحرمة على الأمم حتى تدخلها أمته.(2/382)
(صفات أول من يدخلون الجنة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها ولا يمتخطون ولا يتغوطون، آنيتهم فيها الذهب، أمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان، يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن، ولا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشيا.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يتفلون ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة ـ الألنجوج، عود الطيب ـ وأزواجهم الحور العين، على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم، ستون ذراعا في السماء.
ومعنى (رشحهم المسك) أي: عرقهم كالمسك في طيب رائحته, و (المجامر): جمع [مِجْمَر] و [مُجْمَر] ,والأول: هو الذي يوضع فيه النار للبخور, والثاني: هوالذي يُتبخر به وأُعدّ له الجمر.
ومعنى (الألوة):العود الهندي الذي يُتبخر به, وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: الألنجوج هو العود الذي يُتبخر به, ولفظ (الألنجوج) هنا تفسير
(الألوة) , و (العود) تفسير التفسير وقوله
(ستون ذراعًا في السماء) أي: في العلو والارتفاع" (1)
وَقَدْ يُقَال إِنَّ رَائِحَة الْعُود إِنَّمَا تَفُوح بِوَضْعِهِ فِي النَّار وَالْجَنَّة لَا نَار فِيهَا وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ بَعْد تَخْرِيج الْحَدِيث الْمَذْكُور: يُنْظَر هَلْ فِي الْجَنَّة نَار؟ وَيُجَاب بِاحْتِمَالِ أَنْ يَشْتَعِل بِغَيْرِ نَار بَلْ بِقَوْلِهِ: كُنْ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ مِجْمَرَة بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ فِي الْأَصْل، وَيُحْتَمَل أَنْ يَشْتَعِل بِنَارٍ لَا ضَرَر فِيهَا وَلَا إِحْرَاق، أَوْ يَفُوح بِغَيْرِ اِشْتِعَال
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: قَدْ يُقَال أَيّ حَاجَة لَهُمْ إِلَى الْمُشْط وَهُمْ مُرْد وَشُعُورهمْ لَا تَتَّسِخ؟ وَأَيّ حَاجَة لَهُمْ إِلَى الْبَخُور وَرِيحهمْ أَطْيَب مِنْ الْمِسْك؟
__________
(1) - فتح الباري للحافظ ابن حجر (9/ 590)(2/383)
قَالَ: وَيُجَاب بِأَنَّ نَعِيم أَهْل الْجَنَّة مِنْ أَكْل وَشُرْب وَكِسْوَة وَطِيب وَلَيْسَ عَنْ أَلَم جُوع أَوْ ظَمَأ أَوْ عُرْي أَوْ نَتْن، وَإِنَّمَا هِيَ لَذَّات مُتَتَالِيَة وَنِعَم مُتَوَالِيَة، وَالْحِكْمَة فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُنَعَّمُونَ بِنَوْعِ مَا كَانُوا يَتَنَعَّمُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: مَذْهَب أَهْل السُّنَّة أَنَّ تَنَعُّم أَهْل الْجَنَّة عَلَى هَيْئَة تَنَعُّم أَهْل الدُّنْيَا إِلَّا مَا بَيْنهمَا مِنَ التَّفَاضُل فِي اللَّذَّة، وَدَلَّ الْكِتَاب وَالسُّنَّة عَلَى أَنَّ نَعِيمهمْ لَا اِنْقِطَاع لَهُ (1).
(حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله عز وجل قالوا الله ورسوله أعلم قال الفقراء المهاجرون الذين تسد بهم الثغور وتتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء فيقول الله عز وجل لمن يشاء من ملائكته ائتوهم فحيوهم فتقول الملائكة ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم قال إنهم كانوا عبادا يعبدوني ولا يشركون بي شيئا وتسد بهم الثغور وتتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء قال فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار.
(سبق الفقراء الأغنياء إلى الجنة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وهو خمس مائة عام.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
قَوْلُهُ: (وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ) فَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا.
مسألة: كيف نجمع بين الحديثين السابقين فأحدهما يقول «بنصف يوم وهو خمس مائة عام» والآخر «بأربعين خريفا»
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح تعليقاً على حديث «بأربعين خريفا»
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (ج 10 / ص 30)(2/384)
فإما أن يكون هو المحفوظ وإما أن يكون كلاهما محفوظا وتختلف مدة السبق بحسب أحوال الفقراء والأغنياء فمنهم من يسبق بأربعين ومنهم من يسبق بخمسمائة كما يتأخر مكث العصاة من الموحدين في النار بحسب أحوالهم والله أعلم، ولكن هنا أمر يجب التنبيه عليه وهو أنه لا يلزم من سبقهم لهم في الدخول ارتفاع منازلهم عليهم بل قد يكون المتأخر أعلى منزلة وإن سبقه غيره في الدخول والدليل على هذا أن من الأمة من يدخل الجنة بغير حساب وهم السبعون ألفا وقد يكون بعض من يحاسب أفضل من أكثرهم والغني إذا حوسب على غناه فَوُجِد قد شكر الله تعالى فيه وتقرب إليه بأنواع البر والخير والصدقة والمعروف كان أعلى درجة من الفقير الذي سبقه في الدخول ولم يكن له تلك الأعمال ولا سيما إذا شاركه الغني في أعماله وزاد عليه فيها والله لا يضيع أجر من أحسن عملا فالمزية مزيتان مزية سبق ومزية رفعة وقد يجتمعان وينفردان فيحصل الواحد السبق والرفعة ويعدمهما آخر ويحصل لآخر السبق دون الرفعة ولآخر الرفعة دون السبق وهذا بحسب المقتضى للأمرين أو لأحدهما وعدمه وبالله التوفيق.
(أصناف أهل الجنة وأوصافهم:
(أصناف أهل الجنة:
أهل الجنة أربعة أصناف ذكرهم الله سبحانه وتعالى في قوله قال تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ فَأُوْلََئِكَ مَعَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مّنَ النّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشّهَدَآءِ وَالصّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولََئِكَ رَفِيقاً) [النساء: 69] فنسأل الله أن يجعلنا منهم بمنه وكرمه.
(أوصاف أهل الجنة:
إن الذي يمعن النظر في «الوحيين الشريفين» الكتاب والسنة الصحيحة يجد أنهما طافحان بأوصاف أهل الجنة منها ما يلي:
(أولاً أوصاف أهل الجنة في القرآن الكريم:(2/385)
قال تعالى: (وَسَارِعُوَاْ إِلَىَ مَغْفِرَةٍ مّن رّبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُهَا السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدّتْ لِلْمُتّقِينَ * الّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السّرّآءِ وَالضّرّآءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النّاسِ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ * وَالّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوَاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذّنُوبَ إِلاّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرّواْ عَلَىَ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلََئِكَ جَزَآؤُهُمْ مّغْفِرَةٌ مّن رّبّهِمْ وَجَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [آل عمران 133: 136]
فأخبر سبحانه أنه أعد الجنة للمتقين دون غيرهم ثم ذكر أوصاف المتقين فذكر بذلهم للإحسان في حالة العسر واليسر والشدة والرخاء فإن من الناس من يبذل في حال اليسر والرخاء ولا يبذل في حال العسر والشدة ثم ذكر كف أذاهم عن الناس بحبس الغيظ بالكظم وحبس الانتقام بالعفو، ثم ذكر حالهم بينهم وبين ربهم في ذنوبهم وأنها إذا صارت منهم قابلوها بذكر الله والتوبة والاستغفار وترك الإضرار فهذا حالهم مع الله وذاك حالهم مع خلقه.
وقال تعالى: (وَالسّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 100] فأخبر تعالى أنه أعدها للمهاجرين والأنصار وأتباعهم بإحسان فلا مطمع لمن خرج عن طريقتهم فيها.
وقال تعالى قال تعالى: (إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَىَ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ * الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلََئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال 2: 4]
فوصفهم بإقامة حقه باطنا وظاهرا وبأداء حق عباده.
(ثانياً أوصاف أهل الجنة في السنة الصحيحة:(2/386)
(حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا فلان شهيد فلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا فلان شهيد فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا بن الخطاب اذهب فناد في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون قال فخرجت فناديت ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة و إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر.
(حديث عياض بن حمار رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أهل الجنة ثلاثة ذو سلطان مقسط موفق ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم وعفيف متعفف ذو عيال.
(حديث حارثة بن وهب رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ جعظري مستكبر.
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أهل النار كل جعظري جواظ مستكبر، جماع مناع، وأهل الجنة الضعفاء المغلوبون.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ألا أخبركم برجالكم من أهل الجنة؟ النبي في الجنة، والصديق في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والرجل يزور أخاه في ناحية المصر لا يزوره إلا لله عز وجل، ونساؤكم من أهل الجنة: الودود الولود العؤود على زوجها؛ التي إذا غضب جاءت حتى تضع يدها في يد زوجها وتقول: لا أذق غمضا حتى ترضى.
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وجبت). ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا، فقال: (وجبت) فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: (هذا أثنيتم عليه خيرا، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا، فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض).(2/387)
(حديث أبي زهير الثقفي رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يوشك أن تعرفوا أهل الجنة من أهل النار قالوا بم ذاك يا رسول الله قال بالثناء الحسن والثناء السيئ أنتم شهداء الله بعضكم على بعض.
(أكثر أهل الجنة هم أمة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (يقول الله: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، قال: يقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فذاك حين يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكرى وما هم بسكرى، ولكنَّ عذاب الله شديد). فاشتد ذلك عليهم فقالوا: يا رسول الله، أينا ذلك الرجل؟ قال: (أبشروا، فإن من يأجوج ومأجوج ألفاً ومنكم رجلاً، ثم قال: والذي نفسي بيده، إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة). قال: فحمدنا الله وكبَّرنا، ثم قال: (والذي نفسي بيده، إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة، إن مثلكم في الأمم كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالرُقْمة في ذراع الحمار).
(حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أهل الجنة عشرون ومائة صف ثمانون منها من هذه الأمة وأربعون من سائر الأمم.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
قَوْلُهُ: (أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ) أَيْ قَدْرُهَا أَوْ صُوِّرُوا صُفُوفًا.
(ثَمَانُونَ مِنْهَا) أَيْ مِنْ جُمْلَةِ الْعَدَدِ.
(مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ) أَيْ كَائِنُونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
(وَأَرْبَعُونَ) أَيْ صَفًّا.
(مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ) وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ تَكْثِيرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَنَّهُمْ ثُلُثَانِ فِي الْقِسْمَةِ.(2/388)
قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَكَبَّرْنَا، فَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَكَبَّرْنَا فَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ عدة أمة الإسلام} (1)، قُلْتُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الثَّمَانُونَ صَفًّا مُسَاوِيًا فِي الْعَدَدِ لِلْأَرْبَعَيْنِ صَفًّا، وَأَنْ يَكُونُوا كَمَا زَادَ عَلَى الرُّبُعِ وَالثُّلُثِ يَزِيدُ عَلَى النِّصْفِ كَرَامَةً لَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْحَقِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي اللُّمَعَاتِ: لَا يُنَافِي هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ} (2) لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رَجَاؤُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ ثُمَّ زِيدَ وَبُشِّرَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِالزِّيَادَةِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ الطِّيبِيِّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الثَّمَانُونَ صَفًّا مُسَاوِيًا لِأَرْبَعَيْنِ صَفًّا فَبَعِيدٌ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ) أَنْ يَكُونَ الصُّفُوفُ مُتَسَاوِيَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، انْتَهَى.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح:
لا تنافي بينها وبين حديث الشطر لأنه رجا أولا أن يكونوا شطر أهل الجنة فأعطاه الله سبحانه رجاءه وزاد عليه سدسا أخر.
(النساء في الجنة أكثر من الرجال وكذلك هم في النار:
__________
(1) - البخاري الرقاق (6163) ,مسلم الإيمان (221) ,الترمذي صفة الجنة (2547) ,أحمد (1/ 386).
(2) - البخاري أحاديث الأنبياء (3170) ,مسلم الإيمان (222) ,أحمد (3/ 32).(2/389)
ثبت في الصحيحين من حديث أيوب بن محمد بن سيرين قال أما تفاخروا وأما تذاكروا الرجال أكثر في الجنة الرجال أم النساء فقال أبو هريرة ألم يقل أبو القاسم أن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر والتي تليها على أضواء كوكب دري في السماء لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم وما في الجنة عزب فإن كن من نساء الدنيا فالنساء في الدنيا أكثر من الرجال وإن كن من الحور العين لم يلزم أن يكن في الدنيا أكثر والظاهر أنهن من الحور العين.
مسألة: كيف نجمع بين هذا الحديث وبين الحديثين الآتيين:
(حديث أبي سعيد الثابت في الصحيحين) قال: خرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أضحى أو فطر فمرَّ على النساء فقال: يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار، فقلن وبم يا رسول الله قال تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيتُ من ناقصات عقلٍ ودين أذهب للبَّ الرجل الحازم من إحداكن قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال أليس شهادةُ المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن بلى. قال فذلك نقصان من عقلها. أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم؟ قلن بلى. قال فذلك من نقصان دينها.
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء.
الجواب:
أن نساء الدنيا أكثر أهل النار و أقل أهل الجنة لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فإني أريتكن أكثر أهل النار» وقوله «واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء»
والنساء في الجنة أكثر بالحور العين التي خلقن في الجنة.
بدلالة الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها ولا يمتخطون ولا يتغوطون، آنيتهم فيها الذهب، أمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان، يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن، ولا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشيا.
(من يدخل الجنة من هذه الأمة بغير حساب:(2/390)
(حديثُ ابن عباس في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: عُرِضت عليَّ الأمم فجعل يمرُ النبي معه الرجل والنبيُ معه الرجلان والنبي معه الرهط والنبي ليس معه أحد، ورأيتُ سواداً كثيراً سدَّ الأفق فرجوتُ أن تكون أمتي فقِيل هذا موسى وقومه، ثم قِيل ليَ انظر هكذا وهكذا فرأيتُ سواداً كثيراً سدَّ الأفق فقِيل هؤلاء أمتُك ومع هؤلاءِ سبعون ألفاً يدخلون الجنةَ بغيرِ حساب فتفرَّقَ الناسُ ولم يبينْ لهم، فتذاكرَ أصحابُ النبيِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا نحن وُلدنا في الشرك ولكن هؤلاء أبناؤنا، فبلغ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال {هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون} فقام عُكَّاشةُ ابن مِحصن فقال: أمنهم أنا يا رسولَ الله؟ قال: أنت منهم، فقام آخر فقال أمنهم أنا؟ قال: سبقك بها عُكَّاشة.
(حديث أَبَي أُمَامَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وعدني رَبِّىأَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِى سَبْعِينَ أَلْفاً لاَ حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلاَ عَذَابَ مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفاً وَثَلاَثُ حَثَيَاتٍ مِنْ حَثَيَاتِ ربيِ».
مسألة: هل كل من حقَّق التوحيد يدْخُل الجنة بغيرِ حساب؟
(المسألةُ على التفصيلِ الآتي:
(1) من حقَّق التوحيدِ واتصف بالصفاتِ الأربعةِ التي ذكرها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكونهم لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون، فهؤلاء يدخلون الجنةَ بغيرِ حساب
(حديثُ ابن عباس في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: عُرِضت عليَّ الأمم فجعل يمرُ النبي معه الرجل والنبيُ معه الرجلان والنبي معه الرهط والنبي ليس معه أحد، ورأيتُ سواداً كثيراً سدَّ الأفق فرجوتُ أن تكون أمتي فقِيل هذا موسى وقومه، ثم قِيل ليَ انظر هكذا وهكذا فرأيتُ سواداً كثيراً سدَّ الأفق فقِيل هؤلاء أمتُك ومع هؤلاءِ سبعون ألفاً يدخلون الجنةَ بغيرِ حساب فتفرَّقَ الناسُ ولم يبينْ لهم، فتذاكرَ أصحابُ النبيِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا نحن وُلدنا في الشرك ولكن هؤلاء أبناؤنا، فبلغ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال {هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون} فقام عُكَّاشةُ ابن مِحصن فقال: أمنهم أنا يا رسولَ الله؟ قال: أنت منهم، فقام آخر فقال أمنهم أنا؟ قال: سبقك بها عُكَّاشة.(2/391)
(2) من حقَّقَ التوحيدِ الخالص ولكن نقصه بعض الصفاتِ الأربع كمن يسترقي أو يكتوي فهذا لا يدخلُ الجنةَ بغيرِ حساب ولكنه يدخلُ الجنةَ دون أن تمسَّه النار فقد حرَّمه الله تعالى على النار
(حديثُ أنس في الصحيحين) أن رسولَ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعاذَ رَدِيفُه على الرحل قال يا مُعاذ، قال لبيك يا رسولَ الله وسعديك. قال يا مُعاذ، قال لبيك يا رسولَ الله وسعديك ثلاثاً، قال: ما من أحدٍ يشهدُ أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولُ الله صِدقاً من قلبه إلا حرَّمه الله على النار، فقلتُ يا رسولَ الله أفلا أُخْبر به الناسَ فيستبشرون؟ قال: إذاً يتكلوا. وأخبربها معاذ عند موته تأثماً.
(3) من حقَّق التوحيدَ ولكن له معاصي أوبقتْه فهذا لايُخَلدُ في النار ولكنه تحت مشيئةِ الإله النافذة إن شاء عفا عنه وإن شاء آخذه ولكنه يدخلُ الجنةَ يوماً من الأيام أصابه قبل ذلك اليوم ما أصابه.
(حديثُ أبي ذرٍ في الصحيحين) قال أتيتُ النبيَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليه ثوبٌ أبيض وهو نائم ثم أتيته وقد استيقظ فقال: ما من عبدٍ قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنةَ، قلتُ وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. قلتُ وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. قلتُ وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق على رَغمِ أنفِ أبي ذر.
(حديثُ أنس في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يخرجُ من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزنُ شُعَيْرَةٍ من خير، ويخرجُ من النارِ من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزنُ بُرَةٍ من خير ويخرجُ من النارِ من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرةٍ من خير.
(حديثُ أبي سعيدٍ في صحيحِ الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يخرجُ من النارِ من كان في قلبه مِثقالُ ذرةٍ من إيمان.
(مسألة: ما هو التطيرُ وما حكمه؟
التطيرُ هو التشاؤم بمسموعٍ أو مرئيٍ أو معلوم، وسُمِّىَ بالتطير لأن غالبَ التشاؤم عند العرب كان بالطير، كانوا يزجرون الطير فإذا ذهب يميناً يتفاءلون وإذا ذهب يساراً يتشاءمون.
(حكمُ التطير: التطيرُ محرَّمٌ شرعاً
(حديثُ أبي هريرةَ في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا عدوى ولا طِيَرَة ولا هامةُ ولا صفر وفرَّ من المجذومِ فرارك من الأسد.
مسألة: هل التطيرُ يُنافي التوحيد؟
(التطيرُ ينافي التوحيدَ من وجهين:(2/392)
(1) التطيرُ يقطعُ التوكلَ على الله الذي هو نصفُ الدين، قال الله تعالى (إياك نعبدُ وإياك نستعين) والاستعانة في الحقيقة ما هي إلا ثمرةُ التوكل.
(2) أن المتطيرَ تعلقَ بشئٍ لاحقيقةَ له، واعتقد أن الطِيَرَةَ تملكُ الضرَ والنفع وهذا شرك والعياذُ بالله.
(حديثُ ابن مسعود في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال الطِيَرَة شرك – ثلاثاً – وما منا إلا 000 ولكن يُذْهبه الله بالتوكل.
(حديثُ عبد الله ابن عمرو في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من ردَّتْه الطِيَرَةُ عن حاجته فقد أشرك. قلتُ فما كفارةُ ذلك؟ قال: أن تقول اللهم لاخيرَ إلا خيْرُك ولا طَيرَ إلا طَيْرُك ولا إله غيرُك.
مسألة: ما معنى لا يكتوون وهل الكي جائز؟
(معنى لا يكتوون: أي لا يطلبون من يكويهم
حكم الكي: جائز مع الكراهة لأن فيه تعذيبٌ للنفس
(حديثُ أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن كان في شئٌ من أدويتكم شفاءٌ ففي شرْطةِ مِحْجَم أو شرْبةِ عسل أو لذعةِ نارٍ توافقُ الداء، وما أحبُ أن أكتوي.
(حديثُ ابن عباس في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الشفاء في ثلاث: شربةُ عسل أو شرطةُ مِحْجَم أو كيةُ نار وأنهى أمتي عن الكي.
مسألة: هل من يكتوي ينافي تحقيق التوحيد؟
من يكتوي لا ينافي تحقيق التوحيد إلا أن تركه أفضل حتى يكون متعلقاً بالله وحده لا سواه.
مسألة: ما معنى ولا يسترقون، وهل الإ سترقاء جائز؟
(معنى لا يسترقون: أي لا يطلبون من أحدٍ أن يرقيَهم
حكم الإسترقاء: الإسترقاءُ جائزٌ ما دامت الرقيةُ شرعية إلا أن تركه أفضل لكمالِ التعلقِ بالله وحده،
(والدليلُ على جواز الرقيةِ ما يلي:
(حديثُ عائشةَ في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أن يُسترقَى من العين.
(حديثُ أمِ سلمةَ في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى في بيتها جارية في وجهها سَفْعَةً فقال: استرقوا لها فإن بها النظرة.
(حديثُ عائشةَ في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أتى مريضاً أو أُتِيَ بهِ إليهِ قال: أذهب البأسَ ربِ الناس، اشفِ أنتَ الشافي لا شفاءَ إلا شفاءك، شفاءاً لا يغادرُ سَقَما.
(حديثُ عائشةَ في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخَّصَّ في الرقيةِ من كلِ ذِي حُمَة)
{تنبيه}: (ذي حُمًة: أي ذوات السموم(2/393)
(حديثُ أبي سعيدٍ في صحيح مسلم) أن جبريلَ عليه السلام أتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال يا محمدُ اشتكيت؟ قال نعم. قال بسم الله أرقيكَ من كُلِ شئٍ يُؤذيك ومن شرِ كُلِ نفسٍ أو عين حاسدٍ الله يشفيْك بسم الله أرقيك.
(حديثُ عائشةَ في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقولُ للمريض: بسمِ اللهِ تُرْبَةُ أرضنا بِرِيقةِ بَعْضنا يُشْفَى سَقِيمُنا بإذن ربنا.
(مسألة: هل الإسترقاء يُنافي التوحيد؟
الإسترقاء لا يُنافي التوحيد إلا أن تركه أفضل لكمالِ التعلقِ بالله وحده.
مسألة: ما معنى التوكل؟
(التوكلُ هو: صدقُ الاعتماد على الله تعالى في جلب النفعِ أو دفع الضُرِ، وذلك بالأخذِ بالأسبابِ المشروعة دون التعلقِ بها ثم الرضا بالمقضي.
{تنبيه}: (لا يتمُ التوكلُ إلا بشيئين أساسيين:
(1) قبل التفويضُ حدوثِ المقضي: فبعد أن يصدُق الإنسان في اعتماده على الله يُفَوِّضُ أمره إلى الله تعالى بمعنى أنه يُلقي أمره إلى الله يُصَرِّفْه كيف يشاء.
(2) حدوث المقضي: الرضا بعد فمن لم يرضى بالمقضي فتوكله فاسد، ولذا يحسن بالإنسان أن يقول بعد تحقيقِ أسبابِ التوكل [اللهم إنا فوضنا أمرنا إليك راضِين بما قضيت فاقدر لنا الخيرَ حيث كان]
{تنبيه}: (من لم يأخذ بالأسبابِ المشروعةِ فتوكله فاسد، فمثلاً لو أن إنسان زعم أنه صدق في اعتماده على الله تعالى في حصولِ الولد ولكنه لم يتزوج فهل يُعَدُ هذا متوكلاً على الله؟ بالطبع لا، ليس هذا توكلاً إنما هذا سفهٌ وحماقة.
ولعل أوضح حديثٍ يبين ُ التوكلَ بشقَيْه قبل حدوث المقضي وبعده هو حديث الاستخارة.
(حديثُ جابر في صحيح البخاري) قال كان رسولُ الله يُعلمُنا الاستخارة في الأمورِ كلها كالسورةِ من القرآن، إذا همَّ أحدكم بالأمرِ فليركع ركعتين من غيرِ الفريضةِ ثم يقول: اللهم إني أستخِيرُك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدرُ ولا أقدرُ وتعلمُ ولا أعلمُ وأنت علاَّمُ الغيوب، اللهم إن كنت تعلمُ أن هذا الأمرَ خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبةِ أمري _ أو قال عاجل أمري وآجله _ فاقدره لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمرَ شرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبةِ أمري فاصرفْه عني واصرفني عنه ثم ارضِني به، ويُسَمِّي حاجته.
(ذكر حثيات الرب تبارك وتعالى الذين يدخلهم الجنة:(2/394)
(حديث أَبَي أُمَامَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وعدني رَبِّى أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ أَلْفاً لاَ حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلاَ عَذَابَ مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفاً وَثَلاَثُ حَثَيَاتٍ مِنْ حَثَيَاتِ ربيِ».
مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفاً: أي الذين لا يحاسبون من أمته ـ مع كل ألف منهم سبعون ألفاً ـ.
كم سيكون المجموع؟
أربعة ملايين وتسعمائة ألف غير الحثيات.
وَثَلاَثُ حَثَيَاتٍ مِنْ حَثَيَاتِ ربيِ: ذهب أهل العلم إلى أن الحثية من الله تعالى أكثر عددا من السبعين ألفا ومع كل واحد سبعين ألفا، وهذا من عظيم رحمة الله تعالى وفضله ومنِّه وكرمه، فهؤلاء من يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب.
مسألة: ما حكم أن يحثو الإنسان بيده وهو يذكر ذلك الحديث؟
الجواب:
أن ذلك يتوقف والله أعلم على حال من يخاطبهم الإنسان، فإن خشي عليهم أن يقع في قلوبهم شيء من تشبيه الله بخلقه ـ والعياذ بالله ـ فإنه لا يفعل ذلك، أما إن لم يخش منهم ذلك وأراد أن يبين لهم معنى الحثية فحثا بيده لكي يعلموها فلا بأس إن شاء الله، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يأخذ الله عز وجل سماواته وأرضه بيديه فيقول أنا الله، أنا الملك أنا الملك) وأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقبض أصابعه ويبسطها وهو يروي قول ربه سبحانه وتعالى، وفي سنن أبي داود من حديث أبي هريرة قال: (رأيت رسول الله قرأ هذه الآية إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ... إلى قوله سميعاً بصيراً)، قال رأيت رسول الله يضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينيه).(2/395)
ولم يكن «ولم يكن ذلك منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تشبيهاً ولا تمثيلاً»،وإنما هو زيادة بيان وإيضاح، لعلمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أصحابه لا يفهمون من فعله أن قبض الله تعالى السموات والأرض كقبض الإنسان للأشياء بيده، ولا أن سمع الله تعالى وبصره كسمعنا وبصرنا، أما إن كان فعل ذلك يترتب عليه فهم خاطيء لصفات المولى عز وجل فإن علينا أن لا نفعل ذلك، وبنحو ما قلناه قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرحه على كتاب التوحيد المسمى بالمجموع المفيد حيث ذكر أن ذلك يختلف بحسب ما يترتب عليه فإن كان السامع لن يتقبل ذهنه ذلك إلا بأن يشعر بالتمثيل فينبغي أن نكف عن تلك الإشارة أمامه، لأن تلك الإشارة ليست بواجبة حتى نقول إنه يجب علينا أن نبلغ كما بلغ الرسول بالقول والفعل، أما إذا كنا نتكلم مع طلبة علم أو مع إنسان مكابر ينفي هذا ويريد أن يحول المعنى إلى غير الحقيقة فحينئذ نفعل كما فعل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. هذا والله تعالى أعلم.
(عرض الجنة:
قال تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}] البقرة:255 [فنؤمن أن هناك خلقاً اسمه الكرسى, وليس بالطبع كرسياً نجلس عليه, ولكنه خلق أخبرنا به, كما أن هناك خلقاً آخر اسمه العرش, يقول الله عز وجل: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر:7]
(حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:» أُذِن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش, أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام».
(حديث أبى ذر الغفاري رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أنه سأل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الكرسي فقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:» والذي نفسي بيده ما السماوات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة, وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة».
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، «كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض»، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تَفجَّر أنهار الجنة.
(أخي الحبيب:(2/396)
أما آن لنا أن نتخيل الآتي بناءً على ما سبق: الكرة الأرضية التي هي الدنيا التي نعيش فيها, الشمس أكبر منها مليون وثلاثمائة ألف مرة, فأصبحت الدنيا صغيرة جداً بالنسبة للشمس تبعد عن الأرض بمائة وخمسين ألف مليون كيلو متر, ثم إن الشمس يوجد مثلها وأكبر منها فى مجرة دَرْب التبانة عدد مائة مليار نجم, وأن هذا العدد يتوزع فى فراغ ما بين كل نجم وآخر أربع سنوات ضوئية, السنة الضوئية مسافة 9.46 بليون كيلو متر, ثم تخيّل معى قطر مجرة درب التبانة مائة ألف سنة ضوئية, وأن سمكها يبلغ ألفين سنة ضوئية, فكم تكون المساحة التى تشغلها مجرة درب التبانة؟! ثم اسرح بخيالك معى إلى تخيّل الكون الذى علمه البشر أن فيه مائة بليون مجرة, ما بين كل مجرة وأخرى خمسة ملايين سنة ضوئية. وهل بذلك بلغوا السماء الدنيا أوهذا هو السماوات السبع؟ افترض أن ذلك هو السماوات والأرضين السبع, فأين الكرة الأرضية التى هى الدنيا؟؟؟
ثم افترض أن الكون المعلوم لنا هو السماوات السبع والأرضين السبع, وتخيّل الكرسي الذي وسع السماوات والأرض, وأنه بناء على الحديث النبوي تكون السماوات السبع بداخله مثل سبع دراهم ألقيت فى صحراء واسعة, فكم كون السماوات السبع بداخله مثل سبع دراهم ألقيت فى صحراء واسعة, حجم الكرسي؟؟؟ , ثم تخيّل العرش الذى يكون الكرسي بداخله كحلقة ـ خاتم أو أسورة ـ أُلقيت فى الصحراء, فكم تتخيّل حجم هذا الخلق الذي هو العرش؟؟؟ فأين الكرة الأرضية التي هي الدنيا؟؟؟
ثم تخيّل الفردوس الأعلى الذي سقفه عرش الرحمن, فكم تكون سعة الجنة؟؟؟ , فأين الكرة الأرضية التي هي الدنيا من الجنة؟؟ ولك الآن أن تدرك أن «الجنة فوق ما يخطر ببال أويدور في الخيال»، فهل أعددت لها صالح الأعمال قبل طي الآجال.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تبارك وتعالى: أعددت لعبادي الصالحين: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر). قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مّآ أُخْفِيَ لَهُم مّن قُرّةِ أَعْيُنٍ).
(ذكر بناء الجنة وملاطها وحصباؤها و تربتها:(2/397)
توجد على وجه هذه البسيطة أبنية فخمة وقصور مشيدة ومساكن وغرف .. لكنها مهما علا قدرها وجمالها ومهما تطاول بنيانها وعلوها .. لا تشبه ما في الجنة من مساكن وبنايات إلا في الاسم فقط، ففي الجنة من سحر المساكن وجمال القصور وتعالي الغرف وتلألؤ الخيام, ما تقر به العين وتسكن إليه النفس وكيف لا وخيامها من لؤلؤ, وقصورها من ذهب وفيها من فاخر الأثاث وكواعب النساء وطيب الشراب ولذيذ الطعام مالا يخطر ببال أو يدور في الخيال، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الجنة بناؤها لبنة من فضة و لبنة من ذهب ومِلاطُها المسك الأذْفَرُ وَحَصْبَاؤُهَا اللؤلؤ والياقوت و تربتها الزعفران من يدخلها ينعم لا يبأس و يخلد لا يموت لا تبلى ثيابهم و لا يفنى شبابهم.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(الجنة بناؤها لَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ وَلَبِنَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) أَيْ بِنَاؤُهَا مُرَصَّعٌ مِنْهُمَا
(وَمِلَاطُهَا) بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ مَا بَيْنَ اللَّبِنَتَيْنِ مَوْضِعُ النُّورَةِ، فِي النِّهَايَةِ: الْمِلَاطُ الطِّينُ الَّذِي يُجْعَلُ بَيْنَ سَاقَتَيِ الْبِنَاءِ يُمَلَّطُ بِهِ الْحَائِطُ أَيْ يُخْلَطُ.
(الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ) أَيِ الشَّدِيدُ الرِّيحِ.
(وَحَصْبَاؤُهَا) أَيْ حَصْبَاؤُهَا الصِّغَارُ الَّتِي فِي الْأَنْهَارِ قَالَهُ الْقَارِي. وَقَالَ صَاحِبُ أَشِعَّةِ الجزء السابع اللُّمَعَاتِ: أَيْ حَصْبَاؤُهَا الَّتِي فِي الْأَنْهَارِ وَغَيْرِهَا. قُلْتُ: الظَّاهِرُ هُوَ الْعُمُومُ
(اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ) أَيْ مِثْلُهَا فِي اللَّوْنِ وَالصَّفَاءِ
(وَتُرْبَتُهَا) أَيْ مَكَانَ تُرَابِهَا
(الزَّعْفَرَانُ) أَيِ النَّاعِمُ الْأَصْفَرُ الطَّيِّبُ الرِّيحِ فَجَمَعَ بَيْنَ أَلْوَانِ الزِّينَةِ وَهِيَ الْبَيَاضُ وَالْحُمْرَةُ وَالصُّفْرَةُ وَيَتَكَمَّلُ بِالْأَشْجَارِ الْمُلَوَّنَةِ بِالْخُضْرَةِ. وَلَمَّا كَانَ السَّوَادُ يَغُمُّ الْفُؤَادَ خُصَّ بِأَهْلِ النَّارِ.(2/398)
(مَنْ يَدْخُلُهَا يَنْعَمُ لَا يَبْأَسُ) بِفَتْحِ وَسَطِهِمَا فِي الْقَامُوسِ: الْبَأْسُ الْعَذَابُ وَالشِّدَّةُ فِي الْحَرْبِ بَؤُسَ كَكَرُمَ بَأْسًا وَبَئِسَ كَسَمِعَ اشْتَدَّتْ حَاجَتُهُ
(يَخْلُدُ) أَيْ يَدُومُ فَلَا يَتَحَوَّلُ عَنْهَا
(ولَا يَمُوتُ) أَيْ لَا يَفْنَى بَلْ دَائِمًا يَبْقَى
(َلَا تَبْلَى) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِنْ بَابِ سَمِعَ يَسْمَعُ أَيْ لَا تَخْلَقُ وَلَا تَتَقَطَّعُ
(ثِيَابُهُمْ) وَكَذَا أَثَاثُهُمْ
(وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُمْ) أَيْ لَا يَهْرَمُونَ وَلَا يُخَرِّفُونَ وَلَا يُغَيِّرُهُمْ مُضِيُّ الزَّمَانِ قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ أَنَّ الْجَنَّةَ دَارُ الثَّبَاتِ وَالْقَرَارِ وَأَنَّ التَّغَيُّرَ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا فَلَا يَشُوبُ نَعِيمَهَا بُؤْسٌ وَلَا يَعْتَرِيهِ فَسَادٌ وَلَا تَغْيِيرٌ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ دَارَ الْأَضْدَادِ وَمَحَلَّ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ.
مسألة: ما هي تربة الجنة؟
(تربة الجنة: المسك والزعفران والدرمكة البيضاء (الدقيق الحواري الخالص البياض).
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الجنة بناؤها لبنة من فضة و لبنة من ذهب ومِلاطُها المسك الأذْفَرُ وَحَصْبَاؤُهَا اللؤلؤ والياقوت و تربتها الزعفران من يدخلها ينعم لا يبأس و يخلد لا يموت لا تبلى ثيابهم و لا يفنى شبابهم.
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لابن صياد: " ما تربة الجنة؟ قال: درمكة بيضاء مسك يا أبا القاسم, قال: صدقت".
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن بن صياد سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن تربة الجنة فقال درمكة بيضاء مسك خالص، وثبت في السنة الصحيحة أن تربتها الزعفران كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الجنة بناؤها لبنة من فضة و لبنة من ذهب ومِلاطُها المسك الأذْفَرُ وَحَصْبَاؤُهَا اللؤلؤ والياقوت و تربتها الزعفران من يدخلها ينعم لا يبأس و يخلد لا يموت لا تبلى ثيابهم و لا يفنى شبابهم.
(أخي الحبيب:(2/399)
إن كنت المحب لهذا العيش الرغيد ولتلك المساكن الطيبة, فاصبر نفسك على طاعة الله, واجتناب محارمه وأداء الصلوات والصيام والقيام في الظلمات ..
(ولله درُ من قال:
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ... ويدرك غب السير من هو صابر
(غُرف الجنة وقصورها:
وأما غرف الجنة فلا تسل عن قوة بنائها وإحكام أركانها وبهاء منظرها وتلألؤ مظهرها.
قال تعالى: (لََكِنِ الّذِينَ اتّقَواْ رَبّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مّبْنِيّةٌ) [الزمر: 20]
فأخبر أنها «غرف فوق غرف وأنها مبنية بناء حقيقة» لئلا تتوهم النفوس أن ذلك تمثيل وأنه ليس هناك بناء بل تتصور النفوس غرفا مبنية كالعلالي بعضها فوق بعض حتى كأنها ينظر إليها عيانا ومبنية صفة للغرف الأولى والثانية أي لهم منازل مرتفعة وفوقها منازل أرفع منها.
وقال تعالى: (أُوْلََئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ) [الفرقان: 75]
والغرفة: جنس كالجنة وتأمل كيف جزاءهم على هذه الأقوال المتضمنة للخضوع والذل والاستكانة لله الغرفة والتحية والسلام في مقابلة صبرهم على سوء خطاب الجاهلين لهم فَبُدِّلُوا بذلك سلام الله وملائكته عليهم.
وقال تعالى: (وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالّتِي تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىَ إِلاّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلََئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) [سبأ: 37]
وقال تعالى: (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [الصف: 12]
وقال تعالى عن امرأة فرعون أنها قالت (رَبّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنّةِ) [التحريم: 11](2/400)
{تنبيه}: (المساكن الطيبة فى جنات عدن ليست للوقاية من الحرّ أو البرد, وليست ليرتاح أهلها فيها, وليست للحفظ والستر, فإن الجنة لا حرَّ ولا برد فيها, ولا تعب ولا انكشاف فيها, إنها مساكن طيبة كما أخبر الله تعالى, جُعلت للبهجة والسرور, والاستمتاع والحبور, تتغيّر فيها الألوان فى كل آن, وتبسط فيها الوسائد والزرابى تكريماً وإحساناً, ويأنس فيها ولىّ الله بالأهل والوالدان, وتمدّ فيها الموائد فى كل الأركان {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ المساكن الطيبة فى جنات عدن ليست للوقاية من الحرّ أو البرد, وليست ليرتاح أهلها فيها, وليست للحفظ والستر, فإن الجنة لا حرَّ ولا برد فيها, ولا تعب ولا انكشاف فيها, إنها مساكن طيبة كما أخبر الله تعالى, جُعلت للبهجة والسرور, والاستمتاع والحبور, تتغيّر فيها الألوان فى كل آن, وتبسط فيها الوسائد والزرابى تكريماً وإحساناً, ويأنس فيها ولىّ الله بالأهل والوالدان, وتمدّ فيها الموائد فى كل الأركان {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ.]} الرحمن:78 [
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق، من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم. قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: (بلى، والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين.
والغابر: هو الذاهب الماضي الذي قد تدلى للغروب وفي التمثيل به دون الكواكب المسامت للرأس وهو أعلى فائدتان هما:
أحدهما بعده عن العيون.
والثانية أن الجنة درجات بعضها أعلى من بعض وإن لم تسامت العليا السفلى.
(حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن في الجنة لغرفا «يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها» فقام إليه أعرابي فقال لمن هي يا رسول الله قال هي لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى لله بالليل والناس نيام.(2/401)
فتأمل أخي الكريم: في مكان هذه الغرف .. إنها كالكواكب في علوها وتلألئها .. وانسيابها في الفضاء, نعم إنها عالية شامخة .. أعدها الله للمؤمنين لما استعلوا عن الكفر والفجور والفسق .. لما خضعوا لله في الدنيا بفعل الأوامر وترك النواهي, رفع الله قدرهم وأسكنهم في تلك الغرف المتعالية. واقرأ إن شئت ـ أخي الكريم ـ قول الله جل وعلا: {لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية} [الزمر20]
(أخي الحبيب: يا عبد الله فإن سلعة الله غالية, إن ثمنها تقوى الله وطاعته, وإنها ليسيرة على من يسرها الله عليه، واستبق هذا الخير العظيم, وهذا النعيم المقيم, فإنه لحمق وغرور, أن يستبدل المرء هذه الدنيا وهذا الخراب! بما عند الله من بديع الغرف الآمنة الهنيئة قال تعالى: {فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون} [سبأ37]
{تنبيه}: (لا تَنْس أن قوانين الجنة لا تقاس على قوانين وسنن الدنيا, فالرؤية فى الجنة لا حدود لها, فولىّ الله يرى ما أمامه وما خلفه, ولا يغيب عنه من نعيمه شئ فى أى لحظه» يرى ظاهره من باطنه وباطنه من ظاهره» {لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ]} الواقعه: 33 [فلا النعيم مقطوع ولا القدرة على التنعّم ممتنعة» يعطى للمؤمن من القوة ما يأتى على ذلك كله فى غداة واحدة».
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: بشروا خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه و لا نصب.
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
وقوله ببيت من قصب قال جمهور العلماء: المراد به قصب اللؤلؤ المجوف كالقصر المنيف، وقيل قصب من ذهب منظوم بالجوهر، قال أهل اللغة: القصب من الجوهر ما استطال منه في تجويف، قالوا: ويقال لكل مجوف قصب، وقد جاء في الحديث مفسراً ببيت من لؤلؤة محياة وفسروه بمجوفة، قال الخطابي وغيره: المراد بالبيت هنا القصر، وأما الصخب فبفتح الصاد والخاء وهو الصوت المختلط المرتفع، والنصب المشقة والتعب ويقال فيه نصب بضم النون وإسكان الصاد وبفتحهما لغتان حكاهما القاضي وغيره كالحزن والحزن والفتح أشهر وأفصح وبه جاء القرآن، وقد نصب الرجل بفتح النون وكسر الصاد إذا أعيا.
(حديث عثمان ابن عفان الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة.(2/402)
(حديث أم حبيبة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم اثنتي عشرة ركعة تطوعا غير فريضة إلا بنى الله له بيتا في الجنة.
(حديث عائشة الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من ثابر على اثنتي عشرة ركعة من السنة بنى الله له بيتا في الجنة أربع ركعات قبل الظهر و ركعتين بعده و ركعتين بعد المغرب و ركعتين بعد العشاء و ركعتين قبل الفجر.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ إذا قبضتُ صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة.
(خيام الجنة:
والجنة مساكن تتلألأ .. فكما أن غرفها كالكواكب الغائرة, فكذلك خيامها لآلئ مجوفة، كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا.
(أخي الحبيب: تأمل بعين البصيرة وانظر كيف سيكون إعجابك بها حين تدخلها .. وكيف تكون نشوتك وسعادتك وأنت ساكنها وحولك الحور العين تستأنس بهن وتسمع غناءهن ولحنهن الأخاذ .. وتنبه ـ أخي الحبيب ـ إلى أن ثمن دخولك هو الإيمان الذي يستلزم الانقياد لله سبحانه بفعل الخيرات وترك المنكرات والعبودية لله وحده, واعلم ـ أخي الحبيب ـ أن المؤمن لما زهد في الدنيا بقلبه, ولم يزين له حب الشهوات من ذهب وفضة, أثابه الله على ذلك الورع و الزهد بأن أسكنه جنته.
(قصور الجنة:
أما قصور الجنة فهي من ذهب ولؤلؤ وزبرجد وفضة .. فلا يعلم حسنها وبهاءها إلا الذي خلقها وبناها سبحانه وتعالى.
(حديث جابر رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: دخلت الجنة، فإذا أنا بقصر من ذهب، فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لرجل من قريش، فما منعني أن أدخله يا ابن الخطاب، إلا ما أعلم من غيرتك). قال: وعليك أغار يا رسول الله؟
(أخي الحبيب: بادر بالطاعات قبل فوات الأوان .. واطمع فيما عند الله من جنات ونعيم .. فإنما الدنيا لحظات وثواني .. وإنما أنت عابر سبيل.
(معرفة أهل الجنة لمنازلهم ومساكنهم إذا دخلوا الجنة:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح:(2/403)
قال تعالى: (وَالّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَن يُضِلّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنّةَ عَرّفَهَا لَهُمْ) [محمد 4: 6]
قال مجاهد: يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا لا يستدلوا عليها أحدا.
وقال ابن عباس في رواية أبي صالح هم أعرف بمنازلهم من أهل الجنة إذا انصرفوا إلى منازلهم.
وقال محمد بن كعب يعرفونها كما تعرفون بيوتكم في الدنيا إذا انصرفتم من يوم الجمعة هذا قول جمهور المفسرين.
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده، لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا.
(كيفية دخول أهل الجنة الجنة:
(حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا أو سبعمائة ألف، متما سكون آخذ بعضهم ببعض لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم ووجوههم على صورة القمر ليلة البدر.
إذاً فالدخول جماعي، في صفوف كأنهم زحف مقدس فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185] يدخلون على منازل أولهم على صورة القمر ليلة أربع عشر، ثم على صورة الكواكب الدرية، ثم بعدها في البياض، هكذا تدريجياًَ كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يتفلون ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة ـ الألنجوج، عود الطيب ـ وأزواجهم الحور العين، على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم، ستون ذراعا في السماء.
(سوق الجنة و ما اعد الله تعالى فيه لأهلها:(2/404)
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنا وجمالا فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا فيقول لهم أهلوهم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا فيقولون وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ سُوقًا يَأْتُونَهُ كُلَّ جُمُعَةٍ فِيهِ كُثْبَانُ الْمِسْكِ، فَتَهِيجُ رِيحُ شَمَالٍ فَتَحْثِي أَوْ فَتَسْفِي فِي وُجُوهِهِمُ الْمِسْكَ، فَيَأْتُونَ أَهْلِيهِمْ، فَيَقُولُونَ لَهُمْ: قَدْ زَادَكُمُ اللَّهُ بَعْدَنَا أَوِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالاً، فَيَقُولُونَ لَهُمْ: وَأَنْتُمْ قَدْ زَادَكُمُ اللَّهُ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالاً.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن في الجنة لسوقا كثبان مسك يخرجون إليها ويجتمعون إليها فيبعث الله ريحا فيدخلها بيوتهم فيقول لهم أهلوهم إذا رجعوا إليهم قد ازددتم حسنا بعدنا فيقولون لأهليهم قد ازددتم أيضا حسنا بعدنا.
(صفة أهل الجنة في خَلْقِهِم وَخُلُقِهم:
(أولاً صفة أهل الجنة في خَلْقِهِم:
يدخل أهل الجنةِ الجنة، جُرْدَاً مُرْدَاً مُكَحَلِّين، أبناء ثلاثين، أو ثلاث وثلاثين، عليهم التيجان، وإن أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب، ولو أن ما يقل ظفر مما في الجنة بدا، لتزخرفت له ما بين خوافق السماوات والأرض، ولو أن رجلا من أهل الجنة اطلع فبدا سواره، لطمس ضوءه ضوءَ الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم.
وإذا فتحت الجنة أبوابها دخلت أول زمرة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم كأشد كوكب دري في السماء إضاءة، قلوبهم على قلب واحد، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، يسبحون الله بكرة وعشيا، لا يسقمون فيها ولا يموتون، ولا ينزفون، ولا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يمنون، ولا يمتخطون، ولا يتفلون، آنيتهم من الذهب والفضة، وأمشاطهم الذهب، ومجامرهم الألوّة، ورشحهم المسك، أزواجهم الحور العين، أخلاقهم على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم، ستون ذراعاً في السماء، وبجمال يوسف، وقلب أيوب، وعُمْر عيسى، وخُلُق محمد، عليهم جميعاً الصلاة والسلام.(2/405)
لكل واحد منهم زوجتان من الحور العين، على كل زوجة سبعون حلة، يرى مخ سوقهما من وراء لحومهما وحللهما، كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يتفلون ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة ـ الألنجوج، عود الطيب ـ وأزواجهم الحور العين، على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم، ستون ذراعا في السماء.
«على صورة أبيهم آدم، ستون ذراعا في السماء» والمراد تساويهم في الطول والعرض والسن وإن تفاوتوا في الحسن والجمال ولهذا فسره بقوله على صورة أبيهم آدم عليه السلام ستون ذراعا في السماء.
(حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يدخل أهل الجنة الجنة جُرْدَاَ مُرْدَاً مُكَحَلِين أبناء ثلاثين أو ثلاث وثلاثين سنة.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح:
إن الله تعالى ينشئ أهل الجنة نشأة الملائكة أو أكمل من نشأتهم بحيث لا يبولون ولا يتغوّطون ولا ينامون ويلهمون التسبيح ولا يهرمون على تطاول الأحقاب ولا تنمو أبدانهم, بل القدر الذى الذى جُعلوا عليه لازم أبداً.
{تنبيه}: (وكذلك وصف الله سبحانه وتعالى نساءهم بأنهن أتراب أي في سن واحد ليس فيهن العجائز والشواب وفي هذا الطول والعرض والسن من الحكمة ما لا يخفى فإنه أبلغ وأكمل في استيفاء اللذات لأنه أكمل سن القوة وَعِظَمِ الآت اللذة وباجتماع الأمرين يكون كمال اللذة وقوتها بحيث يصل في اليوم الواحد إلى مئة عذراء، ولا يخفى التناسب الذي بين هذا الطول والعرض فإنه لو زاد أحدهما على الآخر فات الاعتدال وتناسب الخلقة يصير طولا مع دقة أو غلظا مع قصر وكلاهما غير مناسب والله أعلم.
(ثانياً صفة أهل الجنة في خُلُقِهم:
قد جعل الله أهل الجنة في أكمل صورة خلق عليها البشر, وهي صورة آدم عليه السلام, وما ذلك إلا لتكمل سعادتهم وغبطتهم في ذلك النعيم الخالد. وكما جمل الله صورهم فقد جمل أخلاقهم فكان أهل الجنة على خلق رجل واحد: كما في الحديث الآتي: ((2/406)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يتفلون ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة ـ الألنجوج، عود الطيب ـ وأزواجهم الحور العين، على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم، ستون ذراعا في السماء.
(حديث المقدام رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من أحد يموت سقطا ولا هرما ـ وإنما الناس فيما بين ذلك ـ إلا بعث ابن ثلاثين سنة، فإن كان من أهل الجنة كان على نسخة آدم، وصورة يوسف، وقلب أيوب، ومن كان من أهل النار عظموا، أو فخموا كالجبال.
فما أعذب تلك الحياة .. وما ألذ عيشها .. حياة كلها مودة وصفاء وألفة وإخاء .. ومحبة وصدق ووفاء, قال تعالى: (وَهُدُوَاْ إِلَى الطّيّبِ مِنَ الْقَوْلِ) [الحج: 24]
و قال تعالى: (لاّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً) [الغاشية: 11]
و قال تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَاناً عَلَىَ سُرُرٍ مّتَقَابِلِينَ) [الحجر 47] فلا نكد ولا شقاء. ولا بغض ولا حسد ولا تشاجر ولا حروب, وإنما هو مجتمع يسوده الهدوء والسكينة والألفة والرحمة.
(سِنُ أهلِ الجنة:
(حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يدخل أهل الجنة الجنة جُرْدَاَ مُرْدَاً مُكَحَلِين أبناء ثلاثين أو ثلاث وثلاثين سنة.
(تحفة أهل الجنة إذا دخلوها:(2/407)
(حديث ثوبان مولى رسول الله رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال: كنت قائما عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجاء حبر من أحبار اليهود فقال السلام عليك يا محمد فدفعته دفعة كاد يصرع منها فقال لم تدفعني فقلت ألا تقول يا رسول الله فقال اليهودي إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن اسمى محمد الذي سماني به أهلي فقال اليهودي جئت أسألك فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أينفعك شيء إن حدثتك قال أسمع بأذني فنكت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعود معه فقال سل فقال اليهودي أين يكون الناس! < يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات >! فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم في الظلمة دون الجسر قال فمن أول الناس إجازة قال فقراء المهاجرين قال اليهودي فما تحفتهم حين يدخلون الجنة قال زيادة كبد النون قال فما غذاؤهم على أثرها قال ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها قال فما شرابهم عليه قال من عين فيها تسمى سلسبيلا قال صدقت قال وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان قال ينفعك إن حدثتك قال أسمع بأذني قال جئت أسألك عن الولد قال ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله قال اليهودي لقد صدقت وإنك لنبي ثم انصرف فذهب فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه ومالي علم بشيء منه حتى أتاني الله به.
مسألة: ما معنى زيادة كبد الحوت؟
زيادة كبد الحوت: القطعة المنفردة المتعلقة بكبد الحوت، وهي أطيبها وألذها.(2/408)
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: سمع عبد الله بن سلام بقدوم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في أرض يحترف، فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: فما أول شرط الساعة، وما أول طعام أهل الجنة، وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: (أخبرني جبريل آنفا). قال: جبريل؟ قال: (نعم). قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقرأ هذه الآية: (قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لّجِبْرِيلَ فَإِنّهُ نَزّلَهُ عَلَىَ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ) [البقرة: 97]. أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد حوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت). قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني، فجاءت اليهود، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أي رجل عبد الله فيكم). قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا. قال: (أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام). فقالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. فقالوا: شرنا وابن شرنا، وانتقصوه، قال: فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله.
(ريح الجنة ومن مسيرة كم ينشق:
للجنة ريحٌ طيبة, وجاءت السنة بإثبات ذلك, وأن بعض الذنوب تحرم صاحبها رائحة الجنة، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: صنفان من أهل النار لم أرهما: رجالٌ معهم سِياطٌ كأذناب البقر يضربون بها الناس و نساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ مائلاتٌ مميلاتٌ رءوسهنَّ كأسنمةِ البُخْتِ المائلة لا يدخلن الجنة و لا يجدن ريحها و إن ريحَها لتوجد من مسيرة كذا و كذا.
البخت: واحدتها البختية وهى الناقة طويلة العنق ذات السنامين.
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما).(2/409)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قتل نفسا معاهدة بغير حقها، لم يرح رائحة الجنة، وإن ريح الجنة توجد من مسيرة مائة عام.
(حديث أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدَةً بِغَيْرِ حَقِّهَا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَ الْجَنَّةِ لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ مِائَةِ عَامٍ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ألا من قتل نفسا معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله فلا يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا.
{تنبيه}: (لا خلاف بين هذه الأحاديث فى ذكر المسافات التى يُشم منها رائحة الجنة, فإن ذلك يكون بحسب الجنات التى يدخلها المؤمن بقدر عمله وحسب درجته فإن رائحة الفردوس الأعلى تفوق رائحة أدنى أهل الجنة منزلة, لذلك تتفاوت الروائح والأبعاد الى تشم منها.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح:
قد أشهد الله سبحانه عباده فى هذه الدار آثاراً من آثار الجنة وأنموذجاً منها من الرائحة الطيبة, واللذات المشتهاة, والمناظر البهية, والفاكهة الحسنة, والنعيم والسرور.
وقال: وريح الجنة نوعان: ريح يوجد منها فى الدنيا تشمّه الأرواح أحياناً لا تدركه كل العباد كما قال أحد أصحاب النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد» واهاً لريح الجنة أجده دون أحد»] رواه البخارى ومسلم, قال: وريح يدرك بحاسة الشم للأبدان كما تشم روائح الأزهار وغيرها, وهذا يدركه من شاء الله من أنبيائه ورسله, وهذا الذى وجده أنس بن النضر يوم أحد [.
{تنبيه}: (مسافات الآخرة لا يقاس بالأمتار, ولا بسرعة الضوء, إنها مسافات يفوت الخيال إدراكها, فهي فوق ما يخطر ببال أو يدور في الخيال، فإذا كنا فى الدنيا قد آمنا أن مخلوقًا قال لسيدنا سليمان النبى عليه الصلاة والسلام: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}] النمل: 40 [وأحضر عرش بلقيس فعلاً في أقل من غمضة عين, كما أننا آمنا كما آمن أبو بكر الصديق رضى الله عنه أن النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسرى به إلى بيت المقدس, وأعرج به إلى آفاق سدرة المنتهى ثم رأى ما رأى وعاد وفراشه لم يبرد, فكيف لا نؤمن بمسافات (كن فيكون).(2/410)
(الأذان الذي يؤذن به مؤذن الجنة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ينادي مناد إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا فذلك قوله عز وجل قال تعالى: (وَنُودُوَاْ أَن تِلْكُمُ الْجَنّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف: 43]
(حديث صُهَيْبٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: في قَوْلِهِ {لِلّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قالَ: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنّةِ الْجَنّةَ، نَادَى مُنَادٍ إِنّ لَكُمْ عِنْدَ الله مَوْعِداً، قَالُوا أَلَمْ يُبَيّضْ وُجُوهَنَا وَيُنَجّينَا مِنَ النّارِ وَيُدْخِلْنَا الْجَنّةَ؟ قَالُوا بَلَى، فَينكشفُ الْحِجَابُ، قالَ: فَوَالله مَا أَعْطَاهُمْ شَيْئاً أَحَبّ إِلَيْهِمْ مِنَ النظَرِ إِلَيْهِ».
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا.
(حديث أبي سعيد في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يؤتى بالموت كهيئة كبشٍ أملح فينادي منادٍ: يا أهل الجنة! فيشرئبون وينظرون فيقول هل تعرفون هذا؟ فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه، ثم ينادي: يا أهل النار! فيشرئبون وينظرون فيقول هل تعرفون هذا؟ فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه، فيذبح ثم يقول: يا أهل الجنة خلودٌ فلا موت ويا أهل النار خلودٌ فلا موت ثم قرأ قوله تعالى: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) [سورة: مريم - الآية: 39].
يشرئب: يرفع رأسه ويمد عنقه.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح:(2/411)
وهذا الأذان وإن كان بين الجنة والنار فهو يبلغ جميع أهل الجنة والنار ولهم فيها نداء آخر يوم زيارتهم ربهم تبارك وتعالى يرسل إليهم ملكا فيؤذن فيهم بذلك فيتسارعون إلى الزيارة كما يؤذن مؤذن الجمعة إليها وذلك في مقدار يوم الجمعة.
(أشجار الجنة وبساتينها وظلالها:
ومن نعيم الجنة الخالد, كثرة الأشجار, ووفرة طيب الثمار, وغرائب الأطيار, فأشجارها لا يقدر قدرها إلا الذي خلقها، من كثرة أغصانها وطول عمودها وانسياب أركانها وأعوادها, ولقد أودع الله فيها من جمال الشكل وحسن المنظر وبهاء اللون ورونق المظهر وامتداد الظل وطيب الثمار مالا يخطر على بال أو يدور في الخيال.
أشجار الجنة من أنواع شتَّى, من يواقيت منوّعة, يغشاها ألوان بعد ألوان لا نهاية لألوانها وبهجتها , تتغيّر الألوان بغير أسباب, تهب ريح الجنة فتصفق الأوراق بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها, تَردُها طيور وعجائب بجمال ورَوَقْ لا تصفه الألسنة, فيتنعّم الرائى, والآكل, والسامع {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا}] الأنسان:13, 14 [
وقال تعالى: (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مّنضُودٍ * *وَظِلّ مّمْدُودٍ * وَمَآءٍ مّسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لاّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ) [الواقعة 27: 33]
فِي سِدْرٍ مّخْضُودٍ: والمخضود الذي قد خضد شوكة أي نزع وقطع فلا شوك فيه وهذا قول بن عباس ومجاهد ومقاتل وقتادة وأبي الأحوص وقسامة بن زهير وجماعة.
وَطَلْحٍ مّنضُودٍ: فأكثر المفسرين قالوا إنه شجرة الموز.
وَظِلّ مّمْدُودٍ:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن في الجنة شجرة، يسير الراكب في ظلها مائة عام، لا يقطعها، واقرؤا إن شئتم: {وَظِلّ مّمْدُودٍ}).
وأشجار الجنة ساقها من ذهب كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب.
ومن أشجار الجنة شجرة طوبى ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها كما في الحديث الآتي: ((2/412)
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة عام ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها.
وقال تعالى: (ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ) [الرحمن: 48] وهو جمع فنن وهو الغصن.
وقال تعالى: (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمّانٌ) [الرحمن: 68]
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترغيب والترهيب موقوفاً) قال: نخل الجنة جذوعها من زمرد خضر وكربها ذهب أحمر وسعفها كسوة لأهل الجنة منها مقطعاتهم وحللهم وثمرها أمثال القلال والدلاء أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وألين من الزبد ليس فيها عجم.
(حديث عتبة ابن عبد السلمى رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) قال:» كنت جالساً مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجاء أعرابى فقال: يا رسول الله أسمعك تذكر فى الجنة شجرة لا أعلم شجرة أكثر شوكاً منها ـ يعني الطلح ـ , فقال رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن الله جعل مكان كل شوكة منها ثمرة (يعني من شجرة الطلح في الجنة) مثل خصية التيس الملبود ـ يعني المخصي ـ , فيها سبعون لوناً من الطعام لا يشبه لون آخر».
(حديث أ َبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ فَذَهَبْتُ أَتَنَاوَلُ مِنْهَا قِطْفًا أُرِيكُمُوهُ فَحِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ ". فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مَثَلُ الْحَبَّةِ مِنَ الْعِنَبِ؟ قَالَ: " كَأَعْظَمِ دَلْوٍ فَرَتْ أُمُّكَ قَطُّ ".
الدلو: إناء يُستقى به من البئر ونحوه
قط: بمعنى أبدا.
(أخي الحبيب: تصور نفسك وأنت تملك واحدة من تلك الأشجار, كيف ستكون نشوتك وكيف سيكون سرورك وفرحتك, وكيف وهي أشجار كثيرة, عديدة ومتنوعة, فمنها أشجار الرمان ومنها أشجار العنب ومنها أشجار السدر ومنها أشجار الطلح, ولا تظن أخي الحبيب, أن هذه الفاكهة هي نفسها التي نراها في الدنيا, بل إن فواكه الآخرة لا تشبه فواكه الدنيا سوى في الاسم فقط كما صح ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه.(2/413)
إنها أشجارها دائمة العطاء وافرة الخضرة 00 ممتدة الظلال00 في كل حال. قد تشابهت أشكال ثمارها, بيد أن كنهها ومذاقها يختلف. وهذا من لطائف نضجها وعجائب قدرة الله في إبداعها, قال تعالى (كُلّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رّزْقاً قَالُواْ هََذَا الّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مّطَهّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 25]
(ومن تلك الأشجار ما إن ظلها ليسير فيه الراكب مائة عام وما يقطعه.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن في الجنة لشجرة، يسير الركب في ظلها مائة سنة، واقرؤوا إن شئتم: {وظل ممدود}. [الواقعة 30]
(ومن تلك الأشجار سدرة المنتهى: قال تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىَ * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىَ * عِندَهَا جَنّةُ الْمَأْوَىَ) [النجم 13: 15]
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ـ حديث الإسراء ـ:"ثم انطلق بي-أي: جبريل- حتى انتهى إلى سدرة المنتهى ونبقها فلال هجر, وورقها مثل آذان الفيلة, تكاد الورقة تغطي هذه الأمة فغشيها ألوان لا أدري ما هي, ثم أدخلت الجنة, فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك".
(ومن تلك الأشجار ما يخرج منها ثياب أهل الجنة:
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة عام ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها.
(ومما يزيد أشجار الجنة بهاء وجمالاً, أن سيقانها من الذهب:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب.
الله أكبر .. ما ألذ ثمارها وما أبهى أشجارها فطوبى لمن أحسن غراسها, في الدنيا بذكر الله وتهليله تسبيحه وحمده وتكبيره.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال يا محمد أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
قيعان: جمع قاع وهي الأرض المستوية الخالية من الشجر.
غراس جمع غرس وهو: ما يستر الأرض من البذر ونحوه.(2/414)
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر غرس الله بكل واحدة منهن شجرة في الجنة.
فاغرس .. أيها الأخ الكريم: بساتين الأشجار بأسهل الأذكار فهي كلمات خفيفة سهلة, وما أكثر الغافلين عنها, المشتغلين بلغو الكلام وربما الهذر الحرام. مساكين هؤلاء الغافلون شغلهم غراس الدنيا, فاشتغلوا به ونسوا حظهم في الآخرة, ولم يزل يلهيهم طول الأمل وحب الدنيا, حتى باغتهم الموت.
ومع كثرة أشجار الجنة وثمارها, فإن أهل الجنة يرغبون في الزرع وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوما يحدث، وعنده رجل من أهل البادية: أن رجلا من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع، فقال له: ألست فيما شئت؟ قال: بلى، ولكني أحب أن أزرع، قال: فبذر، فبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده، فكان أمثال الجبال، فيقول الله: دونك يا ابن آدم، فإنه لا يشبعك شيء. فقال الأعرابي: والله لا تجده إلا قرشيا أو أنصاريا، فإنهم أصحاب زرع، وأما نحن فلسنا بأصحاب زرع، فضحك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذا يدل على أن في الجنة زرعا وذلك البذر منه وهذا أحسن أن تكون الأرض معمورة بالشجر والزرع.
(ثمار الجنة وتعداد أنواعها وصفاتها:
قال تعالى: (وَبَشّرِ الّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ كُلّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رّزْقاً قَالُواْ هََذَا الّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مّطَهّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 25]
وقولهم (هََذَا الّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ): أي شبيهه ونظيره لا عينه.
مسألة: ما معنى قوله تعالى (وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً):
[*] (قال الحسن رحمه الله تعالى في قوله تعالى (وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً):أي خيارٌ كله لا رذل ألم تروا إلى ثمر الدنيا كيف تسترذلون بعضه وأن ذلك ليس فيه رذل، وقال قتادة خيار لا رذل فيه فإن ثمار الدنيا ينقى منها ويرذل منها وكذلك قال ابن جريح وجماعة، وعلى هذا فالمراد بالتشابه التوافق والتماثل.(2/415)
[*] (وقالت طائفة أخرى منهم أبن مسعود وابن عباس وناس من أصحاب رسول الله متشابها في اللون والمرأى وليس يشبه الطعم قال مجاهد متشابها لونه مختلفا طعمه.
[*] (قال ابن قتيبة: كل ما في الجنة من الأنهار والسرر والفرش والأكواب مخالف لما في الدنيا من صنعة العباد كما قال ابن عباس: ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء. انتهى.
وقال تعالى: (يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ) [الدخان: 55]
هذا يدل على أمنهم من انقطاعها ومضرتها.
وقال تعالى: (وَتِلْكَ الْجَنّةُ الّتِيَ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مّنْهَا تَأْكُلُونَ) [الزخرف 72: 73]
وقال تعالى: (وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لاّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ) [الواقعة 32: 33]
أي لا تكون في وقت دون وقت ولا تمنع ممن أرادها.
وقال تعالى: (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رّاضِيَةٍ * فِي جَنّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ) [الحاقة 21: 23] والقطوف جمع قطف وهو ما يقطف والقطف بالفتح الفعل أي ثمارها دانية قريبة ممن يتناولها فيأخذها كيف يشاء قال البراء بن عازب يتناول الثمرة وهو نائم.
وقال تعالى: (وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً) [الإنسان: 14]
قال ابن عباس إذا هَمَّ أن يتناول من ثمارها تدلت له حتى يتناول ما يريده وقال غيره قريب إليهم مذللة كيف شاءوا، فهم يتناولونها قياما وقعودا ومضطجعين فيكون كقوله قطوفها دانية ومعنى تذليل القطف تسهيل تناوله.
وقال تعالى: (فِيهِمَا مِن كُلّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ) [الرحمن: 52]
وقال تعالى: (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمّانٌ) [الرحمن: 68] وخص النخل والرمان من بين الفاكهة بالذكر لفضلهما وشرفهما كما نص على حدائق النخل والأعناب في سورة النبأ إذ هما من أفضل أنواع الفاكهة وأطيبها وأحلاها.
وقال تعالى: (وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مّن رّبّهِمْ) [محمد: 15]
قال ابن عباس: ثمر الجنة أمثال القلال والدلاء أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل وألين من الزبد ليس فيه عجم.
(في زرع الجنة:
قال تعالى: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذّ الأعْيُنُ) [الزخرف: 71](2/416)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوما يحدث، وعنده رجل من أهل البادية: أن رجلا من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع، فقال له: ألست فيما شئت؟ قال: بلى، ولكني أحب أن أزرع، قال: فبذر، فبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده، فكان أمثال الجبال، فيقول الله: دونك يا ابن آدم، فإنه لا يشبعك شيء. فقال الأعرابي: والله لا تجده إلا قرشيا أو أنصاريا، فإنهم أصحاب زرع، وأما نحن فلسنا بأصحاب زرع، فضحك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذا يدل على أن في الجنة زرعا وذلك البذر منه وهذا أحسن أن تكون الأرض معمورة بالشجر والزرع.
(أنهار الجنة وعيونها وأصنافها:
(أولاً أنهار الجنة:
لما كانت النفس البشرية تألف المياه والبساتين والأشجار وتسكن إليها فقد زين الله جل وعلا الجنة, وألبسها من بهاء الأشجار وعلوها وبركة الثمار ونموها وجريان الأنهار وسيولها وعذوبة العيون في أركانها, ما تقر به أعين عباد الله الصالحين، وفي الجنة أنهار كثيرة ذات أنواع متعددة، وقد تكرر ذكر الأنهار في القرآن في عدة مواضع كما يلي:
(موضع: تجري من تحتها الأنهار:
قال تعالى: (وَبَشّرِ الّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ) [البقرة: 25]
(وفي موضع: تجري تحتها الأنهار:
قال تعالى: (وَالسّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 100]
(وفي موضع: تجري من تحتهم الأنهار:
قال تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مّنْ غِلّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ) [الأعراف: 43]
وهذا يدل على أمور منها ما يلي:
أحدها: وجود الأنهار فيها حقيقية.
الثاني: أنهار جارية لا واقفة.
الثالث: أنها تحت غرفهم وقصورهم وبساتينهم كما هو المعهود في أنهار الدنيا.(2/417)
قال تعالى: (مّثَلُ الْجَنّةِ الّتِي وُعِدَ الْمُتّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مّن مّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لّبَنٍ لّمْ يَتَغَيّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مّنْ خَمْرٍ لّذّةٍ لّلشّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مّنْ عَسَلٍ مّصَفّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مّن رّبّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطّعَ أَمْعَآءَهُمْ) [محمد: 15]
يَصِفُ اللهُ تَعَالى الجَنَّةَ التي وَعَدَ المُتَّقينَ بإدخَالِهم إليها، فَيَقُولُ تَعَالى: إنَّها جَنَّةٌ تَجري فيها أنْهَارٌ مِنْ مِيَاهٍ غَيرِ مَتَغَيِّرةِ الطَعْمِ واللَّوِنِ والرَّائِحَةِ، لطُولِ مُكْثِها وَرُكُودِها، وَفيها أنْهَارٌ مِنْ لَبنٍ لم يَتَغيّرْ طَعْمُهُ وَلَمْ يَفْسُدْ، وَفِيها أنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذِيذَةِ الطَّعْمِ وَالمَذَاقِ لِشَاربيها، لاَ تَغْتَالُ العُقُولَ، وَلا يُنْكِرُهَا الشَّارِبُون، وَفِيها أَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ قَدْ صُفِّي مِنَ الشَّمْعِ والفَضَلاتِ. ولِلْمُتَّقِينَ فِي الجَنَّةِ مِنْ جَميعِ الفَوَاكهِ المُخْتَلِفَةِ الأَنْواعِ والطُّعُومِ وَالمَذَاقِ والرَّائِحَةِ. وَلَهُمْ فَوْقَ ذلكَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ تَعَالى، فَهُو يَتَقَّبَلُ مَا قَدَّمُوه مِنْ عَمَلٍ، وَيَتَجَاوَزُ عَنْ هَفَواتِهِمِ التِي اقْتَرَفُوهَا في الدُّنيا.
فَهَلْ يَتَسَاوى هَؤُلاءِ المُتَّقُونَ النَّاعِمُونَ في رِضْوانِ اللهِ، وَجَنَّاتِهِ، مَعَ الأشقِياءِ الذِين أدْخَلَهُمُ اللهُ النَّارَ لِيَبْقَوا فِيها خَالِدِينَ أبَداً، جَزاءً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِم وتكْذِيبهِمُ رُسُلَ رَبِّهم، وَأعْمَالِهم السَّيِّئَةِ؟ إِنَّهُمْ لاَ يَتَسَاوَوْنَ أبَداً. وَإذا طَلَبَ هَؤُلاءِ الأشقِيَاءُ، وَهُمْ يُعَذَّبُونَ في نَارِ جَهَنَّمَ، الماءَ لِيُطْفِئُوا ظَمَأهُم فَإنَّهُم يُسْقَوْنَ مَاءً شَدِيدَ الحَرَارةِ إذا شَرِبُوهُ قَطَّعَ أمْعَاءَهُمْ.
وقد ذكر الله تعالى هذه الأجناس الأربعة, ونفى عن كل واحد منها آفاته التي تعرض له في الدنيا. فآفة اللبن أن يتغير طعمه إلى الحموضة, وآفة الماء أن يأسن ويأجن من طول مكثه, وآفة الخمر كراهة مذاقها المنافي للذة شربها, وآفة العسل عدم تصفيته.
وهذا من آيات الله أن تجرى أنهار من أجناس لم تجر العادة في الدنيا بجريانها.(2/418)
ومجريها في غير أخدود, وينفى عنها الآفات التي تمنع كمال اللذة, كما ينفي عن خمر الجنة جميع الآفات التي في خمر الدنيا من الصداع والغول واللغو والاٍنزاف وعدم اللذة, وهى رجس من عمل الشيطان: توقع العداوة والبغضاء بين الناس, وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة, وتدعو إلى الزنا والفجور, وتذهب الغيرة, وهي أم الخبائث ومنها يولد كل خبيث وقبيح , فنزَّه الله-عز وجل- خمر الجنة عن كل هذا.
وتأمل اجتماع هذه الأنهار التي هي أفضل أشربة الناس, فهذا لشربهم وطهورهم, وهذا لقوتهم وغذائهم, وهذا للذتهم وسرورهم, وهذا لشفائهم ومنفعتهم. (1)
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
إن في الجنة بحر الماء و بحر العسل و بحر اللبن و بحر الخمر ثم تشقق الأنهار بعد.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَحْرَ الْمَاءِ وَبَحْرَ الْعَسَلِ وَبَحْرَ اللَّبَنِ وَبَحْرَ الْخَمْرِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: يُرِيدُ بِالْبَحْرِ مِثْلَ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَنَحْوِهِمَا، وَبِالنَّهْرِ مِثْلَ نَهْرِ مَعْقِلٍ حَيْثُ تُشَقَّقُ مِنْ أَحَدِهِمَا ثُمَّ مِنْهُ تُشَقَّقُ جَدَاوِلُ. وَقَالَ الْقَارِي: قَدْ يُقَالُ الْمُرَادُ بِالْبِحَارِ هِيَ الْأَنْهَارُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ أَنْهَارًا لِجَرَيَانِهَا بِخِلَافِ بِحَارِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْهَا أَنَّهَا فِي مَحَلِّ الْقَرَارِ (ثُمَّ تُشَقَّقُ) بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ التَّشْقِيقِ (بَعْدُ) أَيْ بَعْدَ دُخُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ.
وقد أخبرنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه في إسرائه أنه رأى أربعة أنهار يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان, فقلت: يا جبريل, ما هذه الأنهار؟ قال: أما النهران الباطنان فنهران في الجنة, وأما الظاهران فالنيل والفرات.
__________
(1) - حادي الأرواح للإمام ابن القيم (170 - 171) بتصرف.(2/419)
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: رفعت إلى سدرة المنتهى منتهاها في السماء السابعة نبقها مثل قلال هجر و ورقها مثل آذان الفيلة فإذا أربعة أنهار نهران ظاهران و نهران باطنان فأما الظاهران: فالنيل و الفرات و أما الباطنان: فنهران في الجنة و أتيت بثلاثة أقداح قدح فيه لبن و قدح فيه عسل و قدح فيه خمر فأخذت الذي فيه اللبن فشربت فقيل لي: أجبت الفطرة أنت و أمتك.
(أخي الحبيب:
تأمل في هذه الأنهار وما أودع الله فيها من خيرات لم تجر العادة بمثلها في الدنيا. وتأمل فيها وهي تجري في الجنة من غير أخدود, تحت القصور والمنازل والغرف وتحت الأشجار, قال تعالى: {جنات تجري من تحتها الأنهار} [البقرة 25]، وقال سبحانه: {تجري تحتها النهار} [التوبة 100]،
وقال سبحانه: {تجري من تحتهم الأنهار} [الكهف]،
(نهر الكوثر:
أما الكوثر فهو نهر من أنهار الجنة أعطاه الله سبحانه وتعالى لرسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {إنا أعطيناك الكوثر}
[الكوثر 1] وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أنزلت علي آنفآ سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم (إِنّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ * إِنّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ) [الكوثر 1: 3]
أتدرون ما الكوثر؟ إنه نهر وعده ليه ربي، عليه خير كثير، هو حوضي ترد غليه أمتي يوم القيامة، آنيته كعدد النجوم، فيختلج العبد منهم فأقول: رب إنه من أمتي فيقول: ما تدري ما أحدثوا بعدك.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: لما عرج بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى السماء، قال: (أتيت على نهر، حافتاه قباب اللؤلؤ مجوفا، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر).
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه على الدر والياقوت تربته أطيب من المسك وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج.(2/420)
(حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا الْكَوْثَرُ قَالَ ذَاكَ نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ اللَّهُ يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ فِيهَا طَيْرٌ أَعْنَاقُهَا كَأَعْنَاقِ الْجُزُرِ قَالَ عُمَرُ إِنَّ هَذِهِ لَنَاعِمَةٌ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكَلَتُهَا أَحْسَنُ مِنْهَا.
مسألة: كيف تتفجر أنهار الجنة؟
أنهار الجنة تتفجر من أعلاها ثم تنحدر نازلة إلى أقصى درجاتها كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، «كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض»، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تَفجَّر أنهار الجنة.
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لعلكم تظنون أن أنهار الجنة أخدود في الأرض لا والله إنها لسائحة على وجه الأرض إحدى حافتيها اللؤلؤ والأخرى الياقوت وطينه المسك الأذْفَرُ قال قلت ما الأذْفَرُ قال الذي لا خلط له.
(حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
إن في الجنة بحر الماء و بحر العسل و بحر اللبن و بحر الخمر ثم تشقق الأنهار بعد.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:(2/421)
(إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَحْرَ الْمَاءِ وَبَحْرَ الْعَسَلِ وَبَحْرَ اللَّبَنِ وَبَحْرَ الْخَمْرِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: يُرِيدُ بِالْبَحْرِ مِثْلَ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَنَحْوِهِمَا، وَبِالنَّهْرِ مِثْلَ نَهْرِ مَعْقِلٍ حَيْثُ تُشَقَّقُ مِنْ أَحَدِهِمَا ثُمَّ مِنْهُ تُشَقَّقُ جَدَاوِلُ. وَقَالَ الْقَارِي: قَدْ يُقَالُ الْمُرَادُ بِالْبِحَارِ هِيَ الْأَنْهَارُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ أَنْهَارًا لِجَرَيَانِهَا بِخِلَافِ بِحَارِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْهَا أَنَّهَا فِي مَحَلِّ الْقَرَارِ (ثُمَّ تُشَقَّقُ) بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ التَّشْقِيقِ (بَعْدُ) أَيْ بَعْدَ دُخُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أنهار الجنة تخرج من تحت تلال أو من تحت جبال المسك.
(ححديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة.
مسألة: ما معنى سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة؟
الجواب:
المعنى أن هذه الأنهار أصلها من الجنة, كما أن أصل معظم الماء-المطر- من السماء, مع أنه يجرى في الأنهار.
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:(2/422)
اعلم أن سيحان وجيحان غير سيحون وجيحون، فأما سيحان وجيحان المذكوران في هذا الحديث اللذان هما من أنهار الجنة في بلاد الأرمن فجيحان نهر المصيصة وسيحان نهر إذنة وهما نهران عظيمان جدا أكبرهما جيحان فهذا هو الصواب في موضعها. وأما قول الجوهري في صحاحه جيحان نهر بالشام فغلط، أو أنه أراد المجاز من حيث أنه ببلاد الأرمن وهي مجاورة للشام، قال الحازمي: سيحان نهر عند المصيصة قال: وهو غير سيحون. وقال صاحب نهاية الغريب: سيحان وجيحان نهران بالعواصم عند المصيصة وطرسوس، واتفقوا كلهم على أن جيحون بالواو نهر وراء خراسان عند بلخ، واتفقوا على أنه غير جيحان، وكذلك سيحون غير سيحان. وأما قول القاضي عياض: هذه الأنهار الأربعة أكبر أنهار بلاد الإسلام فالنيل بمصر والفرات بالعراق وسيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون ببلاد خراسان، ففي كلامه إنكار من أوجه: أحدها: قوله الفرات بالعراق وليس بالعراق بل هو فاصل بين الشام والجزيرة. والثاني: قوله سيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون فجعل الأسماء مترادفة وليس كذلك، بل سيحان غير سيحون وجيحان غير جيحون باتفاق الناس كما سبق. الثالث: أنه ببلاد خراسان وأما سيحان وجيحان ببلاد الأرمن بقرب الشام والله أعلم.
وأما كون هذه الأنهار من ماء الجنة ففيه تأويلان ذكرهما القاضي عياض: أحدهما: أن الإيمان عم بلادها أو الأجسام المتغذية بمائها صائرة إلى الجنة. والثاني: وهو الأصح أنها على ظاهرها وأن لها مادة من الجنة والجنة مخلوقة موجودة اليوم عند أهل السنة، وقد ذكر مسلم في كتاب الإيمان في حديث الإسراء أن الفرات والنيل يخرجان من الجنة، وفي البخاري من أصل سدرة المنتهى.
{تنبيه}: (إن في الجنة أنهاراً من أصناف نَعْهدها فى الدنيا ولكنها ليست للإشباع أو الإرْواء أو للتّداوى, فأهل الجنة ليسوا في حاجة للغذاء من أجل النماء والقوّة, ولا يصيبهم العطش, إن الشراب لأهل الجنة للنعيم ثم النعيم، وإن المؤمن في جناته أنهاراً كثيرة منتشرة في أرجاء مملكته المتّسعة, وبكل أنواع الأشربة المعروفة في الدنيا خالية من آفاتها, وأنواع من الأشربة لا نعلمها ولا يمكن إدراكها ولو بالخيال, فبشرنا الله تعالى وشوّقنا إلى ـ أنهار ـ من كل نوع منها, لا نهر واحد, لذلك قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ذكر الأنواع التي نعرفها: الماء, والعسل, واللبن, والخمر, قال:» ثم تشقّق الأنهار بعد».(2/423)
ومن أعاجييب أنهار الجنة أن في الجنة نهراً طول الجنة حافتاه العذارى قيام متقابلات يغنين بأحسن أصوات يسمعها الخلائق كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب موقوفا) قال: إن في الجنة نهراً طول الجنة حافتاه العذارى قيام متقابلات يغنين بأحسن أصوات يسمعها الخلائق حتى ما يرون أن في الجنة لذة مثلها، قلنا يا أبا هريرة وما ذاك الغناء؟ قال إن شاء الله التسبيح والتحميد والتقديس وثناء على الرب عز وجل.
(ومن نفائس الأشربة أيضاً حوْض النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عبد الله بن عمرو في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: حوضي مسيرة شهر و زواياه سواء و ماؤه أبيض من اللبن و ريحه أطيب من المسك و كيزانه كنجوم السماء من يشرب منه فلا يظمأ أبدا.
(حديث أنس في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن في حوضي من الأباريق بعدد نجوم السماء.
(حديث حارثة بن وهب في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: حوضي كما بين المدينة و صنعاء.
(ثانياً عيون الجنة:
أخبر الله تعالى بوجود العيون في الجنة فقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الحجر:45]
ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى حَالَ أَهْلِ الجَنِّةِ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّقُوا رَبَّهُمْ، لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ، وَتَنْبُعُ فِي أَرْضِهَا عُيُونُ المَاءِ.
وقال تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) [الذاريات/15 - 19])
وقال تعالى: (عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) {الإنسان18:}
يشربون مِن عينٍ في الجنة تسمى سلسبيلا؛ لسلامة شرابها وسهولة مساغه وطيبه.
وقال: (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً) {الإنسان:6}(2/424)
ويدور عليهم الخدم بأواني الطعام الفضيَّة، وأكواب الشراب من الزجاج، زجاج من فضة، قدَّرها السقاة على مقدار ما يشتهي الشاربون لا تزيد ولا تنقص، ويُسْقَى هؤلاء الأبرار في الجنة كأسًا مملوءة خمرًا مزجت بالزنجبيل، يشربون مِن عينٍ في الجنة تسمى سلسبيلا؛ لسلامة شرابها وسهولة مساغه وطيبه.
وقال الطبري: "وَالصَّوَاب مِنَ الْقَوْل فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّ قَوْله: {تُسَمَّى سَلْسَبِيلَا} صِفَة لِلْعَيْنِ , وُصِفَتْ بِالسَّلَاسَةِ فِي الْحَلْق , وَفِي حَال الْجَرْي , وَانْقِيَادهَا لِأَهْلِ الْجَنَّة يَصْرِفُونَهَا حَيْثُ شَاءُوا , كَمَا قَالَ مُجَاهِد وقَتَادَة، وَإِنَّمَا عُنِيَ بِقَوْلِهِ {تُسَمَّى} تُوصَف. وَإِنَّمَا قُلْت ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ لِإِجْمَاعِ أَهْل التَّأْوِيل عَلَى أَنَّ قَوْله: {سَلْسَبِيلَا} صِفَة لَا اِسْم. (1)
{تنبيه}: (في الجنة عينان:
الأولى عين الكافور: قال تعالى: (إِنّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللّهِ يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً) [الإنسان 5: 6]
وهذه العين يشرب منها المقربون الماء الخالص. وأما الأبرار فيشربونه ممزوجاً.
والثانية عين التسنيم: قال تعالى: (إِنّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأرَآئِكِ يَنظُرُونَ * على الأرائك ينظرون تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رّحِيقٍ مّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرّبُونَ) [المطففين 22: 28]
(طعام أهل الجنة وشرابهم ومصرفه:
قال تعالى: (وَلَحْمِ طَيْرٍ مّمّا يَشْتَهُونَ) [الواقعة: 21]
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن طير الجنة كأمثال البخت ترعى في شجر الجنة فقال أبو بكر يا رسول الله إن هذه لطيرٌ ناعمة فقال: أَكَلَتْهَا أنْعَمَ منها قالها ثلاثا وإني لأرجو أن تكون ممن يأكل منها.
[*] (أورد ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح عن قتادة عن أيوب رجل من أهل البصرة عن عبد الله بن عمرو في قوله تعالى: (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ) [الزخرف: 71]
__________
(1) - تفسير الطبري - (ج 32 / ص 31)(2/425)
قال يطاف عليهم بسبعين صحفة من ذهب كل صحفة منها فيها لون ليس في الأخرى.
(حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا الْكَوْثَرُ قَالَ ذَاكَ نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ اللَّهُ يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ فِيهَا طَيْرٌ أَعْنَاقُهَا كَأَعْنَاقِ الْجُزُرِ قَالَ عُمَرُ إِنَّ هَذِهِ لَنَاعِمَةٌ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكَلَتُهَا أَحْسَنُ مِنْهَا.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(طَيْرٌ أَعْنَاقُهَا كَأَعْنَاقِ الْجُزُرِ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَالزَّايِ جَمْعُ جَزُورٍ وَهُوَ الْبَعِيرُ.
(إِنَّ هَذِهِ) أَيِ الطَّيْرَ فَإِنَّهُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ
(لَنَاعِمَةٌ) أَيْ سِمَانٌ مُتْرَفَةٌ كَذَا فِي النِّهَايَةِ.
(أَكَلَتُهَا) ضُبِطَ فِي النُّسْخَةِ الْأَحْمَدِيَّةِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْكَافِ وَاللَّامِ وَبِمَدِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْكَافِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ جَمْعُ آكِلٍ اسْمُ فَاعِلٍ كَطَلَبَةٍ جَمْعِ طَالِبٍ. وَالْمَعْنَى مَنْ يَأْكُلُهَا، وَعَلَى الثَّانِي مُؤَنَّثُ أَكْلٍ وَصِيغَةُ الْوَاحِدِ الْمُؤَنَّثِ قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلْجَمَاعَةِ.
فاكهة أهل الجنة:
أما عن الفاكهة في الجنة: فقد وصفها الله تعالى بقوله: {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 25](2/426)
يُبَشِّرُ اللهُ تَعَالى الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ، أَنَّ لَهُمْ عِنْدَهُ في الآخِرَةِ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ في جَنَبَاتِهَا، وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرةٌ مِنَ الدَّنَسِ وَالأَذى وَالآثامِ ومسَاوِئِ الأَخْلاَقِ، كَالََكَيْدِ والمَكْرِ والخَدِيعَةِ. . وَتَأْتِيهِمُ الثِّمَارُ في الجَنَّةِ فَيَظُنُّونَ أَنَّهَا مِنَ الثِّمَارِ التِي عَرَفُوهَا في الدُّنيا (أَوْ أَنَّهَا مِنَ الثِّمَارِ التِي أَتَتْهُمْ قَبْلَ ذلِكَ فِي الجَنَّةِ، وَتَخْتَلفُ عَنْهَا طَعْماً مَعَ أَنَّهَا تُشْبِهُهَا فِي شَكْلِها وَمَنْظَرِهَا). وَكُلَّمَا رُزِقُوا مِنْها ثَمَرَةً قَالُوا: هذا مَا وُعِدْنا بِهِ في الدُّنيا جَزَاءً عَلَى الإِيمَان وَالعَمَلِ الصَّالِحِ. والذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً صَادِقاً، وَعَملُوا عَمَلاً صَالِحاً يَبْقَوْوَ في الجَنَّةِ خَالِدينَ أبداً، لاَ يَمُوتُونَ فِيها وَلا يَحُولُونَ عَنْها.
وقال القرطبي: " ومعنى {مِنْ قَبْلُ} يعني في الدنيا، وفيه وجهان: أحدهما: أنهم قالوا هذا الذي وعدنا به في الدنيا. والثاني: هذا الذي رزقنا في الدنيا، لأن لونها يشبه لون ثمار الدنيا، فإذا أكلوا وجدوا طعمه غير ذلك وقيل: "من قبل" يعني في الجنة لأنهم يرزقون ثم يرزقون، فإذا أتوا بطعام وثمار في أول النهار فأكلوا منها، ثم أتوا منها في آخر النهار قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل، يعني أطعمنا في أول النهار، لأن لونه يشبه ذلك، فإذا أكلوا منها وجدوا لها طعما غير طعم الأول.
قوله: {وَأُتُوا} فعلوا من أتيت. وقرأه الجماعة بضم الهمزة والتاء. وقرأ هارون الأعور "وأتوا" بفتح الهمزة والتاء. فالضمير في القراءة الأولى لأهل الجنة، وفي الثانية للخدام. {بِهِ مُتَشَابِهاً} حال من الضمير في "به"، أي يشبه بعضه بعضا في المنظر ويختلف في الطعم. قاله ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم. وقال عكرمة: يشبه ثمر الدنيا ويباينه في جل الصفات. ابن عباس: هذا على وجه التعجب، وليس في الدنيا شيء مما في الجنة سوى الأسماء، فكأنهم تعجبوا لما رأوه من حسن الثمرة وعظم خلقها. وقال قتادة: خيارا لا رذل فيه، كقوله تعالى: {كِتَاباً مُتَشَابِهاً} [الزمر: 23] وليس كثمار الدنيا التي لا تتشابه، لأن فيها خيارا وغير خيار. (1)
__________
(1) - تفسير القرطبي (ج 1 / ص 240)(2/427)
ووصف فاكهة الجنة أيضاً بأنها كثيرة ودائمة لا تنقطع , ولا ُتُمنع ممن أرادها,
فقال تعالى: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33)} [الواقعة/32 - 34].
وَيَتَمَتَّعُونَ فِي الجَنَّةِ بِأَلْوانٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الفَاكِهَةِ. لاَ تَنْقَطِعُ عَنْهُمْ أَبَداً، فَهُمْ يَجِدُونَهَا فِي كُلِّ حِينٍ.
قال ابن كثير: "وقوله: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ. لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} أي: وعندهم من الفواكه الكثيرة المتنوعة في الألوان ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25] أي: يشبه الشكلُ الشكلَ، ولكن الطعم غيرُ الطعم.
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عتبة بن عبد رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال ما حوضك الذي تحدث عنه فذكر الحديث إلى أن قال فقال الأعرابي يا رسول الله فيها فاكهة؟ قال نعم وفيها شجرة تدعى طوبى هي تطابق الفردوس فقال أي شجر أرضنا تشبه قال ليس تشبه شيئا من شجر أرضك ولكن أتيت الشام قال لا يا رسول الله، قال فإنها تشبه شجرة بالشام تدعى الجوزة تنبت على ساق واحد ثم ينتشر أعلاها قال فما عظم أهلها قال لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك لما قطعتها حتى تنكسر ترقوتها هرما قال فيها عنب قال نعم قال فما عظم العنقود منها قال مسيرة شهر للغراب الأبقع لا يقع ولا ينثني ولا يفتر قال فما عظم الحبة منه؟ قال هل ذبح أبوك تيسا من غنمه عظيما فسلخ إهابه فأعطاه أمك فقال ادبغي هذا ثم افري لنا منه ذنوبا يروي ماشيتنا قال نعم قال فإن تلك الحبة تشبعني وأهل بيتي فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعامة عشيرتك.
(حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثُمَّ ذَهَبَ بِى إِلَى السِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلاَلِ "(2/428)
(حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " رَكَبْتُ البُرَاقَ ثُمَّ ذُهِبَ بي إلى سدْرَة المُنتهَى، فَإِذَا وَرَقُها كآذَانِ الفِيلَةِ، وإذَا ثمَرُها كالقلال ; قال: فَلَمَّا غَشِيَها مِنْ أمْرِ الله ما غَشيَها تَغَيَّرتْ، فَمَا أحَدٌ يَسْتَطيعُ أنْ يصِفَها مِنْ حُسْنها، قال: فأَوْحَى اللهُ إليّ ما أوْحَى".
(حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قَالَ: انْخَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً نَحْوًا مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً، وَهْوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلاً وَهْوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً، وَهْوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِى مَقَامِكَ، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ كَعْكَعْتَ. قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إني رَأَيْتُ الْجَنَّةَ، فَتَنَاوَلْتُ عُنْقُودًا، وَلَوْ أَصَبْتُهُ لأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا، وَأُرِيتُ النَّارَ، فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ». قَالُوا بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «بِكُفْرِهِنَّ». قِيلَ يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ قَالَ «يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ».
كعكعت: تأخرت(2/429)
ووصف الله تعالى ما يُقطف منها ـ وهي الثمار ـ بأنها دانية قريبة ممن يتناولها, فقال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) [الحاقة/19 - 25]
وَيُعْطَى النَّاسُ صُحُفَ أَعْمَالِهِمْ، فَمَنْ تَنَاوَلَ صَحِيفَةَ عَمَلِهِ بِيمِيِنِهِ فَيَقُولُ فَرِحاً مَسْرُوراً لِكُلِّ مَنْ يَلْقَاهُ: هَذِهِ هِيَ صَحِيفَةُ أَعْمَالِي، خُذُوهَا فَاقْرَؤُوهَا، لأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ مَا فِيهَا خَيرٌ وَحَسَنَاتٌ، لأَنَّهُ مِمَّنْ بَدَّلَ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ. إِنَّنِي كُنْتُ فِي الدُّنْيَا أَعْتَقِدُ يَقِيناً بِأَنَّنِي سَأْحَاسَبُ أَمَامَ اللهِ فِي هَذَا اليَوْمِ، فَعَمِلْتُ خَيْراً قَدْرَ مَا اسْتَطَعْتُ، وَكُنْتُ أُؤَمِّلُ أَنْ يُحَاسِبَنِي اللهُ عَلَى أَعْمَالِي حِسَاباً يَسِيراً، وَقَدْ صَدَقَ مَا اعْتَقَدْتُ وَمَا تَوَقَّعْتُ، فَكَانَ حِسَابِي يَسِيراً.
فَهُوَ يَعِيشُ عِيشَةً رَاضِيَةً خَالِيَةً مِنَ الهُمُومِ والأَكْدَارِ. فِي جَنَّةٍ رَفِيعَةِ المَكَانِ والدَّرَجَاتِ، فِيهَا الخُضْرَةُ وَالمِيَاهُ وَالظَّلاَلُ الوَارِفَةُ. فِيهَا أَشْجَارٌ ثِمَارُهَا دَانِيَةٌ مِمَّنْ يُرِيدُونَ قَطْفَهَا، فَيَأْخُذُونَهَا بِدُونِ عَنَاءٍ.
وَيُقَالُ لَهُمْ: كُلُوا يَا أَيُّهَا الأَبْرَارُ مِنْ ثِمَارِ هَذِهِ الجَنَّةِ هَنِيئاً، وَاشْرَبُوا مِنْ خَمْرِهَا وَمِيَاهِهَا مَريئاً، لاَ تَغَصُّونَ بِهِ، وَلاَ تَتَأَذَّوْنَ، وَذَلِكَ جَزَاءٌ مِنَ اللهِ لَكُمْ، وَثَوَابٌ عَلَى مَا عَمِلْتُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ صَالِحِ الأَعْمَالِ، وَكَرِيمِ الطَّاعَاتِ الخَالِصَةِ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى.
وقال تعالى: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} (14) سورة الإنسان.
وَتَدْنُو أَشْجَارُ الجَنَّةِ بِظِلالِهَا عَلَى هَؤُلاَءِ الأَبْرَارِ السُّعَدَاءِ، وَتُسَخِّرُ قُطُوفَهَا لأَمْرِهِمْ لِيَنَالُوا مِنْهَا مَا شَاؤُوا.(2/430)
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترغيب والترهيب موقوفاً) قال: نخل الجنة جذوعها من زمرد خضر وكربها ذهب أحمر وسعفها كسوة لأهل الجنة منها مقطعاتهم وحللهم وثمرها أمثال القلال والدلاء أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وألين من الزبد ليس فيها عجم.
(حديث عتبة ابن عبد السلمى رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) قال:» كنت جالساً مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجاء أعرابى فقال: يا رسول الله أسمعك تذكر فى الجنة شجرة لا أعلم شجرة أكثر شوكاً منها ـ يعني الطلح ـ , فقال رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن الله جعل مكان كل شوكة منها ثمرة (يعني من شجرة الطلح في الجنة) مثل خصية التيس الملبود ـ يعني المخصي ـ , فيها سبعون لوناً من الطعام لا يشبه لون آخر».
وعن مسروق، قال: نخل الجنة نَضيدٌ من أصْلها إلى فرعها، وثمرها أمثالُ القِلال، كلما نُزعت ثمرة عادتْ مكانها أخرى، وماؤها يَجري في غير أخدود (1) ... .
{تنبيه}: (واعلم أن صفة طعام أهل الجنة الدوام وعدم النقصان , قال تعالى: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} [الرعد: 35]
شراب أهل الجنة:
قال تعالى: (إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً* عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً) {الإنسان:5 - 6}.
إِنَّ الكرَامَ البَرَرَةَ الذِينَ أَطَاعُوا اللهَ، يَشْرَبُونَ مِنْ خَمْرٍ كَانَ مَا يُمْزَجُ بِهَا مَاءَ الكَافُورِ.
وَهَذَا المِزَاجُ مِنْ عَيْنٍ يَشْرَبُ بِهَ عِبَادُ اللهِ المُتَّقُونَ، وَهُمْ فِي الجَنَّاتِ يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا كَيْفَ شَاؤُوا، وَيُجْرُونَها حَيْثُ أَرَادُوا مِنْ دُورِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ.
وقال مقاتل: ليس هو كافور الدنيا, وإنما سمَّى الله ما عنده بما عندكم حتى تهتدي له القلوب.
وقوله (يفجرونها تفجيرا) أي: يشقونها شقاً كما يفجر الرجل النهر هاهنا وهاهنا إلى حيث يريد, وقال مجاهد: يقودونها حيث شاءوا, وتتبعهم حيثما مالوا مالت معهم (2).
__________
(1) - تفسير الطبري - (ج 1 / ص 384) (509) صحيح
(2) - تفسير القرطبي (19/ 96)(2/431)
وقال تعالى: (وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً* عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً)
{الإنسان:17 - 18}
وَيُسْقَى هُؤَلاَءِ الأَبْرَارُ فِي الجَنَّةِ كَأْساً مِنْ خَمْرِ الجَنَّةِ مُزِجَتْ بِالزَّنْجِبِيلِ (فَهُمْ يُمْزَجُ الشَّرَابُ لَهُمْ مَرَّةً بِالكَافُورِ وَمَرَّةً بِالزَّنْجَبِيلِ فَالكَافُورُ بَارِدٌ وَالزَّنْجَبِيلُ حَارٌّ).
وَيُسْقَونَ فِي الجَنَّةِ مِنْ عَيْنٍ غَايَةٍ فِي السَّلاَسَةِ وَالاسْتِسَاغَةِ.
أي أن أهل الجنة يُسقَوْن كأساً من خمر الجنة ممزوجة بالزنجبيل وكانت العرب تستلذ من الشراب ما يمزج بالزنجبيل لطيب رائحته.
وكلمة (سلسبيل) مأخوذة من السلاسة, والسلسبيل: هو الشراب اللذيذ (1).
ونجد مما سبق أن الله تعالى أخبر أن شراب أهل الجنة يمزج بشيئين: الكافور والزنجبيل, فيمزج بالكافور لأنه يمتاز بالبرد وطيب الرائحة, ثم بالزنجبيل لأنه يمتاز بالحرارة وطي
وقال تعالى: (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً) {الإنسان:21}
، وَيَسْقِيِهِمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً يُطَهِّرُ بَاطِنَ شَارِبِهِ مِنَ الحَسَدِ، وَالحِقْدِ، وَالغِلِّ، وَرَدِيءِ الأَخْلاَقِ، فوصف الشراب بأنه طهور وليس بنجس كخمر الدنيا. ب الرائحة, مما يحدث بذلك أكمل اللذة وأطيبها (2).
[*] (أورد ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح عن ابن عباس في قوله تعالى: (وَكَأْسٍ مّن مّعِينٍ) [الواقعة: 18] يقول الخمر، (لاَ فِيهَا غَوْلٌ) [الصافات: 47] يقول ليس فيها صداع وفي قوله تعالى ^ (وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ) [الصافات: 47] يقول لا تذهب عقولهم، وقوله تعالى: (وَكَأْساً دِهَاقاً) [النبأ: 34] يقول ممتلئة، وقوله تعالى: (يُسْقَوْنَ مِن رّحِيقٍ مّخْتُومٍ) [المطففين: 25]
يقول الخمر ختم بالمسك، وقال علقمة عن أبن مسعود (خِتَامُهُ مِسْكٌ) [المطففين: 26] قال خلطه وليس بخاتم ثم يختم، والمراد والله أعلم أن أخره مسك يخالطه فهو من الخاتمة ليس من الخاتم.
وقال تعالى: (إِنّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللّهِ يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً) [الإنسان: 6]
__________
(1) - نفس المصدر (19/ 107)
(2) - حادي الأرواح لابن القيم (175)(2/432)
[*] (قال بعض السلف: معهم قضبان الذهب حيثما مالوا مالت معهم وقد اختلف في قوله يشرب بها فقال الكوفيون الباء بمعنى من أي يشرب منها وقال آخرون بل الفعل مضمن ومعنى يشرب بها أي يروى بها فلما ضمنه معناه عداه تعديته وهذا أصح وألطف وأبلغ وقال طائفة الباء للظرفية والعين اسم للمكان كما تقول كنا بمكان كذا وكذا ونظير هذا التضمين قوله تعالى (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ) [الحج: 25] ضمن معنى يهم فعدى تعديته.
وقال تعالى: (وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمّىَ سَلْسَبِيلاً) [الإنسان 17: 18]
فأخبر سبحانه عن العين التي يشرب بها المقربون أن شراب الأبرار يمزج منها لأن أولئك أخلصوا الأعمال كلها لله فأخلص شرابهم وهؤلاء مزجوا فمزج شرابهم ونظير هذا قوله تعالى: (إِنّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأرَآئِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النّعِيمِ* يُسْقَوْنَ مِن رّحِيقٍ مّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ* وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرّبُونَ) [المطففين 22: 28]
فأخبر سبحانه عن مزاج شرابهم بشيئين بالكافور في أول السورة والزنجبيل في آخرها فإن في الكافور من البرد وطيب الرائحة وفي الزنجبيل من الحرارة وطيب الرائحة ما يحدث لهم باجتماع الشرابين ومجيء أحدهما على أثر الآخر حالة أخرى أكمل وأطيب وألذ من كل منهما بانفراده ويعدل كيفية كل منهما بكيفية الآخر وما ألطف موقع ذكر الكافور في أول السورة والزنجبيل في آخرها فإن شرابهم مزج أولا بالكافور وفيه من البرد ما يجيء الزنجبيل بعده فيعد له والظاهر أن الكأس الثانية غير الأولى وأنهما نوعان لذيذان من الشراب أحدهما مزج بكافور والثاني مزج بزنجبيل
وأيضا فإنه سبحانه أخبر عن مزج شرابهم بالكافور وبرده في مقابلة ما وصفهم به من حرارة الخوف والإيثار والصبر والوفاء بجميع الواجبات التي نبه على وفائهم بأضعفها وهو ما أوجبوه على أنفسهم بالنذر على الوفاء بأعلاها وهو ما أوجبه الله عليهم ولهذا قال تعالى: (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنّةً وَحَرِيراً) [الإنسان: 12](2/433)
فإن في الصبر من الخشونة وحبس النفس عن شهواتها ما اقتضى أن يكون في جزائهم من سعة الجنة ونعومة الحرير ما يقابل ذلك الحبس والخشونة وجمع لهم بين النضرة والسرور وهذا جمال ظواهرهم وهذا حال بواطنهم كما جملوا في الدنيا ظواهرهم بشرائع الإسلام وبواطنهم بحقائق الإيمان ونظيره قوله في آخر السورة: (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلّوَاْ أَسَاوِرَ مِن فِضّةٍ) [الإنسان: 21] فهذه زينة الظاهر ثم قال تعالى: (وَسَقَاهُمْ رَبّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً) [الإنسان: 21] فهذه زينة الباطن المطهر لهم من كل أذى ونقص ونظيره قوله تعالى لأبيهم آدم عليه السلام: (إِنّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىَ * وَأَنّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىَ) [طه 118: 119]
فضمن له أن لا يصيبه ذل الباطن بالجوع ولا ذل الظاهر بالعري وأن لا يناله حر الباطن بالظمأ ولا حر الظاهر بالضحى ونظير هذا ما عدده على عباده من نعمة أنه أنزل عليهم لباسا يواري سوآتهم ويزين ظواهرهم ولباسا آخر يزين بواطنهم وقلوبهم وهو لباس التقوى وأخبر أنه خير اللباسين وقريب من هذا إخباره أنه زين السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد فزين ظاهرها بالنجوم وباطنها بالحراسة وقريب منه أمره من أراد الحج بالزاد الظاهر ثم أخبر أن خير الزادِ الزادُ الباطن وهو التقوى وقريب منه قول امرأة العزيز عن يوسف قال تعالى: (فَذَلِكُنّ الّذِي لُمْتُنّنِي فِيهِ) [يوسف: 32]
فأرتهن حسنه وجماله ثم قالت (وَلَقَدْ رَاوَدتّهُ عَن نّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ) [يوسف: 32] فأخبرتهن بجمال باطنه وزينته بالعفة وهذا كثير في القرآن لمتأمله.
قال تعالى: (وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمّىَ سَلْسَبِيلاً) [الإنسان 17: 18]
وقال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ]} محمد: 15 [
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح:(2/434)
ذكر سبحانه هذه الأجناس الأربعة, ونفى عن كل واحد منها الآفة التي تعرض له فى الدنيا, وقال: وهذا من آيات الله تعالى: أن تجرى أنهار من أجناس لم تجر العادة في الدنيا بإجرائها وبجريانها في غير أخدود, وينفى عنها الآفات التي تمنع كمال اللذة بها, قال: وتأمل اجتماع هذه الأنهار الأربعة التي هي أفضل أشربة الناس, فهذا لشربهم وطهورهم, وهذا لقوّتهم وغذائهم, وهذا للذّاتهم وسرورهم, وهذا لشفائهم ومتعتهم.
وفصل الخطاب أن هذه النصوص قد تضمنت أن لهم فيها الخبز واللحم والفاكهة والحلوى وأنواع الأشربة من الماء واللبن والخمر وليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء وأما المسميات فبينها من التفاوت ما لا يعلمه البشر.
[*] (قال ابن قتيبة: كل ما في الجنة من الأنهار والسرر والفرش والأكواب مخالف لما في الدنيا من صنعة العباد كما قال ابن عباس: ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء. انتهى.
{تنبيه}: (إن أهل الجنة لا يجوعون ولا يشبعون , يجد اللذة في أكلهم, من أولها إلى آخرها, بلا تعب ولا معالجة, يستمتع بكل جسده لا بطرف لسانه مثل الدنيا, ثم لا بوْل ولا غائط, إنما هو متاع آخر, ريح المسك الأذفر, وبالطبع ليس من مسك الدنيا, فما بالك بالأشربة؟!
قال تعالى: (إِنّ الْمُتّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمّا يَشْتَهُونَ * كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيَئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [المرسلات 41: 43]
وقال تعالى: (فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ * إِنّي ظَنَنتُ أَنّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رّاضِيَةٍ * فِي جَنّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة 19: 24]
وقال تعالى: (وَتِلْكَ الْجَنّةُ الّتِيَ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مّنْهَا تَأْكُلُونَ) [الزخرف 72: 73]
وقال تعالى: (مّثَلُ الْجَنّةِ الّتِي وُعِدَ الْمُتّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلّهَا تِلْكَ) [الرعد: 35]
وقال تعالى: (وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مّمّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ) [الطور 22: 23](2/435)
وقال تعالى: (يُسْقَوْنَ مِن رّحِيقٍ مّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين 25: 26]
(حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يأَكُلُ أَهْلُ الْجَنّةِ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ. وَلاَ يَتَغَوّطُونَ وَلاَ يَمْتَخِطُونَ وَلاَ يَبُولُونَ. وَلَكِنْ طَعَامُهُمْ ذَاكَ جُشَاءٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ. يُلْهَمُونَ التّسْبِيحَ والتكبير كَمَا يُلْهَمُونَ النّفَسَ".
الجشاء: تنفس المعدة من الامتلاء.
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يأَكُلُ أَهْلُ الْجَنّةِ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ " مذهب أهل السنة وعامة المسلمين أن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون يتنعمون بذلك وبغيره من ملاذ وأنواع نعيمها تنعما دائما لا آخر له ولا انقطاع أبدا، وإن تنعمهم بذلك على هيئة تنعم أهل الدنيا إلا ما بينهما من التفاضل في اللذة والنفاسة التي لا يشارك نعيم الدنيا إلا في التسمية وأصل الهيئة، وإلا في أنهم لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون ولا يبصقون، وقد دلت دلائل القرآن والسنة في هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم وغيره أن نعيم الجنة دائم لا انقطاع له أبدا.
(حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الرجل من أهل الجنة ليعطى قوة مائة رجل في الأكل و الشرب و الشهوة و الجماع حاجة أحدهم عرق يفيض من جلده فإذا بطنه قد ضمر.
(آنية أهل الجنة التي يأكلون فيها ويشربون:
ذكر الله تعالى الآنية التي يأكلون فيها ويشربون في قوله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (71) سورة الزخرف
وَبَعْدَ أَنْ يَسْتَقِرُّوا فِي الجَنَّةِ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِأَوَانٍ مِنْ ذَهَب عَلَيْهَا أَنْوَاعُ الطَّعَامِ، وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِأَكْوَابٍ لِلشَّرَابِ مِنْ ذَهَبٍ، وَفِي كُلٍّ مِنَ الأَوَانِي والأَكْوَابِ مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ، وَتَتَلَذُّذُ بِهِ الأَعْيُنُ، فَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَنْعَمُونَ وَيَتَلَذَّذُونَ، وَيُقَالُ لَهُمْ إِكْمَالاً لِسُرُورِهِمْ: إِنَّهُمْ بَاقُونَ فِي هَذَا النَّعِيمِ فِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ أَبَداً.(2/436)
وقوله تعالى: (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) [الإنسان/15، 16])
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ خَدَمُ الجَنَّةِ بِأَوَانِي الطَّعَامِ، وَهِيَ مِنْ فِضَّةٍ خَالِصَةٍ، وَبِأَكْوَابِ الشَّرَابِ، وَهِيَ أَيْضاً مِنْ فِضَّةٍ، وَقَدْ جُعِلَتْ هَذِهِ الأَكْوَابُ جَامِعَةً بَيَاضَ الفِضَّةِ، وَصَفَاءَ الزُّجَاجِ وَشَفَافِيَّتَهُ.
وَهذِهِ القَوَارِيرُ يَحْمِلُهَا إِلَيهِم السُّعَاةُ وَقَدْ قَدَّرُوا مَا صَبُّوهُ فِيهَا عَلَى قَدَرِ كِفَايَةِ الشَّارِبِينَ وَرَيهِّمْ، لاَ تَزِيدُ وَلاَ تَنْقُصُ.
والأكواب: هي الأباريق التي ليس لها خراطيم, وقيل: التي ليس لها آذان.
وإبريق: افعيل من البريق, وهو الصفاء, وأباريق الجنة من فضة صافية صفاء القوارير, يرى ما في باطنها من ظاهرها,
والقوارير: الزجاج, شبه صفاءها بصفاء الزجاج- وهى ليست من الزجاج بل من فضة, لذا قال تعالى (قوارير من فضة) حتى لا يتوهم أحدٌ أنها من الزجاج.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث حُذيفة الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الحرير و الديباج و الشرب في آنية الذهب و الفضة وقال: هي لهم في الدنيا وهي لهم في الآخرة.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح:
قال تعالى: (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ) [الزخرف: 71] فالصحاف جمع صحفة قال الكلبي بقصاع من ذهب وقال الليث الصحفة قصعة مسلطحة عريضة الجمع صحاف قال الأعشى والمكاكيك والصحاف من الفضة والضامرات تحت الرجال.
وأما الأكواب فجمع كوب قال الفراء الكوب المستدير الرأس الذي لا أذن له.
وقال أبو عبيد الأكواب الأباريق التي لا خراطيم لها قال أبو إسحاق وإحدها كوب وهو إناء مستدير لا عروة له، وقال ابن عباس هي الأباريق التي ليست لها آذان.(2/437)
وقال تعالى: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مّخَلّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مّن مّعِينٍ) [الواقعة 17: 18] الأباريق هي الأكواب التي لها خراطيم فإن لم يكن لها خراطيم ولا عرى فهي أكواب وإبريق إفعيل من البريق وهو الصفاء فهو الذي يبرق لونه من صفائه ثم سمي كل ما كان على شكله إبريقا وإن لم يكن صافيا وأباريق الجنة من الفضة في صفاء القوارير يرى من ظاهرها ما في باطنها والعرب تسمي السيف إبريقا لبريق لونه.
قال تعالى: (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مّن فِضّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَاْ مِن فِضّةٍ قَدّرُوهَا تَقْدِيراً) [الإنسان 15: 16] فالقوارير هي الزجاج فأخبر سبحانه وتعالى عن مادة تلك الآنية أنها من الفضة وأنها بصفاء الزجاج وشفافيته وهذا من أحسن الأشياء وأعجبها وقطع سبحانه توهم كون تلك القوارير من زجاج فقال قوارير من فضة قال مجاهد وقتادة ومقاتل والكلبي والشعبي قوارير الجنة من الفضة فاجتمع لها بياض الفضة وصفاء القوارير.
وأما الكأس فقال أبو عبيدة هو الإناء بما فيه وقال أبو إسحاق الكأس الإناء إذا كان فيه خمر ويقع الكأس لكل إناء مع شرابه. انتهى.
(لباس أهل الجنة وحليهم:
قال تعالى: (إِنّ الْمُتّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مّتَقَابِلِينَ) [الدخان 51: 53]
وقال تعالى: (إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ إِنّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً * أُوْلََئِكَ لَهُمْ جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ يُحَلّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مّتّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَآئِكِ) [الكهف: 31]
قال جماعة من المفسرين السندس مَا رَقَ من الديباج والإستبرق ما غلظ منه وقالت طائفة ليس المراد به الغليظ ولكن المراد بن الصفيق وقال الزجاج هما نوعان من الحرير وأحسن الألوان والأخضر وألين اللباس الحرير فجمع لهم بين حسن منظر اللباس والتذاذ العين به وبين نعومته والتذاذ الجسم به.
وقال تعالى: (وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) [الحج: 23]
قال تعالى: (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنّةً وَحَرِيراً) [الإنسان: 12]
وقال تعالى: (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) [الإنسان: 21](2/438)
وتأمل ما دلت عليه لفظة عاليهم من كون ذلك اللباس ظاهرا بارزا يجمل ظواهرهم ليس بمنزلة الشعار الباطن بل الذي يلبس فوق الثياب للزينة والجمال.
وتأمل كيف جمع لهم بين نوعي الزينة الظاهرة من اللباس والحلي كما جمع لهم بين الظاهرة والباطنة فحمل البواطن بالشراب الطهور والسواعد بالأساور والأبدان بثياب الحرير وقال تعالى: (إِنّ اللّهَ يُدْخِلُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ يُحَلّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) [الحج: 23]
واختلفوا في جر لؤلؤ ونصبه فمن نصبه ففيه وجهان أحدهما أنه عطف على موضع قوله من أساور والثاني أنه منصوب بفعل محذوف دل عليه الأول أي ويحلون لؤلؤا ومن جره فهو عطف على الذهب ثم يحتمل أمرين أحدهما أن يكون لهم أساور من ذهب وأساور من لؤلؤ ويحتمل أن تكون الأساور مركبة من الأمرين معا الذهب المرصع باللؤلؤ والله أعلم بما أراد.
(حديث البراء ابن عازب رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: أهديت لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حلة حرير فجعل أصحابه يلمسونها ويعجبون من لينها فقال أتعجبون من لين هذه لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح:
ولا يخفى ما في ذكر سعد بن معاذ بخصوصه ههنا فإنه كان في الأنصار بمنزلة الصديق في المهاجرين واهتز لموته العرش وكان لا يأخذه في الله لومة لائم وختم الله له بالشهادة وآثر رضا الله ورسوله على رضا قومه وعشيرته وخلفائه ووافق حكمه الذي حكم به حكم الله فوق سبع سموات ونعاه جبريل إلى النبي يوم موته فحق له أن تكون مناديله التي يمسح بها يديه في الجنة أحسن من حلل الملوك.
{تنبيه}: (الجنة ليس فيها أدنى وَسَخ ولا أدنى نفاية, فهي الطهر المطلق, فلا حاجة لأهل الجنة للاغتسال ولا تبديل الملابس, إنهم يكرّمون بما يلبسون, ويمتّعون بنعومة والتذاذ الجسم به, وبحسن المنظر والتذاذ العين به, وحرير الجنة فى نهاية الصفات الممتعة, لينا ونعومة وحسن منظر ورائحة وألوان, لا تْبلى الثياب ولا تتّسخ, كسائر نعيم الجنة لا ينقطع ولا يمتنع.
(ومن خصائص ثياب أهل الجنة أنها لا تتقطع:
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد. ((2/439)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الجنة بناؤها لبنة من فضة و لبنة من ذهب ومِلاطُها المسك الأذْفَرُ وَحَصْبَاؤُهَا اللؤلؤ والياقوت و تربتها الزعفران من يدخلها ينعم لا يبأس و يخلد لا يموت لا تبلى ثيابهم و لا يفنى شبابهم.
الشاهد: لا تبلى ثيابهم
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
لا تبلى ثيابهم: بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِنْ بَابِ سَمِعَ يَسْمَعُ أَيْ لَا تَخْلَقُ وَلَا تَتَقَطَّعُ.
(حُلِّي أهل الجنة:
قال تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر: 33]
وهؤلاءِ الكِرَامُ الذِينَ اصْطَفَاهُمْ اللهُ من عباده، الذين أُوْرِثُوا القُرآنَ، والكُتُبَ السَّابِقَةَ، سَتَكُونُ جَنَّاتُ الإِقَامَةِ (جَنَّاتُ عَدْنٍ) هِيَ مأْوَاهُمْ، يَوْمَ القِيَامَةِ، وَيَلْبَسُونَ فِيها حَلِيّاً مِنْ ذَهَبٍ، وَلُؤْلُؤٍ، وَيَلْبَسُونَ فِيهَا ثِيَاباً مِنْ حَرِيرٍ، وَهذِهِ الجَنَّاتُ هِيَ الفَضْلُ الكَبِيرُ الذِي مَنَّ اللهُ بِهِ عَلَيْهِمْ.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23]
لَمَّا أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى عَنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ، وَمَا يُلاقُونَهُ مِنَ العَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالحَرِيقِ وَالأًَغْلالِ، وَمَا أُعدَّ لَهُمْ منْ ثِيابٍ مِنْ نَارٍ، ذَكَرَ حالَ أَهْلِ الجَنَّةِ فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ يُدْخِلُ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ في أَرْجَائِها، وَيُلْبِسُهُمْ رَبُّهُمْ فِيها حُلِيّاً: مِنْها أَسَاوِرُ مِنْ ذَهَبٍ، وَمِنْها لُؤْلُؤْ.
والسندس: ما رق من الديباج (الحرير) ,والإستبرق أغلظ منه. وأحسن الألوان الأخضر وألين اللباس الحرير, لذا جمع الله لهم بين أحسن المناظر وألين الملابس.(2/440)
[*] (أورد ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح عن كعب قال: إن لله عز وجل ملكا منذ يوم خلق يصوغ حُلُي أهل الجنة إلى أن تقوم الساعة، لو أن قلبا من حلي أهل الجنة أُخْرِجَ لذهب بضوء شعاع الشمس فلا تسألوا بعد هذا عن حلي أهل الجنة.
[*] (وأورد ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح عن الحسن قال الحلي في الجنة على الرجال أحسن منا على النساء.
(حديث سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَ فَبَدَا أَسَاوِرُهُ لَطَمَسَ ضَوْءَ الشَّمْسِ كَمَا تَطْمِسُ الشَّمْسُ ضَوْءَ النُّجُومِ.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(اطَّلَعَ) بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ أَشْرَفَ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا.
(فَبَدَا) أَيْ ظَهَرَ
(أَسَاوِرُهُ) جَمْعُ أَسْوِرَةٍ جَمْعِ سِوَارٍ، وَالْمُرَادُ بَعْضُ أَسَاوِرِهِ.
(لَطَمَسَ) أَيْ مَحَا ضَوْءُ أَسَاوِرِهِ.
(ضَوْءَ الشَّمْسِ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الجنة بناؤها لبنة من فضة و لبنة من ذهب ومِلاطُها المسك الأذْفَرُ وَحَصْبَاؤُهَا اللؤلؤ والياقوت و تربتها الزعفران من يدخلها ينعم لا يبأس و يخلد لا يموت لا تبلى ثيابهم و لا يفنى شبابهم.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(الجنة بناؤها لَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ وَلَبِنَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) أَيْ بِنَاؤُهَا مُرَصَّعٌ مِنْهُمَا
(وَمِلَاطُهَا) بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ مَا بَيْنَ اللَّبِنَتَيْنِ مَوْضِعُ النُّورَةِ، فِي النِّهَايَةِ: الْمِلَاطُ الطِّينُ الَّذِي يُجْعَلُ بَيْنَ سَاقَتَيِ الْبِنَاءِ يُمَلَّطُ بِهِ الْحَائِطُ أَيْ يُخْلَطُ.
(الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ) أَيِ الشَّدِيدُ الرِّيحِ.
(وَحَصْبَاؤُهَا) أَيْ حَصْبَاؤُهَا الصِّغَارُ الَّتِي فِي الْأَنْهَارِ قَالَهُ الْقَارِي. وَقَالَ صَاحِبُ أَشِعَّةِ الجزء السابع اللُّمَعَاتِ: أَيْ حَصْبَاؤُهَا الَّتِي فِي الْأَنْهَارِ وَغَيْرِهَا. قُلْتُ: الظَّاهِرُ هُوَ الْعُمُومُ
(اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ) أَيْ مِثْلُهَا فِي اللَّوْنِ وَالصَّفَاءِ.
(وَتُرْبَتُهَا) أَيْ مَكَانَ تُرَابِهَا.(2/441)
(الزَّعْفَرَانُ) أَيِ النَّاعِمُ الْأَصْفَرُ الطَّيِّبُ الرِّيحِ فَجَمَعَ بَيْنَ أَلْوَانِ الزِّينَةِ وَهِيَ الْبَيَاضُ وَالْحُمْرَةُ وَالصُّفْرَةُ وَيَتَكَمَّلُ بِالْأَشْجَارِ الْمُلَوَّنَةِ بِالْخُضْرَةِ. وَلَمَّا كَانَ السَّوَادُ يَغُمُّ الْفُؤَادَ خُصَّ بِأَهْلِ النَّارِ.
(مَنْ يَدْخُلُهَا يَنْعَمُ لَا يَبْأَسُ) بِفَتْحِ وَسَطِهِمَا فِي الْقَامُوسِ: الْبَأْسُ الْعَذَابُ وَالشِّدَّةُ فِي الْحَرْبِ بَؤُسَ كَكَرُمَ بَأْسًا وَبَئِسَ كَسَمِعَ اشْتَدَّتْ حَاجَتُهُ
(يَخْلُدُ) أَيْ يَدُومُ فَلَا يَتَحَوَّلُ عَنْهَا
(ولَا يَمُوتُ) أَيْ لَا يَفْنَى بَلْ دَائِمًا يَبْقَى
(َلَا تَبْلَى) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِنْ بَابِ سَمِعَ يَسْمَعُ أَيْ لَا تَخْلَقُ وَلَا تَتَقَطَّعُ
(ثِيَابُهُمْ) وَكَذَا أَثَاثُهُمْ
(وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُمْ) أَيْ لَا يَهْرَمُونَ وَلَا يُخَرِّفُونَ وَلَا يُغَيِّرُهُمْ مُضِيُّ الزَّمَانِ قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ أَنَّ الْجَنَّةَ دَارُ الثَّبَاتِ وَالْقَرَارِ وَأَنَّ التَّغَيُّرَ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا فَلَا يَشُوبُ نَعِيمَهَا بُؤْسٌ وَلَا يَعْتَرِيهِ فَسَادٌ وَلَا تَغْيِيرٌ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ دَارَ الْأَضْدَادِ وَمَحَلَّ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ.
(حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أول زمرة يدخلون الجنة يوم القيامة ضوء وجوههم على مثل ضوء القمر ليلة البدر والزمرة الثانية على مثل أحسن كوكب دري في السماء لكل رجل منهم زوجتان على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ ساقها من ورائها.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لغدوةٍ في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها وَلَقَاب قَوْسِ أحدكم أو موضع قده في الجنة خير من الدنيا و ما فيها ولو اطَّلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحا ولأضاءت ما بينهما و لنصيفها على رأسها خير من الدنيا و ما فيها.
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة عام ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:(2/442)
(طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة عام ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها) جمع كم بالكسر وعاء الطلع قال عبيد بن عمير: هي شجرة في جنة عدن في دار النبي صلى اللّه عليه وسلم وفي كل دار وغرفة لم يخلق اللّه لوناً ولا زهرة إلا فيها منها إلا السواد ولا يخلق اللّه فاكهة ولا ثمرة إلا فيها منها ينبع من أصلها عينان الكافور والسلسبيل كل ورقة منها تظل أمة عليها ملك يسبح اللّه بأنواع التسبيح. انتهى.
(مناديل أهل الجنة:
(حديث البراء ابن عازب رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: أهديت لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حلة حرير فجعل أصحابه يلمسونها ويعجبون من لينها فقال أتعجبون من لين هذه لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح:
ولا يخفى ما في ذكر سعد بن معاذ بخصوصه ههنا فإنه كان في الأنصار بمنزلة الصديق في المهاجرين واهتز لموته العرش وكان لا يأخذه في الله لومة لائم وختم الله له بالشهادة وآثر رضا الله ورسوله على رضا قومه وعشيرته وخلفائه ووافق حكمه الذي حكم به حكم الله فوق سبع سموات ونعاه جبريل إلى النبي يوم موته فحق له أن تكون مناديله التي يمسح بها يديه في الجنة أحسن من حلل الملوك.
(لبسهم التيجان على رؤسهم:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يجيء صاحب القرآن يوم القيامة، فيقول: يا رب حله، فيلبس تاج الكرامة. ثم يقول: يا رب زده فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيقال اقرأ وارق ويزاد بكل آية حسنة.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
قَوْلُهُ: (يَا رَبِّ حَلِّهِ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمْرٌ مِنَ التَّحْلِيَةِ، يُقَالُ حَلَّيْتُهُ، أُحَلِّيهِ تَحْلِيَةً: إِذَا أَلْبَسْتُهُ الْحِلْيَةَ. وَالْمَعْنَى يَا رَبِّ زَيِّنْهُ (اقْرَأْ) أَمْرٌ مِنَ الْقِرَاءَةِ أَيِ اتْلُ (وَارْقَأْ) أَمْرٌ مِنْ رَقَأَ يَرْقَأُ رَقْئًا أَيِ اصْعَدْ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: رَقَأَ فِي الدَّرَجَةِ صَعِدَ وَهِيَ الْمَرْقَأَةُ وَتُكْسَرُ. أَيْ {يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأِ الْقُرْآنَ وَاصْعَدْ عَلَى دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ} وَسَيَأْتِي تَوْضِيحُهُ عَنْ قَرِيبٍ فِي شَرْحِ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو.
(فُرُشُ أهل الجنة:(2/443)
قال تعالى: (مُتّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنّتَيْنِ دَانٍ) [الرحمن: 54]
وقال تعالى: (وَفُرُشٍ مّرْفُوعَةٍ) [الواقعة: 34] فوصف الفرش بكونها مبطنة بالإستبرق وهذا يدل على أمرين أحدهما أن ظهائرها أعلى وأحسن من بطائنها لأن بطائنها للارض وظهائرها للجمال والزينة والمباشرة، قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن ابي هبيرة ابن مريم عن عبد الله في قوله بطائنها من إستبرق قال هذه البطائن قد خبرتم بها فكيف بالظهائر الثاني يدل على أنها فرش عالية لها سمك وحشو بين البطانة والظهارة.
(بُسُطُ أهل الجنة وزرابيهم:
قال تعالى: (مُتّكِئِينَ عَلَىَ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيّ حِسَانٍ) [الرحمن: 76]
وقال تعالى: (فِيهَا سُرُرٌ مّرْفُوعَةٌ *وَأَكْوَابٌ مّوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيّ مَبْثُوثَةٌ) [الغاشية 13: 16]
وذكر هشام عن أبي بشر عن سعد بن جبير قال الرفرف رياض الجنة والعبقري عتاق الزرابي وذكر إسماعيل بن علية عن أبي رجاء عن الحسن في قوله تعالى (مُتّكِئِينَ عَلَىَ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيّ حِسَانٍ) قال هي البسط قال وأهل المدينة يقولون هي البسط، وأما النمارق فقال الواحدي هي الوسائد في قول الجميع.
فيكون المعنى (وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ): وسائد مصفوفة.
وزرابي بمعنى البسط والطنافس وأحدها زريبة في قول جميع أهل اللغة والتعبير ومبثوثة مبسوطة منشورة.
(خيام أهل الجنة وسررهم وأرائكهم وبشخاناتهم:
قال تعالى: (حُورٌ مّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) [الرحمن: 72]
(حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن للمؤمن في الجنة لخيمةٌ من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا.
وهذه الخيم غير الغرف والقصور بل هي خيام في البساتين وعلى شواطئ الأنهار.
[*] (روى ابن أبي الدنيا بسنده عن أبي سليمان قال: ينشأ خلق الحور العين إنشاءا، فإذا تكامل خلقهن ضربت عليهم الملائكة الخيام.
وقال بعضهم لمَّا كنَّ أبكارا وعادة البِكْرِ أن تكون مقصورة في خِدْرِهَا حتى يأخذها بعلها أنشأ الله تعالى الحور وقصرهن في خدور الخيام حتى يجمع بينهن وبين أوليائه في الجنة.(2/444)
[*] (روى ابن أبي الدنيا بسنده عن عبد الله قال لكل مسلم خيرة ولكل خيرة خيمة ولكل خيمة أربعة أبواب يدخل عليها كل يوم من كل باب تحفة وهدية وكرامة لم تكن قبل ذلك لا مزجات ولا زفرات ولا بخرات ولا طماحات حور عين كأنهن بيض مكنون.
[*] (أورد ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى (حُورٌ مّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) قال قال در مجوف.
[*] (أورد ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح عن عن أبي الدرداء قال الخيمة لؤلؤة واحدة لها سبعون بابا كلها من درة.
(حُورٌ مّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) سُرُرِ أهلِ الجنة:
وأما السرر فقال تعالى: (مُتّكِئِينَ عَلَىَ سُرُرٍ مّصْفُوفَةٍ وَزَوّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ) [الطور: 20]
وقال تعالى: (ثُلّةٌ مّنَ الأوّلِينَ * وَقَلِيلٌ مّنَ الاَخِرِينَ * عَلَىَ سُرُرٍ مّوْضُونَةٍ *مّتّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ) [الواقعة 13: 16]
وقال تعالى: (فِيهَا سُرُرٌ مّرْفُوعَةٌ) [الغاشية: 13] فأخبر تعالى عن سررهم بأنها مصفوفة بعضها إلى جانب بعض ليس بعضها خلف بعض ولا بعيداً من بعض وأخبر أنها موضونة والوضن في اللغة النضيد والنسج المضاعف يقال وضمن فلان الحجر أو الآجر بعضه فوق بعض فهو موضون.
[*] (قال ابن عباس رضي الله عنهما: مرمولة بالذهب
[*] (وقال مجاهد: موصولة بالذهب.
[*] (وعن عطاء عن ابن عباس قال: سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت والسرير مثل ما بين مكة وأيلة.
[*] (وقال الكلبي: طول السرير في السماء مائة ذراع فإذا أراد الرجل أن يجلس عليه تواضع له حتى يجلس عليه فإذا حلس عليه ارتفع إلى مكانه.
(أرائك أهل الجنة:
وأما الأرائك فهي جمع أريكة قال تعالى: (مّتّكِئِينَ فِيهَا عَلَىَ الأرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً) [الإنسان: 13]
[*] (قال مجاهد عن ابن عباس: قال لا تكون أريكة حتى يكون السرير في الحجلة فإذا كان سريرا بغير حجلة لا يكون أريكة وإن كانت حجلة بغير سرير لم تكن أريكة ولا تكون أريكة إلا والسرير في الحجلة فإذا اجتمعا كانت أريكة.
وقال مجاهد: هي الأسرة في الحجال قال الليث الأريكة سرير حجلة فالحجلة والسرير أريكة وجمعها أرائك.
وقال أبو إسحاق الأرائك الفرش في الحجال.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح:(2/445)
قلت: ها هنا ثلاثة أشياء أحدها السرير و الثانية الحجلة وهي البشخانة التي تعلق فوقه و الثالث الفراش الذي على السرير ولا يسمى السرير أريكة حتى يجمع ذلك كله.
(مطايا أهل الجنة و خيولهم و مراكبهم:
(حديث بريدة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن رجلا سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ خَيْلٍ؟ قَالَ إِنْ اللَّهُ أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ فَلَا تَشَاءُ أَنْ تُحْمَلَ فِيهَا عَلَى فَرَسٍ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ يَطِيرُ بِكَ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْتَ، قَالَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ إِبِلٍ قَالَ فَلَمْ يَقُلْ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِصَاحِبِهِ قَالَ إِنْ يُدْخِلْكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ يَكُنْ لَكَ فِيهَا مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(إِنِ اللَّهُ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ النُّونِ عَلَى أَنَّ "إِنْ" شَرْطِيَّةٌ ثُمَّ كُسِرَ لِلِالْتِقَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: اللَّهُ مَرْفُوعٌ بِفِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ (أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ) وَلَا يَجُوزُ رَفْعُهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ لِوُقُوعِهِ بَعْدَ حَرْفِ الشَّرْطِ.
وَقَوْلُهُ: (فَلَا تَشَاءُ أَنْ تُحْمَلَ فِيهَا) جَوَابٌ لِلشَّرْطِ أَيْ فَلَا تَشَاءُ الْحَمْلَ فِي الْجَنَّةِ
(عَلَى فَرَسٍ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ تَطِيرُ) بِصِيغَةِ الْمُؤَنَّثِ وَالضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى فَرَسٍ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْفَرَسُ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى
(حَيْثُ شِئْتَ) أَيْ طَيَرَانَهُ بِكَ
(إِلَّا فَعَلْتَ) وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مَا مِنْ شَيْءٍ تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ إِلَّا وَتَجِدُهُ فِي الْجَنَّةِ كَيْفَ شَاءَتْ حَتَّى لَوِ اشْتَهَتْ أَنْ تَرْكَبَ فَرَسًا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لَوَجَدَتْهُ وَتَمَكَّنَتْ مِنْهُ.
(قَالَ) أَيْ بُرَيْدَةُ
(َسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ إِبِلٍ)
(فَلَمْ يَقُلْ لَهُ مَا قَالَ لِصَاحِبِهِ) أَيْ مِثْلَ مَقُولِهِ لِصَاحِبِهِ كَمَا سَبَقَ بَلْ أَجَابَهُ مُخْتَصَرًا.(2/446)
(فَقَالَ إِنْ يُدْخِلْكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ يَكُنْ لَكَ فِيهَا مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ) أَيْ وَجَدْتَ عَيْنَكَ لَذِيذَةً. قَالَ فِي الْقَامُوسِ لَذَّهُ وَبِهِ لِذَاذًا وَلَذَاذَةً وَجَدَهُ لَذِيذًا، انْتَهَى.
(غلمانُ أهل الجنة وخدمُهم:
قال تعالى: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ) {الطور:24}
وَيَطُوفُ عَلَيهِمْ بِكُؤُوسِ الخَمْرِ هذِهِ غِلْمانٌ مُعَدُّونَ لِخدْمَتِهِمْ، يَعْمَلُون بِأْمْرِهِمْ، وَيَنْتَهُونَ بِنَهيِهِمْ، وَهُمْ في حُسْنِهم وَبَهائِهم كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ نَاصِعُ الَبَيَاضِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أصْدافِهِ، وَلَم يَتَعَرَّضْ لِلنُّورِ وَلَفْحِ الشَّمْسِ وَالرِّيَاحِ.
وقال تعالى: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وَلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً) {الإنسان:19}
وَيَطُوفُ عَلَى أَهْلِ الجَنَّةِ غِلْمَانٌ (وِلْدَانٌ) يَخْدِمُونَهُمْ، وَهُمْ شَبَابٌ، وُجُوهُهُمْ نَضِرَةٌ، كَأَنَّهُمْ لِحُسْنِ أَلْوَانِهِمْ، وَنَضْرَةِ وُجُوهِهِمْ، وَكَثْرَةِ انْتِشَارِهِمْ فِي قَضَاءِ الحَاجَاتِ، اللًّؤْلُؤْ المَنْثُورُ، وَهُمْ لاَ يَهْرَمُونَ وَلاَ يَشِيبُونَ، وَلاَ تَتَبَدَّلُ أَحْوَالُهُمْ.
ومعنى (مخلدون):لا يهرمون ولا يتغيرون ولا يموتون. وقيل: مقرطون بالخلدة. وجمع قوم بين المعنيين فقالوا: لا يتغيرون ولا يهرمون وفي آذانهم القراطة. وقد شبَّههم الله تعالى باللؤلؤ المنثور لما فيه من البياض وحسن الخلق.
وفى كونه منثوراً فائدتان:
الأولى: تدل على أنهم مبثوثون في خدمتهم وحوائجهم ,وغير معطلين.
الثانية: أن اللؤلؤ إذا كان منثوراً- لاسيما على بساطٍ من ذهب أو حرير – كان أحسن لمنظره من كونه مجموعاً في مكان ٍ واحد.
وللعلماء في هؤلاء الغلمان قولان: الأول: أنهم أولاد المسلمين الذين يموتون بلا حسنة ولا سيئة ٍ, فيكونون من خدم أهل الجنة. ومنهم من قصر ذلك على أولاد المشركين. الثاني: أنهم مخلوقون في الجنة خدماً لأهلها , أنشأهم الله - عز وجل- كالحور العين, وهذا القول هو الأشبه – والله أعلم – لأن من تمام نعمة الله تعالى وكرامته لأهل الجنة أن يجعل أولادهم مخدومين معهم, لا غلماناً لهم يخدمونهم.
وقال بعض أهل العلم: وصح في بعض الأخبار أن أطفال المشركين هم خدم أهل الجنة، فلا مانع من الجمع بين القولين، والله أعلم.(2/447)
(وصف الحور العين:
أما نساء الجنة فأعظم بجمالهن, فإنهن محورات العيون ملألآت الخدود, تكسوهن النضرة, ويملؤهن الجمال, أخاذات بنظراتهن, ساحرات بحسنهن, قاصرات بطرفهن، قد تمازج بياض عيونهن بالسواد, وبياض أبدانهن بالنعومة، فهيا بنا نتعرف على نساء الجنة .. ونلمح شيئا ًمن جمالهن وحسنهن, ورقتهن وحور عيونهن، فرُبَّ متفكر في حور الجنة صرعه تفكيره .. فلم يزل يتقلب بين منازل التوبة والتقرب إلى الله حتى لاقاه الله بهن في نعيمه المقيم وأنعم به من لقى، و لقد وصف الله تعالى الحور العين بأوصافٍ عظيمة تجعل كلَ مُشَمِّرٍ للجنة تشرئب عُنُقُه طلباً لها ومن هذه الأوصاف ما يلي:
(1) أَزْوَاجٌ مّطَهّرَةٌ:
قال تعالى: (وَبَشّرِ الّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ كُلّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رّزْقاً قَالُواْ هََذَا الّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مّطَهّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 25]
فتأمل جلالة المبشر ومنزلته وصدقه وعظمة من أرسله إليك بهذه البشارة وقدر ما بشرك به وضمنه لك على أسهل شيء عليك وأيسره وجمع سبحانه في هذه البشارة بين نعيم البدن بالجنات وما فيها من الأنهار والثمار ونعيم النفس بالأزواج المطهرة ونعيم القلب وقرة العين بمعرفة دوام هذا العيش أبد الآباد وعدم انقطاعه، والأزواج جمع زوج والمرأة زوج للرجل وهو زوجها هذا هو الأفصح وهو لغة قريش وبها نزل القرآن كقوله تعالى: (وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنّةَ) [البقرة: 35] ومن العرب من يقول زوجة وهو نادر لا يكادون يقولونه،
(وأما المطهرة «من طهرت من الحيض والبول والنفاس والغائط والمخاط والبصاق وكل قذر وكل أذى يكون من نساء الدنيا» وطهر مع ذلك باطنها من الأخلاق السيئة والصفات المذمومة وطهر لسانها من الفحش والبذاء، وطهر طرفُها من أن تطمح به إلى غير زوجها وطهرت أثوابها من أن يعرض لها دنس أو وسخ.
[*] (قال ابن عباس رضي الله عنهما: مطهرة لا يحضن ولا يحدثن ولا يتنخمن، وقال ابن عباس أيضا مطهرة من القذر والأذى.
وقال مجاهد: لا يبلن ولا يتغوطن ولا يمذين ولا يمنين ولا يحضن ولا يبصقن ولا يتنخمن ولا يلدن.
وقال قتادة: مطهرة من الإثم والأذى طهرهن الله سبحانه من كل بول وغائط وقذر ومأثم.(2/448)
(2) حورٌ عين:
قال تعالى: (وَزَوّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ) [الدخان: 54]
فجمع لهم بين حسن المنزل وحصول الأمن من كل مكروه واشتماله على الثمار والأنهار وحسن اللباس وكمال العشرة لمقابلة بعضهم بعضا وتمام اللذة بالحور العين ودعائهم بجميع أنواع الفاكهة مع أمنهم من انقطاعها ومضرتها وغائلتها وختام ذلك أعلمهم بأنهم لا يذوقون فيها هناك موتاً.
مسألة: ما معنى الحور العين؟
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح:
الحور جمع حوراء وهي المرأة الشابة الحسناء الجميلة البيضاء شديدة سواد العين وقال زيد بن أسلم الحوراء التي يحار فيها الطرف.
وعين: حسان الأعين قال القرطبي: العين جمع عيناء, وهي الواسعة العظيمة العينين (1).
وقوله (زوجناهم) يفهم منها معنيان: الأول: جعلناهم أزواجاً اثنين اثنين.
الثاني: قرناهم بهن, وليس من عقد التزويج، لأن العرب تقول: تزوجتها , ولا تقول: تزوجت بها, وقيل: بل هي لغة تميم فهم يقولون: تزوجت بامرأة.
والظاهر- والله أعلم- أن الآية تحمل المعنيين معًا, فلفظ التزويج يدل على النكاح, و (الباء) تدلُّ على الاقتران والضم, وهذا أبلغ من حذفها.
(3) قَاصِرَاتُ الطّرْفِ:
وقال تعالى: (فِيهِنّ قَاصِرَاتُ الطّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنّ * فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * كَأَنّهُنّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) [الرحمن 56: 58] وصفهن سبحانه بقصر الطرف في ثلاثة مواضع:
أحدها هذا الموضع.
والثاني: قوله تعالى في الصافات: (وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطّرْفِ عِينٌ) [الصافات: 48]
والثالث: قوله تعالى في ص: (وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطّرْفِ أَتْرَابٌ) [ص: 52]
والمفسرون كلهم على أن المعنى قصرن طرفهن على أزواجهن فلا يطمحن إلى.
[*] (أورد ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح عن الحسن قال قصرن طرفهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم والله ما هن متبرجات ولا متطلعات وقال منصور عن مجاهد قصرن أبصارهن وقلوبهن و أنفسهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم.
مسألة: ما معنى أتراب؟
قال ابن عباس وسائر المفسرين: مستويات على سن واحد وميلاد واحد وبنات ثلاث وثلاثين سنة.
وقال مجاهد: أتراب أمثال.
(4) لَمْ يَطْمِثْهُنّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنّ:
__________
(1) - تفسير القرطبي: (16/ 120)(2/449)
وقوله تعالى (لَمْ يَطْمِثْهُنّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنّ) قال أبو عبيدة لم يمسهن، يقال ما طمث هذا البعير حبل قط أي ما مسه، وقال يونس تقول العرب هذا جمل ما طمثه حبل قط أي ما مسه، وقال الفراء الطمث الافتضاض وهو النكاح بالتدمية.
(5) مّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ:
وقال تعالى في وصفهن (حُورٌ مّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) [الرحمن: 72]
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح:
المقصورات: المحبوسات.
قال أبو عبيدة خدرن في الخيام وكذلك قال مقاتل وفيه معنى آخر وهو أن يكون المراد أنهن محبوسات على أزواجهن لا يرون غيرهم وهم في الخيام وهذا معنى قول من قال قصرن على أزواجهن فلا يردن غيرهم ولا يطمحن إلى من سواهم وذكره الفراء.
قلت: وهذا معنى قاصرات الطرف ولكن أولئك قاصرات بأنفسهن وهؤلاء مقصورات وقوله في الخيام على هذا القول صفة لحور أي هن في الخيام وليس معمولا لمقصورات وكأن أرباب هذا القول فسروا بان يكن محبوسات في الخيام وليس لا تفارقنها إلى الغرف والبساتين و أصحاب القول الأول يجيبون عن هذا بأن الله سبحانه وصفهن بصفات النساء المخدرات المصونات وذلك أجمل في الوصف ولا يلزم من ذلك أنهن لا يفارقن الخيام إلى الغرف والبساتين كما أن النساء الملوك ودونهم من النساء المخدرات المصونات لا يمنعن أن يخرجن في سفر و غيره إلى منتزه وبستان ونحوه فوصفهن اللازم لهن القصر في البيت ويعرض لهن مع الخدم الخروج إلى البساتين ونحوها و أما مجاهد فقال مقصورات قلوبهن على أزواجهن في خيام اللؤلؤ وقد تقدم وصف النسوة الأول بكونهن قاصرات الطرف وهؤلاء بكونهن مقصورات والوصفان لكلا النوعين فانهما صفتا كمال فتلك الصفة قصر الطرف عن طموحه إلى غير الأزواج وهذه الصفة قصر الرجل على التبرج والبروز والظهور للرجال.
(6) خَيْرَاتٌ حِسَانٌ:
وقال تعالى: (فِيهِنّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ) [الرحمن: 70]
فالخيرات جمع خيرة وهي مخففة من خيره كسيدة ولينة وحسان جمع حَسَنَة فهن خيرات الصفات والأخلاق والشيم وحسان الوجوه.
[*] (أورد ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح عن ابن مسعود قال لكل مسلم خيرة ولكل خيرة خيمة ولكل خيمة أربعة أبواب يدخل عليها في كل يوم من كل باب تحفة وهدية وكرامة لم تكن قبل ذلك لا ترحات ولا ذفرات ولا بخرات ولا صماحات.(2/450)
(7) أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً:
وقال تعالى: (إِنّآ أَنشَأْنَاهُنّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لاَِصْحَابِ الْيَمِينِ) [الواقعة 35: 38]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
{إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ} أي: أعدناهن في النشأة الآخرة بعدما كُنَّ عجائز رُمْصًا، صرن أبكارًا عربًا، أي: بعد الثّيوبة عُدْن أبكارًا عُرُبًا، أي: متحببات إلى أزواجهن بالحلاوة والظرافة والملاحة.
وقال بعضهم: {عُرُبًا} أي: غَنِجات.
وقوله: {عُرُبًا} قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: يعني متحببات إلى أزواجهن، ألم تر إلى الناقة الضبعة، هي كذلك.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: العُرُب: العواشق لأزواجهن، وأزواجهن لهن عاشقون.
وقوله: {أَتْرَابًا} قال الضحاك، عن ابن عباس يعني: في سن واحدة، ثلاث وثلاثين سنة.
وقال مجاهد: الأتراب: المستويات. وفي رواية عنه: الأمثال. وقال عطية: الأقران. وقال السدي: {أَتْرَابًا} أي: في الأخلاق المتواخيات بينهن، ليس بينهن تباغض ولا تحاسد، يعني: لا كما كن ضرائر [في الدنيا] ضرائر متعاديات.
(حديث الحسن الثابت في مختصر الشمائل المحمدية وحسنه الألباني) قال: أتت عجوز إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله! ادع الله أن يدخلني الجنة. فقال: يا أم فلان! إن الجنة لا تدخلها عجوز). قال: فولت تبكي. فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله تعالى يقول: (إِنّآ أَنشَأْنَاهُنّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً)
مسألة: هل يفضي الرجل إلى زوجته من الحور العين؟
قال تعالى: (إِنّ أَصْحَابَ الْجَنّةِ اليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ) [يس: 55]
قال الحسن البصري: وإسماعيل بن أبي خالد: {فِي شُغُلٍ} عما فيه أهل النار من العذاب.
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
قال عبد الله بن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن المُسَيّب، وعِكْرِمَة، والحسن، وقتادة، والأعمش، وسليمان التيمي، والأوزاعي في قوله: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} قالوا: شغلهم افتضاض الأبكار.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أنه قال له: أَنَطأ في الجنة؟ قال: "نعم، والذي نفسي بيده دَحْمًا دحمًا، فإذا قام عنها رَجَعتْ مُطهَّرة بكرًا.(2/451)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) قال: قيل: يا رسول الله، هل نصل إلى نسائنا في الجنة؟ قال: "إن الرجل ليصل في اليوم إلى مائة عذراء.
[*] (أورد ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح عن سعيد بن جبير ان شهوته لتجري في جسده سبعين عاما يجد اللذة ولا يلحقهم بذلك جنابة فيحتاجون إلى التطهير و لا ضعف و لا انحلال قوة بل وطئهم وطء التذاذ و نعيم لا آفة فيه بوجه من الوجوه وأكمل الناس فيه أصونهم لنفسه في هذه الدار عن الحرام فكما أن من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة و من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة و من أكل في صحاف الذهب و الفضة في الدنيا لم يأكل فيها في الآخرة كما قال النبي أنها لهم في الدنيا و لكم في الآخرة فمن استوفى طيباته و لذاته و أذهبها في هذه الدار حرمها هناك كما نعى سبحانه و تعالى على من أذهب طيباته في الدنيا واستمتع بها و لهذا كان الصحابة ومن تبعهم يخافون من ذلك أشد الخوف، و ذكر الامام احمد عن جابر بن عبد الله انه رآه عمر و معه لحم قد اشتراه لأهله بدرهم فقال ما هذا قال لحم اشتريته لأهلي بدرهم فقال أو كلما اشتهى أحدكم شيئا اشتراه أما سمعت الله تعالى يقول (أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا) [الأحقاف: 20] و قال الإمام احمد حدثنا عفان حدثنا جرير بن حازم قال حدثنا الحسن قال قدم وفد أهل البصرة مع ابي موسى على عمر فكنا ندخل عليه كل يوم و له خبز ثلاثة و ربما وافقناها مأدومة بالسمن وربما وافقناها مأدومة بالزيت وربما وافقناها مأدومة باللبن وربما وافقناها القلائد اليابسة قد دقت ثم أغلى بها و ربما وافقناها اللحم العريض و هو قليل فقال ذات يوم إني و الله قد أرى تقذيركم و كراهيتكم لطعامي إني و الله لو شئت لكنت من أطيبكم طعاما و أرقكم عيشا و لكني سمعت رسول الله يقول عُيِّرَ قوما بأمر فعلوه (أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا) فمن ترك اللذة المحرمة لله استوفاها يوم القيامة أكمل ما تكون و من استوفاها هنا حرمها هناك أو نقص كمالها فلا يجعل الله لذة من أوضع في معاصيه و محارمه كلذة من ترك شهوته لله أبدا و الله اعلم. انتهى.(2/452)
حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الرجل من أهل الجنة ليعطى قوة مائة رجل في الأكل و الشرب و الشهوة و الجماع حاجة أحدهم عرق يفيض من جلده فإذا بطنه قد ضمر.
(8) كَوَاعِبَ أَتْرَاباً:
وقال تعالى: (إِنّ لِلْمُتّقِينَ مَفَازاً * حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً) [النبأ 31: 33]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
(وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا) أي: وحورًا كواعب. قال ابن عباس ومجاهد، وغير واحد: {كواعب} أي: نواهد، يعنون أن ثُدُيَّهن نواهد لم يتدلين لأنهن أبكار عُرُب أتراب، أي: في سن واحدة، كما تقدم بيانه في سورة "الواقعة".
(9) كَأَنَّهُنَّّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ:
وصفهن الله تعالى بالصفاء, فقال تعالى: (كَأَنَّهُنَّّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) {الرحمن:58} قال المفسرون: أراد صفاء الياقوت في بياض المرجان.
(حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أول زمرة يدخلون الجنة يوم القيامة ضوء وجوههم على مثل ضوء القمر ليلة البدر والزمرة الثانية على مثل أحسن كوكب دري في السماء لكل رجل منهم زوجتان على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ ساقها من ورائها.
والسنة الصحيحة طافحةٌ بوصف الحور العين منها ما يلي:
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم، أو موضع قدم من الجنة، خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحاً، ولنصيفها ـ يعني الخمار ـ خير من الدنيا وما فيها.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها ولا يمتخطون ولا يتغوطون، آنيتهم فيها الذهب، أمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان، يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن، ولا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشيا.(2/453)
(حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أول زمرة يدخلون الجنة يوم القيامة ضوء وجوههم على مثل ضوء القمر ليلة البدر والزمرة الثانية على مثل أحسن كوكب دري في السماء لكل رجل منهم زوجتان على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ ساقها من ورائها.
(9) غناء الحور العين و ما فيه من الطرب و اللذة:
ونساء الجنة, مع زهو جمالهن ورقة أبدانهن ونعومة شكلهن وسحرهن وحسنهن ومع ما تحلين به من دماثه الأخلاق وحسن العشرة, قد وهبن من الأصوات أحسنها و من الأغاني أعذبها وأطربها، قال تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرّقُونَ * فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) [الروم 14: 15]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
قال: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ}: قال قتادة: هي ـ والله ـ الفرقة التي لا اجتماع بعدها، يعني: إذا رفع هذا إلى عليين، وخفض هذا إلى أسفل السافلين، فذاك آخر العهد بينهما؛ ولهذا قال: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} قال مجاهد وقتادة: ينعمون.
وقال يحيى بن أبي كثير: يعني سماع الغناء. انتهى.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الحور العين لتغنين في الجنة يقلن: نحن الحور الحسان خبئنا لأزواج كرام.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب موقوفا) قال: إن في الجنة نهراً طول الجنة حافتاه العذارى قيام متقابلات يغنين بأحسن أصوات يسمعها الخلائق حتى ما يرون أن في الجنة لذة مثلها، قلنا يا أبا هريرة وما ذاك الغناء؟ قال إن شاء الله التسبيح والتحميد والتقديس وثناء على الرب عز وجل.
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات ما سمعها أحد قط إن مما يغنين: نحن الخيرات الحسان أزواج قوم كرام، ينظرن بقرة أعيان، و إن مما يغنين به: نحن الخالدات فلا يمتنه، نحن الآمنات فلا يخفنه، نحن المقيمات فلا يظعنه.
الظعن: الارتحال والسفر
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:(2/454)
(إن أزواج أهل الجنة) زاد في رواية من الحور
(ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات ما سمعها أحد قط) أي بأصوات حسان ما سمع في الدنيا مثلها أحد قط، وتمام الحديث وإن مما يغنين به نحن الخيرات الحسان أزواج قوم كرام وفي رواية وإن مما يغنين به: نحن الخالدات فلا يمتنه، نحن الآمنات فلا يخفنه، نحن المقيمات فلا يظعنه انتهى.
(أخي الحبيب:
إنَّ من أجلِّ نعم الله في الجنة الحور العين وجوههن جمعت الجمال الباطن والظاهر من جميع الوجوه، في الخيام مقصورات، وللطرف قاصرات، لا يفنى شبابها، لا يبلى جمالها، ولو اطلعت إحداهن على الدنيا لملأت ما بين السماء والأرض ريحاً، وعطراً، وشذاً، ولطمست ضوء الشمس كما تطمس الشمس ما في النجوم من ضياء، راضيات لا يسخطن أبداً.
ناعمات لا يبأسن أبداً، خالدات لا يمتن أبداً، جميلة حسناء، بكر عذراء كأنها الياقوت، كلامها رخيم، وقدها قويم، وشعرها بهيم، وقدرها عظيم، وجفنها فاتر، وحسنها باهر، وجمالها زاهر، ودلالها ظاهر.
كحيلٌ طرفها ... عذبٌ نُطقُها
عجبٌ خلقها ... حسنٌ خُلُقُها(2/455)
كثيرة الوداد عديمة الملل، أيها الاخوة جمالها لا تتخيله العيون، ورائحتها، وملبسها، وجمال كلامها لا يخطر على قلب. فتعلم هناك - وهناك فقط - أن فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، وفي لحظات الجنان وبينما ذلك المؤمن ينعم ويمشي على بساط الجنة متنقلاً ما بين حدائقها، وخيامها، وأنهارها وإذا به ينظر نظرة أخرى لذلك القصر المشيد بأنواره المتلألئة وخضرته الناظرة، عندها يبشر المؤمن أن أقبل، فهذا قصرك، وداخله زوجتك تنتظرك منذ أن كنت في الدنيا، فينطلق إليها وتنطلق إليه في أجمل زفاف بينهم، السندس والإستبرق لباسهما، والذهب واللؤلؤ أساورهما، فتقبل إليه ونصيفها على كتفها خير من الدنيا وما فيها، فيعانق الحبيبان عناقاً لا تمله ولا يملها، ويجلسان في ظل ظليل بين الأشجار والرياحين، ومن حولهم أكواب موضوعة فيتبادلان كؤوس الرحيق المختوم، والتنسيم، والسلسبيل، وكأس من خمر لذة للشاربين، فيجلسان على تلكم البسط الحسان، ويتكئان على تلكم الوسائد المصفوفة، وتتوالى عليهم ومن بينهم المسرات، والخيرات، والإحسان، والمكرمات فيقولون: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:34]. إنه عرس زفاف في هدوء ورضا يغمره السلام، والإطمئنان، والود، والأمان، ويبلغهم ربهم السلام: سَلاَمٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ. [يس:58] والملائكة يقولون لهم: سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:24]. في هذا الجو العابق وهم على الأرائك متكئون يرون أنهار الجنان تتدفق من بينهم، أنهار، من ماء ولبن، وأنهار من عسل مصفى، وأنهار من خمر لذة للشاربين. يرون فاكهة كثيرة فيأكلون، ولحم طير مما يشتهون فيتلذذون.
فأبدانهم متنعمة بالجنان، والأنهار، والثمار، وقلوبهم متنعمة بالخلود والدوام في جنة الرحمن.(2/456)
بعد ذلك تطيب الجلسة بينهم على ضفاف أنهار العسل فيتبادلان أجمل الأحاديث والذكريات في حب ونظرات وأترككم مع ابن الجوزي، ليصف لكم جلسته وحديثه فيقول: إن الحور العين تقول: لولي الله وهو متكيء على نهر العسل وهي تعطيه الكأس وهما في نعيم وسرور أتدري يا حبيب الله متى زوجني الله إياك؟ فيقول: لا أدري، فتقول: نظر إليك في يوم شديد حره وأنت في ظمأ الهواجر فباهى بك الملائكة وقال: انظروا يا ملائكتي إلى عبدي، ترك شهوته، ولذته وزوجته وطعامه وشرابه، رغبة فيما عندي، أشهدكم أني قد غفرت له. فغفر لك يومئذ وزوجني إياك.
فيا سبحان الله بصيام يوم شديد حره يتلذذ ذلك المؤمن وزوجته على ضفاف أنهار العسل، فهذا زفت عروسه لصيامه، وآخر لخشيته لربه وإشفاقه، وتُزفُّ العروس لأصحاب القلوب المتعلقة بالمساجد، تُزفُّ العروس للمنفقين سراً وجهراً، تُزفُّ العروس أيها الإخوة للذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، تُزفُّ العروس لأهل القرآن الذين يرتقون في الجنان، تُزفُّ العروس للذين هم لفروجهم حافظون، ولأماناتهم وعهدهم راعون، تُزفُّ العروس لعيون طالما نفرت دموعها خشية من ربها، تُزفُّ لأجساد وقلوب وهبت نفسها لله، تُزفُّ لأهل التوبة والإستغفار، تُزفُّ العروس للعفيف المتعفف، والضعيف المتضعف، والمتواضع ذي الطمرين المدفوع بالأبواب، تُزفُّ العروس لتارك المراء ولو كان محقاً، وتارك الكذب ولو كان مازحاً، تُزفُّ لمن حسن خلقه، وكظم غيظه، وعفا عمّن ظلمه، تُزفُّ لمن أفشى السلام، وصلى بالليل والناس نيام، الله أكبر أهل الجنان والحور أقوام آمنوا بالله وصدقوا المرسلين: وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43]
فيا خاطبَ الحسناءِ إن كنتَ باغياً ... فهَذا زمانُ المهرِ فهو المقدمُ
وكن مبغضاً للخائنات لحبها ... فتَحظى بها من دونهن وتنعمُ
وصم يومك الأدنى لعلك في غد ... تفوزُ بعيدِ الفطرِ والناس صومُ
(واعلم أخي الحبيب: أن هذا النعيم لا ينال إلا بالجد في طاعة الله, وتقديم مراده على مراد النفس, بأداء الصلوات والذكر في الخلوات, والقيام في الظلمات.
[*] (قال مالك بن دينار: كان لي أحزاب أقرؤها كل ليلة, فنمت ذات ليلة, فإذا أنا في المنام بجارية ذات حسن وجمال وبيدها رقعة فقالت أتحسن أن تقرأ؟ فقلت: نعم. فدفعت إلي الرقعة, فإذا مكتوب هذه الأبيات:
لهاك النوم عن طلب الأماني ... وعن تلك الأوانس في الجنان(2/457)
تعيش مخلداً لا موت فيها ... وتلهو في الخيام مع الحسان
تنبه في منامك إن خيراً ... من النوم التهجد بالقرآن
كلنا نريد أن تُزفَّ إلينا تلك العروس فلماذا تضيع من بين أيدينا بلذة ساعة ومتاع دنيا؟
محرومٌ محرومٌ من شرب الخمر في الدنيا وحرم نفسه شربها مع زوجته في الجنة، محرومٌ محرومٌ من انتهك الأعراض بالزنا وحرم نفسه التلذذ بالحور بالآخرة، محرومٌ محرومٌ من استمع إلى الغناء في الدنيا وحرم نفسه سماع غناء الأشجار مع زوجته في الجنان.
[*] قال ابن عمر رضي الله عنهما: والله لا ينال أحداً من الدنيا شيئاً إلا نقص من درجاته عند الله وإن كان عنده كريم.
[*] ويقول ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر: بقدر صعود الإنسان في الدنيا تنزل مرتبته في الآخرة، وقبل ذلك يقول ربنا عز وجل: مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً [الإسراء:19،18]
(أخي الحبيب: الحور الحسان في الجنان تزفُّ إلى أفضل زوج لها بعد الأنبياء والصديقين إنه من باع نفسه من أجل الله، صاحب الدماء الطاهرة ذات الرائحة الزكية، إلى ذلك الرجل الذي يقبل على ربه بدمه الملون لون الدم، والريح ريح المسك، إنه الشهيد في سبيل الله تلكم العيون التي باتت تحرس وتجاهد في سبيل الله حتى بلغت المراد والمنى، ولن يجفّ دم شهيد حتى تتمتع عيناه بالحور الحسان.
(أخي الحبيب:
إليك هذه القصة: في البصرة كان هناك نساء عابدات، وكان من بينهن أم إبراهيم الهاشمية توفي زوجها الصالح وترك لها إبراهيم فربّته أفضل تربية، حتى نشأ نشأة صالحة حتى أنَّ ولاة البصرة يتمنونه زوجاً لبناتهم، وفي يوم من الأيام أغار العدو على ثغر من ثغور الاسلام، فقام عبد الواحد بن زيد البصري خطيباً بالناس يحثهم على الدفاع عن الإسلام، وكانت أم إبراهيم تستمع إلى كلامه، وأخذ عبد الواحد يصف الحور الحسان فقال:
غادة ذات دلالٍ ومرح ... يجد التائه فيها ما اقترح
زانها الله بوجهٍ جمعت ... فيه أوصاف غريبات الملح(2/458)
بدأ يصف أكثر وأكثر، فماج الناس، وأقبلت أم إبراهيم فقالت له: يا أبي عبيد، أتعرف ولدي إبراهيم؟ رؤساء أهل البصرة يخطبونه لبناتهم، فأنا والله أعجبتني تلك الجارية، وأن أرضاها زوجاً لولدي فكرّرْ عليّ ما قلت من وصفها وجمالها، فقال عبد الواحد وزاد:
تولّد نورُ النُّور من نورِ وجهها ... فمازج طيب الطيب من خالصِ العطرِ
فاشتاق الناس إلى الشهادة في سبيل الله، فقالت أم إبراهيم: يا أبا عبيد، هل لك أن تزوج إبراهيم تلك الجارية، فاتَّخذ مهرها عشرة آلاف دينار، ويخرج معك في هذه الغزوة، فلعل الله أن يرزقه الشهادة، فيكون شفيعاً لي ولأبيه يوم القيامة، فقال لها عبد الواحد: لأن فعلت لتفوزن أنت وزوجك فنادت ولدها إبراهيم من وسط الناس فقال لها لبيك يا أماه، فقالت: أي بني، أرضيت بهذه الجارية زوجة لك ببذل مهجتك في سبيل الله؟ فقال إبراهيم: أي والله يا أمي رضيت وأي رضا، فقالت: اللهم إني أشهدك أني قد زوجتُ ولدي هذا من هذه الحورية ببذل مهجته في سبيلك فتقبله مني يا أرحم الراحمين، ثم انصرفت فاشترت لولدها فرساً جيداً وسلاحاً، ثم خرج الجيش للقتال، وهم يرددون قول الله تعالى: إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ [التوبة:111]
فلما أرادت أم إبراهيم فراق ولدها أعطته كفناً وحنوطاً، وقالت له: أي بني إن أردت لقاء العدو فتكفّن بهذا الكفن وتحنّط بهذا الحنوط، وإياك أن يراك الله مقصراً في سبيله، ثم ضمّته إلى صدرها وقبّلته وقالت له: لا جمع الله بيني وبينك إلا بين يديه في عرصات القيامة، وارتحل الجيش، وودعت أم إبراهيم ولدها،
قال عبد الواحد: فلما واجهنا العدو برز إبراهيم في المقدمة، فقتل من العدو خلقاً كثيراً، ثم تجمعوا عليه فقتلوه، وكتب الله النصر للمسلمين، فلما رجع الجيش إلى البصرة غانماً منتصراً، خرج أهل البصرة يستقبلونهم، ومن بينهم أم إبراهيم ترقب ولدها فلما رأت عبد الواحد قالت له: يا أبا عبيد، هل قبل الله هديتي فأهنَّأ فقال: قد قبلت هديتك فخرّت ساجدة لله تعالى وقالت الحمد لله الذي لم يخيِّب ظنِّي وتقبَّل نسكي مني، فلمّا كان من الغد جاءت أم إبراهيم إلى عبد الواحد بن زيد فقالت: يا أبا عبيد رأيت البارحة إبراهيم في منامي في روضة حسناء، وعليه قبة خضراء، وهو على سرير من اللؤلؤ، وعلى رأسه تاجاً وإكليلاً، وهو يقول لي: يا أماه أبشري فقد قُبِل المهر، وزُفَّت العروس.(2/459)
(أخي الحبيب:
هذه الحور الحسان، وهذه الجنان، وهذا سبيلها، فهل رأيتم أشد غبناً ممن يبيع الجنان العالية بحياة أشبه بأضغاث أحلام يبيع الحور بلذة قصيرة وأحوال زهيدة؟ أي سفه ممن يبيع مساكن طيبة في جنان عدن بأعطان ضيقة، وخراب بوار.
فيا حسرة هذا المتخلف حين يرى ركب المؤمنين سائرين الى الجنان، ويمنع من دخولها، عندها سوف يعلم أي بضاعة أضاع.
{تنبيه}: (إذا كانت نساء الدنيا زينةً ومحببّة ومشتهاةً وقد خلقن من تراب الأرض, وجعلهن الله فتنة الدنيا ولم يبلغن من حسن نساء أهل الجنة ذَرَّة, فكيف يتصوّر جمال وحسن وكمال صورة نساء أهل الجنة؟ وهذا فى الصورة, فما بال الخُلُق والأدب والمعاملة والمعاشرة وجمال الباطن؟
إن عيون البشر في الدنيا تطيق رؤية جمال ما خُلق من طين, أما فى الجنة فإن الله يجعل العيون ترى ما فوق يخطر ببال أو يدور في الخيال , فلا يحجب الرؤية شيء هناك, فيرى ملكه كله في آن واحد, فيرى ما بَعُد كما يرى ما قَرُب, ويرى مُخَّ ساق المرأة من وراء كل ما تلبس من الحسن, فما من جمال أو نعيم له في الجنة إلا وهو يتمتع به في كل صوت, وكل صوت لذيذ, ويشم كل شيء, وكل شيء ريحه طيب, بلا اختلاط أو تزاحم خِلْقة لا تدرك الملل, في شغل فاكهون.
(الحور العين يطلبن أزواجهن أكثر مما يطلبهن أزواجهن:
(حديث مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لاَ تُؤْذِي امْرَأةٌ زَوْجَهَا فِي الدّنْيَا. إِلاّ قَالَتْ زَوْجَتُهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ: لاَ تُؤْذِيهِ، قَاتَلَكِ الله، فَإِنّمَا هُوَ عِنْدَك دَخِيلٌ يُوشِكَ أَنْ يُفَارِقَكِ إِلَيْنَا».
(هل في الجنة حمل و ولادة:
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة) أي حدوثه له
(كان حمله ووضعه وسنه في ساعة واحدة) ويكون ذلك كله.
(كما يشتهي) من جهة القدر والشكل والهيئة وغيرها والمراد أن ذلك يكون إن اشتهى كونه لكنه لا يشتهي ذلك فلا يولد له فلا تعارض بينه وبين خبر العقيلي بسند صحيح إن الجنة لا يكون فيها ولد.
(مُلكُ الجنة و أن أهلها كلهم ملوك فيها:(2/460)
قال تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) [الإنسان: 20]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
وقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ} أي: وإذا رأيت يا محمد، {ثَمَّ} أي: هناك، يعني في الجنة ونعيمها وسَعَتها وارتفاعها وما فيها من الحَبْرَة والسرور،
{رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} أي: مملكةً لله هُناك عظيمةً وسلطانًا باهرًا.
وثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول لآخر أهل النار خروجا منها، وآخر أهل الجنة دخولا إليها: إن لك مثلَ الدنيا وعشرة أمثالها. انتهى.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها، وآخر أهل الجنة دخولاً، رجل يخرج من النار حبواً، فيقول الله: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها، فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا ربي وجدتها ملأى، فيقول: اذهب فادخل الجنة، فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها، أو: إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا، فيقول: أتسخر مني، أو: تضحك مني وأنت الملك). فلقد رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضحك حتى بدت نواجذه، وكان يقال: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة.
(ارتفاع العبادات في الجنة إلا عبادة الذكر فإنها دائمة:
(حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يأَكُلُ أَهْلُ الْجَنّةِ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ. وَلاَ يَتَغَوّطُونَ وَلاَ يَمْتَخِطُونَ وَلاَ يَبُولُونَ. وَلَكِنْ طَعَامُهُمْ ذَاكَ جُشَاءٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ. يُلْهَمُونَ التّسْبِيحَ والتكبير كَمَا يُلْهَمُونَ النّفَسَ".
(تزاور أهل الجنة ومراكبهم:
(أولاً تزاور أهل الجنة:(2/461)
إن أهل الجنة يتزاورون فيما بينهم, ويتذاكرون ما كان بينهم في الدنيا ويتحدثون, ويسأل بعضهم بعضاً عن أحوال ٍكانت لهم في الدنيا, حتى تصل بهم المحادثة والمذاكرة إلى أن قال قائلٌ منهم: إني كان لي قرين في الدنيا ينكر البعث والدار الآخرة, ثم يقول لإخوانه في الجنة: هل أنتم مطلعون في النار لننظر إلى منزلته وما صار إليه؟ فيطّلع فإذا بقرينه في وسط الجحيم قال تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) [الصافات/50، 61]
وَيَأْخُذُ أَهْلُ الجِنَّةِ، وَهُمْ فِي جلْسَتِهِمْ تِلْكَ، فِي تَجَاذُبِ أَطْرَافِ الحَدِيثِ، وَيَتَنَاوَلُونَ فِي أَحَادِيِثِهِمْ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا.
قَالَ قَائِلٌ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ الذِينَ يَتَحَادَثُونَ: إِنَّهُ كَانَ لِي صَاحِبٌ (قَرِينٌ) مُشْرِكٌ فِي الدُّنْيَا يَلُومُ المُؤْمِنِينَ عَلَى إِيْمَانِهِمْ بِالحَشْرِ والحِسَابِ، وَيَسْخَرُ مِنْهُمْ.
وَيَقُولُ لِصَدِيقِه المُؤْمِنِ: هَلْ أَنْتَ مُصَدِّقٌ بِالبَعْثِ والنُّشُورِ والجَزَاءِ؟
وَيَقُولُ مُتَعَجِّباً: هَلْ إِذَا أَصْبَحْنَا تُراباً وَعِظَاماً نِخْرَةً، سَنُبَعَثُ لِنُحَاسَبَ عَلَى أَعْمَالِنَا وَنُجْزَى بِهَا؟ إِنَّ ذَلِكَ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أبداً.
وَيَقُولُ المُؤْمِنُ لأَصْحَابِهِ الجَالِسِينَ مَعَهُ فِي رِحَابِ الجَنَّةِ: هَلْ تَوَدُّونَ أَنْ تَطَّلِعُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي الجَحِيمِ، لَتَرَوْا عَاقِبَةَ أَمْرِ هَذَا القَرِينِ الكَافِرِ؟
فَاطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ النَّارِ، فَرَأى قَرِينَهُ وَسَطَ الجَحِيمِ، يَتَلَظَّى بِلَهِيبِها.(2/462)
فَقَالَ المُؤْمِنُ لِقَرينِهِ المُشْرِكِ مُوَبِّخاً وَمُقَرِّعاً: لَقَدْ كِدْتَ أَنْ تهْلِكَنِي لَوْ أَنَّني أَطَعْتُكَ فِي كُفْرِكَ وِعِصْيَانِكَ.
وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيَّ، لَكُنْتُ مِثْلَكَ مُحْضَراً فِي العَذَابِ فِي سَوَاءِ الجَحِيمِ، وَلَكِنَّ رَحْمَتَهُ تَعَالَى أَنْقَذَتْني مِنْ سُوءِ العَاقِبَةِ، إِذْ هَدَانِي اللهُ إِلَى الإِيْمَانِ.
ثُمَّ التَفَتَ المُؤْمِنُ إِلى جُلَسَائِهِ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ فَقَالَ لَهُمْ عَلَى مَسْمَعٍ مِنَ الكَافِرِ، لِيَزِيدَ فِي ألَمِهِ وَحَسْرَتِهِ وَعَذَابِهِ: هَلْ نَحْنُ مُخَلَّدُونَ فِي الجَنَّةِ، مُنعَّمُونَ فِيهَا، لاَ نَمُوتُ، وَلاَ تَزُولُ نِعَمُهَا عَنَّا؟
وَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُوْلَى، وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ؟ فَقِيلَ لَهُ: لاَ.
فَقَالَ المُؤْمِنُ لأَصْحَابِهِ وَجُلَسَائِهِ: إِنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيم، مَعَ مَا يَتَمَتَعُّونَ بِهِ مِنَ المَآكِلِ والمَشَارِب والملَذَّاتِ، هُوَ الفَوْزُ العَظيمُ، وَالنَّجَاةُ مِمَّا كُنَّا نَحْذَرُهُ مِنْ عِقَابِ اللهِ تَعَالَى.
عَنِ الْحَارِثِ بن مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ،،أَنَّهُ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ لَهُ: " كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثُ؟ " قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا، فَقَالَ: " انْظُرْ مَا تَقُولُ؟ فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟ " فَقَالَ: قَدْ عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، وَأَسْهَرْتُ لِذَلِكَ لِيَلِي، وَاطْمَأَنَّ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضَاغَوْنَ فِيهَا، فَقَالَ: " يَا حَارِثُ عَرَفْتَ فَالْزَمْ " , ثَلاثًا. (1)
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 3 / ص 430) (3289) صحيح لغيره(2/463)
عَنْ زُبَيْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَيْفَ أَصْبَحْت يَا حَارِثَ بْنَ مَالِكٍ، قَالَ: أَصْبَحْت مُؤْمِنًا حَقًّا، قَالَ: إنَّ لِكُلِّ قَوْلٍ حَقِيقَةً فَمَا حَقِيقَةُ ذَلِكَ، قَالَ: أَصْبَحْت عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا فَأَسْهَرْت لَيْلِي وَأَظْمَأْت نَهَارِي وَلكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي قَدْ أُبْرِزَ لِلْحِسَابِ، وَلكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِي الْجَنَّةِ، وَلكَأَنِّي أَسْمَعُ عُوَاءَ أَهْلِ النَّارِ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ: عَبْدٌ نَوَّرَ الإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ، إذْ عَرَفْت فَالْزَمْ. (1)
(ثانياً مراكب أهل الجنة:
(حديث عبد الرحمن بن ساعدة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) قال: كنت أحب الخيل فقلت يا رسول الله هل في الجنة خيل فقال إن أدخلك الله الجنة يا عبد الرحمن كان لك فيها فرس من ياقوت له جناحان تطير بك حيث شئت.
(رؤية أهل الجنة لله تعالى بأبصارهم جهرة:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح:
هذا الباب اشرف أبواب الكتاب وأجلها قدرا وأعلاها خطرا وأقَرَهَا عينا لأهل السنة والجماعة و أشدها على أهل البدعة و الضلالة وهي الغاية التي شمر إليها المشمرون و تنافس فيها المتنافسون وتسابق إليها المتسابقون ولمثلها فليعمل العاملون إذا ناله أهل الجنة نسوا ما هم فيه من النعيم وحرمانه و الحجاب عنه لأهل الجحيم أشد عليهم من عذاب الجحيم اتفق عليها الأنبياء والمرسلون وجميع الصحابة و التابعون و أئمة الإسلام على تتابع القرون و أنكرها أهل البدع المارقون والجهمية المتهوكون والفرعونية المعطلون والباطنية الذين هم من جميع الأديان منسلخون والرافضة الذين هم بحبائل الشيطان متمسكون ومن حبل الله منقطعون و على مسبة أصحاب رسول الله عاكفون و للسنة وأهلها محاربون ولكل عدو لله ورسوله ودينه مسالمون وكل هؤلاء عن ربهم محجوبون وعن بابه مطرودون أولئك أحزاب الضلال وشيعة اللعين وأعداء الرسول و حزبه.
(أولاً أدلة رؤية أهل الجنة لله تعالى من القرآن الكريم:
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 11 / ص 43) (31064) صحيح لغيره(2/464)
وقد اخبر الله سبحانه و تعالى عن أعلم الخلق به في زمانه وهو كليمه ونجيه و صفيه من أهل الأرض أنه سأل ربه تعالى النظر إليه فقال له ربه تبارك و تعالى: (لَن تَرَانِي وَلََكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمّا تَجَلّىَ رَبّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً) [الأعراف: 143]
وبيان الدلالة من هذه الآية من وجوه عديدة:
أحدها: أنه لا يظن بكليم الرحمن و رسوله الكريم عليه أن يسأل ربه ما لا يجوز عليه بل ما هو من أبطل الباطل وأعظم المحال وهو عند فروخ اليونان و الصابئة و الفرعونية بمنزلة أن يسأله أن يأكل و يشرب و ينام و نحو ذلك مما يتعالى الله عنه فيا لله العجب كيف صار أتباع الصابئة و المجوس و المشركين عباد الأصنام و فروخ الجهمية و الفرعونية أعلم بالله تعالى من موسى بن عمران و بما يستحيل عليه و يجب له و أشد تنزيها له منه.
الوجه الثاني: أن الله سبحانه و تعالى لم ينكر عليه سؤاله و لو كان محالا لأنكره عليه و لهذا لما سأل إبراهيم الخليل ربه تبارك و تعالى أن يريه كيف يحيي الموتى لم ينكر عليه و لما سأل عيسى بن مريم ربه إنزال المائدة من السماء لم ينكر عليه سؤاله و لما سأل نوح ربه نجاة ابنه أنكر عليه سؤاله و قال إني أعظك أن تكون من الجاهلين قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين.
الوجه الثالث: أنه أجابه بقوله لن تراني و لم يقل لا تراني و لا إني لست بمرئي و لا تجوز رؤيتي و الفرق بين الجوابين ظاهر لمن تأمله و هذا يدل على أنه سبحانه و تعالى يرى و لكن موسى لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار لضعف قوة البشر فيها عن رؤيته تعالى يوضحه.
الوجه الرابع: وهو قوله (وَلََكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي) فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت لتجليه له في هذه الدار فكيف بالبشر الضعيف الذي خلق من ضعف.
الوجه الخامس: أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يجعل الجبل مستقرا مكانه وليس هذا بممتنع في مقدوره بل هو ممكن وقد علق به الرؤية ولو كانت مجالا في ذاتها لم يعلقها بالممكن في ذاته ولو كانت الرؤيا مُحَالا لكان ذلك نظير أن يقول إن استقر الجبل فسوف آكل وأشرب وأنام فالأمران عندكم سواء.(2/465)
الوجه السادس: قوله سبحانه و تعالى (فَلَمّا تَجَلّىَ رَبّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً) و هذا من أبين الأدلة على جواز رؤيته تبارك و تعالى فإنه إذا جاز أن يتجلى للجبل الذي هو جماد لا ثواب له ولا عقاب عليه فكيف يمتنع أن يتجلى لأنبيائه و رسله و أوليائه في دار كرامتهم و يريهم نفسه فأعلم سبحانه و تعالى موسى أن الجبل إذا لم يثبت لرؤيته في هذه الدار فالبشر أضعف.
الوجه السابع: أن ربه سبحانه وتعالى قد كلمه منه إليه وخاطبه وناجاه وناداه ومن جاز عليه التكلم والتكليم وأن يسمع مخاطبه كلامه معه بغير واسطة فرؤيته أولى بالجواز ولهذا لا يتم إنكار الرؤية إلا بإنكار التكليم وقد جمعت هذه الطوائف بين إنكار الأمرين فأنكروا أن يكلم أحدا أو يراه أحد و لهذا سأله موسى عليه السلام النظر إليه وأسمعه كلامه وعلم نبي الله جواز رؤيته من وقوع خطأ به و تكليمه لم يخبره باستحالة ذلك عليه و لكن أراه أن ما سأله لا يقدر على احتماله كما لم يثبت الجبل لتجليه وأما قوله تعالى لن تراني فإنما يدل على النفي في المستقبل ولا يدل على دوام النفي و لو قيدت بالتأبيد فكيف إذا أطلقت قال تعالى: (وَلَنْ يَتَمَنّوْهُ أَبَداً) [البقرة: 95] مع قوله تعالى: (وَنَادَوْاْ يَمَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبّكَ قَالَ إِنّكُمْ مّاكِثُونَ) [الزخرف: 77]
الدليل الثاني
قوله: (وَاتّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوَاْ أَنّكُمْ مّلاَقُوهُ) [البقرة: 223]
وقوله تعالى: (تَحِيّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ) [الأحزاب: 44]
وقوله تعالى: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا) [الكهف: 110]
وقوله تعالى قال تعالى: (قَالَ الّذِينَ يَظُنّونَ أَنّهُمْ مُلاَقُواْ اللّهِ كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ) [البقرة: 249]
وأجمع أهل اللسان على أن اللقاء متى نسب إلى الحي السليم من العمى والمانع اقتضى المعاينة والرؤية.
الدليل الثالث:
قوله: (لّلّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَىَ وَزِيَادَةٌ) [يونس: 26]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
يخبر تعالى أن لمن أحسن العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح أبدله الحسنى في الدار الآخرة، كما قال تعالى: (هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ) [الرحمن: 60].(2/466)
وقوله: {وَزِيَادَة} هي تضعيف ثواب الأعمال بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وزيادة على ذلك [أيضا] ويشمل ما يعطيهم الله في الجنان من القُصُور والحُور والرضا عنهم، وما أخفاه لهم من قرة أعين، وأفضل من ذلك وأعلاه النظرُ إلى وجهه الكريم، فإنه زيادة أعظم من جميع ما أعطوه، لا يستحقونها بعملهم، بل بفضله ورحمته وقد روي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم عن أبي بكر الصديق، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس [قال البغوي وأبو موسى وعبادة بن الصامت] وسعيد بن المسيب، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الرحمن بن سابط، ومجاهد، وعكرمة، وعامر بن سعد، وعطاء، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسدي، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم من السلف والخلف. انتهى.
(فالحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجهه الكريم كذلك فسرها رسول الله الذي أنزل عليه القرآن فالصحابة من بعده، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث صهيب رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة قال يقول الله تبارك وتعالى تريدون شيئا أزيدكم فيقولون ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار قال فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل.
(حديث صهيب رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قول الله عز وجل للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال إذا دخل أهل الجنةِ الجنة نادى مناد إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه قالوا ألم يبيض وجوهنا وينجنا من النار ويدخلنا الجنة قال فيكشف الحجاب قال فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(عَنْ صُهَيْبٍ) بِالتَّصْغِيرِ: هُوَ ابْنُ سِنَانَ الرُّومِيُّ.
(إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا) أَيْ بَقِيَ شَيْءٌ زَائِدٌ مِمَّا وَعَدَهُ اللَّهُ لَكُمْ مِنَ النِّعَمِ وَالْحُسْنَى
(وَيُنَجِّينَا مِنَ النَّارِ) كَذَا فِي النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ بِالتَّحْتَانِيَّةِ.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح:(2/467)
لما عطف سبحانه الزيادة على الحسنى التي هي الجنة دل على إنها أمر آخر من وراء الجنة و قدر زائد عليها و من فسر الزيادة بالمغفرة و الرضوان فهو من لوازم رؤية الرب تبارك و تعالى.
الدليل الرابع:
قال تعالى: (كَلاّ إِنّهُمْ عَن رّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لّمَحْجُوبُونَ) [المطففين: 15]
ووجه الاستدلال بها أنه سبحانه و تعالى جعل من أعظم عقوبة الكفار كونهم محجوبين عن رؤيته واستماع كلامه فلو لم يره المؤمنون و لم يسمعوا كلامه كانوا أيضا محجوبين عنه و قد احتج بهذه الحجة الشافعي نفسه وغيره من الأئمة فذكر الطبراني وغيره من المزي قال سمعت الشافعي يقول في قوله عز و جل (كَلاّ إِنّهُمْ عَن رّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لّمَحْجُوبُونَ) فيها دليل على أن أولياء الله يرون ربهم يوم القيامة.
و قال الحاكم حدثنا الأصم انبانا الربيع بن سليمان قال حضرت محمد بن إدريس الشافعي و قد جاءته رقعة من الصعيد فيها ما تقول في قول الله عز و جل (كَلاّ إِنّهُمْ عَن رّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لّمَحْجُوبُونَ)
فقال الشافعي رحمه الله تعالى: لما أن حجب هؤلاء في السخط كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضا، قال الربيع فقلت يا أبا عبد الله وبه تقول؟ قال: نعم وبه أدين الله و لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى الله لما عبد الله عز و جل.
الدليل الخامس: قال تعالى: (لَهُم مّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) [ق: 35]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
وقوله: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} كقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]. وقد تقدم في صحيح مسلم عن صُهَيب بن سنان الرومي: أنها النظر إلى وجه الله الكريم. وقد روى البزار وابن أبي حاتم، من حديث شريك القاضي، عن عثمان بن عمير أبي اليقظان، عن أنس بن مالك في قوله عز وجل: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} قال: يظهر لهم الرب، عز وجل، في كل جمعة. انتهى.
الدليل السادس:
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح:
قال تعالى: (لاّ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام: 103](2/468)
والاستدلال بهذا أعجب فإنه من أدلة النفاة و قد قرر شيخنا وجه الاستدلال به أحسن تقرير و ألطفه وقال لي: أنا ألتزم أنه لا يحتج مبطل بآية أو حديث صحيح على باطله إلا و في ذلك الدليل ما يدل على نقيض قوله فمنها هذه الآية وهي على جواز الرؤية أدل منها على امتناعها فان الله سبحانه إنما ذكرها في سياق التمدح و معلوم أن المدح إنما يكون بالأوصاف الثبوتية و أما العدم المحض فليس بكمال و لا يمدح به و إنما يمدح الرب تبارك و تعالى بالعدم إذا تضمن أمراً وجوديا كتمدحه بنفي السِنَةِ والنوم المتضمن كمال القيومية و نفي الموت المتضمن كمال الحياة و نفي اللغوب والاعياء المتضمن كمال القدرة ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير المتضمن كمال ربوبيته والهيئة وقهره و نفي الأكل والشرب المتضمن كمال الصمدية وغناه ونفي الشفاعة عنده بدون إذنه المتضمن كمال توحيده وغناه عن خلقه ونفي الظلم المتضمن كمال عدله وعلمه وغناه ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه المتضمن كمال علمه وإحاطته ونفي المثل المتضمن لكمال ذاته وصفاته ولهذا لم يتمدح بعدم محض لا يتضمن أمراً ثبوتياً فإن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم ولا يوصف الكامل بأمرٍ يشترك هو والمعدوم فيه «فلو كان المراد بقوله لا تدركه الأبصار أنه لا يرى بحال لم يكن في ذلك مدح ولا كمال» لمشاركة المعدوم له في ذلك فان العدم الصرف لا يرى ولا تدركه الأبصار والرب جل جلاله يتعالى أن يمدح بما يشاركه فيه العدم المحض فإذا المعنى أنه يرى ولا يدرك ولا يحاط به كما كان المعنى في قوله تعالى: (وَمَا يَعْزُبُ عَن رّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرّةٍ) [يونس: 61] أنه يعلم كل شيء وفي قوله تعالى: (وَمَا مَسّنَا مِن لّغُوبٍ) [ق: 38] أنه كامل القدرة وفي قوله تعالى: (وَلاَ يَظْلِمُ رَبّكَ أَحَداً) [الكهف: 49] أنه كامل العدل وفي قوله قال تعالى: (لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لّهُ) [البقرة: 255] أنه كامل القيومية فقوله لا تدركه الأبصار يدل على غاية عظمته و أنه أكبر من كل شيء وأنه لعظمته لا يدرك بحيث يحاط به فان الإدراك هو الإحاطة بالشيء و هو قدر زائد على الرؤية كما قال تعالى: (فَلَمّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىَ إِنّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاّ إِنّ مَعِيَ رَبّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء 61،62] فإنه لم ينف عن موسى الرؤية و لم يريدوا بقولهم إنا لمدركون أنا لمرئيون فان موسى صلوات الله و(2/469)
سلامه عليه نفى إدراكهم إياهم بقوله كلا وأخبر الله سبحانه و تعالى أنه لا يخاف دركهم بقوله: (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَىَ مُوسَىَ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لاّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَىَ) [طه: 77] فالرؤية و الإدراك كل منهما يوجد مع الآخر و بدونه فالرب تعالى يرى و لا يدرك كما يعلم و لا يحاط به و هذا هو الذي فهمه الصحابة و الأئمة من الآية قال بن عباس لا تدركه الأبصار لا تحيط به الأبصار قال قتادة هو أعظم من أن تدركه الأبصار وقال عطية ينظرون إلى الله ولا تحيط أبصارهم به من عظمته وبصره يحيط بهم فذلك قوله تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار فالمؤمنون يرون ربهم تبارك وتعالى بأبصارهم عيانا ولا تدركه أبصارهم بمعنى أنها لا تحيط به إذ كان غير جائز أن يوصف الله عز وجل بأن شيئا يحيط به وهو بكل شيءٍ محيط وهكذا يسمع كلام من يشاء من خلقه ولا يحيطون بكلامه وهكذا يعلم الخلق ما علمهم ولا يحيطون بعلمه ونظير هذا استدلالهم على نفى الصفات بقوله تعالى ليس كمثله شيء وهذا من أعظم الأدلة على كثرة صفات كماله ونعوت جلاله و إنها لكثرتها وعظمتها وسعتها لم يكن له مثل فيها وإلا فلو أريد بها نفي الصفات لكان العدم المحض أولى بهذا المدح منه مع أن جميع العقلاء إنما يفهمون من قول القائل فلان لا مثل له وليس له نظير ولا شبيه ولا مثل أنه قد تميز عن الناس بأوصاف ونعوت لا يشاركونه فيها وكلما كثرت أوصافه ونعوته فات أمثاله وبعد عن مشابهة اضرابه فقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: 11] من أدل شيء على كثرة نعوته وصفاته وقوله تعالى: (لاّ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ) [الأنعام: 103] من أدل شيء على أنه يرى ولا يدرك وقوله تعالى: (هُوَ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد: 4] من أدل شيء على مباينة الرب لخلقه فإنه لم يخلقهم في ذاته بل خلقهم خارج عن ذاته ثم بان عنهم باستوائه على عرشه وهو يعلم ما هم عليه فيراهم وينفذهم بصره ويحيط بهم علما وقدرة وإرادة وسمعا وبصرا فهذا معنى كونه سبحانه معهم أينما كانوا و تأمل حسن هذه المقابلة لفظا(2/470)
ومعنى وبين قوله «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار» فانه سبحانه لعظمته يتعالى أن تدركه الأبصار وتحيط به وللطفه وخبرته يدرك الأبصار فلا تخفي عليه فهو العظيم في لطفه اللطيف في عظمته العالي في قربه القريب في علوه الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير.
الدليل السابع:
قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نّاضِرَةٌ * إِلَىَ رَبّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة 22: 23]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} من النضارة، أي حسنة بَهِيَّة مشرقة مسرورة، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أي: تراه عيانا، كما رواه البخاري، رحمه الله، في صحيحه: "إنكم سترون ربكم عَيَانا". وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح، من طرق متواترة عند أئمة الحديث، لا يمكن دفعها ولا منعها، ثم ذكر رحمه الله تعالى الأحاديث الآتية:
(حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنكم سترون ربكم عياناً.
(حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: كنا جلوسا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها يعني العصر والفجر ثم قرأ جرير (وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) [طه: 130]
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن الناس قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هل تضارُّون في القمر ليلة البدر). قالوا: لا يا رسول الله، قال: (فهل تضارُّون في الشمس ليس دونها سحاب). قالوا: لا يا رسول الله، قال: فإنكم ترونه كذلك.
(حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: جَنَّتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فِضَّة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى الله إلا رِدَاء الكبرياء على وجهه في جنة عدن. انتهى.
(ثانياً أدلة رؤية أهل الجنة لله تعالى من السنة الصحيحة:
(حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنكم سترون ربكم عياناً.(2/471)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن الناس قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هل تضارُّون في القمر ليلة البدر). قالوا: لا يا رسول الله، قال: (فهل تضارُّون في الشمس ليس دونها سحاب). قالوا: لا يا رسول الله، قال: فإنكم ترونه كذلك.
(حديث أبي موسى رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: جَنَّتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فِضَّة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى الله إلا رِدَاء الكبرياء على وجهه في جنة عدن.
(حديث صهيب رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة قال يقول الله تبارك وتعالى تريدون شيئا أزيدكم فيقولون ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار قال فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل.
(حديث صهيب رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قول الله عز وجل للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال إذا دخل أهل الجنةِ الجنة نادى مناد إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه قالوا ألم يبيض وجوهنا وينجنا من النار ويدخلنا الجنة قال فيكشف الحجاب قال فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(عَنْ صُهَيْبٍ) بِالتَّصْغِيرِ: هُوَ ابْنُ سِنَانَ الرُّومِيُّ.
(إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا) أَيْ بَقِيَ شَيْءٌ زَائِدٌ مِمَّا وَعَدَهُ اللَّهُ لَكُمْ مِنَ النِّعَمِ وَالْحُسْنَى
(وَيُنَجِّينَا مِنَ النَّارِ) كَذَا فِي النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ بِالتَّحْتَانِيَّةِ.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح:
لما عطف سبحانه الزيادة على الحسنى التي هي الجنة دل على إنها أمر آخر من وراء الجنة و قدر زائد عليها و من فسر الزيادة بالمغفرة و الرضوان فهو من لوازم رؤية الرب تبارك و تعالى.(2/472)
(حديث عمار ابن ياسر في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو بهذا الدعاء اللهم بعلمك الغيب و قدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي و توفني إذا علمت الوفاة خيرا لي، اللهم و أسألك خشيتك في الغيب و الشهادة و أسألك كلمة الحق في الرضا و الغضب و أسألك القصد في الفقر و الغنى و أسألك نعيما لا ينفد و قرة عين لا تنقطع و أسألك الرضا بالقضاء و أسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك و الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة و لا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين.
الشاهد: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وأسألك لذة النظر إلى وجهك» والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعلم الناس بما يجيزه الشرع واحرص الناس على الخير، فهو لا يدعو إلا بما هو جائز وحاصلٌ لا محالة.
(تكليم الله تعالى لأهل الجنة:
قال تعالى: (إِنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلََئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الاَخِرَةِ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [آل عمران: 77]
قال تعالى: (إِنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولََئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاّ النّارَ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [البقرة: 174]
فلو كان لا يكلم عباده المؤمنين لكانوا في ذلك هم وأعداؤه سواء و لم يكن في تخصيص أعدائه بأنه لا يكلمهم فائدة أصلا إذ تكليمه لعباده عند الفرعونية و المعطلة مثل أن يقال يؤاكلهم و يشاربهم و نحو ذلك تعالى الله عما يقولون.
وقد أخبر الله سبحانه أنه يُسَلِّم على أهل الجنة وأن ذلك السلام حقيقة، قال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب: 44]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
وقوله: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} الظاهر أن المراد ـ والله أعلم ـ {تَحِيَّتُهُمْ} أي: من الله تعالى يوم يلقونه {سَلامٌ} أي: يوم يسلم عليهم كما قال تعالى: {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58].(2/473)
(حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدَّم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشِقِّ تمرة).
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح:
وبالجملة فتأمل أحاديث الرؤية تجد في أكثرها ذكر التكليم قال البخاري في صحيحه باب كلام الرب تبارك و تعالى مع أهل الجنة وساق فيه عدة أحاديث فأفضل نعيم أهل الجنة رؤية وجهه تبارك وتعالى تكليمه لهم فإنكار ذلك إنكار لروح الجنة و أعلى نعيمها و أفضله الذي ما طابت لأهلها إلا به و الله المستعان.
(أبدية الجنة وأنها لا تفنى ولا تبيد:
هذا مما يعلم بالاضطرار أن الرسول أخبر به
قال تعالى: (وَأَمّا الّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلاّ مَا شَآءَ رَبّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود: 108]
عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ: أي مقطوع.
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
يقول تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} وهم أتباع الرسل، {فَفِي الْجَنَّةِ} أي: فمأواهم الجنة، {خَالِدِينَ فِيهَا} أي: ماكثين مقيمين فيها أبدا، {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ} معنى الاستثناء هاهنا: أن دوامهم فيما هم فيه من النعيم، ليس أمرا واجبا بذاته، بل هو موكول إلى مشيئة الله تعالى، فله المنة عليهم [دائمًا]، ولهذا يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النَّفس.
وقال الضحاك، والحسن البصري: هي في حق عصاة الموحدين الذين كانوا في النار، ثم أخرجوا منها.
وعقب ذلك بقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أي: غير مقطوع قاله ابن عباس، ومجاهد، وأبو العالية وغير واحد، «لئلا يتوهم متوهم بعد ذكره المشيئة أن ثم انقطاعًا، أو لبسا، أو شيئًا بل ختم له بالدوام وعدم الانقطاع». كما بين هنا أن عذاب أهل النار في النار دائما مردود إلى مشيئته، وأنه بعَدْله وحكمته عذبهم؛ ولهذا قال: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107] كَمَا قَالَ {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، وهنا طيب القلوب وثَبَّت المقصود بقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}.(2/474)
يا أهل الجنة، خُلُود فلا موت، ويا أهل النار، خلود فلا موت. انتهى.
وقد أكد الله سبحانه و تعالى خلود أهل الجنة بالتأبيد في عدة مواضع من القرآن، قال تعالى
قال تعالى: (مّثَلُ الْجَنّةِ الّتِي وُعِدَ الْمُتّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلّهَا)
[الرعد: 35]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
وقوله: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} أي: فيها المطاعم والفواكه والمشارب، لا انقطاع لها ولا فناء.
وفي الصحيحين، من حديث ابن عباس في صلاة الكسوف، وفيه قالوا: يا رسول الله، رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا، ثم رأيناك تَكعْكعت فقال: "إني رأيت الجنة -أو: أريت الجنة -فتناولت منها عنقودا، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا".انتهى.
وأخبر سبحانه أنهما لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى قال تعالى: (لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاّ الْمَوْتَةَ الاُولَىَ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) [الدخان: 56]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
وقوله: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى} هذا استثناء يؤكد النفي، فإنه استثناء منقطع ومعناه: أنهم لا يذوقون فيها الموت أبدًا، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يؤتى بالموت في صورة كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار ثم يذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت" انتهى.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي سعيد في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يؤتى بالموت كهيئة كبشٍ أملح فينادي منادٍ: يا أهل الجنة! فيشرئبون وينظرون فيقول هل تعرفون هذا؟ فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه، ثم ينادي: يا أهل النار! فيشرئبون وينظرون فيقول هل تعرفون هذا؟ فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه، فيذبح ثم يقول: يا أهل الجنة خلودٌ فلا موت ويا أهل النار خلودٌ فلا موت ثم قرأ قوله تعالى: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) [سورة: مريم - الآية: 39].(2/475)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ينادي مناد إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا فذلك قوله عز وجل: (وَتِلْكَ الْجَنّةُ الّتِيَ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزخرف: 72]
(الجنة تتكلم:
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: تحاجت النار و الجنة فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين و المتجبرين و قالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس و سقطهم؟ فقال الله عز و جل للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي و قال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي و لكل منكما ملؤها فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله قدمه عليها فتقول: قطٍ قط فهنالك تمتلئ و ينزوي بعضها إلى بعض فلا يظلم الله من خلقه أحدا و أما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا.
(صفات من يستحقُّ الجنة في القرآن والسنة:
(1) الذين آمنوا وعملوا الصالحات:
قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 25](2/476)
ويُبَشِّرُ اللهُ تَعَالى الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ، أَنَّ لَهُمْ عِنْدَهُ في الآخِرَةِ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ في جَنَبَاتِهَا، وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرةٌ مِنَ الدَّنَسِ وَالأَذى وَالآثامِ ومسَاوِئِ الأَخْلاَقِ، كَالََكَيْدِ والمَكْرِ والخَدِيعَةِ. . وَتَأْتِيهِمُ الثِّمَارُ في الجَنَّةِ فَيَظُنُّونَ أَنَّهَا مِنَ الثِّمَارِ التِي عَرَفُوهَا في الدُّنيا (أَوْ أَنَّهَا مِنَ الثِّمَارِ التِي أَتَتْهُمْ قَبْلَ ذلِكَ فِي الجَنَّةِ، وَتَخْتَلفُ عَنْهَا طَعْماً مَعَ أَنَّهَا تُشْبِهُهَا فِي شَكْلِها وَمَنْظَرِهَا). وَكُلَّمَا رُزِقُوا مِنْها ثَمَرَةً قَالُوا: هذا مَا وُعِدْنا بِهِ في الدُّنيا جَزَاءً عَلَى الإِيمَان وَالعَمَلِ الصَّالِحِ. والذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً صَادِقاً، وَعَملُوا عَمَلاً صَالِحاً يَبْقَوْوَ في الجَنَّةِ خَالِدينَ أبداً، لاَ يَمُوتُونَ فِيها وَلا يَحُولُونَ عَنْها.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 82]
أَمَّا الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَبِاليَومِ الآخِرِ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ، فَأَدَّوُا الوَاجِبَاتِ، وانتَهَوا عَنِ المَعَاصِي فَهؤُلاءِ هُمْ أَصْحَابُ الجَنَّةِ يَخْلُدُونَ فِيها أَبَداً. «فَدُخُولُ الجَنَّةِ مَنُوطٌ بِالإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَالعَمَلِ الصَّالِحِ مَعاً».
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 277]
يَمْدَحُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنيِنَ المُصَدِّقِينَ بِمَا جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ، المُقِيمِينَ الصَّلاَةَ، وَعَامِلِي الصَّالِحَاتِ وَالمُزَكِّينَ، وَيُخْبرُ عَنْهُمْ أنَّهُ يَحْفَظُ لَهُمْ أَجْرَهُمْ، وَأَنَّهُمْ لاَ خَوْفَ عَلَيهِمْ، وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا فَاتَهُمْ فِي الدُّنيا.
وقال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [عمران: 57](2/477)
وَأمَّا المُهْتَدُونَ الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ فَيُثِيبُهُمْ ثَوَاباً وَافِياً عَلَى أَعْمَالِهِمْ، فِي الدُّنيا بِالنَّصْرِ والظَّفَرِ، وَفِي الآخِرَةِ بِالخُلُودِ فِي جَنَّتِهِ، وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ المُتَجَاوِزِينَ لِحُدُودِهِ، وَلاَ يَرْفَعُ لَهُمْ قَدْراً.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} [النساء: 57]
وَالذِينَ صَدَّقُوا بِمَا جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ، فَإنَّ اللهَ سَيُثِيبُهُمْ عَلَى إيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحُ، بِإدْخَالِهِمُ الجَنَّةَ التِي تَجْرِي فِي أَرْضِهَا الأَنْهَارُ، وَيَبْقُونَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً، لاَ يَحُولُونَ عَنْهَا وَلاَ يَزُولُونَ، وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ، مِنَ الحَيْضِ وَالدَّنَسِ وَالأَذَى، وَالأَخْلاَقِ الرَذِيلَةِ، وَالصِّفَاتِ النَّاقِصَة، وَيُدخِلُهُمْ فِي ظِلٍّ وَارِفٍ كَثِيفٍ لاَ حَرَّ فِيهِ وَلاَ قَرَّ.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً} [النساء: 122]
بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى حَالِ أَتْبَاعِ الشَّيْطَانِ، ثَنَى بَبَيَانِ حَالِ المُؤْمِنِينَ السُّعَدَاءِ، الذِينَ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لِدَعْوَةِ الشَّيْطَانِ، وَلاَ يَمْتَثِلُونَ لأَمْرِهِ، وَمَا لَهُمْ مِنَ الكَرَامَةِ التَّامَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَقَالَ تَعَالَى: إنَّ الذِينَ آمَنُوا وَصَدَّقَتْ قُلُوبُهُمْ، وَعَمِلَتْ جَوَارِحُهُمْ بِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الخَيْرَاتِ، وَتَرَكُوا مَا نُهُوا عَنْهُ مِنَ المُنْكَرَاتِ، سَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي فِيها الأَنْهَارُ، وَيَكُونُونَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً، وَهُوَ وَعْدٌ حَقٌّ مِنَ اللهِ، وَاللهُ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ مَا وَعَدَ بِفَضْلِهِ وَجُودِهِ، وَلَيْسَ أحَدٌ أصْدَقَ قَوْلاً مِنَ اللهِ.(2/478)
وقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} [النساء: 173]
أمَّا الذِينَ آمَنُوا، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ، فَيَجْزِيهِمْ رَبُّهُمْ ثَوَابَ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ. وَأمَّا الذِينَ اسْتَكْبَرُوا عَنْ طَاعَةِ اللهِ، وَامْتَنَعُوا عَنْ عِبَادَتِهِ، فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً، فَهُوَ تَعَالَى يُجَازِي المُحْسِنَ عَلَى إِحْسَانِهِ بِالعَدْلِ وَالفَضْلِ، وَيُجازِي المُسِيءَ عَلَى إِسَاءَتِهِ بِالعَدْلِ. وَلَنْ يَجِدُوا لَهُمْ وَليّاً يَلِي أُمُورَهُمْ وَيُدَبِّرُها، وَلاَ نَاصِراً يَنْصُرُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ وَبَأسِهِ.
وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [يونس9، 10]
أَمَّا الذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَاتَّقَوْهُ، وَتَبَصَّرُوا بِمَا خَلَقَ اللهُ فِي الكَوْنِ، فَزَادَهُمْ ذَلِكَ إِيمَاناً وَيَقِيناً، وَعَمِلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ مِنْ صَالِحَاتِ الأَعْمَالِ، فَإِنَّ إِيمَانَهُمْ وَأَعْمَالَهُمُ الصَّالِحَاتِ سَتَكُونُ لَهُمْ نُوراً يَهْدِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَى طَرِيقِ الجَنَّةِ التِي وَعَدَهُمْ بِهَا رَبُّهُمْ، وَهِيَ جَنَّةُ رِفهٍ وَنَعِيمٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا.(2/479)
يَبْدَؤُونَ كُلَّ دُعَاءٍ وَثَنَاءٍ عَلَى اللهِ بِكَلِمَةِ (سُبْحَانَكَ الَّلهُمَّ) أَيْ تَقْدِيساً وَتَنْزِيهاً لَكَ يَا رَبِّ. وَيُجِيبُهُمْ رَبُّهُمْ بِكَلِمَةِ (سَلامٌ) وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى السَّلاَمَةِ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ، وَتُحَيِّيهِمُ المَلاَئِكَةُ بِقَوْلِهِمْ (سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)، وَيُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضاً بِكَلِمَةِ سَلاَمٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً} وَفِي آخِرِ كُلِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، مِنْ دُعَاءٍ يُنَاجُونَ بِهِ رَبَّهُمْ، أَوْ مَطْلَبٍ يَطْلُبُونَهُ مِنْ إِحْسَانِهِ وَكَرَمِهِ يَقُولُونَ: (الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ)
(2) المنفقون في سبيل الله:
قال تعالى: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [البقرة:265]
أمّا المُؤْمِنُونَ الذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُم طَلَباً لِمَرْضَاةِ اللهِ عَنْهُمْ، وَهُمْ مُتَحَقِّقُونَ مِنْ أَنَّ الله سَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ بُسْتَانٍ (جَنَّةٍ) بِرَبْوَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَنِ الأَرْضِ، فَأَصَابَهَا مَطَرٌ شَدِيدٌ (وَابِلٌ)، فَأَثْمَرَتْ ضِعْفَيْنِ مِمَّا أَثْمَرَتْهُ غَيْرُها مِنَ الجِنَانِ (أَوْ ضِعْفَينِ مِمَّا كَانَتَ تُثْمِرُهُ قَبْلاً) فَإنْ لَمْ يُصِبْهَا المَطَرُ الشَّدِيدُ، أصَابَهَا مَطَرٌ خَفِيفٌ يَكْفِيها لِجَوْدَةِ تُرْبَتِها، وَحُسْنِ مَوْقِعِها، فَهِي لاَ تُمْحِلُ أَبَداً. وَكَذَلِكَ عَمَلُ المُؤْمِنِ لا يَبُورُ أبداً، بَلْ يَتَقَبَّلُهُ اللهُ وَيُكَثِّرَهُ وَيُنَمِّيهِ.
(وَقَدْ يَكُونُ المَعْنَى هُوَ: وَكَذَلِكَ الإِنْسَانُ الجَوَادُ البَرُّ إنْ أصَابَهُ خَيْرٌ كَثيرٌ أَغْدَقَ وَوَسَّعَ فِي الإِنْفَاقِ، وَإنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ قَليلٌ أَنْفَقَ بِقَدَرِهِ، فَخَيْرُهُ دَائِمٌ، وَبِرُّهُ لاَ يَنْقَطِعُ).
وَاللهُ لا يَخْفَى عَلَيهِ شَيْءٌ مِنْ أعْمَالِ العِبَادِ.
(3) المتقون:(2/480)
قال تعالى: (قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا * لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا) [الفرقان/15، 16]
قُلْ يَا مُحَمَّد لِهَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينْ: أَهَذَا الَّذِي وَصَفْنَاهُ لَكَ مِنْ حَالِ الأَشْقِيَاءِ، الّذِينَ يُحْشَرونَ عَلَى وُجُوهِهِم إلى جَهَنَّمَ، فَتَتَلَقَّاهُمْ بِوجِهٍ عَبُوسٍ وَتَغَيُّظٍ وَزَفِير، وَيُلْقُونَ في أَمَاكِنَ ضَيِّقَةٍ مِنْها مُقْرَّنِين، لا يَسْتِطِيعُونَ حَرَاكاً وَلاَ اسْتنصَاراً مِمَّا هُم فِيهِ. . . أَذِلِكَ خَيرٌ أمْ جنَّة الخُلدِ الَّّتِي وَعَدَ اللهُ بِها عِبَادَه المُتَّقِين، وَأَعَدَّها لَهُم لِتَِكُونَ لَهُم جَزاءً وَمصِيراً عَلى مَا أَطَاعُوا رَبَّهم فِي الدُّنيا؟
وَلَهُم فِي الجَنَّةِ مَا يَشْتَهُونَ مِنَ المآكِلِ، وَالْمَشَارِبِ، وَالمَلاَبِسِ، وَالمَسَاكِنِ، وَالمَنَاظِرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ عَيْنٌ رَأتْ وَلاَ أُذنٌ سَمِعَتْ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ خَالِدُونَ أَبَداً سَرمَداً، وَلاَ يَبْغُونَ عَمَّا هُمْ فِيهِ تَحَوُّلاً وَلاَ زَوَالاً، وَهَذَا كُلُّه مِن فَضْلِ الله، تَفَضَّل بِهِ عَلَيْهِمِ، وَأَحْسَن بِهِ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ وَعْدٌ مِنْ اللهِ وَاجِبٌ الوُقُوعِ، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَقَعَ.
وقال تعالى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ) [الرعد:35]
صِفَةُ الجَنَّةِ التِي وَعَدَ اللهُ بِهَا المُتَّقِينَ، وَنَعَتَهَا، أَنَّهَا تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي أَرْجَائِهَا وَجَوَانِبِهَا، وَحَيْثُ شَاءَ أَهْلُهَا يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِّيراً، فِيهَا الفَوَاكِهُ وَالمَطَاعِمُ وَالمَشَارِبُ، لاَ انْقِطَاعَ لَهَا وَلاَ فَنَاءَ (أُكُلُها دَائِمٌ)، وَظِلُّهَا دَائِمٌ لاَ يَنْكَمِشُ وَلاَ يَزُولُ. وَهَذِهِ الجَنَّةُ التَي تَقَدَّمَتْ صِفَتُهَا، هِيَ جَزَاءُ المُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ (عُقْبَى الذِينَ اتَّقَوا)، أَمَّا الكَافِرُونَ فَعُقْبَاهُمْ وَمَصِيرُهُمُ النَّارُ. وَلاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ الجَنَّةِ وَأَصْحَابُ النَّارِ.(2/481)
وقال تعالى: (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) [النحل/30: 32]
وَيُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنِ المُؤْمِنِينَ السُّعَدَاءِ، فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ عَلَى رَسُولِهِ؟ قَالُوا: أَنْزَلَ القُرْآنَ، فِيهِ خَيْرٌ وَرَحْمَةٌ، وَبَرَكَةٌ لِمَنِ اتَّبَعَهُ، وَآمَنَ بِهِ.
ثُمَّ يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَمَّا وَعَدَ بِهِ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ فَيمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ، فَقَالَ: مَنْ أَحْسَنَ عَمَلَهُ فِي الدُّنْيَا، فَآمَنَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَأَمَرَ بِالمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنِ المُنْكَرِ. . أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْهِ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ. وَإِنَّ دَارَ الآخِرَةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنيا الفَانِيَةِ، وَالجَزَاءُ فِيهَا أَتَمُّ مِنَ الجَزَاءِ فِي الدُّنْيَا، وَنَعِمَتْ دَارُ الآخِرَةِ دَاراً لِلمُتَّقِينَ.
وَالدَّارُ التِي وَعَدَ اللهُ بِهَا المُتَّقِينَ مِنْ عِبَادِهِ فِي الآخِرَةِ هِيَ جَنَّاتُ مُقَامٍ (عَدْنٍ)، يَدْخُلُونَهَا، تَجْرِي فِي أَرْضِهَا الأَنْهَارُ (مِنْ تَحْتِهَا) بَيْنَ أَشْجَارِهَا وَقُصُورِهَا، وَلَهُمْ فِيهَا مَا يَطْلُبُونَ وَيَشْتَهُونَ، وَكَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ كُلَّ مَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّقَاهُ، وَأَحْسَنَ عَمَلَهُ.
وَيُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ حَالِ المُؤْمِنِينَ القَائِمِينَ بِجَمِيعِ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ، وَالمُنْتَهِينَ عَنْ جَمِيعِ مَا نَهَى عَنْهُ (الطَّيِّبِينَ) حِينَ تَحْضُرُهُمُ المَلاَئِكَةُ لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ عِنْدَ احْتِضَارِهِمْ، فَقَالَ: إِنَّهُمْ طَيِّبُونَ، مُخْلِصُونَ مِنَ الشِّرْكِ وَالدَّنْسِ، وَالسُّوْءِ، وَإِنَّ المَلاَئِكَةَ تُسَلِّمُ عَلَيْهِم، وَتُبَشِّرُهُمْ بِالجَنَّةِ، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ بِرَبِّهِمْ، وَعَلَى أَعْمَالِهِم الصَّالِحَةِ.(2/482)
وقال تعالى: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) [ق31: 35]
وَأُدنِيَتِ الجَنَّةُ مِنَ المُتَّقِين، الذِين آمَنُوا بِرَبِّهِم وَخَافُوهُ، وَاجْتَنَبُوا مَعَاصِيَه، حَتَّى أصْبَحَتْ على مرآى العِينِ مِنْهُم، وَذَلِكَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُهم، وَهُمْ يَرَوْنَ فيها مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنْ لَهُمْ مِنْ نَعِيمٍ لا نَفَاذَ لَهُ.
وَيُقَالَ للْمُتَّقِينَ - يَقُولُهُ الرَّبُّ تَعَالى أوْ يَقُولُه المَلاَئِكَةُ الأطْهَارُ - هَذا هُوَ النَّعِيمُ الذِي وَعَدَكُم بِهِ رَبُّكُمْ على ألسنةِ رُسُلِهِ الكِرَامِ، وَجَاءَتْ بِهِ كُتُبُهُ، وَقَدْ أعَدَّهُ اللهُ تَعَالى لِكُلِّ رِجَّاعٍ ثَوَّابٍ إلى رَبِّهِ، مُقْلعٍ عَنْ مَعَاصِيهِ، رَجَّاعٍ إلى اللهِ بالتَّوبَةِ.
مَنْ خَافَ اللهَ في سِرِّهِ في الوَقْتِ الذِي لَمْ يَكُنْ أحَدٌ يَرَاهُ غَيرَ اللهِ، وَجَاء اللهَ يَومَ القِيَامةِ بِقَلْبِ مُنِيبٍ خَاضِعٍ لَهُ.
وَيُقَالُ لهؤلاءِ الأبرارِ المُكَرَّمِينَ: ادْخُلُوا الجَنَّةَ سَالِمِينَ مِنَ العَذَابِ وَالهُمُومِ وَالخَوفِ، واطْمَئِنُّوا وَقَرُّوا عَيناً فَهَذا يَوْمُ الخُلُودِ في هذا النَّعِيمِ، فَهُو دَائِمٌ عَلَيكُم لاَ تَحُولُونَ عَنْهُ وَلا تَزُولُونَ، وَلاَ أَنْتُمْ مِنْهُ تُخْرَجُونَ.
وَلَهُم فيها مَا يَطْلُبُونَ وَمَا يَشْتَهُونَ، ثُمَّ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ فَوْقَ مَا سَألوا ممَّا لمْ يَخْطُرْ لَهُمْ عَلَى بَالٍ.
(4) من أتى الله بقلب سليم:
قال تعالى: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) [الشعراء: 88، 89]
وفي يَومِ القِيامةِ، يومَ يُبْعَثُ الخَلائِقُ، لا يَقِي المَرءَ منْ عذابِ اللهِ مالُهُ، ولوِ افْتَدَى بِمِلْءِ الأرْضِ ذًهَباً، ولا يَنْفَعُهُ بنُوهُ، ولا أحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ.(2/483)
ولا يَنْفَعُهُ في ذَلكَ اليوم إِلاَّ إيمَانُه، وَعَمَلُهُ الصَّالِحُ، وأَنْ يأْتِيَ اللهَ ربَّهُ بقلْبٍ سليمٍ، مُبَرَّإٍ من الشِّرْكِ والدَّنَسِ، والخَطَايا، وقَدْ أَخْلَصَ الإِيمانَ للهِ، وأخْلَصَ العَقِيدَةَ لَهُ، وآمَنَ إيمَاناً صادقاً أنه لا إِلهَ إلا الله وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأنَّ السَّاعَةَ آتيةٌ لا رَيْبَ فِيها، وأنَّ يَبْعَثُ مَنْ في القُبُورِ.
(5) اليقين بالآخرة والعمل لها:
قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) [الحاقة/19 - 24]
وَيُعْطَى النَّاسُ صُحُفَ أَعْمَالِهِمْ، فَمَنْ تَنَاوَلَ صَحِيفَةَ عَمَلِهِ بِيمِيِنِهِ فَيَقُولُ فَرِحاً مَسْرُوراً لِكُلِّ مَنْ يَلْقَاهُ: هَذِهِ هِيَ صَحِيفَةُ أَعْمَالِي، خُذُوهَا فَاقْرَؤُوهَا، لأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ مَا فِيهَا خَيرٌ وَحَسَنَاتٌ، لأَنَّهُ مِمَّنْ بَدَّلَ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ.
إِنَّنِي كُنْتُ فِي الدُّنْيَا أَعْتَقِدُ يَقِيناً بِأَنَّنِي سَأْحَاسَبُ أَمَامَ اللهِ فِي هَذَا اليَوْمِ، فَعَمِلْتُ خَيْراً قَدْرَ مَا اسْتَطَعْتُ، وَكُنْتُ أُؤَمِّلُ أَنْ يُحَاسِبَنِي اللهُ عَلَى أَعْمَالِي حِسَاباً يَسِيراً، وَقَدْ صَدَقَ مَا اعْتَقَدْتُ وَمَا تَوَقَّعْتُ، فَكَانَ حِسَابِي يَسِيراً. فَهُوَ يَعِيشُ عِيشَةً رَاضِيَةً خَالِيَةً مِنَ الهُمُومِ والأَكْدَارِ.
فِي جَنَّةٍ رَفِيعَةِ المَكَانِ والدَّرَجَاتِ، فِيهَا الخُضْرَةُ وَالمِيَاهُ وَالظَّلاَلُ الوَارِفَةُ. فِيهَا أَشْجَارٌ ثِمَارُهَا دَانِيَةٌ مِمَّنْ يُرِيدُونَ قَطْفَهَا، فَيَأْخُذُونَهَا بِدُونِ عَنَاءٍ.
(6) الوفاء النذور والخوف من يوم الحساب:(2/484)
قال تعالى: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) [الإنسان: 7 - 23]
وَهَؤُلاَءِ الأَبْرَارُ يُوفُونَ بِمَا أَوْجَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ نُذُورٍ، لأَنَّ مَنْ أَوْفَى بِمَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ أَكْثَرَ وَفَاءً بِمَا أَوْجَبَهُ اللهُ عَلَيْهِ، وَيَتْرُكُونَ المُحَرَّمَاتِ التِي نَهَاهُمْ رَبُّهُمْ عَنْهَا، خِيفَةَ سُوءِ الحِسَابِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهُوَ يَوْمٌ ضَرَرُهُ مُنْتَشِراً فَاشِياً عَامّاً عَلَى النَّاسِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ.
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ، مَعَ شَهْوَتِهِمْ لَهُ، وَرَغْبَتِهِمْ فِيهِ، لِلْفَقِير العَاجِزِ عَن الكَسْبِ (المِسْكِينِ)، وَاليَتِيمِ الذِي مَاتَ أَبُوهْ، وَهُوَ دُونَ سِنِّ البُلُوغِ وَالأَسِيرِ العَاني الذِي لاَ يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ قُوتاً.(2/485)
وَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يُطْعِمُونَ الفُقَرَاءَ وَالمَسَاكِينَ والأَيْتَامَ وَالأَسْرَى، لأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ ثَوَابَ اللهِ وَرِضْوَانَهُ وَحْدَهُ، لاَ يَطْمَعُونَ فِي جَزَاءٍ مِنْ أَحَدٍ غَيْرِهِ عَلَى إِنْفَاقِهِمْ، وَلاَ فِي شُكْرٍ مِنَ المُنْفَقِ عَلَيْهِ.
وَإِنَّنَا إِنَّمَا نَفْعَلُ ذَلِكَ رَجَاءَ أَنْ يَرْحَمَنَا رَبُّنَا فِي يَوْمِ القِيَامَةِ، وَهُوَ يَوْمٌ طَوِيلٌ عَصِيبٌ، تَعْبِسُ فِيهِ الوُجُوهُ وَتَكْلَحُ مِنْ شِدَّةِ أَهْوَالِهِ.
فَآمَنَهُمْ اللهُ شَرَّ مَا خَافُوهُ، وَأَعْطَاهُمْ أَمناً تَكُونُ لَهُ وُجُوهُهُمْ نَضِرَةً، وَسُرُوراً تُسَرُّ بِهِ قُلُوبُهُمْ، وَالقَلْبُ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ الوَجْهُ.
وَجَزَاهُمُ اللهُ بِصَبْرِهِمْ عَلَى الإِيْثَارِ، وَمَا يُؤَدِّي إِلَيهِ مِنَ الجُوعِ وَالعُرْيِ، جَنَّةً لَهُمْ فِيهَا مَنْزِلٌ رَحْبٌ، وَعَيْشٌ رَغْدٌ، وَلِبَاسٌ مِنْ حَرِيرٍ.
وَيَجْلِسُونَ فِي الجَنَّةِ عَلَى السَّرَائِرِ والأَرَائِكِ، وَهُمْ مُتَّكِئُونَ فِي وَضْعِ مَنْ هُوَ مُنَعَّمٌ، لاَ يُقَاسُونَ حَرّاً مُزْعِجاً، وَلاَ بَرْداً مُؤْلِماً.
وَتَدْنُو أَشْجَارُ الجَنَّةِ بِظِلالِهَا عَلَى هَؤُلاَءِ الأَبْرَارِ السُّعَدَاءِ، وَتُسَخِّرُ قُطُوفَهَا لأَمْرِهِمْ لِيَنَالُوا مِنْهَا مَا شَاؤُوا.
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ خَدَمُ الجَنَّةِ بِأَوَانِي الطَّعَامِ، وَهِيَ مِنْ فِضَّةٍ خَالِصَةٍ، وَبِأَكْوَابِ الشَّرَابِ، وَهِيَ أَيْضاً مِنْ فِضَّةٍ، وَقَدْ جُعِلَتْ هَذِهِ الأَكْوَابُ جَامِعَةً بَيَاضَ الفِضَّةِ، وَصَفَاءَ الزُّجَاجِ وَشَفَافِيَّتَهُ.
وَهذِهِ القَوَارِيرُ يَحْمِلُهَا إِلَيهِم السُّعَاةُ وَقَدْ قَدَّرُوا مَا صَبُّوهُ فِيهَا عَلَى قَدَرِ كِفَايَةِ الشَّارِبِينَ وَرَيهِّمْ، لاَ تَزِيدُ وَلاَ تَنْقُصُ.
وَيُسْقَى هُؤَلاَءِ الأَبْرَارُ فِي الجَنَّةِ كَأْساً مِنْ خَمْرِ الجَنَّةِ مُزِجَتْ بِالزَّنْجِبِيلِ (فَهُمْ يُمْزَجُ الشَّرَابُ لَهُمْ مَرَّةً بِالكَافُورِ وَمَرَّةً بِالزَّنْجَبِيلِ فَالكَافُورُ بَارِدٌ وَالزَّنْجَبِيلُ حَارٌّ).
وَيُسْقَونَ فِي الجَنَّةِ مِنْ عَيْنٍ غَايَةٍ فِي السَّلاَسَةِ وَالاسْتِسَاغَةِ.(2/486)
وَيَطُوفُ عَلَى أَهْلِ الجَنَّةِ غِلْمَانٌ (وِلْدَانٌ) يَخْدِمُونَهُمْ، وَهُمْ شَبَابٌ، وُجُوهُهُمْ نَضِرَةٌ، كَأَنَّهُمْ لِحُسْنِ أَلْوَانِهِمْ، وَنَضْرَةِ وُجُوهِهِمْ، وَكَثْرَةِ انْتِشَارِهِمْ فِي قَضَاءِ الحَاجَاتِ، اللًّؤْلُؤْ المَنْثُورُ، وَهُمْ لاَ يَهْرَمُونَ وَلاَ يَشِيبُونَ، وَلاَ تَتَبَدَّلُ أَحْوَالُهُمْ.
وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ نَعِيمٍ فِي الجَنَّةِ، لَرَأَيْتَ نَعِيماً عَظِيماً، وَمُلْكاً كَبِيراً لاَ يُحِيطُ بِهِ وَصْفٌ.
وَيَلْبَسُ أَهْلُ الجَنَّةِ الرَّفِيعَ مِنَ الحَرِيرِ، مِمَّا يَلِي أَبْدَانَهُمْ كَالقُمْصَانِ وَنَحْوِهَا، وَيَلْبَسُونَ الثِّيَابَ التِي لَهَا لَمَعَانٌ وَبَرِيقٌ، مِمَّا يَلِي الخَارِجَ، وَيَتَحَلَّوْنَ بِأَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ، وَيَسْقِيِهِمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً يُطَهِّرُ بَاطِنَ شَارِبِهِ مِنَ الحَسَدِ، وَالحِقْدِ، وَالغِلِّ، وَرَدِيءِ الأَخْلاَقِ.
وَيُقَالُ لَهُمْ تَكْرِيماً: إِنَّ هَذَا الذِي أُعْطِيتُمُوهُ مِنَ الكَرَامَةِ إِنَّمَا كَانَ ثَوَاباً لَكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمُ الصَّالِحَاتِ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ شَكَرَ اللهُ لَكُمْ سَعْيَكُمْ فَأَثَابَكُمْ عَلَيْهِ فِي الآخِرَةِ ثَوَاباً حَسَناً.
(7) من أسلم وجهه لله وهو محسن:
قال تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) [البقرة/111، 112]
ادَّعَى اليَهُودُ، وَادَّعَتِ النَّصَارَى أَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إَلاَ مَنْ كَانَ عَلَى مِلَتِهِمْ هُمْ. فَرَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً: تِلْكَ أَشْيَاءُ يَتَمَنَّوْنَهَا عَلَى اللهِ بِغَيرِ وَجْهِ حَقٍّ، وَلَيْسَ لَهُمْ دَلِيلٌ وَلاَ حُجَّةٌ عَلَى مَا يَقُولُونَ. فَإِنْ كَانَ لِدَعْوَاهُمْ هذِهِ أَسَاسٌ فَلْيأتُوا بِبُرْهَانٍ عَلَيها. وَبِمَا أَنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ إِقَامَةَ الدَّلِيلِ عَلَى دَعْوَاهُمْ هَذِهِ فَهُمْ إِذاً كَاذِبُونَ مُتَخَرِّصُونَ.(2/487)
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى دَعْوَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى تِلْكَ فَيَقُولُ لَهُمْ: بَلَى سَيَدْخُلُ الجَنَّةَ الذِين يُسْلِمُونَ وُجُوهَهُمْ للهِ. وَيَنْقَادُونَ لأَمْرِهِ مُطِيعِينَ مُخْلِصِينَ، وَهُمْ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ فُهؤُلاءِ يُوَفِّيهِمْ رَبُّهُمْ ثَوَابَ أَعْمَالِهِمْ، وَيُدْخِلُهُم الجَنَّةَ، وَيُذْهِبُ عَنْهُمُ الخَوْفَ وَالحَزَنَ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَلاَ خَوْفٌ عَلَيهِمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنَ الأَمْرِ، وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا يَتْرُكُونَهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنيا. فَرَحْمَةُ اللهِ لاَ يَخْتَصُّ بِهَا شَعْبٌ دُونَ شَعْبٍ، وَكُلُّ مَنْ عَمِلَ لَهَا، وَأَخْلَصَ فِي عَمَلِهِ، كَانَ مِنْ أَهْلِهَا.
(8) الذين صبروا على البأساء والضراء:
قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) [البقرة/214]
يُخَاطِبَ اللهُ تَعَالَى الذِينَ هَدَاهُمْ إِلى السِّلْمِ، وَإِلَى الخُرُوجِ مِنْ ظُلْمَةِ الاخْتِلاَفِ، إِلى نُورِ الوِفَاقِ، بِاتِّبَاعِهِمْ هُدَى الكِتَابِ زَمَنَ التَّنْزيلِ، الذِينَ يَظُنُّونَ مِنْهُمْ أَنَّ انْتِسَابَهُمْ إِلى الإِسْلاَمِ فِيهِ الكِفَايَةُ لِدُخُولِ الجَنَّةِ دُونَ أَنْ يَتَحَمَّلُوا الشَّدَائِدَ وَالأَذَى فِي سَبيلِ الحَقِّ، وَهِدَايَةِ الخَلْقِ، جَهْلاً مِنْهُمْ بِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي أَهْلِ الهُدَى مُنْذُ أَنْ خَلَقَهُمْ. فَيَقُولُ لَهُمْ: هَلْ تَحْسَبُونَ أَنَّكُمْ تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ قَبْلَ أَنْ تُبْتَلَوا وَتُخْتَبَرُوا كَمَا فُعِلَ بِالذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الأُمَمِ الذِينَ ابْتُلُوا بِالفَقْرِ (البَأَسَاءُ)، وَبِالأَسْقَامِ وَالأَمْرَاضِ (الضَّرَّاءُ)، وَخُوِّفُوا وَهُدَّدُوا مِنَ الأَعْدَاءِ (زُلْزِلُوا)، وَامتُحِنُوا امْتِحَاناً عَظِيماً، وَاشْتَدَّتِ الأُمُورُ بِهِمْ حَتَّى تَسَاءَلَ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ قَائِلِينَ: مَتَى يَأْتِي نَصْرُ اللهِ.(2/488)
وَحِينَما تَثْبُتُ القُلُوبُ عَلَى مِثْلِ هذِهِ المِحَنِ المُزَلْزِلَةِ، حِينَئِذٍ تَتِمُّ كَلِمَةُ اللهِ، وَيَجِيءُ نَصْرُهُ الذِي يَدَّخِرُهُ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهُ مِنْ عِبَادِهِ الذِينَ يَسْتَيْقِنُونَ أَنْ لاَ نَصْرَ إِلاَّ نَصْرُ اللهِ.
(9) المجاهدون الصابرون:
قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) [آل عمران/142]
وَلاَ تَحْسَبُوا أَنَّكُمْ تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَبِرَكُمُ اللهُ تَعَالَى وَيُمَحِّصَكُمْ فِي الشَّدَائِدِ وَالجِهَادِ لِيَرَى صِدْقَ إيمَانِكُمْ، وَيَرَى مَنْ يَسْتَجِيبُ للهِ، وَيُخْلِصُ فِي طَاعَتِهِ، وَقِتَالِ أًَعْدَائِهِ، وَيَصْبِرُ عَلَى مَكَارِهِ الحُرُوبِ.
(10) العاملون بطاعة الله تعالى:
قال تعالى: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) [الأعراف/42، 43]
وَالذِينَ آمَنَتْ قُلُوبُهُمْ، وَصَدَّقُوا رُسُلَ اللهِ فِيمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ، بِجَوارِحِهِمْ، فَهَؤُلاَءِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ يَخْلُدُونَ فِيهَا أَبَداً.
وَالإِيمَانُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ سَهْلانِ مَيْسُورٌ فِعْلُهُمَا لِجَمِيعِ النَّاسِ، لأنَّ اللهَ لاَ يُكَلِّفُ أَحَداً إلاَّ قَدْرَ طَاقَتِهِ وَاسْتِطَاعَتِهِ.(2/489)
وَيَنْزِعُ اللهُ مَا فِي صُدُورِ أَهْلِ الجَنَّةِ مِنْ حِقْدٍ وَضَغِينَةٍ وَحَسَدٍ، فَيُصْبِحُونَ مُتَحَابِّينَ، وَتَجْرِي الأَنْهَارُ مِنْ تَحْتِ أَقْدَامِهِمْ فِي أَرْضِ الجَنَّةِ، وَيَنْظُرُونَ إلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ فَيَقُولُونَ: الحَمْدُ للهِ الذِي هَدَانَا إلَى طَرِيقِ الجَنَّةِ، وَلَوْلاَ هُدَى اللهِ لَمَا كُنَّا اهْتَدَيْنَا إِليهِ، لَقَدْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ رُسُلُ اللهِ هُوَ الحَقَّ. وَيُنَادُوْنَ (يُنَادِيهِم اللهُ تَعَالَى أَوْ تُنَادِيهِم المَلاَئِكَةُ الكِرَامُ): إنَّ هذِهِ الجَنَّةَ التِي أَنْتُمْ تَحُلُّونَهَا قَدْ أَوْرَثَكُمُ اللهُ إِيَّاهَا ثَوَاباً لَكُمْ وَجَزَاءً عَلَى إِيمَانِكُمْ وَأَعْمَالِكُمُ الصَّالِحَةِ.
وقال تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) [الزمر/73، 74]
وَيُوِجَّهُ المُتَّقُونَ إِلَى الجَنَّةِ جَمَاعَاتٍ إِثْرَ جَمَاعَاتٍ: المُقَرَّبُونَ، ثُمَّ الأَبْرَارُ، ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ. . فَإِذَا وَصَلُوا الجَنَّةَ تُفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابُهَا لاسْتِقْبَالِهِمْ، وَيَسْتَقْبِلُهُمْ حُرَّاسُهَا (خَزَنُتهَا) بالتَّحِيَةِ وَالسَّلاَمِ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ: طَابَتْ أَعْمَالُكُمْ وَأَقْوَالُكُمْ، وَطَابَ سَعْيُكُمْ وَجَزَاؤُكُمْ، فَادْخُلُوا الجَنَّةَ لِتَمْكُثُوا فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً.(2/490)
وَيَقُولُ المُؤْمِنُونَ حِينَ يَعَايِنُونَ فِي الجَنَّةِ الجَزَاءَ الوَافِرَ الذِي أَعَدَّهُ اللهُ لَهُمْ، وَالنَّعِيمَ المُقِيمَ: الحَمْدُ للهِ الذِي كَانَ وَعَدَنَا عَلَى ألْسِنَةِ رُسُلِهِ الكِرَامِ بِالثَّوَابِ الكَرِيمِ فِي الآخِرَةِ فَصَدّقْنَا مَا وَعَدَنَا بِهِ، وَأَكْرَمَنَا بِأَنْ جَعَلَنَا نَتَصَرَّفُ فِي أَرْضِ الجِنَّةِ تَصَرُّفَ الوَارِثِ فِيمَا يَرِثُ، فَنَتَّخِذُ مِنْهَا مَبَاءَةً وَمَسْكَناً حَيْثُ نَشَاءَ، فَنِعْمَ الأَجْرُ أَجْرُنَا عَلَى عَمَلِنَا، وَنِعْمَ الثَّوَابُ ثَوَابُنَا الذِي أَكْرَمَنَا بِهِ اللهُ تَعَالَى.
(11) من باعوا أنفسهم لله:
قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) [التوبة/111 - 112]
يُرَغِّبُ اللهُ تَعَالَى النَّاسَ فِي الجِهَادِ، وَيُخْبِرُهُمْ بِأَنَّهُ سَيُعَوِّضُ المُؤْمِنِينَ بِالجَنَّةِ عَنْ بَذْلِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، لِتَكُونَ كَلِمَةَ اللهِ هِيَ العُلْيَا، وِلإِحْقَاقِ الحَقِّ، وَإِقَامَةِ العَدْلِ فِي الأَرْضِ، فَهُمْ حِينَ يُجَاهِدُونَ يَقْتُلُونَ أَعْدَاءَهُمْ، وَيُقْتَلُونَ هُمْ، وَهُمْ فِي كِلاَ الحَالَيْنِ مُثَابُونَ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ وَعَدَ اللهُ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بِهَذَا الجَزَاءِ الحَقِّ، وَجَعَلَهُ حَقّاً عَلَيهِ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآنِ.(2/491)
ثُمَّ يَدْعُو اللهُ تَعَالَى مَنِ التَزَمَ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِعَهْدِهِ للهِ إِلَى الاسْتِبْشَارِ بِذَلِكَ الفَوْزِ العَظِيمِ، وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ، لأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَفَاءً بِالْعَهْدِ، وَلاَ أَكْثََرَ مِنْهُ التِزَاماً بِالوَعْدِ الذِي يَقْطَعُهُ عَلَى نَفْسِهِ الكَرِيمَةِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ رِبْحٌ أَكْبَرُ مِنَ الرّبِحِ الذِي يُحَقّقُهُ المُؤْمِنُونَ فِي هَذِهِ الصَّفْقَةِ.
وَهُنَا يُعَدِّدُ اللهُ تَعَالَى صِفَاتِ المُؤْمِنِينَ الذِينَ اشْتَرَى مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِالجَنَّةِ، وَهُمُ: التَّائِبُونَ مِنْ الذُّنُوبِ كُلِّها، التَّارِكُونَ لِلْفَوَاحِشِ، القَائِمُونَ بِعِبَادَةِ رَبِّهِمْ، وَالمُحَافِظُونَ عَلَيهَا، وَالحَامِدُ نَ للهِ عَلَى نِعَمِهِ وَأَفْضَالِهِ، السَّائِحُونَ فِي الأَرْضِ، لِلاعْتِبَارَِ وَ الاسْتِبْصَارِ بِمَا خَلَقَ اللهُ مِنَ العِبَرِ وَ الآيَاتِ، (وَقِيلَ أَيْضاً إِنَّ مَعْنَى السَّائِحِينَ هُنَا الصَّائِمُونَ) وَالمُصَلُّونَ. وَهُمْ مَعْ ذَلِكَ كُلِّهِ يَسْعَوْنَ فِي نَفْعِ خَلْقِ اللهِ، وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى طَاعَتِهِ، بِأَمْرِهِمْ بِالمَعْرُوفِ، وَنَهِيهِمْ عَنِ المُنْكَرِ، مَعَ العِلْمِ بِمَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ، وَيَجِبُ تَرْكَهُ طَاعَةً للهِ (أَيْ إِنَّهُمْ يَحْفَظُونَ حُدُودَ اللهِ). وَيُبَشِّرُ اللهُ المُؤْمِنِينَ المُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الكَرِيمَةِ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
(12) المحسنون:
قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) [يونس/26]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الذِينَ يَسْتَجِيبُونَ لِدَعْوَةِ اللهِ، وَيُحْسِنُونَ العَمَلَ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا، سَيَكُونُ جَزَاؤُهُمُ الحُسْنَى مِنَ اللهِ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ (وَهَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ)، وَسَيُضَاعِفُ اللهُ لَهُمْ ثَوَابَ أَعْمَالِهِمْ (وَزِيَادَةٌ)، وَسَيُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ، وَسَيُعْطِيهِمْ مَا لاَ عَيْنَ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.(2/492)
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ}: (الحُسْنَى الجَنَّةُ. وَالزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ). وَلاَ يَغْشَى وُجُوهَهُمْ قَتَامٌ أَسْوَدُ، مِمَّا يَعْتَرِي وُجُوهَ الكَفَرَةِ، مِنَ القَتَرَةِ وَالغَبَرَةِ، وَلاَ يَلْحَقُ بِالمُؤْمِنِينَ صَغَارٌ وَلاَ هَوَانٌ وَلاَ ذِلَّةٌ.
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى يَصِفُ المُؤْمِنِينَ فِي آيَةٍ أُخْرَى {فَوَقَاهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً.} لاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ - لاَ يَغْشَى وُجُوهَهُمْ وَلاَ يَعْلُوهَا.
وقال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) [الذاريات/15 - 19]
أمَّا الذِينَ آمَنُوا باللهِ وَرُسُلِهِ، وَاتقَوا رَبَّهُمْ وَأطَاعُوهُ، وَاجْتَنَبُوا مَعَاصِيَهِ، فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ في ذَلكَ اليَومِ في بَسَاتِينَ وَجَنَّاتٍ تَجْري فيها الأنْهارُ. قَرِيرَةً أعينُهُمْ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهمْ مِنْ نَعيمٍ يَفُوقُ مَا كَانُوا يُؤَمِّلُونَ، لأنهم كَانُوا في الحَيَاةِ الدُّنيا يَعْمَلُونَ الأعمالَ الصَّالِحَةَ، طَلَباً لمَرْضَاةِ رَبِّهِمْ، فَنَالُوا هذا الجَزَاءَ العَظِيمَ.
كَانُوا يَنَامُونَ القَلِيلَ مِنْ سَاعَاتِ الْلِّيلِ، وَيَقُومُونَ لِلصلاةِ وَالعِبَادةِ في مُعْظَمِهِ. وَكَانُوا يُحيُون الْلِّيلَ مُتَهَجِّدِينَ، فَإذا جَاءَ وَقْتُ السَّحَرِ أخَذُوا في الاسْتِغْفَارِ كَأنَّهمْ أسْلَفُوا في ليلتِهِم الذُّنُوبَ. وَجَعَلُوا في أمْوالِهِمْ جُزْءاً مُعَيِّناً خَصَّصُوهُ للسَّائِلِ المُحْتَاجِ، وَلِلْمُتَعَفِّفِ الذِي لا يَجدُ ما يُغْنِيهِ، وَلاَ يَسْألُ النَّاسَ، وَلا يَفْطَنُ إليهِ أحَدٌ لِيَتَصَدَّق عَليه.
(13) المحافظون على الصلاة، البعيدون عن الشهوات:(2/493)
قال تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) [مريم/59 - 63]
ثُمَّ جَاءَ مِنْ بَعْدِ هَؤُلاَءِ الأَنْبِيَاءُ الصَّالِحِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ، القَائِمِينَ بِحُدُودِ اللهِ وَأَوَامِرِهِ المُؤَدِّينَ فَرَائِضَهُ، خَلْفُ سُوءٍ، تَرَكُوا الصَّلاَةَ وَإِقَامَتِهَا، وَأَقْبَلُوا عَلَى شَهَواتِ الدُّنْيا، فَهَؤُلاَءِ سَوْفَ يَلْقَوْنَ خَسَارةً وَشَرّاً يَوْمَ القِيَامَةِ.
إِلاَّ مَنْ تَدَارَكَ نَفْسَهُ بِالتَّوْبَةِ، وَصِدْقِ الإِيمَانِ، وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، وَرَجَعَ عَنْ تَرْكِ الصَّلاَةِ، وَعَنِ اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ، وَيُحْسِنُ عَاقِبَتَهُ، وَخِتَامَهُ، وَيُدْخِلُهُ الجَنَّةَ، لأَنَّ التَّوْبَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا، وَلاَ يُنْقِصُهُ اللهُ شَيْئاً مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الندم توبة و التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
وَالجَنَّاتُ التِي يُدْخِلُهَا اللهُ تَعَالَى التَّائِبِينَ، هِيَ جَنَّاتُ الإِقَامَةِ الدَّائِمَةِ (جَنَّاتُ عَدْنٍ)، التِي وَعَدَ اللهُ عِبَادَهُ المُتَّقِينَ بِهَا، وَهِيَ مِنَ الغَيْبِ الَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ، وَلَمْ يَرَوْهُ، وَإِنَّمَا آمَنُوا بِهِ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ بِاللهِ، وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ بِمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ، وَاللهُ تَعَالَى لاَ يُخْلِفُ وَعْدَهُ أَبَداً، فَإِنَّ مَا يَعِدُهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ سَيَحْصُلُ، وَسَيَصِلُ إِلَى العِبَادِ (أَوْ سَيَأْتِيهِ(2/494)
وَفِي هَذِهِ الجَنَّاتِ لاَ يَسْمَعُ نُزَلاَؤُهَا كَلاَماً لَغْواً تَافِهاً لاَ مَعْنَى لَهُ، وَلاَ فَائِدَةَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَسْمَعُونَ المَلاَئِكَةَ يُحَيُّونَهُمْ بِالسَّلاَمِ، مِمَّا يُشْعِرُهُمْ بِالاطْمِئْنَانِ وَالسَّعَادَةِ وَالرِّضَا، وَيَأْتِيهِمْ مَا يَشْتَهُونَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ (بُكْرَةً وَعَشِيّاً) كَمَا كَانَ حَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا.
وَالجَنَّةُ الَّتِي بَيَّنَ اللهُ أَوْصَافَهَا العَظِيمَةُ فِيمَا تَقَدَّمَ، هِيَ الَّتِي يُورِثُهَا عِبَادَهُ المُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُطِيعُونَ رَبَّهُمْ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَيَكْظِمُونَ الغَيْظَ، وَيَعْفُونَ عَنِ النَّاسِ.
(14) من صدع بالحق ومات دونه:
قال تعالى: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) [يس/20 - 27]
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَطْرَافِ المَدِينَةِ يَسْعَى مُسْرِعاً إِلَى حَيْثُ كَانَ يَجْتَمِعُ النَّاسُ وَهُمْ يُحَاوِرُونَ الرُّسُلَ، فَقَالَ لَهُمْ: يَا قَوْمِ اتِّبِعُوا رُسُلَ اللهِ إِلَيْكُمْ.
اتَّبِعُوا الذِينَ لا يَطْلُبُونَ أَجْرَاً عَلَى تَبْلِيِغِهِمْ رِسَالَةَ رَبِّهِمْ، وَلاَ يَطْلُبُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً، وَهُمْ مُهْتَدُونَ إِلَى سَبِيلِ اللهِ القَوِيمِ، فَإِذَا اتَّبَعْتمُوهُم اهْتَدَيْتُمْ بِهُدَاهُمْ(2/495)
وَيَبْدُوا أَنَّ أَهْلَ المَدِينَةِ اتَّهَمُوا مَوَاطِنَهم، الذي جَاءَ يَسْعَى مُسْرِعاً لِيُدَافِعَ عَنِ الرُّسُلِ، وَلْيَنْصَحَ قَوْمَهُ، بِأَنَّهُ مُوَالٍ لِلرُّسُلِ، وَمُؤْمِنٌ بِمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ، فَأَجَابَهم قَائلاً: وَلِمَاذَا لاَ يَعْبُدُ اللهَ، وَلاَ يُخْلِصُ العِبَادَةَ لَهُ، فَاللهُ تَعَالَى هُوَ الذي خَلَقَهُ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ الخَلْقُ جَمِيعاً يَوْمَ القِيَامَةِ لِيُجَازِيَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ.
وَهَلْ تُرِديدُونَنِي أَنْ أَعْبُدَ آلِهَةً غَيْرَ اللهِ تَعَالَى لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، فَإِذَا أَرَادَ اللهُ الرَّحْمَنُ أَنْ يُنْزِلَ بِي ضُرّاً لَمْ تَنْفَعْنِي تِلْكَ الآلِهَةُ شَيْئاً، وَلَمْ تَشْفَعْ لِي عِنْدَهُ، وَلَمْ تُنْقِذْنِي مِنْ عَذَابِهِ.
إِنِّي إِنْ اتَّخَّْذْتُ تِلْكَ الأَصْنَامُ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللهِ، كُنْتُ فِي ضَلاَلٍ بَيِّنٍ، وَاضِحٍ.
ثُمَّ قَالَ الرَّجُلُ المُؤْمِنُ لِلرُّسُلِ الكِرامِ: إِنِّي آمَنْتُ بِربِّكُم الذي أَرْسَلَكُمْ، وَاتَّبَعْتُكُمْ، فَاشْهَدُوا لِي بِذَلِكَ، عِنْدَ رَبِّكُمْ الكَّرِيمِ.
(وَهُنَاكَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ إِنَّمَا خَاطَبَ قَوْمَهُ، قَائِلاً إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ الذِي كَفَرْتُمْ أَنْتُمْ بِهِ).
وَيُرْوَى أَنَّ القَوْمَ وَثَبُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، وَلَم يَجِدْ مَنْ يَدَافِعُ عَنْهُ بَيْنَهُمْ، فَأَدْخَلَهُ اللهُ تَعَالَى الجَنَّةَ، وَأَكْرَمَهُ عَلَى حُسْنِ إِيْمَانِهِ وَثِقَتِهِ بِرَبِّهِ. وَيَقُولُ تَعَالَى إِنَّهُ قَالَ لَهُ: ادْخُلِ الجَنَّةَ جَزَاءً لَكَ عَلَى مَا قَدَّمْتَ مِنْ إِيْمَانٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ، وَمَا أَسْلَفْتَ مِنْ إِحْسَانٍ. فَلَمَّا دَخَلَهَا، وَعَايَنَ مَا أَكْرَمَهُ اللهُ بِهِ بِسَبَبِ إِيْمَانِهِ وَصَبْرِهِ، قَالَ: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا أَنَا فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، والخَيْرِ العَمِيمِ، بِسَبَبِ إِيْمَانِي بِرَبِّي، وَتَصْدِيقي بِمَا جَاءَ بِهِ رُسُلُه الكِرَامُ.
(15) أن يكونوا عبادا لله حقا:(2/496)
قال تعالى: يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) [الزخرف/68 - 73]
وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُتَحَابِّينَ فِي اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ: يَا عِبَادِي لاَ تَخَافُوا مِنْ عِقَابِي، فَقَدْ آمَنْتُكُمْ مِنْهُ، وَرَضِيتُ عَنْكُمْ، وَلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا خَلَّفْتُمْ فِي الدُّنْيَا. فَالذِي أدَّخَرْتُهُ لَكُمْ فِي الآخِرَةِ خَيْرٌ مِنْهُ.
يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ صِفَةَ الذِينَ يَسْتَحِقُّونَ الأَمْنَ مِنَ اللهِ، وَالرِّضَا، فَلاَ يَخَافُونَ العَذَابَ، وَلاَ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا خَلَّفُوهُ فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ إِنَّ هَؤُلاَءِ هُمُ الذِينَ آمَنَتْ قُلُوبُهُمْ، وَصَفَتْ نُفُوسُهُمْ، وانْقَادَتْ لِشَرْعِ الله بَوَاطِنُهُمْ وَظَوَاهِرُهُمْ.
وَقَالَ لَهُمْ: ادْخُلُوا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ وَنُظَراؤُكُم الجَنَّةَ تَنْعَمُونَ فِيهَا وَتَسْعَدُونَ (تُحْبَرُونَ) بِمَا أَعَدَّهُ اللهُ تَعَالَى لَكُمْ مِنْ عَطَاءٍ غَيْرِ مَمْنُونٍ وَلاَ مَقْطُوعٍ.
وَبَعْدَ أَنْ يَسْتَقِرُّوا فِي الجَنَّةِ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِأَوَانٍ مِنْ ذَهَب عَلَيْهَا أَنْوَاعُ الطَّعَامِ، وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِأَكْوَابٍ لِلشَّرَابِ مِنْ ذَهَبٍ، وَفِي كُلٍّ مِنَ الأَوَانِي والأَكْوَابِ مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ، وَتَتَلَذُّذُ بِهِ الأَعْيُنُ، فَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَنْعَمُونَ وَيَتَلَذَّذُونَ، وَيُقَالُ لَهُمْ إِكْمَالاً لِسُرُورِهِمْ: إِنَّهُمْ بَاقُونَ فِي هَذَا النَّعِيمِ فِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ أَبَداً.(2/497)
ثُمَّ يُقَالُ لِهَؤُلاَءِ الرَّاتِعِينَ فِي هَذَا النَّعِيمِ الدَّائِمِ: إِنَّ هَذِهِ هِيَ الجَنَّةُ، وَقَدْ جَعَلَهَا اللهُ بَاقِيَةً لَكُمْ كَالمِيَرَاثِ الذِي يَبْقَى عَنِ المُوَرِّثِ، جَزَاءً لَكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُم الصَّالِحَةِ، وَإِيْمَانِكُمْ بِرَبِّكُمْ. وَلَكُمْ فِيهَا مِنْ أَصْنَافِ الفَوَاكِه مَا لاَ حَصْرَ لَهُ تَأْكُلُونَ مِنْهَا مَا تَتَخَيَّرونَ بِغَيْرِ حِسَابٍ لِتَتِمَّ لَكُم النِّعْمَةُ والغِبْطَةُ والحُبُورُ.
(16) المستقيمون:
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) [الأحقاف/13، 14]
إِنَّ الذِينَ قَالُوا: رَبُّنَا اللهُ لا إِلَهَ غَيرُهُ، وَلاَ مَعْبُودَ سِوَاهُ، ثُمَّ ثَبَتُوا عَلَى تَصْدِيقِهِم بِذَلِكَ، وَلَمْ يَخْلِطُوا إِيمَانَهم بِشِرْكٍ أَوْ ظُلْمٍ، وَلَمْ يُخالِفُوا أَمْرَ اللهِ، أُولئِكَ لا خَوْفٌ عَلَيهِمْ فِيما يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَمْرِهِمْ يَومَ القيامة وَلا يَحزَنُونَ عَلَى مَا خَلَّفُوهُ وَرَاءَهُم في الدُّنيا.
وََهَؤُلاءِ الذِينَ آمَنُوا بالله واستَقَامُوا عَلَى الإِيمَانِ والعَمَلِ الصَّالِحِ، هُمْ أَصْحَابُ الجَنَّةِ يَخلُدُونَ فِيها أبداً، ثَواباً لَهُمْ مِنْ عِنْدِ الله وَجَزَاءً لَهُمْ عَلَى مَا قَدَّمُوا مِنْ أَعْمَالٍ صَالِحَاتٍ فِي الدُّنيا.
(17) التائبون الداعون الشاكرون:
قال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) [الأحقاف/15 - 16](2/498)
بَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللهَ تَعَالى عِبَادَهَ بالإِيمانِ بِهِ وَبِتَصْدِيقِ رَسُولِهِ، وبما جاءَ بِهِ مِنْ كِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ، والاستِقَامَةِ عَلَى الإِيمانِ، حَثَّ النَّاسَ عَلَى الإِحسَانِ إِلى الوَالِدَينِ فأَخبَرَ تَعَالَى: أَنَّهُ أَمَرَ الإِنسَانَ بالإِحسَانِ إِلى وَالديْهِ، وَبِالحُنُوِّ عَلَيهِما، وَجَعَلَ برَّهُما مِنْ أَفْضَلِ القُرُبَاتِ إِلى اللهِ، وَجَعَلَ عُقُوقَهُما مِنَ كَبَائِرِ الذُّنوبِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالى سَبَبَ تَوصِيَتِهِ الإِنسَانَ بِبِرِّ وَالدَيهِ، فَقَالَ: إِنَّ أُمَّهُ قَاسَتْ في حَمْلِهِ مَشَقَّةً وَتَعَباً، وَقَاسَتْ في وَضعِهِ مَشَقَّةً وأَلماً، وَكُلُّ ذَلِكَ يَسْتَدعي مِنَ الإِنسانِ الشكرَ، واستِحقَاقَ التَّكريمِ، وَجَميلَ الصُّحْبَةِ. وَمُدَّةُ حَمْلِ الطّفْلِ، وفِطَامِهِ، ثَلاثُونَ شَهْراً تَتَحَمَّلُ فِيها الأٌمُ أَعْظَمَ المَشَاقِّ. حَتَّى إِذَا بَلَغَ الطّفْلُ كَمَالَ قُوَّتِهِ وَعَقْلِهِ، وَبَلَغَ أَربَعِينَ سَنَةً مِنْ عُمْرِهِ قَالَ: رَبِّ أَلْهِمْنِي وَوَفِّقْنِي إِلى شُكْرِ نِعْمَتِكَ التِي أَنْعَمْتَ بِها عَلَيَّ، وَعَلَى وَالِدَيَّّ، مِنْ صِحَّةِ جِسْمٍ، وَسَعَةِ عَيْشٍ، واجْعْلَنْي أَعْمَل عَمَلاً صَالِحا يُرضِيكَ عَنِّي لأَنَالَ مَثُوبَتَهُ عِنْدَكَ، وَاجَعْلِ اللهُمَّ الصَّلاَحَ سَارِياً في ذُرِّيَّتِي، إِني تُبتُ إِليكَ مِنْ ذُنُوبِي التِي صَدَرتَ عَنِّي فِيما سَلَفَ مِنْ أَيَّامِي، وَإِنِّي مِنَ المُستَسلِمِينَ لأَمرِكَ وَقَضَائِكَ.
وَهؤلاءِ المُتَّصِفُونَ بِالصِّفَاتِ السَّابِقَةِ (التَّائِبُونَ إِلى اللهِ، المُنِيبُونَ إِليهِ، المُسْتَدْرِكُونَ مَا فَاتَ بِالتُّوْبَةِ والاسْتِغْفَارِ. .) هُمُ الذِينَ يَتَقَبَّلُ اللهُ تَعَالى مِنْهُمْ أحسَنَ مَا عَمِلُوهُ في الدُّنيا، وَيَصْفَحُ عَنْ سَيِّئاتهِمْ فَيَغْفِرُ لَهُمُ الكَثيرَ مِنَ الزَّلَلِ الذِي صَدَرَ مِنْهُم فِي حِيَاتِهم الدُّنيا، ولمْ يَتَرسَّخْ فِعْلُهُ في نُفُوسِهِم، وَيَقْبَلُ القَليلَ مِنَ العَمَلِ. وَهُمْ في عِدادِ أَهْلِ الجَنَّةِ تَحقيقاً للوَعْدِ الصِّدْقِ الذِي وَعَدَهُمْ بِهِ رَبُّهم فِي الدُّنيا، وَلا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ أَبداً.
(وَرُوِيَ أَنَّ هذهِ الآيةَ نَزَلَتْ في سَعْدِ بنِ أَبي وَقَّاصٍ.(2/499)
وَرُوِيَ أَيْضاً أَنَّها نَزَلَتْ في أَبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. والآيَةُ تَنْطَبِقُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ فَهُوَ مُوصىً بِوالِدَيهِ، مَأْمُورٌ بِشُكْر أَنْعُمِ الله عَلَيهِ وَعليهِما، وَبأَنْ يَعْمَلَ صَالِحاً، وَأَنْ يَسْعَى في إِصْلاَحِ ذُرِّيَّتهِ، وَأَنْ يَدْعُوَ اللهَ أَنْ يُوِّفقَهُ إِلى عَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ).
(18) من قتل في سبيل الله:
قال تعالى: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) [محمد/4 - 6]
واللهُ يَجْزِي الشَّهَداءَ الذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِهِ تَعَالى، وَيَتَجَاوزُ عَنْ سَيَّئَاتِهِمْ، وَيُثَمِّرُ لَهُمْ أعْمالَهُمْ وَيُنَمِّيها لَهُمْ. وسَيَهْدِي اللهُ الشُهَدَاءَ في سَبيلِهِ إلى طَريقِ الجَنَّةِ، ويُصْلِحُ حَالَهم في الآخِرَةِ. وَيدُخْلِهُمَ ربُّهم الجَنَّةَ، فَيَجِدُ كُلُّ وَاحِد فيها مَقَرَّهُ لا يَضِلُّ في طَلَبِه، وَكَأنَّهُ يَعْرِفُهُ مِنْ قَبْلُ.
(19) من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى:
قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) [النازعات/40 - 41]
وَأَمَّا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَقُومُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَأَنَّهُ سَيُسْأَلُ عَنْ أَعْمَالِهِ، فَحَاذَرَ ذَلِكَ اليَوْمَ، وَحَسَبَ حِسَابَهُ، وَجَنَّبَ نَفْسَهُ الوُقُوعَ فِي المَحَارِمِ، وَالانْسِيَاقِ وَرَاءَ الهَوَى وَالشَّهَوَاتِ. فَتَكُونُ الجَنَّةُ جَزَاءَهُ، وَفِيهَا مَأْوَاهُ وَمَصِيرُهُ.
(20) الذين يؤثرون ما عند الله على متاع الدنيا:(2/500)
قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) [آل عمران/14، 15]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أنَّهُ فَطَرَ النَّاسَ عَلَى حُبِّ الشَّهَواتِ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، مِنْ أنْواعٍ المَلَذَّاتِ مِنَ النِّسِاءِ وَالبَنِينَ، وَالأَمْوَالِ وَالخَيْلِ وَالأنْعَامِ وَالحَرْث، وَهِيَ زَهْرَةُ الحَيَاةِ الدُّنيا الفَانِيَةِ، وَزِينَتُهَا الزَّائِلَةُ، وَهِيَ لاَ تُقَاسُ بِمَا ادَّخَرَهُ اللهُ لِعِبَادِهِ المُؤْمِنينَ الصَّالِحِينَ فِي الآخِرَةِ، وَعِنْدَ اللهِ حُسْنُ المَرْجِعِ، وَعِنْدَهُ حُسْنُ الثَّواب.
قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ أتُرِيدُونَ أنْ أُخْبِرَكُمْ بِخَيْرٍ مِمّا زُيِّنَ للنَّاسِ فِي الحَيَاةِ الدُّنيا مِنْ نَعِيمِها الزَّائِلِ؟ هُوَ مَا أعَدَّهُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُتَّقِينَ مِنْ عِبَادِهِ، الذِينَ أخْبَتُوا إلى رَبِّهِمْ وَأنَابُوا إليهِ، مِنْ جَنَّاتٍ تَتَفَجَّرُ فِي أرْضِها الأنْهَارُ، مُخَلَّدِينَ فِيها لا تَزُولُ عَنْهُمْ أبداً، وَلاَ يَبْغُونَ عَنْهَا تَحَوُّلاً، وَلَهُمْ فِيها أزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ مِنَ الدَّنَسِ وَالخُبْثِ وَالكَيْدِ وَسُوءِ الخُلُقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا يَعْتَرِي النِّسَاءَ. وَيَغْمُرُهُمْ رِضْوَانُ اللهِ فَلاَ يَسْخَطُ عَلَيهِمْ رَبُّهُمْ أبداً، وَاللهُ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ، يُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ بِحَسَبِ مَا يَسْتَحِقُّ مِنَ العَطَاءِ.
(21) الذاكرون الله في كل أحوالهم:(2/501)
قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) [آل عمران/190 - 195](2/502)
إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ، وَمَا فِيها مِنْ مَشَاهِدَ عَظِيمَةٍ، وَكَوَاكِبَ وَسَيَّارَاتٍ، وَفِي خَلْقِ الأَرْضِ، وَمَا فِيها مِنْ بِحَارٍ، وَأَنْهَارٍ وَجِبَالٍ وَأَشْجِارٍ وَنَبَاتْ، وَفِي تَعَاقُبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَتَقَارُضِهِمَا الطُّولَ وَالقِصَرَ، وَيَطُولُ هَذا تَارةً، وَيَطُولُ الآخَرَ تَارَةً أخْرَى. . . لآيَاتٍ وَبَرَاهِينَ وَحُجَجَاً وَدَلائِل عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ، وَعَظِيمَ قُدْرَتِهِ، لأهْلِ العُقُولِ وَالأَلْبَابِ الزّكِيَّةِ. وَيَصِفُ اللهُ تَعَالَى أُوْلِي الأَلْبَابِ فَيَقُولُ عَنْهُمْ: إِنَّهُمُ الذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قَائِمِينَ وَقَاعِدِينَ وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَلاَ يَقْطَعُونَ ذِكْرَ اللهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ، بِسَرَائِرِهِمْ، وَأَلْسِنَتِهِمْ. . . وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لِيَفْهَمُوا مَا فِيهَا مِنْ أَسْرَارِ خَلِيقَتِهِ، وَمِنْ حِكَمٍ وَعِبَرٍ وَعِظَاتٍ، تَدُلُ عَلَى الخَالِقِ، وَقُدْرَتِهِ، وَحِكْمَتِهِ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إلَى أَنْفُسِهِمْ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَكَ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا الخَلْقَ عَبَثاً وَبَاطِلاً، رَبَّنَا تَنَزَّهْتَ عَنِ العَبَثِ وَالبَاطِلِ، وَإنَّمَا خَلَقْتَهُ بِالحَقِّ، وَالإِنْسَانِ مِنْ بَعْضِ خَلْقِكَ لَمْ تَخْلُقْهُ عَبَثاً، وَإِنَّمَا خَلَقْتَهُ لِحِكْمَةٍ. وَمَتَى حُشِرَ الخَلْقُ إلَيكَ حَاسَبْتَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، فَتَجْزِي الذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا، وَتَجْزِي الذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى. ثُمَّ يُتِمُّونَ دُعَاءَهُمْ سَائِلِينَ رَبَّهُمْ أنْ يَقِيَهُمْ عَذابَ النَّارِ.(2/503)
ثُمَّ يُتَابِعُونَ دُعَائَهُمْ وَرَجَاءَهُمْ لِرَبِّهِمْ قََائِلِينَ: رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلَهُ النَّارَ فَقَدْ أَهَنْتَهُ وَأَذْلَلْتَهُ، وَأَظْهَرْتَ خِزْيَهُ لأَهْلِ الجَمْعِ يَوْمَ القِيَامَةَ، وَالظَّالِمُونَ لاَ يَجِدُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ يَنْصُرُهُمْ مِنَ اللهِ. وَبَعْدَ أَنْ عَرَفُوا اللهَ حَقَّ المَعْرِفَةِ بِالذِّكْرِ وَالفِكْرِ، عَبَّرُوا عَنْ وُصُولِ دَعْوَةِ الرَّسُولِ إلَيْهِمْ، وَاسْتِجَابَتِهِمْ لِدَعْوَتِهِ سِرَاعاً، فَقَالُوا: رَبَّنَا إنَّنَا سَمِعْنَا دَاعِياً يَدْعُو النَّاسَ إلَى الإِيمَانِ بِكَ (وَهُوَ الرَّسُولُ)، وَيَقُولُ: آمِنُوا بِرَبِّكُمْ، فآمَنَّا مُسْتَجِيبِينَ لَهُ، رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، وَتَجاوَزْ عَنْ سَيِئَاتِنَا، فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ، وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارَ الصَّالِحِينَ وَأَلْحِقْنَا بِهِمْ.
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى لِسَانِ رُسُلِكَ، وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ أَمَامَ الخَلْقِ، إنَّكَ لاَ تُخْلِفُ المِيْعَادَ الذِي أَخْبَرَ عَنْهُ رُسُلُكَ الكِرَامُ، وَهُوَ قِيَامُ الخَلْقِ يَوْمَ القِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَإنَّكَ تَجْزِي العَامِلِينَ الصَّالِحِينَ بِالخَيْرِ وَالحُسْنَى، وَتَجْزِي الذِينَ أسَاؤُوا بِمَا يَسْتَحِقُونَ مِنْ عَذَابِ النَّارِ.(2/504)
لَمَّا سَأَلَ المُؤْمِنُونَ ذَوُو الأَلْبَابِ رَبَّهُمْ مَا سَأَلُوا فِي الآياتِ السَّابِقَاتِ، اسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ لِصِدْقِهِمْ فِي إيمَانِهِمْ، وَذِكْرِهِمْ وَتَفَكُّرِهِمْ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَتَنْزِيهِهِمْ رَبَّهُمْ عَنِ العَبَثِ، وَتَصْدِيقِهِمْ رُسُلَهُ، وَقَالَ لَهُمْ: إنَّهُ لاَ يُضَيِّعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْهُمْ مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى، وَإنَّهُ سَيُوَفِّي كُلَّ عَامِلٍ أَجْرَهُ، وَجَمِيعُهُمْ لَدَيهِ سَوَاءٌ فِي الثَّوَابِ (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ)، فَالذِينَ هَاجَرُوا مِنْ دَارِ الشِّرْكِ وَأَتَوا إلى دَارِ الإِيمَانِ، وَضَايَقَهُمُ المُشْرِكُونَ حَتَّى اضْطَرُّوهُمْ إلى الخُرُوجِ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَمُفَارَقَةِ أَهْلِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، لاَ لِشَيءٍ إلاَّ أنْ يَقُولُوا رَبَّنَا اللهُ، وَالَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَيُقْتَلُونَ صَابِرِينَ مُحْتَسَبِينَ. . . فَهؤُلاءِ جَمِيعاً سَيُكَّفِرُ اللهُ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ، وَسَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا، وَيُنِيلُهُمْ ذَلِكَ جَزَاءً لَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَثَوَاباً جَزِيلاً مِنْهُ، لأنَّ اللهَ عَظِيمٌ، وَالعَظِيمُ لاَ يُعْطِي إلاَّ جَزِيلاً. وَلِلْعِبَادِ الصَّالِحِينَ عِنْدَ اللهِ خَيْرُ الجَزَاءِ وَالثَّوابِ.
(22) المحافظون على حدود الله:
قال تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) [النساء/13]
وَهَذِهِ الأَنْصِبَةُ التِي حَدَّدَهَا اللهُ تَعَالَى لِلْوَرَثَةِ بِحَسَبِ قُرْبِهِمْ مِنَ المَيِّتِ هِيَ حُدُودُ اللهِ، فَلاَ تَعْتَدُوا فِيها، وَلاَ تَتَجَاوَزُوهَا. وَمَنْ يُطِعْ أَمْرَ اللهِ، وَأَمْرَ رَسُولِهِ، فَيمَا فَرَضَهُ اللهُ لِلْوَرَثَةِ، فَلَمْ يُنْقِصْ لِبَعْضِهِمْ، وَلَمْ يَزِدْ بَعْضَهُمْ بِحِيلةٍ أَدْخَلَهُ اللهُ جَنَّةً تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأَنْهَارُ خَالِداً فِيها، وَهَذا هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ.
(23) أداء الفرائض:(2/505)
قال تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) [البقرة/2 - 5]
لاَ شَكَّ في أَنَّ هَذَا القُرآنَ (الكِتَابُ) مُنْزَلٌ مِنْ عِندِ اللهِ، وَهُوَ هُدًى وَنُورٌ يَهتَدِي بِهِ المُتَّقُونَ، الذِينَ يَجتَهِدُونَ في العَمَلِ بِطَاعَةِ اللهِ، وَيَتَّقُونَ الشِّرْكَ وَأَسْبَابَ العِقَابِ.
وَهؤلاءِ المُتَّقُونَ هُمُ الذينَ يُصَدِّقُونَ بِحَزمٍ وَإيمانٍ وإِذعَانٍ بما لاَ يَقَعُ تَحْتَ حَواسِّهِمْ (الغَيْبِ) فَيُؤْمِنُونَ بِاللهِ، وَبِمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَجَنَّتِهِ وَلِقَائِهِ، وَبِالحَيَاةِ بَعْدَ المَوْتِ. وَهُمْ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ، وَيُؤَدُّونَها حَقَّ أَدَائِهَا وَيُتِمُّونَ - بِخُشُوعٍ تَامٍّ، وَحُضُورِ قَلْبٍ - رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا وَتِلاوَتَهَا، وَيُنْفِقُونَ ممَّا رَزَقَهُمُ اللهُ في وُجُوهِ الخَيرِ، وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ.
وَهؤلاءِ المُتَّقُونَ هُمُ الذينَ يُصَدِّقُونَ بما جِئْتَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَبمَا أُنزِلَ عَلَى مَنْ قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ، لا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمْ، وَلا يَجْحَدُونَ بما جَاؤُوهُمْ بِهِ مِنْ رَبِّهِمْ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ بِصِدْقِ مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ النُّبُوَّاتُ مِنَ البَعْثِ وَالحِسَابِ في الآخِرَةِ.
فَهؤُلاءِ المُتَّصِفُونَ بالصِّفَاتِ المُتَقَدِّمَةِ: مِنْ إِيمَانٍ باللهِ، وَإِيمَانٍ بِالبَعْثِ وَالحِسَابِ، وَإِقَامَةِ الصَّلاَةِ، وَتَأْدِيةِ الزَّكَاةِ. . . هُمْ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَنُورٍ وَبَصِيرَةٍ، وَهُمُ المُفْلِحُونَ الفَائِزُونَ الذِينَ أَدْرَكُوا مَا طَلَبُوهُ بعدَ السَّعيِ الحَثِيثِ فِي الحُصُولِ عَليهِ، وَنَجَوْا مِنْ شَرِّ مَا اجْتَنَبُوهُ.(2/506)
وقال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) [المائدة/12]
يَقُولُ تَعَالَى: إنَّهُ أَخَذَ العُهُودَ وَالمَوَاثِيقَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ لَيَعْمَلُنَّ بِأَحْكَامِ التَّورَاةِ التِي تَحْوي شَرِيعَتَهُمْ. وَأَمَرَ مُوسَى عَلَيهِ السَّلاَمُ، بِأنْ يَخْتَارَ مِنْ كُلِّ سِبْطٍ، مِنْ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الاثْنَيِ عَشَرَ، نَقِيباً يَكُونُ كَفِيلاً عَلَى جَمَاعَتِهِ، بِالوَفَاءِ بِتَنْفِيذِ مَا أُمرُوا بِهِ، فَاخْتَارَ مُوسَى النُّقَبَاءَ، وَأَخَذَ المِيثَاقَ وَتَكَفَّلَ لَهُ النُّقَبَاءُ بِالوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمُوا بِهِ. فَسَارَ بِهِمْ مُوسَى إلى الأرْضِ المُقَدَّسَةِ التِي وَعَدَهُمُ اللهُ السُّكْنَى فِيهَا، وَكَانَ فِيها الكَنْعَانِيُّونَ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا بَعَثَ مُوسَى النُّقَبَاءَ يَتَحَسَّسُونَ الأخْبَارَ، فَرَأوا أجْسَامَ الكَنْعَانِيِّينَ قَوَّيةً، فَهَابُوهُمْ، وَرَجَعُوا يُحَدِّثُونَ قَوْمَهُمْ بِمَا رَأوا، وَكَانَ مُوسَى قَدْ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَنَكَثُوا المِيثَاقَ، وَلَمْ يَلْتَزِمْ بِهِ إلاَّ نَقِيبَانِ.(2/507)
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى لِبَني إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَان مُوسَى عَلَيهِ السَّلاَمُ: إنَّكُمْ بِحِفْظِي وَرِعَايَتِي، وَإنِّي نَاصِرُكُمْ وَمُعِينُكُمْ مَا دُمْتُمْ مُحَافِظِينَ عَلَى المِيثَاقِ، وَإني مَشْرِفٌ عَلَيكُمْ، وَمُبْصِرٌ لأَفْعَالِكُمْ، سَمِيعٌ عَلِيمٌ بِضَمَائِرِكُمْ، وَقَادِرٌ عَلَى مُجَازَاتِكُمْ، فَإذا أقَمْتُمُ الصَّلاَةَ، وَأدَّيتُمُوهَا حَقَّ أَدَائِها، وَدَفَعْتُمْ زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي جَمِيعاً، وَصَدَّقْتُمُوهُمْ فِيمَا جَاؤُوا بِهِ مِنَ الوَحْي، وَنَصْرَتُمُوهُمْ وَآزَرْتُمُوهُمْ عَلَى الحَقِّ (عَزَّرْتُمُوهُمْ)، وَأَنْفَقْتُم الأَمْوَالَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ (أَقْرَضَتْمُ اللهُ). . . إذَا فَعَلْتُمْ كُلَّ ذَلِكَ لأكَفِّرنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ، وَأمْحُونَّ ذُنُوبَكُمْ، وَأسْتُرُهَا عَلَيكُمْ، وَلا أَؤاخِذُكُمْ عَلَيها وَلأدْخِلَنَّكُمْ فِي رَحْمَتِي، وَأسْكِنُكُمْ جَنَّتِي التِي تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ. وَمَنْ خَالَفَ هَذا المِيثَاقَ بَعْدَ عَقْدِهِ وَتَوْكِيدِهِ، فَقَدْ أَخْطَأَ الطَّرِيقَ الوَاضِحَ، وَعَدَلَ عَنِ الهُدَى إلَى الضَّلالِ.
وقال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) [التوبة/71، 72](2/508)
المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَيْنَهُمْ أُخُوَّةٌ، وَمَوَدَّةٌ، وَتَعَاوُنٌ، وَتَرَاحُمٌ، وَيَتَّصِفُونَ بِالصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ التِي يَأْمُرُهُمْ بِهَا دِينُهُمْ: فَيَتَنَاصَرُونَ وَيَتَعَاضَدُونَ وَيَفْعَلُونَ الخَيْرَ، وَيَأْمُرُونَ بِهِ، وَيَنْتَهُونَ عَنِ المُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ، وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤَدُّونَهَا حَقَّ أَدَائِهَا، وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا، وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَمَرَ، وَيَتْرُكُونَ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ. وَالمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الطَّيِّبَةِ الْكَرِيمَةِ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللهُ عَزِيزُ الجَانِبِ، يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ حَكِيمٌ فِي قِسْمَتِهِ الصِّفَاتِ بَيْنَ خَلْقِهِ، فَجَعَلَ المُؤْمِنِينَ يَخْتَصُّونَ بِالصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ، وَالمُنَافِقِينَ يَخْتَصُّونَ بِالصِّفِاتِ الذَمِيمَةِ المُنْكَرَةِ.
وَعَدَ اللهُ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ أَنَّهُ سَيُدْخِلُهُمْ فِي الآخِرَةْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ، يُقِيمُونَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً، فِي مَسَاكِنَ طَيِّبَةْ حَسَنَةِ البِنَاءِ، وَطَيِّبَةِ القَرَارِ فِي هَذِهِ الجَنَّاتِ، وَوَعَدَهُمْ بِرِضْوَانٍ مِنْهُ أَكْبَرَ وَأَجَلَّ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَا أَهْلَ الجَنَّةِ. فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى يَا رَبُّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ. فَيَقُولُ: أَلاَ أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: وَأَيُّ شَيءٍ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَداً " (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَمَالِكُ).
(24) الذين آمنوا بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أهل الكتاب:(2/509)
قال تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) [المائدة/82 - 85](2/510)
يَقُولُ تَعَالَى: إنَّ أَكْثَر النَّاسِ عَدَاوَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (الذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّبَعُوهُ)، هُمُ اليَهُودُ وَالمُشْرِكُونَ. وَإِنَّ أَقْرَبَ النَّاسِ مَوَدَّةً لِلْمُسْلِمِينَ هُمُ النَّصَارَى، الذِينَ قَالُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ إنَّهُمْ يُتَابِعُونَ المَسِيحَ عَلَى دِينِهِ، لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الرِّقَّةِ وَالرَّأْفَةِ، وَلأَنَّ بَيْنَهُمْ قِسِّيسِينَ يَتَوَلَّوْنَ تَعْلِيمَهُمْ أَحْكَامَ الدِّينِ، وَيُبَصِّرُونَهُمْ بِمَا فِي دِينِهِمْ مِنْ سُمُوٍّ وَآدَابٍ وَفَضَائِلَ، وَلأَنَّ بَيْنَهُمْ رُهْبَاناً يَضْرِبُونَ لَهُمُ المَثَلَ فِي الزُّهْدِ وَالتَقَشُّفِ وَالإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيا وَزُخْرُفِهَا وَفِتْنَتِهَا، وَيُنَمُّونَ فِي نُفُوسِهِمُ الخَوْفَ مِنَ اللهِ، وَالانْقِطَاعَ لِلْعِبَادَةِ، وَإنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنِ الإِذْعَانِ لِلْحَقِّ، حِينَمَا يَتَبَيَّنُ لَهُمْ أنَّهُ حَقٌّ. (كَانَ اليَهُودُ وَالمُشْرِكُونَ يَشْتَرِكُونَ فِي بَعْضِ الصِفَاتِ التِي اقْتَضَتْ عَدَاوَتَهُمُ الشَّدِيدَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ: كَالكِبْرِ وَالعُتُوِّ وَالبَغْيِّ وَالأَثَرَةِ وَالقَسْوَةِ، وَضَعْفِ العَاطِفَةِ الإِنْسَانِيَّةِ (مِنْ حَنَانٍ وَرَحْمَةٍ) وَالعَصَبِيَّةِ القَوْمِيَّةِ. وَكَانَ مُشْرِكُو العَرَبِ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ أَرَقَّ مِنَ اليَهُودِ قُلُوباً، وَأَعْظَمَ سَخَاءً وَإِيثَاراً، وَأَكْثَرَ حُرِّيَّةً فِي الفِكْرِ وَاسْتِقْلالاً فِي الرَّأْيِ).(2/511)
وَإذَا سَمِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنَ القُرْآنِ، وَتُلِيَ عَلَيْهِمُ القُرْآنَ، تُفيِضُ عُيُونُهُمْ بِالدَّمْعِ (أَيْ يَبْكُونَ حَتَّى يَسيلَ الدَّمعُ مِنْ عُيُونِهِمْ)، لأَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّ مَا بَيْنَهُ القُرْآنُ هُوَ الحَقُّ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ عُتُوٌّ وَلاَ اسْتِكْبَارٌ وَلا تَعَصُّبٌ كَمَا يَمْنَعُ غَيرَهُمْ. وَحِينَ يَسْمَعُونَ الحَقَّ الذِي جَاءَ بِهِ القُرْآنُ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا جَاءَ فِي كُتُبِهِمْ، يَتَضَرَّعُونَ إلى اللهِ بِأنْ يَتَقَبَّلَ مِنْهُمْ إيمَانَهُمْ وَأنْ يَكْتُبَهُمْ مَعْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ الذِينَ جَعَلَهُمُ اللهُ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، لأنَّهُمْ يَعْلمُونَ مِنْ كُتُبِهِمْ، وَمِمَّا يَتَنَاقََلُونَهُ عَنْ أَسْلاَفِهِمْ، أنَّ النَّبِيَّ الأَخِيرَ الذِي يَكْمُلُ بِهِ الدِّيْنُ، وَيَتمُّ التَّشْرِيعُ، يَكُونُ مُتَّبِعُوهُ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكُونُونَ حُجَّةً عَلَى المُشْرِكِينَ وَالمُبْطِلِينَ. وَيَقُولُ هَؤُلاَءِ المُؤْمِنُونَ مِنَ النَّصَارَى: وَمَا الذِي يَمْنَعُنَا مِنْ أنْ نُؤْمِنَ بِاللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَمَا الذِي يَصُدُّنَا عَنِ اتِّبَاعِ مَا جَاءَنَا مِنَ الحَقِّ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعْدَ أنْ ظَهَرَ أنَّهُ رُوُحُ الحَقِّ الذِي بَشَّرَ بِهِ المَسِيحُ وَإِنَّنَا لَنَطْمَعُ أنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القَوْمِ الذِينَ صَلَحَتْ أَحْوَالُهُمْ بِالعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ. فَجَازَاهُمُ اللهُ عَلَى إِيمَانِهِمْ بِهِ وَبِرُسُلُهِ، وَعَلَى تَصْدِيقِهِمْ بِالحَقِّ، وَاعْتِرَافِهِمْ بِهِ بِإدْخَالِهِمْ فِي رَحْمَتِهِ، وَإسْكَانِهِمْ فِي جَنَّاتٍ تَجْرِي فِي جَنَبَاتِهَا الأَنْهَارُ، وَسَيَكُونُونَ فِيهَا خَالِدِينَ أبَداً وَذَلِكَ هُوَ الجَزَاءُ الذِي أَعَدَّهُ اللهُ لِمَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً.(2/512)
وقال تعالى: وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) [الأعراف/156، 157]
وَأَثْبِتْ لَنَا، بِرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ {واكتب لَنَا} حَيَاةً طَيِّبَةً فِي هذِهِ الدُّنيا، مِنْ عَافِيةٍ وَبَسْطَةٍ في الرِّزْقِ، وَتَوْفِيقٍ لِطَاعَةِ، وَمَثُوبَةٍ حَسَنَةٍ فِي الآخِرَةِ بِدُخُولِ الجَنَّةِ، وَنَيْلِ رِضْوَانِكَ، إِنَّنَا تُبْنَا إِلَيْكَ {هُدْنَآ إِلَيْكَ} مِمَّا فَرَطَ مِنْ سُفَهَائِنَا مِنْ عِبَادَةِ العِجْلِ، وَمِنْ تَقْصِيرِ العُقَلاءِ مِنّا فِي نَهْيِهِمْ وَالإِنْكَارِ عَلَيهِمْ.
وَرَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى دُعَاءِ مُوسَى قَائِلاً: لَقَدْ أَوْجَبْتُ أَنْ يَكُونَ عَذَابِي خَاصّاً أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ مِنَ الكُفَّارِ وَالعُصَاةِ، الذِينَ لَمْ يَتُوبُوا، أَمَّا رَحْمَتِي فَقَدْ وَسِعْتَ كُلَّ شَيءٍ، وَسَأُثْبِتُ رَحْمَتِي بِمَشِيئَتِي لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الكُفْرَ وَالمَعَاصِيَ، وَيُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ، وَيُؤْتُونَ الصَّدَقَاتِ التِي تَتَزَكَّى بِهَا نُفُوسُهُمْ، وَلِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ وَيُصَدِّقُونَ بِجَمِيعِ آيَاتِي الدَّالَّةِ عَلَى الوحْدَانِيَّةِ، وَيُصَدِّقُونَ رُسُلِي، وَمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ(2/513)
وَيُتَابِعُ اللهُ تَعَالَى وَصْفَ الذِينَ يَشْمَلُهُمْ بِرَحْمَتِهِ الوَاسِعَةِ فَيَقُولُ: إِنَّهُمْ الذِينَ يَتَّبِعُونَ مُحَمَّداً النَّبيِّ الأُمِّيَّ، الذِي لاَ يَكْتُبُ وَلاَ يَقْرَأُ، وَقَدْ جَاءَ وَصْفُهُ وَالبِشَارَةُ بِهِ فِي التَّورَاةِ وَالإِنْجِيلِ، وَهُوَ يَأْمُرُهُمْ بِفِعْلِ الخَيْرَاتِ، وَبِالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ فِعْلِ المُنْكَرِ، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، وَيَضَعُ عَنْهُمُ التَّكَالِيفَ الشَّاقَّةَ، كَاشْتِرَاطِ قَتْلِ النَّفْسِ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ، وَالقِصَاصِ فِي القَتْلِ العَمْدِ أَوِ الخَطَإِ، مِنْ غَيْرَ شَرْعٍ لِلدِّيَةِ، وَقَطْعِ الأَعْضَاءِ الخَاطِئَةِ، وَقَطْعِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ مِنَ الثَّوْبِ، وَتَحْرِيمِ السَّبْتِ. . . فَقَدْ جَاءَ مُحَمَّدٌ بِمَا هُوَ يُسْرٌ وِسَمَاحَةٌ.
[وَقَالَ رَسُولُ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوصِي أَمِيرِينِ أَرْسَلَهُمَا فِي بَعْثَينِ إِلى اليَمَنِ: " بَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلاَ تَخْتَلِفَا "].
وَوَسَّعَ اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمُورَهَا، وَسَهَّلَهَا لَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " فَالذِينَ آمَنُوا بِالرَّسُولِ النَّبِيِّ الأُميِّ، حِينَ بُعِثَ، مِنْ قَومِ مُوسَى وَعِيسَى، وَمِنْ كُلِّ أُمَّةٍ، وَعَزَّرُوهُ بِأَنْ مَنَعُوهُ وَحَمَوْهُ مِنْ كُلِّ مَنْ يُعَادِيهِ، مَعَ التَّعْظِيمِ وَالإِجْلاَلِ، وَنَصَرُوهُ بِاللِّسَانِ وَاليَدِ، وَاتَّبَعُوا النُّورَ الأَعْظَمَ الذِي أُنْزِلَ مَعَ رِسَالَتِهِ، وَهُوَ القُرآنُ. . فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ، الفَائِزُونَ بالرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ.
(25) الصادقون مع الله:
قال تعالى: قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) [المائدة/119](2/514)
وَحِينَ تَبَرَّأَ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، مِنْ عِباَدَةِ مَنْ عَبَدُوهُ، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِصِدْقِهِ، قَالَ تَعَالَى: هَذَا هُوَ اليَوْمُ الذِي يَنْفَعُ فِيهِ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ، وَالمُوَحِّدِينَ تَوْحِيدُهُمْ، وَسَتَكُونُ للصَّادِقِينَ جَنَّاتٌ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا، جَزَاءً وَفَاقاً لَهُمْ، وَسَيَكُونُونَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً، وَلَقَدْ فَازُوا بِرِضَا رَبِّهِمْ وَرِضَوَانِهِ، وَرَضُوا عَمَّا أَكْرَمَهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ، وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ الذِي لاَ أَعْظَمَ مِنْهُ.
(26) المجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم:
قال تعالى: لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) [التوبة/88 - 89]
إذَا تَخَلَّفَ الْمُنَافِقُونَ عَنِ الجِهَادِ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالمُؤْمِنِينَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَهَؤُلاَءِ وَعَدَهُمُ اللهُ بِالخَيْرَاتِ: فِي الدُّنْيَا بِتَحْقِيقِ النَّصْرِ، وَمَحُوِ الْكُفْرِ، وَإِعْلاَءِ كَلِمَةِ اللهِ، وَالتَّمَتُّعِ بِالمَغَانِمِ، وَفِي الآخِرَةِ بِرِضَا اللهِ وَجَنَّاتِهِ.
وَقَدْ أَعَدَّ اللهُ تَعَالَى لِهَؤُلاَءِ المُؤْمِنِينَ المُخْلِصِينَ المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ وَإِخْلاَصِهِمْ فِي طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، جَنَّاتٍ تَجْرِي الأنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا، وَهَذَا هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ.
(27) السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ومن اتبع طريقهم:(2/515)
قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) [التوبة/100]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ رِضَاهُ عَنِ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ المُهَاجِرِينَ، (وَهُمُ الذِينَ هَاجَرُوا قَبْلَ صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ)، وَمِنَ الأَنْصَارِ (وَهُمُ الذِينَ بَايَعُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْعَتَي العَقَبَةِ وَالرِّضْوَانِ)، وَعَلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ. وَيُخْبِرُ تَعَالَى بِرِضَاهُ عَنْهُمْ بِمَا أَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعْمَةٍ فِي الدُّنْيَا، مِنْ عِزٍّ وَنَصْرٍ وَمَغْنَمٍ وَهُدًى، وَبِمَا أَعَدَّهُ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ، مِنْ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَوَانِبِهَا، وَهُمْ مُخَلَّدُونَ فِيهَا أَبَداً. وَالفَوْزُ الذِي فَازَ بِهِ هَؤُلاَءِ الكِرامُ البَرَرَةُ هُوَ أَعْظَمُ الفَوْزِ.
(28) أن يكونوا من أولي الألباب:
قال تعالى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) [الرعد/19 - 24](2/516)
لا يَسْتَوِي المُهْتَدِي مِنَ النَّاسِ، الذِي يَعْلَمُ أَنَّ الذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الحَقُّ، الذِي لاَ شَكَّ فِيهِ، مَعَ الضَّالِّ، الذِي لاَ يَعْلَمُ ذَلِكَ، لأنَّهُ يَكُونُ كَالأَعْمَى لاَ يَهْتَدِي إِلَى خَيْرٍ، وَلاَ يَفْهَمُهُ، وَلَوْ فَهِمَهُ مَا انْقَادَ إِلَيْهِ، وَلاَ صَدَّقَ بِهِ وَلاَ انْتَفَعَ.؟ فَالذِينَ يَتَّعِظُونَ وَيَعْتَبِرُونَ هُمْ أَصْحَابُ العُقُولِ السَّلِيمَةِ، وَالبَصَائِرِ المُدْرِكَةِ (أُولُو الأَلْبَابِ).
وَالمُهْتَدُونَ الذِينَ سَتَكُونُ لَهُمُ العَاقِبَةُ وَالنُّصْرَةُ، فِي الدُّنْيا وَالآخِرَى، هُمُ الذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدُوا، وَلاَ يُنْقِضُونَ عَهْدَهُمْ مَعَ عِبَادِهِ، وَلاَ يَغْدُرُونَ بِذِمَّةٍ، وَلا يَفْجُرُونَ وَلاَ يَخُونُونَ.
وَهَؤُلاَءِ المُؤْمِنُونَ المُهْتَدُونَ يَصِلُونَ الأَرْحَامَ التِي أَمَرَ اللهُ بِوَصْلِهَا، وَيُحْسِنُونَ إِلَى الأَقْرِبَاءِ وَالفُقَرَاءِ، وَيُعَامِلُونَهُمْ بِالمَودَّةِ وَالحُسْنَى، وَيَبْذُلُونَ المَعْرُوفَ، وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ فِيمَا يَأْتُونَ، وَيُرَاقِبُونَهُ فِي ذَلِكَ، وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ، وَعَدَمِ الصَّفْحِ عَنْ ذُنُوبِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ.
وَهَؤُلاَءِ المُؤْمِنُونَ المُهْتَدُونَ يَصْبِرُونَ عَنِ ارْتِكَابِ المَحَارِمِ وَالمَآثِمِ، وَيَمْتَنِعُونَ عَنْ مُقَارَفَتِهَا طَاعةً للهِ، وَتَقَرُّباً إِلَيْهِ، وَطَمَعاً بِمَرْضَاتِهِ وَجَزيلِ ثَوَابِهِ، وَيُؤَدُّونَ الصَّلاةَ حَقَّ أَدَائِهَا، وَيُنْفِقُونَ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ عَلَى مَنْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ نَفَقَتُهُمْ، مِنْ أَقْرِبَاءَ وَمُحْتَاجِينَ وَسَائِلِينَ. . فِي السِّرِّ وَالعَلَنِ، لاَ يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ حَالٌ مِنَ الأَحْوَالِ، فَإِذَا آذَاهُمْ أَحَدٌ قَابَلُوهُ بِالجَمِيلِ صَبْراً، وَاحْتِمَالاً وَحِلْماً وَعَفْواً، فَهَؤُلاَءِ لَهُمْ حُسْنُ العَاقِبَةِ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ.(2/517)
وَتِلْكَ العَاقِبَةُ الحَسَنَةُ هِيَ دُخُولُ جَنَاتِ عَدْنٍ، وَالإِقَامَةُ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً، لاَ يَخْرُجُونَ مِنْهَا. وَيَجْمَعُ اللهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَحْبَابِهِمْ مِنَ الآبَاءِ وَالأَزْوَاجِ وَالأَبْنَاءِ الصَّالِحِينَ لِدُخُولِ الجَنَّةِ، لِتَقَرَّ بِهِمْ أَعْيُنُهُمْ؛ وَتَدْخُلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ مِنْ كُلِّ بَابٍ مُسْلِمِينَ مُهَنِّئِينَ بِدُخُولِ الجَنَّةِ، وَبِرِضْوَانِ اللهِ عَلَيْهِمْ. وَتَقُولُ لَهُمُ المَلاَئِكَةُ: سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ، وَأَمْنٌ دَائِمٌ لَكُمْ، لَقَدْ صَبَرْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَاحْتَمَلْتُمُ المَشَاقَّ وَالآلاَمَ، فَفُزْتُمْ بِرِضْوَانِ اللهِ، فَنَعِمَتْ عَاقِبَتُكُمْ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ.
(29) المتواضعون الخاشعون:
قال تعالى: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) [السجدة/15 - 19]
إِنَّمَا يُصَدِّقُ بآياتِ اللهِ الذِينَ إِذا وُعِظُوا بها استَمَعوا إِليها خَاشِعين، وأَطَاعُوها مُمْتَثِلينَ، وَخُرُّوا سُجَّداً للهِ خُضُوعاً وَخَشْيَةً، وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن اتِّبَاعِها، وَالانِقِيَادِ إِِليها.
وَهُمْ يَهْجُرونَ مَضَاجِعَهُمْ لِيَقُومُوا في اللِّيلِ إِلى الصَّلاةِ والنَّاسُ نِيَامٌ، وَلِيَدْعُوا رَبَّهُمْ تَضَرُّعاً إِليهِ، وَخَوْفاً مِنْ سَخطِهِ وَطَمَعاً فِي عَفْوِهِ عَنْهُمْ، وَمَغْفِرَتِهِ لَهُمْ، وَيُنْفِقُونَ مِمَّا رَزَقَهُمُ مِنْ مَالٍ.(2/518)
وَلاَ يَعْلَمُ أَحَدٌ عَظَمَةَ مَا أَعَدَّهُ اللهُ تَعَالى لِهؤلاءِ الكِرامِ البَرَرَةِ وَأَخْفَاهُ فِي الجَنَّاتِ مِنَ النًَّعيمِ المُقِيمِ، واللذَائِذِ التِي لَمْ يَطَّلِعْ أَحَدٌ عَلى مِثْلِها، جَزَاءً وِفَاقاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، لَقَدْ أَخْفَوا أَعْمَالَهُمْ فَأَخْفَى اللهُ لَهُمْ مَا لَمْ تَرَهُ عَيْنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلبِ بَشَرٍ.
(30) من اصطفاهم الله تعالى من هذه الأمة:
قال تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) [فاطر/32 - 35]
ثُمَّ جَعَلَ اللهُ تَعَالى القَائِمِينَ بالقُرآنِ العَظيمِ، هُمُ الذِينَ اصْطَفَاهُمْ مِنْ عِبَادِهِ، مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، وَأَوْرَثَهُمُ الكِتَابَ. وَقَالَ تَعَالى في مَكَانٍ آخَرَ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الذِينَ اصْطَفَاهُمُ اللهُ لِلقِيَامِ بِالقُرآنِ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَهُمْ أقسَاماً ثَلاَثَةً:
- مِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُفَرِّطٌ فِي فِعْلِ بَعْضِ الوَاجِبَاتِ، مُرْتَكِبٌ بَعْضَ المُحَرَّمَاتِ.(2/519)
- وَمِنْهُمْ مُقَتَصِدٌ، وَهُوَ القَائِمُ بِالوَاجِبَاتِ، التَّارِكُ لِلْمُحَرَّمَاتِ، وَقَدْ يُقَصِّرُ في فِعْلِ بَعْضِ المُسْتَحَبَّاتِ، وَيَفْعَلُ بَعْضَ المَكْرُوهَاتِ.- وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ - وَهُوَ الفَاعِلُ لِلْوَاجِبَاتِ، وَالمُسْتَحَبَّاتِ، التَّارِكُ لِلْمُحَرَّماتِ والمَكْرُوهَاتِ. وَذَلِكَ المِيرَاثُ، وَذَلِكَ الاصْطِفَاءُ، فَضْلٌ عَظِيمٌ مِنَ اللهِ لاَ يُقَدَّرُ قَدْرُهُ. وهؤلاءِ الكِرَامُ الذِينَ اصْطَفَاهُمْ اللهُ من عباده، الذين أُوْرِثُوا القُرآنَ، والكُتُبَ السَّابِقَةَ، سَتَكُونُ جَنَّاتُ الإِقَامَةِ (جَنَّاتُ عَدْنٍ) هِيَ مأْوَاهُمْ، يَوْمَ القِيَامَةِ، وَيَلْبَسُونَ فِيها حَلِيّاً مِنْ ذَهَبٍ، وَلُؤْلُؤٍ، وَيَلْبَسُونَ فِيهَا ثِيَاباً مِنْ حَرِيرٍ، وَهذِهِ الجَنَّاتُ هِيَ الفَضْلُ الكَبِيرُ الذِي مَنَّ اللهُ بِهِ عَلَيْهِمْ. وَيَقُولُونَ حِينَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ، وَيَلْبَسُونَ الحَرِيرَ، وَيَتَحَلَّونَ بِالذَّهَبِ وَاللُؤْلُؤِ: الْحَمْدُ للهِ الذِي أَذْهَبَ عَنَّا الخَوْفَ (الحَزَنَ) مِمَّا كُنَّا نَحْذَرُ وَنَتَخَوَّفُ. إِنَّ رَبَّنا سُبَحَانَهُ وَتَعَالى غَفُورٌ لِذُنُوبِ المُذْنِبِينَ، شُكُورٌ لأَفْعَالِ المُطِيعِينَ. واللهُ تَعَالى هُوَ الذِي أَعْطَانَا هذِهِ المَنزِلَةَ وَهذَا المَقَامَ الكَرِيمَ مِنْ فَضْلِهِ وَمَنِّهِ وَرَحْمَتِهِ، وَلَمْ تَكُنْ أَعْمَالُنا لِتَبْلُغَ ذَلِكَ، لاَ يَمَسُّنا فِي هذِه الدَّارِ عَنَاءٌ وَلاَ تَعَبٌ وَلاًَ إِعْيَاءٌ.
(31) المخلصون:
وقال تعالى: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآَبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) [ص/45 - 54](2/520)
وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ أَيْضاً صَبْرَ عِبَادِ اللهِ: إِبْرَاهِيمَ وإِسْحَاقَ وَيَعْقًُوبَ، الذِينَ شَرَّفَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِطَاعَتِهِ، وَقَوَّاهُمْ عَلَى العَمَلِ الصَّالِحِ الذِي يَرْضَى الله عَنْهُ، وَآتَاهُمُ البَصِيرَةَ فِي الدِّينِ والفِقْهِ فِي أَسْرَارِهِ، والعَمَلِ بِطَاعَةِ رَبِّهِمْ، فَجَعَلَهُمْ مِمَّنْ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَ بِأَيْدِيهِمْ، وَيَتَفَكَّرُونَ بِعُقُولِهِمْ.
(وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي مَعْنَى أُوْلِي الأَيْدِي: إنَّهُمْ ذَوُو قُوَّةٍ، وَقَالَ فِي مَعْنَى (وَالأَبْصَارِ)، إِنَّهُ الفِقْهُ فِي الدِّينِ).وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَخْلَصَهُمْ وَمَيَّزَهُمْ خَاصَّةٍ، هِيَ ذِكْرُهُمُ الدَّار الآخِرَةَ لِيَعْمَلُوا لَهَا، فَهَذِهِ مِيزَتُهُمْ وَرِفْعَتُهُمْ.
وَهَذِهِ السَّيرَةُ جَعَلَتْهُمْ عِنْدَ اللهِ مَجتَبْينَ أَخْيَاراً، وَمُصْطَفَيْنَ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ. وَاذْكُر أَنْبِيَاءَ اللهِ إِسْمَاعِيلَ واليَسَعَ وَذَ الكِفْلِ الذِينَ شَرَّفَهُمُ اللهُ تَعَالَى، وَجَعَلَهُمْ مِنَ المُصْطَفَيْن الأَخْيَارِ وَتَأَمَّلْ صَبْرَهُمْ، وَرَحْمَةَ اللهِ بِهِمْ.
وَهَذَا الذِي تَقَدَّمَ سَرْدُهُ، مِنْ أَخْبَارِ الأَنْبِيَاءِ الكِرَامِ، فِيهِ ذِكْرٌ لَهُمْ، وَشَرَفٌ، وَإِشَادَةٌ بِمَحَاسِنِهِمْ، وَفِيهِ تَذْكِيرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ. والمُؤْمِنُونَ السُّعَدَاءُ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ المُنْقَلبُ الحَسَنُ، وَالمآبُ الكَرِيمُ.
وَهَذَا المآبُ الحَسَنُ هُوَ جَنّاَتُ اسْتِقْرَارٍ وَإِقَامَةٍ مُفَتَّحَةٌ أَبْوَابُهَا إِكْرَاماً لَهُمْ لِيَدْخُلُوهَا آمِنِينَ. وَيَجْلِسُون فِي الجَنَّةِ مُتَّكِئِينَ عَلَى الأَرَائِكِ فِي وَضْعِ المُطْمَئِنِّ المُرْتَاحِ فِي جَلْسَتِهِ، وَيَطْلُبُونَ مَا يَشَاؤُونَ مِنْ أَنْوَاعِ الفَوَاكِهِ والشَّرَابِ بِلاَ تَحْدِيدٍ، وَهَذَا هُوَ مُنْتَهَى النَّعِيمِ.
وَعِنْدَهُمْ نِسَاءٌ لاَ يَمْدُوْنَ أَبْصَارَهُنَّ إِلَى غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ حَيَاءً وَخَفَراً، وَهُنَّ مُتَسَاوِيَاتٌ فِي السِّنِّ مَعَهُمْ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى إِلَى الوِفَاقِ بَيْنَهُمْ.
وَهَذَا النَّعِيمُ فِي الجَنَّاتِ التِي وَصَفَهَا اللهُ تَعَالَى، فَيمَا تَقَدَّمَ، هُوَ مَا وَعَدَ اللهُ عِبَادَهُ المُتَّقِينَ بِأَنَّهُ سَيجْزِيهِمْ بِهِ فِي يَوْمِ الحِسَابِ فِي الآخِرَةِ.(2/521)
(32) من تابوا واتبعوا سبيل الله:
قال تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) [غافر/7 - 9]
إِنَّ المَلاَئِكَةَ الذِينَ يَحْمِلُونَ عَرْشَ رَبِّهِمْ، وَالمَلاَئِكَةَ الذِينَ هُمْ مِنْ حَوْلِهِ يُنَزِّهُونَ اللهَ تَعَالَى، وَيَحْمَدُونَهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلاَئِهِ، وَلاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ، وَيَسْأَلُونَهُ تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ لِلمُسِيِئينَ الذِينِ تَابُوا وَأَقْلَعُوا عَمَّا كَانُوا فِيهِ، وَاتَّبَعُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ رَبُّهِمْ مِنْ فَعْلِ الخَيرِ، وَتَرَكِ المُنْكَرِ، وَيَسْأَلُونَهُ تَعَالَى أَنْ يُجَنِّبَ (يَقِي) هَؤُلاَءِ التَّائِبِينَ الْمُنِيبِينَ عَذَابَ النَّارِ.(2/522)
وَتُتَابعَ المَلاَئِكَةُ الأَطْهَارُ دُعَاءَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ التَّائِبِينَ، فَيَسْأَلُونَ رَبَّهُم تَعَالَى أَنْ يُدْخِلَهُم الجَنَّاتِ التِي وَعَدَهُمْ تَعَالَى بِهَا عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَأَنْ يُدْخِلَ مَعَهُم الجَنَّاتِ الصَّالِحِينَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِيَّاتِهِمْ لِتَقَرَّ بِهِمْ أَعْيُنُهُمْ، فَإِن الاجْتِمَاعَ بِالأَهْلِ والعَشِيرَةِ فِي مَوَاضِعِ السُّرُورُ يَكُونَ أَكْمَلَ لِلْبَهْجَةِ والأُنْسِ، فَأَنْتَ يَا رَبّ الغَالِبُ الذِي لاَ يُقَاوَمُ، الحَكِيمُ فِي شَرْعِهِ وَفَعْلِهِ وَتَدْبِيرِهِ. وَاصْرِفْ عَنْهُمْ عَاقِبَةَ مَا اقْتَرَفُوهُ مِنْ فِعْلِ السَّيِّئَاتِ قَبْلَ تَوْبَتِهِمْ (أَوِ اصْرِفْ عَنْهُمْ فِعْلَ السَّيِّئاتِ)، وَمَنْ تَصْرِفْ عَنْهُ عَاقِبَةَ مَا ارْتَكَبَ مِنْ السَّيِّئَاتِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَإِنَّكَ تَكُونَ قَدْ رَحِمْتَهُ، وَنَجَّيْنَهُ مِنْ عَذَابِكَ، وَهَذَا هُوَ الفَوْزُ الأَكْبَرُ الذِي لاَ يَعْدِلُهُ فَوْزٌ.
(33) طاعة الله والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
قال تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) [الفتح/17](2/523)
يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالى في هذِهِ الآيَةِ الأَعْذَارَ المُبِيحَةَ للقُعُودِ عَنِ الجِهَادِ، فَيَقُولُ: إِنَّهُ لا إِثمَ وَلاَ مَلاَمةَ عَلَى الذِينَ يَتَخَلَّفُونَ عنِ الخُرُوجِ إِلى الجِهَادِ مَعَ المُؤْمِنِينَ بِسَبَبِ مَا بِهِمْْ مِنْ عِلَلٍ تَمْنَعُهُمْ مِنَ الخُرُوجِ، وَمِنَ القِتَالِ: كَالعَمَى وَالعَرَجِ وَالمَرضِ. ثُمَّ حَثَّ اللهُ تَعَالى المُؤْمِنينَ عَلى الجِهَادِ، وَرَغَّبَهُم فِيهِ، وَبَيَّنَ لَهُم مَا أَعَدَّهُ لِلْمَجَاهِدِينَ مِنْ أجرٍ وَثَوابٍ في الآخِرَةِ، فَقَالَ تَعَالى: وَمَنْ يُطِع اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُجِبِ الدَّعْوةَ إِلى مُجَاهَدَةِ الكُفَّارِ والمُشْرِكِينَ دِفَاعاً عَنْ دِينهِ، وَإعلاءً لِكَلِمَةِ رَبِّهِ، فَإِنَّ اللهَ سَيُدْخِلُهُ يَومَ القِيَامَةِ جِنَّاتٍ تَجري الأَنْهارُ مِنْ تَحْتِها، وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيَرْفُضِ الخُرُوجَ إِلى الجِهَادِ فإِنَّ اللهَ سَيُعَذِّبُه عَذَاباً أَلِيماً.
(34) الذين لا يوادون من حادَّ الله ورسوله:
قال تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) (المجادلة)(2/524)
لاَّ تَجِدُ قَوْماً يَجْمَعُونَ بَيْنَ الإِيْمَانِ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَبَينَ مُوَادَّةِ أَعْدَاءِ اللهِ وَأَعْدَاءِ رَسُولِهِ، لأَنَّ المُؤْمِنِينَ حَقّاً لاَ يُوَالُونَ الكَافِرِينَ، وَلَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ الكَافِرُونَ هُمْ أَهْلَهُمْ، وَأَقْرِبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ الذِينَ هُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيهِمْ، وَالمُؤْمِنُونَ الذِينَ يَمْتَنِعُونَ عَنْ مُوَادَّةِ الكَافِرِينَ، وَلَوْ كَانُوا أَقْرَبَاءَهُمْ وَعَشِيرَتَهُمْ، هُمُ الذِينَ ثَبَّتَ اللهُ الإِيْمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى، وَقَوَّاهُمْ بِطُمَأْنِينَةِ القَلْبِ، وَالثَّبَاتِ عَلَى الحَقِّ {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ}، وَسَيُدْخِلُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ، وَيَبْقَوْنَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً، رَضِيَ اللهَ عَنْهُمْ، وَأَدْخَلَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ، فَأَدْخَلَهُمُ الجَنَّاتِ، وَرَضُوا بِمَا آتَاهُم اللهُ عَنْهُمْ، وَأَدْخَلَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ، فَأَدْخَلَهُمُ الجَنَّاتِ، وَرَضُوا بِمَا آتَاهُم اللهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَبِمَا عَوَّضَهُمْ بِهِ لاِسْخَاطِهِم الأَقَارِبَ وَالأَبْنَاءَ. وَهَؤُلاَءِ هُم أَنْصَارُ اللهِ، وَجُنْدُهُ، وَحِزْبُهُ، وَأَهْلُ كَرَامَتِهِ، وَهُمْ أَهْلُ الفَلاَحِ وَالسَّعَادَةِ والنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
(35) الإيمان بالله ورسوله والمجاهدون في سبيله:
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) [الصف/10 - 13](2/525)
يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ بِاللهِ، وَالمُصَدِّقُونَ بِرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ وَآيَاتِهِ، أَلاَ تُرِيدُونَ أَنْ أَدُلِّكُمْ عَلَى صَفَقَةٍ رَابِحَةٍ، وَتِجَارَةٍ نَافِعَةٍ، تَفُوزُونَ فِيهَا بِالرِّبْحِ العَظِيمِ، وَتْنْقِذُكُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ الأَلِيمِ يَوْمَ القِيَامَةِ؟
وَهِذِهِ الصَّفَقَةُ هِيَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَتَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَتَصَدِّقُوا بِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ، وَمَا أَنْزَلَهَ عَلَيْهِ مِنَ القُرْآنِ وَتُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ رَفْعِ كَلِمَةِ اللهِ، وَعِزَّةِ دِينِهِ، بِأَنْفُسِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ، كَانَ ذَلِكَ خَيْراً لَكُمْ مِنْ كُلِّ شَيءٍ فِي الدُّنْيَا: مِنَ النَّفْسِ وَالمَالِ وَالزَّوْجِ وَالوَلَدِ، هَذَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا أَعَدَّهُ اللهَ لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ المُخْلِصِينَ المُجَاهِدِينَ فِي الآخِرَةِ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
وَإِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ سَتَرَ اللهُ ذُنُوبِكُمْ وَمَحَاهَا، وَأَدْخَلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا، وَأَسْكَنَكُمْ مَسَاكِنَ طَيِبةً تَقَرُّ بِهَا العُيُونَ، وَهَذا هُوَ مُنْتَهَى ما تَصْبُوا إِليهِ النُّفُوسُ، وَهُوَ الفَوْزُ الذِي لاَ فَوْزَ أَعْظَمَ مِنْهُ.
وَلَكُمْ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ المُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى، مَعَ الفَوْزِ فِي الآخِرَةِ، الذِي وَعَدَكُمْ اللهُ بِهِ، نِعْمَةٌ أُخْرَى تُحِبُّونَها، وَهِيَ نَصْرٌ مِنَ اللهِ، وَفَتْحٌ قَرِيبٌ، تَجْنُونَ مَغَانِمَهُ، وَبَشِّرْ يَا مُحَمَّدُ المُؤْمِنينَ بِهَذَا الجَزَاءِ.
(36) أصحاب التوبة النصوح:
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) [التحريم/8](2/526)
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَتُوبُوا تَوْبَةً صَادِقَةً جَازِمَةً تَمْحُو مَا سَبَقَهَا مِنَ السَّيِّئَاتِ.
" وَسُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ فَقَالَ: هُوَ النَّدَمُ عَلَى الذَّنْبِ حِينَ يَفْرُطُ مِنْكَ، فَتَسْتَغْفِرُ الله بِنَدَامَتِكَ مِنْهُ عِنْدَ الحَاضِرِ، ثُمَّ لاَ تَعُودُ إِليهِ أَبداً " (أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ).
ثُمَّ يُبَيِّنُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ إِنْ تَابُوا تَوْبَةً نَصُوحاً تَابَ اللهُ عَليهِمْ، وَغَفَرَ لَهُمْ، وَأَدخَلَهُمْ بِرَحْمَتِهِ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا فِي يَوْمِ القِيَامَةِ. وَهُوَ اليومُ الذِي يَرْفَعُ الله فِيهِ قَدْرَ رَسُولِهِ الكَرِيمِ، وَقَدْرَ المُؤْمِنينَ مَعَهُ. وَيَجْعَلُ نُورَهُمْ فِي ذَلِكَ اليَومِ يَسْعَى بَينَ أَيْدِيهِمْ، حِينَ يَمْشُونَ وَكُتُبُهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، وَيَسْأَلُونَ رَبَّهُمْ أَنْ يُبْقِي لَهُمْ نُورَهُمْ، فَلا يَطْفِئُهُ حَتَّى يجُوزُوا الصِّرَاطَ بِهِ، وَيَسْتَغْفِرُونَ رَبَّهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِم السَّالِفَةِ، وََيَقُولُونَ: رَبَّنَا العَظِيمَ إِنَّكَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَلاَ يُعْجِزُكَ شَيءٌ.
(37) من اتصفوا بالصفات التالية:(2/527)
قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) [المعارج/19 - 38]
إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ سَرِيعَ الانْفِعَالِ والتَّأَثُّرِ، فَهُوَ شَدِيدُ الجَزَعِ، إِذَا مَسَّهُ مَكْرُوهٌ، كَثِيرُ المَنْعِ، إِذَا نَزَلَتْ بِهِ نِعْمَةٌ. ثُمَّ فَسَّرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ والتِي بَعْدَهَا مَعْنَى قَوْلِهِ (هَلُوعاً)، فَقَالَ: إِنَّ الإِنْسَانَ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ والضُّرُّ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الحُزْنُ، وَانْخَلَعَ قَلْبُهُ مِنْ شِدَّةِ الرُّعْبِ، وَيَئِسَ مِنْ أَنْ يَصِلَ إِلَيهِ خَيْرٌ بَعْدَهَا أَبَداً. وَإِذَا حَصَلَتْ لَهُ نِعْمَةٌ مِنَ اللهِ بَخِلَ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ، وَمَنَعَ حَقَّ اللهِ فِيهَا.
وَلاَ يَسْتَثْنِي اللهُ تَعَالَى مِنْ صِفَاتِ الإِنْسَانِ الذَمِيمَةِ، التِي تَتَمَثَّلُ بِالهَلَعِ وَالجَزَعِ وَالمَنْعِ، إِلاَّ المُؤْمِنِينَ الذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ إِلَى الخَيْرِ، وَهُمْ المُصَلُّونَ.
الذِينَ يُحَافِظُونَ عَلَى أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا، لاَ يَشْغَلُهُمْ عَنْهَا شَاغِلٌ، وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى فَضْلِ المُدَاوَمَةِ عَلَى العِبَادَةِ.(2/528)
وَالذِينَ يَجْعَلُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ نَصِيباً مُعَيَّناً يُنْفِقُونَهُ تَقَرُّباً مِنَ اللهِ، وَطَلَباً لِمْرَضَاتِهِ. يُنْفِقُونَهُ عَلَى ذَوِي الحَاجَاتِ والبَائِسِينَ الذِينَ يَسْأَلُونَهُمُ العَوْنَ.
وَالذِينَ يُؤْمِنُونَ بِيَوْمِ المَعَادِ وَالحِسَابِ فَيَعْمَلُونَ لَهُ وَتَظْهَرُ آثَارُ ذَلِكَ فِي أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَتَصَرُّفَاتِهِمْ.
وَالذِينَ هُمْ خَائِفُونَ وَجِلُونَ مِنْ تَرْكِهِم الفُرُوضَ وَالوَاجِبَاتِ، وَمِنِ ارْتِكَابِ المَحْظُورَاتِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَباً فِي حِرْصِهِمْ عَلَى أَدَاءِ.
وَلاَ يَنْبَغِي لِعَاقِلِ أَنْ يَأَمَنَ عَذَابَ اللهِ، وَإِنْ زَادَ فِي الطَّاعَاتِ، وَلاَ يَأْمَنُهُ أَحَدٌ إِلاَّ بِأَمَانٍ مِنَ اللهِ.
والذِينَ يَكُفُّونَ أَنْفُسَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّسَاءِ، وَيَحْرِصُونَ عَلَى أَلاَّ يُقَارِفُوا مُحَرَّماً لَمْ يُبِحْهُ اللهُ لَهُمْ.
وَلاَ يَقْرَبُونَ إِلاَّ مَا أَحَلَّهُ اللهُ مِنْ أَزْوَاجٍ، أَوْ مِنْ إِمَاءٍ يَمْلِكُونَهُنَّ، فَإِنَّهُمْ لاَ يَأْثَمُونَ، وَلاَ يُلاَمُونَ إِذَا أَتَوا نِسَاءَهُمْ وَإِمَاءَهُمْ. وَمَنْ سَعَى إِلَى مُوَاقَعَةِ غَيْرِ مَنْ أَحَلَّهُنَّ اللهُ لَهُ مِنَ الأَزْوَاجِ وَالإِمَاءِ، فَهُوَ مُعْتَدٍ عَلَى حُرُمَاتِ اللهِ، مُتَجَاوِزٌ حُدُودَهُ.
وَالذِينَ إِذَا ائْتُمِنُوا عَلَى أَمَانَةٍ رَدُّوهَا إِلَى أَصْحَابِهَا، وَلَمْ يَخُونُوا، والذِينَ إٍِذَا عَاهُدُوا عَهْداً رَاعَوْهُ وَوَفَوْا بِهِ، وَلَمْ يَغْدِرُوا، وَلَمْ يَتَأَوَّلُوا.
وَالذِينَ يُؤَدُّونَ الشَّهَادَةَ، إِذَا دُعُوا إِلَى أَدَائِهَا عِنْدَ الحُكَّامِ، وَلاَ يَكْتمُونَهَا وَلاَ يُغَيِّرُونَهَا، والشَّهَادَةُ أَمَانَةٌ مِنَ الأَمَانَاتِ التِي أَمَرَ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِأَدَائِهَا عَلَى الوَجْهِ الأَكْمَلِ والصَّحِيحِ.(2/529)
والذِينَ يُحَافِظُونَ عَلَى أَدَاءِ صَلَواتِهِمْ فِي أَوْقَاتِهَا، يُؤَدُّونَهَا حَقَّ أَدَائِهَا، وَيُتمُّونَهَا بِرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا، وَخُشُوعِهَا، وَيَجْتِهِدُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلاَةِ أَنْ يَسْتَبْعِدوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُلْهِيَهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وَفَهْمِ مَا يَقْرَؤُونَ مِنَ القُرْآنِ وَإِدْرَاكِ مَا يَفْعَلُونَ مِنْ ذِكْرِ اللهِ، وَمِنْ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ. وَهَؤُلاَءِ الذِينَ يَتَمَتَّعُونَ بِالصِّفَاتِ السَّالِفَةِ وَيَقُومُونَ بِالعِبَادَاتِ عَلَى الوَجْهِ الأَكْمَلِ كَمَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى يُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي جَنَّتِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَيُؤَمِّنُهُمْ مِنْ هَوْلِ الفَزَعِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ، وَيُكْرِمُهُمْ بِفَيْضٍِ مِنَ الكَرَامَاتِ التِي اخْتَصَّ اللهُ بِهَا عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ المُخْلِصِينَ.
(38) الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر:
قال تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) [آل عمران/104]
لِتَكُنْ مِنَ المُؤْمِنِينَ جَمَاعَةٌ مُتَخَصِّصَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ تَعْرِفُ أَسْرَارَ الأَحْكَامِ، وَحِكْمَةَ التَّشْرِيعِ وَفِقْهَهُ، تَتَولَّى القِيَامَ بِالدَّعْوَةِ إلى الدِّين، وَتَأمُرُ بِالمَعْروفِ، وَتُحَارِبُ المُنْكَرَ، وَتَنْهَى عَنْهُ، وَمِنْ وَاجِبِ كُلِّ مُسْلِمِ أنْ يُحَارِبَ المُنْكَرَ مَا اسْتَطَاعَ إلى ذَلِكَ، وَهَؤُلاءِ هُمُ الفَائِزُونَ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ.
وقال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) [التوبة/71، 72](2/530)
المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَيْنَهُمْ أُخُوَّةٌ، وَمَوَدَّةٌ، وَتَعَاوُنٌ، وَتَرَاحُمٌ، وَيَتَّصِفُونَ بِالصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ التِي يَأْمُرُهُمْ بِهَا دِينُهُمْ: فَيَتَنَاصَرُونَ وَيَتَعَاضَدُونَ وَيَفْعَلُونَ الخَيْرَ، وَيَأْمُرُونَ بِهِ، وَيَنْتَهُونَ عَنِ المُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ، وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤَدُّونَهَا حَقَّ أَدَائِهَا، وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا، وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَمَرَ، وَيَتْرُكُونَ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ. وَالمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الطَّيِّبَةِ الْكَرِيمَةِ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللهُ عَزِيزُ الجَانِبِ، يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ حَكِيمٌ فِي قِسْمَتِهِ الصِّفَاتِ بَيْنَ خَلْقِهِ، فَجَعَلَ المُؤْمِنِينَ يَخْتَصُّونَ بِالصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ، وَالمُنَافِقِينَ يَخْتَصُّونَ بِالصِّفِاتِ الذَمِيمَةِ المُنْكَرَةِ.
وَعَدَ اللهُ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ أَنَّهُ سَيُدْخِلُهُمْ فِي الآخِرَةْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ، يُقِيمُونَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً، فِي مَسَاكِنَ طَيِّبَةْ حَسَنَةِ البِنَاءِ، وَطَيِّبَةِ القَرَارِ فِي هَذِهِ الجَنَّاتِ، وَوَعَدَهُمْ بِرِضْوَانٍ مِنْهُ أَكْبَرَ وَأَجَلَّ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَا أَهْلَ الجَنَّةِ. فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى يَا رَبُّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ. فَيَقُولُ: أَلاَ أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: وَأَيُّ شَيءٍ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَداً " (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَمَالِكُ)
(39) أن يكونوا من أولياء الله:(2/531)
قال تعالى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) [يونس/62 - 64]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ، وَهُمُ الذِينَ آمَنُوا وَاتَّقَوا وَأَخْلَصُوا العِبَادَةَ لَهُ وَحْدَهُ، وَالتَّوَكُلَ عَلَيْهِ، لاَ خَوْفٌ عَلَيهِمْ مِمَّا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَهْوَالِ الآخِرَةِ، وَلاَ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا خَلَّفُوهُ وَرَاءَهُمْ فِي الدُّنْيَا.
وَيَقُولُ تَعَالَى مُعَرِّفاً (أَوْلِيَاءَ اللهِ): بِأَنَّهُمُ الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَكَانُوا يَتَّقُونَ اللهَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ، وَيُرَاقِبُونَهُ فِي سِرِّهِمْ وَعَلاَنِيَّتِهِمْ، فَلاَ يَقُومُونَ إِلاَّ بِمَا يُرْضِي اللهَ رَبَّهُمْ.
وَهَؤُلاَءِ المُؤْمِنُونَ المُتَّقُونَ، لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا بِالنَّصْرِ وَالعِزَّةِ، وَبِإِلْهَامِهِم الحَقَّ وَالخَيْرَ، وَبِالاسْتِخْلاَفِ فِي الأَرْضِ مَا أَقَامُوا شَرْعَ اللهِ، وَنَصَرُوا دِينَهُ الحَقَّ، وَأَعْلَوا كَلِمَتَهُ (وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا العَبْدُ، أَوْ تُرَى لَهُ، وَهِيَ فِي الآخِرَةِ الجَنَّةُ ") (رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عن رَسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). وَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ لاَ يُبَدَّلُ (لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ)، وَلاَ يُغَيَّرُ وَلاَ يُخْلَفُ، بَلْ مُقَرَّرٌ ثَابِتٌ كَائِنٌ لاَ مَحَالَةَ. وَهَذِهِ البُشْرَى بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ هِيَ الفَوْزُ العَظِيمُ.
(40) من أقرض الله قرضا حسناً:
قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) [الحديد/11 - 12](2/532)
مَنْ هَذَا الذِي يُنْفِقُ مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَطَمَعاً فِي مَثُوبَتِهِ وَمَرْضَاتِهِ، مُحْتَسِباً أَجْرَهُ عِنْدَ اللهِ، فَيَعُدُّ اللهُ لَهُ ذَلِكَ قَرْضاً للهِ تَعَالَى، فَيُضَاعِفُ لَهُ ذَلِكَ القَرْضَ أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً، وَيُثيبُهُ مَثُوبَةً كَرِيمةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ يَوْمَ القِيَامَةِ؟
وَفِي يَوْمِ القِيَامَةِ تَرَى المُتَصَدِّقِينَ، مِنَ المُؤْمِنينَ وَالمُؤْمِنَاتِ، يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهمْ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ، وَتَكُونُ كُتُبُهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، وَتَقُولُ لَهُمُ المَلاَئِكَةُ الكِرَامُ: أَبْشِرُوا بِجَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا جَزَاءً لَكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى إِيمَانِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ الصَّالِحَةِ، وَهَذَا الذِي فُزْتُمْ بِهِ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ.
(41) أن يحكموا الله والرسول في كل أمور حياتهم:
قال تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) [النور/51، 52]
أَمَّا المُؤْمِنُونَ المُخْلِصُونَ فَإِنَّهُمْ إِذَا دُعُوا إِلى اللهِ، وَإِلَى رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: سَمْعاً وَطَاعَةً للهِ وَلِرَسُولِهِ، وَهَؤُلاءِ الذينَ يَقُولُونَ هَذَا القَوْلَ، هُمُ المُفْلِحُونَ، لأَنَّهُمْ يَنَالُونَ مَا يَطْلبُونَ، وَيَسْلَمُونَ مِمَّا يَرْهَبُونَ.
وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَمَرَا بِهِ، وَيَنْتَهِ عَمَّا نَهَيَا عَنْهُ، وَمَنْ يَخْشَ اللهَ فِيمَا صَدَرَ عَنْهُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَيَتَقَّهِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ والأَعْمَالِ، فَهَؤُلاءِ هُمُ الفَائِزُونَ بِكُلِّ خَيْرٍ، وَالآمِنُونَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ.
(42) إعطاء المحتاجين حقهم:
قال تعالى: فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) [الروم/38](2/533)
وإِذا كَانَ اللهُ تَعَالى هُوَ الذِي يُبْسُطُ الرِّزْقَ، وَيَقْدِرُهُ، فأَعطِ يا أَيُّها النَّبِيُّ أَنتَ والمُؤِمِنُونَ، مَا تَستَطِيعُونَ إِعطَاءَهُ مِنَ المَالِ لِلفُقَراءِ والمُحْتاجِينَ مِنَ الأَقَارِبِ والمَسَاكِينِ الذينَ لا مالَ لَهُمْ، ولِلْمُسَافرينَ أبناءِ السَّبيلِ الذينَ انْقَطَعَتْ نَفَقَتُهُمْ، وَهُمْ بَعيدُونَ عَنْ أَهْلِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ لِيتَمَكَّنُوا مِنَ العَوْدَةِ إِلى بَلَدِهِمْ.
ثمَّ يَقُولُ تَعالى: إِنّ الإِعطَاءِ لهؤلاءِ المُحتاجِينَ فيهِ خيرٌ للمُعْطِينَ عندَ اللهِ، وهوَ الذِي يَتَقَبَّلُ العَملَ الصَّالِحَ، ويَجزِي بهِ فَاعِلَهُ الثَّوابَ الجَزيلَ، وَقَد رَبحَ هؤلاءِ المُعْطُونَ في صَفْقَتِهِمْ لأَنَّهُمْ أعْطَوا ما يَفْنَى، وَحَصَلُوا عَلى مَا يَبْقَى (وَقِيلَ إنَّ مَعْنَى: {ذَلِكَ خَيرٌ لِمَنْ يُريدُ وَجْهَ اللهِ} هُوَ: ذَلِكَ خيرٌ لِلذِينَ يُريدُون النَّظرَ إِلى وجهِ اللهِ يومَ القِيامة).
(43) الإيثار:
قال تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) [الحشر/9](2/534)
أَثْنَى اللهُ تَعَالَى عَلَى الأَنْصَارِ مُبِيِّناً فَضْلَهُمْ وَشَرَفَهُمْ وَكَرَمَهُمْ، حِينَ جَعَلَ اللهُ الفَيءَ لإِخْوَانِهِم المُهَاجِرِينَ دُونَهُمْ، فَقَالَ تَعَالَى: والذِينَ سَكَنُوا دَارَ الهِجْرَةِ قَبْلَ المُهَاجِرِينَ، وَآمَنُوا قَبْلَ كَثِيرٍ مِنَ المُهَاجِرِينَ، يُحِبُّونَ المُهَاجِرِينَ، وَيَتَمَنَّوْنَ لَهُمْ الخَيْرَ، كَمَا يَتَمَنَّوْنَهُ لأَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ أَسْكَنُوا المُهَاجِرِينَ فِي دُورِهِمْ، وَأَشْرَكُوهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ حَتَّى نَزَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضِ نِسَائِهِ لِلْمُهَاجِرِينَ. وَقَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَنُفُوسُهُمْ طَيِّيَةٌ، وَأَعْيُنُهُمْ قَرِيرَةٌ بِمَا يَفْعَلُونَ، لاَ يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَسَداً لِلْمُهَاجِرِينَ. وَلاَ ضِيقاً بِهِمْ لِمَا فَضَّلَهُمُ اللهُ بِهِ مِنَ المَنْزِلَةِ والشَّرَفِ وَالتَّقْدِيمِ فِي الذِّكْرِ والرُّتْبَةِ، وَلِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ مَغْنَمِ بَنِي النَّضِيرِ دُونَهُمْ.
(رُوِيَ أَنَّ المُهَاجِرِينَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَا رَأَيْنَا مِثْلَ قَوْمٍ قَدِمْنَا عَلَيْهِمْ حُسْنَ مُوَاسَاةٍ فِي قَليلٍ، وَلاَ حُسْنَ بَذْلٍ فِي كَثِيرٍ، لَقَدْ كَفَوْنَا المَؤُونَةَ، وَأَشْرَكُونَا فِي المَهْنَأ، حَتَّى لَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالأَجْرِ كُلِّهِ. قَالَ: لاَ. مَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ، وَدَعَوْتُمْ لَهُمُ اللهَ).وَهُمْ يُقَدِّمُونَ أَهْلَ الحَاجَةِ مِنَ المُهَاجِرِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَيَبْدَؤُونَ بِالنَّاسِ قَبْلَ أَنْفُسِهِمْ فِي حَالِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَى ذَلِكَ. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ جُهْدُ المُقِلِّ ". (البُخَارِيُّ).وَمَنْ سَلِمَ مِنْ آفَةِ الحِرْصِ عَلَى المَالِ وَالبُخْلِ، فَقَدْ فَازَ وَأَفْلَحَ. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ فَإِنَّ الظُلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، واتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُحَّ قَدْ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَطُوا دِمَاءَهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ ".(2/535)
وقال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) [التغابن/16 - 17]
فَابْذُلُوا فِي تَقْوَى اللهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنَ الجَهْدِ وَالطَّاقَةِ." وَقَدْ قَالَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَمَا نَهِيتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ " (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) واسْمعُوا وَأَطِيعُوا مَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَاعْمَلُوا بِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ عَلَى الأَقَارِبِ وَالفُقَرَاءِ وَالمُحْتَاجِينَ، وَأَحْسِنُوا إِلَى عِبَادِ اللهِ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيكُمْ يَكْنْ ذَلِكَ خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. وَمَنْ يَبْتَعِدْ عَنِ البُخْلِ وَالحِرْصِ عَلَى المَالِ، يَكُنْ مِنَ الفَائِزِينَ. ومَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ مَالٍ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَتَقَرُّباً إِليهِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَعُدُّ ذَلِكَ الإِنْفَاقَ مُقَدَّماً إِلَيه تَعَالَى، وَهُوَ يُخْلفُهُ وَيَرُدُّهُ إِلَى المُنْفقِينَ - أَضْعَافاً كَثِيرَةً - الحَسَنَةُ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِها إِلَى سَبْعِمِئَةِ ضِعْفٍ - وَيَمْحُو عَنْكُمْ بِها سَيِّئَاتِكُمْ، وَيَسْتُرُهَا عَلَيْكُمْ، وَاللهُ شكُورٌ يَجْزِي عَلَى القَلِيل بِالكَثِيرِ، وَهُوَ كَثِيرُ الحِلْمِ وَالمَغْفِرَةِ، يَغْفِرُ وَيَسْتُرُ، وَلاَ يُعَاجِلُ بِالعُقُوبَةِ عِبَادَهُ عَلَى الذُّنُوبِ وَالأَخْطَاءِ لَعَلَّهُمْ يَتُوبُونَ وَيَرْجِعُونَ مُسْتَغْفِرْينَ.
(44) أن يتولوا الله ورسوله والمؤمنين:
قال تعالى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) [المائدة/55 - 56](2/536)
يَحُثُّ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَلَى مُوَالاَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، الذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، وَيُسَاعِدُونَ المُحْتَاجِينَ مِنَ الضُعَفَاءِ وَالمَسَاكِينِ، وَهُمْ دَائِمُونَ الرُّكُوعِ للهِ.
وَكُلُّ مَنْ رَضِي بِمُوَالاَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالمُؤمِنِينَ هُوَ مُفْلِحٌ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، وَهُوَ مَنْصُورٌ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، لأنَّهُ يَكُونُ فَِي حِزْبِ اللهِ، وَحِزْبِ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ، وَلاَ يُغْلَبُ مَنْ يَتَوَلاَّهُمُ اللهُ.
(45) الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ:
قال تعالى: الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) [التوبة/20 - 22]
فَالذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، هُمْ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ دَرَجَةً وَمَقَاماً، وَأَكْثَرُ مَثُوبَةً مِنَ الذِينَ عَمَّرُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ، وَسَقَوْا الحَاجَّ فِي الجَّاهِلِيةِ. وَهَؤُلاَءِ المُؤْمِنُونَ المُجَاهِدُونَ فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُمُ الفَائِزُونَ بِرَحْمَةِ اللهِ، وَرِضْوَانِهِ وَجَنَّاتِهِ.
وَهَؤُلاَءِ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَعَلَى لِسَانِ مَلاَئِكَتِهِ حِينَ مَوْتِهِمْ، بِرَحْمَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانٍ، وَبِأَنَّهُ سَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتِهِ الوَاسِعَةَ، وَسَيبقَوْنَ فِيهَا أَبَداً فِي نَعِيمٍ مُقِيمٍ، وَالرِضْوَانُ مِنَ اللهِ هُوَ نِهَايَةُ الإِحْسَانِ، وَأَعْلَى النَّعِيمِ، وَأَكْمَلُ الجَزَاءِ.(2/537)
وَسَيَكُونُ هَؤُلاَءِ الكِرَامُ مُخَلَّدِينَ فِي الجَنَّةِ أَبَداً وَهَذا جَزَاءٌ لَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِم الصَّالِحَةِ، وَاللهُ تَعَالَى عِنْدَهُ الأَجْرُ العَظِيمُ لِمَنْ آمَنَ وَجَاهَدَ، وَقَامَ بِمَا فَرَضَهُ عَلَيْهِ الإِسْلاَمُ.
(الطريق إلى الجنة:
واعلم يا عبد الله أن الجنة لا تنال بالعمل .. وإنما هي فضل من الله ورحمة، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لن يُدخِل أحداً عملُه الجنة). قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (لا، ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني الله بفضلٍ ورحمة، فسدِّدوا وقاربوا، ولا يتمنينَّ أحدكم الموت: إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً، وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب.
وأما قول الله جل وعلا: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مّآ أُخْفِيَ لَهُم مّن قُرّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [السجدة 17] فإن الباء في قوله (بما كانوا يعملون) سببية. أي بسبب أعمالهم فالله سبحانه جعل أعمالهم سبباً لفضله ورحمته حيث أدخلهم جنته.
فإذا عرفت ـ أخي الكريم ـ أن الجنة هي محض فضل الله ورحمته, وان رحمته وفضله إنما ينالان بفعل ما يرضاه ويريده فبادر إلى خير الأعمال وصالح الأفعال. واحفظ الله, واسلك سبيله القويم يفض عليك من الرحمات ما يدخلك به أعالي الجنات في تلك الغرفات.
فاسلك سبيل المتقين ... وظن خيراً بالكريم
واذكر وقوفك خائفاً ... والناس في أمر عظيم
إما إلى دار الشقاوة ... أو إلى العز المقيم
فاغنم حياتك واجتهد ... وتب إلى الرب الرحيم
(وأما طريق الجنة: فهو كل ما يقربك من الله سبحانه من القربات والطاعات فقد ذكر الله جل وعلا طاعات وعبادات في كتابه العزيز جازى عليها بالجنة من عمل بها مخلصاً فمن ذلك ما يلي:
(1) الإيمان والعمل الصالح:
فقد ذكر الله سبحانه في سورة العصر أن الإنسان خاسر إلا من أمن وعمل صالحاً فقال تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصّبْرِ) [العصر1: 3](2/538)
وقال سبحانه: (وَبَشّرِ الّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ
[البقرة 25] ونظير هذا في القرآن كثير.
وذلك لأن الإيمان يوجب معرفة الله وخشيته ومراقبته وتوقيره ومتابعة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والعمل الصالح يوجب فعل ما أمر الله واجتناب ما نهى عنه من كبائر الإثم والفواحش.
(2) الصلاة:
قال تعالى: (إِنّ الصّلاَةَ تَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللّهِ أَكْبَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45]
فالصلاة ناهية عن الإثم والمنكر الموجب للحرمان من الجنة. وهي الماحية للذنوب والخطايا كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسلُ فيه كلَ يومٍ خمسَ مراتٍ، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلك مثلُ الصلوات الخمس يمحو الله بهنَّ الخطايا.
(حديث عثمان رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها و خشوعها و ركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة و ذلك الدهر كله.
فبادر ـ أخي الكريم ـ بالحفاظ على الصلاة فإنها نور المؤمن وعهده وفصل ما بينه وبين الكفر.
وتأمل في الحديث الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة.
(حديث بريدة الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر.
(3) أداء النوافل:
فهي تقرب إلى الله بعد الفرائض, وتكسبك ـ أخي الكريم ـ حلة الولاية لله سبحانه لأنها موجبة لحبه وحفظه, وهي علامة حبك لله وطاعتك وإخلاصك.
وتأمل في الحديث الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد، ودرر الفرائد. ((2/539)
(حديث أم حبيبة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم اثنتي عشرة ركعة تطوعا غير فريضة إلا بنى الله له بيتا في الجنة.
(حديث عائشة الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من ثابر على اثنتي عشرة ركعة من السنة بنى الله له بيتا في الجنة أربع ركعات قبل الظهر و ركعتين بعده و ركعتين بعد المغرب و ركعتين بعد العشاء و ركعتين قبل الفجر.
(4) بر الوالدين:
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه قيل ومن يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة.
فاحرص ـ أخي الحبيب ـ على بر الوالدين وأطعهما في ما أمرا إذا لم يكن أمرهما معصية لله وأحسن إليهما في الدنيا يحسن الله إليك بجنته وفضله وجوده, واعلم أن عقوقهما من أكبر الكبائر فقد قرن الله طاعتهما بالتحذير من الشرك والأمر بتوحيده.
قال تعالى: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) [النساء: 36]
(5) التوبة:
فالتوبة من أجلِّ القربات والعبادات وهي منزلة لا يفارقها الصالحون في رحلتهم في هذه الحياة الدنيا, بل ولا الأنبياء والمرسلون. ذلك لأن الله تعالى أمر بها في كل وقت وحين وعلق الفلاح عليها.
فكل ابن آدم خطاء .. قال تعالى: (وَتُوبُوَاْ إِلَى اللّهِ جَمِيعاً أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31]
فتأمل حفظك الله كيف وصفهم الله بالإيمان ثم دعاهم إلى التوبة ليعلم كل مسلم أن التوبة لازمة للعبد في سائر منازله التي يسلكها في طريقه إلى الله. وتذكر دائماً أن الجنة قد حفت بالمكاره وأن النار قد حفت بالشهوات وإلا كيف سيكون الاختبار و كيف يميز الصابر من الضاجر والمطيع من العاصي.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات".
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل وعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.(2/540)
باب التخويف من النار:
[*] • عناصر الباب:
• التخويف من النار:
• أكثروا ذكر النار:
• صورٌ مشرقة لخوف السلف من النار:
• من الخائفين من منعه خوف جهنم من النوم:
• من السلف من منعه خوف النار من الضحك:
• من السلف من مَرِضَ من خوفه من النار:
• أحوال بعض الخائفين:
• من السلف من يُنَغَصُ عليهم طعامهم عند ذكر طعام أهل النار:
• تخويف أصناف الخلق بالنار:
• غير الحيوان من الجمادات وغيرها تخشى الله تعالى:
• البكاء من خشية النار ينجي منها:
• التعوذ من النار:
• أسباب عذاب النار:
• ذكر مكان جهنم:
• أسماء النار:
• وصف النار:
• سعة جهنم طولا وعرضا:
• ذكر قعر جهنم وعمقها:
• طبقات جهنم ودركاتها وصفتها:
• ذكر حجارة النار:
• ذكر حيات جهنم وعقاربها:
• ذكر سلاسل جهنم وأغلالها وأنكالها:
• سجن جهنم:
• ذكر دخان جهنم وشررها ولهبها:
• ذكر أبواب جهنم وسرادقها:
• أبواب جهنم مغلقة:
• أبواب جهنم مغلقة قبل دخول أهلها إليها:
• إحاطة سرادق جهنم بالكافرين:
• ظلمة جهنم وسوادها وشررها:
• وقود النار:
• شدة حر جهنم وزمهريرها:
• ذكر سجر جهنم وتسعيرها:
• تسجر جهنم كل يوم نصف النهار:
• تسجر جهنم بخطايا بني آدم:
• تسجر جهنم على أهلها بعد دخولهم إليها:
• ذكر تغيظ النار وزفيرها:
• ذكر طعام أهل النار وشرابهم:
• ذكر كسوة أهل النار ولباسهم فيها:
• فراش أهل النار وغطاؤهم:
• البحار تسجر يوم القيامة:
• ذكر عِظَمِ خَلْقِ أهل النار فيها وَقُبْحِ صُوَرِهم وهيئاتهم:
• تفاوت أهل النار في العذاب:
• أنواع عذاب أهل النار:
• ما يتحف به أهل النار عند دخولهم إليها:
• تخاصم أهل النار:
• ولأهل النار أنواع من العذاب لم يطلع الله عليها خلقه في الدنيا:
• عذاب الكفار في النار متواصل أبدا لا يفتر عنهم ولا ينقطع ولا يُخَفَف.
• أعظم عذاب أهل النار حجابهم عن الله تعالى:
• ذكر بكاء أهل النار وزفيرهم وشهيقهم وصراخهم:
• طلب أهل النار الخروج منها:
• أهل النار لا يزالون في رجاء حتى يذبح الموت:
• ذكر نداء أهل النار أهل الجنة وأهل الجنة أهل النار وتكليم بعضهم بعضا:
• وصف خزنة جهنم وزبانيتها:
• مجيء النار يوم القيامة وخروج عنق منها يتكلم:
• ذكر ورود النار نجانا الله منه برحمته:
• إذا وقف العبد بين يدي ربه تستقبله النار:
• خروج الموحدين من النار برحمة الله وشفاعة الشافعين:
• أهل النار الذين هم أهلها يخلدون فيها.(3/1)
• صفة من يستحق دخول النار في الكتاب والسنة:
• أول من يدخل النار من عصاة الموحدين:
• أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة.
• أعمال أهل الجنة وأعمال أهل النار:
• أنقذوا أنفسكم من النار:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
• التخويف من النار:
قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ قُوَاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاّ يَعْصُونَ اللّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6]
و قال تعالى: (فَإِن لّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتّقُواْ النّارَ الّتِي وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدّتْ لِلْكَافِرِينَ) [البقرة: 24]
و قال تعالى: (وَاتّقُواْ النّارَ الّتِيَ أُعِدّتْ لِلْكَافِرِينَ) [آل عمران: 131]
و قال تعالى: (فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظّىَ) [الليل: 14]
و قال تعالى: (لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوّفُ اللّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَعِبَادِ فَاتّقُونِ) [الزمر: 16]
و قال تعالى: (وَمَا هِيَ إِلاّ ذِكْرَىَ لِلْبَشَر * كَلاّ وَالْقَمَرِ * وَاللّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ * إِنّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيراً لّلْبَشَر * لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدّمَ أَوْ يَتَأَخّرَ) [المدثر 31 - 37]
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن الحسن البصري رحمه الله تعالى في قوله تعالى (نَذِيراً لّلْبَشَر) قال والله ما أنذر العباد بشيءٍ قط أدهى منها خرجه ابن أبي حاتم.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن قتادة في قوله تعالى إنها لإحدى الكبر يعني النار.
(حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب يقول أنذرتكم النار أنذرتكم النار حتى لو أن رجلا كان بالسوق لسمعه من مقامي هذا حتى وقعت خميصة كانت على عاتقه عند رجليه.(3/2)
[وعن عدي بن حاتم قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اتقوا النار قال وأشاح (حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدَّم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشِقِّ تمرة).
(حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا فجعلت الدواب والفراش يقعن فيها فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقحمون فيها.
الحجز: جمع حجزة وهى معقد الإزار والسراويل.
تقحمون: تقعون
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أنا آخذ بحجزكم أقول إياكم وجهنم إياكم والحدود إياكم وجهنم إياكم والحدود إياكم وجهنم إياكم والحدود ثلاث مرات فإذا أنا مت تركتكم وأنا فرطكم على الحوض فمن ورد أفلح.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال: لما أنزلت هذه الآية (وأنذر عشيرتك الأقربين) دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قريشا فاجتمعوا فعم وخص فقال يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما رأيت مثل النار نام هاربها ولا مثل الجنة نام طالبها.
وقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثيرا ما يحذر من النار ويأمر بذلك في الصلاة وغيرها والأحاديث في ذلك كثيرة منها ما يلي:(3/3)
(حديث أنَسٍ رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: كان أكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ "0
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) قال: سمعت أبا القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: في صلاته اللهم إني أعوذ بك من فتنة القبر ومن فتنة الدجال ومن فتنة المحيا والممات ومن حر جهنم.
(حديث عائشة في صحيح ابن ماجة) أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمها هذا الدعاء اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله و آجله ما علمت منه و ما لم أعلم و أعوذ بك من الشر كله عاجله و آجله ما علمت منه و ما لم أعلم اللهم إني أسألك من خير ما سألك به عبدك و نبيك و أعوذ بك من شر ما عاذ به عبدك و نبيك اللهم إني أسألك الجنة و ما قرب إليها من قول أو عمل و أعوذ بك من النار و ما قرب إليها من قول أو عمل و أسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيرا.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل ما تقول في الصلاة قال أتشهد ثم أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار أما والله ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال حولها ندندن.
مسألة: ما معنى حولها ندندن؟
الدندنة في اللغة: هي الكلام البليغ الذي يدور حول هدف معين، أو هي الصوت الهامس الذي تُسمع نغماته ولكن قد لا يُفهم معناه، طالما لم يجهر به قائله.
وجنة الفردوس هي هدفنا جميعاً ندندن حولها في كلّ عباداتنا، وكتاباتنا، وأقولنا، وأفعالنا، ندور في فلكها ونطوف حول محورها، سواء أكان هدفنا مباشراً أم غير مباشر، مستدلين في ذلك بهدي الهادي الأمين حبيبنا محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلوات والتسليم.
مسألة: ما هو الخوف المذموم والخوف المحمود؟
الخوف المذموم: هو (الإفراط في الخوف) وهو يدعو إلى اليأس والقنوط. والخوف المحمود هو ما حجزك عن معصية الله تعالى.
- ولذلك قيل: ليس الخائف من يبكى ويمسح عينيه، بل من يترك ما يخاف أن يعاقب عليه، وقيل لذي النون المصري: متى يكون العبد خائفاً؟ قال: " إذا نزل نفسه منزلة السقيم الذي يحتمي مخافة طول السقام ".(3/4)
فالخوف المحمود يحرق الشهوات المحرمة فتصير المعاصى المحبوبة عنده مكروهة، كما يصير العسل مكروهاً، عند من يشتهيه إذا عرف أن فيه سماً، فتحرق الشهوات بالخوف، وتتأدب الجوارح، ويحصل في القلب الخضوع والذلة والاستكانة ويفارقه الكبر والحقد والحسد، بل بصير مستوعب الهم بخوفه، والنظر في خطر عاقبته، فلا يتفرغ لغيره، ولا يكون له شغل إلا المراقبة والمحاسبة والمجاهدة، والضنة بالأنفاس واللحظات، ومؤاخذة النفس بالخطرات، والخطوات والكلمات، ويكون حاله حال من وقع في مخلب سبع ضار، لا يدري أنه يغفل عنه فيفلت، أو يهجم عليه فيهلك، فيكون بظاهره وباطنه مشغولاً بما هو خائف منه لا متسع فيه لغيره، فهذا حال من غلبه الخوف.
قال تعالى: (إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنفال: 2]
قال الله تعالى: {ْ إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ماَ آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} (المؤمنون الآية 57 - 61).
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) قالت: سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن هذه الآية: (وَالّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [المؤمنون: 60] قالت عائشة هم الذين يشربون الخمر ويسرقون قال لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات.
وقال تعالى: (إِنّمَا ذَلِكُمُ الشّيْطَانُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مّؤْمِنِينَ)
[آل عمران: 175]
• أكثروا ذكر النار:
قال تعالى قال تعالى: (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً) [الواقعة: 73]
قال مجاهد وغيره: يعني أن نار الدنيا تذكر بنار الآخرة]
وقد كان كثيرٌ من السلف رحمهم الله تعالى كثير الهج بذكر النار ومن ذلك ما يلي:
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن عمر أنه قال: أكثروا ذكر النار، أكثروا ذكر النار، فإن قعرها بعيد وأن حرها شديد وإن مقامعها حدبد.(3/5)
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن المعلي بن زياد قال: كان هرم بن حيان يخرج في بعض الليالي وينادي بأعلى صوته عجبت من الجنة كيف نام طالبها وعجبت من النار كيف نام هاربها ثم يقول (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىَ أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ) [الأعراف: 97]
[*] • وأورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن أبي الجوزاء قال: لو وليت من أمر الناس شيئا اتخذت منارا على الطريق وأقمت عليها رجالا ينادون في الناس النار النار.
[*] • وأورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن مالك بن دينار قال لو وجدت أعوانا لناديت في منار البصرة بالليل النار النار ثم قال لو وجدت أعوانا لفرقتهم في منار الدنيا يا أيها الناس النار النار.
• يا من ظلمتم خلق الله .. يا من جعلتم مناصبكم وقوتكم لظلم العباد!! أكثروا ذكر النار.
• يا من تحديتم الله جل وعلا .. يا من بارزتم الله بالمعاصي أكثروا ذكر النار
وتأملوا في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يؤتي بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت نعيماً قط؟ فيقول: لا والله ما رأيت نعيماً قط، ويؤتي بأبأس أهل الدنيا من أهل الجنة فيصبغ في الجنة صبغة ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط؟ فيقول: لا والله ما رأيت بؤساً قط.
هذا رجل من أهل النعيم والرفاهية والمال والسلطان في الدنيا وهو من أهل النار في الآخرة يغمس في النار غمسة واحدة ويقال له هل رأيت نعيما قط؟ فيقول: لا.
• صورٌ مشرقة لخوف السلف من النار:
قد كان كثيرٌ من السلف رحمهم الله تعالى إذا ذُكِرَ النار اضطرب وتغيرت حاله ومن ذلك ما يلي:
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن سليمان بن سحيم قال: أخبرني من رأى ابن عمر يصلي وهو يترجح ويتمايل ويتأوه حتى لو رآه غيرنا ممن يجهله لقال لقد أصيب الرجل وذلك لذكر النار إذ مر بقوله تعالى وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين [الفرقان 31](3/6)
وفي كتاب الزهد للإمام أحمد عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال قلت ليزيد بن مرثد مالي أرى عينك لا تجف قال وما مسألتك عنه؟ قلت عسى الله أن ينفعني به، قال يا أخي إن الله توعدني إن أنا عصيته أن يسجنني في النار والله لو لم يوعدني أن يسجنني إلا في الحمام لكنت حَرِيَاً أن لا تجف لي عين،
قلت له: فهكذا أنت في صلاتك؟
قال وما مسألتك عنه؟
قلت عسى الله أن ينفعني به.
قال: والله إن ذلك ليعرض لي حين أسكن إلى أهلي فيحول بيني وبين ما أريد وإنه ليوضع الطعام بين يدي فيعرض لي فيحول بيني وبينه وبين أكله حتى تبكي امرأتي وتبكي صبياننا ما يدرون ما أبكانا وربما أضجر ذلك امرأتي فتقول يا ويحها ما خصه من طول الحزن معك في الحياة الدنيا ما يقر لي معك عين.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن يزيد بن حوشب قال: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز كأن النار لم تخلق إلا لهما.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن حفص بن عمر قال بكى الحسن فقيل ما يبكيك قال أخاف أن يطرحني غدا في النار ولا يبالي.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن الفرات بن سليمان قال كان الحسن يقول إن المؤمنين قوم ذلت والله منهم الأسماع والأبصار والأبدان حتى حسبهم الجاهل مرضى وهم والله أصحاب القلوب ألا تراه يقول وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن [فاطر:43] والله لقد كابدوا في الدنيا حزنا شديدا وجرى عليهم ما جرى على من كان قبلهم والله ما أحزنهم ما أحزن الناس ولكن أبكاهم وأحزنهم الخوف من النار.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال سمعت عبد الله بن حنظلة يوما وهو على فراشه وعدته من علته فتلا رجل عنده هذه الآية لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش [الأعراف 14] فبكى حتى ظننت أن نفسه ستخرج وقال صاروا بين أطباق النار ثم قام على رجليه فقال قائل يا أبا عبد الرحمن اقعد قال منعني القعود ذكر جهنم ولا أدري لعلي أحدهم.(3/7)
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن عبد الرحمن بن مصعب أن رجلا كان يوما على شط الفرات فسمع تاليا يتلو (إِنّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنّمَ خَالِدُونَ) [الزخرف: 74] فتمايل فلما قال التالي (لاَ يُفَتّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) [الزخرف: 75] سقط في الماء فمات.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن أبي بكر بن عياش قال: صليت خلف فضيل بن عياض صلاة المغرب وإلى جانبي علي ابنه فقرأ الفضيل ألهاكم التكاثر فلما بلغ لترون الجحيم [التكاثر الذي 6] سقط علي مغشيا عليه وبقي الفضيل لا يقدر يجاوز الآية ثم صلى بنا صلاة خائف قال ثم رابطت عليا فما أفاق إلا في نصف الليل.
[*] • وروى أبو نعيم باسناده عن الفضيل قال أشرفت ليلة على علي وهو في صحن الدار وهو يقول النار ومتى الخلاص من النار وكان علي يوما عند ابن عيينة فحدث سفيان بحديث فيه ذكر النار وفي يد علي قرطاس في شيءٍ مربوط فشهق شهقة ووقع ورمى بالقرطاس أو وقع من يده فالتفت إليه سفيان فقال لو علمت أنك ها هنا ما حدثت به، فما أفاق إلا بعدما شاء الله.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن علي بن خشرم قال: سمعت منصور بن عمار يقول تكلمت يوما في المسجد الحرام فذكرت شيئا من صفة النار فرأيت الفضيل بن عياض صاح حتى غشي عليه وطرح نفسه.
[*] • وفي الحلية لأبي نعيم أن علي بن فضيل صلى خلف إمام قرأ في صلاته سورة الرحمن فلما سلم قيل لعلي أما سمعت ما قرأ الإمام (حُورٌ مّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) [الرحمن: 72] فقال شغلني عنها ما قبلها (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مّن نّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ) [الرحمن: 35].
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن ابن أبي ذئب قال: حدثني من شهد عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة وقرأ عنده رجل (وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيّقاً مّقَرّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً) [الفرقان: 13] فبكى عمر حتى غلبه البكاء وعلا نشيجه فقام عن مجلسه ودخل بيته وتفرق الناس.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن أبي نوح الأنصاري قال: وقع حريق في بيت فيه علي بن الحسين وهو ساجد فجعلوا ينادونه يا ابن رسول الله النار فما رفع رأسه حتى أطفئت فقيل ما الذي أَلْهَاك عنها؟ قال النار الأخرى.(3/8)
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن سرار أبي عبد الله قال: عاتبت عطاء السلمي في كثرة بكائه فقال لي يا سرار كيف تعاتبني في شيءٍ ليس هو لي إني إذا ذكرت أهل النار وما ينزل بهم من عذاب الله عز وجل وعقابه تمثلت لي نفسي بهم فكيف لنفسي تغل يداها عنقها وتسحب إلى النار أن لا تبكي وتصيح وكيف لنفس تعذب أن لا تبكي.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن العلاء بن زياد قال: كان إخوان مطرف عنده فخاضوا في ذكر الجنة والنار فقال مطرف لا أدري ما تقولون حال ذكر النار بيني وبين الجنة.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن عبد الله بن أبي الهذيل قال: لقد شغلت النار من يعقل عن ذكر الجنة.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن
أن يزيد الرقاشي عوتب على كثرة بكائه وقيل له لو كانت النار خلقت لك ما زدت على هذا فقال وهل خلقت النار إلا لي ولأصحابي ولإخواننا من الجن والإنس أما تقرأ (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيّهَا الثّقَلاَنِ) [الرحمن: 31]، أما تقرأ (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مّن نّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ) [الرحمن: 35] فقرأ حتى بلغ قال تعالى: (يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) [الرحمن: 44] وجعل يجول في الدار ويصرخ ويبكي حتى غشي عليه]
- وقال أيضاً رحمه الله تعالى: وقرئ على رابعة العدوية آية فيها ذكر النار فصرخت ثم سقطت فمكثت ما شاء الله لم تفق.
- وقال أيضاً رحمه الله تعالى: دخل ابن وهب الحمام فسمع قارئا يقرأ (وَإِذْ يَتَحَآجّونَ فِي النّارِ) [غافر: 47] علي فسقط مغشيا عليه فغسل عنه بالنورة وهو لا يعقل
- وقال أيضاً رحمه الله تعالى: لما أهديت معاذة العدوية إلى زوجها صلة بن أشيم أدخله ابن أخيه الحمام ثم أدخله بيتا مطيبا فقام يصلي حتى أصبح وفعلت معاذة كذلك فلما أصبح عاتبه ابن أخيه على فعله فقال له إنك أدخلتني بالأمس بيتا أذكرتني به النار ثم أدخلتني بيتا أذكرتني به الجنة فما زالت فكرتي فيهما حتى أصبحت.
- وقال أيضاً رحمه الله تعالى: كان الأوزاعي إذا ذكر النار لم يقطع ذكرها ولم يقدر أحد يسأله عن شيء حتى يسكت فأقول بيني وبين نفسي ترى بقي أحد في المجلس لم يتقطع قلبه حسرات.(3/9)
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن سعد بن الأخرم قال كنت أمشي مع ابن مسعود فمر بالحدادين وقد أخرجوا حديدا من النار فقام ينظر إليه ويبكي.
[*] • وأورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن عطاء الخراساني قال كان أويس القرني يقف على موضع الحدادين فينظر إليهم كيف ينفخون الكير ويسمع صوت النار فيصرخ ثم يسقط.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن الأعمش قال: أخبرني من رأى الربيع بن خيثم مر بالحدادين فنظر إلى الكير وما فيه فخر.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن مطر الوراق قال: كان حممة وهرم بن حيان إذا أصبحا غديا فمرا باكورة الحدادين فنظرا إلى الحديد كيف ينفخ فيقفان ويبكيان ويستجيران من النار.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن العلاء بن محمد قال دخلت علي عطاء السلمي فرأيته مغشيا عليه فقلت لامرأته ما شأنه قالت سجرت جارة لنا التنور فلما نظر إليه غشي عليه.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن معاوية الكندي قال مر عطاء السلمي على صبي معه شعلة نار فأصابت النار الريح فسمع ذلك منها فغشي عليه.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن الحسن قال: كان عمر رضي الله عنه ربما توقد له النار ثم يدني يديه منها ثم يقول يا ابن الخطاب هل لك على هذا صبر.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن أن الأحنف بن قيس كان يجئ إلى المصباح بالليل فيضع أصبعه فيه ثم يقول حس حس ثم يقول يا حنيف ما حملك على ما صنعت يوم كذا ما حملك على ما صنعت يوم كذا.
• من الخائفين من منعه خوف جهنم من النوم:
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن أسد بن وداعة قال: كان شداد بن أوس إذا أوى إلى فراشه كأنه حبة على مقلي فيقول اللهم إن ذكر جهنم لا يدعن أنام فيقوم إلى مصلاه.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن أبي سليمان الداراني قال: كان طاووس يفترش فراشه ثم يضطجع عليه فيتقلى كما تقلى الحبة على المقلى ثم يثب فيدرجه ويستقبل القبلة حتى الصباح ويقول طير ذكر جهنم نوم العابدين.(3/10)
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن مالك بن دينار قال: قالت ابنة الربيع بن خيثم يا أبت ما لك لا تنام والناس ينامون فقال إن النار لا تدع أباك ينام.
- وقال أيضاً رحمه الله تعالى: وكان صفوان بن محرز إذا جنه الليل يخور كما يخور الثور ويقول منع خوف النار مني الرقاد.
- وقال أيضاً رحمه الله تعالى: وكان عامر بن عبد الله يقول ما رأيت مثل الجنة نام طالبها وما رأيت مثل النار نام هاربها فكان إذا جاء الليل قال أذهب حر النار النوم فما ينام حتى يصبح وإذا جاء النهار قال أذهب حر النار النوم فما ينام حتى يمسي وروي عنه أنه كان يتلوى كما يتلوى الحب في المقلى ثم يقوم فينادي اللهم إن النار قد منعتني من النوم فاغفر لي وروي عنه أنه قيل له ما لك لا تنام قال إن ذكر جهنم لا يدعني أنام.
- وقال أيضاً رحمه الله تعالى: قال الحر بن حصين الفزاري رأيت شيخا من بني فزارة أمر له خالد بن عبد الله بمائة ألف فأبى أن يقبلها وقال أذهب ذكر جهنم حلاوة الدنيا من قلبي قال وكان يقوم إذا نام الناس فيصيح النار النار النار.
- وقال أيضاً رحمه الله تعالى: كان رجل من الموالي يقال له صهيب وكان يسهر الليل ويبكي فعوتب على ذلك وقالت له مولاته أفسدت على نفسك فقال إن صهيبا إذا ذكر الجنة طال شوقه وإذا ذكر النار طار نومه.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن ابن مهدي قال ما كان سفيان الثوري ينام إلا أول الليل ثم ينتفض فزعا مرعوبا ينادي النار النار شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات ثم يتوضأ ويقول على أثر وضوئه اللهم إنك عالم بحاجتي غير معلم وما أطلب إلا فكاك رقبتي من النار.
وفي هذا المعنى يقول عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى:
إذا ما الليل أظلم كابدوه ... فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا ... وأهل الأمن في الدنيا هجوع
• من السلف من منعه خوف النار من الضحك:
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن اسماعيل السدي قال: قال الحجاج لسعيد بن جبير بلغني أنك لم تضحك قط قال كيف أضحك وجهنم قد سعرت والأغلال قد نصبت والزبانية قد أعدت.
- وقال أيضاً رحمه الله تعالى: قال عثمان بن عبد الحميد: وقع في جيران غزوان حريق فذهب يطفئه فوقع شرارة على أصبع من أصابعه فقال ألا أراني قد أوجعتني نار الدنيا والله لا يراني الله ضاحكا حتى أعرف أينجيني من نار جهنم أم لا.(3/11)
وقد كان جماعة من السلف قد عاهدوا الله أن لا يضحكوا أبدا حتى يعلموا أين مصيرهم إلى الجنة أم إلى النار منهم حممة الدوسي والربيع بن خراش وأخوه ربعي وأسلم العجلي ووهيب بن الورد وغيرهم.
• من السلف من مَرِضَ من خوفه من النار:
[*] • قال ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار:
كان الحسن يقول في وصف الخائفين قد براهم الخوف فهم أمثال القداح ينظر إليه الناظر فيقول مرضى وما بهم مرض ويقول قد خولطوا وقد خالط القوم من ذكر الآخرة أمر عظيم.
- وقال أيضاً رحمه الله تعالى: سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يتهجد في الليل ويقرأ سورة الطور فلما بلغ إلى قوله تعالى (إِنّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ * مّا لَهُ مِن دَافِعٍ) [الطور 7، 8] قال عمر قسم ورب الكعبة حق ثم رجع إلى منزله فمرض شهرا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه.
- وقال أيضاً رحمه الله تعالى: وكان جماعة من عباد البصرة مرضوا من الخوف ولزموا منازلهم كالعلاء بن زياد وعطاء السلمي وكان عطاء قد صار صاحب فراش عدة سنين وكانوا يرون أن بدء مرض عمر بن عبد العزيز الذي مات فيه كان من الخوف.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن حفص بن عمرو الجعفي قال: اشتكى داود الطائي أياما وكان سبب علته أنه مر بآية فيها ذكر النار فكررها مرارا في ليلته فأصبح مريضا فوجدوه قد مات ورأسه على لبنة.(3/12)
[*] • أخرج أبو نعيم في الحلية عن منصور بن عمار قال: حججت حجة فنزلت سكة من سكك الكوفة فخرجت في ليلة مظلمة طخيا مسحنكة فإذا بصارخ يصرخ في جوف الليل وهو يقول: «إلهي وعزتك وجلالك ما أرادت بمعصيتي مخالفتك، وقد عصيتك إذ عصيتك وما أنا بنكالك جاهل، ولكن خطيئة عرضت وأعانني عليها شقائي، وغرني سترك المرخي علي، وقد عصيتك بجهدي، وخالفتك بجهلي، فالآن من عذابك من يستنقذني؟ وبحبل من أتصل إن أنت قطعت حبلك، واشباباه». قال: فلما فرغ من قوله تلوت آية من كتاب الله تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ قُوَاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم: 6] الآية فسمعت دكدكة لم أسمع بعدها حساً، فمضيت فلما كان من الغد رجعت في مدرجتي فإذا أنا بجنازة قد أخرجت، وإذا أنا بعجوز قد ذهب متنها ـ يعني قوتها ـ فسألتها، عن أمر الميت ـ ولم تكن عرفتني ـ فقالت: هذا رجل لا جزاه إلا جزاءه من بابني البارحة وهو قائم يصلي فتلا آية من كتاب الله تعالى فتفطرت مرارته فوقع ميتاً، رحمه الله.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن عبد الوهاب قال بينا أنا جالس في الحدادين ببلخ إذ مر رجل فنظر إلى النار في الكور فسقط فقمنا ونظرنا فإذا هو قد مات.
- وقال أيضاً رحمه الله تعالى: إن علي بن فضيل مات من سماع قراءة هذه الآية (وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النّارِ فَقَالُواْ يَلَيْتَنَا نُرَدّ وَلاَ نُكَذّبَ بِآيَاتِ رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنعام: 27]
- وقال أيضاً رحمه الله تعالى: قال يونس بن عبد الأعلى قرأ عبد الله بن وهب كتاب الأهوال فمر في صفة النار فشهق فغشي عليه فحمل إلى منزله وعاش أياما ثم مات رحمه الله.
• أحوال بعض الخائفين:
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: خطب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطبة ما سمعت مثلها قط قال: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا). قال فغطى أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجوههم لهم خنين.
ومعنى الحديث: لو أنكم علمتم ما أعلمه من عظمة الله عز وجل، وانتقامه ممن يعصيه، لطال بكاؤكم وحزنكم وخوفكم مما ينتظركم، ولما ضحكتم أصلاً، فالقليل هنا بمعنى المعدوم، وهو مفهوم من السياق.(3/13)
(حديث أبي ذر رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما رأيت مثل النار نام هاربها ولا مثل الجنة نام طالبها.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن يحيى بن أبي كثير قال: قطع قلوب الخائفين طول الخلودين في الجنة أو النار.
- وقال أيضاً رحمه الله تعالى: قال ابن السماك: قطع قلوب العارفين بالله ذكر الخلودين الجنة والنار.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن بكر المزني أن أبا موسى الأشعري خطب الناس بالبصرة فذكر في خطبته النار فبكى حتى سقطت دموعه على المنبر قال وبكى الناس يومئذ بكاء شديدا.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن ابراهيم بن محمد البصري قال نظر عمر بن عبد العزيز إلى رجل عنده متغير اللون فقال له ما الذي أرى بك قال أسقام وأمراض يا أمير المؤمنين إن شاء الله فأعاد عليه عمر فأعاد عليه الرجل مثل ذلك ثلاث مرات فقال إذا أبيت إلا أن أخبرك فإني ذقت حلاوة الدنيا فصغر في عيني زهرتها وملاعبها واستوى عندي حجارتها وذهبها ورأيت كأن الناس يساقون إلى الجنة وأنا أساق إلى النار فأسهرت لذلك ليلي وأظمأت له نهاري وكل ذلك صغير حقير في جنب عفو الله وثواب الله عز وجل وجنب عقابه.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن سفيان قال كان عمر بن عبد العزيز ساكتا وأصحابه يتحدثون فقالوا ما لك لا تتكلم يا أمير المؤمنين قال كنت مفكرا في أهل الجنة كيف يتزاورون فيها وفي أهل النار كيف يصطرخون فيها ثم بكى.(3/14)
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن مغيث الأسود أنه كان يقول زوروا القبور كل يوم بفكركم وتوهموا جوامع الخير كل يوم في الجنة بعقولكم وشاهدوا الموقف كل يوم بقلوبكم وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة والنار بهممكم وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار ومقامعها وأطباقها.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن أبي سليمان الداراني قال خرج مالك بن دينار بالليل إلى قاعة الدار وترك أصحابه في البيت فأقام إلى الفجر قائما في وسط الدار فقال لهم إني كنت في وسط الدار خطر ببالي أهل النار فلم يزالوا يعرضون علي بسلاسلهم وأغلالهم حتى الصباح.
- وقال أيضاً رحمه الله تعالى: كان سعيد الجرمي يقول في وصف الخائفين إذا مروا بآية من ذكر النار صرخوا منها فرقا كأن زفير النار في آذانهم وكأن الآخرة نصب أعينهم.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن الحسن إن لله عبادا كمن رأى أهل الجنة في الجنة مخلدين وكمن رأى أهل النار في النار معذبين، وقال أيضا والله ما صدق عبد بالنار قط إلا ضاقت عليه الأرض بما رحبت وإن المنافق لو كانت النار خلف ظهره لم يصدق بها حتى يهجم عليها.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن وهب بن منبه قال: كان عابد في بني اسرائيل قام في الشمس يصلي حتى اسود وتغير لونه فمر به إنسان فقال كأن هذا حرق بالنار قال إن هذا من ذكرها فكيف بمعاينتها.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن ابن عيينة قال: قال ابراهيم التيمي مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأعانق أبكارها ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها فقلت لنفسي أي شيءٍ تريدين قالت أريد أن أراد إلى الدنيا فأعمل صالحا قال فقلت فأنت في الأمنية فاعملي.
• من السلف من يُنَغَصُ عليهم طعامهم عند ذكر طعام أهل النار:
وكان كثير من الخائفين من السلف ينغص عليهم ذكر طعام أهل النار وشرابهم طعام الدنيا وشرابها حتى يمتنعوا من تناوله أحيانا لذلك.
[*] • قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: الخوف يمنعني من أكل الطعام والشراب فلا أشتهيه.(3/15)
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن سعد بن ابراهيم قال أتى عبد الرحمن بن عوف بعشائه وهو صائم فقرأ (إِنّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً) [المزمل 12، 13] فلم يزل يبكي حتى رفع طعامه وما تعشى وإنه لصائم.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن الحسن قال لقي رجلٌ رجلاً فقال له يا هذا أراك قد تغير لونك ونحل جسمك فمم هو؟
فقال آخر وإني لأرى ذلك فمم هو؟
قال أصبحت منذ ثلاثة أيام صائماً فلما أتيت بعشائي عرضت لي هذه الآية (يُسْقَىَ مِن مّآءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ) [إبراهيم 16، 17]
فلم أستطع أن أتعشاه فأصبحت صائما فلما أتيت بعشائي أيضا عرضت لي فلم أستطع أن أتعشاه في ثلاث منذ أنا صائم.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن خليد بن حسان الهجري قال أمسي الحسين صائما فأتى بعشائه فعرضت له هذه الآية (إِنّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً) [المزمل 12، 13] فقلصت يده وقال ارفعوه فأصبح صائما فلما أمسى أتى بإفطاره عرضت له الآية فقال ارفعوه فقلنا يا أبا سعيد تهلك وتضعف فأصبح اليوم الثالث صائما فذهب ابنه إلى يحيى البكاء وثابت البناني ويزيد الضبي فقال أدركوا أبي فإنه هالك فلم يزالوا به حتى سقوه شربة ماء من سويق.(3/16)
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن صالح المري قال: كان عطاء السلمي قد أضر بنفسه حتى ضعف فقلت له إنك قد أضررت بنفسك وأنا متكلف لك لشيء فلا ترد كرامتي قال أفعل قال فاشتريت سويقا من أجود ما وجدت وسمنا قال فجعلت له شريبة رسول فلتيتها وحليتها وأرسلت بها مع ابني وكوزاً من ماء فقلت له لا تبرح حتى يشربها فرجع فقال قد شربها فلما كان من الغد جعلت له نحوها ثم سرحت بها مع ابني فرجع بها لم يشربها قال فأتيته فلمته وقلت سبحان الله أرددت علي كرامتي إن هذا مما يعينك ويقويك على الصلاة وعلى ذكر الله تعالى فلما رآني قد وجدت من ذلك قال يا أبا بشر لا يسؤك والله لقد شربتها أول ما بعثت بها فلما كان الغد راودت نفسي على أن أسيغها فما قدرت على ذلك إذا أردت شربه ذكرت هذه الآية (يَتَجَرّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ) [إبراهيم: 17] فبكى صالح عند هذا وقال قلت لنفسي ألا أراني في واد وأنت في آخر.
[*] • وروى الإمام أحمد بإسناده عن صالح المري عن عطاء السلمي قال إنني إذا ذكرت جهنم ما يسيغني طعام ولا شراب.
[*] • وروى عبد الله بن الإمام أحمد من طريق مرجى بن وداع قال انطلقت مع صالح المري فدخلنا لم على عطاء السلمي فقلنا له يا عطاء تركت الطعام والشراب قال إني إذا ذكرت صديد أهل النار لم أسغه.
[*] • وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن عبد المؤمن الصايغ قال دعوت رباحا القيسي ذات ليلة إلى منزلي فجاءني في السحر فقربت إليه طعاما فأصاب منه شيئا فقلت أزد فما أراك شبعت قال فصاح صيحة أفزعتني فقال كيف أشبع أيام الدنيا وشجرة الزقوم بين يدي طعام الأثيم قال فرفعت الطعام من بين يديه وقلت أنت في شيء ونحن في شيء.(3/17)
[*] • وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن سوار بن عبد الله القريعي قال كنا مع عمر بن درهم في بعض السواحل قال وكان لا يأكل إلا من السحر إلى السحر فجئنا بطعام فلما رفع الطعام إلى فيه سمع بعض المتهجدين يقرأ هذه الآية قال تعالى: (إِنّ شَجَرَةَ الزّقّومِ * طَعَامُ الأثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) [الدخان 43: 46] فغشي عليه وسقطت اللقمة من يده فلم يفق إلا بعد طلوع الفجر فمكث بذلك سبعا لا يطعم شيئا كلما قرب إليه طعام عرضت له الآية فيقوم ولا يطعم شيئا فاجتمع إليه أصحابه فقالوا سبحان الله تقتل نفسك فلم يزالوا به حتى أصاب شيئا.
[*] • وروى ابن أبي الدنيا أيضا بإسناده عن عبد الله بن عمر أنه شرب ماء باردا فبكى واشتد بكاؤه فقيل ما يبكيك فقال ذكرت آية من كتاب الله قوله: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) [سبأ: 54] فعرفت أن أهل النار لا يشتهون شيئا شهوتهم الماء البارد وقد قال الله تعالى (أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُوَاْ إِنّ اللّهَ حَرّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) [الأعراف: 50].
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن عن سلام بن أبي مطيع قال أتي الحسن بكوز من ماء ليفطر عليه فلما أدناه إلى فيه بكى وقال ذكرت أمنية أهل النار وقولهم (أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ) وذكرت ما أجيبوا به (إِنّ اللّهَ حَرّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) [الأعراف:50].
• تخويف أصناف الخلق بالنار:
النار خلقها الله تعالى لعصاة الجن والإنس وبهما تمتلئ قال تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنّمَ كَثِيراً مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاّ يَسْمَعُونَ بِهَآ) [الأعراف: 179]
و قال تعالى: (وَتَمّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ لأمْلأنّ جَهَنّمَ مِنَ الْجِنّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود: 119]
قال تعالى: (وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلََكِنْ حَقّ الْقَوْلُ مِنّي لأمْلأنّ جَهَنّمَ مِنَ الْجِنّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة: 13](3/18)
قال تعالى: (وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَامَعْشَرَ الْجِنّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مّنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مّنَ الإِنْسِ رَبّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الّذِيَ أَجّلْتَ لَنَا قَالَ النّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ) [الأنعام: 128]
وقال تعالى حاكياً عن الجن الذين استمعوا القرآن (وَأَنّا مِنّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلََئِكَ تَحَرّوْاْ رَشَداً * وَأَمّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنّمَ حَطَباً) [الجن 14: 15]
وقال تعالى: (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مّن نّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ) [الرحمن 35: 36]
قوله فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) فبأي آلاء ربكما تكذبان) يعرف المجرمون بسيماهم
و قال تعالى: (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنّوَاصِي وَالأقْدَامِ) [الرحمن: 41]
ولهذا روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ هذه السورة على الجن وأبلغهم إياها لما تضمنت ذكر خلقهم وموتهم وبعثهم وجزائهم،
- وأما سائر الخلق فأشرفهم الملائكة وهم متوعدون على المعصية بالنار وهو خائفون منها قال تعالى: (وَقَالُواْ اتّخَذَ الرّحْمََنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَىَ وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّيَ إِلََهٌ مّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ) [الأنبياء 26 - 29]
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لجبريل ما لي لا أرى ميكائيل ضاحكا قط قال ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار.
• غير الحيوان من الجمادات وغيرها تخشى الله تعالى:
قال تعالى: (ْوَةً وَإِنّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنّ مِنْهَا لَمَا يَشّقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ وَإِنّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ) [البقرة: 74](3/19)
قال ابن أبي نجيح عن مجاهد كل حجر يتفجر منه الماء ويتشقق عن ماء أو يتردى عن رأس جبل فهو من خشية الله عز وجل نزل بذلك القرآن وخرج الجوزجاني وغيره من طريق مجاهد عن ابن عباس قال إن الحجر ليقع إلى الأرض ولو اجتمع عليه الفئام من الناس ما استطاعوه وإنه ليهبط من خشية الله.
[*] • قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما إن القمر ليبكي من خشية الله قال طاووس إن القمر ليبكي من خشية الله ولا ذنب له ولا يسأل عن عمل ولا يجازى به.
• البكاء من خشية النار ينجي منها:
قد تكاثرت النصوص في أن البكاء من خشية الله يقتضي النجاة منها والبكاء خوف من نار جهنم هو البكاء من خشية الله لأنه بكاء من خشية عقاب الله وسخطه والبعد عنه وعن رحمته وجواره ودار كرامته.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يلج النار رجل بكي من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم.
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله.
• التعوذ من النار:
قال تعالى: (الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكّرُونَ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النّارِ * رَبّنَآ إِنّكَ مَن تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رّبّنَآ إِنّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبّكُمْ فَآمَنّا رَبّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنّا سَيّئَاتِنَا وَتَوَفّنَا مَعَ الأبْرَار * رَبّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتّنَا عَلَىَ رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبّهُمْ أَنّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىَ بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ) [آل عمران 191 - 195](3/20)
وقال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)} [البقرة/200 - 202]
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالمُؤْمِنِينَ بِالإِكْثَارِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ بَعْدَ قَضَاءِ المَنَاسِكِ وَالفَرَاغِ مِنْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ العَرَبَ فِي الجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَقِفُونَ فِي المَوْسِمِ فَيَقُولُ الرَّجُلُ مِنْهُمُ: كَانَ أَبِي يُطْعِمُ وَيَحْمِلُ الدِّيَاتِ. . إِلخ لَيْسَ لَهُمْ هَمٌّ غَيْرُ ذِكْرِ فِعَالِ آبَائِهِمْ فَأَنْزَلَ اللهُ هذِهِ الآيَةَ، وَأَرْشَدَ المُسْلِمِينَ إِلَى دُعَائِهِ بَعْدَ ذِكْرِهِ كَثِيراً، لِمَا فِي ذلِكَ مِنْ مَظنَّةٍ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ وَذَمَّ اللهُ الذِينَ لا يَسْأَلُونَ إِلاَّ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْ أَمْرِ آخِرَتِِهِمْ، غَيْر مُهْتَمِّينَ بِهِ.
وَهؤلاءِ لَهُمْ نَصِيبٌ مَضْمُونٌ مِمَّا كَسَبُوهُ بِالطَّلَبِ وَالرُّكُونِ إِلَى اللهِ، لا يُبْطِئُ عَلَيْهِمْ، فَاللهُ تَعَالَى سَرِيعُ الحِسَابِ، وَهُوَ يَجْزِي كُلاً بِمَا يَسْتَحِقُّهُ.
وَإِلى جَانِبِ أُولَئِكَ المُهْتَمِّينَ بِأَمْرِ الدُّنْيا فَقَطْ، آخَرُون يَهْتَمُونَ بِأَمْرِ الآخِرَةِ إِلى جَانِبِ اهْتِمَامِهِمْ بِأَمْرِ الدُّنيا فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنيا حَسَنَةً (وَتَشْمَلُ كُلَّ مَطْلَبٍ دَنْيَويِّ) وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً (وَتَشْمَلُ دُخُولَ الجَنَّةِ وَالنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ)، وَهَذا يَقْتَضِي تَيْسِيرَ أَسْبَابِهِ فِي الدُّنْيا: مِنِ اجِتِنَابِ المَحَارِمِ وَالآثَامِ، وَتَرْكِ الشُّبُهَاتِ وَالمُحَرَّمَاتِ.
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.(3/21)
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من سأل الله ثلاث مرات قالت الجنة اللهم أدخله الجنة ومن استجار من النار ثلاث مرات قالت النار اللهم أجره من النار.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ) بِأَنْ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسَالِكُ الْجَنَّةَ، أَوْ قَالَ اللَّهُمَّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ
(ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) أَيْ كَرَّرَهُ فِي مَجَالِسَ أَوْ مَجْلِسٍ بِطَرِيقِ الْإِلْحَاحِ عَلَى مَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ الإلحاح فيه.
(قَالَتِ الْجَنَّةُ) بِبَيَانِ الْحَالِ أَوْ بِلِسَانِ الْقَالِ لِقُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى إِنْطَاقِ الْجَمَادَاتِ وَهُوَ الظَّاهِرُ
(اللَّهُمَّ أَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ) أَيْ دُخُولًا أَوَّلِيًّا أَوْ لُحُوقًا آخِرِيًّا
(وَمَنِ اسْتَجَارَ) أَيِ اسْتَحْفَظَ
(مِنَ النَّارِ) بِأَنْ قَالَ اللَّهُمَّ أَجِرْنِي مِنَ النَّارِ
(قَالَتِ النَّارُ اللَّهُمَّ أَجِرْهُ) أَيِ احْفَظْهُ أَوْ أَنْقِذْهُ
(مِنَ النَّارِ) أَيْ مِنْ دُخُولِهِ أَوْ خُلُودِهِ فِيهَا.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما استجار عبد من النار سبع مرات في يوم إلا قالت النار: يا رب إن عبدك فلانا قد استجارك مني فأجره، ولا يسأل الله عبد الجنة في يوم سبع مرات إلا قالت: يا رب! إن عبدك فلانا سألني فأدخله الجنة.
(حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدَّم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشِقِّ تمرة).
(حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة.(3/22)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال: لما أنزلت هذه الآية (وأنذر عشيرتك الأقربين) دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قريشا فاجتمعوا فعم وخص فقال يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها.
(حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب يقول أنذرتكم النار أنذرتكم النار حتى لو أن رجلا كان بالسوق لسمعه من مقامي هذا حتى وقعت خميصة كانت على عاتقه عند رجليه.
الخميصة: كساء أسود مربع له علمان في طرفيه من صوف وغيره.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا فجعلت الدواب والفراش يقعن فيها فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقحمون فيها.
الحجز: جمع حجزة وهى معقد الإزار والسراويل.
تقحمون: تقعون
• أسباب عذاب النار:
ولعذاب النار سببان رئيسيان أحدهما تكذيب القلب بخبر الله ورسوله، والثاني إعراض البدن عن طاعة الله ورسوله {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [سورة طه: 48].
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
{إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أي: قد أخبرنا الله فيما أوحاه إلينا من الوحي المعصوم أن العذاب متحمض لمن كذب بآيات الله وتولى عن طاعته، كما قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 - 39] وقال تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلا الأشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل: 14 - 16] وقال تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة: 31، 32]. أي: كذب بقلبه وتولى بفعله. انتهى.
• ذكر مكان جهنم:(3/23)
مكان النار الأرض السابعة السفلى في سجين أسفل مكان وأضيقه، كما أن الجنة فوق العرش، فالمخلوقات كلما ارتفعت اتسعت، وكلما هبطت تضايقت، فالجنة في أوسع مكان وأعلاه، والنار في أسفل مكان وأضيقه، نعوذ بوجه الله منها ومما يقرب إليها.
ولجهنم سبعة أطباق وهي: جهنم، ولظى، والحطمة، والسعير، وسقر، والجحيم، والهاوية,
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن ابن عباس قال الجنة في السماء السابعة ويجعلها الله حيث يشاء يوم القيامة وجهنم في الأرض السابعة - وأورد أيضاً عن مجاهد قال قلت لابن عباس أين الجنة قال فوق سبع سموات قلت فأين النار قال تحت سبع أبحر مطبقة.
• أسماء النار:
ذكر اللهُ تعالى في كتابه النارَ بعدة أسماء وهي:
(1) جهنم:
قال تعالى: (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعاًّ) {الطور:13}.
وفي ذلِكَ اليَوْمِ يُدفَعُ هؤلاءِ المُكَِذِّبُونَ، الخَائِضُونَ في البَاطِل، إِلى جَهَنَّم دَفْعاً عَنيفاً، وَيُسَاقُونَ إليها سَوْقاً.
(2) لظى:
قال تعالى: (كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى) {المعارج:15 - 16}.
كَلاَّ لاَ يُقْبَلُ فِدَاءٌ مِنَ الكَافِرِ، وَلَوْ أَنَّهُ افْتَدَى بِجَمِيعِ أَهْلِ الأَرْضِ، وَبِجَمِيعِ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ ذَهَبٍ وَمَالٍ، إِنَّهَا النَّارُ الشَّدِيدَةُ الحَرَارَةِ.
تَحْرُقُ كُلَّ شَيءٍ بَارِزٍ مِنْ جِسْمِ الإِنْسَانِ فَتُزِيلُهُ وَكَأَنَّهَا تَنْزِعُهُ انْتِزَاعاً.
(3) الحُطَمة:
قال تعالى: (كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)) {الهمزة:4 - 9}.
كَلاَّ إِنَّ مَالَهُ لَنْ يُخَلِّدَهُ، وَلَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ عَذَابِ اللهِ، وَسَيُطْرَحُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ كَمَا تُطْرَحُ النَّوَاهُ.
(وَسُميتِ النَّارُ حُطَمَةً لأَنَّهَا تُحَطِّمُ كُلَّ مَا يُلْقَى فِيهَا وَلاَ تُبْقِي مِنْهُ عَلَى شَيءٍ).
يُنْبَذَنَّ - يُقْذَفَنَ قَذْفاً كَمَا تُقْذفُ النَّوَاةُ. وَهَذِهِ الحُطَمَةُ لَيْسَتْ مِمّا يُحِيطُ بِهِ عِلْمُكَ.
إِنَّهَا نَارُ اللهِ المُشْتَعِلَةِ التِي أَعَدَّهَا اللهُ لِعَذَابِ الكَفَرَةِ العُصَاةِ.(3/24)
وَإِنَّهَا لَتَبلُغُ فِي عَذَابَهِمْ إِلَى قُلُوبِهِمْ فَتَنْهَشُهَا نَهْشاً، وَالقَلْبُ أَكْثَرُ الأَعْضَاءِ تَأَلماً، فَإٍذَا نَهَشَتْهُ النَّارُ بَلَغَ العَذَابُ بِالإِنْسَانِ أَقْصَاهُ.
وَتُطْبِقُ النَّارُ عَلَيْهِمْ إِطْبَاقاً شَدِيداً، وَتُغْلَقُ عَلَيْهِمْ أَبْوَابُهَا، فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ مِنْهَا خَلاَصاً.
وَأَبْوَابُ النَّارِ تُطْبَقُ عَلَيْهِمْ، وَتُشَدُّ بِأَعْمِدَةٍ مُمَدَّدةٍ مِنْ حَدِيدٍ فَلاَ يُفْتَحُ عَلَيْهِمْ بَابٌ.
(أَوْ إِنَّهُمْ يَكُونُونَ مُوثَقِينَ فِي النَّارِ، وَمَشْدُودِينَ إِلَى أَعْمدةٍ مُمَدَّدَةٍ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ حَرَاكاً وَلاَ خَلاَصاً).
(4) السعير:
قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) {الشورى:7}.
وَكَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ، وَأَرْسَلْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى قَوْمِهِ لِيَسْتَطِيعَ دَعْوَتَهُمْ إِلَى اللهِ بِلُغَتِهِمْ وَلِسَانِهِمْ، وَلِيَفْهَمُوا مِنْهُ مَعَانِي مَا يُرِيدُ إِبْلاَغَهُ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ، كَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً وَاضِحاً جَلِيّاً مُنَزَّلاً بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، لُغَةِ قَوْمِكَ لِتُنْذِرَ أَهْلَ مَكَةَ (أُمَّ القُرَى)، وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ النَّاسِ، وَتُحَذِّرَهُمْ عِقَابَ اللهِ، يَوْمَ القِيَامَةِ، يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الخَلاَئِقَ لِيُحَاسِبَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَهُوَ يَوْمٌ وَاقِعٌ لاَ شَكَّ فِيهِ وَلاَ رَيْبَ، فَيجْزِي الكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ بِمَا اجْتَرَحُوا مِنَ الإِثْمِ والسَّيِّئَاتِ، وَيَكُونُونَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيُقْذَفُونَ فِيهَا قَذْفاً، وَيَجْزِي المُحْسِنِينَ بِالجَنَّةِ.
(5) سقر:
قال تعالى: (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وَجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) {القمر:48}.
وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُعَذَّبُونَ في النَّارِ، وَيُجرُّونَ فِيهَا عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَيُقَالُ لَهُمْ تَقْريعاً وَتَوْبِيخاً: ذُوقوا حَرَّ نَارِ جَهَنَّمَ وآلامَها جَزَاءً لَكُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ وَتَكْذِيبِكُمْ رُسُلَ رَبِّكمْ وَجَحْدِكُمْ بآياتِه.(3/25)
وقال تعالى {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)} [المدثر/26 - 30]
سَأْدْخِلُهُ جَهَنَّمَ، وأَغْمُرُهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَ نَارُ جَهَنَّمَ؟ إِنَّهَا بَلَغَتْ فِي الغَرَابَةِ حَدّاً لاَ يُمْكِنُ إِحَاطَةُ الوَصْفِ بِهِ. لا تُبْقِي لَحْماً، وَلاَ تَذَرُ عَظْماً، وَإِنَّمَا تَأْتي عَلَيْهِ جَمِيعاً. تُلَوِّحُ الجِلْدَ فَتحْرِقُهُ وَتُغَيِّرُ لَوْنَهُ. وَعَلَى النَّارِ خَزَنَةٌ مِنَ المَلاَئِكَةِ، عِدَّتُهُمْ تِسْعَةَ عَشَرَ مَلَكاً يَلُونَ أَمْرَهَا.
وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)} [المدثر/38 - 47]
كُلُّ نَفْسٍ مُرْتَهَنَةٌ بِعَمَلِهَا عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ. إِلاَّ المُؤْمِنِينَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمِينِ، الذِينَ يُعْطَوْنَ كُتُبَ أًَعْمَالِهِمْ يَوْمَ الحِسَابِ فَيَتَنَاوَلُونَهَا بِأَيْمَانِهِمْ، فَإِنَّهُمْ فَكُّوا رَهْنَ أَنْفُسِهِمْ بِحُسْنِ أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَيَكُونُ أَصْحَابُ اليَمِينِ هَؤُلاَءِ فِي الجَنَّاتِ يَتَسَاءَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ. وَيَسْأَلُونَ عَنِ المُجْرِمِينَ الذِينَ يَكُونُونَ فِي دَرَكَاتِ النَّارِ. ثُمَّ يَسْأَلُونَ المُجْرِمِينَ وَهُمْ فِي النَّارِ: مَا الذِي أَدْخَلَكُمْ نَارَ جَهَنَّمَ؟(3/26)
وَيَرُدُّ المُجْرِمُونَ عَلَى سُؤَالِ الأَبْرَارِ أَهْلِ الجَنَّاتِ قَائِلِينَ: إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنَ المُؤْمِنِينَ الذِينَ يُؤَدُّونَ الصَّلَواتِ. وَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنَ الذِينَ يُحْسِنُونَ إِلَى خَلْقِ اللهِ الفُقَرَاءِ، وَلَمْ يَكُونُوا يُطْعِمُونَ المَسَاكِينَ. وَإِنَّهُمْ كَانُوا يُشَارِكُونَ أَهْلَ البَاطِلِ فَيَخُوضُونَ مَعَهُمْ فِيمَا يَخُوضُونَ فِيهِ مِنَ الكُفْرِ والاسْتِهْزَاءِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَكَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِيمَا لاَ يَعْلَمُونَ. وَإِنَّهُمْ كَانُوا لاَ يُؤْمِنُونَ بِحَشْرٍ وَلاَ نَشْرٍ وَلاَ بَعْثٍ وَلاَ حِسَابٍ، وَلاَ عِقَابٍ فِي الآخِرَةِ. حَتَّى جَاءَهُمْ المَوْتُ، وَرَجَعُوا إِلَى اللهِ فِي الآخِرَةِ، فَعَلِمُوا أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ حَقٌّ.
•الجحيم: قال تعالى: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الجَحِيمَ صَلُّوهُ) {الحاقة:30 - 31}.
يقال لخزنة جهنم: خذوا هذا المجرم الأثيم، فاجمعوا يديه إلى عنقه بالأغلال، ثم أدخلوه الجحيم ليقاسي حرها
(6) الهاوية:
قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَاهِيَهْ*نَارٌ حَامِيَةٌ) {القارعة:8 - 11}.
وَأَمَّا مَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ، فَثَقُلَتْ كَفَّةُ أَعْمَالِهِ السَّيِئَةِ، وَخَفَّتْ كَفَّةُ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ. فَإِنَّهُ يَأْوِي إِلَى مَهْوَاةٍ سَحِيقَةٍ فِي جَهَنَّمَ يَهْوِي فِيهَا كَمَا يَأْوِي الوَلَدُ إِلى أُمِّهِ. وَأَيُّ شَيءٍ يُدْرِيكَ وَيُعَرِّفُكَ بِمَا هِيَ تِلْكَ الهَاوِيَةُ؟
• وصف النار:(3/27)
لقد خلق الله تعالى النار وجعلها مقراً لأعدائه المخالفين لأمره، وملأها من غضبه وسخطه وأودعها أنواعاً من العذاب الذي لا يطاق، وحذر عباده وبين لهم السبل المنجية منها لئلا يكون لهم حجة بعد ذلك وعلى الرغم من كل هذا التحذير من النار إلا أن البعض من الناس ممن قل علمهم وقصر نظرهم على هذه الدنيا أبو إلا المخالفة والعناد والتمرد على مولاهم ومعصيته جهلاً منهم بحق ربهم عليهم وجهلاً منهم بحقيقة النار التي توعدهم الله بها، وقد وُصِفَتْ النار في الكتاب العزيز والسنة المطهرة تحذيرا منها ومن الأعمال والأقوال الموصلة إليها، وألفت في وصفها المؤلفات الكثيرة، ومن أجمعها كتاب "التخويف من النار" للحافظ الإمام عبد الرحمن بن رجب رحمه الله تعالى.
• أخي الحبيب:
لقد خاب من آثر شهوة من حرام فإن عقباها تجرع حميم آن، وخسر - والله - من أطلق نفسه فيما تريد بعد أن سمع الزبانية وأغلال الحديد، وهلك وبار كل البوار من اشترى لذة ساعة بعذاب النار.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان.
وقال أبو موسى: أهل النار يبكون الدموع حتى تنقطع ثم يبكون الدماء حتى لو أرسلت فيها السفن لجرت 0
فما هي هذه النار؟ وما صفتها؟
[*] قال ابن الجوزي في وصف النار:
(هي دار خُصَّ أهلها بالبعاد، وَحُرِمُوا لذة المُنَى والإسعاد، بُدلت وضاءة وجوههم بالسواد، وضربوا بمقامع أقوى من الأطواد، عليها ملائكة غلاظ شداد، لو رأيتهم في الحميم يسرحون وعلى الزمهرير يطرحون، فحزنُهم دائم فلا يفرحون، مقامهم دائم فلا يبرحون أبد الآباد، عليها ملائكة غلاظ شداد، توبيخهم أعظم من العذاب، تأسفهم أقوى من المصاب، يبكون على تضييع أوقات الشباب وكلما جاد البكاء زاد، عليها ملائكة غلاظ شداد، يا حسرتهم لغضب الخالق، يا محنتهم لعظم البوائق، يا فضيحتهم بين الخلائق، أين كسبهم للحطام؟ أين سعيهم في الآثام؟ أين تتبعهم لزلات الأنام؟ كأنه أضغاث أحلام، ثم أحرقت تلك الأجساد، وكلما أحرقت تعاد، عليها ملائكة غلاظ شداد) أ. هـ.
• وفصل الخطاب في وصف النار أنها كما قال الله تعالى عنها: نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6](3/28)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ناركم جزء من سبعين جزءا من نار جهنم. قيل: يا رسول الله، إن كانت لكافية، قال: (فضلت عليهن بتسعة وستين جزءا، كلهن مثل حرها.
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح:
(ناركم جزء): زاد مسلم في روايته جزء واحد قوله من سبعين جزءا في رواية لأحمد من مائة جزء والجمع بأن المراد المبالغة في الكثرة لا العدد الخاص أو الحكم للزائد، زاد الترمذي من حديث أبي سعيد لكل جزء منها حرها قوله أن كانت لكافية أن هي المخففة من الثقيلة أي أن نار الدنيا كانت مجزئة لتعذيب العصاة قوله فضلت عليهن كذا هنا والمعنى على نيران الدنيا وفي رواية مسلم فضلت عليها أي على النار قال الطيبي ما محصله إنما أعاد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكاية تفضيل نار جهنم على نار الدنيا إشارة إلى المنع من دعوى الأجزاء أي لا بد من الزيادة ليتميز ما يصدر من الخالق من العذاب على ما يصدر من خلقه قوله مثل حرها زاد أحمد وابن حبان من وجه آخر عن أبي هريرة وضربت بالبحر مرتين ولولا ذلك ما انتفع بها أحد ونحوه للحاكم وابن ماجة عن أنس وزادا فإنها لتدعو الله أن لا يعيدها فيها وفي الجامع لابن عيينة عن بن عباس رضي الله عنهما هذه النار ضربت بماء البحر سبع مرات ولولا ذلك ما انتفع بها أحد أهـ.
• أخي الحبيب:
نارنا هذه التي تُحَطِّم، والتي تدمِّر، والتي لا يجرؤ أحد علي أن يقترب منها وإن كانت ممثلة في شعلة صغيرة، فما بالكم بحريق هائل مدمر، بحريق مروع، هذا الحريق وهذه النار، بل كل نار الدنيا مجتمعة إنما هي جزءاً كلهن مثل حرها.
الله أكبر .. اللهم إنا نستجير بك من النار.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أترونها حمراء كناركم هذه لهي أشد سوادا من القار.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يؤتى بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها.(3/29)
[*] قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله تعالى: جَهَنَّمُ اسْمٌ لِنَارِ الْآخِرَةِ قَالَ يُونُسُ وَأَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ: هِيَ عَجَمِيَّةٌ لَا تَنْصَرِفُ لِلْعُجْمَةِ وَالتَّعْرِيفِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ عَرَبِيَّةٌ لَمْ تُصْرَفْ بِالتَّأْنِيثِ وَالْعَلَمِيَّةِ وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِبُعْدِ قَعْرِهَا. قَالَ رُؤْبَةُ يُقَالُ بِئْرٌ جِهْنَامٌ أَيْ بَعِيدَةُ الْقَعْرِ. وَقِيلَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْجُهُومَةِ وَهِيَ الْغِلَظُ، يُقَالُ جَهَنَّمُ الْوَجْهُ أَيْ غَلِيظُهُ فَسُمِّيَتْ جَهَنَّمُ لِغِلَظِ أَمْرِهَا، انْتَهَى.
[*] وقال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ) بِكَسْرِ الزَّايِ وَهُوَ مَا يُشَدُّ بِهِ. وَقَالَ فِي الْمَجْمَعِ: الزِّمَامُ مَا يُجْعَلُ فِي الجزء السابع أَنْفِ الْبَعِيرِ دَقِيقًا، وَقِيلَ: مَا يُشَدُّ بِهِ رُءُوسُهَا مِنْ حَبْلٍ وَسَيْرٍ، انْتَهَى
(يَجُرُّونَهَا) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ يَسْحَبُونَهَا. قَالَ فِي اللُّمَعَاتِ: لَعَلَّ جَهَنَّمَ يُؤْتَى بِهَا فِي الْمَوْقِفِ لِيَرَاهَا النَّاسُ تَرْهِيبًا لَهُمْ.
[*] • قال وهب بن منبه: إذا سيرت الجبال فسمعت حسيس النار نقيضها وزفيرها وشهيقها صرخت الجبال كما تصرخ النساء ثم يرجع أوائلها على أواخرها يدق بعضها بعضاً 0
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال: كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ سمع وجبة فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تدرون ما هذا؟ قال قلنا الله ورسوله أعلم، قال هذا حجر ُرِمىَ به في النار منذ سبعين خريفا فهو يهوى في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها فسمعتم وَجْبَتَها.
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
(سمع وجبة) هي بفتح الواو وإسكان الجيم وهي السقطة.
(حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لرجل، توضع في أخمص قدميه جمرة، يغلي منها دماغه، ما يرى أن أحداً أشدَّ منه عذاباً وإنه لأهونهم عذابا.
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح:(3/30)
يغلي منه دماغه: ووقع في حديث بن عباس عند مسلم إن أهون أهل النار عذابا أبو طالب له نعلان يغلي منهما دماغه ولأحمد من حديث أبي هريرة مثله لكن لم يسم أبا طالب وللبزار من حديث جابر قيل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل نفعت أبا طالب قال اخرجته من النار الى ضحضاح منها.
(حديث أبي سعيد في الصحيحين) أنه سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر عنده عمه، فقال لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه أم دماغه - يعني أبا طالب -.
(حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنه قال * يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال نعم هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار.
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح:
ضحضاح: أصله ما رق من الماء علي وجه الأرض واستعير هنا للنار.
(حديث سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "مِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النّارُ إِلَىَ كَعْبَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النّارُ إِلَىَ رُكْبَتَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النّارُ إِلَىَ حُجْزَتِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النّارُ إِلَىَ تَرْقُوَتِهِ".
[*] قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النّارُ إِلَىَ حُجْزَتِهِ: ومنهم من تأخذه يعني النار إلى حجزته" هي بضم الحاء وإسكان الجيم وهي معقد الإزار والسراويل.
وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النّارُ إِلَىَ تَرْقُوَتِهِ: وهي بفتح التاء وضم القاف وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق، وفي رواية حقويه بفتح الحاء وكسرها وهما معقد الإزار، والمراد هنا ما يحاذي ذلك الموضع من جنبيه.
وروي عن كعب الأحبار أنه قال: (والذي نفس كعب بيده لو كنت بالمشرق والنار بالمغرب ثم كُشف عنها لخرج دماغك من منخريك من شدة حرها! فيا قوم هل لكم بهذا قرار؟ أم لكم على هذا صبر؟ يا قوم إن طاعة الله أهون عليكم والله من هذا العذاب فأطيعوه) أ. هـ.
طعام أهلها الزقوم وشرابهم الحميم.
• سعة جهنم طولا وعرضا:
(حديث مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترغيب والترهيب موقوفاً) أنه قال: أتدري ما سعة جهنم؟ قلت لا(3/31)
قال أجل والله والله ما تدري إن بين شحمة أذن أحدهم وبين عاتقه مسيرة سبعين خريفا تجري فيه أودية القيح والدم، قلت أنهار قال لا بل أودية.
• ذكر قعر جهنم وعمقها:
(حديث عتبة بن غزوان رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم فتهوي بها سبعين عاما ما تفضي إلى قرارها.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(إِنَّ الصَّخْرَةَ) بِسُكُونِ الْخَاءِ وَتُفْتَحُ الْحَجَرُ الْعَظِيمُ الصُّلْبُ، كَذَا فِي الْقَامُوسِ.
قَوْلُهُ: (الْعَظِيمَةَ) دَلَّ بِهِ عَلَى شِدَّةِ عِظَمِهَا
(لَتُلْقَى) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ
(مِنْ شَفِيرِ جَهَنَّمَ) أَيْ جَانِبِهَا وَحَرْفِهَا
(فَتَهْوِي) أَيْ تَسْقُطُ
(مَا تُفْضِي) مِنَ الْإِفْضَاءِ أَيْ مَا تَصِلُ
(إِلَى قَرَارِهَا) أَيْ إِلَى قَعْرِهَا أَرَادَ بِهِ وَصْفَ عُمْقِهَا بِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يَتَنَاهَى، فَالسَّبْعِينَ لِلتَّكْثِيرِ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال: كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ سمع وجبة فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تدرون ما هذا؟ قال قلنا الله ورسوله أعلم، قال هذا حجر ُرِمىَ به في النار منذ سبعين خريفا فهو يهوى في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها فسمعتم وَجْبَتَها.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار.
• طبقات جهنم ودركاتها وصفتها:
قال تعالى: (إِنّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) [النساء: 145]
وقد قرئ الدرك بسكون الراء وتحريكها وهي لغتان قال الضحاك الدرج إذا كان بعضها فوق بعض والدرك إذا كان بعضها أسفل من بعض وقال غيره الجنة درجات والنار دركات، وقد تسمى النار درجات أيضا كما قال تعالى بعد أن ذكر أهل الجنة وأهل النار قال تعالى: (وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مّمّا عَمِلُواْ وَمَا رَبّكَ بِغَافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 132]
و قال تعالى: (أَفَمَنِ اتّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) [آل عمران 162،163](3/32)
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم درجات الجنة تذهب علوا ودرجات النار تذهب سفولا.
[*] • وروى ابن أبي الدنيا باسناده عن عكرمة في قوله تعالى: (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْءٌ مّقْسُومٌ) [الحجر: 44] قال لها سبعة أطباق.
وعن قتادة (لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْءٌ مّقْسُومٌ) [الحجر 44] قال هي والله منازل بأعمالهم.
[*] • وعن يزيد بن أبي مالك الهمداني قال لجهنم سبعة نيران تأتلق ليس منها نار إلا وهي تنظر إلى التي تحتها مخافة أن تأكلها.
[*] • وعن ابن جريج في قوله (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْءٌ مّقْسُومٌ) [الحجر: 44] قال أولها جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية وفيها أبو جهل.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن ابن مسعود - رضي الله عنه - وسُئل أي أهل النار أشد عذابا، قالوا اليهود والنصارى والمجوس؟ قال لا ولكن المنافقين في الدرك الأسفل من النار في توابيت من نار مطبقة عليهم ليس لها أبواب.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن أبي هريرة في قوله تعالى إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار قال الدرك الأسفل بيوت لها أبواب تطبق عليها فيوقد من فوقهم ومن تحتهم قال تعالى: (لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) [الزمر: 16](3/33)
(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قال: إن رجالاً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا يرون الرؤيا على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقصونها على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقول فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما شاء الله، وأنا غلام حديث السن، وبيتي المسجد قبل أن أنكح، فقلت في نفسي: لو كان فيك خير لرأيت مثل ما يرى هؤلاء، فلما اضطجعت ليلة قلت: اللهم إن كنت تعلم فيَّ خيراً فأرني رؤيا، فبينما أنا كذلك إذ جاءني ملكان، في يد كل واحد منهما مقمعة من حديد، يقبلان بي إلى جهنم، وأنا بينهما أدعو الله: اللهم أعوذ بك من جهنم، ثم أراني لقيني ملك في يده مقمعة من حديد، فقال: لم ترع، نعم الرجل أنت، لو تكثر الصلاة. فانطلقوا بي حتى وقفوا بي على شفير جهنم، فإذا هي مطويَّة كطي البئر، لها قرون كقرون البئر، بين كل قرنين ملك بيده مقمعة من حديد، وأرى فيها رجالاً معلَّقين بالسلاسل، رؤوسهم أسفلهم، عرفت فيها رجالاً من قريش، فانصرفوا بي عن ذات اليمين. فقصصتها على حفصة، فقصَّتها حفصة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن عبد الله رجل صالح). فقال نافع: لم يزل بعد ذلك يكثر الصلاة.
• ذكر حجارة النار:
قال تعالى: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ قُوَاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم: 6]
و قال تعالى: (فَإِن لّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتّقُواْ النّارَ الّتِي وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدّتْ لِلْكَافِرِينَ) [البقرة: 24]
مسألة: ما هو نوع هذه الحجارة التي في قوله تعالى وقودها الناس والحجارة؟
[*] • قال ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار:
أكثر المفسرين على أن المراد بالحجارة حجارة الكبريت توقد بها النار ويقال إن فيها خمسة أنواع من العذاب ليس في غيرها من الحجارة سرعة الإيقاد ونتن الرائحة وكثرة الدخان وشدة الالتصاق بالأبدان وقوة حرها إذا أحميت.
[*] • وأورد رحمه الله تعالى عن ابن مسعود في قوله تعالى (وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم 6] قال هي حجارة من الكبريت خلقها الله يوم خلق السموات والأرض في السماء الدنيا يعدها للكافرين.
[*] • وقال مجاهد رحمه الله تعالى: حجارة من كبريت أنتن من الجيفة.
• ذكر حيات جهنم وعقاربها:(3/34)
(حديث عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن في النار حيات أمثال أعناق البخت، يلسعن اللسعة فيجد حموتها أربعين خريفا، إن فيها لعقارب كالبغال الموكفة، يلسعن اللسعة، فيجد حموتها أربعين خريفا.
البخت: واحدتها البختية وهى الناقة طويلة العنق ذات السنامين.
الموكفة: المحملة
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن ابن مسعود في قوله تعالى (زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ) [النحل: 88]
قال: عقارب لها أنياب كالنخل الطوال.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن ابن مسعود في قوله تعالى: (قَالُواْ رَبّنَا مَن قَدّمَ لَنَا هََذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النّارِ) [ص: 61]
قال: حيات وأفاعي.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن عبد الله بن عمرو قال إن لجهنم لسواحل فيها حيات وعقارب أعناقها كأعناق البخت.
• ذكر سلاسل جهنم وأغلالها وأنكالها:
قال تعالى: (إِنّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً) [الإنسان: 4]
و قال تعالى: (وَجَعَلْنَا الأغْلاَلَ فِيَ أَعْنَاقِ الّذِينَ كَفَرُواْ) [سبأ: 33]
و قال تعالى: (إِذِ الأغْلاَلُ فِيَ أَعْنَاقِهِمْ والسّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمّ فِي النّارِ يُسْجَرُونَ) [غافر 71، 72]
وقال تعالى: (خُذُوهُ فَغُلّوهُ * ثُمّ الْجَحِيمَ صَلّوهُ * ثُمّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ) [الحاقة 30 - 32]
و قال تعالى: (إِنّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً) [المزمل 12 - 13] وقرأ ابن عباس (إِذِ الأغْلاَلُ فِيَ أَعْنَاقِهِمْ والسّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ) [غافر: 71]
ينصب السلاسل وفتح ياء يسحبون قال هو أشد عليهم هم يسحبون السلاسل خرجه ابن أبي حاتم فهذه ثلاثة أنواع كما يلي:
• (النوع الأول) الأغلال: وهي في الأعناق كما ذكر سبحانه قال الحسن بن صالح الغل تغل اليد الواحدة إلى العنق والصفد اليدان جميعا إلى العنق خرجه ابن أبي الدنيا وقال أسباط عن السدي الأصفاد تجمع اليدين إلى العنق.
وقال معمر عن قتادة في قوله تعالى: (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مّقَرّنِينَ فِي الأصْفَادِ) [إبراهيم: 49](3/35)
قال مقرنين في القيود والأغلال.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن الحسن أنه ذكر النار فقال لو أن غلا منها وضع على الجبال لقصمها إلى الماء الأسود ولو أن ذراعا من السلسلة وضع على جبل لرضه.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن موسى بن أبي عائشة أنه قرأ قوله تعالى: (أَفَمَن يَتّقِي بِوَجْهِهِ سُوَءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [الزمر: 24] قال تشد أيديهم بالأغلال في النار فيستقبلون العذاب بوجوههم قد شدت أيديهم فلا يقدرون على أن يتقوا بها كلما جاء نوع من العذاب يستقبلون بوجوههم.
• (النوع الثاني) الأنكال: وهي القيود.
[*] • قال مجاهد والحسن وعكرمة وغيرهم قال الحسن قيود من نار.
[*] • وقال أبو عمران الجوني: قيود لا تحل والله أبدا وواحد الأنكال نكل وسميت القيود • (النوع الثالث) السلاسل:
[*] • وروى سفيان عن بشير عن نوف الشامي في قوله تعالى: (ثُمّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ) [الحاقة: 32]
قال إن الذراع سبعون باعا والباع من ها هنا إلى مكة وهو يومئذ بالكوفة.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار أن كعبا قال إن حلقة من السلسلة التي قال الله ذرعها سبعون ذراعا إن حلقة منها أكثر من حديد الدنيا.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن سفيان في قوله (فَاسْلُكُوهُ) قال بلغنا أنها تدخل في دبره حتى تخرج منه.
- وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
قال ابن عباس السلسلة تدخل في إسته ثم تخرج من فيه ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود حتى يشوى.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن سعيد بن جبير قال: لو انفلت رجل من أهل النار بسلسلة لزالت الجبال.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن الضحاك في قوله تعالى: (فَيُؤْخَذُ بِالنّوَاصِي وَالأقْدَامِ) [الرحمن: 41] قال يجمع بين ناصيته وقدميه في سلسلة من وراء ظهره.
[*] • وقال السدي في هذه الآية يجمع بين ناصية الكافر وقدميه فتربط ناصيته بقدمه وظهره ويفتل.
[*] • وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يؤخذ بناصيته وقدميه ويكسر ظهره كما يكسر الحطب في التنور.
• سجن جهنم:(3/36)
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمْ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الْخَبَالِ.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ) أَيْ فِي الصِّغَرِ وَالْحَقَارَةِ
(فِي صُوَرِ الرِّجَالِ) أَيْ مِنْ جِهَةِ وُجُوهِهِمْ. أَوْ مِنْ حَيْثِيَّةِ هَيْئَتِهِمْ مِنَ انْتِصَابِ الْقَامَةِ
(يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ) أَيْ يَأْتِيهِمْ
(مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) أَيْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْمَذَلَّةِ وَالنَّقِيصَةِ يَطَؤُهُمْ أَهْلُ الْحَشْرِ بِأَرْجُلِهِمْ مِنْ هَوَانِهِمْ عَلَى اللَّهِ. وَفِي النِّهَايَةِ: الذَّرُّ النَّمْلُ الْأَحْمَرُ الصَّغِيرُ وَاحِدُهَا ذَرَّةٌ
(يُسَاقُونَ) بِضَمِّ الْقَافِ أَيْ يُسْحَبُونَ وَيُجَرُّونَ
(إِلَى سِجْنٍ) أَيْ مَكَانِ حَبْسٍ مُظْلِمٍ مَضِيقٍ مُنْقَطِعٍ فِيهِ عَنْ غَيْرِهِ
(يُسَمَّى) أَيْ ذَلِكَ السِّجْنُ
(بَوْلَسَ) قَالَ فِي الْمَجْمَعِ: هُوَ بِفَتْحِ بَاءٍ وَسُكُونِ وَاوٍ وَفَتْحِ لَامٍ. وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ: بُولَسُ بِضَمِّ الْبَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ سِجْنُ جَهَنَّمَ وَقَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: هُوَ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَفَتْحِ اللَّامِ، انْتَهَى
(تَعْلُوهُمْ) أَيْ تُحِيطُ بِهِمْ وَتَغْشَاهُمْ كَالْمَاءِ يَعْلُو الْغَرِيقَ
(نَارُ الْأَنْيَارِ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: لَمْ أَجِدْهُ مَشْرُوحًا وَلَكِنْ هَكَذَا يُرْوَى، فَإِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ نَارُ النِّيرَانِ، فَجَمَعَ النَّارَ عَلَى أَنْيَارٍ وَأَصْلُهَا أَنْوَارٍ لِأَنَّهَا مِنَ الْوَاوِ كَمَا جَاءَ فِي رِيحٍ وَعِيدٍ أَرْيَاحٌ وَأَعْيَادٌ وَهُمَا مِنَ الْوَاوِ، انْتَهَى.
• ذكر دخان جهنم وشررها ولهبها:(3/37)
قال تعالى: (وَأَصْحَابُ الشّمَالِ مَآ أَصْحَابُ الشّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ * لاّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ) [الواقعة 41: 44]
[*] • قال ابن عباس رضي الله عنهما:
(وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ): ظل من دخان وكذا قال مجاهد وعكرمة وغير واحد وعن مجاهد قال ظل من دخان جهنم وهو السموم وقال أبو مالك اليحموم ظل من دخان جهنم.
[*] • وقال الحسن وقتادة في قوله (لاّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ) لا بارد المدخل ولا كريم المنظر.
والسموم: هو الريح الحارة قاله قتادة وغيره، وهذه الآية تضمنت ذكر ما يتبرد به في الدنيا من الكرب والحر وهو ثلاثة الماء والهواء والظل فهواء جهنم السموم وهو الريح الحارة الشديدة الحر وماؤها الحميم الذي قد اشتد حره وظلها اليحموم وهو قطع دخانها أجارنا الله من ذلك كله بكرمه ومنه.
و قال تعالى: (انطَلِقُوَاْ إِلَىَ ظِلّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ) [سورة: المرسلات - الأية: 30]
[*] • قال مجاهد: هو دخان جهنم اللهب الأخضر والأسود والأصفر الذي يعلو النار إذا أوقدت.
قال تعالى: (إِنّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) [المرسلات: 32]
[*] • قال السدي: زعموا أن شررها ترمي به كأصول الشجر ثم يرتفع فيمتد.
[*] • وقال القرظي: على جهنم سور فما خرج من وراء سورها يخرج منها في عظم القصور ولون القار.
[*] • وقال الحسن والضحاك في قوله كالقصر هو كأصول الشجر العظام.
[*] • وقال مجاهد: قطع الشجر والجبل.
[*] • وصح عن ابن مسعود قال شرر كالقصور والمدائن.
[*] • وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال (شرر: كالقصر) يقول كالقصر العظيم.
و قال تعالى: (كَأَنّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ) [المرسلات: 33]
[*] • قال ابن عباس رضي الله عنهما: حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض تكون كأوساط الرجال.
[*] • قال ابن عباس رضي الله عنهما:
وقال مجاهد: هي حبال الجسور.
• ذكر أبواب جهنم وسرادقها:
للنار سبعة أبواب يدخل أهلها منها, وذلك لكثرة أهلها, ولكلِّ باب ٍمن الأتباع الغواة قدر معلومٌ متميز عن غيره, قال تعالى: (وَإِنّ جَهَنّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْءٌ مّقْسُومٌ) [الحجر 43: 44](3/38)
وَإِنَّ جَهَنَّمَ هِيَ مَكَانُ اللّقَاءِ وَالاجْتِمَاعِ (مَوْعِدُهُمْ) لِجَمِيعِ مَنِ اتَّبَعُوا إِبْلِيسَ وَهِيَ مَقَرُّهُمْ وَبِئْسَ المِهَادُ. وَيُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ لِجَهَنَّمَ سَبْعَةَ أَبْوَابٍ، وَقَدْ قَدَّرَ اللهُ لِكُلِّ بَابٍ مِنْ هَذِهِ الأَبْوَابِ السَّبْعَةِ نَصِيباً مُعَيّناً مِنْ أَتْبَاعِ إِبْلِيسَ يَدْخُلُونَ مِنْهُ إِلَى جَهَنَّمَ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ.
(حديث عتبة بن عبد رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الجنة لها ثمانية أبواب و النار لها سبعة أبواب.
(حديث عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال القتلى ثلاثة رجل مؤمن جاهد بنفسه وماله في سبيل الله حتى إذا لقي العدو وقاتلهم حتى يقتل فذلك الشهيد الممتحن في جنة الله تحت عرشه لا يفضله النبيون إلا بفضل درجة النبوة ورجل فرق على نفسه من الذنوب والخطايا جاهد بنفسه وماله في سبيل الله حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل فتلك ممصمصة محت ذنوبه وخطاياه إن السيف محاء للخطايا وأدخل من أي أبواب الجنة شاء فإن لها ثمانية أبواب ولجهنم سبعة أبواب وبعضها أفضل من بعض ورجل منافق جاهد بنفسه وماله حتى إذا لقي العدو قاتل في سبيل الله عز وجل حتى يقتل فذلك في النار إن السيف لا يمحو النفاق.
- وقيل: الأبواب: الأطباق, طبقٌ فوق طبق. فعَنْ عَلِيّ , قَالَ: أَبْوَاب جَهَنَّم سَبْعَة بَعْضهَا فَوْق بَعْض , فَيَمْتَلِئ الْأَوَّل , ثُمَّ الثَّانِي , ثُمَّ الثَّالِث , ثُمَّ تَمْتَلِئ كُلّهَا (1).
وعَنْ هُبَيْرَة بْن مَرْيَم , قَالَ: سَمِعْت عَلِيًّا يَقُول: إِنَّ أَبْوَاب جَهَنَّم بَعْضهَا فَوْق بَعْض , فَيُمْلَأ الْأَوَّل ثُمَّ الَّذِي يَلِيه , إِلَى آخِرهَا (2).
وعَنْ اِبْن جُرَيْج , قَوْله: {لَهَا سَبْعَة أَبْوَاب} قَالَ: أَوَّلهَا جَهَنَّم , ثُمَّ لَظَى , ثُمَّ الْحُطَمَة , ثُمَّ السَّعِير , ثُمَّ سَقَر , ثُمَّ الْجَحِيم , ثُمَّ الْهَاوِيَة. (3)
__________
(1) - تفسير الطبري - (ج 16 / ص 93) (16016) حسن
(2) - المصدر السابق
(3) - تفسير الطبري - (ج 16 / ص 93) (16018) صحيح(3/39)
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن حطان الرقاشي قال سمعت عليا يقول هل تدرون كيف أبواب جهنم قلنا هي مثل أبوابنا هذه قال لا هي هكذا بعضها فوق بعض وفي رواية له أيضا بعضها أسفل من بعض.
[*] • وأورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن ابن جريج في قوله لها سبعة أبواب قال أولها جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم وفيها أبو جهل ثم الهاوية.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن الضحاك سمى الله أبواب جهنم (لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْءٌ مّقْسُومٌ) [الحجر: 44]
باب لليهود وباب للنصارى وباب للمجوس وباب للصابئين وباب للمنافقين وباب للذين أشركوا وهم كفار العرب وباب لأهل التوحيد وأهل التوحيد يرجى لهم ولا يرجى للآخرين.
[*] • وقال عطاء الخراساني إن لجهنم سبعة أبواب أشدها غما وكربا وحرا وأنتنها ريحا للزناة الذين ركبوه بعد العلم.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن
كعب قال لجهنم سبعة أبواب باب منها للحرورية.
وهذا كله يدل أن على كل باب من الأبواب السبعة لعمل من الأعمال السيئة كما أن أبواب الجنة الثمانية كل باب منها لعمل من الأعمال الصالحة.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن وهب بن منبه قال: بين كل بابين مسيرة سبعين سنة كل باب أشد حرا من الذي فوقه.
• أبواب جهنم مغلقة:
قد وصف الله أبوابها بأنها مغلقة على أهلها فقال تعالى: (إِنّهَا عَلَيْهِم مّؤْصَدَةٌ) [الهمزة: 8]
وقال تعالى: (عَلَيْهِمْ نَارٌ مّؤْصَدَةُ) [البلد: 20]
قال مجاهد هي بلغة قريش أصد الباب أغلقه يعني قوله مؤصدة وقال مقاتل يعني أبوابها مطبقة عليهم فلا يفتح لها باب ولا يخرج منها غم ولا يدخل فيها روح آخر الأبد.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن عطاء الخراساني وغيره في المؤصدة إنها المطبقة.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن الضحاك قال حائط لا باب له ومراده والله أعلم أن الأبواب أطبقت فصار الجدار كأنه لا باب له.
وقوله تعالى (إِنّهَا عَلَيْهِم مّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مّمَدّدَةِ) [الهمزة 8، 9]
معناه أطبقت عليهم بعمد.
وقال مقاتل: أطبقت الأبواب عليهم ثم شدت بأوتاد من حديد حتى يرجع عليهم غمها وحرها.(3/40)
وعلى هذا فقوله ممددة صفة للعمد يعني أن العمد التي أوثقت بها الأبواب ممدة مطولة والمدود الطويل أرسخ وأثبت من القصير.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن قتادة: مؤصدة أي مطبقة أطبقها الله عليهم فلا ضوء فيها ولا فرج ولا خروج منها آخر الأبد.
وقد قال سفيان وغيره في قوله تعالى (لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ) [الأنبياء 103] قالوا هو طبق النار على أهلها]
• أبواب جهنم مغلقة قبل دخول أهلها إليها:
أبواب جهنم مغلقة قبل دخول أهلها إليها كما دل عليه ظاهر قوله تعالى: (وَسِيقَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ إِلَىَ جَهَنّمَ زُمَراً حَتّىَ إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) [الزمر: 71]
وقد روي أن أبوابها تفتح كل يوم نصف النهار، رأى خباب بن الأرت رجلا يصلي نصف النهار فنهاه وقال إنها ساعة تفتح فيها أبواب جهنم فلا تصل فيها.
• إحاطة سرادق جهنم بالكافرين:
قال تعالى: (إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) [الكهف: 29]
[*] • قال الزجاج: السرادق كل ما أحاط بشيء نحو الشقة في المضرب والحائط المشتمل على الشيء.
[*] • وقال ابن قتيبة: السرادقات الحرة التي تكون حول الفسطاط قيل هو الدهليز معرب وأصله بالفارسية سرادار وقال ابن عباس هو سرادق من نار.
وإحاطة السرادق بهم قريب من المعنى المذكور في غلق الأبواب، وهو شبه قول من قال إنه حائط لا باب له ولما كان إحاطة السرادق بهم موجب لهمهم وغمهم وكربهم وعطشهم لشدة وهج النار عليهم قال الله تعالى قال تعالى: (وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً) [الكهف: 29]
و قال تعالى: (وَلَهُمْ مّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلّمَآ أَرَادُوَاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ) [الحج 21، 22]
• ظلمة جهنم وسوادها وشررها:
عن ابن مسعود،: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} (32) سورة المرسلات: أما إني لست أقول كالشجر، ولكن كالحصون والمدائن " (1)
__________
(1) - البعث والنشور للبيهقي (506) حسن(3/41)
وعَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: النَّارُ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ، لاَ يُضِيءُ جَمْرُهَا، وَلاَ يَطْفَأُ لَهَبُهَا، ثُمَّ قَرَأَ: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} (22) سورة الحج (1)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أترونها حمراء كناركم هذه لهي أشد سوادا من القار.
• وقود النار:
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) {التحريم:6}
يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، اعْمَلُوا بِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى، وَاتَّقُوا مَعْصَيَتَهُ، وَأمُرُوا أَهْلَكُمْ بِالذّكْرِ والتَّقْوَى، وَعَلِّمُوهُمْ مَا فَرَضَ اللهُ عَلَيهِمْ، وَمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ، وَأمُرُوهُمْ بِطَاعَةِ اللهِ لِتُنقِذُوهُمْ وَأَنْفُسَكُمْ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، التِي يَكُونُ وَقُودُهَا النَّاسُ مِنَ الكَفَرَةِ، وَالحِجَارَةُ، وَتَقُومُ عَلَيهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ عَلَى أَهْلِ النَّارِ، أَشِدَّاءُ َعَلَيهِمْ، لاَ يُخَالِفُونَ رَبَّهُمْ فِي أَمْرٍ بِهِ، وَيُبَادِرُونَ إِلَى فِعْلِ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ.
وقال تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} {البقرة:24}
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 13 / ص 152) (35257) والبعث والنشور للبيهقي (561) حسن(3/42)
فَإِنْ لَم يَسْتَطِيعُوا هُمْ وِشُرَكَاؤهُمْ وَشُهَداؤهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ مِنَ القُرآنِ الكَرِيمِ (وَهُمْ لَنْ يَسْتَطِيعُوا ذلِكَ أَبَداً مَهْمَا طَالَ الزَّمَنُ) فَلْيَعْلَمُوا أَنَّ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ هُوَ مِنْ وَحيِ المُكَابِرِينَ المُعانِدِينَ المُكَذِّبينَ بِالحَقِّ، وَفِيما يُبَلِّغُهُ عَنْ رَبِّهِ، وَيَكُونُونَ هُمُ المُكَابِرِينَ المُعَانِدِينَ المُكَذِّبينَ بِالحَقِّ، وَعَلَيهِمْ أَنْ يَخْشَوْا عَذَابَ اللهِ وَنَارَهُ التِي يَكُونُ النَّاسُ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ أَصْنَامٍ وَحِجَارَةٍ. . . مِنَ الوَقُودِ الذِي تَشْتَعِلُ بِهِ، وَهِيَ مُعَدَّةٌ لِتَعْذِيبِ الكَافِرِينَ الجَاحِدِينَ المُعَانِدِينَ.
ولا يخفى ما في هذا من التهويل إذ أنَّ هذه النار توقد بنفس ما يراد إحراقه بها.
فعَنْ عَبْد اللَّه فِي قَوْله: {وَقُودهَا النَّاس وَالْحِجَارَة} قَالَ: هِيَ حِجَارَة مِنْ كِبْرِيت خَلَقَهَا اللَّه يَوْم خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي السَّمَاء الدُّنْيَا يُعِدّهَا لِلْكَافِرِينَ. وعَنْ ابْن مَسْعُود فِي قَوْله: {وَقُودهَا النَّاس وَالْحِجَارَة} قَالَ: حِجَارَة الْكِبْرِيت جَعَلَهَا اللَّه كَمَا شَاءَ.
وعَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {اتَّقُوا النَّار الَّتِي وَقُودهَا النَّاس وَالْحِجَارَة} أَمَّا الْحِجَارَة فَهِيَ حِجَارَة فِي النَّار مِنْ كِبْرِيت أَسْوَد يُعَذَّبُونَ بِهِ مَعَ النَّار
وعَنْ ابْن جُرَيْجٍ فِي قَوْله: {وَقُودهَا النَّاس وَالْحِجَارَة} قَالَ: حِجَارَة مِنْ كِبْرِيت أَسْوَد فِي النَّار. (1)
قال القرطبي: هي حجارة الكبريت الأسود- عن ابن مسعود والفرَّاء- وخصّت بذلك لأنها تزيد على جميع الأحجار بخمسة أنواع ٍمن العذاب: سرعة الاتقاد, نتن الرائحة, كثرة الدخان, شدة الالتصاق بالأبدان, قوة حرِّها إذا حَمِيت" (2).
• شدة حر جهنم وزمهريرها:
قال تعالى: (وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرّ قُلْ نَارُ جَهَنّمَ أَشَدّ حَرّاً لّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) [التوبة: 81]
__________
(1) - تفسير الطبري - (ج 1 / ص 189) (420 - 423) حسن صحيح
(2) - تفسير القرطبي (10/ 25)(3/43)
وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، إِغْرَاءً لَهُمْ بِالثَّبَاتِ عَلَى المُنْكَرِ، وَتَثْبِيطاً لِعَزَائِمِ الْمُؤْمِنِينَ: لاَ تَخْرُجُوا إِلَى الجِهَادِ فِي الحَرِّ. فَأَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ: إِنَّ نَارَ جَهَنَّمَ الَّتِي سَيَصِيرُونَ إِلَيْهَا، هِيَ أَشَدُّ حَرّاً مِنْ قَيْظِ الصَّحْرَاءِ الذِي فَرُّوا مِنْهُ. وَلَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُدْرِكُونَ وَيَعْقِلُونَ لَمَا خَالَفُوا وَقَعَدُوا، وَلَمَا فَرِحُوا بِقُعُودِهِمْ.
وعن يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جَلَسْنَا إِلَى كَعْبِ الأَحْبَارِ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ يُحَدِّثُ، فَجَاءَ عُمَرُ، فَجَلَسَ فِي نَاحِيَةِ الْقَوْمِ، فَنَادَاهُ، فَقَالَ: وَيْحُك يَا كَعْبُ، خُوِّفْنَا، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ النَّارَ لَتُقَرَّبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ، حَتَّى إِذَا أُدْنِيَتْ وَقُرِّبَتْ، زَفَرَتْ زَفْرَةً مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ، وَلاَ صِدِّيقٍ، وَلاَ شَهِيدٍ، إِلاَّ وَجَثَا لِرُكْبَتَيْهِ سَاقِطًا، حَتَّى يَقُولَ كُلُّ نَبِيٍّ، وَكُلُّ صِدِّيقٍ، وَكُلُّ شَهِيدٍ: اللَّهُمَّ لاَ أُكَلِّفُك الْيَوْمَ إِلاَّ نَفْسِي، وَلَوْ كَانَ لَكَ يَابْنَ الْخَطَّابِ عَمَلُ سَبْعِينَ نَبِيًّا، لَظَنَنْت أَنْ لاَ تَنْجُوَ، قَالَ عُمَرُ: وَاللهِ إِنَّ الأَمْرَ لَشَدِيدٌ. (1)
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 13 / ص 154) (35265) صحيح مقطوع(3/44)
وعن كعب قال: قَالَ لِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمًا وَأَنَا عِنْدَهُ: " يَا كَعْبُ خَوِّفْنَا " قَالَ: فَقُلْتُ: " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوَلَيْسَ فِيكُمْ كِتَابُ اللَّهِ وَحِكْمَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ " قَالَ: " بَلَى، وَلَكِنْ يَا كَعْبُ خَوِّفْنَا " قَالَ: قُلْتُ: " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اعْمَلْ عَمَلَ رَجُلٍ لَوْ وَافَيْتَ الْقِيَامَةَ بِعَمَلِ سَبْعِينَ نَبِيًّا لَازْدَرَأْتَ عَمَلَكَ مِمَّا تَرَى " قَالَ: فَأَطْرَقَ عُمَرُ وَأَنْكَسَ وَنَكَّسَ قَالَ: ثُمَّ أَفَاقَ قَالَ: " زِدْنَا يَا كَعْبُ زِدْنَا " قَالَ: قُلْتُ: " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ فُتِحَ مِنْ جَهَنَّمَ قَدْرُ مِنْخَرِ ثَوْرٍ بِالْمَشْرِقِ وَرَجُلٌ بِالْمَغْرِبِ لَغَلَا دِمَاغُهُ حَتَّى يَسِيلَ مِنْ حَرِّهَا " قَالَ: فَأَطْرَقَ عُمَرُ وَنُكِّسَ قَالَ: ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: " زِدْنَا يَا كَعْبُ " قَالَ: قُلْتُ: " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَتَزْفُرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ زَفْرَةً مَا بَقِيَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُصْطَفًى إِلَّا عَلَى رُكْبَتَيْهِ " قَالَ: " وَيَقُولُ: رَبِّ نَفْسِي نَفْسِي لَا أَسْأَلُكَ الْيَوْمَ إِلَّا نَفْسِي " قَالَ: عُمَرُ قَالَ: قُلْتُ: " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوَلَيْسَ تَجِدُونَ هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ " قَالَ: " كَيْفَ؟ " قَالَ: قُلْتُ: " قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ " (1)
مليا: وقتا طويلا.
خر: سقط وهوى بسرعة.
الجثو: الجلوس على الركبتين.
أطرق: أمال رأسه إلى صدره وسكت فلم يتكلم.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف فهو أشد ما تجدون من الحر وأشد ما تجدون من الزمهرير.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ناركم جزء من سبعين جزءا من نار جهنم. قيل: يا رسول الله، إن كانت لكافية، قال: (فضلت عليهن بتسعة وستين جزءا، كلهن مثل حرها.
[*] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح:
__________
(1) - الزهد لأحمد بن حنبل (647) حسن مقطوع(3/45)
(ناركم جزء): زاد مسلم في روايته جزء واحد قوله من سبعين جزءا في رواية لأحمد من مائة جزء والجمع بأن المراد المبالغة في الكثرة لا العدد الخاص أو الحكم للزائد، زاد الترمذي من حديث أبي سعيد لكل جزء منها حرها قوله أن كانت لكافية أن هي المخففة من الثقيلة أي أن نار الدنيا كانت مجزئة لتعذيب العصاة قوله فضلت عليهن كذا هنا والمعنى على نيران الدنيا وفي رواية مسلم فضلت عليها أي على النار قال الطيبي ما محصله إنما أعاد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكاية تفضيل نار جهنم على نار الدنيا إشارة إلى المنع من دعوى الأجزاء أي لا بد من الزيادة ليتميز ما يصدر من الخالق من العذاب على ما يصدر من خلقه قوله مثل حرها زاد أحمد وابن حبان من وجه آخر عن أبي هريرة وضربت بالبحر مرتين ولولا ذلك ما انتفع بها أحد ونحوه للحاكم وابن ماجة عن أنس وزادا فإنها لتدعو الله أن لا يعيدها فيها وفي الجامع لابن عيينة عن بن عباس رضي الله عنهما هذه النار ضربت بماء البحر سبع مرات ولولا ذلك ما انتفع بها أحد أهـ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: هذه النار جزء من مائة جزء من جهنم.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أترونها حمراء كناركم هذه لهي أشد سوادا من القار.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لو كان في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون وفيهم رجل من أهل النار فتنفس فأصابهم نفسه لاحترق المسجد ومن فيه.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن كعب الأحبار أنه قال لعمر بن الخطاب لو فتح من جهنم قدر منخر ثور بالمشرق ورجل بالمغرب لغلى دماغه حتى يسيل من حره.
- وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
قال عبد الملك بن عمير: لو أن أهل النار كانوا في نار الدنيا لقالوا فيها.
وقال عبد الله بن أحمد أخبرت عن سيار عن ابن المعزى وكان من خيار الناس قال بلغني أن رجلا لو خرج منها إلى نار الدنيا لنام فيها ألفي سنة.
• زمهرير جهنم:
إن زمهرير جهنم بيت يتميز فيه الكافر من برده يعني يتقطع ويتمزع.
[*] • وروى ابن أبي الدنيا من طريق الأعمش عن مجاهد قال إن في النار لزمهريرا ولم يغلون فيه فيهربون منها إلى ذلك الزمهرير فإذا وقعوا فيه حطم عظامهم حتى يسمع نقيض.(3/46)
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن مجاهد قال الزمهرير الذي لا يستطيعون أن يذوقوه من برده.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن ابن عباس قال يستغيث أهل النار من الحر فيغاثون بريح باردة يصدع العظام بردها فيسألون الحر.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن عبد الملك بن عمير قال بلغني أن أهل النار يسألون خازنها أن يخرجهم إلى جانبها فيخرجهم فيقتلهم البرد والزمهرير حتى يرجعوا إليها فيدخلوها مما وجدوا من البرد.
[*] • وروى أبو نعيم باسناده عن ابن عباس أن كعبا قال إن في جهنم بردا هو الزمهرير يسقط اللحم حتى يستغيثوا بحر جهم.
• ذكر سجر جهنم وتسعيرها:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة فقال انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها قال فجاءها ونظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها قال فرجع إليه قال فوعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها فأمر بها فحفت بالمكاره فقال ارجع إليها فانظر إلى ما أعددت
لأهلها فيها قال فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالمكاره فرجع إليه فقال وعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد قال اذهب إلى النار فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها فإذا هي يركب بعضها بعضا فرجع إليه فقال وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها فأمر بها فحفت بالشهوات فقال ارجع إليها فرجع إليها فقال وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها.
• تسجر جهنم كل يوم نصف النهار:
تسجر جهنم كل يوم نصف النهار، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: صَلِّ صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس وترتفع فإنها تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار. ثم صل فإن الصلاة مشهودة حتى يستقل الظل بالرمح ثم أقصر عن الصلاة فإنه حينئذ تسجر جهنم فإذا أقبل الفئ فَصَلِّ فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار.(3/47)
(حديث صفوان بن المعطل رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا صليت الصبح فأمسك عن الصلاة حتى تطلع الشمس فإنها تطلع بين قرني الشيطان فإذا طلعت فصل فإن الصلاة محضورة متقبلة حتى تعتدل على رأسك مثل الرمح فأمسك فإن تلك الساعة التي تسجر فيها جهنم و تفتح فيها أبوابها حتى ترتفع الشمس على حاجبك الأيمن فإذا زالت عن حاجبك الأيمن فصل فإن الصلاة محضورة متقبلة حتى تصلي العصر ثم دع الصلاة حتى تغيب الشمس.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن شدة الحر من فيح جهنم فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة.
• تسجر جهنم بخطايا بني آدم:
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن قتادة يسعرها غضب الله وخطايا بني آدم خرجه ابن أبي حاتم وهذا يقتضي أن تسعير جهنم حيث سعرت إنما سعرت بخطايا بني آدم التي تقتضي غضب الله عليهم فتزداد جهنم حينئذ تلهبا وتسعرا يكون وهذا كما أن بناء دور الجنة غرس الأشجار يحصل بأعمال بني آدم الصالحة من الذكر وغيره وكذلك حسن ما فيها من الزوجات وغيرهن يتزايد بتحسين الأعمال الصالحة فكذلك جهنم تسعر وتزداد آلات العذاب فيها بكثرة ذنوب بني آدم وخطاياهم وغضب الرب تعالى عليهم نعوذ بالله من غضب الله ومن النار وما قرب إليها من قول وعمل بمنه وكرمه.
• وتسجر جهنم أيضا يوم القيامة: قال تعالى: (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعّرَتْ * وَإِذَا الْجَنّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مّآ أَحْضَرَتْ) [التكوير 12 - 14] وقرئ سعرت وسعرت بالتشديد والتخفيف قال الزجاج المعنى واحد إلا أن معنى المشدد أوقدت مرة بعد مرة قال قتادة وإذا الجحيم سعرت أوقدت وقال السدي أحميت.
• تسجر جهنم على أهلها بعد دخولهم إليها:
قال تعالى: (وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَىَ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مّأْوَاهُمْ جَهَنّمُ كُلّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً) [الإسراء: 97]
[*] • قال ابن عباس رضي الله عنهما: كلما طفئت أوقدت وقال ابن عباس خبت سكنت.(3/48)
[*] • وقال ابن قتيبة: خبت النار إذا سكن لهبها فاللهب يسكن والجمر يعمل وقال غيره من المفسرين تأكلهم فإذا صاروا فحما ولم تجد النار شيئا تأكله أعيد خلقهم خلقا جديدا فتعود لأكلهم.
وقوله (زِدْنَاهُمْ سَعِيراً): أي نارا تتسعر وتتلهب.
• ذكر تغيظ النار وزفيرها:
قال تعالى: (إِنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنّا الْحُسْنَىَ أُوْلََئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا) [الأنبياء 101، 102]
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن وهب بن منبه قال إذا سيرت الجبال فسمعت حسيس النار وتغيظها وزفيرها وشهيقها صرخت الجبال كما تصرخ النساء ثم يرجع أوائلها على أواخرها يدق بعضها بعضا.
و قال تعالى: (وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذّبَ بِالسّاعَةِ سَعِيراً * إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيّظاً وَزَفِيراً) [الفرقان 11، 12]
و قال تعالى: (وَلِلّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ عَذَابُ جَهَنّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيّزُ مِنَ الغَيْظِ) [الملك 6 - 8]
والشهيق: الصوت الذي يخرج من الجوف بشدة كصوت الحمار قال الربيع بن أنس الشهيق في الصدر.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن ابن عباس قال إن العبد ليجر إلى النار فتشهق إليه شهقة البغلة إلى الشفير ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف.
[*] • وأورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن الضحاك قال إن لجهنم زفرة يوم القيامة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خر ساجدا يقول رب نفسي نفسي.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن عبيد بن عمير قال تزفر جهنم زفرة لا يبقى ملك ولا نبي إلا وقع لركبتيه ترعد فرائصه يقول رب نفسي نفسي.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن عبد الرحمن بن حاطب قال: قال عمر رضي الله عنه لكعب خوفنا قال والذي نفسي بيده إن النار لتقرب يوم القيامة لها زفير وشهيق حتى إذا دنت وقربت زفرت زفرة ما خلق الله من نبي ولا شهيد إلا وجب لركبتيه ساقطا حتى يقول كل نبي وكل صديق وكل شهيد اللهم لا أكلفك اليوم إلا نفسي ولو كان لك يا ابن الخطاب عمل سبعين نبيا لظننت أن لا تنجو قال عمر والله إن الأمر لشديد.(3/49)
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن مطرف بن الشخير عن كعب قال كنت عند عمر فقال يا كعب خوفنا فقلت يا أمير المؤمنين إن جهنم لتزفر يوم القيامة زفرة لا يبقي ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خر ساجدا على ركبتيه حتى إن ابراهيم خليله عليه السلام ليخر جاثيا ويقول نفسي نفسي لا أسألك اليوم إلا نفسي قال فأطرق عمر مليا قال قلت يا أمير المؤمنين أو لستم تجدون هذا في كتاب الله عز وجل قال عمر كيف قلت يقول الله عز وجل في هذه الآية (يَوْمَ تَأْتِي كُلّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نّفْسِهَا وَتُوَفّىَ كُلّ نَفْسٍ مّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [النحل: 111]
وقال مجاهد في قوله (وَهِيَ تَفُورُ) قال تغلي بهم كما يغلي القدر.
وقال ابن عباس: (تَمَيّزُ) تفرق وعنه قال يكاد يفارق بعضها بعضا وتتفطر.
وعن الضحاك تميز تفطر وقال ابن زيد التميز التفرق من شدة الغيظ على أهل معاصي الله عز وجل غضبا له عز وجل وانتقاما له.
[*] • وكان سعيد الجرمي يقول في موعظته إذا وصف الخائفين كأن زفير النار في آذانهم.
[*] • وعن الحسن أنه قال في وصفهم إذا مروا بآية فيها ذكر الجنة بكوا شوقا وإذا مروا بآية فيها ذكر النار ضجوا صراخا كأن زفير جهنم عند أصول آذانهم.
[*] • وروى ابن أبي الدنيا عن أبي وائل قال خرجنا مع ابن مسعود ومعنا الربيع بن خيثم فأتينا على تنور على شاطئ الفرات فلما رآه عبد الله والنار تلتهب في جوف قرأ هذه الآية (إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيّظاً وَزَفِيراً * وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيّقاً مّقَرّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً) [الفرقان 12، 12] فصعق الربيع بن خثيم فاحتملناه إلى أهله فرابطه عبد الله حتى صلى الناس الظهر فلم يفق ثم رابطه إلى العصر فلم يفق ثم رابطه إلى المغرب فأفاق فرجع عبد الله إلى أهله.
• ذكر طعام أهل النار وشرابهم:
• طعام أهل النار نار، شراب أهل النار نار.
• أولاُ طعام أهل النار:
قال تعالى: (إِنّ شَجَرَةَ الزّقّومِ * طَعَامُ الأثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) [الدخان 43: 46]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
يقول تعالى مخبرًا عما يعذب به [عباده] الكافرين الجاحدين للقائه: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأثِيمِ}(3/50)
والأثيم أي: في قوله وفعله، وهو الكافر. وذكر غير واحد أنه أبو جهل، ولا شك في دخوله في هذه الآية، ولكن ليست خاصة به.
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن تكون طعامه؟
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(لو أن قطرة من الزقوم) شجرة خبيثة مرة كريهة الطعم والريح ويكره أهل النار على تناولها
(قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن تكون طعامه) قال: حين قرأ (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102] قال أبو الدرداء: يلقى عليهم الجوع حتى يعدل ما بهم من العذاب فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة وعذاب أليم، والقصد بهذا الحديث وما أشبهه التنبيه على أن أدوية القلوب استحضار أحوال الآخرة وأحوال أهل الشقاء وديارهم فإن النفس مشفولة بالتفكر في لذائذ الدنيا وقضاء الشهوات وما من أحد إلا وله في كل حالة ونفس من أنفاسه شهوة سلطت عليه واستزقته فصار عقله مسخراً لشهوته فهو مشغول بتدبير حيلته وصارت لذته في طلب الحيلة أو مباشرة قضاء الشهوة فعلاج ذلك أن تقول لقلبك ما أشد غباوتك في الاحتراز من الفكر في الموت وما بعده من أهوال الموقف ثم عذاب جهنم وطعام أهلها وشرابهم فيها يورد على فكرة مثل هذا الحديث ويقول كيف تصبر على مقاساته إذا وقع وأنت عاجز عن الصبر على أدنى آلام الدنيا أهـ.
[*] • قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه التبصرة تعليقاً على هذا الحديث:
أسفاً لأهل النار قد هلكوا وشقوا، لا يقدر الواصف أن يصف ما قد لقوا، كلما عطشوا جيء بالحميم فسقوا، وهذا جزاؤهم إذ خرجوا عن الطاعة وفسقوا، قطعوا والله بالعذاب ومزقوا، وأفرد كل منهم عن فريقه وفرقوا، فلو رأيتهم قد كبلوا في السلاسل وأوثقوا، واشتد زفيرهم وتضرع أسيرهم وقلقوا، وتمنوا أن لم يكونوا وتأسفوا كيف خلقوا، وندموا إذا أعرضوا عن النصح وقد صدقوا، فلا اعتذارهم يسمع ولا بكاؤهم ينفع ولا أعتقوا. أهـ
• وقد دل القرآن على أنهم يأكلون منها حتى تمتلئ منها بطونهم فتغلي في بطونهم كما يغلي الحميم وهو الماء الذي قد انتهى حره ثم بعد أكلهم منها يشربون عليه من الحميم شرب الهيم.
[*] • قال ابن عباس رضي الله عنهما: الهيم الابل العطاش.(3/51)
[*] • وقال السدي: هو داء يأخذ الإبل فلا تُرْوَى أبداً حتى تموت فكذلك أهل جهنم لا يروون من الحميم أبدا.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن سعيد بن جبير قال إذا جاع أهل النار استغاثوا من الجوع فأغيثوا بشجرة الزقوم فأكلوا منها فانسلخت وجوههم حتى لو أن ماراً مَرَّ عليهم يعرفهم لعرف جُلودَ وجوههم فإذا أكلوا منها ألقي عليه العطش فاستغاثوا من العطش فأغيثوا بماء كالمهل والمهل الذي قد انتهى حره فإذا أدنوه من أفواههم أنضج حره الوجوه فيصهر به ما في بطونهم ويضربون بمقامع من حديد فيسقط كل عضو على حياله يدعون بالثبور وقوله تعالى ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم [الصافات 86] أي بعد أكل الزقوم.
[*] • قال سلام بن مسكين سمعت الحسن تلا هذه الآية إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم قال إنها هناك قد حميت عليها جهنم.
و قال تعالى: (أَذَلِكَ خَيْرٌ نّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزّقّومِ * إِنّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لّلظّالِمِينَ * إِنّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِيَ أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنّهُ رُءُوسُ الشّيَاطِينِ * فَإِنّهُمْ لاَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمّ إِنّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ * ثُمّ إِنّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ) [الصافات 62 - 68]
[*] • قال قتادة: في قوله فتنة للظالمين [الصافات 63]
قال زادتهم تكذيبا حين أخبرهم أن في النار شجرة قال يخبرهم أن في النار شجرة والنار تحرق الشجر فأخبرهم أن غذاءها من النار.
و قال تعالى: (ثُمّ إِنّكُمْ أَيّهَا الضّآلّونَ الْمُكَذّبُونَ * لاَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مّن زَقّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هََذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدّينِ) [الواقعة 51: 56]
و قال تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الرّؤيَا الّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاّ فِتْنَةً لّلنّاسِ وَالشّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاّ طُغْيَاناً كَبِيراً) [الإسراء: 60]
قال تعالى: (إِنّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً) [المزمل 12، 13]
[*] • قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله (وَطَعَاماً ذَا غُصّةٍ)
قال: شوك يأخذ بالحلق لا يدخل ولا يخرج.(3/52)
وقال تعالى: (لّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاّ مِن ضَرِيعٍ * لاّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ) [الغاشية 6، 7]
[*] • قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله (لّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاّ مِن ضَرِيعٍ)
قال: شجر في جهنم.
وقال مجاهد: الضريع الشبرق اليابس.
قال تعالى: (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ * وَلاَ طَعَامٌ إِلاّ مِنْ غِسْلِينٍ * لاّ يَأْكُلُهُ إِلاّ الْخَاطِئُونَ) [الحاقة 35 - 37]
[*] • قال ابن عباس رضي الله عنهما: من غسلين قال هو صديد أهل النار.
• ثانياً شرابُ أهل النار:
فهذه أربعة أنواع ذكرناها من شرابهم وقد ذكرها الله في كتابه:
• (النوع الأول) الحميم.
قال تعالى: (وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطّعَ أَمْعَآءَهُمْ) [محمد: 15]
و قال تعالى: (هََذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسّاقٌ * وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ) [ص 57، 58]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
{وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا} أي: حارا شديد الحر، لا يستطاع. {فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} أي: قطع ما في بطونهم من الأمعاء والأحشاء، عياذا بالله من ذلك.
[*] • قال ابن عباس رضي الله عنهما: الحميم الحار الذي يحرق.
[*] • وقال الحسن والسدي رحمهما الله تعالى: الحميم الذي قد انتهى حره.
[*] • وقال الضحاك رحمه الله: يسقى من حميم يغلي يوم خلق الله السموات والأرض إلى يوم يسقونه ويصب على رؤوسهم.
[*] • وقال ابن وهب عن ابن زيد: الحميم دموع أعينهم في النار يجتمع في حياض النار فيسقونه.
و قال تعالى: (يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) [الرحمن: 44]
[*] • قال ابن عباس رضي الله عنهما: (حَمِيمٍ آنٍ) الذي قد انتهى غليه.
وقال تعالى: (تُسْقَىَ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) [الغاشية: 5]
[*] • قال مجاهد رحمه الله تعالى: قد بلغ حرها وحان شربها.
[*] • وقال الحسن رحمه الله تعالى: كانت العرب تقول للشيء إذا انتهى حره حتى لا يكون شيء أحر منه قد آن حره، فقال الله عز وجل من عين آنية يقول قد أوقد الله عليها جهنم منذ خلقت وآن حرها وعنه قال إن طبخها منذ خلق السموات والأرض.
[*] • وقال السدي رحمه الله تعالى: انتهى حرها فليس بعده حر.
• (النوع الثاني) الغساق.(3/53)
[*] • قال ابن عباس رضي الله عنهما: الغساق ما يسيل من بين جلد الكافر ولحمه وعنه قال الغساق الزمهرير البارد الذي يحرق من برده ويدل عليه قوله تعالى: (لاّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً * إِلاّ حَمِيماً وَغَسّاقاً) [النبأ 24، 25] فاستثنى من البرد الغساق ومن الشراب الحميم.
[*] • و قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: الغساق القيح الغليظ، لو أن قطرة منه تهرق في المغرب لأنتنت أهل المشرق ولو أهرقت في المشرق لأنتنت أهل المغرب.
[*] • قال مجاهد رحمه الله تعالى: غساق الذي لا يستطيعون أن يذوقوه من برده.
[*] • وقال كعب غساق عين في جهنم يسيل إليها حمة كل ذات حمة من حية وعقرب وغير ذلك فيستنقع فيؤتى بالآدمي فيغمس فيها غمسة واحدة فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام ويتعلق جلده ولحمه في عقبيه وكعبيه ويجر لحمه كما يجر الرجل ثوبه.
[*] • قال السدي رحمه الله تعالى: الغساق الذي يسيل من أعينهم من دموعهم يسقونه مع الحميم.
[*] • وقال بلال بن سعد رحمه الله تعالى: لو أن دلوا من الغساق وضع على الأرض لمات من عليها، وعنه قال لو أن قطرة منه وقعت على الأرض لأنتن من فيها.
• (النوع الثالث) الصديد.
قال تعالى: (مّن وَرَآئِهِ جَهَنّمُ وَيُسْقَىَ مِن مّآءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ) [إبراهيم 16، 17]
[*] • قال مجاهد رحمه الله تعالى في قوله تعالى (وَيُسْقَىَ مِن مّآءٍ صَدِيدٍ) [ابراهيم 16] قال يعني القيح والدم.
[*] • قال قتادة رحمه الله تعالى:
(وَيُسْقَىَ مِن مّآءٍ صَدِيدٍ) قال ما يسيل من بين لحمه وجلده.
وقال (يَتَجَرّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ) قال: هل لكم بهذا يدان أم لكم على هذا صبر طاعة الله أهون عليكم يا قوم فأطيعوا الله ورسوله.
(حديث جابر رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كل مسكر حرام إن على الله عز وجل عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال قالوا يا رسول الله وما طينة الخبال قال عرق أهل النار أو عصارة أهل النار.(3/54)
(حديث بنُ عُمَرَ رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ يقبل الله لَهُ صَلاَة أرْبَعِينَ صَبَاحاً، فإنْ تَابَ تَابَ الله عَلَيْهِ، فإنْ عَادَ لَمْ يَقْبَلْ الله لَهُ صَلاَةً أَرْبَعِينَ صَبَاحاً، فإنْ تَابَ تابَ الله عَلَيهِ فإن عاد لم يقبل الله له صلاة أربعين صبحاً فإن تاب تاب الله عليه. فإنْ عَادَ الرابعة لَمْ يَقْبَل الله لَهُ صَلاَةُ أرْبَعِينَ صَبَاحاً، فإنْ تَابَ لَمْ يَتُبْ الله عَلَيْهِ وسقَاهُ مِنْ نَهْرِ الْخَبَالِ. قِيلَ يا أبَا عَبْدِ الرحمَنِ ومَا نَهْرُ الْخَبَالِ؟ قالَ: نَهْرٌ مِنْ صَدِيدِ أهْلِ النّارِ».
• (النوع الرابع) الماء الذي كالمهل:
وقال تعالى: (وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً) [الكهف: 29]
[*] • قال ابن عباس رضي الله عنهما: (بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ) غليظ كدردي الزيت.
[*] • قال علي بن أبي طالب عن بن عباس أسود كمهل الزيت وكذا قال سعيد بن جبير وغيره.
[*] • قال مجاهد رحمه الله تعالى: (بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ) مثل القيح والدم أسود كعكر الزيت.
• ذكر كسوة أهل النار ولباسهم فيها:
قال تعالى: (فَالّذِينَ كَفَرُواْ قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نّارِ) [الحج: 19]
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن ابراهيم التيمي أنه كان إذا تلا هذه الآية يقول سبحان من خلق من النار ثيابا.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن ابن عباس قال يقطع للكافر ثياب من نار حتى ذكر القباء والقميص والكمة.
قال تعالى: (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مّقَرّنِينَ فِي الأصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىَ وُجُوهَهُمْ النّارُ) [إبراهيم 49: 50]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
وقوله: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} أي: ثيابهم التي يلبسونها عليهم من قطران، وهو الذي تُهنأ به الإبل، أي: تطلى، قاله قتادة. وهو ألصق شيء بالنار.
ويقال فيه: "قَطِران"، بفتح القاف وكسر الطاء، وبفتح القاف وتسكين الطاء، وبكسر القاف وتسكين الطاء، ومنه قول أبي النجم.
كأنّ قِطْرانًا إذَا تَلاهَا ... تَرْمي به الرّيح إلى مَجْراها.(3/55)
وكان ابن عباس يقول: القَطران هو: النحاس المذاب، وربما قرأها: "سَرَابيلهم من قَطِران" أي: من نحاس حار قد انتهى حره. وكذا روي عن مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جُبَير، والحسن، وقتادة.
وقوله: {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} كقوله: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون: 104] أهـ.
وقال تعالى: (لَهُمْ مّن جَهَنّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) [الأعراف: 41]
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن محمد بن كعب
والضحاك والسدي وغيرهم [المهاد: الفراش والغواش اللحف].
قال تعالى: (وَجَعَلْنَا جَهَنّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً) [الإسراء: 8]
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن الحسن في قوله (وَجَعَلْنَا جَهَنّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً) قال فراشا ومهادا.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن الحسن أنه كان إذا ذكر أهل النار قال في وصفهم قد حذيت لهم نعال من نار وسرابيل من قطران وطعامهم من نار وشرابهم من نار وفرش من نار ولحف من نار ومساكن من نار في شر دار وأسوء عذاب في الأجساد أكلا أكلاً وصهرا صهرا وحطما حطما.
[*] • روى ابن أبي الدنيا بسنده عن وهب بن منبه قال أما أهل النار الذي هم أهلها فهم في النار لا يهدؤون ولا ينامون ولا يموتون ويمشون على النار ويجلسون على النار ويشربون من صديد أهل النار ويأكلون من زقوم النار فرشهم ولحفهم نار وقمصهم نار وقطران وتغشى وجوههم النار وجميع أهل النار في سلاسل بأيدي الخزنة أطرافها يجذبون مقبلين ومدبرين فيسيل صديدهم إلى حفر في النار فذلك شرابهم قال ثم بكى وهب حتى سقط مغشيا عليه.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن عطاء الخراساني أنه كان ينادي أصحابه في السفر يا فلان ويا فلان قيام هذا الليل وصيام هذا النهار أيسر من شراب الصديد ومقطعات الحديد ألواحا ثم ألواحا ثم ألواحا ثم يقبل على صلاته.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن ابن عباس في قوله (سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ) قال هو النحاس المذاب.
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
كما في الحديث الآتي:(3/56)
(حديث المستورد رضي الله عنه الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أكل برجل مسلم أكله فإن الله يطعمه مثلها من جهنم ومن كسي ثوبا برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله من جهنم ومن قام برجل مقام سمعة ورياء فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة.
(حديث أبي موسى في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن: الفخر بالأحساب و الطعن في الأنساب و الاستسقاء بالنجوم والنياحة، وقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب.
(حديث أبي موسى في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: النياحة من أمر الجاهلية وإن النائحة إذا ماتت ولم تتب قطع الله لها ثيابا من قطران ودرعا من لهب النار.
• فراش أهل النار وغطاؤهم:
قال تعالى: (لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) {الأعراف:41}.
وَلَهُمْ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ فُرُشٌ مِنْ تَحْتِهِمْ (مِهَادٌ)، وَلَهُمْ مِنْهَا أَغْطِيَةٌ مِنْ فَوْقِهِمْ تُغَطِّيهِمْ (غَوَاشٍ). وَبِمِثْلِ هَذَا الجَزَاءِ يَجْزِي اللهُ الظَّالِمِينَ لأَنْفُسِهِمْ، المُضِلِّينَ لِلْنَّاسِ.
ومقصود الآية: أنهم يفترشون النار, ويلتحفون بألحفةٍ من النار, والعياذ بالله.
وقال تعالى: (لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) {الزمر:16}
يَصِفُ اللهُ تَعَالَى حَالَ هَؤُلاَءِ الخَاسِرِينَ وَهُمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيَقُولُ: إِنَّهُمْ يَكُونُونَ فِيهَا، وَمِنْ فَوْقِهِمْ طَبَقَاتٌ مُتَرَاكِمَةٌ مِنَ النَّارِ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَكَأَنَّهَا الظُّلَلُ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ طَبَقَاتٌ مِثْلُهَا، فَتَغْمُرُهُمْ النَّارُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُصُّ عَلَى النَّاسِ مَا سَيَكُونُ عَلَيْهِ حَالُ الكُفَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ لِيُخَوِّفَهُمْ مِنْ أَهْوَالِ ذَلِكَ اليومِ، فَيَزْدَجِرَ العُقَلاَءُ عَنِ الكُفْرِ وَالمَعَاصِي، وَيَعْمَلُوا بِطَاعَةِ اللهِ، فَيَا عِبَادَ الله اتَّقُوا رَبَّكُمْ تَعَالَى، وَبَالِغُوا فِي الخَوْفِ والحَذَرِ، وَلاَ تَرْتَكِبُوا مَا يُسْخِطُ رَبَّكُمْ عَلَيْكُمْ.(3/57)
وحتى لا يتوهم أحدٌ أنَّ هذه الظلل المذكورة تقي من الحر والعذاب قال (ظللٌ من النار) فهي ظللٌ مُحرِِقة ,كما في قوله تعالى: (انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ* لاَ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ) {المرسلات:30 - 31}
انْطَلِقُوا إِلَى ظِلِّ دُخَانِ نَارِ جَهَنَّمَ المُتَشَعِّبِ إِلَى ثَلاَثِ شُعَبٍ: شُعْبَةٍ عَنْ يَمِينِهِمْ، وَشُعْبَةٍ عَنْ شِمَالِهِمْ، وَشُعْبَةٍ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمْ. وَهَذَا الظِّلُّ لَيْسَ بِظَلِيلٍ، أَيْ إِنَّهُ لاَ يُعْطِي ظِلاًّ يَقِي مِنْ حَرِّ ذَلِكَ اليَوْمِ، وَلاَ يَدْفَعُ عَنْهُمْ حَرَّ لَهَبِ جَهَنَّمَ، الذِي هُمْ مُقِيمُونَ فِيهِ. وَنَارُ جَهَنَّمَ، التِي تُحْدِثُ هَذَا الظِّلَّ مِنَ الدُّخَانِ، يَتَطَايَرُ مِنْهَا شَرَرٌ مُتَفَرِّقٌ فِي جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَأَنَّهُ القَصْرُ عِظَما وَارْتِفَاعاً. وَكَأَنَّهُ الجِمَالُ الصُّفْرُ لَوْناً وَكَثرَةً. (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ مَعْنَى (جِمَالَةٌ صُفْرٌ) هُوَ حِبَالُ السُّفُنِ الغَلِيظَةِ).
• البحار تسجر يوم القيامة:
المراد به أن البحار تفجر يوم القيامة فتصير بحرا واحدا ثم تسجر ويوقد عليها فتصير نارا وتزاد في نار جهنم وقد فسر غير واحد من السلف قوله تعالى: (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجّرَتْ) [التكوير: 6] بنحو هذا وروي المبارك بن فضالة عن كثير أبي محمد عن ابن عباس قال تسجر حتى تصير نارا، وروى مجاهد عن شيخ من بجيلة عن ابن عباس وإذا البحار سجرت قال تكور الشمس والقمر والنجوم في البحر فيبعث الله عليها ريحا دبورا فتنفخه حتى يرجع نارا.
• ذكر عِظَمِ خَلْقِ أهل النار فيها وَقُبْحِ صُوَرِهم وهيئاتهم:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب السريع.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاث.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ضرس الكافر يوم القيامة مثل أحد وفخذه مثل البيضاء ومقعده من النار مسيرة ثلاث مثل الربذة.
َ• الْبَيْضَاءُ: جَبَلٌ مِثْلُ أُحُدٍ
َ• مثل الربذة: مِثْلُ الرَّبَذَةِ كَمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالرَّبَذَةِ(3/58)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ضرس الكافر يوم القيامة مثل أحد و عرض جلده سبعون ذراعا و عضده مثل البيضاء و فخذه مثل ورقان و مقعده في النار ما بيني و بين الربذة.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(ضرس الكافر يوم القيامة مثل أحد وعضده مثل البيضاء) موضع في بلاد العرب يسمى البيضاء أو هو اسم جبل
(ومقعده من النار مسيرة ثلاث مثل الربذة) قرية بقرب المدينة قال القاضي: يريد ما بين الربذة والمدينة والربذة على ثلاث مراحل منها بقرب ذات عرق.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعا وإن ضرسه مثل أحد وإن مجلسه من جهنم كما بين مكة والمدينة.
(حديث المقدام رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من كان من أهل النار عظموا وفخموا كالجبال.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن الحسن أنه ذكر أهل النار فقال قد عظموا لجنهم مسيرة ثلاثة أيام ولياليهن للراكب المسرع وإن ناب أحدهم مثل النخل الطوال وإن دبره لمثل الشعب مغلولة أيديهم إلى أعناقهم قد جمع بين نواصيهم وأقدامهم والملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم يسوقونهم إلى جنهم فيقول الرجل منهم للملك ارحمني فيقول كيف أرحمك ولم يرحمك أرحم الراحمين.
(حديث المقدام رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من أحد يموت سقطا ولا هرما ـ وإنما الناس فيما بين ذلك ـ إلا بعث ابن ثلاثين سنة، فإن كان من أهل الجنة كان على نسخة آدم، وصورة يوسف، وقلب أيوب، ومن كان من أهل النار عظموا، أو فخموا كالجبال.
• تفاوت أهل النار في العذاب:
• أخي الحبيب:
اعلم علم اليقين الذي لا يخالطه شك أن تفاوت أهل النار في العذاب هو بحسب تفاوت أعمالهم التي دخلوا بها النار كما قال تعالى: (وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مّمّا عَمِلُواْ) [الأنعام: 132]
وقال تعالى: (جَزَآءً وِفَاقاً) [النبأ: 26](3/59)
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن ابن عباس قال وافق أعمالهم فليس عقاب من تغلظ كفره وأفسد في الأرض ودعا إلى الكفر كمن ليس كذلك قال تعالى: (الّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ) [النحل: 88]
قال تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوَاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدّ الْعَذَابِ) [غافر: 46]
- وكذلك تفاوت عذاب عصاة الموحدين في النار بحسب أعمالهم فليس عقوبة أهل الكبائر كعقوبة أصحاب الصغائر وقد يخفف عن بعضهم العذاب بحسنات أخر له أو بما شاء الله من الأسباب.
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: منهم من تأخذه النار إلى كعبيه ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه ومنهم من تأخذه النار إلى حجزته ومنهم من تأخذه النار إلى ترقوته.
(حديث أبي سعيد في الصحيحين) أنه سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر عنده عمه 0فقال لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه أم دماغه ـ يعني أبا طالب ـ.
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أهون أهل النار عذابا رجل منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه مع أجزاء العذاب ومنهم من في النار إلى كعبيه مع أجزاء العذاب ومنهم من في النار إلى ركبتيه مع أجزاء العذاب, ومنهم من في النار إلى أرنبته مع إجراء العذاب, ومنهم من في النار إلى صدره مع إجراء العذاب ومنهم من قد اغتمر.
(حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أهون أهل النار عذابا رجلٌ في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل بالقمقم.
(حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل ما يرى أن أحدا أشد منه عذابا وإنه لأهونهم عذابا.(3/60)
(حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أنه قال يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك قال نعم هو في ضحضاح من نار ولولا ذلك كان في الدرك الأسفل من النار.
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أهون أهل النار عذابا أبو طالب وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه.
• أنواع عذاب أهل النار:
يوجد للمعذبين في النار أصناف متعددة من العذاب منها ما يلي:
• تبديل جلودهم كلما نضجت:
قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا العَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً) {النساء:56}.
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى: بِأَنَّهُ سَيُعَاقِبُ الكَافِرِينَ بِآيَاتِ اللهِ وَبِرُسُلِهِ، بِإِحْرَاقِهِمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَكُلَّمَا احْتَرَقَتْ جُلُودُهُمْ أَبْدَلَهُمْ غَيْرَها لِيَسْتَمِرُّوا فِي تَحَسُّسِ العَذَابِ وَآلامِهِ، وَاللهُ عَزِيزٌ لاَ يَتَحَدَّاهُ أَحَدٌ، حَكِيمٌ فِي تَصَرُّفِهِ، يَعْرِفُ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلْعُقُوبَةِ فَيُعَاقِبُهُ، وَمَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلْثَّوَابِ فَيُثِيبُهُ.
قال الحسن: تأكلهم النار كل يوم ٍسبعين ألف مرةٍ , كلما أكلتهم قيل لهم: عودوا, فيعودون كما كانوا. (1)
• من عذاب أهل النار الصهر:
ومن أنواع عذابهم الصهر قال تعالى: (هََذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبّهِمْ فَالّذِينَ كَفَرُواْ قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نّارِ يُصَبّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) [الحج 19 - 21]
[*] • قال مجاهد رحمه الله تعالى: (يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ) يذاب به إذابة.
[*] • وقال عطاء الخراساني رحمه الله تعالى: يذاب به ما في بطونهم كما يذاب الشحم.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان.
__________
(1) - البعث والنشور للبيهقي (564) والزهد لأسد بن موسى (37) صحيح مقطوع(3/61)
• يضربون بمطارق من حديد:
يضربون بمطارق من حديد, فتتفتت أبدانهم, ثم يعودون, قال تعالى: (وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) {الحج:21}.
• ومن عذاب أهل النار أن السلاسل والأغلال والأنكال:
قال تعالى {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالاً وَسَعِيرًا} [الإنسان 4]، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سبأ 33]، وقال تعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل 12 - 13]. فهذه ثلاثة أنواع من العذاب: أحدها الأغلال وهي في الأعناق، الثاني الأنكال وهي القيود، الثالث السلاسل. قال الله تعالى {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة 32] تدخل السلسلة من دبره حتى تخرج من فمه كما ينظم الدجاج في الحديد ليشوى.
• ومن عذاب أهل النار أنها تلفح وجوه الكافرين:
قال الله تعالى {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون 104].
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
{تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ}، كما قال تعالى: {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم: 50]، وقال {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الأنبياء: 39].
وقوله: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعني عابسون.
وقال الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} قال: ألم تر إلى الرأس المُشَيَّط الذي قد بدا أسنانه وقَلَصت شفتاه. انتهى.
• ومن عذاب أهل النار أن النار تأكله النار إلى فؤاده:
قال تعالى: (كَلاّ لَيُنبَذَنّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللّهِ الْمُوقَدَةُ الّتِي تَطّلِعُ عَلَى الأفْئِدَةِ) [الهمزة عند 4، 7](3/62)
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن محمد بن كعب القرضي قال في قوله (تَطّلِعُ عَلَى الأفْئِدَةِ) قال تأكله النار إلى فؤاده فإذا بلغت فؤاده أنشئ خلقه.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن ثابت البناني أنه قرأ هذه الآية ثم قال تحرقهم إلى الأفئدة وهم أحياء لقد بلغ منهم العذاب ثم يبكي وقال الله عز وجل (وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ * لَوّاحَةٌ لّلْبَشَرِ) [المدثر 27: 29]
• ومن عذاب أهل النار أن النار لا تبقي ولا تذر:
قال تعالى: (وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ * لَوّاحَةٌ لّلْبَشَرِ) [المدثر 27: 29]
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن ابن بريدة في قوله لا تبقي ولا تذر قال تأكل العظم واللحم والمخ ولا تذره على ذلك.
[*] • وقال السدي رحمه الله تعالى: لا تبقي من جلودهم شيئا ولا تذرهم من العذاب.
[*] • وقال أبو رزين رحمه الله تعالى: في قوله (لَوّاحَةٌ لّلْبَشَرِ) قال تلفح وجهه لفحة تدعه أشد سوادا من الليل.
[*] • قال قتادة رحمه الله تعالى: (لَوّاحَةٌ لّلْبَشَرِ) حراقة للجلد.
• ومن عذاب أهل النار أن النار تنزع الجلد و تنزع اللحم ما دون العظم:
قال تعالى: (كَلاّ إِنّهَا لَظَىَ * نَزّاعَةً لّلشّوَىَ) [المعارج 15، 16]
[*] • قال مجاهد رحمه الله تعالى: في قوله (نَزّاعَةً لّلشّوَىَ) تنزع الجلد وعنه قال تنزع اللحم ما دون العظم.
• ومن عذاب أهل النار سحبهم على وجوههم:
قال تعالى: (إِنّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النّارِ عَلَىَ وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسّ سَقَرَ) [القمر 47، 48]
و قال تعالى: (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الأغْلاَلُ فِيَ أَعْنَاقِهِمْ والسّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمّ فِي النّارِ يُسْجَرُونَ) [غافر 70 - 72]
[*] • قال قتادة رحمه الله تعالى: يسحبون في النار مرة وفي الحميم مرة.
فيسحب على وجهه في النار فينتثر لحمه وعظامه ومخه.(3/63)
[*] • قال ابن عباس رضي الله عنهما: [يسحبون في الحميم] [غافر 71، 72] قال ينسلخ كل شيء عليه من جلد ولحم وعروق وأعصاب حتى يصير في عقبيه جسد من لحمه مثل طوله وطوله ستون ذراعا ثم يكسى جلدا آخر ثم يسجر في الحميم.
• ومن أهل النار من يعذب بالصعود إلى أعلى النار ثم يهوي فيها:
ومنهم من يعذبُ بالصعود إلى أعلى النار, ثم يهوي فيها, قال تعالى: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودا) {المدثر:17}.
سُنُنْزِلُ بِهِ عَذَاباً شَاقّاً، يُرهِقُهُ وَلاَ يُطِيقُهُ، فَيَكُونُ حَالُهُ حَالَ مَنْ يُكَلَّفُ صُعُودَ جَبَلٍ وَعْرٍ شَائِكٍ. وَقِيلَ إِنَّهُ سَيُكَلِّفُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ صُعُودَ جَبَلٍ مِنْ نَارٍ فِي جَهَنَّمَ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من تردَّى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم يتردَّى فيه خالداً مخلَّداً فيها أبداً، ومن تحسَّى سماً فقتل نفسه، فسمه في يده يتحسَّاه في نار جهنم خالداً مخلَّداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلَّداً فيها أبداً).
• ومن أهل النار من يدور في النار ويجر أمعاءه معه:
(حديث أسامة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يؤتى بالعالم يوم القيامة فيُلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور حولها كما يدور الحمار حول الرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ويحك ما لك كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر فيقول كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه.
• ومن أهل النار من يلقى في مكان ضيق لا يتمكن فيه من الحركة:
ومنهم من يلقى في مكان ضيق لا يتمكن فيه من الحركة الضيقة قال تعالى: (وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيّقاً مّقَرّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً) [الفرقان: 13]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
وقوله: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا} قال قتادة، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو قال: مثل الزج في الرمح أي: من ضيقه.(3/64)
وقال عبد الله بن وهب: أخبرني نافع بن يزيد، عن يحيى بن أبي أسيد -يرفع الحديث إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أنه سئل عن قول الله {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ} قال: "والذي نفسي بيده، إنهم ليُسْتَكرهون في النار، كما يستكره الوتد في الحائط".
وقوله {مُقَرَّنِينَ} قال أبو صالح: يعني مكتفين: {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} أي: بالويل والحسرة والخيبة. انتهى.
قال كعب إن في جهنم تنانير ضيقها كضيق زج رمح أحدكم ثم يطبق على أناس بأعمالهم.
• ومن أهل النار من يجعل في توابيت من نار:
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن ابن مسعود قال إذا بقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من نار فيها مسامير من نار ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت من نار ثم قذفوا في نار الجحيم فيرون أنه لا يعذب في النار غيرهم ثم تلا ابن مسعود (لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ) [الأنبياء: 100]
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن سويد بن غفلة قال: إذا أراد الله أن ينسى أهل النار جعل للرجل صندوقا على قدره من النار ولا ينبض عرق إلا فيه مسمار من نار ثم تضرم بينهما نار ثم بقفل من نار ثم يجعل ذلك الصندوق في صندوق من نار ثم تضرم بينهما نار ثم يقفل ثم يطرح أو يلقى في النار فذلك قوله تعالى (لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) [الزمر: 16] وقوله تعالى (لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ) [الأنبياء: 100] قال فما يرى أن في النار أحدا غيره.
• ومن عذاب أهل النار أنه يأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت:
قال تعالى: (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ) [إبراهيم: 17]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
{وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} أي: يألم له جميع بدنه وجوارحه وأعضائه.
قال ميمون بن مِهْرَان: من كل عظم، وعرق، وعصب.
وقال عكرمة: حتى من أطراف شعره.
وقال إبراهيم التيمي: من موضع كل شعرة، أي: من جسده، حتى من أطراف شعره.(3/65)
وقال ابن جرير: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} أي: من أمامه وورائه، وعن يمينه وشماله، ومن فوقه ومن تحت أرجله ومن سائر أعضاء جسده.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} قال: أنواع العذاب الذي يعذبه الله بها يوم القيامة في نار جهنم، «وليس منها نوع إلا الموت يأتيه منه لو كان يموت، ولكن لا يموت»؛ لأن الله تعالى قال: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا [كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ]} [فاطر: 36].
- ومعنى كلام ابن عباس رضي الله عنهما: أنه ما من نوع من هذه الأنواع من هذا العذاب إلا إذا ورد عليه اقتضى أن يموت منه لو كان يموت، ولكنه لا يموت ليخلد في دوام العذاب والنكال؛ ولهذا قال: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ}
وقوله: {وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} أي: وله من بعد هذا الحال عذاب آخر غليظ، أي: مؤلم صعب شديد أغلظ من الذي قبله وأدهى وأمر. وهذا كما قال تعالى عن شجرة الزقوم: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ} [الصافات: 64 - 68] انتهى.
• ولأهل النار أنواع من العذاب لم يطلع الله عليها خلقه في الدنيا:
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن الحسن قال: ذَكَرَ الله السلاسل والأغلال والنار وما يكون في الدنيا ثم قرأ (وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ) [ص: 58] قال آخر لا ترى في الدنيا.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن ابن عباس في قوله تعالى (زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ) [النحل: 88] قال هي خمسة أنهار تحت العرش يعذبون ببعضها في الليل وبعضها في النار.
• عذاب الكفار في النار متواصل أبدا لا يفتر عنهم ولا ينقطع ولا يُخَفَف.(3/66)
تأمل أخي الكريم حال أولئك التعساء وهم يتقلبون في أنواع العذاب ويعانون في جهنم ما لا تطيقه الجبال، وما يفتت ذكره الأكباد ولا تسأل عما يعانونه من ثقل السلاسل والأغلال.
قال تعالى: (إِنّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنّمَ خَالِدُونَ * لاَ يُفَتّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) [الزخرف 74: 75]
و قال تعالى: (وَالّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنّمَ لاَ يُقْضَىَ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلّ كَفُورٍ) [فاطر: 36]
و قال تعالى: (فَلاَ يُخَفّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ) [البقرة: 86]
و قال تعالى: (وَقَالَ الّذِينَ فِي النّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنّمَ ادْعُواْ رَبّكُمْ يُخَفّفْ عَنّا يَوْماً مّنَ الْعَذَابِ * قَالُوَاْ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيّنَاتِ قَالُواْ بَلَىَ قَالُواْ فَادْعُواْ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ) [غافر 49، 50]
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن اسحاق بن ابراهيم لأنه قال على منبر دمشق لا يأتي على صاحب الجنة ساعة إلا وهو يزداد ضعفا من النعيم لم يكن يعرفه ولا يأتي على صاحب النار ساعة إلا وهو مستنكر لنوع من العذاب لم يكن يعرفه قال الله عز وجل قال تعالى: (فَذُوقُواْ فَلَن نّزِيدَكُمْ إِلاّ عَذَاباً) [النبأ: 30]
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن الحسن قال: سألت أبا برزة عن أشد آية في كتاب الله على أهل النار قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ (فَذُوقُواْ فَلَن نّزِيدَكُمْ إِلاّ عَذَاباً) [النبأ: 30] فقال أهلك القوم بمعاصيهم لله تعالى.(3/67)
أرأيت أخي حال أهل النار وما هم فيه من الشقاء، فتصور نفسك لو كنت منهم - نسأل الله أن لا تكون منهم - تصور نفسك عندما يؤمر بك إلى جهنم عندما تنظر إلى الصراط ودقته وهوله وعظيم خطره وأنت تنظر إلى الزالين والزلات من بين يديك ومن خلفك وقد تنكست هاماتهم وارتفعت على الصراط أرجلهم وثارت إليهم النار بطلبتها، وهم بالويل ينادون وبينما أنت تنظر إليهم مرعوباً خائفاً أن تتبعهم لم تشعر إلا وقد زلت قدمك عن الصراط فطار عقلك ثم زلت الأخرى فتنكست هامتك، فلم تشعر إلا والكلوب قد دخل في جلدك ولحمك، فجذبت به وبادرت إليك النار ثائرة غضبانة لغضب ربها، فهي تجذبك وأنت تنادي ويلي ويلي حتى إذا صرت في جوفها التحمت عليك بحريقها فتورمت في أول ما ألقيت فيها، ثم لم تلبث أن تقطر بدنك وتساقط لحمك، وتكسرت عظامك، وأنت تنادي ولا تُرحم وتتمنى أن تعود لتتوب فلا يجاب نداؤك.
فتصور نفسك وقد طال فيها مكثك، فبلغت غاية الكرب، واشتد بك العطش فذكرت الشراب في الدنيا ففزعت إلى الحميم فتناولت الإناء من يد الخازن الموكل بعذابك فلما أخذته نشت كفك من تحته، وتفسخت لحرارته، ثم قربته إلى فيك فشوى وجهك، ثم تجرعته فسلخ حلقك ثم وصل إلى جوفك فقطع أمعاءك، فناديت بالويل والثبور وذكرت شراب الدنيا وبرده ولذته وتحسرت عليه، ثم آلمك الحريق فبادرت إلى حياض الحميم لتبرد فيها كما تعودت في الدنيا الاغتسال والانغماس في الماء إذا اشتد عليك الحر، فلما انغمست في الحميم تسلخ لحمك، من رأسك إلى قدميك، فبادرت إلى النار رجاء أن تكون هي أهون عليك ثم اشتد عليك حريق النار فرجعت إلى الحميم فأنت هكذا تطوف بينها وبين حميم آن وذلك مصداقاً لقول مولاك جل وعلا: يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن:44]. فتطلب الراحة بين الحميم وبين النار، فلا راحة ولا سكون أبداً.(3/68)
فلما اشتد بك الكرب والعطش وبلغ منك المجهود ذكرت الجنان فهاجت غصة من فؤادك إلى حلقك أسفاً على جوار الله عز وجل وحزناً على نعيم الجنة الذي أضعته بنفسك بسبب الذنوب والمعاصي، ففزعت إلى الله بالنداء بأن يردك إلى الدنيا لتعمل صالحاً فمكث عنك دهراً طويلاً لا يجيبك هواناً بك، ثم ناداك بعد ذلك بالخيبة منه أن اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108] ثم أراد أن يزيدك إياساً وحسرة فأطبق أبواب النار عليك وعلى أعدائه فيها فيا إياسك ويا إياس سكان جهنم حين سمعوا وقع أبوابها تطبق عليهم، فعلموا عند ذلك أن الله عز وجل إنما أطبقها لئلا يخرج منها أحد أبداً، فتقطعت قلوبهم إياساً وانقطع الرجاء منهم أن لا فرج أبداً، ولا مخرج منها، ولا محيص من عذاب الله عز وجل أبداً، خلودٌ فلا موت. وعذابٌ لا زوال له عن أبدانهم، وأحزان لا تنقضي، وسقم لا يبرأ، وقيود لا تحل، وأغلال لا تفك أبداً وعطش لا يروون بعده أبداً، لا يُرحم بكاؤهم، ولا يُجاب دعاؤهم، ولا تقبل توبتهم فهم في عذاب دائم وهوان لا ينقطع، ثم يبعث الله بعد ذلك الملائكة بأطباق من نار ومسامير من نار، وعمد من نار، فتطبق عليهم بتلك الأطباق وتشد بتلك المسامير، وتمد بتلك العمد، فلا يبقى فيها خلل يدخل فيها روح ولا يخرج منه غم، وينساهم الرحمن بعد ذلك نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة:67] فذلك قوله تعالى: إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ [الهمزة:9،8] ينادون الله ويدعونه ليخفف عنهم هذا العذاب فيجيبهم بعد مدة اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]
قال الحسن: (هذا هو آخر كلام يتكلم به أهل النار وما بعد ذلك إلا الزفير والشهيق وعواء كعواء الكلاب ... )، فما أشقى والله هذه الحياة وما أشقى أصحابها - نسأل الله أن لا نكون منهم - وما أعظمها والله من خسارة لا تجبر أبداً، ويا حسرة والله على عقولٍ تسمع بكل هذا العذاب وهذا الشقاء وتؤمن به ثم لا تبالي به ولا تهرب عنه بل تسعى إليه برضاها واختيارها. فلا حول ولا قوة إلا بالله.(3/69)
فيا أخي الحبيب: يا من تعصي الله تصور نفسك لو كنت من أهل النار؟ هل سترضى بشيء من هذا العذاب؟ لا أعتقد ذلك، إذاً فتب إلى الله وارجع عما يكرهه وتقرب إليه بالأعمال الصالحة عسى أن يرضى عنك، وابك من خشيته عسى أن يرحمك ويقيل عثراتك، فإن الخطر عظيم والبدن ضعيف، والموت منك قريب، والله جل جلاله مُطَلِّعٌ عليك ويراك فاستحِ منه وأجِّله ولا تَسْتَخِّف بنظره إليك، ولا تستهين بمعصيته ولا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى عظمة من تعصيه وهو الله جل جلاله وتقدست أسماؤه، واملأ قلبك من خشيته قبل أن يأخذك بغتة، ولا تتعرض له وتبارزه بالمعاصي فإنك لا طاقة لك بغضبه ولا قوة لك بعذابه، ولا صبر لك على عقابه، فتدارك نفسك قبل لقائه لعله أن يرحمك ويتجاوز عنك، واعلم أنه من أيقن الموت خاف الفوت، فكأنك بالموت قد نزل بك وحينها لا ينفعك ندم ولا استدراك ما مضى.
• أعظم عذاب أهل النار حجابهم عن الله تعالى:
وأعظم عذاب أهل النار حجابهم عن الله عز وجل وإبعادهم عنه وإعراضه عنهم وسخطه عليهم كما أن رضوان الله على أهل الجنة أفضل من كل نعيم الجنة وتجليه لهم ورؤيتهم إياه أعظم من جميع أنواع نعيم الجنة.
قال تعالى: (كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ مّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * كَلاّ إِنّهُمْ عَن رّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لّمَحْجُوبُونَ * ثُمّ إِنّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ * ثُمّ يُقَالُ هََذَا الّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ) [المطففين 14 - 17]
فذكر الله تعالى ثلاثة أنواع من العذاب حجابهم عنه ثم صليهم الجحيم ثم توبيخهم بتكذيبهم به في الدنيا ووصفهم بالران على قلوبهم وهو صدأ الذنوب الذي سود قلوبهم فلم يصل إليها بعد ذلك في الدنيا شيء من معرفة الله ولا من إجلاله ومهابته وخشيته ومحبته فكما حجبت قلوبهم في الدنيا عن الله حجبوا في الآخرة عن رؤيته وهذا بخلاف حال أهل الجنة قال تعالى: (لّلّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَىَ وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلّةٌ أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ الْجَنّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [يونس: 26]
والذين أحسنوا هم أهل الاحسان، والإحسان أن يعبد العبد ربه كأنه يراه كما فسره النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سأله عنه جبريل عليه السلام فجعل جزاء الإحسان الحسنى وهو الجنة والزيادة وهي النظر إلى وجه الله عز وجل كما فسره بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما في الحديث الآتي:(3/70)
(حديث صُهَيْبٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: في قَوْلِهِ {لِلّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قالَ: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنّةِ الْجَنّةَ، نَادَى مُنَادٍ إِنّ لَكُمْ عِنْدَ الله مَوْعِداً، قَالُوا أَلَمْ يُبَيّضْ وُجُوهَنَا وَيُنَجّينَا مِنَ النّارِ وَيُدْخِلْنَا الْجَنّةَ؟ قَالُوا بَلَى، فَينكشفُ الْحِجَابُ، قالَ: فَوَالله مَا أَعْطَاهُمْ شَيْئاً أَحَبّ إِلَيْهِمْ مِنَ النظَرِ إِلَيْهِ».
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا.
• ما يتحف به أهل النار عند دخولهم إليها:
ما يتحف به أهل النار عند دخولهم إليها أجارنا الله منها بمنه وكرمه. قال الله تعالى {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [الواقعة 51 – 56]
والنزل هو ما يعد للضيف عند قدومه. فدلت هذه الآيات على أن أهل النار يتحفون عند دخولها بالأكل من شجر الزقوم، والشرب من الحميم، وهم إنما يساقون إلى جهنم عطاشا، كما قال تعالى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم 86].
• تخاصم أهل النار:(3/71)
قال تعالى: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)} [ص/59 - 63]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالى عَنْ أَهْلِ النَّارِ، وَكَيْفَ يَتَنَكَّرُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَكَيْفَ يَتَشَاتَمُونَ وَيَتَلاَعَنُونَ، وَيُكَذِّبُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً، وَحِينَمَا يَرَى جَمَاعَةُ الكُبَرَاءِ، الذِينَ دَخَلُوا النَّارَ، فَوْجاً يَدْخُلُهَا مِنَ الأَتْبَاعِ الذِينَ يَعْرِفُونَهُمْ فِي الدُّنْيَا، يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَذَا فَوْجٌ مِنَ الكَفَرَةِ الضَّالينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ مَعَكُمْ، فَلاَ مَرْحَباً بِهِمْ، إِنَّهُمْ َسَيَذُوقُونَ عَذَابَ النَّارِ، وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرَهَا.
فَيَردُّ عَلَيْهِمُ الأَتْبَاعُ الدَّاخِلُونَ قَائِلِينَ لَهُمْ، وَقَدْ سَمِعُوا مَقَالَتَهُمْ: بَلْ أَنْتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ فَأَنْتُمْ الذِينَ أَضْلَلْتُمُونَا وَدَعَوْتُمُونَا إِلَى مَا أَفْضَى بِنَا إِلَى هَذَا
فَيَقُولُ الأَتباعُ دَاعِينَ عَلَى رُؤُوسِ الضَّلاَلَةِ: رَبَّنَا عَذِّبْ مَنْ كَانَ السَّبَبَ فِي وُصُولِنَا إِلَى هَذَا العَذَابِ وأذِقْهُ عَذَاباً مُضَاعَفاً فِي النَّارِ: عَذَاباً لِضَلاَلِهِ، وَعَذَاباً آخَرَ لإِضْلاَلِهِ غَيْرَهُ.
ثُمَّ يَلْتَفِتُ أَهْلُ النَّارِ لِيَبْحَثُوا بِأنْظَارِهِمْ فِي النَّارِ عَنْ فُقَرَاءِ المُؤْمِنِينَ، وَضُعَفَائِهِمْ، الذِينَ كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنْهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَعُدُّونَهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ، فَلاَ يَرَوْنَهُمْ فِي النَّارِ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لِمَاذَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ أَشْرَاراً فِي الدُّنْيَا، وَكُنَّا نَسْخَرُ مِنْ دَعْوَتِهِمْ إِيَّانَا إِلى الإِيْمَانِ؟ (وَهُمْ يَقْصِدُونَ فَقَرَاءَ المُؤْمِنِينَ).(3/72)
ثُمَّ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَلِ اتَّخَذْنَاهُمْ مَوْضُوعاً لِلْهُزْءِ والسُّخْرِيَةِ، وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلاً لِذَلِكَ، فَكَانُوا عَلَى حَقٍّ، وَكُنَّا عَلَى بَاطِلٍ، فَفَازُوا بِدُخُولِ الجَنَّةِ، وَلَمْ يَدْخُلُوا النَّارَ مَعَنَا، أَمْ أَنَّهُمْ فِي النَّارِ مَعَنَا وَلَكِنَّ أَبْصَارَنَا زَاغَتْ عَنْهُمْ، فَلَمْ تَقَعْ عَلَيْهِمْ؟
وَهَذَا الذِي أَخْبَرْنَاكَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ مِنْ أَحَادِيثِ أَهْلِ النَّارِ وَتَخَاصُمِهِمْ وَتَلاَعُنِهِمْ، لَحَقٌّ وَلاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَقَع.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)} [الأحزاب/64 - 68]
إن الله طرد الكافرين من رحمته في الدنيا والآخرة، وأعدَّ لهم في الآخرة نارًا موقدة شديدة الحرارة، ماكثين فيها أبدًا، لا يجدون وليًّا يتولاهم ويدافع عنهم، ولا نصيرًا ينصرهم، فيخرجهم من النار. يوم تُقَلَّب وجوه الكافرين في النار يقولون نادمين متحيِّرين: يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا رسوله في الدنيا، فكنا من أهل الجنة.
وقال الكافرون يوم القيامة: ربنا إنا أطَعْنا أئمتنا في الضلال وكبراءنا في الشرك، فأزالونا عن طريق الهُدى والإيمان. ربنا عذِّبهم من العذاب مثلَيْ عذابنا الذي تعذبنا به، واطردهم من رحمتك طردًا شديدًا. وفي هذا دليل على أن طاعة غير الله في مخالفة أمره وأمر رسوله، موجبة لسخط الله وعقابه، وأن التابع والمتبوع في العذاب مشتركون، فليحذر المسلم ذلك.
وقال تعالى: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم/21](3/73)
وَيَوْمَ القِيَامَةِ تَبْرُزُ الخَلاَئِقُ كُلُّهَا لِلوَاحِدِ القَهَّارِ، وَتَجْتَمِعُ فِي بَرَازٍ وَاحِدٍ (وَهُوَ المَكَانُ الوَاسِعُ الخَالِي الذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يَسْتُرُهُ)، فَيَقُولُ الأَتْبَاعُ (الضُّعَفَاءُ) لِلقَادَةِ الذِينَ اسْتَكْبَرُوا عَنْ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ: لَقَدْ كُنَّا تَابِعِينَ لَكُمْ نَأْتَمِرُ بِأَمْرِكُمْ، وَقَدْ فَعَلْنَا مَا أَمَرْتُمُونَا بِهِ، فَهَلْ تَدْفَعُونَ عَنَّا اليَوْمَ شَيْئاً مِنَ العَذَابِ {فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا}؟ فَيَرُدُّ عَلَيْهِمُ القَادَةُ الكُبَرَاءُ قَائِلِينَ: لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانَا لَهَدَيْنَاكُمْ مَعَنَا، وَلَكِنَّنَا ضَلَلْنَا فَضَلَلْتُمْ مَعَنَا، فَحَقَّتْ كَلِمَةُ العَذَابِ عَلَى الكَافِرِينَ، وَلاَ بُدَّ مِنَ الصَّبْرِ لأنَّ الجَزَعَ لاَ يُفِيدُ، وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا فَلاَ نَجَاةَ لَنَا مِنَ النَّارِ، وَلاَ مَصْرِفَ لَنَا عَنْهَا.
وقال تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)} [غافر/47 - 50]
وَفِي يَوْمِ القِيَامَةِ أَهْلُ النَّارِ فِي الحِجَاجِ وَالخِصَامِ، فَيَقُولُ الأَتْبَاعُ لِلْقَادَةِ: إِنَّا أَطَعْنَاكُمْ فِيمَا دَعَوْتُمُونَا إِلَيهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الكُفْرِ والضَّلاَلِ، فَهَلْ تَقْدِرُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا عَنَّا قِسْطاً مِنَ العَذَابِ فَتُخَفِّفُوهُ عَنَّا؟ فَقَدْ كُنَا لَكُمْ أَتْبَاعاً، وَإِنَّمَا دَخَلْنَا النَّارَ بِسَبَبِ إِطَاعَتِنَا لَكُمْ.(3/74)
وَيَقُولُ الكُبَرَاءُ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ: إِنَّهُمْ جَمِيعاً فِي النَّارِ يَذُوقُونَ العَذَابَ، وَقَدْ فَصَلَ اللهُ بِقَضَائِهِ بَيْنَ العِبَادِ، فَأَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مَا يَسْتَحِقُّهُ، فَلاَ يُعَذَّبُ أَحَدٌ بِذَنْبِ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا يُعَذَّبُ كُلُّ إِنْسَانٍ بِذَنْبِهِ، وَإِنَّهُمْ جَمِيعاً كَافِرُونَ وَقَدِ اسْتَحَقُّوا العَذَابَ بِسَبَبِ كُفِرِهِمْ.
وَلَمَّا يَئِسَ المُسْتَضْعَفُونَ مِنْ أَنْ يَحْمِلَ السَّادَةُ الذِينَ كَانُوا سَبَبَ كُفْرِهِمْ، وَإِدْخَالِهِمْ فِي النَّارِ، شَيْئاً مِنَ العَذَابِ عَنْهُمْ، اتَّجَهُوا إِلَى خَزَنَةِ جَهَنَّمَ يَسْأَلُونَهُمْ الاتِّجَاهَ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ لِيُخَفِّفَ عَنْهُمْ شَيْئاً مِنَ العَذَابِ فِي النَّارِ.
وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ يُقَرِّعُونَهُمْ عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَيَقُولُونَ لَهُمْ: أَلَمْ تَأْتِكُمْ رُسُلُ رَبِّكُمْ بِالحُجَجِ وَالبَرَاهِينِ عَلَى صِدْقِ مَا يَدْعُونَكُمْ إِلَيهِ؟ وَيَقُولُ المُسْتَضْعَفُونَ: نَعَمْ لَقَدْ جَاءَهُمْ رُسُلُ اللهِ بِالحُجَجِ والبَيِّنَاتِ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ، وَحِينَئِذٍ يَقُولُ لَهُمْ خَزنَةُ جَهَنَّمَ: إِذاً فَادْعُوا أَنْتُمْ وَحْدَكُمْ. وَلكِنَّ دُعَاءَ الكَافِرِينَ لاَ يُفِيدُ، وَلاَ يُسْتَجَابُ لَهُ، وَيَذْهَبُ سُدًى.
وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38)} [الزخرف/36 - 38]
وَمَنْ يَتَغَافَلْ وَيَتَعَامَ عَنِ القُرْآنِ، وَعَنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، وَيَنْهَمِك فِي المَعَاصِي، وَلَذَّاتِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا. . فَإِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ عَلَيْهِ شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ فَيَكُونُونَ لَهُ قُرْنَاءَ، يُزَيِّنُونَ لَهُ ارْتِكَابَ المَعَاصِي، وَالاشْتِغَالَ بِاللَّذَّاتِ، فَيَسْتَرْسِلُ فِيهَا فَيَحِقُّ عَلَيْهِ غَضَبُ اللهِ وَعِقَابُهُ.(3/75)
وَهَؤُلاَءِ القُرنَاءُ مِن شَيَاطِينِ الإِنْسِ والجِنِّ، الذِينَ يُقَيِّضُهُم اللهُ لِكُلِّ مَنْ يَعْشُوا عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ، يُحَاوِلُونَ صَرْفَهُ عَنِ الحَقِّ إِلَى البَاطِلِ، وَيُوسْوِسُونَ لَهُ أَنَّهُ عَلَى جَادَّةِ الهُدَى والحَقِّ والصَّوَابِ، وَأَنَّ غَيْرَهُ عَلَى البَاطِلِ، وَيُكَرِّهُونَ إِلَيهِ الإِيْمَانَ فَيُطِيعُهُمْ.
وَحِينَ يُوَافِي هَذَا الغَافِلُ، الذِي تَسَلّطَتْ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ، رَبَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ يَتَبَرَّمُ بالشَّيْطَانِ الذِي وُكِّلَ بِهِ، وَيَقُولُ لَهُ: يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ مَا بَينَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ، فَبِئْسَ القَرِينُ أَنْتَ، لأَنَّكَ أَضْلَلْتَنِي، وَأَوْصَلْتَنِي إِلَى مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الخِزْيِ والعَذَابِ المُهِينِ.
وَيُقَالُ لِهَذَا الغَافِلِ الجَاهِلِ وَأَمْثَالِهِ، وَشَيَاطِينِهِمْ تَقْرِيعاً وَتَوْبِيخاً: لَنْ يَنْفَعَكُمْ، وَلَنْ يُغَنِيَ عَنْكُم اجْتَمَاعُكُمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ وَقرنَاؤُكُمْ، وَلاَ اشْتِرَاكُكُمْ فِي العَذَابِ الأَلِيمِ، لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُعَانِي مِنَ العَذَابِ مَا يَكْفِيهِ.
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآَنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)} [سبأ/31 - 33](3/76)
وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ مُشْرِكِي العَرَبِ: لَنْ نُؤْمِنَ بِهذا القُرْآنِ، وَلاَ بِالكُتُبِ التِي تَقَدَّمَتْهُ، وَلاَ بِمَا اشْتَملَتْ عَليهِ مِنْ أُمورِ الغَيْبِ، وَالبَعْثِ، وَالنُّشُورِ، وَالحِسَابِ، وَالجَزَاءِ، وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالى عَليهم، قَائِلاً لرَسُولِهِ الكَرِيمِ: لَوْ تَرَى يَا مُحَمَّدُ حَالَ أُولئِكَ الكُفَّارِ، يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهُمْ وَقُوفٌ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِمْ، لِلْحِسَابِ وَالجَزَاءِ، وَقَدْ عَلَتْهُمُ الذِّلَّةُ والمَهَانَةُ. . إذاً لَرَأَيْتَ أَمراً عَجَباً، إِذْ يَقُولُ الأتْبَاعُ المُسْتَضْعَفُونَ لِلسَّادَةِ المُسْتَكْبِرِينَ الذِينَ حَمَلُوهُمْ عَلى اتِّبَاعِ سَبيلِ الغَيِّ والضَّلاَلةِ: لَولا أَنَّكُم صَدَدْتُمُونا عَنِ الهُدَى، وَحَمَلْتُمُونَا عَلى اتِّبَاعِكُمْ حَمْلاً لَكُنّا آمَنَّا بِرَبِّنا، وَبِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ.
فَيَرُدُّ السَّادةُ المُسْتَكْبِرُونَ عَلَى المُستَضْعَفِينَ قَائِلِينَ: هَلْ نَحْنُ الذِينَ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ اتِّبَاعِ الحَقِّ الذِي جَاءَكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ؟ لَيْسَ هذا حَقَّاً، إِنَّكُمْ الذِينَ مَنَعْتُمْ الذِينَ مَنَعْتُمْ أَنْفُسَكُمْ حَظَّهَا مِنِ اتِّبَاعِ الهُدَى لإِجْرَامِكُمْ وَإِيثارِكُمُ الكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ.
فَقَالَ الأَتباعُ المُسْتَضْعَفُونَ لِلسَّادَةِ: بَلْ أَنْتُمُ الذِينَ كُنْتُمْ تُوَسْوِسُونَ لَنَا بِالكُفْرِ لَيلاً وَنَهَاراً، وَتُغُونَنا بِالّّثَّبَاتِ عَلَى الكًُفْرِ، وَالإِقَامَةِ عَلَيهِ، وَتُخْبِرُونَنا أَنَّنا عَلَى هُدىً فِيمَا نَعْبُدُهُ مِنْ أَصْنَامٍ وَأَوْثَانٍ وَأَندَادٍ.
وَيَتَوَقَّفُ الحِوَارُ بَيْنَ الأَتْبَاعِ المُسْتَضْعَفِينَ وَبَينَ السَّادَةِ المَتْبُوعِينَ، وَيُسِرُّ كُلُّ فَرِيقٍ في نَفْسِهِ ما يَشْعُرُ بِهِ مِنْ حَسْرَةٍ وَنَدَمٍ عَلَى ما فَرَّطَ في جَنْبِ اللهِ، وَمَا قَصَّرَ في طَاعَتِهِ، حِينَ يَرَى العَذابَ الذِي أَعَدَّهُ اللهُ لِلْكَفَرةِ المُجْرِمينَ. ثُمَّ تُوضَعُ الأَغْلالُ وَسِلاسِلُ الحَدِيدِ فِي أَعْنَاقِ هؤلاءِ، وَهُمْ في النَّارِ.
والعَذَابُ الذِي يَلْقَوْنَهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ إِنَما هُوَ الجَزَاءُ الذِي يَسْتَحِقُّونَهُ عَلى مَا اجْتَرَحُوا مِنَ الكُفْرِ وَالآثامِ والسَّيِّئَاتِ فِي الدُّنيا.(3/77)
• ذكر بكاء أهل النار وزفيرهم وشهيقهم وصراخهم:
ذكر بكاء أهل النار وزفيرهم وشهيقهم وصراخهم ودعائهم الذي لا يستجاب لهم قال الله تعالى (لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ) [الأنبياء: 100]
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن ابن مسعود قال إذا بقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من نار فيها مسامير من نار ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت من نار ثم قذفوا في نار الجحيم فيرون أنه لا يعذب في النار غيرهم ثم تلا ابن مسعود (لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ) [الأنبياء: 100]
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن سويد بن غفلة قال: إذا أراد الله أن ينسى أهل النار جعل للرجل صندوقا على قدره من النار ولا ينبض عرق إلا فيه مسمار من نار ثم تضرم بينهما نار ثم بقفل من نار ثم يجعل ذلك الصندوق في صندوق من نار ثم تضرم بينهما نار ثم يقفل ثم يطرح أو يلقى في النار فذلك قوله تعالى (لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) [الزمر: 16] وقوله تعالى (لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ) [الأنبياء: 100] قال فما يرى أن في النار أحدا غيره.
وقال تعالى: (فَأَمّا الّذِينَ شَقُواْ فَفِي النّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) [هود: 106]
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن الربيع بن أنس الزفير في الحلق والشهيق في الصدر.
[*] • وأورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن قتادة صوت الكافر في النار مثل صوت الحمار أوله زفير وآخره شهيق.
و قال تعالى: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا) [فاطر: 37]
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يرسل البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع ثم يبكون الدم حتى يصير في وجوههم كهيئة الأخدود لو أرسلت فيه السفن لجرت.
• طلب أهل النار الخروج منها:
قال تعالى: (قَالُواْ رَبّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنّا قَوْماً ضَآلّينَ * رَبّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ) [المؤمنون 106: 108]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:(3/78)
{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} أي: رُدَّنا إلى الدار الدنيا، فإن عدنا إلى ما سلف منا، فنحن ظالمون مستحقون للعقوبة، كما قالوا: {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ. ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 11، 12] أي: لا سبيل إلى الخروج؛ لأنكم كنتم تشركون بالله إذا وحده المؤمنون.
{قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}.
هذا جواب من الله تعالى للكفار إذا سألوا الخروج من النار والرجعة إلى هذه الدار، يقول: {اخْسَئُوا فِيهَا} أي: امكثوا فيها صاغرين مُهانين أذلاء. {وَلا تُكَلِّمُونِ} أي: لا تعودوا إلى سؤالكم هذا، فإنه لا جواب لكم عندي.
قال العَوْفِي، عن ابن عباس: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} قال: هذا قول الرحمن حين انقطع كلامهم منه. انتهى.
وقال تعالى: (وَنَادَوْاْ يَمَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبّكَ قَالَ إِنّكُمْ مّاكِثُونَ) [الزخرف: 77]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
{وَنَادَوْا يَامَالِكُ} وهو: خازن النار.
قال البخاري: حدثنا حجاج بن مِنْهال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن عطاء عن صفوان بن يعلى، عن أبيه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ على المنبر: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ}
أي: ليقبض أرواحنا فيريحنا مما نحن فيه، فإنهم كما قال تعالى: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36]. وقال: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأشْقَى. الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى. ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [الأعلى: 11 - 13]، فلما سألوا أن يموتوا أجابهم مالك، {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}:
قال ابن عباس: مكث ألف سنة، ثم قال: إنكم ماكثون. رواه ابن أبي حاتم.
أي: لا خروج لكم منها ولا محيد لكم عنها. انتهى.(3/79)
وقال تعالى: (وَقَالَ الّذِينَ فِي النّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنّمَ ادْعُواْ رَبّكُمْ يُخَفّفْ عَنّا يَوْماً مّنَ الْعَذَابِ * قَالُوَاْ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيّنَاتِ قَالُواْ بَلَىَ قَالُواْ فَادْعُواْ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ) [غافر 49: 50]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
{وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} لما علموا أن الله، سبحانه، لا يستجيب منهم ولا يستمع لدعائهم، بل قد قال: {لأهل النار ـ أن يدعوا لهم الله أن يخفف عن الكافرين ولو يوما واحدا من العذاب، فقالت لهم الخزنة رادين عليهم: {أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي: أوما قامت عليكم الحجج في الدنيا على ألسنة الرسل؟ {قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا} أي: أنتم لأنفسكم، فنحن لا ندعو لكم ولا نسمع منكم ولا نود خلاصكم، ونحن منكم برآء، ثم نخبركم أنه سواء دعوتم أو لم تدعوا لا يستجاب لكم ولا يخفف عنكم؛ ولهذا قالوا: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ} أي: إلا من ذهاب، لا يتقبل ولا يستجاب. انتهى.
وقال تعالى: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الّذِي كُنّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مّا يَتَذَكّرُ فِيهِ مَن تَذَكّرَ وَجَآءَكُمُ النّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظّالِمِينَ مِن نّصِيرٍ) [فاطر: 37]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
{كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} أي: هذا جزاء كل من كفر بربه وكذب بالحق.(3/80)
وقوله: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} أي: ينادون فيها، يجأرون إلى الله، عز وجل بأصواتهم: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} أي: يسألون الرجعة إلى الدنيا، ليعملوا غير عملهمالأول، وقد علم الرب، جل جلاله، أنه لو ردهم إلى الدار الدنيا، لعادوا لما نهوا عنه، وإنهم لكاذبون. فلهذا لا يجيبهم إلى سؤالهم، كما قال تعالى مخبرا عنهم في قولهم: {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} [غافر: 11، 12]، أي: لا يجيبكم إلى ذلك لأنكم كنتم كذلك، ولو رددتم لعدّتم إلى ما نهيتم عنه؛ ولهذا قال هاهنا: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} أي: أوما عشتم في الدنيا أعمارا لو كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في مدة عمركم؟
وقد اختلف المفسرون في مقدار العمر المراد هاهنا فروي عن علي بن الحسين زين العابدين أنه قال: مقدار سبع عشرة سنة.
وقال قتادة: اعلموا أن طول العمر حجة، فنعوذ بالله أن نُعَيَّر بطول العمر، قد نزلت هذه الآية: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ}، وإن فيهم لابن ثماني عشرة سنة، وكذا قال أبو غالب الشيباني.
وقال عبد الله بن المبارك، عن مَعْمَر، عن رجل، عن وهب بن مُنَبِّه في قوله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} قال: عشرين سنة.
وقال هشيم، عن منصور، عن زاذان، عن الحسن في قوله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} قال: أربعين سنة.
وقال هُشَيْم [أيضا]، عن مجاهد، عن الشعبي، عن مسروق أنه كان يقول: إذا بلغ أحدكم أربعين سنة، فليأخذ حذره من الله عز وجل.
وهذه رواية عن ابن عباس فيما قال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم، عن مجاهد قال: سمعت ابن عباس يقول: العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} أربعون سنة.(3/81)
هكذا رواه من هذا الوجه، عن ابن عباس. وهذا القول هو اختيار ابن جرير. ثم رواه من طريق الثوري وعبد الله بن إدريس، كلاهما عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم في قوله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} ستون سنة.
فهذه الرواية أصح عن ابن عباس، وهي الصحيحة في نفس الأمر أيضًا، لما ثبت في ذلك من الحديث ـ كما سنورده ـ لا كما زعمه ابن جرير، من أن الحديث لم يصح؛ لأن في إسناده مَنْ يجب التثبت في أمره.
وقد روى أصبغ بن نُباتة، عن علي، رضي الله عنه، أنه قال: العمر الذي عَيَّرهم الله به في قوله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} ستون سنة.
- ثم ذكر الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أعذر الله إلى امرئ أخَّر أجله حتى بلَّغه ستين سنة. انتهى.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أتت عليه ستون سنة فقد أعذر الله إليه في العمر.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(من أتت عليه ستون سنة فقد أعذر اللّه إليه في العمر) أي بسط عذره على مواضع التملق له وطلب العذر إليه كما يقال لمن فعل ما نهى عنه ما حملك على هذا؟ فيقول خدعني فلان وغرّني كذا ورجوت كذا وخفت كذا فيقال له قد عذرناك وتجاوزنا عنك فإذا لم يرجع العبد ويعتذر مع تلاهي العمر وحلول الشيب الذي هو نذير الموت بساحته فقد خلع عذاره ورفض إنذاره وعدم الحجة في ترك الحجة ولا قوة إلا باللّه، قال ابن بطال: إنما كانت الستون حدّاً لذلك لأنها قريبة من المعترك وهو سن الإنابة وترقب المنية فهذا إعذار بعد إعذار لطفاً منه تعالى بعباده حتى ينقلهم من حالة الجهل إلى حالة العلم ثم أعذر إليهم فلم يعاقبهم إلا بعد الحجة الواضحة.
• أهل النار لا يزالون في رجاء حتى يذبح الموت:
ولا يزال أهل جهنم في رجاء الفرج إلى أن يذبح الموت فحينئذ يقع منهم الإياس وتعظم عليهم الحسرة والحزن وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.(3/82)
(حديث أبي سعيد في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يؤتى بالموت كهيئة كبشٍ أملح فينادي منادٍ: يا أهل الجنة! فيشرئبون وينظرون فيقول هل تعرفون هذا؟ فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه، ثم ينادي: يا أهل النار! فيشرئبون وينظرون فيقول هل تعرفون هذا؟ فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه، فيذبح ثم يقول: يا أهل الجنة خلودٌ فلا موت ويا أهل النار خلودٌ فلا موت ثم قرأ قوله تعالى: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) [سورة: مريم - الآية: 39].
(حديث ابن عمر رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا صار أهل الجنة إلى الجنة و أهل النار إلى النار جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة و النار ثم يذبح ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة خلود لا موت يا أهل النار خلود لا موت فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم و يزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم.
• ذكر نداء أهل النار أهل الجنة وأهل الجنة أهل النار وتكليم بعضهم بعضا:
ذكر نداء أهل النار أهل الجنة وأهل الجنة أهل النار وتكليم بعضهم بعضا.(3/83)
قال تعالى: (وَنَادَىَ أَصْحَابُ الْجَنّةِ أَصْحَابَ النّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتّم مّا وَعَدَ رَبّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمِينَ * الّذِينَ يَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالاَخِرَةِ كَافِرُونَ * وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النّارِ قَالُواْ رَبّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ * وَنَادَىَ أَصْحَابُ الأعْرَافِ رِجَالاٍ يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَآ أَغْنَىَ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهََؤُلآءِ الّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ * وَنَادَىَ أَصْحَابُ النّارِ أَصْحَابَ الْجَنّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُوَاْ إِنّ اللّهَ حَرّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) [الأعراف 44، 50](3/84)
وَبَعْدَ أَنْ يَسْتَقِرَّ أَهْلَ الجَنَّةِ فِيهَا، وَيَحْمَدُونَ اللهَ تَعَالَى عَلَى النَّعِيمِ الذِي أَسْبَغَهُ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ، يَطَّلِعُونَ عَلَى أَهْلِ النَّارِ، فَيَرَوْنَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ العَذَابِ وَالنَّصَبِ، وَيَرَوْنَ قَوْماً مِمَّنْ عَرَفُوهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا، وَكَانُوا يُكَذِّبُونَ بِآيَاتِ اللهِ، وَيَكْفُرُونَ بِهَا، وَيَسْخَرُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، وَيُشَكِّكُونَ فِي صِدْقِ مَا جَاءَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ عَنْ ثَوَابِ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَاعِلِي الخَيْرِ، وَعَنِ العَذَابِ الذِي يَنْتَظِرُ المُكَذِّبِينَ المُجْرِمينَ، فَيُخَاطِبُونَهُمْ قَائِلِينَ: لَقَدْ وَجَدْنَا نَحْنُ مَا وَعَدَنَا رَبُّنا مِنْ نَعِيمٍ، وَجَنَّاتٍ، حَقّاً، جَزَاءً عَلَى الإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، فَهَلْ وَجَدْتُمْ أَنْتُمْ يَا أَصْحَابَ النَّارِ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ عَذَابٍ وَنَكَالٍ حَقّاً؟ فَيُجِيبُهُمْ أَهْلُ النَّارِ: أَنْ نَعَمْ، لَقَدْ وَجَدْنَا ذَلِكَ. وَبَعْدَ أَنْ يُقِروا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالكُفْرِ، يُعْلِنُ مُعْلِنٌ: أَنْ لَعْنَةَ اللهِ مُسْتَقِرَّةٌ عَلَى الظَّالِمِينَ لأَنْفُسِهِمْ بِالكُفْرِ وَالمَعَاصِي.
وَيُعَرِّفُ اللهُ تَعَالَى هَؤُلاَءِ الظَّالِمِينَ لأَنْفُسِهِمْ فَيَقُولُ: إِنَّهُمُ الذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَيَمْنَعُونَ النَّاسَ مِنْ اتِّبَاعِ مَا شَرَعَ اللهُ مِنَ الهُدَى، وَمَا جَاءَتْ بِهِ النُّبُوَّاتَ، وَيَبْغُونَ أَنْ تَكُونَ سَبيلُ اللهِ مُعْوَجَّةً غَيْرَ مُسْتَقِيمَةٍ حَتَّى لاَ يَسْلُكَهَا أَحَدٌ، وَيَكْفُرُونَ بِلِقَاءِ اللهِ فِي الآخِرَةِ، لاَ يُصَدِّقُونَ وَلاَ يُؤْمِنُونَ، وَلِذَلِكَ فَإنَّهُمْ لاَ يُبَالُونَ بِمَا يَأْتُونَ مِنْ مُنْكَرِ القَوْلِ وَالفِعْلِ، لأنَّهُمْ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَ اللهِ وَحِسَابَهُ.
وَيَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ بَيْنَ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَأَهْلِ النَّارِ حِاجَزاً (حِجَاباً) يَمْنَعُ وُصُولَ أَهْلِ النَّارِ إِلَى الجَنَّةِ، وَهُوَ السُّورُ الذِي قَالَ عَنْهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أَخْرَى {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ} وَهُوَ الأَعْرَافُ.(3/85)
وَيَقُولُ المُفسِّرُونَ: يَقِفُ عَلَى الأَعْرَافِ أُنَاسٌ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُمْ مَعْ سَيِّئَاتِهِمْ، فَلاَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَلا هُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ فِيهِمْ، وَلكِنَّهُمْ يَطْمَعُونَ فِي أَنْ يُدْخِلَهُمُ اللهُ الجَنَّةَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ وَرَحْمَتِهِ.
وَأَهْلُ الأَعْرَافِ يَعْرِفُونَ كُلاًّ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَأَهْلِ الجَنَّةِ بِسِيمَاهُمُ التِي وَصَفَهُمُ اللهُ بِهَا (وَهِيَ بَيَاضُ الوَجْهِ، وَنَضْرَةُ النَّعِيمِ التِي تَعْلُو وُجُوهَ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَسَوادُ الوَجْهِ وَالقَتَرَةُ التِي تَرْهَقُ وُجُوهَ أَهْلِ النَّارِ). وَيَتَوَجَّهُ أَهْلُ الأَعْرَافِ إلَى أَهْلِ الجَنَّةِ بِالسَّلاَمِ قَائِلِينَ لَهُمْ: سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ، يَقُولُونَهَا مُهَنِّئِينَ بِالفَوْزِ بِالحِسَابِ، طَامِعِينَ فِي أَنْ يُدِخِلََهُمُ اللهُ الجَنَّةَ مَعَهُمْ.
وَقَالَ مُفَسِّرُونَ آخَرُونَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى (لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ) إِنَّ أَهْلَ الأَعْرَافِ يُسَلِّمُونَ عَلَى أَهْلِ الجَنَّةِ بَعْدَ أَنْ يَجْتَازُوا الحِسَابَ، وَقَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا الجَنَّةَ، إِذْ يَكُونُونَ طَامِعِينَ فِي دُخُولِهَا لِمَا رَأَوْهُ مِنْ يُسْرِ الحِسَابِ.
وَكُلَّمَا اتَّجَهَتْ أَبْصَارُهُمْ إلَى جِهَةِ أَهْلِ النَّارِ تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ مَنَازِلِهِمْ، وَقَالُوا رَبَّنا لاَ تَجْعَلْنا مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ.
وَيَعْرِفُ أَهْلُ الأَعْرَافِ رُؤُوسَ الكُفْرِ، وَقَادَةَ الشِّرْكِ، وَهُمْ فِي النَّارِ، بِسِيمَاهُمْ (أَيْ بِسَوَادِ وُجُوهِهِمْ) فَيُقَرِّعُونَهُمْ قَائِلِينَ: لَمْ تَنْفَعْكُمْ كَثْرَتُكُمْ، وَجَمْعُكُمُ المَالَ، وَلَمْ يُغْنِ عَنْكُمُ اسْتِكْبَارُكُمْ، مِنْ عَذَابِ اللهِ، وَهَا أَنْتُمْ قَدْ صِرْتُمْ إلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ العَذَابِ، وَسُوءِ المَصِيرِ.(3/86)
ثُمَّ يَقُولُونَ لَهُمْ مُوَبِّخِينَ مُقَرِّعِينَ، وَهُمْ يَلْفِتُونَ أَنْظَارَهُمْ إِلَى أَهْلِ الجَنَّةِ الذِينَ كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنْهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا، وَيَسْتَبْعِدُونَ أَنْ يُصِيبَهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ: أَهَؤُلاَءِ الذِينَ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لَنْ يَرْحَمَهُمْ؟ ألاَ تَرَوْنَ مَا قِيلَ لَهُمْ بِأَمْرِ اللهِ: ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِسَلاَمٍ، لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَمْرِكُمْ، وَلاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ عَلَى مَا خَلَّفْتُمْ وَرَاءَكُمْ فِي الدُّنْيَا.
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ ذِلَّةِ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي ذَلِكَ المَوْقِفِ العَظِيمِ، وَسُؤَالِهِمْ أَهْلَ الجَنَّةِ أَنْ يُعْطُوهُمْ شَيْئاً مِنْ شَرَابِهِمْ وَطَعَامِهِمْ، فَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الجَنَّةِ: إِنَّ اللهَ حَرَّم ذَلِكَ عَلَى الكَافِرِينَ.
وَوَصَفَ أَهْلُ الجَنَّةِ هَؤُلاَءِ الكَافِرِينَ، الذِينَ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمُ المَاءَ وَالطَّعَامَ، بِأَنَّهُمْ: الذِينَ اتَّخَذُوا الدِّينَ لَهْواً وَلَعِباً، وَاغْتَرُّوا بِالدُّنيا وَزِينَتِهَا وَزُخْرُفِها، فَانْصَرَفُوا إِليها، وَتَرَكُوا مَا أَمَرَهُمُ اللهُ بِهِ مِنَ العَمَلِ لِلآخِرَةِ.
وَكَمَا نَسِيَ هَؤُلاَءِ دِينَهُمْ وَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ، وَكَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَجَحَدُوا بِهَا، فَإِنَّ اللهَ يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الشَّيءِ المَنْسِيِّ، الذِي لاَ يَبْحَثُ عَنْهُ أَحَدٌ، وَيَنْسَاهُمْ فَلا يُجِيبُ دُعَاءَهُمْ، وَيَتْرُكُهُمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يُعَذَّبُونَ.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ} الآيَةُ، قَالَ: يُنَادِي الرَّجُلُ أَخَاهُ، وَيُنَادِي الرَّجُل الرَّجُلَ فَيَقُولُ: إنِّي قَدَ احْتَرَقْت فَأَفِضْ عَلَيَّ مِنَ الْمَاءِ، قَالَ: فَيُقَالَ له: أَجِبْهُ، فَيَقُولُ: إنَّ اللَّهَ حرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ. (1)
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن ابن عباس في هذه الآية قال ينادي الرجل أخاه إني قد احترقت فافض علي من الماء فيقال أجبه فيقول إن الله حرمهما على الكافرين.
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 13 / ص 369) (35918) صحيح(3/87)
• وقال سنيد في تفسيره حدثنا حجاج عن أبي بكر بن عبد الله قال ينادون أهل النار يا أهل الجنة فلا يجيبونهم ما شاء الله ثم يقال أجيبوهم وقد قطع الرحم والرحمة فيقول أهل الجنة يا أهل النار عليكم لعنة الله يا أهل النار عليكم غضب الله يا أهل النار لا لبيكم ولا سعديكم ماذا تقولون فيقولون ألم نكن في الدنيا آباءكم وأبناءكم وإخوانكم وعشيرتكم فيقولون بلى فيقولون أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين [الأعراف 50]
قال تعالى: (كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة * إِلاّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنّا نَخُوضُ مَعَ الُخَآئِضِينَ * وَكُنّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدّينِ) [المدثر 38: 46]
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن ابن مسعود أنه لا يترك في النار غير هؤلاء الأربعة قال وليس فيهم من خير.
و قال الله عز وجل: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) [الصافات/50، 60]
وَيَأْخُذُ أَهْلُ الجِنَّةِ، وَهُمْ فِي جلْسَتِهِمْ تِلْكَ، فِي تَجَاذُبِ أَطْرَافِ الحَدِيثِ، وَيَتَنَاوَلُونَ فِي أَحَادِيِثِهِمْ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا.(3/88)
قَالَ قَائِلٌ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ الذِينَ يَتَحَادَثُونَ: إِنَّهُ كَانَ لِي صَاحِبٌ (قَرِينٌ) مُشْرِكٌ فِي الدُّنْيَا يَلُومُ المُؤْمِنِينَ عَلَى إِيْمَانِهِمْ بِالحَشْرِ والحِسَابِ، وَيَسْخَرُ مِنْهُمْ. وَيَقُولُ لِصَدِيقِه المُؤْمِنِ: هَلْ أَنْتَ مُصَدِّقٌ بِالبَعْثِ والنُّشُورِ والجَزَاءِ؟
وَيَقُولُ مُتَعَجِّباً: هَلْ إِذَا أَصْبَحْنَا تُراباً وَعِظَاماً نِخْرَةً، سَنُبَعَثُ لِنُحَاسَبَ عَلَى أَعْمَالِنَا وَنُجْزَى بِهَا؟ إِنَّ ذَلِكَ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أبداً.
وَيَقُولُ المُؤْمِنُ لأَصْحَابِهِ الجَالِسِينَ مَعَهُ فِي رِحَابِ الجَنَّةِ: هَلْ تَوَدُّونَ أَنْ تَطَّلِعُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي الجَحِيمِ، لَتَرَوْا عَاقِبَةَ أَمْرِ هَذَا القَرِينِ الكَافِرِ؟
فَاطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ النَّارِ، فَرَأى قَرِينَهُ وَسَطَ الجَحِيمِ، يَتَلَظَّى بِلَهِيبِها. فَقَالَ المُؤْمِنُ لِقَرينِهِ المُشْرِكِ مُوَبِّخاً وَمُقَرِّعاً: لَقَدْ كِدْتَ أَنْ تهْلِكَنِي لَوْ أَنَّني أَطَعْتُكَ فِي كُفْرِكَ وِعِصْيَانِكَ.
وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيَّ، لَكُنْتُ مِثْلَكَ مُحْضَراً فِي العَذَابِ فِي سَوَاءِ الجَحِيمِ، وَلَكِنَّ رَحْمَتَهُ تَعَالَى أَنْقَذَتْني مِنْ سُوءِ العَاقِبَةِ، إِذْ هَدَانِي اللهُ إِلَى الإِيْمَانِ.
ثُمَّ التَفَتَ المُؤْمِنُ إِلى جُلَسَائِهِ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ فَقَالَ لَهُمْ عَلَى مَسْمَعٍ مِنَ الكَافِرِ، لِيَزِيدَ فِي ألَمِهِ وَحَسْرَتِهِ وَعَذَابِهِ: هَلْ نَحْنُ مُخَلَّدُونَ فِي الجَنَّةِ، مُنعَّمُونَ فِيهَا، لاَ نَمُوتُ، وَلاَ تَزُولُ نِعَمُهَا عَنَّا؟
وَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُوْلَى، وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ؟ فَقِيلَ لَهُ: لاَ. فَقَالَ المُؤْمِنُ لأَصْحَابِهِ وَجُلَسَائِهِ: إِنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيم، مَعَ مَا يَتَمَتَعُّونَ بِهِ مِنَ المَآكِلِ والمَشَارِب والملَذَّاتِ، هُوَ الفَوْزُ العَظيمُ، وَالنَّجَاةُ مِمَّا كُنَّا نَحْذَرُهُ مِنْ عِقَابِ اللهِ تَعَالَى.(3/89)
وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)} [المدثر/38 - 47]
كل نفس بما كسبت من أعمال الشر والسوء محبوسة مرهونة بكسبها، لا تُفَكُّ حتى تؤدي ما عليها من الحقوق والعقوبات، إلا المسلمين المخلصين أصحاب اليمين الذين فكُّوا رقابهم بالطاعة، هم في جنات لا يُدْرَك وصفها، يسأل بعضهم بعضًا عن الكافرين الذين أجرموا في حق أنفسهم: ما الذي أدخلكم جهنم، وجعلكم تذوقون سعيرها؟ قال المجرمون: لم نكن من المصلِّين في الدنيا، ولم نكن نتصدق ونحسن للفقراء والمساكين، وكنا نتحدث بالباطل مع أهل الغَواية والضلالة، وكنا نكذب بيوم الحساب والجزاء، حتى جاءنا الموت، ونحن في تلك الضلالات والمنكرات.
وعَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: يَشْرُفُ قَوْمٌ فِي الْجَنَّةِ عَلَى قَوْمٍ فِي النَّارِ فَيَقُولُونَ: مَا لَكُمْ فِي النَّارِ , وَإِنَّمَا كُنَّا نَعْمَلُ بِمَا تُعَلِّمُونَا، قَالُوا: كُنَّا نُعَلِّمُكُمْ، وَلاَ نَعْمَلُ بِهِ. (1)
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)} [المطففين/29 - 36]
إِنَّ المُجْرِمِينَ الذِينَ يُعَانُونَ سُوء العَذَابِ، فِي الآخِرَةِ، كَانُوا فِي الدُّنْيَا يَسْخَرُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ الذِينَ أَكْرَمَهُم اللهُ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ، حِينَمَا كَانُوا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا.
وَكَانُوا إِذَا مَرُّوا بِالمُؤْمِنِينَ يَسْخَرُونَ مِنْهُمْ وَيَتَغَامَزونَ عَلَيْهِمْ بِالعُيُونِ، اسْتِهْزَاءً بِهِمْ.
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 13 / ص 554) (36554) صحيح مرسل(3/90)
وَإِذَا رَجَعُوا إِلَى جَمَاعَتِهِمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ والضَّلاَلِ، رَجَعُوا مُعْجَبِينَ بِأَنْفُسِهِمْ لِمَا فَعَلُوهُ بِالمُؤْمِنِينَ مِنَ السُّخْرِيَةِ وَالإِيْذَاءِ.
وَإِذَا رَأَى هَؤُلاَءِ المُجْرِمُونَ المُؤْمِنِينَ قَالُوا: إِنَّهُمْ ضَالُّونَ إِذْ بَدَّلُوا دِينَهُمْ، وَتَرَكُوا مَا كَانَ يَعْبُدُ آباؤُهُمْ، وَاتَّبَعُوا مُحَمَّداً وَدِينَهُ. وَاللهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يُرْسِلِ الكُفَارَ رُقَبَاءَ عَلَى المُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يَعْهَدْ إِلَيْهِمْ بمُحَاسَبَتِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، فَلاَ يَحقُّ لَهُمْ أَنْ يَعِيبُوا عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعْمَالَهُمْ. وَفِي يَوْمِ القِيَامَةِ الذِي يُكَرِّمُ فِيهِ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ، وَيُخزِي الكَافِرِينَ المُجْرِمِينَ، فَإِنَّ المُؤْمِنِينَ هُمُ الذِينَ يَضْحَكُونَ مِنَ الكُفَّارِ، وَمَا صَارُوا إِلَيهِ مِنَ الخَزْيِ والذَّلِّ وَالعَذَابِ. وَيَكُونُ المُؤْمِنُونَ المَكَرَّمُونَ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ جَالِسِينَ عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ. لِيَرَوا إِنْ كَانَ هَؤُلاَءِ الكُفَّارُ قَدْ لَقُوا الجَزَاءَ الأَوْفَى، الذِي يَسْتَحِقُّونَهُ عََلَى كُفْرِهِمْ وَأَعْمَالِهِم المُجْرِمَةِ، فِي الحِيَاةِ الدُّنْيَا.
• وصف خزنة جهنم وزبانيتها:
قال تعالى: (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ * وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النّارِ إِلاّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدّتَهُمْ إِلاّ فِتْنَةً لّلّذِينَ كَفَرُواْ) [المدثر 30، 31]
وصف الله الملائكة الذين على النار بالغلظ والشدة قال تعالى: (عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاّ يَعْصُونَ اللّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6](3/91)
يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، اعْمَلُوا بِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى، وَاتَّقُوا مَعْصَيَتَهُ، وَأمُرُوا أَهْلَكُمْ بِالذّكْرِ والتَّقْوَى، وَعَلِّمُوهُمْ مَا فَرَضَ اللهُ عَلَيهِمْ، وَمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ، وَأمُرُوهُمْ بِطَاعَةِ اللهِ لِتُنقِذُوهُمْ وَأَنْفُسَكُمْ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، التِي يَكُونُ وَقُودُهَا النَّاسُ مِنَ الكَفَرَةِ، وَالحِجَارَةُ، وَتَقُومُ عَلَيهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ عَلَى أَهْلِ النَّارِ، أَشِدَّاءُ َعَلَيهِمْ، لاَ يُخَالِفُونَ رَبَّهُمْ فِي أَمْرٍ بِهِ، وَيُبَادِرُونَ إِلَى فِعْلِ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ.
أي: على النار خزنة من الملائكة يلون أمرها, وتعذيب أهلها, غلاظ ٌعلى أهل النار, شدادٌ عليهم إذا استرحموهم, لأنَّ الله عزَّ وجلَّ خلقهم من غضبه وحبَّب إليهم تعذيب خلقه.
وقيل: المراد: غلاظ القلوب, شداد الأبدان, وقيل: الغلاظ: ضخام الأجسام, والشداد: الأقوياء. وليس في قلوبهم رحمة, إنَّما خُلقوا للعذاب.
وقال تعالى: (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) {العلق:17 - 18} قال أبو هريرة: الزبانية: الملائكة, وقال عطاء: هم الملائكة الغلاظ الشداد.
[*] • روى أبو نعيم بإسناده عن كعب قال: إن الخازن من خزان جهنم مسيرة ما بين منكبيه سنة وإن مع كل واحد منهم لعمود له شعبتان من حديد يدفع به الدفعة فيكب به في النار سبعمائة ألف.
[*] • وروى عبد الله بن الإمام أحمد بإسناده عن أبي عمران الجوني قال بلغنا أن الملك من خزنة جهنم ما بين منكبيه مسيرة خريف فيضرب الرجل من أهل النار الضربة فيتركه طحينا من لدن قرنه إلى قدمه.
- وفي رواية أخرى له قال بلغنا أن خزنة النار تسعة عشر ما بين منكبي أحدهم مسيرة خريف وليس في قلوبهم رحمة إنما خلقوا للعذاب.
ومالك هو خازن جهنم وهو كبير الخزنة ورئيسهم، قال تعالى: (وَنَادَوْاْ يَمَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبّكَ قَالَ إِنّكُمْ مّاكِثُونَ) [الزخرف: 77](3/92)
وَحِينَمَا يَشْتَدُّ العَذَابُ بِالمُجْرِمِينَ الظَّالِمِينَ يَضجُّونَ فِي النَّارِ، وَيُنَادُونَ: يَا مَالِكُ (وَهُوَ خَازِنُ النَّارِ) ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَقْبِضْ أَرْوَاحَنَا لِيُرِيحَنا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِنَ العَذَابِ الأَلِيمِ. فَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ مَالِكٌ قَائِلاً لَهُمْ: إِنَّهُمْ مَاكِثُونَ فِي النَّارِ أَبَداً، وَلاَ مَجَالَ وَلاَ سَبِيلَ إِلَى خُرُوجِهِمْ مِنْهَا.
وقد رآه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المنام كما في الحديث الآتي:(3/93)
(حديث سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا صَلَّى صَلاَةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ «مَنْ رَأَى مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا». قَالَ فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ قَصَّهَا، فَيَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَسَأَلَنَا يَوْمًا، فَقَالَ «هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا». قُلْنَا لاَ. قَالَ «لَكِنِّى رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِى فَأَخَذَا بِيَدِى، فَأَخْرَجَانِى إِلَى الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ - قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ مُوسَى إِنَّهُ - يُدْخِلُ ذَلِكَ الْكَلُّوبَ فِى شِدْقِهِ، حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا، فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ. قُلْتُ مَا هَذَا قَالاَ انْطَلِقْ. فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ عَلَى قَفَاهُ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ بِفِهْرٍ أَوْ صَخْرَةٍ، فَيَشْدَخُ بِهِ رَأْسَهُ، فَإِذَا ضَرَبَهُ تَدَهْدَهَ الْحَجَرُ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ، فَلاَ يَرْجِعُ إِلَى هَذَا حَتَّى يَلْتَئِمَ رَأْسُهُ، وَعَادَ رَأْسُهُ كَمَا هُوَ، فَعَادَ إِلَيْهِ فَضَرَبَهُ، قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالاَ انْطَلِقْ. فَانْطَلَقْنَا إِلَى ثَقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ، أَعْلاَهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ، يَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارًا، فَإِذَا اقْتَرَبَ ارْتَفَعُوا حَتَّى كَادَ أَنْ يَخْرُجُوا، فَإِذَا خَمَدَتْ رَجَعُوا فِيهَا، وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ. فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالاَ انْطَلِقْ. فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ، فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى وَسَطِ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِى فِى النَّهَرِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِى فِيهِ، فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِى فِيهِ بِحَجَرٍ، فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ. فَقُلْتُ مَا هَذَا قَالاَ انْطَلِقْ.(3/94)
فَانْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، فِيهَا شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَفِى أَصْلِهَا شَيْخٌ وَصِبْيَانٌ، وَإِذَا رَجُلٌ قَرِيبٌ مِنَ الشَّجَرَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ نَارٌ يُوقِدُهَا، فَصَعِدَا بِى فِى الشَّجَرَةِ، وَأَدْخَلاَنِى دَارًا لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا، فِيهَا رِجَالٌ شُيُوخٌ وَشَبَابٌ، وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ، ثُمَّ أَخْرَجَانِى مِنْهَا فَصَعِدَا بِى الشَّجَرَةَ فَأَدْخَلاَنِى دَارًا هِىَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ، فِيهَا شُيُوخٌ وَشَبَابٌ. قُلْتُ طَوَّفْتُمَانِى اللَّيْلَةَ، فَأَخْبِرَانِى عَمَّا رَأَيْتُ. قَالاَ نَعَمْ، أَمَّا الَّذِى رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ بِالْكَذْبَةِ، فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الآفَاقَ، فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالَّذِى رَأَيْتَهُ يُشْدَخُ رَأْسُهُ فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ، وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بِالنَّهَارِ، يُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَالَّذِى رَأَيْتَهُ فِى الثَّقْبِ فَهُمُ الزُّنَاةُ. وَالَّذِى رَأَيْتَهُ فِى النَّهَرِ آكِلُو الرِّبَا. وَالشَّيْخُ فِى أَصْلِ الشَّجَرَةِ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهُ فَأَوْلاَدُ النَّاسِ، وَالَّذِى يُوقِدُ النَّارَ مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ. وَالدَّارُ الأُولَى الَّتِى دَخَلْتَ دَارُ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ، وَأَنَا جِبْرِيلُ، وَهَذَا مِيكَائِيلُ، فَارْفَعْ رَأْسَكَ، فَرَفَعْتُ رَأْسِى فَإِذَا فَوْقِى مِثْلُ السَّحَابِ. قَالاَ ذَاكَ مَنْزِلُكَ. قُلْتُ دَعَانِى أَدْخُلْ مَنْزِلِى. قَالاَ إِنَّهُ بَقِىَ لَكَ عُمْرٌ لَمْ تَسْتَكْمِلْهُ، فَلَوِ اسْتَكْمَلْتَ أَتَيْتَ مَنْزِلَكَ».
تدهده: تدحرج.
يشدخ: يكسر.
الشدق: جانب الفم
• مجيء النار يوم القيامة وخروج عنق منها يتكلم:
قال تعالى: (كَلاّ إِذَا دُكّتِ الأرْضُ دَكّاً دَكّاً * وَجَآءَ رَبّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً * وَجِيَءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكّرُ الإِنسَانُ وَأَنّىَ لَهُ الذّكْرَىَ * يَقُولُ يَلَيْتَنِي قَدّمْتُ لِحَيَاتِي) [الفجر 21 - 24](3/95)
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يؤتى بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها.
قال تعالى: (فَإِذَا جَآءَتِ الطّآمّةُ الْكُبْرَىَ * يَوْمَ يَتَذَكّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَىَ * وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَىَ) [النازعات 34 - 36]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} أي: أظهرت للناظرين فرآها الناس عيانا. انتهى.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن الربيع بن أنس قال في قوله (وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَىَ) قال كشف عنها غطاؤها.
قال تعالى: (كَلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنّ الْجَحِيمَ * ثُمّ لَتَرَوُنّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ) [التكاثر 5 - 7]
[*] قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
{لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} هذا تفسير الوعيد المتقدم، وهو قوله: {كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} تَوعَّدَهم بهذا الحال، وهي رؤية النار التي إذا زفرت زفرة خَرَّ كل ملك مقرب، ونبي مرسل على ركبتيه، من المهابة والعظمة ومعاينة الأهوال. انتهى.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: تخرج عنق من النار يوم القيامة لها عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول إني وكلت بثلاثة بكل جبار عنيد وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
قَوْلُهُ: (تَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْعُنُقُ بِالضَّمِّ وَبِضَمَّتَيْنِ وَكَأَمِيرٍ وَكَصُرَدٍ الْجِيدُ وَيُؤَنَّثُ وَالْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ. وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي التَّرْغِيبِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ: الْعُنُقُ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالنُّونِ أَيْ طَائِفَةٌ وَجَانِبٌ مِنَ النَّارِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ طَائِفَةٌ مِنْهَا، وَ"مِنْ" بَيَانِيَّةٌ.(3/96)
قَالَ الْقَارِي: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ "يَخْرُجُ " كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ظَرْفٌ لَهُ. قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعُنُقِ الْجِيدُ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ إِذْ لَا صَارِفَ عَنْ ظَاهِرِهِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَخْرُجُ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ عَلَى هَيْئَةِ الرَّقَبَةِ الطَّوِيلَةِ، انْتَهَى.
قُلْتُ: الْأَمْرُ عِنْدِي كَمَا قَالَ الْقَارِي وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (يَقُولُ) بِصِيغَةِ التَّذْكِيرِ وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ "يَنْطِقُ" أَوْ حَالٌ
(وَإِنِّي وُكِّلْتُ بِثَلَاثَةٍ) أَيْ وَكَّلَنِي اللَّهُ بِأَنْ أُدْخِلَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ النَّارَ وَأُعَذِّبَهُمْ بِالْفَضِيحَةِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ
(بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْجَبَّارُ هُوَ الْمُتَمَرِّدُ الْعَاتِي، وَالْعَنِيدُ الْجَائِرُ عَنِ الْقَصْدِ، الْبَاغِي الَّذِي يَرُدُّ الْحَقَّ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ.
• ذكر ورود النار نجانا الله منه برحمته:
قال تعالى: (وَإِن مّنكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىَ رَبّكَ حَتْماً مّقْضِيّاً * ثُمّ نُنَجّي الّذِينَ اتّقَواْ وّنَذَرُ الظّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً) [مريم 71، 72]
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن الحسن البصري قال: قال رجل لأخيه: هل أتاك أنك وارد النار؟ قال: نعم. قال: فهل أتاك أنك صادر عنها؟ قال: لا. قال: ففيم الضحك؟ قال: فما رُئي ضاحكًا حتى لحق بالله.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن الحسن قال: لا والله إن أصبح فيها مؤمن إلا حزينا وكيف لا يحزن المؤمن وقد جاءه عن الله أنه وارد جهنم ولم يأته أنه صادر عنها.
وقد اختلف الصحابة ومن بعدهم في تفسير الورود على التفصيل الآتي:
• قالت طائفة الورود هو المرور على الصراط:
وهذا قول ابن مسعود وجابر والحسن وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم والكلبي وغيرهم، وعليه يحمل الأحاديث الآتية:
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يرد الناس النار ثم يصدرون عنها بأعمالهم فأولهم كلمح البصر ثم كمر الريح ثم كحضر الفرس ثم كالراكب في رحله ثم كشد الرجل ثم كمشيه.(3/97)
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن ابن مسعود (وَإِن مّنكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا) قال الصراط على جهنم مثل حد السيف فتمر الطائفة الأولى كالبرق والثانية كالريح والثالثة كأجود الخيل والرابعة كأجود الإبل والبهائم ثم يمرون والملائكة يقولون رب سلم سلم.
(حديث حفصة رضي الله عنها الثابت في صحيح ابن ماجه) أنها قالت قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إني لأرجو ألا يدخل النار أحد إن شاء الله تعالى ممن شهد بدرا والحديبية قالت قلت يا رسول الله أليس قد قال الله وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا قال ألم تسمعيه يقول ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا.
• وقالت طائفة الورود هو الدخول:
وهذا هو المعروف عن ابن عباس وروي عنه من غير وجه وكان يستدل لذلك بقول الله تعالى في فرعون (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النّارَ) [هود: 98] وبقوله تعالى: (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَىَ جَهَنّمَ وِرْداً) [مريم: 86]
وكذلك قوله تعالى: (لَوْ كَانَ هََؤُلآءِ آلِهَةً مّا وَرَدُوهَا) [الأنبياء: 99]
وروي عنه من غير وجه: فتكون على المؤمن برداً وسلاماً ويستقر فيها الكافر والمشرك،
ولعل القول الأول أصح فيكون مرور الناس على الصراط في السرعة وعدمها بحسب أعمالهم، ولعل الصواب في ذلك والله أعلم أن ورود الكافر للنار هو دخولها وورود المؤمن هو المرور على الصراط.
• إذا وقف العبد بين يدي ربه تستقبله النار:
أخبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن العبد إذا وقف بين يدي ربه للحساب فإنه تستقبله النار تلقاء وجهه، وأخبر أن الصدقة تقي صاحبها من النار.
(حديث عدي بن حاتم الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (ليس منكم من أحدٍ إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدَّم وينظر أشأمَ منه فلا يرى إلا ما قدَّم وينظر بين يديه فلا يرى إلا النارَ تلقاءَ وجهِهِ، فاتقوا النارَ ولو بشقِ تمرة.)
• خروج الموحدين من النار برحمة الله وشفاعة الشافعين:(3/98)
إن الموحدين يمرون على الصراط فينجو منهم من ينجو ويقع منهم من يقع في النار فإذا دخل أهل الجنة فقدوا من وقع من إخوانهم الموحدين في النار فيسألون الله عز وجل إخراجهم منها، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.(3/99)
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: قلنا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: (هل تضارُّون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحواً). قلنا: لا، قال: (فإنكم لا تضارُّون في رؤية ربكم يومئذ إلا كما تضارُّون في رؤيتهما). ثم قال: (ينادي مناد: ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون، فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم، وأصحاب الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم، حتى يبقى من كان يعبد الله، من بر أو فاجر، وغُبَّرات من أهل الكتاب، ثم يؤتى بجهنم تُعرض كأنها سراب، فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزير ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم. ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون، حتى يبقى من كان يعبد الله، من بر أو فاجر، فيقال لهم: ما يحبسكم وقد ذهب الناس؟ فيقولون: فارقناهم ونحن أحوج منَّا إليه اليوم، وإنا سمعنا مناديا ينادي: ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، وإنما ننتظر ربنا، قال: فيأتيهم الجبَّار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فلا يكلمه إلا الأنبياء، فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه، فيقولون: الساق، فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة، فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً، ثم يؤتى بالجسر فيُجعل بين ظهري جهنم).(3/100)
قلنا: يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: (مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ، عليه خطاطيف وكلاليب، وحسكة مفلطحة لها شوكة عقيفة، تكون بنجد، يقال لها: السعدان، المؤمن عليها كالطرف وكالبرق وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلَّم وناج مخدوش، ومكدوس في نار جهنم، حتى يمر آخرهم يسحب سحباً، فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق قد تبين لكم مِنَ المؤمن يومئذ للجبار، وإذا رأوا أنهم قد نجوا، في إخوانهم، يقولون: ربنا إخواننا، كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا، فيقول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرِّم الله صورهم على النار، فيأتونهم وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه، وإلى أنصاف ساقيه، فيُخرجون من عرفوا، ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه، فيُخرجون من عرفوا ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه، فيُخرجون من عرفوا). قال أبو سعيد: فإن لم تصدقوني فاقرؤوا: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها}. (فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبار: بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار، فيخرج أقواماً قد امتُحِشوا، فليقون في نهر بأفواه الجنة يقال له: ماء الحياة، فينبتون في حافتيه كما تنبت الحِبَّة في حميل السيل، قد رأيتموها إلى جانب الصخرة، إلى جانب الشجرة، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان منها إلى الظل كان أبيض، فيخرجون كأنهم اللؤلؤ، فيجعل في رقابهم الخواتيم، فيدخلون الجنة، فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه، فيقال لهم: لكم ما رأيتم ومثله معه).
{تنبيه}:• الذين يخرجهم اللهم برحمته من غير شفاعة هم أهل كلمة التوحيد الذين لم يعملوا معها خيرا قط بجوارحهم للحديث الآتي.(3/101)
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض، فيأتون آدم فيقولون: اشفع لنا إلى ربك، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم فإنه خليل الرحمن، فيأتون إبراهيم، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله، فيأتون موسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بعيسى فإنه روح الله وكلمته، فيأتون عيسى فيقول: لست لها، ولكن عليكم بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيأتونني، فأقول: أنا لها، فأستأذن على ربي فيؤذن لي، ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد، وأخرُّ له ساجداً، فيقال: يا محمد ارفع رأسك وقل يُسمع لك، وسل تُعط، واشفع تُشَفَّع، فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخرُّ له ساجداً، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يُسمع لك، وسل تُعط، واشفع تُشَفَّع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجداً، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يُسمع لك، وسل تُعط، واشفع تُشَفَّع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل).
فلما خرجنا من عند أنس، قلت لبعض أصحابنا: لو مررنا بالحسن، وهو متوار في منزل أبي خليفة، فحدثناه بما حدثنا أنس بن مالك، فأتيناه فسلمنا عليه فأذن لنا، فقلنا له: يا أبا سعيد، جئناك من عند أخيك أنس بن مالك، فلم نر مثل ما حدثنا في الشفاعة، فقال: هِيهِ، فحدثناه بالحديث، فانتهى إلى هذا الموضع، فقال: هِيهِ، فقلنا: لم يزد لنا على هذا، فقال: لقد حدثني، وهو جميع، منذ عشرين سنة، فلا أدري أنسي أم كره أن تتكلوا، قلنا يا أبا سعيد فحدثنا: فضحك وقال: خلق الإنسان عجولاً، ما ذكرته إلا وأنا أريد أن أحدثكم، حدثني كما حدثكم به، وقال: (ثم أعود الرابعة فأحمده بتلك المحامد، ثم أخرُّ له ساجداً، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يُسمع، وسل تُعطه، واشفع تُشَفَّع، فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله، فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجنَّ منها من قال لا إله إلا الله.(3/102)
الشاهد: قول الله تعالى (وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجنَّ منها من قال لا إله إلا الله).
• أهل النار الذين هم أهلها يخلدون فيها.
مسألة: من هم أهل النار الذين هم أهلها؟
الجواب:
أهل النار الذين هم أهلها على الحقيقة، هم الكفرة والمشركون، فهم خالدون مخلدون فيها أبدا.
كما قال تعالى: (أُعِدّتْ لِلْكَافِرِينَ) [البقرة: 24]
و قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)} [البقرة/161 - 162]
إِنَّ الذِينَ كَفَروا بِاللهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَكَتَمُوا الحَقَّ وَلَمْ يُظْهِرُوهُ وَمَاتُوا وَهُمْ عَلَى تِلْكَ الحَالِ مِنَ الكُفْرِ وَالظُّلْمِ فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ لَعْنََةَ اللهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَيَكُونُ مَصِيرُهُمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ لِيَخْلُدُوا فِيهَا أَبَداً.
وَيَبْقُونَ خَالِدينَ فِي هذِهِ الَّلعْنَةِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَتُصَاحِبُهُمُ الَّلعَنَةُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ شَيءٌ مِنَ العَذَابِ الذِي هُمْ فِيهِ، وَلا يُغَيَّرُ عَنْهُمْ سَاعَة وَاحِدَة، وَلا يُفَتَّرُ بَلْ يَكُونُ مُتَواصِلاً، وَإِذا طَلَبُوا الإِمْهَالَ وَالتَّأْخِيرَ لَمْ يُجَابُوا إِليهِ.
وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)} [آل عمران/85 - 88](3/103)
مَنِ ابْتَغَى دِيناً لاَ يَقُودُهُُ إلَى الإسْلاَمِ الكَامِلِ للهِ، وَالخُضُوعِ التَّامِّ لَهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، فَلاَ يُقْبَلُ مِنْهُ هَذا الدِّينُ، وَيَكُونُ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ، لأنَّهُ يَكُونُ قَدْ سَلَكَ طَريقاً غَيْرَ مَا شَرَعَهُ اللهُ، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عائشة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد.
أَسْلَمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ ثُمَّ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِالشِّرْكِ، ثُمَّ نَدِمَ فَأَرْسَلَ إلَى قَوْمِهِ أنْ اسْأَلُوا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا فَعَادَ إلى الإِسْلاَمِ.
فَالذِينَ يَرْتَدُّونَ عَنِ الإِسْلاَمِ بَعْدَ أنَ تَبَّينَ لَهُمْ هُدَاهُ، وَقَامَتَ لَدَيْهِمِ البَرَاهِينُ عَلَى صِدْقِهِ، وَصِدْقِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ، كَيْفَ يَسْتَحِقُونَ الهِدَايَةَ؟ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَالِمِينَ أنْفُسَهُمْ، الجَانِينَ عَلَيهَا، لأَنَّهُمْ تَنَكَّبُوا عَنِ الطَّرِيقِ القَوِيمِ، وَتَرَكُوا هِدَايَةَ العَقْلِ، بَعْدَ أنْ ظَهَرَ نُورُ النُّبُوَّةِ، وَعَرَفُوهُ بِالبَيِّنَاتِ. وَهَؤُلاَءِ يَسْتَحِقُونَ سَخَطَ اللهِ وَغَضَبَهُ، وَسَخَطَ المَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ جَمِيعاً، إِذْ أَنَّهُمْ مَتَى عَرَفُوا حَقِيقَةَ حَالِهِمْ لَعَنُوهُمْ.
وَمَنْ لَعَنَهُمُ اللهُ تَعَالَى كَانَ جَزَاؤُهُمُ العَذَابَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ فِي الآخِرَةِ، وَيَبْقَوْنَ خَالِدِينَ فِي اللَّعْنَةِ وَالعَذَابِ مَسْخُوطاً عَلَيْهِمْ إلَى الأبَدِ. وَلاَ يُفَتَّر عَنْهُمُ العَذَابُ، وَلاَ يُخَفَّفُ سَاعَةً وَاحِدَةً، وَلاَ يُمْهَلُونَ لِمَعْذِرَةٍ يَعْتَذِرُونَ بِهَا.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)} [النساء/168، 168](3/104)
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ حُكْمِهِ عَلَى الكَافِرِينَ بِكِتَابِهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الظَّالِمِينَ أَنْفُسَهمْ بِذَلِكَ، وَبِالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَبِارْتِكَابِ المَآثِمِ، وَانْتِهَاكِ مَحَارِمِ اللهِ، بِأنَّهُمْ لاَ يَغْفِرُ اللهُ لَهُمْ، وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً إلَى الخَيْرِ وَالرَّشَادِ (طَرِيقاً). وَيُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى: أنَّهُ لَنْ يَهْدِيَهُمْ إلى طَرِيقٍ غَيْرِ الطَّرِيقِ التِي تُوصِلُهُمْ إلى جَهَنَّمَ، لِيَبْقَوْا فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً، وَذَلِكَ أَمْرٌ يَسِيرٌ عَلَى اللهِ.
وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)} [الأنعام/128](3/105)
وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ، فِيمَا تَقُصُّهُ عَلى هَؤُلاَءِ، وَتُنْذِرُهُمْ بِهِ، مَا يَجْرِي يَوْمَ القِيَامَةِ، يَوْمَ يَحْشُرُ اللهُ الجِنَّ وَأَوْلِيَاءَهُمْ مِنَ الإِنْسِ الذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ فِي الدُّنْيا، وَيَعُوذُونَ بِهِمْ، إذْ يَقُولُ تَعَالَى لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ الجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ إِغْوَاءِ الإِنْسِ وَإِضْلاَلِهِمْ، فَأَوْرَدْتُمُوهُمُ النَّارَ. وَقَالَ أَوْلِيَاءُ الجِنِّ مِنَ الإِنْسِ يُجِيبُونَ اللهَ تَعَالَى: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ، بِمَا كَانَ لِلْجِنِّ مِنَ اللذَّةِ فِي إِغْوَائِنا بِالأَبَاطِيلِ، وَأَهْوَاءِ الأَنْفُسِ وَشَهَوَاتِهَا، وَبِمَا كَانَ لَنَا فِي طَاعَتِهِمْ وَوَسْوَسَتِهِمْ مِنَ المُتْعَةِ، وَاتِّبَاعِ الهَوَى، وَالانْغَمَاسِ فِي اللَّذَّاتِ، وَبَلَغْنَا، بَعْدَ اسْتِمْتَاعِ بَعْضِنَا بِبَعْضٍ، إلَى الأَجَلِ الذِي قَدَّرْتَهُ لَنَا وَهُوَ المَوْتُ (أَوْ هُوَ يَوْمَ البَعْثِ وَالنُّشُورِ).فَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً: النَّارُ مَثْوَاكُمْ وَمَنْزِلُكُمْ، أَنْتُمْ وَأَوْلِيَاؤُكُمْ، مَاكِثِينَ فِيهَا سَرْمَداً، إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللهُ أَنْ يُنْقِذَهُ، وَاللهُ حَكِيمٌ فِي شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ وَحُكْمِهِ، عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُ النَّاسُ.
وقال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)} [التوبة/67، 68](3/106)
إِنَّ أَهْلَ النِفَاقِ رِجَالاً وَنِسَاءاً، يَتَشَابَهُونَ فِي صِفَاتِهِمْ وَأَخْلاَقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، يَأْمُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً بِفِعْلِ المُنْكَرِ، كَالكَذِبِ وَالخِيَانَةِ، وَإِخْلافِ الوَعْدِ، وَنَقْضِ العَهْدِ. . وَيَنْهَوْنَ عَنْ فِعْلِ الخَيْرِ وَالمَعْرُوفِ: كَالجِهَادِ، وَبِذْلِ المَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَيَضِنُّونَ بِالإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ البِرِّ وَالطَّاعَاتِ وَالإِحْسَانِ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ. . وَقَدْ نَسُوا أَنْ يَتَقَرَّبُوا إِلَى اللهِ تَعَالَى بِفِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ، وَتَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ، وَاتَّبَعُوا خُطُواتِ الشَّيْطَانِ، فَجَازَاهُمُ اللهُ عَلَى ذَلِكَ بِحِرْمَانِهِمْ مِنْ لُطْفِهِ وَتَوْفِيِقِهِ فِي الدُّنْيَا، وَمِنَ الثَّوَابِ فِي الآخِرَةِ. وَالمُنَافِقُونَ هُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ فُسُوقاً، وَخُرُوجاً عَنْ طَاعَةِ اللهِ، وَانْسِلاَخاً مِنَ الفَضَائِلِ الفِطْريَّةِ السَّلِيمَةِ.
وَقَدَ أَعَدَّ اللهُ تَعَالَى لِلْمُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالكُفَّارِ نَارَ جَهَنَّمَ، وَوَعَدَهُمْ بِهَا عَلَى سُوْءِ صَنِيعِهِمْ الذِي ذَكَرَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَسَيَمْكُثُونَ فِيهَا مُخَلَّدِينَ أَبَداً، وَلَهُمْ فِيهَا مِنَ الجَزَاءِ وَالعَذَابِ مَا يَكْفِيهِمْ (حَسْبُهُمْ)، وَلَعَنَهُمْ اللهُ، وَطَرَدَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَلَهُمْ عَذَابُ مُقِيمٌ دَائِمٌ غَيْرَ عَذَابِ جَهَنَّمَ: كَالسَّمُومِ يَلْفَحَ وَجوهَهُمْ، وَالحَمِيمِ يَصْهَرُ مَا فِي بُطُونِهِمْ.
وقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)} [هود/106، 107]
أَمَّا الأَشْقِيَاءُ، الذِينَ شَقُوا بِمَا يَنْتَظِرُهُمْ مِنَ العَذَابِ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمِ السَّيِّئَةِ فِي الدُّنْيا، فَيَصِيرُونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ، وَتَضِيقُ صُدُورُهُمْ بِثِقْلِ العَذَابِ، فَيُصْبِحُ تَنَفُّسُهُمْ زَفِيراً، وَأَخْذُهُمُ النَّفَسَ شَهِيقاً.(3/107)
وَيَبْقُونَ فِي النَّارِ خَالِدِينَ، مَا دَامَتْ هُنَاكَ سَمَاوَاتٌ تُظِلُّ المَخْلُوقَاتِ، وَأَرْضٌ يَقِفُونَ عَلَيها، إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ، إِذْ يُخْرِجُ اللهُ مِنَ النَّارِ بِرَحْمَتِهِ العُصَاةَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، ثُمَّ يَمْتَنُّ عَلَى الآخَرِينَ فَيُخْرِجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِقْدَارُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَهُوَ القَادِرُ والفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ.
وقال تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)} [النحل/28، 29]
يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الكَافِرِينَ، الذِينَ يَسْتَحِقُونَ العَذَابَ، هُمُ الذِينَ اسْتَمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ إِلَى أَنْ جَاءَتْهُمْ مَلاَئِكَةُ المَوْتِ لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ هَؤُلاَءِ الظَّالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ بِتَعْرِيضِهَا لِلْعَذَابِ المُخَلَّدِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، يَسْتَسْلِمُونَ حِينَئِذٍ، وَيَنْقَادُونَ حِينَ يُعَايِنُونَ العَذَابَ قَائِلِينَ: مَا كُنَّا نُشْرِكُ بِرَبِّنَا أَحَداً، وَهُمْ كَاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا. وَيُكَذِّبُهُمْ تَعَالَى فِيمَا يَقُولُونَ وَيَقُولُ لَهُمْ: بَلْ كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَتُشْرِكُونَ وَتَرْتَكِبُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ، فَلاَ فَائِدَةَ اليَوْمَ مِنَ الإِنْكَارِ، وَاللهُ مُجَازِيكُمْ بِأَفْعَالِكُمْ.
وَيَأْمُرُهُمُ اللهُ بِدُخُولِ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ لِيَبْقَوْا فِيهَا، وَلْيَذُوقُوا أَلْوَاناً مِنَ العَذَابِ، جَزَاءً لَهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَارْتَكَبُوا مِنَ المَعَاصِي، وَلَبِئْسَ جَهَنَّمَ مَقِيلاً وَمَقَاماً لِلذِينَ يَتَكَبَّرُونَ عَنِ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ، وَالاهْتِدَاءِ بِالآيَاتِ التِي أُنْزِلَتْ إِلَيْهِمْ.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65)} [الأحزاب/64 - 65](3/108)
إِنَّ اللهَ تَعَالى لَعَنَ الكَافِرِينَ، وَأَبْعَدَهُمْ مِنْ كُلِّ خيرٍ، وَطَرَدَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَأَعدّ لَهُم فِي الآخِرَةِ نَاراً تَتَّقِدُ وَتَتَسَعَّرُ. وَيَبْقَوْنَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ أَبَداً، لا يَحُولُونَ عَنْهَا وَلاَ يَزُولُونَ، وَلا يَجِدُونَ لَهُم نَاصِراً مِنْ بَأْسِ اللهَ وَعَذَابِِهِ.
وقال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)} [الزمر/71 - 72]
وَيُسَاقُ الذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ جَمَاعَاتٍ (زُمَراً) سَوْقاً عَنِيفاً بِزَجْرٍ وَتَهْدِيدٍ، وَحِينَمَا يَصِلُونَ إِلَيها، تَفْتَحُ لَهُمْ جَهَنَّمُ أَبُوَابَهَا، وَيَقُولُ لَهُمْ حُرَاسُ جَهَنَّمَ (خَزَنَتُهَا): أَلَمْ يَأْتِكُم فِي الدُّنْيَا رُسُلٌ مِن جِنْسِكُمْ يُحَذِّرُونَكُمْ مِنَ هَوْلِ هَذَا اليَوْمِ؟ فَيُجِيبُونَ مَعْتَرِفِينَ، وَيَقُولُونَ: نَعَمْ لَقَدْ جَاءَهُمْ رُسُلٌ مِنْ رَبِّهِمْ، وَدَعَوْهُم إِلَى الإِيْمَانِ بِاللهِ والإِقْلاَعِ عَنِ الكُفْرِ. . وََلَكِنَّهُمْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ، وَخَالَفُوهُمْ، وَاسْتَهْزَؤُوا بِهِمْ لِمَا سََبَقَ لَهُمْ مِنَ الشَّقَاوَةِ والضَّلاَلَةِ، فَعَدَلُوا بِسُوءِ اخْتِيَارِهِمْ عَنِ الحَقِّ إِلَى البَاطِلِ فَاسْتَحَقُّوا هَذَا المَصِيرَ. وَحِينَئِذٍ يَقُولُ لَهُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ: ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ لِتَبْقَوْا فِيهَا خَالِدِينَ أَبداً، وَبِئْسَتْ جَهَنَّمُ مَصِيراً وَمَقِيلاً لِمَنْ كَانُوا يَتَكَبَّرُونَ فِي الدُّنْيَا بِغَيِرِ حَقٍّ، وَيَرْفضُونَ اتِّبَاعَ الحَقِّ، فَبِئْسَ الحَالُ، وَبِئْسَ المَآلُ.(3/109)
وقال تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)} [الحشر/16 - 17]
وَمَثَلُ هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ الذِينَ وَعَدُوا اليَهُودَ بِالنُّصْرَةِ إِنْ قُوتِلُوا وَبِالخُرُوجِ مَعَهُمْ إِنْ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ، كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ الذِي غَرَّ الإِنْسَانَ، وَوَعَدَهُ بِالنَّصْرِ عِنْدَ الحَاجَةِ إِلَيهِ، إِذَا أَطَاعَهُ وَكَفَرَ بِاللهِ، فَلَمَّا احْتَاجَ الإِنْسَانُ إِليهِ، وَطَلَبَ مِنْهُ النُّصْرَةَ، تَبَرَّأَ الشَّيْطَانُ مِنْهُ، وَخَذَلَهُ وَتَرَكَهُ لِمَصْيرِهِ، وَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ إِنْ نَصْرْتُكَ أَنْ يُشْرِكَنِي رَبُّ العَالَمِينَ مَعَكَ فِي العَذَابِ. فَكَانَ عَاقِبَةَ الأَمْرِ بِالكُفْرِ أَنْ صَارَ الشَّيْطَانُ وَمَنْ أَغْرَاهُ بِالكُفْرِ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ، جَزَاءُ كُلِّ مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِالكُفْرِ وَالفُسُوقِ وَالعِصْيَانِ
وقال تعالى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)} [فاطر/36 - 37](3/110)
أَمَّا الذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ، وَجَحَدُوا بِآيَاتِهِ، وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ، فَعِقَابُهُمْ سَيَكُونُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، لاَ يُحْكَمُ عَلَيْهِمْ فِيها بِمَوتٍ فَيَسْتَرِيحُوا مِنَ العَذابِ وَالآلاَمِ، وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذابُ وَلا يُفَتَّرُ. وَكُلَّما خَبَتْ نَارُ جَهَنَّمَ زَادَهَا اللهُ سَعِيراً، لِيَسْتَمِرَّ عَذَابُهُم شَدِيداً أليماً. وَمِثْلُ هذا الجَزاءِ يَجْزِي اللهُ بِهِ كُلَّ كَافِرٍ بِاللهِ، جَاحِدٍ بِأَنْعُمِهِ، مُكَذِّبٍ لِرُسُلِهِ، وَفِي النَّارِ يَذُوقُ الكَافِرُونَ المُجْرِمُونَ حَرَّ النَّارِ وَلَهيبَها، فَيَأْخَذُونَ فِي الاسْتِغَاثَةِ والاصْطِرَاخِ والضَّجِيجِ وَيَقُولونَ: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِن النَّارِ، وَأَعِدْنا إلى الدُّنيا، لِنَعْمَلَ صَالِحاً، وَنَتَّبعَ الرُّسُلَ، وَنُقْلِعَ عَمَّا كُنَّا فِيهِ مِنَ الكُفْرِ وَالمَعَاصِي وَالإِجْرَامِ. وَلكِنَّ الله تَعَالى يَعْلَمُ أَنَّهُمْ إِنْ عَادُوا إِلى الدًُّنيا عَادُوا إِلى ما كَانُوا عَلَيهِ مِنَ الكُفْرِ وَالمَعَاصِي، وَلِذَلِكَ يَرُدُّ عَلَيهِمْ قَائِلاً وَمُقَرِّعاً (أَوْ تَرُدُّ عَلَيهِمُ المَلائِكَةُ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالى): أَلَمْ نَجْعَلْكُمْ تَعِيشُونَ فِي الدُّنيا أَعْماراً؟ وَلَوْ كُنْتُم مِمَّنْ يَنْتَفِعُونَ بِالحَقِّ لانْتَفَعْتُمْ بِهِ مَدَّةَ عُمْركُمْ في الدُّنيا. وَجَاءَكُمُ الرَّسُولُ وَمَعَهُ كِتَابٌ يُنْذِرُكُمْ بِالعِقَابِ إِنْ خَالَفْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ، وَتَرَكْتُمْ طَاعَتَهُ، فَلَمْ تَعْتَبِرُوا، وَلَمْ تَتَّعِظُوا، وَلِذلِكَ فَلاَ سَبيلَ لَكُمْ إِلى الخُرُوجِ مِمَّا أَنْتُم فِيهِ مِنَ العَذَابِ، فَذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ عِقَاباً لَكُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ ومُخَالَفَتِكُمْ الأَنْبِياءَ، وَلَنْ تَجِدُوا لَكُمْ نَاصِراً يَنْصُرُكُمْ مِنْ بأسِ اللهِ، وَلاَ مُنْقِذاً يُنْقِذُكُمْ مِمّا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ العَذابِ.
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.(3/111)
(حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم أو قال بخطاياهم فأماتهم إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل فقال رجل من القوم كأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد كان بالبادية.
- بخلاف من يدخلها من عصاة الموحدين الذين يخرجون منها بعد أن يهذبوا وينقوا.
ويدل على ذلك الحديث الآتي:
(حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (يقول الله: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، قال: يقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فذاك حين يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكرى وما هم بسكرى، ولكنَّ عذاب الله شديد). فاشتد ذلك عليهم فقالوا: يا رسول الله، أينا ذلك الرجل؟ قال: (أبشروا، فإن من يأجوج ومأجوج ألفاً ومنكم رجلاً، ثم قال: والذي نفسي بيده، إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة). قال: فحمدنا الله وكبَّرنا، ثم قال: (والذي نفسي بيده، إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة، إن مثلكم في الأمم كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالرُقْمة في ذراع الحمار).
- وأما عصاة الموحدين فأكثر من يدخل النار منهم النساء كما في الصحيحين في خطبة صلاة الكسوف وغيرها وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اطَّلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطَّلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء.(3/112)
(حديث أبي سعيد الثابت في الصحيحين) قال: خرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أضحى أو فطر فمرَّ على النساء فقال: يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار، فقلن وبم يا رسول الله قال تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيتُ من ناقصات عقلٍ ودين أذهب للبَّ الرجل الحازم من إحداكن قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال أليس شهادةُ المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن بلى. قال فذلك نقصان من عقلها. أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم؟ قلن بلى. قال فذلك من نقصان دينها.
• صفة من يستحق دخول النار في الكتاب والسنة:
(1) الكافرون:
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
[البقرة: 7]
وقال تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة: 24]
و قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة:126]
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:12](3/113)
وقال تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران: 57]
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَاصِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [آل عمران: 117]
(2) الذي لا يؤمن بالله ولا يحض على طعام المسكين:
قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)} [الحاقة/25 - 37](3/114)
أَمَّا الأَشْرَارُ الأَشْقِيَاءُ فَإِنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ صَحِيفَةَ أَعْمَالِهِمْ فَيَتَنَاوَلُونَها بِشَمَائِلِهِمْ، وَحِينَئِذٍ يَرَونَ مَا فِيهَا مِنَ السَّيِّئَاتِ فَيَنْدَمُونَ غَايَةَ النَّدَمِ عَلَى مَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَيَتَمَنَّوْنَ أَنَّهُمْ قُذِفَ بِهِمْ فِي النَّارِ، وَلَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى مَا فِي صَحِيفَةِ أَعْمَالِهِمْ مِنَ المَخَازِي وَالأَعْمَالِ المُخْجِلَةِ. وَيَتَمَنَّونَ لَوْ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا شَيْئاً عَنِ الحِسَابِ الذي سَيُحَاسَبُونَ بِهِ.(3/115)
وَيَتَمَنَّى وَاحِدُهُمْ لَوْ أَنَّ المِيتَةَ الأُوْلَى التِي مَاتَهَا فِي الدُّنْيَا كَانَتْ الفَاصِلَةَ، وَلَمْ يُبْعَثْ مَرَّةً أُخْرَى. لَمْ يُغْنِ عَنّي مَالِي شَيْئاً، وَلَمْ يُنجِنِي مَا جَمْعْتُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ مَالٍ وَنُضَارٍ، مِنْ عَذَابِ اللهِ شَيْئاً، وَلاَ مِنْ بَأْسِهِ. وَذَهَبَ سُلْطَانِي وَجَاهِي الذِي كُنْتُ أَفْرِضُهُ عَلَى النَّاسِ فِي الدُّنْيَا، وَبَقِيتُ فَرْداً ذَلِيلاً حَقِيراً فَقِيراً. وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِلزَّبَانِيَةِ - مَلاَئِكَةِ العَذَابِ -: خُذُوهُ فَاجِمَعُوا يَدَيْهِ إِلَى عُنُقِهِ بِالغُلِّ. ثُمَّ أَدْخِلُوهُ نَارَ جَهَنَّمَ لِيصْلَى حَرَّهَا وَعَذَابَهَا، جَزَاءً لَهُ عَلَى مَا اجْتَرَحَهُ مِنْ كُفْرِ وَآثَامٍ. ثُمَّ أَدْخِلُوهُ فِي سِلْسِلَةٍ طُولُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً تَلْتَفُّ حَوْلَ جَمِيعِ أَنْحَاءِ جِسْمِهِ حَتَّى لاَ يَسْتَطِيعَ حرَاكاً وَلاَ فكَاكاً. وَافْعَلُوا ذَلِكَ كُلَّهُ بِهِ لأَنَّهُ كَانَ يَكْفُرُ بِاللهِ العَظِيمِ فِي الدُّنْيَا، وَكَانَ يُشْرِكُ مَعَهُ فِي العِبَادَةِ غَيْرَهُ. وَكَانَ لاَ يَحُثُّ النَّاسَ عَلَى إِطْعَامِ الفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ وَأَصْحَابِ الحَاجَاتِ. وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ لاَ يَجِدُ اليَوْمَ هُنَا فِي الآخِرَةِ قَرِيباً وَدُوداً، وَلاَ صَدِيقاً حَمِيماً مُخْلِصاً، يُنْقِذُهُ مِنْ عَذَابِ اللهِ تَعَالَى، فَكُلُّ وَاحِدٍ مُنْشَغِلٌ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ بِنَفْسِهِ. وَلاَ يَجْدُ لَهُ طَعَاماً فِي النَّارِ إِلاَّ مَا يَسِيلُ مِنْ جُلُودِ أَهْلِ النَّارِ مِنَ الدَّمِ والصَّدِيدِ. وَالصَّدِيدُ شَيْءٌ كَرِيهُ المَذَاقِ لاَ يَأْكُلُهُ إِلاَّ أَهْلُ الذُّنُوبِ وَالخَطَايَا، الذِينَ مَرَنُوا عَلَى اجْتِرَاحِ السَّيِّئَاتِ فِي الدُّنْيَا.
(3) آكلو أموال اليتامى ظلماً:
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) [النساء:10](3/116)
يُهَدِّدُ اللهُ تَعَالَى الذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى بِدُونِ سَبَبٍ مَشْرُوعٍ، وَعَلَى سَبِيلِ الهَضْمِ وَالظُّلْمِ، وَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّهُمْ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ مَا يَكُون سَبَباً فِي إِيصَالِهِمْ إلَى نَارِ جَهَنَّمَ يَوْمَ القِيَامَةِ، أَوْ إنَّهُمْ إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً تَتَأجَّجُ.
ولقد فعلت هذه النصوص القرآنية بإيحاءاتها العنيفة العميقة فعلها في نفوس المسلمين. خلصتها من رواسب الجاهلية. هزتها هزة عنيفة ألقت عنها هذه الرواسب. وأشاعت فيها الخوف والتحرج والتقوى والحذر من المساس ـ أي مساس ـ بأموال اليتامى. . كانوا يرون فيها النار التي حدثهم الله عنها في هذه النصوص القوية العميقة الإيحاء. فعادوا يجفلون أن يمسوها ويبالغون في هذا الإجفال!
(حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الثابت في صحيح أبي داوود موقوفاً) قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} (34) سورة الإسراء، {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} سورة النساء، قَالَ: انْطَلَقَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ يَتِيمٌ، فَعَزَلَ طَعَامَهُ مِنْ طَعَامِهِ، وَشَرَابَهُ مِنْ شَرَابِهِ، يَفْصِلُ الشَّيْءَ مِنْ طَعَامِهِ فَيُحْبَسُ لَهُ حَتَّى يَأْكُلَهُ، أَوْ يَفْسَدَ، فَيَرْمِي بِهِ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (220) سورة البقرة، فَخَلَطُوا طَعَامَهُمْ بِطَعَامِهِمْ، وَشَرَابَهُمْ بِشَرَابِهِمْ".
(4) كفار بني إسرائيل:(3/117)
قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ [البقرة: 86]
وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) [البقرة: 101]
(5) تعمد قتل صيد البر للمحرم:(3/118)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)} [المائدة: 94،95]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى: بِأنَّهُ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ (يَبْلُوهُمْ) فِي حَالَةِ إحْرَامِهِمْ، بِأنْ يَجْعَلَ صِغَارَ حَيَوَانَاتِ الصَّيْدِ وَضِعَافِهَا فِي مُتَنَاوَلِ أيْدِيهِمْ، لَوْ شَاؤُوا لَتَنَاوَلُوهَا بِأيْدِيهِمْ، كَمَا أنَّهُ سَيَخْتَبِرُهُمْ بِجَعْلِ كِبَارِ الحَيَواناتِ فِي مُتَنَاوَلِ رِمَاحِهِمْ، تَعْرِضُ لَهُمْ، أوْ تَغْشَاهُمْ فِي رَحِالِهِمْ، لِيَعْلَمَ مَنْ يُطِيعُ اللهَ مِنْهُمْ فِي سِرِّهِ وَجَهْرِهِ، وَيَمْتَنِعُ عَنِ الصَّيْدِ مَا دَامَ مُحْرِماًز فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ هذا التَّحذِيرِ مِنَ اللهِ، وَقَتَل الصَّيْدَ أوْ أكَلَ لَحْمَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَلَهُ عَذَابٌ أليمٌ فِي الآخِرَةِ لِمُخَالَفَتِهِ شَرْعَ اللهِ.(3/119)
حَرَّمَ اللهُ صَيْدَ البَرِّ فِي حَالِ الإِحْرَامِ، وَنَهَى المُؤْمِنُ عَنْ تَنَاولِهِ فِيهِ، وَمَنْ قَتَلَ الصَّيْدَ مُتَعَمِّداً، وَهُوَ مُحْرِمٌ، يَجِبُ عَليهِ جَزَاءٌ مِنْ مِثْلِ الحَيَوانِ الذِي قَتَلَهُ (إنْ كَانَ لِلْحَيَوانِ مِثْلٌ فِي الحَيَوانَاتِ الألِيفَةِ)، يَحْكُمُ بِهِ رَجُلانِ عَادِلاَنِ مِنْ المُسْلِمِينَ (وَقَدْ حَكَمَ بَعْضُهُمْ بِنَحْرِ تَيْسٍ فِي جَزَاءٍ عَنْ قَتْلِ ظَبْيٍ)، وَعَلَى مَنْ وَقَعَ عَليهِ الجَزَاءُ انْ يَأتِيَ بِالمِثْلِ الذِي سَيَذْبَحُهُ إلى الكَعْبَةِ، لِيَكُونَ هَدْياً لَهَا، فَيُذْبَحُ هُنَاكَ، وَيُوَزَّعُ لَحْمُهُ عَلَى فُقَرَاءِ أهْلِ الحَرَمِ. فَإذَا لَمْ يَجِدِ المُحْرِمُ مِثْلَ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ، أوْ لَمْ يَكنِ الصَّيْدُ المَقْتُولُ مِنْ ذَوَاتِ الأمْثَالِ فَيُخَيَّرُ المُحْرِمُ بَيْنَ أمُورٍ:
أ - أنْ يُقَوَّمَ الصَّيْدُ المَقْتُولُ، وَيُقَوَّمَ مِثْلُهُ مِنَ النَّعَمِ، لَوْ كَانَ مَوْجُوداً، فِي المَكَانِ الذِي تَمَّ فِيهِ الصَّيْدُ، أَوْ فِي أَقْرَبِ مَكَانٍ إلَيْهِ، ثُمَّ يَشْتَرِي المُحْرِمُ المُخَالِفُ بِثَمَنِهِ طَعَاماً فَيَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى فُقَرَاءِ الحَرَمِ.
ب- أَوْ يُطْعِمَ مَسَاكِينَ. وَيَخْتِلِفُ عَدَدُهُمْ بِحَسَبِ أهْمِّيَّةِ الصَّيْدِ المَقْتُولِ: فَقِيلَ إنَّ مَنْ قَتَلَ ظَبْياً فَعَلَيهِ ذَبْحُ شَاةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ. وَإذَا قَتَلَ نَعَامَةً أَوْ حِمَارَ وَحْشٍ، فَعَلَيْهِ ذَبْحُ بَدَنَةٍ (نَاقَةٍ أَوْ بَعيرٍ)، فَإنْ لَمْ يَجِدْ أطْعَمَ ثَلاَثِينَ مِسْكِيناً. ج- وَإذا لَمْ يَجِدْ مَا يَطْعِمُ بِهِ المَسَاكينَ صَامَ أيَّاماً عَنْ ذَلِكَ.
وَتَتَرَاوَحُ مُدَّةُ الصَّوْمِ مِنْ ثَلاَثَةِ أيَّامٍ، فِي قَتْلِ ظَبْيٍ، إلى ثَلاثِينَ يَوْماً، فِي قَتْلِ نَعَامَةٍ أوْ حِمَارِ وَحْشٍ. (يَصُومُ يَوْماً عَنْ إِطْعَامِ كُلِّ مِسْكِينٍ).
وَيَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى: أنَّهُ أَوْجَبَ الكَفَّارَةَ لِيَذُوقَ المُتَجَاوِزُ العُقُوبَةَ عَنِ الفِعْلِ الذِي ارْتَكَبَ فِيهِ المَخَالَفَةَ (وَبَالَ أمْرِهِ).
وَقَدْ ألْحِقَتِ السُّنَّةُ قَتْلَ الصَّيْدِ خَطَأً بِقَتْلِهِ عَمْداً، فِي وُجُوبِ الكَفَّارَةِ. وَلَكِنْ دُونَ أنْ يَكُونَ عَلَى المُخْطِىءِ إِثْمٌ.(3/120)
وَقَدْ عَفَا اللهُ تَعَالَى عَمَّا سَلَفَ مِنْ قَتْلِ الصَّيْدِ فِي حَالَةِ الإحْرَامِ، الذِي تَمَّ قَبْلَ هذا التَّحْرِيمِ، وَقَبْلَ بُلُوغِ الحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لِلنَّاسِ. وَمَنْ عَادَ فِي الإِسْلاَمِ إلى فِعْلِ ذَلِكَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ، واللهُ عَزيزٌ مَنيعُ الجَانِبِ. قَادِرٌ عَلَى أنْ يَنْتَقِمَ مِمَّنْ عَصَاهُ.
(6) اتخاذ أولياء من دون الله:
قال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)} [الأنعام / 16:14]
قُلْ لَهُمْ: إنَّنِي لاَ أَطْلُبُ مِنْ غَيْرِ اللهِ نَفْعاً وَلاَ ضَراً، وَلاَ فِعْلاً وَلاَ مَنْعاً، وَلاَ أتَّخَذَ غَيْرَهُ تَعَالَى وَلَيّاً لِي، فَهُوَ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَخَالِقُهُما وَمُبْدِعُهُمَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ.
وَهُوَ الذِي يَرْزُقُ العِبَادَ الطَّعَامَ، وَلَيْسَ هُوَ بِحَاجَةٍ إلَى مَنْ يَرْزُقُهُ وَيُطْعِمُهُ، لأنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الحَاجَةِ إلى كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَقُلْ لَهُمْ بَعْدَ أَنِ اسْتَبَانَتْ لَهُمُ الأَدِلَّةُ عَلَى وُجُوبِ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ: لَقَدْ أَمَرَنِي رَبِّي، جَلَّ شَأْنُهُ وَعَلاَ، أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ، وَانْقَادَ لأَمْرِهِ، مِنْ تِلْكَ الأُمَّةِ التِي بُعِثْتُ فِيهَا، فَلاَ أَدْعُو إلَى شَيءٍ إلاَّ كُنْتُ أَنَا أَوْلَ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَقَدْ أَمَرَنِي رَبِّي بِألاَّ أَكُونَ مِنَ المُشْرِكِينَ الذِينَ اتَّخَذُوا أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ لِيُقَرِّبُوهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى.(3/121)
وَقُلْ لَهُمْ: إنِّي لاَ أَعْصِي رَبِّي لأَنَّنِي أَخَافُ إنْ عَصَيْتُ أَوَامِرَهُ أَنْ يَمَسَّنِيَ العَذَابُ الأَلِيمُ فِي يَوْمِ القِيَامَةِ، وَهُوَ يَوْمٌ عَظِيمٌ لا تَنْفَعُ فِيهِ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ. وَمَنْ يُحَوَّلُ عَنْهُ العَذَابُ فِي ذلِكَ اليَوْمِ العَصِيبِ (يُصْرَفْ عَنْهُ)، فَيَكُونُ اللهُ تَعَالَى قَدْ رَحِمَهُ، وَأَدْخَلَهُ الجَنَّةً، وَإِنَّ النَجَاةَ فِي ذلِكَ اليَوْمِ العَظِيمِ مِنَ العَذَابِ، ثُمَّ دُخُولَ الجَنَّةِ، هُمَا الفَوْزُ الذِي لاَ فَوزَ أَعْظَمُ مِنْهُ.
(7) من ابتغى غير الإسلام ديناً:
قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)} [آل عمران /91:85]
مَنِ ابْتَغَى دِيناً لاَ يَقُودُهُُ إلَى الإسْلاَمِ الكَامِلِ للهِ، وَالخُضُوعِ التَّامِّ لَهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، فَلاَ يُقْبَلُ مِنْهُ هَذا الدِّينُ، وَيَكُونُ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ، لأنَّهُ يَكُونُ قَدْ سَلَكَ طَريقاً غَيْرَ مَا شَرَعَهُ اللهُ. وَجَاءَ فِي الصَّحِيحِ: " مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيهِ أمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ).(3/122)
أَسْلَمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ ثُمَّ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِالشِّرْكِ، ثُمَّ نَدِمَ فَأَرْسَلَ إلَى قَوْمِهِ أنْ اسْأَلُوا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا فَعَادَ إلى الإِسْلاَمِ.
فَالذِينَ يَرْتَدُّونَ عَنِ الإِسْلاَمِ بَعْدَ أنَ تَبَّينَ لَهُمْ هُدَاهُ، وَقَامَتَ لَدَيْهِمِ البَرَاهِينُ عَلَى صِدْقِهِ، وَصِدْقِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ، كَيْفَ يَسْتَحِقُونَ الهِدَايَةَ؟ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَالِمِينَ أنْفُسَهُمْ، الجَانِينَ عَلَيهَا، لأَنَّهُمْ تَنَكَّبُوا عَنِ الطَّرِيقِ القَوِيمِ، وَتَرَكُوا هِدَايَةَ العَقْلِ، بَعْدَ أنْ ظَهَرَ نُورُ النُّبُوَّةِ، وَعَرَفُوهُ بِالبَيِّنَاتِ.
وَهَؤُلاَءِ يَسْتَحِقُونَ سَخَطَ اللهِ وَغَضَبَهُ، وَسَخَطَ المَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ جَمِيعاً، إِذْ أَنَّهُمْ مَتَى عَرَفُوا حَقِيقَةَ حَالِهِمْ لَعَنُوهُمْ.
وَمَنْ لَعَنَهُمُ اللهُ تَعَالَى كَانَ جَزَاؤُهُمُ العَذَابَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ فِي الآخِرَةِ، وَيَبْقَوْنَ خَالِدِينَ فِي اللَّعْنَةِ وَالعَذَابِ مَسْخُوطاً عَلَيْهِمْ إلَى الأبَدِ. وَلاَ يُفَتَّر عَنْهُمُ العَذَابُ، وَلاَ يُخَفَّفُ سَاعَةً وَاحِدَةً، وَلاَ يُمْهَلُونَ لِمَعْذِرَةٍ يَعْتَذِرُونَ بِهَا.
وَمِنْ لُطْفِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ أنَّ مَنْ تَابَ إِلَيهِ مِنْ عِبَادِهِ، تَابَ اللهُ عَلَيْهِ، فَاسْتَثْنَى، اللهُ تَعَالَى مِنْ حُكْمِ المُرْتَدِّينَ، الذِين تَابُوا مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَأَنَابُوا إلَى رَبِهِمْ، وَتَرَكُوا الكُفْرَ الذِي دَنَّسُوا بِهِ أنْفُسَهُمْ، نَادِمِينَ عَلَى مَا أصَابُوا مِنْهُ، وَأصْلَحُوا أَنْفُسَهُمْ بِصَالِحِ الأَعْمَالِ، فَإنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيهِمْ، وَيَقْبَلُ تَوْبَتَهُمْ، وَيَغْفِرُ لَهُمْ لأنَّهُ تَعَالَى هُوَ الغَفُوُرُ الرَّحِيمُ.(3/123)
وَقَبُولُ التَّوبَةِ مُنوطٌ بالاسْتِمْرَارِ عَلَى الإيمَانِ، فَالذِينَ يَكْفُرُونَ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَيَزْدَادُونَ فِي كُفْرِهِمْ طُغْيَاناً وَفَسَاداً، وَإِيذَاءً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَسْتَمِرُّونَ فِي ذَلِكَ حَتَّى مَمَاتِهِمْ فإنَّ اللهَ لَنْ يَقْبَلَ التَّوْبَةَ التِي يُحْدِثُونَها وَقْتَ المَوْتِ لأَنَّها لَيْسَتْ تَوْبَةً خَالِصَةً، وَهُؤلاءِ هُمْ أَهْلُ الضَّلاَلَةِ.
(8) المتشبعون بما لم يعطوا:
قال تعالى: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (188) سورة آل عمران
يُنَبِّهُ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالمُؤْمِنِينَ إلى حَالٍ آخَرَ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الكِتَابِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوا مِنَ التَّأويلِ وَالتَّحْرِيفِ لِلكِتَابِ، وَيَرَونَ لأَنْفُسِهِمْ، شَرَفاَ وَفَضْلاً بِأنَّهُمْ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِهِمْ. وَكَانُوا يُحِبُّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِأَنَّهُمْ حُفَّاظُ الكِتَابِ وَمُفَسِّرُوهُ.
وَهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا فَعَلُوا نَقِيضَهُ، إذْ حَوَّلُوهُ مِنَ الهِدَايَّةِ إلى مَا يُوافِقُ أهْواءَ الحُكَّامِ وَالعَامَّةِ.
(حديث أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أَنَّ رِجَالاً مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا إِذَا خَرَجَ النَّبِىُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْغَزْوِ تَخَلَّفُوا عَنْهُ وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا قَدِمَ النَّبِىُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ وَحَلَفُوا وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَنَزَلَتْ {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:188]
(9) عدم قبول التوبة عند الموت واليأس من الحياة:(3/124)
قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)} [النساء /17،18]
إنَّ التَوْبَةَ التِي أَوْجَبَ اللهُ تَعَالَى عَلى نَفْسِهِ الكَرِيمَةِ قُبُولَها بِوَعْدِهِ كَرَماً مِنْهُ وَتَفْضُّلاً، لَيْسَت إلاَّ لَِمَنْ يَجْتَرِحَ السَّيِّئَاتِ بِجَهَالةٍ تُلاَبِسُ النَّفْسَ مِنْ ثَوْرَةِ غَضَبٍ، أوْ تَغَلُّبِ شَهْوَةٍ، ثُمَّ لاَ يَلْبَثُ أنْ يَنْدَمَ عَلَى مَا فَرًَّطَ مِنْهُ، وَيُنِيبُ إلى رَبِّهِ، وَيَتُوبُ وَيُقْلِعَ عَنْهَا. فَأولَئِكَ الذِينَ فَعَلُوا الذُّنُوبَ بِجَهَالَةٍ وَتَابُوا بَعْدَ زَمَنٍ قَلِيلٍ، يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِم، لأنَّ الذُنُوبَ لَمْ تَتَرَسَّخُ فِي نُفُوسِهِمْ وَلَم يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
وَاللهُ تَعَالَى عَلِيمٌ بِضَعْفِ عِبَادِهِ، وَأَنَّهُم لاَ يَسْلَمُونَ مِنْ عَمَلِ السُّوءِ، فَشَرَعَ بِحِكْمَتِهِ قَبولَ التَّوْبَةِ، فَفَتَحَ لَهُمْ بَابَ الفَضِيلةِ، وَهَدَاهُمْ الى مَحْوِ السَّيِّئَةِ.
أمَّا الذِينَ يَفْعَلُونَ السَّيِّئَاتِ، وَيَسْتَمِرُّونَ فِي فِعْلِهَا وَهُمْ مُصِرُّونَ عَلَيها، وَلاَ يَتُوبُونَ حَتَّى آخِرِ لَحْظَةٍ مِنْ حَيَاتِهِم، أيْ حَتَّى يَحْضُرُهُمْ مَلَكُ المَوْتِ، فَيَقُولُونَ: تُبْنَا الآنَ، وَالذِين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ، فَهَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ يَتَوَعَّدُهُمُ اللهُ تَعَالَى بِالعَذَابِ الأَلِيمِ المُوجِعِ الذِي أَعَدَّهُ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ. (وَجَعَلَ اللهُ تَوْبَةَ التَّائِبِ وَهُوَ عَلى فِرَاشِ المَوْتِ غَيْرَ مَقْبُولَةٍ).
(10) الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل:(3/125)
قال تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)} [النساء /42:37]
قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي الآيَةِ السَّابِقَةِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُخْتَالِينَ الفَخُورِينَ، وَهُنَا يَصِفُ تَعَالَى هَؤُلاءِ المُخْتَالِينَ الفَخُورِينَ فَيَقُولُ: إنَّهُمْ هُمُ الذِينَ يَبْخَلُونَ بِأَمْوَالِهِمْ أنْ يُنْفِقُوهَا فِيمَا أَمَرَ اللهُ بِهِ، مِنْ بِرِّ الوَالِدَينِ، وَالإحْسَانِ إلَى الأَقَارِبِ وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ، وَالجَارِ وَابْنِ السَبِيلِ، وَمَا مَلَكَتِ الأَيْمَانُ مِنَ الأَرِقَاءِ، وَلا يُؤَدُّونَ حَقَّ اللهِ، وَلاَ يَكْتَفُونَ بِالتَّكَبُّرِ وَالبُخْلِ، وَإنَّمَا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبُخْلِ أَيْضاً
(حديث جابر بن عبد الله في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم.
- وَالبَخِيلِ جَحُودٌ لِنِعْمَةِ اللهِ فَلا تَظْهَرُ عَلَيهِ، وَلاَ تَبِينُ فِي مَأْكَلِهِ، وَلاَ فِي مَلْبَسِهِ، فَهُو كَاتِمٌ لَمَا آتَاهُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ، كَافِرٌ بِنِعْمَتِهِ، وَقَدْ أَعَدَّ اللهُ لِلْكَافِرِينَ بِنِعَمِهِ عَذَاباً مُهِيناً.
وَيَشْمَلُ البُخْلُ المَقْصُودُ فِي هَذِهِ الآيَةِ البُخْلَ بِلَيِّنِ الكَلاَمِ، وَالنُّصْحَ في التَّعْلِيمِ، وَإِنْقَاذَ المُشْرِفِ عَلَى التَّهْلُكَةِ.(3/126)
لَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى البُخَلاَءَ فِي الآيَةِ السَّابِقَةِ، وَهُنَا يَذْكُرُ تَعَالَى البَاذِلِينَ المُرَائِينَ، الذِينَ يَقْصِدُونَ بِإِعْطَائِهِمْ أنْ يُذْكَرُوا بِحُسْنِ السُّمْعَةِ، وَأَنْ يُمْدَحُوا بِالكَرَمِ، وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِاليَوْمِ الآخِرِ، وَلاَ يُرِيدُونَ مِنْ إِنْفَاقِهِمْ وَجْهَ الله، وَإِنَّمَا حَمَلَهُمُ الشَّيْطَانُ عَلَى صَنِيعِهِمِ القَبِيحِ هَذا، وَحَسَّنَ لَهُمُ القَبَائِحَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِينَا، أَيْ سَاءَ الشَّيْطَانُ رَفِيقاً لِهؤُلاَءِ المُرَائِينَ.
تَبّاً لِهَؤُلاءِ! فَمَا الذِي كَانَ يُصِيبُهُمْ مِنَ الضَّرَرِ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِاللهِ إِيْمَاناً صَحِيحاً مُخْلِصاً، وَسَلَكُوا سَبِيلَ الهُدَى، وَعَدَلُوا عَنِ الرِّيَاءِ وَالنِّفَاقِ إلَى الإِخْلاَصِ فِي الاعْتِقَادِ بِأَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمِ فِي الآخِرَةِ لِيُوفِّيَهُمْ حِسَابَهُمْ، ثُمَّ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمْ اللهُ فِي الوُجُوهُ التِي يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا، وَاللهُ عَلِيمٌ بِنِيَّاتِهِمْ، مَا صَلَحَ مِنْهَا وَمَا فَسَدَ، وَعَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَّحِقُ التَّوْفِيقَ مِنْهُمْ فَيُوَّفِقَهُ، فَعَلَى المُؤْمِنُ أنْ يَكْتَفِي بِعِلِمِ اللهِ فِي إِنْفَاقِهِ، وَلاَ يُبَالِي بِعْلِمِ النَّاسِ.
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِأَنَّهُ سَوْفَ يُوَّفِيِهِمْ أُجُورَ أَعْمَالِهِمْ كَامِلَةً، وَلاَ يَظْلِمُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ مِثْقَالَ (أَيْ ثِقْلَ) حَبَّةِ خَرْدَلٍ، وَلاَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَإِنَّمَا يُوَفِّي كُلَّ عَامِلٍ عَمَلَهُ، وَيُضَاعِفُ الحَسَنَاتِ لِفَاعِلِيهَا، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، وَيُؤْتِي مِنْ لَدُنْهُ الجَنَّة لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَهِيَ الأَجْرُ العَظِيمُ الذِي وَعَدَهُمْ بِهِ.(3/127)
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ عَنْ هَوْلِ يَوْمِ القِيَامَةِ وَشِدَّةِ أَمْرِهِ، فَإِذَا كَانَ لاَ يَضِيعُ مِنْ عَمَلِ العَامِلِ مِثْقَالُ ذَرَّةْ فَكَيفُ يَكُونُ الأَمْرُ وَالحَالُ، يَوْمَ القِيَامَةِ، حِينَ يَجْمَعُ اللهُ الخَلاَئِقَ، وَيَجِيءُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَاهِدٍ عَلَيهَا (هُوَ نَبِيًّها)، وَيَأتِي بِمُحَمَّدٍ شَاهِداً عَلَى قَوْمِهِ (هَؤُلاَءِ)؟ وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ هِيَ عَرْضُ أَعْمَالِ الأُمَمِ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، وَمُقَابَلَةُ عَقَائِدِهِمْ وَأَخْلاَقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ بِعَقَائِدِ الأَنْبِيَاءِ، وَأَعْمَالِهِمْ وَأَخْلاَقِهِمْ، فَمَنْ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ أَنَّهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ، وَمَا أَمَرَ النَّاسُ بِالعَمَلِ بِهِ فَهُوَ نَاجٍ، وَمَنَ تَبَرَّأَ مِنْهُ الأَنْبِيَاءُ فَهُوَ مِنَ الأَخْسَرِينَ. فِي ذَلِكَ اليَوْمِ يَتَمَنَّى الذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ، وَعَصَوْا رَسُولَهُ، لَوْ أنَّ الأَرْضَ انْشَقَّتْ وَابْتَلَعَتُهُمْ مِمَّا يَرَونَ مِنْ هَوْلِ المَوْقِفِ، وَمِمَّا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الخِزِي وَالفَضِيحَةِ وَالتَّوبِيخِ. فَفِي يَوْمِ القِيَامَةِ يَجْمَعُ اللهُ الخَلاَئِقَ فِي بَقِيعٍ وَاحِدٍ، فَيَقُولُ المُشْرِكُونَ: إنَّ اللهَ لاَ يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئاً إلاَّ مِمَّنْ وَحَدَّهُ، فَتَعَالُوا نَجْحَدْ. فَيَسأَلُهُمْ رَبُّهُمْ، فَيَقُولُونَ: وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ. فَيَخْتِمُ اللهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، وَيَسْتَنْطِقُ جَوَارِحَهُمْ، فَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا مُشْرِكِينَ، فَعِنْدَئِذٍ يَتَمَنَّوْنَ لَوْ أنَّ الأَرْضَ سُوِّيَتْ بِهِمْ، وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً.
(11) مانعو بناء المساجد:
قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114](3/128)
يُشيرُاللهُ تَعَالَى فِي هذِهِ الآيَةِ إِلَى مَا وَقَعَ مِنَ القَائِدِ الرُّومَانِيِّ الذِي هَاجَمَ بَيْتَ المَقْدِسِ بَعْدَ مِيلادِ السَّيِّدِ المَسِيحِ، عَلَيهِ السَّلاَمُ، بِنَحْو سَبْعِينَ سَنَةً، بِتَحْرِيضٍ مِنَ النَّصَارَى الذِينَ هَرَبُوا إِلَى رُومَا تَخَلُّصاً مِنْ ظُلمِ اليهُودِ وَطُغْيَانِهِمْ وَمُؤَامَراتِهِمْ، فَدَخَلَ القُدْسَ وَخَرَّبَهَا، وَخَرَّبَ الهَيْكَلَ وَدُورَ العِبَادَةِ، وَأَحْرَقَ التَّورَاةَ. وَكَانَ المَسِيحَ قَدْ أَنْذَرَ اليَِهُودَ بِذلِكَ.
وَفِي هذِهِ الآيَةِ يُعَرِّضُ اللهُ تَعَالَى بِالكَافِرِينَ الذِينَ يَمْنَعُونَ النَّاسَ مِنَ الدُّخُولِ إِلَى مَسَاجِدِ اللهِ وَبُيُوتِهِ، لِيَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَهُ بِالتَّسْبِيحِ والصَّلاةِ، وَيَسْعَونَ فِي خَرَابِ هذِهِ المَسَاجِدِ. وَيَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ هؤُلاءِ هُمُ الظَّالِمُونَ، وَلاَ أَحَدَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ ظُلْماً. وَيَجِبُ أَنْ لاَ يَدْخُلَ هؤُلاءِ الظَّالِمُونَ إِلَى بُيُوتِ اللهِ - إِذَا قَدَرَ المُسْلِمُونَ عَلَيهِمْ - إِلاَّ وَهُمْ أَذِلَّةٌ يَدْفَعُونَ الجِزْيَةَ، أَوْ فِي ظِلِّ هدْنَةٍ يَعْقِدُونَهَا مَعَ المُسْلِمِينَ، فَيَدْخُلُونَ المَسَاجِدَ وَهُمْ خَائِفُونَ مِنْ أَنْ يَبْطِشَ بِهِمُ المُسْلِمُونَ. وَهَؤُلاءِ الظَّالِمُونَ قَدْ أَعَدَّ اللهُ تَعَالَى لَهُمْ خِزْياً فِي الحَيَاةِ الدُّنيا، بِأَنْ سَلَّطَ المُسْلِمِينَ عَلَيهِمْ، وَأَظْفَرَهُمْ بِهِمْ، وَأَعَدَّ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَاباً عَظِيماً جَزَاءَ ظُلْمِهِمْ وَكُفْرِهِمْ.
(12) المكذبون بآيات الله:
قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 39]
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (22)} [آل عمران /22،21](3/129)
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:56]
وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)} [الأنعام /28:21]
وقال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)} [الأنعام/49،48](3/130)
وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آَيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)} [الأنعام/158:155](3/131)
وقال تعالى: {يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)} [الأعراف/41:53]
وقال تعالى: {إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (8)} [يونس/8،7]
وقال تعالى: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)} [يونس/97:95](3/132)
وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)} [الكهف/106:103]
(13) من يشتري لهو الحديث ليصد عن سبيل الله:
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)} [لقمان/6، 7]
بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى حَالَ السُّعَدَاءِ الذِينَ يَهْتَدُون بكِتَابِ اللهِ وآياتِهِ، وَيَنْتَفِعُونَ بِسَمَاعِها، ثَنَّى بِذِكْرِ حَالِ الأَشقِيائِ الذينَ أَعْرَضُوا عَن الانْتِفَاعِ بِكِلاَمِ اللهِ وَآيَاتِهِ، وَأَقْبَلُوا عَلَى مَا لاَ فَائِدَةَ منْهُ يَتَلَهَّوْنَ بهِ مِنْ لَغْو الحَدِيثِ، ليُضِلُّوا النَّاسَ عَنِ السَّبيلِ الذِي يُوصِلُ إلى اللهِ. وهؤُلاءِ يُجَازِيهِمُ اللهُ، يَومَ القِيامَةِ، بالعذابِ المُخزِي المُهِينِِ.
(14) إيثار اتباع الآباء والأجداد على الدين:
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)} [لقمان/20، 21](3/133)
أَلَمْ تَرَوْا يَا أَيُّها النَّاسُ أَنّ اللهَ تَعَالى سَخَّرَ لَكُمْ مَا في السَّمَاوَاتِ، مِنْ شَمْسٍ وَقَمَرٍ، وَكَوَاكِبَ تَسْتَضِيئُونَ بِهَا لَيلاً ونَهَاراً، وتَهْتَدُونَ بهَا في ظُلُمَاتِ البَرِّ والبَحْرِ، ومنْ سَحَابٍ ينزِلُ منهُ المَطََرُ لِتنبُتَ الأَرْضُ بالخُضْرَةِ وَالثِّمَارِ، وليَشْرَبَ منهُ الإِنسانُ والأَنعَامُ والمَخْلُوقَاتُ، وسَخَّرَ لَكُمْ ما في الأرضِ مِنْ نَباتٍ وحَيوانٍ وجَمَادٍ ومَعَادِنَ، لتَنتَفِعُوا بهِ، وأسْبَغَ عليكُمْ نِعَمَه، مَا ظهرَ مِنها لَكُم عِياناً، وما بَطَن مِنها، مِمذا يستُرُهُ اللهُ عَلى عبدِهِ من سَيِّئِ عَمَلِهِ، ومِمَّا يَسْتَشْعِرُونَهُ في أَنْفُسِهِمْ مِنْ حُسْنِ الإِيمَانِ وَحُسْنِ اليَقينِ، فإِنًَّ هُناكَ أناساً يُجَادِلُونَ فِي وُجُودِ اللهِ وَوَحدَانِيَّتِهِ، (كَالنَّضْرِ بِنْ الحَارِثِ وأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ. .) بِدُونِ عِلْمٍ، وَلاَ مَعْرِفَةٍ فيمَا يَقُولُونَ، وَبِدُونِ أَنْ يَسْتَنِدوا إِلى كِتابٍ مَأثُورٍ، أَوْ حُجَّةٍ صَحِيحةٍ.
وهؤلاءِ الذينَ يُجَادِلُونَ في اللهِ بغَيرِ عِلْمٍ، وَلاَ كِتابٍ، لا مَطْمَعَ فِي هِدَايَتِهم، فإِنَّهُمْ إِذا دُعُوا إِلى اتِّبَاعِ مَا أَنزَلَ اللهُ على رَسُولِهِ مِنْ شَرْعٍ وهُدى قَالُوا: إِنّهُم يُفَضِّلُونَ اتِّبَاعَ مَا وَجَدُوا عَليه آباءَهُمْ مِنْ دِينٍ، لأنَّ آباءَهُمْ، وَأَسْلافَهُمْ لاَ يَقَعُونَ جَميعاً فِي الخَطَأِ. ويَرُدُّ اللهُ تَعَالى عليهم قَائِلاً: أَيَتَّبِعُونَ آبَاءَهُمْ وأَسْلاَفَهُمْ حَتَّى وَلَو كَانُوا عَلَى خَطَأٍ وَضَلاَلٍ فيما يَعْبُدُونَ؟ وَحَتَّى وَلَوْ كَانُوا يَتَّبِعُونَ ما زَيَّنَتْ لَهُمْ الشَّياطِينُ؟ وَمَنِ اتَّبَعَ الشَّيطَانَ أَوْصَلَهُ إِلى نَارِ جَهَنَّمَ وَسَعِيرهَا.
(15) الذين جاءوا بالإفك:
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)} [النور:11](3/134)
إن الذين جاؤوا بأشنع الكذب، وهو اتهام أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالفاحشة، جماعة منتسبون إليكم - معشر المسلمين- لا تحسبوا قولهم شرًّا لكم، بل هو خير لكم، لما تضمن ذلك مِن تبرئة أم المؤمنين ونزاهتها والتنويه بذكرها، ورفع الدرجات، وتكفير السيئات، وتمحيص المؤمنين. لكل فرد تكلم بالإفك جزاء فعله من الذنب، والذي تحمَّل معظمه، وهو عبد الله بن أُبيِّ ابن سلول كبير المنافقين- لعنه الله- له عذاب عظيم في الآخرة، وهو الخلود في الدرك الأسفل من النار. (1)
(16) المروجون للفواحش بين المسلمين:
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)} [النور/19]
إِنَّ الذين يَرْمُونَ المُحْصنَاتِ، وَبِخَاصَّةِ أُوْلَئِكَ الذين يَتَجِرَّؤوُنَ عَلَى رَمِي بَيْتِ النُّبُوَّةِ الكَرِيمِ، إِنَّمَا يَعْمَلُونَ عَلَى زَعْزَعَةِ ثِقَةِ الجَمَاعَةِ المُسْلِمَةِ بالخَيْرِ والعِفَّةِ، وَعَلَى إِزَالَةِ التَّحَرُّجِ مِنْ ارْتِكَابِ الفَاحِشَةِ، وَذَلِكَ، عَنْ طَرِيقِ الإِيْحَاءِ بأَنَّ الفَاحِشَةَ شَائِعَةٌ فِيهَا، وَبِذَلِكَ تَشِيعٌ الفَاحِشَةُ فِي النُّفُوسِ، ثُمَّ تَشِيعُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الوَاقِعِ، فَهَؤُلاءِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ عَنْدَ اللهِ: فِي الدُّنْيَا بِإِقَامَةِ الحَدِّ عَلَيْهِم، واللَّعْنِ والذَّمِّ مِنَ النَّاسِ، وَفِي الآخِرَةِ بِعَذَابِ النَّارِ. وَمَنْ ذا الذي يَرَى الظَّاهِرَ والبَاطِنَ، وَلاَ يَخْفَى عَلَيْه شَيءٌ غَيْرُ اللهِ تَعَالَى العَلِيمِ الخَبِيرِ؟ فَرُدُّوا الأُمُورَ إِلَى الله تَرْشُدُوا، وَلا َ تَْروُوا مَا لاَ علْمَ لَكُمْ بِهِ.
(17) قوم نوح عليه السلام:
__________
(1) - التفسير الميسر - (ج 6 / ص 215)(3/135)
قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)} [الأعراف/64:59]
بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى قِصَّةَ آدَمَ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، شَرَعَ فِي سَرْدِ قَصَصِ الأَنْبِياءِ الكِرَامِ، فَابْتَدأ بِنُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، لأنَّهُ أَوَّلُ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ إلى أَهْلِ الأَرْضِ بَعْدَ آدَمَ.(3/136)
وَقَدْ لاقَى نُوحٌ مِنْ قَوْمِهِ عَنَاءً وَعَنتاً، فَوَجَدَ قَوْمَهُ يَعْبُدُونَ الأَصْنَامَ وَسَمّوها بِأَسْمَاء، مِثْل وَدٍّ وَسَواع وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرٍ. . . فَبَعَثَ اللهُ نُوحاً فَأَمَرَ قَوْمَهُ بِعِبَادِةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَحَذَّرَهُمْ مِنْ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ عَذَابُ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ (عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ). فَقَالَ جُمْهُورُ السَّادَةِ وَالكُبَرَاءِ (المَلأُ) مِنْ قَوْمٍ نُوحٍ: إِنَّنَا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ وَاضِحٍ بَيِّنٍ فِي دَعْوَتِكَ إِيَّانَا إلَى تَرْكِ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ التي وَجَدْنَا آبَاءَنا يَعْبُدُونَها. فَقَالَ لَهُمْ نُوحٌ: إِنَّنِي لَسْتُ ضَالاً، وَلَمْ أَخْرُجْ عَنِ الحَقِّ وَالصَّوَابِ فِي دَعْوتي لَكُمْ إلى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَتَرْكِ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ، وَإِنَّما أَنَا رَسُولٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ وَرَبِّ كُلِّ شَيءٍ فِي الوُجُودِ وَمَالِكِهِ. وَأَنَا أَتَوَلَّى إِبْلاَغَكُمْ مَا أَرْسَلَنِي بِهِ اللهُ إِلَيْكُمْ مِنَ الدَّعْوَةِ إلَى التَّوْحِيدِ، وَإِخْلاَصِ العِبَادَةِ للهِ، وَأَتَوَلَّى نُصْحَكُمْ وَتَوْجِيهَكْم إِلَى الخَيْرِ وَإِنَّنِي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ أَنْتُمْ، لأَنَّنِي مُرْسَلٌ مِنْ قِبَلِهِ إِلَيْكُمْ.(3/137)
قَالَ لَهُمْ نُوحٌ: أَعَجِبْتُمْ وَكَذَّبْتُمْ، لأنَّ اللهَ أَوْحَى إلَى رَجُلٍ مِنَ البَشَرِ (مِنْكُمْ)، وَأَرْسَلَهُ إِلَيْكُمْ رَسُولاً لِيَدْعُوكُمْ إلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَيُحَذِّرَكُمْ مِنْ عِقَابِهِ وَنَكَالِهِ إِنْ أَصْرَرْتُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ، لَعَلَّ هَذا الإِنْذَارَ يَحْمِلُكُمْ عَلَى أَنْ تَتَّقُوا مَا يُسْخِطُ رَبَّكُمْ عَلَيْكُمْ، مِنَ الشِّرْكِ فِي عِبَادَتِهِ، وَالإِفْسَادَ فِي الأَرْضِ، وَإنَّ اللهَ يُرِيدُ أَنْ يُعِدَّكُمْ بِالتَّقْوَى لِلْفَوْزِ بِرَحْمَتِهِ التِي تُرْجَى لِكُلِّ مَنْ أَجَابَ الدَّعْوَة. فَكَذَّبَهُ جُمْهُورُهُمْ، وَأَصَرُّوا عَلَى ذَلِكَ وَخَالَفُوا أَمْرَ رَبِّهِمْ، وَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ، وَلَمْ يُؤْمِنْ مَعَهُ، إلاَّ قَليلٌ مِنْهُمْ، فَأَنْجَى اللهُ نُوحاً وَالذِينَ آمَنُوا مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ (الفُلْكِ)، وَأَغْرَقَ بِالطُّوفَانِ الذِينَ كَذَّبُوا نُوحاً بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَبَرَاهِينِهِ عَلَى وُجُودِ اللهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيَّتِهِ، فَقَدْ كَانَ الذِينَ أَغْرَقَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِالطَّوَفَانِ، قَوْماً عَمِينَ عَنِ الحَقِّ، لا يُبْصِرُونَهُ، وَلاَ يَهْتَدُونَ إِلَيهِ، فَنَصَرَ اللهُ رَسُولَهُ عَلَى أَعْدَائِهِ
(18) قوم هود عليه السلام:(3/138)
قال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)} [الأعراف/72:65]
وَكَمَا أَرْسَلَ اللهُ تَعَالَى نُوحاً إلى قَوْمِهِ، كَذَلِكَ أَرْسَلَ هُوداً إلَى قَوْمِهِ عَادٍ، وَهُوَ مِنْهُمْ، يَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُ لُغَتَهُمْ وَتَفْكِيرَهُمْ لِيَسْتَطِيعَ مُخَاطَبَتَهُمْ. وَكَانَ قَوْمَ عَادٍ ذَوِي بَأْسٍ شَدِيدٍ وَقُوَّةٍ، وَكَانَتْ مَسَاكِنُهُمْ فِي الأَحْقَافِ فِي جَنُوبِّي الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ، وَكَانُوا أَشَدَّ النَّاسَ تَكْذِيباً لِلْحَقِّ، اعْتِدَاداً مِنْهُمْ بِقُوَّتِهِمْ، وَشِدَّةِ بَأْسِهِمْ. فَدَعَاهُمْ هُودٌ إلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَحَذَّرَهُمْ مِنْ نِقَمِهِ إِنْ أَصَرُّوا عَلَى فِعْلِ مَا يُسْخِطُ اللهَ مِنَ الشِّرْكِ وَالمَعَاصِي لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَهَا.(3/139)
قَالَ جُمْهُورُ السَّادَةِ مِنْ قَوْمِهِ (المَلأُ): إِنَّنَا نَرَاكَ فِي ضَلالٍ وَفَسَادِ رَأْيٍ (فِي سَفَاهَةٍ)، إِذْ تَدْعُونَا إلَى تَرْكِ عِبَادَة الأَصْنَامِ، وَالإِقْبَالِ عَلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَإِنَّنَا نَظُنُّ أَنَّكَ كَاذِبٌ فِي دَعْواكَ أَنَّ اللهَ أَرْسَلَكَ إِلَيْنَا رَسُولاً.
فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّنِي لَسْتُ سَفِيهاً ضَالاً عَنِ الحَقِّ وَالصَّوَابِ، وَلاَ ضَعِيفَ الرَّأْيِ، كَمَا تَزْعُمُونَ، وَإِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ إِلَيْكُمْ، وَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالحَقِّ وَالهُدَى مِنَ اللهِ الذِي خَلَقَ كُلَّ شَيءٍ، فَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيءٍ وَخَالِقُهُ وَمَالِكُهُ.
وَمَهَمَّتِي هِيَ مَهَمَّةُ جَمِيعِ الرُّسُلِ الذِينَ جَاؤُوا قَبْلِي وَهِيَ إِبْلاغُ رِسَالَةِ اللهِ إلى عِبَادِهِ، وَإِسْدَاءُ النُّصْحِ إِليهِم، وَأَنَا صَادِقٌ فِي نُصْحِي لَكُمْ، أَمينٌ فِي إِبْلاَغِكُمْ مَا أَمَرَنِي رَبِّي بِإِبْلاَغِهِ إِلَيْكُمْ.
أَعَجِبْتُمْ وَكَذَّبْتُمْ أَنْ بَعَثَ اللهُ إِلَيْكُمْ رَسُولاً مِنَ البَشَرِ (مِنْكُمْ) يُوحِي إِلَيْهِ لِيَدْعُوكُمْ إلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَلِيُنْذِرَكُمْ وَيُخَوِّفَكُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ، إنْ أَصْرَرْتُمْ عَلَى الكُفْرِ وَالجُحُودِ وَعِبَادَةِ الأَصْنَامِ؟ كَلاّ لاَ تَعْجَبُوا مِنْ ذَلِكَ، وَاحْمَدُوا اللهَ عَلَيْهِ، فَذَلِكَ لُطْفٌ مِنْهُ بِكُمْ، وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَكُمْ مِنْ ذُرِّيَةِ نُوحٍ، الذِي أَهْلَكَ اللهُ النَّاسَ بِدَعْوَتِهِ لَمَّا خَالَفُوهُ وَكَذَّبُوهُ.
وَقَدْ أَكْرَمَكُمُ اللهُ فَزَادَ فِي أَجْسَامِكُمْ بَسْطَةً طُولاً وَقُوَّةً، فَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ هذِهِ، وَاشْكُرُوهُ عَلَيْهَا بِالإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ وَحُسْنِ العِبَادَةِ، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فِي النَّجَاةِ مِنْ نَقْمَتِهِ تَعَالَى، وَتَفُوزُونَ فِي اكْتِسَابِ مَرْضَاتِهِ.(3/140)
فَتَكَبَّرُوا وَطَغَوا، وَزَادُوا فِي عِنَادِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ، وَقَالُوا لِهُودَ: أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ، وَنَتَخَلَّى عَنْ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ التِي كَانَ يَعْبُدُها آبَاؤُنا، فَهَذا لَنْ يَكُونَ أَبَداً. وَإِذا كُنْتَ صَادِقاً بِأَنَّكَ رَسُولَ اللهِ، فَأْتِنا بِمَا حَذَّرْتَنَا مِنْهُ مِنَ العَذَابِ عَلَى تَرْكِ الإِيمَانِ بِرَبِّكَ.
قَالَ لَهُمْ هُودٌ: لَقَدْ حَقَّ عَلَيكُمْ، بِمَقَالَتِكُمْ هَذِهِ، سَخَطٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَغَضَبٌ (رِجْسٌ)، أَتُجَادِلُونَنِي فِي هذِهِ الأَصْنَامِ التِي اتَّخَذْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ آلِهَةً، وَجَعَلْتُمْ لَهَا أَسْمَاءً، وَهِيَ فِي الحَقِيقَةِ لا تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلَيْسَ لَكُمْ حُجَّةٌ مِنَ اللهِ، وَلاَ دَلِيلٌ يُبَرِّرُ عِبَادَتَكُمْ لَهَا، أَوْ يُصَدِّقُ زَعْمَكُمْ بِأنَّهُ رَضِيَ بِأَنْ تَكُونَ وَاسِطَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَكُمْ. وَمَا دُمْتُمْ قَدْ قُلْتُمْ مَا قُلْتُمْ مِنْ كَلِمَةِ الكُفْرِ، فَانْتَظِرُوا عِقَابَ اللهِ وَقَضَاءَهُ. وَأَنَا مُنْتَظِرٌ مَعَكُمْ نُزُولَهُ بِكُمْ.
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُ اللهِ سَاقَ اللهُ إِلَى عَادٍ السَّحَابَ الذِي يَحْمِلُ إِلَيْهِم العَذَابَ، وَأَنْجَى رَسُولَهُ هُوداً وَالذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَلُطْفٍ، وَدَمَّرَ الكَافِرِينَ جَمِيعاً، مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلى آخِرِهِمْ، لَمْ يُبْقِ مِنْهُمْ أَحَداً، لأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُؤمِنِينَ بِرَبِّهِمْ الوَاحِدِ الأَحَدِ.
(19) قوم النبي صالح عليه السلام:(3/141)
قال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)} [الأعراف /79:73](3/142)
كَانَتْ دِيَارُ قَبِيلَةِ ثَمُودَ فِي أَرْضِ الحِجَازِ، فِي مَدَائِنِ صَالِحٍ، بَيْنَ تَبُوكَ وَالمَدِينَةِ. وَلَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ إِلَيْهِمْ صَالِحاً، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَهُوَ مِنْهُمْ (أَخَاهُمْ)، فَقَالَ لَهُمْ مَا قَالَهُ جَمِيعُ الرُّسُلِ لأَقْوَامِهِمْ: اعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَقَدْ جِئْتُكُمْ بِبُرْهَانٍ مِنَ اللهِ عَلَى صِدْقِ قَوْلِي لَكُمْ إِنَّنِي رَسُولُ اللهِ، وَعَلَى صِحَّةِ دَعْوَتِي، فَقَدْ طَلَبْتُمْ مِنِّي بُرْهَاناً عَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِي، أنْ يُخْرِجَ اللهُ لَكُمْ مِنْ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ عَيَّنْتُمُوهَا لِي بِذَاتِهَا، نَاقَةً عُشَرَاءَ فَدَعَوْتُ اللهَ فَاسْتَجَابَ لِي، وَأَخْرَجَ لَكُمُ النَّاقَةَ، وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ كَيْفَ تَخْرُجُ، وَقَدْ أَخَذْتُ عَلَيكُمُ العُهُودَ وَالمَوَاثِيقَ لَتُؤْمِنُنَّ بِاللهِ إِنْ حَقَّقَ اللهُ عَلَى يَدَيَّ مَا سَأَلْتُمْ، فَآمِنُوا بِاللهِ كَمَا وَعَدْتُمُونِي، وَذَرُوا النَّاقَةَ تَسْرَحُ فِي أَرْضِ اللهِ، وَتَأْكُلُ مِنْ رِزْقِهِ، وَلاَ تَتَعَرَّضُوا لَهَا بِسُوءٍ فِي نَفْسِهَا وَلاَ فِي أَكْلِها، وَأَنَا أُحَذِّرُكُمْ بِأَنَّكُمْ إِذَا اعْتَدَيْتُمْ عَلَيْهَا، وَمَسَسْتُمُوهَا بِسُوءٍ، فَإِنَّ اللهَ سَيُصِيبَكُمْ بِعَذَابٍ شَدِيد الإِيلاَمِ (وَكَانَتِ النَّاقَةُ تَسْرَحُ فِي الأَرْضِ، وَتَشْرَبُ مَاءَ البِئْرِ يَوْماً وَتَتْركُهُ لقومِ ثَمُودَ يَوْماً).
وَقَالَ لَهُمْ صَالِحٌ: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ اسْتَخْلَفَكُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ عَادٍ، وَمَكَّنَكُمْ فِي الأَرْضِ، تَبْنُونَ القُصُورَ فِي سُهُولِهَا، وَتَنْحِتُونَ البُيُوتَ فِي جِبَالِها، فَاشْكُرُوا اللهَ عَلَى أَنْعُمِهِ وَأَفْضَالِهِ وَذلِكَ بِتَوْحِيدِهِ، وَإِفْرَادِهِ بِالعِبَادَةِ، وَلا تَتَصَرَّفُوا فِي الأَرْضِ تَصَرُّفَ كُفْرانٍ وَجُحُودٍ بِفِعْلٍ لاَ يُرْضِي اللهَ.
وَقَالَ رُؤُوسُ الكُفْرِ، مُتَهَكِّمِينَ سَاخِرِينَ، لِلْضُعَفَاءِ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَهُمُ الذِينَ آمَنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى صَالِحٍ: أَتَظُنُّونَ أَنْ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ حَقِيقَةً؟ فَرَدَّ المُؤْمِنُونَ المُسْتَضْعَفُونَ قَائِلِينَ: إِنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ صَالِحٌ مِنْ رَبِّهِمْ.(3/143)
فَرَدَّ المُسْتَكْبِرُونَ عَلَى المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ قَائِلِينَ: إِنَّهُمْ كَافِرُونَ جَاحِدُونَ بِالذَي آمَنَ بِهِ المُسْتَضْعَفُونَ، وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ صَالِحٌ مِنْ رَبِّهِ.
فَقَامَ تِسْعَةُ رَهْطٍ (أَفْرادٍ) مِنْ كُبَرَاءِ ثَمُودَ، بِاسْتِمَالَةِ قَوْمِهِمْ لِمُوافَقَتِهِمْ عَلَى نَحْرِ النَّاقَةِ (عَقْرِهَا)، وَالتَّخَلُّصِ مِنْهَا، فَعَقَرُوهَا اسْتِخْفَافاً بِصَالِحٍ، وَنَاقَتَهِ، وَتَحْذِيرِهِ لَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ وَعِقَابِهِ، وَتَمَرَّدُوا وَتَجَبَّرُوا عَنِ اتِّبَاعِ الحَقِّ الذِي أَبْلَغَهُمْ إِيَّاهُ صَالِحُ (عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ)، وَقَالُوا لِصَالِحٍ: إِنْ كُنْتَ صَادِقاً بِأَنَّكَ مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّكَ، وَأَنَّكَ تُنْذِرُنَا بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَأْتِنَا بِهَذَا العَذَابِ.
فَقَالَ لَهُمْ صَالِحٌ: لَقَدْ حَقَّ عَلَيْكُمْ غَضَبُ اللهِ، فَتَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ يَأْتِيكُمْ بَعْدَهَا عَذَابُ اللهِ، فَأَرَادَ المُجْرِمُونَ قَتْلَ صَالِحٍ، وَقَالُوا: إنْ كَاَن صَادِقاً نَكُنْ قَدْ عَجَّلْنَا بِهِ قَبْلَنَا، وَإِنْ كَانَ كَاذِباً نَكُنْ قَدْ أَلْحَقْنَاهُ بِنَاقَتِهِ، وَتَآمَرُوا عَلَى أَنْ يَقْتُلُوهُ وَيَقُولُوا لأَهْلِهِ: إِنَّهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا مَصْرَعَهُ، وَيَحْلِفُوا عَلَى ذَلِكَ، لِدَفْعِ المَسْؤُولِيَّةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَلَمَّا تَوَجَّهُوا إِلَيهِ لَيْلاً أَرْسَلَ اللهُ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً أَهْلَكَتْهُمْ جَمِيعاً، وَذَلِكَ قَبْلَ حُلُولِ العَذَابِ بِقَوْمِهِمْ.
وَفِي اليَوْمِ الرَّابِعِ اسْتَعَدُّوا لِلْهَلاَكِ، وَجَلَسُوا فِي بُيُوتِهِمْ لا يَدْرُونَ مَا يَكُونُ هذا العَذَابُ، وَلا مَتَى يَأْتِيهِمْ. فَلَمَّا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ جَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَرَجْفَةٌ فِي الأَرْضِ فَفَاضَتْ أَرْوَاحُهُمْ، وَزَهَقَتْ نُفُوسُهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ. وَأَصْبَحُوا صَرْعَى فِي دِيَارِهِمْ لاَ أَرْواحَ فِيهِم، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، لاَ صَغِيرٌ وَلاَ كَبِيرٌ. وَنَجَى اللهُ صَالِحاً وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ.(3/144)
فَقَالَ صَالِحُ، بَعْدَ أَنْ هَلَكَ قَوْمُهُ، تَقْريعاً لَهُمْ وَتَوْبِيخاً: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي، وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَلَمْ تَسْتَمِعُوا إِليَّ، وَلَمْ تَتَّبِعُونِي، لأنَّكُمْ لا تُحِبُّونَ مَنْ يَنْصَحُكُمْ، وَيَدْعُوكُم إلى الحَقِّ وَالخَيْرِ.
(وَقِيلَ: إِنَّ صَالِحاً قَالَ لِقَوْمِهِ هذَا القَوْلُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمُ العَذَابُ).
(20) قوم النبي لوط عليه السلام:
قال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)} [الأعراف /84:80]
وَاذْكُرْ لُوطاً إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إلَى قَوْمِهِ لِيَدْعُوهُمْ إلَى عِبَادَةِ اللهِ، وَإِلَى تَرْكِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ ارْتِكَابِ الفَوَاحِشِ التِي لَمْ يَسْبِقْهُم، إلى الإِتْيَانِ بِهَا، أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ قَبْلَهُمْ، لِمُخَالَفَتِهَا لِمُقْتَضَيَاتِ الفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ.
فَقَالَ لَهُمْ: لَقَدْ عَدَلْتُمْ عَنِ الاسْتِمْتَاعِ بِالنِّسَاءِ، الذِي جَعَلَهُ اللهُ وَسِيلَةً لاسْتِمْرَارِ النَّسْلِ، وَحِفْظِ النَّوْعِ، إلَى الاسْتِمْتَاعِ بِالذُّكُورِ لا تَبْتَغُونَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ إلاَّ قَضَاءَ الوَطَرِ وَالشَّهْوَةِ، وَالمُتْعَةِ الآثِمَةِ، وَهَذا إِسْرَافٌ مِنْكُمْ وَجَهْلٌ، وَتَجَاوُزٌ لِلْحُدُودِ، لأنَّهُ وَضْعٌ لِلشَّيءِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ الطَّبِيعِيِّ.(3/145)
وَكَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ عَلَى هذِهِ الدَّعْوَةِ أَنْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، سَاخِرِينَ مُتَهَكِّمِينَ عَلى طَهَارَةِ لُوطٍ وَالمُؤْمِنِينَ مَعَهُ: أَخْرِجُوا لُوطاً وَمَنْ مَعَهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ مِنْ بَلْدَتِكُمْ، لأنَّهُمْ يَتَطَهَّرُونَ وَيَتَعَفَّفُونَ، وَيَرْفُضُونَ مُجَارَاتِكُمْ فِي ارْتِكَابِ الفَوَاحِشِ، وِإِتْيَانِ الرِّجَالِ. فَكَانَ إِخْرَاجَ لُوطٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ القَرْيَةِ، تَنْفِيذاً لإِرَادَةِ اللهِ، لأنَّهُ تَعَالَى دَمَّرَ قَوْمَ لُوطٍ، وَأَهْلَكَهُمْ بَعْدَ خُرُوجِ لُوطٍ وُالمُؤْمِنِينَ.
لَمْ يُؤْمِنْ لِلُوطٍ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ سِوَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَمْ تُؤْمِنِ امْرَأَتُهُ، فَدَمَّرَها اللهُ مَعَ قَوْمِهَا. فَقَدْ أَمَرَ اللهُ لُوطاً بِأَنْ يُسْرِيَ بِِأَهْلِهِ لَيْلاً دوُنَ أَنْ تَعْلَمَ زَوْجَتِهِ بِخُرُوجِهِمْ، فَبَقِيَتْ مَعَ البَاقِينَ فَكَانَتْ مِنَ الهَالِكِينَ.
وَيَقُولُ تَعَالَى: إِنَّهُ أَنْزَلَ مَطَراً عَلَى قُرَى قَوْمِ لُوطٍ فَدَمَّرَهَا وَأَهْلَكَهَا. وَيَلْفِتُ تَعَالَى نَظَرَ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى عَاقِبَةِ مَنْ يَجْتَرِىءُ عَلَى مَعْصِيَةِ اللهِ وَتَكْذِيبِ رُسُلِهِ.
وَجَاءَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى تَفْسيرٌ لِهَذَا المَطَرِ فَقَالَ تَعَالَى {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ* مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ.}
(حديث بن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح السنن الأربعة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الذي يعمل عمل قوم لوط قال ارجموا الأعلى والأسفل ارجموهما جميعا.
(21) قوم النبي شعيب عليه السلام:(3/146)
قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)} [الأعراف /93:85](3/147)
مَدْيَنَ كَلِمَةٌ تُطْلَقُ عََلَى القَوْمِ وَعَلَى القَرْيَةِ، وَمَدْيَنُ قَرْيَةٌ تَقَعُ فِي جَنُوبِيِّ الأَرْدُنِّ قُرْبَ العَقَبَةِ، وَهُمْ أَيْضاً أَصْحَابُ الأَيْكَةِ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الأَصْنَامَ، وَيَرْتَكِبُونَ المَعَاصِي، وَأَظْهَرَهَا بَخْسُ المِكْيَالِ وَالمِيزَانِ، وَالتَّعَرُّضِ لِعَابِرِي السَّبِيلِ، لِسَلْبِهِمْ وَالاعْتِدَاءِ عَلَيهِمْ.
وَلَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ إِلَيْهِمْ شُعَيباً عَلَيْهِ السَّلاًمُ، لِيَدْعُوهُمْ إلَى عِبَادَةِ اللهِ، وَتَوْحِيدِهِ، وَتَرْكِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالكُفْرِ وَعِبَادَةِ الأَصْنَامِ، وَالإِقْلاَعِ عَنْ تَطْفِيفِ المِكْيَالِ وَالمِيزَانِ، وَعَدَمِ التَّعَرُّضِ لِلسَّابِلَةِ بِالإِخَافَةِ وَالسَّلْبِ. . فَقَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ: يَا قَوْم اعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ، وَلَيْسَ لَكُمْ إلهٌ غَيْرُهُ، وَقَدْ أَقَامَ لَكُمُ الحُجَجَ وَالبَرَاهِينَ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ إِلَيْكُمْ، ثُمَّ نَصَحَهُمْ بِمُعَامَلَةِ النَّاسِ بِالعَدْلِ، وَبِإِيفَاءِ النَّاسِ، حُقُوقَهُمْ فِي الكَيْلِ وَالمِيزَانِ، وَبِأَلاَّ يَخُونُوا النَّاسَ، وَلاَ يُخْسِرُوا المِيزَانَ، وَلاَ يَبْخَسُوا النَّاسَ حُقُوقَهُمْ (أَشْيَاءَهُمْ)، وَأَنْ يَتْرُكُوا إِخَافَةَ السَّابِلَةِ.
وَقَالَ لَهُمْ إنَّ اتِّبَاعَ أَمْرِ اللهِ فِيهِ الخَيْرُ لَهُمْ، إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِوحْدَانِيَّةِ اللهِ تَعَالَى، وَبِمَا جَاءَهُمْ بِهِ رَسُولُهُ.(3/148)
وَنَهَاهُمْ شُعَيبٌ عَنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ (الصِّرَاطِ)، وَعَنْ تَوَعُّدِ النَّاسِ بِالقَتْلِ وَالإِيذَاءِ إَذَا لَمْ يُعْطُوهُمْ مَا مَعَهُمْ مِنْ مَالٍ وَمَتَاعٍ، كَمَا نَهَاهُمْ عَنِ التَّعَدِّي عَلَى المُؤْمِنِينَ الذِينَ اتَّبَعُوا شُعَيباً، وَعَنِ التَّصَدِّي لِلنَّاسِ الذِينَ كَانُوا يَأْتُونَ إلى شُعَيبٍ لِلاسْتِمَاعِ مِنْهُ إلى مَا يَدْعُو إِلَيْهِ النَّاسُ مِنْ أَمْرِ رَبِّهِ، لِصَرْفِهِمْ عَنْهُ بِالتَّخْوِيفِ وَالإِيذَاءِ، وَبِالقَوْلِ: عَنْهُ كَذَّابٌ يُرِيدُ فِتْنَةَ النَّاسِ، ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبلاً مِنْ قِلَّةٍ فَكَثَّرَهُمُ اللهُ، وَذِلَّةٍ فَأَعَزَّهُمُ اللهُ، وَذلِكَ لِيَتَّعِظُوا وَيَرْتَدِعُوا عَمَّا يَقُومُونَ بِهِ مِنْ فَسَادٍ. ثُمَّ لَفَتَ نَظَرَهُمْ إلَى النِّهَايَةِ التِي صَارَ إِلَيْهَا المُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ مِنْ خِزْيٍّ وَدَمَارٍ.
وَيُتَابِعُ شُعَيْبٌ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، نُصْحَ قَوْمِهِ فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّكُمْ إِنِ اخْتَلَفْتُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَآمَنَ فَرِيقٌ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ، وَدَعَوْتُكُمْ إِلَيهِ، وَكَفَرَ فَرِيقٌ بِمَا أَرْسَلَنِي بِهِ إِلَيْكُمْ رَبِّي، فَلا تَتَعَجَّلُوا الحُكْمَ عَلَى المُؤْمِنِينَ، وَانْتَظِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ، بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، وَيَفْصِلَ فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ خَيْرُ مَنْ يُحْكُمُ، وَأَعْدَلُ مَنْ يَقْضِي، وَلا شَكَّ فِي أَنَّهُ سَيَجْعَلَ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ، وَسَيَجْعَلَ الدَّمَارَ عَلَى الكَافِرِينَ، لأنَّهُ سُنَّتَهُ تَعَالَى قَدْ جَرَتْ بِذَلِكَ، فَلْيَعْتَبِرِ الكَافِرُونَ بِعَاقِبَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ، مِنَ الكُفَّارِ المُكَذِّبِينَ.(3/149)
تَوَعَّدَ المُسْتَكْبِرُونَ مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ نَبِيَّهُمْ شُعَيْباً، وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ قَرْيَتِهِمْ إذَا لَمْ يَقْبَلُوا الرُّجُوعَ عَنْ دِينِهِمِ الحَقِّ إلى عِبَادَةِ الأَصْنَامِ وَمِلَّةِ الشِّرِكِ، فَقَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ: أَتَأْمُرُونَنَا بِأَنْ نَعُودَ إلَى مِلَّتِكُمْ، وَتُهَدِّدُونَنَا بِالنَّفْيِ مِنْ أَوْطَانِنَا، وَالإِخْراجِ مِنْ دِيَارِنَا، إِنْ لَمْ نَفْعَلْ مَا تَطْلُبُونَهُ مِنَّا؟ أَتُرْيدُونَ إِجْبَارَنا عَلَى الخُرُوجِ مِنْ دِيَارِنَا، وَعَلَى العَوْدَةِ إلَى دِينِكُمْ حَتَّى وَلَوُ كُنَّا كَارِهِينَ لِكِلا الأَمْرَيْنِ؟
وَقَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ: إِنَّهُ وَالمُؤْمِنِينَ مَعَهُ إذَا عَادُوا إلَى مِلَّةِ الكُفْرِ، فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ قَدِ افْتَرُوا عَلَى اللهِ أَعْظَمَ الافْتِرَاءِ، لأنَّهُمْ يَكُونُونَ قَدْ جَعَلُوا للهِ شُرَكَاءً وَأَنْدَاداً وَلا يَلِيقُ بِالمُؤْمِنِ، وَلاَ يَخْلُقُ بِهِ (وَمَا يَكُونُ لَنَا)، أَنْ يَعُودَ إلَى مِلَّةِ الكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْجَاهُ اللهُ مِنْهَا، إلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ لَهُ ذلِكَ، فَإِنَّهُ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ أَمْراً فَعَلَهُ، وَلاَ رَادَّ لِحُكْمِهِ، وَلاَ مُعْتَرِضَ عَلَى قَضَائِهِ، وَقَدْ أَحَاطَ اللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عِلْماً، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لاَ يَرْضَى الكُفْرَ لِعِبَادِهِ.
ثُمَّ قَالَ شُعَيْبٌ لِقَوْمِهِ: إنَّهُ تَوَكَّلَ عَلَى اللهِ هُوَ وَالمُؤْمِنُونَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ. ثُمَّ دَعَا شُعَيْبٌ رَبَّهُ قَائِلاً: رَبَّنا احْكُمْ وَاقْضِ (افْتَحْ) بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ مَعَهُمْ، وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ، وَأَنْتَ العَدْلُ الذِي لاَ يَجُوزُ فِي حُكْمِهِ أَبَداً.
فَقَالَ الكُبَرَاءُ الكَافِرُونَ مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ، لِمَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيباً فِيمَا يَقُولُ، وَفِيمَا جَاءَكُمْ بِهِ، وَأَقْرَرْتُمْ بِنُبُوَّتِهِ، وَآمَنْتُمْ بِمَا آمَنَ بِهِ، وَكَفَرْتُمْ بَأَصْنَامِكُمْ. . وَبِمَا كَانَ عَلَيهِ آبَاؤُكُمْ مِنْ دِينٍ وَعَادَاتٍ، كُنْتُمْ خَاسِرِينَ.(3/150)
وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: " وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ " فَاهْتَزَّتْ بِهِمُ الأَرْضَ بِفِعْلِ زَلْزَلَةٍ شَدِيدَةْ، فَأَصْبَحُوا هَالِكِينَ فِي دِيَارِهِمْ لاَ حَرَاكَ بِهِمْ، وَهُمْ مُكِبُّونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ.
ثُمَّ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى العَاقِبَةَ التِي صَارَ إِلَيْهَا قَوْمُ شُعَيبٍ، فَقَدْ هَلَكَ الذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُم أَحَداً وَكَأنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوا فِي دِيَارِهِمْ، وَالذِينَ كَذَّبُوا شُعَيباً كَانُوا هُمُ الذِينَ خَسِرُوا الدُّنْيا وَالآخِرَةَ، أَمَّا الذِينَ اتَّبُعُوهُ فَكَانُوا هُمُ الفَائِزُونَ المُفْلِحِينَ.
وَبَعْدَ أَنْ نَزَلَ بِهِمْ عَذَابُ اللهِ وَدَمَارُهُ تَوَلَّى شُعَيْبٌ عَنْهُمْ، وَانْصَرَفَ عَنْ دِيَارِهِمْ، وَخَاطَبَهُمْ مُقَرِّعاً، فَقَالَ لَهُمْ: لَقَدْ نَصَحْتُ لَكُمْ يَا قَوْمِي، وَبَلَّغْتُكُمْ مَا أَرْسَلَنِي بِهِ رَبِّي إِلَيكُمْ، مِنْ دَعْوَةٍ إلَى عِبَادَةِ اللهِ، فَكَفَرْتُمْ وَاسْتَكْبَرْتُمْ، فَدَمَّرَكُمُ اللهُ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّنِي لاَ يُمْكِنُ أَنْ آسَفَ وَأَحْزَنَ عَلَى قَوْمٍ جَحَدُوا بِوحْدَانِيَّةِ اللهِ، وَكَذَّبُوا رَسُولَهُ.
(22) من انعدمت حسناتهم:
قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) [البقرة/80 - 82]}
كَانَ اليَهُودُ يَقُولُونَ: إِنَّهُم أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، يُؤَاخِذهُمْ مُؤَاخَذَةَ الأَبِ لابْنِهِ، بِرْفْقٍ وَحَنَانٍ، وَإِنَّهُمْ لَنْ يُعَذَّبُوا فِي النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ، ثُمَّ يَرْضى الله عَنْهُم فَيَنْجُونَ مِنَ العَذَابِ وَمِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، مَهْمَا كَانَتْ ذَنَوبُهُمْ عَظِيمَةً.(3/151)
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيهِمْ قَائِلاً: أَحَصَلْتُمْ عَلَى عَهْدٍ وَوَحْيٍ وَخَبرٍ صَادِقٍ بِذلِكَ مِنَ اللهِ؟ فَإِنْ كُنْتُمْ حَصَلْتُمْ عَلَى عَهْدٍ فَإِنَّ اللهَ لا يُخْلِف عَهْدَهُ وَوَعْدَهٌ أَبَداً، وَلكِنَّ ذلِكَ لَمْ يَقَعْ، وَلَمْ يَصْدُرْ مِنَ اللهِ عَهْدٌ لِلْيَهُودِ، وَإِنَّكُمْ مُفْتَرُونَ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ شَيئاً لاَ عِلْمَ لَكُمْ بِهِ.
وَيَقُولُ تَعَالَى لِلْيَهُود: لَيْسَ الأَمْرُ كَمَا تَمَنَّيتُم، وَلاَ كَمَا تَشْتَهُونَ، بَلِ الأَمْرُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ قَضَى بِأَنَّ كُلَّ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً، وَأَتَى رَبَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَقَدْ أَثْقَلَتْهُ خَطَايَاهُ وَآثَامُهُ، وَلَيْسَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ، وَلاَ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ، وَلَمْ يَتُبْ مِنْ خَطَايَاهُ إِلَى اللهِ، فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَيَبْقَى فِيهَا خَالِداً.
وَقَالَ ابْنً عَبَّاسٍ: إِنَّ السَّيِّئَةَ هُنَا تَعْنِي الشِّرْكَ، لأَنَّ المُشْرِكَ خَالِدٌ فِي النَّارِ.
(23) الخراصون:
قال تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)} [الذاريات/10 - 15]
لُعِنَ المُرْتَابُونَ الذِينَ يَظُنُّونَ ظَنّاً، وَيَقُولُونَ قَوْلاً لا يَسْتَنِدُونَ فِيهِ إلى دَليلٍ وَلا حُجَّةٍ
الذِينَ هُمْ في جَهْلٍ عَمِيقٍ، وَغَفْلَةٍ عَظِيمةٍ عمَّا أُمرُوا بهِ، وَهُمْ مَغْمُورُونَ بِالأَباطِيلِ وَالأضَالِيلِ والأوْهَامِ لا يُفِيقُونَ ولا يَسْتَيقظُونَ.
الذينَ يَقُولُونَ تَكْذِيباً وَشَكّاً واسْتِبْعَاداً، لاَ طَلَباً لِلْعِلمِ، وَالمعرِفةِ: مَتَى يكُونُ يَوْمُ الحِسَابِ هذا الذِي تَعِدُونَنَا بِه؟
وَيَوْمُ الجَزَاءِ الذِي يَسْألُونَ عَنْهُ مُكَذِّبِينَ بِهِ، مُسْتَبْعِدِينَ لِوُقُوعِهِ، هُوَ اليومُ الذِي يُعذِّبُ اللهُ فِيهِ الكُفَّارَ في نَارِ جَهَنَّمَ.
وَيَقُولُ لَهُمْ خَزَنَةُ جهَنَّمَ مُوَبِّخينَ مُقَرِّعينَ: ذُوقُوا هذا العَذَابَ الذِي كُنْتُمْ تَسْتَعْجِلُونَ بِوُقُوعِهِ اسْتِهَزاءً، وَتَظُنُّونَ أنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ.
(24) من يكتمون ما أنزل الله:(3/152)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)} [البقرة/175،174]
يَقُولُ تَعَالَى إِنَّ الذِينَ يُخْفُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ وَحْيِهِ عَلَى رُسُلِهِ، أَوْ يُؤَوِّلُونَهُ أَوْ يُحَرِّفُونَهُ وَيَضَعُونَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، بِرَأْيِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ، فِي مُقَابِلِ الثَّمَنِ الحَقِيرِ مِنْ حُطَامِ الدُّنيا، كَالرَّشْوَةِ عَلَى ذلِكَ، وَالجُعْلِ (الأجْرِ عَلَى الفَتَاوَى البَاطِلَةِ) وَنَحْوِ ذَلِكَ. . . وَالذِينَ يَكْتُمُونَ مَا وَرَدَ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ صِفَاتِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَهُمُ اليَهُودُ)، وَعَنْ رِسَالَتِهِ وَنُبُوَّتِهِ لِئَلاَ تَذْهَبَ زَعَامَاتِِهِمْ، وَرِيَاسَاتُهُمْ إِنْ صَدَّقُوا مُحَمَّداً، وَآمَنُوا بِهِ، وَاتَّبَعَهُ النَّاسُ، وَلِئَلاَّ يَخْسَرُوا مَا كَانَ يَصِلُ إِليهِمْ مِنْ أَموالٍ وَهَدَايَا، وَهُوَ شَيءٌ تَافِهٌ يَسِيرٌ إِذا مَا قُورِنَ بِمَا وَعَدَ اللهُ بِهِ المُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ مِنْ جَزيلِ الثَّوَابِ. . فَهؤُلاءِ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ مَا يَأْكُلُونَهُ فِي مُقَابِلِ كِتْمَانِ الحَقِّ نَاراً تَتَأَجَّجُ فِي بُطُونِهِمْ يَومَ القِيَامَةِ، وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ لغَضَبِهِ عَلَيهِمْ، وَلاَ يُزَكِّيهم، وَلا يَمْدَحُهُمْ وَلا يُثْنِي عَلَيهِمْ، وَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً.
(وَقِيلَ أَيْضاً في تَفْسِيرِ: مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ: إِنَّهُمْ لاَ يَأْكُلُونَ مِنْ ثَمَنِهِ إِلاَّ مَا يَكُونُ سَبَباً لِدُخُولِهِمْ نَارَ جَهَنَّمَ).(3/153)
وَهؤُلاءِ الآثِمُونَ الذِينَ أَنْذَرَهُمُ اللهُ بِالعَذَابِ، اعْتَاضُوا عَنِ الهُدَى الذِي يَقْتَضِيهِمْ نَشْرَ مَا وَرَدَ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ، وَذِكْرِ مَبْعَثِهِ، وَوُجُوبِ اتِّباعِهِ وَتَصْدِيقِهِ، بِالضَّلاَلِ وَهُوَ تَكْذِيبُهُ، وَالكُفْرُ بِهِ، وَكِتْمَانُ صِفَاتِهِ، وَاعْتَاضُوا عَنِ المَغْفِرَةِ، التِي وَعَدَ اللهُ بِها المُؤْمِنينَ العَامِلِينَ السَّاعِينَ فِي الخَيْراتِ، بِالعَذَابِ الذِي سَيحِلُّ بِهِمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، وَكِتْمَانِ مَا وَرَدَ في كُتُبِهِمْ. فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (أَيْ إِنَّ مَنْ يَرَاهُمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَعَجَّبُ مِنْ صَبْرِهِمْ عَلَى احتِمَالِها، مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ شِدَّةِ العَذَابِ)
أَوْ إِنَّ المَعْنَى هُوَ: (أَنَّ انْهِمَاكَهُمْ فِي العَمَلِ الذِي يُوصِلُهُمْ إِلى النَّار هُوَ مَثَارُ العَجَبِ، فَسَيْرُهُمْ فِي الطَّرِيقِ المُوصِلَةِ إِليها، وَعَدَمُ مُبَالاتِهِمْ بِمَآلِ أَْعْمَالِهِمْ هُوَ مَثَارُ العَجَبِ).
وَإِنَّما استَحَقَّ هؤلاءِ العَذابَ لِكُفْرِهِمْ بِكِتاَبِ اللهِ الذِي أَنْزَلَهُ اللهُ بِالحَقِّ وَالصِّدْقِ لِجَمْعِ الكَلمَةِ عَلَى اتِّبَاعِ الحَقِّ، وَإِزَالَةِ الاخْتِلاَفِ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَبيراً دَفَعَ إِليهِ حُبُّ الجَدَلِ، وَمُجَانَبَةُ الحَقِّ، وَالانْقِيادُ إِلَى الهَوَى، فَحَرَّفُوهُ وَأَفْسَدُوهُ وَفَسَّرُوهُ بِغيرِ مَعَانِيهِ.
(25) المعتدون في القصاص:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178](3/154)
يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ قَدْ فَرَضَ (كَتَبَ) عَلَيْهِمُ العّدْلَ وَالمُسَاوَاةِ فِي القِصَاصِ، فَالحُرُّ يُقْتَلُ بِالحُرِّ، إِذا كَانَ القّتْلُ عَمْداً، وَالعَبْدُ يُقْتَلُ بِالعَبْدِ، وَالأُنْثَى تُقْتَلُ بِالأُنْثَى (وَقَدْ جَرَى العَمَلُ مِنْ لَدُنِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قَتْلِ الرَّجُلِ بِالمَرْأَةِ، وَالحُرِّ بِالعَبْدِ إِنْ لَمْ يَكُنِ القَاتِلُ سَيِّدَ العَبْدِ، فَإِذا كَانَ سَيِّدَهُ عُزِّرَ بِشِدَّةٍ)، وَأَمَرَهُمُ اللهُ بِأَلاَّ يَعْتَدُوا وَلا يَتَجَاوَزُوا، كَمَا اعْتَدَى اليَهُودُ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَغَيَّرُوا حُكْمَ اللهِ، فَكَانَتْ قَبِيلَةُ بَنِي قُرَيْظَة ضَعْيفةً، وَقَبِيلَةَ بَنِي النَّضِيرِ قَوِيَّةً، فَكَانًوا إِذَا قَتِلَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ أَحَداً مَنْ بَنِي قُرَيْظَةَ لَمْ يَكُنْ يُقْتَلُ بِهِ بَلْ يُفَادَى، وَإِذَا قَتَلَ القُرَظِيُّ نَضِيرِيّاً كَانَ يُقْتَلُ بِهِ، وَإِذَا فَادَوْهُ كَانَ يُفَادَى بِمِثْلَيْ مَا يُفَادَى بِهِ النَّضِيْرِيُّ.
وَكَانَ حَيَّانِ مِنَ العَرَبِ قَدْ اقْتَتَلا فِي الجَاهِليَّةِ قُبَيْلَ الإِسْلامِ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ قَتْلَى وَجِرَاحَاتٌ حَتَّى قَتَلُوا العَبيدَ والنِّسَاءَ، فَكَانَ أَحَدُ الحَيَّينِ لاَ يَرْضَى حَتَّى يَقْتُلَ بِالعَبْدِ مِنهُ الحُرَّ مِنْ خُصُومِهِ، وَبِالمَرْأَةِ مِنْهُ الرَّجلَ. وَكَانَ هؤُلاءِ لاَ يَقْتُلونَ الرَّجُلَ الذِي يَقْتُلُ المَرْأَةَ عَمْداً، وَلكِنْ كَانُوا يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ بِالرَّجُلِ، وَالمَرْأَةَ بِالمَرْأَةِ، فَأَنْزَلَ اللهُ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالعَيْنُ بِالعَيْنِ مُبْطِلاً ذلِكَ التَّعَامُلَ، فَإِذا قَبِلَ وَلِيُّ الدَّمِ أَنْ يَأَخُذَ الدِّيَةَ، وَيُعْفُو عَنِ القَاتِلِ، فَعَليهِ أَنْ يَتَّبعَ ذلِكَ بِالمَعْرُوفِ، وَأَنْ يَطْلُبَ الدِّيَةَ بِرِفْقٍ، وَأَنْ لاَ يُرْهِقَ القَاتِلَ مِنْ أَمْرِهِ عُسْراً. وَعَلَى القَاتِلِ أَنْ يُؤَدِّيَ المَطْلُوبَ مِنْهُ بإِحسَانٍ، وَأَنْ لا يَمْطُلَ وَلاَ يَنْقُصَ، وَلا يُسيء فِي كَيْفيَّةِ الأَدَاءِ.(3/155)
وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: أَنَّهُ شَرَعَ للناَّسِ أَخْذَ الدِّيَةِ فِي حَالَةِ القَتْلِ العَمْدِ تَخْفِيفاً مِنْهُ، وَرَحْمَةً بِالمُسْلِمِينَ، إِذْ كَانَ يَتَوَجَّبُ عَلَى الأُمَمِ السَّالِفَةِ القَتْلُ أَوِ العَفْوُ. وَإِذَا تَعَدَّدَ أَوْلِياءُ الدَّمِ وَعَفَا أَحَدُهُمْ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ، وَسَقَطَ القِصَاصُ. . وَيَجُوزُ العَفْوُ فِي الدِّيَةِ أَيْضاً. (وَقِيلَ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ مَفْرُوضاً عَلَيهِمُ القَتْلُ لاَ غَيْرَ، وَأَهْلَ الإِنْجِيلِ أُمِرُوا بِالعَفْوِ، وَلَيسَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مُقَابِلَ العَفْوِ دِيَةً).
وَيُهَدِّدُ اللهُ تَعَالَى مَنْ يَعْتَدِي بِالقَتْلِ عَلَى القَاتِلِ - بَعْدَ العَفْوِ وَالرِّضَا بِالدِّيَةِ - بِالعَذَابِ الشَّدِيدِ مِنْ رَبِّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ.
(26) المرتد عن دينه:
قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217](3/156)
بَعَثَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ اللهِ بْنَ جَحْشٍ عَلَى سَرِيَّةٍ وَأَمَرَهَا بِأَمْرٍ، فَلَقِيَتِ السَّرِيَّةُ ابْنَ الحَضْرَمِيِّ فَقَتَلَتْهُ، وَلَمْ يَعْرِفْ رِجَالُ السَّرِيَّةِ إِنْ كَانَ ذلِكَ اليَوْمُ مِنْ رَجَبٍ أَوْ مِنْ جُمَادَى الآخِرَةِ، فَقَالَ المُشْرِكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ: قَتَلْتُمْ فِي الشَّهْرِ الحَرَامِ، فَأَنْزَلَ اللهُ هذِهِ الآيَةَ. وَفِيهَا يَقُولُ سُبْحَانَهُ لِلْمُشْرِكِينَ: إِنَّ القِتَالَ فِي الشَّهرِ الحَرَامِ أَمْرٌ كَبِيرُ فِي نَفْسِهِ، وَجُرْمٌ عَظِيمٌ، وَلكِنَّهُ إِذا ارتُكِبَ لإِزَالَةِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ، كَانَ لَهُ مَا يُبَرِّرُهُ، وَإِنَّ مَا فَعَلَهُ المُشْرِكُونَ مِنَ الكُفْرِ بِاللهِ، وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَمُحَاوَلَةِ فتْنَةِ المُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِمْ بِالتَّعْذِيبِ وَالتَّهْدِيدِ، وَإِخراجِ المُسْلِمِينَ مِنْ مَكَّةَ. كُلُّ ذلِكَ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ مِنَ القِتَالِ فِي الشَّهْرِ الحَرَامِ. وَقَدْ كَانَ المُشْرِكُونَ يَفْتِنُونَ المُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِمْ بِالتَّعْذِيبِ وَالإِخَافَةِ ليَرُدُّوهُمْ إِلى الكُفْرِ، وَهذا أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ مِنَ القَتْلِ، وَهُمْ مَا زَالُوا مُقِيمِينَ عَلَى الكُفْرِ، وَعَلَى مُحَاوَلَةِ فِتْنَةِ المُسْلِمِينَ لِيَرُدُّوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا، وَعَلَى مُحَاوَلَةِ مَنْعِ الإِسْلاَمِ مِنَ الانْتِشَارِ وَالقَضَاءَ عَلَيهِ، إِنْ أَمْكَنَهُم ذلِكَ، لاسْتِحْكَامِ عَدَاوَتِهِمْ للمُسْلِمِينَ. وَيُهَدِّدُ اللهُ مِنْ يَضْعُفُ مِنَ المُسْلِمِينَ أَمَامَ هَجَمَاتِهِمْ، وَمُحَاوَلاتِهِمْ وَإِغْراءَاتِهِمْ فَيَرْتَدُّ عَنْ دِينِهِ، ثُمَّ يَمُوتُ وَهُوَ كَافِرٌ، بِالعَذَابِ الأَلِيمِ الأَبَدِيِّ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَبِحُبُوطِ عَمَلِهِ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ.
(27) الذين يعبدون الطاغوت:
قال تعالى: {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (257) سورة البقرة(3/157)
اللهُ وَليُّ الذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَهُ، فَيُخْرِجُهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الكُفْرِ والشَّكِّ وَالرَّيبِ إلى نُورِ الحَقِّ الوَاضِحِ. وَالمُؤْمِنُ لاَ وَليَّ لَهُ، وَلاَ سُلْطَانَ لأَحَدٍ عَلَى اعْتِقَادِهِ إِلاَّ اللهُ تَعَالَى. أَمَّا الذِينَ كَفَرُوا فَوَلِيُّهُمُ الشَّيْطَانُ، يُزَيِّنُ لَهُمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلاَلَةِ وَالجَهَالَةِ، وَيُخْرِجَهُمْ عَنْ طُرِيقِ الحَقِّ وَنُورِهِ، إِلى الكُفْرِ وَظُلُمَاتِهِ، وَيُؤدِّي بِهِمْ إلى نَارِ جَهَنَّمَ لِيَبْقَوا فِيها خَالِدِينَ أَبدَاً. وَالنُّورُ هُوَ الحَقُّ، وَالحَقُّ وَاحِدٌ، أمَّا الظُّلُمَاتُ وَهِيَ الكُفْرُ فَهِيَ أجْنَاسٌ.
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)} [النساء/60 - 64]
يُنْكِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ يَدِّعِي الإِيمَانَ بِاللهِ، وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَهُوَ مَعْ ذَلِكَ يُرِيدُ أنْ يَتَحَاكَمَ فِي فَصْل ِالخُصُومَاتِ إلى غَيْرِ كِتَابِ اللهِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ.(3/158)
(وَقِيلَ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَنْصَاريٍّ وَيَهُودِيٍّ اخْتَلَفَا فِي شَيْءٍ، فَقَالَ اليَهُودِيُّ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ مُحَمَّدٌ. وَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ كَعْبُ بْنُ الأَشْرَفِ (وَهُوَ مِنْ كُبَرَاءِ اليَهُودِ). وَيَذُمُّ اللهُ تَعَالَى الذِينَ يَعْدِلُونَ عَنْ شَرْعِ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ، إلَى مَا سِوَاهُمَا مِنَ البِاطِلِ (وَهُوَ المُرَادٌ هُنَا بِالطَّاغُوتِ)، وَقَدْ أُمِرُوا بِأَنْ يَكْفُرُوا بِهِ، وَبِحُكْمِ الجَاهِلِيَّةِ، وََلَكِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْعُوهُمْ الى اتِّبَاعِهِ لِيُضِلَّهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَشَرْعِهِمْ وَهُدَى رَبِّهِمْ، وَيُبْعِدَهُمْ عَنْهَا.
وَإِذَا دُعِيَ هَؤُلاءِ - الذِينَ يَدَّعُونَ الإِيمَانَ، ثُمَّ يُرِيدُونَ التَّحَاكُمَ إلى الطَّاغُوتِ - إلى رَسُولِ اللهِ لِلتَّحَاكُمِ لَدَيْهِ، وِفْقاً لِمَا شَرَعَ اللهُ، اسْتَكْبَرُوا وَأَعْرَضُوا وَرَغِبُوا عَنْ حُكْمِ رَسُولِ اللهِ إَعْرَاضاً مُتَعَمَّداً مِنْهُمْ.
فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمْ إذَا سَاقَتْهُمُ المَقَادِيرُ إلَيكَ فِي مَصَائِبَ تَحِلُّ بِهِمْ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ، وَاحْتَاجُوا إِلَيْكَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ جَاؤُوكَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكَ، وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ أَنَّهُمْ مَا أَرَادُوا بِذَهَابِهِمْ إلى غَيْرِكَ، وَبِتَحَاكُمِهِمْ إلَى أَعْدَائِكَ، إلا المُدَارَاةَ وَالمُصَانَعَةَ (إحْسَاناً وَتَوْفِيقاً)، لاَ اعْتِقَاداً مِنْهُمْ بِصِحَّةِ تِلْكَ الحُكُومَةِ.
وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ النَّاسِ هُمُ المُنَافِقٌُونَ، وَاللهُ وَحْدَهُ يَعْلَمُ مَبْلَغَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الكُفْرِ وَالحِقْدِ وَالكَيْدِ، وَسَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ، فَإنَّهُ لاَ تَخْفَى عَلَيهِ مِنْهُمْ خَافِيةٌ. ثُمَّ يَدْعُو اللهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى مُعَامَلَتِهِمْ:
- أَوْلاً: بِالإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَعَدَمِ الإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ بِالبَشَاشَةِ وَالتَّكْرِيمِ، وَهَذَا النَّوعُ مِنَ المُعَامُلَةِ يُثِيرُ فِي نُفُوسِهِمُ الهَوَاجِسَ وَالشُّكُوكَ وَالظُّنُونَ.(3/159)
- ثُمَّ بِالنُّصْحِ وَالتَّذْكِيرِ بِالخَيْرِ، عَلَى وَجْهٍ تَرِقُّ لَهُ قُلُوبُهُمْ، وَيَبْعَثُهُمْ عَلَى التَّأمُّلِ فِيمَا يُلْقَى إِلَيْهِمْ مِنَ العِظَاتِ.- ثُمَّ بِالقَوْلِ البَلِيغِ، الذِي يُؤَثِّرُ فِي نُفُوسِهِمْ، كَالتَّوَعُّدِ بِالقّتْلِ، وَالاسْتِئْصَالِ إنْ ظَهَرَ مِنْهُمْ نِفَاقٌ، وَأنْ يُخْبِرَهُمْ أنَّ اللهَ عَالِمٌ بِمَا فِي نُفُوسِهِمْ.
(28) أكلة الربا:
قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)} سورة البقرة
بَعْدَ أنْ ذَكَر اللهُ تَعَالَى الإِنفَاقَ فِي سَبيلِ اللهِ، وَالتَّصَدُّقَ عَلَى عِبَادِهِ، وَإخْراجَ الزَّكَاةِ، شَرَعَ فِي عَرْضِ حَالِ أكِلِي الرِّبا، وَأمْوالِ النَّاسِ بِالبَاطِلِ، وَأَنْوَاعِ الشُّبُهَاتِ، فَأخْبَرَ عَنْ حَالِهِمْ يَوْمَ خُرُوجِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ، يَوْمَ البَعْثِ وَالنُّشُورِ، فَقَالَ عَنْهُم: إنَّهُم لاَ يَقُومُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ إلاّ قِياماً مُنْكَراً، كَمَا يَقُومُ المَصْرُوعُ حَالَ صَرَعِهِ وَأكْلُهُمُ الرِّبَا هَذا قائِمٌ عَلى اسْتِحلاَلِهِمْ لَهُ، وَجَعْلِهِ كَالبَيْعِ، فَيَقُولُونَ: كَمَا يَجُوزُ أنْ يَبيعَ الإِنْسَانُ سِلعَتَهُ التِي ثَمَنُهَا عَشَرَةُ دَراهِمَ عَلَى أنْ يَرُدَّهَا عَلَيهِ عِشْرِينَ دِرْهَماً بَعْدَ سَنَةٍ، فَالسَّبَبُ فِي رَأيِهِمْ وَاحِدٌ فِي كُلٍّ مِنَ الزِّيَادَتَيْنِ، وَهُوَ الأجَلُ.
هَذِهِ هِيَ حُجَّةُ آكِلِي الرِّبا وَهُمْ وَاهِمُونَ فِيمَا قَالُوهُ، وَقِيَاسُهُمْ فَاسِدٌ، لأنَّ البَيْعَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي حِلَّهُ لأَنَّهُ يُلاحَظُ فِيهِ انْتِفاعُ المُشْتَرِي بِالشَّيْءِ انْتِفَاعاً حَقِيقيّاً.(3/160)
أمَّا الرِّبا فَهُوَ إعْطَاءُ الدَّراهِم وَالْمِثْلِيَّاتِ وَأخْذُها مُضَاعَفَةً فِي وَقْتٍ آخَرَ. فَمَا يُؤخَذُ مِنَ المَدِينِ زِيَادَةً في رَأسِ المَالِ لاَ مُقَابِلَ لَهُ مِنْ عَيْنٍ وَلاَ عَمَل. فَمَنْ بَلَغَهُ نَهْيُ اللهِ عَنِ الرِّبا، فَانْتَهى عَنِ الرِّبا فَلَهُ مَا سَلَفَ مِمَّا أكَلَهُ مِنَ الرِّبا قَبْلَ التَّحْرِيم، وَمَا سَبَقَ لَهُ أنْ أخَذَهُ أَيَّامَ الجَاهِلِيَّةِ، وَأمْرُه مَرْدُودٌ إلى اللهِ. وَمَنْ عَادَ إلى الرِّبا، بَعْدَ أنْ بَلَغَهُ النَّهْيُ عَنْهُ، فَقَدِ اسْتَوْجَبَ العُقُوبَةَ مِنَ اللهِ، وَالخُلُودَ في نَارِ جَهَنَّمَ.
الذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ - أي المَصْرُوعُ. وَكَانَتِ العَرَبُ تَعْتَقِدُ أنَّ الشَيْطَانَ يَخْبِطُ الإِنْسَانَ فَيَصْرَعُهُ.
مَرَاحِلُ تَحْرِيمِ الرِّبا فِي القُرْآنِ:
كَمَا مَرَّ تَحْرِيمُ الخَمْرِ فِي مَرَاحِلَ، كَذَلِكَ مَرَّ تَحْرِيمُ الرِّبا فِي أرْبَعِ مَرَاحِلَ مُتَدَرِّجَةٍ:
1 - فِي المَرْحَلَةِ الأولى - قَالَ الله تَعَالَى فِي الآيةِ المَكِّيَّةِ {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُو عِندَ الله} أيْ إنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي هَذِهِ الآيةِ إنَّ الرِّبا لاَ ثَوَابَ فِيهِ عِنْدَ اللهِ.
2 - وَفِي المَرْحَلَةِ الثَّانِيَةِ - ألْقىَ اللهُ تَعَالَى عَلَى المُسْلِمِينَ دَرْساً وَعِبْرَةً مِنْ سِيرَةِ اليَهُودِ الذِينَ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِمْ أكْلَ الرِّبَا فَأكَلُوهُ، فَعَاقَبَهُمُ اللهُ بِمَعْصِيَتِهِمْ.
فَقَدْ جَاءَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً.} كَمَا جَاءَ بَعْدَهَا {وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً.} وَهَذِهِ العِبْرَةُ لاَ يَكُونُ لَهَا أثَرٌ إلاَّ إذَا كَانَ مِنْ وَرَائِهَا نَوْعٌ مِنْ تَحْرِيمِ الرِّبا عَلَى المُسْلِمينَ. وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذا المَوْضِعِ نَهْيٌ صَرِيحٌ عَنِ الرِّبا، وَلكِنَّهُ أُلْمِحَ إلَيهِ.(3/161)
3 - المَرْحَلَةُ الثَّالِثَةُ - وَلَمْ يَجِيءِ النَّهْيُ الصَّرِيحُ إلاَّ فِي المَرْحَلَةِ الثَّالِثَةِ، وَلَمْ يَكُنْ إلاَّ نَهْياً جزْئِياً عَنِ الرِّبا الفَاحِشِ الذِي يَتَزَايَدُ حَتَّى يَصِيرَ أضْعَافاً مُضَاعَفَةً.
{يَآ أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً.} - المَرْحَلَةُ الرَابِعَةُ - وَفِي المَرْحَلَةِ الرَابِعَةِ وَالأخِيرَةِ خُتِمَ التَّشْرِيعُ القُرْآنِيُّ كُلُّهُ بِالنَّهِي الحَاسِمِ عَنْ كُلِ مَا يَزِيدُ عَلَى رَأسِ مَالِ الدَّيْنِ.
{ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ، فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ.} وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ: " إيَّاكَ وَالذُّنوبَ التِي لاَ تُغْفَرُ: الغُلُولُ فَمَنْ غَلًّ شَيْئاً أَتَى بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ والرِّبا، فَمَنْ أكَلَ الرِّبا بُعِثَ يَوْمَ القِيَامَةِ مُجْنُوناً يُتَخَبَّطُ ".
وَاللهُ تَعَالَى لاَ يُحِبُّ الذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى ارتِكَابِ المُحَرَّمَاتِ وَعَلَى تَحْلِيلِها، وَلاَ يُحِبُّ الذِينَ لاَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِهِ.
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ أنَّهُ يَمْحَقُ الرِّبا، وَيُذْهِبُ مِنْ يَدِ آكِلِهِ بَرَكَةَ مَالِهِ، وَيُهْلِكُ المَالَ الذِي دَخَلَ فِيهِ الرِّبا، فَلاَ يَنْتَفِعُ بِهِ أحَدٌ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَنَّهُ يُضَاعِفُ ثَوَابَ الصَّدَقَاتِ، وَيَزِيدُ المَالَ الذي أُخْرِجَتْ مِنْهُ، وَيُعَاقِبُ آكِلَ الرِّبا يَوْمَ القِيَامَةِ. وَاللهُ لا يُحِبُّ الكَفُورَ المُتَمَادِي فِي كُفْرِ مَا أَنْعَمَ اللهُ بِهِ عَلَيهِ مِنْ مَالٍ، لأنَّهُ لا يُنْفِقُ مِنْهُ فِي سَبيلِهِ، وَلاَ يُحِبُّ الذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى تَحْليلِ المُحَرَّمَاتِ، وَلاَ الذِينَ يَسْتَمِرُّونَ عَلَى ارْتِكَابِها.
(29) المفترون على الله:(3/162)
قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)} [البقرة /81:79]
وَهؤَلاَءِ صِنْفٌ مِنَ اليَهُودِ هُمُ العُلَمَاءُ، وَالدُّعَأةُ إِلى الضَّلاَلَةِ بِالكَذِبِ وَالبُهْتَانِ والزُّورِ، وَقَوْلِ غَيْرِ الحَقِّ عَلَى اللهِ، وَأَكْلِ أَمْوالِ النَّاسِ بِالبَاطِلِ، وَهُمْ أَحْبَارُ اليَهُودِ الذِينَ كَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ كِتَاباً مُحَرَّفاً وَمُلَفْقاً مِنْ عِنْدِهِمْ، يِبِيعُونَهُ لِعَوامِّهِمْ زَاعِمِينَ أَنَّهُ التَّورَاةُ المُنْزَلَةُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، لِيَأْخُذُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً مِنْهُمْ. وَيُُحَََذِّرُ اللهُ هؤَلاءِ المُفْتَرِينَ عَلَى اللهِ، وَيَقُولُ لَهُمْ: الوَيْلُ لَهُمْ - أَيِ الهَلاَكُ وَالدَّمَارُ لَهُمْ وَشِدَّةُ الشَّرِّ - مِمَّا أَكَلُوا مِنْ هذا الكَسْبِ الحَرَامِ. وَقَدِ ارْتَكَبَ هؤُلاءِ بِعَمَلِهِمْ هذا ثَلاثَ جِنَايَاتٍ:
أُولاَهَا - كِتْمَانُ مَا فِي كِتَابِهِمْ مِنْ صِفَةِ النَّبِيِّ وَتَغْيِيرِهَا.
وَثَانِيَتُها - الافْتِراءُ عَلَى اللهِ وَنِسْبَةُ شَيءٍ إِلَيهِ لَمْ يَقُلْهُ.
وَثَالِثُهَا - الكَسْبُ الحَرَامُ ثَمَناً لِهذا الكَذِبِ وَالتَّحْرِيفِ وَالإِفْكِ.
كَانَ اليَهُودُ يَقُولُونَ: إِنَّهُم أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، يُؤَاخِذهُمْ مُؤَاخَذَةَ الأَبِ لابْنِهِ، بِرْفْقٍ وَحَنَانٍ، وَإِنَّهُمْ لَنْ يُعَذَّبُوا فِي النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ، ثُمَّ يَرْضى الله عَنْهُم فَيَنْجُونَ مِنَ العَذَابِ وَمِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، مَهْمَا كَانَتْ ذَنَوبُهُمْ عَظِيمَةً.(3/163)
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيهِمْ قَائِلاً: أَحَصَلْتُمْ عَلَى عَهْدٍ وَوَحْيٍ وَخَبرٍ صَادِقٍ بِذلِكَ مِنَ اللهِ؟ فَإِنْ كُنْتُمْ حَصَلْتُمْ عَلَى عَهْدٍ فَإِنَّ اللهَ لا يُخْلِف عَهْدَهُ وَوَعْدَهٌ أَبَداً، وَلكِنَّ ذلِكَ لَمْ يَقَعْ، وَلَمْ يَصْدُرْ مِنَ اللهِ عَهْدٌ لِلْيَهُودِ، وَإِنَّكُمْ مُفْتَرُونَ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ شَيئاً لاَ عِلْمَ لَكُمْ بِهِ.
وَيَقُولُ تَعَالَى لِلْيَهُود: لَيْسَ الأَمْرُ كَمَا تَمَنَّيتُم، وَلاَ كَمَا تَشْتَهُونَ، بَلِ الأَمْرُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ قَضَى بِأَنَّ كُلَّ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً، وَأَتَى رَبَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَقَدْ أَثْقَلَتْهُ خَطَايَاهُ وَآثَامُهُ، وَلَيْسَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ، وَلاَ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ، وَلَمْ يَتُبْ مِنْ خَطَايَاهُ إِلَى اللهِ، فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَيَبْقَى فِيهَا خَالِداً
(30) قتلة الأنبياء والمرسلين:
قال تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)} [آل عمران/181 - 184](3/164)
لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى قَوْلَهُ: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} قَالَتْ اليَهُودُ: يَا مُحَمَّدُ أفْتَقَرَ رَبُّكَ فَيَسْأَلُ عِبَادَهُ القَرْضَ؟ وَرُوِيَ أنَّ أبَا بَكْرٍ لَقِيَ رَجُلاً مِنَ اليَهُودِ فَدَعَاهُ إلى الإِسْلاَمِ، فَقَالَ لَهُ اليَهُودِيُّ: يَا أَبَا بَكْرٍ مَا بِنَا إلَى اللهِ مِنْ حَاجَةٍ مِنْ فَقْرٍ، وَإِنَّهُ إِلَينَا لَفَقِيرٌ، مَا نَتَضرَّعُ إلَيهِ كَمَا يَتَضرَّعُ إلينَا، وَإنا عَنْهُ أَغْنِياءُ، وَلَوْ كَانَ عَنَّا غَنِيّاً مَا اسْتَقْرَضَ مِنَّا كَمَا يَزْعُمُ صَاحِبُكُمْ. . فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةِ.
وَيَتَوَعَّدُ اللهُ تَعَالَى اليَهُودَ بِأنَّهُ سَمِعَ مَا قَالُوا، وَسَيَكْتُبُهُ وَيُسَجِّلُهُ عَلَيْهِمْ، وَسَيُحَاسِبُهُمْ عَلَيهِ، كَمَا سَيُحَاسِبُهُمِ عَلَى رِضَاهُمْ بِمَا قَامَ بِهِ أَسْلافُهُمْ مِنْ قَتْلِهِم الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَسَيَجْزِيهِم اللهُ عَلَيهِ شَرَّ الجَزَاءِ. وَيَقُولُ لَهُمْ تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ: ذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ.
وَهَذا العَذَابُ المُحْرِقُ الذِي تَذُوقُونَهُ، إِنَّمَا وَقَعَ بِكُمْ بِسَبَبِ مَا قَدَّمَتْهُ أيْدِيكُمْ مِنْ عَمَلٍ سَيِّئٍ، وَكُفْرٍ وَظُلْمٍ، وَقَتْلٍ لِلأَنْبِيَاءِ، وَقَوْلِ: إنَّ اللهَ فَقِيرٌ. وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ بِكُمْ هَذَا العِقَابَ بِالحَقِّ، وَالعَدْلِ، وَهُوَ لاَ يَظْلِمُ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ.
لَمَّا دَعَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليَهُودَ إلى الإِسْلاَمِ، رَدَّ عَليهِ بَعْضُ رُؤَسَائِهِمْ (مِثْلُ كَعَبِ بْنِ الأشرَفِ، وَمَالِكِ بْنِ الصَّيفِ، وَفَنْحَاسِ بْنِ عَازُورَاءَ) قَائِلِينَ: إنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْهِمْ فِي كُتُبِهِمْ أنْ لاَ يُؤْمِنُوا لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَ بِمُعْجِزَةٍ، مِنْهَا أنْ يَكُونَ إذا قَرَّبَ قُرْبَاناً إلى اللهِ، (أيْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ) فَتُقُبِّلَ مِنْهُ، تَنْزِلُ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتَحْرُقُ القُرْبَانَ.(3/165)
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مُكَذِّباً مَقَالَتَهُمْ، فَقَالَ لِنَبِيِّهِ الكَرِيمِ، قُلْ لَهُمْ: لَقَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ قَبْْلِي بِالحُجَجِ وَالبَرَاهِينِ، وَبِنَارٍ تَأْكُلُ القَرَابِينَ المُتَقَبَّلَةَ (وَهُوَ الذِي قَالُوهُ وَطَلَبُوهُ) فَلِمَاذَا قَتَلْتُمُوهُمْ، وَكَذَّبْتُمُوهُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ؟
وَيُعَزِّي اللهُ رَسُولَهُ قَائِلاً: إنْ كَذَّبَكَ هَؤُلاءِ فَلاَ يَهِمَنَّكَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَلَكَ أسْوَةٌ بِمَنْ جَاءَ قَبْلَكَ مِنَ الرُسُلِ، الذِينَ جَاؤُوا المُكَذِبِينَ مِنْ أَقْوَامِهِمْ بِالبَيِّنَاتِ وَالحِجَجِ وَالبَرَاهِينِ القَاطِعَةِ، وَالكُتُبِ المُنْزَلَةِ مِنَ السَّمَاءِ (الزُّبُرِ) وَالكِتَابِ الوَاضِحِ الجَلِيِّ (الكِتَابِ المُنِيرِ)، َوَأتَوا بِالقُرْآنِ الذِي تَأْكُلُهُ النَّارُ. . فَقُوبِلُوا مِنْهُمْ بِالتَّكْذِيبِ وَالمُعَانَدَةِ، وَقَتَلُوا بَعْضَهُمْ كَزَكَرِيّا وَيَحْيَى، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ قَومٌ غِلاظُ الأَكْبَادِ، قُسَاةُ القُلُوبِ، لاَ يُقِيمُونَ الحَقَّ، وَلا يُذْعِنُونَ لَهُ.
(31) الظالمون:
قال تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [آل عمران: 192]
ثُمَّ يُتَابِعُونَ دُعَائَهُمْ وَرَجَاءَهُمْ لِرَبِّهِمْ قََائِلِينَ: رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلَهُ النَّارَ فَقَدْ أَهَنْتَهُ وَأَذْلَلْتَهُ، وَأَظْهَرْتَ خِزْيَهُ لأَهْلِ الجَمْعِ يَوْمَ القِيَامَةَ، وَالظَّالِمُونَ لاَ يَجِدُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ يَنْصُرُهُمْ مِنَ اللهِ.(3/166)
وقال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم/52:42]
وقال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)} [الكهف/29، 30]
قال تعالى: {فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} [سبأ: 42](3/167)
قال تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)} [الأنبياء/11 - 18]
وقال تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ} [الحشر /17،16]
وَمَثَلُ هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ الذِينَ وَعَدُوا اليَهُودَ بِالنُّصْرَةِ إِنْ قُوتِلُوا وَبِالخُرُوجِ مَعَهُمْ إِنْ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ، كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ الذِي غَرَّ الإِنْسَانَ، وَوَعَدَهُ بِالنَّصْرِ عِنْدَ الحَاجَةِ إِلَيهِ، إِذَا أَطَاعَهُ وَكَفَرَ بِاللهِ، فَلَمَّا احْتَاجَ الإِنْسَانُ إِليهِ، وَطَلَبَ مِنْهُ النُّصْرَةَ، تَبَرَّأَ الشَّيْطَانُ مِنْهُ، وَخَذَلَهُ وَتَرَكَهُ لِمَصْيرِهِ، وَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ إِنْ نَصْرْتُكَ أَنْ يُشْرِكَنِي رَبُّ العَالَمِينَ مَعَكَ فِي العَذَابِ.
فَكَانَ عَاقِبَةَ الأَمْرِ بِالكُفْرِ أَنْ صَارَ الشَّيْطَانُ وَمَنْ أَغْرَاهُ بِالكُفْرِ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ، جَزَاءُ كُلِّ مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِالكُفْرِ وَالفُسُوقِ وَالعِصْيَانِ.
وقال تعالى {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)} [الجن/14، 15](3/168)
وَأَنَّا مِنَّا المُؤْمِنُونَ، الذِينَ أَطَاعُوا اللهَ وَاَخْبَتُوا إِلَيْهِ، وَعَمِلُوا صَالِحاً يَرْضَاهُ، وَمِنَّا الجَائِرُونَ عَنِ النَّهْجِ القَوِيمِ، الخَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ، وَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَأَطَاعَهُ، فَقَدْ اجْتَهَدَ فِي سُلُوكِ الطَّرِيقِ المُوصِلِ لِلسَّعَادَةِ.
وَأَمَّا الجَائِرُونَ عَنْ سُنَنِ الإِسْلاَمِ فَإِنَّهُمْ سَيَكُونُونَ حَطَباً لِجَهَنَّمَ، تُوقَدُ بِهِمْ كَمَا تُوقَدُ بِكَفَرَةِ الإِنْسِ.
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث ابن عمر في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الظلم ظلماتٌ يوم القيامة.
(حديث جابر بن عبد الله في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم.
(حديث أبي ذرٍ في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي و جعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل و النهار و أنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني و لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله و من وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه.(3/169)
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ و صيام و زكاة و يأتي وقد شتم هذا و قذف هذا و أكل مال هذا و سفك دم هذا و ضرب هذا فيُعطِى هذا من حسناته و هذا من حسناته فإن فنيت حسناتُه قبل أن يُقضَى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طُرح في النار.
(حديث ابن عمر في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أخذ من الأرض شيئا بغير حقه خُسِفَ به يوم القيامة إلى سبع أرضين.
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله تعالى لَيملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: {وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ} [هود:102]
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه.
(32) المنافقون:(3/170)
وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)} [البقرة/16:8](3/171)
وقال تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)} [النساء/146:138]
(33) تولي الكفار والفجار دون المؤمنين:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51](3/172)
يَنْهَى اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالاَةِ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَاتِّخَاذِهِمْ حُلَفاءَ لَهُمْ عَلَى أَهْلِ الإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَيَقُولُ لَهُمْ إنَّ مَنْ يَتَّخِذُهُمْ نُصَرَاءَ وَحُلَفَاءَ وَأَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهُوَ مِنْهُمْ فِي التَّحَزُّبِ عَلى اللهِ وَرَسُولِهِ وَالمُؤْمِنِينَ. وَإنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ. وَمَنْ يَتَولَّى أَعْدَاءُ اللهِ فَهُوَ ظَالِمٌ، وَاللهُ لاَ يَهْدِيهِ إلى الخَيْرِ. وَاليَهُودُ وَالنَّصَارَى بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ وَلِيٌّ وَلا نَصِيرٌ.
(34) قتل النفس بغير حق:
قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)} [المائدة/31:27]
يُبِيِّنُ اللهُ تَعَالَى عَاقِبَةَ البَغْي وَالحَسَدِ وَالظُّلْمِ، فِي خَبْرِ ابْنَي آدَمَ (قَابِيلَ وَهَابِيلَ)، وَكَيْفَ عَدا أحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ فَقَتَلَهُ بَغْياً عَلَيهِ، وَحَسَداً لَهُ، فِيمَا وَهَبَهُ اللهُ مِنَ النِّعْمَةِ، وَتَقَبَّلَ القُرْبَانَ الذِي أَخْلَصَ فِيهِ صَاحِبُهُ للهِ عَزَّ وَجَلَّ فَفَازَ المَقْتُولُ بِغُفْرَانِ اللهِ لَهُ خَطَايَاهُ، وَبِالدُّخُولِ إلَى الجَنَّةِ، وَعَادَ القَاتِلُ وَقَدْ خَسِرَ الدَّارَيْنِ الدُّنْيا وَالآخِرَةَ.(3/173)
فَقَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ الكَرِيمِ: أقْصُصْ عَلى البُغَاةِ الحَسَدَةِ مِنَ اليَهُودِ وَأَمْثَالِهِمْ وَأشْبَاهِهِمْ خَبَرَ ابْنَيْ آدَمَ الذِي يَرْوِيهِ النَّاسُ وَيَتَنَاقَلُونَهُ، لَقَدْ قَرَّبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قُرْبَاناً إلى اللهِ، فِي أَمْرٍ اخْتَلَفَا عَلَيْهِ، فَتَقَبَّلَ اللهُ مِنْ أَحَدِهِمَا قُرْبَانَهُ (وَهُوَ هَابِيلُ) وَلَمْ يَتَقَبَّلْ قُرْبَانَ الآخَرِ (قَابِيلَ)، بِأَنْ أَنْزَلَ اللهُ نَاراً مِنَ السَّمَاءِ فَأَكَلَتْ قُرْبَانَ هَابِيلَ، وَلَمْ تَمَسَّ النَّارُ قُرْبَانَ قَابِيلَ. فَغَضِبَ قَابِيلُ، وَهَدَّدَ أَخَاهُ بِالقَتْلِ، فَقَالَ لَهُ هَابِيلُ: إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ القُرْبَانَ وَالصَّدَقَاتِ مِنَ المُتَّقِينَ، الذِينَ أَخْلَصُوا العِبَادَةَ للهِ، وَاتَّقَوْا الشِّرْكَ، وَخَافُوا عِقَابَ اللهِ، وَاجْتَنَبُوا المَعَاصِي.
وَإذِا أَرَدْتَ أنْ تَبْسِطَ إليَّ يَدَكَ وَتَمُدَّهَا بِالشَّرِّ، وَإذَا نَوَيْتَ قَتْلِي، فَإنِّي لَنْ أُقَابِلَكَ عَلَى صَنِيعِكَ الفَاسِدِ بِمِثْلِهِ، فَأَكُونُ أنَا وَأَنْتَ سَوَاءً فِي الخَطِيئَةِ، وَإنِّي أَخَافُ اللهَ مِنْ أنْ أَصْنَعَ بِكَ مَا تُرِيدُ أَنْتَ أنْ تَصْنَعَهُ بِي، وَلِذَلِكَ فَإنِّي أَصْبِرُ وَأَحْتَسِبُ.
وَإنِّي إذْ أَرْفُضُ مُقَابَلَةَ الجَرِيمَةِ بِمِثْلِهَا، فَإنَّنِي إنَّمَا أُرْيدُ أنْ تَتَحمَّلَ إِثْمَ قَتْلِي، وَالإِثْمَ الذِي عَلَيْكَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَمْنَ أَجْلِهِ لَمْ يَتَقَبَّلَ اللهُ قُرْبَانَكَ، فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ، وَهَذَا هُوَ الجَزَاءُ الذِي أَعَدَّهُ اللهُ لِلْمُعْتَدِينَ الظَّالِمِينَ.
وَلَكِنَّ قَابِيلَ لَمْ يَخَفْ النَّارَ التِي خَوَّفُه بِهَا أَخْوُهُ، وَلَمْ يَنْزَجِرْ (وَقِيلَ إنَّ القَاتِلَ يَحْمِلُ فِي الآخِرَةِ إِثْمَ مَنْ قَتَلَهُ وَمَا عَلَيهِ مِنْ ذُنُوبٍ وَآثَامٍ وَحُقُوقٍ لِلْعِبَادِ، لأَنَّهُ بِقَتْلِهِ مَنَعَهُ مِنْ أنْ يَرْجِعَ إلى اللهِ بِالتَّوْبَةِ وَالاسْتِغْفَارِ، وَوَفَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ العِبَادِ إنْ أرَادَ ذَلِكَ).(3/174)
فَحَسَّنَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أخِيهِ، وَشَجَّعَتْهُ عَلَيهِ، بَعْدَ أنْ سَمِعَ مِنْ أخِيهِ المَوْعِظَةَ فَلَمْ يَتَّعِظْ، وَلَمْ يَزْدَجِرْ، فَقَتَلَهُ، فَأصْبَحَ القَاتِلُ مِنَ الخَاسِرِينَ فِي الدُّنيا بِفَقْدِهِ أخَاهُ، وَفِي الآخِرَةِ إذْ أصْبَحَ مِنْ أهْلِ النَّارِ.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
لا تقتل نفس ظلما، إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل.
ثُمَّ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى أنَّ الإِنْسَانَ قَدْ يَسْتَفِيدَ مِنْ تَجَارِبِ غَيْرِهِ، فَلَمَّا مَاتَ الأخُ القَتِيلُ، تَرَكَهُ القَاتِلُ فِي العَرَاءِ، وَهُوَ لاَ يَعْرِفُ كَيْفَ يَدْفِنُهُ، فَبَعَثَ اللهُ غُرَابَيْنِ فَاقْتَتَلاَ، فَقَتَلَ أحَدُهُما صَاحِبَهُ، فَحَفَرَ لَهُ حُفْرَةً ألْقَاهُ فِيهَا، ثُمَّ حَثَا عَلَيهِ التُّرَابَ. فَلَمَّا رَآهُ ابْنُ آدَمَ القَاتِلُ قَالَ: يَا وَيْلَتَا أَعَجِزْتُ أنْ أكُونَ مِثْلَ هَذا الغُرَابِ فَأوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي؟ فَنَدِمَ عَلَى مَا فَعَل.(3/175)
يُخْبِرُ تَعَالَى: أنَّهُ بِسَبَبِ قِتْلِ ابْنِ آدَمَ أخَاهُ، شَرَعَ اللهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَضَى عَلَيْهِمْ، أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ مِنْ قِصَاصٍ أوْ إِفْسَادٍ فِي الأَرْضِ، وَاسْتَحَلَّ قَتْلَهَا، بِلاَ سَبَبٍ وَلاَ جِنَايَةٍ، فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً، لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ نَفْسٍ. وَمَنْ حَرَّمَ قَتْلَهَا، وَكَانَ سَبباً فِي حَيَاةِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، بِإِنْقَاذِهَا مِنْ مَوْتٍ، فَكَأنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً، لأنَّ البَاعِثَ عَلَى الامتِنَاعِ عَنِ القَتْلِ هُوَ اعْتِقَادُهُ بِأنَّ ذَلِكَ شَرٌّ وَأنَّ اللهَ حَرَّمَهُ، وَلِذَلِكَ فَإنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يَسْلَمُونَ مِنْ شَرِّهِ، وَيَأمَنُونَ أذَاهُ، وَلأنَّ البَاعِثَ عَلَى إنْقَاذِ النَّفْسَ مِنَ المَوْتِ الذِي كَانَ يَتَهَدَّدُهَا هُوَ الرَّحْمَةُ وَالشَّفَقَةُ، وَالوُقُوفُ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرَائِعِ، فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أنَّهُ مُسْتَعِد لإنْقَاذِ كُلِّ نَفْسٍ إنِ اسْتَطَاعَ، وَلِذَلِكَ يَكُونُ كَأنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً. وَلَقَدْ جَاءَتْ بَنِي إِسْرَائِيلَ رُسُلُهُمْ بِالحُجَجِ وَالبَرَاهِينِ وَالدَّلاَئِلَ الوَاضِحَةِ. وَلَكِنَّ الكَثِيرينَ مِنْهُمْ كَانُوا مَعَ ذَلِكَ مُسْرِفِينَ فِي فَسَادِهِمْ فِي الأَرْضِ.
(وَهَذَا تَوْبِيخٌ مِنَ اللهَ تَعَالَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى ارْتِكَابِهِم المَحَارِمَ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهَا مَحَارِم).
(35) المشركون:
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)} [البقرة/167:165](3/176)
وقال تعالى {وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة:221]
قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (72) لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (74) مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ (77)} [المائدة/77:72]
قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة:17]
(36) عدم التناهي عن فعل المنكر:(3/177)
قال تعالى {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)} [المائدة/81:78]
لَعَنَ اللهُ الذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الزَّبُورِ وَالإِنْجِيلِ، فَقَدْ لَعَنَ دَاوُدُ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، مِنْ اعْتَدَى مِنْهُمْ فِي السَّبْتِ، أَوْ لَعَنَ العَاصِينَ المُعْتَدِينَ مِنْهُمْ عَامَّةً، وَكَذَلِكَ لَعَنَهُمْ عِيسَى بِنِ مَرْيَمَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ اللَّعْنِ هُوَ تَمَادِيهِمْ فِي العِصْيَانِ، وَتَمَرُّدُهُمْ عَنْ طَاعَةِ اللهِ، وَتَمَادِيهِمْ فِي الظُّلْمِ وَالفَسَادِ (بِمَا كَانُوا يَعْتَدُونَ)
فَقَدْ كَانُوا لاَ يَنْهَى أَحَدٌ مِنْهُمْ أَحَداً عَنِ مُنْكَرٍ يَقْتَرِفُهُ مَهْمَا بَلَغَ مِنَ القُبْحِ وَالضَّرَرِ. وَالنَّهِيُ عَنِ المُنْكَرِ هُوَ حِفَاظُ الدِّينِ، وَسِيَاجُ الفَضَائِلِ وَالآدَابِ، فَإذَا تَجَرّأ المُسْتَهْتِرُونَ عَلى إِظْهَارِ فِسْقِهِمْ وَفُجُورِهِمْ، وَرَآهُمُ الغَوْغَاءَ مِنَ النَّاسِ قَلَّدُوهُمْ فِيهِ، وَزَالَ قُبْحُهُ مِنْ نُفُوسِهِمْ، وَصَارَ عَادَةً لَهُمْ، وَزَالَ سُلْطَانُ الدِّينِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَتُرِكَتْ أَحْكَامُهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إلى فَشْوِ المُنْكَرَاتِ فِيهِمْ. وَيُقَبِّحُ اللهُ تَعَالَى سُوءَ فِعْلِهِمْ، وَيَذُمُّهُمْ عَلَى اقْتِرَافِ المُنْكَرَاتِ، وَإِصْرَارِهِمْ عَلَيْهَا وَسُكُوتِ الآخَرِينَ عَنْهَا، وَرِضَاهُمْ بِهَا.(3/178)
وَتَرَى يَا مُحَمَّدُ كَثِيراً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، يَتَوَلَّوْنَ الذِينَ كَفَرُوا مِنْ مُشْرِكِي العَرَبِ وَيُحَالِفُونَهُمْ عَلَيْكَ، وَيُحَرِّضُونَهُمْ عَلَى قِتَالِكَ، وَأَنْتَ تُؤْمِنُ بِاللهِ، وَبِمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ، وَتَشْهَدُ لَهُمْ بِصِدْقِ الرِّسَالَةِ، وَأُولَئِكَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِكِتَابٍ وَلاَ رَسُولٍ، وَلاَ يَعْبُدُونَ اللهَ وَحْدَهُ، وَلَولا اتِّبَاعُ الهَوَى، وَتَزْيينُ الشَّيْطَانِ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ، مَا فَعَلُوا ذَلِكَ، فَبِئْسَ مَا قَدَّمُوهُ لأَنْفُسِهِمْ فِي آخِرَتِهِمْ مِنَ الأَعْمَالِ التِي اسْتَوْجَبَتْ سَخَطَ اللهِ، وَعَظِيمَ غَضَبِهِ عَلَيْهِمْ، وَسَيُجْزَوْنَ عَلَى ذَلِكَ شَرَّ الجَزَاءِ، وَسَيُحِيطَ بِهُمُ العَذَابُ، وَلا يَجِدُونَ عَنْهُ مَصْرِفاً، وَيَخْلُدُونَ فِي النَّارِ أَبَداً.
وَلَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ اليَهُودُ، الذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الكَافِرِينَ مِنْ مُشْرِكِي العَرَبِ، يُؤْمِنُونَ بِالنَّبِيِّ الذِي يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُ (وَهُوَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ)، وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنَ الهُدَى وَالبَيِّنَاتِ، لَمَا اتَّخَذُوا أُولَئِكَ الكَافِرِينَ مِنْ عَابِدِي الأَوْثَانِ، أَوْلِياءً وَأَنْصَاراً، وَلَكَانَتْ عَقِيدَتُهُمْ الدِّينِيَّةُ صَدَّتْهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مُتَمَرِّدُونَ فِي النِّفَاقِ، خَارِجُونَ عَنْ حَظِيرَةِ الدِّينِ، وَلاَ يُرِيدُونَ إلاَّ الجَاهَ وَالرِّيَاسَةَ، وَيَسْعَوْنَ إلى تَحْصِيلِهِمَا بِأيَّةِ طَرِيقَةٍ كَانَتْ، وَبِأيَّةِ وَسِيلَةٍ قَدَرُوا عَلَيْها.
فقد ورد النكير الشديد على من لم ينهي عن المنكر في كتاب الله تعالى، والسنة الصحيحة طافحة بالحث على ذلك، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أبي بكر الصديق في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه.
(حديث أبي سفيان في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله لا يقدس أمة لا يأخذ الضعيف حقه من القوي و هو غير متعتع.(3/179)
(حديث أنس في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: انصر أخاك ظالما أو مظلوما، فقال رجل يا رسول الله: أنصره إن كان مظلوماً أرأيت إن كان ظالما كيف أنصره؟ قال: تحجزه أو تمنعه عن الظلم فإن ذلك نصره.
(37) المحاربون لله ورسوله:
قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)} [المائدة/34،33]
المُحَارَبَةُ هُنَا هِيَ المُخَالَفَةُ وَالمُضَادَّةُ، لأنَّ فِيهَا عَدَمَ إذْعَانٍ لِدِينِ اللهِ وشَرْعِهِ، فِي حِفْظِ الحُقُوقِ، وَهِيَ تَصْدُقُ عَلَى الكُفْرِ، وَعَلى قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَإِخَافَةِ السَّابِلَةِ. وَكَذَلِكَ يُطْلَقُ الإِفْسَادُ فِي الأَرْضِ عَلَى أنْواعٍ مِنَ الشَّرِّ وَالفَسَادِ.
وَيَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَهْدٌ وَمِيثَاقٌ فَنَقَضُوا العَهْدَ، وَأَفْسَدُوا فِي الأَرْضِ، فَخَيَّرَ اللهُ رَسُولَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ شَاءَ أنْ يَقْتُلَهُمْ، وَإنْ شَاءَ أنْ يَقْطَعَ أيْدِيَهُمْ وَأرْجُلَهُمْ مِنْ خِلافٍ (أيْ إنْ قَطَعَ اليَدَ اليُمْنَى قَطَعَ مَعَهَا الرِّجْلَ اليُسْرَى، وَالعَكْسُ عَلَى العَكْسِ) أَو أَنْ يَنْفِيَهُمْ مِنَ الأَرْضِ التِي ارْتُكِبَ فِيها الجُرْمُ إلى أرْضٍ أُخْرَى لِيُسْجَنُوا فِيهَا (وَالنَفْي فِي مَفْهُومِ أبي حَنِيفَة هُوَ السِجْن) وَالصَحِيح: أنَّ عَامَّةٌ تَشْمَلُ كُلَّ مَنْ ارتَكَبَ عَمَلاً مِنْ أعمَالِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ.(3/180)
وَحُكْمُ المُحَارَبَةِ عِنْدَ الأئْمَةِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وابْنِ حَنْبَل يَكُونُ فِي الأمْصَارِ كَمَا يَكُونُ فِي الطُرِقِ خَارِجَ المُدُنِ، حَتَّى إِنَّ مَالِكاً جَعَلَ المُحَارَبَةَ تَشْمَلُ حَالَةَ الرَّجُلِ الذِي يَخْدَعُ رَجُلاً فَيُدْخِلُهُ بَيْتَهُ فَيَقْتُلُهُ وَيَأخُذُ مَا مَعَهُ.
وَقَالَ أبو حَنِيفَة إنَّمَا تَكُونُ المُحَارَبَةُ فِي الطُّرُقَاتِ لِبُعْدِ النَّاسِ عَمَّنْ يُغِيثُ، أَمَّا فِي الأمْصَارِ فَلاَ تَكُونُ مُحَارَبَةٌ لأنَّ الإنْسَانَ قَدْ يَلْحَقُهُ غَوْثٌ إذَا اسْتَغَاثَ.
وَفِي حَالَةِ المُحَارَبَةِ يَكُونُ دَمُ المَقْتُولِ للسُّلْطَانِ لاَ إلى وَليِّ المَقْتُولِ، وَلاَ يَكُونُ عَفْوُهُ سَبَباً فِي اسْقَاطِ العُقُوبَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّ العُقُوبَةَ تَكُونُ عَلَى الشَّ: ْلِ التَّالِي:
إذَا قَتَلُوا يُقْتَلُونَ بِمَنْ قَتَلُوا.
إذَا قَطَعُوا وَغَضَبُوا المَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا تُقْطَعُ أيْدِيهِمْ وَأرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ، وَيُنْفَوْنَ مِنْ بَلَدٍ إلى بَلَدٍ آخَرَ.
إذَا أخَافُوا السَّابِلَةَ فَقَطْ يُحْبَسُونَ.
وَهذا الجَزَاءُ هُوَ عَارٌ لَهُمْ وَنَكَالٌ وَذِلَّةٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا (خِزْيٌ)، وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، إذَا لَمْ يَتُوبُوا مِنْ فِعْلِهِمْ حَتَّى تَحِينَ وَفَاتُهُمْ.
وَأكْثَرُ الأئِمَّةِ يَتَّفِقُونَ عَلَى أنَّ هَاتَينِ الآيَتَينِ نَزَلَتَا فِي جَمَاعةٍ مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ، قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَتَكَلَّمُوا بِالإسْلاَمِ فَوَجَدُوا المَدِينَةَ رَدِيئَةَ المُنَاخِ، فَأَمَرَ لَهُمُ النَّبِيُّ بِبَعْضِ الإِبْلِ وَبِرَاعٍ، وَأَمَرَهُمْ بِالخُرُوجِ مِنَ المَدِينَةِ إلَى أَطْرَافِهَا لِيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إذَا كَانُوا بِنَاحِيَةِ الحَرَّةِ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ، وَقَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ، وَاسْتَاقُوا الإبِلَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيِّ فَأَرْسَلَ فِي الطَلَبِ فِي آثَارِهِمْ، فأُتِيَ بِهِمْ إلى النَّبِيِّ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِمْ، فَسُمِلَتْ أَعْيُنُهُمْ، وَقُطِعَتْ أيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ وَتُرِكُوا حَتَّى مَاتُوا.(3/181)
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: قدم أناس من عكل أو عرينة، فاجتووا المدينة، فأمرهم النبي بلقاح، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا، فلما صحوا، قتلوا راعي النبي، واستاقوا النعم، فجاء الخبر في أول النهار، فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهار جيء بهم، فأمر فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم، وألقوا في الحرة، يستسقون فلا يسقون. قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا وقتلوا، وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله.
فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ لِبَيَانِ عُقُوبَةِ المُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ.
مسألة: ماذا لو تَابَ الجُنَاةُ المُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ قَبْلَ أَنْ تَقْدِرَ عَلَيْهِمُ السُّلْطَةُ فِي البَلَدِ؟
الجواب:
إذا تَابَ الجُنَاةُ المُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ قَبْلَ أَنْ تَقْدِرَ عَلَيْهِمُ السُّلْطَةُ فِي البَلَدِ، سَقَطَ عَنْهُمُ العِقَابُ المَفْرُوضُ (وَهُوَ القَتْلُ أَوْ الصَّلْبُ أَوْ قَطْعُ اليَدَينِ. .) وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، يَقْبَلُ تَوْبَةَ مَنْ تَابَ، وَهُوَ مُخْلِصٌ فِيهَا، لأنَّ تَوْبَتَهُمْ وَهُمْ فِي قُوَّةٍ وَمَنَعَةٍ جَدِيرَةٌ بِأَنْ تَكُونَ خَالِصَةً للهِ، صَادِرَةً عَنْ اعْتِقَادٍ بِقُبْحِ الذَّنْبِ، وَالعَزْمِ عَلَى تَرْكِ العَوْدَةِ إلى فِعْلِ مِثْلِهِ (وَلَكِنْ تَبْقَى عَلَيهِمْ حُقُوقُ العِبَادِ).
قَبْلَ أنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ - قَبْلَ وُقُوعِهِمْ بِيَدِ السُّلْطَةِ.
(38) الاستكبار في الأرض:
قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} [النساء:173](3/182)
أمَّا الذِينَ آمَنُوا، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ، فَيَجْزِيهِمْ رَبُّهُمْ ثَوَابَ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ. وَأمَّا الذِينَ اسْتَكْبَرُوا عَنْ طَاعَةِ اللهِ، وَامْتَنَعُوا عَنْ عِبَادَتِهِ، فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً، فَهُوَ تَعَالَى يُجَازِي المُحْسِنَ عَلَى إِحْسَانِهِ بِالعَدْلِ وَالفَضْلِ، وَيُجازِي المُسِيءَ عَلَى إِسَاءَتِهِ بِالعَدْلِ. وَلَنْ يَجِدُوا لَهُمْ وَليّاً يَلِي أُمُورَهُمْ وَيُدَبِّرُها، وَلاَ نَاصِراً يَنْصُرُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ وَبَأسِهِ.
وقال تعالى: {وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} [إبراهيم:21]
وَيَوْمَ القِيَامَةِ تَبْرُزُ الخَلاَئِقُ كُلُّهَا لِلوَاحِدِ القَهَّارِ، وَتَجْتَمِعُ فِي بَرَازٍ وَاحِدٍ (وَهُوَ المَكَانُ الوَاسِعُ الخَالِي الذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يَسْتُرُهُ)، فَيَقُولُ الأَتْبَاعُ (الضُّعَفَاءُ) لِلقَادَةِ الذِينَ اسْتَكْبَرُوا عَنْ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ: لَقَدْ كُنَّا تَابِعِينَ لَكُمْ نَأْتَمِرُ بِأَمْرِكُمْ، وَقَدْ فَعَلْنَا مَا أَمَرْتُمُونَا بِهِ، فَهَلْ تَدْفَعُونَ عَنَّا اليَوْمَ شَيْئاً مِنَ العَذَابِ {فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا}؟ فَيَرُدُّ عَلَيْهِمُ القَادَةُ الكُبَرَاءُ قَائِلِينَ: لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانَا لَهَدَيْنَاكُمْ مَعَنَا، وَلَكِنَّنَا ضَلَلْنَا فَضَلَلْتُمْ مَعَنَا، فَحَقَّتْ كَلِمَةُ العَذَابِ عَلَى الكَافِرِينَ، وَلاَ بُدَّ مِنَ الصَّبْرِ لأنَّ الجَزَعَ لاَ يُفِيدُ، وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا فَلاَ نَجَاةَ لَنَا مِنَ النَّارِ، وَلاَ مَصْرِفَ لَنَا عَنْهَا.
(39) أصحاب الأعمال السيئة:(3/183)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)} [يونس/7 - 8]
إِنَّ الذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالبَعْثِ وَلِقَاءِ اللهِ فِي الآخِرَةِ، وَاعْتَقَدُوا وَاهِمِينَ أَنَّ الحَيَاةَ الدُّنْيَا هِيَ مُنْتَهَاهُمْ، وَلَيْسَ بَعْدَهَا حَيَاةٌ، فَاطْمَأَنُّوا بِهَا، وَلَم يَعْمَلُوا لِمَا بَعْدَهَا، وَغَفَلُوا عَنْ آيَاتِ اللهِ الدَّالَةِ عَلَى البَعْثِ وَالحِسَابِ. . .
فَهَؤُلاَءِ سَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ جَهَنَّمَ يَوْمَ القِيَامَةِ، لِيَصْلِيَهُمْ بِنِيرَانِهَا، وَسَيَجْعَلُهَا مَأْوًى لَهُمْ وَمَنْزِلاً، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمْ، وَعَلَى مَا اكْتَسَبُوا فِي دُنْيَاهُمْ مِنَ المَعَاصِي وَالآثَامِ وَالخَطَايَا وَالإِجْرَامِ.
(40) من كفر بالقرآن:
قال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)} [آل عمران/4:2]
يُخْبِرِ اللهُ تَعَالَى بِأنَّهُ مُتَفَرِّدُ بِالألُوهِيَّةِ لِجَميعِ خَلْقِهِ، وَهُوَ الحَيُّ فِي نَفْسِهِ الذِي لاَ يَمُوتُ أبَداً، القَيِّمُ عَلَى أَمْرِ العَالَمِ، يُدَبِّرُهُ وَيُصَرِّفُهُ.
وَهُوَ تَعَالَى الذِي أنْزَلَ عَلَيكَ القُرْآنَ، يَا مُحَمَّدُ، مُشْتَمِلاً عَلَى الحَقِّ فِي كُلِّ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ أصُولِ الشَّرائِعِ التِي تَضَمَّنَتْهَا الكُتُبُ السَّابِقَةُ، وَمُصَدِّقاً لها. فَهِيَ تُصَدِّقُه بِمَا أخْبَرَتْ عَنْهُ، وَبَشَّرَتْ بِهِ، مِنَ الوَعْدِ بِإرْسَالِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَسُولاً مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَبِإنْزالِ القُرْآنِ عَلَيْهِ. وَهُوَ يُصَدِّقُهَا لأَنَّهُ وَافَقَ مَا أَخْبَرَتْ عَنْهُ. وَاللهُ هُوَ الذِي أنْزَلَ التَّورَاةَ عَلَى مُوسَى، وَالإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى، عَلَيهِمَا السَّلاَمُ.(3/184)
وَقَدْ أنْزَلَهُمَا اللهُ مِنْ قَبلِ هذا القُرآنِ لِهدَايَةِ النَّاسِ إلى الحَقِّ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ الإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ وَرِسَالَتِهِ، حِينَ يُبْعَثُ. وَأنْزَلَ الفُرْقَانَ - وَهُوَ مَا يُفْرَقُ بِهِ بَيْنَ الهُدَى والضَّلاَلَةِ، وَالحَقِّ وَالبَاطِلِ، بِمَا يَذْكُرُهُ اللهُ مِنَ الحُجَجِ وَالبَيِّنَاتِ القَاطِعَاتِ - (وَيَرَى بَعْضُ المُفَسِّرِينَ أنَّ المُرَادَ بِالفُرْقَانِ (التَوْرَاةُ).
وَإنَّ الذِينَ كَفَروا، وَجَحَدُوا بِآيَاتِ اللهِ النَّاطِقَةِ بِتَوْحِيدِهِ، وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا لاَ يَلِيِقُ بِعِزَّةِ جَلاَلِهِ، فَكَذَّبُوا بِالقُرْآنِ، ثُمَّ بِسَائِرِ الكُتُبِ تَبْعاً لِذَلِكَ، وَأنْكَرُوها، لُهُمْ عَذَابٌ شَديدٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَاللهُ مَنيعٌ، عَزِيزُ الجَانِبِ، يَنْتَقِمُ مِمَّنْ جَحَدَ بِآيَاتِهِ، وَكَذَّبَ رَسُلَهُ.
(41) فرعون ومن سار بركابه:
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)} [هود/99:96]
يُخْبِرُ اللهُ عَنْ إِرْسَالِهِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، إِلَى فِرْعَوْنَ مَلِكِ مِصْرَ، وَكِبَارِ رِجَالِ دَوْلَتِهِ (مَلَئِهِ)، مُؤَيَّداً بِآيَاتِ اللهِ البَيِّنَاتِ، الدَّالاَّتِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ تَعَالَى وَعَظَمَتِهِ، وَفِيهَا السُلْطَانُ المُبِينُ، وَالحُجَجُ الوَاضِحَةُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِهِ.
لَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، إِلَى فِرْعَوْنَ وَكِبَارَ رِجَالِ دَوْلَتِهِ (مَلَئِهِ) مِنَ القِبْطِ، فَكَفَرَ فِرْعَوْنَ بِمَا جَاءَهُ بِهِ مُوسَى، وَأَمَرَ قَوْمَهُ بِأَنْ يَتَّبِعُوهُ فِي الكُفْرِ، فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ، وَمَسْلَكَهُ وَطَرِيقَتَهُ فِي الغَيِّ وَالضَّلاَلِ، وَلَمْ يَكُنْ مَسْلَكُ فِرْعَوْنَ مهْدِياً رَشِيداً حَتَّى يُتْبَّعَ.(3/185)
(وَخَصَّ اللهُ تَعَالَى المَلأَ بِالذِّكْرِ، لأَنَّهُمُ الكُبَرَاءُ وَالعَامَّةُ تَبَعٌ لَهُمْ).
وَكَمَا كَانَ فِرْعَوْنُ مَلِكَ قَوْمِهِ وَقَائِدَهُمْ فِي الدُّنْيا، كَذَلِكَ يَتَقَدَّمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ، وَبِئْسَ المَوْرِدُ الذِي يَرِدُونَهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ لإِطْفَاءِ ظَمَئِهِمْ، وَهُوَ المَاءُ الحَمِيمُ.
وَلَحِقَتْ بِهِمْ فِي هذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةٌ مِنَ اللهِ وَالمَلاَئِكَةِ، وَمِمَّنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ مِنَ الأُمَمِ، وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَلْعَنُهُمْ أَهْلُ المَوْقِفِ جَمِيعاً فَتَكُونُ اللعْنَةُ تَابِعَةً لَهُمْ حَيْثُمَا سَارُوا، وَبِئْسَتْ هذِهِ اللَّعَنَاتُ عَطَاءً وَرِفْداً يُعْطَوْنَهُ وَيَتْبَعُهُمْ فِي الدُّنِيا وَالآخِرَةِ. (وَيَتَهَكَّمُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ حِينَما يُسَمِّي هذِهِ اللَّعَنَاتِ رَفْداً وَعَطَاءً).
وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)} [القصص/36 - 42](3/186)
فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى وَهَارُونَ إِلى فِرْعَونَ وَمَلَئِهِ، وَعَرَضَا عَلَيهِمْ ما آتاهُما اللهُ مِنَ المُعْجِزَاتِ البَاهِرَاتِ، والدَّلاَلاَتِ القَاهِرَاتِ على صِدْقِهِما، لَمْ يَجِدْ فِرْعَونُ وَمَنْ مَعَهُ مَت يَدْحَضُونَ بِهِ بَراهينَ اللهِ وَحُجَجَهُ، فَعَدَلُوا إِلى العِنادِ والمُبَاهَتَةِ استِكْبَاراً مِنْهُم عَنِ اتِّبَاعِ الحَقِّ، فَقَالُوا: مَا هذا الذِي جَاءَ بِهِ هذا إٍِلاَّ سِحْرٌ مُفَتَعَلٌ وَمَصْنُوعٌ (مُفْتَرىً)؛ وَقَالُوا إِنهُم لَمْ يَسْمَعُوا فيما تَنَاقَلُوه عَنْ آبائِهِمِ الأَوَّلِينَ أَنَّ أَحَداً عَبَدَ اللهَ وَحْدَهُ، وَلَمْ يُشْرِكْ بهِ شَيئاً.
فَأَجَابَهُمْ مُوسَى عَلَيهِ السَّلامُ بقَولِهِ: إِنَّ رَبي يَعْلَمُ أَنِّي جِئْتُ بِالحَقِّ والهُدَى مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى، فَهُوَ شَاهِدٌ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ العَاقِبةَ الحَميِدَةَ سَتكُونُ لأَولِيَائِهِ وأَنْبِيَائِهِ والمُؤمِنينَ بِهِ، وأَنَّ الذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ لاَ يُفْلِحُونَ أبداً، وَلاَ يُدرِكُونَ طُلْبَتَهُمْ وَبُغْيَتَهُمْ.
كَانَ فِرعَوْنُ يَدَّعِي الأُلُوهِيَّةَ، وَقَدْ حَمَلَ قَومَهُ عَلَى عِبَادَةِ نَفْسِهِ، فَلَمَّا جَاءَهُ مُوسَى وَهَارُونُ يَدْعُوَانِهِ إِلى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالى، وَيُحَذِّرَانِهِ عِقَابَهُ وَعَذَابَهُ إِنِّ استَمَرَّ في كُفْرِهِ وطُغَيانِهِ، َخَذَ في المَكَابَرَةِ والمُعَانَدَةِ، وَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ مِنْ كِبَارِ رِجَالِ دَولتِهِ: إِنَّهُ لاَ يَعرفُ لقومِهِ إِلهاً غيرَهُ هُوَ. وَقَالَ لِمُوسَى فِي آيةٍ أُخْرى: {لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} ثُمَّ أَمرَ وَزيرَهُ هَامَانَ بأنْ يُوقِدَ النَّارَ لِيَشْوِيَ الطِّينَ، وَيَجْعَلَ مِنْهُ آجُرّاً لإِشَادَةِ قَصْرٍ شَامِخٍ لَهُ (صَرْحاً)، يَصْعَدُ إليهِ فِرْعَونُ لِيَرى إِلهَ مُوسَى. ثُمَّ قَالَ إِنَّهُ يَعْتَقِد أَنَّ موسَى مِنَ الكَاذِبينَ فِيما يدِّعِيهِ مِنْ أًَنَّ له إلهاً فِي السَّمَاءِ يَنْصُرُهُ ويُؤَيِّدُهُ، وَهُوَ الذي أَرْسَلَهُ إليهِ. وَكَانَ فِرْعَونُ يَرْمِي مِنْ هذا القَوْلِ إِلى تَخفِيفِ أَثَرِ الآياتِ التي جَاءَ بِها مُوسىَ وَهارُونَ، في نُفُوسِ رَعِيَّتِهِ.(3/187)
وَطَغَى فِرْعَونُ وَمَلَؤُهُ وَجُنُودَهُ في أَرْضِ مِصْرَ، وَتَجَبَّروا، وَأَكْثَروا فِيها الفَسَادَ، واعتَقَدُوا أَنَّهُ لا قِيَامَةَ وَلاَ حَشْرَ وَلاَ مَعَادَ، وَلاَ رَجْعَةَ إِلى اللهِ، وَلا حِسَابَ لَهُمْ عَلى عَمَلِهِم السَّيءِ، واعتِقادِهِم الفَاسِدِ.
فَجَمَعَ اللهُ تَعَالَى فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ، وأَغْرَقَهُمْ في البَحْرِ في صَبيحَةِ وَاحِدَةٍ، وَلَمْ يُبْقِ مِنْهُمْ أًحَداً. فانظُرْ أَيُّها المُعْتَبِرُ بالآيَاتِ كَيفَ كَانَ أَمرُ هؤلاءِ الذينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ، وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَهذِهِ هِيَ عَاقِبَةُ الكُفرِ والبَغْيِ والظُّلْمِ.
وَجَعَلَ اللهُ فِرْعَونَ وَقَوْمَهُ أَئِمَّةً، يَقْتَدِي بِهِمْ أهلُ العُتُوِّ والكُفْرِ والضَّلاَلِ، فَهُمْ يَبْحَثُونَ عَن الشُّرُورِ والمَعَاصِي، التي تُلقِي بِصَاحِبهِا في النَّارِ، وَكَذَلِكَ جَعَلَ اللهُ تَعَالى مَصِيرَ مَنْ يَتْبَعُهُمْ، وَيَقْتَدِي بِهِمْ في الكُفْرِ، وتَكْذِيبِ الرُّسُل مِثْل مَصيرِهِمْ في نَارِ جَهَنَّمَ، وَلا يَجِدُونَ أَحَداً يَنْصُرُهُمْ يومَ القِيَامَةِ مِنْ عَذَابِ اللهِ، فَيَجْتَمِعُ عَلَيِهِمْ خِزْيُ الدُّنيا، مُتَّصِلاً بِذُلِّ الآخِرَةِ.
وأَلْزَمَ اللهُ تَعَالَى فِرْعَونَ وَقَومَهُ في هذِهِ الدُّنيا خِزْياً وَطَرداً مِنْ رَحْمَتِهِ (لَعْنَةً)، ثُمَّ قَضَى عَلَيْهِمْ بِالبَوارِ والهَلاَكِ، وسُوء الأُحْدُوثَةِ، وسَيُتْبِعُهُمْ لَعنَةً أُخْرى يَومَ القِيَامَةِ، وَيُذِلُّهُم ويُخْزِيهِمْ خِزْياً دَائماً مُسْتَمِرّاً لا فكَاكَ لَهُمْ مِنْهُ.
(42) الأشقياء:
قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)} [هود/103 - 107](3/188)
إِنَّ فِيمَا قَصَّهُ اللهُ مِنْ إِهْلاكِ أُولئِكَ الأُمَمِ، وَبَيانِ سُنَّتِهِ فِي عَاقِبَةِ الظَّالِمِينَ، لَحُجَّةً بَيِّنَةً، وَعِبْرَةً ظَاهِرَةً لِمَنْ يَخَافُ عَذَابَ الآخِرَةِ فَيَعْتَبِرُ بِهَا، وَيَتَّقِي الظُّلْمَ فِي الدُّنيا، إِذْ يَعْلَمُ أَنَّ مَنْ عَذَّبَ الظَّالِمِينَ فِي الدُّنيا، لَقَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعَذِّبَهُمْ فِي الآخِرَةِ.
وَيَوْمُ القِيَامَةِ هُوَ يَوْمٌ عظِيمٌ تَجْتَمِعُ فِيهِ الخَلائِقُ كُلُّها لِلْحِسَابِ، وَتَشْهَدُهُ المَلاَئِكَةُ الكِرَامُ، وَتَجْتَمِعُ فِيهِ الرُّسُلُ، وَتُحْشَرُ الخَلاَئِقُ، وَيَحْكُمُ فِيهِ المَلِكُ العَادِلُ، الذِي لاَ يَظْلِمُ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ.
وَمَا يُؤَخِّرُ اللهُ تَعَالَى إِقَامَةِ ذَلِكَ اليَوْمِ (يَوْمِ القِيَامَةِ) إِلاَّ لِمُدَّةٍ مُؤَقَّتَةٍ مَعْلُومَةٍ فِي عِلْمِ اللهِ، لاَ يُزادُ عَلَيْهَا وَلاَ يُنْقَصُ مِنْهَا.
وَحِينَ يَأْتِي يَوْمُ القِيَامَةِ بِأَهْوالِهِ، لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَتَكَلَّمَ إِلاَّ بِإذْنِ اللهِ، فَمِنْ أَهْلِ الجَمْعِ شَقِيٌّ بِمَا يَنْتَظِرُهُ مِنَ العَذَابِ، وَمِنْهُمْ سَعِيدٌ بِمَا يَنْتَظِرُهُ مِنَ النَّعِيمِ الذِي أَعَدَّهُ اللهُ لِلْمُتَّقِينَ.
أَمَّا الأَشْقِيَاءُ، الذِينَ شَقُوا بِمَا يَنْتَظِرُهُمْ مِنَ العَذَابِ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمِ السَّيِّئَةِ فِي الدُّنْيا، فَيَصِيرُونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ، وَتَضِيقُ صُدُورُهُمْ بِثِقْلِ العَذَابِ، فَيُصْبِحُ تَنَفُّسُهُمْ زَفِيراً، وَأَخْذُهُمُ النَّفَسَ شَهِيقاً.
وَيَبْقُونَ فِي النَّارِ خَالِدِينَ، مَا دَامَتْ هُنَاكَ سَمَاوَاتٌ تُظِلُّ المَخْلُوقَاتِ، وَأَرْضٌ يَقِفُونَ عَلَيها، إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ، إِذْ يُخْرِجُ اللهُ مِنَ النَّارِ بِرَحْمَتِهِ العُصَاةَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، ثُمَّ يَمْتَنُّ عَلَى الآخَرِينَ فَيُخْرِجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِقْدَارُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَهُوَ القَادِرُ والفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ.
(43) قساة القلوب:(3/189)
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)} [الأنعام /45:43]
يَقُولُ تَعَالَى: إنَّهُ أَرْسَلَ إلى الأُمَمِ السَّالِفَةِ رُسُلاً يَدْعُونَهُمْ إلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، فَكَذَّبُوا الرُّسُلَ، وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، فَابْتَلاَهُمُ اللهُ بِالفَقْرِ، وَالضِّيقٍ، فِي العَيْشِ (فَأَخَذْنَاهُمْ بِالبَأْسَاءِ)، وَسَلَّطَ عَلَيْهِم الأَمْرَاضَ وَالأَسْقَامَ وَالآلاَمَ (وَالضَّرَّاءِ)، لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ إلى اللهِ، وَيَخْشَعُونَ إلَيْهِ، وَيَدْعُونَهُ لِيَكْشِفَ عَنْهُمْ مَا نَزَلَ بِهِمْ، فَقَدْ أَوْدَعَ اللهُ تَعَالَى فِي فِطْرَةِ البَشَرِ أَنْ يَضْرَعُوا إلى اللهِ وَحْدَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ.
فَهَلاّ، إِذ ابْتَلاَهُمُ اللهُ بِذَلِكَ البَلاءِ، تَضَرَّعُوا إلَيْهِ وَتَوَسَّلُوا، حِينَ جَاءَتْهُم مُقَدِّمَاتُ العَذَابِ، لِيَكْشِفَهُ عَنْهُمْ، وَلَكِنَّ قُلُوبَهُمْ قَسَتْ فَلَمْ تَرِقَّ وَلَمْ تَخْشَعْ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ الشِّرْكِ وَالمَعَاصِي وَالمُعاَنَدَةِ، وَحَسَّنَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَثْبُتُوا عَلَى مَا وَجَدُوا آبَاءَهُمْ عَلَيْهِ.(3/190)
فَلَمَّا أَعْرَضُوا عَمَّا أَنْذَرَهُمْ بِهِ رُسُلُهُمْ، وَتَرَكُوا الاهْتِدَاءَ بِهِ، وَتَنَاسُوْهُ وَجَعَلُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، اسْتَدْرَجَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِأَنْ فَتَحَ عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ الرِّزْقِ، وَأَعْطَاهُمْ مِنْ كُلِّ مَا يُحِبُّونَ وَيَخْتَارُونَ، وَزَادَهُمْ سِعَةً فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ، فَلَمْ تُرَبِّهِم النِّعْمَةُ، وَلا شَكَرُوا اللهَ عَلَى نِعَمِهِ وَآلاَئِهِ، بَلْ دَفَعَتْهُمْ تِلْكَ النِّعْمَةُ إلى البَطَرِ وَالأَشَرِ، فَفَرِحُوا بِذَلِكَ وَسُرُّوا، إذْ ظَنُّوا أنَّ الذِي أُوتُوا إِنَّمَا هُوَ بِاسْتِحْقَاقِهِمْ، وَحِينَئِذٍ أَخَذَهُمُ اللهُ بِالعَذَابِ بَغْتَةً، وَعَلَى حِينِ غِرَّةٍ مِنْهُمْ، فَإذَا هُمْ يَائِسُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ.
(وَقَالَ قُتَادَةُ: مَا أَخَذَ اللهُ قَوْماً قَطُّ إلاَّ عِنْدَ سَكْرَتِهِمْ، وَغِرَّتِهِمْ، وَنِعْمَتِهِمْ فَلا تَغْتَرُّوا).
فَدَمَّرَ اللهُ تَعَالَى القَوْمَ الكَافِرِينَ جَمِيعاً، أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ، وَلَمْ يُبْقِ مِنْهُمْ أَحَداً. وَإِذَا قَطَعَ اللهُ دَابِرَ القَوْمِ (آخِرَهُمْ) فَقَدْ قَطَعَ أَوَّلَهُمْ، وَالحَمْدُ للهِ فِي الأُولى وَالآخِرَةِ عَلَى مَا أَنْعَمَهُ عَلى رُسُلِهِ، وَأَهْلِ طَاعَتِهِ، بِإِظْهَارِ حُجَجِهِمْ عَلى مَنْ خَالَفَهُمْ مِنْ أَهْلِ الكُفْرِ
(44) منكرو البعث:
قال تعالى: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)} [الأنعام/31:29]
وَلَوْ رُّدوا إلَى الدُّنْيا، لَعَادُوا إِلَى قَوْلِ مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ مِنْ قَبْلُ، فِي الدُّنْيا: إِنْ هِيَ إلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيا، وَلاَ مَعَادَ بَعْدَهَا وَلاَ رَجْعَةَ إلَى اللهِ، وَلا حَشْرَ بَعْدُ، وَلاَ حِسَابَ.(3/191)
وَلَوْ تَرَى هؤُلاءِ المُكَذِّبِينَ، حِينَ تَقِفُهُمُ المَلائِكَةُ فِي مَوْقِفِ الحِسَابِ، بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تَعَالَى، لَهَالَكَ أَمْرُهُمْ، وَلاَسْتَبْشَعْتَ مَنْظَرَهُمْ وَلَرَأَيْتَ مَا لاَ يُحِيطُ بِهِ وَصْفٌ فَيَسْأَلُهُمُ اللهُ تَعَالَى قَائِلاً: أَلَيْسَ هُوَ بِبَاطِلٍ كَمَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ؟ فَيَرُدُّونَ مُقْسِمِينَ بِأَنَّهُ حَقٌّ لاَ شَكَّ فِيهِ. فَيَقُولُ تَعَالَى لَهُمْ: مَا دَامَ الأَمْرُ كَمَا اعْتَرَفْتُمْ فَذُوقُوا العَذَابَ الأَلِيمَ، الذِي كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ جَزَاءً لِلْكَافِرِينَ المُكَذِّبِينَ رُسُلَ رَبِّهِمْ. لَقَدْ خَسِرَ هَؤُلاَءِ الكُفَّارُ، الذِينَ كَذَّبُوا بِالحَشْرِ، وَلِقَاءِ اللهِ فِي الآخِرَةِ لِلْحِسَابِ، كُلَّ مَا رَبِحَهُ المُؤْمِنُونَ، وَفَازُوا بِهِ مِنْ ثَمَرَاتِ الإِيمَانِ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، وَيَسْتَمِرُّ هَؤُلاَءِ المُكَذِّبُونَ فِي ضَلاَلِهِمْ، وَكُفْرِهِمْ، وَبَاطِلِهِمْ حَتَّى تَأْتِيهِمُ السَّاعَةُ فَجْأَةً دُونَ سَابِقِ إِنْذَارٍ، فَحِينَئِذٍ يُدْرِكُونَ أنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ. وَيَقُولُونَ: يَا حَسْرَتِنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِي حَيَاتِنَا الدُّنْيا فَكَذَبْنَا وَاسْتَكْبَرْنَا، وَاسْتَسْلَمْنَا لِلْشَهَوَاتِ، وَنَحْنُ نَظُنُّ أنَّهُ لاَ حَيَاةَ أُخْرَى، وَلاَ بَعْثَ وَلاَ حِسَابَ وَيَأْتُونَ اللهَ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ العَصِيبِ وَهُمْ يَحْمِلُونَ ذُنُوبَهُمْ وَخَطَايَاهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ وَكَأنَّهَا الأَحْمَالُ الثَّقِيلَةُ (أَوْزَارَهُمْ)، وَمَا أَسْوَأَ مَا يَحْمِلُونَ.
(45) من وصف الله تعالى بوصف معيب:(3/192)
قال تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)} [آل عمران/184:180]
وَلاَ يَظُنَّنَّ أحَدٌ أنَّ الذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَنِعَمِهِ، (كَمَنْعِ الزَّكَاةِ، وَعَدَمِ البَذْلِ حِينَمَا تَتَعرَّضُ الأُمَّةُ لِلَمَكَارِهِ. .) هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ مَضَرَّةٌ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ وُدُنْيَاهِمْ، لأنَّ العَبْدَ مُطَالَبٌ بِشُكْرِ اللهِ عَلَى نِعَمِهِ، وَالبُخْلُ كُفْرَانلإ لاَ يَنْبَغِي أنْ يَصْدُرَ عَنْ عَاقِلٍ. وَحِينَمَا يَتَهَدَّدُ الخَطَرُ الأمَّةُ، وَيَقْتَضِي الأمْرُ مِنَ المُؤْمِنِينَ البَذْلَ، فَعَلَيهِمْ أنْ لاَ يَبْخَلُوا لأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ النَّفْسِ وَالمَالِ؛ وَالبُخْلِ وَالامْتِنَاعِ عَنِ البَذْلِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الظُرُوفِ شَرٌّ لَهُمْ فِي دُنيَاهُمْ أمَّا فِي دِينِهِمْ فَإنَّ اللهَ يَتَهَدَّدُهُمْ بِأنَّهُمْ سُيُطَوَّقُونَ بِالمَالِ الذِي بَخِلُوا بِهِ، وَيَلْزَمُهُمُ الإِثْمُ وَالذَنْبُ، وَلاَ يَجِدُونَ إلَى دَفْعِهِ سَبِيلاً.(3/193)
وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الذِي يَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، وَالمَالَ كُلُّهُ صَائِرٌ إلَيهِ، فَمَا لِهَؤلاءِ يَبْخَلُونَ عَلَيهِ بِمَالِهِ، وَلاَ يُنْفِقُونَ فِي سَبِيلِهِ، وَهُوَ لاَ تَخْفَى عَلِيهِ خَافِيَةٌ مِنْ أَعْمَالِ العِبَادِ؟
سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا - سَيُلْزَمُونَ إثْمَهُ فِي الآخِرَةِ كَمَا يَلزَمُ الطَّوقٌ الرَّقَبَةُ.
لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى قَوْلَهُ: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} قَالَتْ اليَهُودُ: يَا مُحَمَّدُ أفْتَقَرَ رَبُّكَ فَيَسْأَلُ عِبَادَهُ القَرْضَ؟ وَرُوِيَ أنَّ أبَا بَكْرٍ لَقِيَ رَجُلاً مِنَ اليَهُودِ فَدَعَاهُ إلى الإِسْلاَمِ، فَقَالَ لَهُ اليَهُودِيُّ: يَا أَبَا بَكْرٍ مَا بِنَا إلَى اللهِ مِنْ حَاجَةٍ مِنْ فَقْرٍ، وَإِنَّهُ إِلَينَا لَفَقِيرٌ، مَا نَتَضرَّعُ إلَيهِ كَمَا يَتَضرَّعُ إلينَا، وَإنا عَنْهُ أَغْنِياءُ، وَلَوْ كَانَ عَنَّا غَنِيّاً مَا اسْتَقْرَضَ مِنَّا كَمَا يَزْعُمُ صَاحِبُكُمْ. . فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةِ.
وَيَتَوَعَّدُ اللهُ تَعَالَى اليَهُودَ بِأنَّهُ سَمِعَ مَا قَالُوا، وَسَيَكْتُبُهُ وَيُسَجِّلُهُ عَلَيْهِمْ، وَسَيُحَاسِبُهُمْ عَلَيهِ، كَمَا سَيُحَاسِبُهُمِ عَلَى رِضَاهُمْ بِمَا قَامَ بِهِ أَسْلافُهُمْ مِنْ قَتْلِهِم الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَسَيَجْزِيهِم اللهُ عَلَيهِ شَرَّ الجَزَاءِ. وَيَقُولُ لَهُمْ تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ: ذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ.
وَهَذا العَذَابُ المُحْرِقُ الذِي تَذُوقُونَهُ، إِنَّمَا وَقَعَ بِكُمْ بِسَبَبِ مَا قَدَّمَتْهُ أيْدِيكُمْ مِنْ عَمَلٍ سَيِّئٍ، وَكُفْرٍ وَظُلْمٍ، وَقَتْلٍ لِلأَنْبِيَاءِ، وَقَوْلِ: إنَّ اللهَ فَقِيرٌ. وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ بِكُمْ هَذَا العِقَابَ بِالحَقِّ، وَالعَدْلِ، وَهُوَ لاَ يَظْلِمُ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ.(3/194)
لَمَّا دَعَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليَهُودَ إلى الإِسْلاَمِ، رَدَّ عَليهِ بَعْضُ رُؤَسَائِهِمْ (مِثْلُ كَعَبِ بْنِ الأشرَفِ، وَمَالِكِ بْنِ الصَّيفِ، وَفَنْحَاسِ بْنِ عَازُورَاءَ) قَائِلِينَ: إنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْهِمْ فِي كُتُبِهِمْ أنْ لاَ يُؤْمِنُوا لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَ بِمُعْجِزَةٍ، مِنْهَا أنْ يَكُونَ إذا قَرَّبَ قُرْبَاناً إلى اللهِ، (أيْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ) فَتُقُبِّلَ مِنْهُ، تَنْزِلُ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتَحْرُقُ القُرْبَانَ.
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مُكَذِّباً مَقَالَتَهُمْ، فَقَالَ لِنَبِيِّهِ الكَرِيمِ، قُلْ لَهُمْ: لَقَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ قَبْْلِي بِالحُجَجِ وَالبَرَاهِينِ، وَبِنَارٍ تَأْكُلُ القَرَابِينَ المُتَقَبَّلَةَ (وَهُوَ الذِي قَالُوهُ وَطَلَبُوهُ) فَلِمَاذَا قَتَلْتُمُوهُمْ، وَكَذَّبْتُمُوهُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ؟
وَيُعَزِّي اللهُ رَسُولَهُ قَائِلاً: إنْ كَذَّبَكَ هَؤُلاءِ فَلاَ يَهِمَنَّكَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَلَكَ أسْوَةٌ بِمَنْ جَاءَ قَبْلَكَ مِنَ الرُسُلِ، الذِينَ جَاؤُوا المُكَذِبِينَ مِنْ أَقْوَامِهِمْ بِالبَيِّنَاتِ وَالحِجَجِ وَالبَرَاهِينِ القَاطِعَةِ، وَالكُتُبِ المُنْزَلَةِ مِنَ السَّمَاءِ (الزُّبُرِ) وَالكِتَابِ الوَاضِحِ الجَلِيِّ (الكِتَابِ المُنِيرِ)، َوَأتَوا بِالقُرْآنِ الذِي تَأْكُلُهُ النَّارُ. . فَقُوبِلُوا مِنْهُمْ بِالتَّكْذِيبِ وَالمُعَانَدَةِ، وَقَتَلُوا بَعْضَهُمْ كَزَكَرِيّا وَيَحْيَى، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ قَومٌ غِلاظُ الأَكْبَادِ، قُسَاةُ القُلُوبِ، لاَ يُقِيمُونَ الحَقَّ، وَلا يُذْعِنُونَ لَهُ.
(46) المجرمون:
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)} [الأنعام/124،123](3/195)
وَكَمَا جَعَلْنَا فِي قَرْيَتِكَ أَكَابِرَ مِنَ المُجْرِمِينَ الذِينَ يَدْعُونَ إلَى الكُفْرِ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَيَدْعُونَ إلَى مُخَالَفَتِكَ وَمُعَادَاتِكَ. . كَذَلِكَ كَانَتِ الرُّسُلُ قَبْلَكَ يُبْتَلَوْنَ بِذَلِكَ، ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ العَاقِبَةُ. وَيَقُومُ هَؤُلاَءِ المُجْرِمُونَ بِالدَّعْوَةِ إلَى الضَّلالَةِ بِزُخْرُفٍ مِنَ القَوْلِ وَالفِعْلِ (يَمْكُرُونَ).
وَفِي الحَقِيقَةِ إِنَّهُمْ لاَ يَمْكُرُونَ إلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ، لأنَّ مَكْرَهُمْ يَعُودُ وَبَالاً عَلَيْهِمْ، لأَنَّ اللهَ يُهْلِكُهُمْ بِالعَذَابِ، وَيُبْطِلُ مَكْرَهُمْ، وَيَنْصُرُ رُسُلَهُ، وَلَكِنَّهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ بِأَنَّهُمْ يَمْكُرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ.
وَإِذَا جَاءَ أُولئِكَ المُشْرِكِينَ آيةٌ مِنَ القُرْآنِ تَتَضَمَّنُ صِدْقَ الرَّسُولِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ رَبِّهِ، مِنَ التَّوْحِيدِ وَالهُدَى، قَالُوا: لَنْ نَذْعَنَ لِلْحَقِّ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْنَا الوَحْيُ، كَمَا يَنْزِلُ عَلَى الرُّسُلِ.
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَؤُلاَءِ قَائِلاً: الرِّسَالَةُ فَضْلٌ مِنَ اللهِ يَمُنُّ بِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ، لاَ يَنَالُهُ أَحَدٌ بِكَسْبٍ، وَلاَ يُعْطِيهِ اللهُ إِلاَّ مَنْ كَانَ أَهْلاً لَهُ. ثُمَّ يَتَوَعَّدُ اللهُ المُجْرِمِينَ المُتَكَبِّرِينَ عَنِ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ، وَالانْقِيَادِ لَهُمْ فِيمَا جَاؤُوا بِهِ، بِأَنَّهُمْ سَيُصِيبُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ صَغَارٌ وَذِلَّهٌ دَائِمَيْنِ بَيْنَ يَدَي اللهِ، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى اسْتِكْبَارِهِمْ فِي الدُّنْيا، وَسَيَنَالُهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ فِي الآخِرَةِ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى مَكْرِهِمْ وَخَدِيعَتِهِمْ.
وقال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78)} [الزخرف/78:74](3/196)
بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى حَالَ المُؤْمِنِينَ السُّعَدَاءِ فِي الجَنَّةِ، وَمَا لَهُمْ فِيهَا مِنْ طَعَامٍ وَشَرَاب وَفَاكَهَةٍ، وَنَعِيمٍ لاَ يَبْلَى، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ حَالِ الكَفَرَةِ المُجْرِمِينَ الظَّالِمِينَ، فَقَالَ إِنَّ الكَفَرَةَ يَكُونُ مَصِيرُهُمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَيَبقَوْنَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً.
لاَ يُخَفَّفُ العَذَابُ عَنْهُمْ لَحْظَةً، وَهُمْ سَاكِتُونَ يَائِسُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ وَفَرَجٍ.
وَمَا ظَلَمَ اللهُ تَعَالَى هَؤُلاَءِ المُجْرِمِينَ بِمَا أَنْزَلَهُ بِهِمْ مِنْ عِقَابٍ وَعَذَابٍ أَلِيمٍ، وَلَكِنَّهُمْ هُمُ الذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمْ وَإِجْرَامِهِمْ وَهُمُ الذِينَ أَسَاؤُوا إِلَيْهَا، فَأَوْصَلَهُمْ ذَلِكَ إِلَى هَذَا المَصِيرِ السَّيءِ.
وَحِينَمَا يَشْتَدُّ العَذَابُ بِالمُجْرِمِينَ الظَّالِمِينَ يَضجُّونَ فِي النَّارِ، وَيُنَادُونَ: يَا مَالِكُ (وَهُوَ خَازِنُ النَّارِ) ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَقْبِضْ أَرْوَاحَنَا لِيُرِيحَنا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِنَ العَذَابِ الأَلِيمِ. فَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ مَالِكٌ قَائِلاً لَهُمْ: إِنَّهُمْ مَاكِثُونَ فِي النَّارِ أَبَداً، وَلاَ مَجَالَ وَلاَ سَبِيلَ إِلَى خُرُوجِهِمْ مِنْهَا.
وَيُذَكِّرُهُمْ اللهُ تَعَالَى - أَوْ يُذَكِّرُهُمْ مَالِكٌ بِأَمْرِ رَبِّهِ الكَرِيمِ - بِسَبَبِ شَقَائِهِمْ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى كَانَ أَرْسَلَ إِلَيهِم الرُّسُلَ يَدْعُونَهُمْ إِلَى الحَقِّ والهُدَى فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَأَبَوْا وَاسْتَكَبَرُوْا فَأَوْصَلَهُمْ ذَلِكَ كُلُّهُ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ.
(47) إيذاء المؤمنين بغير حق:
قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحج:72](3/197)
وَإِذَا قُرِئَتْ عَلَى هَؤُلاَءِ المًُشْرِكِينَ، العَابِدِينَ غَيْرَ اللهِ، آيَاتُ القرآنِ البَيِّنَاتُ، وَذُكِّرُوا بِمَا فِيهَا مِنْ حُجَج وَبَرَاهِينَ، وَدَلاَئلِ عَلَى وُجُودِ اللهِ وَوَحْدَانِيتِهِ، وَعَظَمَتِهِ، تَتَبَدَّلُ مَلاَمِحُ وُجُوهِهِمْ، وَتَثُورُ نُفُوسُهم وَيَهُمُّونَ بِالبَطْشِ بالذين يَقْرَؤُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللهِ، وَيَذُكِّرونَهُمْ بِهَا، وَيَكَادُونَ يُبَادِرُونَهم بالضَّرْبِ والشَّتْمِ (يَسْطُونَ بِهِمْ).
فَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ: إِنَّ النَّارَ التِي أَعَدَّها اللهُ للكَافِرِينَ لِيُذِّبَهُمْ فِيهَا هِيَ أَشَدَّ وَأَقْسَى وَأَعْظَمُ مِمَّا تُخَوِّفُونَ بِهِ أولِياءَ اللهِ المُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا؛ وَبِئْسَ النَّارُ مَنْزِلاً وَمُقَاماً وَمَصِيراً، يَوْمَ القِيَامَةِ، للذين كَفَرُوا.
إنهم لا يناهضون الحجة بالحجة، ولا يقرعون الدليل بالدليل إنما هم يلجأون إلى العنف والبطش عندما تعوزهم الحجة ويخذلهم الدليل. وذلك شأن الطغاة دائماَ يشتجر في نفوسهم العتو، وتهيج فيهم روح البطش، ولا يستمعون إلى كلمة الحق لأنهم يدركون أن ليس لهم ما يدفعون به هذه الكلمة إلا العنف الغليظ!
(48) الفاسقون:
قال تعالى: {أفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)} [السجدة/18 - 20]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالى أَنَّهُ لاَ يَسْتَوِي فِي حُكْمِهِ يومَ القِيَامَةِ مَنْ كَانَ مُؤْمِناً باللهِ مُتَّبِعاً رَسُولَهُ، مَعَ مَنْ كَانَ خَارِجاً عَنْ طَاعَةِ اللهِ (فَاسِقاً)، مُكَذِّباً رُسُلَهُ.(3/198)
أَمَّا الذِينَ آمَنُوا باللهِ وَرُسُلِهِ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ، وَعَمِلُوا بِمَا أَمَرَ اللهُ، وَانْتَهَوْا عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ. . فَهؤلاءِ لَهُمْ الجَنَّاتُ التِي فِيها المَسَاكِنُ، والدُّورُ، وَالغُرَفُ العَالِيَاتُ (جَنَّاتُ المَأْوَى) يَحُلُّونَ فِيها نُزَلاَءَ فِي ضِيَافَةٍ وَكَرَامَةٍ، جَزَاءً لَهُمْ مِنَ اللهِ تَعَالى عَلَى إِيمَانِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ، وَصَالِحِ أَعْمَالِهِمْ.
وَأَمَّا الذِينَ خَرَجُوا عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِمْ (فَسَقُوا) وَكَفَرُوا بِهِ وَبِرُسُلِهِ، واجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ. . فَإِنَّ مَأْوَاهُمْ سَيَكُونُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَكُلَّما حَاوَلوا الخُرُوجَ مِنَ النَّارِ يُرَدُّونَ إليها، وَيُقَالُ لَهُمْ تَوْبِيخاً وَتَقْرِيعاً: ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ، بِمَ كُنْتُم تُكَذِّبُونَ بِهِ فِي الحَيَاةِ الدُّنيا، وَلا تَعْتَقِدُونَ أَنَّكُمْ صَائِرُونَ إِليهِ
(49) المسرفون:
قال تعالى: {لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:43]
لاَ شَكَّ فِي أَنَّ مَا تَدْعَوَننِي أَنْتُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ مِنَ الأَصْنَامِ والأَوْثَانِ لاَ يُجِيبُ دَعْوَةَ مَنْ يَدْعُوهُ، فَهُوَ لاَ يَضُرُّ وَلاَ يَنْفَعُ، لاَ فِي الدُّنْيَا وَلاَ فِي الآخِرَةِ. وإِنَّ مَرَدَّنا جَميعاً في الآخِرَةِ سَيَكُونُ إِلى اللهِ تَعَالَى الوَاحِدِ الأَحَدِ، وَإِنَّ المُسْرِفِينَ المُتَجَاوزِينَ الحَدَّ بِالكُفْرِ والشِّرْكِ سَيَكُونُونَ هُمُ الذِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ وَيُعَذَّبُونَ فِيهَا.
(50) أعداء الله:(3/199)
قال تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) [فصلت/19: 29]}(3/200)
وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ المُكَذِّبِينَ حَالَ الكُفَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ وَيَرْتَدِعُونَ عَنْ غِوَايَاتِهِمْ، فَفِي ذَلِكَ اليَومِ يُسَاقُ الكَفَرَةُ أَعْدَاءُ اللهِ إِلَى النَّارِ، فَتَحْبِسُ الزَّبَانِيَةُ أَوَلَّهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ (أَيْ تَقِفُهُمُ المَلاَئِكَةُ حَتَّى يَتَلاَحَقُوا، وَيَتَكَامَلَ جَمْعُهُمْ).حَتَّى إِذَا وَصَلُوا إِلَى النَّارِ وَوَقَفُوا عَلَيْهَا، شَهِدَتْ عَلَيْهِمْ جَوَارِحُهُمْ (سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ) بِمَا كَانُوا يَجْتَرِحُونَ فِي الدُّنْيَا مِنَ المَعَاصِي، وَبِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنْ أَعْمَالٍ، لاَ يَكْتُمُونَ مِنْهَا شَيْئاً.
فَيَقُولُ المُجْرِمُونَ لِجُلُودِهِمْ، وَهُمْ يَلُومُوَنَها عَلَى شَهَادَتِهَا عَلَيْهِمْ: لِمَاذَا شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا؟ فَتَرُدُّ الجُلُودُ قَائِلَةً: إِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الذِي أَنْطَقَهَا، وَهُوَ تَعَالَى الذِي خَلَقَهَا وَخَلَقَهُمْ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُونَ، فَهُوَ تَعَالَى لاَ يُخَالَفُ وَلاَ يُمَانَعُ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: ضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ تَبَسَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلا تَسْأَلُونِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتُ؟ فَقَالَ: عَجِبْتُ مِنْ مُجَادَلَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ: يَا رَبِّ، أَلَيْسَ وَعَدْتَنِي أَنْ لاَ تَظْلِمَنِي؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَإِنِّي لاَ أَقْبَلُ عَلَيَّ شَهَادَةَ شَاهِدٍ إِلاَّ مِنْ نَفْسِي، فَيَقُولُ: أَوْ لَيْسَ كَفَى بِي شَهِيدًا، وَبِالْمَلائِكَةِ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ؟ قَالَ: فَيُرَدِّدُ هَذَا الْكَلامَ مَرَّاتٍ، فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، وَتَكَلَّمُ أَرْكَانُهُ بِمَا كَانَ يَعْمَلُ، فَيَقُولُ: بُعْدًا لَكُمْ وَسُحْقًا، عَنْكُمْ كُنْتُ أُجَادِلُ" (1).
__________
(1) - المستدرك للحاكم (8778) حسن(3/201)
وَتَقُولُ لَهُمْ جَوَارِحُهُمْ وَجُلُودُهُمْ: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَخْفُونَ مِنَّا حِينَمَا كُنْتُمْ تَرْتَكِبُونَ الفَوَاحِشَ حَذَراً مِنْ أَنْ نَشْهَدَ عَلَيْكُمْ، بَلْ كُنْتُمْ تُجَاهِرُونَ اللهَ تَعَالَى بِالكُفْرِ والمَعَاصِي، لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ لاَ تَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ يَعْلَمُ جَمِيعَ أَفْعَالِكُمْ. وَهَذَا الظَّنُّ الفَاسِدُ بِأَنَّ اللهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ هُوَ الذِي أَرْدَاكُمْ وَأَوْصَلَكُمْ إِلَى الهَلَكَةِ، فَصِرْتُمْ اليَومَ مِنَ الهَالِكِينَ الخَاسِرِينَ.
وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَصَبَرُوا أَمْ لَمْ يَصْبِرُوا فَإِنَّهُمْ فِي النَّارِ لاَ مَحيدَ لَهُمْ عَنْهَا، وَلاَ خُرُوجَ لَهُمْ مِنْهَا، وَإِنْ طَلَبُوا أَنْ يَسْتَعِتبُوا وَيُبْدُوا مَعَاذِيرَهُمْ فَلَنْ يُقْبَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَلاَ تُقَالُ عَثَرَاتُهُمْ.
وَيَسَّرَ اللهُ تَعَالَى لِهَؤُلاَءِ الكَافِرِينَ أَخْدَاناً وَأَقْرَاناً مِنْ شَيَاطِينِ الجِنِّ وَالإِنْسِ، فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَينَ أَيْدِيهِمْ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا مِنَ الضَّلاَلَةِ وَالكُفْرِ واتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ، وَمَا خَلْفَهُمْ مِنْ أَمْرِ الآخِرَةِ، فَحَسَّنُوا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَلَمْ يَرَوْا أَنْفُسَهُمْ إِلاَ مُحْسِنِينَ، وَأَوْحَوْا إِلَيْهِمْ إِنَّهُ لاَ جَنَّةَ وَلاَ نَارَ وَلاَ حِسَابَ، فَوَجَبَ عَلَيهِمْ مِنَ العَذَابِ مَا وَجَبَ عَلَى الذِينَ كَفَرُوا مِنْ ٌَقَبْلِهِمْ مِمَّنْ فَعَلُوا مِثْلَ أَفْعَالِِهِمْ، فَكَانُوا جَمِيعاً فِي الخَسَارِ والدَّمَارِ، وَاسْتَحَقُّوا اللَّعْنَ والخِزْيَ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ.
وَتَوَاصَى الذِينَ كَفَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ بِأَلاَ يُؤْمِنُوا بِالقُرْآنِ، وَأَلاَ يَنْقَادُوا إِلَيهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِذَا تُلِيَ القُرْآنُ لاَ تُنْصِتُوا لَهُ، وَعَارِضُوهُ بِاللَّغْوِ والبَاطِلِ بِرْفْعِ الصَّوْتِ بِالْشِّعْرِ، أَوِ الكَلاَمِ أَوِ الصَّفِيرِ. . لَعَلَّكُمْ تَكُونُونَ أَنْتُمْ الغَالِبينَ.(3/202)
وَيَتَهَدَّدُ اللهُ تَعَالَى هَؤُلاَءِ الكَافِرِينَ بِأَنَّهُ سَيُذِيقُهُمْ عَذَاباً لاَ تُمْكِنُ الإِحَاطَةُ بِوَصْفِهِ، وَسَيَجْزِيهِمْ بِأَسْوَأِ أَعْمَالِهِمْ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ الصَّالِحَةَ فِي الدُّنْيَا أَحْبَطَهَا الشِّرْكُ وَأَهْلَكَهَا وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ إِلاَّ القَبِيحُ السَّيِّئُ وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُجَازَوْنَ إِلاَّ عَلَى السَّيِّئَاتِ.
وَذَلِكَ الجَزَاءُ الشَّدِيدُ، الذِي أَعَدَّهُ اللهُ لأَعْدَائِهِ، هُوِ النَّارُ يُعَذَّبُونَ فِيهَا، وَيَبْقَوْنَ فِي العَذَابِ خَالِدِينَ أَبَداً، وَهِيَ جَزَاؤُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَجُحُودِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ، وَاسْتِكْبَارِهِمْ عَنْ سَمَاعِهَا.
وَيَسْأَلُ الكَافِرُونَ اللهَ، وَهُمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، أَنْ يُرِيَهُمْ الذِينَ أَضَلُّوهُمْ مِنْ شَيَاطِينِ الأُنْسِ والجِنِ لِيَدُوسُوهُمْ بِأَقْدَامِهِمْ انْتِقَاماً مِنْهُمْ، وَإِهَانَةً لَهُمْ (أَوْ لِيَجعَلُوهُمْ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ العَذَابِ لِيَكُونَ عَذَابُهُمْ أَشَدَّ) ..
(51) الملحدون في آيات الله:
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40]
الذِينَ يُعَانِدُونَ فِي آيَاتِ اللهِ وَحُجَجِهِ، وَيَمِيلُونَ بِهَا عَنِ الحَقِّ جُحُوداً وَتَكْذِيباً، اللهُ عَالِمٌ بِهِمْ، وَهُمْ لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْهِ تَعَالَى، وَهُوَ لَهُمْ بِالْمِرْصَادِ، وَهَلْ يَسْتَوِي مِنْ يُلْقَى فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، بِسَبَبِ كُفْرِهِ وَتَكْذِيبِهِ، مَعَ مَنْ يَأْتِي رَبَّهُ مُؤْمِناً مُطْمَئنّاً لاَ يَخْشَى مِنْ عَمَلِهِ شَيئاً. ثُمَّ يُهَدِّدُ اللهُ تَعَالَى هَؤُلاَءِ الكَفَرَةَ المُعَانِدِينَ فَيَقُولُ لَهُمْ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ أَعْمَالٍ فَإِنَّكُمْ سَتُجْزَوْنَ عَلَيْهَا، وَاللهُ تَعَالَى مُحْصٍ عَلَيْكُمْ أَعْمَالَكُمْ جَمِيعاً، وَهُوَ خَبِيرٌ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، فَاخْتَارُوا لأَنْفُسِكُمْ مَا شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ عَلِمْتُمْ مَصِيرَ كُلٍّ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُكَذِّبِينَ.(3/203)
(52) الخيانة في الدين:
قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم:10]
يَضْرِبُ اللهُ تَعَالَى مَثَلاً لِحَالِ الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ الذِينَ يُخالِطُونَ المُسْلِمِينَ، وَيُعَاشِرُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لاَ يَنْتَفِعُونَ بِمَا يَنْتَفِعُ بِهِ المُؤْمِنُونَ المُخْلِصُونَ مِنَ العِظَاتِ والدَّلاَئِلِ وَالبَرَاهِينِ، بِحَالِ امْرَأَةِ نُوحٍ وَامْرَأَةِ لُوطٍ، فَقَدْ كَانَتْ كُلٌّ مِنْهُمَا زَوْجَةً لِنَبِّيٍّ صَالِحٍ مِنْ أَنْبِياءِ اللهِ، وَلَكِنَّهُمَا لَمْ تَنْفِعَا بِمَا كَانَا يَدْعُوَانِ إِليْهِ مِنَ الخَيْرِ وَالهُدَى وَالإِيْمَانِ بِاللهِ تَعَالَى، وَعَمِلَتَا أَعْمَالاً تَدُلُّ على الخِيَانَةِ وَالكُفْرِ، فَاتَّهَمَتِ امْرَأَةُ نُوحٍ زَوجَهَا بِالجُنُونِ، وَكَانَتْ إمْرَأَةُ لُوطٍ تُرْشِدُ قَوْمَهَا إِلَى ضُيُوفِ زَوْجِهَا لِيَفْعَلُوا مَعَهُمْ الخَبَائِثَ، فَأَهْلَكَهُمَا اللهُ مَعَ قَوْمِهِمَا، وَسَيَكُونُ مَصِيرُهُمَا النَّارَ فِي الآخِرَةِ، وَلَنْ يَنْفَعَهُمَا قُرْبُهُمَا مِنْ نَبِيَّينِ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ، وَلاَ انْتِسَابُهُمَا إِليهِمَا، وَيُقَالُ لَهُمَا: ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ إِليهَا.
(53) من تأخذه العزة بالإثم:
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) [البقرة/204 - 206]}(3/204)
هُنَاكَ أُنَاسٌ مُنَافِقُونَ تُعْجِبُ المَرْءَ حَلاَوةُ أَلْسِنَتِهِمْ، وَيَتَظَاهَرُونَ بِالوَرَعِ وَطِيبِ السَّرِيرَةِ، وَيُشْهِدُونَ اللهَ عَلَى صِدْقِ طَوِيَّتِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ، وَقُلُوبُهُمْ فِي الحَقِيقَةِ هِيَ أَمَرُّ مِنَ الصَّبْرِ، فَهُمْ يَقُولُونَ حَسَناً، وَيَفْعَلُونَ سَيِّئاً، وَهُمْ شَدِيدُو الجَدَلِ، لا يُعْجِزُهُمْ أَنْ يَغُشُّوا النَّاسَ بِمَا يَظْهَرُ عَلَيهِمْ مِنَ المَيْلِ إِلى الإِصْلاَحِ.
فَإِذَا انْصَرَفَ الوَاحِدُ مِنْ هؤُلاءِ إِلى العَمَلِ، أَوْ إِذا تَوَلَّى وَلاَيَةً يَكُونُ لَهُ فِيهَا سُلْطَانٌ، اتَّجَهَ إَلَى الشَّرِّ وَالفَسَادِ فِي قَسْوَةٍ وَجَفْوَةٍ، تَتَمَثَّلُ فِي إِهْلاَكِ النَّبَاتِ وَالحَرْثِ، وَإِتْلافِ النَّسْلِ الذِي يُمَثِّلُ امْتِدَادَ الحَيَاةِ، وَاللهُ تَعَالَى يَكْرَهُ الفَسَادَ وَالمُفْسِدِينَ.
فَإِذَا أَخْرَجَ هذَا المُنَافِقُ حِقْدَهُ عَنْ طَرِيقِ التَخْرِيبِ وَالفَسَادِ، وَقِيلَ لَهُ: لاَ تَفْعَلْ ذلِكَ وَاتَّقِ اللهَ، وَاسْتَحِ مِنْهُ، اسْتَعَزَّ بِالإِثْمِ وَالخَطِيئَةِ، وَرَفَعَ رَأْسَهُ فِي وَجْهِ الحَقِّ. فَإِنْ يَفْعَلْ هذا المُنَافِقُ ذلِكَ فَجَهَنَّمُ حَسْبُهُ، وَفِيهَا الكِفَايَةُ لَهُ، وَهِيَ بِئْسَ المَقَرُّ وَالمِهَادُ لَهُ، وَهِي الجَزَاءُ الأَوْفَى عَلَى أَفْعَالِهِ وَآثَامِهِ.
(54) عدم اتباع منهج الله:
قال تعالى: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 162]
لاَ يَسْتَوي مَنِ اتَّبَعَ أمْرَ اللهِ فِيمَا شَرَعَهُ، وَتَرَكَ الغُلُولَ وَغَيْرَهُ مِنَ الفَوَاحِشِ وَالمُنْكَرَاتِ، حَتَّى زَكَتُ نَفْسُهُ، فَاسْتَحَقَّ رِضْوَانَ اللهِ، وَجَزيلَ ثَوَابِهِ، مَعَ مَنِ اسْتَحَقَّ غَضَبَ اللهِ بِفِعْلِ الخَطَايا، وَارْتِكَابِ الذُّنُوبِ: مِنْ سَرِقَةٍ، وَخِيَانَةِ أَمَانَةٍ، وَغُلُولِ، وَقَتْلٍ، وَسَلْبٍ. فَكَانَ جَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً.
(55) من صد عن دين الله:(3/205)
قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) [النساء/53 - 55]}
يُنْكِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَؤُلاءِ اليَهُودِ أنْ يَكُونَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ المُلْكِ وَالتَّصَرُّفِ، بَعْدَ أنْ فَقَدُوهُ بِكُفْرِهِمْ، وَظُلْمِهِمْ، وَطُغْيَانِهِمْ، وَإيمَانِهِمْ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، ثُمَّ يَصِفُهُمُ اللهُ تَعَالَى بِالبُخْلِ وَالأثَرَةِ، وَيَقُولُ: لَوْ أَنَّهُمْ كَانَ لَهُمُ المُلْكُ، وَحَقُّ التَّصَرُّفِ، لَمَا أَعْطَوا النَّاسَ شَيئاً، خَوْفاً مِنْ أنْ يَنْفَدَ مَا لَدَيْهِمْ، وَلَحَصَرُوا مَنَافِعَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ.
إنَّ هَؤُلاَءِ يُرِيدُونَ أنْ يَضِيقَ فَضْلُ اللهِ بِعِبَادِهِ، وَلاَ يُحِبُّونَ أَنْ يَكُونَ لأمَّةٍ فَضْلٌ أَكْثَرُ مِمَّا لَهُمْ أَوْ مِثْلُهُمْ، لِمَا اسْتَحْوذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الغُرُورِ بِنَسَبِهِمْ، وَتَقَالِيدِهِمْ، مَعَ سُوءِ حَالِهِمْ. وَإنَّ حَسَدَهُمْ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عَلَى مَا رَزَقَهُ اللهُ مِنَ النُّبُوَّةِ العَظِيمَةِ، هُوَ الذِي مَنَعَهُمْ مِنَ التَّصْدِيقِ وَالإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، لأَنَّهُ مِنَ العَرَبِ، وَلَيْسَ مِنْ بَني إِسْرَائِيلَ. وَإنْ يَحْسُدُوا مُحَمَّداً عَلَى مَا أوتِيَ، فَقَدْ أخْطَؤُوا إذْ أنَّ مَا أتَى اللهُ مُحَمَّداً لَيْس بِدْعاً مِنَ اللهِ، فَقَدْ آتَى اللهُ هَذا آلَ إِبْرَاهِيمَ، وَالعَرَبُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ، فَلِمَاذَا يَعْجَبُونَ مِمَّا آتَى اللهُ مُحَمَّداً، وَلَمْ يَعْجَبُوا مِمَّا آتَى آلَ إِبْرَاهِيمَ؟
وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ آمَنَ فَرِيقٌ، مِنْ أَقْوَامِ هَؤُلاءِ الأَنْبِيَاءِ، بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ، وَكَفَرَ فَرِيقٌ وَسَعَى فِي الأَرْضِ يُفْسِدَ فِيهَا، وَيَصُدُّ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَعَنِ اتِّبَاعِ الحَقِّ، وَكَفَى بِالنَّارِ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَمُخَالَفَتِهِمْ كُتُبَ اللهِ وَرُسُلَهُ.
(56) قتل النفس عدوانا وظلماً:(3/206)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)} [النساء/30،29]
يَنْهَى اللهُ تَعَالَى النَّاسَ عَنْ أنْ يَأكُلَ بَعْضَهُمْ مَالَ بَعْضٍ بِالبَاطِلِ، أيْ أنْ يَأخُذَهُ بِطَرِيقٍ غَيْرِ شَرْعيِّ: كَالقِمَارِ وَالرِّبَا وَالحِيَلِ وَغَيْرِها. . وَإنْ ظَهَرَتْ فِي قَالِبِ الحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، مِمّا يَعْلَمُ اللهُ أنَّ مَتَعَاطِيهَا إنَّمَا يُرِيدُ الحِيلَةَ لأكْلِ الرِّبا. فَاللهُ تَعَالَى يُحَرِّمُ عَلى النَّاسَ تَعَاطِي الأَسْبَابِ المُحَرَّمَةِ فِي اكْتِسَابِ الأَمْوَالِ، وَاسْتَثْنَى مِنَ التَّحْرِيمِ المُتَاجَرَةَ المَشْرُوعَةِ التِي تَتِمُّ عَنْ تَرَاضٍ بَينَ البَائِعِ وَالمُشْتَرِي، فَسَمَحَ اللهُ لِلمُؤْمِنِينَ بِتَعَاطِيهَا، وَالتَّسَبُّبِ فِي كَسْبِ الأَمْوَالِ بِهَا. وَيَنْهَى اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَنْ قَتْلِ أَنْفُسِهِمْ بِارْتِكَابِ المُحَرَّمَاتِ، وَأكْلِ الأَمْوَالِ بِالبَاطِلِ، فَإنَّ اللهَ كَانَ رَحِيماً بِهِمْ فِيمَا أمَرَهُمْ بِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْهُ، لأنَّ فِيهِ صَلاَحَهُمْ.
وَهذِهِ الآيَةُ تَشْمَلُ أَيْضاً مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ قَتْلاً حَقِيقاً وَأَعْدَمَها الحَيَاةَ بِحَديدٍ أَوْ بِسُمٍّ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ قَتَلَ غَيْرَهُ. وَجَعَلَ اللهُ جِنَايَةَ الإِنسَانِ عَلى غَيْرِهِ جِنَايَةً عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى البَشَرِيَّةِ جَمْعَاءَ.
وَمَنْ تَعَاطَى مَا نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُ مُعْتَدِياً فِيهِ عَلَى الحَقِّ، وَظَالِماً فِي تَعَاطِيهِ، وَعَارِفاً بَتَحْرِيمِهِ، وَمُتَجَاسِراً عَلَى انْتِهَاكِهِ، فَإنَّ اللهَ سَوْفَ يُعَذِّبُهُ فِي نَارِ جَهَّنَم، وَذَلِكَ سَهْلٌ يَسِيرٌ عَليهِ.
(57) قتل المؤمن عمدا:
قال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93](3/207)
وَإذا عَرَفَ الرَّجُلُ الإِسْلاَمَ وَشَرَائِعِهِ، ثُمَّ قَتَلَ رَجُلاً مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً قَتْلَهُ، مُسْتَحِلاً ذَلِكَ القَتْلَ، فَجَزَاؤُهُ عِنْدَ اللهِ جَهَنَّمَ يَبْقَى مُخَلَّداً فِيهَا، وَيَلْعَنُهُ اللهُ، وَيُبْعِدُهُ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَيَجْعَلُهُ فِي النَّارِ فِي عَذَابٍ أَليمٍ.
مسألة: ما هو القتل عمدا؟
القتل العمد أن يقصد المكلف قتل إنسان معصوم الدم فيقتله بما يغلب على الظن موته به.
مسألة: من هو الإنسان المعصوم الدم؟
الإنسان المعصوم الدم أربعة أصناف [المسلم والذمي والمستأمن والمعاهد]
مسألة: متى يكون القتل عمدا؟
[*] • لا يكون القتل عمدا إلا بثلاثة شروط متلازمة:
(1) أن يقصد القاتل القتل
(2) أن يعلم القاتل أن الذي قصد قتله معصوم الدم
(3) أن تكون الآلة المستخدمة في القتل مما يغلب على الظن أنها تقتل.
مسألة: لو رأى إنساناً وهو في أرض حرب، فظن أنه حربي فرماه فقتله، فإذا هو غير حربي فهل يعتبر ذلك قتل عمد؟
لو رأى إنساناً وهو في أرض حرب، فظن أنه حربي فرماه فقتله، فإذا هو غير حربي، فهذا ليس بعمد؛ لأنه لم ينوِ قتل المعصوم.
{تنبيه}:• ويلاحظ أنَّ هذا إذا وافق أولياء المقتول على ذلك، أما لو قالوا: إنّك قصدتَه، فقال: لم أقصده، فالقول قول أولياء المقتول؛ لأن القصد نية خفية، والشرع لا يحكم إلا بالظاهر، والظاهر أنه قصد، ودعواه أنه لم يقصد، أو أنه ظنه غير آدمي دعوى غير مقبولة منه؛ لأننا لو قبلنا ما ادعاه لكان كل من قتل نفساً بغير حق يقول: أنا لم أقصد، أوْ لم أظنه آدمياً معصوماً، أو ما أشبه ذلك.
مسألة: لو أن القاتل ضرب المقتول بالفأس أو بالساطور على رأسه، وقال: أنا ما ظننت أنه يموت، فهل يُقبل منه ذلك؟
لا يقبل منه ذلك لأن هذا يغلب على الظن أنه يموت به.
مسألة: لو أن القاتل ضرب المقتول بالمهفَّة ففزع فمات وقال: أنا ما ظننت أنه يموت، فهل يُقبل منه ذلك؟
يقبل منه ذلك لأن هذ الايغلب على الظن أنه يموت به.
(58) من تركوا الهجرة من بلاد الكفر وهم قادرون عليها:(3/208)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) [النساء/97 - 100]}
كَانَ فِي مَكَّةَ قَوْمٌ قَدْ أَسْلَمُوا، وَأَخْفُوا إِسْلاَمَهُمْ، فَأَخْرَجَهُمُ المُشْرِكُونَ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَهُمْ إلى قِتَالِ المُسْلِمِينَ، فَأُصِيبَ بَعْضُهُمْ، فَقَالَ المُسْلِمُونَ كَانَ أَصْحَابُنا هَؤُلاءِ مُسْلِمِينَ، وَأُكرْهُوا فَاسْتَغْفَرُوا لَهُمْ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. فَكَتَبَ المُسْلِمُونَ إلى مَنْ بَقِيَ مِنَ المُسْلِمِينَ المُسْتَخْفِينَ فِي مَكَّةَ: أَنَّهُمْ لاَ عُذْرَ لَهُمْ، وَأَنَّ عَلَيْهِم الهِجْرَةَ.
والآيَةَ عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ أقَامَ بَيْنَ المُشْرِكِينَ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الهِجْرَةِ، وَلَيسَ مُتَمكِّناً فِي مَوطِنِهِ مِنْ إقَامَةِ أمُورِ دِينِهِ، فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، مُرْتَكِبٌ حَرَاماً بِالإجْمَاعِ. وَظُلْمُهُمْ لأَنْفُسِهِمْ هُوَ تَرْكُهُمُ العَمَلَ بِالحَقِّ خَوْفاً مِنَ الأَذَى، وَفَقْدِ الكَرَامَةِ عِنْدَ ذَوِي قُرْبَاهُمْ مِنَ المُبْطِلِينَ، وَهَذا الاعْتِذَارُ مِمَّا يَعْتَذِرُ بِهِ الذِينَ يُسَايِرُونَ أَصْحَابَ البِدَعِ بِحُجَّةِ دَفْعِ الأذَى عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِمُدَارَاةِ المُبْطِلِينَ، وَهَذَا لا يُعْتَدُّ بِهِ، لأنَّ الوَاجِبَ يَقْضِي عَلَيهِمْ بِإقَامَةِ الحَقِّ مَعَ احْتِمَالِ الأَذَى فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوِ الهِجْرَةِ إلى حَيْثُ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ إِقَامَةِ دِينِهِمْ.(3/209)
وَمَعْنَى الآيةِ: إَّن الذِينَ تَحْضُرُهُمُ الوَفَاةُ، وَهُمْ مُقِيمُونَ فِي أَرْضِ الشِّرْكِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ إِقَامَةِ الشَّعَائِرِ الدِّينِيَّةِ، وَلاَ إِظْهَارَهَا (وَقَدْ عَدّ اللهُ تَعَالَى هَؤُلاءِ ظَالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ بِتَرْكِهِمُ الهِجْرَةَ إلى دَارِ الأمْنِ وَالإسْلاَمِ)، فَتَسْألُهُمُ المَلائِكَةُ الكِرَامُ: لِمَ لِبِثْتُمْ مُقِيمِينَ فِي أَرْضِ الكُفْرِ، وَتَرَكْتُمُ الهِجْرَةَ؟ فَيُجِيبُونَ: إِنَّهُم كُانُوا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ، لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى الخُرُوجِ مِنَ البَلَدِ، وَلا الذَّهَابِ فِي الأَرْضِ. فَتَقُولُ لَهُمُ المَلاَئِكَةُ: أَلَيْسَتْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا إلى حَيْثُ الأَمْنِ وَالحُرِّيَّةُ، وَالقُدْرَةُ عَلَى إِظْهَارِ الإِيمَانِ؟ وَيَقَولُ تَعَالَى: إنَّ هَؤُلاءِ الظَّالِمِينَ لأَنْفُسِهِمْ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ، وَسَاءَتْ مَصِيراً.
وَاسْتَثْنَى اللهُ تَعَالَى مِنْ سُوءِ المَصِيرِ، الذِي يَنْتَظِرُ القَاعِدِينَ عَنِ الهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الشِّرْكِ - وَهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ إِقَامَةَ شَعَائِرِ دِينِهِمِ - المُسْتَضْعَفِينَ الذِينَ لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ أَيْدِي المُشْرِكِينَ، وَالذِينَ لَوْ قَدِرُوا عَلَى التَّخَلُّصِ لَمَا اسْتَطَاعُوا الاهْتِدَاءَ إلى سُلُوكِ الطَّرِيق، وَإيجَادِ السَّبِيلِ، كَالعَجَزَةِ وَالمَرْضَى وَالنِّسَاءِ وَالمُرَاهِقِينَ الذِين عَقَلُوا.
فَهَؤُلاءِ المَعْذُورُونَ قَدْ يَتَجَاوَزُ اللهُ عَنْهُمْ بِتَرْكِ الهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الكُفْرِ، وَاللهُ كَثيرُ العَفْوِ وَالغُفْرَانِ.
يُحَرِّضُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَلَى الهِجْرَةِ، وَيُرَغِّبُهُمْ فِي مُفَارَقَةِ المُشْرِكِينَ، وَيُعْلِمُهُمْ أنَّ المُؤْمِنِينَ حَيْثُمَا ذَهَبُوا وَجَدُوا أَمَاكِنَ أَمْنٍ يَلْجَؤُونَ إلَيهَا، وَيَتَحَصَّنُونَ بِها مِنَ المُشْرِكِينَ، وَيَتَحَرَّرُونَ فِيها مِنَ الأَعْدَاءِ، وَيُرَاغِمُونَهُمِ بِها، وَيَجِدُونَ سَعَةً فِي الرِّزْقِ. وَمَنْ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ بِنِيَّةِ الهِجْرَةِ فَيَلْقَى حَتْفَهُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الثَّوَابُ عِنْدَ اللهِ، مِثْلَ ثَوابِ مَنْ هَاجَرَ.(3/210)
وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ: " إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلَّ امْرِىءٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيَا يُصِيبُها، أو امْرَأةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إلى مَا هَاجَرَ إلَيهِ "
(59) مشاققة الرسول:
قال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء:115]
مَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِارْتِدَادِهِ عَنِ الإِسْلاَمِ، وَإِظْهَارِ العَدَاوَةِ لَهُ، وَمَنْ يَسْلُكْ غَيْرَ طَرِيقِ الشَّرِيعَةِ التِي جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ، فَصَارَ فِي شِقٍّ، وَالشَّرْعُ فِي شِقٍّ آخَرَ، وَذَلِكَ عَنْ عَمَدٍ مِنْهُ، بَعْدَمَا ظَهَرَ لَهُ الحَقُّ، وَتَبَيَّنَ لَهُ الرُّشْدُ، وَمَنْ يَتَّبعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ، التِي قَامَ عَلَيْهَا إِجْمَاعُ الأُمَّةِ المُسْلِمَةِ (وَإِجْمَاعِ الأُمَّةِ دَلِيلٌ عَلَى العِصْمَةِ مِنَ الخَطَأ)، جَازَاهُ اللهُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يُحَسِّنَ لَهُ أَفْعَالَهُ فِي صَدْرِهِ، وَيُزَيِّنَهَا لَهُ اسْتِدْارَجاً لَهُ، وَيَجْعَلَ مَصِيرَهُ فِي جَهَنَّمَ، يَصْطَلِي بِلَظَاهَا، وَسَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمَصِيراً.
(60) إبليس وأتباعه:(3/211)
قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ (18)} [الأعراف/18:11](3/212)
يُنَبِّهُ اللهُ تَعَالَى النَّاسَ إلَى شَرَفِ أَبِيهِمْ آدَمَ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ عَدَاوَةَ إِبْلِيسَ لَهُمْ، وَيُذَكِّرُهُمْ بِأَنَّهُ خَلَقَ آدَمَ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ بَعْدَ أَنْ صَوَّرَهُ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَأَنَّهُ أَمَرَ المَلاَئِكَةَ بِالسُّجُودِ لآدَمَ، تَكْرِيماً وَتَعْظِيماً، فَسَجَدُوا إِطَاعَةً لأَمْرِ اللهِ، إلاَّ إِبْلِيسَ فَإِنَّهُ رَفَضَ السُّجُودَ، وَتَمَرَّدَ عَلَى أَمْرِ رَبِّهِ. وَسَأَلَ اللهُ تَعَالَى إِبْلِيسَ فَقَالَ لَهُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ بِالسُّجُودِ؟ فَرَدَّ عَلَى خَالِقِهِ قَائِلاً: إِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ آدَمَ، لأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ نَارٍ، وَآدَمُ مَخْلُوقٌ مِنْ طِينٍ، وَالنَّارُ أَفْضَلُ مِنَ الطِّينِ فِي رَأْيِ إِبْلِيسَ، لِذَلِكَ لَمْ يَسْجُدْ لآدَمَ، وَالأَفْضَلُ لاَ يَسْجُدُ لِلْمَفْضُولِ. فَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى إِبْلِيسَ بِأَنْ يَهْبِطَ مِنَ الجَنَّةِ إِلَى الأَرْضِ، لِعِصْيَانِهِ أَمَرَ رَبِّهِ، وَخُرُوجِهِ عَنْ طَاعَتِهِ، فَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَكَبَّرَ فِيهَا. ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى بِالخُرُوجِ مِنَ الجَنَّةِ ذَلِيلاً حَقِيراً، بِسَبَبِ كُفْرِهِ وَتَمَرُّدِهِ عَلَى أَمْرِ رَبِّهِ. فَاسْتَدْرَكَ إِبْلِيسُ، وَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُمْهِلَهُ وَلاَ يُمِيتَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَهُوَ اليَوْمَ الذِي سَيَبْعَثُ فِيهِ اللهُ الخَلائِقَ لِلْحِسَابِ. وَقَدْ أَرَادَ إِبْلِيسُ بِذَلِكَ أَنْ يَجِدَ فُسْحَةً مِنَ الوَقْتِ لإِغْوَاءِ بَنِي آدَمَ وَإِضْلاَلِهِمْ. فَأَجَابَهُ اللهُ تَعَالَى إلَى سُؤَالِهِ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْهَا إِرَادَتُهُ وَمَشِيئَتُهُ التِي لاَ تُخَالَفُ وَلا تُعَارَضُ. وَقَدْ أَنْظَرَهُ اللهُ إلَى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ، يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ كَمَا جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى.(3/213)
لَمَّا اسْتَوثَقَ إِبْلِيسُ مِنْ وَعْدِ اللهِ لَهُ بِإِبْقَائِهِ إِلى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ، أَخَذَ فِي المُعَانَدَةِ وَالتَّمَرُّدِ فَقَالَ لِرَبِّهِ: كَمَا أَغْوَيْتَنِي (فَبِمَا أَغْوَيتَنِي) وَأَضْلَلْتَنِي وَأَهْلَكْتَنِي فَإِنَّنِي سَأُحَاوِلُ فِتْنَةَ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، وَسَأَعْتَرِضُ سَبِيلَهُمْ مُحَاوِلاً إِبْعَادَهُمْ عَنْ طَرِيقِ اللهِ المُسْتَقِيمِ، طَرِيقِ الحَقِّ وَالهُدَى، بِأَنْ أُزَيِّنَ لَهُمْ طُرُقاً أُخْرى حَتَّى يَضِلُّوا. ثُمَّ سَأُحَأوِلُ تَشْكِيكَهُمْ فِي آخِرَتِهِمْ (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) وَأُرَغِّبُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ (مِنْ خَلْفِهِمْ)، وَسَأُشَبِّهُ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ (عَنْ أَيْمَانِهِمْ)، وَسَأُزَيِّنَ لَهُم المَعَاصِيَ، وَأُحَسِّنُها لَهُمْ (عَنْ شَمَائِلِهِمْ) وَسَأَفْتِنُهُمْ، مَا اسْتَطَعْتُ، حَتَّى لاَ تَجِدَ يَا رَبِّ بَيْنَ بَنِي آدَمَ كَثيراً مِنَ المُطِيعِينَ الشَّاكِرِينَ لأَنْعُمِكَ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ أَكَّدَ اللهُ تَعَالَى لَعْنَتَهُ عَلَى إِبْلِيسَ وَطَرْدَهُ لَهُ، وَإِبْعَادَهُ عَنِ المَلأِ الأَعْلَى، وَهُوَ مَقِيتٌ مَعِيبٌ (مَذْؤُومٌ) مُقْصىً مُبْعَدٌ، وَقَالَ لَهُ مُهَدِّداً: إِنَّهُ وَمَنْ يَتَّبِعُهُ مِنْ بَنِي آدَمَ سَيَكُونُ مَصِيرُهُمْ جَهَنَّمَ، وَسَيَمْلَؤُهَا مِنْهُمْ جَمِيعاً.
(61) من أغلق حواسه عم سماع كلمة الحق:
قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179](3/214)
لَقَدْ خَلَقْنَا كَثيراً مِنَ الإِنْسِ وَالجِنِّ لِيَكُونُوا وَقُوداً لِجَهَنََّمَ، لأنَّهُمْ يَعْمَلُونَ عَمَلَ أهْلِهَا، وَلاَ يَنْتَفِعُونَ بِشَيءٍ مِنْ جَوَارِحِهِمْ التِي جَعَلَها اللهُ سَبِيلاً لِلْهِدَايَةِ، فَلاَ يَسْمَعُونَ الحَقَّ بِآذَانِهِم، وَلا يَفْقَهُونَهُ بِقُلُوبِهِمْ، وَلا يَرَوْنَ النُّورَ بِعُيُونِهِمْ، فَهُمْ كَالبَهَائِمِ وَالأنْعَامِ السَّارِحَةِ، لاَ تَنْتَفِعُ بِحَوَاسِّهَا إلا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَعَاشِهَا وَبَقَائِهَا، أوْ هُمْ شَرٌّ مِنَ الدَّوَابِّ وَأكْثَرُ ضَلالاً، لأنَّ الدَّوَابَّ قَدْ تَسْتَجِيبُ لِراعِيها إذا أنِسَتْ بِهِ، وَإنْ لَمْ تَفْقَهْ كَلاَمَهُ، بِخِلافِ هَؤُلاءِ. ولأنَّ الدَّوَابَّ تَفْعَلُ مَا خُلِقَتْ لَهُ، إمَّا بِطَبْعِهَا وَإمَّا بِتَسْخِيرِهَا. أمَّا الكَافِرُونَ فِإِنَّهُمْ خُلِقُوا لِيَعْبُدُوا اللهَ وَيُوَحِّدُ هُ، فَكَفَرُوا بِاللهِ، وَأشْرَكُوا بِهِ فَهُمُ الغَافِلُونَ.
(62) الفرار من الزحف:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ (15) وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16]
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِالثَّبَاتِ فِي المَعْرَكَةِ، وَبِمُوَاجَهَةِ الكَافِرِينَ بِقُلُوبٍ مُؤْمِنَةٍ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى عَدَمِ الفِرَارِ وَتَوْلِيَةِ الظُّهُورِ لِلأَعْدَاءِ، وَإِنْ كَانَ الكَافِرُونَ أَكْثَرَ مِنَ المُؤْمِنِينَ عَدَداً، لأنَّ الفِرَارَ يُحْدِثُ الوَهَنَ فِي الجَيْشِ الإِسْلاَمِي المُقَاتِلِ.(3/215)
وَلَكِنَّهُ تَعَالَى سَمَحَ لِلْمُقَاتِلِ بِحُرِّيَّةِ الحَرَكَةِ أَثْنَاءِ المَعْرَكَةِ، كَأنْ يَنْتَقِلَ مِنْ مَكَانٍ فِي المَعْرَكَةِ إلى مَكَانٍ آخَرَ، لِنُصْرَةِ فَرِيقٍ مِنَ المُسْلِمِينَ، أَوْ لِسَدِّ ثَغْرَةٍ نَفَذَ مِنْهَا العَدُوُّ، فَالمُهِمُّ هُوَ أَنْ يَكُونَ هَدَفُ المُقَاتِلِ المُسْلِمِ النَّصْرَ أَوِ الشَّهَادَةِ، وَإِطَاعَةِ أَمْرِ القِيَادَةِ. أَمَّا الذِينَ يَتْرُكُونَ المَعْرَكَةَ فِرَاراً وَهَرَباً مِنَ المَوْتِ، فَإنَّ اللهَ تَعَالَى يَتَوَعَّدُهُمْ بِالعَذَابِ الألِيمِ يَوْمَ القِيَامَةِ. (وَعَدَّ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّولِيَّ يَوْمَ الزَّحْفِ مِنَ الكَبَائِرِ) (أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ).
(63) كانزو الذهب والفضة:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35)} [التوبة/35،34](3/216)
يُحَذِّرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ مِنْ عُلَمَاءِ السُّوءِ، وَعُبَّادِ الضَّلاَلَةِ، وَيَقُولُ: إِنَّ كَثِيراً مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ، اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ، بِصُوَرٍ وَطَرَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ، وَيَسْتَغِلُّونَ رِئَاسَتَهُمُ الدِّينِيَّةَ فِي سَبِيلِ تَحْقِيقِ ذَلِكَ، وَلَمَّا جَاءَ الإِسْلاَمُ اسْتَمَرُّوا عَلَى ضَلاَلِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، طَمَعاً فِي أَنْ تَبْقَى لَهُمْ تِلْكَ الرِئَاسَاتُ، وَأَخَذُوا يَصُدُّونَ النَّاسَ وَيَصْرِفُونَهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ الإِسْلاَمِ، وَهُوَ دِينُ الحَقِّ، وَيُلْبِسُونَ الحَقَّ بِالبَاطِلِ، وَيُمَوِّهُونَ عَلَى أَتْبَاعِهِمْ مِنَ الجَهَلَةِ أَنَّهُمْ إِنَّما يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ، وَذَلِكَ لأَنَّهُمْ لَوُ أَقَرُّوا بِصِدْقِ مُحَمَّدٍ، وَصِحَّةِ دِينِهِ، لَتَوَجَّبَ عَلَيْهِمْ مُتَابعَتُهُ، فَيبْطُلُ حُكْمُهُمْ، وَتَزُولُ مَكَانَتُهُم، وَتَنْقَطِعُ مَوَارِدُهُمْ، وَمَصَادِرُ رِزْقِهِم العَرِيضَةُ.
وَفِي الحَقِيقَةِ إِنَّهُمْ دُعَاةٌ إِلَى النَّارِ، وَيَوْمَ القِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ، وَيُهَدِّدُ اللهُ تَعَالَى مَنْ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةِ (أَيْ يُكَدِّسُونَ الأَمْوَالَ)، وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَفِي الجِهَادِ لِنُصْرَةِ دِينِ اللهِ، وَفِي الإِحْسَانِ إِلَى عِبَادِهِ وَمَصَالِحِهِمْ، وَيُبَشِّرهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.
قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: المَقْصُودُ بِالكَنْزِ هُوَ المَالُ الَّذِي لاَ تُؤدَّى زَكَاتُهُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَيُّ مَالٍ أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ، فَلَيْسَ بِكَنْزٍ، وَإِنْ كَانَ مَدْفُوناً فِي الأَرْضِ، وَأَيُّ مَالٍ لَمْ تُؤدَّ زَكَاتَهُ هُوَ كَنْزٌ يُكْوَى بِهِ صَاحِبُهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ.
يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ المَالَ الذِي لَمْ تُؤدَّ زَكَاتُهُ سَيُحْمَى عَلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَتُكْوَى بِهِ جِبَاهُ أَصْحَابِهِ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ، وَسَيُقَالُ لَهُمْ تَبْكِيتاً وَتَقْرِيعاً: هَذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَلَمْ تُؤَدُّوا مِنْهُ حَقَّ اللهِ، وَهَذَا مَا حَبَّأْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا طَعْمَهُ الآنَ عَذَاباً أَلِيماً.(3/217)
(64) محاددة الله ورسوله:
قال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 63]
أَلاَ يَعْلَمُ هَؤُلاَءِ المُنَافِقُونَ أَنَّ مَن شَاقَّ اللهَ وَرَسُولَهُ بِتَعَدِّي حُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللهُ، وَحَارَبَهُمَا وَخَالَفَهُمَا، وَلَمَزَ رَسُولَ اللهِ فِي أَعْمَالِهِ وَأَخْلاَقِهِ، فَإِنَّهُ سَيَصْلَى نَارَ جَهَنَّمَ، وَيَبْقَى خَالِداً فِيهَا، وَهَذا هُوَ الذُّلُ العَظِيمُ، وَالشَّقَاءُ الكَبِيرُ.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)} [المجادلة/5، 6]
إِنَّ الذِينَ يُعَانِدُونَ اللهَ، وَيَخْتَارُونَ لأَنْفُسِهِمْ حُدُوداً غَيْرَ الحُدُودِ التِي شَرَعَهَا اللهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ، سَيَلْحَقُهُمْ الخِزْيُ وَالنِّكَالُ، وَالخِذلاَنُ فِي الدُّنْيَا، كَمَا لَحِقَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الكُفَّارِ مِنَ الأُمَمِ السَّابِقَةِ. وَكَيْفَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى آيَاتٍ وَاضِحَاتٍ تُبَيِّنُ قَوَاعِدَ الشَّرْعِ، وَتَحدُّ حُدُودَهُ، وَتُفَصِّلُ أَحْكَامَهُ، فَلاَ عُذْرَ لَهُمْ فِي مُخَالَفَتِهَا، وَالانْحِرَافِ عَنْهَا، وَلِلجَاحِدِينَ بِتِلْكَ الآيَاتِ عَذَابٌ مُهِينٌ يَوْمَ القِيَامَةِ.
وَفِي يَوْمِ القِيَامَةِ يَبْعَثُ اللهُ الخَلْقَ جَمِيعاً وَيَجْمَعُهُمْ فِي صَعْيدٍ وَاحِدٍ، فَيُخْبِرُهُمْ بِمَا عَمِلُوا مِنْ خَيرٍ وَشَرٍّ، وَقَدْ أَثْبَتَهُ اللهُ تَعَالَى فِي سِجِلِّ أَعْمَالِهِمْ وَهُمْ قَدْ نَسُوهُ، وَاللهُ شَاهِدٌ عَلَى مَا يَعْمَلُونَ، لاَ يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيءٌ، وَلاَ يَنْسَى شَيئاً.
(65) المتقاعسون عن الجهاد في سبيل الله مع قدرتهم:(3/218)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} [التوبة/39،38]
يُعَاتِبُ اللهُ تَعَالَى مَنْ تَخَلَّفَ، مِنَ المُؤْمِنِينَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلاَلُ، وَكَانَ الْوَقْتُ حَارّاً قَائِظاً، فَيَقُولُ تَعَالَى لَهُمْ: مَا لَكُمْ أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ إِذَا دُعِيْتُمْ إِلَى الجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَكَاسَلْتُمْ وَتَبَاطَأْتُمْ، وَمِلْتُمْ إِلَى الدَّعَةِ وَالإِقَامَةِ فِي الظِّلِ وَطِيبِ الثِّمَارِ؟ أَفَعَلْتُمْ ذَلِكَ رِضاً مِنْكُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا بَدَلاً مِنَ الآخِرَةِ؟ وَمَا قِيمَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا مَتَاعُهَا إِلاَّ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الآخِرَةِ، إِذْ يَنْتَظِرُونَ المُؤْمِنِينَ رِضْوانٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ، وَجَنَّاتٌ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.
وَإِذَا لَمْ تَنْفِرُوا مَعَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمْ تَخْرُجُوا مَعَهُ إِلَى الجِهَادِ فَإِنَّ اللهَ سَيُعَذِّبُكُمْ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا، بِزَوَالِ النِّعْمَةِ وَغَيْرِهَا عَنْكُمْ، وَفِي الآخِرَةِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَلاَ يَصْعُبُ عَلَى اللهِ أَنٍ يَسْتَبْدِلَ قَوْماً غَيْرَكُمْ بِكُمْ، يَخِفُّونَ لِنُصْرَةِ نَبِيِّهِ، وَيُجَاهِدُونَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيءٍ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَضُرُّ اللهَ، لأَنَّهُ الغَنِيُّ عَنِ العِبَادِ، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ.
(66) عدم الاستجابة لله وللرسول:(3/219)
قال تعالى: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [الرعد: 18]
النَّاسُ فِي تَلَقِّيهِمْ دَعْوَةَ اللهِ صِنْفَانِ: فَالذِينَ أَطَاعُوا رَبَّهُمْ، وَانْقَادُوا لأَوَامِرِهِ، وَاسْتَجَابُوا لِدَعْوَةِ رَسُولِه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمْ، يَوْمَ القِيَامَةِ، المَثُوبَةُ الحُسْنَى الخَالِصَةُ. وَالذِينَ عَصَوْا رَبَّهُمْ، وَكَذَّبُوا رَسُولَهُ، سَيُلاَقُونَ حِسَاباً عَسِيراً يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُحَاسَبُونَ عَلَى الجَلِيلِ وَالحَقِيرِ مِنَ الأَعْمَالِ، لأنَّ كُفْرَهُمْ أَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ، وَلَنْ يُنْقِذَهُمْ مِنْ سُوءِ المَصِيرِ أَحَدٌ، وَلَنْ يُغْنِيَ عَنْهُمْ جَمْعُهُمْ وَلاَ مَالُهُمْ. وَلَوْ أَنَّهُمْ أَتَوْا بِمِثْلِ الأَرْضِ ذَهَباً، وَمثْلَهُ مَعَهُ، لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ اللهِ، فَلاَ يُمْكِنُهُمْ ذَلِكَ، وَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُمْ، وَسَتَكُونُ جَهَنَّمُ مَأْوَاهُمْ وَمُسْتَقَرَّهُمْ، يَوْمَ القِيَامَةِ، وَسَاءَتْ مَصِيراً
(67) معصية الله والرسول:
وقال تعالى: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ (14)} [النساء:14]
وَمَنْ يَعْصِ اللهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَتَعَدَّ حُدُودَ شَرْعِ اللهِ، وَيُصِرَّ عَلَى العِصْيَانِ، دُونَ اسْتِشْعَارِ خَوْفٍ أَوْ نَدَمٍ، يُدْخِلْهُ اللهُ نَاراً، وَيَبْقى خَالِداً فِيها أبَداً، وَلَهُ فِيها عَذَابٌ مُذِلٌّ مُهِينٌ.
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} [الأحزاب:36](3/220)
رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ ابْنَةَ عَمَّتِهِ (زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ) لِمَولاَهُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فَأَبَتْ، وَقَالَتْ أَنا خَيْرٌ مِنْهُ حَسَباً، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالى هذِهِ الآيةَ: فَقَبِلَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَ مِنْهُ، وَقَالَتْ سَمْعاً وَطَاعَةً.
وَكَانَ زَوَاجُ زَيْنَبَ مِنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ لِحِكْمَةٍ إِذْ تَبِعَخُ رَدُّ الأُمُورِ إِلى نِصَابِها فِي أَمْرِ التَّبَنِّي. فَقَدْ كَانَتِ العَرَبُ تُعْطِي الوَلَدَ المُتَبَنَّي (الدَّعِيَّ) حُقُوقَ الابْنِ مِنَ النَّسَبِ، حَتَّى المِيراثَ، وَحُرْمَةَ النَّسَبِ. فَأَرَادَ اللهُ تَعَالَى مَحْوَ ذَلِكَ بالإِسْلاَمِ، حَتَّى المِيراثَ، وَحُرْمَةَ النَّسَبِ. فَأَرَادَ اللهُ تَعَالَى مَحْوَذَلِكَ بالإِسْلاَمِ، حَتَّى لا يُعْرَفَ إِلا النَّسبُ الصَّرِيحُ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ} وَمَعْنَى الآيَةِ: لَيْسَ لِمُؤِمِن وَلا لِمُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ قَضَاءً، أَنْ يَتَخَيَّروا مِنْ أَمْرِهِمْ غيرَ مَا قَضَاهُ اللهُ وَرَسُولُهُ لَهُمْ، وَلاَ أَنْ يُخَالِفُوا أَمْرَ اللهِ وَأَمرَ رَسُولِهِ وَقَضَاءَهُما. وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَمَرَا بِهِ، وَنَهَيَا عَنْهُ، فَقَدْ جَارَ عَنِ السَّبِيلِ القَوِيمِ، وَسَلَكَ غَيْرَ طَرِيقِ الهُدَى وَالرَّشَادِ.
(68) الذين أخرجوا الرسل من بلادهم:
قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)} [إبراهيم/17:13](3/221)
وَلَمَّا عَجَزَ رُؤُوسُ الكُفْرِ وَالضَّلاَلَةِ عَنْ مُقَارَعَةِ الحُجَّةِ بِالحُجَّةِ، عَمَدُوا إِلى تَهْدِيدِ الرُّسُلِ بِالنَّفْيِ وَالإِخْرَاجِ مِنْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، إِنْ لَمْ يَعُودُوا فِي مِلَّتِهِمْ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَى الرُّسُلِ: أَنَّهُ تَعَالَى سَيُهْلِكُ هؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ الظَّالِمِينَ.
وَأَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَى الرُّسُلِ: أَنَّهُ سَيُسْكِنُهُمْ أَرْضَ الكَافِرِينَ وَدِيَارَهُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَهَذا جَزَاءٌ عَادِلٌ لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ، يَوْمَ القِيَامَةِ، وَخَافَ مَا خَوَّفَهُ بِهِ رَبُّهُ، وَمَا تَوَعَّدَهُ بِهِ مِنَ العَذَابِ وَالنَّكَالِ.
وَاسْتَنْصَرَ الرُّسُلُ بِرَبِّهِمْ عَلَى أَقْوَامِهِمْ، لَمَّا يَئِسُوا مِنْ إِيمَانِهِمْ، وَطَلَبُوا مِنَ اللهِ تَعَالَى النَّصْرَ عَلَى الكَافِرِينَ فَنَصَرَهُمُ اللهُ، فَرَبِحُوا، وَخَسِرَ كُلُّ مُتَكَبِّرٍ عَنْ طَاعَةِ اللهِ، شَدِيدِ العِنَادِ لِلْحَقِّ.
(وَقِيلَ بَلْ مَعْنَاهُ هُوَ: أَنَّ الأُمَمَ اسْتَفْتَحَتْ عَلَى نَفْسِهَا، كَمَا قَالَ كُفَّارُ قُرَيشٍ: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.} اسْتَفْتَحُوا - اسْتَنْصَرَ الرُّسُلُ بِاللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ.
فَقَدْ حَلَّتِ الهَزِيمَةُ بِهَذَا الجَبَّارِ العَنِيدِ فِي الدُّنْيا، وَأَمَامَهُ فِي الآخِرَةِ جَهَنَّمُ تَنْتَظِرُهُ، فَهِيَ لَهُ بِالمِرْصَادِ، وَسَيَكُونُ خَالِداً فِيهَا، وَيُسْقَى فِي النَّارِ مِنَ الصَّدِيدِ الذِي يَسِيلُ مِنْ لَحْمِهِ وَجِلْدِهِ المُحْتَرِقَيْن.
(وَوَرَاءُ، هُنا، مَعْنَاهَا أَمَامُ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} أَيْ كَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ).
يَشْرَبُهُ قَسْراً وَقَهْراً، جَرْعَةً بَعْدَ جَرْعَةٍ، وَلاَ يَكَادُ يَبْتَلِعُهُ لِسُوءِ طَعْمِهِ، وَنَتْنِ رَائِحَتِهِ، وَحَرَارَتِهِ، فَإِذَا شَرِبَهُ قَطَعَ أَمْعَاءَهُ، وَيَأْتِيهِ العَذَابُ بِأَنْوَاعِهِ، لَيْسَ مِنْهَا نَوْعٌ إِلاَّ يَأْتِيهِ المَوْتُ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ لاَ يَمُوتُ لِيَخْلُدَ فِي النَّارِ وَالعَذَابِ، وَلَهُ بْعَدَ هَذِهِ الحَالَةِ عَذَابٌ آخَرَ شَدِيدٌ غَلِيظٌ أَدْهَى مِنَ الذِي قَبْلَهُ وَأَمَرُّ.(3/222)
(69) جاحدو نعم الله:
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)} [إبراهيم/30:28]
أَلَمْ تَعْلَمْ وَتَعْجَبْ مِنْ قَوْمٍ أَتَتْهُمْ نِعْمَةُ اللهِ فَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَشْكُرُوهَا وَيُقَدِّرُوهَا، وَلَكِنَّهُمْ غَمَطُوهَا، وَكَفَرُوا بِهَا وَجَحَدُوهَا، كَأَهْلِ مَكَّةَ الذِينَ أَسكَنَهُمُ اللهُ حَرَماً آمِناً تُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيءٍ، وَجَعَلَهُمْ سَدَنَةَ بَيْتِهِ، وَشَرَّفَهُمْ بِإِرْسَالِ نَبِيٍّ مِنْهُم، فَكَفَرُوا بِتِلْكَ النِّعْمَةِ، فَأَصَابَهُمُ الجَدْبُ وَالقَحْطُ سَبْعَ سِنِينَ، وَأُسِرُوا يَوْمَ بَدْرٍ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلاً مِنْ سَرَاتِهِمْ وَقَادَتِهِمْ. . . وَأَحَلُّوا الذِينَ شَايَعُوهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ دَارَ الهَلاَكِ (دَارَ البَوَارِ).
وَدَارُ البَوَارِ هِيَ جَهَنَّمُ يُلْقَوْنَ فِيهَا لِيُقَاسُوا حَرَّهَا. وَيَبْقَونَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً، وَبِئْسَ المَقَامُ وَالمُسْتَقَرُّ.
وَجَعَلُو للهِ شُرَكاَءَ (أَنْدَاداً) عَبَدُوهُمْ مَعَهُ، وَدَعُوا النَّاسَ إِلَى عِبَادَتِهِمْ، لِيَصْرِفُوهُمْ عَنِ سَبِيلِ اللهِ القَوِيمِ، فَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤلاَءِ المُشْرِكِينَ الذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةِ اللهِ كُفْراً، وَجَعَلُو للهِ أَنْدَاداً، وَصَدُّوا النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ دِينِهِ الحَنِيفِ: اسْتَمْتِعُوا فِي الدُّنيا، قَدرَ مَا تَسْتَطِيعُونَ وَافْعَلُوا مَا يُمْكِنُكُمْ فِعْلُهُ، فَإِنَّ أَعْمَالَكُمْ هَذِهِ سَتُورِدُكُمْ مَوَارِدَ الهَلاَكِ، وَسَيَكُونُ مَصِيرُكُمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ جَزَاءً وِفَاقاً.
(70) الطاغون:(3/223)
قال تعالى: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61)} [ص/61:55]
هَذَا الذِي تَقَدَّمَ هُوَ جَزَاءُ المُؤْمِنِينَ الأَخْيَارِ، عَلَى مَا قَدَّمُوهُ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ، وَطَاعَةٍ لِرَبِّهِمْ. أَمَّا الكَافِرُونَ الخَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى، وَالمُكَذِبُّونَ رُسُلَهُ الكِرَامَ، فَلَهُمْ سُوءُ المُنْقَلَبِ، وَشَرُّ العَاقِبَةِ
إِذْ تَكُونُ عَاقِبَتُهُم العَذَابَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُقَاسُونَ حَرَّهَا الشَّدِيدَ، وَسَاءَتْ جَهَنَّمُ مَهْداً وَفِراشاً.
وَهَذَا العَذَابُ هُوَ جَزَاؤُهُمْ فِي الآخِرَةِ عَلَى كُفْرِهِمْ وَسُوءِ أَعْمَالِهِمْ. فَلْيَذُوقُوهُ فَهْوَ مَاءٌ حَارٌّ، مَتَنَاهٍ فِي شِدَّةِ حَرَارَتِهِ، وَقَدْ مُزِجَ بالصَّدِيدِ الذِي يَسِيلُ مِنْ أَجْسَادِهِم المُحْتَرِقَةِ فِي النَّارِ (غَسَّاقٌ).
حَمِيمٌ - مَاءٌ بَلَغَ النِّهَايَةَ فِي الحَرَارَةِ.(3/224)
غَسَّاقٌ - الصَّدِيدُ الذِي يَسِيلُ مِنْ جُلُودِ أَهْلِ النَّارِ المُحْتَرِقَةِ. وَقِيلَ إِنَّهُ نَوْعٌ مِنَ العَذَابِ لاَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ اللهَ تَعَالَى. وَلَهُمْ صُنُوفٌ أُخْرَى مِنَ العَذَابِ مِنْ أَشْبَاهِ هَذَا العَذَابِ يُعَذِّبُونَ بِهَا، كَالزَّمْهَرِيرِ، والسَّمُومِ، وَشُرْبِ الحَمِيمِ والغَسَّاقِ، وَأَكْلِ الزَّقومِ. يُخْبِرُ اللهُ تَعَالى عَنْ أَهْلِ النَّارِ، وَكَيْفَ يَتَنَكَّرُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَكَيْفَ يَتَشَاتَمُونَ وَيَتَلاَعَنُونَ، وَيُكَذِّبُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً، وَحِينَمَا يَرَى جَمَاعَةُ الكُبَرَاءِ، الذِينَ دَخَلُوا النَّارَ، فَوْجاً يَدْخُلُهَا مِنَ الأَتْبَاعِ الذِينَ يَعْرِفُونَهُمْ فِي الدُّنْيَا، يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَذَا فَوْجٌ مِنَ الكَفَرَةِ الضَّالينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ مَعَكُمْ، فَلاَ مَرْحَباً بِهِمْ، إِنَّهُمْ َسَيَذُوقُونَ عَذَابَ النَّارِ، وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرَهَا.
فَيَردُّ عَلَيْهِمُ الأَتْبَاعُ الدَّاخِلُونَ قَائِلِينَ لَهُمْ، وَقَدْ سَمِعُوا مَقَالَتَهُمْ: بَلْ أَنْتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ فَأَنْتُمْ الذِينَ أَضْلَلْتُمُونَا وَدَعَوْتُمُونَا إِلَى مَا أَفْضَى بِنَا إِلَى هَذَا المَصِيرِ، فَبِئْسَ المَنْزِلُ وَالمُسْتَقَرُّ وَالمَصِيرُ. فَيَقُولُ الأَتباعُ دَاعِينَ عَلَى رُؤُوسِ الضَّلاَلَةِ: رَبَّنَا عَذِّبْ مَنْ كَانَ السَّبَبَ فِي وُصُولِنَا إِلَى هَذَا العَذَابِ وأذِقْهُ عَذَاباً مُضَاعَفاً فِي النَّارِ: عَذَاباً لِضَلاَلِهِ، وَعَذَاباً آخَرَ لإِضْلاَلِهِ غَيْرَهُ.
وقال تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلْطَّاغِينَ مَآبًا (22) لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا (24) إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاء وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا (30)} [النبأ/30:22](3/225)
وَفِي ذَلِكَ اليَوْمِ العَظِيمِ تَكُونُ جَهَنَّمُ مُعَدَّةً وَمُرْصَدَةً لِلطَّاغِينَ، وَخَزَنَتُهَا يَتَرَقَّبُونَ مَنْ يَسْتَحِقُّهَا بِسُوءِ عَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا. وَتَكُونُ النَّارُ مُعَدَّةً وَمُرْصَدَةً لِلطُّغَاةِ العَاتِينَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، وَتَكُونُ مَرْجِعَهُمْ وَمَصِيرَهُمْ. وَسَيَمْكُثُونَ فِي النَّارِ دُهُوراً مُتَلاَحِقَةً، يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضاً. وَلاَ يَذُوِقُ المُجْرِمُونَ فِي جَهَنَّمَ بَرْداً يُبَرِّدُ حَرَّ السَّعِيرِ، وَلاَ شَرَاباً يَرْويهِمْ مِنَ العَطَشِ. وَلاَ يَذُوقُونَ فِي النَّارِ إِلاَّ الحَمِيمَ (وَهُوَ المَاءُ المُتَناهِي فِي الحَرَارَةِ)، والغَسَّاقَ (وَهُوَ القَيْحُ والصَّدِيدُ المُنْتِنُ والعَرَقُ الذِي يَسِيلُ مِنْ أَجْسَادِ أَهْلِ النَّارِ).
وَهَذَا الذِي صَارُوا إِلَيهِ مِنَ العُقُوبَةِ وَالعَذَابِ، هُوَ جَزَاءٌ مُوَافِقٌ لأَعْمَالِهِم المُنْكَرَةِ، التِي كَانُوا يَعْمَلُونَهَا فِي الدُّنْيَا، فَكَأَنَّمَا وَافَقَ العَذَابُ الذَّنْبَ. وَقَدِ ارْتَكَبُوا المُنْكَرَاتِ، وَكَفَرَوا وَأجْرَمُوا لأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ سَيَرْجِعُونَ إِلَى اللهِ، وَأَنَّهُ سَيُحَاسِبُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ. وَكَانُوا يُكَذِّبُونَ تَكْذِيباً شَدِيداً بِجَمِيعِ البَرَاهِينِ، وَالآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِ اللهِ تَعَالَى، وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَعَلَى صِدْقِ النُّبُواتِ، وَعَلَى صِدْقِ مَا جَاءَ فِي القُرْآنِ المُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى. وَقَدْ أَحْصَى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ جَمِيعَ أَعْمَالِهِمْ، وَأَثْبَتَهَا المَلاَئِكَةُ المُطَهِّرُونَ الحَفَظَةُ فِي صَحَائِف أَعْمَالِ هَؤُلاَءِ كِتَابَةً، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَجْحَدُوا شَيْئاً مِمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ
(71) المناجاة بالإثم والعدوان:(3/226)
قال تعالى: ... {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة:8]
كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ يَهُودِ المَدِينَةِ مُوَادَعَةٌ، وَكَانَ اليَهُودُ إِذَا مَرَّ أَحَدٌ مِنَ المُسْلِمِينَ يَتَنَاجَوْنَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، حَتَّى لَيَظُنَّ المُؤْمِنُ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَتَنَاجَوْنَ بِقَتْلِهِ، أَوْ بِمَا يَكْرَهُ، فَإِذَا رَأَى المُؤْمِنُ ذَلِكَ خَشِيَهُمْ فَتَرَكَ طَرِيقَهُ عَلَيْهِمْ، فَنَهَاهُمُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ النَّجْوَى فَلَمْ يَنْتَهُوا، وَعَادُوا إِلى النَّجْوَى، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ يُبَيِّنُ لِرَسُولِهِ مَا يَتَنَاجَوْنَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ إِنَّهُمْ يَتنَاجَوْنَ بِمَا هُوَ إِثْمٌ فِي نَفْسِهِ، وَبِمَا هُوَ وَبَالٌ عَلَيْهِمْ، وَبِمَا هُوَ تَعَد عَلَى هُوَ تَعَد عَلَى المُؤْمِنينَ، وَتَوَاصٍ بِمُخَالَفَةِ النَّبِيِّ.
وَدَخَلَ نَفَرٌ مِنَ اليَهُودِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا القَاسِمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ: (وَعَلَيْكُمُ). وَكَانَ هَذَا النَّفَرُ مِنَ اليَهُودِ يَقْصدُ بِقَوْلِهِ هَذَا الإسَاءَةَ إِلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والدُّعَاءَ عَلَيهِ، فَفَضَحَهُمْ اللهُ، وَكَشَفَ أَسْتَارَهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ الكَرِيمِ، انَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَيُحَدِّثُونَ أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّ مُحَمَّداً لَوْ كَانَ نَبِيّاً حَقّاً لَعَذَّبَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا بِمَا يَقُولُونَ، لأَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ. وَرَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ: قَائِلاً إِنَّ جَهَنَّمَ كَافِيَةٌ لِعِقَابِهِمْ وَعَذَابِهِمْ، وَهِيَ بِئْسَ المَقَرُّ وَالمَصِيرُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ.(3/227)
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عائشة في الصحيحين) قالت: إن اليهود لما أتوا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا السامُ عليك فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: السامُ عليكم ولعنكم وغضب عليكم، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مهلاً يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف _أو الفحش _ قالت أولم تسمع ما قالوا؟ قال: أو لم تسمعي ما قلت، رددتُ عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجابُ لهم في.
(72) من فتن المؤمن عن دينه:
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10]
إِنَّ الذِينَ حَاوَلُوا فِتْنَةَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ عَنْ دِينِهِمْ، وَعَذَّبُوهُمْ لِيُجْبِرُوهُمْ عَلَى الارْتِدَادِ عَنِ الإِيْمَانِ، وَأَصَرُّوا عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الكُفْرِ وَالعِنَادِ والطُّغْيَانِ، وَلَمْ يَتُوبُوا مِنْ ذُنُوبِهِمْ حَتَّى أَدْرَكَهُمُ المَوْتُ، فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً فِي نَارِ جَهَنَّمَ جَزَاءً لَهُمْ.
(حديث صُهَيْبٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قَالَ: كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ، قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ، فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلاَمًا أُعَلِّمُهُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ لَهُ غُلاَمًا يُعَلِّمُهُ، فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ، فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلاَمَهُ وَأَعْجَبَهُ، فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ، وَإِذَا رَجَعَ مِنْ عِنْدِ السَّاحِرِ قَعَدَ إِلَى الرَّاهِبِ وَسَمِعَ كَلاَمَهُ، فَإِذَا أَتَى أَهْلَهُ ضَرَبُوهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ لَهُ: إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي، وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ. فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسْتِ النَّاسَ، فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ: الرَّاهِبُ أَفْضَلُ أَمِ السَّاحِرُ؟(3/228)
فَأَخَذَ حَجَرًا ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا، وَمَضَى النَّاسُ، فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: أَيْ بُنَيَّ، أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى، فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلاَ تَدُلَّ عَلَيَّ. فَكَانَ الْغُلاَمُ يُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ، وَيُدَاوِي سَائِرَ الأَدْوَاءِ. فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ، كَانَ قَدْ عَمِيَ، فَأَتَى الْغُلاَمَ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ، فَقَالَ: مَا هَاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي، قَالَ: إِنِّي لاَ أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ، إِنْ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ، فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ. فَأَتَى الْمَلِكَ يَمْشِي يَجْلِسُ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ، فَقَالَ الْمَلِكُ: فُلاَنُ مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ قَالَ: رَبِّي، قَالَ: وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ وَاحِدٌ. فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبْهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلاَمِ. فَجِيءَ بِالْغُلاَمِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: أَيْ بُنَيَّ، قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ؟ قَالَ: إِنِّي لاَ أَشْفِي أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ. فَأَخَذَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبْهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ.(3/229)
فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبِي، فَدَعَا بِالْمِنْشَارِ، فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشُقَّ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ. ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ، فَقِيلَ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبِي، فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ. ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلاَمِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبِي، فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ، وَإِلاَّ فَاطْرَحُوهُ. فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ. فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ، فَسَقَطُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ. فَدَفَعَهُ إِلَى قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ، فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ، فَوَسِّطُوا بِهِ الْبَحْرَ، فَلَجِّجُوا بِهِ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ، وَإِلاَّ فَاقْذِفُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ. فَانْكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ.، فَقَالَ لِلْمَلِكِ: وَإِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِكَ، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلاَمِ، ثُمَّ ارْمِنِي، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي. فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ صَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبِدِ قَوْسِهِ، ثُمَّ، قَالَ: بِسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلاَمِ، ثُمَّ رَمَاهُ، فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ، ثَلاَثًا.(3/230)
فَأُتِيَ الْمَلِكُ، فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ، قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ. فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ بِأَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ، وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ، فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا، فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا الْغُلاَمُ: يَا أُمَّهِ اصْبِرِي، فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ.
(73) من استحب الحياة الدنيا على الآخرة:
قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)} [البقرة/202:200]
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالمُؤْمِنِينَ بِالإِكْثَارِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ بَعْدَ قَضَاءِ المَنَاسِكِ وَالفَرَاغِ مِنْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ العَرَبَ فِي الجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَقِفُونَ فِي المَوْسِمِ فَيَقُولُ الرَّجُلُ مِنْهُمُ: كَانَ أَبِي يُطْعِمُ وَيَحْمِلُ الدِّيَاتِ. . . إِلخ لَيْسَ لَهُمْ هَمٌّ غَيْرُ ذِكْرِ فِعَالِ آبَائِهِمْ فَأَنْزَلَ اللهُ هذِهِ الآيَةَ، وَأَرْشَدَ المُسْلِمِينَ إِلَى دُعَائِهِ بَعْدَ ذِكْرِهِ كَثِيراً، لِمَا فِي ذلِكَ مِنْ مَظنَّةٍ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ وَذَمَّ اللهُ الذِينَ لا يَسْأَلُونَ إِلاَّ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْ أَمْرِ آخِرَتِِهِمْ، غَيْر مُهْتَمِّينَ بِهِ.(3/231)
وَإِلى جَانِبِ أُولَئِكَ المُهْتَمِّينَ بِأَمْرِ الدُّنْيا فَقَطْ، آخَرُون يَهْتَمُونَ بِأَمْرِ الآخِرَةِ إِلى جَانِبِ اهْتِمَامِهِمْ بِأَمْرِ الدُّنيا فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنيا حَسَنَةً (وَتَشْمَلُ كُلَّ مَطْلَبٍ دَنْيَويِّ) وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً (وَتَشْمَلُ دُخُولَ الجَنَّةِ وَالنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ)، وَهَذا يَقْتَضِي تَيْسِيرَ أَسْبَابِهِ فِي الدُّنْيا: مِنِ اجِتِنَابِ المَحَارِمِ وَالآثَامِ، وَتَرْكِ الشُّبُهَاتِ وَالمُحَرَّمَاتِ.
وَهؤلاءِ لَهُمْ نَصِيبٌ مَضْمُونٌ مِمَّا كَسَبُوهُ بِالطَّلَبِ وَالرُّكُونِ إِلَى اللهِ، لا يُبْطِئُ عَلَيْهِمْ، فَاللهُ تَعَالَى سَرِيعُ الحِسَابِ، وَهُوَ يَجْزِي كُلاً بِمَا يَسْتَحِقُّهُ.
(74) أبو لهب وزوجه:
قال تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)} [سورة المسد]
(حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) قال: لما نزلت: {وأنذر عشيرتك الأقربين}. صعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي، لبطون قريش، حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: (أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي). قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا، قال: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد). فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا، فنزلت: {تبت يدا أبي لهب وتب. ما أغنى عنه ماله وما كسب}.
وَمَعْنَى الآيَةِ: الخُسْرَانُ وَالهَلاَكُ وَالتَّبَاتُ لأَبِي لَهَبٍ (وَأَبُو لَهَبٍ عَمُّ الرَّسُولِ)، وَقَدْ نَسَبَ تَعَالَى الخُسْرَانَ وَالتَّبَابَ لِيَدَي أَبِي لَهَبٍ لأَنَّهُمَا أَدَاةُ العَمَلِ وَالبَطْشِ، وَقَدْ تَبَّ وَهََلَكَ. (فَالجُمْلَةُ الأُولى دُعَاءٌ، وَالجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ إِخْبَارٌ بِأَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ قَدْ تَحَقَّقَ، وَأَنَّ أَبَا لَهَبٍ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ).(3/232)
وَفِي الآخِرَةِ لاَ يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ وَلاَ عَمَلُهُ الذِي كَانَ يَقُومُ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ مُعَادَاةِ الرَّسُولِ وَإِيذَائِهِ. وَسَيَذُوقُ فِي الآخِرَةِ حَرَّ النَّارِ، وَسَيُعَذَّبُ فِي لَظَاهَا. وَسَتُعَذَّبُ فِي هَذِهِ النَّارِ أَيْضاً زَوْجَتُهُ لِسَعْيِهَا فِي الفِتْنَةِ والنَّمِيمَةِ لإِطْفَاءِ نُورِ الدَّعْوَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ، وَإِيذَاءِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالقَوْلِ وَالفِعْلِ. (وَامْرأَةُ أَبِي لَهَبٍ اسْمُهَا أَرْوَى بِنْتُ حَرْبٍ وَهِيَ أُخْتُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَتُكَنَّى بِأَمِّ جَمِيلٍ). وَفِي عُنُقِهَأ حَبْلٌ مِنْ لِيفٍ غَلِيظٌ أُحْكِمَ فَتْلُهُ، وَهِيَ تَرْبُطُ بِهِ حُزْمَةَ حَطَبٍ إِلَى جِيدِهَا مِثْلَ الحَطَّابَاتِ المُمْتَهِنَاتِ. وَقَدْ صَوَّرَهَا تَعَالَى بِهَذِهِ الصُّورَةِ المُزْرِيَةِ احْتِقَاراً لَهَا وَلَزِوْجِهَا.
(75) جحود نعم الله:
قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)} [إبراهيم/8،7]
وَاذْكُرُوا يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ آذَنَكُمْ رَبُّكُمْ، وَأَعْلَمَكُمْ بِوَعْدِهِ، فَقَالَ: لَئْنِ شَكَرْتُمْ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ مِنْهَا، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ النِّعَمَ وَسَتَرْتُمُوهَا وَجَحَدْتُمُوهَا، لأُعَاقِبَنَّكُمْ عِقَاباً شَدِيداً عَلَى كًفْرِهَا، وَلأَسْلُبَنَّكُمْ إِيَّاهَا. (وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ المَعْنَى لِعِبَارَةِ: " وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ " هُوَ: وَإِذْ أَقْسَمَ رَبُّكُمْ بِعِزَّتِهِ وَجَلاَلِهِ وَكِبْرِيَائِهِ).(3/233)
وَقَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ حِينَمَا عَانَدُوا وَجَحَدُوا: إِنْ كَفَرْتُمْ نِعَمَ اللهِ عَلَيْكُمْ، أَنْتُمْ وَجَمِيعُ مَنْ فِي الأَرْضِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً، وَإنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ شُكْرِ عِبَادِهِ لَهُ، وَهُوَ الحَمِيدُ المَحْمُودُ، وَإِنْ كَفَرَهُ مَنْ كَفَرَهُ، وَإِنَّكُمْ لاَ تَضُرُّونَ، بِالكُفْرِ وَالجُحُودِ، إِلاَّ أَنْفُسَكُمْ لأَنَّكُمْ تَحْرِمُونَهَا بِذَلِكَ مِنْ مَزِيدٍ مِنَ الإِنْعَامِ، وَتُعَرِّضُونَهَا لِعَذابِ اللهِ.
(76) الجدال في آيات الله بالباطل:
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)} [الحج/3 - 4]
ومن الكفار مَن يجادل بالباطل في الله وتوحيده واختياره رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنزاله القرآن، وذلك الجدال بغير علم، ولا بيان، ولا كتاب من الله فيه برهان وحجة واضحة، لاويًا عنقه في تكبر، معرضًا عن الحق؛ ليصد غيره عن الدخول في دين الله، فسوف يلقى خزيًا في الدنيا باندحاره وافتضاح أمره، ونحرقه يوم القيامة بالنار.
قضى الله وقدَّر على هذا الشيطان أنه يُضِل كل من اتبعه، ولا يهديه إلى الحق، بل يسوقه إلى عذاب جهنم الموقدة جزاء اتباعه إياه.
(77) الاستهزاء بآيات الله:
قال تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} [الأنعام: 70](3/234)
وَدَعْ أَيُّهَا الرَّسُولُ، أَنْتَ وَمَنْ تَبِعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، هَؤُلاءِ المُشْرِكِينَ، الذِينَ اتَّخَذُوا دِيْنَهُمْ لَعِباً وَسُخْرِيَةً وُهُزُواً، وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيا، وَلاَ تُبَالُوا بِتَكْذِيبِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ، وَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ، وَأَمْهِلُوهُمْ قَليلاً، فَإِنَّهُمْ صَائِرُونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ. وَذَكِّرُوا النَّاسَ دَائِماً بِهَذَا القُرْآنِ، وَحَذِّرُوهُمْ نِقَمَ اللهُ وَعَذَابَهُ الأَلِيمُ، لِكَيْلاَ تَفْتَضِحَ نَفْسٌ يَوْمَ القِيَامَةِ فَتَصِيرَ إلَى التَّهْلُكَةِ، وَتَكُونَ رَهْنَ العَذَابِ (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ)، بِسَبَبِ مَا اقْتَرَفَتْهُ مِنَ الأَعْمَالِ السَيِئَةِ، وَمَا اجْتَرَحَتْهُ مِنَ الذَّنُوبِ وَالخَطَايَا.
وَفِي ذَلِكَ اليَوْمِ لاَ يَكُونُ لِهَذِهِ النَّفْسُ المُذْنِبَةِ شَفِيعٌ وَلاَ وَلِيٌّ يَشْفَعُ لَهَا أَوْ يَنْصُرُهَا مِنْ دُونِ اللهِ، وَإِنَّها إذَا بَذَلَتْ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الفِدَاءِ (العَدْلِ)، لِتَنْجُوَ مِنَ العَذَابِ، فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهَا ذَلِكَ.
وَهَؤُلاَءِ الذِينَ افْتَضَحُوا، وَصَارُوا رَهْنَ العَذَابِ (أُبْسِلُوا) بِسَبَبِ مَا اجْتَرَحُوهُ مِنَ الذُّنُوبِ سَيَكُونُ شَرَابُهُمْ، يَوْمَ القِيَامَةِ، مِنْ مَاءٍ شَدِيدِ الحَرَارَةٍ (حَمِيمٍ)، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ.
(78) الذين يعبدون المسيح عليه السلام:(3/235)
قال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ ُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) [المائدة/72 - 76]
حَكَمَ اللهُ تَعَالَى بِتَكْفِيرِ الذِينَ أدَّعُوا أنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ. وَقَالَ اللهُ تَعَالَى إنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا ضَلاَلاً بَعِيداً، إذْ أَنَّهُمْ فِي إِطْرَائِهِمْ إيَّاهُ، وَمَدْحِهِ غَلَوا غُلُوّاً كَبِيراً، يَفُوقُ غُلُوَّ اليَهُودِ فِي تَكْذِيبِهِ وَالافْتِرَاءِ عَلَيهِ وَعَلَى أُمِّهِ، وَقَوْلِهِمْ عَلَيْهَا بُهْتَاناً عَظِيماً، مَعْ أنَّ المَسِيحَ قَالَ لَهُمْ غَيْرَ مَا يَقُولُونَ، فَقَدْ أمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، مُعْتَرِفاً بِأنَّهُ رَبُّهُ وَرَبُّهُمْ، وَأنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَأَوَّلُ كَلِمَةٍ نَطَقَ بِهَا المَسِيحُ وَهُوَ صَغِيرٌ فِي المَهْدِ قَوْلُهُ: (إنِّي عَبْدُ اللهِ).
وَيَقُولُ تَعَالَى: إنَّ المَسِيحَ قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إنَّ مَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ أَحَداً فِي أُلُوهِيَّتِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الجَنَّةَ، وَلَنْ يَجِدَ الظَّالِمُونَ نَصِيراً لَهُمْ وَلاَ مُعِيناً، وَلاَ مُنْقِذاً مِنْ عَذَابِ اللهِ الذِي سَيَصِيرُونَ إِلَيْهِ.(3/236)
يُؤَكِّدُ اللهُ تَعَالَى أنَّ الذِينَ قَالُوا إنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ هُمْ كُفَّارٌ، وَأنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ إلاَّ إلَه وَاحِدٌ، وَهُوَ رَبُّ جَمِيعِ الكَائِنَاتِ وَإلهُهَا. وَيَتَوعَدُ اللهُ القَائِلِينَ (إنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ مِنَ الأَقَانِيمِ)، وَيَتَهَدَّدُهُمْ بِأَنَّهُمْ إنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَهُ مِنَ الكَذِبِ وَالافْتِرَاءِ، لَيَمَسَّنَّ الذِينَ كَفُرُوا مِنْهُمْ، عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ.
(وَتَقُولُ فِئَةٌ مِنَ النَّصَارَى بِالأَقَانِيمِ الثَّلاَثَةِ، أقْنُومِ الأَبِ، وَأقْنُومِ الابْنِ، وَأقْنُومِ الكَلِمَةِ المُنْبَثِقَةِ مِنَ الأبِ إلى الابْنِ).
يَقُولُ تَعَالَى كَيْفَ يَسْمَعُ هَؤُلاَءِ مَا ذُكِرَ مِنَ التَّفْنِيدِ لأَقْوَالِهِمْ، وَالوَعِيدِ عَلَيْهَا، ثُمَّ لاَ يَحْمِلُهُمْ ذَلِكَ عَلَى التَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ إلَى التَّوْحِيدِ، وَعَلَى اسْتِغْفَارِ اللهِ عَمَّا فَرَّطَ مِنْهُمْ؟ ثُمَّ يَحُثُهُمْ تَعَالَى عَلَى طَلَبِ المَغْفِرَةِ مِنَ اللهِ لِيَتُوبَ عَلَيْهِم سُبْحَانَهُ، وَهُوَ الجَوَادُ الكَرِيمُ.
المَسيحُ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللهِ، أنْعَمَ اللهُ عَلَيهِ بِالرِّسَالَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْهُ رُسُلٌ مِنَ اللهِ، وَلَهُ أسْوَةٌ بِهِمْ. وَأمُّهُ مُؤْمِنَةٌ مٌصَدِّقَةٌ لَهُ (صِدِّيقَةٌ - وَهَذا أعْلَى مَقَامَاتِهَا فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أنَّها لَيْسَتْ نَبِيّةً)، وَكَانَ المَسِيحُ وَأمُّهُ يَحْتَاجَانِ إلى الطَّعَامِ وَالغِذاءِ، وَمَا يَسْتَتْبِعُ الطَّعَامَ وَالغِذَاءَ، فَهُمَا مَخْلُوقَانِ مِنَ البَشَرِ، وَلاَ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا إلهاً خَالِقاً، وَلاَ رَبّاً مَعْبُوداً. فَانْظُرْ يَا مُحَمَّدٌ كَيْفَ نُوَضِّحُ لَهُمُ الآيَاتِ وَنُظْهِرُهَا، ثُمَّ انْظُرْ، بَعْدَ ذَلِكَ التَّوْضِيحِ، أيْنَ يَذْهَبُونَ، وَبأيِّ قَوْلٍ يَتَمَسَّكُونَ، وَكَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنِ الحَقِّ؟(3/237)
يُنْكِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَى الذِينَ يَعْبُدُونَ الأَصْنَامَ وَالأنْدَادَ وَالأوْثَانَ وَالمَخْلُوقَاتِ، ضَلاَلَهُمْ وَكُفْرَهُمْ وَعِبَادَتَهُمْ مَا لاَ يَضُرُّ وَلاَ يَنْفَعُ، فَيَقُولُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لِهَؤُلاَءِ النَّصَارَى وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ عَبَدُوا غَيْرَ اللهِ: أَتَتْرُكُونَ عِبَادَةَ اللهِ الوَاحِدِ الأحَدِ، وَهُوَ القَوِيُّ القَادِرُ، الخَالِقُ السَّمِيعُ العَلِيمُ، وَتَعْبدُونَ مَا لا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ وَلاَ لِغَيْرِهِ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً؟ وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوزاً، مِنْ بَشَرٍ وَصَنَمٍ وَأنْدَادٍ؟
(79) المكذبون بالآيات والمستكبرون:
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) [الأعراف/40، 41]
وَالذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ تَكَبُّراً وَطُغْيَاناً، وَلَمْ يَتَّبِعُوا رُسُلَ اللهِ اسْتِكْبَاراًَ عَنِ التَّصْدِيقِ بِمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ، فَهَؤُلاَءِ لاَ تُفْتَحُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ لأَرْوَاحِهِمْ، وَلاَ يَرْفَعُ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ عَمَلٌ وَلاَ دُعَاءٌ، وَلاَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى يَدْخُلَ الحَبْلُ الغَلِيظُ (الجَمَلُ) فِي فَتْحَةِ الإِبْرَةِ الصَّغِيرَةِ (سَمِّ الخِيَاطِ). فَكَمَا أنَّ الحَبْلَ الغَلِيظَ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَمُرَّ فِي فَتْحَةِ الإِبْرَةِ الصَّغِيرَةِ، كَذَلِكَ لاَ يَدْخُلُ الكُفَّارُ الجَنَّةَ.
وَهَذَا جَزَاءٌ عَادِلٌ مِنَ اللهِ لِلْمُجْرِمِينَ عَلَى كُفْرِهِمْ، مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ، وَفِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.
وَلَهُمْ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ فُرُشٌ مِنْ تَحْتِهِمْ (مِهَادٌ)، وَلَهُمْ مِنْهَا أَغْطِيَةٌ مِنْ فَوْقِهِمْ تُغَطِّيهِمْ (غَوَاشٍ). وَبِمِثْلِ هَذَا الجَزَاءِ يَجْزِي اللهُ الظَّالِمِينَ لأَنْفُسِهِمْ، المُضِلِّينَ لِلْنَّاسِ.
(80) ترك الصلاة والزكاة وخوضهم في الباطل، وتكذيبهم بيوم الدين:(3/238)
• من صفات أهل النار ما ذكره الله بقوله قال تعالى: (كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة * إِلاّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنّا نَخُوضُ مَعَ الُخَآئِضِينَ * وَكُنّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدّينِ) [المدثر 38: 46]
فكان من أسباب دخولهم النار أنهم لا يصلون ولا يزكون، وخوضهم في الباطل، وتكذيبهم بيوم الجزاء يوم القيامة حتى ماتوا على هذه الحالة. نسأل الله العافية.
[*] • أورد ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه التخويف من النار عن ابن مسعود أنه لا يترك في النار غير هؤلاء الأربعة قال وليس فيهم من خير.
(81) ومن صفات أهل النار الطغيان وإيثار الحياة الدنيا وشهواتها:
قال تعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعات: الآية: 37 - 41)
فتبين بهذا أن صحة الجسد وقوته وكثرة المال والتنعم بشهوات الدنيا والتكبر والتعاظم على الخلق وهي صفات أهل النار.
وهي جماع الطغيان والبغي كما قال تعالى: (كَلاّ إِنّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىَ * أَن رّآهُ اسْتَغْنَىَ) [العلق 6، 7]
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(حجبت) وفي رواية القضاعي حفت
(النار بالشهوات) أي ما يستلذ من أمور الدنيا مما منع الشرع منه أصالة أو لاستلزامه ترك مأمور وألحق به الشبهات والإكثار من المباحات خوف الوقوع في محرم(3/239)
(وحجبت الجنة بالمكاره) أي بما أمر المكلف بمجاهدة نفسه فيه فعلاً وتركاً كالإتيان بالعبادة على وجهها والمحافظة عليها وتجنب المنهي قولاً وفعلاً وأطلق عليها مكاره لمشقتها وصعوبتها على العامل فلا يصل إلى النار إلا بتعاطي الشهوات ولا إلى الجنة إلا بارتكاب المشقات المعبر عنها بالمكروهات وهما محجوبتان فمن هتك الحجاب اقتحم.
{تنبيه}:• قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره) ذلك من التمثيل الحسن , إذ جعل الجنة والنار محجوبتان بالمكاره والشهوات ,فمن هتك الحجاب وصل إلى المحجوب ,فهتك حجاب الجنة باقتحام بالمكاره ـ وهى العبادات الشاقة على النفس ـ وهتك حجاب النار بارتكاب الشهوات المحرمة.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة فقال انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها قال فجاءها ونظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها قال فرجع إليه قال فوعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها فأمر بها فحفت بالمكاره فقال ارجع إليها فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها قال فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالمكاره فرجع إليه فقال وعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد قال اذهب إلى النار فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها فإذا هي يركب بعضها بعضا فرجع إليه فقال وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها فأمر بها فحفت بالشهوات فقال ارجع إليها فرجع إليها فقال وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها.
(82) ومن صفات أهل النار كل عتل جواظ جعظري مستكبر:
(حديث حارثة بن وهب رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ جعظري مستكبر.
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أهل النار كل جعظري جواظ مستكبر، جماع مناع، وأهل الجنة الضعفاء المغلوبون.
(العتل): الغليظ الجافي.
(الجواظ): الذي جمع ومنع،
(المستكبر): المتعاظم في نفسه، الذي يرد الحق، ويحتقر الناس كما في الحديث الآتي:(3/240)
(حديث ابن مسعود في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبر فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبُه حسنا و نعله حسنة قال: إن الله جميل يحب الجمال الكبر بَطَرُ الحقِ و غمطُ الناس.
بَطَرُ الحقِ: التكبر على الحق وعدم قبوله
غمطُ الناس: احتقارهم وازدرائهم
وقال تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر 60].
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمْ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الْخَبَالِ.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ) أَيْ فِي الصِّغَرِ وَالْحَقَارَةِ
(فِي صُوَرِ الرِّجَالِ) أَيْ مِنْ جِهَةِ وُجُوهِهِمْ. أَوْ مِنْ حَيْثِيَّةِ هَيْئَتِهِمْ مِنَ انْتِصَابِ الْقَامَةِ
(يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ) أَيْ يَأْتِيهِمْ
(مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) أَيْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْمَذَلَّةِ وَالنَّقِيصَةِ يَطَؤُهُمْ أَهْلُ الْحَشْرِ بِأَرْجُلِهِمْ مِنْ هَوَانِهِمْ عَلَى اللَّهِ. وَفِي النِّهَايَةِ: الذَّرُّ النَّمْلُ الْأَحْمَرُ الصَّغِيرُ وَاحِدُهَا ذَرَّةٌ
(يُسَاقُونَ) بِضَمِّ الْقَافِ أَيْ يُسْحَبُونَ وَيُجَرُّونَ
(إِلَى سِجْنٍ) أَيْ مَكَانِ حَبْسٍ مُظْلِمٍ مَضِيقٍ مُنْقَطِعٍ فِيهِ عَنْ غَيْرِهِ
(يُسَمَّى) أَيْ ذَلِكَ السِّجْنُ
(بَوْلَسَ) قَالَ فِي الْمَجْمَعِ: هُوَ بِفَتْحِ بَاءٍ وَسُكُونِ وَاوٍ وَفَتْحِ لَامٍ. وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ: بُولَسُ بِضَمِّ الْبَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ سِجْنُ جَهَنَّمَ وَقَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: هُوَ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَفَتْحِ اللَّامِ، انْتَهَى
(تَعْلُوهُمْ) أَيْ تُحِيطُ بِهِمْ وَتَغْشَاهُمْ كَالْمَاءِ يَعْلُو الْغَرِيقَ(3/241)
(نَارُ الْأَنْيَارِ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: لَمْ أَجِدْهُ مَشْرُوحًا وَلَكِنْ هَكَذَا يُرْوَى، فَإِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ نَارُ النِّيرَانِ، فَجَمَعَ النَّارَ عَلَى أَنْيَارٍ وَأَصْلُهَا أَنْوَارٍ لِأَنَّهَا مِنَ الْوَاوِ كَمَا جَاءَ فِي رِيحٍ وَعِيدٍ أَرْيَاحٌ وَأَعْيَادٌ وَهُمَا مِنَ الْوَاوِ، انْتَهَى.
{تنبيه}:• إن عقوبة التكبر الهوان والذل كما قال تعالى: (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ) [الأحقاف: 20]
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى: العزُ إزاري والكبرياءُ ردائي فمن نازعني عذبته.
(حديث أبي هريرة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: تحاجت النار و الجنة فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين و المتجبرين و قالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس و سقطهم؟ فقال الله عز و جل للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي و قال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي و لكل منكما ملؤها فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله قدمه عليها فتقول: قطٍ قط فهنالك تمتلئ و ينزوي بعضها إلى بعض فلا يظلم الله من خلقه أحدا و أما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا.
وقد تبين من الأحاديث الواردة في هذا الباب أن صحة الجسد وقوته، وكثرة المال والتنعم بشهوات الدنيا، والتكبر والتعاظم على الخلق- هي من صفات أهل النار.
(83) ومن صفاتهم الضعيف الذي لا زبر له والخائن والمخادع الكذب والبخل والشنظير:
(حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: وأهل النار خمسة الضعيف الذي لا زبر له الذين هم فيكم تبعا لا يبتغون أهلا ولا مالا والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك وذكر البخل أو الكذب والشنظير الفحاش.
الضعيف الذي لا زبر له: أي لا قوة له ولا حرص على ما ينفعه.(3/242)
الخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق، إلا خانه ويدخل في ذلك التطفيف في المكيال والميزان، وكذلك الخيانة في الأمانات، ويدخل في ذلك من خان الله ورسوله بارتكاب المحارم سراً مع إظهار اجتنابها.
المخادع الذي دأبه مخادعة الناس صباحاً ومساءً، مخادعة الناس على أهليهم وأموالهم، والخداع من أوصاف المنافقين، ومعناه إظهار الخير وإضمار الشر بقصد التوصل إلى أموال الناس وأهليهم والانتفاع بذلك، وهو من جملة المكر والحيل المحرمة، وفي الحديث: "من غشنا فليس منا والمكر والخداع في النار".
الكذب والبخل، وكلاهما ينشأ عن الشح وهو شدة حرص الإنسان على ما ليس له من الوجوه المحرمة، وينشأ عنه البخل وهو إمساك الإنسان ما في يده والامتناع عن إخراجه في وجوهه التي أمر بها، وهذا الصنف هو البخيل. فالشحيح أخذ المال بغير حقه والبخيل منعه من حقه.
الشنظير وفسر بالسيء الخلق والفاحش، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عائشة في الصحيحين) قالت استأذن رجل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال ائذنوا له بئس أخو العشيرة أو بن العشيرة فلما دخل ألان له الكلام قلت يا رسول الله قلت الذي قلت ثم ألنت له الكلام قال أي عائشة إن شر الناس من تركه الناس أو ودعه الناس اتقاء فحشه.
فالفاحش هو الذي يفحش في منطقه، ويستقبل الرجال بقبيح الكلام من السب ونحوه.
• أول من يدخل النار من عصاة الموحدين:(3/243)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار.
• أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم و كل أمة جاثية فأول من يدعو به رجل جمع القرآن و رجل قتل في سبيل الله و رجل كثير المال فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي قال: بلى يا رب قال: فماذا عملت بما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل و آناء النهار فيقول الله له: كذبت و تقول له الملائكة: كذبت و يقول الله له: بل أردت أن يقال فلان قارئ فقد قيل ذلك ; و يؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم و أتصدق فيقول الله له: كذبت و تقول الملائكة: كذبت و يقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جواد فقد قيل ذلك: و يؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله: في ماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول الله له: كذبت و تقول له الملائكة: كذبت و يقول الله: بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذلك ; يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة.(3/244)
{تنبيه}:• وقد جمع بين هذا الحديث وبين ما قبله بأن هؤلاء الثلاثة أول من تسعر بهم النار وأولئك الثلاثة أول من يدخل النار وتسعير النار أخص من دخولها، فإن تسعيرها يقتضي تسعرها وإيقادها وهذا قدر زائد على مجرد دخولها. نعوذ بالله منها، وقد ورد أن فسقة القراء يبدأ بهم قبل المشركين.
• أعمال أهل الجنة وأعمال أهل النار:
سئل شيخ الإسلام (ابن تيمية رحمه الله) ما عمل أهل الجنة؟ وما عمل أهل النار؟
فأجاب - الحمد لله رب العالمين: عمل أهل الجنة الإيمان والتقوى، وعمل أهل النار الكفر والفسوق والعصيان. فأعمال أهل الجنة الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، والشهادتان: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت. وأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. ومن أعمال أهل الجنة صدق الحديث، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجار، واليتيم والمسكين والمملوك من الآدميين والبهائم. ومن أعمال أهل الجنة الإخلاص لله والتوكل عليه، والمحبة له ولرسوله، وخشية الله ورجاء رحمته، والإنابة إليه والصبر على حكمه والشكر لنعمه. ومن أعمال أهل الجنة قراءة القرآن، وذكر الله ودعاؤه ومسألته والرغبة إليه، ومن أعمال أهل الجنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله للكفار والمنافقين.
ومن أعمال أهل الجنة أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك، فإن الله أعد الجنة للمتقين {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران 134]. ومن أعمال أهل الجنة العدل في جميع الأمور وعلى جميع الخلق حتى الكفار، وأمثال هذه الأعمال.(3/245)
وأما عمل أهل النار فمثل الإشراك بالله، والتكذيب بالرسل، والكفر والحسد والكذب الخيانة، والظلم والفواحش والغدر وقطيعة الرحم، والجبن عن الجهاد والبخل واختلاف السر والعلانية، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، والجزع عند المصائب، والفخر والبطر عند النعم، وترك فرائض الله، واعتداء حدوده، وانتهاك حرماته، وخوف المخلوق دون الخالق، ورجاء المخلوق دون الخالق، والتوكل على المخلوقين دون الخالق، والعمل رياء، وسمعة ومخالفة الكتاب والسنة، وطاعة المخلوق في معصية الخالق، والتعصب بالباطل، والاستهزاء بآيات الله، وجحد الحق، والكتمان لما يجب إظهاره من علم وشهادة. ومن عمل أهل النار السحر، وعقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرم الله بغير الحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرار من الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات.
وتفصيل الجملتين لا يمكن، لكن أعمال أهل الجنة كلها تدخل في طاعة الله ورسوله، وأعمال أهل النار كلها تدخل في معصية الله ورسوله {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء 13 – 14]. والله أعلم - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ج10 ص422.
• أنقذوا أنفسكم من النار:
إلى كل مؤمن بالله واليوم الآخر، إلى من يعلم أن الله يراه ويسمعه ويعلم سره وعلنه، إلى من يرجو الثواب ويخاف العقاب، إلى من يحب سعادة نفسه ونجاتها، أدعوك أخي الحبيب إلى أن تنقذ نفسك من النار تأسياً بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) قال: لما أنزلت هذه الآية! < وأنذر عشيرتك الأقربين >! دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قريشا فاجتمعوا فعم وخص فقال يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها.(3/246)
أدعوك ونفسي إلى امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، وإلى قراءة القرآن الكريم وتدبره والعمل به، وإلى العمل بسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، لتفوز بالسعادة الأبدية وتسلم من الشقاء الأبدي، والعذاب الشديد السرمدي. لو كنت مريضا وأتيت طبيبا ونصحك بترك ألذ الشهوات، وخوفك على تناولها الموت!! أو زيادة المرض لامتنعت عنها وأنفت منها، محافظة على صحتك وحياتك، أفكان الطبيب عندك أصدق من الله تعالى؟؟ أم كان المرض أشد عليك من النار؟ ألست تتقي برد الشتاء وحر الصيف؟ فنار جهنم أشد حرًّا وأبقى عذابًا: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة 81]، ومن دخلها لا يموت فيها ولا يحيى ولا يفتر عنه العذاب ساعة ولا يرجو فرجا ولا مخرجا، خالدين فيها أبدا .. فهل آمنت بالله حق الإيمان فرجوت ثوابه، وخفت عقابه وعملت أعمالا صالحة لتنجو؟ أم فيك صبر وجلد على النار؟ أم أنت ممن يكذب بيوم الدين؟ فاتق الله -يا أخي المسلم- وأنقذ نفسك من النار بفعل الواجبات وترك المحرمات، أنقذ نفسك من النار بإخلاص العبادة لله أنقذ نفسك من النار بالمحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها مع الجماعة في المساجد، فقد علمت أن أمر الصلاة عظيم وشأنها جسيم، وعرفت فضل المحافظة عليها وعقوبة المتهاون بها، فهي أول ما فرض الله على عباده من العبادات العملية، وهي أول ما يسأل عنه العبد من عمله يوم القيامة، فإن صلحت فقد أفلح ونجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر. فاحذر أن تترك الصلاة متعمدا فتكون من الخاسرين فهي عماد الدين والفارقة بين الإسلام والكفر، وقد علمت أن الله فرض خمس صلوات في كل يوم وليلة، على كل مسلم بالغ عاقل. غير المرأة الحائض والنفساء - فرضها على كل حال: في الصحة والمرض والإقامة والسفر والأمن والخوف على قدر الاستطاعة، وجعلها مكفرة للذنوب والآثام وناهية عن الفحشاء والمنكر -لمن حافظ عليها وأعطاها حقها- وجعل الله المحافظة عليها من أسباب دخول الجنة قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج 34– 35]، وتركها من أسباب دخول النار كما قال تعالى عن المجرمين أنهم إذا سئلوا {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر 42– 43]،(3/247)
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة.
(حديث بريدة الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجه) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر.
(حديث بريدة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله.
(حديث معاذ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من ترك الصلاة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله".
والتوبة معروضة بعد فمن تاب، تاب الله عليه، وغفر له، ورحمه، وأبدله بسيئاته حسنات، ولا تجوز صلاة الرجل إلا في المسجد لغير عذر شرعي: كخوف أو مرض، أو مطر أو سفر.
يا أخي المسلم: أنقذ نفسك من النار بأداء زكاة مالك، طيبة بها نفسك، قبل أن يكون عذابا عليك وقبل أن يكون مالك ثعبانا يطوقك في قبرك، ويوم حشرك، وقبل أن يحمى على هذه الأموال في نار جهنم فيكوى بها جنبك وكبينك وظهرك كما أخبر بذلك الصادق المصدوق في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما من صاحب ذهبٍ ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صُفًّحت له صفائحُ من نارٍ فأحميَ عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهُرهُ كلما بَردَتْ أعيدتْ له، في يومٍٍِ كان مقداره خمسين ألف َسنة حتى يقضى بين العباد فيُرى سبيلُهُ إما إلى الجنة وإما إلى النار.
أنقذ نفسك من النار بالمحافظة على صيام رمضان، واحذر أن تفطر يوما من رمضان من غير عذر فإنه كبيرة من كبائر الذنوب .. اعمل كل هذا من قبل أن تسأل الرجعة عند الموت لكي تصلي وتصوم وتزكي وتعمل صالحا فلا يجاب سؤالك {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون 11].(3/248)
احذر أن تؤخر حج الفريضة ـ مع القدرة ـ فتموت عاصيا قبل أن تحج، أنقذ نفسك من النار ببر الوالدين وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجيران، وعدم أذيتهم، واحذر ظلم الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فإن ذلك من أشد المحرمات .. واحذر أن تأكل ما حرم الله أو تتناوله على أي وجه كان، فأي لحم نبت من سحت فالنار أولى به. احذر أن تحل ما حرم الله، وقد أوجب الله عليك طاعته وحرم عليك مخالفته، واحذر أن تخالف سنة نبيك ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقول أو فعل، وكما أوجب الله عز وجل الطاعة لنفسه فقد أوجب الطاعة لنبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولك فيه أسوة حسنة. احذر المعاملة بالربا فإنها محاربة لله ومن حارب الله فهو مهزوم! احذر الاستهزاء بشيء فيه ذكر الله أو القرآن، أو الرسول فإنه كفر. احذر أن تؤخر التوبة فتموت فجأة قبل أن تتوب نادما مع الخاسرين، واعلم يا أخي أن حياتك محدودة، وأنفاسك معدودة، فلا تضيعها بغير عمل، ولا تفرط بساعات عمرك الذاهب بغير عوض، واغتنم شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل مرضك، وحياتك قبل موتك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، ولا تغتر بما أعطاك ربك من مال وولد وصحة وعافية، واستعن بها على طاعته فإنك سوف تفارقها أو تفارقك عن قريب.
قال الشاعر:
وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولابد يوما أن ترد الودائع
وقال آخر:
ولن يصحب الإنسان من بعد موته ... إلى قبره إلا الذي كان يعمل
ألا إنما الإنسان ضيف لأهله ... يقيم قليلا عندهم ثم يرحل
وليس أحد يموت إلا ندم: إن كان محسنا ندم أن لا يكون ازداد إحسانا، وإن كان مسيئا ندم أن لا يكون تاب. وإذا مت فدفنت في قبرك فسوف تجده روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ـ أعاذك الله منها ـ فإن كان عملك صالحا لم تستأنس إلا به، وإن كان فاسدا لم تستوحش إلا منه.
وإذا بعثت من قبرك للحساب والجزاء فسوف تبعث فردا حافيا عاريا ليس معك سوى عملك يقودك إلى الجنة، أو إلى النار، أعاذك الله منها.(3/249)
فتب إلى ربك ما دمت في زمن الإمكان، واستعد للقدوم على ربك بصالح الأعمال. قال تعالى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور 63]. {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور 31]. {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة 281].
اللهم تب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم وفقنا للعمل بما يرضيك وجنبنا معاصيك. آمين يا رب العالمين، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، يا مالك الملك يا قادرا على كل شيء، يا مجيب دعوة المضطر إذا دعاك.
باب معرفة حقيقة الدنيا:
[*] • عناصر الباب:
• حقيقة الدنيا:
• التحذير من الافتتان بالدنيا والركون إليها:
• ذم الدنيا:
• أمرُ الدّنيا في جنب الآخرة قليل:
• الدنيا عمرها قد قارب على الانتهاء:
• زوال الدنيا:
• تحول حال الدنيا:
• والآخرة هي الباقية، وهى دار القرار:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
• حقيقة الدنيا:
• الدنيا دار سفر لا دار إقامة ودار ممرّ لا دار مقرّ، و دار عبور لا دار سرور، وأنت في الدنيا عُرْضَةُ الأَسْقَامِ وَرَهِينَةُ الأيامِ وأَسِير الْمَنَايَا وَقَرِينُ الرَّزَايَا وَصَرِيعُ الشَّهَوَاتِ وَنُصُب الآفاتِ وَخَلِيفَةُ الأَمْوَاتِ، لا يحرص على الدنيا لبيب، ولا يُسَرُّ بها أريب، وهو على ثقة من فنائها، وغير طامع في بقائها، فكيف تنام عينُ من يخشى البيات وكيف تسكن نفس من تَوَقَّعَ في جميع أموره الممات.
• الدنيا دار كدر بذلك جرى القدر، فإن صفا عيش لحظةً ندر، ثم عاد التخليط فبدر، الورود فيها كالصدر، ودم قتيلها هدر، بلاؤها متتابع متواصل، وسيفها إذا ضربت سيف فاصل، وحرصها على الحقيقة مفاصل، وخيرها مظنون وشرها حاصل.
- واعلم أن الدُّنْيَا خُلِقَت لِتَجُوزَهَا لا لِتَحُوزَهَا، ولِتَعْبُرَها لا لِتَعْمُرها فاقْتُلْ هَوَاكَ الْمَائِلَ إِلَيْهَا ولا تُعَوّلْ عَلَيهَا، واعْلَمْ أَنَّ الدُنْيَا مَزْرعةُ النَّوائِبِ ومَشْرَعَةُ المَصَائِبِ ومُفَرّقَةُ المَجَامِعِ ومُجْرِيَةُ المَدَامِعْ.(3/250)
فلا تَغُرَّنكم الحياة الدنيا فإنها دارٌ بِالبَلاءِ مَحْفُوفَة، وَبِالفَنَاءِ مَعْرُوفَة، وَبِالغَدْرِ مَوْصُوفَة، وَكُلُّ مَا فِيهَا إِلَى زَوَالٍ وَهِيَ بَيْنَ أَهْلِهَا دُوَلٌ وَسِجَال.
• لا تَدُومُ أَحْوَالُهَا، وَلا تَسْلَمُ مِنْ شَرِّهَا نُزَّالُهَا، بَيْنَا أَهْلُهَا فِي صَفِاءٍ وَرَخَاءِ إِذَا هُمْ مِنْهَا في كدرٍ و بَلاءٍ، وبينا هم في َسُرُورٍ وَحَبُور إِذَا هُمْ مِنْهَا فِي نَكَدٍ وَغُرُور، العَيْشُ فِيهَا مَذْمُوم وعِزُها لا يَدُوم وفناؤها محتوم.
• بَقَاؤُهَا قَلِيلٌ، وَعَزِيزُهَا ذَلِيل وَغَنِّيها فَقِير، َحَيُّهَا يَمُوت وودُّها يفوت، فلا يغرنَّك إِقْبَالُهَا فسريعٌ إِدْبَارِهَا.
• الدنيا أَولها عناءٌ وأخرها فناء 0 حلالها حسابٌ وحرامها عقابٌ.
• جمةُ المصائب رتقةُ المشارب لا تفي لصاحب 0
• الدنيا ظل زائل وخيال حائل، وركن مائل ورفيق خاذل، ومسئول باخل وغول غائل، وسم قاتل، كم تعد الدنيا وتماطل، كل وعودها غرور باطل والله ما فرح بها عاقل، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيرًا وإن سرت يومًا أساءت دهرًا، جمعها على انصداع ووصلها على انقطاع، لا تصفو لشارب ولا تبقي لصاحب.
• وَمِقْدارُ اللُّبثِ في الدنيا قَلِيل، والحبسُ في القُبور طَوِيل، والعذابُ على مُوافَقَة الهَوى وبيل.
فأينَ لَذّةُ أَمْس؟! رَحَلَتْ وأَبْقَتْ نَدَمًا، وأينَ شَهْوةُ النفسِ؟ كم نَكَّسَتْ رَأْسًا، وَزَلَّتْ قَدَمًا، وما سَعِدَ مَن سَعِدَ إلا بِخِلاف هَواهُ، ولا شَقِيَ مَن شَقِيَ إلا بإيثار دُنياه، أهلها كلاب عاوية وسباع ضارية، يهر بعضها بَعْضًا، ويأكل عزيزها ذليلها، ويقهر كبيرها صغيرها.
• فانظر إليها بعين الحقيقة فإنها دار كثير بوائقها وذمها خالقها، وهي دار نفاد لا دار إخلاد ودار عبور لا دار حبور ودار فناء لا بقاء ودار انصرام لا دار دوام، جديدها يبلى وملكها يفنى وعزيزها يذل وكثيرها يقل ودها يموت وخيرها يفوت.
• إقبالها خديعة وإدبارها فجيعة لا تدوم أحوالها ولا يسلم نزالها، حالها انتقال وسكونها زوال، غَرَّارَةٌ خَدُوع مُعْطِيَةٌ مَنُوع نزوع، ويكفي في هوانها على الله أن الله تعالى لا يعصى إلا فيها ولا ينال ما عنده إلا بتركها.(3/251)
• الدنيا سموم قاتلة، والنفوس عن مكائدها غافلة، كم من نظرة تحلو في العاجلة، ومرارتها لا تطاق في الآجلة. يا ابن آدم، قلبك قلب ضعيف، ورأيك في إطلاق الطرف وهم سخيف. عينك مطلوقة، ولسانك يجني الآثام، وجسدك يتعب في كسب الحطام، كم من نظرة محتقرة زلت بها الأقدام.
• كيف أمنت هذه الحالة؟!، وأنت صائر إليها لا محالة، أم كيف ضيعت حياتك وهى مطيتك إلى مماتك، أم كيف تهنأ بالشهوات، وهى مطية الآفات.
• عباد الله إن من نظر إلى الدُّنْيَا بعين البصيرة أيقن أن نعيمها ابتلاء، وحياتها عناء، وعيشها نكد وصفوها كدر، وأهلها مَنْهَا على وجل إما بنعمة زائلة، أَوْ بلية نازلة أَوْ مَنيَّة قاضية.
• مسكين من اطمأن ورضي بدارٍ حلالها حساب، وحرامها عقاب، إن أخذه من حلال حوسب عَلَيْهِ، وإن أخذه من حرام عذب به، من استغنى فِي الدُّنْيَا فتن، ومن افتقر فيها حزن، من أحبها أذلته، ومن التفت إليها ونظرها أعمته.
• كَيْفَ يطمعُ عاقِلٌ في الإقامة بدار الرحيل، كيف يَضحَك من هو مَحْفُوفَ بمُوجبات البُكاء والعَويل، أسْمَعَنا النَّاصِحُ فَتَصَامَمْنَا، وَأيْقَظَتْنَا الغيَر فَتَنَاومْنَا، وَرَضِينَا بَالْحَياةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخرِة، واشْتَرَيْنَا مَا يَفْنَى بِمَا يَبْقَى فَتِلْكَ إِذًا صفقَةٌ خَاسِرَة.
• أَيْنَ الآذَانُ الْواعِية، أيْنَ الأعْيُنُ البَاكِية، قَوْلٌ بلا فِعَال وأمْرٌ بلا امتثال، رُسُلُ مَلَكِ الموت في كُل نَفَس تَدْنُوا إلى أنْفُسِنَا وأجْسَادُ أَحِبَّتِنَا تحتَ أطباق الثرى هَامدة.
• عجباً لمؤثر الفانية على الباقية، و لبائع البحر الخضم بساقية، و لمختار دار الكدر على الصافية، و لمقدم حب الأمراض على العافية.
- وتأمل في قول الخليفة الراشد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الذي وعى حقيقة الدنيا، تأمله بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.(3/252)
[*] قَالَ عَلِيّ رَضيَ اللهُ عَنْهُ لِعَمَّارٍ عَلاَمَ تَتَأَوَّهُ؟ إن ْكَانَ عَلَى الدُّنْيَا فَقَدْ خَسِرَتْ صَفْقَتُكَ، وإنْ كانَ علَى الآخِرَةِ فَقَدْ رَبِحَتْ تِجَارَتُكَ، يَا عَمَّارُ إنَّيْ وَجَدْتُ لَذّاتِ الدُّنْيَا في أَحْقَرِ الأشْيَاءِ الطَّعَامِ وَأَفْضَلُهُ العَسَلُ وَهُوَ مِنْ حَشَرَةِ، المَشْرُوْبَاتِ وَأَفْضَلْهَا سَائِرَةٌ في الهَوَاءِ، المَلْبُوْسَاتُ وَأَفْضلُهَا الحَرِيْرُ وَهُوَ مِنْ دُوْدِ القَزِّ، المَشْمُوْمَاتُ وَأَفْضَلُهَا المِسْكُ وَهُوَ مِنْ فَأرَةٍ، المَسْمُوْعَاتُ وَهِيَ أعْرَاضٌ سَائِرَةٌ في الهَوَاءِ، النِّكَاحُ وَهُوَ مَبَالٌ في مَبَالٍ وَحَسْبُكَ أَنَّ المَرْأةَ تَتَزَيَّا بأَقْبَحِ شَئٍ فِيْهَا: هَذِهِ العِظَةُ تَكْشِفُ لَنَا عَنْ هَوَانِ الدُّنْيَا عَلَى اللهِ حَيْثُ جَعَلَ لَذَّاتِهَا في أحْقَرِ الأَشياء والله أعلم
• فلا تَغُرنّكُم الحَياةُ الدنيا فإنها داٌر بالبلاء مَحفُوفةٌ، وبالفناء معروفة، وبِالغَدر مَوْصُوفَةٌ، كُلُ ما فيها زَوال وهي بينَ أهلِها دُوَلٌ وسِجَال، لا تَدُومُ أهوالُها، ولن يَسْلَمَ مِن شرِها نُزَّالهُا، بينا أهلِها منها في رَخَاءٍ وسُرور، إِذا هم مِنها في بلاء وغُرُور، أَحْوَالٌ مُخْتَلِفة، وتاراتٌ مُتَصَرّفَةٌ.
• العيشُ فيها مَذْمُوم، والرخاءُ فيها لا يَدُوم، وإنما أهلهُا فيها أغراضٌ مُسْتَهْدفَة تَرْمِيهم بسهامِها، وتقصِمُهم بِحِمامِها، حتفُه فيها مَقْدُور وحظُّه فيها مَوْفُور.
واعلموا عِبَادَ اللهِ أن ما أنتم فيه مِن زهرةِ الدُنيا على سبيل مَن قد مَضَى مِمَّنْ كان أطولَ منكم أعماراً، وأَشَدَّ مِنكم بَطْشاً، وأَعمَرَ دِياراً، وأبعدَ آثاراً.
فأصْبَحَتْ أموالُهم هامِدَةً مِن بعدِ نُقْلَتِهِم، وأَجْسَادُهُم بالِية وَدِيارُهُم خَالِية، وآثارُهُم عافِية،
فاستبدلُوا بالقُصور الْمُشَيَّدَةِ والنمارِقِ الْمُمَّهَدَةِ الصُّخُورَ والأحجارَ في القُبور التي قَدْ بُنيَ على الخراب فِناؤُهَا، وشُيِّدَ بالتراب بِنَاؤُهَا.
فَمَحَلُّهَا مُقْتَرب، وساكنها مُغْتَرب، بينَ أَهْلَ عِمَارَةٍ مُوْحِشِين، وأَهْلِ مَحَلَّةٍ مُتَشَاغِلِين، لا يَسْتأْنِسُونَ بالعُمْران، ولا يَتَواصَلُون تَواصُلَ الجِيران والإِخوان، على مَا بينهُم مِن قُرْبِ الجِوار، ودُّنُوّ الدار.(3/253)
وكَيْفَ يكونُ بَيْنَهُم تَواصُلٌ وقد طَحَنَهُم بِكَلْكَلِةِ البِلَى وأَظَلَّتْهُمُ الجَنَادِلُ والثرَّى، فَأَصْبَحُوا بعد الحياة أَمْوَاتاً، وبَعْدَ غَضَارَةِ العَيشِ رُفَاتاً.
فُجِعَ بِهِم الأَحْبَاب، وسَكَنُوا التُراب، وظَعَنُوا فليسَ لهم إِياب، هَيْهَاتَ هَيْهاتَ، {كَلاّ إِنّها كَلمةٌ هو قائلها ومنِ وَرَائِهمْ بَرزَخٌ إلى يومِ يُبْعَثُون} [المؤمنون: 100]
وكأن قد صِرْتُم إلى مَا صَارُوا إِليه مِن البِلى، والوَحْدَةِ في دَارِ المَثْوَى، وارْتُهِنْتم في ذلك المَضْجَع، وضَمَّكُم ذلك الْمُسْتَودَع.
• فكيف بكم لو قَدْ تَنَاهَت الأُمُور، وبُعثِرتِ القُبور، وحُصّلَ ما في الصُدور، وَوَقَفْتُم لِلَّتحْصِيل، بين يَدَي الملِكِ الجَليلِ.
فَطَارَتِ القُلُُُوبِ، لإِشْفَاقِها مِن سَالفِ الذُنُوبِ، وهُتَكَتْ عَنكُم الحُجُب و الأَسْتَار، وظَهَرتْ مِنكم العُيوبُ والأَسْرَار.
هُنَالِكَ {تُجْزى كلُّ نَفْسٍ بِما كسَبتْ} [غافر: 17] ألم تسمع قول الله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: 31]
وقال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَي الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا). [الكهف: 49]
فِي صَلاتِهِمْ وَصِيَامِهِمْ وَنِكَاحِهِمْ وَمُكْثِهِمْ فِي الأَمْلاكِ الْمَسْكُونَة قَهْرًا وَغَضْبًا؟ أَيْنَ الْمُتَفَقِّدُونَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ الذِينَ لَيْسَ لَهُم مَوَارِدٌ؟(3/254)
عَثَرَتْ واللهِ بِهِمْ العَوَاثِرُ وَأَبَادَتْهُمْ السِّنِينُ الغَوَابِرُ، وَبَتَرَتْ أَعْمَارُهُم الحَادِثَاتُ البَوَاتِرُ وَاخْتَطَفَهَمُ عَقَبَاتٌ كَوَاسِر، وَخَلَتْ مِنْهُمْ الْمَشَاهِدُ وَالْمَحَاضِرُ وَعُدِمَتْ مِنْ أَجْسَادِهِمْ تِلْكَ الجَوَاهِرُ وَطَفِئَتْ مِنْ وُجُوهِهِمْ الأَنْوَارُ الزَّوَاهِرُ وَابْتَلَعَتْهُمْ الحُفَرُ وَالْمَقَابِرُ إِلي يَوْمِ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَلَوْ كُشِفَتْ عَنْهُمْ أَغْطِيَةُ القُبُورِ بَعْدَ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلاثِ لَيَالٍ لَرَأَيْتَ الأَحْدَاقَ عَلَى الخُدُودِ سَائِلَةٌ وَالأوْصَال بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ مَائِلَةٌ وَدِيدَانَ الأَرْضِ فِي نَوَاعِمِ تَلْكَ الأَبْدَانِ جَائِلَةٌ وَالرُّؤُوسَ الْمُوَسَّدَةُ عَلَى الإِيمَانِ زَائِلَةً يُنْكِرُهَا مَنْ كَانَ عَارِفًا بِهَا وَيَنْفُرُ عَنْهَا مَنْ لَمْ يَزَلْ آلِفًا بِهَا، فَلا يُعْرَفُ السَّيدُ مِنْ الْمَسُودِ وَلا الْمَلِكُ مِنْ الْمَمْلُوكِ وَلا الذَّكِيُّ مِنْ البَلِيدِ وَلا الغَنيُّ مِنْ الفَقِيرِ فَرَحِمَ اللهُ عَبْدًا بَادَرَ بالإقْلاعِ عَنْ السَّيِّئَاتِ وَوَاصَلَ الإِسْرَاعَ وَالْمُبَادَرَةَ فِي الأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ قَبْلَ انْقِطَاعِ مُدَدِ الأَوْقَاتِ وَطَيِّ صَحَائِفِ الْمُسْتَوْدَعَاتِ وَنَشْرِ فَضَائِحِ الاقْتِرَافَاتِ وَالجِنَايَاتِ فَلا تَغْتَرُّوا بِحَيَاةٍ تَقُودُ إلى الْمَمَاتِ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّمَا تُوْعَدُونَ لآتٍ فَالبِدَارَ الْبِدَارَ قَبْلَ أَنْ تَتَمَنَّوا الْمُهْلَةَ وَهَيْهَاتَ.
• التحذير من الافتتان بالدنيا والركون إليها:(3/255)
• يا أَيُّهَا النَّاس إِنَّ هَذِهِ الدَّارَ دَارُ التواء لا دَارُ استواء، ومَنزل تَرَح، لا منزل فَرَح، مَنْ عَرَفَهَا لَمْ يَفْرَحِ لِرَخَاءٍ، وَلَمْ يحزَن لشقاء أَلا وَإِنَّ الله عَزَّ وجل خلَقَ َالدُّنْيَا دَارَ بَلْوَى، والآخرةَ دَارِ عُقْبَى فجعلَ بَلْوَى الدُّنْيَا لِثوابِ الآخرةِ سَبَبًا وَثَوَابَ الآخرة مِنْ بَلْوَى الدُّنْيَا عِوَضًا، فيأخذ لِيُعْطي، وَيُبْتَلى لِيَجْزي، إِنَّهَا لَسَرِيعَةُ الذَّهَابِ، وَشِيكَةُ الانْقِلاب، فاحْذَرُوا حَلاوَةَ رِضَاعِهَا لِمَرَارَةِ فِطَامِهَا، وَاهْجُرُوا لَذِيذَ عَاجِلِها لِكَرِيهِ آجِلِهَا وَلا تَسْعَوا فِي عُمْرَانِ دَارٍ قَدْ قَضَى الله خَرَابَها وَلا تُوَاصِلُوهَا، وَقَدْ أَرَادَ الله مِنْكُمْ اجْتِنَابِهَا، فَتَكُونُوا لِسُخْطِهِ مُتَعَرِّضِينَ، وَلِعُقُوبَتِه مُسْتَحِقِّينَ.
• أخي الحبيب:
تفكر في دنياك كم قتلت وتذكر ما صنعت بأَقرانك وما فعلت واحذرها فإِنها عما لا بد منه قد شغلت، وإِياك أن تساكنها فإِنها إِن حلت رحلت 0
[*] • قال يحيى بن معاذ: الدنيا خمر الشيطان: من شربها لم يفق إلا بين عساكر الموتى نادماً بين الخاسرين قد ترك منها لغير ما جمع وتعلق بحبل غرورها فانقطع وقدم على من يحاسبه على الفتيل والنقير والقطمير فيما انقرض عليه من الصغير والكبير يوم تزل بالعصاة القدم ويندم المسيء على ما قدم.
• واعلم علم اليقين الذي لا يخالطه شك أن حب الدنيا رأس كل خطيئة:
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري. قال قال عيسى بن مريم عليه السلام: حب الدنيا رأس كل خطيئة، والمال فيه داء كثير، قيل: يا روح الله: ما داؤه؟ قال: لا يؤدي حقه، قالوا: فإن أدى حقه. قال: لا يسلم من الفخر والخيلاء، قالوا: فإن سلم من الفخر والخيلاء؟ قال: يشغله استصلاحه عن ذكر الله.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسن، قال: والله لقد عبدت بنو إسرائيل الأصنام بعد عبادتهم للرحمن تعالى بحبهم الدنيا.(3/256)
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم قال: ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغض حبيبك، ذم مولانا الدنيا فمدحناها، وأبغضها فأحببناها، وزهدنا فيها فآثرناها ورغبنا في طلبها، وعدكم خراب الدنيا فحصنتموها، وَنُهِيْتُم عن طلبها فطلبتموها، وأنذركم الكنوز فكنزتموها دعتكم إلى هذه الغرارة دواعيها، فأجبتم مسرعين مناديها، خدعتكم بغرورها ومنتكم، فأنفذتم خاضعين لأمنيتها تتمرغون في زهواتها، وتتمتعون في لذاتها، وتتقلبون في شهواتها، وتتلوثون بتبعاتها، تنشبون بمخالب الحرص عن خزائنها، وتحفرون بمعاول الطمع في معادنها، وتبنون بالغفلة في أماكنها وتحصنون بالجهل في مساكنها، تريدون أن تجاوروا الله في داره، وتحطوا رحالكم بقربه، بين أوليائه وأصفيائه، وأهل ولايته، وأنتم غرقى في بحار الدنيا حيارى، ترتعون في زهواتها، وتتمتعون في لذاتها، وتتنافسون في غمراتها، فمن جَمْعِها ما تشبعون، ومن التنافس فيها ما تَمِلُّون، كذبتم والله أنفسكم وغرتكم ومنتكم الأماني، وعللتكم بالتواني، حتى لا تعطوا اليقين من قلوبكم، والصدق من نياتكم، وتتنصلون إليه من مساوىء ذنوبكم وتعصوه في بقية أعماركم، أما سمعتم الله تعالى يقول في محكم كتابه: (أَمْ نَجْعَلُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتّقِينَ كَالْفُجّارِ) [ص: 28]. لا تنال جنته إلا بطاعته، ولا تنال ولايته إلا بمحبته، ولا تنال مرضاته إلا بترك معصيته، فإن الله تعالى قد أعد المغفرة للأوابين، وأعد الرحمة للتوابين، وأعد الجنة للخائفين، وأعد الحور للمطيعين، وأعد رؤيته للمشتاقين، قال تعالى: (وَإِنّي لَغَفّارٌ لّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمّ اهْتَدَىَ) [طه: 82]. من طريق العمى إلى طريق الهدى.(3/257)
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم بن بشار قال: ما رأيت في جميع من لقيته من العباد والعلماء والصالحين والزهاد أحداً يبغض الدنيا ولا ينظر إليها مثل إبراهيم بن أدهم، ربما مررنا على قوم قد هدموا حائطا أو دارا أو حانوتا فيحول وجهه ولا يملأ عينيه من النظر إليه، فعاتبته على ذلك، فقال: يا ابن بشار اقرأ ما قال الله تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك: 2] و لم يقل أيكم أحسن عمارة للدنيا وأكثر حبا وذخرا وجمعا لها، ثم بكى وقال: صدق الله عز اسمه فيما يقول: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56] و لم يقل وما خلقت الجن والأنس إلا ليعمروا الدنيا ويجمعوا الأموال، ويبنوا الدور ويشيدوا القصور ويتلذذوا ويتفكهوا، ويجعل يومه أجمع يردد ذلك ويقول: (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام: 90]. قال تعالى: (وَمَآ أُمِرُوَاْ إِلاّ لِيَعْبُدُواْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصّلاَةَ وَيُؤْتُواْ الزّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَةِ) [البينة: 5] وسمعته يقول: قد رضينا من أعمالنا بالمعاني، ومن التوبة بالتواني، ومن العيش الباقي بالعيش الفاني. وكان يقول: إياكم والكبر، إياكم والأعجاب بالأعمال، أنظروا إلى من دونكم ولا تنظروا إلى من فوقكم، من ذلل نفسه رفعه مولاه، ومن خضع له أعزه، ومن اتقاه وقاه،، ومن أقبل إليه أرضاه، ومن توكل عليه كفاه، ومن سأله أعطاه، ومن أقرضه قضاه، ومن شكره جازاه فينبغي للعبد أن يزن نفسه قبل أن يوزن، ويحاسب نفسه قبل أن يحاسب، ويتزين ويتهيأ للعرض على الله العلي الأكبر. قال: وسمعت إبراهيم يقول: اشغلوا قلوبكم بالخوف من الله، وأبدانكم بالدأب في طاعة الله، ووجوهكم بالحياء من الله، وألسنتكم بذكر الله، وغضوا أبصاركم عن محارم الله، فإن الله تعالى أوحى إلى نبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا محمد كل ساعة تذكرني فيها فهي لك مذحورة، والساعة التي لا تذكرني فيها فليست لك، وهي عليك لا لك.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شقيقٍ البلخي قال: عملت في القرآن عشرين سنة حتى ميزت الدنيا عن الآخرة فأصبته في حرفين وهو قوله تعالى: (وَمَآ أُوتِيتُم مّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) [القصص: 60](3/258)
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال: ليست الدار دار إقامة، وإنما أهبط آدم إليها عقوبة، ألا ترى كيف يزويها عنه ويمرر عليه بالجوع مرة وبالعرى مرة وبالحاجة مرة؟ كما تصنع الوالدة الشفيقة بولدها، تسقيه مرة حضيضا ومرة صبرا وإنما تريد بذلك ما هو خير له.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفيض بن إسحاق: اشتريت دارا وكتبت كتابا وأشهدت عدولا فبلغ ذلك الفضيل بن عياض فأرسل إلي يدعوني فلم أذهب، ثم أرسل إلي فمررت إليه، فلما رآني قال: يا ابن يزيد بلغني أنك اشتريت داراً وكتبت كتاباً وأشهدت عدولا، قلت: قد كان ذلك، قال: فإنه يأتيك من لا ينظر في كتابك ولا يسأل عن بينتك حتى يخرجك منها شاخصا، يسلمك إلى قبرك خالصاً، فانظر أن لا تكون اشتريت هذه الدار من غير مالك، أو ورثت مالا من غير حله، فتكون قد خسرت الدنيا والآخرة، ولو كنت حين اشتريت كتبت على هذه النسخة: هذا ما اشترى عبد ذليل من ميت قد أزعج بالرحيل، اشترى منه دارا تعرف بدار الغرور، حد منها في زقاق الفناء إلى عسكر الهالكين، ويجمع هذه الدار حدود أربعة: الحد الأول ينتهي منها إلى دواعي العاهات، والحد الثاني ينتهي إلى دواعي المصيبات، والحد الثالث ينتهي منها إلى دواعي الآفات، والحد الرابع ينتهي إلى الهوى المردى، والشيطان المغوي، وفيه يشرع باب هذه الدار على الخروج من عز الطاعة إلى الدخول في ذل الطلب، فما أدركك في هذه الدار فعلى مبلبل أجسام الملوك، وسالب نفوس الجبابرة، ومزيل ملك الفراعنة، مثل كسرى وقيصر، وتبع وحمير، ومن جمع المال فأكثر، واتحد ونظر بزعمه الولد، ومن بني وشيد وزخرف، وأشخصهم إلى موقف العرض إذا نصب الله عز وجل كرسيه لفصل القضاء، وخسر هنالك المبطلون، يشهد على ذلك العقل إذا خرج من أسر الهوى، ونظر بالعينين إلى زوال الدنيا، وسمع صارخ الزهد عن عرصاتها، ما أبين الحق لذي عينين، إن الرحيل أحد اليومين، فبادروا بصالح الأعمال فقد دنا النقلة والزوال.(3/259)
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضل بن الربيع قال: حج أمير المؤمنين فاتأني فخرجت مسرعاً، فقلت: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلى أتيتك، فقال: ويحك قد حاك في نفسي شيء فأنظر لي رجلاً أسأله، فقلت: هاهنا سفيان بن عيينة، فقال: امض بنا إليه، فأتيناه فقرعنا الباب، فقال: من ذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعاً، فقال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك، فقال: خذ لما جئناك له رحمك الله، فحدثه ساعة ثم قال له: عليك دين؟ فقال: نعم، قال: أبا عباس اقض دينه، فلما خرجنا قال: ما أغنى عني صاحبك شيئا، أنظر لي رجلا أسأله، قلت: هاهنا عبد الرزاق بن همام، قال: امض بنا إليه، فاتيناه فقرعنا الباب فخرج مسرعاً فقال: من هذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنين، فقال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك، فقال: خذ لما جئناك له، فحادثه ساعة ثم قال له: عليك دين؟ قال: نعم قال: أبا عباس اقض دينه. فلما خرجنا قال: ما أغنى عني صاحبك شيئاً، أنظر لي رجلاً أسأله، قلت: هاهنا الفضيل بن عياض قال: امض بنا إليه، فأتيناه فإذا هو قائم يصلي يتلو آية من القرآن يرددها، فقال: اقرع الباب، فقرعت الباب، فقال: من هذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنين، فقال: مالي ولأمير المؤمنين؟ فقلت: سبحان الله، أما عليك طاعة؟ أليس قد روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: ليس للمؤمن بذل نفسه فنزل ففتح الباب ثم ارتقى إلى الغرفة فأطفأ السراج ثم التجأ إلى زاوية من زوايا البيت، فدخلنا فجعلنا نجول بأيدينا، فسبقت كف هارون قبلي إليه، فقال: يا لها من كف، ما ألينها إن نجت غداً من عذاب الله عز وجل.(3/260)
فقلت في نفسي: ليكلمنه الليلة بكلامٍ تقي من قلبٍ نقي، فقال له: خذ لما جئناك له رحمك الله، فقال: إن عمر بن عبد العزيز لما ولى الخلافة دعا سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب القرظي ورجاء بن حيوة فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا علي، فعد الخلافة بلاء وعددتها أنت وأصحابك نعمة، فقال له سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة من الله فصم الدنيا وليكن إفطارك منها الموت، وقال له محمد بن كعب: إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المؤمنين عندك أبا، وأوسطهم عندك أخا، وأصغرهم عندك ولدا، فوقر أباك وأكرم أخاك وتحنن على ولدك، وقال له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إذا شئت، وإني أقول لك فإني أخاف عليك أشد الخوف يوماً تزل فيه الأقدام، فهل معك رحمك الله مثل هذا؟ أو من يشيرعليك بمثل هذا فبكى هارون بكاء شديدا حتى غشى عليه، فقلت له: ارفق بأمير المؤمنين، فقال: يا ابن الربيع تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا؟ ثم أفاق فقال له: زدني رحمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين بلغني أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز شكى إليه فكتب إليه عمر: يا أخي أذكرك طول سهر أهل النار مع خلود الأبد، وإياك أن ينصرف بك من عند الله فيكون أخر العهد وانقطاع الرجاء، قال: فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر بن عبد العزيز، فقال له: ما أقدمك؟ قال: خلعت قلبي بكتابك لا أعود إلى ولاية حتى ألقى الله عز وجل، قال: فبكى هارون بكاء شديدا، ثم قال له: زدني رحمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين إن العباس عم المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله أمِّرْنِّي على إمارة، قال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة، فإن استطعت أن لا تكون أميراً فافعل، فبكى هارون بكاء شديداً، فقال له: زدني رحمك الله، قال: يا حسن الوجه، أنت الذي يسألك الله عز وجل عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار، فإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من أصبح لهم غاشاً لم يرح رائحة الجنة. فبكى هارون وقال له: عليك دين؟ قال: نعم دين لربي لم يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألني والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم اللهم حجتي.(3/261)
قال: إنما أعني من دين العباد، قال: إن ربي لم يأمرني بهذا، إنما أمرني أن أصدق وعده وأطيع أمره، فقال جل وعز (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ * مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنّ اللّهَ هُوَ الرّزّاقُ ذُو الْقُوّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات 56: 58]. فقال له: هذه ألف دينار خذها فأنفقها على عيالك وتقو بها على عبادتك، فقال: سبحان الله أنا أدلك على طريق النجاة، وأنت تكافئني بمثل هذا؟ سلمك الله ووفقك. ثم صمت فلم يكلمنا، فخرجنا من عنده، فلما صرنا على الباب قال هارون: إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين، فدخلت عليه امرأة من نسائه فقالت: ياهذا قد ترى ما نحن فيه من ضيق الحال، فلو قبلت هذا المال فتفرجنا به؟ فقال لها: مثلي ومثلكم كمثل قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبه، فلما كبر نحروه فأكلوا لحمه. فلما سمع هارون هذا الكلام قال: ندخل فعسى أن يقبل المال، فلما علم الفضيل خرج فجلس في السطح على باب الغرفة فجاء هارون فجلس إلى جنبه فجعل يكلمه فلا يجيبه، فيبنا نحن كذلك إذ خرجت جارية سوداء فقالت: يا هذا قد آذيت الشيخ منذ الليلة، فانصرف رحمك الله، فانصرفنا.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن معاذ قال: الدنيا أمير من طلبها، وخادم من تركها، الدنيا طالبة ومطلوبة، فمن طلبها رفضته ومن رفضها طلبته، الدنيا قنطرة الآخرة فاعبروها ولا تعمروها، ليس من العقل بنيان القصور على الجسور، الدنيا عروس وطالبها ماشطتها، وبالزهد ينتف شعرها ويسود وجهها ويمزق ثيابها. ومن طلق الدنيا فالآخرة زوجته. فالدنيا مطلقة الأكياس لا تنقضي عدتها أبداً، فخل الدنيا ولا تذكرها، واذكر الآخرة ولا تنسها، وخذ من الدنيا ما يبلغك الآخرة، ولا تأخذ من الدنيا ما يمنعك الآخرة.(3/262)
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن معاذ قال: اعلموا أنه لا يصح الزهد والعبادة ولا شيء من أمور الطاعة لرجل أبداً وفيه للطمع بقية، فإن أردتم الوصول إلى محض الزهد والعبادة فأخرجوا من قلبكم هذه الخصلة الواحدة وكونوا رحمكم الله من أبناء الآخرة وتعاونوا واصبروا وأبشروا تظفروا إن شاء الله. واعلموا أن ترك الدنيا هو الربح نفسه الذي ليس بعده أمر أشد منه، فإن ذبحتم بتركها نفوسكم أحييتموها، وإن أحييتم أنفسكم بأخذها قتلتموها، فارفضوها من قلوبكم تصيروا إلى الروح لراحة في الدنيا والآخرة، وتصيبوا شرف الدنيا والآخرة، وعيش الدنيا والآخرة إن كنتم تعلمون. عذبوا أنفسكم في طاعة الله بترك شهواتها قبل أن تلقي الشهوة منها أجسامكم في دبار عاقبتها، واعلموا أن القرآن قد ندبكم إلى وليمة الجنة ودعاكم إليها فأسرع الناس إليها أتركهم لدنياه، وأوجدهم لذة لطعم تلك الوليمة أشدهم تجويعاً لنفسه ومخالفة لها فإنه ليس أمر من أمور الطاعة إلا وأنتم تحتاجون أن تخرجوه من بين ضدين مختلفين بجهد شديد، وسأظهر لكم هذا الأمر، فإني وجدت أمر الإنسان أمراً عجيباً، قد كلف الطاعة على خلاف ما كلف سائر الخلق من أهل الأرض والسماء فأحسن النظر فيه وليكن العمل منك فيه على حساب الحاجة منك إليه، واستعن بالله فنعم المعين، واعلم أنك لم تسكن الدنيا لتتنعم فيها جاهلاً وعن الآخرة غافلاً، ولكنك أسكنتها لتتعبد فيها غافلاً وتمتطي الأيام إلى ربك عاملاً، فإنك بين دنيا وآخرة ولكل واحدة منهما نعيم، وفي وجود احداهما بطول الأخرى، فانظر أن تحسن طلب النعيم، فقد حكى عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: غلط الملوك، طلبوا النعيم فلم يحسنوا. وعلى حسب اقتراب قلبك من الدنيا يكون بعدك من الله، وعلى حسب بعد قلبك من الدنيا يكون قربك من الله، وكما كان معدوماً وجود نفسك في مكانين فكذلك معدوم وجود قلبك في دارين، فإن كنت ذا قلبين فدونك اجعل أحدهما للدنيا وأحدهما للآخرة، وإن كنت ذا قلب واحد فاجعله لأولى الدارين بالنعيم والمقام والبقاء والإنعام.(3/263)
واعلم أن النفس والهوى لا يقهران بشيء أفضل من الصوم الدائم، وهو بساط العبادة ومفتاح الزهد وطلع ثمرات الخير، وأجساد العمال من شجراته دائم الجذاذ دائم الإطعام، وهو الطريق إلى مرتبة الصديقين، وما دونه فمزرعة الأعمال، فثمر غرسها وربيع بذرها في تركها، وفقدها في أخذها، وليس معنى الترك الخروج من المال والأهل والولد، ولكن معنى الترك العمل بطاعة الله وإيثار ما عند الله عليها مأخوذة ومتروكة، فهذا معنى الترك لا ما تدعيه المتصوفة الجاهلون. أنت من الدنيا بين منزلتين فإن زويت عنك كفيت المؤنة، وإن صرفت إليك ألزمتها طاعة مولاك، وإن كانت طاعتك لله في شأنها تصلحها ومعصيتك لله في أمرها يفسدها، فدع منك لوم الدنيا واحفظ من نفسك وعملك ما فيه صلاحها، فإن المطيع فيها محمود عند الله إنما تلزمه التهمة وعيب الأخذ لها إذا خان الله فيها، لأن الدنيا مال الله والخلق عباد الله. وهم في هذا المال صنفان: خونة وأمناء، فإذا وقع المال في أيدي الخائنين فهو سبب دمارهم ولا عتب على المال إنما العتب على فعلهم بالمال، وإذا وقع في أيدي الأمناء كان سبب شرفهم وخلاصهم، ولا معنى للمال إنما كسب لهم الشرف عند الله فعلهم بالمال أمانة الله في أموالهم فلحق بهم نفع المال. لا ذنب للمال، الذنب لك، الذنوب إنما تكتسب بالجوارح وليس للضيعة والحانوت جوارح، إنما الجوارح لك وبها تكتسب الذنوب فعلك بمالك أسقطك من عين ربك لا مالك، وفعلك بمالك يصحبك إلى قبرك لا مالك، وفعلك بما لك يوزن يوم القيامة لا مالك.
[*] • قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه صيد الخاطر:
من تفكر بعواقب الدنيا، أخذ الحذر، و من أيقن بطول الطريق تأهب للسفر. ما أعجب أمرك يا من يوقن بأمر ثم ينساه، و يتحقق ضرر حال ثم يغشاه! و تخشى الناس و الله أحق أن تخشاه.
تغلبك نفسك على ما تظن، و لا تغلبها على ما تستيقن. أعجب العجائب، سرورك بغرورك، و سهوك في لهوك، عما قد خُبِّىء لك. تغتر بصحتك و تنسى دنو السقم، و تفرح بعافيتك غافلاً عن قرب الألم. لقد أراك مصرع غيرك مصرعك، و أبدى مضجع سواك ـ قبل الممات ـ مضجعك. و قد شغلك نيل لذاتك، عن ذكر خراب ذاتك:
كأنك لم تسمع بأخبار من مضى ... و لم تر في الباقين مايصنع الدهر
فإن كنت لا تدري فتلك ديارهم ... محاها مجال الريح بعدك و البقر!(3/264)
كم رأيت صاحب منزل ما نزل لحده، حتى نزل! و كم شاهدت والي قصر وليه عدوه لما عزل! فيا من كل لحظة إلى هذا يسري، و فعله فعل من لا يفهم لو لا يدري ...
و كيف تنام العين و هي قريرة؟ ... و لم تدر من أي المحلين تنزل؟ أهـ
- فالكيِّس الفطِن هو الذي يجعل نصبَ عينيه أن الدّنيا دارُ اختبارٍ وبلاء، وأنّها مزرَعةٌ للآخرة، وأن الله تعالى استخلفنا فيها فينظر كيف نعمل بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بنى إسرائيل كانت في النساء.
وما يزرعه النّاس فيها اليومَ يحصدوه غدًا في الآخرة إن شاء الله تعالى، فمن زرع الطاعة رجا المغفرة، ومن زرع الشوك لا يجني عنباً، قال الله تعالى: الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]، وهي صائرةٌ إلى فناءٍ وزوال، قال الله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَلْالِ وَالإكْرَامِ [الرحمن:26، 27].
• يا من يرجو الثواب بغير عمل، ويرجئ التوبة بطول الأمل، أتقول في الدنيا قول الزاهدين، وتعمل فيها عمل الراغبين، لا بقليل منها تقنع ولا بكثير منها تشبع، لا تثق من الرزق بما ضُمِنَ لك، ولا تعمل من العمل ما فرض عليك، تستكثر من معصية غيرك ما تحقره من نفسك، أما تعلم أن الدنيا كالحية لين لمسها والسم الناقع في جوفها، يهوى إليها الصبي
الجاهل ويحذرها ذو اللب العاقل، كيف تقر بالدنيا عين من عرفها وما أبعد أن يفطم عنها من ألفها.
• الدنيا معبر فاقنع باليسير، وليكن همك في الرحيل والمسير، كم من جامع لها فرقته، ومن محب لها أهلكته ومزقته، من قنع بالبلغة فيها سلم ومن أكثر منها أسف وندم.
• ذم الدنيا:
إن الذي يُمْعِنُ النظر في كتاب الله تعالى والسنة الصحيحة إذا تفكَّر جليا وتأمل مليا يعلم علم اليقين الذي لا يخالطه شك أن الدنيا مذمومة في الوحيين الشريفيين.
قال تعالى: وَفَرِحُواْ بِالْحياةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحياةُ الدُّنْيَا فِى الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ [الرعد:26]
قال تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} [الحديد: 20](3/265)
ووصف القرآن الكريمُ الدنيا كزهرةٍ تزهِر بنضارَتها، تسحَر الألباب، تستهوي القلوبَ، ثمّ لا تلبث إلا برهةً حتى تذبُل فتتلاشى تلك النضَارة، وتحطّمها الريح، كأنّها لم تكن، هكذا مثل الدّنيا، زهرةٌ فتّانة غرّارة تغدر وتُغوي، فإذا أقبلت عليها النفوس وتعلّقت بها الألباب ذوَت أيّامها واستحالت نضرتُها إلى هشيم، فغدت نعمتُها غرورًا، وصدق الله: وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحياةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرّياحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء مُّقْتَدِرًا الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحياةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:45، 46].
(إنّ هذا التصويرَ البليغ يُجلِّي حقيقةَ الدنيا في ميزان الإسلام، كيلا يصبِح الناس عبيدًا لها، تستهويهم خضرتها، ويؤثرونها على نعيمِ الآخرة، وليس مِن سداد الرّأي أن يبيعَ العبدُ دينَه بدنياه، فيتكثّر بالحرامِ وجَمع الحُطام.
وتراكض الناس في طلب الدنيا خوفًا من فواتها وطمعًا في المزيد، ويبذلون الأوقات النفيسةَ ويقاسون شدّةَ الطلب، بينما قد يفرّطون في الصّلاة ويقعدون عن الجماعة ويتساهلون في الطّاعة وتلاوة القرآن ويتثاقلون في البذل والإنفاق.
إنّ الحياةَ الدّنيا مهما بلغ شأوُ نعيمِها لا يزن ذرّةَ رملٍ من معين الدّار الآخرة، وإنّ أعظمَ ما في الدّنيا من مصائبَ وشدائد يهون أمامَ نعيم دار الآخرة ولا يعادِل مقدارَ شرارةٍ صغيرةٍ من عذاب جهنّم.
وبيَّن الله تبارك وتعالى في القرآن حقارة الدنيا وسرعة زوالها واستصغار شأنها، وحثهم على عمل ما خلقوا لأجلها وهي العبادة فقال تعالى: (يَأَيَّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورْ) [فاطر:5].
وقال أيضاً: (وَمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَإِنَّ الدَارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون) [العنكبوت:64]
وقال تعالى: (المَالُ وَالبَنُونَ زِيْنَةُ الحَيَاةِ الدًّنْيَا وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوابَاً وَخَيْرٌ أَمَلاً) [الكهف:64](3/266)
وأخبرنا عن سوء عاقبة المغترين، وحذرنا مثل مصارعهم وذم من رضي بها واطمأن إليها، ولعلمه أن وراءها داراً أعظم منها قدراً وأجل خطراً، وهي دار البقاء، يضاف إلى ذلك معرفته وإيمانه الحق بأن زهده في الدنيا لا يمنعه شيئاً كتب له منها، وأن حرصه عليها لا يجلب له ما لم يقض له منها، فمتى تيقن ذلك ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة، فأما ما ينفع في الدار الآخرة فالزهد فيه ليس من الدين بل صاحبه داخل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة:87]
[*] قال ابن مسعود رضي الله عنه: (من أراد الآخرة أضر بالدنيا، ومن أراد الدنيا أضر بالآخرة، فيا قوم أضروا بالفاني للباقي).
[*] وقال بعض السلف: الدنيا والآخرة ضرتان، إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى.
- وتأمل أخي التقي النقي العفيف الحييّ الحر الأبيّ في الأحاديث الآتية بعين البصيرة لتطلع على حقيقة الدنيا وضآلةِ حجمها عند الله تعالى وعند رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(حديث أبي هريرة في صحيح ابن ماجة) أنَّ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلما.
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بنى إسرائيل كانت في النساء.
{تنبيه}:• إن العاقل هو من تنبه لحقيقة الدنيا وأنزلها منه بمنزلة الدنيا ولم يأخذ منها إلا ما يُقيمه، وما أحسن قول الإمام وكيع ابن الجراح في ذلك فتأمله بعين البصيرة، وتقبله بقبولٍ حسن وأعِرْهُ سمعك وبصرك واجعل له في سمعك مسمعاً وفي قلبك موقعاً عسى الله أن ينفعك به ويوفقك إلى تطبيقه.(3/267)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن محمد البيهقي، قال: سمعت وكيعا يقول، وقد جاءه رجل يناظره في شيء من أمر المعاش أو الورع: فقال له وكيع: من أين تأكل؟ قال: ميراثا ورثته عن أبي، قال: من أين هو لأبيك؟ قال: ورثه عن أبيه. قال: من أين هو كان لجدك؟ قال لا أدري. فقال له وكيع: لو أن رجلا نذر لا يأكل إلا حلالاً ولا يلبس إلا حلالاً ولا يمشي إلا في حلال لقلنا له اخلع ثيابك وارم بنفسك في الفرات، ولكن لا تجد إلا السعة. ثم قال وكيع: لو أن رجلا بلغ في ترك الدنيا مثل سلمان وأبي ذر وأبي الدرداء ما قلنا له زاهدا، لأن الزهد لا يكون إلا على ترك الحلال المحض، والحلال المحض لا نعرفه اليوم، فالدنيا عندنا حلال وحرام وشبهات، فالحلال حساب، والحرام عذاب، والشبهات عتاب. فأنزل الدنيا بمنزل الميتة، خذ منها ما يقيمك، فإن كانت حلالاً كنت قد زهدت فيها، وإن كانت حراما كنت قد أخذت منها ما يقيمك لأنه لا يحل لك من الميتة إلا قدر ما يقيمك، إن كانت شبهات كان فيها عتاب يسير.
• وما أحسن قول يحيي ابن معاذ في ذلك فتأمله بعين البصيرة:
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن معاذ قال: الدنيا أمير من طلبها، وخادم من تركها، الدنيا طالبة ومطلوبة، فمن طلبها رفضته ومن رفضها طلبته، الدنيا قنطرة الآخرة فاعبروها ولا تعمروها، ليس من العقل بنيان القصور على الجسور، الدنيا عروس وطالبها ماشطتها، وبالزهد ينتف شعرها ويسود وجهها ويمزق ثيابها. ومن طلق الدنيا فالآخرة زوجته. فالدنيا مطلقة الأكياس لا تنقضي عدتها أبداً، فخل الدنيا ولا تذكرها، واذكر الآخرة ولا تنسها، وخذ من الدنيا ما يبلغك الآخرة، ولا تأخذ من الدنيا ما يمنعك الآخرة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن معاذ الرازي قال: الناس ثلاثة: فرجل شغله معاده عن معاشه فتلك درجة الصالحين، ورجل شغله معاشه لمعاده فتلك درجة الفائزين، ورجل شغله معاشه عن معاده فتلك درجة الهالكين.
- ولو تفكر الإنسان في عاقبة الدنيا إذا شغلت عن طاعة الله تعالى لزهد فيها.(3/268)
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يؤتي بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت نعيماً قط؟ فيقول: لا والله ما رأيت نعيماً قط، ويؤتي بأبأس أهل الدنيا من أهل الجنة فيصبغ في الجنة صبغة ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط؟ فيقول: لا والله ما رأيت بؤساً قط.
• أمرُ الدّنيا في جنب الآخرة قليل:
قال تعالى: وَفَرِحُواْ بِالْحياةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحياةُ الدُّنْيَا فِى الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ [الرعد:26]
(حديث المستورد بن شداد رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم؛ فلينظر بم يرجع.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) قال نام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حصير فقام وقد أثر في جنبه قلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء فقال ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها.
(حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) قال: دخلت على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على حصير قال فجلست فإذا عليه إزاره وليس عليه غيره وإذا الحصير قد أثر في جنبه وإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع وقرظ في ناحية في الغرفة وإذا إهاب معلق فابتدرت عيناي فقال ما يبكيك يا ابن الخطاب فقال يا نبي الله وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى وذاك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار وأنت نبي الله وصفوته وهذه خزانتك قال: يا ابن الخطاب أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟ قلت بلى.
• والدنيا لا وزن لها ولا قيمة عند رب العزة إلا ما كان منها طاعة لله تبارك وتعالى:
(حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء.(3/269)
(حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ. فَإِذَا هُوَ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ شَائِلَةٍ بِرِجْلِهَا. فَقَالَ: أَتُرَوْنَ هذِهِ هَيِّنَةً عَلَى صَاحِبِهَ؟ فَوَ الَّذِي نَفْسِي يِيَدِهِ! لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ، مِنْ هذِهِ عَلَى صَاحِبِهَا، وَلَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، مَا سَقَى كَافِراً مِنْهَا قَطْرَةً أَبَداً.
(حديث أبي ابن كعب رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن من هوان الدنيا على الله أن يحيى بن زكريا قتلته امرأة.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إن من هوان الدنيا) أي احتقارها
(على اللّه أن يحيى) من الحياة سمي به لأن اللّه أحيا قلبه فلم يذنب ولم يهم وفي خبر ما من آدمي إلا قد أخطأ أو هم بخطيئة إلا يحيى
(ابن زكريا) النبي ابن النبي عليهما أفضل الصلاة والسلام
(قتلته امرأة) بغي من بغايا بني إسرائيل ذبحته بيدها ذبحاً أو ذبح لرضاها وأهدى رأسه إليها في طست من ذهب كما في الربيع وفي المستدرك عن ابن الزبير من أنكر البلاء فإني لا أنكره لقد ذكر أن قتل يحيى بن زكريا عليهما السلام في زانية وفي البيهقي عن ابن عباس قصة قتله أن بنت أخ للملك سألته ذبحه فذبحه حين حرم نكاح بنت الأخ وكانت [ص 543] تعجب الملك ويريد نكاحها اهـ. وكما أن ذلك من هوان الدنيا على اللّه وهو تحفة ليحيى عليه السلام وإذا أراد اللّه تعالى أن يتحف عبداً سلط عليه من يظلمه ثم يرزقه التسليم والرضى فيكتب في ديوان الراضين حتى يستوجب غداً الرضوان الأكبر والفردوس الأعظم الأفخر قال الزمخشري: وهذا تسلية عظيمة لفاضل يرى الناقص الفاجر يظفر من الدنيا بالحظ الأسنى والعيش الأهنئ كما أصابت تلك الفاجرة تلك الهدية العظيمة الفاخرة.
(حديث أبي هريرة في صحيح ابن ماجة) أنَّ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلما.
• الدنيا عمرها قد قارب على الانتهاء:
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: بعثت أنا والساعة كهاتين قال وضم السبابة والوسطى.
• زوال الدنيا:(3/270)
وصف القرآن الكريمُ الدنيا كزهرةٍ تزهِر بنضارَتها، تسحَر الألباب، تستهوي القلوبَ، ثمّ لا تلبث إلا برهةً حتى تذبُل فتتلاشى تلك النضَارة، وتحطّمها الريح، كأنّها لم تكن، هكذا مثل الدّنيا، زهرةٌ فتّانة غرّارة تغدر وتُغوي، فإذا أقبلت عليها النفوس وتعلّقت بها الألباب ذوَت أيّامها واستحالت نضرتُها إلى هشيم، فغدت نعمتُها غرورًا، وصدق الله: وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحياةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرّياحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء مُّقْتَدِرًا الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحياةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:45، 46].
(إنّ هذا التصويرَ البليغ يُجلِّي حقيقةَ الدنيا في ميزان الإسلام، كيلا يصبِح الناس عبيدًا لها، تستهويهم خضرتها، ويؤثرونها على نعيمِ الآخرة، وليس مِن سداد الرّأي أن يبيعَ العبدُ دينَه بدنياه، فيتكثّر بالحرامِ وجَمع الحُطام فإنما الدنيا جدارٌ يريد أن ينقض.
وتراكض الناس في طلب الدنيا خوفًا من فواتها وطمعًا في المزيد، ويبذلون الأوقات النفيسةَ ويقاسون شدّةَ الطلب، بينما قد يفرّطون في الصّلاة ويقعدون عن الجماعة ويتساهلون في الطّاعة وتلاوة القرآن ويتثاقلون في البذل والإنفاق.
إنّ الحياةَ الدّنيا مهما بلغ شأوُ نعيمِها لا يزن ذرّةَ رملٍ من معين الدّار الآخرة، وإنّ أعظمَ ما في الدّنيا من مصائبَ وشدائد يهون أمامَ نعيم دار الآخرة ولا يعادِل مقدارَ شرارةٍ صغيرةٍ من عذاب جهنّم.
- ولقد كان النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتخوّف من فتحِ الدّنيا على أمّته، يخاف عليهم الافتتانَ بها
(حديث عمرو بن عوف رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للأنصار لمّا جاءه مالٌ من البحرين: أبشِروا وأمِّلوا ما يسرُّكم، فو الله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكنّي أخشى أن تُبسَط عليكم الدّنيا كما بُسِطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلِككم كما أهلكتهم.
- فتنافسوها:(3/271)
التنافس يعني التغالب على الشيء، والتسابق إلى الشيء، فتنافسوا فيها، تتسابقون إلى نيلها، وإلى الظفر بأكبر قدر، تنافسوا فيها كما تنافس فيها من كان قبلكم، والتنافس على الدنيا التسابق عليها مذموم، إنما التنافس المحمود هو ما قال الله فيه وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ أما الدنيا فلا ينبغي أن تكون موضع تنافس وتسابق.
- ومن التنافس على الدنيا التكاثر، أن كل واحد يريد أن يكون أكثر من الآخر في الدنيا، التطاول في البنيان، يتطاولون، كل واحد يريد أن يكون قصره أطول وحظوظه من هذه الدنيا أعظم وأكثروإنما أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم.
ومن أشد أضرار التنافس على الدنيا أنها تُلْهِي عن ذكر الله تعالى وكفى بذلك هلاكاً محققا.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المنافقون: 9]
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر 1،2]
فحظوظ الدنيا إذا ألهت عن ذكر الله، وعن القيام بما أوجب الله، كانت وبالا، وكانت سببا للهلكة، كانت سببا للهلاك.
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ: يعني: أشغلكم التكاثر، وهذا التكاثر يكون بالمال، ويكون بالولد، ويكون بالجند، ويكون بالجاه، ويكون بالسلطان، ويكون بكل متاع من متاع الحياة الدنيا، إذا تكاثر به الإنسان، وألهاه عن طاعة الله جل وعلا.
فهذه الآية تذم المتكاثرين الذين يتكاثرون بالدنيا؛ لأن الدنيا لا ينبغي للمسلم أن يتكاثر بها؛ لأنها متاع زائل؛ ولهذا ذمها الله -جل وعلا- وذم هذا التكاثر. فقال جل وعلا: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا) [الحديد: 20]
فهذا التكاثر مصيره إلى زوال، والعمل الصالح هو الذي يكون إلى البقاء، فذم الله -جل وعلا- المتشاغلين بالتكاثر على أيّ وجه كان هذا التكاثر، ولهذا حذف الله -جل وعلا- المتكاثَر به، ولم يذكره؛ ليعم كل شيء يتكاثر به الإنسان.(3/272)
حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ: يعني: حتى متم، ودفنتم في المقابر فهم استمروا على هذا اللهو، أو استمروا على هذا التكاثر الذي أغفلهم عن الآخرة، حتى وضعوا في قبورهم، وهذا الانشغال عن أمر الآخرة إنما جاء من الغفلة التي أورثها التكاثر؛ ولهذا قال الله -جل وعلا- مبينا أن الغفلة تجعل الإنسان يعرض عما أمامه:
قال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1]
وقوله جل وعلا: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ما قال الله -جل وعلا- حتى صرتم إلى الآخرة، ولكن قال: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ليبين للعباد أن هناك رجعة بعد الموت؛ لأن كل زائر يرجع، فالإنسان إذا زار أحدا بعد هذه الزيارة يرجع إلى أهله، فكذلك هذا الميت إذا مات، ووضع في قبره فهو زائر؛ لأن له مثوًى أخيرا، وهو الجنة، أو النار.
ولهذا قال العلماء: لا يصح أن يقال: دفن في مثواه الأخير؛ لأن القبر ليس مثوى أخيرا، وإنما المثوى الأخير الجنة أو النار، كما قال الله -تعالى عن النار: (فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) [النحل: 29]
فالمثوى الحقيقي هو ما يُرَدُّ إليه العبد في الآخرة إما إلى الجنة وإما إلى النار، وأما القبور والوضع فيها والدفن فيها، فإنما هو زيارة فقط، بعدها يرجع العبد إما إلى الجنة وإما إلى النار.
وهذه الآية خرجت أو هذه الآيات خرجت مخرج الذم، يعني: أن الإنسان الذي يصنع ذلك هو مذموم؛ لأنه انشغل بما لا ينفعه عما ينفعه؛ ولهذا ذم الله -جل وعلا- الاشتغال بالدنيا مع تضييع الآخرة فقال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [المنافقون:9]
وقال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [فاطر: 5].
فتهلككم بسبب التنافس، التنافس يتضمن إيثار الدنيا على الآخرة، وهذا يتضمن طلب المال أو غيره من حظوظ الدنيا من غير حله، ويؤدي إلى الشح وإلى البخل بما أوجب الله، ولهذا أثنى الله على أولئك الرجال رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النور: 37](3/273)
مدحهم بأنها لا تلهيهم، إذن هم يتجرون أم لا يتجرون؟ يتجرون؟ نعم، يتجرون ويكتسبون ويسعون فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة: 10]
فتجد في نفس هذه الآيات من سورة الجمعة نهاهم عما يلهيهموَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة: 9]
نهاهم أن يلهوا بالبيع عن الصلاة، وبعد الصلاة أذن لهم بطلب الفضل فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا [الجمعة: 10]
وهذا إذن بعد الحظر يقتضي الإباحة كقوله تعالى: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة: 2]
ويشهد لهذا الحديث قوله تعالى: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
بِخَلَاقِهِمْ: أي: بنصيبهم
- فالرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذا الحديث بَشَرَهُم، وَحَذَرَهُم من خطر الدنيا وبسط الدنيا، فلا ينبغي للإنسان أن يفرح بها، اللهم إلا الفرح الطبيعي، فهذا أمر جبلي في الإنسان، فإذا كان الإنسان مجبولا على حب المال فلا بد أن يفرح بما يحصل له، لكن فرحا طبيعيا محدودا لا يخرجه إلى الأشر والبطر والاغترار، كفرح قارون المغرور بما أوتي من الثراء:
قال تعالى: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ [القصص:79]
هذا من المنافسة، نفسوا عليه وغبطوه على هذا الحظ العظيم قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [القصص:80](3/274)
المقصود أن بسط الدنيا هو من الفتن، هذا هو الشاهد، بسط الدنيا هو من الفتن التي يُبتلَى بها الناس، والفقر أيضا هو ابتلاء، لكن فتنة البسط أخطر من فتنة القَدْر والتضييق في المعيشة في الفقر، الابتلاء بالثراء والغنى والبسط في حظوظ الدنيا هو الخطر.
[*] قال بعض السلف: ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر.
واقرءوا التاريخ تجدون الأمر عيانا، واقرءوا الواقع تجدونه كذلك، فبسط الدنيا هو ابتلاء وفتنة عظمى، ويفضي كذلك إلى الفتن التي أشار إليها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما في الحديث الآتي:
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا فُتحت عليكم فارسُ والرّوم أيّ قومٍ أنتم؟ قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله، قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أو غير ذلك؛ تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثمّ تتدابرون، ثمّ تتباغضون.
- هذه بعضُ آثار فتحِ الدّنيا، تنافسٌ ثمّ تخالُف ثم تقاتل وسفكٌ للدّماء، ومِن آثارها الانغماس في التّرف ونسيان الله والدّار الآخرة والسّقوط في المعاصي والآثام.
هذا ما ذكره الرسول -عليه الصلاة والسلام- أثرا بفتح فارس والروم، ففتح فارس والروم أدى إلى البسط، إلى بسط الدنيا، وبسط الدنيا أدى إلى التنافس، والتنافس أدى إلى التدابر والتقاطع والتباغض.
وهذا الحديث يعطينا صورة مما أشار إليه الرسول -عليه الصلاة والسلام- بقوله: وإنما أخشى أن تبسط عليكم الدنيا فنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم.
[*] قال الحسن البصريّ: "رحِم الله أقوامًا كانت الدّنيا عندهم وديعة، فأدَّوها إلى من ائتمنهم عليها، ثمّ قاموا حفافًا.
[*] وقال مالك بن دينار: "بقدرِ ما تحزن للدّنيا يخرج همّ الآخرة من قلبك، وبقدر ما تحزن للآخرة يخرج همّ الدنيا من قلبك.
• فلا تَغُرَّنكم الحياة الدنيا فإنها بِالبَلاءِ مَحْفُوفَة، وَبِالفَنَاءِ مَعْرُوفَة، وَبِالغَدْرِ مَوْصُوفَة، وَكُلُّ مَا فِيهَا إِلَى زَوَالٍ وَهِيَ بَيْنَ أَهْلِهَا دُوَلٌ وَسِجَال.
* لا تَدُومُ أَحْوَالُهَا، وَلا تَسْلَمُ مِنْ شَرِّهَا نُزَّالُهَا، بَيْنَا أَهْلُهَا فِي صَفِاءٍ وَرَخَاءِ إِذَا هُمْ مِنْهَا في كدرٍ و بَلاءٍ، وبينا هم في َسُرُورٍ وَحَبُور إِذَا هُمْ مِنْهَا فِي نَكَدٍ وَغُرُور، العَيْشُ فِيهَا مَذْمُوم وعِزُها لا يَدُوم وفناؤها محتوم.(3/275)
* بَقَاؤُهَا قَلِيلٌ، وَعَزِيزُهَا ذَلِيل، وَغَنِّيها فَقِير، شَابُّهَا، وَحَيُّهَا يَمُوت، وودُّها يفوت، فلا يغرنَّك إِقْبَالُهَا فسريعٌ إِدْبَارِهَا.
* كيف أمنت هذه الحالة، وأنت صائر إليها لا محالة، أم كيف ضيعت حياتك
وهى مطيتك إلى مماتك، أم كيف تهنأ بالشهوات، وهى مطية الآفات.
وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ أَنَّكَمْ وَمَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا عَلَى سَبِيل مَنْ قَدْ أَمْضَى مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُُمْ مِمَّنْ كَانَ أَطْوَل مِنْكُمْ أَعْمَارًا وَأَشَدَّ مِنْكُمْ بَطْشًا وَأَعْمَرِ دِيَارًا وَأَبْعَدَ آثَارًا فَأَصْبَحَتْ أَصْوَاتُهُم هَامِدَةً خَامِدَةً مِنْ بَعْدِ طُولِ تَقَلُّبِهَا وَأَصْبَحَتْ أَجْسَادُهُم بَإلية وَدَيَارُهُم عَلَى عُرُوشِهَا خَاوِيَة وآثارهم عافية.
وَاسْتَبْدَلُوا القُصُورَ المُشَيَّدَةِ وَالسُّرُرِ وَالنَّمَارِقِ المُمَهَّدَةِ بِالتُّرَابِ وَالصُّخُورِ وَالأَحْجَارِ المُسَنَّدَةِ فِي القُبور اللاطِئَة المُلَحَّدَةِ فَمَحَلُّهَا مُقْتَرَب وَسَاكِنُهَا مُغْتَرِب بَيْنَ أَهْلِ مَحِلَّةٍ مُوحِشِينِ.
لا يَسْتَأْنِسُونَ بِالعُمْرَانِ وَلا يَتَوَاصُلُونَ تَوَاصُل الجِيران على ما بَيْنَهُمْ مِنْ قُرْبِ المَكَانِ وَالجَوِارِ وَدُنُوِّ الدارِ وَكَيْفَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ تَوَاصُلٍ وَقَدْ أَكَلَتْهُمْ الجنَاَدِلُ وَالثَّرى وَأَصْبَحُوا بَعْدَ الحَيَاةِ أَمْوَاتًا وَبَعْدَ نَضَارَةِ العَيْشِ رُفَاتًا.
فُجِعَ بِهِمُ الأَحْبَابِ وَسَكَنُوا تَحْتَ التُّرَابِ، ظَعَنُوا فَلَيْسَ لَهُمْ إِيَاب فَكَأَّنْ صِرْتُمْ إِلَى مَا صَارُوا إليه مِنَ البَلاءِ وَالوِحْدَة فِي دَارِ المَثْوَى وَارْتُهِنْتُمْ فِي ذَلِكَ المَضْجَعِ وَضَمَّكُمْ ذَلِكَ المُسْتَوْدَع.
فَكَيْفَ بِكُمْ إِذَا عَايَنْتُمُ الأُموُرَ بُعْثِرَتِ القُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ وَوُقِّفْتُمْ لِلتَّحْصِيلِ بَيْنَ يَدَيْ المَلِك الجَلِيلِ فَطَارَتْ القُلُوبُ لإِشْفَاقِهَا مِنْ سَالِفِ الذُّنُوبِ وَهُتِكَتِ الحُجُبُ وَالأَسْتَار وَظَهَرتْ مِنْكُم العُيُوبُ وَالأَسْرَار.(3/276)
هُنَالِكَ تُجْزَى كل نَفْس بِمَا كَسَبتْ قَالَ اللهُ جَلَّ جَلاله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: 31]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} [الكهف: 49]
أَيْنَ سُكَّانُهَا الذِينَ بَنُوا مَرَابِعَهَا وَشَقَّقُوا أَنْهَارَهَا وَغَرَسُوا أَشْجَارِهَا وَأَقَامُوا فِيهَا أَيَّامًا يَسِيرَةً وَغَرَّتْهُمْ بِصُحْبَتِهم وَغُرُّوا بِنَشَاطِهِمْ فَرَكِبُوا المَعَاصِي إِنَّهُمْ كَانُوا وَاللهِ بِالدُّنْيَا مَغْبُوطِينَ بِالمَالِ عَلَى كثرة المَنْعِ عَلَيْهِ مَحْسُودِينَ عَلَى جَمْعِهِ.
مَا صَنَعَ التُّرَابُ بِأَبْدَانِهِمْ وَالرَّمْلُ بِأَجْسَامِهِم وَالدِّيدَانُ بِأَوْصَالِهِم وَلُحُومِهِم وِعِظَامِهِم وَإِذَا مَرَرْتَ فَنَادِهِمْ إِنْ كُنْتَ مُنَادِيًا وَادْعُهُمْ إِنْ كُنْتَ لا بُدَّ دَاعِيًا.
وَمُرَّ بِعَسْكَرِهِم وِانْظُرْ إِلَى تَقَارُبِ مَنَازِلِهِمْ وَسَلْ غَنِيَّهُمْ مَا بَقَى مِنْ غِنَاهُ وَسَلْ فَقِيرِهُمْ مَا بَقَى مِنْ فَقْرِهِ، وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الأَلْسُنِ الَّتِي كَانُوا بِهَا يَتَكَلَّمُونَ
* وعن الأعين التي كَانُوا بها ينظرون وسلهم عن الأعضاء الرقيقة. والوجوه الحسنة والأجساد الناعمة ما صنعت بها الديدان محت الألوان، وأكلت اللحمان، وعفرت الوجوه، ومحت المحاسن، وكسرت الفقار، وأبانْتِ الأعضاء، ومزقت الأشلاء قَدْ حيل بينهم وبين الْعَمَل وفارقوا الأحبة.
فكم من ناعم وناعمة أصبحت وجوهم بإلية، وأجسادهم من أعناقهم بائنة، وأوصالهم متمزقة، وقَدْ سألت الحدق على الوجنات، وامتلأت الأفواه صديدًا، ودبت دواب الأَرْض في أجسامهم، وتفرقت أعضاؤهم.
ثُمَّ لم يلبثوا إِلا يسيرًا حتى عادت العظام رميمًا قَدْ فارقوا الحدائق فصاروا بعد السعة إلى المضائق قَدْ تزوجت نساؤهم وترددت في الطرق أبناؤهم.(3/277)
فمِنْهُمْ والله الموسع له في قبره الغض الناعم فيه المتنعم بلذاته، فيا ساكن القبر ما الَّذِي غرك في الدُّنْيَا هل تظن أنك تبقى أو تبقى لك أين دارك الفيحاء ونهرك المطرد وأين ثمرتك الحاضر ينعها وأين رقاق ثيابك وأين كسوتك لصيفك وشتائك هيهات هيهات يا مغمض الوالد والأخ وغاسلةً وحاملةً يا مدليه في قبره وراحل عَنْهُ، ليت شعري كبف نمت على خشونة الثرى، وبأي خديك بدأ البلى، يا مجاور الهلكى صرت في محله الموت، ليت شعري ما الَّذِي يلقاني به ملك الموت عَنْدَ خروج روحي من الدُّنْيَا، واعجباً لنفس الموت موئلها، والقبر مدخلها، واللحد منزلها، ثم يسوء عملها، ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها،، يا من زينتم الفُلل والقصور ونسيتم القبور، اذكروا القبر وظلمته ووحشته والموت وسكرته والميزان وخفته أو رجحته والكِتَاب وأخذته والصراط ودقته،
، وَيَا أَيُّهَا الْمُهْمِلُون الغافلون تيقظوا فإليكم يوجه الخطاب، ويا أيها النائمون انتبهوا قبل أن تناخ للرحيل الركاب قبل هجوم اللذات ومفرق الجماعات ومذل الرقاب، ومشتِّت الأحباب، فيا له من زائر لا يعوقه عائق، ولا يضرب دونه حجاب، ويا لَهُ من نازل لا يستأذن على الملوك ولا يلج من الأبواب، ولا يرحم صغيرًا ولا يوقر كبيرًا، ولا يخاف عظيمًا ولا يهاب، ألا وإن بعده ما هُوَ أعظم منه من السؤال والجواب، وراءه هول البعث والحشر وأحواله الصعاب من طول المقام والازدحام فِي الأجسام والميزان والصراط والحساب والْجَنَّة أَوْ النار.
• عباد الله: ما هذا التكاسل عن الطاعات وزرع الأعمار قد دنا للحصاد وما هذا التباعد ومدد الأيام قد قاربت للنفاد، وما هذا التغافل والتكاسل عن إعداد الزاد ليوم الميعاد.
• عباد الله: مَنْ كَانَ الْمَوْتُ يَطْلُبُهُ كَيْفَ يَقِرُّ لَهُ قَرَار وَمَنْ كَانَ الدَّهْرُ يُجَارِيهِ فَكَيْفَ يُطِيقُ الانْتِصَار، وَمَنْ كَانَ رَاحِلاً عَنِ الدُّنْيَا إلى الآخِرَةِ كَيْفَ يَلَذُّ لَهُ قَرَارُ، عَجَبًا لِمَنْ يَمْلأ عَيْنهُ بِالنَّوْمِ وَهُوَ لا يَدْرِي أَيُسَاقُ إلى الْجَنَّةِ أَوْ إلى النَّارِ
• عباد الله: أين الحسرات على فوت أمس أين العبرات على مقاسات الرمس أين الاستعداد ليوم تدنو فيه منكم الشمس، {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39](3/278)
من سعة قصره، إلى مضيق قبره، فلما استقر في اللحد، وهيء عليه اللبن احتوشته أعماله وأحاطت به خطاياه وأوزاره، وضاق ذرعًا بما رآه، ثم حثوا بأيديهم عليه التراب، وأكثروا عليه البكاء والانتحاب، ثم وقفوا ساعة عليه وأيسوا من النظر إليه، وتركوه رهنًا بما كسب وطلب.
وأصْبَحَتْ أموالُهم هامِدَةً مِن بعدِ نُقْلَتِهِم، وأَجْسَادُهُم بالِية وَدِيارُهُم خَالِية، وآثارُهُم عافِية.
فاستبدلُوا بالقُصور الْمُشَيَّدَةِ والنمارِقِ الْمُمَّهَدَةِ الصُّخُورَ والأحجارَ في القُبور التي قَدْ بُنيَ على الخراب فِناؤُهَا، وشُيِّدَ بالتراب بِنَاؤُهَا.
فَمَحَلُّهَا مُقْتَرب، وساكنها مُغْتَرب، بينَ أَهْلَ عِمَارَةٍ مُوْحِشِين، وأَهْلِ مَحَلَّةٍ مُتَشَاغِلِين، لا يَسْتأْنِسُونَ بالعُمْران، ولا يَتَواصَلُون تَواصُلَ الجِيران والإِخوان، على مَا بينهُم مِن قُرْبِ الجِوار، ودُّنُوّ الدار.
وكَيْفَ يكونُ بَيْنَهُم تَواصُلٌ وقد طَحَنَهُم بِكَلْكَلِهِ البِلَى وأَظَلَّتْهُمُ الجَنَادِلُ والثرَّى، فَأَصْبَحُوا بعد الحياة أَمْوَاتاً، وبَعْدَ غَضَارَةِ العَيشِ رُفَاتاً.
فُجِعَ بِهِم الأَحْبَاب، وسَكَنُوا التُراب، وظَعَنُوا فليسَ لهم إِياب، فُجِعَ بِهِم الأَحْبَاب، وسَكَنُوا التُراب، وظَعَنُوا فليسَ لهم إِياب.
• جدير بمن الموت مصرعه، والتراب مضجعه، والدود أنيسه ومنكر ونكير جليسه، والقبر مقره، وبطن الأرض مستقره، والقيامة موعده، والجنة أو النار مورده، أن لا يكون له فكر إلا في الموت، ولا ذكر إلا له، ولا استعداد إلا لأجله، ولا تدبير إلا فيه، ولا تطلع إلا إليه، ولا تأهب إلا له، ولا تعريج إلا عليه، ولا اهتمام إلا به، ولا انتظار ولا تربص إلا له.
• - وهآنذا أسوق لك كلاماً من أنفس ما كتب في ذم الدنيا، وهو كلام الإمام الحسن البصري الذي قيل أن كلامه يُشبه كلام الأنبياء، ثم أتبعه بكلام غيره من أئمةِ الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدُجى:(3/279)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي حميد الشامي، قال: كتب الحسن على عمر بن عبد العزيز: اعلم أن التفكر يدعو إلى الخير والعمل به، والندم على الشر يدعو إلى تركه، وليس ما يفنى وإن كان كثيراً يعدل ما يبقى وإن كان طلبه عزيزاً، واحتمال المؤونة المنقطعة التي تعقب الراحة الطويلة خير من تعجيل راحة منقطعة تعقب مؤونة باقية، فاحذر هذه الدار الصارعة الخادعة الخاتلة التي قد تزينت بخدعها، وغرت بغرورها، وقتلت أهلها بأملها، وتشوفت لخطابها، فأصبحت كالعروس المجلولة. العيون إليها ناظرة، والنفوس لها عاشقة، والقلوب إليها والهة، ولألبابها دامغة، وهي لأزواجها كلهم قاتلة. فلا الباقي بالماضي معتبر، ولا الآخر بما رأى من الأول مزدجر، ولا اللبيب بكثرة التجارب منتفع، ولا العارف بالله والمصدق له حين أخبر عنها مدكر، فأبت القلوب لها إلا حباً، وأبت النفوس بها إلا ضناً، وما هذا منالها إلا عشقاً، ومن عشق شيئاً لم يعقل غيره، ومات في طلبه أو يظفر به، فهما عاشقان طالبان لها؛ فعاشق قد ظفر بها واغتر وطغى ونسي بها المبدأ والمعاد. فشغل بها لبه، وذهل فيها عقله، حتى زلت عنها قدمه، وجاءته أسر ما كانت له منيته فعظمت ندامته، وكثرت حسرته، واشتدت كربته مع ما عالج من سكرته. واجتمعت عليه سكرات الموت بألمه، وحسرة الموت بغصته، غير موصوف ما نزل به. ولآخر مات قبل أن يظفر منها بحاجته فذهب بكربه وغمه لم يدرك ما طلب، ولم يرح نفسه من التعب والنصب. خرجا جميعاً بغير زاد، وقدما على غير مهاد.
فاحذرها الحذر كله فإنها مثل الحية لين مسها وسمها يقتل، فأعرض عما يعجبك فيها لقلة ما يصحبك منها، وضع عنك همومها لما عانيت من فجائعها وأيقنت به من فراقها، وشدد ما اشتد منها لرخاء ما يصيبك وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها، فإن صاحبها كلما اطمأن فيها إلى سرور له أشخصته عنها بمكروه، وكلما ظفر بشيء منها وثنى رجلاً عليه انقلبت به، فالسار فيها غار، والنافع فيها غدا ضار، وصل الرخاء فيها بالبلاء، وجعل البقاء فيها إلى فناء، سرورها مشوب بالحزن، وآخر الحياة فيها الضعف والوهن، فانظر إليها نظر الزاهد المفارق، ولا تنظر نظر العاشق الوامق، واعلم أنها تزيل الثاوي الساكن، وتفجع المغرور الآمن، لا يرجع ما تولى منها فأدبر، ولا يدري ما هو آت فيها فينتظر.(3/280)
فاحذرها فإن أمانيها كاذبة، وإن آمالها باطلة، عيشها نكد، وصفوها كدر، وأنت منها على خطر. إما نعمة زائلة، وإما بلية نازلة، وإما مصيبة موجعة، وإما منية قاضية، فلقد كدرت عليه المعيشة إن عقل، وهو من النعماء على خطر، ومن البلوة على حذر، ومن المنايا على يقين؛ فلو كان الخالق تعالى لم يخبر عنها بخير، ولم يضرب لها مثلاً، ولم يأمر فيها بزهد؛ لكانت الدار قد أيقظت النائم، ونبهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله تعالى عنها زاجر، وفيها واعظ. فما لها عند الله عز وجل قدر، ولا لها عند الله تعالى وزن من الصغر، ولا تزن عند الله تعالى مقدار الحصا، ولا مقدار ثراة في جميع الثرى، ولا خلق خلقاً فيما بلغت أبغض إليه من الدنيا، ولا نظر إليها منذ خلقها مقتاً لها، ولقد عرضت على نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمفاتيحها وخزائنها ولم ينقصه ذلك عنده جناح بعوضة فأبى أن يقبلها، وما منعه من القبول لها، ولا ينقصه عند الله تعالى شيء إلا أنه علم أن الله تعالى أبغض شيئاً فأبغضه، وصغر شيئاً فصغره، ووضع شيئاً فوضعه، ولو قبلها كان الدليل على حبه إياها قبولها، ولكنه كره أن يحب ما أبغض خالقه، وأن يرفع ما وضع مليكه.(3/281)
ولو لم يدله على صغر هذه الدار إلا أن الله تعالى حقرها أن يجعل خيرها ثواباً للمطيعين، وأن يجعل عقوبتها عذاباً للعاصين. فأخرج ثواب الطاعة منها وأخرج عقوبة المعصية عنها. وقد يدلك على شر هذه الدار أن الله تعالى زواها عن أنبيائه وأحبائه اختباراً، وبسطاً لغيرهم اعتباراً واغتراراً؛ ويظن المغرور بها والمفتون عليها أنه إنما أكرمه بها، ونسي ما صنعه بمحمد المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وموسى المختار عليه السلام بالكلام له ومناجاته، فأما محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فشد الحجر على بطنه من الجوع، وأما موسى عليه السلام فرئي خضرة البقل من صفاق بطنه من هذاله، ما سأل الله تعالى يوم أوى إلى الظل إلا طعاماً يأكله من جوعه. ولقد جاءت الروايات عنه أن الله تعالى أوحى إليه؛ أن يا موسى إذا رأيت الفقر مقبلاً فقل مرحباً بشعار الصالحين، وإذا رأيت الغنى قد أقبل فقل ذنب عجلت عقوبته. وإن شئت ثلثته بصاحب الروح والكلمة ففي أمره عجيبة، كان يقول: أدمي الجوع وشعاري الخوف، ولباسي الصوف ودابتي رجلي، وسراجي بالليل القمر، وصلايتي في الشتاء الشمس، وفاكهتي وريحاني ما أنبتت الأرض للسباع والأنعام. أبيت وليس لي شيء وليس أحد أغنى مني. ولو شئت ربعت بسليمان بن داود عليهما السلام، فليس دونهم في العجب. يأكل خبز الشعير في خاصته ويطعم أهله الخشكار والناس الدرمك فإذا جنه الليل لبس المسوح وغل اليد إلى العنق وبات باكياً حتى يصبح، يأكل الخشن من الطعام ويلبس الشعر من الثياب. كل هذا يبغضون ما أبغض الله عز وجل، ويصغرون ما صغر الله تعالى، ويزهدون فيما زهد. ثم اقتص الصالحون بعد منهاجهم، وأخذوا بآثارهم وألزموا الكد والعبر وألطفوا التفكر، وصبروا في مدة الأجل القصير، عن متاع الغرور الذي إلى الفناء يصير، ونظروا إلى آخر الدنيا ولم ينظروا إلى أولها، ونظروا إلى عاقبة مرارتها ولم ينظروا إلى عاجلة حلاوتها؛ ثم ألزموا أنفسهم الصبر وأنزلوها من أنفسهم بمنزلة الميتة التي لا يحل الشبع منها إلا في حال الضرورة إليها؛ فأكلوا منها بقدر ما يرد النفس ويقي الروح ويسكن القرم وجعلوها بمنزلة الجيفة التي اشتد نتن ريحها فكل من مر بها أمسك على أنفه منها، فهم يصيبون منها لحال الضر ولا ينتهون منها إلى الشبع من النتن، فغربت عنهم وكانت هذه منزلتها من أنفسهم، فهم يعجبون من الآكل منها شبعاً، والمتلذذ بها أشراً.(3/282)
ويقولون في أنفسهم: أما ترى هؤلاء لا يخافون من الأكل، أما يجدون ريح النتن؟ وهي والله يا أخي في العاقبة والآجلة أنتن من الجيفة المرصوفة، غير أن أقواماً استعجلوا الصبر فلا يجدون من ريح النتن، والذي نشأ في ريح الإهاب النتن لا يجد نتنه، ولا يجد من ريحه ما يؤذي المارة والجالس عنده، وقد يكفي العاقل منهم أنه من مات عنها وترك مالاً كثيراً سره أنه كان فيها فقيراً، أو شريفاً أنه كان فيها وضيعاً، أو كان فيها معافى سره أنه كان فيها مبتلي، أو كان مسلطنا سره أنه كان فيها سوقه. وإن فارقتها سرك أنك كنت أوضع أهلها ضعة، وأشدهم فيها فاقة، أليس ذلك الدليل على خزيها لمن يعقل أمرها.
والله لو كانت الدنيا من أراد منها شيئاً وجده إلى جنبه من غير طلب ولا نصب غير أنه إذا أخذ منها شيئاً لزمته حقوق الله فيه وسأله عنه ووقفه على حسابه لكان ينبغي للعاقل أن لا يأخذ منها إلا قدر قوته وما يكفى، حذر السؤال وكراهية لشدة الحساب، وإنما الدنيا إذا فكرت فيها ثلاثة أيام؛ يوم مضى لا ترجوه، ويوم أنت فيه ينبغي أن تغتنمه، ويوم يأتي لا تدري أنت من أهله أم لا؟ ولا تدري لعلك تموت قبله.
فأما أمس فحكيم مؤدب، وأما اليوم فصديق مودع، غير أن أمس وإن كان قد فجعك بنفسه فقد أبقى في يديك حكمته، وإن كنت قد أضعته فقد جاءك خلف منه وقد كان عنك طويل الغيبة وهو الآن عنك سريع الرحلة، وغدا أيضاً في يديك منه أمله. فخذ الثقة بالعمل، واترك الغرور بالأمل قبل حلول الجل، وإياك أن تدخل على اليوم هم غد أو هم ما بعده، زدت في حزنك وتعبك وأردت أن تجمع في يومك ما يكفيك أيامك، هيهات كثر الشغل وزاد الحزن وعظم التعب وأضاع العبد العمل بالأمل.(3/283)
ولو أن الأمل في غدك خرج من قلبك أحسنت اليوم في عملك، واقتصرت لهم يومك، غير أن الأمل منك في الغد دعاك إلى التفريط، ودعاك إلى المزيد في الطلب، ولئن شئت واقتصرت لأصفن لك الدنيا ساعة بين ساعتين، ساعة ماضية، وساعة لآتية، وساعة أنت فيها. فأما الماضية فليس تجد لراحتهما لذة، ولا لبلائهما ألماً. وإنما الدنيا ساعة أنت فيها فخدعتك تلك الساعة عن الجنة وصيرتك إلى النار. وإنما اليوم إن عقلت ضيف نزل بك وهو مرتحل عنك، فإن أحسنت نزله وقراه شهد لك وأثنى عليك بذلك وصدق فيك، وإن أسأت ضيافته ولم تحسن قراه جال في عينيك. وهما يومان بمنزلة الأخوين نزل بك أحدهما فأسأت إليه ولم تحسن قراه فيما بينك وبينه، فجاءك الآخر بعده، فقال: إني قد جئتك بعد أخي فإن إحسانك إلي يمحو إساءتك إليه، ويغفر لك ما صنعت، فدونك إذ نزلت بك وجئتك بعد أخي المرتحل عنك فقد ظفرت بخلف منه إن عقلت، فدارك ما قد أضعت. وإن ألحقت الآخر بالأول فما أخلقك أن تهلك بشهادتهما عليك.
إن الذي بقي من العمر لا ثمن له ولا عدل، فلو جمعت الدنيا كلها ما عدلت يوماً بقي من عمر صاحبه، فلا تبع اليوم وتعدله من الدنيا بغير ثمنه، ولا يكونن المقبور أعظم تعظيماً لما في يديك منك وهو لك فلعمري لو أن مدفوناً في قبره قيل له هذه الدنيا أولها إلى آخرها تجعلها لولدك من بعدك يتنعمون فيها من ورائك، فقد كنت وليس لك هم غيرهم. أحب إليك أم يوم تترك فيه تعمل لنفسك لاختار ذلك، وما كان ليجمع مع اليوم شيئاً إلا اختار اليوم عليه رغبة فيه وتعظيماً له، بل لو اقتصر على ساعة خيرها وما بين أضعاف ما وصفت لك وأضعافه يكون لسواه إلا اختار الساعة لنفسه على أضعاف ذلك ليكون لغيره، بل لو اقتصر على كلمة يقولها تكتب له وبين ما وصفت لك وأضعافه لاختار الكلمة الواحدة عليه، فانتقد اليوم لنفسك وأبصر الساعة وأعظم الكلمة واحذر الحسرة عند نزول السكرة، ولا تأمن أن تكون لهذا الكلام حجة، نفعنا الله وإياك بالموعظة، ورزقنا وإياك خير العواقب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(3/284)
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبيدة سعيد بن زربي، قال: سمعت الحسن يعظ أصحابه يقول: إن الدنيا دار عمل من صحبها بالنقص لها والزهادة فيها سعد بها ونفعته صحبتها، ومن صحبها على الرغبة فيها والمحبة لها شقي بها وأجحف بحظه من الله عز وجل ثم أسلمته إلى ما لا صبر له عليه ولا طاقة له به من عذا الله، فأمرها صغير، ومتاعها قليل، والفناء عليها مكتوب، والله تعالى ولي ميراثها، وأهلها محولون عنها إلى منازل لا تبلى ولا يغيرها طول الثواء منها يخرجون. فاحذروا ولا قوة إلا بالله ذلك الموطن، وأكثروا ذكر ذلك المنقلب، واقطع يا ابن آدم من الدنيا أكثر همك، أو لتقطعن حبالها بك فينقطع ذكر ما خلقت له من نفسك ويزيغ عن الحق قلبك، وتميل إلى الدنيا فترديك، وتلك منازل سوء بين ضرها، منقطع نفعها مفضية والله بأهلها إلى ندامة طويلة وعذاب شديد، فلا تكونن يا ابن آدم مغتراً، ولا تأمن ما لم يأتك الأمان منه، فإن الهول الأعظم ومفظعات الأمور أمامك لم تخلص منها حتى الآن، ولا بد من ذلك المسلك وحضور تلك الأمور إما يعافيك من شرها وينجيك من أهوالها، وإما الهلكة. وهي منازل شديدة مخوفة محذورة مفزعة للقلوب، فلذلك فاعدد، ومن شرها فاهرب، ولا يلهينك المتاع القليل الفاني، ولا تربص بنفسك فهي سريعة الانتقاص من عمرك فبادر أجلك ولا تقلل غدا فإنك لا تدري متى إلى الله تصير واعلموا أن الناس أصبحوا جادين في زينة الدنيا يضربون في كل غمرة وكل معجب بما هو فيه، راض به حريص على أن يزداد منه، فما لم يكن من ذلك لله عز وجل في طاعة الله فقد خسر أهله وضاع سعيه، وما كان من ذلك في الله في طاعة الله فقد أصاب أهله به وجه أمرهم، ووفقوا فيه بحظهم، عندهم كتاب الله وعهده وذكر ما مضى وذكر ما بقى، والخير عمن وراءهم.(3/285)
كذلك أمر الله اليوم وقبل ذلك أمره فيمن مضى لأن حجة الله بالغة، والعذر بارز، وكل مواف الله ولما عمل. ثم يكون القضاء من الله وعباده على أحد أمرين: فمقضي له رحمته وثوابه فيالها نعمة وكرامة ومقضي له سخطه وعقوبته فيالها حسرة وندامة، ولكن حق على من جاءه البيان من الله بأن هذا أمره وهو واقع أن يصغر في عينه ما هو عند الله صغير، وأن يعظم في نفسه ما هو عند الله عظيم، أو ليس ما ذكر الله من الكراهة لأهلها فيما بعد الموت والهوان ما يطيب نفس امرئ عن عيشة دنياه، فإنها قد أذنت بزوال. أيدوم نعيمها، ولا يؤمن فجائعها، يبلى جديدها، ويسقم صحيحها، ويفتقر غنيها. ميالة بأهلها، لعابة بهم على كل حال. ففيها عبرة لمن اعتبر، وبيان فعلامَ تنتظر.
يا ابن آدم أنت اليوم في دار هي لافظتك وكأن قد بدا لك أمرها وإلى انصرام ما تكون سريعاً ثم يفضى بأهلها إلى أشد الأمور وأعظمها خطراً، فاتق الله يا ابن آدم وليكن سعيك في دنياك لآخرتك فإنه ليس لك من دنياك شيء إلا ما صدرت أمامك، فلا تدخرن عن نفسك مالك، ولا تتبع نفسك ما قد علمت أنك تاركه خلفك، ولكن تزود لبعد الشقة، واعدد العدة أيام حياتك وطول مقامك قبل أن ينزل بك من قضاء الله ما هو نازل فيحول دون الذي تريد، فإذا أنت يا ابن آدم قد ندمت حيث لا تغني الندامة عنك، ارفض الدنيا ولتسخ بها نفسك ودع منها الفضل فإنك إذا فعلت ذلك أصبت أربح الأثمان من نعيم لا يزول، ونجوت من عذاب شديد ليس لأهله راحة ولا فترة، فاكدح لما خلقت له قبل أن تفرق بك الأمور فيشق عليك اجتماعها، صاحب الدنيا بجسدك، وفارقها بقلبك، ولينفعك ما قد رأيت مما قد سلف بين يديك من العمر، وحال بين أهل الدنيا وبين ما هم فيه فإنه عن قليل فناؤه، ومخوف وباله، وليزدك إعجاب أهلها بها زاهداً فيها وحذراً منها، فإن الصالحين كذلك كانوا.(3/286)
واعلم يا ابن آدم أنك تطلب أمراً عظيماً لا يقصر فيه إلا المحروم الهالك، فلا تركب الغرور وأنت ترى سبيله؛ ولا تدع حظك وقد عرض عليك، وأنت مسئول ومقول لك فأخلص عملك، وإذا أصبحت فانتظر الموت، وإذا أمسيت فكن على ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإن أنجى الناس من عمل بما أنزل الله في الرخاء والبلاء، وأمر العباد بطاعة الله وطاعة رسوله، فإنكم أصبحتم في دار مذمومة خلقت فتنة وضرب لأهلها أجل إذا انتهوا إليه يبيد. أخرج نباتها، وبث فيها من كل دابة، ثم أخبرهم بالذي هم إليه صائرون، وأمر عباده فيما أخرج لهم من ذلك بطاعته، وبين لهم سبيلها يعني سبيل الطاعة ووعدهم عليها الجنة، وهم في قبضته ليس منهم بمعجز له، وليس شيء من أعمالهم يخفى عليه، سعيهم فيها شتى بين عاص ومطيع له، ولكل جزاء من الله بما عمل، ونصيب غير منقوص، ولم أسمع الله تعالى فيما عهد إلى عباده وأنزل عليهم في كتابه رغب في الدنيا أحداً من خلقه، ولا رضي له بالطمأنينة فيها، ولا الركون إليها، بل صرف الآيات وضرب الأمثال بالعيب لها، والنهي عنها، ورغب في غيرها. وقد بين لعباده أن الأمر الذي خلقت له الدنيا وأهلها عظيم الشأن، هائل المطلع، نقلهم عنه، أراه إلى دار لا يشبه ثوابهم ثواباً، ولا عقابهم عقاباً، لكنها دار خلود يدين الله تعالى فيها العباد بأعمالهم ثم ينزلهم منازلهم، لا يتغير فيها بؤس عن أهلها ولا نعيم، فرحم الله عبداً طلب الحلال جهده حتى إذا دار في يده وجَّهه وجهه الذي هو وجهه.
ويحك يا ابن آدم ما يضرك الذي أصابك من شدائد الدنيا إذا خلص لك خير الآخرة؛ ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر؛ هذا فضح القوم، ألهاكم التكاثر عن الجنة عند دعوة الله تعالى وكرامته، والله لقد صحبنا أقواماً كانوا يقولون ليس لنا في الدنيا حاجة، ليس لها خلقنا، فطلبوا الجنة بغدوهم ورواحهم وسهرهم نعم والله حتى أهرقوا فيها دماءهم ورجوا فأفلحوا ونجوا. هنيئاً لهم لا يطوي أحدهم ثوباً، ولا يفترشه، ولا تلقاه إلا صائماً ذليلاً متبائساً خائفاً حتى إذا دخل إلى أهله إن قرب إليه شيء أكله وإلا سكت لا يسألهم عن شيء ما هذا وما هذا، ثم قال:
ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء(3/287)
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن موهب بن عبد الله، قال: لما استخلف عمر بن عبد العزيز كتب إليه الحسن البصري كتاباً بدأ فيه بنفسه أما بعد؛ فإن الدنيا دار مخيفة، إنما أهبط آدم من الجنة إليها عقوبة، واعلم أن صرعتها ليست كالصرعة، من أكرمها يهن، ولها في كل حين قتيل، فكن فيها يا أمير المؤمنين كالمداوي جرحه يصبر على شدة الدواء خيفة طول البلاء والسلام.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إبراهيم ابن عيسى اليشكري، قال: سمعت الحسن إذا ذكر صاحب الدنيا يقول: والله ما بقيت له ولا بقي لها، ولا سلم من تبعها ولا شرها ولا حسابها، ولقد أخرج منها من خرق.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الحسن قال: فضح الموت الدنيا فلم يترك فيها لذي لب فرحاً.
[*] وأخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن المبارك بن فضالة، قال: كان الحسن إذا تلا هذه الآية: فلا تغرنك الحياة الدنيا ولا يغركم بالله الغرور. قال: من قال ذا؟ قاله من خلقها وهو أعلم بها، قال: وقال الحسن: إياكم وما شغل من الدنيا فإن الدنيا كثيرة الأشغال لا يفتح رجل على نفسه باب شغل إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب.(3/288)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن عياش، عن أبيه: أن عمر بن عبد العزيز شيع جنازة، فلما انصرفوا تأخر عمر وأصحابه ناحية عن الجنازة، فقال له أصحابه: يا أمير المؤمنين جنازة أنت وليها تأخرت عنها فتركتها وتركتها؟ فقال: نعم، ناداني القبر من خلفي يا عمر بن عبد العزيز ألا تسألني ما صنعت بالأحبة؟ قلت: بلى، قال: خرقت الأكفان، ومزقت الأبدان، ومصصت الدم وأكلت اللحم، ألا تسألني ما صنعت بالأوصال؟ قلت: بلى، قال: نزعت الكفين من الذراعين، والذراعين من العضدين، والعضدين من الكتفين، والوركين من الفخذين، والفخذين من الركبتين، والركبتين من الساقين، والساقين من القدمين، ثم بكى عمر فقال: ألا إن الدنيا بقاؤها قليل، وعزيزها زليل، وغنيها فقير، وشبابها يهرم، وحيها يموت، فلا يغرنكم إقبالها مع معرفتكم بسرعة إدبارها، والمغرور من اغتر بها، أين سكانها الذين بنوا مدائنها، وشققوا أنهارها، وغرسوا أشجارها، وأقاموا فيها أياماً يسيرة، غرتهم بصحتهم، وغزوا بنشاطهم، فركبوا المعاصي، إنهم كانوا والله في الدينا مغبوطين بالأموال على كثرة المنع، محسودين على جمعه، ما صنع التراب بأبدانهم، والرمل بأجسادهم، والديدان بعظامهم وأوصالهم، كانوا في الدنيا على أسرة ممهدة، وفرش منضدة، بين خدم يخدمون، وأهل يكرمون، وجيران يعضدون، فإذا مررت فنادهم إن كنت منادياً، وادعهم إن كنت داعياً، ومر بعسكرهم، وانظر إلى تقارب منازلهم التي كان بها عيشهم، وسل غنيهم ما بقى من غناه، وسل فقيرهم ما بقى من فقره، وسلهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانت إلى اللذات بها ينظرون، وسلهم عن الجلود الرقيقة، والوجوه الحسنة، والأجساد الناعمة، ما صنع بها الديدان؟ محت الألوان، وأكلت اللحمان، وعفرت الوجوه، ومحت المحاسن، وكسرت الفقار وأبانت الأعضاء، ومزقت الأشلاء، وأين حجالهم وقبابهم، وأين خدمهم وعبيدهم، وجمعهم ومكنوزهم، والله ما زودوهم فراشاً، ولا وضعوا هناك متكأً، ولا غرسوا لهم شجراً، ولا أنزلوهم من اللحد قراراً، أليسوا في منازل الخلوات والفلوات أليس الليل والنهار عليهم سواء؟ أليس هم في مدلهمة ظلماء؟ قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة.(3/289)
فكم من ناعم وناعمة أصبحوا ووجوهم بالية، وأجسادهم من أعناقهم نائية، وأوصالهم ممزقة، قد سالت الحدق على الوجنات، وامتلأت الأفواه دماً وصديداً، ودبت دواب الأرض في أجسادهم ففرقت أعضاءهم، ثم لم يلبثوا والله إلا يسيرا حتى عادت العظام رميماً، قد فارقوا الحدائق، فصاروا بعد السعة إلى المضايق، قد تزوجت نساؤهم، وترددت في الطرق أبناؤهم، وتوزعت القرابات ديارهم وتراثهم، فمنهم والله الموسع له في قبره، الغض الناضر فيه، المتنعم بلذته. يا ساكن القبر غداً مالذي غرك من الدنيا، هل تعلم أنك تبقى أو تبقى لك، أين دارك الفيحاء، ونهرك المطرد، وأين ثمرك الناضر ينعه وأين رقاق ثيابك وأين طيبك وأين بخورك، وأين كسوتك لصيفك وشتائك، أما رأيته قد نزل به الأمر فما يدفع عن نفسه وجلا، وهو يرشح عرقاً، ويتلمظ عطشاً، يتقلب من سكرات الموت وغمراته، جاء الأمر من السماء، وجاء غالب القدر والقضاء، جاء من الأمر والأجل ما تمتنع منه، هيهات هيهات، يا مغمض الوالد والأخ والولد وغاسله، يا مكفن الميت وحامله، يا مخليه في القبر وراجعاً عنه، ليت شعري كيف كنت على خشونة الثرى، يا ليت شعري بأي خديك بدأ البلى، يا مجاور الهلكات صرت في محلة الموتى، ليت شعري مالذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا، وما يأتيني به من رسالة ربي، ثم تمثل:
تسر بما يفنى وتشغل بالصبا ... كما غر باللذات في النوم حالم
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم
وتعمل فيما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهايم
ثم انصرف فما بقى بعد ذلك إلا جمعه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أسد بن زيد قال: كنا مع عمر بن عبد العزيز في جنازة، فلما أن دفن الميت ركب بغلة له صغيرة ثم جاء إلى قبر فركز عليه المقرعه فقال: السلام عليك يا صاحب القبر، قال عمر فنادانى مناد من خلفى وعليك السلام يا عمر بن عبد العزيز عم تسأل؟ فقلت، عن ساكنك وجارك، قال: أما البدن فعندي، والروح عرج به إلى الله عز وجل ما أدري أي شيء حاله، قلت أسألك، عن ساكنك وجارك؟ قال: دمغت المقلتين، وأكلت الحدقتين، ومزقت الأكفان، وأكلت الأبدان.(3/290)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي قرة، قال: خرج عمر بن عبد العزيز على بعض جنائز بني مروان، فلما صلى عليها وفرغ، قال لأصحابه: توقفوا، فوقفوا، فضرب بطن فرسه حتى أمعن في القبور وتوارى عنهم، فاستبطأه الناس حتى ظنوا، فجاء وقد احمرت عيناه، وانتفخت أوداجه، قالوا: يا أمير المؤمنين أبطأت علينا؟ قال: أتيت قبور الأحبة، قبور بني آبائي فسلمت عليهم فلم يردوا السلام، فلما ذهبت أقفى ناداني التراب فقال: ألا تسألني يا عمر عليهم ما لقيت الأحبة؟ قلت: وما لقيت الأحبة؟ قال: خرقت الأكفان، وأكلت الأبدان، ونزعت المقلتين، فذكر نحوه. وزاد: فلما ذهبت أقفي ناداني: يا عمر عليك بأكفان لا تبلى، قلت: وما أكفان لا تبلى؟ قال: اتقاء الله، والعمل الصالح.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي صالح الشامى، قال: قال عمر بن عبد العزيز:
أنا ميت وعز من لا يموت ... قد تيقنت أنني سأموت
ليس ملك يزيله الموت ملكا ... إنما الملك ملك من لا يموت
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مفضل بن يونس، قال: قال عمر بن عبد العزيز: لقد نغص هذا الموت على أهل الدنيا ما هم فيه من غضارة الدنيا وزهوتها، فبينا هم كذلك وعلى ذلك أتاهم جاد من الموت فاخترمهم مما هم فيه، فالويل والحسرة هنا لك لمن لم يحذر الموت، ويذكره في الرخاء فيقدم لنفسه خيراً يجده بعدما فارق الدنيا وأهلها، قال: ثم بكى عمر حتى غلبه البكاء فقام.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن جابر بن نوح، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض أهل بيته، أما بعد فإنك إن استشعرت ذكر الموت في ليلك أو نهارك بغض إليك كل فان، وحبب إليك كل باق. والسلام.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أسماء بن عبيد قال: دخل عنبسة بن سعيد بن العاص على عمر بن عبد العزيز، فقال: يا أمير المؤمنين إن من كان قبلك من الخلفاء كانوا يعطون عطايا منعتناها، ولي عيال وضيعة، أفتأذن لي أن أخرج إلى ضيعتي وما يصلح عيالي؟ فقال عمر: أحبكم إلينا من كفانا مؤنته. فخرج من عنده فلما صار عن الباب قال عمر: أبا خالد أبا خالد، فرجع. فقال: أكثر من ذكر الموت فإن كنت في ضيق من العيش وسعه عليك، وإن كنت في سعة من العيش ضيقه عليك.(3/291)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عن جعونة، قال: قال عمر بن عبد العزيز: يا أيها الناس إنما أنتم أغراض تنتضل فيها المنايا، إنكم لا تؤتون نعمة إلا بفراق أخرى، وأية أكلة ليس معها غصة، وأية جرعة ليس معها شرقة، وإن أمْس شاهد مقبول قد فجعكم بنفسه، وخلف في أيديكم حكمته، وإن اليوم حبيب مودع وهو وشيك الظعن، وإن غداً آت بما فيه، وأين يهرب من يتقلب في يدي طالبه، إنه لا أقوى من طالب، ولا أضعف من مطلوب. إنما أنتم سفر تحلون عقد رحالكم في غير هذه الدار، إنما أنتم فروع أصول قد مضت فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبيد الله بن العيزار، قال: خطبنا عمر بن عبد العزيز بالشام على منبر من طين، فحمد الله وأثنى عليه، ثم تكلم بثلاث كلمات فقال: أيها الناس أصلحوا سرائركم تصلح علانيتكم، واعملوا لآخرتكم تكفوا دنياكم، واعلموا أن رجلاً ليس بينه وبين آدم آب حي لمغرق له في الموت. والسلام عليكم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي الحسن المدائني، قال: كتب عمر بن عبد العزيزإلى عمر بن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة يعزيه على ابنه: أما بعد، فإنا قوم من أهل الآخرة أسكنا الدنيا، أموات أبناء أموات، والعجب لميت يكتب إلى ميت يعزيه عن ميت. والسلام.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن المفضل التميمي، قال: آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز أن صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن ما في أيديكم أسلاب الهالكين، وسيتركها الباقون كما تركها الماضون، ألا ترون أنكم في كل يوم وليلة تشيعون غادياً أو رائحاً إلى الله تعالى، وتضعونه في صدع الأرض ثم في بطن الصدع، غير ممهد ولا موسد، قد خلع الأسلاب، وفارق الأحباب، وأسكن التراب، وواجه الحساب، فقير إلى ما قدم أمامه، غنى عما ترك بعده. أما والله إني لأقول لكم هذا وما أعرف من أحد من الناس مثل ما أعرف من نفسي، قال: ثم قال بطرف ثوبه على عينه فبكى ثم نزل، فما خرج حتى أخرج إلى حفرته.(3/292)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شعيب بن صفوان، عن عيسى أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى رجل: أما بعد: فإني أوصيك بتقوى لله، والانشمار لما استطعت من مالك وما رزقك الله إلى دار قرارك، فكأنك والله ذقت الموت وعاينت ما بعده بتصريف الليل والنهار فإنهما سريعان في طي الأجل ونقص العمر، لم يفتهما شىء إلا أفنياه، ولا زمن مرا به إلا أبلياه، مستعدان لمن بقى بمثل الذي أصاب من قد مضى، فنستغفر الله لسيء أعمالنا، ونعوذ به من مقته إيانا على ما نعظ به مما نقصر عنه.
*اخْوَانِي إِنَّكُمْ فِي دَارٍ هِيَ مَحَلُّ العِبَرِ وَالآفَاتِ، وَأَنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ، وَالطَّرِيقُ كَثِيرَةُ الْمُخَافَاتِ، فَتَزَوَّدُوا مِنْ دُنْيَاكُم قَبْلَ الْمَمَاتِ، وَتَدَارَكُوا هَفَوَاتِكُمْ قَبْلَ الفَوَاتِ، وَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ وَرَاقِبُوا اللهَ فِي الخَلَواتِ، وَتَفَكَّرُوا فِيمَا أَرَاكُمْ مِنْ الآيَاتِ، وَبَادِرُوا بالأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَاسْتَكْثِرُوا فِي أَعْمَارِكُمْ القَصِيرَةِ مِنْ الحَسَنَاتِ، قَبْْلَ أَنْ يُنَادِي بِكُمْ مُنَادِ الشَّتَاتِ، قَبْلَ أَنْ يُفَاجِئكُمْ هَادِمُ اللَّذَاتِ، قَبْلَ أَنْ يَتَصَاعَدَ مِنْكُمْ الأَنِينُ وَالزَّفَرَاتِ، قَبْلَ أَنْ تَنْقَطِعَ قُلُوبَكُمْ عِنْدَ فِرَاقِكُمْ حَسَرَاتٍ، قَبْلَ أَنْ يَغْشَاكُمْ مِنْ غَمَّ الْمَوْتِ الغَمَرَاتُ، قَبْلَ أَنْ تُزْعَجُوا مِنْ القُصُورِ إلى بُطُونِ الفَلَوَاتِ، قَبْلَ أَنْ يُحَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مَا تَشْتَهُونَ مِنْ هَذِهِ الحَيَاةِ، قَبْلَ أَنْ تَتَمَنَّوا رُجُوعَكُمْ إلى الدُّنْيَا وَهَيْهَاتَ. يَوْمَ يَتَجَرَّعُونَ كَأْسَ الْمَمَاتِ، وَيَشْهَدُ بِهَا عَلَيْهِمْ الْمَلَكَانِ كَاتِبُ الحَسَنَاتِ، وَكَاتِبُ السَّيِّئَاتِ.
آه لساعات شديدة الكربات، فيها غمرات ليست بنوم ولا سبات، تتقطع الأفئدة باللوم على الفوات، تبكي عين الأسى لما مضى من فوات، والمريض ملقى على فراش الحرقات، ... لِلَّهِ دَرّ أقَوامٍ بادَرُوا الأَوْقاتِ، واسْتَدْركُوا الْهَفَوات، واغتنموا الأوقات للعمل بالباقيات الصالحات، فالعَينُ مَشْغُولةٌ بالدَّمْع عن المحرَّماتِ، واللسانُ مَحبوسٌ في سِجْن الصَّمْت عن الهَلَكَاتْ، والكفُّ قد كُفَّتْ بالخوفِ عن الشهوات، والقَدَم قد قُيِّدت بِقَيدِ المحاسبَات. ولسان حالها يقول: كيف تهنأ بالشهوات، وهى مطية الآفات،(3/293)
فإذا حَلَّ بهم الليلُ رأيتهم يَجْأَرُونَ فيه بالأصْواتْ، وإذا جَاءَ النهارُ قَطَعُوهُ بمُقَاطَعة اللَّذات، فكَمِ مِن شَهْوَةٍ مَا بَلَغُوهَا حَتَّى الممات.
فتيقَّظْ لِلِحَاقِهم مِن هَذِهِ الرَّقَدات، ولا تَطْمَعَنَّ في الخَلاص مَعَ عَدمِ الإخلاص في الطاعات، ولا تُؤَمّلنّ النجاة وأنت مقيمٌ على المعاصي والموبقات، ذهبت اللذات وأعقبت الحسرات وانقضت الشهوات وأورثت الحسرات، ولا تغتر بصفاء الأوقات فإن تحتها غوامض الآفات. قال الله جل وعلا: {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وَذَهَبَتْ البَرَكَاتُ وَقلّتِ الْخَيْرَاتُ،
* لَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ عَامِكُمْ وَفَاتَ، وَتَقَضَّتْ أَيَّامُهُ وَلَيَاليه وَأَنْتُمْ مُنْهَمِكُونَ فِي اللَّذَاتِ، فَمَا أَسْرَعَ مَا تَضَرَّمَتْ مِنْهُ الأَوْقَاتُ، وَمَا أَكْثَرَ مَا خَطَبَكُمْ لِسَانُ حَاله بِزَوِاجِرِ العِظَاتِ، وَمَا أَطْوَلَ مَا نَادَى بِكُمْ مُنَادِي الشِّتَاتِ. ... فَطُوبَى لِمَنْ تَدَارَكَ الهَفَوَاتِ، وَبُشْرَى لِمَنْ لازَمَ تَقْوَى اللهِ، وَعَمِلَ بِالبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَهَنِيئًَا لِمَنْ أَذْهَبَ السَّيِّئَاتِ بِالحَسَنَاتِ، وَيَا خَيْبِةَ مَنْ شَغَلَتْهُ المَلاهِي وَالمُنْكَرَاتِ عَنْ طَاعَةِ رَفِيعِ الدَّرَجَاتِ، وَمَا أَعْظَمَ خَسَارَةَ مَنْ بَاعَ نَفِيسَ آخِرَتِهِ بِخَسِيسِ دُنْيَاهُ، وَحَسْرَةً لَهُ يَوْمَ {يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} وَتَعْسًا وَجَدْعًا لَهُ {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ}.(3/294)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي سريع الشامي، قال: قال عمر بن عبد العزيز لرجل من جلسائه: أبا فلان لقد أرقت الليلة تفكراً، قال: فيم يا أمير المؤمنين؟ قال: في القبر وساكنه، إنك لو رأيت الميت بعد ثالثة في قبره لاستوحشت من قربه بعد طول الأنس منك بناحيته، ولرأيت بيتاً تجول فيه الهوام، ويجرى فيه الصديد، وتخترقه الديدان. مع تغير الريح، وبلى الأكفان بعد حسن الهيئة وطيب الريح، ونقاء الثوب، ثم شهق شهقة وخر مغشياً عليه. فقالت فاطمة: يا مزاحم ويحك، أخرج هذا الرجل عنا فلقد نغص على أمير المؤمنين الحياة منذ ولى، فليته لم يل، قال: فخرج الرجل فجاءت فاطمة تصب على وجهه الماء وتبكى حتى أفاق من غشيته فرآها تبكي، فقال: ما يبكيك يا فاطمة؟ قالت: يا أمير المؤمنين رأيت مصرعك بين أيدينا فذكرت به مصرعك بن يدي الله للموت، وتخليك من الدنيا وفراقك لنا، فذاك الذي أبكاني. فقال: حسبك يا فاطمة فلقد أبلغت. ثم مال ليسقط فضمته إلى نفسها، فقالت: بأبي أنا يا أمير المؤمنين ما نستطيع أن نكلمك بكل ما نجد لك في قلوبنا، فلم يزل على حاله تلك حتى حضرته الصلاة، فصبت على وجهه ماء ثم نادته: الصلاة يا أمير المؤمنين، فأفاق فزعاً.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد السلام مولى مسلمة بن عبد الملك، قال: بكى عمر بن عبد العزيز فبكت فاطمة فبكى أهل الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلما تجلى عنهم العبر قالت له فاطمة: بأبي أنت يا أمير المؤمنين مم بكيت؟ قال: ذكرت يا فاطمة منصرف القوم من بين يدي الله عز وجل، فريق في الجنة وفريق في السعير، قال: ثم صرخ وغشى عليه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ميمون بن مهران، قال: خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقبرة، فلما نظر إلى القبور بكى ثم أقبل علي فقال: يا أبا أيوب هذه قبور آبائي بني أمية كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذتهم وعيشهم. أما تراهم صرعى قد خلت بهم المثلات، واستحكم فيهم البلاء، وأصابت الهوام في أبدانهم مقيلاً. ثم بكى حتى غشى عليه، ثم أفاق فقال: انطلق بنا فوالله ما أعلم أحداً أنعم ممن صار إلى هذه القبور وقد أمن عذاب الله.(3/295)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن محمد بن إبراهيم، حدثني أبي، عن جدي، قال: حج سليمان بن عبد الملك ومعه عمر بن عبد العزيز، فلما أشرفت على عقبة عسفان نظر سليمان إلى عسكره فأعجبه ما رأى من حجره وأبنيته، فقال: كيف ترى ما ها هنا يا عمر؟ قال: أرى يا أمير المؤمنين دنيا يأكل بعضها بعضاً، أنت المسئول عنها والمأخوذ بما فيها، فطار غراب من حجرة سليمان ينعب في منقاره كسره، فقال سليمان: ما ترى هذا الغراب يقول؟ قال: أظنه يقول من أين دخلت هذه الكسرة وكيف خرجت، قال: إنك لتجىء بالعجب يا عمر، قال: إن شئت أخبرك من هذا أخبرتك؟ قال: فأخبرني، قال: من عرف الله فعصاه. ومن عرف الشيطان فأطاعه، ومن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم اطمأن إليها، قال سليمان: نغصت علينا ما نحن فيه يا عمر، وضرب دابته وسار. فأقبل عمر حتى نزل عن دابته فأمسك برأسها وذلك أنه سبق ثقله، فرأى الناس كل من قدم شيئاً قدم عليه، فبكى عمر فقال سليمان: ما يبكيك؟ قال: هكذا يوم القيامة من قدم شيئاً قدم عليه، ومن لم يقدم شيئاً قدم على غير شيء.(3/296)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ليث بن أبي رقية - كاتب عمر بن عبد العزيز في خلافته ـ أن عمر كتب إلى ابنه في العام الذي استخلف فيه ـ وابنه إذ ذاك بالمدينة يقال له عبد الملك ـ أما بعد: فإن أحق من تعاهدت بالوصية والنصيحة بعد نفسى أنت، وإن أحق من رعى ذلك وحفظه عني أنت، وإن الله تعالى له الحمد قد أحسن إلينا إحساناً كثيراً بالغاً في لطيف أمرنا وعامته، وعلى الله إتمام ما عبر من النعمة وإياه نسأل العون على شكرها، فاذكر فضل الله على أبيك وعليك، ثم أعن أباك على ما قوى عليه وعلى ما ظننت أن عنده منه عجزاً عن العمل فيما أنعم به عليه وعليك في ذلك، فراع نفسك وشبابك وصحتك، وإن استطعت أن أكثر تحريك لسانك بذكر الله حمداً وتسبيحاً وتهليلاً فافعل، فإن أحسن ما وصلت به حديثاً حسناً حمد الله وذكره، وإن أحسن ما قطعت به حديثاً سيئاً حمد الله وذكره، ولا تفتتن فيما أنعم الله به عليك فيما عسيت أن تفرط به أباك فيما ليس فيه، إن اباك كان بين ظهرانى إخوته عند أبيه يفضل عليه الكبير، ويدني دونه الصغير، وإن كان الله وله الحمد قد رزقني من والدي حسباً جميلاً، كنت به راضياً أرى أفضل الذي يبره ولده على حقاً، حتى ولدت وولد طائفة من إخوتك، ولا أخرج بكم من المنزل الذي أنا فيه، فمن كان راغباً في الجنة وهارباً من النار فالآن في هذه الحالة والتوب مقبول، والذنب مغفور، قبل نفاذ الأجل، وانقضاء العمل، وفراغ من الله للثقلين ليدينهم بأعمالهم في موطن لا تقبل فيه الفدية، ولا تنفع فيه المعذرة، تبرز فيه الخفيات، وتبطل فيه الشفاعات، يرده الناس بأعمالهم، ويصدرون فيه أشتاتاً إلى منازلهم، فطوبى يومئذ لمن أطاع الله، وويل يومئذ لمن عصى الله، فإن ابتلاك الله بغنى فاقتصد في غناك، وضع الله نفسك، وأد إلى الله فرائض حقه في مالك وقل عند ذلك ما قال العبد الصالح: قال تعالى: (هََذَا مِن فَضْلِ رَبّي لِيَبْلُوَنِيَ أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) [النمل: 40].(3/297)
وإياك أن تفخر بقولك، وأن تعجب بنفسك، أو يخيل إليك أن ما رزقته لكرامة بك على ربك، وفضيلة على من لم يرزق مثل غناك، فإذا أنت أخطأت باب الشكر، ونزلت منازل أهل الفقر، وكنت ممن طغى للغنى وتعجل طيباته في الحياة الدنيا، فإني لأعظك بهذا وإني لكثير الإسراف على نفسي، غير محكم لكثير من أمري، ولو أن المرء لم يعظ أخاه حتى يحكم نفسه، ويكمل في الذي خلق له لعبادة ربه، إذاً تواكل الناس الخير، وإذاً يرفع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستحلت المحارم، وقل الواعظون، والساعون لله بالنصيحة في الأرض. فلله الحمد رب السموات والأرض رب العالمين، وله الكبرياء في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم.(3/298)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن إسماعيل بن إبراهيم بن أبي حبيبة: أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى بعض عماله، أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله ولزوم طاعته، فإن بتقوى الله نجا أولياء الله من سخطه، وبها تحقق لهم ولايته، وبها رافقوا أنبيائهم، وبها نضرت وجوههم، وبها نظروا إلى خالقهم، وهي عصمة في الدنيا من الفتن، والمخرج من كرب يوم القيامة، ولم يقبل ممن بقى إلا بمثل ما رضي عمن مضى ولمن بقى عبرة فيما مضى، وسنة الله فيهم واحدة، فبادر بنفسك قبل أن تؤخذ بكظمك، ويخلص إليك كما خلص إلى من كان قبلك، فقد رأيت الناس كيف يموتون وكيف يتفرقون، ورأيت الموت كيف يعجل التائب توبته وذا الأمل أمله، وذا السلطان سلطانه، وكفى بالموت موعظة بالغة، وشاغلاً عن الدنيا، ومرغباً في الآخرة، فنعوذ بالله من شر الموت وما بعده، ونسأل الله خيره وخير ما بعده، ولا تطلبن شيئاً من عرض الدنيا بقول ولا فعل تخاف أن يضر بآخرتك، فيزري بدينك، ويمقتك عليه ربك، واعلم أن القدر سيجري إليك برزقك، ويوفيك أملك من دنياك بغير مزيد فيه بحول منك ولا قوة، ولا منقوصاً منه بضعف. إن أبلاك الله بفقر فتعفف في فقرك وأخبت لقضاء ربك، واعتبر بما قسم الله لك من الإسلام، ما ذوى منك من نعمة الدنيا فإن في الإسلام خلفاً من الذهب والفضة من الدنيا الفانية. اعلم أنه لن يضر عبداً صار إلى رضوان الله وإلى الجنة ما أصابه في الدنيا من فقر أو بلاء، وأنه لن ينفع عبداً صار إلى سخط الله و وإلى النار ما أصاب في الدنيا من نعمة أو رخاء، ما يجد أهل الجنة من مكروه أصابهم في دنياهم، ما يجد أهل النار طعم لذة نعموا بها في دنياهم، كل شيء من ذلك كأن لم يكن. تشيعون غادياً أو رائحاً إلى الله قد قضى نحبه، وانقضى أجله، وتغيبونه في صدع من الأرض، ثم تدعونه غير متوسد ولا متمهد، فارق الأحبة، وخلع الأسلاب، وسكن التراب، وواجه الحساب، مرتهناً بعمله، فقيراً إلى ما قدم، غنياً عما ترك، فاتقوا الله قبل نزول الموت، وانقضاء موافاته، وأيم الله إني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما أعلم عندي، وأستغفر الله وأتوب إليه.(3/299)
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سالم بن عبد الله بن عمر: أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى سالم بن عبد الله، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن الله ابتلاني به من أمر هذه الأمة من غير مشاورة مني فيها، ولا طلبة مني لها، إلا قضاء الرحمن وقدره، فأسأل الذي ابتلاني من أمر هذه الأمة بما ابتلاني أن يعينني على ما ولاني، وأن يرزقني منهم السمع والطاعة وحسن مؤازرة، وأن يرزقهم مني الرأفة والمعدلة، فإذا أتاك كتابي هذا فابعث إلى بكتب عمر بن الخطاب وسيرته وقضاياه في أهل القبلة وأهل العهد، فإني متبع أثر عمر وسيرته إن أعانني الله على ذلك والسلام. فكتب إليه سالم ابن عبد الله: بسم الله الرحمن الرحيم، من سالم بن عبد الله بن عمر إلى عبد الله عمر أمير المؤمنين، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن الله خلق الدنيا لما أراد، وجعل لها مدة قصيرة كان بين أولها وآخرها ساعة من نهار، ثم قضى عليها وعلى أهلها الفناء فقال: (كُلّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص: 88].(3/300)
لا يقدر منها أهلها على شيء حتى تفارقهم ويفارقوها، أنزل بذلك كتابه، وأنزل بذلك رسله، وقدم فيه بالوعيد، وضرب فيه الأمثال، ووصل به القول، وشرع فيه دينه، وأحل الحلال وحرم الحرام وقص فأحسن القصص، وجعل دينه في الأولين والآخرين فجعله ديناً واحداً فلم يفرق بين كتبه، ولم تختلف رسله، ولم يشق أحد بشيء من أمر سعد به أحد، ولم يسعد أحد من أمره بشىء شقى به أحد، وإنك اليوم يا عمر لم تعد أن تكون إنساناً من بني آدم، يكفيك من الطعام والشراب والكسوة ما يكفي رجلاً منهم، فاجعل فضل ذلك فيما بينك وبين الرب الذي توجه إليه شكر النعم، فإنك قد وليت أمراً عظيماً ليس يليه عليك أحد دون الله، قد أفضى فيما بينك وبين الخلائق، فإن استطعت أن تغنم نفسك وأهلك فافعل، ولا قوة إلا بالله، فإنه قد كان قبلك رجال عملوا بما عملوا، وأماتوا ما أماتوا من الحق، وأحيوا ما أحيوا من الباطل، حتى ولد فيه رجال ونشأوا فيه وظنوا أنها السنة، ولم يسددوا على العباد باب رخاء إلا فتح عليهم باب بلاء، فإن استطعت أن تفتح عليهم أبواب الرخاء فإنك لا تفتح عليهم منها باباً إلا سد به عنك باب بلاء، ولا يمنعك من نزع عامل أن تقول لا أجد من يكفيني عمله، فإنك إذا كنت تنزع لله وتعمل لله أتاح الله لك رجالاً وكالا بأعوان الله، وإنما العون من الله على قدر النية، فإذا تمت نية العبد تم عون الله له، ومن قصرت نيته قصر من الله العون له بقدر ذلك، فإن استطعت أن تأتي الله يوم القيامة ولا يتبعك أحد بظلم ويجىء من كان قبلك وهم غابطون لك بقلة إتباعك وأنت غير غابط لهم بكثرة أتباعهم فافعل، ولا قوة إلا بالله، فإنهم قد عاينوا وعالجوا نزع الموت الذي كانوا منه يفرون، وانشقت بطونهم التي كانوا فيها لا يشبعون، وانفقأت أعينهم التي كانت لا تنقضي لذاتها، واندقت رقابهم في التراب غير موسدين بعد ما تعلم من تظاهر الفرش والمرافق، فصاروا جيفاً تحت بطون الأرض تحت آكامها، لو كانوا إلى جنب مسكين تأذى بريحهم، بعد إنفاق ما لا يحصى عليهم من الطيب، كان إسرافاً وبداراً عن الحق، فإنا لله وإنا إليه راجعون.(3/301)
ما أعظم يا عمر وأفظع الذي سبق إليك من أمر هذه الأمة، فأهل العراق فليكونوا من صدرك بمنزلة من لا فقر بك إليه، ولا غنى بك عنه، فإنهم قد وليتهم عمال ظلمة قسموا المال وسفكوا الدماء، فإنه من تبعث من عمالك كلهم أن يأخذوا بجبية، وأن يعملوا بعصبية، وأن يتجبروا في عملهم، وأن يحتكروا على المسلمين بيعاً، وأن يسفكوا دماً حراماً. الله الله يا عمر في ذلك، فإنك توشك إن اجترأت على ذلك أن يؤتى بك ضغيراً ذليلاً، وإن أنت اتقتيت ما أمرتك به وجدت راحته على ظهرك وسمعك وبصرك، ثم أنك كتبت إلى تسأل أن أبعث إليك بكتاب عمر بن الخطاب وسيرته وقضائه في المسلمين وأهل العهد، وأن عمر عمل في غير زمانك، وإني أرجو إن عملت بمثل ما عمل أن تكون عند الله أفضل منزلة من عمر، وقل كما قال العبد الصالح: (وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىَ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِيَ إِلاّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود: 88]. والسلام عليك.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عمر بن محمد المكي، قال: خطب عمر بن عبد العزيز فقال: إن الدنيا ليست بدار قراركم، دار كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها منها الظعن، فكم عامر موثق عما قليل مخرب، وكم مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما يحضركم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، إنما الدنيا كفيء ظلال قلص فذهب. بينا ابن آدم في الدنيا ينافس فيها وبها قرير العين إذ دعاه الله بقدره، ورماه بيوم حتفه، فسلبه آثاره ودنياه، وصير لقوم آخرين مصانعه ومغناه، إن الدنيا لا تسر بقدر ما تضر، إنها تسر قليلاً، وتجر حزناً طويلاً.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: خطب عمر بن عبد العزيز هذه الخطبة، وكان آخر خطبة خطبها، حمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنكم لم تخلقوا عبثاً، ولم تتركوا سدى، وإن لكم معاداً ينزل الله فيه ليحكم بينكم ويفصل بينكم، وخاب وخسر من خرج من رحمة الله وحرم جنة عرضها السموات والأرض، ألم تعلموا أنه لا يأمن غداً إلا من حذر الله اليوم وخافه وباع نافداً بباق، وقليلاً بكثير، وخوفاً بأمان؟ ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وستصير من بعدكم للباقين، وكذلك حتى تردوا إلى خير الوارثين.(3/302)
ثم إنكم تشيعون كل يوم غادياً ورائحاً، قد قضى نحبه، وانقضى أجله، حتى تغيبوه في صدع من الأرض، في شق صدع، ثم تتركوه غير ممهد ولا موسد، فارق الأحباب، وباشر التراب، ووجه للحساب، مرتهن بما عمل، غني عما ترك، فقير إلى ما قدم. فاتقوا الله وموافاته وحلول الموت بكم، أما والله إني لأقول هذا وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما عندي وأستغفر الله، وما منكم من أحد يبلغنا حاجته لا يسع له ما عندنا إلا تمنيت أن يبدأ بي وبخاصتي حتى يكون عيشنا وعيشه واحداً، أما والله لو أردت غير هذا من غضارة العيش لكان اللسان به ذلولاً، وكنت بأسبابه عالماً، ولكن سبق من الله كتاب ناطق، وسنة عادلة، دل فيها على طاعته، ونهى فيها عن معصيته، ثم رفع طرف ردائه فبكى وأبكى من حوله.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عون بن معمر قال: كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد، فكأنك بآخر من كتب عليه الموت قيل قد مات. فأجابه عمر: أما بعد، فكأنك بالدنيا ولم تكن، وكأنك بالآخرة ولم تزل.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، قال: قال عمر لرجل: أوصيك بتقوى الله فإنها ذخيرة الفائزين، وحرز المؤمنين، وإياك والدنيا أن تفتنك فإنها قد فعلت ذلك بمن كان قبلك، إنها تغر المطمئنين إليها، وتفجع الواثق بها، وتسلم الحريص عليها، ولا تبقى لمن استبقاها، ولا يدفع التلف عنها من حواها، لها مناظر بهجة. ما قدمت منها أمامك لم يسبقك، وما أخرت منها خلفك لم يلحقك.
• رحم الله رجلاً أيقظ نفسه في مهلة الحياة قبل الممات، واستعد للموت قبل حلول الفوات، وتضرَّع إلى الله قائلاً: اللهم يا عالم الخفيات ويا رفيع الدرجات، وَيَا مُجِيبَ الدَّعَوَاتِ وَيَا قَاضِي الحَاجَاتِ وَيَا سَامِعَ الأَصْوَاتِ وَيَا بَاعِثَ الأَمْواتِ و يَا خَالَق الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، اعصمنا عن المعاصي والزلات ووفقنا لاغتنام الأوقات للعمل بالباقيات الصالحات.(3/303)
• رحم الله رجلاً له واعظٌ من نفسه يبكي على خطيئته ويقول: ويحي، بأي شيء لم أعص ربي، ويحي إنما عصيته بنعمته عندي، ويحي من خطيئة ذهبت شهوتها وبقيت تبعتها، عندي كتاب كتبه كتاب لم يغيبوا عني، واسوأتاه لم أستحيهم ولم أراقب ربي. ويحي نسيت ما لم ينسوا مني. ويحي غفلت ولم يغفلوا عني، ولم أستحيهم ولم أراقب. وأسوأتاه ويحي حفظوا ما ضيعت مني، ويحي طاوعت نفسي وهي لم تطاوعني، ويحي طاوعتها فيما يضرني ويضرها، ويحي إلا تطاوعني نفسي وهي لم تطاوعني، ويحي طاوعتها فيما يضرني ويضرها، ويحي ألا تطاوعني فيما ينفعها وينفعني، أريد إصلاحها وتريد أن تفسدني، ويحها إني لأنصفها وما تنصفني، أدعوها لرشدها وتدعوني لتغويني، ويحها إنها لعدو لو أنزلته تلك المنزلة مني. ويحها تريد اليوم أن تردني وغداً تخاصمني.
رب لا تسلطها علي ذلك مني، رب إن نفسي لم ترحمني فارحمني، رب إني أعذرها ولا تعذرني، إنه إن يك خيراً أخذلها وتخذلني، وإن يك شراً أحبها وتحبني، رب فعافني منها وأعفها مني، حتى لا أظلمها ولا تظلمني، وأصلحني لها وأصلحها لي، فلا أهلكها ولا تهلكني، ولا تكلني إليها ولا تكلها إلي.
ويحي كيف أنساه ولا ينساني، ويحي إنه يقص أثري فإن فررت لقيني، وإن أقمت أدركني. ويحي هل عسى أن يكون قد أظلني فمساني؟ وصبحني أو طرقني فبغتني؟ ويحي أزعم أن خطيئتي قد أقرحت قلبي، ولا يتجافى جنبي، ولا تدمع عيني ولا تسهر لي. ويحي كيف أنام على مثلها ليلي، ويحي هل ينام على مثلها مثلي، ويحي لقد خشيت أن لا يكون هذا الصدق مني؟ بل ويلي إن لم يرحمني ربي.
ويحي كيف لا تهون قوتي ولا تعطش هامتي، بل ويلي إن لم يرحمني ربي. ويحي كيف لا أنشط فيما يطفئها عني؟ بل ويلي إن ل يرحمني ربي.(3/304)
ويحي كيف لا يذهب ذكر خطيئتي كسلي، ولا يبعثني إلى ما يذهبها عني، بل ويلي إن لم يرحمني ربي، ويحي كي تنكأ قرحتي ما تكسب يدي، ويح نفسي بل ويلي إن لم يرحمني ربي. ويحي لا تنهاني الأولى من خطيئتي عن الآخرة، ولا تذكرني الآخرة من خطيئتي بسوء ما ركبت من الأولى، فويلي ثم ويلي إن لم يتم عفو ربي، ويحي لقد كان لي فيما استوعبت من لساني وسمعي وقلبي وبصري اشتغال، فويل لي إن لم يرحمني ربي، ويحي إن حجبت يوم القيامة عن ربي لم يزكني ولم ينظر إلي ولم يكلمني، فأعوذ بنور وجه ربي من خطيئتي، وأعوذ بك أن أُعطى كتابي بشمالي أو من وراء ظهري، فيسود به وجهي، وتزرق به مع العمى عيني. بل ويلي إن لم يرحمني ربي. ويحي بأي شيء استقبل ربي؟ بلساني أم بيدي أم بسمعي أم بقلبي أم ببصري. ففي كل هذا له الحجة والطلبة عندي، ويل لي إن لم يرحمني ربي، كيف لا يشغلني ذكر خطيئتي عما لا يعنيني؟ ويحك يا نفس مالك لا تنسين مالا ينسى؟ وقد أتيت مالا يؤتى، وكل ذلك عند ربك يحصى، كتاب لا يبيد ولا يبلى، ويحك لا تخافين أن أجزي فيمن يجزي يوم تجزى كل نفس بما تسعى وقد آثرت ما يفني على ما يبقى.
يا نفس ويحك إلا تستفيقين مما أنت فيه؟ إن سقمت تندمين، وإن صححت تأثمين، مالك إن افتقرت تحزنين، وإن استغنيت تفتنين. مالك إن نشطت تزهدين، فلم إن دعيت تكسلين؟ أراك ترغبين قبل أن تنصبي، ولم لا تنصبين فيما ترغبين.
يا نفس ويحك لم تخالفين؟ تقولين في الدنيا قول الزاهدين وتعملين فيها عمل الراغبين. ويحك لم تكرهين الموت؟ لم لا تذعنين وتحبين الحياة، لم لا تصنعين.
يا نفس ويحك أترجين أن ترضى ولا ترضين، وتجانبين وتعصين، مالك إن سألت تكثرين، فلم إن أنفقت تقترين؟ أتريدين الحياة؟ ولم تحذرين بتغير الزيادة، ولم تشكرين، تعظمين في الرهبة حين تسألين، وتقصرين في الرغبة حين تعملين، تريدين الآخرة بغير عمل، وتؤخرين التوبة لطول الأمل.
لا تكوني كمن يقال هو في القول مدل، ويستصعب عليه الفعل، بعض بني آدم إن سقم ندم، وإن صح أمن، وإن افتقر حزن، وأن استغنى فتن، وإن نشط زهد، وإن رغب كسل، يرغب قبل أن ينصب، ولا ينصب فيما يرغب، يقول قول الزاهد، ولا يعمل عمل الراغب، يكره الموت ما لا يدع، ويحب الحياة لما لا يصنع. إن سأل أكثر، وإن أنفق قتر، يرجو الحياة ولم يحذر، ويبغي الزيادة ولم يشكر، يبلغ الرغبة حين يسأل، ويقصر في الرغبة حين يعمل، يرجو الأجر بغير عمل.(3/305)
ويح لنا ما أغرنا، ويح لنا ما أغفلنا، ويح لنا ما أجهلنا، ويح لنا لأي شيء خلقنا؟ للجنة أم للنار، ويح لنا أي خطر خطرنا، ويح لنا من أعمال قد أخطرتنا، ويح لنا مما يراد بنا، ويح لنا كأنما يعني غيرنا، ويح لنا إن ختم على أفواهنا، وتكلمت أيدينا، وشهدت أرجلنا. ويح لنا حين تفتش سرائرنا، ويح لنا حين تشهد أجسادنا، ويح لنا مما قصرنا، لا براءة لنا، ولا عذر عندنا، ويح لنا ما أطول أملنا، ويح لنا حيث نمضي إلى خالقنا. ويح لنا الويل الطويل إن لم يرحمنا ربنا، فارحمنا يا ربنا.
رب ما أحكمك، وأمجدك، وأجودك، وأرأفك، وأرحمك، وأعلاك، وأقربك، وأقدرك، وأقهرك، وأوسعك، وأقضاك، وأبينك، وأنورك، وألطفك، وأخبرك، وأعلمك، وأشكرك، وأرحلمك، وأحكمك، وأعطفك، وأكرمك.
رب ما أرفع حجتك، وأكثر مدحتك، رب ما أبين كتابك، وأشد عقابك، رب ما أكرم مآبك، وأحسن ثوابك، رب ما أجزل عطاءك، وأجل ثناءك، رب ما أحسن بلاءك، وأسبغ نعماءك، رب ما أعلى مكانك، وأعظم سلطانك، رب ما أعظم عرشك، وأشد بطشك، رب ما أوسع كرسيك، وأهدى مهديك، رب ما أوسع رحمتك، وأعرض جنتك، رب ما أعز نصرك، واقرب فتحك، رب ما أعمر بلادك، وأكثر عبادك، رب ما أوسع رزقك، وأزيد شكرك، رب ما أسرع فرجك، وأحكم صنعك، رب ما ألطف خيرك، وأقوى أمرك، رب ما أنور عفوط، وأجل ذكرك، رب ما أعدل حكمك، وأصدق قولك، رب ما أوفى عهدك، وانجز وعدك، رب ما أحضر نفعك، وأتقن صنعك.(3/306)
ويحي؟ كيف أغفل ولا يغفل عني، أم كيف تهنئني معيشتي واليوم الثقيل ورائي، أم كي لا يطول حزني ولا أدري ما يفعل بي؟ أم كيف تهنئني الحياة ولا أدري ما أجلي؟ أم كيف تعظم فيها رغبتي والقليل فيها يكفيني، أم كيف آمن ولا يدوم بها حالي؟ أم كيف يشتد حبي لدار ليست بداري؟ أم كي أجمع لها وفي غيرها قراري؟ أم كيف يشتد عليها حرصي ولا ينفعني ما تركت فيها بعدي، أم كيف أوثرها وقد أضرت بمن آثرها قبلي، أم كي لا أبادر بعملي قبل أن يغلق باب توبتي، أم كيف يشتد إعجابي بما يزايلني وينقطع عني، أم كيف أغفل عن أمر حسابي وقد أظلني واقترب مني، أم كيف أجعل شغلي بما قد تكفل به لي، أم كيف اعاود ذنوبي وأنا معروض على عملي، أم كيف لا أعمل بطاعة ربي وفيها النجاة مما أحذر على نفسي، أم كيف لا يكثر بكائي ولا أدري ما يراد ربي؟ أم كيف تقر عيني مع ذكر ما سلف مني، أم كيف أعرض نفسي لما لا يقوى له هوائي، أم كيف لا يشتد هولي مما يشتد منه جزعي، أم كيف تطيب نفسي مع ذكرها ما هو أمامي، أم كيف يطول أملي والموت أثري، أم كيف لا أراقب ربي وقد أحسن طلبي.
ويحي فهل ضرت غفلتي أحدا سوائى، أم هل يعمل لي غيري إن ضيعت حظي، أم هل يكون عملي إلا لنفسي، فبم ادخر عن نفسي ما يكون نفعه لي؟ ويحي كأنه قد تصرم أجلي ثم أعاد ربي خلقي كما بدأني، ثم أوقفني وسألني وسأل عني وهو أعلم بي ثم أشهدت الأمر الذي أذهلني عن أحبابي وأهلي، وشغلت بنفسي عن غيري، وبدلت السموات والأرض وكانتا تطيعان وكنت أعصي؛ وسيرت الجبال وليس لها مثل خطيئتي، وجمع الشمس والقمر وليس عليهما مثل حسابي؛ وانكدرت النجوم وليست تطلب بما عندي، وحشرت الوحوش ولم تعمل بمثل عملي، وشاب الوليد وهو أقل ذنباً مني.
ويحي ما أشد حالي وأعظم خطري، فاغفر لي واجعل طاعتك همي، وقو عليها جسدي، وسخ نفسي عن الدنيا واشغلني فيما يعنيني، وبارك لي في قواها حتى ينقضي مني حالي، وامتن علي وارحمني حين تعيد بعد اللقاء خلقي، ومن سوء الحساب فعافني يوم تبعثني فتحاسبني، ولا تعرض عني يوم تعرضني بما سلف من ظلمي وجرمي، وآمني يوم الفزع الأكبر يوم لا تهمني إلا نفسي، وارزقني نفع عملي يوم لا ينفعني عمل غيري.(3/307)
إلهي أنت الذي خلقتني، وفي الرحم صورتني، ومن أصلاب المشركين نقلتني، قرنا فقرنا حتى أخرجتني في الأمة المرحومة، إلهي فارحمني إلهي فكما مننت علي بالإسلام فامنن علي بطاعتك، وبترك معاصيك أبداً ما أبقيتني ولا تفضحني بسرائري، ولا تخذلني بكثرة فضائحي.
سبحانك خالقي أنا الذي لم أزل لك عاصيا فمن أجل خطيئتي لا تقر عيني، وهلكت إن لم تعف عني، سبحانك خالقي بأي وجه ألقاك؟ وبأي قدم أقف بين يديك? وبأي لسان أناطقك؟ وبأي عين أنظر إليك؟ وأنت قد علمت سرائر أمري، وكيف أعتذر إليك إذا ختمت على لساني، ونطقت جوارحي بكل الذي قد كان مني.
سبحانك خالقي فأنا تائب إليك متبصبص، فاقبل توبتي، واستجب دعائي وارحم شبابي، وأقلني عثرتي، وارحم طول عبرتي، ولا تفضحني بالذي قد كان مني.
سبحانك خالقي أنت غياث المستغيثين، وقرة أعين العابدين، وحبيب قلوب الزاهدين، فإليك مستغاثي ومنقطعي، فارحم شبابي، واقبل توبتي، واستجب دعوتي، ولا تخذلني بالمعاصي إلى كانت مني.
إلهي علمتني كتابك الذي أنزلته على رسولك محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم وقعت على معاصيك وأنت تراني، فمن أشقى مني إذا عصيتك وأنت تراني، وفي كتابك المنزل قد نهيتني، إلهي أنا إذا ذكرت ذنوبي ومعاصيي لم تقر عيني للذي كان مني، فأنا تائب إليك فاقبل ذلك مني، ولا تجعلني لنار جهنم وقودا بعد توحيدي، وإيماني بك. فاغفر لي ولوالدي ولجميع المسلمين برحمتك آمين رب العالمين.
• أما علمت أخي أن الدنيا نعيمها ابتلاء، وحياتها عناء، كم نقلتك من صَفِاءٍ وَرَخَاءِ إلى كَدَرٍ وبلاء، ومن وَسُرُورٍ و وَحَبُور إلى هُمٍ و بَلاءٍ، فَاصْبِرْ عَلَى شِدَّةِ الدَّوَاءِ لِمَا تَخَافُ مِنْ طُولِ الْبَلاءِ، وأصلح نفسك قبل أن يسْتَفْحَلَ الدَّاءُ فلَمْ ينفع دَّوَاءُ.
• عجبت لمن كان الْمَوْتُ يَطْلُبُهُ كَيْفَ يَقِرُّ لَهُ قَرَار وَمَنْ كَانَ الدَّهْرُ يُجَارِيهِ فَكَيْفَ يُطِيقُ الانْتِصَار، وَمَنْ كَانَ رَاحِلاً عَنِ الدُّنْيَا إلى الآخِرَةِ كَيْفَ يَلَذُّ لَهُ قَرَارُ، عَجَبًا لِمَنْ يَمْلأ عَيْنهُ بِالنَّوْمِ وَهُوَ لا يَدْرِي أَيُسَاقُ إلى الْجَنَّةِ أَوْ إلى النَّارِ، نسأل الله العزيز الغفار أن يجعلنا من جملة الأخيار وأن يجعلنا من عباده الأبرار، وأن يجعلنا ممن أحبه فزهده في هذه الدار، وحرص على مرضاته وتأهب لدار القرار واجتهد في طاعته وملازمة ذكره وحمده وشكره بالعشي والإبكار.(3/308)
• ما للأنفسِ إلى زهرة الحياة الدُّنْيَا الفانية ناظرة، وما للأقدام عن طَرِيق الهداية الواضحة حائرة وما للعزائم والهمم عن الْعَمَل الصالح فاترة وما للنفوس لا تتزود من التقوى وهي مسافرة وما لها لا تتأهب وتستعد للنقلة إلى دار الآخِرَة، أركونًا إلى الدُّنْيَا وقَدْ فرقت الجموع وكسرت أعناق الأكاسرة وقصرت آمال القياصرة وأدارت على أهلها من تقلبها الدائرة أم اغترارًا بالإقامة، ومطايا الأيام بكم في كُلّ لحظة سائرةٍ أم تسويفًا بالتوبة والأعمال فهذه وَاللهِ الفكرة والصفقة الخاسرة.
• عباد الله أوصي نفسي وإياكم بِتَقْوَى اللهِ الملك العَلام الحَيِّ القَيُّومِ الذي لا يَنَامُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَحْسَنَ فَعَلَيْهِ بالتَّمَامِ، وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ أساء فَلْيَخْتِم بالْحُسْنَى، فَالعَمَلُ بَالْخِتَامِ، أَمَّا أَوْضْحَ لَكُمْ الطَّريقَ المُوصِلَ إلى دَارِ السَّلامِ، أَمَّا بَعَثَ إِلَيْكُمْ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَبْلِيغِ الشَّرَائِعَ وَالأحْكَامِ، أَمَّا أَنْزَلَ عَلَيْهِ الذِّكْرَ لِيُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا أَوْدَعَهُ فِيهِ مِنْ الأَحْكَام، أَمَا دَعَاكُمْ إِلى التَّوَكّلِ عَلَيْهِ وَالاعْتِصَامِ، أَمَّا حَثَّكُم إلى العَمَلَ فِيمَا يُقَرِّبُ إلى دَارِ السَّلامِ، أَمَّا حَذَّرَكُمْ عَوَاقِبَ مَعَاصِيهِ وَنَهَاكُمْ عَنْ الآثَامِ، أَمَا أنْذَركُم هَوْلَ يَوْمٍ أَطْوَلَ الأَيَّامِ، اليَوْمُ الذي يَشِيبُ فِيهِ الوِلْدَانْ، وَتَنْفَطِرُ فِيهِ السَّمَاءُ، وَتَنْكَدِرُ فِيهِ النُّجُومِ، وَتَظْهَرُ فِيهِ أَمُورٌ عِظَامٌ، أَمَّا خَوَّفكمُ مَوَارِدُ الحَمَامِ، أَمَا ذَكَّرَكُمْ مَصَارِعَ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ الأَنَامِ، أَمَا أَمَدَّكُم بالأبْصَارِ وَالأَسْمَاعِ وَصِحَّةِ الأَجْسَامِ، أَمَا وَعَدَكَمُ بِقَبُولِ تَوْبَةِ التَّائِبِينَ رَحْمَةً مِنْهُ جَرَتْ بِهِ الأَقْلامُ، فَوَاللهِ لَحُقَّ لِهَذَا الرَّبِ العَظِيمِ أَنْ يُطَاعَ فَلا يُعْصَى عَلَى الدَّوَامِ، فَيَا أَيُّهَا الشُّيُوخُ بَادِرُوا فَمَا لِلزرْعِ إِذَا أَحْصَدَ إلا الصِّرَامُ، وَيَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ جُدُّوا في العَمَلِ فُرَبُّ امْرئٍ مَا بَلَغَ التَّمَامَ، وَاحْذَرُوا عِقَابَ رَبِّكُم يَوْمَ يُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ،(3/309)
• عباد الله عليكم بتقوى الله، فإن تقواه عروة مالها انفصام وقدوة يأتم بها الكرام، وسراج يضيء للأفهام
• أما آن لكم أن ترجعوا إلى ربكم ذي الجلال والإكرام وأن تخشوْا يَومًا تُزَلْزَلُ فِيهِ الأَقْدَامُ، وَتُرعدُ فِيهِ الأَجْسَامُ، وَتَتَضَاعَفُ فِيهِ الآلامُ، وَتَتَزَايَدُ فِيهِ الأَسْقَامُ. وَيَطُولُ فِيهِ الْقِيَامُ،
• أما آن لكم أن تغْتَنِمُوا بَقِيَّةَ الْعُمُرِ وَالأَيَّامِ، وأن تَبَادِرُوا بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْمَعَاصِيَ وَالإِجْرَامِ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ تَشَقَّقُ فِيهِ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَتَظْهَرُ فِيهِ الْخَفَايَا وَالدَّوَاهِي وَالأَهْوَالُ الطَّوَام، وَتُنَكِّسُ فِيهِ الظَّلَمَةُ رُؤُوسَهَا وَيَعْلُوهَا الذُّلُ مِن الرُّؤُوسِ إلى الأَقْدَامِ وَيَتَجَلَّى لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ حَاكِمُ الْحُكَّام.
• أما علمتم أن السعي للجنة لا يكون بالكلام، ولا بالأماني والأحلام، ولكن بالجِدِ والاهتمام
• أما آن لكم أن تنتبهوا من نومكم، أوما علمتم أن الدُّنْيَا أضغاث أحلام، ودار فناء لَيْسَتْ بدار مقام، ستعرفون نصحي لكم بعد أيام.
• رَحِمَ اللهُ عَبْدًا أَقْبَلَ عَلَى الْبَاقِي وَأَعْرَضَ عَن الْفَانِي مِنَ الْحُطَامِ. وَجَعَلَ لِشَارِدِ النَّفْسِ مِنَ التَّقْوَى أَقْوَى زِمَام. وَاجْتَنَبَ الظُّلْم فَإِنَّ الظُّلْمَ يُخْرُجُ مِنَ النُّورِ إِلى الظَّلامِ. فَنَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ تَوْفِيقًا يُقَرِّبُنَا مِنَ الْحَلالِ وَيُبْعِدُنَا عَن الْحَرَامِ. وَطَرِيقًا إِلى الْخَيْرَاتِ لِنَتَمَسَّكَ بِالزَّمَامِ. وَأَمْنًا يَوْمَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ يُبَلِّغُنَا غَايَةَ الْمُنَى. قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلا: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} [إبراهيم: 23]
• عباد الله: َالْبَقَاءُ فِي الدُّنْيَا مُحَالٌ، لابد من الارتحال ليومٍ شديد الأهوال، حيثُ لا عثرة تُقال ولا رجعة تُنال، لا يفكرون بالزوال، ولا يهمون بانتقال، ولا يخطر الموت لهم على بال، فهل أعددت له صالح الأعمال،(3/310)
و تزودوا للرحيل فقَدْ دنت الآجال و قرب الارتحال، فَإِيَّاكُمْ والاغترار بالآمال، واستعدوا له بصالح الأَعْمَال، واستشعروا التَّقْوَى فِي الأقوال والأفعال،، وكفى ما ضاع من أَعْمَارَنَا فِي الْقِيلِ وَالْقَالِ، وكثرة الجدال، وقَوْلٌ بلا فِعَال وأمْرٌ بلا امتثال، فكيف بك إذا أنت مُتُ على هذا الحال، وتقطعت منك الأوصال ولم يبقَ إلا الحساب على أقبح الخصال وأشنع الخِلال، أما تخشى سوء المآل، أما تَعِي ما أقول أم ران على قلبك قبائح الأعمال وضُرِب على قلبك وسمعِك من الذنوب أقفال.
أما ضرب الله لكم الأمثال، ووقَّتَ لكم الآجال، و جَادَ عَلَى عِبَادِهِ بِالأنْعَامِ وَالأَفْضَالِ، فهل أعددتم ِصَالِحِ الأَعْمَالِ، للنجاة من النَّارِ وَمَا أَعَدَّهُ فِيهَا مِنَ العَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالأَغْلالِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهَا مِنَ الأَهْوَالِ،
اعملوا هداكم من بأنواره يهتدي الضلال، وبرضاه ترفع الأغلال، وبالتماس قربه يحصل الكمال، إذا ذهب المال، وأخلفت الآمال، وتبرأت من يمينها الشمال
• عباد الله: َالْبَقَاءُ فِي الدُّنْيَا مستحيل لابد من الرحيل فتزود للسفر الطويل لابد من الإرتحال ليومٍ شديد الأهوال فأعدَّ له صالح الأعمال قبل طي الآجال
• عباد الله: َإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بِالْفُرَاقِ وَإِنَّ الآخِرَة قَدْ أَشْرَفَتْ لِلتَّلاقِ، رحم الله رجلاً أضمر نفسه للسباق، وساقها إلى الغاية أشد مساق واستعد للموت قبل هجومه وأخذ حذره منه قبل قدومه وأنفذ دموعه على الأوقات التي أضاعها قبل أن تزل به القدم ويؤخذ بما علم وبما لم يعلم.
فَكَيْفَ إِذَا جُمِعُوا لِيَوْمِ التَّلاقِ، وَتَجَلَّى اللهُ - جَلَّ جَلالهُ - لِلْعِبَادِ وَقَدْ كَشَفَ عَنْ سَاقٍ؟ وَدُعُوا إِلى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ}. [القلم: 43]
• عباد الله اعلموا أن الدُّنَيْا حَلالُهَا حِسَاب، وَحَرَامُهَا عَذَابُ، وَإِلَى اللهِ الْمآبُ، العمرُ يمَرَّ السَّحَابِ، فَبَادِرُوا بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ أَنْ يُغْلَقَ عَنْكُمُ البَابَ.
• أما آن لكم أن تَصُونُوا قلوبكم مِن الْخَرَابِ، وَتَحْفَظُونَ دينكم مِنَ التَّلاشِي وَالذِّهَابِ، وَتَرْجُونَ رِضَا رَبَّكُمْ وَعَفْوَهُ يَوْمَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ(3/311)
• أما كان لكم عبرةٌ فيمن ماتوا ودُفِنوا تحت التراب، كيف فُجِعَ بِهِم الأَحْبَاب، وأكثروا عليهم البكاء والانتحاب، وسَكَنُوا التُراب، وظَعَنُوا فليسَ لهم إِياب،
• أما آن لكم أن تنتبهوا من غفلتكم فإليكم يوجه الخطاب، وتُفِيقوا من نومكم قبل أن تناخ للرحيل الركاب قبل هجوم اللذات ومفرق الجماعات ومذل الرقاب، ومشتِِّت الأحباب، أما تذكر ما أمامك من شدة الحساب وشر المآب، فيا له من زائر لا يعوقه عائق، ولا يضرب دونه حجاب، ويا لَهُ من نازل لا يستأذن على الملوك ولا يلج من الأبواب، ولا يرحم صغيرًا ولا يوقر كبيرًا، ولا يخاف عظيمًا ولا يهاب، ألا وإن بعده ما هُوَ أعظم منه من السؤال والجواب، وراءه هول البعث والحشر وأحواله الصعاب من طول المقام والازدحام فِي الأجسام والميزان والصراط والحساب والْجَنَّة أَوْ النار.
• فيا خجلة من سئل فعدم الجواب أو بجوابٍ يستحق عَلَيْهِ أليم الْعَذَاب ويا حَسْرَة من نوقش عن الدقيق والجليل في الآخِرَة الحساب، ويا ندامة من لم يحصل إِلا على الْغَضَب من الكريم الوهاب
• ويا ويلةَ من كانت وجوههم مسودة لسوء الحساب، والزبانية تقمعهم فيذوقون أليم العقاب، فياله من يومٍ شديد َيَشْتَدُّ فِيهِ الْحِسَابُ، وَيُشْفَقُ فِيهِ العذاب، يومٌ تخضعُ فيه الرِّقَابُ ويَذَلُ فيه كُلُّ فَاجِرٍ كَذَّابِ ويَرَجَعُ الأَشْقِيَاءُ بِالْخُسْرَانِ وَالتَّبَابِ،
• ويا حَسْرَة نفوس أسرفت على نفسها في دار الغرور، ويا خراب قُلُوب عمرت بأماني كُلّهَا باطل وزورٍ، وغرقت في الدواهي من الأمور، أما علمت أن الله ({يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19] فَكَيْفَ بِها إِذَا عَايَنْت الأُموُرَ وبُعْثِرَتِ القُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ،، أم كيف بها إذا دخلت قبرها المحفور، وما فيه من الدواهي والأمور، تحت الجنادلِ والصخور، ثم سُئِلت عن هذه الأمور، أم كيف بها حين تقفُ بين يدي ربها ويسألها عن هذه الأمور، ثم لم تجد جواباً على هذه الأمور، هنالك تعرفُ أنها ما كانت إلا في غرور، فتندم ندماً لا يخطرُ على الصدور، ولا يُكْتَبُ بالسطور، لكنه ندمٌ لا ينفعُ في أي أمرٍ من الأمور.
فكيف بكم لو قَدْ تَنَاهَت الأُمُور، ثم تبلغك صيحة النشور ونفخة الصور، وبُعثِرتِ القُبور، وحُصّلَ ما في الصُدور، ودهمتكُم مُفْظِعاتُ الأُمور بنفخةِ الصُوْر، وَبَعْثَرةِ القُبور(3/312)
أَيْنَ مَنْ شَيَّدَ القُصُورَ، وَنَسَى القُبُورَ، أما علموا أن الدنيا دار عبور لا دار سرور، بينا أهلِها منها في رَخَاءٍ وسُرور، إِذا هم مِنها في بلاء وغُرُور، أَعْوَامٌ سَرِيعَةُ المُرُورِ، وَشُهُورٌ تَقْتَفِي إِثْرَ شُهُورٍ وَعِبَرٌ بَيْنَ ذَلِكَ تَتْرَى، فَعَلامَ الغُرُورُ، كيف أنت إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور وكل إنسان ألزم طائره في عنقه يوم النشور.
• عِبَادَ اللهِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةِ وَقَرُبَ التَّحَوُّلُ وَالْمَسِير، فالعُمْرُ قَصِيْرٌ ولم يبق مِنْهُ إلا اليَسِيْرُ، وَأَزِفَتِ الآزِفَةُ وَلَيْسَ هُنَاكَ حَمِيمٌ وَلا نَصِيرٌ، فكيف بك إذا وقفت بين يدي العلي الكبير فسئلت عن القليل والكثير و الفَتِيلِ والنَّقيرِ، و أنتَ لا تعرفُ أتكون مِنْ فرِيقِ الجَنَّةِ أمْ مِنْ فَرِيقِ السَّعِيرِ.
• فيا ساكنا عن الصواب، كيف بك إذا وقفت للحساب بين يدي سريع الحساب، هل أعددت للسؤال جواب، ألم تخفْ سوء الحساب يوم المآب.
• يا غافلاً عن مصيره، يا واقفًا في تقصيره سبقك أَهْل العزائم وأَنْتَ في اليقظة نائم، قف على الْبَاب وقوف نادم، ونكس رأس الذل وقل أَنَا ظَالِم وناد في الأسحار مذنب وواهم، وتشبه بالقوم وإن لم تكن مِنْهُمْ وزاحم، عساك أن تخرج من الدنيا سالم.
• َيَا مُعْرِضاً عَنْ حَيَاتِهِ الدَائِمَةِ وَنَعِيْمِهِ المُقِيمِ وَيَا بَائِعاً سَعَادَتَهُ العُظْمَى بِالعَذَابِ الألْيِمِ، هل ذهب عقلك يا لئيم، إِنّمَا هِيَ لَذّةٌ فَانِيةٌ وشَهْوَةٌ مُنْقِضَيةٌ تَذْهَبُ لذّاتُها وتَبَقَى تَبِعَاتُهَا فَرَحُ سَاعَةٍ لاَ شَهْرٍ وغَمُّ سَنَةٍ بَلْ دَهْرِ طَعَامٌ لَذْيِذٌ مَسْمُومٌ أوَّلُهُ لذّةٌ وآخِرُهُ هَلاَكُ، فالعَالِم عَلَيْهَا والساعي في توصيلها كدودة القز يسد علي نَفْسهُ المذاهب بما نسج عَلَيْهَا من المعاطب فيندم حين لا تنفع الندامة ويستقيل حين لا تقبل الاستقالة فطوبي لمن أقبل علي الله بكليته وعكف عَلَيْهِ بإرادته ومحبته.(3/313)
• يا حاضر الجسم والْقَلْب غائب، اجتماع العيب مَعَ الشيب من أعظم المصائب، يَا غافلاً فاته الأرباح وأفضل المناقب ... ، أين البُكَاء والحزن والقلق لخوف العَظِيم الطالب، أين الزمان الَّذِي فرطت فيه أما تخش العواقب، من لَكَ يوم ينكشف عَنْكَ غطاؤك فِي موقف المحاسب، إِذَا قِيْل لَكَ: ما صنعت فِي كُلّ واجب، كيف ترجو النجاة وأَنْتَ تلهو بأسر الملاعب، لَقَدْ ضيعتك الأماني بالظن الكاذب، أما علمت أن الموت صعب شديد المشارب، يلقي شره بكأس صدور الكتائب، وأنه لا مفر منه لهارب فَانْظُرْ لنفسك واتق الله أن تبقى سَلِيمًا من النوائب، فقد بنيت كنسج العنكبوت بيتًا، أين الذين علو فوق السفن والمراكب أين الَّذِينَ علو على متون النجائب، هجمت عَلَيْهمْ الْمَنَايَا فأصبحوا تحت النصائب وأَنْتَ فِي أثرهم عَنْ قريب عاطب، فَانْظُرْ وتفكر واعتبر وتدبر قبل هجوم من لا يمنع عَنْهُ حرس ولا باب ولا يفوته هرب هارب.
• فَوَاعَجَبًا لَكَ كُلَّمَا دُعِيتَ إِلى اللهِ تَوَانَيْت، وَكُلَّمَا حَرَّكَتْكَ الْمَوَاعظُ إِلى الخيراتِ أَبُيت، وعلى غَيَّكَ وَجَهْلِكَ تَمَادَيْت، وَكَمْ حُذِّرت مَن الْمَنُون فما التَفَتَّ إلى قول الناصِحِ وَتَركْتَهُ وما بَالَيْت.
• عِبَادَ اللهِ إِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَانَتْ بِفِرَاق فَيَا وَيْحَ مَنْ كَانَ بِهَا جُلَّ اشْتِغَالِهِ، كَيْفَ يَطْمَئِنُّ الْعَاقِلُ إِلَيْهَا مَعَ تَحقَّقِهِ بِدُنُوِّ ارْتِحَالِهِ. كَيْفَ يَنْخَدِعُ الْيَوْمَ بِبَوَارِقَهَا مَنْ هُوَ غَدًا مُرْتَهِنٌ بَأَعْمَالِهِ كَيْفَ يَغْتَرُّ فِيهَا بِإِمْهَالِهِ وَإِمْهَاله لَمْ يَنْشَأْ إِلا عَنْ إِهْمَالِهِ، كَيْفَ يَبِيتُ آمِنًا فِي تَوَسَّعِ آمَالِهِ. وَهُوَ لا يَدْرِي مَا يَطْرُقُ مِنْ بَغْتَةِ آجَالِهِ أَفَمَا تَرَوْنَ طَيْفَ الشَّبِيبَةَ قَدْ رَحَلَ؟ وَكَثِيرًا مَا حَلَّ بِالشَّبَابِ الْمَنُونِ
• أما اعتبرت بمن رحل، أما وعظتك العبر أما كان لك سمعٌ ولا بصر، هَذِهِ دُورُهَمُ فِيهَا سِوَاهمُ، هَذا صَدِيقُهم قَد نَسِيَهَمْ وَجَفَاهمُ.(3/314)
• اسْتَلِبْ زَمَانِكَ يَا مَسْلُوبْ! وَغَالِبِ الهَوَى يَا مَغْلُوبْ! وَحَاسِبْ نَفْسَكَ فَالعُمْرُ مَحْسُوبْ، وَامْحِ قَبِيحَكَ فَالقَبِيحُ مَكْتُوبْ، وَاعَجِبًا لِنَائِمٍ وَهُوَ مَطْلُوبْ، وَلِضَاحِكٍ وَعَلَيْهِ ذُنُوبْ،، واعلم أنه ما ركن إلى الدنيا أحد إلا لزمه عيب القلوب، ولا مكَّن الدنيا من نفسه أحد إلا وقع في بحر الذنوب، كيف بك يوم تتصدع القلوب، وتتفطرُ الأكبادُ وتذوب، ويفر المرء على وجهه فلا يرجع ولا يؤوب، ويود الرجعة وأنى له المطلوب، اللهم أزِل عنا حجاب الغفلة الذي غطى القلوب، وامنع عن قلوبنا ران الذنوب حتى نرى العيوب، ووفقنا يا مولانا إلى التوبةِ من كل ذنبٍ وَحُوب.
• أَيْنَ الآذَانُ الْواعِية، أيْنَ الأعْيُنُ البَاكِية، أين الدموع الجارية، أين الخدود الدامية، أيْنَ النفوس الزاكية، أين القلوب الصافية.
• عِبَادَ اللهِ إِنَّ قَوَارِعَ الأَيَّامِ خَاطِبَةٌ، فَهَلْ أُذُنٌ لِعِظَاتِهَا وَاعِيةٌ، وَإِنَّ فَجَائِعَ الْمَوْتِ صَائِبَةٌ فَهَلْ نَفْسٌ لأَمْرِ الآخِرَةِ مُرَاعِيَةٌ، إِنَّ مَطَالِعَ الآمَالَ إِلى الْمُسَارَعَةِ إلى الخَيْرَاتِ سَاعِيَةٌ، انظر إلى الأمم الماضية والملوك الفانية، أينَ مَنَ كان قَبْلَكُم في الأوقاتِ الماضيةِ؟ أما وَافَتْهَمُ المنايا وَقَضَتْ عَليهم القَاضيَةُ، رزقنا وإياكم الاستعداد للنقلة من الدار الفانية إلى الدار الباقية، أهلها كلاب عاوية وسباع ضارية، يهر بعضها بَعْضًا، ويأكل عزيزها ذليلها، ويقهر كبيرها صغيرها.
• عِبَادَ اللهِ: إن من رَزَقَه الله تعالى التوفيق والسداد هو من لزم طريق الأئمة والأوتاد، طريق الجد والاجتهاد، والتشمر والارتياد والتسابق إلى المعاد، طريق السخي الجراد، المتزود من الوداد، العابد السجاد، المخلص الحمًّاد والشاكر العوَّاد، أليف القرآن والحج والجهاد، جَادَ فَسَاد، ووجع فزاد، ولا يتمُ له ذلك إلا إذا زهد في الدنيا الفتانة السحارة، ونظر إلى طلابها بعين الحقارة، وسلك منهج السابقين بالحث والنذارة، ورغب عن الدنيا مع تقلد الولايات، وقيامه فيها برعايته العهود والأمانات.(3/315)
يعلم علم اليقين أن الموت مورده وأن الساعة موعده، وأن القيام بين يدي الله تعالى مشهده، فيطول حزنه، ويرتعد قلبه فيكون حليف الخوف والحزن، أليف الهم والشجن، عديم النوم والوسن، فقيهٌ زاهد، متشمر عابد، لتلاوةِ القرآن فائقا، ولكل خيرٍ سابقا، يستقبل المصائب بالتجمل ويواجه النعم بالتذلل، منزلته في العلم من البحور، مواصل الرواح بالبكور، منابذ للدنيا خيفة الغرة والعثور،
• لو تدبَّرت أحوالَه لوجدت أحواله سامية، وأعماله خافية، ونفسه زاكية، يتطلع إلى قوله تعالى: (كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة: 24]
• وكان ذا ورع وأمانة وحيطة وصيانة، كان بالليل بكاءً نائحاً، وبالنهار بساماً سائحاً، يصوم يوماً ويفطر يوماً.
• له من نفسه واعظٌ فهو منتبهٌ يقظان، يخشى الرحمن ويمتثل القرآن ويتجنب العصيان والخذلان واستحواذ الشيطان، وينصب قدماه في خدمة الملك الديان.
• عالماً حافظاً، وعاملاً واعظاً، وعى فارعوى، ونوى فاستوى، قليل الكلام والرواية، طويل الصيام والسعاية.
• فقيهاً محجاجاً، وناسكاً حجاجاً، عن الخلق آيساً، وبالحق آنساً.
• الورع السديد، ذو العقل الرشيد، ذو الكلام الموزون، واللسان المخزون
الحافظ للسانه، الضابط لأركانه، ذو القلب السليم، والطريق المستقيم، الوفي النجيب، المتعبد اللبيب، العفيف اللبيب، الفقيه الأديب، قوة في العبادة، وتقشف وزهادة، المأخوذ عن العاجلة، المردود إلى الآجلة، المستقيل آثامه، المتدارك أيامه، المستأنس بوحدته، المعتبر بشيبته، حافظ الطرف واللسان، رابط القلب والجنان، زين العابدين، ومنار القانتين، كان عابداً وفياً، وجواداً حفياً.
• المجتهد الوفي، المتعبد السخي، التقي النقي، الفقيه الرضي، الواله الذابل، المجتهد الناحل، مسارعٌ إلى كل خير و ينتفض من خوف ربه انتفاض الطير، على وقته شحيحاً، وبالإغضاء عن اللاهين نجيحاً، آيةً في التسليم والتراضي، والقيام على نفسه بالمحاسبة والتقاضي.
• مغتنم الساعات، ومكتتم الطاعات، يبتغي رضا رب الأرض والسموات.
• منقبض عن الهزل والأباطيل، مُحَصِّن لسانه في الفتن عن الأقاويل، الواعظ البصير، المتأهب للمسير، عازمٌ على الرحيل، مُتَضَّرعٌ إلى العلي الكبير، تضَّرُع الأسير بقلبٍ كسير، ويقول: اللهم يا من لا يظلمُ الفتيل والنقير تجاوز عن الخطأ والتقصير ونجنا من دار السعير وارزقنا شفاعة البشير النذير.(3/316)
• حليف الصيام والقيام، على مدى السنين والأعوام، يفشي السلام ويطعم الطعام، ويصلي بالليل والناس نيام، عساه أن يدخل الجنة بسلام.
• في التعبد لبيب، وفي التعليم أريب، تواضع فارتفع، وتطاوع فانتفع، القارىء الخاشع، التقي المتواضع.
• رحم الله عبداً لم يركن للعاجلة، وتزود للآخرة، تيقن للإنتقال وتزود للارتحال فأعد صالح الأعمال ليومٍ شديد الأهوال، تيقن أن البقاء في الدنيا مستحيل، لابد من الرحيل فتزود للسفرِ الطويل،
• رحم الله عبداً يحب الأخيار ويفرك الأشرار، عليه سكينةٌ ووقار ونقاءٌ يشبه الأبرار، حليف الذكر بالليل والنهار، عدو الفتنةِ والأخطار،
• المتخشع البَكَّاء، المتضرِّع الدعاء، حليف الخشوع والخضوع، والبكاء وجريان الدموع، المتبرئ من الجزع والهلوع، ملازمٌ للتوبة والرجوع.
• ذو الخوف العظيم، والقلب السليم، كافل الأرملةَ واليتيم،
• فارق الشهوات، وعانق القربات، يبتغي رضا رب الأرض والسموات،
• أيقن الموت فخشي الفوت
• العلم حليفه، والزهد أليفه، لا يصانع ولا يضارع ولا يتبع المطامع.
• عليه سيما الصالحين، ومنظر الخائفين، وكان مصفر الوجه من غير مرض أعمش العينين من غير عمش، ناحل الجسم من غير سقم، يحب الخلوة ويأنس بالوحدة، تراه أبداً كأنه قريب عهد بالمصيبة، أو قد فدحته نائبة.
• المخبت الورع، المتثبت القنع، الحافظ لسره، الضابط لجهره، المعترف بذنبه، المفتقر إلى ربه، منطقه ذكراً، وصمته تفكراً وسيره تدبراً.
• وبعد ما سمعت ما سمعت، أما آن لك أخي أت تستدرك ما فات، أما أيقنت أن زرع الأعمار قد دنا للحصاد ومدد الأيام قد قاربت للنفاد، فلما ... ذا هذا التغافل والتكاسل عن إعداد الزاد ليوم الميعاد، اللَّهُمَّ يا كريم يا جواد ووفقنا لسلوك طَرِيق الحق والرشاد، وأقمَعَ الكفر والزيغ والشر والفساد، وانصر دينك وانصر من نصره من العباد.
• لله در أقوام تركوا الدنيا فأصابوا، وسمعوا مناديَ الله فأجابوا، وحضروا مشاهد التقي فما غابوا، واعتذروا مع التحقيق ثم تابوا وأنابوا، وقصدوا باب مولاهم فما ردوا ولا خابوا.(3/317)
• لله در أقوام أَقْبَلُوا على خِدْمَةِ رَبِّهِمْ إقْبَالَ عَالِمْ وَمَا سَلَكُوا إلا الطريقَ السَّالِمُ تَذَكَّرُوا ذُنُوبَهُمْ القَدَائِمَ فَجَدَّدُوا التَّوْبَةَ بِصِدْقِ العَزَائِمْ وَعَدُّوا التَّقْصِيرَ مِنْ العَظَائِمِ وَبَدَّلُوا الْمُهْجَ الكِرَائِمَ فَإِذَا أَجَنَّ اللَّيْلُ فَسَاجِدُ وَقَائِمُ، وَلا يَخَافُونَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لائِم، أَيْنَ أَنْتَ وَهُمْ؟ فَهَلْ تَرَى السَّاهِرَ كَالنَّائِمْ؟ كَلا وَلا الْمُفْطِرَ كالصَّائِمْ، فَإِنَّ الْهَوْلَ شَدِيدٌ، والطَّرِيقَ بَعِيدٌ، وأخشى أن َيُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَا تُرِيد،
• لله در أقوامٍ نظروا إلى باطن العاجلة فرفضوها، وإلى ظاهر بهجتها وزينتها فوضعوها، جعلوا الرُكَبَ لجباههم وساداً، والتراب لجنوبهم مهاداً، قوم خالط القرآن لحومهم ودمائهم، فعزلهم عن الأزواج وحركهم بالإدلاج، فوضعوه على أفئدتهم فانفرجت، وضموه إلى صدورهم فانشرحت، وتصدعت هممهم به فكدحت، فجعلوه لظلمتهم سراجاً، ولنومهم مهاداً، ولسبيلهم منهاجاً، ولحجتهم إفلاجاً، يفرح الناس ويحزنون، وينام الناس ويسهرون، ويفطر الناس ويصومون، ويأمن الناس ويخافون. فهم خائفون حذرون، وجلون مشفقون مشمرون، يبادرون من الفوت، ويستعدون للموت، لم يتصغر جسيم ذلك عندهم لعظم ما يخافون من العذاب وخطر ما يوعدون من الثواب، درجوا على شرائع القرآن، وتخلصوا بخالص القربان، واستناروا بنور الرحمن، فما لبثوا أن ينجزهم لهم القرآن موعوده، وأوفى لهم عهودهم، وأحلهم سعوده، وأجارهم وعيده، فنالوا به الرغائب، وعانقوا به الكواعب، وأمنوا به العواطب، وحذروا به العواقب،(3/318)
• لله در أقوامٍ فارقوا بهجة الدنيا بعين قالية، ونظروا إلى ثواب الآخرة بعين راضية، واشتروا الباقية بالفانية، فنعم ما اتجروا ربحوا الدارين، وجمعوا الخيرين، واستكملوا الفضلين، بلغوا المنازل، بصبر أيام قلائل، قطعوا الأيام باليسير، حذار يوم قمطرير، وسارعوا في المهلة، وبادروا خوف حوادث الساعات، و لم يركبوا أيامهم باللهو واللذات، بل خاضوا الغمرات للباقيات الصالحات، مسارعين الى الخيرات، منقطعين عن اللهوات، أحلى الناس منطقاً ومذاقاً، وأوفى الناس عهداً وميثاقاً، سراج العباد، ومنار البلاد، وصاروا أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء، من الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة. وأعلام التقى ومصابيح الدجى، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء، ومعادن الرحمة، ومنابع الحكمة، وقوام الأمة، نظروا إلى ثواب الله عز وجل بأنفس تائقة، وعيون رامقة، وأعمال موافقة، فحلوا عن الدنيا مطي رحالهم، وقطعوا منها حبال آمالهم، صانوا أبدانهم عن المحارم، وكفوا أيديهم عن ألوان المطاعم، وهربوا بأنفسهم عن المآثم، هم الأتقياء الأخفياء، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا شهدوا لم يعرفوا.
• لله در أقوامٍ أخلاهم الحق من الركون إلى شيء من العروض، وعصمهم من الافتتان بها عن الفروض. وجعلهم قدوة للمتجردين من الفقراء، كما جعل من تقدم ذكرهم أسوة للعارفين من الحكماء. لا يأوون إلى أهل ولا مال، ولا يلهيهم عن ذكر الله تجارة ولا حال، لم يحزنوا على ما فاتهم من الدنيا، ولا يفرحون إلا بما أيدوا به من العقبى. كانت أفراحهم بمعبودهم ومليكهم وأحزانهم على فوت الاغتنام من أوقاتهم وأورادهم، هم الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع، عن ذكر الله، و لم يأسوا على مافاتهم، و لم يفرحوا بما أتاهم. حماهم مليكهم، عن التمتع بالدنيا والتبسيط فيها لكيلا يبغوا ولا يطغوا، رفضوا الحزن على ما فات، من ذهاب وشتات، والفرح بصاحب نسب إلى بلى ورفات.
زوى الله عز وجل عنهم الدنيا، وقبضها ابقاء عليهم وصوناً لهم، لئلا يطغوا، فصاروا في حماه محفوظين من الأثقال، ومحروسين من الأشغال، لا تذلهم الأموال، ولا تتغير عليهم الأحوال، يعزفون عن الاشتغال بالدنيا والإقبال عليها إلى ما هو أليق بحالهم، وأصلح لبالهم، من الاشتغال بالأذكار، وما يعود عليهم من منافع البيان والأنوار، ويعصمون به من المهالك والأخطار، ويستروحون إليه مما يرد من الأماني على الأسرار.(3/319)
أعلام الصدق لهم شاهرة، وبواطنهم بمشاهدة الحق عامرة، وَحُقَّ لمن أعرض عن الدنيا وغرورها، وأقبل على العقبى وحبورها، فعزفت نفسه عن الزائل الواهي، ونابذ الزخارف والملاهي، وشاهد صنع الواحد الباقي، واستروح روائح المقبل الآتي. من دوام الآخرة ونضرتها، وخلود المجاورة وبهجتها، وحضور الزيارة وزهرتها، ومعاينة المعبود ولذتها، أن يكون بما اختار له المعبود راضياً، وعما اقتطعه منه سالياً، ولما ندبه إليه ساعياً، ولخواطر قلبه راعياً، ليصير في جملة المطهرين، ويقرب مما خص به الأبرار من المقربين، فيغتنم ساعاته، عن مخالطة المخلطين، ويصون أوقاته، عن مسالمة المبطلين، ويجتهد في معاملة رب العالمين، مقتدياً في جميع أحواله بسيد المرسلين.
• لله در أقوام أقبلوا بالقلوب على مُقَلِبِهَا، وأقاموا النفوس بين يدي مؤدبها، وسلموها إذا باعوها إلى صاحبها، وأحضروا الآخرة فنظروا إلى غائبها، وسهروا الليالي كأنهم وُكِّلوا بِرَعىِ كواكبها، ومقتوا الدنيا فما مالوا إلى ملاعبها.
• لله در أقوامٍ صفوا من الأكدار، ونقوا من الأغيار، وعصموا من حظوظ النفوس والأبشار، وأثبتوا في جملة المصطنع لهم من الأبرار، فأنزلوا في رياض النعيم، وسقوا من خالص التسنيم.
قومٌ ألبسوا الأنوار. فاستطابوا الأذكار، واستراحت لهم الأعضاء والأطوار، واستنارت منهم البواطن والأسرار بما قدح فيها المعبود من الرضا والأخبار. فأعرضوا عن المشغوفين بما غرهم، ولهوا، عن الجامعين لما ضرهم من الحطام الزائل البائد، ومسالمة العدو الحاسد، معتصمين بما حماهم به الواقي الذائد، لم يعدلوا إلى أحد سواه، و لم يعولوا إلا على محبته ورضاه. رغبت الملائكة في زيارتهم وخلتهم، وأمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصبر على محادثتهم ومجالستهم.
• لله در أقوامٍ بحقوق ربهم عارفون وعلى العلم والعبادة عاكفون، وعن التمتع بالدنيا عازفون، وإلى الإقبال على الآخرة مرابطون، قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، حوائجهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، صبروا أياماً قصاراً تعقب راحة طويلة، أما الليل فمصافة أقدامهم، تسيل دموعهم على خدودهم، يجأرون إلى ربهم ربنا ربنا، وأما النهار فحلماء علماء بررة أتقياء كأنهم القداح ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض، أو خولطوا وقد خالط القوم من ذكر الآخرة أمر عظيم.(3/320)
• لله در أقوامٍ تصوروا مآلهم واستقلوا أعمالهم، (كَانُواْ قَلِيلاً مّن اللّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * َوفِيَ أَمْوَالِهِمْ حَقّ لّلسّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ) عساهم أن ينجو من نار السموم، تعبوا والله قليلاً واستراحوا كثيراً، والمسكين من لم يجد إلى لحاقهم سبيلاً، والمغبون من رَضِيَ بحظه العاجلِ بديلا.
• لله در أقوامٍ غسلوا وجوههم بدموع الأحزان، وأحيوْا ليلهم بالذكرِ وتلاوة القرآن، ونصبوا أقدامهم في خدمة الملكِ الديَّان، فكلُ زمانهم رمضان، أفشوا السلام وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، عساهم أن يدخلوا الجنة بسلام.
• لله در أقوامٍ غسلتها الدموع وأذلها الخشوع وظهر عليها الاصفرار من الجوع، أحسنوا في الإسلام ثم رحلوا بسلام، لقد سبقوا سبقاً بعيدا وأتعبوا مَنْ بعدهم إتعاباً شديدا، ما بقيَ إلا من إذا صام افتخر بصيامه وطال، وإذا قام أُعجب بقيامه وقال، وتناسى أن هذا وإن كان من كسبه فإنه من فضل ربه الكبير المتعال، وفضله فوق ما يخطر ببال أو يدور في الخيال، ولو سلب الله تعالى عنه فضله لصار قلبه أخلى من جوف البعير.
• لله در أقوامٍ عزفوا عن الدنيا فأصابوا، وسمعوا منادي الله فأجابوا، واعتذروا مع التحقيق ثم تابوا وأنابوا، وقصدوا باب مولاهم فما ردوا ولا خابوا.
• لِلَّهِ دَرّ أقَوامٍ بادَرُوا الأَوْقاتِ، واسْتَدْركُوا الْهَفَوات، واغتنموا الأوقات للعمل بالباقيات الصالحات، فالعَينُ مَشْغُولةٌ بالدَّمْع عن المحرَّماتِ، واللسانُ مَحبوسٌ في سِجْن الصَّمْت عن الهَلَكَاتْ، والكفُّ قد كُفَّتْ بالخوفِ عن الشهوات، والقَدَم قد قُيِّدت بِقَيدِ المحاسبَات. ولسان حالها يقول: كيف تهنأ بالشهوات، وهى مطية الآفات،
فإذا حَلَّ بهم الليلُ رأيتهم يَجْأَرُونَ فيه بالأصْواتْ، وإذا جَاءَ النهارُ قَطَعُوهُ بمُقَاطَعة اللَّذات، فكَمِ مِن شَهْوَةٍ مَا بَلَغُوهَا حَتَّى الممات.(3/321)
فتيقَّظْ لِلِحَاقِهم مِن هَذِهِ الرَّقَدات، ولا تَطْمَعَنَّ في الخَلاص مَعَ عَدمِ الإخلاص في الطاعات، ولا تُؤَمّلنّ النجاة وأنت مقيمٌ على المعاصي والموبقات، ذهبت اللذات وأعقبت الحسرات وانقضت الشهوات وأورثت الحسرات، ولا تغتر بصفاء الأوقات فإن تحتها غوامض الآفات. قال الله جل وعلا: {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وَذَهَبَتْ البَرَكَاتُ وَقلّتِ الْخَيْرَاتُ،
* لَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ عَامِكُمْ وَفَاتَ، وَتَقَضَّتْ أَيَّامُهُ وَلَيَاليه وَأَنْتُمْ مُنْهَمِكُونَ فِي اللَّذَاتِ، فَمَا أَسْرَعَ مَا تَضَرَّمَتْ مِنْهُ الأَوْقَاتُ، وَمَا أَكْثَرَ مَا خَطَبَكُمْ لِسَانُ حَاله بِزَوِاجِرِ العِظَاتِ، وَمَا أَطْوَلَ مَا نَادَى بِكُمْ مُنَادِي الشِّتَاتِ. ... فَطُوبَى لِمَنْ تَدَارَكَ الهَفَوَاتِ، وَبُشْرَى لِمَنْ لازَمَ تَقْوَى اللهِ، وَعَمِلَ بِالبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَهَنِيئًَا لِمَنْ أَذْهَبَ السَّيِّئَاتِ بِالحَسَنَاتِ، وَيَا خَيْبِةَ مَنْ شَغَلَتْهُ المَلاهِي وَالمُنْكَرَاتِ عَنْ طَاعَةِ رَفِيعِ الدَّرَجَاتِ، وَمَا أَعْظَمَ خَسَارَةَ مَنْ بَاعَ نَفِيسَ آخِرَتِهِ بِخَسِيسِ دُنْيَاهُ، وَحَسْرَةً لَهُ يَوْمَ {يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} وَتَعْسًا وَجَدْعًا لَهُ {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ}.
• لله در أقوامٍ صفت منهم القلوب، لعلام الغيوب، صفت من الكدر، وخلصت من العكر، وامتلأت من الفكر، وتساوت عندها الذهب والمدر.
• لله در أقوامٍ آثروا العزوف عن العاجلة والأزوف من الآجلة، وتطليق الدنيا بتاتاً، والإعراض عن منالها ثباتاً.
• لله در أقوامٍ صفت من الأغيار أسرارهم، فعلت في الأبرار أذكارهم، تمت أنوارهم، فانتفت أكدارهم، دامت أذكارهم فماتت أوزارهم. فهم العمد والأوتاد، وبهجة العباد والبلاد.(3/322)
* أبدانهم دنيوية، وقلوبهم سماوية، قد احتوت قلوبهم من المعرفة كأنهم يعبدونه مع الملائكة بين تلك الفرج وأطباق السموات، لم يخبتوا في ربيع الباطل، ولم يرتعوا في مصيف الآثام، ونزهوا الله أن يراهم يثبون على حبائل مكره، هيبة منهم له وإجلالا أن يراهم يبيعون أخلاقهم بشيء لا يدوم، وبلذة من العيش مزهودة، هم أهل المعرفة بالأدواء والنظر في منابت الدواء، هم أهل الورع والبصر، إن أتاهم عليل داووه، أو مريض أدنوه، أو ناس لنعمةِ الله ذكَّروه، أو مبارز لله بالمعاصي نابذوه أو محب لله فواصلوه، ليسوا جبارين، ولا متكبرين، وليس عليهم صفات المترفين، إذا خلوا أجهشوا بالبكاء وإذا عوملوا فإخوان حياء، وإذا كلموا فحكماء، وإذا سئلوا فعلماء، وإذا جهل عليهم فحلماء فلو قد رأيتهم لقلت عذارى في الخدور، وقد تحركت لهم المحبة في الصدور بحسن تلك الصور التي قد علاها النور، إذا كشفت عن القلوب رأيت قلوباً لينة منكسرة، لا يشغلون قلوبهم بغيره، ولا يميلون إلى ما دونه، قد ملأت محبة الله صدورهم، فليس يجدون لكلام المخلوقين شهوة، ولا بغير الأنيس ومحادثة الله لذة، إخوان صدق، وأصحاب حياء ووفاء وتقى وورع وإيمان ومعرفة ودين، قطعوا الأودية، بغير مفاوز، واستقلوا الوفاء بالصبر على لزوم الحق، واستعانوا بالحق على الباطل، فأوضح لهم على الحُجْة، ودلهم على المَحَجَة، فرفضوا طريق المهالك، وسلكوا خير المسالك، أولئك هم الأوتاد الذين بهم توهب المواهب، وبهم تفتح الأبواب، وبهم ينشأ السحاب، وبهم يستقي العباد والبلاد، فرحمة الله علينا وعليهم.
• لله در أقوامٍ صحبوا الدنيا بالأشجان، وتنعموا فيها بطول الأحزان، ونصبوا أقدامهم في خدمة الملك الديان، فما نظروا إليها بعين راغب، ولا تزودوا منها إلا كزاد الراكب، خافوا البيات فأسرعوا، ورجوا النجاة فأزمعوا، نصبوا الآخرة نصب أعينهم، وأصغوا إليها بآذان قلوبهم، فلو رأيتهم رأيت قوماً ذبلا شفاههم، خَمْصاً بطونهم، حزينةً قلوبهم، ناحلةً أجسامهم، باكيةً أعينهم، لم يصحبوا العلل والتسويف، وقنعوا من الدنيا بقوت طفيف لبسوا من اللباس أطماراً بالية، وسكنوا من البلاد قفاراً خالية، هربوا من الأوطان واستبدلوا الوحدة من الإخوان، فلو رأيتهم لرأيت قوماً قد ذبحهم الليل بسكاكين السهر، وفصل الأعضاء منهم بخناجر التعب، خمص لطول السرى شعث لفقد الكرا، قد وصوا الكلال بالكلال، وتأهبوا للنقلة والإرتحال.(3/323)
• لله در أقوامٍ نفوسهم نفسٌ على الجوع صبرت، وفي سربال الظلام خطرت. نفس ابتاعت الآخرة بالدنيا بلا شرط ولا ثنيا. نفس تدرعت رهبانية القلق، ورعت الدجا إلى واضح الفلق، فما ظنك بنفس في وادي الزهد سلكت، وهجرت اللذات فملكت، وإلى الآخرة نظرت، وإلى العناء أبصرت، وعن الذنوب أقصرت، وعلى الذر من القوت اقتصرت، ولجيوش الهوى قهرت، وفي ظلم الدياجي سهرت، فهي بقناع الشوق مختمرة، وإلى عزيزها في ظلم الدجا مشتمرة، قد نبذت المعايش، ورعت الحشايش. هذه نفس خدوم عملت ليوم القدوم، وكل ذلك بتوفيق الحي القيوم.
• لله در أقوامٍ استظلوا تحت رواق الحزن، وقرأوا صحف الخطايا ونشروا دواوين الذنوب فأورثهم الفكر الصالحة في القلب، أدبوا أنفسهم بلذة الجوع وتزينوا بالعلم، وسكنوا حظيرة الورع، وغلقوا أبواب الشهوات وعرفوا مسير الدنيا بموقنات المعرفة حتى نالوا علو الزهد فاستعذبوا مذلة النفوس، أدرجوا أنفسهم في مصاف المسبحين ولاذوا بأفنية المقدسين فتعلقوا بحجاب العزة وناجوا ربهم عند مطارفة كل شهوة حتى نظروا بأبصار القلوب إلى عز الجلال إلى عظيم الملكوت فرجعت القلوب إلى الصدور على الثبات بمعرفة توحيدك فلا إله إلا أنت.
• لله در أقوامٍ شاهدوا الآخرة بلا حجاب، فعاينوا ما أعدّ الله للمطيعين من الأجر والثواب. ترى لماذا أضمروا أجسادهم وأظمؤوا أكبادهم، وشرّدوا رقادهم، وجعلوا ذكره بغيتهم ومرادهم؟!.
• لله در أقوامٍ قلوبهم معمورة بذكر الحبيب، ليس فيها لغيره حظ ولا نصيب، إن نطقوا فبذكره، وإن تحرّكوا فبأمره، وإن فرحوا فبقربه، وإن ترحوا فبعتبته، أقواتهم ذكر الحبيب، وأوقاتهم بالمناجاة تطيب، لا يصبرون عنه لحظة، ولا يتكلمون في غير رضاه بلفظة.
• لله در أقوامٍ قوماً أزعجهم الهم عن أوطانهم، وثبتت الأحزان في أسرارهم، فهممهم إليه سائرة، وقلوبهم إليه من الشوق طائرة، فقد أضجعهم الخوف على فرش الأسقام، وذبحهم الرجاء بسيف الانتقام، وقطع نياط قلوبهم كثرة بكائهم عليه، وزهقت أرواحهم من شدة الوله إليه، قد هد أجسامهم الوعيد، وغير ألوانهم السهر الشديد.
• لله درُّ تلك القلوب الطاهرة، أنوارها في ظلام الدُجى ظاهرة، رفضت حلية الدنيا وإن كانت فاخرة، كم تركت شهوة وهي عليها قادرة، باتت عيونها والناس نيام ساهرة، زفرات الخوف تثير سحائب الأجفان الماطرة، يندبون على الذنوب وإن كانت نادرة، كم بينك وبينهم يا بائع الآخرة.(3/324)
• لله درُّ أقوامٍ تدرعوا بالوقار والسكينة، وعملوا ليومٍ فيه كلُ نفسٍ بما كسبت رهينة، كلُ واحدٌ منهم صدره مشروح، وقلبه مجروح، وجسمه بين يدي ربه مطروح، فلو رأيتهم بين ساجدٍ وراكع، وذليلٍ مخمومٍ متواضع، ومُنَكَّسِ الطرفِ من الخوفِ خاشع، تتجافى جنوبهم عن المضاجع.
{تنبيه}:• (طغى حبّ الدنيا على قلوبِ بعضِ النّاس واستهوتهم خضرتها، يصرف لها همّه، يحرّك فيها همَّته، عبدوها من دون الله، آثروها على ... الآخرة، وتناسوا قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تعِس عبدُ الدّينار وعبد الدّرهم وعبد الخميصة.
(حديث أبي هريرة في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: تعس عبد الدينار، و عبد الدرهم، و عبد الخميصة،، إن أُعطِيَ؛ رضي، وإن لم يُعط، سخط، تعس وأنتكس، وإذا شيك فلا انتقش. طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعثٌ رأسُه، مغبَّرةٌ قدماه، إن كان في الحراسة، كان في الحراسة، وإن كان في الساقة، كان في الساقة، إن أستأذن، لم يؤذن له، وأن شفع، لم يشفع "
(وتسربَل آخرون بالفَقر والمسكَنة والذلَّة وهجر الطيّبات، يرغبون في الأجور والزّوايا بزعم التفرّغ للعبادة وإيثار عملِ الآخرة، ويصابون بعد ذلك بداءِ الكَسَل والإخلاد إلى الرّاحة وداء الطمَع بعطاءات النّاس ومِنحهم وما يبذلونه لهم من مآكلَ ومشارب، تركوا عمارةَ الأرض وأردفوا بها ... ، ويصوغونها ويصوغها صنّاع الضلال.
إنّ فقدَ التوازنِ بين أمورِ الدنيا والدين أضعَف الأمّةَ وقعَد بها عن أداءِ دورها في قيادة الأمَم.
الإسلام ـ عبادَ الله ـ لا يحرّم الطيباتِ ولا يذمّ المنافعَ والمآكل والمشارب والأموال، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ [الأعراف:32].
ولا يُفهم ممّا سبق تركُ السعي في عمران الدّنيا وبنائها الحضاريّ والانتفاع بخيراتها، بل المراد أن يأخذ المرء من الدّنيا ضمنَ الحدود التي أذن الله بها، وأن لا تكون متاعًا للهموم يَرفع متاعها فوق كلّ القِيَم، تُفقِدْ الإنسانَ وعيَه، تفسِد عليه دينَه وأخلاقه.
الدّنيا التي يذمّها الإسلامُ دنيا الشهواتِ والملهِيات، دنيا تضييعِ الحقوق والواجبات والتّساهل بالمحرَّمات، الدنيا التي تشغل عن الله وتلهي عن الآخرة، أراد الله أن تكونَ الدّنيا مُلكًا لنا، فجاء صغار الهِمم وأبَوا إلاّ أن يكونوا مُلكًا لها.(3/325)
إخوة الإسلام، إنّ المرتبةَ المثلى الجمعُ بين الدّين والدّنيا، بين الصّبر والفقر، بين التّقوى والغِنى، لذلك كان نعم المال الصالح للمرء الصالح بنص السنة الصحيحة:
(حديث عمرو بن العاص الثابت في صحيحالأدب المفرد) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: نعم المال الصالح للمرء الصالح.
(حديث يسار بن عُبيد الثابت في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا بأس بالغنى لمن اتقى و الصحة لمن اتقى خير من الغنى و طيب النفس من النعيم.
(حديث أبي كبشة الأنماري في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَحسنِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْماً وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الأجرِ سَوَاءٌ، وَرجلٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً فَهُوَ يَخْبِطُ في مَالِهِ لاَ يَتَّقِى فِيهِ رَبَّهُ وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلاَ يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فهو بِأَسوءِ الْمَنَازِلِ عند الله وَرجلٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلاَ عِلْماً فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ وهما في الوزر سَوَاءٌ
وكان من دعاء النبي: [وأصلِح لي دنياي التي فيها معاشي]
(حديث أبي هريرة في صحيح مسلم) قال كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي و أصلح لي آخرتي التي فيها معادي و اجعل الحياة زيادة لي في كل خير و اجعل الموت راحة لي من كل شر.
(إنّ التفريق بين شؤون الدّنيا وشؤون الآخِرة كان سببَ التّخلّف الذي أزرى بأمّتنا وأقعدها عن نشرِ رسالتِها، حين فهِم أقوامٌ مِن ذمّ الدّنيا إهمالَ الحياة الدّنيا وتركَ عمارتها والهروبَ عن إصلاحها وتنميتها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولّد فيهم ذلك سلبيةً مقيتة وانهزاميّة وضعفًا وخوَرًا يأباه الدّين، قال تعالى: وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].(3/326)
الحسنة في الدّنيا تشمَل كلَّ مطلوبٍ دنيويّ من عافية ودارٍ رحبة ورزق واسع وعلمٍ نافع وعمل صالح ومركَب هجِل وثناءٍ جميل، والحسنة في الآخرة أعلاها دخولُ الجنّة وتوابعُه من الأمنِ من الفزع الأكبر وتيسير الحساب.
والصّحابة هم القدوة والنموذجُ في فهم الإسلام، يأخذون بالأسبابِ في الكسب من تجارةٍ وزراعة، ويطلبون العلمَ ويبذلون في سبيل ذلك أوقاتهم ونفوسَهم وأموالهم، فيهم الأغنياءُ دون بطر والفقراء مع التعفُّف، ومع هذا كانوا أبعدَ النّاس عن التهالك على الدنيا، فتَحوا البلدان، وأنشؤوا المدُن، وأقاموا الدّولَ، ونشروا الإسلام.
كان بعضُ كبار الصحابة من الأغنياء، ولم يَدْعُهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ترك المال وترك الاشتغالِ بالتّجارة، كما أنّ الدّنيا لم تكن تساوي جناحَ بعوضة في حياتهم.
[*] قال سفيان بن عيينة: "ليس من حبّ الدنيا أن تطلبَ منها ما يصلِحك.
[*] سعيد بن المسيّب: "لا خيرَ فيمن لا يطلب الدّنيا يقضي به دَينَه ويصون به عرضَه، وإن مات تركه ميراثًا لمن بعده.
الدّنيا في المفهوم الإسلاميّ وسيلة وذريعةٌ لتحصيل مقاصدِ الشريعة ومطيّة للآخرة، فإنّها إذا فسدت فربّما أدّى فسادُها إلى إيقاف الدّين، فلا شكّ أنّ الدين سيضعف إذا وصل حالُ أهلها إلى قلّةِ الرزق والقتل، فلا يُقبَل أن يقول مسلم: أنا أحفظ ديني وأدَع الدنيا يُعبَث بها ويُفسد فيها؛ لأنّ من صلحت حاله مع فساد الدّنيا واختلال أمورِها لم يعدم أن يتعدّى إليه فسادُها ويقدح فيه اختلالها؛ لأنّه منها يستمدّ، ومن فسَدت حاله مع صلاح الدّنيا وانتظام أمورِها لم يجِد لصلاحها لذّةً ولا لاستقامتها أثرًا؛ لأنّ الإنسانَ دنيا نفسِه، قال الله تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:77].
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن يحيى بن معاذ الرازي قال: الناس ثلاثة: فرجل شغله معاده عن معاشه فتلك درجة الصالحين، ورجل شغله معاشه لمعاده فتلك درجة الفائزين، ورجل شغله معاشه عن معاده فتلك درجة الهالكين.(3/327)
{تنبيه}:• الآثار الواردة في ذم الدنيا في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كانت تشغل العبد عن طاعة الله مما يكون قبل الموت، وعلى هذا فإن الأموال والأولاد والمناصب إذا استعان بها صاحبها على طاعة الله فليست مذمومة، وإذا شغلت عن طاعة الله أو أدت إلى معصيته فهي مذمومة.
قال تعالى: (فَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ رَبّنَآ آتِنَا فِي الدّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ * وِمِنْهُمْ مّن يَقُولُ رَبّنَآ آتِنَا فِي الدّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النّارِ) [البقرة:200 - 201].
- وكذلك ليس ذم الدنيا راجعاً إلى مكان الدنيا وهو الأرض، وما أودع فيها من جبال وبحار وأنهار ومعادن، فإن ذلك كله من نعم الله على عباده، لما لهم فيها من المنافع، والاعتبار، والاستدلال على وحدانية الصانع سبحانه، وقدرته وعظمته، وإنما الذم راجع إلى أفعال بنى آدم الواقعة فى الدنيا، لأن غالبها واقع على غير الوجه الذى تحمد عاقبته، كما قال عز وجل: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ والأولاد َ} (الحديد: من الآية: 20).
- وإنما الذم الوارد فى الكتاب والسنّة راجع إلى زمانها الذى هو الليل والنهار المتعاقبان إلى يوم القيامة، فإن الله عز وجل جعلهما خلفة لمن أراد أن يذّكر أو أراد شُكوراً.
[*] وورد فى الأثر: " إن هذا الليل والنهار خزانتان فانتظروا ماتصنعون فيهما ".
[*] وقال مجاهد: " ما من يوم إلا يقول: ابن آدم: قد دخلت، عليك اليوم ولن أرجع إليك بعد اليوم فانظر ماذا تعمل فى، فإذا انقضى طوى، ثم يختم عليه فلا يفك حتى يكون الله هو الذى يقضيه يوم القيامة ".
إنما الدنيا إلى الجنة والنار طريقٌ والليالى متجرُ الإنسان والأيام سوقٌ فالوقت هو رأس مال العبد، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة.
فانظر إلى مُضَيع الساعات كم يفوته من النخيل.(3/328)
وكان أحد الصالحين إذا أثقل الناس فى الجلوس عنده يقول: "أما تريدون أن تقوموا، إن ملك الشمس يجرها لا يفتر ".
وقال رجل لأحد العلماء: " قف أكلمك " قال: " أوقف الشمس ".
• تحول حال الدنيا:
[*] • أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في بحر الدموع عن محمد بن غسان صاحب الكوفة وقاضيها قال: دخلت على أمي في يوم عيد أضحى، فرأيت عندها عجوزًا في أطمار رثة، وإذا لها بيان ولسان، فقلت لأمي: من هذه؟ فقالت: خالتك عانية أم جعفر بن يحيى البرمكي، وزير هارون الرشيد، فسلمت عليها، وسلمت علي، فسألتها عن حالها، وقلت لها: صيّرك الدهر إلى ما أرى!.
قالت: نعم يا بنيّ، إنما كنا في عوار ارتجعها الدّهر منا.
فقلت أنت: حدّثني ببعض شأنك.
قالت: خذ جملة، وقس على ذلك. لقد مضى عليّ عيد في مثل هذا منذ ثلاث سنين، وعلى رأسي أربعمائة وصيفة، وأنا أزعم أن ابني عاق، وقد كان بعث إليّ برسم الضاحي ألف رأس من الغنم، وثلاثمائة رأس من البقر، دون ما يتبع ذلك من الزينة واللباس، وقد جئتكم اليوم أطلب جلدي شاتين أجعل إحداهما شعارًا، والآخر دثارًا، تعني غطاء بليل.
قال: فغمّني ذلك من قولها، وكربني ما رأيت من حالها، وأبكاني والله قولها، فوهبت لها دنانير كانت عندي.
فانظر أخي حال الدنيا، وكيف يحوّل نعيمها وكيف يذهب ويزول، فالمغرور، والله من اغترّ بها، والمسعود من رأى عيبها وفرّ منها والمصائب في الدنيا أعداد: فواحد يصاب في الأموال والأولاد، والآخر يعرى من الإسلام بالطرد والإبعاد.
• والآخرة هي الباقية، وهى دار القرار:
كما قال مؤمن آل فرعون:
(يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ) [غافر: 39، 40]
- ولهذا فقد أمرنا بالتنافس في طلب الآخرة وفي العمل الصالح، ونهينا عن التنافس في الدنيا.
قال: ابن عباس رضي الله عنهما: (يؤتى بالدنيا يوم القيامة على صورة عجوز شمطاء زرقاء أنيابها بادية مشوهة الخلقة، لا يراها أحد إلا كرهها فتشرف على الخلائق فيقال لهم: أتعرفون هذه؟ هذه التي تفاخرتم وتحاربتم عليها ثم يؤمر بها إلى النار، فتقول: يا رب أين أتباعي وأحبابي وأصحابي فيلحقونها).(3/329)
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها ... وسيق إلينا عذبها وعذابها
فلم أرها إلا غروراً وباطلاً ... كما لاح في ظهر الفلاة سرابها
وما هي إلا جيفة مستحيلة ... عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها ... وإن تجتذبها تنازعتك كلابها
• ومما ورد في ذم التنافس على الدنيا ما يلي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اشترى رجل من رجل عقارا له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني، إنما اشتريت منك الأرض، ولم أبتع منك الذهب. وقال الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها، فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ قال أحدهما: لي غلام، وقال الآخر: لي جارية، قال: أنحكوا الغلام الجارية، وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدقا.
وقد تضمن هذا الحديث غرر الفوائد، ودرر الفرائد:
ففي هذا الحديث الجليل يخبرنا نبينا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رجلين صالحين من الأمم السابقة اشترى أحدهما من الآخر أرضاً فوجد في هذه الأرض جرّة (إناء كبير من الخزف) مملوءة ذهباً فلم يقع منهما التنافس للحصول على هذا الذهب والاستئثار به دون الآخر، بل لم يقبل كل واحد منهما أن يأخذ من الذهب شيئاً ويترك لصاحبه الباقي خوفاً من أن يكون حراماً، والمال الحرام يّذهب البركة ويجلب غضب الربا ويمنع إجابة الدعاء ويؤدي إلى دخول النار ويكون الحساب عليه يوم القيامة بالحسنات والسيئات حيث لا درهم ولا دينار.
فلصلاح هذين الرجلين ذهبا يحتكمان إلى عالم من علمائهم، وكانت حجة البائع أنه باع الأرض بما فيها، فالذهب ليس له، وكانت حجة المشتري أنه اشترى الأرض ولم يشتر الذهب، ولو كان غيرهما من الناس لكانت هذه الحجج يستدل بها كل طرف على استحقاقه هو للمال دون صاحبه، ولكن الخوف من الله تعالى زهدهما في هذا المال المشتبه فيه.
فجاء الحكم الذي رضي به الطرفان وهو تزويج ابن أحدهما ببنت الآخر، والإنفاق من هذا المال على الأسرة الجديدة التي تقوي أخوة الإيمان بين هاتين الأسرتين الصالحتين، وكذلك التصدق من هذا المال.(3/330)
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بنى إسرائيل كانت في النساء.
باب حال المؤمن في الدنيا:
[*] • عناصر الباب:
• حال المؤمن في الدنيا:
• رفض الدنيا:
وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:
• حال المؤمن في الدنيا:
لا ينبغي للمؤمن أن يتخذ الدنيا وطناً ومسكناً، فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر: يهيء جهازه للرحيل، قال تعالى: يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر:39].
وقد وصف أمير المؤمنين على بن أبي طالب - رضي الله عنه - الدنيا بأبيات لا يسع المجال إلا لذكر بعضها، كما قال:
النفس تبكي على الدنيا وقد علمت ... أن السلامة فيها ترك ما فيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها ... إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنها ... وإن بناها بشر خاب بانيها
لا تركنن إلى الدنيا وما فيها ... فالموت لاشك يفنينا ويفنيها
واعمل لدار غد رضوان خازنها ... والجار أحمد والرحمن ناشيها
رياحها طيب والمسك طينتها ... والزعفران حشيش نابت فيها
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) قال نام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حصير فقام وقد أثر في جنبه قلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء فقال ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها.
- وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة ولا وطناً، فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على أحد حالين: إما أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد غربة، همه التزود للرجوع إلى وطنه، أو يكون كأنه مسافر غير المقيم البتة، بل هو ليله و نهاره، يسير إلى بلد الإقامة، ولهذا وصى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابن عمر أن يكون في الدنيا على أحد هذين الحالين، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.(3/331)
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) قال: أخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
وهذا الحديث أصلٌ في قصر الأمل، وقد بَيَّن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن حال المسلم في الدنيا يدور بين حالين كما يلي:
• أحدهما: أن ينزل المؤمن نفسه كأنه غريب في الدنيا يتخيل الإقامة، لكن في بلد غربة، فهو غير متعلق القلب في بلد الغربة، بل قلبه معلق بوطنه الذي يرجع إليه. قال الحسن: المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، له شأن وللناس شأن. لما خلق آدم أسكن هو وزوجته الجنة، ثم أهبطها منها، ووعدا الرجوع إليها، وصالح ذريتهما، فالمؤمن أبداً يحن إلى وطنه الأول.
[*] كان عطاء السليمي يقول في دعائه: اللهم ارحم في الدنيا غربتي، وارحم في القبر وحشتي، وارحم موقفي غداً بين يديك [الحلية 6/ 217]
[*] وما أحسن قول يحيى بن معاذ الرازي: الدنيا خمر الشيطان، من سكر منها لم يفق إلا في عسكر الموتى نادماً مع الخاسرين.
• الحال الثاني: أن ينزل المؤمن نفسه في الدنيا كأنه مسافر غير مقيم البتة، وإنما هو سائر في قطع منازل السفر حتى ينتهي به السفر إلى آخره، وهو الموت، ومن كانت هذه حاله في الدنيا، فهمته تحصيل الزاد للسفر، وليس له همة في الاستكثار من الدنيا، ولهذا أوصى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جماعة من أصحابه أن يكون بلاغهم من الدنيا كزاد الراكب، كما في الحديث الآتي:
(حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ليكف الرجل منكم كزاد الراكب.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(ليكف الرجل منكم) من الدنيا(3/332)
(كزاد الراكب) يعني ليكفك من الدنيا ما يبلغك إلى الآخرة فالمؤمن يتزود منها والفاجر يستمتع فيها والأصل أن من امتلأ قلبه بالإيمان استغنى عن كثير من مؤن دنياه واحتمل المشاق في تكثير مؤن أخراه، وفيه تنبيه على أن الإنسان مسافر لا قرار له فيحمل ما يبلغه المنزلة بين يديه مرحلة مرحلة ويقتصر عليه وفي بعض الكتب المنزلة ابن آدم خذ من الددنيا ما شئت وخذ من الهم أضعافه. (تنبيه) كان بعض العارفين إذا انقضى فصل الشتاء أو الصيف يتصرف في الثياب الذي يلبسها في ذلك الفصل ولا يدخرها إلى الفصل الآخر وهو مقام عيسوي فإن المسيح عليه السلام لم تكن له ثياب تطوى زيادة على ما عليه من جبة صوف أو قطن وكانت مخدته ذراعيه وقصعته بطنه ووضع لبنة على لبنة من طين تحت رأسه فقال له ابليس قد رغبت يا عيسى في الدنيا بعد ذلك الزهد فرمى بهما واستغفر وتاب، وكان أبو حذيفة يقول: أحب الأيام إلي يوم يأتيني الخادم فيقول: ما في بيتنا اليوم شيء نأكله، هذا تأكيد شديد في الترغيب في الزهد، قال العلائي: والباعث عليه قصر الأمل ولهذا أشار إليه بقوله كزاد الراكب تشبيهاً للإنسان في الدنيا بحال المسافر. أهـ
[*] قيل لمحمد بن واسع: كيف أصبحت؟ قال: ما ظنك برجل يرتحل كل يوم مرحلة إلى الآخرة.
[*] • قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه اللطائف:
خلقنا نتقلب في " ستة " أسفار إلى أن يستقر بالقوم المنزل: السفر الأول: سفر السلالة من الطين السفر الثاني: سفر النطفة من الظهر إلى البطن السفر الثالث: من البطن إلى الدنيا الرابع: من الدنيا إلى القبور الخامس: من القبور إلى العرض السادس: من العرض إلى منزل الإقامة.
فقد قطعنا نصف السفر وما بعد أصعب.
إخواني: السنون مراحل والشهور فراسخ والأيام أميال والأنفاس خطوات والطاعات رؤوس أموال والمعاصي قطاع الطريق والربح الجنة والخسران النار ولهذا الخطب شمر الصالحون كلما رأوا مركب الحياة يتخطف في بحر العمر، شغلهم ما هم فيه عن عجائب البحر فما كان إلا قليل حتى قدموا من السفر فاعتنقتهم الراحة في طريق التلقي فدخلوا بلد الوصل وقد حازوا ربح الدهر.
يا جبان العزم: لو فتحت عين البصيرة فرأيت بإنسان الفكر ما نالوا لصاح لسان التلهف: يا ليتني كنت معهم وأين الأرض من صهوة السماء.
ألا أنت والله منهم ولا تدري من هم.
• رفض الدنيا:(3/333)
إخواني، ارفضوا هذه الدنيا كما رفضها الصالحون، وأعدّوا الزاد لنقلة لا بدّ لها أن تكون، واعتبروا بما تدور به عليكم الأيام والسنون.
• يا أخي، إياك والدنيا، فإن حبل الدنيا مبتوت، واقنع منها بالقوت، واعلم أنك تموت.
[*] • أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في بحر الدموع عن الحسن البصري أنه قال: أدركت أقواما، وصحبت طوائف، كان يأتي على أحدهم الخمسون سنة ونحوها ما طوى منهم أحد ثوبا قط لفراش ولا نوم، ولم يأمر أهله قد بعمل طعام، ولا جعل بينه وبين الأرض فراشا، ولقد كان يأكل أحدهم الأَكْلَة، فيودّ أنها حجر في بطنه، وما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا أقبل ولا يتأسفون على شيء منها أدبر، ولهي أهون عليهم من هذا التراب الذي تطؤونه بأرجلكم، ولقد كان أحدهم يعيش عمره مجهودا شديد الجهد، والمال الحلال إلى جنبه، فيقال له: إلا تأخذ من هذا المال شيئًا لتقتات به؟ فيقول: لا والله، إني لأخاف إن أصبت منه شيئًا يكون فساد لقلبي وديني.
[*] • قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه اللطائف:
رمى " الصديق " ماله حتى ثوبه وقال " عمر ": ليتني كنت تبنة وقال عثمان: ليتني إذا مت لا أبعث.
صاح " علي " بالدنيا: طلقتك ثلاثا لا رجعة لي فيك وقد كانت تكفي واحدة لكنه كيلا يتصور الهوى جواز المراجعة وطبعه الكريم يأنف من المحلل.
وقال: " أبو الدرداء ": ليتني كنت شجرة تعضد.
• ولله درُ من قال:
يا من غدًا في الغيّ والتيه ... وغرّه طول تماديه
أملى لك الله فبارزته ... ولم تخف غبّ معاصيه
• ولله درُ من قال:
فلا تأمن لذي الدنيا صلاحاً ... فإن صلاحها عينُ الفساد
ولا تفرح لمالٍ تقتنيه ... فإنك فيه معكوس المراد
[*] • أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في بحر الدموع عن
الحسن البصري أنه قال: يا ابن آدم، إن لك عاجلًا وعاقبة، فلا تؤثر عاجلتك على عاقبتك، فقد والله، رأيت أقوامًا آثروا عاجلتهم على عاقبتهم، فهلكوا وذلوا وافتضحوا.
يا ابن آدم، بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعًا، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعًا.
يا ابن آدم، لا يضرّك ما أصابك منشدة الدنيا إذا ادّخر لك خير الآخرة، وهل ينفعك ما أصبت من رخائها إذا حرمت من خير الآخرة.
يا ابن آدم، الدنيا مطيّة، إن ركبتها حملتك، وإن حملتها قتلتك.
يا ابن آدم: إنك مرتهن بعملك، وآت على أجلك، ومعروض على ربك، فخذ مما في يديك لما بين يديك، وعند الموت يأتيك الخبر.(3/334)
يا ابن آدم: لا تعلق قلبك بالدنيا فتعلقه بشر متعلق، حسبك أيها المرء ما بلّغك المحل.
• ولله درُ من قال:
أتبني بناء الخالدين وإنما ... بقاؤك فيها لو عقلت قليل
لقد كان في ظل الأراك مقيل ... لمن كل يوم يقتفيه رحيل
• لله در أقوامٍ نظروا إلى باطن العاجلة فرفضوها، وإلى ظاهر بهجتها وزينتها فوضعوها، جعلوا الرُكَبَ لجباههم وساداً، والتراب لجنوبهم مهاداً، قوم خالط القرآن لحومهم ودمائهم، فعزلهم عن الأزواج وحركهم بالإدلاج، فوضعوه على أفئدتهم فانفرجت، وضموه إلى صدورهم فانشرحت، وتصدعت هممهم به فكدحت، فجعلوه لظلمتهم سراجاً، ولنومهم مهاداً، ولسبيلهم منهاجاً، ولحجتهم إفلاجاً، يفرح الناس ويحزنون، وينام الناس ويسهرون، ويفطر الناس ويصومون، ويأمن الناس ويخافون. فهم خائفون حذرون، وجلون مشفقون مشمرون، يبادرون من الفوت، ويستعدون للموت، لم يتصغر جسيم ذلك عندهم لعظم ما يخافون من العذاب وخطر ما يوعدون من الثواب، درجوا على شرائع القرآن، وتخلصوا بخالص القربان، واستناروا بنور الرحمن، فما لبثوا أن ينجزهم لهم القرآن موعوده، وأوفى لهم عهودهم، وأحلهم سعوده، وأجارهم وعيده، فنالوا به الرغائب، وعانقوا به الكواعب، وأمنوا به العواطب، وحذروا به العواقب،(3/335)
• لله در أقوامٍ فارقوا بهجة الدنيا بعين قالية، ونظروا إلى ثواب الآخرة بعين راضية، واشتروا الباقية بالفانية، فنعم ما اتجروا ربحوا الدارين، وجمعوا الخيرين، واستكملوا الفضلين، بلغوا المنازل، بصبر أيام قلائل، قطعوا الأيام باليسير، حذار يوم قمطرير، وسارعوا في المهلة، وبادروا خوف حوادث الساعات، و لم يركبوا أيامهم باللهو واللذات، بل خاضوا الغمرات للباقيات الصالحات، مسارعين الى الخيرات، منقطعين عن اللهوات، أحلى الناس منطقاً ومذاقاً، وأوفى الناس عهداً وميثاقاً، سراج العباد، ومنار البلاد، وصاروا أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء، من الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة. وأعلام التقى ومصابيح الدجى، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء، ومعادن الرحمة، ومنابع الحكمة، وقوام الأمة، نظروا إلى ثواب الله عز وجل بأنفس تائقة، وعيون رامقة، وأعمال موافقة، فحلوا عن الدنيا مطي رحالهم، وقطعوا منها حبال آمالهم، صانوا أبدانهم عن المحارم، وكفوا أيديهم عن ألوان المطاعم، وهربوا بأنفسهم عن المآثم، هم الأتقياء الأخفياء، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا شهدوا لم يعرفوا.
• لله در أقوامٍ أخلاهم الحق من الركون إلى شيء من العروض، وعصمهم من الافتتان بها عن الفروض. وجعلهم قدوة للمتجردين من الفقراء، كما جعل من تقدم ذكرهم أسوة للعارفين من الحكماء. لا يأوون إلى أهل ولا مال، ولا يلهيهم عن ذكر الله تجارة ولا حال، لم يحزنوا على ما فاتهم من الدنيا، ولا يفرحون إلا بما أيدوا به من العقبى. كانت أفراحهم بمعبودهم ومليكهم وأحزانهم على فوت الاغتنام من أوقاتهم وأورادهم، هم الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع، عن ذكر الله، و لم يأسوا على مافاتهم، و لم يفرحوا بما أتاهم. حماهم مليكهم، عن التمتع بالدنيا والتبسيط فيها لكيلا يبغوا ولا يطغوا، رفضوا الحزن على ما فات، من ذهاب وشتات، والفرح بصاحب نسب إلى بلى ورفات.
• لله در أقوام أقبلوا بالقلوب على مُقَلِبِهَا، وأقاموا النفوس بين يدي مؤدبها، وسلموها إذا باعوها إلى صاحبها، وأحضروا الآخرة فنظروا إلى غائبها، وسهروا الليالي كأنهم وُكِّلوا بِرَعىِ كواكبها، ومقتوا الدنيا فما مالوا إلى ملاعبها.
باب ذم طول الأمل:(3/336)
تأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) قال: أخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
وهذا الحديث أصلٌ في قصر الأمل وأن الإنسان إذا أمسى لم ينتظر الصباح، وإذا أصبح لم ينتظر المساء، بل يظن أن أجله يدركه قبل ذلك، قال المروذي: قلت لأبي عبد الله - يعني أحمد – أي شيء الزهد بالدنيا؟ قال: قصر الأمل، من إذا أصبح، قال: لا أمسي.
، وقد بَيَّن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن حال المسلم في الدنيا يدور بين حالين كما يلي:
• أحدهما: أن ينزل المؤمن نفسه كأنه غريب في الدنيا يتخيل الإقامة، لكن في بلد غربة، فهو غير متعلق القلب في بلد الغربة، بل قلبه معلق بوطنه الذي يرجع إليه. قال الحسن: المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، له شأن وللناس شأن. لما خلق آدم أسكن هو وزوجته الجنة، ثم أهبطها منها، ووعدا الرجوع إليها، وصالح ذريتهما، فالمؤمن أبداً يحن إلى وطنه الأول.
[*] كان عطاء السليمي يقول في دعائه: اللهم ارحم في الدنيا غربتي، وارحم في القبر وحشتي، وارحم موقفي غداً بين يديك [الحلية 6/ 217]
[*] وما أحسن قول يحيى بن معاذ الرازي: الدنيا خمر الشيطان، من سكر منها لم يفق إلا في عسكر الموتى نادماً مع الخاسرين.
• الحال الثاني: أن ينزل المؤمن نفسه في الدنيا كأنه مسافر غير مقيم البتة، وإنما هو سائر في قطع منازل السفر حتى ينتهي به السفر إلى آخره، وهو الموت، ومن كانت هذه حاله في الدنيا، فهمته تحصيل الزاد للسفر، وليس له همة في الاستكثار من الدنيا، ولهذا أوصى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جماعة من أصحابه أن يكون بلاغهم من الدنيا كزاد الراكب، كما في الحديث الآتي:
(حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ليكف الرجل منكم كزاد الراكب.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(ليكف الرجل منكم) من الدنيا(3/337)
(كزاد الراكب) يعني ليكفك من الدنيا ما يبلغك إلى الآخرة فالمؤمن يتزود منها والفاجر يستمتع فيها والأصل أن من امتلأ قلبه بالإيمان استغنى عن كثير من مؤن دنياه واحتمل المشاق في تكثير مؤن أخراه، وفيه تنبيه على أن الإنسان مسافر لا قرار له فيحمل ما يبلغه المنزلة بين يديه مرحلة مرحلة ويقتصر عليه وفي بعض الكتب المنزلة ابن آدم خذ من الددنيا ما شئت وخذ من الهم أضعافه. (تنبيه) كان بعض العارفين إذا انقضى فصل الشتاء أو الصيف يتصرف في الثياب الذي يلبسها في ذلك الفصل ولا يدخرها إلى الفصل الآخر وهو مقام عيسوي فإن المسيح عليه السلام لم تكن له ثياب تطوى زيادة على ما عليه من جبة صوف أو قطن وكانت مخدته ذراعيه وقصعته بطنه ووضع لبنة على لبنة من طين تحت رأسه فقال له ابليس قد رغبت يا عيسى في الدنيا بعد ذلك الزهد فرمى بهما واستغفر وتاب، وكان أبو حذيفة يقول: أحب الأيام إلي يوم يأتيني الخادم فيقول: ما في بيتنا اليوم شيء نأكله، هذا تأكيد شديد في الترغيب في الزهد، قال العلائي: والباعث عليه قصر الأمل ولهذا أشار إليه بقوله كزاد الراكب تشبيهاً للإنسان في الدنيا بحال المسافر. أهـ
[*] قيل لمحمد بن واسع: كيف أصبحت؟ قال: ما ظنك برجل يرتحل كل يوم مرحلة إلى الآخرة.
[*] • وكان محمد بن واسع إذا أراد أن ينام قال لأهله: أستودعكم الله، فلعلها أن تكون منيتي التي لا أقوم منها، فكان هذا دأبه إذا أراد النوم.
[*] • وقال بكر المزني: إن استطاع أحدكم أن لا يبيت إلا وعهده عند رأسه مكتوب، فليفعل، فإنه لا يدري لعله أن يبيت في أهل الدنيا، ويصبح في أهل الآخرة
[*] • وقال عون بن عبد الله: ما أنزل الموت كنه منزلته من عدّ غداً من أجله، [*] • وقال بكر المزني: إذا أردت أن تنفعك صلاتك فقل: لعلي لا أصلي غيرها، وهذا مأخوذ من حديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صل صلاة مودع.
(حديث أبي أيوب رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا قمت في صلاتك فَصَلِ صلاةَ مُوَدِّعٍ و لا تكلم بكلام تَعْتَذِرُ منه وأجْمِع اليأس عما في أيدي الناس.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إذا قمت في صلاتك) أي شرعت فيها
(فصل صلاة مودع) أي إذا شرعت فيها فأقبل على الله وحده ودع غيره لمناجاة ربك (ولا تكلم) بحذف إحدى التاءين تخفيفاً
(بكلام تعتذر منه) أي لا تتكلم بشيء يوجب أن يطلب من غيرك رفع اللوم عنك بسببه(3/338)
(وأجْمِع اليأس عما في أيدي الناس) أي اعزم وصمم على قطع الأمل مما في يد غيرك من جميع الخلق فإنه يريح القلب والبدن. وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله قال الراغب: وأكثر ما يقال أجمع فيما يكون جمعا يتوصل إليه بالفكر نحو {أجمعوا أمركم وشركاءكم}
والإياس: القنوط وقطع الأمل
(تنبيه) من البين أن كلا من الكلام المحوح للعذر والإياس مما في أيدي الناس مأمور به لا بقيد القيام إلى الصلاة. أهـ
ومما أنشد بعض السلف:
إنا لنفرح بالأيام نقطعها ... وكل يوم مضى يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً ... فإنما الربح والخسران بالعمل
باب مجالسة الصالحين:
ما أشد ضرورة العبد المسلم إلى المواعظ التي تثبت قلبه في زمن حار فيه الكثير من الناس فانغمسوا في القيم الهابطة التي غزت العقول و القلوب و المجتمعات ولا يتم ذلك إلا بمجالسة الصالحين، الذين بمجالستهم ترق القلوب سواء كان هذا شيخاً لك يعلمك الخير أو كان صديقاً يساعدك على ما يقربك إلى الله.
[*] قال الحافظ ابن رجب رحمه الله:
وكانت مجالس النبي صلى الله عليه و سلم مع أصحابه عامتها مجالس تذكير بالله و ترغيب و ترهيب، إما بتلاوة القرآن أو بما آتاه الله من الحكمة و الموعظة الحسنة و تعليم ما ينفع في الدين كما أمره الله تعالى في كتابه أن يذكر و يعظ و يقص، و أن يدعوا إلى سبيل ربه بالحكمة و الموعظة الحسنة، و أن يبشر و ينذر وسماه الله قال تعالى: (يَأَيّهَا النّبِيّ إِنّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مّنِيراً) [الأحزاب 45،46] و التبشير و الإنذار هو الترغيب و الترهيب فلذلك كانت تلك المجالس توجب لأصحابها رقة القلوب و الزهد في الدنيا و الرغبة في الآخرة.
فالموعظة سبيل للهدى و الرحمة و الشفاء لما في الصدور كما قال تعالى: (يَأَيّهَا النّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مّوْعِظَةٌ مّن رّبّكُمْ وَشِفَآءٌ لّمَا فِي الصّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ) [يونس: 57] لأجل ذلك أمر الله تبارك و تعالى بها نبيه عليه الصلاة و السلام فقال تعالى (َعِظْهُمْ وَقُل لّهُمْ فِيَ أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) [النساء:63]
[*] وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.(3/339)
(حديث العرباض بن سارية في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال لعرباض: صلى بنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يارسول الله، كأن هذه موعظة مُوَدِّع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: "" أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبدا حبشيا فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
[*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(ذَرَفَتْ) أَيْ دَمَعَتْ
(وَوَجِلَتْ) بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ خَافَتْ
(كأن هذه موعِظَةُ مُوَدِّعٍ) بِالْإِصَافَةِ فَإِنَّ الْمُوَدِّعَ بِكَسْرِ الدَّالِ عِنْدَ الْوَدَاعِ لَا يَتْرُكُ شَيْئًا مِمَّا يُهِمُّ الْمُوَدَّعَ بِفَتْحِ الدَّالِ أَيْ كَأَنَّكَ تُوَدِّعُنَا بِهَا لِمَا رَأَى مِنْ مُبَالَغَتِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَوْعِظَةِ
(فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا) أَيْ فَبِأَيِّ شَيْءٍ تُوصِينَا
(وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ) أَيْ وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْأَرْبَعِينَ لِلنَّوَوِيِّ أَيْ صَارَ أَمِيرًا أَدْنَى الْخَلْقِ فَلَا تَسْتَنْكِفُوا عَنْ طَاعَتِهِ أَوْ لَوِ اسْتَوْلَى عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ فَأَطِيعُوهُ مَخَافَةَ إِثَارَةِ الْفِتَنِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ أَبِي دَاوُدَ: وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا بِالنَّصْبِ أَيْ وَإِنْ كَانَ الْمُطَاعُ عَبْدًا حَبَشِيًّا.(3/340)
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُرِيدُ بِهِ طَاعَةَ مَنْ وَلَّاهُ الْإِمَامُ عَلَيْكُمْ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ عَبْدًا حَبَشِيًّا، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ وَقَدْ يُضْرَبُ الْمَثَلُ فِي الشَّيْءِ بِمَا لَا يَكَادُ يَصِحُّ فِي الْوُجُودِ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ مِثْلَ مَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ،} وَقَدْرُ مَفْحَصِ الْقَطَاةِ لَا يَكُونُ مَسْجِدًا لِشَخْصٍ آدَمِيٍّ وَنَظَائِرُ هَذَا الْكَلَامِ كَثِيرَةٌ (وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ إِلَخْ).(3/341)
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: {وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ}. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي كِتَابِ جَامِعِ الْعُلُومِ: وَالْحِكَمِ فِيهِ تَحْذِيرٌ لِلْأُمَّةِ مِنَ اتِّبَاعِ الْأُمُورِ الْمُحْدَثَةِ الْمُبْتَدَعَةِ وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَالْمُرَادُ بِالْبِدْعَةِ مَا أُحْدِثَ مِمَّا لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَا كَانَ لَهُ أَصْلٌ مِنَ الشَّرْعِ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِبِدْعَةٍ شَرْعًا وَإِنْ كَانَ بِدْعَةً لُغَةً فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ شَيْءٌ وَهُوَ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ السَّلَفِ مِنَ اسْتِحْسَانِ بَعْضِ الْبِدَعِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْبِدَعِ اللُّغَوِيَّةِ لَا الشَّرْعِيَّةِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ - رضي الله عنه - فِي التَّرَاوِيحِ: نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ بِدْعَةً فَنِعْمَتِ الْبِدْعَةُ، وَمِنْ ذَلِكَ أَذَانُ الْجُمُعَةِ الْأَوَّلُ زَادَهُ عُثْمَانُ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ وَأَقَرَّهُ عَلِيٌّ وَاسْتَمَرَّ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ بِدْعَةٌ الجزء السابع وَلَعَلَّهُ أَرَادَ مَا أَرَادَ أَبُوهُ فِي التَّرَاوِيحِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا. (فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ) أَيْ زَمَنَ الِاخْتِلَافِ الْكَثِيرِ (فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي) أَيْ فَلْيَلْزَمْ سُنَّتِي (وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ) فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا إِلَّا بِسُنَّتِي فَالْإِضَافَةُ إِلَيْهِمْ إِمَّا لِعَمَلِهِمْ بِهَا أَوْ لِاسْتِنْبَاطِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ إِيَّاهَا قَالَهُ الْقَارِي.(3/342)
وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي الْفَتْحِ الرَّبَّانِيِّ: إِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ قَدْ أَطَالُوا الْكَلَامَ فِي هَذَا وَأَخَذُوا فِي تَأْوِيلِهِ بِوُجُوهٍ أَكْثَرُهَا مُتَعَسِّفَةٌ، وَالَّذِي يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ وَالْمَصِيرُ إِلَيْهِ هُوَ الْعَمَلُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا التَّرْكِيبُ بِحَسْبِ مَا تَقْتَضِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ، فَالسُّنَّةُ هِيَ الطَّرِيقَةُ فَكَأَنَّهُ قَالَ الْزَمُوا طَرِيقَتِي وَطَرِيقَةَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَقَدْ كَانَتْ طَرِيقَتُهُمْ هِيَ نَفْسُ طَرِيقَتِهِ، فَإِنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ حِرْصًا عَلَيْهَا وَعَمَلًا بِهَا فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ كَانُوا يَتَوَقَّوْنَ مُخَالَفَتَهُ فِي أَصْغَرِ الْأُمُورِ فَضْلًا عَنْ أَكْبَرِهَا. وَكَانُوا إِذَا أَعْوَزَهُمُ الدَّلِيلُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمِلُوا بِمَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنَ الرَّأْيِ بَعْدَ الْفَحْصِ وَالْبَحْثِ وَالتَّشَاوُرِ وَالتَّدَبُّرِ، وَهَذَا الرَّأْيُ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ هُوَ أَيْضًا مِنْ سُنَّتِهِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ {حَدِيثُ مُعَاذٍ لَمَّا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَ تَقْضِي؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِهِ} (1) أَوْ كَمَا قَالَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فَالْحَقُّ أَنَّهُ مِنْ قِسْمِ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ وَهُوَ مَعْمُولٌ بِهِ وَقَدْ أَوْضَحْتُ هَذَا فِي بَحْثٍ مُسْتَقِلٍّ.
__________
(1) - صحيح مسلم الأيمان (1668) ,سنن الترمذي الْأَحْكَامِ (1364) ,سنن النسائي الجنائز (1958) ,سنن أبي داود العتق (3958) ,سنن ابن ماجه الأحكام (2345) ,مسند أحمد (4/ 438).(3/343)
فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا كَانَ مَا عَمِلُوا فِيهِ بِالرَّأْيِ هُوَ مِنْ سُنَّتِهِ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ " {وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ثَمَرَةٌ "}، قُلْتُ: ثَمَرَتُهُ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ زَمَنَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَدْرَكَ زَمَنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَوْ أَدْرَكَ زَمَنَهُ وَزَمَنَ الْخُلَفَاءِ، وَلَكِنَّهُ حَدَثَ أَمْرٌ لَمْ يَحْدُثْ فِي زَمَنِهِ فَفَعَلَهُ الْخُلَفَاءُ، فَأَشَارَ بِهَذَا الْإِرْشَادِ إِلَى سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ إِلَى دَفْعِ مَا عَسَاهُ يَتَرَدَّدُ فِي بَعْضِ النُّفُوسِ مِنَ الشَّكِّ وَيَخْتَلِجُ فِيهَا مِنَ الظُّنُونِ. فَأَقَلُّ فَوَائِدِ الْحَدِيثِ أَنَّ مَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنَ الرَّأْيِ وَإِنْ كَانَ مِنْ سُنَنِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَكِنَّهُ أَوْلَى مِنْ رَأْيِ غَيْرِهِمْ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَكَثِيرًا مَا كَانَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنْسَبُ الْفِعْلُ أَوِ التَّرْكُ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى أَصْحَابِهِ فِي حَيَاتِهِ مَعَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لِنِسْبَتِهِ إِلَى غَيْرِهِ مَعَ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْقُدْوَةِ وَمَكَانُ الْأُسْوَةِ فَهَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَمْ أَقِفْ عِنْدَ تَحْرِيرِهِ عَلَى مَا يُوَافِقُهُ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ. انْتَهَى كَلَامُ الشَّوْكَانِيِّ.(3/344)
وَقَدْ ذَكَرْنَا كَلَامَ صَاحِبِ سُبُلِ السَّلَامِ فِي بَيَانِ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ أَذَانِ الْجُمُعَةِ، وَقَالَ الْقَارِي فِي الْمِرْقَاةِ قِيلَ: هُمُ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ-؛ لِأَنَّهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: قَالَ الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً وَقَدِ انْتَهَى بِخِلَافَةِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ. قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: وَصَفَ الرَّاشِدِينَ بِالْمَهْدِيِّينَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُهْتَدِيًا فِي نَفْسِهِ لَمْ يَصْلُحْ الجزء السابع أَنْ يَكُونَ هَادِيًا لِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ يُوقِعُ الْخَلْقَ فِي الضَّلَالَةِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ: وَهُمُ الصِّدِّيقُ وَالْفَارُوقُ وَذُو النُّورَيْنِ وَأَبُو تُرَابٍ عَلِيٌّ الْمُرْتَضَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- أَجْمَعِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا أَفْضَلَ الصَّحَابَةِ الخلفاء الأربعة وَوَاظَبُوا عَلَى اسْتِمْطَارِ الرَّحْمَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ النَّبَوِيَّةِ وَخَصَّهُمُ اللَّهُ بِالْمَرَاتِبِ الْعَلِيَّةِ، وَالْمَنَاقِبِ السُّنِّيَّةِ، وَوَطَّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى مَشَاقِّ الْأَسْفَارِ وَمُجَاهَدَةِ الْقِتَالِ مَعَ الْكُفَّارِ.
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِمَنْصِبِ الْخِلَافَةِ الْعُظْمَى وَالتَّصَدِّي إِلَى الرِّيَاسَةِ الْكُبْرَى لِإِشَاعَةِ أَحْكَامِ الدِّينِ، وَإِعْلَاءِ أَعْلَامِ الشَّرْعِ الْمَتِينِ رَفْعًا لِدَرَجَاتِهِمْ، وَازْدِيَادًا لِمَثُوبَاتِهِمْ، انْتَهَى.
(عَضُّوا) بِفَتْحِ الْعَيْنِ (عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى السُّنَّةِ(3/345)
(بِالنَّوَاجِذِ) جَمْعُ نَاجِذَةٍ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَهِيَ الضِّرْسُ الْأَخِيرُ، وَقِيلَ: هُوَ مُرَادِفُ السِّنِّ وَقِيلَ هُوَ النَّابُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا تَكَامَلَتِ الْأَسْنَانُ فَهِيَ ثِنْتَانِ وَثَلَاثُونَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ ثَنَايَا، وَهِيَ أَوَائِلُ مَا يَبْدُو لِلنَّاظِرِ مِنْ مُقَدَّمِ الْفَمِ، ثُمَّ أَرْبَعٌ رُبَاعِيَّاتٌ، ثُمَّ أَرْبَعُ أَنْيَابٍ، ثُمَّ أَرْبَعُ ضَوَاحِكَ، ثُمَّ اثْنَا عَشَرَ أَضْرَاسٍ، وَهِيَ الطَّوَاحِنُ، ثُمَّ أَرْبَعُ نَوَاجِذَ، وَهِيَ أَوَاخِرُ الْأَسْنَانِ كَذَا نَقَلَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَضْرَاسَ عِشْرُونَ شَامِلَةً لِلضَّوَاحِكِ وَالطَّوَاحِنِ وَالنَّوَاجِذِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْعَضُّ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ مُلَازَمَةِ السُّنَّةِ وَالتَّمَسُّكِ بِهَا فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا أَخْذًا شَدِيدًا يَأْخُذُ بِأَسْنَانِهِ أَوِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالصَّبْرِ عَلَى مُقَاسَاةِ الشَّدَائِدِ، كَمَنْ أَصَابَهُ أَلَمٌ لَا يُرِيدُ أَنْ يُظْهِرَهُ فَيَشْتَدُّ بِأَسْنَانِهِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ.
[*] الشاهد من الحديث:
قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب:
(موعظة) من الوعظ و هو النصح و التذكير بالعواقب، و أتى لنا بكلام دال على التخويف بطريق النصيحة والتذكير بالعواقب لأجل ترقيق القلوب، و التنوين في موعظة للتعظيم و التفخيم أي بموعظة عظيمة بليغة.
(وجلت): بكسر الجيم أي خافت منها القلوب
(وذرفت) بفتح الذال المعجمة و الراء أي سالت منها العيون أي دموعها و في ذلك إشارة إلى أن تلك الموعظة أثرت في نفوسهم و أخدت بمجامعهم ظاهرا و باطنا، و هذا دليل على كمال معرفتهم و مراعاتهم لربهم.
[*] وقال ابن القيم رحمه الله:
الانتفاع بالعظة: هو أن يقدح في القلب قادح الخوف و الرجاء فيتحرك للعمل طلبا للخلاص من الخوف و رغبة في حصول المرجوا.
وها هو الإمام الذهبي رحمه الله يبين أهمية الرقائق و المواعظ في تليين القلب و صفائه:"قال كنا عند أبي شريح فكثرت المسائل، فقال: قد درنت قلوبهم فقوموا إلى خالد بن حميد المهري استقلوا قلوبكم، وتعلموا هذه الرغائب و الرقائق فإنها تجدد العبادة و تورث الزهادة و تجر الصداقة و اقلوا المسائل فإنها في غير ما نزل نفسي القلب و تورث العداوة.(3/346)
فينبغي للمتعلم أن يقصد من العلماء من اشتهر بالديانة وعرف بالستر والصيانة، يقول ابن سيرين: إنما هذا العلم دين فانظروا عن من تأخذون.
والمفترض أن يستفيد طالب العلم رقة القلب من شيخه.
كما أن من الإخوان من مصاحبتهم ترقق القلب، " ما أعطي عبد بعد الإسلام خيرا من أخ صالح، فإذا رأى أحدكم وداً من أخيه فليستمسك به" عمر بن الخطاب.
• وقد أوجب الله تعالى محبته للمتجالسين فيه وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث معاذ رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين في و المتجالسين في و المتباذلين في و المتزاورين في.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(قال اللّه تعالى وجبت) وفي رواية حقت
(محبتي للمتحابين فيّ والمتجالسين فيّ) أي يتجالسون في محبتي بذكري وكان الجنيد أبداً مشغولاً في خلوته فإذا دخل إخوانه خرج وقعد معهم ويقول لو أعلم شيئاً أفضل من مجالستكم ما خرجت إليكم وذلك لأن لمجالسة الخواص أثراً في صفاء الحضور ونشر العلوم ما ليس لغيرهم.
(والمتباذلين فيّ) أي بذل كل واحد منهم لصاحبه نفسه وماله في مهماته في جميع حالاته كما فعل الصديق رضي اللّه عنه ببذل نفسه ليلة الغار وماله حتى تخلل بعباءة لا لغرض من الدنيا ولا لدار القرار
(والمتزاورين فيّ) زاد الطبراني في روايته والمتصادقين فيّ وذلك لأن قلوبهم لهت عن كل شيء سواه فتعلقت بتوحيده فألف بينهم بروحه وروح الجلال أعظم شأناً أن يوصف فإذا وجدت قلوبهم نسيم روح الجلال كادت تطير من أماكنها شوقاً إليه وهم محبوسون بهذا الهيكل فصاروا في [ص 486] اللقاء يهش بعضهم لبعض ائتلافاً وتلذذاً وشوقاً لمحبوبهم الأعظم فمن ثم وجب لهم الحب ففازوا بكمال القرب قال ابن عربي: قد أعطاني اللّه من محبته الحظ الأوفر واللّه إني لأجد من الحب ما لو وضع على السماء لانفطرت وعلى النجوم لانكدرت وعلى الجبال لسيرت والحب على قدر التجلي والتجلي على قدر المعرفة لكن محبة العارف لا أثر لها في الشاهد. أهـ
فمحبة المسلم لأخيه المسلم في الله، ثمرة لصدق الإيمان وحسن الخلق وهي سياج واق، ويحفظ الله به قلب العبد، ويشد فيه الإيمان حتى لا يتفلت أو يضعف.
باب المواظبة على قراءة القرآن الكريم:(3/347)
إن من المعلوم شرعاً أن القرآن الكريم يرقق القلوب بل يرقق الحجر، قال تعالى: وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ [البقرة:74]. وقال تعالى: لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر:21]
يخبر الله تعالى عن عظمة القرآن وفضله وجلاله، وأنه لو خوطب به صم الجبال لتصدّعت من خشية الله، فهذه حال الجبال وهي الحجارة الصلبة، وهذه رقتها وخشيتها وتدكدكها من جلال الله ربّها وعظمته وخشيته، فيا عجباً من مضغة لحم كانت أقسى من هذه الجبال تخاف من سطوة الجبار وبطشه، فلا ترعوي ولا ترتدع، وتسمع آيات الله تتلى عليها فلا تلين ولا تخشع ولا تنيب، أين الخشوع والخضوع، أين البكاء وجريان الدموع، أين التوبة والرجوع، هذا كتاب الله لو أنزل على جبل رأيته يتصدع ومع ذلك فلا قلب لك يخشع ولا عينٍ تدمع، فيا أيها الغافل عن تدبّر القرآن! إلى متى هذه الغفلة؟ قل لي وتكلم، حنانيك بادر بصالح الأعمال قبل أن تندم.
نشكو إلى الله القلوب التي قست ... وران عليها كسب تلك المآثم
من خشية المولى هوى الجبل الذي ... بالطور لانت قسوة الأحجار
أولم يئن وقت الخشوع فلا ... تغرن الحياة سوى مغرار
ورقة القلب تنشأ عن الذكر والقرآن لأن ذلك يوجب خشوع القلب وصلاحه ورقته ويذهب بالغفلة عنه قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، وقال تعالى: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا [الحج:35،34]، وقال تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16]، وقال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23](3/348)
بذكر الله ترتاح القلوب ... ودنيانا بذكراه تطيب
ولكن لم يتعظ بهذه الموعظة إلا القليل من الناس الذين رقت قلوبهم للقرآن واستجابوا لنداء الرحمن كما أخبر تعالى بقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37]
وها نحن في هذا الباب نُذَكِّرَكَ أخي المسلم في إيجازٍ غير مُخِّلٍ بفضل القرآن الكريم وفضل تلاوته وفضل تعلم القرآن وتعليمه و فضائل حفظ القرآن الكريم وكيف كانت عناية السلف الصالح بحفظ القرآن و فضل تدبر القرآن الكريم ومعانيه وأحكامه و فضائل خَتْمِ القرآن، وفي كم يُخْتَم.
• فضل القرآن الكريم:
إن من المعلوم شرعاً وعقلاً وبداهةً أن القرآن الكريم أكبر منةٍ امتن الله تعالى بها على هذه الأمة، ففيه حياةُ القلوب ويحصل بالتمسك به سعادة الدارين، لم تظفر الدنيا كلها بكتاب أجمع للخير كله، وأهدى للتي هي أقوم، وأوفى بما يُسْعد الإنسانية، من هذا القرآن المجيد الذي فتح الله به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غلفًا، وهدى به من الضلالة وبصر به من العمى وأخرج به من الظلمات إلى النور، هذا الكتاب العظيم الذي ضمن للإنسانية الأمن والسعادة في دنياهم وأخراهم، إذا هم آمنوا به وتلوه حقَّ تلاوته، وتفهموا سوره وآياته، وتفقهوا جمله وكلماته، ووقفوا عند حدوده وَأْتمروا بأوامره، وانتهوا بنواهيه، وتخلقوا بأخلاقه، وطبقوا مبادئه ومُثُله وقيمه على أنفسهم وأهليهم ومجتمعاتهم، والقرآن الكريم هو: كتاب الله الذي منه بدأ وإليه يعود، نزل به الروح الأمين على قلب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلسان عربي مبين، وصفه الله تعالى بقوله (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت 41 - 42]. كما وصفه -جلت قدرته- بقوله: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود1/]
• حقا، إن آيات القرآن الكريم في غاية الدقة والإحكام، والوضوح والبيان، أحكمها حكيم، وفصَّلها خبير، وسيظل هذا الكتاب معجزًا من الناحية البلاغية والتشريعية والعلمية والتاريخية وغيرها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لم يتطرق إليه أدنى شيء من التحريف؛ تحقيقا لقوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر/9](3/349)
• فالدنيا كلها لم تظفر بكتاب أجمع للخير كله، وأهدى للتي هي أقوم، وأوفى بما يُسْعد الإنسانية، من هذا القرآن المجيد، الذي قال الله فيه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء:9]
• هذا القرآن الكريم أنزله الله على رسوله محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، قال تعالى (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [إبراهيم:1]
• نعم لقد تأثر به الجن ساعة سمعوه، وامتلأت قلوبهم بمحبته وتقديره، وأسرعوا لدعوة قومهم إلى اتباعه فَقَالُوا (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا) [الجن 1 - 3].
• وقد حكى الله في القرآن الكريم عنهم أنهم قَالُوا (يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الأحقاف 30 – 31]
• ومن عظيم شأنه وجلالة قدره أنَّه لو نزل على الجبال الصمّ لتصدَّعت، قال تعالى: (لَوْ أَنزَلْنَا هََذَا الْقُرْآنَ عَلَىَ جَبَلٍ لّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ) [الحشر / 21]
• وتحدى الثقلين أن يأتوا بمثله ولو اجتمعوا لذلك حيث قال تعالى: (قُل لّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنّ عَلَىَ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هََذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء / 88](3/350)
إنَّ القرآن الكريم معجز في أسلوبه وهديه، غنيٌّ في معانيه ودلالاته، ثمين في كنوزه وحقائقه، حي في نصوصه وتوجيهاته، قويٌّ في أهدافه وأغراضه، أقبل عليه المسلمون في مختلف مراحل التاريخ، قرؤوه وتدبروه، نظروا في نصوصه وتأملوه، فسروا آياته وبينوا شرائعه، تحدثوا عن توجيهاته واستخرجوا من كنوزه وجنوا من ثماره، والعلماء والمفسرون والمتدبرون أخذوا هذا في كل قرن، وسجلوه في كل عصر، وبقي القرآن بحول الله قادراً على العطاء، كنوزه ثمينة لا تنفد، ومعينه ثر كريم لا ينضب، وظلاله ممتدة وارفة لا تزول، وأنواره مشعة مضيئة ولو طال عليها الزمان وامتدت بها السنون.
• وقد فضّل الله عزّ وجل القرآن العظيم على غيره من الكتب السابقة، وجعله ناسخاً لها ومهيمناً عليها، فقال تعالى: (وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) [المائدة / 48]
- من أجل ذلك كله فاق هذا الكتاب المبارك كل ما تقدمه من الكتب السماوية، وكانت منزلته فوق منزلتها، قال تعالى: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) [الزخرف: 4].
- وعلى هذا فلا يُتَصوَّر طلب العلم على جادةِ الاستقامة إلا بعد حفظ كتاب الله تعالى كاملاً ومن فرَّط فيه فرَّط في غيره ولا شك، وليس معنى ذلك أنه يشترط في طلب العلم حفظ كتاب الله تعالى كاملاً غير أنه لا يستقيم علمه ولا يكون له وزناً في العلم إلا إذا حفظ كتاب الله تعال كاملاً وذلك لأن كل كتب العلم تخدم كتاب الله تعالى، ولذا كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحث أمته دائماً على حفظ كتاب الله تعالى وأن يُقبلوا عليه إقبالَ الظامئِ على المورد العذب.
• فضائل تلاوة القرآن الكريم:
أثنى الله عز وجل على التالين لكتاب الله فقال تعالى: (إِنّ الّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللّهِ وَأَقَامُواْ الصّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لّن تَبُورَ * لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ إِنّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر: 29 - 30].
والسنة الصحيحة طافحةٌ بما يحث على فضل تلاوة القرآن الكريم وتعلمه وتعليمه وهاك بعضٌ منها:(3/351)
(حديث أبي أمامة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه اقرءوا الزهراوين: البقرة و آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أصحابهما اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة و تركها حسرة و لا تستطيعها البطلة.
اقرءوا الزهراوين: أي النيرتين
[*] قال النووي رحمه الله تعالى في شرح صحيح مسلم:
"و سميتا الزهراوين لنورهما و هدايتهما و عظيم أجرهما"
«كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان»: قال أهل اللغة: الغمامة والغياية كل شيء أظل الإنسان من فوق رأسه من سحابة وغبرة وغيرهما. نقله النووي. وفي القاموس: الغمامة: السحابة أو البيضاء من السحب. والغياية كل ما أظل الإنسان من فوق رأسه كالسحاب ونحوه. والمراد أن ثوابهما يأتي بهذا المنظر.
«أو كأنهما فرقان من طير صواف»: الفرقان والحزقان: معناهما واحد، وهما قطيعان وجماعتان، يقال في الواحد: فرق وحزق وحزيقه، أي جماعة، ومعنى «صواف»: باسطة أجنحتها ملتصق بعضها ببعض كما كانت تظلل سليمان عليه السلام، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تحاجان عن أصحابهما» أي تدافعان بالحجة عن أصحابهما.
«فإن أخذها بركة وتركها حسرة»: أي قراءتها بركة وترك قراءتها حسرة وخسارة.
أخذها بركة: أي زيادةٌ ونماء
وتركها حسرة: أي على ما فاته من الثواب
«ولا تستطيعها البطلة» أي السحرة، تسمية لهم باسم فعلهم، لأن ما يأتون به الباطل، وإنما لم يقدروا على قراءتها ولم يستطيعوها لزيغهم عن الحق وانهماكهم في الباطل، ويصح أن يكون المعنى ولا يستطيع دفعها واختراق تحصينها لقارئها السحرة.
وقيل: المراد من البطلة أهل البطالة، أي لا يستطيعون قراءتها وتدبر معانيها لكسلهم.
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترُجَّة ريحها طيب و طعمها طيب و مثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها و طعمها حلو و مثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب و طعمها مر و مثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح و طعمها مر.(3/352)
• مثَّل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المؤمن الذي يقرأ القرآن بالأترجة ريحها طيب وطعمها طيب وكذا المؤمن الذي يقرأ القرآن مرضيٌ حاله قلباً وقالباً _ وهذا إن كان عاملاً بكتاب الله تعالى _ وإلا انقلب علمه من نورٍ إلى نار.
• وبين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه يترتب الأجر الوفير على قراءة القرآن الكريم:
(حديث عقبة ابن عامر في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين زهراوين في غير إثم و لا قطع رحم فلأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين و ثلاث خير له من ثلاث و أربع خير له من أربع و من أعدادهن من الإبل.
(حديث ابن مسعودٍ في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة و الحسنة بعشر أمثالها لا أقول: {ألم} حرف و لكن: ألف حرف و لام حرف و ميم حرف.
(حديث ابن عباس في صحيحي الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال {إذا زلزلت} تعدل نصف القرآن و {قل يا أيها الكافرون} تعدل ربع القرآن و {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن.
{تنبيه}:• ومن مظاهر سعة رحمة الله تعالى لعباده وكذا من مظاهر يسر الإسلام أن الله تعالى رتب الأجر الوفير على قراءة القرآن الكريم سواء كان القارئ يجيد القراءة أم يتتعتع في القراءة.
(حديث عائشة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الذي يقرأ القرآن وهو حافظٌ له مع السفرةِ الكرامِ البررة والذي يقرأ القرآن ويتعاهده وهو عليه شديد فله أجران.
(حديث جابر في صحيح أبي داود) قال: خرج علينا رسول الله ونحن نقرأ القرآن وفينا الأعرابي والأعجمي فقال: اقرؤوا فكلٌ حسن وسيجئُ أقوامٌ يقيمونه كما يُقام القدحُ يتعجلونه ولا يتأجلونه.
الشاهد:
أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل أمر قراءة القرآن على التساهل حيث قال في قراءة الأعرابي والأعجمي (اقرؤوا فكلٌ حسن) وهما غالباً لا يحسنان القراءة لأن الأعرابي غالباً بعيدٌ عن العلم والأعجمي ليس عربياً أصلاً، ثم بين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن المهم في القراءة الاحتساب وإخلاص النية ثم نبه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سيجئُ أقوامٌ يقرؤون القرآن قراءةً صحيحةً ويقيمون الألفاظ كما يُقام القدح (أي السهم) ولكنهم مع ذلك يتعجلون ثوابه في الدنيا ولا يؤجلون ثوابه في الآخرة.(3/353)
{تنبيه}:• ... لسماع القران أثر إيجابي على المخ فقد ثبت علمياً أن تلاوة القرآن الكريم وترتيله والاستماع إلى آياته والإنصات لها يعزز القوى العقلية، وأن الترددات العقلية الصادرة عن أصوات تلاوة القرآن الكريم يجعل العقل يصدر سلسلة من الترددات والطاقات تعرف علمياً باسم (موجات العقل)
فإذا كنت حقاً تريد تزويد عقلك بالموجات الصوتية المغذية استمع للقرآن الكريم وأنصت جيداً لآياته وراقب جيداً كيف تزداد قواك العقلية، وكيف تصبح مبدعاً في
تفكيرك.
وثبت فعلياً أن الإنسان يحتاج للاستماع إلى الآيات المحكمات من كتاب الله كغذاء فعال للروح والعقل معاً أكثر من حاجة العقل إلى المغذيات الطبيعية والأعشاب
الطبية والفيتامينات وغيرها من منشطات العقل.
والعجيب فعلاً أن الاستماع للقرآن الكريم يزيل الضجر والتشتت والنسيان السريع بعكس الاستماع لأي أي شيء آخر.
- لذا فاحرصوا قدر استطاعتكم أن تظلوا يقظين أثناء الاستماع ولا تعطوا لعوامل التشتت الفرصة، فقد ثبت أن السر في تركيبة عقولنا يكمن في أنه بالاستماع للقرآن الكريم تبقى خلايا مخك حية سعيدة حتى في أثناء فترات الضغط عليها.
وثبت توقف خلايا المخ عن التناقص بعد دوام الاستماع للقرآن الكريم، وكذلك زيادة قدرة المستمع على التركيز واستدعاء الذاكرة والقيام بعمليات حسابية لم يكن بالإمكان القيام بها من قبل.
نسأل الله العظيم أن يعيننا على تلاوة القرآن الكريم, وحفظه, وتدبّر آياته, واتّباع سنة نبيّه عليه أفضل الصلاة والسلام, وأن تكون منزلتنا عند آخر آية نقرؤها, وأن نكون ممن نقرأ فنرقى, ولا نكون ممن يقرأ فيشقى, وأن نقيم حدوده, ولا نضيّع حدوده, وأن نأمر بالمعروف, وننهى عن المنكر, ونسارع في فعل الخيرات والطاعات وترك المنكرات وحب المساكين إنه ولي ذلك والقادرُ عليه.
• فضل تعلم القرآن وتعليمه:
مما لا شك فيه أن القرآن الكريم هو أفضل ما يُتعلم، وأفضل ما يُعلَّم، لاشك أن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه هو أكثر كمالاً لأنه مكمِّل لنفسه ولغيره، جامع بين النفع القاصر على نفسه والنفع المتعدي إلى غيره، ولذلك قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه)
(حديث عثمان في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال خيركم من تعلم القرآن وعلمه.
[*] قال الحافظ ابن كثير في فضائل القرآن:(3/354)
"والغرض أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: خيركم من تعلم القرآن وعلمه، وهذه صفات المؤمنين المتبعين للرسل، وهم الكُمَّلُ في أنفسهم المُكَمِّلون لغيرهم، وذلك جمع بين النفع القاصر والمتعدي، وهذا بخلاف صفة الكفار الجبارين الذين لا ينفعون، ولا يتركون أحدا ممن أمكنهم أن ينتفع، كما قال الله في حقهم: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ) [النحل:88].
وكما قال تعالى: (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) [الأنعام: 26].
في أصح قولي المفسرين في هذا، وهو أنهم ينهون الناس عن اتباع القرآن مع نأيهم وبعدهم عنه أيضا، فجمعوا بين التكذيب والصد، كما قال تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا) [الأنعام: 157]. فهذا شأن شرار الكفار كما أن شأن الأخيار الأبرار أن يتكملوا في أنفسهم، وأن يسعوا في تكميل غيرهم، كما في هذا الحديث، وكما قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)
[فصلت/ 33]
فجمع بين الدعوة إلى الله سواء كان بالأذان أو بغيره من أنواع الدعوة إلى الله -تعالى- من تعليم القرآن والحديث والفقه، وغير ذلك مما يُبتغى به وجه الله، وعمل هو في نفسه صالحا، وقال قولا صالحا -أيضا- فلا أحد أحسن حالا من هذا. انتهى.
- وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حريصاً كل الحرص على تعليم صحابته القرآن، وتعاهدهم على تلاوته والعمل به، فقد جاء عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرئهم القرآن. ونُقل عن ابن مسعود أنه أقرأ رجلاً، فقال له حين أخطأ: ما هكذا أقرأنيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكان من أمره صلى الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يرسل القراء إلى كل بلد يعلِّمون أهله كتاب الله، فأرسل مصعب بن عمير وابن أم مكتوم إلى أهل المدينة قبل هجرته، وبعث معاذ بن جبل إلى مكة بعد فتحها. وعلى هذا الدرب سار السلف الصالح من بعدُ، فاهتموا بتعلِّم كتاب ربهم وتعليمه، فأقاموا المساجد والمدارس تحقيقاً لهذا الغرض.
• فضائل حفظ القرآن الكريم:
• قد شرَّف الله أمة الإسلام بخصيصة لم تكن لأحد من أهل الْملل قبلهم، وهي أنَّهم يقرءون كتاب ربِهم عن ظهر قلبٍ، بخلاف أهل الكتاب، فقد كانوا يقرءون كتبِهم نظرًا، لا عن ظهر قلب.(3/355)
ميّز الله عز وجل القرآن الكريم عن سائر الكتب بأن تعهد بحفظه، قال تعالى: (إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا الذّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9].
- وكان من حفظه لكتابه أن وفَّقَ هذه الأمة إلى حفظه واستظهاره.
ولقد يسّر الله سبحانه وتعالى تلاوة القرآن وحفظه لعباده فقال تعالى: (وَلَقَدْ يَسّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مّدّكِرٍ) [القمر: 17].
فنجد الطفل الصغير والأعجمي وغيرهما، يقبل على حفظ القرآن، فييسر الله له ذلك، رغم أنه لا يعرف من العربية ولا الكتابة شيئاً.
وقد تظاهرت الأدلة على فضل حفظ القرآن الكريم، وفضل حفظته على غيرهم من الْمسلمين، فمن ذلك ما يلي:
(1) التأسي بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فقد كان عليه الصلاة والسلام يحفظه، ويراجعه مع جبريل عليه السلام ومع بعض أصحابه.
(2) التأسي بالسلف الصالح:
[*] قال ابن عبد البر:
طلب العلم درجات ورتب لا ينبغي تعديها، ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف رحمهم الله، فأول العلم حفظ كتاب الله عز وجل وتفهمه ... ا هـ)
حفظه ميسر للناس كلهم، ولا علاقة له بالذكاء أو العمر، فقد حفظه الكثيرون على كبر سنهم. بل حفظه الأعاجم الذين لا يتكلمون العربية، فضلاً عن الأطفال.
(3) علوُّ منزلة حَافظ القرآن، الْماهر به لأنه يكون مع السفرة الكرام البررة كما في الحديث الآتي:
(حديث عائشة في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الذي يقرأ القرآن وهو حافظٌ له مع السفرةِ الكرامِ البررة والذي يقرأ القرآن ويتعاهده وهو عليه شديد فله أجران.
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يقال لصاحب القرآن: اقرأ و ارق و رتل كما كنت ترتل في دار الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها.
فيا له من شرف أن تكون مع من قال الله فيهم {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ) (عبس من الآية 13 (16:
(4) صاحب القرآن يلبس حلة الكرامة وتاج الكرامة:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يجيء القرآن يوم القيامة، فيقول: يا رب حله، فيلبس تاج الكرامة. ثم يقول: يا رب زده فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيقال اقرأ وارق ويزاد بكل آية حسنة.
(5) ومن ذلك أيضًا أن أهل القرآن هم أهل الله وخاصته:(3/356)
(حديث أنس في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أهل القرآن أهل الله وخاصته.
(6) ومن ذلك أيضًا أن حملة القرآن مقدمون على أهل الجنة:
[*] قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ:
حَمَلَةُ الْقُرْآنِ عُرَفَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
[*] وعن طاوس أنه سأل ابن عباس - رضي الله عنهما: ما معنى قول الناس: أهل القرآن عرفاء أهل الجنة؟ فقال: رؤساء أهل الجنة.
(7) حملة القرآن هم أهل الله وخاصته وكفى بهذا شرفاً كما في الحديث الآتي:
(حديث أنس في صحيح ابن ماجة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أهل القرآن أهل الله وخاصته.
(8) حامل القرآن يستحق التكريم كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي موسى في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم و حامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه و إكرام ذي السلطان المقسط.
(9) الغبطة الحقيقية تكون في القرآن وحفظه كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا حسد إلا في اثنتين: رجلٌ علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جارٌ له فقال: ليتني أوتيتُ مثل ما أُوتيَ فلانٌ فعملتُ مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالاً فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيتُ مثل ما أُوتيَ فلانٌ فعملتُ مثل ما يعمل.
(10) حفظ القرآن وتعلمه خير من متاع الدنيا، كما في الحديث الآتي:
(حديث عقبة ابن عامر في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين زهراوين في غير إثم و لا قطع رحم فلأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين و ثلاث خير له من ثلاث و أربع خير له من أربع و من أعدادهن من الإبل.
- وتذكر أن الإبل في ذلك الزمان أنفس المال وأغلاه.
(11) حافظ القرآن هو أولى الناس بالإمامة كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي مسعودٍ الأنصاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا و لا يؤمنَّ الرجلُ الرجلَ في أهله و لا في سلطانه و لا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه.
- وتذكر أن الصلاة عمود الدين وثاني أركان الإسلام.(3/357)
(12) حفظ القرآن الكريم رفعة في الدنيا والآخرة، كما في الحديث الآتي:
(حديث عمر في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين.
(بهذا الكتاب): أي بقراءته، أي بالعمل به. وقوله
(أقواما): أي: منهم مولاك.
(ويضع به): أي بالإعراض عنه وترك العمل بمقتضاه.
- وهكذا كان توقير الرعيل الأول لكتاب ربهم في صدورهم. وكان السلف ينشئون أطفالهم على حفظ القرآن، ثم يحفظونهم الكتب الستة (أي صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن الترمذي، وسنن أبي داود، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجه). وبعد أن يتمون ذلك يقومون بتحفيظهم مغازي الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وبذلك يشب الطفل المسلم على وعي بكتاب ربه وسنة نبيه صلوات ربي وسلامه عليه. وهكذا حقق الإسلام تقدمه وتفرده، وازدهرت حضارة الإسلام على جميع الحضارات التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وتفوقت عليها؛ وذلك بحفظ كتابها والعمل بمقتضاه.
(13) حافظ القرآن يقدم في قبره، فبعد معركة أحد وعند دفن الشهداء كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجمع الرجلين في قبر واحد ويقدم أكثرهم حفظاً كما في الحديث الآتي:
(حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) قال كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول أيهم أكثر أخذاً للقرآن فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم.
(14) وفي يوم القيامة يشفع القرآن لأهله، وشفاعته مقبولة عند الله تعالى كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي أمامة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه اقرءوا الزهراوين: البقرة و آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أصحابهما اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة و تركها حسرة و لا تستطيعها البطلة.
اقرءوا الزهراوين: أي النيرتين
قال النووي رحمه الله تعالى في شرح صحيح مسلم:
"و سميتا الزهراوين لنورهما و هدايتهما و عظيم أجرهما"(3/358)
«كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان»: قال أهل اللغة: الغمامة والغياية كل شيء أظل الإنسان من فوق رأسه من سحابة وغبرة وغيرهما. نقله النووي. وفي القاموس: الغمامة: السحابة أو البيضاء من السحب. والغياية كل ما أظل الإنسان من فوق رأسه كالسحاب ونحوه. والمراد أن ثوابهما يأتي بهذا المنظر.
«أو كأنهما فرقان من طير صواف»: الفرقان والحزقان: معناهما واحد، وهما قطيعان وجماعتان، يقال في الواحد: فرق وحزق وحزيقه، أي جماعة، ومعنى «صواف»: باسطة أجنحتها ملتصق بعضها ببعض كما كانت تظلل سليمان عليه السلام، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تحاجان عن أصحابهما» أي تدافعان بالحجة عن أصحابهما.
«فإن أخذها بركة وتركها حسرة»: أي قراءتها بركة وترك قراءتها حسرة وخسارة.
أخذها بركة: أي زيادةٌ ونماء
وتركها حسرة: أي على ما فاته من الثواب
ولا تستطيعها البطلة:
«ولا تستطيعها البطلة» أي السحرة، تسمية لهم باسم فعلهم، لأن ما يأتون به الباطل، وإنما لم يقدروا على قراءتها ولم يستطيعوها لزيغهم عن الحق وانهماكهم في الباطل، ويصح أن يكون المعنى ولا يستطيع دفعها واختراق تحصينها لقارئها السحرة.
وقيل: المراد من البطلة أهل البطالة، أي لا يستطيعون قراءتها وتدبر معانيها لكسلهم.
(حديث أبي موسى في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترُجَّة ريحها طيب و طعمها طيب و مثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها و طعمها حلو و مثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب و طعمها مر و مثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح و طعمها مر.
فهنيئاً لمن يشفع له هذا الكتاب العظيم في ذلك اليوم العصيب.
(15) حفظ القرآن سبب للنجاة من النار كما في الحديث الآتي:
(حديث عصمة بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لو جمع القرآن في إهاب ما أحرقه الله بالنار.
[*] قال ابن الأثير:
وقيل الْمعنى: مَن علَّمهُ اللهُ القرآنَ لم تحرقْهُ نارُ الآخرةِ، فجُعِلَ جسمُ حافظ القرآن كالإهاب له.
[*] قال أبو أمامة: إن الله لا يعذب بالنار قلباً وعى القرآن.
(16) حفظ القرآن رفعة في درجات الجنة، كما في الحديث الآتي:(3/359)
(حديث عبد الله بن عمرو في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يقال لصاحب القرآن: اقرأ و ارق و رتل كما كنت ترتل في دار الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها.
[*] قال ابن حجر الهيتمي:
الخبر خاص بمن يحفظه عن ظهر قلب، لأن مجرد القراءة في الخط لا يختلف الناس فيها.
(17) حافظ القرآن أكثر الناس تلاوة له، فحفظه يستلزم القراءة المكررة، وتثبيته يحتاج إلى مراجعة دائمة فيجعله يفوز بكنزٍ من كنوز الحسنات لأن من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث ابن مسعودٍ في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة و الحسنة بعشر أمثالها لا أقول: {ألم} حرف و لكن: ألف حرف و لام حرف و ميم حرف.
حافظ القرآن يقرأ في كل أحواله، فبإمكانه أن يقرأ وهو يعمل أو يقود سيارته أو في الظلام، ويقرأ ماشياً ومستلقياً، فهل يستطيع غير الحافظ أن يفعل ذلك؟ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
حافظ القرآن لا يعوزه الاستشهاد بآيات القرآن الكريم في حديثه وخطبه ومواعظه وتدريسه، أما غير الحافظ فكم يعاني عند الحاجة إلى الاستشهاد بآية، أو معرفة موضعها.
فهل بعد هذا نزهد في حفظ ما نستطيع من كتاب الله؟! ..
• عناية السلف الصالح بحفظ القرآن:
لا شك ولا ريب أن أول الأمور في طلب العلم بل هو أعظمها وأجلّها (حفظ القرآن الكريم) والناظر إلى سير علمائنا السابقين واللاحقين يجد أنهم أول ما يهتمون بحفظ القرآن الكريم فيحفظونه منذ نعومة أظفارهم قبل البلوغ ذلك لأنه أساس العلوم وقوامها ومنه أولاً تستمد الأحكام والأدلة، ثم بعد ذلك يتدرجون في سلم العلوم الشرعية.
وكان السلف الصالح أول ما يسألون عنه حفظ كتاب الله منذ صغرهم ونعومة أظفارهم فيشبوا وقد علقت قلوبهم بحب الله , وتعظيم كتابه , وتدبر آياته ... فيأتمرون بأوامره وينتهون بنواهيه , فان كانت من مكارم الأخلاق أطّلع عليها واقتدي بها, وان كانت عبراً وَعِظَات, اعتبر بها وَقَرَعَتْ فُؤَادَه.
،وهذه قصة عمر بن أبى سلمة أصح دليل على سرعة حفظ الطفل والحث على المسارعة في تحفيظ الأبناء:(3/360)
(حديث عمر بن سلمة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كنا بماء ممر الناس , وكان يمر بنا الركبان فنسألهم عن النبي؟ فيقولون يزعم أن الله أرسله أوحى إليه بكذا فكنت أحفظ ذلك الكلام وكأنما يقر في صدري فلما أسلم قومه وأمرهم النبي بالصلاة قال: فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنا منى! لما كنت أتلقى من الركبان فقدموني بين أيديهم و أنا ابن ست أو سبع سنين؟؟.
- ومما يدل على إن هذا دأب الصحابة قول ابن عباس: جمعت المحكم في عهد رسول الله؟؟ فقلت له: ما المحكم؟ قال: المفصل! (أي من الحجرات إلى آخر القرآن) وقال أيضاً: سلوني عن التفسير فإني حفظت القرآن وأنا صغير
[*] وعن ابن عباس قال: من قرأ القرآن قبل أن يحتلم فهو ممن أوتى الحكم صبيا (الآداب الشرعية لابن مفلح1/ 244)
(ومما يستطرف في هذا الشأن حكاية الفرزدق حيث دخل مع أبيه على علي بن أبى طالب رضي الله عنه وقال له:
إن ابني يوشك أن يكون شاعراً فقال له: أقرئه القرآن فهو خير له! فقال: ما زالت كلمته في نفسي حتى قيّد نفسه بقيد وآلي أن لا يفكه حتى يحفظ القرآن فما فكه حتى حفظه (خزانه الأدب 1/ 222)
[*] قال الشيخ أبو زكريا النواوي رحمه الله في التبيان:
والظاهر أن كلام السلف وفعلهم محمول على هذا التفصيل وكان السلف يتعاهدون أطفالهم على حفظ كتاب الله تعالى. دخل الرحالة الشهير ابن بطوطة خلال رحلته في مالي على قاض مالي يوم العيد عام 1352م فوجد أولاده في القيود فقال ألا تسرحهم فأجابه لا أفعل حتى يحفظوا القرآن كما مر ابن بطوطة في مالي بشاب حسن الصوت وعليه ثياب فاخرة وفي رجليه قيد ثقيل فسأل مرافقه عما ارتكبه هذا الشاب من جرم، وعلم أخيرا أنه قيد حتى ينتهي من حفظ القرآن.
ورغم أن أسلوب ربط القيود مما تَعافًه أنفسنا اليوم ولا تعتبره الأساليب التربوية الحديثة صحيحا، إلا أن هاتين القصتين توضحان مقدار حرص المسلمين في أقاصي إفريقيا وغيرها من بلاد المسلمين على تحفيظ أولادهم كتاب الله.
[*] قال الميموني: سألت أبا عبد الله (يعني الإمام أحمد) أيهما أحب إليك أبدأ ابني بالقرآن أو بالحديث؟ قال: لا بالقرآن، قلت: أعلمه كله؟ قال: إلا أن يعسر، فتعلمه منه. (الآداب الشرعية لابن مفلح (2/ 3)
[*] وقال الخطيب البغدادي: ينبغي للطالب أن يبدأ بحفظ كتاب الله عز وجل إذ كان أجل العلوم وأولاها بالسبق والتقديم. (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 1/ 106).(3/361)
[*] وقال الحافظ النووي رحمه الله: وأول ما يبتدئ به حفظ القرآن العزيز فهو أهم العلوم، وكان السلف لا يُعلِّمون الحديث والفقه إلا لمن حفظ القرآن. (مقدمة المجموع شرح المهذب)
[*] وقال شيخ الإسلام: وأما طلب حفظ القرآن فهو مقدم على كثير مما تسميه الناس علما وهو إما باطل أو قليل النفع، وهو أيضا مقدم في التعلم في حق من يريد أن يتعلم علم الدين من الأصول والفروع، فإن المشروع في حق مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القرآن فإنه أصل علوم الدين. (الفتاوى الكبرى 2/ 235)
[*] قال ابن خلدون رحمه الله: ((كان أول ما يُشرع في تعليم الصبيان تحفيظ القرآن الكريم)).
- وهكذا كان توقير الرعيل الأول لكتاب ربهم في صدورهم. وكان السلف ينشئون أطفالهم على حفظ القرآن، ثم يحفظونهم الكتب الستة (أي صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن الترمذي، وسنن أبي داود، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجه). وبعد أن يتمون ذلك يقومون بتحفيظهم مغازي الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وبذلك يشب الطفل المسلم على وعي بكتاب ربه وسنة نبيه صلوات ربي وسلامه عليه. وهكذا حقق الإسلام تقدمه وتفرده، وازدهرت حضارة الإسلام على جميع الحضارات التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وتفوقت عليها؛ وذلك بحفظ كتابها والعمل بمقتضاه.
- ثم خلف من بعد ذلك خلف أضاعوا هذه القيم، ولم يهتموا بكتاب ربهم. هان الله في نفوسهم، فأهانهم الله بما اقترفوه من ذنوب. وقد ضرب لنا القرآن المثل على الأمة التي تضيع العمل بكتابها، فقال تعالى مخبرا عن بني إسرائيل، والخطاب للتذكرة والتحذير: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا اْلأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ َلا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إَِّلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ اْلآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفََلا تَعْقِلُونَ}] الأعراف: 169 [.(3/362)
[*] قال الشيخ أبو بكر الجزائري في تفسيره لهذه الآية: يحكي الله تعالى عن اليهود أنه قد خلفهم خلف سوء، ورثوا التوراة عن أسلافهم، ولم يلتزموا بما أُخذ عليهم فيها من عهود، على الرغم من قراءتهم لها. فقد آثروا الدنيا على الآخرة، فاستباحوا الربا والرشا وسائر المحرمات، ويدّعون أنهم سيغفر لهم. وكلما أتاهم مال حرام أخذوه، ومنوا أنفسهم بالمغفرة كذبا على الله تعالى. وقد قرأوا في كتابهم ألا يقولوا على الله إلا الحق وفهموه، ومع! هذا يجترئون على الله ويكذبون عليه بأنه سيغفر لهم.
[*] وقال القرطبي في تفسيره:
وهذا الوصف الذي ذم الله تعالى به هؤلاء موجود فينا. فقد روى الدارمي في سننه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سَيَبْلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب، فيتهافت, يقرءونه لا يجدون له شهوة ولا لذة, يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب, أعمالهم طمع لا يخالطه خوف, إن قصروا قالوا سنبلغ, وإن أساءوا قالوا سيغفر لنا, إنا لا نشرك بالله شيئا.
واستمر خط الابتعاد عن كتاب الله يمضي قدما، بطيئا وبشكل يخفى عن العامة في أول الأمر، ثم بخطى متسارعة وبصورة سافرة بعد ذلك. فبعد أن كانت الأمة مجمعة الكلمة على العمل بكتاب ربها، وتستمد تشريعاتها من أحكامه، بدأت في التخلي عنه شيئا فشيئا، فعاقبها الله بأن سلبه من يدها، إلى أن أصبحت لا تعمل به. وبالطبع كان هناك دورا رئيسيا لأعداء الأمة في الوصول إلى هذه الحالة التي أصبحنا عليها.
فقد جاء الاحتلال الفرنسي فتعامل بقسوة مع الأمة، وحاول إجبار الأمة على التخلي عن تعاليم الدين بالحديد والنار. وبسبب إتباع هذا المنهج السافر، فلم تزدد الأمة إلا تمسكا بدينها وبتعاليم كتاب ربها. ورغم أنه لم يكن قد بقي من الإسلام إلا طلاسم وذكريات إلا أن الأمة وقفت صفا واحدا في وجه من حاولوا تشويه صورة دستورها. ولذلك تعامل الإنجليز الذين أعقبوا الفرنسيين بصورة أكثر دهاء ومكرا ولكن بنفس المنطق والحزم في زحزحة الأمة عن دينها.(3/363)
فيقف جلادستون رئيس وزراء بريطانيا الأسبق في مجلس العموم البريطاني يحث قومه على زعزعة الأمة عن دينها فيقول: " مادام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوروبا السيطرة علي الشرق ولا أن تكون هي نفسها في أمان ". ويقول الحاكم الفرنسي في الجزائر في ذكرى مرور مائة سنة على استعمار الجزائر: " إننا لن ننتصر على الجزائريين ما داموا يقرأون القرآن ويتكلمون العربية، فيجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم ".
ويسير المنصرون الذين رافقوا هذه الحملات على نفس الخط. فيقول المنصر وليم جيفورد بالكراف، في كتاب جذور البلاء: " متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب، يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيداُ عن محمد (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وكتابه ". ويقول المنصر تاكلي، في كتاب التبشير والاستعمار: " يجب أن نستخدم القرآن، وهو أمضى سلاح في الإسلام، ضد الإسلام نفسه، حتى نقضي عليه تماماً. يجب أن نبين للمسلمين أن الصحيح في القرآن ليس جديداُ، وأن الجديد فيه ليس صحيحاً ". ويقول المنصر ذاته " تاكلي "، في كتاب الغارة على العالم الإسلامي: " يجب أن نشجع إنشاء المدارس على النمط الغربي العلماني، لأن كثيراً من المسلمين قد تزعزع اعتقادهم بالإسلام والقرآن حينما درسوا الكتب المدرسية الغربية وتعلموا اللغات الأجنبية ".
واستدعى ذلك الأمر العمل على عدة محاور وفي نفس الوقت. فتم إلغاء الكتاتيب والحد من تأثيرها وإضعاف مكانتها في النفوس. وبالطبع لا يختلف أحد في أن الكتاتيب كان قد أصابها شيء من القصور، ولكن كان يجب العمل على علاج تلك الأخطاء الناجمة والتي تراكمت عبر الزمن وليس إلغائها تماما. وتزامن هذا مع الإبقاء على الأزهر - كمؤسسة دينية - قائما مع إضعاف مكانته وزعزعة ثقة الناس فيه بإنشاء المدارس الأجنبية اللادينية إلى جانبه، والمسارعة إلى تعيين خريجي هذه المدارس في مختلف الوظائف المرموقة وبأجور مرتفعة للغاية، مع عدم توفير فرص عمل لخريجي الأزهر (وبالأخص حملة القرآن منهم)، وإن وجدت فهي ضعيفة الأجر.(3/364)
وهكذا بدأت النظرة إلى القرآن واللغة العربية تتغير في نفوس الناس! ومع رثاثة حال حملة القرآن وخريجي المدارس الدينية، ووجاهة خريجي المدارس اللادينية، بدأت هذه النظرة الجديدة تتغلغل في النفوس، ليتجه المجتمع بأكمله نحو هجران القرآن!! ولم يعد فخرا للأسر أن ترتبط بمن يحمل مؤهل ديني، لضعف منزلته الاجتماعية في المجتمع. مع ما تركه هذا من آثار عميقة في نفوس هؤلاء الأفراد، الذين شعروا أنهم ما وصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا بسبب اتجاههم للدين، فكان أن مقتوه في داخل نفوسهم، وسعوا بكل الطرق إلى عدم تكرار تجاربهم. وصار طموح أي فرد في المجتمع أن يصبح طبيبا أو مهندسا أو ضابطا. ولم تعد تجد من يحلم أو تحلم له أسرته بأن يكون " عالم دين " أو " دارس فقه " أو حامل للقرآن ". وتواكب مع هذا صناعة نجوم في المجتمع يشار إليها بالبنان تبتعد تماما عن الإسلام وقيمه. وغُيبت عن عمد نماذج رجال الدين أو رموزنا الدينية من صفحات! الجرائد أو المجلات أو وسائل الإعلام الأخرى حتى يستقر هذا الاتجاه في النفوس.
وبدأ المخطط بتحويل كتاب الله من قوة حاكمة دافعة للمجتمع إلى مجرد كتاب يحمل ذكريات. تُغير عليه قوى الشر ولا يتحرك المسلمون للدفاع عنه. وتنتشر من حوله الخرافات. وهكذا يصبح القرآن الذي هو حياة الأمة، رمزا للموت فيها، فلا يقرأ إلا في سرادقات العزاء، ولا تكاد تسمع القرآن في مكان حتى تسأل عمن توفى!!! وجعلوا من فاتحة الكتاب - التي هي دستور حياة المسلمين، والتي كان حرص الشارع على قراءتها سبع عشرة مرة على الأقل يوميا في كل ركعة من الصلوات المفروضة - وسيلة لجلب الرحمة على الأموات، فلا تذكر ميتا حتى يقال " اقرءوا له الفاتحة "!!!
وصدق فيهم قول ربي عز وجل: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]
- والذي يشاهد واقع الشباب اليوم يجد أن بعضهم يُغفل جانب حفظ القرآن بل بعضهم يبدأ بالحفظ قليلاً ثم لا يلبث أن ينقطع مع أنه ربما يكون مجتهداً في حضور الدروس العلمية الشرعية، وأخشى أن يكون هذا من عدم التوفيق فن فرَط في كتاب الله تعالى كان مُفَرِّطاً لغيره من باب أولى فليس هناك أنفع من كتاب الله تعالى.
• فضل تدبر القرآن الكريم ومعانيه وأحكامه:(3/365)
ينبغي عند قراءة القرآن أن يتدبّر القارئ ويتأمل في معاني القرآن وأحكامه، لأن هذا هو المقصود الأعظم والمطلوب الأهم، وبه تنشرح الصدور وتستنير القلوب، قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته} [سورة ص: 29].
في هذه الآية بين الله تعالى أن الغرض الأساس من إنزال القرآن هو التدبر والتذكر لا مجرد التلاوة على عظم أجرها.
وفَقُهَ الصحابةُ رضي الله عنهم شرع الله وسنة رسوله فكانوا لا يتعجَّلون مجرد التلاوة دون تدبر، بل كانوا لا يجاوزون عشر آيات حتى يعلموا معانيهن والعمل بهن (رواه الطبري في تفسيره عن ابن مسعود رضي الله عنه). ونهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ختم القرآن في أقل من ثلاث لأنه لن يتحقق تدبره وفقهه.
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث.
• وكان الصحابة رضي الله عنهم لا يتعجلون حفظ القرآن (وهو نافلة) دون تدبره (وهو فرض عين)، بل ثبت في الصحيحين أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مات ولم يحفظ القرآن من الصحابة غير أربعة على اختلاف في أسماء اثنين منهم، وبمجموع الروايات لا يكاد الحفاظ من الصحابة يتجاوز عددهم العشرة، ووصف غيرهم بالقرَّاء لا يعني حفظه كله.
[*] قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إنَّا صعب علينا حفظ القرآن وسهل علينا العمل به، وإن من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به) الجامع لأحكام القرآن 1/ 75.
[*] وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (كان الفاضل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة ونحوها ورزقوا العمل بالقرآن) الجامع لأحكام القرآن 1/ 76.
- وكانوا يحذرون مما آل إليه الحال اليوم في جميع بلاد المسلمين عربًا وعجمًا؛ فقد أمر عمر رضي الله عنه عامله في العراق أن يفرض للحفاظ في الديوان، فلما بلغه أن سبع مئة حفظوا القرآن قال: (إني لأخشى أن يسرعوا إلى القرآن قبل أن يتفقَّهوا في الدين) وكتب إلى عامله ألا يعطيهم شيئاً (عن مالك في العتبية).
- وكانوا يتعلمون الإيمان قبل القرآن ثم يتعلمون القرآن (كما في الحديث الآتي:
(حديثُ جندب ابن عبد الله صحيح ابن ماجة) قال كنا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن فتيانٌ حزَاوِرَة، فتعلمنا الإيمانَ قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآنَ فازددنا به إيمانا.(3/366)
وتَنْزِلُ السورة فيتعلَّمون حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها. (كما في: بيان مشكل الآثار للطحاوي 4/ 44 عن ابن عمر رضي الله عنهما.) حتَّى لقد ورد عن عمر رضي الله عنه أنه تعلَّم سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة. (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/ 76، ط: دار الكتاب العربي بيروت).
[*] قال الحسن البصري رحمه الله: (نزل القرآن ليتدبر ويعمل به فاتخذوا تلاوته عملاً) مفتاح دار السعادة لابن القيم (1/ 187 مكتبة الرياض الحديثة.) [*] وقال ابن القيم رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78]: (ذم الله المحرفين لكتابه والأميين الذين لا يعلمون منه إلا مجرد التلاوة وهي الأماني) بدائع التفسير: 1/ 300. وذكر الشوكاني رحمه الله من تفسيرها: (لا علم لهم إلا مجرد التلاوة دون فهم وتدبر) فتح القدير 1/ 104.
[*] وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: 121]: قال ابن مسعود رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله ولا يحرف الكلم عن مواضعه ولا يتأوَّل منه شيئًا على غير تأويله)، وعن عمر رضي الله عنه: (هم الذين إذا مروا بآية رحمةٍ سألوها من الله، وإذا مروا بآية عذابٍ استعاذوا منها). ولم يفسرها أحد من الفقهاء في الدين بالتجويد أو الحفظ مجردًا عن التدبر.
[*] وقال ابن القيم رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]: (هجر القرآن أنواع)، وذكر منها: (هجر تدبره وتفهمه ومعرفة مراد الله منه) (بدائع التفسير).
[*] وقال ابن كثير رحمه الله تعالى:(3/367)
(وترك تدبره وتفهمه من هجرانه) (مهذَّب تفسيره، ط: دار السلام 678). وقال ابن القيم رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123]: (وهذه المتابعة هي التلاوة التي أثنى الله على أهلها ... فتلاوة اللفظ جزء مسمى التلاوة المطلقة وحقيقة اللفظ إنما هي الاتباع ... والمقصود التلاوة الحقيقية وهي تلاوة المعنى واتباعه ... وتلاوة المعنى أشرف من تلاوة اللفظ، وأهلها هم أهل القرآن الذين لهم الثناء في الدنيا والآخرة) مفتاح دار السعادة 1/ 42.
[*] وقال ابن القيم رحمه الله: (فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وحلاوة القرآن)،
[*] وروي عن أيوب عن أبي جمرة قال: قلت لابن عباس: إني سريع القراءة، إني أقرأ القرآن في ثلاث، قال: (لأن أقرأ سورة من القرآن في ليلة فأتدبرها وأرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كما تقرأ) 1/ 187.
[*] وقال ابن تيمية رحمه الله: (والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه والعمل به فإن لم تكن هذه همة حافظه لم يكن من أهل العلم والدين) (مجموع الفتاوى: 23/ 55)
• معنى التدبر:
[*] قال ابن القيم رحمه الله تعالى: التدبر تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله. وقيل في معناه: هو التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه البعيدة.
[*] قال السيوطي رحمه الله تعالى: صفة التدبر أن يشغل القارئ قلبه بالتفكر في معنى ما يتلفظ به فيعرف معنى كل آية، ويتأمل الأوامر والنواهي، ويعتقد قبول ذلك، فإن كان قصر عنه فيما مضى من عمره اعتذر واستغفر، وإذا مر بآية عذاب أشفق وتعوّذ، أو تنزيه نزّه وعظّم، أو دعاء تضرع وطلب.
- وصفة ذلك: أن يشغل قلبه بالتفكر في معنى ما يلفظ به، فيعرف معنى كل آية، ويتأمل الأوامر والنواهي، فإن كان مما قصر عنه فيما مضى اعتذر واستغفر، وإذا مرّ بآية رحمة استبشر وسأل، أو عذاب أشفق وتعوّذ، أو تنزيه نزّه وعظّم، أو دعاء تضرّع وطلب.
وقد ورد الحث الشديد في الكتاب العزيز، وفى السنة الصحيحة على التدبر في معاني القرآن والتفكر في مقاصده وأهدافه.
قال تعالى: (أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىَ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ) [محمد / 24]
وفى هذه الآية الكريمة توبيخ عظيم على ترك التدبر في القرآن.
- والسنة الصحيحة طافحةٌ بما يحث على تدبر القرآن منها ما يلي:(3/368)
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه.
[*] قال علي رضى الله عنه: لا خير في عبادة لا فقه فيها، ولا في قراءة لا تدبر فيها.
[*] وقال ابن عباس رضى الله عنهما: لأن أقرأ إذا زلزلت والقارعة أتدبرهما، أحب إليّ من أقرأ البقرة وآل عمران تهذيرا.
[*] وقال ابن مسعود رضى الله عنه: من أراد علم الأولين والآخرين، فليتدبر القرآن.
وقد بات الكثير من السلف يتلو أحدهم آية واحدة ليلة كاملة، يرددها ليتدبر ما فيها، وكلما أعادها انكشف له من معانيها، وظهر له من أنوارها، وفاض عليه من علومها وبركاتها.
[*] قال الأحنف بن قيس: عرضت نفسي على القرآن، فلم أجد نفسي بشيء أشبه مني بهذه الآية وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [التوبة/ 102]
{تنبيه}:• واقعنا هو تطبيق جزء من الحديث وهو التلاوة أما الدراسة والتدبر فهي - في نظر بعضنا - تؤخر الحفظ وتقلل من عدد الحروف المقروءة فلا داعي لها.
(حديث حذيفة في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ البقرة وآل عمران والنساء في ركعة، لا يمر بآيةِ رحمةٍ إلا سأل ولا بآيةِ عذاب إلا استجار.
(حديث حذيفة رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: صليت مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة فافتتح البقرة ثم المائة فمضى ثم المائتين فمضى فقلت يصلي بها في ركعة فمضى فافتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأ مترسلا إذا مر بآية فيها تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ ثم ركع فقال سبحان ربي العظيم فكان ركوعه نحوا من قيامه ثم رفع رأسه فقال سمع الله لمن حمده فكان قيامه قريبا من ركوعه ثم سجد فجعل يقول سبحان ربي الأعلى فكان سجوده قريبا من ركوعه.
- هذا تطبيق نبوي عملي للتدبر ظهر أثره بالتسبيح والسؤال والتعوذ.
وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يهتم اهتماماً بالغاً بتدبر القرآن وكان أحياناً لا يزال يردد آيةً حتى يصبح(3/369)
(حديث أبي ذر في صحيحي النسائي وابن ماجة) قال قام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بآيةٍ يرددها حتى أصبح، والآية قال تعالى: (إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
[المائدة / 118]
- فهذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقدم التدبر على كثرة التلاوة، فيقرأ آية واحدة فقط في ليلة كاملة.
وقد تأسى أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به في ذلك فردد تميم بن أوس آيةً حتى أصبح والآية هي (أَمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرَحُواْ السّيّئَاتِ أَن نّجْعَلَهُمْ كَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَوَآءً مّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ) {الجاثية/21)
[*] قال محمد بن كعب القرظي:
لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بـ (إذا زلزلت) و (القارعة) لا أزيد عليهما أحب إليَّ من أن أهذَّ القرآن ليلتي هذّاً. أو قال: أنثره نثرا ً.
[*] قال ابن القيم: ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر القرآن وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرها وعلى طرقاتهما وأسبابهما وثمراتهما ومآل أهلهما، وتتل في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصره مواقع العبر.
وتشهده عدل الله وفضله وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله وما يحبه وما يبغضه وصراطه الموصل إليه وقواطيع الطريق وآفاته، وتعرفه النفس وصفاتها ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم وأحوالهم وسيماهم ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة.
فتشهده الآخرة حتى كأنه فيها، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها، وتميز له بين الحق والباطل في كل ما يختلف فيه العالم، وتعطيه فرقاناً ونوراً يفرق به بين الهدى والضلال، وتعطيه قوة في قلبه وحياة واسعة وانشراحاً وبهجة وسروراً فيصير في شأن والناس في شأن آخر؛ فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل.
وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتهديه في ظلم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل، وتبصره بحدود الحلال والحرام وتوقفه عليها؛ لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل، وتناديه كلما فترت عزماته.(3/370)
تقدمَ الركبُ، وفاتك الدليل، فاللحاقَ اللحاقَ، والرحيلَ الرحيلَ فاعتصم بالله واستعن به وقل: {حسبي الله ونعم الوكيل.
- إنَّ المؤمن عندما يُحسن قراءة القرآن وتدبره يقف على زاد عظيم من معانيه ودلالاته وهداياته، ونحن في عصرنا الحاضر أحوج ما نكون إلى القرآن العظيم، نتلوه ونتدَّبره، نفهمه ونفسِّره، نحيا به ونتعامل معه، نصلح أنفسنا ومجتمعاتنا على هديه، ونقيم مناهج حياتنا على أسسه ومبادئه وتوجيهاته.
[*] يقول الإمام الآجري رحمه الله تعالى:
ألا ترون رحمكم الله إلى مولاكم الكريم، كيف يحثُّ خلقه على أن يتدبروا كلامه، ومن تدبَّر كلامه عرف الربّ عز وجل، وعرف عظيم سلطانه وقدرته، وعرف عظيم تفضله على المؤمنين، وعرف ما عليه من فرض عبادته، فألزم نفسه الواجب، فحذر ممَّا حذَّره مولاه الكريم، ورغب فيما رغَّبه فيه، ومن كانت هذه صفته عند تلاوته للقرآن وعند استماعه من غيره، كان القرآن له شفاء، فاستغنى بلا مال، وعزَّ بلا عشيرة، وأنس بما يستوحش منه غيره، وكان همُّه عند تلاوة السورة إذا افتتحها: متى أتعظ بما أتلوه؟ ولم يكن مراده: متى أختم السورة؟ وإنَّما مراده: متى أعقل من الله الخطاب؟ متى أزدجر؟ متى أعتبر؟ لأنَّ تلاوته للقرآن عبادة، والعبادة لا تكون بغفلة.
[*] عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال في القرآن الكريم:
لا تهذوا القرآن هذا لشعر ولا تنثروه نثر الدقل - أي التمر الرديء وفي رواية الرمل - قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة.
[*] وقال الحسن البصري رحمه الله:
"الزموا كتاب الله وتتبعوا ما فيه من الأمثال، وكونوا فيه من أهل البصر، رحم الله عبداً عرض نفسه وعمله على كتاب الله، فإن وافق كتابَ الله حمد الله وسأله الزيادة، وإن خالف كتاب الله أعتب نفسه ورجع من قريب".
- إنَّ التمسك بكتاب الله عزّ وجل تلاوة وتدبراً، عملاً والتزاماً، سبيلُ السعادة في الدارين الدنيا والآخرة، وطريق الفلاح فيهما،
[*] قال ابن عباس رضي الله عنهما:(3/371)
"تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يَضِلَّ في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. ثم قرأ قوله تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) [طه 123: 126]
- وإذا نظرنا في سير الصحابة ومن بعدهم من سلف هذه الأمة؛ نجدهم قد تلقوا هذا القرآن الكريم مدركين مدى الشرف الذي حباهم الله به، فأقبلوا عليه يحفظونه ويرتلونه آناء وأطراف النهار، جعلوه غذاء أرواحهم وقوت قلوبهم وقرة أعينهم، نفذوا أحكامه وأقاموا حدوده وطبقوا شرائعه، طهرت به نفوسهم وصلحت به أحوالهم، ودعوا الناس إليه ورغبوهم فيه.
[*] عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال في القرآن الكريم:
لا تهذوا القرآن هذا لشعر ولا تنثروه نثر الدقل - أي التمر الرديء وفي رواية الرمل - قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة.
[*] قال عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: (لقد عشنا دهرا طويلا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن فتنزل السورة على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها، ثم لقد رأيت رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين الفاتحة إلى خاتمته لا يدري ما آمره ولا زاجره وما ينبغي أن يقف عنده منه، ينثره نثر الدقل.
[*] قال الحسن البصري: والله! ما تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله، ما يُرى له القرآنُ في خُلُق ولا عمل. قال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ... } النساء: 82.
[*] وقال الحسن أيضاً: نزل القرآن ليُتَدَبَّر ويعمل به؛ فاتخذوا تلاوته عملاً. أي أن عمل الناس أصبح تلاوة القرآن فقط بلا تدبر ولا عمل به.
[*] قال ابن كثير: (يقول الله تعالى آمراً عباده بتدبر القرآن وناهياً لهم عن الإعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة: أفلا يتدبرون القرآن)، فهذا أمر صريح بالتدبر والأمر للوجوب. قال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به} ...
[البقرة: 121](3/372)
روى ابن كثير عن ابن مسعود قال: والذي نفسي بيده! إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله.
[*] وقال الشوكاني: يتلونه: يعملون بما فيه، ولا يكون العمل به إلا بعد العلم والتدبر. قال تعالى: {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون} [البقرة: 78]
[*] قال الشوكاني: وقيل: (الأماني: التلاوة) أي: لا علم لهم إلا مجرد التلاوة دون تفهم وتدبر.
[*] وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: ذم الله المحرفين لكتابه والأميين الذين لا يعلمون منه إلا مجرد التلاوة وهي الأماني. قال الله تعالى: {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا} [الفرقان: 30]
[*] قال ابن كثير:
وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وقال ابن القيم: هجر القرآن أنواع ... الرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.
وحتى نتدبر القرآن فعلينا بمراعاة الآتي:
(1) مراعاة آداب التلاوة من طهارة ومكان وزمان مناسبين وحال مناسبة وإخلاص واستعاذة وبسملة وتفريغ للنفس من شواغلها وحصر الفكر مع القرآن والخشوع والتأثر والشعور بأن القرآن يخاطبه.
(2) التلاوة بتأنٍ وتدبر وانفعال وخشوع، وألا يكون همه نهاية السورة، الوقوف أمام الآية التي يقرؤها وقفةً متأنيةً فاحصةً مكررةً، النظرة التفصيلية في سياق الآية: تركيبها - معناها - نزولها - غريبها – دلالاتها.
(3) ملاحظة البعد الواقعي للآية؛ بحيث يجعل من الآية منطلقاً لعلاج حياته وواقعه، وميزاناً لمن حوله وما يحيط به.
(4) العودة إلى فهم السلف للآية وتدبرهم لها وتعاملهم معها والاطلاع على آراء بعض المفسرين في الآية.
(5) النظرة الكلية الشاملة للقرآن، الالتفات للأهداف الأساسية للقرآن.
(6) الثقة المطلقة بالنص القرآني وإخضاع الواقع المخالف له.
(7) معايشة إيحاءات النص وظلاله ولطائفه، الاستعانة بالمعارف الثقافات الحديثة، العودة المتجددة للآيات، وعدم الاقتصار على التدبر مرة واحدة؛ فالمعاني تتجدد، ملاحظة الشخصية المستقلة للسورة، التمكن من أساسيات علوم التفسير.
القراءة في الكتب المتخصصة في هذا الموضوع مثل كتاب: (القواعد الحسان لتفسير القرآن) للسعدي، وكتاب (مفاتيح للتعامل مع القرآن) للخالدي، وكتاب (قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل) لعبد الرحمن حبنكة الميداني، وكتاب (دراسات قرآنية) لمحمد قطب.
• فوائد تدبر القرآن:(3/373)
(1) التدبر في القرآن غاية من غايات إنزاله: يقول الله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} [ص:29]. ومدح الحق جل وعلا من تدبر وانتفع، فذكر من صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} (الفرقان:73)
- وذم من لا يتدبرون القرآن وأنكر عليهم فقال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} [محمد24].
(2) التدبر من علامات الإيمان: {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله}، {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به}
(3) التدبر يزيد الإيمان: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون}.
(4) تدبر القرآن من النصيحة لكتاب الله، قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الدين النصيحة)
(حديث تميم ابن أوس الداريِّ الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الدين النصيحة قالوا: لمن يا رسول اللّه قال: للّه وكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم.
(5) ترك التدبر يؤدي إلى قسوة القلب: قال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد: 16]. وهو من أنواع هجر القرآن الذي شكاه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لربه: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً)
[الفرقان:30]
• فضائل ختم القرآن، وفي كم يختم؟
يستحب اغتنام ختم القرآن والدعاء عقبه لأنه من مظان إجابة الدعاء.
- قال قتادة: "كان أنس بن مالك رضي الله عنه إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا ". رواه الدارمي.
- وأما المدة التي يختم بها القرآن فتختلف باختلاف الأشخاص، ولكن ينبغي للقارئ أن يختم في السنة مرتين إن لم يقدر على الزيادة.
[*] عن مكحول قال:
"كان أقوياء أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأون القرآن في سبع، وبعضهم في شهر، وبعضهم في شهرين، وبعضهم في أكثر من ذلك ".(3/374)
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (أقرأ القرآن في شهر). قلت: إني أجد قوة، حتى قال: (فاقرأه في سبع، ولا تزد على ذلك).
• جواز ختم القرآن في يومٍ وليلة لصدور ذلك عن عثمان رضي الله عنه:
(حديث العرباض بن سارية في صحيح أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال أوصيكم بتقوى الله و السمع و الطاعة و أن أمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة.
• نفي الفقه لا نفي الثواب من قرأ القرآن في أقل من ثلاث:
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث.
• ويجب عليه أن يجاهد نفسه في مراجعة القرآن حتى يشربه كشرب اللبن:
(حديث عقبة ابن عامر في صحيح الجامع) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال سيخرج أقوام من أمتي يشربون القرآن كشربهم اللبن.
[*] • ختمات السلف للقرآن الكريم:
وقد اختلف الصحابة والتابعين في ختمهم للقرآن الكريم فمنهم من كان يختم ختمة واحدة في اليوم والليلة مثل سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه وتميم الداري وسعيد بن جبير ومجاهد والشافعي وآخرون.
• ومن الذين كانوا يختمون ثلاث ختمات في اليوم والليلة سليم بن عمر رضي الله عنه قاضي مصر في خلافة معاوية رضي الله عنه.
[*] وروى أبو بكر بن أبي داود أنه كان يختم في الليلة أربع ختمات، وروى أبو عمر سنان في كتابه في قضاة مصر أنه كان يختم في الليلة أربع ختمات.
[*] قال الشيخ الصالح أبو عبد الرحمن السلمي رضي الله عنه: سمعت الشيخ أبا عثمان المغربي يقول: " كان ابن الكاتب رضي الله عنه يختم بالنهار أربع ختمات وبالليل أربع ختمات وهذا أكثر ما بلغنا من اليوم والليلة "، وروى السيد الجليل أحمد الدورقي بإسناده عن منصور بن زادان من عباد التابعين رضي الله عنه: " أنه كان يختم القرآن فيما بين الظهر والعصر ويختمه أيضاً فيما بين المغرب والعشاء ".(3/375)
وكانوا يؤخرون العشاء في رمضان إلى أن يمضي ربع الليل وروى أبو داود بإسناده الصحيح:" أن مجاهدا كان يختم القرآن فيما بين المغرب والعشاء "، وعن منصور قال: " كان علي الأزدي يختم فيما بين المغرب والعشاء كل ليلة من رمضان " ..
حتى يحل حبوته: وعن إبراهيم بن سعد قال: " كان أبي يحتبي فما يحل حبوته حتى يختم القرآن.
• وأما الذي يختم في ركعة فلا يحصون لكثرتهم فمن المتقدمين عثمان بن عفان وتميم الداري وسعيد بن جبير رضي الله عنهم ختمة في كل ركعة في الكعبة
• وأما الذين ختموا في الأسبوع مرة أحدانا نقل عن عثمان بن عفان رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وأبي بن كعب رضي الله عنهم وعن جماعة من التابعين كعبد الرحمن بن يزيد وعلقمة وإبراهيم رحمهم الله ..
عن بهز بن حكيم أن بينها بن أوفى التابعي الجليل رضي الله عنه أمهم في صلاة الفجر فقرأ حتى بلغ فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير خر ميتاً قال بهز: " وكنت فيمن حمله.
وكان أحمد بن أبي الحواري رضي الله عنه وهو ريحانة الشام كما قال أبو القاسم الجنيد رحمه الله:" إذا قرئ عنده القرآن يصيح ويصعق " ..
[*] وقال القسطلاني: أخبرني شيخ الإسلام البرهان ابن أبي شريف أنه كان يقرأ خمسة عشر ختمة في اليوم والليلة. وفي الإرشاد أنه النجم الأصبهاني رأى رجلاً من اليمن ختم في شوط أو أسبوع وهذا لا يتسهل إلا بفيض رباني ومدد رحمني.
قال الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء:
[*] كان الشافعي يختم في شهر رمضان ستين ختمة، ما منها شيء إلا في صلاة.
[*] عن مسبح بن سعيد قال:
كان محمد بن إسماعيل البخاري، إذا كان أول ليلة من شهر رمضان، يجتمع إليه أصحابه فيصلي بهم ويقرأ في كل ركعة عشرين آية، وكذلك إلى أن يختم القرآن.
وكان يقرأ في السحر ما بين النصف إلى الثلث من القرآن، فيختم عند الإفطار كل ليلة ويقول: عند كل الختم؛ دعوة مستجابة.
(تاريخ بغداد 2/ 12 صفة الصفوة 4/ 170)
[*] عن ذي الرياستين قال: إن المأمون ختم في شهر رمضان ثلاثاً وثلاثين ختمةً، أما سمعتم في صوته بحوحة؟ إن محمد بن أبي محمد اليزيدي في أذنه صمم، فكان يرفع صوته ليسمع، وكان يأخذ عليه. (تاريخ بغداد 10/ 190)(3/376)
[*] عن عبد الله بن محمد بن اللبان أنه صلى بالناس صلاة التراويح في جميع الشهر، وكان إذا فرغ من صلاته بالناس في كل ليلة لا يزال قائماً في المسجد يصلي حتى يطلع الفجر، فإذا صلى الفجر دارس أصحابه، وسمعته يقول: لم أضع جنبي للنوم في هذا الشهر ليلاً ولا نهاراً وكان ورده كل ليلة فيما يصلي لنفسه سبعاً من القرآن يقرأه بترتيل وتمهل ولم أرى أجود ولا أحسن قراءة منه.
(تاريخ بغداد 10/ 144)
[*] عن محمد بن زهير بن محمد قال: كان أبي يجمعنا في وقت ختمة القرآن في وقت شهر رمضان في كل يوم وليلة ثلاث مرات تسعين ختمة في شهر رمضان
(تاريخ بغداد 8/ 485)
[*] عن أبي علي الطوماوي قال: كنت أحمل القنديل في شهر رمضان بين يدي أبي بكر بن مجاهد إلى المسجد لصلاة التراويح، فخرج ليلة من ليالي العشر الأواخر من داره واجتاز على مسجده فلم يدخله وأنا معه, وسار حتى انتهى إلى آخر سوق العطش، فوقف بباب مسجد محمد بن جرير ومحمد يقرأ سورة الرحمن، فاستمع قراءته طويلاً ثم انصرف. فقلت له: يا أستاذ تركت الناس ينتظرونك وجئت تسمع قراءة هذا؟ فقال: يا أبا علي دع هذا عنك، ما ظننت أن الله تعالى خلق بشرا ً يحسن يقرأ هذه القراءة.
(تاريخ بغداد 2/ 164)
[*] عن الربيع بن سليمان قال: كان الشافعي يختم في كل ليلة ختمة ,فإذا كان شهر رمضان ختم في كل ليلة منه , وفي كل يوم ختمة , فكان يختم في شهر رمضان ستين ختمة. (تاريخ بغداد 2/ 63)
[*] وعن أبي بكر بن أبي طاهر قال: كان للشافعي في رمضان ستون ختمة لا يحسب منها ما يقرأ في الصلاة. (صفة الصفوة 2/ 255)
[*] عن أحمد بن خالد قال: قيل لأبي بكر بن عياش: كيف قراءتك بالترتيل؟ فقال: كيف أقدر أرتل، وأنا أقرأ القرآن في كل يوم وليلة منذ أربعين سنة!
(تاريخ بغداد 14/ 383)
[*] عن ابن سعد قال: كان أبي سعد بن إبراهيم إذا كانت ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، لم يفطر حتى يختم القرآن وكان يفطر فيما بين المغرب والعشاء الآخرة. وكان كثيرا إذا أفطر يرسلني إلى مساكين فيأكلون معه رحمه الله.
(صفة الصفوة 2/ 146 - 147)
[*] عن منصور بن إبراهيم قال: كان الأسود يختم القرآن في رمضان في كل ليلتين، وكان ينام بين المغرب والعشاء، وكان يختم القرآن في غير رمضان في كل ست ليال.
(صفة الصفوة 3/ 23)
[*] أبو الأشهب قال: كان أبو رجاء يختم بنا في رمضان كل عشرة أيام.
(صفة الصفوة 3/ 221).(3/377)