هذا هو
رَسُوْلُ الله مُحَمّدٌ - صلى الله عليه وسلم -
جمع وإعداد
أسامة محمد الحمصي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين ، القائل في كتابه العزيز : { يا أيُّها النبيُّ إنّا أرْسَلْناكَ شاهِدَا ومُبَشِّرَاً ونَذِيْرا - ودَاعِيَاً إلى اللهِ بإذْنِهِ وسِرَاجَا مُنيرَا } . الأحزاب : 45 ـ 46 .
والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله الطيبين الطاهرين ، وصحابته الغُرّ الميامين ومن سار على هداه ، وتمسّك بسُنّته إلى يوم الدين .
وبعد :
كانت بداية فكرة هذا العمل ، أنّي شاركتُ بمداخلات في حلقات عدّة في إحدى القنوات الفضائيّة ، في برنامج حول نُصرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - . ثمّ فكّرتُ أن أجمع بعض هذه المشاركات في ما تعارف عليه الناس اليوم باسم ( المَطْوِيّة ) ، فهي سريعة القراءة ، وذات فوائد .
ثمّ وسّعتُ الموضوع ، وعرضتُه على الإخوة الفضلاء :
? الدكتور : محمد شكور المياديني / أبو محمود .
? الدكتور : محمود حسين الحريري / أبو سليمان .
? الأستاذ ـ المهندس : محمد عادل فارس / أبو عبيدة .
فأفدتُ كثيرا من ملاحظاتهم التي أبدوها . شكر الله لهم ، وجزاهم الله كلّ خير .
فكان هذا الجهدُ ، مساهمة ، في نُصرة النبيّ الرسول الحبيب الشفيع ، سيّدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - .
الاثنين : 11 من ربيع الأول 1427
الموافق : 10 من نيسان 2006 .
عمان ـ الأردن
بسم الله الرحمن الرحيم
{ و كفى بالله شهيدا - محمد رسول الله }
هذا هو رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم -
مقدمة
الحمد لله ربّ العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين . وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على حبيب القلوب ، وقرّة العيون ؛ سيّدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، عبد الله ونبيّه ورسوله ، المبعوث رحمة للعالمين ، خير خلق الله أجمعين ، وخاتم الأنبياء والمرسلين .(1/1)
يقول الله - سبحانه وتعالى - في محكم التنزيل : { لَقَدْ منَّ اللهُ على المُؤمنينَ إذْ بَعَثَ فيهمْ رسولاً من أنفسِهم يتلو عليهم آياته ويُزكّيهم ويُعلّمهم الكتابَ والحكمة وإن كانوا من قبلُ لفي ضلالٍ مُبِيْن } . سورة آل عمران : 164 .
ويقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم - : " إنّ مَثَلِي ومَثَلَ الأنبياء مِنْ قَبْلِي ، كَمَثَلِ رجلٍ بنى بيتاً فأَحْسَنَه وأجْمَلَه ، إلاّ موضع لَبِنة من زاوية ، فجعل الناسُ يطُوفون به ، ويَعْجبون به ، ويقولون : هلاّ وُضِعَتْ هذه اللبِنة ؟ فأنا اللبنة ، وأنا خاتم النَبِيِّين " . رواه البخاري .
وبعد :
طالعتنا وسائل الإعلام مع نهاية العام الهجري 1426 ، الموافق لنهاية العام الميلادي 2005 ، أنّ بعض الصحف في بلاد الدانمارك وغيرها ، قد نشرت رسوماً ، قُصد منها الإساءة لمقام سيّد الخلق أجمعين ، سيّدنا محمد !! - صلى الله عليه وسلم - .
وإنّي أتمنى ، وأهيب بوسائل الإعلام ، أن تسمي الرسوم المسيئة بـ : الرسوم المسيئة للبشريّة ، فالذين أساؤوا إنما أساؤوا للبشرية عامّة ، ولأنفسهم خاصّة 000
ولكنّ مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تدركه الإساءة . قال - سبحانه وتعالى - : { إنّا كَفَيْناك المُسْتَهْزِئين } . الحجر : 95 .(1/2)
وقد ذكرت كتب السيرة كيف كانت مصارع أولئك النفر ـ من كفّار قريش ـ الذين أرادوا النيل من مقام ذلك النبيّ العظيم - صلى الله عليه وسلم - . ( انظُر: فصل في ذِكْرِ هلاك المستهزئين بمكة ) . وقال - سبحانه وتعالى - : { والله يعصمك من الناس } . المائدة : 67 . وقال - سبحانه وتعالى - : { ورفعنا لك ذكرك } . الشرح : 4 . ( فما من أذانٍ يُرْفَع إلاّ رُفِع فيه اسمُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - . ولا صلاة يؤدّيها مُسْلِمٌ إلاّ سَلَّم على هذا النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، وصلّى وبارك عليه وعلى آل بيته الأخيار الأطهار وأصحابه الأبرار ) . وقال - سبحانه وتعالى - عن معاديه ومبغضه : { إنَّ شانئك هو الأبتر } . الكوثر : 3 .
في كتاب السيرة النبوية لابن هشام / ذكر ما لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قومه من الأذى " قال ابن إسحاق : كانت قريش إنّما تُسمّي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مُذَمَّما ، ثُمّ يسُبّونه ، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ألا تعجبون لِما يصرف الله عني من أذى قريش ! يسُبُّون ويهجُون مُذَمَّما ، وأنا محمد " . - صلى الله عليه وسلم - .
يا ناطحا جبلا يوما ليوهنه أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
إنّ الذين قصدوا الإساءة لمقام هذا النبيّ العظيم - صلى الله عليه وسلم - ، لا يعرفون صفاته الحقيقيّة ، ولو عرفوه ، لأحبّوه ولاتبعوه ، ولكنّهم أساؤوا لصورة مشوّهة مطبوعة في عقولهم ، صورتها لهم آلة الإعلام العلمانيّ الملحد الذي يسيطر عليه غالبا أبناء القردة والخنازير من اليهود ومن سار في فلكهم .(1/3)
إنّه ليس بمستغرب هذا الفعل القبيح من أحفاد قتلة الأنبياء ، الذين تطاولوا على مقام الألوهيّة فقالوا : { إنّ اللهَ فقير ونحن أغنياء } . آل عمران : 181 . وقالوا : { يدُ الله مغلولة } غُلّت أيديهم ولُعِنوا بما قالوا...وادّعوا لله ولدا ، قال - سبحانه وتعالى - مُخْبِرا عنهم في كتابه العزيز : { وقالت اليهودُ عُزيْرٌ ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله } . التوبة : 30 . { كلّما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ، ويسعون في الأرض فسادا ، والله لا يحبّ المُفسدين } . المائدة : 64 .
وأيّ إنسان يعرف تعظيم الأنبياء ، إن لم تظفر نبوّة محمد - صلى الله عليه وسلم - وعظمته عنده بالتعظيم ! .
وماذا يُساوي إنسان لا يُساوي أعظم إنسان شيئا لديه !!؟ .
إنّ تعظيم النبيّ محمد - صلى الله عليه وسلم - لنافع لمن يُقدّرونه ، وليس بنافع له - صلى الله عليه وسلم - أن يُقدّروه ؛ لأنّه في عظمته الخالدة لا يُضار بإنكار ، ولا ينال منه بغي الجُهلاء ، إلاّ كما نال منه بغي الكفّار من معاصريه .
وصدق من قال : لا يعْرِف فضلَ ذوي الفضل إلا ذو فضل .
- - - - -
حسبنا من عَظَمَة نبيّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - أن نُقيم البرهان على أنّ محمدا - صلى الله عليه وسلم - عظيم في كلّ ميزان . فهو عظيم عند الله ، وعند الملائكة ، وعند الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام أجمعين ـ ، وعند المُنصفين من الخلق أجمعين . وعظيم في ميزان الدين . وعظيم في ميزان العلم . وعظيم في ميزان الشعور .
ولكنْ رُبَّ ضارّةٍ سارّة ، فَفَعْلَتُهم تلك ، وحّدت هذه الأمة ، وأيقظت النائمين منها ، وأظهرت الخيرية في أمّة الخير ، التي هبّت كلها جميعا لنصرة هذا النبيّ الحبيب العظيم الشفيع - صلى الله عليه وسلم - .
- - - - -
محبة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ولزوم طاعته(1/4)
قال - سبحانه وتعالى - : { قلْ إنْ كُنْتُم تُحِبُّون اللهَ فاتَّبِعُوْنِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ويغْفِرْ لكم ذُنوبَكُم واللهُ غفورٌ رَحيمٌ - قُلْ أطيعوا اللهَ والرسولَ فإنْ تَوَلَّوا فإنَّ اللهَ لا يُحبُّ الكافرين } . آل عمران : 31-32 .
وقال - سبحانه وتعالى - : { فلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتّى يُحَكِّمُوك فيما شَجَرَ بينهمْ ثُمَّ لا يَجدوا في أنْفُسِهم حَرَجاً ممَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيما } . النساء : 65 .
وقال - سبحانه وتعالى - : { النبيُّ أولى بالمؤمنين من أنفِسِهِم } . الأحزاب : 6 .
وقال - سبحانه وتعالى - : { وما كانَ لِمُؤْمنٍ ولا مُؤْمِنةٍ إذا قَضَى اللهُ ورسولُه أمْراً أنْ يكونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ منْ أمْرِهِمْ } . الأحزاب : 36 .
وقال - سبحانه وتعالى - : { وما آتاكُمُ الرسولُ فَخُذُوْهُ وما نَهَاكُم عنه فانْتَهُوا } . الحشر : 7 .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : " ما نهيتُكم عنه فاجْتَنِبُوْهُ ، وما أمرتُكم به فأْتُوا منه ما استطعتم " . رواه البخاري ومسلم . وهذا الحديث من قواعد الإسلام العظيمة المشهورة .
وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال : " والذي نَفْسِي بيده ، لا يؤمن أحدُكُم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والده ، وولده ، والناس أجمعين " . وقال - صلى الله عليه وسلم - : " لا يؤمن أحدُكم حتى أكونَ أحبّ إليه من نَفْسِه " .
ألا وإنّه لمن المعلوم بالضرورة ، أنّ من تمام محبَّته - صلى الله عليه وسلم - ، طاعَتَه واتّباعه ، وأن يكون الأسوة لنا في جميع مناحي حياتنا . { ومنْ يَعْصِ اللهَ ورسولَه فقدْ ضَلَّ ضلالاً مُبِيْنا } . الأحزاب : 36 .(1/5)
ولكن ! لماذا يستغرب الناسُ حُبَّ المسلمين لنبيهم - صلى الله عليه وسلم - ؟ وكيف لا نحبه وهو سبب هدايتنا إلى الدين القويم ، والصراط المستقيم ؟! كيف لا نحبّه وهو أولى بنا من أنفسنا ! كيف لا نحبه ، وهو الذي لم يترك خيرا إلا أرشدنا إليه ، ولا شرا إلا حذّرنا منه 000
كيف لا نحبه ، وقد أخبرنا أن جميع الناس يوم القيامة ، الرّسلَ والأنبياء ، فمن دونهم ، كلّ منهم يقول : اللهمّ نَفْسِي00 اللهم نفسي 000إلاّ الحبيبَ الشفيع ، إلاّ صاحب الحوض المورود والمقام المحمود ، يقول : يا رب يا رب ؛ أمّتي00أمّتي00
هو الحبيب الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم
كيف لا نحبه ، ونحن نقرأ قول الله مولانا - سبحانه وتعالى - : { ولسوف يعطيك ربك فترضى } . الضحى : 5 ، ونحن نعلم أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لا يرضى حتى يخرج جميع العصاة من أمّته من النار ويدخلهم الجنّة .
كأنّك من كلّ النفوس مركّب فأنت إلى كل النفوس حبيب
وكيف لا نُحبّ من أحبّه الله - سبحانه وتعالى - وفضّله على سائر خلقه واصطفاه ؟! .
ومن أولى بالحبّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟! .
- - - - -
هذا هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
سّيدي رسول الله : إنّ مَثَلِي ومَثَلك ، كَمَثَلِ حكيمٍ رأى القمر ليلة البدر .. فقال : أيّها البدر ، ماذا أقول لك ! أأقول : رَفَعَكَ الله ... لقد رفعك ؛ أأقول : كَمَّلَكَ الله ... لقد كمّلك ؛ أأقول : نَوَّرك الله ... لقد نوّرك ؛ أَأَقول : جمّلك الله ... لقد جمّلك . وأنت يا سيّدي يا رسول الله ... لقد رفعك الله { ورفعنا لك ذكرك } . الشرح : 4 ، ولقد كمّلك { وإنّك لعلى خُلُقٍ عظيم } . القلم : 4 ، وأنت نورٌ مبين { قدْ جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ مُبِيْن } . المائدة : 15 ، ولقد جمّلك ربُّك ، فقد أُعطيتَ الجمال مع الهيبة . ولقد كُنتَ مُمَثِّلا لتعاليم القرآن تمشي على هدى بين الخلائق أجمعين .(1/6)
وُلِد سيّد الكائنات ، فوُلِد الخير ، وابتهجت بمولده السماء ، واحتفلت به الأرض .
وكان إيذاناً بقدوم العدل ، وسيادة الحقّ ، وانتشار النّور والهدى ، وإشعاراً برحيل الطواغيت ، وانتهاء الوثنيّة ، وانحسار الظلم والظلام .
كان هناك عالَمٌ يتطلع إلى من يُنقذه من الضلال وحمأة الظلم والجاهليّة ، فأرسل الله محمّدا - صلى الله عليه وسلم - . { يا أيّها النبيُّ إنّا أرسلناكَ شاهِدا ومُبَشِّرا ونذيرا - وداعِيَا إلى اللهِ بإذْنِه وسِرَاجا مُنِيْرا } . الأحزاب : 45-46.
لقد قالت حوادث الكون : كانت الدنيا في حاجة إلى رسالة ... ولقد قالت حقائق التاريخ : كان محمد - صلى الله عليه وسلم - هو صاحب تلك الرسالة . لقد خلق الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - ليكون رسولا مُبشرا بدين ، رحمة للعالمين ، ورحمة للمؤمنين .
إنّه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ابن عبد الله بن عبد المطلب ( شيبة الحمد ) بن هاشم . ومن ولد عدنان ومن ولد إسماعيل - صلى الله عليه وسلم - ابن إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم - . أُمّه : آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة .
أوسط قومه نسبا - صلى الله عليه وسلم - ، وأعظمهم شرفا من قِبَل أمّه وأبيه .
اختاره الله - سبحانه وتعالى - من أزكى القبائل ، وأفضل البطون ، وأطهر الأصلاب . روى مسلم بسنده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إنّ الله اصطفى كِنَانَة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشا من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم " .
وُلد - صلى الله عليه وسلم - عام الفيل . وبعثه الله على رأس أربعين سنة ، فمكث في مكة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة يوحَى إليه ، وفي المدينة عشرا . وتوفي وهو ابن ثلاث وستين .
يقول الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي :
( محمّد - صلى الله عليه وسلم - ) مُجمّع المحامد :(1/7)
من هذه الجولة اللغويّة الاشتقاقيّة السريعة ، نعرفُ أنّ ( محمّدا - صلى الله عليه وسلم - ) في الاشتقاق اسم مفعول من الرباعيّ ( حَمَّد ) ، وأنّه الذي تواصل عليه حمدُ الحامد وثناء المادح ، وهو لنْ يكون محمّدا إلاّ إذا كثُرِت خصالُه المحمودة ، وصفاته المحبوبة ، وأفعاله المرضيّة . وهذا المعنى العظيم متحقق في حبيبنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فالحمد والثناء متواصلٌ مُستمرّ عليه من كلّ من حَمِده وأثنى عليه ، بسبب تواصل صفاته وأفعاله وخصاله وشمائله وسجاياه - صلى الله عليه وسلم - ... إنّ محمّدا حامِدٌ أولا ؛ يقوم بالحمد والثناء ، وهو محمود ثانيا : يحمده الحامدون الآخرون لعظمة صفاته ، وهو حَمَّادٌ ثالثا ؛ أي : كثير الحمد لا يكاد يتوقّف عنه ، وهو أحمد رابعا ؛ أي : أي أكثر حمدا من غيره . وبما أنّ الاشتقاقات الأربعة متحققة فيه فهو مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - . فهو الإنسان الكامل ، الذي جمع كلَّ الفضائل . وأنّه مجمّع الكمالات . ( من مقال : محمد - صلى الله عليه وسلم - في القرآن / د . صلاح عبد الفتاح الخالدي ـ مجلة الفرقان ـ العدد الحادي والخمسون / بتصرف ) .
- - - - -
الرحمة المُهداة - صلى الله عليه وسلم -(1/8)
قال الله - سبحانه وتعالى - : { لقدْ جاءكم رسولٌ مِنْ أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم } . التوبة : 128 . عزيز عليه : أن تدخلوا النار ؛ أو أن تُصيبكم أيّ مشقة في دنياكم أو أخراكم . حريص عليكم : أن تدخلوا الجنّة ، فهو رحمة للعالمين ، وبالمؤمنين رؤوف رحيم . وما جَمَعَ اللهُ - سبحانه وتعالى - لنبيٍّ اسمين من أسمائه الحُسْنى إلاّ لحبيبه وصفوة خلقة نبينا ورسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - . قال - سبحانه وتعالى - : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } . الأنبياء : 107 . نَعَمْ ، رحمة للعالَمِين : إنسهم وجنهم ، الأولين ، والآخرين ، للأسماك في البحار ، والوحوش في القفار ، والطير فوق الأشجار ... رحمة للعالمين - صلى الله عليه وسلم - .
سألتني ابنتي وأنا أتكلم عن رحلتي إلي الحج والعمرة ، يا أبت : هل فرحت كثيرا عندما كنتَ قريبا من النبي - صلى الله عليه وسلم - وسَلَّمتَ عليه !؟000
فقلت : ومتى كان بعيدا ؟! فهو دائما قريبٌ حبيب .
فلا إيمان لعبد حتى يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحبّ إليه من نفسه ووالده وولده والناس أجمعين .
إن حب النبي - صلى الله عليه وسلم - يملأ على كل مسلم كيانه ، وإنّه لَحيّ في قلوبنا جميعا . ففي نهاية كلّ صلاة ، نخاطبه بكاف المخاطب القريب : السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته .
إنّ الرسولَ لَحَيٌّ في ضمائرنا على الزمان ، يرى منّا ويستمعُ
وكأن ـ والله ـ في التنزيل قارئه يُحِسُّ صوت رسولِ الله يرتفع
أيها الاخوة الكرام ، لِيَتَمَثّلْ كلُّ واحد منا أنّه يقف أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - ولْيخاطبْهُ بتحية الإسلام : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ـ كما نفعل في صلاتنا ـ ولنكن على يقين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حيّ يرد علينا السلام . ولْنُبْقِ على هذه الصلة في كلّ يوم من حياتنا ما استطعنا .(1/9)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما مِنْ أحدٍ يُسلِّمُ عليَّ إلا ردّ الله عليَّ روحي حتى أردَّ عليه السلام " . رواه أبو داود بإسناد صحيح .
سيدي رسول الله ، أشهد يا حبيب الله ، أنك قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة وجاهدت في الله حق الجهاد ، حتى أتاك اليقين .
فجزاك الله عنا يا رسول الله خير ما جزى به نبيا عن قومه ، ورسولا عن أمته .
أخي الحبيب ... يا من رضيتَ بالله ربّا ، وبالقرآن دستورا ، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيّا ورسولا ... إذا اشتدّت بك يوم القيامة الكُرُبات والظلمات ، وأمامك الصراط منصوب على شفير جهنّم ( وهو أدقّ من الشعرة وأحدّ من السيف – ولا بدّ لكلّ من كتب له دخول الجنّة أن يجتازه ) ، ورأيت من يأخذ بأيدي الناس ويقول : يا ربّ أمتي أمتي ، ياربّ سَلِّم سَلِّم ، ورأيت نورا منيرا ، فأبشر واعلم أنّ صاحب ذلك النور البَهيّ ، والدعاء العُلويّ ، والصوت النَدِيّ ، هو نبيّك ورسولك وحبيبك وشفيعك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
- - - - -
النبيّ ُالبَشَرُ الرسول - صلى الله عليه وسلم -
قال الله - سبحانه وتعالى - : { قل إنّما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إليّ } . الكهف : 110.
وقال - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه : " أنا سيّدُ وَلَدِ آدم يومَ القيامة ، وأوَّلُ منْ يَنشَقُّ عنه القبرُ ، وأوّلُ شافِعٍ وأوّلُ مُشَفَّعٍ " . صحيح مسلم .
وروى الإمام أحمد بسنده ـ عن أبي أمامة ـ قال : قلت : يا رسول الله ... ما كان أوّل بدء أمرك ؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : " دعوة أبي إبراهيم ، وبُشْرى عيسى بي ، ورأتْ أمّي أنّه خرج منها نورٌ أضاءت به قصور الشام " .(1/10)
وذلك مُفَسِّر لقوله - سبحانه وتعالى - على لسان إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - : { ربّنا وابْعَثْ فيهم رسولا منهم .. } . البقرة : 129 ، وقوله - سبحانه وتعالى - على لسان عيسى بن مريم - صلى الله عليه وسلم - : { ومُبَشِّرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } . الصف : 6 .
عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال : سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لي أسماء : أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو اللهُ به الكفرَ ، وأنا الحاشرُ الذي يُحْشَرُ الناسُ على قدمه ، وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد " . رواه البخاري ومسلم ، واللفظ للبخاري .
مرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جميع مراحل الحياة التي يُمكن أن يمرّ بها بشر . طفلا ، وشابا ، وكهلا ، وشيخا كبيرا ، وغنياّ ، وفقيرا ، وقائدا ، وحاكما ، ومُخرَجا من بلده ، وغير مُرحّب بدعوته ، ومنتصر ، وظافر ... وكان - صلى الله عليه وسلم - مُتمتّعا بخصائص البشريّة كلّها ، غير أنّ الله مولاه قد عصمه من جميع مظاهر الانحراف منذ ولادته وحتى توفاه . نشأ - صلى الله عليه وسلم - يتيما فقيرا . ولكن ماذا تقول فيمن تولاه مولاه بالرعاية والتأديب !؟ فلقد أدّبه ربُّه فأحسنَ تأديبه .
نبيّ ، نبيل عريق النسب ، فقير لا يطغيه بأس النبلاء والأغنياء ، يتيمٌ بين رحماء ، خبير بكلّ ما يختبره العرب من ضروب العيش في البادية والحاضرة . تربى في الصحراء وألِف المدينة ، ورعى الغنم واشتغل بالتجارة ، وشهد الحروب والأحلاف ، واقترب من السُراة ، ولم يبتعد عن الفقراء ، عاش حياة الغنى وعانى من الحرمان ، وعاش النصر ، وجرّب مُرّ الظلم من أعدائه . لقد مَرّ بجميع مراحل الحياة وأنواعها ، فكان قدوة لجميع الناس في جميع مناحي حياتهم .(1/11)
ثمّ أدرك النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - غاية ما سعى إليه ، فلم يدخل له المال ولا المتاع في حساب ، ولم يكن النعيم المستطاع أفعل في إغرائه من النعيم الموعود ( يوم وعده عتبة بن ربيعة في مكة بتفويض من قريش ) ... أَوَليس ذلك من دلائل النبوّة !؟ .
فقد كان - صلى الله عليه وسلم - بشرا رسولا مستكملا للصفات التي لا غنى عنها في إنجاح كلّ رسالة عظيمة من رسالات التاريخ .
- - - - -
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
لقد كانت عناية الله - سبحانه وتعالى - بالرسول - صلى الله عليه وسلم - عناية اجتباء ، وحبّ ، واصطفاء . ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محبّا لله - سبحانه وتعالى - ، وعلى أعلى درجات العبوديّة والحبّ لمولاه . وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحيما بأمتّه ، ناصحا لها ، حريصا عليها ، رؤوفا رحيما . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنّما مَثَلي ومثَلُ الناس كمثل رجلٍ استوقد ناراً ، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدوابُّ التي تقع في النار يَقَعْنَ فيها ، فجعل يَنْزِعُهُنَّ ويَغْلِبْنَهُ فيَقْتَحِمْنَ فيها ، فأنا آخذٌ بحُجَزِكُم عن النار ، وأنتم تقحَّمون فيها " . رواه البخاريّ ومسلم غيرهما .
قال - سبحانه وتعالى - : { اللهُ أعْلَمُ حيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه .. } . الأنعام : 124 . إنّ أبرز ما في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه رسول الله . بما يتضمن ذلك من اصطفاء الله - سبحانه وتعالى - له ، وتربيته ليكون هاديا للبشريّة رحمة للعالمين .
ومع هذا يمكن رصد أنواع مختلفة من جوانب العظمة في حياته - صلى الله عليه وسلم - .(1/12)
وفيما يأتي ، نتطرق إلى بعض جوانب عظمة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - الخَلْقيّة والخُلُقيّة والعملية . ونحاول رسم صورة صادقة عن الرسول العظيم - صلى الله عليه وسلم - كما وصفه الواصفون من صحابته الكرام - رضي الله عنهم - ، ولْنِتَمَثَّلَه حيّا بين أظهرنا - صلى الله عليه وسلم - .
- - - - -
صفاته الخَلْقِيّة - صلى الله عليه وسلم -
أما من الناحية الخَلْقِيَّة
فقد كان - صلى الله عليه وسلم - مُجَسِّدا للكمال البشرّي في جميع جوانبه ، فهو أحسنُ الناسِ وجها ، وأحسنهم خَلْقَا ، وأكملهم خُلُقا . ففاضت قلوب أصحابه بإجلاله ، ودأبوا على توقيره ، وتَفَانَوا في حياطته وإكباره ، وتركوا كثرة سؤاله ، وابتعدوا عن الاختلاف بين يديه ، وأحبّوه إلى حدّ الهيام ، بما لا تعرف الدنيا مثل ذلك لرَجُلٍ غيره مع أصحابه - صلى الله عليه وسلم - ، ورضي عنهم أجمعين .
وإلى سيّدنا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتهي الحُسْنُ والبهاء والجَمال . وإن كان نبي الله الكريم يوسُف الصِدّيق - صلى الله عليه وسلم - أُوتي شَطْرَ الحُسْن ، وافْتُتن به بعض النساء ، فلقد أوتي رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - الحُسْنَ كاملا مع الهيبة والوقار . فهو أجملُ الناس وأبهاهم من بعيد ، وأحسنهم وأكملهم من قريب . فكان منظره يوحي لِمن يراه أنّه أَمام نبيّ - صلى الله عليه وسلم - . قال أبوهريرة - رضي الله عنه - : ما رأيتُ شيئاً أحسنَ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وكان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إذا وصف النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : هو خاتَمُ النبيّين ، أجْوَدُ الناس صَدْرَا ، وأصدقُ الناس لهجةً ، وألْيَنُهُمْ عَريكة ( دليل على كمال مسامحته ، ووفور حلمه وتواضعه ) ، وأكْرَمُهُمْ عِشْرَةً ( صحبة ) ، من رآه بَدِيْهَةً ( مفاجأة ) هابَهُ ، ومن خالطه مَعْرِفَةً أحبّه .(1/13)
وكان - صلى الله عليه وسلم - أطيب الناس رائحة . وإذا مرَّ من طريق عُرِفَ أنّه مَرَّ من هنا ، لطيب رائحته .
قال أنسُ بن مالك - رضي الله عنه - : ما مَسَسْتُ ديباجا ولا حريرا ألْينَ من كفّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا شَممتُ رائحة قطُّ أطيبَ من رائحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولقد خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين ، فما قال لي قطّ : أُفٍّ ، ولا قال لشيءٍ فعلتُه : لمَ فعلْتَه ؟ ، ولا لشيءٍ لمْ أفعَلْه : ألا فعَلْتَ كذا ؟ . متفق عليه .
( أقول : ألا يدلّ هذا الحديث العظيم كذلك على فطنة سيّدنا أنس بن مالك - رضي الله عنه - وكياسته وحسن تدبيره ؟! ) .
وكان - صلى الله عليه وسلم - رَبْعَة ( وسطا ) من القوم ، ليس بالطويل الذاهب ، ولا بالقصير .
عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله مَرْبُوعاً ، ولقد رأيتُه في حُلّة حمراء ، ما رأيتُ شيئا قطُّ أحسنَ منه . متفق عليه . ( مربوعا : ليس قصيرا ولا مُفرطا في الطول ، وإلى الطول أقرب ) .
ظاهر الوضاءة . طويل الزندين ، سابل الأطراف ( طويل الأصابع ) ضخم القدمين ، سريع المِشية ، يمشي مسرعاً وكأنّما ينحدر من جبل . قال أبو هريرة - رضي الله عنه - : ولا رأيتُ أحدا أسرع في مِشْيته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كأنّما الأرض تُطوى له ، إنّا لنُجْهِدُ أنفُسَنا وإنّه لغير مُكترث .(1/14)
وكان - صلى الله عليه وسلم - أزهر اللون ( أبيض مشربا بحمرة ) ، عظيم الرأس ، واسع الجبين ، سهل الخَدّين ، شديد سواد الشَعر ، وكان رَجِلَ الشَعر ( بين الجعودة والسُبُوطة ) ، أدعج ( واسع العينين ، جميلهما ، شديد بياضهما وسوادهما ، كأنّ في عينيه كحل ) غزير اللحية ، جميل الجِيد ( العُنُق ) ، عريض الصدر ( دليل الصبر والسماحة والحلم ) واسع ما بين المنكبين ، معتدل الخَلْق ، لا بالبدين ولا بالنحيل . واقترن النشاط والحياء بالقوّة والمضاء في هذه البِنْية الجميلة ، فكان - صلى الله عليه وسلم - يصرع الرجلَ القويّ ، ولربما ركب الفرس عاريا عن السرج .
وكان - صلى الله عليه وسلم - ضَليع الفم ( الضليع : العظيم ، وذلك دليل على سلامة النُطق وفصاحة الكلام . ) . قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : وكان - صلى الله عليه وسلم - من أحسن الناس ثَغرا . صحيح مسلم . في صوته صَهَل ( بحة يسيرة : وذلك من عُذُوبة الصوت ) ، وكلامه فصْل . إذا تكلّم رُئي كالنور يخرج من بين ثناياه . إنْ صَمتَ فعليه الوَقار ، وإنْ تكلّم سما ، وعلاه البهاء .
عن أمّ المؤمنين الصِدِّيقة بنت الصِدِّيق عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت : كان كلام رسول الله كلاما فَصْلا ، يفهمُه كلُّ من يسمعُه . رواه أبو داود .
كان أفصح الناس وأصدقهم . أوتيَ جوامع الكَلِم ، وخُصّ ببدائع الحِكم ، وقلّة التكلّف ، ولا يتكلّم في غير حاجة . اجتمعت له قوّة عارضة البادية وجزالتها ، ونصاعة ألفاظ الحاضرة ورونق كلامها ، وعَلِم ألسنة العرب ، فكان يُخاطب كلّ قبيلة بلسانها ، ويُحاور كلّ قوم بلهجتهم .
مدحه شاعرُه حسان بن ثابت - رضي الله عنه - ، فقال :
وأحسنُ منك لَمْ تَرَ قطّ عينٌ وأجمل منك لم تلد النساء
خُلِقْتَ مُبرّءا من كلّ عيبٍ كأنّك قدْ خُلِقتَ كما تشاء
- - - - -
أمّا من الناحية الخُلُقيّة(1/15)
فلا بدّ لمن يختاره الله - سبحانه وتعالى - لتبليغ دعوة الله للناس أن يكون على خُلُقٍ عظيم ، ليدل الخَلْقَ على كلّ خير، ويطهرهم من كل شر. ثم الرسول هو المبلغ عن ربه والقدوة للبشر في أمور دينهم { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخرَ وذَكَرَ اللهَ كثيرا } . الأحزاب : 21 .
فلا بد أن يكون الرسول أرقى البشر في كلّ جانب من جوانب الحياة . { قل إنَّ صَلاتِي و نُسُكِي و مَحْيَاي و مَمَاتي للهِ ربِّ العالمين - لا شريك له وبذلك أُمِرْتُ وأنا أوّلُ المُسْلِمين } . الأنعام : 162ـ 163 .
أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - .
لقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - عظيما في أخلاقه ، وعلى قمّة الكمال في كل ناحية من نواحيها . أدّبه ربُّه فأحسن تأديبه . اقرأ معي قول الله تعالى { وإنك لعلى خلق عظيم } . القلم : 4 ؛ وكفى بها شهادة عظيمة من رب عظيم لنبي عظيم . فكان - صلى الله عليه وسلم - يُحبُ الخُلُقَ الحسن ، ويحثُ أمتّه عليه .
وبمناسبة الحديث عن الآية { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخرَ وذَكَرَ اللهَ كثيرا } ، يقول سيّد قطب رحمه الله في موسوعته ( في ظلال القرآن ) بعدما يستعرض أحوال المنافقين في غزوة الأحزاب ( الخندق ) : ] ولكنّ الهول والكرب والشدّة والضيق ، لمْ تُحوّل الناسَ جميعا إلى هذه الصورة الرديئة ... كانت هنالك صورة وضيئة في وسط الظلام ، مُطْمئنّة في وسط الزلزال ، واثقة بالله ، راضية بقضاء الله ، مستيقنة من نصر الله ، بعد كلّ ما كان من خوف وبلبلة واضطراب .
ويبدأ السياق هذه الصورة الوضيئة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - .(1/16)
{ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخرَ وذَكَرَ اللهَ كثيرا } ، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الرغم من الهول المُرْعب والضيق المُجهد ، مثابة الأمان للمسلمين ، ومصدر الثقة والرجاء والاطمئنان . وإنّ دراسة موقفه - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحادث الضخم لمّما يرسم لقادة الجماعات والحركات طريقهم ، وفيه أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ، وتطلُبُ نفسُه القدوة الطيّبة ، ويذكر الله ولا ينساه .
ويحسن أنّ نُلمّ بلمحات من هذا الموقف على سبيل المثال .
ويتابع سيّدٌ كلامَه ... ولنا أن نتصوّر هذا الجوَّ الذي يعمل فيه المسلمون ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - بينهم ، يضرب بالفأس ، ويجرف بالمسحاة ، ويحمل في المكتل ، ويُرجّع معهم الغناء ... ولنا أن نتصوّر أيّة طاقة يُطلِقها هذا الجوّ في أرواحهم ، وأيّ ينبوع يتفجّر في كيانهم بالرضى والحماسة والثقة والاعتزاز .
... ثمّ كانت روحه - صلى الله عليه وسلم - تستشرف النصر من بعيد ، وتراه رأي العين في ومضات الصخور على ضرب المعاول ، فيحدّث بها المسلمين ، ويبثّ فيهم الثقة واليقين .
... أمّا أخبار شجاعته - صلى الله عليه وسلم - في الهول ، وثباته ويقينه ، فهي بارزة في القصّة كلّها .
وحول الآية { وإنك لعلى خلق عظيم } ، يقول سيّد :
ثمّ تجيء الشهادة الكبرى والتكريم العظيم :
{ وإنك لعلى خلق عظيم } ... ويعجز كلّ قلم ، ويعجز كلّ تصوّر ، عن وصف قيمة هذه الكلمة العظيمة من ربّ الوجود ، وهي شهادة من الله ، في ميزان الله ، لعبد الله ...(1/17)
ويتابع : وكان واقع سيرته أعظم شهادة من كلّ ما روي عنه . ولكنّ هذه الكلمة أعظم بدلالتها من كلّ شيءٍ آخر . أعظم بصدورها عن العليّ الكبير . وأعظم بتلقّي محمد - صلى الله عليه وسلم - لها وهو يعلم من هو العليّ الكبير ، وبقائه بعدها ثابتا راسخا مطمئنّا . لا يتكبّر على العباد ، ولا ينتفخ ، ولا يتعاظم ، وهو الذي سمع ما سمع من العليّ الكبير ! ... والله أعلم حيث يجعل رسالته . وما كان إلاّ محمد - صلى الله عليه وسلم - ـ بعظمة نفسه هذه ـ من يحمل هذه الرسالة الأخيرة بكلّ عظمتها الكونيّة الكبرى . فيكون كفئا لها ، كما يكون صورة حيّة منها .
ويتابع سيّد قوله : إنّه محمد - صلى الله عليه وسلم - ـ وحده ـ هو الذي يرقى إلى هذا الأفق من العظمة ... إنّه محمد - صلى الله عليه وسلم - ـ وحده ـ هو الذي يبلغ قمّة الكمال الإنسانيّ المجانس لنفحة الله في الكيان الإنسانيّ ... إنّه محمد - صلى الله عليه وسلم - ـ وحده ـ هو الذي يكافىء هذه الرسالة الكونيّة العالميّة الإنسانيّة ، حتى لتتمثّل في شخصه حيّة ، تمشي على الأرض في إهاب إنسان ... إنّه محمد - صلى الله عليه وسلم - ـ وحده ـ الذي عَلِمَ اللهُ منه أنّه أهل لهذا المقام . والله أعلم حيث يجعل رسالته ـ وأعلن في هذه أنّه على خُلُقٍ عظيم . وأعلن في الأخرى أنّه ـ جلّ شأنه وتقدّست ذاته وصفاته ـ يُصلّي عليه هو وملائكته { إنّ الله وملائكته يُصَلّون على النبيّ يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما }
وهو ـ جلّ شأنه ـ وحده القادر على أن يهب عبدا من عباده ذلك الفضل العظيم .[ . انتهى كلام سيّد رحمه الله .
وعن أنس - رضي الله عنه - عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال : " يَسِّروا ولا تُعَسّروا ، وبَشِّروا ولا تُنَفِّروا " . متفق عليه .(1/18)
وعن جابر - رضي الله عنه - أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنّ من أحبِّكم إليَّ وأقربِكم مني مجلِسا يوم القيامة أحاسِنَكُم أخلاقا ... " الحديث . رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أكملُ المؤمنين إيمانا أحسنُهم خُلُقا ، وخياركم خياركم لنسائهم " . رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح .
كان الحِلْم والاحتمال ، والعفو عند المقدرة ، والصبر على المكاره ، صفات أدّبه الله عليها . فما زاد مع كثرة الأذى إلاّ صبرا ، وعلى إسراف الجاهل إلا حِلْما .
وكان - صلى الله عليه وسلم - جمّ الحياء ، وكان أشدّ الناس حياءً وإغضاء . فقد كان خلقه القرآن . عن أمّ المؤمنين الصِدِّيقة بنت الصِدِّيق عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت : " ... كان خُلُقُ نبيِّ الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن . رواه سلم .
إنّه الخُلُق القرآنيّ الكريم في أبهى صوره ، وأكمل صفاته ، وأعلى منازله .
فدينه الإسلام خُلُقه الحياء . وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر الناس حياء . عن أبي سعيد الخُدرِيّ - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشدَّ حياءً من العذراء في خِدْرها ، وكان إذا كَرِهَ شيئا ، عرفناه في وجهه . صحيح مسلم . فلم يُعهد عنه أبدا فحش ولا بذاءة .
وكان - صلى الله عليه وسلم - دائم البِشْر ، وإذا رضي انطَلَقَتْ أساريرُ وجهه ، وتبيّن رضاه . وكان كثير التبسّم ( وكان أكثر ضحكه تبسّما ) ، سهل الخُلُق ، ليّن الجانب . ليس بفظٍّ ولا غليظ ولا صخّاب ( الصخب : عُلُوّ الصوت وارتفاعه من غير حاجة ) ولا فحّاش .
ولا يُؤيِسُ منه راجيه ، ومن سأله حاجة ردّه بها أو بميسورٍ من القول . يقبل الهديّة ويثيب عليها ، ولا يأكل الصدقة هو ولا أهل بيته . لا يجزي بالسيّئة السيّئة ، ولكن يعفو ويصفح .(1/19)
أبعد الناس عن الغضب ، وأسرعهم رضا . يتقي الغضبَ جهده ، وما غضب لنفْسه قطّ ، وإنّما يغضب إذا انتهكت حرمات الله ، فلا يقوم لغضبه عندها شيء .
عن أمّ المؤمنين الصِدِّيقة بنت الصِدِّيق عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت : .. وما انتقمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِنَفْسِهِ في شيءِ قطُّ ، إلاّ أنْ تُنتَهكَ حُرْمَةُ الله ، فينتَقِمَ لله تعالى . متفق عليه .
كان - صلى الله عليه وسلم - قريبا من الناس ، وهو خير الناس للناس ، يُكْرم كريم كلّ قوم ، ويُوَلّيه عليهم . وكان خير الخلق لأهله .
يلتفت فيلتفت كلّه جميعا ، ويشير فيشير بكفّه كلّها .
وكان أعدل الناس ، وأوفاهم بالعهود ، وأعفّهم ، وأوصلهم للرحم ، وأعظمهم أمانة . فقد طلبَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عند هجرته من علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن يبقى بعده لأداء الودائع التي كانت في بيت النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابها . حيث لم يجدوا من هو مثله أمانة وصِدْقا ، فكانوا ـ مع عداوتهم له ـ لا يضعون حوائجهم وأموالهم التي يخافون عليها إلاّ عنده ! .
وكان - صلى الله عليه وسلم - من أقلّ الناس كلاما ، ومن أحسنهم فعالا . ولكنّه إذا تكلّم نطق قلبه ، وإذا عمل نطقت جوارحه . وكان أحبّ العمل إليه أدومه . وقد ترك نفسه من الرياء ، ومن الإكثار ، ومما لا يعنيه . ولا يذُمّ أحدا ، ولا يُعيّره ، ولا يطلب عورته ، ولا يتكلم إلا بخير وفيما يرجى ثوابه .(1/20)
مجلسه مجلس عِلْم وحِلْم ، وفِكر وذكر ، وحياء وأمانة وصبر. ولا يقوم ولا يجلس إلاّ على ذكر الله مولاه - سبحانه وتعالى - . قال خارجة بن زيد - رضي الله عنه - : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أوقر الناس في مجلسه ، لا يكاد يخرج شيئا من أطرافه ( يستفاد من ذلك أن لا يمُدّ أحدنا رجليه بين الناس ، ويتأكّد ذلك في المساجد ، وباتجاه القبلة خاصّة . وكذلك من يجلس على كرسيّ ويثني رجله على الأخرى ، أن لا يجعل بطن قدمه المرفوعة في وجه من يجالسه ) . لا يتميّز من جلسائه ، وإذا أتى الغريبُ يسأل : أيّكم محمد ؟! . ويشعر كلّ واحد من جلسائه أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخصّه بالاهتمام .
وكان إذا مسّ أحدا أحسَّ بطمأنينة ورَوْحٍ عجيب .
كان يتفكّه ويمزح ويُداعب أصحابه ، وكان مزاحه آية من آيات النُبُوّة ، فكان يُمازح أصحابه ولكن لا يقول إلاّ حقّا .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قالوا : يا رسولَ الله إنّكَ تُداعِبُنا . قال - صلى الله عليه وسلم - : " نَعَمْ . غَيْرَ أنّي لا أقولُ إلاّ حَقَّا " . الترمذي وأحمد وابن السني .
وكان - صلى الله عليه وسلم - أحرص الناس على جبر القلوب ، وتطييب الخواطر ، وتوخّي المؤاساة ، واجتناب الإساءة . يتفقدّ أصحابَه كبارا وصِغارا ويسأل عنهم ، فلا يحسب أحدهم أنّ أحدا منهم أكرم عليه منه .
وإذا استوقفه أحد لحاجة ، لا ينصرف - صلى الله عليه وسلم - حتى ينصرف صاحبه .
وكان - صلى الله عليه وسلم - يبادر من لقيه بالسلام والمصافحة ، ويُقْبِل عليه بوجهه جميعا ، ويكون آخر من ينزع يده من يد صاحبه . ويمرّ بالصِبْيَان والنساء فيُلوّح بيده ويقرئهم السلام . روى البخاري عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ على صِبْيَانٍ يَلْعَبُون فسَلَّمَ عليهم . ورواه مسلم من وجه آخر .(1/21)
وكان - صلى الله عليه وسلم - خافض الطرف ، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء ، وجُلّ نظره التفكر والملاحظة . ولا يثبت نظره في وجه أحد . ولا يُشافه أحدا بما يكره ـ حياء وكرم نفس ـ بل يقول : " ما بالُ أقوامٍ يَصْنَعُونَ كذا ؟! ، أو يقول : ما بالُ أقوام يقولون كذا ؟! " .
يسوق أصحابه ( يقدمّهم بين يديه ) ويمشي خلفهم . عن جابر - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله يتَخلَّفُ في المسير ، فيُزْجي الضعيفَ ، ويُرْدِفُ ، ويدعو له . رواه أبو داود بإسناد حسن . ( يزجي : يسوق الضعيف ليلحق برفاقه ) .
حقّا : إنّها أخلاق القرآن ... إنّها أخلاق النُبُوّة .
إنّه - صلى الله عليه وسلم - بُعِثَ لِيُتَمّم مكارم الأخلاق بذاته وبسلوكه ، وبقوله وبرسالته . ولقد حقق النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - تعاليم القرآن بذاته ، وطبّقها على مجتمعه ، على أكمل صورة يمكن أن يصل إليها مجتمع بشريّ . ( ولولا ذلك لوجد من يقول : إنّ تعاليم الإسلام العظيم ، مجردّ مبادئ نظريّة ، يستحيل تطبيقها على أرض الواقع ) .
ولقد زكاه مولاه عن الضلال والغواية ، فقال - سبحانه وتعالى - : { ما ضل صاحبكم وما غوى } . النجم : 2 .
وزكى لسانَه ، فقال - سبحانه وتعالى - : { وما ينطق عن الهوى } . النجم : 3 .
وزكى فؤادَه ، فقال - سبحانه وتعالى - : { ما كذب الفؤاد ما رأى } . النجم : 11 .
وزكى بصرَه بقوله - سبحانه وتعالى - : { ما زاغ البصر وما طغى } . النجم : 17 .
وزكى ربُه عقلَه ، فقال - سبحانه وتعالى - : { وما صاحبكم بمجنون } . التكوير : 22 .
وزكاه عن القطيعة والهجران ، فقال - سبحانه وتعالى - : { ما ودعك ربك وما قلى } . الضحى : 3 .
- - - - -
صفاته الأساسيّة ، وحياته العمليّة - صلى الله عليه وسلم -
وأما صفاته الأساسيّة ، وحياته العمليّة ، فحدّث عن البحر ولا حرج .(1/22)
فقد كان - صلى الله عليه وسلم - مستكملا للصفات التي لا غنى عنها لصاحب كل رسالة في إنجاح رسالته العظيمة .
حيث استوفى شمائل الوسامة والمحبّة والمهابة والعطف على الناس ، فكان على ما يختاره واصفوه ومحبّوه ، وكان نِعم المُسمّى بالمختار .
فقد كانت له فصاحة اللسان واللغة . فهو صاحب كلام سليم في منطق سليم . وكانت له مع الفصاحة صباحة ودماثة ، تحببانه إلى كلّ من رآه ، وتجمعان إليه قلوب كلّ من عاشروه .
فكان - صلى الله عليه وسلم - مُحبّا لأصحابه وأهلا لحبّهم إيّاه . فقد تمّت له أداة الحُبّ من طرفيها .
وإنّما تتمّ الصداقة بالعاطفة الحيّة ، والذوق السليم ، والخلق الرفيع المتين . وقد كان نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في تلكم الخصال مثلا عاليا بين صفوة الخلق أجمعين .
فعن صِدقه وأمانته ، يكفيه أنّه عُرف بين قومه ـ حتى قبل البِعْثة ـ بالصادق الأمين .
وعرف عنه ثقته بربّه - سبحانه وتعالى - ، وسلامة دعوته ، والتزامه بتطبيق ما يدعو إليه ( أمرا ، أو نهيا ) . وقيامه بتبليغ دعوة الله تعالى كاملة غير منقوصة ، على أكمل وجه وأتمّه .
وامتاز - صلى الله عليه وسلم - بعقله العظيم ، وفطنته الفذّة . وكان قُدوة في صبره ، ورحمته ، وحِلْمه ، وتواضعه ، وتيسيره ، وبُعد نظره ، وكرمه ، وشجاعته .
وهو أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان ، فلهو أجود من الريح المرسلة . قال عنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : ما رأيت أشجعَ ولا أجود ولا أضوأ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجودَ الناس ، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريلُ ، وكان يلقاه جبريل في كلّ ليلة من رمضان فيُدارسُه القرآنَ ، فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يلقاه جبريل أجودُ من الريح المُرْسَلَة . متفق عليه .(1/23)
وعن جابر - رضي الله عنه - قال : ما سُئِلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - شيئا قَطُّ فقال : لا . متفق عليه .
وكان - صلى الله عليه وسلم - أنموذجا يحتذى في الأمور الدَعَويّة ( قولا وفعلا ) ، والاجتماعيّة ( زوجا ، وأبَاً ، و ضيفا ، ومُضيفا ، و ... ) ، وبراعته العسكريّة والسياسيّة ( تخطيطا ، وإعدادا ، وتنفيذا ، واستباقا للأحداث ... ) . ومثالا للقائد الذي يستوعب أتباعه تربية ، وتنظيما ، وتسييرا ، ورعاية ، ومشورة ( وشاوِرْهم في الأمر ) ، ويوظّف إمكاناتهم وقدراتهم أحسن توظيف في خدمة الدعوة وأهدافها . ويحسن التعامل مع المشكلات الطارئة . فاكتسب ثقتهم وطاعتهم المطلقة .
ولذلك ؛ كان الصحابة رضي الله عنهم ؛ من أشدّ الناس حُبّا للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، ومن أحرص الناس على طاعته ، وأسرعهم إليها ، وأنشطهم فيها ، وأصبرهم عليها . فأحبُّوا ما أحبّ ، وكَرِهوا ما كَرِه . وقدّموا من أجل ذلك الغالي والنفيس ، ولهم في ذلك القِدْح المُعَلّى ، والنصيب الأوفى ، إلى يوم الدين . فوصل بهم ومعهم إلى الكمال في تبليغ دعوة الله تعالى ، وانتصر ، وأسس دولة الإسلام العظيم الخالد ، وصنع من أتباعه وأصحابه أعظم جيل ، وكانت أمته خير أمّة أخرجت للناس . قال - سبحانه وتعالى - : { كُنْتم خيرَ أمّةٍ أُخْرِجَت للناسِ تأمرونَ بالمعروف وتَنْهَوْن عن المُنْكر وتُؤْمِنون بالله ... } . آل عمران : 110 .
كان - صلى الله عليه وسلم - مؤيّدا من الله - سبحانه وتعالى - بالوحي . وكان لهذا التأييد أثرٌ حاسم في توفيقه بشيرا ونذيرا ، ومُشرّعا وقاضيا ، وسياسيّا وإداريّا ، وقائدا وحاكما ، ومُربيا ومُعلّما ، وبَشرا وإنسانا .
لقد كان - صلى الله عليه وسلم - في قِمّة القمم تساميا على الذات ، واهتماما بأمر المسلمين ، وإخلاصا لدعوتهم ومصالحهم العليا ، وحِرْصا على هدايتهم .(1/24)
وجُمِع له - صلى الله عليه وسلم - أخذه بالحسنى ( لِيُقْتَدى به ) ، وتركه القبيح ( ليُتَناهى عنه ) ، واجتهاده الرأي فيما يُصلح أمتّه ، والقيام لهم فيما جمع لهم أمر الدنيا والآخرة .
لذلك خرج في مدرسته القمم من جميع الكفاءات والقابليات لمختلف المناصب والواجبات .
ولقد جاء - صلى الله عليه وسلم - برسالة ربّانيّة المصدر ، واقعيّة ، عالميّة ، إنسانيّة ، شاملة ، كاملة .
واستطاع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعون من الله وتوفيقه بناء الإنسان المسلم على دعائم ثلاث :
1. المبدأ السديد : عقيدة مُنشئة بنّاءة ، هي الحقّ في كلّ زمان ومكان ، تقوم عليها شريعة لا يصلح للإنسان غيرها ، عالجت أمر الدنيا والآخرة ، وفصلت القول في علاقة العبد بخالقه ، وعلاقته بنفسه ، وعلاقة الخلق بعضهم ببعض .
2. والقدوة الحسنة : فكان - صلى الله عليه وسلم - يُمثّل تعاليم الإسلام العظيم ( في أوامره ونواهيه ) وكأنّها تمشي على الأرض بَشراً سويّا .
3. واختيار الرجل المناسب للعمل المناسب ، والتنويه بمزاياه ، والغضّ عن النقائص ، ومحاولة تقويمها وتلافي محاذيرها . يبني المسلم ولا يحطمه ، ويُقوّم المعوجّ ولا يكسره ، ويُشيّد للحاضر والمستقبل . وكانت له القدرة على تأليف القلوب وجمع الثقة . وكان جامعا للمحبّة والثقة جميعا .
- - - - -
جهاده - صلى الله عليه وسلم - .
من أراد أن يتعرّف على حياة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - الجهاديّة ، فلينظر في سِفْر الإسلام الخالد الذي صنعه وبناه ذلك النبيّ العظيم - صلى الله عليه وسلم - ، ولْيتفحّص حياتَه - صلى الله عليه وسلم - ، فسيجدها جهادا كلّها . فما وهنت له عزيمة ، ولا لانت له قناة ، منذ بعثه الله - سبحانه وتعالى - ، إلى أن لحق - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى - سبحانه وتعالى - .(1/25)
فبراعته العسكريّة : في الإعداد والاستعداد ، وأخْذٍ بكلّ مقوّمات النصر المادّية والمعنويّة ، من تنظيم للجيش ، وحسن الاستطلاع ، والكتمان ، والسريّة ، والمباغتة ، واجتناب المهالك ، وعدم التعرض للأبرياء والضعفاء ، والقدوة الحسنة : في بذل ماله ونفسه وأقربائه ... كلّ ذلك وغيره ، نلمسه واضحا جليّا في غزواته وسراياه - صلى الله عليه وسلم - .
نلمس ذلك في بدر الكبرى ( أوّل غزوة شارك فيها بنفسه - صلى الله عليه وسلم - ) ، مرورا بغزوة بني قينقاع ، وأحد ، ثم بني النضير ، وذات الرقاع ، وبني المصطلق ، والخندق ( الأحزاب ) ، وبني قريظة ، والحديبية ، وخيبر ، وفتح مكّة ، وحنين ، وتبوك ( آخر غزوة شارك فيها بنفسه - صلى الله عليه وسلم - ) . هذا فضلا عن السرايا الكثيرة جدّا التي سيّرها ، والبعوث العديدة التي بعثها ، خلال السنوات القليلة التي عاشها - صلى الله عليه وسلم - في المدينة المُنوّرة . ( في كتاب السيرة النبوية لابن هشام : كان جميع ما غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه سبعا وعشرين غزوة . وكانت بعوثه - صلى الله عليه وسلم - وسراياه ثمانيا وثلاثين / من بين بَعْثٍ وَسَرِيَّة . ) .
ولو أحصينا عدد القتلى ( المسلمين وغيرهم ) في جميع تلك المعارك ، لوجدناها في حدّها الأدنى .
بل كان - صلى الله عليه وسلم - يميل دائما إلى حقن الدماء ، وتحقيق أهدافه في معاركه ، بأقل عدد من القتلى .
قال - صلى الله عليه وسلم - لأمراء الجيش الذي أرسله إلى مؤتة : " اغزُوا بسم الله ، في سبيل الله ، منْ كَفَرَ بالله ، لا تغدروا ، ولا تغُلُّوا ، ولا تقْتُلوا ولِيْدا ولا امرأة ، ولا كبيرا فانيا ، ولا مُنْعَزِلا بصومعة ، ولا تقطعوا نخلا ولا شجرة ، ولا تهدموا بناء " .
- - - - -
شجاعته - صلى الله عليه وسلم - ورباطة جأشه(1/26)
فكان - صلى الله عليه وسلم - أشجع الناس . حضر المواقف الصعبة ، وفرّ عنه الكُماة والأبطالُ غير مرّة ، وهو ثابت لا يبرح ، مُقْبِل على العدوّ لا يتزحزح . قال عنه أشجع الشجعان ومجندل الفرسان علي بن أبى طالب - رضي الله عنه - : كنّا إذا حمي الوطيس واحمرّت الحِدَقُ نتقي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو أقربنا إلى العدو .
وعن أنس - رضي الله عنه - قال : كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أجمل الناس ، ومن أجود الناس ، ومن أشجع الناس . رواه البخاري .
وروى ابن كثير في تفسيره خبر غزوة حنين ، ثم قال : قلت : وهذا في غاية ما يكون من الشجاعة التامّة . إنّه في مثل هذا اليوم ، في حومة الوغى ، وقد انكشف عنه جيشه ، وهو مع هذا على بغلة ، وليست سريعة الجري ولا تصلح لِفرّ ولا لِكَرٍّ ولا لهرب . وهو - صلى الله عليه وسلم - مع هذا يُرْكضها إلى وجوههم ( إلى وجوه الأعداء ) ويُنادي باسمه ( أنا النبيّ لا كَذِبْ أنا ابن عبد المُطّلب ) ليعرفه من لم يعرفه ... وما هذا كلّه إلاّ ثقة بالله ، وتوكّلا عليه وعلما بأنّه سينصره ويتمّ ما أرسله به . ويظهر دينه على سائر الأديان .
- - - - -
تواضعه ويُسْرُه - صلى الله عليه وسلم -
كان التواضع والتياسر صفتين بارزتين في طبع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - . فكان - صلى الله عليه وسلم - أشدّ الناس تواضعا ، وأبعدهم عن الكبر ، ينهى الناس عن القيام له كما يقومون للملوك والأمراء . وكان يجالس المساكين والفقراء . ويجلس في أصحابه كأحدهم ، ويجلس حيث انتهى به المجلس ، ويكون صدر المجلس حيث يجلس .
وكان - صلى الله عليه وسلم - سهلا هيّنا ، يلقى أبعدَ الناسِ وأقرَبهم ، وأصحابه وأعداءه ، وأهل بيته ، والوفود ، بلا تصنّع ولا تكلّف . وكان يكره الإطراء والألقاب .
وكان - صلى الله عليه وسلم - متواضعا في ملبسه وسكنه . ونهى عن التكبّر ، كما نهى عن سوء الأدب .(1/27)
ومعلوم زهادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كنوز الأرض حين عرضت عليه فأباها ، وقال : أجوع يوما وأشبع يوما . وأنه كان له ثلاث عشرة زوجة يَمْضِي عليهنّ الشهر والشهران لا توقد عندهن نار ولا مصباح ؛ إنما هو الأسودان : التمر والماء . وربما ربط على بطنه الحجر والحجرين من الجوع . وما شبعوا من خبز بُرٍّ ثلاث ليال تباعا .
وكان فراشه من أدْمٍ ( جلد ) حشوه ليف . وربما اعتقل الشاة فيحلبها ؛ ورقع ثوبه ، وخصف نعله ( أصلحه ) بيده الكريمة . هذا وكم آثر بآلاف مؤلفة من الإبل والشاء والغنائم والهدايا على نفسه وأهله للفقراء والمحاويج والأرامل والأيتام والأسرى والمساكين والمؤلّفة قلوبهم .
عن عياض بن حِمَارٍ - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنّ اللهَ أوحى إلَيَّ أنْ تَواضَعُوا ، حتّى لا يفْخَرَ أحَدٌ على أحَدٍ ، ولا يَبْغِي أحَدٌ على أحَدٍ " . رواه مسلم .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مالٍ ، وما زادَ اللهُ عَبْداً بِعَفْوٍ إلاّ عِزّا ، وما تَواضَعَ أحَدٌ للهِ إلاّ رَفَعَهُ الله " . رواه مسلم .
وعن عبد الله بن بُسْرٍ - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ... إنَّ اللهَ جعلَني عبدا كريما ، ولمْ يجعلني جبّارا عنيدا " . رواه أبو داود بإسنادٍ جيّد .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " انْظُرُوا إلى من هو أسْفَلَ منكم ، ولا تنظروا إلى من هو فوقَكُم , فهو أجْدَرُ ألاّ تَزْدَرُوا نِعْمة الله عليكم " . متفق عليه . وهذا لفظ مسلم . وفي رواية البخاري : " إذا نظر أحَدُكُم إلى من فُضِّلَ عليْه في المال والخَلْقِ فلْيَنْظُر إلى من هو أسْفَلَ منه " .(1/28)
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : نامَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حَصِيْرٍ فقام وقد أثّر في جنبه ، قلنا : يا رسول الله لو اتَّخَذْنا لك وِطَاءً . فقال : " مالي وللدنيا ؟ ما أنا في الدنيا إلاّ كرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تحتَ شجرةٍ ثمَّ راحَ وتَرَكَها " . رواه الترمذيُّ وقال : حديث حسنٌ صَحيح . ( وطاء : أي فِرَاشا وطيئا تستريح عليه ) .
ولننظر إليه - صلى الله عليه وسلم - وهو على مشارف مكّة فاتحا ، فنراه وهو يقرأ سورة الفتح ، يُرجّع في تلاوته ، مستغرقا في حالة من العُبوديّة التامّة لله ، وكان يضع رأسه تواضعا لله الذي أكرمه بالفتح والنصر المبين . وما كان لِنشوة النصر والظَفَر العظيم إلى نفسه من سبيل ، ولم يكن شيء من التعاظم أو التجبّر ليستولي على شيء من مشاعره .
ثمّ نراه - صلى الله عليه وسلم - في مشهد آخر ، في مرض وفاته ، وقد اختار الرفيقَ الأعلى - سبحانه وتعالى - على الخلود في هذه الدنيا ، وهو يوصي أمتّه ويودّعها . ولكنه يريد أن يخرج من الدنيا وليس لأحد من خلْق الله عليه شيء .
فمّما قاله - صلى الله عليه وسلم - : " من كنتُ جلدتُ له ظَهْرَا فهذا ظهري فلْيَسْتَقِد منه ، ومن كنتُ شتمتُ له عِرْضا فهذا عِرْضي فليستقد منه " . يقول - صلى الله عليه وسلم - هذا القول ، وهو الذي ما عُهد عنه أنّه ضرب إنسانا أو حيوانا ، إلا أن يكون جهادا في سبيل الله - سبحانه وتعالى - .
وعن أنس - رضي الله عنه - قال : إنْ كانتِ الأمةُ من إماء المدينة لتأخُذُ بيد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فتنطلقُ به حيث شاءت ! . رواه البخاري . ( وذلك دليل على تواضع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولِيْن جانبه ، وحرصه - صلى الله عليه وسلم - على قضاء حاجات الناس ) .
- - - - -
صلاته - صلى الله عليه وسلم -(1/29)
كان أخفّ الناس صلاة على الناس . عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا صلى أحدُكم للناس فليخفف ، فإنّ فيهمُ الضعيفَ والسقيم والكبير ، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليُطوِّل ما شاء " . متفق عليه . وفي رواية : " وذا الحاجة " .
ولربما دخل في الصلاة وهو ينوي الإطالة ، فيسمع بكاء صبيٍّ ، فيخفف من صلاته رحمة بأمّه . عن أبي قَتَادة ( الحارث بن ربعي ) - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنّي لأقوم إلى الصلاة ، وأريد أن أُطوّل فيها ، فأسمع بكاء الصبيّ ، فأتجوّز في صلاتي كراهية أن أشقّ على أمّه " . رواه البخاري .
وكان أطول الناس صلاة لنفسه ، وإذا حَزَبه أمرٌ فَزِع إلى الصلاة .
عن أمّ المؤمنين الصِدِّيقة بنت الصِدِّيق عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت : إنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم من الليل حتى تتفطّر قدماه . فقلتُ له : لِمَ تصنعُ هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر ؟! قال : " أفلا أحبُّ أن أكونَ عبدا شكورا " . متفق عليه . كيف لا ، وهو القائل - صلى الله عليه وسلم - : " وجُعِلَت قُرّة عيني في الصلاة " .
- - - - -
فصل في قربه - صلى الله عليه وسلم - من أصحابه وتفقده لهم .(1/30)
قال ابن اسحاق : حَدّثني وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، قال : خرجتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوة ذات الرقاع من نخل على جمل لي ضعيف ، فلمّا قَفَلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : جعلتِ الرفاقُ تمضي ، وجعلتُ أتخلّف ، حتى أدركني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : مالَكَ يا جابر ؟! ، قال : قلتُ : يا رسول الله ، أبطأ بي جملي هذا ، قال : أنِخْهُ ، قال : فأنخته ، وأناخ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ ثمّ قال : أعطني هذه العصا من يدك ، أو اقطع لي عصا من شجرة ، قال : ففعلتُ . قال : فأخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنَخَسَه بها نَخساتٍ ؛ ثم قال : اركبْ ، فركبتُ ، فخرج ؛ والذي بعثه بالحقّ ، يواهق ناقَتَهُ مواهقة ( يعارضها في المشي لسرعته / وكانت ناقةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واسمها العَضْبَاءُ لا تُسْبَقُ أو لا تكادُ تُسْبٌق ) .
قال : وتحدّثتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لي : أتبيعني جملك هذا يا جابر ؟ قال : قلتُ يا رسول الله ؛ بل أهبَه لك ( اُنْظُرْ حُسْن أدب الصحابة مع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ) ، قال : لا ، ولكن ؛ بِعْنيه ؛ قال : قلتُ : فسُمْنيه يا رسول الله ؛ قال : قد أخذْتُه بدرهم . قال : قلتُ : لا ؛ إذن تغبِنَني يا رسول الله ! قال : فبدرهمين ؟ قال : قلتُ : لا . قال : فلم يزل يرفع لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثمنه حتى بلغ الأوقيّة . قال : فقلتُ : أَفَقَدْ رضيتَ يا رسول الله ؟! قال : نَعَمْ ؛ قلتُ : فهو لك ؛ قال : قدْ أخذْتُه .(1/31)
قال : ثمّ قال : يا جابر ؛ هل تزوّجتَ بعدُ ؟ قال : قلتُ : نعم يا رسول الله ؛ قال : أثَيِّبا أم بِكْرا ؟ قال قلتُ : لا ؛ بل ثيّبا . قال : أفلا جارية تُلاعبها وتلاعبك ! قال : قلتُ : يا رسول الله ، إنّ أبي أصيب يوم أُحُدٍ وترك بنات له سَبْعَا ، فنَكَحْتُ امرأة جامعة ؛ تجمع رؤوسهنّ وتقوم عليهنّ ؛ قال : أصبتَ إن شاء الله . أما إنّا لو قدْ جِئنا صِرَارا ( موضع على ثلاثة أميال من المدينة ) أمَرْنا بجزور فنُحِرَت وأقمنا عليها يومنا ذاك ، وسَمِعَتْ بنا فَنَفَضَتْ نمارِقَها ( جمع نمرقة : الوسادة الصغيرة ) . قال : قلت : واللهِ يا رسول الله ما لنا من نمارق ؛ قال : إنّها ستكون ؛ فإذا أنت قَدِمْتَ فاعمل عملا كيّسا .
قال : فلمّا جئنا صرارا ؛ أمَرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجزور فنُحِرَت ، وأقمنا عليها ذلك اليوم . فلمّا أمسى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخَلَ ودَخَلْنَا . قال : فحدّثتُ المرأةَ الحديثَ ، وما قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ قالت : فدُونك ؛ فسمع وطاعة . قال : فلمّا أصبحتُ أخذتُ برأس الجمل ، فأقبلتُ به حتّى أنخته على باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ قال : ثمّ جلستُ في المسجد قريبا منه . قال : وخَرَجَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فرأى الجملَ ، فقال : ما هذا ؟! قالوا : يا رسول الله ؛ هذا جملٌ جاء به جابر . قال : فأين جابر؟ قال : فدُعِيتُ له ؛ قال : فقال : يا بن أخي ؛ خُذْ برأس جملك ، فهو لك . ودَعَا بلالا ؛ فقال له : اذهب بجابر ؛ فأعطه أوقيّة . قال : فذهبتُ معه ؛ فأعطاني أوقيّة ، وزادني شيئا يسيرا . قال : فوالله ما زال يَنْمِي عندي ، ويُرى مكانه من بيتنا .
وعن أنس - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خُلُقَا .(1/32)
وعنه - رضي الله عنه - قال : إنْ كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لَيُخالِطُنا ؛ حتّى يقول لأخٍ لي صغيرٍ : " يا أبا عُمَيْرٍ ما فَعَلَ النُغَيْرُ ؟ " . البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه . ( النغير : طائر يشبه العصفور أحمر المنقار ) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " يا أبا عمير ما فعل النغير " يُذكّره بموت نغير كان يلعب به ، كما جرت به عادة الناس من المداعبة مع الأطفال الصغار .
وعنه - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله إذا صَلّى الغداة ، جاء خَدَمُ المدينة بآنيتهم فيها الماء ، فما يُؤْتَى بإناءٍ إلاّ غَمَسَ يَدَهُ فيها ؛ فرُبَّما جَاؤوه في الغَدَاةِ الباردة ، فيغْمِسُ يدَهُ فيها . صحيح مسلم .
- - - - -
نماذج من رحمته - صلى الله عليه وسلم -
? قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ " . متفق عليه . وقال - صلى الله عليه وسلم - : " من لا يَرْحَمِ الناسَ لا يَرْحَمْهُ الله " . متفق عليه .
? عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " عُذِّبتْ امرأةٌ في هِرَّةٍ حبَسَتْها حتى ماتت ، فدخلت فيها النار ، لا هي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها ، ولا هي تركتها تأكل من خَشَاش الأرض " . متفق عليه .
? وعنه - رضي الله عنه - قال : " إنَّ رسول الله لَعَنَ من اتَّخَذَ شيئا فيه الروح غَرَضا " . متفق عليه . ( الغرض : الهدف والشيء الذي يُرمى إليه ) .(1/33)
? عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : كُنّا معَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سَفَر ، فانطَلَقَ لِحَاجَتِه ، فرأينا حُمَّرَةً معها فَرْخان ، فأخَذْنا فَرْخَيْها ، فجعلت الحمّرةُ تَعْرِشُ ، فجاء النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقال : " منْ فَجَعَ هذه بِوَلَدِها ؟ رُدُّوا وَلَدَها إليها " . ورأى قرية نَمْلٍ قدْ حَرَّقْناها . فقال : " من حرّق هذه ؟ " قلنا : نحن . قال : " إنَّهُ لا ينبغي أنْ يُعَذِّبَ بالنار إلاّ ربُّ النار " . رواه أبو داود بإسناد صحيح . ( حمّرة : طائر صغير كالعصفور تعرش : تخفق بجناحيها من الحزن ، والتعريش : نوع من الطيران ) .
? عن أمّ المؤمنين الصِدِّيقة بنت الصِدِّيق عائشة رضي الله عنها وعن أبيها أنها قالت للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - : هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ قال : لقد لقيتُ من قومك ؛ وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ( وذلك يوم ذهب إلى الطائف ، ليدعوا ثقيفا إلى الإسلام ، فأعرضوا عنه ، وأغروا به بعض صبيانهم وسفهائهم ، فرموه بالحجارة حتّى سال الدم من عقبيه الشريفتين ) ؛ إذ عَرَضْتُ نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردتُ ، فانطلقتُ وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق إلاّ وأنا بقرن الثعالب ، فرفعتُ رأسي ؛ فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرتُ فإذا فيها جبريل ، فناداني ؛ فقال : إنّ اللهَ قد سمع قولَ قومك لك ؛ وما رَدُّوا به عليك ، وقد بعثَ لكَ ملك الجبال لتأمرَه بما شئتَ فيهم . فناداني ملك الجبال ؛ فسَلَّمَ عَلَيَّ ؛ ثم قال : يا محمد ، فقال ذلك ، فما شئت ، إنْ شئتَ أن أُطْبِقَ عليهم الأخشبين . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : بل أرجو أن يُخْرِجَ اللهُ من أصلابهم من يعبد اللهَ وحده ولا يشرك به شيئا . القصّة في صحيحي البخاري ومسلم . ( الأخشبان : جبلان يحيطان بمكّة المكرمة ، وإطباق الملك للأخشبين بعني هلاك أهل مكّة ) .
- - - - -(1/34)
فصل في بعض معجزاته - صلى الله عليه وسلم -
إنّنا نؤمن بخرق الله للعادة ، بالنسبة للأنبياء أوّلاً ( المُعجِزات ) ، وللأولياء ثانيا ( الكرامات ) . ولا مناص من أن نؤمن بالمعجزات لرسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - ، حينما تَرِدُ في القرآن الكريم ، أو السنّة الصحيحة المُطهّرة . وما من معجزة كانت في الأمم السابقة ، إلا أعطي رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمّتُه مِثْلَهَا أو أفضل .
ألا وإنّ أعظم مُعجزات النبيّ - صلى الله عليه وسلم - هو القرآن الكريم ، الذي تكفّل الله - سبحانه وتعالى - بحفظه . كتاب الله الذي لا تنقضي عجائبه ، ولا يَخلق على كثرة الردّ ، وفيه خبر من قبلنا ، ونبأ مَن بعدنا ، وفيه ذكر لنا . معجزة دائمة مستمرة : إعجازا لُغويّا ، وإعجازا علميّا ، وإعجازا تشريعيّا بهر ولا يزال ؛ علماءَ القانون ، والاجتماع ، والاقتصاد ، والسياسة ، وغيرهم ، بأسراره التشريعيّة العظمى ، وإعجازا غيبيّا مستقبليّا ؛ ولا غرو ، أنّه لم تكتشف حقيقة علمية ( حقيقة وليس نظريّة ) فكانت تخالف أو تصادم ما جاء في القرآن الكريم أو السُنّة المُطهّرة . بل كان الكثير من آيات القرآن الكريم ، أو أحاديث النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، سببا مباشرا في إسلام العدد الكثير من علماء عصرنا ، الموسوم بعصر النهضة والاكتشافات العلميّة الفائقة .
ومن بعض معجزاته - صلى الله عليه وسلم - :
? انشقاق القمر . قال - سبحانه وتعالى - : { اقتربت الساعةُ وانشق القمرُ ، وإن يروا آية يُعرِضوا ويقولوا سحر مستمر } . القمر : 1،2. عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : سأل أهلُ مكّة النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - آية ، فانشقّ القمر بمكة مرتين . أخرجه مسلم وأحمد . وعنه في الصحيحين : فأراهم القمرَ شقين حتى رأوا حِراء بينهما .(1/35)
? تسليم الجمادات عليه ( كتسليم الحجر والشجر عليه ) . ففي صحيح مسلم عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنِّي لأَعْرِفُ حَجَرا بمكّة كان يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْل أنْ أُبْعث ، إنّي لأعرفه الآن " .
? الأحاديثُ في نبع الماء من بين أصابعه وتكثيره ، وتكثير الطعام ، في مواطن مختلفة ، وعلى أحوال متغايرة ، وبلغ مجموعها التَوَاتر . ( وذلك كثير جدّا : كما في غزوة الخندق ، والحديبية ، وتبوك ، وغيرها ) .
منها : عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ رضي الله عنهما ، قال : لمّا كانت الليلةُ التي سَبَقَتْ " أُحُداً " دعاني أبي وقال : إنِّي لا أراني إلاّ مقتولا مع أوِّل من يُقْتَلُ مِنْ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنّي ـ والله ـ ما أَدَعُ أَحَدا أَعزَّ عَلَيَّ منك بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وإنّ عَلَيَّ دَيْنَا ، فاقضِ دَيْني ، وارحم أخَواتِكَ واسْتَوْصِ بِهِنّ خيرا .
فلمّا أصبحنا ، كان أبي أوّلَ قتيل قُتِلَ في " أحد " . فلمّا دَفَنْتُهُ أتيتُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقلتُ : يا رسول الله ، إنّ أبي تَرَكَ دَيْنا عليه ... وليْسَ عندي ما أفيه ( أُؤدّيه ) به إلاّ ما يُخْرِجُه ثمرُ نخيله ، ولو عَمَدْتُ إلى وفاء دَينه من ذلك الثمر ، لَمَا أدّيتُه في سنين ... ولا مال لأخواتي أُنْفِقُ عليهنّ منه غيرَ هذا ...
فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومَضَى مَعِيَ إلى بَيْدَرِ تمرنا ، وقال لي : " اُدْعُ غرماءَ أبيكَ " ، فَدَعَوْتُهُمْ ... فما زال يَكِيْلُ لهم منه حتّى أدَّى الله عن أبي دَيْنَه كُلَّه من تمر تلك السنة ... ثمّ إنّي نظرتُ إلى البيدر فوجدته كما هو ... كأنّما لم تنقص منه تمرةٌ واحدة ... ( القصّة مأخوذة من كتاب : صور من حياة الصحابة لمؤلفه : عبد الرحمن رأفت الباشا ) .
وقد وقعت أثناء حفر الخندق آيات من أعلام النُبُوّة . منها :(1/36)
رأى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في النبيّ - صلى الله عليه وسلم - خَمَصَا ( جوعا ) شديدا ، فاستأذن وذهب إلى بيته فذبح بهيمة ، وطَحَنت امرأتُه صاعا من شعير . ثمّ عاد إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، وأسرّ له بالأمر ، وطلب منه أن يأتي في نَفَرٍ من أصحابه ، ( وكيف يأكل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه جياع حوله ؟! ) فنادى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بجميع أهل الخندق ، وكانوا نحوا من ألْف ، فدعا النبيّ - صلى الله عليه وسلم - على الطعام وبارك ، فأكلوا جميعا من ذلك الطعام وشبعوا ، وأطعموا من حولهم من الجيران ، وبقي أصل الطعام كما هو . القصة في صحيح البخاري .
وروى ابن هشام في السيرة : أنّ أختَ النعمان بن بشير - رضي الله عنه - جاءت بحَفْنَة من تَمْرٍ إلى الخندق ليتغدى به أبوه وخاله ، فمَرَّت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فطَلَبَ منها التَمْرَ ، وبَدَّدهُ فوق ثوب ، ثمّ دعا أهل الخندق ، فجعلوا يأكلون والتمرُ يزيدُ ، حتى صدر أهل الخندق عنه ، وإنّه ليسقط من أطراف الثوب .
وعن البراء - رضي الله عنه - قال : لمّا كان يوم الخندق ، عَرَضَتْ لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخُذُ منها المعاول ، فاشتكينا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فجاء وأخذ المعول ، فقال : " بسم الله " ثمّ ضَرَب ضربة ، وقال : " الله أكبر ، أُعطيْتُ مفاتيح الشام ، والله إنّي لأنظر إلى قصورها الحُمْرِ الساعة " ، ثمّ ضرب الثانية فقطع آخر ، فقال : " الله أكبر ، أُعطيْتُ فارس ، والله إنّي لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن " ، ثمّ ضرب الثالثة ، فقال : " بسم الله " ، فقطع بقيّة الحَجَر ، فقال : " الله أكبر ، أُعْطيْتُ مفاتيح اليمن ، والله إنّي لأبصر أبواب صنعاء من مكاني " . الحديث مروي في سنن النسائي ، ومسند أحمد .(1/37)
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : ولقد رأيتُ الماءَ ينبع من بين أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . رواه البخاري . ( أكثر العلماء أن معناه : أنّ الماء كان يخرج من نفس أصابعه - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : يحتمل أنّ الله كَثَّر الماءَ فصار يفور من بين أصابع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ) .
? وفي غزوة تبوك :
قال معاذ بن جبل - رضي الله عنه - : ثمّ غرف ( أي : الرسول - صلى الله عليه وسلم - ) من العَيْن ( عين تبوك ) قليلا قليلا ، حتى اجتمع الوَشْلُ ( القليل من ماء النبع ) ، ثمّ غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه وجهه ويده ، ثمّ أعاده فيها ، فجرت العينُ بماء كثير ، فاستقى الناس . ثمّ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يوشك يا معاذ ، إنْ طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد مُلئ جنانا " . رواه مسلم .
وبعثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد - رضي الله عنه - إلى أُكَيْدَر دُوْمَة الجندل ( أيّام غزوة تبوك ) على رأس مجموعة من فرسان المسلمين ، وقال له : " إنّك ستجده يصيد البقر " . فأتاه خالد ومن معه ، فوجده كما وصف النبيّ - صلى الله عليه وسلم - . فأخذه خالد ، وجاء به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
? في طريقهم إلى خيبر ، كان عامر بن الأكوع - رضي الله عنه - يحدو بين يدي النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " يرحمه الله " . قال رجلٌ من القوم : وَجَبَتْ يا نبيّ الله ؛ لولا أمتعتنا به ! . رواه البخاري . ( وكانوا يعرفون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان يستغفر لإنسان يخصّه إلاّ استشهد ذلك الإنسان . وقد استشهد عامر - رضي الله عنه - في خيبر ) .
? إبراء المرضى :(1/38)
فقد تفل في عين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ( يوم خيبر ) وكانت رمداء ، فبرئت لساعتها بإذن الله ، حتى كأن لم يكن به وجع . رواه البخاري ومسلم . وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : ما رَمدْتُ منذ تَفِلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في عيني . رواه أحمد . وتفل على جرح الصحابي الحارث بن أوس - رضي الله عنه - فبرأ . ( وذلك يوم قَتَلَ كَعْبَ بن الأشرف النضري ، وهو من أشدّ يهود خطرا على الإسلام ، وبعد أن شَبَّبَ بنساء المسلمين ، وتهجّم على مقام النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ) . رواه البخاري .
وعن عبد الله بن عَتِيْك - رضي الله عنه - قال : فحدّثْتُهُ ( حَدَّث النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بخبر قَتْلِ سَلاّمَ بن أبي الحُقَيْق / من أكابر مجرمي يهود خيبر ، والذين حَزَّبُوا الأحزاب ضدّ المسلمين ، وكان يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) ، وأصيب عبد الله - رضي الله عنه - يومها بكَسْرٍ في رجْلِه ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " ابسُط رجلك " فبسطت رجلي ، فمسحها فكأنّما لم أشتَكِها . صحيح البخاري .
? تسبيح الطعام ، وتسبيح الحصى بين يديه - صلى الله عليه وسلم - .
? تكليم بعض الحيوانات له ( كما في حديث الجمل ، والقبّرة ، وغيرها ) .
? استجابة الدُعاء : وذلك كثير مشهور متواتر ، وفي مواطن كثيرة ، وأزمان متعدّدة .
? حنين جذع النخلة . عن جابر - رضي الله عنه - قال : كان جِذْعٌ يقوم إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، يعني في الخُطْبَة ؛ فلمّا وُضع المنبر ، سمعنا للجذع مثلَ صوت العِشَار ، حتى نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فوضع يده عليه فسَكَنَ ! . قال : بَكَتْ على ما كانت تسمع من الذِكر . رواه البخاري .
? الإنباء بالغيب ( الماضي ، والحاضر ، والمستقبل ) . فوقعت كما أخبر عنها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - .(1/39)
قال - سبحانه وتعالى - : { الم * غًلِبت الرومُ * في أدنى الأرض وهم من بعد غَلَبِهم سَيَغْلِبُون * في بِضْع سِنين لله الأمرُ من قبل ومن بعد ويومئذ يفرحُ المؤمنون * بنصر الله ينصُرُ من يشاء وهو العزيزُ الرحيم } . الروم : 1ـ5 . قال عكرمة : لمّا نزلت هذه الآيات ، خرج أبو بكر الصدّيق - رضي الله عنه - إلى الكفّار ، فقال : أفَرِحْتُم بظهور إخوانكم على إخواننا ، فلا تفرحوا ولا يُقرنّ اللهُ أعينَكم ، فوالله ليُظهرنّ اللهُ الرومَ على فارسٍ ، أخبرنا بذلك نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - ... فظهرت الرومُ على فارس في الأجل المُحدّد . ( البضع : مابين الثلاث إلى التسع ) .
وقد تحققت بشارة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لسراقة - رضي الله عنه - أثناء الهجرة النبويّة . وتحققت بشاراته - صلى الله عليه وسلم - التي بَشَّرَ بها أثناء حفر الخندق ، حيث بلغ الإسلام بلاد الشام ، وفارس ، واليمن .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لتَفْتَحُنَّ القُسْطَنْطِيْنِيَّة ، ولنِعْمَ الأميرُ أميرها وَلَنِعْمَ الجيشُ ذلك الجيش " . رواه الإمام أحمد وغيره . وتحققت بشارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بفتح القسطنطينية حيث حاصرها السلطان العثمانيّ محمد الفاتح ( محمد الثاني ) وفُتِحَت المدينة في العشرين من جمادى الأولى سنة 857هـ الموافق لـ 29 من أيار عام 1453م . وأصبحت هذه المدينة عاصمة للدولة العثمانية .
? عناية الله به ، قال - سبحانه وتعالى - : { والله يعصمك من الناس } . المائدة : 67 . وسنتطرق إلى ذلك في فقرة محاولات الاغتيال التي تعرّض لها - صلى الله عليه وسلم - .
- - - - -
فصل في ذكر هلاك المستهزئين بمكة .
ورد في كتاب : دلائل النبوة / للطبراني(1/40)
عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله - سبحانه وتعالى - : { إنّا كَفَيْناك المستهزئين } . قال : المستهزءون : الوليد بن المغيرة ، والأسود بن عبد يغوث الزهري ، والأسود بن المطلب أبو زمعة من بني أسد بن عبدالعزى ، والحارث بن غيطل السهمي ، والعاص بن وائل .
فأتاه جبريل عليه السلام ، فشكاهم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأراه الوليد بن المغيرة ؛ فأومأ جبريل إلى إبجله . فقال : ما صنعت شيئا ! قال : كفيتكه . ثم أراه الحارث بن غيطل السهمي ؛ فأومأ إلى بطنه ، فقال : ما صنعت شيئا ! قال : كفيتكه . ثم أراه العاص بن وائل السهمي ؛ فأومأ إلى أخمصه ، فقال : ما صنعت شيئا ! فقال : كفيتكه .
فأما الوليد بن المغيرة ؛ فمرّ بِرَجُلٍ من خزاعة وهو يريش نبلاً له ، فأصاب إبجله ، فقطعها .
وأما أسود بن المطلب فعمي ؛ وذلك أنه نزل تحت شجرة فقال : يابني ألا تدفعون !؟ إني قد قُتِلْتُ . فجعلوا يقولون : ما نرى شيئا . فجعل يقول : يا بني ألا تدفعون عني !؟ هلكتُ بالشوك في عيني ... فجعلوا يقولون : ما نرى شيئا ... فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه .
وأما الأسود بن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها . وأما الحارث بن غيطل فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج من فيه ، فمات منه . وأما العاص بن وائل ، فبينما هو يمشي إذ دخلت في رجله شبرقة حتى امتلأت منها ، فمات .
( قال الطبراني رحمه الله : الأبجل :عرق في اليد . شبرقة : شوكة . امتلأت : انتفخت وورمت . ) .(1/41)
وعن قتادة - رضي الله عنه - قال : قال عتبة بن أبي لهب : كفرتُ بربّ النجم . فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أما تخاف أن يأكلك كلب الله ؟!. قال : فخرج في تجارة ، فبينا هم قد عرسوا ( جلسوا للاستراحة ، قيل قرب الزرقاء في الأردن ) ، إذ سمع صوت الأسد ؛ فقال لأصحابه : إني مأكول ... فأحدقوا به ، وضُرب على أصمختهم ، فناموا ... قال : فجاء الأسدُ حتى أخذه من بينهم ، فما سمعوا إلا صوته وقد قضى عليه .
- - - - -
الرسول - صلى الله عليه وسلم - والوصيّة بالنساء
عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أنا وكَافِلُ اليَتِيمِ في الجنّة هكذا " ؛ وأشار بالسَبَّابة والوُسْطى ؛ وفَرَّجَ بينهما . رواه البخاري . ( كافل اليتيم : القائم بأموره ، اليتيم : الصغير ـ ذَكَرَا كان أو أُنثى ـ الذي مات أبوه ) .
عن أمّ المؤمنين الصِدِّيقة بنت الصِدِّيق عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت : دَخَلَتْ عَلَيَّ امرأةٌ ومعها ابنتان لها تَسْأل ، فلمْ تَجِدْ عندِي شيئا غيرَ تَمْرَةٍ واحدةٍ ، فأعْطَيْتُها إيّاها ، فَقَسَمَتْها بين ابنتيها ولم تأكل منها ، ثمّ قامت فخرجتْ . فدَخَل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْنا ، فأخبَرْتُه ؛ فقال " مَن ابْتُلِيَ مِنْ هذه البناتِ بشيءٍ فَأَحْسَنَ إليْهِنَّ كُنَّ لهُ سِتْرا من النار " . متفق عليه . ( ابتلي : اختبر . أشار الحديث إلى فضل رعاية البنات ، وأنّهنّ سبب في إنقاذ من يُحْسِنُ رعايتهنّ وتربيتهنّ من النار ) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يَفْرَكْ مُؤمنٌ مُؤمِنةً، إنْ كَرِهَ منها خُلُقا رَضِيَ منها آخر " أو قال : " غَيْرَه " . رواه مسلم . ( لا يَفْرَك : لا يُبْغِضْ ) .(1/42)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال : " كُلُّكم راعٍ ، وكُلُّكُم مسْؤولٌ عنْ رَعِيَّتِه ، والأميرُ راعٍ ، والرَجُلُ راعٍ على أهل بيْتِه ، والمرأةُ راعِيَةٌ على بيْتِ زوجها وَوَلَدِهِ ، فَكُلُّكُم راعٍ وكُلُّكُمْ مسؤولٌ عنْ رَعِيَّتِه " . متفق عليه . ( من فوائد الحديث : أنّ الرجل والمرأة شريكان في الحياة الزوجيّة ، ويجب على كلّ منهما أن يقوم بواجبه نحو الآخر ) .
وفيما يرويه عَمْرو بن الأحْوَصِ الجُشَمِيّ - رضي الله عنه - أنّه سمع النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوَدَاع يقول : " ألا واستوصوا بالنِساء خيرا ... ألا وحَقُّهُنَّ عَلَيْكُم أنْ تُحْسِنوا إلَيْهِنَّ في كِسْوَتِهِنَّ وطَعامِهِنَّ " . رواه الترمذي ؛ وقال : حديث حسن صحيح .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أكْمَلُ المؤمنينَ إيْمَاناً أحْسَنُهُمْ خُلُقا ، وخِيَارُكُمْ خِياَرُكُم لِنِسائِهِمْ " . رواه الترمذي ؛ وقال : حديث حسن صحيح .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " الدُنْيَا مَتَاعٌ ؛ وخَيْرُ مَتاعِها المَرْأةُ الصالحةُ " . رواه مسلم . ( متاع : أيّ شيء يتمتع به حينا من الوقت ثمّ يزول . المرأة الصالحة : فسرها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقوله " إذا نَظَرَ إليها سَرَّتْه ، وإذا أمرها أطاعته ، وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله " ) .
وأخيرا ... عن أمّ المؤمنين أمِّ سَلَمَةَ ـ رضي الله عنها ـ زوج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أَيُّمَا امرأةٍ ماتَتْ وزَوْجُها عنها راضٍ دَخَلِت الجنَّةَ " . رواه الترمذي ؛ وقال : حديث حسن .
- - - - -
فصل في بعض ما اختص به النبيّ - صلى الله عليه وسلم -(1/43)
? قال حبيبنا رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - : " فُضِّلْتُ على الأنبياء بِسِتٍّ : أُعْطِيْتُ جوامِعَ الكَلِمِ ، ونُصرتُ بالرعْبِ ، وأُحلَّت لي الغنائم ، وجُعِلَتْ لي الأرضُ طَهورا ومَسْجِدا ، وأرسلتُ إلى الناس كافّة ، وخُتِمَ بيَ النبيّون " . رواه مسلم .
? وقال - صلى الله عليه وسلم - : " أنا سيّد وَلَد آدم يوم القيامة ولا فخر ، وبيدي لواء الحمد ولا فخر ، وما من نبيّ يومئذ آدم فمن سواه إلاّ تحت لوائي " . رواه مسلم ، والترمذي : واللفظ له ، وأبو داود ، وابن ماجه ، وأحمد .
? بُعِثَ كلُّ نبيٍّ إلى قومِه خاصّة ، وبُعِثَ - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين كافّة بشيرا ونذيرا .
? تكليفه بالقتال ولو كان وحده { فقاتِلْ في سبيل الله لا تُكلّفُ إلا نفسَك } . النساء : 84 .
? في صحيح مسلم ، قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - : " نُصِرْتُ بالرعْبِ ، و أُوْتِيْتُ جَوامِعَ الكَلِم " .
? كان - صلى الله عليه وسلم - يَرَى من خلفه كما يرى من أمامه . عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فوالله لا يخفى عَلَيَّ خشوعكم ولا ركوعكم ، إنّي لأراكم من وراء ظهري " . والحديث في الصحيحين . وعن أنس - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقْبلُ علينا بوجهه قَبْل أن يُكبّر ، فيقول : " تراصّوا واعتدلوا ، فإنّي أراكم من وراء ظهري " . والحديث في الصحيحين .
? بين كتفيه خاتم النبوّة ، وهو خاتم النبييّن ، ورسالته خاتمة الرسالات .
? وصل إلى مقام عند الله - سبحانه وتعالى - لمْ يصل إليه أحدٌ من الخلق ( معجزة الإسراء والمعراج ) ، حتى تجاوز الكونَ كلَّه ، وكان عند سدرة المنتهى : عندها جنّة المأوى ، إذ يغشى السدرة ما يغشى .
? يقبل الهديّة ولا يأكل الصدقة ، هو وأهل بيته ( أي : يشترك معه آل النبيّ بهذه الميزة ) .
? وجوب قيام الليل بحقّه .(1/44)
? كانت تنام عيناه ولا ينام قلبه . عن أمّ المؤمنين الصِدِّيقة بنت الصِدِّيق عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت : .. فقال ( أي الرسول - صلى الله عليه وسلم - ) : " يا عائشة إنّ عينيَّ تنامان ، ولا ينامُ قلْبِي " . متفق عليه .
? الوِصَال في الصوم . في حين نهى أصحابه عن المواصلة . عن أمّ المؤمنين الصِدِّيقة بنت الصِدِّيق عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت : نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوِصال رحمة لهم ، فقالوا : إنّك تواصل ؟ قال : " إنّي لستُ كهيئتكم ، إنّي أبِيْتُ يُطعمني ربّي ويسقيني " . متفق عليه .
? " إنّي أرى ما لا ترون ... " . أخرجه الترمذي .
? عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ... فَلَمْ تَحِلَّ الغنائمُ لأحَدٍ قبْلَنا ، ثمّ أحَلَّ اللهُ لنا الغنائمَ لمَّا رأى ضَعْفَنا وعَجْزَنا فأحَلَّها لنا " . متفق عليه .
? قال - سبحانه وتعالى - : { إنّا أعْطَيْناكَ الكوثرَ - فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ - إنَّ شانِئَكَ هوَ الأبْتَرُ } . عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أتدرون ما الكوثر ؟ " قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : " فإنّه نهر في الجنّة وَعَدَنِيْه ربّي عزّ وجلّ عليه خير كثير ، هو حوض تردُ عليه أمتّي يوم القيامة ، آنيته عدد النجوم في السماء ، فيختلج العبد منهم ، فأقول : ربّ إنّه من أمتي ، فيقول : إنّك لا تدري ما أحدث بعدك " . أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي . ( فالحذر الحذر أيّها الأخ الكريم أن نكون ممن تختلجهم الملائكةُ وتبعدهم عن حوض النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ) .(1/45)
? ثم إنّ الله - سبحانه وتعالى - نادى الأنبياء بأسمائهم ، ولمْ يناده بالاسم ، بل ناداه بالوصف . فقد خاطبه في مواضع عدة بقوله - سبحانه وتعالى - : { يا أيها الرسول } و { يا أيها النبي } . تشريفا له وتكريما - صلى الله عليه وسلم - .
- - - - -
حُسن صنيعه - صلى الله عليه وسلم - ، وحلّه للمشكلات الطارئة
نعرض في هذه الفقرة لبعض ما كان يتصف به النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من البراعة في الحكمة والسياسة وتدبير الأمور ، وذلك كأثر من آثار رعاية الله له قبل البعثة وبعدها . فما من تصرّف تصرفه - صلى الله عليه وسلم - إلاّ فيه غاية الحكمة وبُعد النظر والتوفيق .
? بناء الكعبة ، ووضع الحجر الأسود
أرادت قريش تجديد بناء الكعبة . فلمّا وصلوا إلى الحجر الأسود اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه ، واستمر الاختلاف والنزاع حتى كادوا يقتتلون وتقوم فتنة لا يُعلم مداها ومنتهاها ، فارتضوا أن يحتكموا لأول من يدخل من باب المسجد . وشاء الله أن يكون ذلك هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ( وذلك قبل البعثة ، وكان له من العُمُر نحوا من خمس وثلاثين سنة ) فلما رأوه قالوا : هذا الأمين ؛ رضيناه .
فلمّا انتهى إليهم ، وأخبروه الخبر ، طلب رداءً فوضع الحجرَ وسطه ، وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يُمْسكوا جميعا بأطراف الرداء وأن يرفعوه ، ووضعه مكانه بيديه الشريفتين . وكان هذا من حكمته - صلى الله عليه وسلم - ، فانتهت المشكلة ، ورضي القوم كلّهم بذلك .
? إطفاء نار الفتنة بين الأوس والخزرج رضي الله عنهم أجمعين .(1/46)
فيما ذكره ابن اسحاق : أنّ اليهوديّ شاس بن قيس ، مرّ على ملأ من أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من الأوس والخزرج ، فغاظه ما رأى من تآلفهم ووحدتهم وصلاح ذات بينهم بعد الإسلام . فأرسل إليهم من جلَس بينهم وصار يُذكّرهم بيوم بُعاث وأيامهم في الجاهليّة وما قيل فيها من شِعْر ، حتى صاروا يتفاخر بعضهم على بعض ، إلى أن عملت فتنة اليهوديّ فيهم فعلتها ، فتواثبوا وامتشقوا السلاح واصطفوا للقتال ... فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه من المهاجرين حتى جاءهم ، فقال : " يا معشر المسلمين ، الله الله ، أبدعوى الجاهليّة وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام ، وأكرمكم به ؟! وقطع به عنكم أمر الجاهليّة ، واستنقذكم من الكفر ، وألَّف بين قلوبكم ؟! " . فعرف القوم أنّها نزغة من الشيطان ، وكيد عدوّهم ، فبكوا ، وعانق بعضهم بعضا ، ثمّ انصرفوا مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - سامعين مطيعين ، بعد أن مَنّ الله - سبحانه وتعالى - بإطفاء نار الفتنة على يد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - .
? معالجته قول المنافقين : لئن رجعنا إلى المدينة ليُخْرِجَنَّ الأعزّ منها الأذلّ(1/47)
وذلك عندما كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون رضي الله عنهم يقيمون على ماء المُرَيْسِيع بعد الفراغ من غزوة بني المصطلق ، وحَدَثَ ازدحام على الماء ، وكاد بعضهم أن يُشعل فتنة . فكان من زعيم المنافقين عبد الله بن أُبيّ بن سلول أن قال : أما والله ، لئن رجعنا إلى المدينة ليُخْرِجَنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ . فبلغ قولُه النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، وعنده عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - . فقال عمر - رضي الله عنه - : مُرْ عبّاد بن بشر فَلْيَقتله . فقال : " فكيف يا عمر إذا تحدّث الناسُ أنّ محمّدا يقتل أصحابه ؟ لا . ولكن أذِّنْ بالرحيل " ، وذلك في ساعة لم يكن يرتحل فيها ، ثمّ مشى بالناس يومهم ذلك حتى أمسى ، وليلتهم حتى أصبح ، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس ثمّ نزل بالناس ، فلم يلبثوا أنْ وجدوا مسّ الأرض فوقعوا نياما . فَعَلَ ذلك ليشغل الناسَ عن الحديث .
? في صلح الحُديبية
لمّا صدّت قريشٌ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين ـ رضي الله عنهم ـ عن البيت الحرام ، عقد معهم صُلْحا . وكان من قواعد الصلح : من أتى محمدا - صلى الله عليه وسلم - من قريش من غير إذن ولِيِّه ـ أي هاربا منهم ـ ردَّه عليهم ، ومن جاء قريشا ممّن مع محمد - صلى الله عليه وسلم - ـ أي هاربا منه ـ لم يُردّ عليه .
هذا الشرط الذي أغضب المسلمين . فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنّه من ذهب منّا إليهم فأبعده اللهُ " . وقال - صلى الله عليه وسلم - : " ومن جاءنا منهم سيجعلُ اللهُ له فَرَجَا ومَخْرَجا " . صحيح مسلم / باب صلح الحديبية .(1/48)
هذا الشرط ، وإنْ كان مظهر الاعتزاز لقريش ، لكنّه في الحقيقة يُنْبِئ عن شدّة انزعاج قريشٍ وهلعهم وخَوَرِهم ، وعن شدّة خوفهم على كيانهم الوثنيّ الذي بات على شفا جُرُفٍ هار . وأمّا رسول الله فوضع هذا الشرط ... وما كان يخشى من مثل هذا الشرط . فلمّا قال له عمر بن الخطّاب : ففيمَ نُعْطِي الدَنِيّة في ديننا ؟! قال : " يا بن الخطاب ، إنّي رسول الله ولستُ أعصيه ، وهو ناصري ولنْ يُضِيّعني أبدا " .
وقد تَفَلَّتَ أبو بصير ـ وكان يُعَذّب في مكّة بعد إسلامه ـ من قريش ، فأتى المدينة . فأرسلت قريش رَجُلَيْن في طلبه ، فدفعه إليهما ، فخرجا به حتّى بلغا ذا الحُلَيْفة ( ما يُعْرَف بآبار عليّ اليوم ) ، فأخذ أبو بصير سيفَ أحدهما وقتله ، وفَرَّ الآخر . فجاء أبو بصير وقال : يا نبيّ الله ، قدْ واللهِ أوْفَى اللهُ ذمّتَك ، قد رددتني إليهم ، ثمّ أنجاني الله منهم . قال رسول الله : " ويل أمّه ، مِسْعَرَ حَرْبٍ لو كان له أحد " . فلمّا سمع ذلك عرف أنّه سيردّه إليهم . فخرج حتى نَزَلَ العِيْصَ من ناحية ذي المَرْوَة على ساحل البحر ، بِطَرِيْقِ قريش التي كانوا يأخذون عليها إلى الشام . وسمع بذلك المسلمون الذين كانوا احتبسوا بمكّة ، فخرجوا إلى أبي بصير ، فاجتمع إليه منهم قريب من سبعين رجلا ، حتى صار لهم شأن ؛ فما يسمعون بِعِيْر ( قافلة ) خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها . فأرسلت قريشٌ إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - تناشده الله والرَّحِم لَمَا أرسل إليهم ، فمن أتاه فهو آمِنْ . فأرسل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إليهم ، فقدموا عليه المدينة .
? عفوه - صلى الله عليه وسلم - وأمانته(1/49)
عندما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكّة فاتحا ، وبعد أن صلى في الكعبة ، خطب أمام قريش وقد اجتمعوا في البيت . وكان ممّا قاله لهم : " يا معْشَرَ قريش ، ما ترون أنّي فاعل بكم ؟ " قالوا : خيرا . أخٌ كريم وابن أخ كريم . قال - صلى الله عليه وسلم - : " فإنّي أقول لكم كما قال يوسف لإخوته : { لا تثريب عليكم اليوم } اذهبوا فأنتم الطلقاء " .
ثمّ جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ... فقال - صلى الله عليه وسلم - : " أين عثمان بن طلحة ؟ " . فدُعي له . فقال : " هاك مفتاحك يا عثمان ( مفتاح الكعبة ) ، اليومُ يومُ بِرٍّ ووَفَاء " . - صلى الله عليه وسلم - .
? الأنصار ( رضي الله عنهم ) تَجِدُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وذلك بعد غزوة الطائف ، حين أعطى - صلى الله عليه وسلم - الناسَ ـ خاصة المؤلّفة قلوبهم ـ عطاء من لا يخاف الفقر . وكانت الأعطيات في قريش وفي قبائل العرب ، ولم يكن في الأنصار منها شيء ... حتى قال قائلهم : لقيَ واللهِ رسولُ الله قومَه . وصوّرت لهم أنفُسُهم أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قد أدركته محبّة قومه وبني وطنه ! فنسي في جنبهم الأنصار ! ..(1/50)
ووصل الخبر إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - . فجمعهم وحدَهم ، وخطب - صلى الله عليه وسلم - فيهم خطبة رائعة ضَمَّنها أدق خفقات قلبه وألطف إحساساته ، خاطبت المشاعر فهزّتها ، ونفضت عنها ما عَلِقَ بها من وساوس ، وداعبت العواطف والعقول والأفئدة ... خطبة مُحِبّ رؤوف رحيم ، جبرت منهم القلوب ، وطيبت الخواطر ، وهدّأت النفوس . ومما جاء في خطبته - صلى الله عليه وسلم - : " أوَجَدْتُم يا معشرَ الأنصار في أنفسكم في لَعَاعَة من الدنيا تألّفتُ بها قوما لِيُسْلِموا ، ووَكَلْتُكم إلى إسلامكم ؟! ألا ترضوْن يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رحالكم ؟ فوالذي نفس محمد بيده ، لولا الهجرة لكنتُ امرأ من الأنصار ، ولو سَلَك الناسُ شِعْبا ، وسَلَكَت الأنصارُ شِعبا ؛ لسلكتُ شِعْبَ الأنصار . اللهم ارحم الأنصار ، وأبناء الأنصار ، وأبناء أبناء الأنصار " . فارتفعت أصواتهم بالبكاء فرحا بنبيّهم - صلى الله عليه وسلم - ، وابتهاجا بقسمتهم ونصيبهم ، وبكى القوم حتّى أخْضَلُوا لِحَاهم ، وقالوا : رضينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَسْمَا وحظّا .
وهذا يُبَيِّن فضل الأنصار رضي الله عنهم ، ومدى محبّة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لهم .
- - - - - - -
في نهاية هذه الفقرة ، لا بُدّ من الإشارة إلى أن ما كان يتصف به النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من البراعة في الحكمة والسياسة وتدبير الأمور ، إنّما هو أثر من آثار رعاية الله - سبحانه وتعالى - لعبده وحبيبه ونبيّه محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة وبعدها ، وصفة من صفات النُبّوة ملازمة له - صلى الله عليه وسلم - .
فهو بشر كسائر البشر من النواحي البشريّة ، ولكنّه كما أسلفنا على قمّة الكمال في كلّ مناحي حياته ، وامتاز على باقي الخلق بأنّه خاتم الأنبياء والمرسلين - صلى الله عليه وسلم - .
- - - - -(1/51)
محاولات قتله واغتياله - صلى الله عليه وسلم -
قال - سبحانه وتعالى - : { والله يعصمك من الناس } . المائدة : 67 . والمراد من العصمة هنا ـ والله أعلم ـ أن لا تطول إليه يدٌ تتمكّن من اغتياله وقتله ، لِتُغتال فيه الدعوة الإسلاميّة التي بُعِثَ لتبليغها . وإلاّ ، فمن حيث تعرّضه للأذى ، فإنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أشدّ الناس ابتلاء .
وأمّا مُحاولات قتله - صلى الله عليه وسلم - ، فكثيرة مشهورة . ولكنّ الله حماه من تلكم المحاولات .
حيث حاول أعداؤه من مشركي العرب ، واليهود ، والمنافقين ، قتله . ومن تلك المحاولات :
? محاولات عديدة قام بها رجال من مشركي قريش فرادى ومجتمعين ، قبل الهجرة وبعدها ، مثل : ( عزْم أبي جهل ـ فرعون الأمّة ـ على قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . حيث عاهد قريشا على قتل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بفضخ رأسه بحَجَرٍ وهو يصلّي قرب الكعبة . ولكن الله ألقى في قلب أبي جهل الرعب ، وحفظ نبيّه ومصطفاه - صلى الله عليه وسلم - . وكذلك محاولة الشبّان الأشدّاء من قبائل قريش وبتدبير من زعمائهم ، فأحاطوا ببيت النبي - صلى الله عليه وسلم - لقتله ، وذلك ليلة هجرته - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن الله صرف أبصارهم عن رؤية النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، حينما خرج من بين أظهرهم ، وحثى على رؤوسهم التراب . كما حفظه - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه الصدّيق - رضي الله عنه - في غار ثور ، من الطلب وقصّاص الأثر ، الذين وصلوا عند باب الغار . وحادثة سراقة بن مالك معروفة مشهورة ) .(1/52)
? محاولة عمير بن وهب الجمحي ، بالتنسيق مع صفوان بن أميّة ( أسلما فيما بعدُ ) ، وذلك بعد غزوة بدر الكبرى حيث اتفقا في مكّة على خطّة لقتل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - . وقبل وصول عمير المدينة أخبرَ اللهُ - سبحانه وتعالى - نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - الخبرَ. فلما وصل عمير المدينة قُبِضَ عليه ، واعترف بالأمر ، وأسلم بين يدي النبيّ - صلى الله عليه وسلم - .
? وصول بعض فرسان قريش إليه يوم أُحُدٍ ، بقصد قتله ، فأصابوه إصابات بليغة ـ بعد أن تخلّى الرماة من المسلمين عن مواقعهم ـ ولكنّ الله سبحانه حفظه ونجّاه من بين أيديهم .
? محاولة رجل من المشركين اغتياله وهو نائم في ظلّ شجرة في غزوة ذات الرقاع ، قِبَلَ نجْدٍ . ففي صحيح مسلم : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنَّ رجُلا أتاني وأنا نائم ، فأخذَ السيفَ ، فاستيقظتُ وهو قائم على رأسي ، فلم أشعُر إلاّ والسيفُ صَلْتَا في يده ، فقال لي : مَنْ يمْنَعُكَ مِنِّي ؟ قال : قلتُ : الله . ثمّ قال في الثانية : من يمنعك منّي ؟ قال : قلتُ : الله . قال : فَشَامَ السيفَ ، فها هو ذا جالس " . ( صلتا : مسلولا ، شام السيف : أغمده ) .
? محاولات اليهود الغدر به وقتله ، ومنها :
? محاولة يهود بني النضير إلقاء صخرة عليه من فوق جدار كان يستند إليه ... فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبرُ بما همّوا ، فنهض سريعا كأنه يريد حاجة ، وتوجّه إلى المدينة . ولحقه أصحابه ، فقالوا : يا رسول الله قُمتَ ولم نشْعر ! قال : " همّت يهودُ بالغدر ، فأخبرني الله بذلك ؛ فقمتُ " .(1/53)
? ومنها : محاولة تسميمه بعد غزوة خيبر . ففي صحيح البخاري عن أمّ المؤمنين الصِدِّيقة بنت الصِدِّيق عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في مرض موته الذي مات فيه : " ياعائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلتُ بخيبر ، فهذا أوان وجدت انقطاع أبْهَري من ذلك السمّ " ( يشير بذلك إلى الشاة المصليّة التي قدمتها له زينب بنت الحارث / زوج سلام بن مشكم التي أسلمت فيما بعد ، وأكثرت السمّ في ذراع الشاة ـ أحب أجزاء الشاة إليه ـ وذلك بعد غزوة خيبر ) . وقد مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهيدا .
? محاولة اثني عشر منافقا اغتياله في طريق عودته من غزوة تبوك .
? وقد حفظه مولاه ، جسدا وروحا ؛ حيا وميتا .
قال - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه وإخوانه من الأنبياء : " إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء " .
وقد ردّ الله كيد أعدائه الذين حاولوا سرقة جسده الطاهر الشريف ، وذلك أيّام حكم نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله .
ففي كتاب الكواكب الدُريّة في السيرة النُوريّة ( تاريخ السلطان نور الدين محمود بن زنكي ) لمؤلفه بدرالدين ابن قاضي شهبة ( 779 ـ 851 هـ / 1377 ـ 1448 م ) : أنّ السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي وصل إلى المدينة النبويّة سنة 557 هـ لرؤيا رآها ، حيث رأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرّات في ليلة واحدة ، وهو - صلى الله عليه وسلم - يقول له في كلّ مرّة : يا محمود أبعدني عن هذين الشخصين ، يُشير إلى أشقرين تجاهه . فقصّ السلطانُ الرؤيا على وزيره واستشاره بالأمر ( وكان رجل صدق وتقوى ) ، فقال له الوزير : هذا أمر جلل ؛ وكرامة من الله تعالى ، لا ينبغي أن يتصدى له غيرك أيها السلطان .(1/54)
فارتحل السلطان من فوره بصحبة الوزير الناصح مُيَمِّما نحو المدينة المُنوّرة ... فلمّا دخل المدينة على غفلة من أهلها ، قال : لا يبقى أحد في المدينة إلاّ جاء . فلم يبق إلاّ رجلان مجاوران من أهل الأندلس نازلان في الناحية التي هي قبلة حجرة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، وامتنعا من المجيء بداية ، فَجَدَّ في طلبهما ، فجيء بهما ... فلمّا رآهما عرفهما ، فسألهما ... فأقَرّا أنّهما من النصارى ، وأنّهما أرادا نقل من في هذه الحجرة الشريفة باتفاق من ملوكهم . فوجدهما قد حفرا نقبا تحت الأرض من تحت حائط المسجد القبليّ ، وهما قاصدان إلى جهة الحجرة الشريفة . فأمر بهما فضربت أعناقهما شرقيّ حجرة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - . رحم الله السلطان نور الدين محمود بن زنكي . ] القصّة مأخوذة من المرجع المذكور بتصرف [ .
أقول : ألا يُسْتنتج من هذه الحادثة ، على ما فيها من غدر وخيانة ومكيدة ، أنّ هؤلاء الذين أرادوا فعل هذه الفعلة الشنيعة الخسيسة ، كانوا يعرفون أنّ هذا الجسد هو جسد نبيّ كريم ، وكانوا على يقين من الحديث : " إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء " ؟! ففعلتهم كانت بعد وفاة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بأكثر من خمس مئة عام . ثمّ تُبيّن القصّة أنّهم كانوا يعرفون مكانة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عند المسلمين ؛ ومدى محبّة المسلمين لنبيّهم وحبيبهم محمد - صلى الله عليه وسلم - .(1/55)
وفي التاريخ : لمّا أعلن ألفونسو السادس ملك قشتالة الحرب على طليطلة سنة 472هـ ، وبعد سقوطها بيده عام 478هـ أثناء فترة ملوك الطوائف ، جعل ألفونسو طليطلة عاصمةَ إسبانية ( بدل الأندلس ) وعلى يده بدأت تظهر مملكة البرتغال . وأخذت الأسرُ الحاكمة المتعاقبة في البرتغال تهتمّ بأمر الكشوفات الجغرافيّة ، ونشر النصرانيّة في البلاد المجاورة ، واشتهر فيهم فاسكودوغاما الذي وَصَلَ إلى جنوب أفريقية ، ومن ثَمَ إلى الهند ، ونَهَبَ خيرات البلاد التي وصل إليها .
وبنى البرتغاليّون أسطولا بحريّا ضخماً لتحقيق أهدافهم ، واستطاعوا احتلال سبتة ( قاعدة انطلاق المسلمين في بلاد المغرب لفتح الأندلس ) عام : 818هـ / 1415م .
وهكذا ، ففي الوقت الذي ضعفت فيه الروح الصليبيّة في أوروبة كلّها ، فإنّها أخذت تنتعش في البرتغال ( كما هي اليوم في أمريكا وبريطانيا ... ) .
وكان أحد قادة الكشوف الصليبيّة واسمه ألبوكيرك يريد الوصول إلى المدينة المنوّرة لِخَطْفِ جسد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ثمّ مساومة المسلمين عليه ، مقابل تخَلِّيهم عن فلسطين . وأراد كذلك تحويل مجرى النيل ، كي تُحرم مصر من خيراته فيتمّ هلاكها . ولكنّه مات سنة 1515م ، قبل تحقيق أمانيه وأحقاده الصليبيّة . وهذا ما يحاول أبناء جلدته في أوروبة وأمريكا تنفيذه في عصرنا الحاضر .
- - - - -
من أقوال كبار رجال الفكر والسياسة في النبيّ محمد - صلى الله عليه وسلم -
هذه شهادات لبعض المنصفين من رجالات الشرق والغرب .(1/56)
? لا يمكن معرفة شخصيّة محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ بكلّ جوانبها . ولكن كلّ ما في استطاعتي أن أقدّمه هو نبذة عن حياته من صور متتابعة جميلة . فهناك محمد النبيّ ، ومحمد المحارب ، ومحمد رجل الأعمال ، ومحمد المصلح ، ومحمد ملاذ اليتامى ، وحامي العبيد ، ومحمد محرر النساء ، ومحمد القاضي ... كلّ هذه الأدوار الرائعة في كلّ دروب الحياة الإنسانيّة تؤهّله لأن يكون بطلا . ] البروفسور رما كريشنا راو في كتابه : محمد النبيّ . - صلى الله عليه وسلم - [ .
? محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ نبيّ حقيقيّ بمعنى الكلمة ، ولا يمكننا إنكار أنّ محمّدا هو المرشد القائد إلى طريق النجاة . ] الدكتور هانز كونج / عالِم اللاهوت السويسري[ .
? أعظم حدث في حياتي ، هو : أنني درستُ حياة رسول الله محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ دراسة وافية ، وأدركتُ ما فيها من عظمة وخلود . ] الشاعر الفرنسي لامارتين[ .
? جدير بكلّ ذي عقل أن يعترف بنبوّة محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وأنّه رسول من السماء إلى الأرض . ] كارل ماركس[ .
? إنّ محمدا ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ نبيّ المسلمين لُقّبَ بالأمين منذ الصِغر بإجماع أهل بلده ، لِشرف أخلاقه وحُسْن سلوكه . ومهما يكن من أمر ؛ فإنّ محمدا أسمى من أن ينتهي إليه الواصف ، ولا يعرفه من جهله ، وخبير به من أمعن النظر في تاريخه المجيد . ذلك التاريخ الذي ترك محمدا ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ في طليعة الرسل ومُفَكّري العالم . ] السير الإنكليزي موير [ .(1/57)
? إنّ العالَمَ أحوج ما يكون إلى رجُلٍ في تفكير محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ . هذا النبيّ الذي وضَعَ دينَه دائماً موضع الاحترام والإجلال ، فإنّه أقوى دِيْنٍ على هضم جميع المدَنِيّات . ويتابع : لقد كانوا يعتبرونه عدُوّا للمسيحيّة ، لكنني اطلعتُ على أمر هذا الرجل ، فوجدته أُعجوبة خارقة ، وتوصلتُ إلى أنّه لم يكن عدُوّا للمسيحيّة ، بل ؛ يجب أن يُسمّى مُنْقِذا للبشريّة . وفي رأيي ـ والكلام لبرناردشو ـ أنّه لو تَوَلّى أمر العالَم اليوم ، لوُفِّقَ في حلّ مشكلاتنا بما يُؤَمّن السلام والسعادة التي يرنو إليها البشر . ] برناردشو/ في كتابه : محمد . هذا الكتاب الذي منعت السلطات البريطانيّة تداوله ، وصادرته وأحرقته.[ .
? بحثتُ في التاريخ عن مثلٍ أعلى لهذا الإنسان ، فوجدْتُهُ في النبيّ العربيّ محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ . ] شاعر الألمان : غوته [ .
? أردتُ أن أعرفَ صفات الرجل الذي يملك بدون نزاع قلوب ملايين البشر ... كان ذلك من خلال بساطة الرسول محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ مع دقّته وصدقه في الوعود ، وتفانيه وإخلاصه لأتباعه ، وشجاعته ، مع ثقته المطلقة في ربّه وفي رسالته ، هذه الصفات التي مَهَّدت الطريقَ ، وتَخَطّت المصاعب ، وليس السيف . ] مهاتما غاندي في حديث لجريدة : ينج إنديا[ .
? إننا لم نُنْصِف محمداًـ - صلى الله عليه وسلم - ـ إذا أنكرنا ما هو عليه من عظيم الصفات ، وحميد المزايا . فلقد خاض محمدٌ ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ معركة الحياة الصحيحة في وجه الجهل والهمجيّة ، مُصِرّا على مبدئه ، وما زال يُحاربُ الطغاةَ حتى انتهى به المطاف إلى النصر المُبيْن ، فإصبحت شريعتُه أعظم الشرائع ، وهو فوق عظماء التاريخ . ] أستاذ اللغات السامية / سنرستن الأسوجي ، في كتابه : تاريخ حياة محمد .[ .(1/58)
? إنّ اختياري مُحمّدا ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ليكون الأوّل في أهمّ وأعظم رجال التاريخ قد يُدْهش القُرّاء ، ولكنّه الرجل الوحيد في التاريخ كلّه الذي نجح على المستويين : الدِيْنيّ والدُنْيَويّ ... ولكنّ محمدا هو الوحيد الذي أتمّ رسالته الدينيّة ، وتحددت أحكامها ، وآمنت بها شعوب بأسرها في حياته . ولأنّه أقام جانب الدين دولة جديدة ، فإنّه في هذا المجال الدُنيويّ أيضا وَحَّدَ القبائلَ في شَعْبٍ ، والشعوبَ في أُمّة ، ووضع لها كلَّ أسس حياتها . ] مايكل هارت / في كتابه : مئة رَجُلٍ في التاريخ .[ .
( الفقرة مقتبسة ـ بتصرف ـ من مجلة : الفرقان / جمعية المحافظة على القرآن الكريم / العدد الحادي والخمسون ، ومن جريدة : الظلال / الجامعة الهاشميّة / العدد الأول . ) .
- - - - -
متفرقات / من هديه - صلى الله عليه وسلم -
? عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يُشِرْ أحدُكم إلى أخيه بالسلاح ، فإنّه لا يدري لعلَّ الشيطانَ ينْزِعُ في يده ، فيقعَ في حفرة من النار " . متفق عليه . ( ينزع : يرمي . يظهر أثر تطبيق هذا الحديث العظيم في الوقت الحاضر ، حيث تكثر أخطار حمل السلاح وشهره ) .
? عن أبي سعيد عبد الله بن مُغَفَّلٍ - رضي الله عنه - قال : نَهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحَذْفِ وقال : " إنّهُ لا يقْتُلُ الصَيْدَ ، ولا يَنْكَأُ العَدُوَّ ، وإنّهُ يَفْقَأُ العينَ ويَكْسِرُ السِنَّ " . متفق عليه . ( الحذف : رمي الحصى بالسبابة والإبهام ) .(1/59)
? عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عَطَسَ وضعَ يدَهُ أو ثوبَه على فيْهِ ، وخَفَضَ – أو غضَّ – بها صوته ... " . رواه أبو داود والترمذي . ( فضلا عن مراعاة الذوق الرفيع ، يظهر الأثر العظيم لمثل هذا الحديث في زماننا ، حيث اكتُشِف التلوّث البيئي والصحّي بسبب الميكروبات والجراثيم والفيروسات ، ممّا يتسبب في نقل الأمراض ) .
? عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أنْ يُتَنَفَّسَ في الإناء أو يُنْفَخَ فيه . رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح .
? نهى من أكل بصلا أو ثوما أن يقرب المسجد . عن جابر - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " منْ أكلَ ثُوماً أو بَصَلا فَلْيَعْتَزِلْنا ، أو فَلْيَعْتَزِلْ مسجِدَنا " . متفق عليه . وفي رواية لمسلم : " من أكل البَصَلَ ، والثُّومَ ، والكُرَّاثَ فلا يَقْرَبَنَّ مسْجِدَنا ، فإنَّ الملائكة تَتَأذَّى ممَّا يتأذّى منه بنو آدمَ " . ( ولعلّ ما يوجد من رائحة بعض المدخنين ما هو أخبث من رائحة البصل والثوم ) .
? عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ألا أدُلُّكَ على كَنْزٍ من كُنُوز الجنّة ؟ " فقلت : بلى يا رسول الله ، قال : " لا حَوْلَ ولا قُوَّة إلاّ بالله " . متفق عليه .
? عن أبي قَتَادَةَ ، قال : سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " الرُؤْيا من الله ، والحُلْمُ من الشيطان ، فإذا حَلَمَ أحدُكُم حُلْما يكْرَهُهُ فلْيَنْفُثْ عن يساره ثلاثا ، ولْيَتَعَوَّذْ بالله من شَرِّها " . رواه مسلم .
? عن أبي هريرة عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا اقترب الزمانُ لمْ تَكَدْ رؤيا المُسْلِم تَكْذِبُ ، وأصْدَقُكُم رؤيا أصدقكم حديثا ، ورُؤْيا المسلم جُزْء من خمس وأربعين جُزْءا من النبوّة ... " . رواه مسلم .(1/60)
? وعنه - رضي الله عنه - : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ رأني في المَنَام فقد رآني ، فإنَّ الشيطانَ لا يَتَمَثَّلُ بي " . رواه مسلم .
? - ? - ? - ? - ? -
فضل الصلاة على النبيّ - صلى الله عليه وسلم -
قال الله عز وجلّ في محكم التنزيل : { إنّ الله وملائكته يُصَلّون على النبيّ يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } . الأحزاب : 56 .
? عن عبدِ الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنّه سَمِعَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إذا سَمِعْتُمُ النِدَاءَ فقولوا مثلَ ما يقولُ ، ثمَّ صَلُّوا عَلَيَّ ، فإنّه مَنْ صَلّى عَلَيَّ صلاةً صلى اللهُ عليه بها عَشْرَا ، ثمّ سلوا اللهَ ليَ الوَسِيْلَةَ ، فإنّها مَنْزِلَةٌ في الجنّة لا تنبغي إلاّ لِعَبْدٍ مِنْ عباد الله ، وأرجو أن أكونَ أنا هو ، فَمَنْ سألَ لِيَ الوَسِيْلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَفَاعَةَ " . رواه مسلم . ( النداء : الأذان ) .
? وعن جابرٍ - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " مَنْ قالَ حينَ يَسْمَعُ النداءَ : اللهمَّ رَبَّ هذه الدعْوَةِ التامّةِ ، والصلاةِ القائِمَةِ ، آتِ مُحَمّدا الوَسِيْلَةَ ، والفَضِيْلَةَ ، وابعثه مقاما محمودا الذي وَعَدْتَهُ ، حَلَّت له شفاعَتِيْ يومَ القيامة " . رواه البخاري .
? فالصلاة من الله تعالى معناها الرحمة وزيادة الإحسان ؛ ومن الملائكة الاستغفار ؛ ومن البَشَرِ الدّعاء .
? ويستفيد الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة عليه رفع الدرجات ، والترقي في مراتب الكمال . والسُّنَّة أن يجمع بين الصلاة والسّلام عليه . وتكون الصلاة على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بأيّة صيغة ، وأفضلها الصيغ الواردة .(1/61)
? وقد امتدح الله جل جلاله عباده الذّاكرين . والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - من الذِكر ؛ بل هي في أعلى درجاته . وتكون سببا في تَنزِّل الرَّحمات ، ورفع الدّرجات ، لمن يُصَلّي على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - . ففي الحديث : " من صلَّى عليّ صلاةً صلى اللهُ عليهِ بها عشراً " . رواه مسلم . وقد ذكرنا آنفا أنّ الصلاة من الله تعالى معناها الرحمة وزيادة الإحسان .
? أولى النّاس بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأخصّهم به ، وأقربهم منه ، وأحقّهم بشفاعته ، وأعلاهم منزلة : أكثرهم عليه صلاة في الدنيا . فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أَوْلَى النّاسِ بي يومَ القيامة أكْثَرُهُمْ عليَّ صلاةً " . رواه الترمذي وقال : حديث حسن .
? كثرة ذِكرِك للنبي - صلى الله عليه وسلم - يزيد من حُبِّك له ، ودليلٌ عليه .
? الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - تجعل صاحبها مُكَرَّماً ، حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " رَغِمَ أنفُ رجلٍ ذُكرتُ عنده فَلَمْ يُصلِّ عليَّ " . رواه الترمذي وقال : حديث حسن .
? إنّ ترك الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عنوان الشحّ ، ودليل خبث النّفس ، وسوء الطوِّية .
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " البخيلُ مَنْ ذُكرتُ عنده فلم يُصلّ عليّ " . رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح . فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يستحق الصلاة عليه كلما ذُكر اسمه كتابة أو صوتا ، لما له على الأمة من فضل ، لأنه كان سبب سعادتهم في دنياهم وأخراهم . ويُندب ذلك لمن ذَكَرَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أو سَمِع اسمه أو قَرَأه أو كَتَبَه . وذَهَب بعضُ العلماء إلى وجوبه .
? ولا شك أن هناك فوائد عظيمة ، ومزايا جليلة ، للصلاة على - صلى الله عليه وسلم - ، من أراد المزيد منها فليرجع إليها في مظانّها ، ككتاب : الأذكار للإمام النّووي رحمه الله تعالى .
- - - - -(1/62)
وفاة النبيّ - صلى الله عليه وسلم -
يقول الله - سبحانه وتعالى - في محكم التنزيل : { وما محمدٌ إلاّ رسولٌ قدْ خَلَتْ منْ قَبْلِهِ الرُسُلُ أفَإنْ ماتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ على أعْقَابِكُمْ ومنْ يَنْقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فلنْ يَضُرَّ اللهَ شيئَا وسَيَجْزِي اللهُ الشاكِرِيْن } . آل عمران : 144 .
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - ( خادم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ) قال : لمّا وَجَدَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ كَرْبِ الموتِ ما وَجَدَ ، قالت فاطمةُ ( بنت النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ) رضي الله عنها : واكَرْبَاه ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " لا كَرْبَ عَلَى أَبِيْكِ بَعْدَ اليومِ ، إنّهُ قدْ حَضَرَ منْ أبيكِ ما ليسَ بتارِكٍ منهُ أحداً ، المُوَافَاةُ يومَ القيامة " . رواه البخاري ، وابن ماجه .
عن أمّ المؤمنين الصِدِّيقة بنت الصِدِّيق عائشة ( زوج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ) رضي الله عنها وعن أبيها قالت : تُوُفِّيَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يومَ الاثنين . رواه البخاري وأحمد .
وعنها رضي الله عنهما : أنَّ أبا بكْرٍ ـ رضي الله عنه ـ قَبَّلَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَما ماتَ . رواه البخاري ، والنسائي ، والترمذي ، وابن ماجه .
وعنها رضي الله عنها : أنَّ أبا بكْرٍ ـ رضي الله عنه ـ دَخَلَ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ وَفاتِه ، فَوَضَعَ فَمَهُ بيْنَ عَيْنَيْهِ ، ووَضَعَ يَدَيْه على ساعِدَيْه ، وقال : وانَبِيَّاهُ ! واصَفِيَّاهُ ! واخَلِيْلاهُ ! . رواه أحمد .(1/63)
وعنها رضي الله عنها قالت : لمّا قُبِضَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اخْتَلَفُوا في دَفْنِه ، فقال أبو بكر - رضي الله عنه - : سَمِعْتُ مِنْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا ما نَسيْتُهُ ، قال : " ما قَبَضَ اللهُ نبيّا إلاّ في الموضِعِ الذي يُحِبُّ أنْ يُدْفَنَ فيه " ادْفِنُوْهُ في موضع فِرَاشِه . الترمذي . ( وقد تُوُفِّيَ - صلى الله عليه وسلم - ودُفِنَ في حجرة عائشة رضي الله عنها . ) .
وعن ابن عبّاس ( ابن عمّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ) رضي الله عنهما ، قال : مَكَثَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بمكّةَ ثلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً يُوْحَى إليهِ ، وبالمدينة عَشْرَاً ، وتُوُفِّيَ وهو ابن ثلاثٍ وستِّيْنَ . رواه البخاري ومسلم والترمذي .
عن أنس بن مالك ( خادم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ) - رضي الله عنه - قال : لمّا كان اليومُ الذي دخل فيه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ ، أضاء منها كلُّ شيء ، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء ، وما نفضنا أيْدِيَنَا من التراب ، وإنّا لَفِي دفنه - صلى الله عليه وسلم - ، حتى أنكرنا قلوبَنَا . رواه الترمذي ، وابن ماجه ، وأحمد . ( أنكرنا قلوبنا : أي تغيّرت حالها بوفاة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ولم تَبقَ على ما كانت عليه من الرِقّة والصفاء ، لانقطاع الوحي وبركة الصُحْبة ) .
والآن ، إلى مشهد من مشاهد حبّ الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، وتأثرهم بموته ، وحزنهم لفراقه .
أُمِّ أَيْمَنَ بَرَكةُ الحَبَشِيَّةُ ( والدة الحِبّ ابن الحِبّ : أسامة بن زيد رضي الله عنهما )
مولاةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحاضِنَته . كانت مملوكة لآمنة بنت وهب ( أم النبي - صلى الله عليه وسلم - ) ، فَرَبَّته في حياتها ، وحَضَنَته بعد وفاتها ، ففتح عينيه على الدنيا ؛ وهو لا يعرف لِنَفْسِه أمّاً غَيْرَها .(1/64)
فأحّبَّها أعْمَقَ الحبّ وأَصدَقه ، وكثيراً ما كان يقولُ : هيَ أُمّي بعدَ أمّي ، وبَقِيّةُ أهْلِ بيتي . وهي أكثر من تمتّع برؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ ولادته حتّى انتقاله إلى الرفيق الأعلى .
أسلمت أمّ أيمن مبكراً ، وكانت من أوائل المهاجرات إلى المدينة المنوّرة ، وأوّل مهاجرة تهاجر بمفردها ، وعلى قدميها .
عاشت المؤمنة الصابرة في المدينة قريبة من النبي - صلى الله عليه وسلم - قريرة العين ، وشاركت في بعض غزواته ، وكانت يوم أُحُد تَسقي الماء ، وتداوي الجرحى .. وأمدّ الله في عمرها حتّى شهدت وفاة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ؛ فبكته بكاء الأمّ الثكلى ، وحزِنت عليه حزناً لا تطيقه إلاّ قلوب المؤمنين الصابرين . كيف لا !، وهي التي لم تعُد تطيق فراقه ، ولا تقرّ لها عينٌ ، ولا يهدأ لها بال ، حتّى تأنس به ، وتسعد بقربه .. فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يزورها في حياته بين حين وحين .
فلمّا كان بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أبو بكر لعمر ـ رضي الله عنهما ـ انطلق نَزُرْ أمّ أيمن ، كما كان
النبي - صلى الله عليه وسلم - يزورها .. فلمّا دخلا عليها بَكَت ... فقالا : ما يُبكيك ! فما عند الله خير لرسوله ! قالت :
أبكي أنّ وَحْيَ السماء انقطع !؛ فهَيَّجَتْهُما على البكاء ... فجعلت تبكي ويبكيان معها .
ولمّا قُتِل عمر - رضي الله عنه - ، بَكَتْ ، فقيل لها ، فقالت : اليوم وهَى الإسلام . وماتت بعد عُمرَ - رضي الله عنه - بقليل .
رضي الله عن الصحابيّة الجليلة المؤمنة المهاجرة ، بركة : أمّ أيمن .
? - ? - ? - ? - ? -
خاتمة
إنما أردت في هذه الدراسة ؛ الإشارة السريعة لبعض الجوانب من عظمة هذا النبيّ العظيم - صلى الله عليه وسلم - ، وخِدمة لجنابه الكريم . وأن تكون مشعل هدى ، ودليل خير ، لمن أراد التأسّي بذلك النبيّ العظيم - صلى الله عليه وسلم - .(1/65)
فلْنقرأ بتفكّر وتدبّر واعتبار ، ولْنعمل بما علمنا ... فإنّه من عَمِلَ بما عَلِمَ ؛ أورثه اللهُ عِلْمَ ما لم يعلم .
ألا وإنّ خير طريقة لنصرة مقام ذلك النبيّ العظيم - صلى الله عليه وسلم - ؛ أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - قدوة لنا في حياتنا ، في أقوالنا وأفعالنا جميعا .
ومن أراد المزيد والتوسّع فليرجع إلى الكتب التي تتحدث بإسهاب عن ذلك الموضوع .
فمن أراد أن يعرف صفات هذا النبيّ العظيم - صلى الله عليه وسلم - الخَلْقِيّة ، كأنّما ينظر إليه ، فليقرأ كتاب : الشمائل المحمدية / للإمام أبي عيسى الترمذي .
ومن أراد معرفة هديه - صلى الله عليه وسلم - في : منامه واستيقاظه ، وأكله وشربه ، ودخوله وخروجه ، وسفره وإقامته ، وسلمه وحربه ، وفي شأنه كلّه ، فعليه بمثل : كتاب : زاد المعاد / لابن قيم الجوزية ، وكتاب : الأذكار / للإمام النووي .
ومن أراد الاطلاع على معجزاته الخالدات الباقيات ، فليطلع على كتب " دلائل النبوّة " لأيّ مُؤلِّف قديما أو حديثا .
هذا فضلا عن الكتب المذكورة في مراجع هذا البحث .
- - - - - - -
ربَّنا تَقَبَلْ منَّا إنّك أنتَ السميعُ العليم ، وعافنا واعفُ عنّا يا مولانا ، فإنّك أنت العفُوّ الجواد الكريم .
اللهمّ أحينا على سنّة حبيبك محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وأمتنا على ملّته ، واحشرنا تحت لوائه وفي زمرته ، وأنلنا مرافقته وشفاعته ، واسقنا من يده الشريفة ومن حوضه شربة لا نظمأ بعدها أبدا ، بفضلك وجودك وكرمك يا ربّ العالمين .
- - - - - - -
وا إسلاماه
وا محمّداه
يا أمّة الإسلام أُوصيكم به فالقَدْرُ عالٍٍ والمقامُ جليلُ
نزل الكتابُ مُصَرِّحا بثنائه وكذلك التوراةُ والإنجيلُ
- - - - - - -
أحزان قلبي لا تزول وأرى كتابي باليمين ... حتى أُبشّر بالقبول وتقرّ عيني بالرسول
- - - - - - -
وبعد :(1/66)
لقد حباه مولاه بالصفات الكاملات ، وأيّده بالمعجزات الباقيات الخالدات ، وبالإخبار عن المغيّبات ، ورضيه خاتما لجميع الرسالات ، وكان - صلى الله عليه وسلم - داعيا إلى الحقّ من العقائد والعبادات وأنظمة الحياة ، وإلى الفُضلَيات من الأخلاق الكاملات ، وجاء نذيرا للعالمين وبالبشريات ، وأرشدنا إلى طرق الخيرات المُنجيات ، وحذّرنا من المساوئ والمهلكات .
اللهم صلِّ وسلّم وبارك عليه ، ما أنت أهله ، وما هو أهل له ، وعلى آل بيته الأطهار ، وصحابته الأخيار ، ومن تبعهم بإحسان ما توالى الليل والنهار .
اللهمّ صلِّ وسلم وبارك عليه ، واجعله شفيعا لمن يصلي عليه .
والحمد لله ربّ العالمين .
? - ? - ? - ? - ? -
المراجع
القرآن الكريم .
الأصول الثلاثة – الرسول - صلى الله عليه وسلم - / سعيد حوى .
الرحيق المختوم / صفي الرحمن المباركفوري .
السيرة النبوية / ابن هشام .
الشمائل المحمدية / الإمام أبو عيسى الترمذي .
الفرقان / مجلة شهرية تصدر عن جمعية المحافظة على القرآن الكريم ـ الأردن . العدد الحادي والخمسون .
الكواكب الدُريّة في السيرة النُوريّة ( تاريخ السلطان نور الدين محمود بن زنكي ) / بدرالدين ابن قاضي شهبة .
المستطرف في كل فن مستظرف / شهاب الدين الأبشيهي .
جمع الأحاديث الأربعين في الصلاة والسلام على النبيّ الأمين / د . محمد شكور المياديني .
دلائل النبوّة / د . عبد الحليم محمود ، شيخ الأزهر .
رسالة المسجد العسكرية / محمود شيت خطاب .
صور من حياة الصحابة / عبد الرحمن رأفت الباشا .
عبقرية محمد - صلى الله عليه وسلم - / عباس محمود العقاد .
فقه السيرة النبويّة / د . محمد سعيد رمضان البوطي .
في ظلال القرآن / سيّد قطب .
محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - / د . منير البياتي .
مختصر تفسير ابن كثير
نزهة المتقين ـ شرح رياض الصالحين / د . مصطفى الخِن ، وآخرون .
- ? - ? - ? - ? -(1/67)
وآخر دعوانا : أن الحمد لله ربّ العالمبن(1/68)