وقفات مع فتح مكة من خلال السيرة النبوية (1)
( د. مبارك إبراهيم التّجاني (2) ()
مُقَدِّمَة:
الحمد لله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزَّ جنده، وهزم الكفر وحده، نحمده ونشكره، حمداً وشكراً يليقان بجلال وجهه وعظيم سلطانه، على نعمة الإسلام والإيمان. ونُصلي ونُسلِّم على صاحب الفتح المبين سيِّدنا مُحَمَّد النَّبيّ الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
نقف وقفات عند فتح مكة، عبارة عن بعض الدُّروس المأخوذة من إدارته - صلى الله عليه وسلم - لهذه الغزوة، فأوّل قاعدة نأخذها أنَّ مَنْ هم في ذمة المسلمين ومَنْ هم في عهد المسلمين سلمهم سلم للمسلمين، وحربهم حرب على المسلمين، لاحظوا نحن نتحدث عن مَنْ هم في عهد المسلمين، فما بالك إذن بشأن المسلم مع أخيه المسلم: (المسلم أخو المسلم) (3) ، فما يصيب المسلم في أيّ مكان هو إصابة لأخيه في أيّ مكان آخر. فالنُّصرة مطلوبة خاصّة إذا كَثُرَ الظُّلم بالمسلمين: [النِّساء: 75-76].
إذن الموقف المتصوَّر إسلاميّاً للمسلم تجاه أخيه المسلم فهو محسوم، فهو أنْ يكون معه في خندق واحد، يعيش معه ما يلاقي، ويناصره بكافة ما يستطيع وبكافة ما يحتاج، إنْ احتاج إلى النَّفس فيكون نصره بالنَّفس، وإنْ احتاج إلى المال فتكون النُّصرة بالمال، وتكون بالدُّعاء أيضاً، ولا شكّ أنَّ كُلّ مسلم يحتاج إلى أخيه المسلم بأنْ يكون معه بالدُّعاء.
__________
(1) (() أصل هذا البحث محاضرة قُدِّمت بمجلس السِّيرة الأسبوعيّ، بتاريخ 9/9/1425هـ الموافق له 23/10/2004م.
(2) ((() أستاذ مساعد بكلية القرآن الكريم بالجامعة، مدير إدارة التَّعليم الدِّيني بوزارة التَّربية والتَّعليم.
(3) جزء من حديث في صحيح البخاريّ، باب لا يظلم المسلمُ المسلمَ ولا يسلمه، برقم 2310، 2/862. وأخرجه مسلم في باب تحريم الظُّلم، برقم 2579، 4/1996.(1/1)
سُئِل البرامكة: لِمَ زال ملككم؟ قالوا: بدعوة مظلوم، غفلنا عنها ولم يغفل عنها الرَّبّ، فعسى الله تعالى بدعوة رجل أو بدعوة امرأة أنْ يُغيِّر حال قوم مسلمين من حال إلى حال. لذلك لا بُدّ أنْ نستحضر نصرة إخواننا المسلمين، في هذه الغزوة وفي هذا الحدث من أحداث السِّيرة.
الفائدة الأولى التي تُجنى لنا أنَّ الذين في ذمة المسلمين حتَّى من غير المسلمين والذي هو في عهدهم سلمه هو سلم للمسلمين، وحربه هو حرب على المسلمين، ذلك أنَّ السَّبب الأساس الذي أدَّى إلى أنْ ينطلق الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - نحو مكة مخططاً وفاتحاً هو اعتداء قبيلة بكر على قبيلة خزاعة بعون من قريش، مخالفة بذلك لبند من بنود صلح الحديبية، الذي عقده الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - مع أهل قريش، فجعل بينهم عشرة أعوام تضع فيها الحرب أوزارها، والذي يدخل في حرز المسلمين لا يتعرَّض له أهل قريش، والذي يدخل في حرز قريش لا يتعرَّض له أهل الإسلام. ولكن أهل الكفر ـ كعادتهم ـ ما داموا لم يعرفوا التَّوحيد، كيف لهم أنْ يحفظوا العهد مع عباد الله تعالى. فقالت بنو بكر أنْ يغيروا على خزاعة، واستعانوا بأهل قريش فأعانوهم، فقتلوا منهم مَنْ قتلوا، وأصابوا مَنْ أصابوا، وحتَّى بعد أنْ لجأ الخزاعيون إلى مكة ظاهر أهل قريش قبيلة بني بكر للنَّيل منهم. وهنا انطلق سيّدهم وشاعرهم عمرو بن سالم إلى الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - طالباً النَّصر والعون، ومُنشداً هذه الأبيات:
يا ربَّ إني ناشدٌ مُحَمَّدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا
قد كنتَ ولداً وكنَّا والدا ... ثُمَّ أسلمنا فلم ننزع يدا (1)
أنصر هداك الله نصراً أعتدا ... وأدعو عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجرَّدا ... إن سيم خسفاً وجهه ترّبدا
في فيلقٍ كالبحر يجري مزبداً ... إنّ قريشاً أخلفوك الموعدا
__________
(1) في إشارة إلى إحدى جدات الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - الخزاعيات.(1/2)
ونقضوا ميثاقك المؤكدا ... وجعلوا لي في كلاب (1) رصدا
وزعموا أنْ لست أدعو أحدا ... وهم أذلّ وأقلّ عددا
هم بيتوها بالوتير هُجّدا ... وقتّلونا رُكّعاً وسُجّداً
أتى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ وحوله الصَّحابة رضوان الله عليهم ـ واستنجد بهذه الأبيات، فأجابه الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: (نصرت يا عمرو بن سالم) (2) .
وهنا يعلّمنا الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - الوفاء بالعهد، خاصّة بالوفاء للضَّعيف، الذي هو في حاجة إلى العون وإلى النُّصرة، وعلى طريقه كان الصَّحابة، سيّدنا أبو بكر الصِّدِّيق في أوّل خطبة بعد الخلافة أرسل للنَّاس: إنَّ الضَّعيف عندي قوي حتَّى آخذ له الحقّ، وأنَّ القوي عندي ضعيف حتَّى آخذ منه الحقّ آخذاً (3) .
هذا الدَّرس من سيّد الخلق النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - (نصرت يا عمرو بن سالم)، ثُمَّ التفت الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الصَّحابة فقال: (كأنّي بأبي سفيان قد جاءكم يشدُّ العقد ويزيدُ في المدة) (4) .
__________
(1) كلاب: المكان الذي كان فيه أُمية، وفيه الوكيع من بنو بكر.
(2) انظر: الرَّحيق المختوم: للمباركفوريّ، نشر دار الوفاء، 1424هـ، 2003م، ص241. وسنن البيهقيّ الكبرى، مطبعة دار البناء، مكة المكرمة، 1414هـ، تحقيق مُحَمَّد عبد القادر عطا.
(3) سنن البيهقيّ الكبرى، 6/353.
(4) البيهقيّ: دلائل النُّبوة، 5/8، وابن القيم: زاد المعاد، 3/ 396.(1/3)
وبالفعل ما هي إلاَّ أيام وأتى أبو سفيان إلى الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - معتذراً، جاء نازلاً في بيت بنته أم حبيبة، وحينما أراد أنْ يجلس على فراش الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - ، طوته عنه، فقال: يا بنتي أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت بالفراش عني؟ فقالت: هو فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأنت مُشركٌ نجس: [التَّوبة: 28]، قال: والله قد أصابك بعدي شيء (1) .
هو يقصد الجنون، ولكن الذي أصابها هو الإيمان، الذي أصابها هو الارتباط بالحقّ وبالرَّسول - صلى الله عليه وسلم - ، بعد أنْ أخذ هذه النِّكاية من بنته، ذهب إلى الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - يعتذر، فلم يجبه الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - ، فأتى إلى سيّدنا أبي بكر علَّه يشفع، فلم يقل له كلمة واحدة، وأتى إلى سيّدنا عمر، فقال عمر: "أتأتيني لأشفع لك عند رسول الله، والله لو لم أجد إلاَّ الذَّر لقاتلتكم ولقاتلتكم عليه، فلو وجد فيهم فرصة في قتالهم لقاتلهم" (2) ، وأتى بعضهم إلى سيّدنا عليّ فقال: والله لا أملك لك شيئاً، فنظر إلى بنته إلى زوج سيّدنا عليّ السَّيِّدة فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال لها مشيراً إلى ابنها: هلا حدثتيه أنْ يُجيرنا، فقالت: إنَّ ابني صغير ما بلغ أنْ يُجير، ثُمَّ إنَّه مَنْ يُجير على رسول الله؟
وهكذا رجع أبو سفيان يُجرجر أثواب الخيبة، وهنا عزم الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - في مباغتة قريش، وسأل الله تعالى أنْ يأخذ أبصارهم عنهم (3) .
__________
(1) السِّيرة الحلبيّة: لعلي بن برهان الدِّين، طبعة دار المعرفة، بيروت، سنة 1400هـ، 3/7.
(2) فصول من السِّيرة، 5/875، وزاد المعاد، 3/397.
(3) انظر: البيضاويّ، عبد الله بن عمر مُحَمَّد بن علي، الشّيرازيّ، البيضاويّ، 3/117.(1/4)
ومن هنا نأخذ حكماً، وهو جواز مباغته العدو إذا نقض العهد، فإذا لم ينقض العهد ليس لنا أنْ نبدأ، ولكن إذا بدأ هو فيجوز مباغتته في أيّ وقت، نحن الآن في كثير من اتفاقيّاتنا التي نعقدها هنا وهنالك يقوم العدو فيغير هنا ويغير هنا، ونستنكر ولا نتحرك، حتَّى نجده قد نال منا نيلاً عظيماً، متى ما بادر العدو لنقض العهد فإنَّه يجوز لنا أنْ نباغته في أيّ مكان يتبع له.
لذلك قدَّر الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - هنا أنْ يباغت، لأنَّ قريشاً هم الذين بدأوا، إذا لم يبدأ العدو بنقض العهد، ليس لنا أنْ نبدأ، إذا خفنا من العدو العدول، ولكنه لم يبدأ عمليّاً: [الأنفال: 58] (1) .
يجوز أيضاً أنْ يؤتى العدو في أمره كُلّه وفي شأنه كُلّه، وفي أهله كُلّه، هم الذين شاركوا قبيلة بني بكر، ليس كُلّ أهل قريش، ولكن الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - حينما قرَّر أنْ يفتح مكة كُلّها ويأخذ قريشاً كُلّها.
وهكذا نجد قوماً تبدو من بعضهم بادرة ولم يقصدوا ولا يأخذون بأيديهم، فإنَّ العاقبة تعود لذلك التَّغيير حينما فكَّر نفر منهم أنْ يغدروا بالرَّسول - صلى الله عليه وسلم - ، وقرَّروا أنْ يصعدوا على الحائط الذي هو فيه ويرموه بصخرة فيرتاحوا منه، بعد أنْ ذكر الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - عن طريق الوحي وغادره مسرعاً لم يطلب هؤلاء فقط ويُلقي عليهم عقوبة، وإنَّما أجلى يهود بني النَّضير كُلّهم؛ لأنَّ هذا الأمر يشبههم كُلّهم، ويصدق عليهم كُلّهم، ولأنَّ هذا هدفهم كُلّهم (2) .
__________
(1) انظر: التَّسهيل لعموم التَّنزيل: مُحَمَّد بن أحمد الغرناطيّ الكلبيّ، طبعة دار الكتاب العربيّ اللُّبنانيّ، 1403هـ، 2/64.
(2) الشَّيخ مُحَمَّد الأمين الشّنقيطيّ: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، طبعة دار الفكر، 1415هـ، 8/15.(1/5)
وكذلك بنو قريظة حينما أعلنت طائفة لم تسند الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - ، هذه الطَّائفة لم يقتلها وحدها، وإنَّما قتل جميع مقاتلي بني قريظة : [الأنفال: 25].
هذه الأحكام نأخذها من ممارسات الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - في فتح مكة، كذلك مِمَّا يُعلِّمنا له الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - ونزل به القرآن، عدم جواز موالاة الكافرين، حاطب بن أبي بلتعة صحابيّ جليل، شَهِدَ بدراً، والرَّسول - صلى الله عليه وسلم - يُعِدُّ في خفاء ليأخذ الله تعالى عنه قريش، ولكنَّ حاطب تأخذه عاطفة تجاه أسرته، بين أهل مكة، فيريد أنْ تكون له يد عليهم، فيُقرِّر أنْ يبعث رسالة خفيّة إلى أهل قريش يخبرهم أنَّ الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - يُعِدُّ في طريقه إليهم، وبالفعل كتب الرِّسالة، واستأجر ظعينة (امرأة) لا يُشك في أمرها وعهد إليها بالرِّسالة، وأوضح لها إلى مَنْ تُسلّم هذه الرِّسالة.
والرَّسول - صلى الله عليه وسلم - يحيطه ربه بما يحيطه، قال لسيّدنا عليّ ولصحابيين جليلين معه، قال لهم الثَّلاثة: (اذهبوا في طريقكم إلى مكة في روضة كذا ستجدون ظعينة، أي امرأة مسافرة، عندها خطاب ايتوني بهذا الخطاب). أتى هؤلاء الثَّلاثة في يقين؛ لأنَّهم يعلمون أنَّه: [النَّجم: 3-4]، ووصلوا إلى الرَّوضة ووجدوا الظَّعينة، وقالوا لها في ثقة وثبات: أخرجي الخطاب، قالت: ليس معي خطاب. قالوا: لتخرجنّ الخطاب أو لنُلقيَّ الثَّياب، فلمَّا رأت فيهم الجدية، طلبت منهم أنْ يعرضوا، فأخرجته من بين ضفيرة شعرها وسلمته لهم.
حينما قُدِّم الخطاب إلى الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - فتحه ووجده من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل قريش، دعا حاطب وسأله عن خبره: (أكفرٌ بعد إيمان أم ماذا؟) فأقسم حاطب أنَّه لم يكفر ولم يُبدِّل، ولكنه خاف على أهله بين أهل قريش، فأراد أنْ تكون له يد عليهم حتَّى يحسنوا إلى أهله، وصدَّقه الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - في ذلك.(1/6)
ولم يرض ذلك سيّدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - : (يا عمر لعلَّ الله اطّلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم) (1) .
ولكن كانت الآية الحاسمة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ } [الممتحنة: 1].
وها هو يبيّن لنا فضل السَّبق في أعمال الخير، فأهل بدر كانوا أهل سبق في الإيمان، وأهل سبق في التَّصديق، وأهل سبق في الإخلاص، وأهل سبق في الجهاد وفي الصَّبر والثَّبات، لذلك نالوا هذه المكانة: (لعلَّ الله اطّلع على أهل بدر فقال افعلوا ما شئتم).
قال بعض الغلاة من هذا التَّعليق: إذا ثبت للمسلمين وهم في حالة حرب أنَّ بعضهم يتعامل مع العدو لهم أنْ يقطعوا رأسه، لماذا؟ قالوا: لأنَّ الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - هنا احتج على عمر بأنَّ هذا من أهل بدر، وأنَّه لعلَّ الله اطّلع على أهل بدر، فقال: افعلوا ما شئتم ، هذا استنباط واستنتاج استنتجه بعض العلماء، وعلَّه يتعامل على أساسه أخوة لنا في العراق اليوم.
__________
(1) الرُّوض الأنف، 4/51.(1/7)
السَّبق في كُلّ شيء له خصوصيته، السَّبق في المساجد، والسَّبق في مجالس العلم، والسَّبق بالإنفاق، والسَّبق بالجهاد، وفي كُلّ شيء، وعلى هذا اقرأوا تفسير قوله تعالى: [الواقعة: 10-12] (1) ، والله تعالى نبَّه إلى لفظ المسارعة:
[آل عمران: 133].
إذن دائماً نحمل أنفسنا على أنْ نكون من أهل المسابقة والمسارعة في مختلف أعمال الخير.
ننطلق ونذهب إلى حلقة أخرى من حلقات فتح مكة، وسيّد الموقف هنا هو أبو سفيان بن حرب، الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - بعد أنْ عزم على المسير وجهّز جيشه واستنفر المسلمين من حوله وبلغوا العشرة آلاف، وانطلقوا نحو مكة. وأبو سفيان كانت تحدثه نفسه من أنَّ اعتداءهم على بني خزاعة لن يفوته الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - ، وقد أصبح المسلمون في قوّة وفي عزة وفي منعة. لذلك تحرك في مجموعة من قومه ليلاً في طريقه نحو المدينة ليعرف الخبر، وإذا به بنيران عظيمة، وبدأ يتساءل نيران من هذه؟ ومَنْ يقصدون في هذه الأثناء؟ العباس بن عبد المطلب أتى يُريد أحداً يوصيه إلى أهل قريش أنْ يأتوا إلى الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - مستسلمين، فإنَّهم لا قِبَل لهم به، أبو سفيان يتحدَّث والعباس يسمع، فقال أبو سفيان: قال أبو الفضل أتاه وقال له: اركب، والله قد أتاكم مُحَمَّد بما لا قِبَل لكم به، فلننطلق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أنْ يقتلنا قاتل، لما علم أنَّ هذه من وراء المسلمين، وأنَّهم أتوا يقصدون مكة، اقتنع العباس وركب معهم وأردفه العباس على فرسه والوقت ليل (2) .
__________
(1) انظر: التَّفسير الكبير: لفخر الدِّين الرَّازيّ، طبعة دار الكتب العلميّة، بيروت، ط/1، 1421هـ، 4/121.
(2) الخصائص الكبرى: لجلال الدِّين السُّيوطيّ، طبعة دار الكتب العلميّة، بيروت، 1405هـ، ص 436.(1/8)
أتى العباس ينطلق في وسط المسلمين، ونظر إليه سيّدنا عمر من بعيد، فانطلق نحو أبو سفيان قائلاً: لا نجوت إنْ نجا، ولم يصلهم إلاَّ وقد وصل العباس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: قد أجرتهم يا رسول الله، قبل الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - هذه الإجارة، وعمر يتحسَّر لأنَّه لم يلحقهم، وقال النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - للعباس: (اسأل به وائتني به صباحاً) (1) .
في صبيحة اليوم التَّالي أتى العباس ومعه أبو سفيان، فقال الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - : (ويحك يا أبا سفيان، أما آن لك أنْ تشهد ألا إله إلاَّ الله)؟
وخرج منه المسلمون خفية متسللين ومسترشدين، وهاهو ذا يراهم ولا يرمي آخر لهم، فقالوا: ويحك يا أبا سفيان، أما آن لك أنْ تشهد ألا إله إلاَّ الله وأنَّ مُحَمَّداً رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أفضلك وأكرمك وأوصلك، لقد ظننتُ أنْ لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئاً بعده. ثُمَّ سأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سؤالاً آخر: (ويحك يا أبا سفيان أما آن لك أنْ تشهد أنَّي رسول الله) فقال: ما أفضلك وأكرمك وأوصلك، أما هذه ففي نفسي منها شيء. قال العباس: ويحك يا أبا سفيان، أسلم تسلم، قال: أشهد ألا إله إلاَّ الله، وأشهد أنَّ مُحَمَّداً رسول الله (2) .
__________
(1) البيهقيّ: دلائل النَّبوة، 5/33.
(2) السِّيرة النَّبويّة: لابن هشام، تحقيق طه عبد الرَّؤوف سعد، طبعة دار الجيل، بيروت، ط/1، 14011هـ، 5/60.(1/9)
وهنا نأخذ درساً عظيماً، وهو ليس بالضَّرورة أنْ يبلغ الإنسان في أوّل وهلة وأوّل لحظة تمام الإيمان، العباس أراد لأبي سفيان أنْ ينطق بالشَّهادتين، حينما ينطق بالشَّهادتين حتَّى يغلب نفسه على الجزء الآخر، ولكن حينما ينطق فإنَّه بذلك يتهيّأ لأنْ يجلس مع المسلمين، وإنَّه بذلك يسمع من المسلمين، ويُعدَّ منهم ويكتمل الإيمان بعد ذلك ويزداد. وهذا ما قد كان؛ بل قد تحقَّق الإيمان في قلبه، وقبل أنْ يرجع الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - أمر العباس ـ بعد أنْ نطق أبو سفيان بالشَّهادتين ـ أنْ يجعله عند المضيق في الوادي وأنْ تمر عليه الكتائب كُلّها.
فوقف أبو سفيان والعباس بجواره، ويمرّ المسلمون فصيلة فصيلة، وكتيبة كتيبة، وقبيلة قبيلة، وبلدة بلدة، ويسأل أبو سفيان: مَنْ هؤلاء؟ ويجيبه العباس، حتَّى أتى قوماً في قوّة شديدة، وفي بأس شديد لا يُرى منهم إلاَّ الحدق والحديد، سأل أبو سفيان: مَنْ هؤلاء يا عباس؟ قال: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المهاجرين والأنصار، استغرب الرَّجل وتعجّب، فقال: لقد أضحى ملك ابن أخيك عظيماً، قال العباس: يا أبا سفيان إنَّه ليس الملك، إنَّها النُّبوة، إنَّها النُّبوة، فصدَّق أبو سفيان بهذه النُّبوة، وامتلأ قبله إيماناً وتصديقاً (1) .
ونأخذ هنا درساً آخر وهو أنَّ القلوب بين يدي الرَّحمن يقلّبها كيف يشاء، لا نيأس من عاصٍ، ولا نيأس من كافر، وتبلّغ الدَّعوة للجميع، لا نيأس من نصر، وننتظره من الله تعالى في أيّة لحظة: [يس: 82].
__________
(1) الرَّوض الأنف، 4/157.(1/10)
أبو سفيان الذي ذهب وخرج مع قريش ليعرف خبر النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ليُعدّ العدة والرِّجال، فإذا به يأتي قافلاً وراجعاً مؤذناً في النَّاس: إنَّ مُحَمَّداً أتاكم بما لا قِبَل لكم به، أتت زوجه هند بنت عتبة وهو يُحدّث النَّاس عن القوّة وعن ما رآه قالت: اقتلوا هذا الكميت الفسل (1) ، أي هذا السَّمين الجبان، قال: لا تغرَّنكم هذه، والله أتاكم بما لا قِبَل لكم به، ثُمَّ أذَّن فيهم: مَنْ دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالوا: قاتلك الله، ما تُغني عنا دارك، قال: ومَنْ دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومَنْ دخل داره فهو آمن (2) .
فانطلقوا إلى دورهم، وإلى دار أبي سفيان، وإلى المسجد الحرام.
من هذا الموقف نأخذ درساً وهو: أنَّه بالتَّضحية وبالإيمان وبالصَّبر وبالثَّبات يتبدّل الضَّعف إلى قوّة، وتتبدّل القلّة إلى كثرة، ويتبدّل الذُّل إلى عزّ، انظر إلى الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته كيف كانوا في البداية، وكيف هاجروا من مكة، وكيف أُخرجوا، وكيف قُتلوا، وكيف عُذبوا، وانظر كيف يكونون حين خرجوا، وانظر إليهم كيف أتوا إلى مكة فاتحين عزيزين مكرمين، فبالصَّبر وبالتَّضحية وبالإخلاص وبالإيمان وبالثَّبات، أيضاً حازوا النَّصر والتَّمكين (3) .
من الدُّروس التي نأخذها هنا براءة نفوس المسلمين وصفاؤها، لا يتعاملون بالحقد وبالحسد وبالانحطاط، أبو سفيان ـ الذي كان أحد قادة قريش والذي فعل بالمسلمين الأفاعيل ـ أوّل ما ينطق بالشَّهادتين يُقرِّر الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - إكرامه وتشريفه، فيجعل داره صنواً في مسألة الأمن مع البيت الحرام: (مَنْ دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن).
__________
(1) زاد المعاد، 3/404.
(2) السِّيرة النَّبويّة، لابن هشام، 5/60.
(3) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، طبعة دار الفكر، بيروت، 1401 هـ، 3/202.(1/11)
فنحن في حاجة إلى أنْ نصفّي نفوسنا تجاه الجميع من الأحقاد ومن الحسد ومن الغِل ومن البغضاء، وأكثر المشاكل التي بين المسلمين اليوم تنجم عن هذه الأمراض الفتاكة بالمجتمعات والجماعات.
كذلك نأتي لتأمُّلات في كيفيّة دخوله - صلى الله عليه وسلم - مكة، إنَّ في كُلّ خطوة كان يُعلّمنا دروساً، فيما رواه البخاريّ أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يُرجِّع سورة الفتح اللَّحظات التي يدخل فيها مكة، كان يُرجِّع ويترنّم بسورة الفتح، عادة الأبطال والقادة في لحظات النَّصر كثيراً ما ينسون الله تعالى، ويعتقدون أنَّهم هم سبب هذا النَّصر وأنَّهم سبب هذه النَّجاح، ولكن الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - يعلّمنا هنا أنْ نردّ كُلّ نصر وكُلّ فوز وكُلّ فلاح إلى الله تعالى، لم يقل: فكّرنا، ولم يقل: قوينا أنفسنا، ولم يقل: حرَّرنا، ولكن قال: [الفتح: 1] يُردِّد هذه الآيات رداً للأمر إلى الله تعالى، واعترافاً بحوله وقوّته وقدرته: [الأنفال: 17].
كذلك إنْ كان القادة في هذه اللَّحظات يرفعون رؤوسهم، ويرفعون أصواتهم، ويأخذهم العُجب، ويأخذهم الغرور، ويحسون أنَّهم هم هم، الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - في هذه اللَّحظات وهو يدخل مكة وجميع الأنظار ترقبه، كان منحنياً على دابته، حتَّى كاد عقنونه (مقدمة الأنف) أنْ يلامس أوسط راحلته تواضعاً لله تعالى.(1/12)
فَمِمَّا علّمنا له الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - حرصه الشَّديد على حقن الدِّماء، لم يقل: هؤلاء الذين فعلوا بنا، واليوم قد مُكِنتم منهم فلتفعلوا بهم الأفاعيل، وزّع الجيش يدخل مكة من أنحائها كُلّها، حتَّى لا يفكر أهل مكة في المواجهة، ثُمَّ قال لهم: (لا تقاتلوا إلاَّ مَنْ يقاتلكم) (1) . وبالفعل خضع له الجميع، ولم تكن مجموعة مواجهة إلاَّ مجموعة خالد بن الوليد، واجهتهم مجموعة كانت تُعِدُّ لقتل الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - ، منهم حماس بن قيس بن خالد كان يُعِدُّ السِّلاح ويصلحه من وقت لآخر، فسألته امرأته، فقالت له: ماذا تريد؟ قال: أريده لمُحَمَّد وأصحابه. قالت له: لن تتمكَّن منه. قال لها: سأقدمك بعضهم، أي سأتمكّن منهم وآتى ببعضهم أذلة كي يكونوا في خدمتنا في البيت، هذا كان من ضمن المجموعة التي واجهت خالد بن الوليد، وكانت بقيادة عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أُمية، هذا الرَّجل وهو يُصلح أسلحته كان يترنّم بأبيات:
إنْ يكمل اليوم فما لي علّة ... هذا سلاحٌ كامل وإلا
وذو غرارين سريع السَّلا
يتسلّي ويترنّم بهذه الأبيات معبِّراً عن استعداده للرَّسول - صلى الله عليه وسلم - ، حتَّى خرج مع المجموعة التي أرادت المواجهة، وبعد أنْ قُتِلَ منهم مَنْ قُتِلَ، وفرَّ منهم مَنْ فرَّ كان هو ضمن الفارَّين أتى إلى زوجته وقال: أغلقي عليَّ الباب، ذكَّرته بتلك الأبيات التي كان ينشدها، فقال لها: إنك لو شاهدت يوم الخندق (المكان الذي كانت فيه المواجهة بينهم وبين مجموعة خالد بن الوليد:
إنَّك لو شهدت يوم الخندقة ... إذ فرَّ صفوان وفرَّ عكرمة
__________
(1) انظر: وصيته حين غزوة مؤتة (اغزوا باسم الله، فقاتلوا عدوا الله وعدوكم بالشَّام، وستجدون منها رجالاً في الصَّوامع معتزلين فلا تتعرَّضوا لهم، ولا تقتلوا امرأة، ولا صغيراً، ولا شيخاً فانياً، ولا تقطعوا شجرة، ولا تهدموا بناءً). السِّيرة الحلبيّة، 2/787.(1/13)
واستقبلتنا السُّيوف المسلمة ... يُقطعّن كُلّ ساعدٍ وجمجمة
ضرباً فلا تسمع إلاَّ غمغمة ... لهم نهيت خلفنا وهمهمة
لم تنطقي باللَّوم أدنى كلمة (1)
أي اعذريني في هذا الأمر، فكان الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - حريصاً على أنْ تحقن الدِّماء، ولَمَّا أخبر بمن قتل وكانوا حوالي عشرين أو يزيدون قليلاً استنكر ذلك، ولَمَّا علم أنَّهم بدءوا بالمقاتلة وبالمواجهة، قال: (قدَّر الله وما شاء فعل).
انظروا إلى سماحة الإسلام في اللَّحظة التي يكونون فيها متمكنين لم يكن التَّفكير في الانتقام وفي إراقة الدِّماء، ولكن كان التَّفكير في أنْ يكونوا سالمين، وأنْ يأتوا إلى الله تعالى مسلمين، لذلك الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - كان حريصاً على هذا الأمر، قال: (قدَّر الله وما شاء فعل).
من الدُّروس التي نأخذها أنَّ الباطل لا محالة إلى زوال، انظروا إلى قريش أين كانت، وانظروا إلى الأصنام أين كانت تُعبد، وكيف كان يُتقرّب إليها، هاهي ذي دولة قريش تزول، وهاهي الأصنام يسقطها الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - واحداً واحداً، ويقول: (قُل جاء الحقُّ وزُهِقَ الباطل، إنَّ الباطلَ كان زهوقاً) (2) .
وهذا المصير هو مصير كُلّ الأقوام المستكبرة الكافرة، في السَّابق أو في الحاضر أو في المستقبل في الماضي، اقراُوا قول الله تعالى: [الفجر: 6-14].
__________
(1) أبيات حماس بن قيس هذه أوردها المباركفوري في الرَّحيق المختوم، ص347، وابن قيم في: زاد المعاد، 3/405.
(2) دلائل النَّبوة: للأصفهانيّ، تحقيق مُحَمَّد مُحَمَّد الحداد، طبعة دار طيبة، الرِّياض، السُّعوديّة، ط/1، 1409هـ. وانظر:الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لأبي الرَّبيع سليمان بن موسى، 2/226.(1/14)
وإن شاء الله تعالى فإنَّ قوى البغي والعدوان التي تتمثَّل اليوم لسان حال فرعون: [النَّازعات: 24]، [غافر: 29]، فإنَّ مصيرها هو نفس المصير عاجلاً أم آجلاً: [آل عمران: 196-197]. زالت دولة قريش، وزالت قدسيّة الأصنام، ووقف الحقّ شامخاً مرفوع الرَّأس والجبين، وها هو ذا الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - يحشد له أهل قريش كلهم ويخطب فيهم: (لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، كُلّ مفخرة أو دم أو مال في الجاهليّة فهو تحت قدميّ هاتين إلاَّ ما كان من سدانة البيت وسقاية الحاج) (1) .
كُلّ ما هو من مظاهر الدُّنيا مِمَّا يتباهى به ويتفاخر، أعلن لهم في ذلك اليوم أنَّه: (تحت قدميَّ هاتين)، وأنَّه لا مجال إلاَّ لذكر الله تعالى، وإلاَّ للارتباط بالله تعالى، وإلاَّ لسِّقاية الحجّاج، وإلاَّ للأعمال الصَّالحة.
ومن هذا القبيل: (يا معشر قريش إنَّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهليّة وتعصُّبها بالآباء، النَّاس من آدم، وآدم من تراب، وتلا قوله تعالى: [الحجرات: 13]، ثُمَّ واصل خطبته: (يا أهل مكة ما تظنون إنّي فاعلٌ بكم؟) قال الذين هم في عمره: أخٌ كريم، وقال الذين هم في عمر آبائه: ابن أخٍ كريم، فقال - صلى الله عليه وسلم - : (اذهبوا فأنتم الطُّلقاء).
فلمَّا رأوا هذا الكرم وهذه السَّماحة وهذا الجلال المُحَمَّديّ، انطلقوا يشهدون ألا إله إلاَّ الله وأنَّ مُحَمَّداً رسول الله، وأدّوا البيعة إلى النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من الرِّجال ومن النِّساء.
__________
(1) دلائل النُّبوة: للأصفهانيّ، 5/85.(1/15)
وهكذا كانت البيعة من الرِّجال ومن النِّساء لا عن إكراه ولكن عن إيمان فلقد رأوا ما كان عليه الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في السَّابق، وما وصلوا إليه الآن، وتبيّن أنَّ ذلك لا يمكن أنْ يكون إلاَّ بهذا الدِّين، وأنَّ هذا الدِّين ليس إلاَّ من عند الله تعالى، فدخلوا في دين الله أفواجاً، وصوَّر القرآن هذا المشهد: [النَّصر: 1-3].
ها هو ذا الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - الذي خرج متخفياً ومطلوباً القبض عليه حيّاً أو ميتاً في أعلى المنعة، ويتلقّى البيعة من الجميع، وها هو ذا بلال الذي كان يُجرّ ولا يجد غير أنْ يقول: أَحَدٌ أَحَدٌ ها هو ذا يصعد في أعلى مكان، ويعلن: الله أكبر الله أكبر، أشهد ألا إلا الله وأنَّ مُحَمَّداً رسول الله.
وفي هذه اللَّحظات واحد من أهل مكة تحدّثه نفسه بأنَّ مُحَمَّداً الآن منشغلٌ بالبيعة، وبعظمة الانتصار، وأنَّ أصحابه كذلك فرحون، وأنَّه يمكن له أنْ يقتله، فأتى قُبالة بن عمير بن الملوح، متجهاً نحو النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ومعه سلاح يخفيه ليقتل به النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، والنَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يخطب، ولَمَّا رآه متجهاً نحوه، قال: (أقبالة؟) قال: نعم، قال: (ماذا كنت تحدّث به نفسك؟) قال: لا شيء، أذكر الله. قال الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يبتسم: (استغفر الله يا قُبالة)، ووضع يده على صدره، قال قُبالة: والله ما رفع يده إلاَّ وكان أحبّ خلق الله إليَّ (1) ، فامتلأ قلبه محبة للنَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وإيماناً بدينه، فرجع ومرَّ على امرأة كان يجالسها وتؤانسه، فدعته إليها، فقال:
قالت: هلمَّ إلى الحديث، فقلت: ... لا يأبى عليك الله والإسلامُ
لو قد رأيتِ مُحَمَّداً وقبيله ... بالفتح يوم تكسر الأصنامُ
لرأيتِ دين الله أضحى بيِّناً ... والشَّرك يغشى وجهه الإظلامُ
__________
(1) ابن قيم: زاد المعاد، 3/412.(1/16)
وصلَّى الله على سيّدنا مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً.(1/17)