نظرات
في أشرطة سيرة الصديق والفاروق للدكتور
طارق السويدان
إعداد أبو عبدالله الذهبي
نظرات في أشرطة سيرة الصديق والفاروق للدكتور طارق السويدان ( 1 ج1 )
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
نبدأ اليوم الحديث على أشرطة سيرة الصديق والفاروق رضي الله عنهما ..
الشريط الأول : ( وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وبيعة الخليفة الراشد أبو بكر الصديق رضي الله عنه ) ..
بدأ المحاضر وفقه الله الحديث في هذا الشريط بالتمهيد له وكان طرحاً جيداً في أغلبه ، وإن كان لي عليه بعض الملاحظات لكني أجلتها إلى مكانها لأنها تتعلق بأحداث السيرة .. وستكون بإذن الله تعالى في السلسلة القادمة والتي سأتناول التعليق فيها على أشرطة السيرة النبوية ..
ذكر المحاضر وفقه الله بعد سرده لبعض الأحداث في مرض النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن ضمن ما ذكر قصة طلب النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه أن يقولوا لأبي بكر أن يصلي بالناس .. ومراجعة عائشة رضي الله عنها للرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك بحجة أن أبا بكر رضي الله عنه رجل أسيف إذا قرأ لم يسمع الناس .. الخ . فقال المحاضر أن سبب مراجعة عائشة رضي الله عنها النبي في تغيير أبا بكر بعمر هو خوفها من أن يتشاءم الناس من أبيها لأنه صلى مكان النبي صلى الله عليه وسلم فلم تستطع أن تذكر له هذه الحجة ، فبحثت عن حجة أخرى وهي أن أباها رجل أسيف .. الخ .
قلت : رحمك الله : من أين عرفت أن عائشة رضي الله عنها خافت على أبيها من أن يتشاءم منه الناس ؟! ومن قال بهذا من أهل العلم ؟؟(1/1)
أليس هذا التشاؤم المنهي عنه وأصله التطير وهو من عادة أهل الجاهلية التي أبطلها الشرع وزجر عنه وحرمه ؟؟ و الأحاديث في ذلك كثيرة منها : عن انس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا عدوى ولا طيرة ، ويعجبني الفأل الصالح الكلمة الحسنة ) . البخاري (5756 ) ومسلم (2224 ) .
فمقولتك تلك ، ليس لها ما يعضدها من كلام أهل العلم ..
ذكر المحاضر وفقه الله رواية خلط فيها بين روايتين أحداهما تخص صلاة أبي بكر رضي الله عنه الظهر بالناس و خروج النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة معهم وهو جالس ، وبين رواية أخرى وهي في صلاة الصبح حينما كشف الستر عن حجرة عائشة رضي الله عنها ورأى الناس وهم يصلون ، وإشارته إليهم بإتمام الصلاة و دخوله إلى حجرته مرة أخرى . وكلا الروايتين صحيحتين لكن وجب التنبيه إلى الخلط ليس إلا .
ثم ذكر أيضاً رواية أخرى قدم فيها وأخر و خلط فيها بين روايتين صحيحتين أيضاً .. و هي خطبته صلى الله عليه وسلم للناس بعد أن صلى بهم الظهر وهو جالس .. لكن المحاضر وفقه الله ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس بعد أن صلى بهم الصبح حينما كشف الستار عن حجرته ، والمتفق عليه عند أهل العلم من محدثين و مؤرخين أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الحجرة ولم يخرج إلى صلاة الصبح و مات من يومه صلى الله عليه وسلم .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك موقف عائشة رضي الله عنها من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : تقول عائشة رضي الله عنها فمن حمقي وقلة عقلي أنزلت رأس النبي صلى الله عليه وسلم على وسادة وأخذت أولول وألطم على هذه المصيبة .. الخ .
قلت رحمك الله : هذه الرواية منكرة عند العلماء لأنها تتضمن اتهاماً لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بأمر من أمور الجاهلية ، هذا أولاً .(1/2)
ثانياً : إن في سند الرواية الواقدي وهو كذاب كما هو معروف . راجع الرواية في السيرة النبوية من الطبقات الكبرى لابن سعد (2/262 ) .
وحال أمنا عائشة رضي الله عنها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاته لم يتصف بالحمق وقلة العقل ، بل كان حالها حال الزوجة المؤمنة الصابرة الراضية بقضاء الله سبحانه وتعالى .
قالت عائشة رضي الله عنها : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ، ومسح عنه بيده ، فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه طفقت أنفث على نفسه بالمعوذات التي كان ينفث وأمسح بيد النبي صلى الله عليه وسلم عنه . البخاري مع الفتح (7/738 ) .
ثم إن عائشة رضي الله عنها لا يخفى عليها أن هذا الأمر من عمل الجاهلية ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعاء بدعوى الجاهلية ) . البخاري مع الفتح (3/195 ) .
وهي من هي فقهاً وعلماً ، يقول عنها الإمام الذهبي رحمه الله كما جاء في السير (2/135 ) : عائشة أم المؤمنين بنت الإمام الصديق الأكبر خليفة رسو الله صلى الله عليه وسلم .. القرشية التيمية المكية النبوية ، أم المؤمنين زوجة النبي صلى الله عليه وسلم ، أفقه نساء الأمة على الإطلاق .
ويقول أيضاً : ( ولا أعلم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم بل ولا في النساء مطلقاً امرأة أعلم منها ) المصدر نفسه (2/140 ) . راجع حول هذه المسألة بتفصيل أكبر رسالة الدكتور خالد الغيث وقفات هادئة ( ص 51 – 58 ) ، ورسالة الأخ التويجري التوضيح والبيان ( 62 – 65 ) .(1/3)
ومع هذا فقد ثبت أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينح عليه ، وظهرت براءة عائشة رضي الله عنها من هذا العمل ، أخرج البخاري في الأدب المفرد برقم ( 145 ، 359 ) ، عن قيس بن عاصم رضي الله عنه وهو يوصي أبناءه عند وفاته حيث قال : يا بني خذوا عني ، فإنكم تأخذوا عن أحد هو أنصح لكم مني ، لا تنوحوا علي ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينح عليه ، وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن النياحة . ومحل الشاهد من هذا الأثر هو قوله : ( فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينح عليه ) .
ثم تحدث المحاضر وفقه الله بعد ذلك عن قصة السقيفة ، لكنه أوردة رواية طويلة باطلة من مرويات أبي مختف الكذاب وهي موجودة عند الطبري ( 3/218 – 222 ) .(1/4)
والقصة الحقيقة لحادثة السقيفة هي ما أخرجه البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله مات و أبوبكر بالسنح … إلى أن ذكرت ( واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة فقالوا منّا أمير ومنكم أمير ، فذهب إليهم أبوبكر و عمر بن الخطاب و أبوعبيدة بن الجراح ،فذهب عمر يتكلم فأسكته أبوبكر ، و كان عمر يقول : و الله ما أردت بذلك إلا أني قد هيأت كلاماً قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبوبكر . فتكلم أبوبكر فقال في كلامه نحن الأمراء و أنتم الوزراء . فقال حباب بن المنذر : لا والله لا تفعل منا أمير و منكم أمير ، فقال أبوبكر : لا ولكنا الأمراء و أنتم الوزراء ، هم أوسط العرب داراً و أعربهم أحساباً [ يقصد قريش ] ، فبايعوا عمراً أو أباعبيدة ، فقال عمر : بل نبايعك أنت ، فأنت سيدنا و خيرنا و احبنا إلى رسول الله ، فأخذ عمر بيده فبايعه ، فبايعه الناس ، فقال قائل : قتلتم سعد بن عبادة ، فقال عمر : قتله الله ) . رواه البخاري مع الفتح (7/24) في فضائل الصحابة ، أما قوله ( قتلتم سعداً ) : أي بالازدحام على بيعة أبي بكر ، وطئتم سعداً رضي الله عنه حيث كان مسجىً . و قول عمر ( قتله الله ) : دعاء عليه لتخلفه عن بيعة أبي بكر ، و كاد بطلبه الخلافة يفرق كلمة المسلمين .(1/5)
أما قصة مبايعة سعد بن عبادة لأبي بكر فهي ليست في البخاري ، و إنما أخرجها الإمام أحمد في مسنده ، عن حميد بن عبدالرحمن قال : ( تكلم أبوبكر و لم يترك شيئاً أنزل في الأنصار ، و لا ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في شأنهم إلا ذكره ، و قال : و لقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [لو سلك الناس شعباً و سلك الأنصار شعباً آخر ، لسلكت شعب الأنصار ] ، فقال بعد ذلك أبوبكر لسعد بن عبادة : و لقد علمت يا سعد أن رسول الله قال و أنت قاعد : [قريش ولاة هذا الأمر ، خير الناس تبعاً لخيّرهم و فاجرهم تبعاً لفاجرهم ] . فقال سعد عند ذلك : صدقت ، نحن الوزراء و أنتم الأمراء ) . انظر : المسند (1/5) و هي بسند صحيح مرسل ، وهي إن كانت مرسلة السند ، لكنها أقوى بكثير من روايات ذلك الكذاب أبي مخنف . وقد صححها الألباني رحمه الله كما في السلسلة الصحيحة برقم ( 1156 ) .
فمن هذه الروايات نخرج بزبدة الموضوع حول بيعة أبي بكر رضي الله عنه بالخلافة ، و لنا أن نستنتج من مجموع هذه الروايات بعض الفوائد ، فمن هذه الفوائد :-
1- الدلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص صراحة على الخليفة من بعده ، وإن أخبر بمن سيتولى ، و في هذا دلالة على أن للإمام أن يترك الاختيار للمسلمين من بعده .
2- أن بيعة أبي بكر رضي الله عنه تمت بعد مشاورات بين فضلاء المهاجرين والأنصار ، و في هذا دلالة على أن الذي يقوم بالاختيار هم فضلاء القوم وعلماؤهم و رؤساؤهم و هم من يسمون بأهل الحل والعقد .
3- لا يشترط الإجماع التام على اختيار الخليفة ، فلا تضر مخالفة بعض القوم كما لم تضر مخالفة سعد بن
عبادة رضي الله عنه .
4- مشروعية البيعة للخليفة المختار من قبل أهل الحل والعقد أولاً ، ثم من قبل عامة المسلمين ثانياً ، كما تمّ
لأبي بكر رضي الله عنه .(1/6)
5- لا يشترط في الانتخاب حضور جميع أهل الحل والعقد ، كما لم يضر تخلف علي بن أبي طالب و الزبير ابن العوام رضي الله عنهما ، حيث تخلفا لتجهيز النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانا بايعا بعد ذلك . وهذه الفوائد مقتبسة من كتاب الإمامة العظمى عند أهل السنة و الجماعة (ص147-148) بتصرف يسير .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك رواية عن الطريقة التي دفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي أن الناس لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعثوا إلى أبي عبيدة بن الجراح وكان يَضْرَحُ كضريح أهل مكة ، وبعثوا إلى أبي طلحة وكان هو الذي يحفر لأهل المدينة ، و كان يلحَدُ ، فبعثوا إليهما رسولين فقالوا : اللهم خر لرسولك فوجدوا أبا طلحة فجيء به ، ولم يجدوا أبو عبيدة ، فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
قلت : رحمك الله الرواية ضعيفة أخرجها ابن ماجة في السنن ( 1 / 520 ) وأحمد في المسند ( 1/8 ) من طريق الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس وهو ضعيف ، ويرويه ابن سعد في الطبقات (2/298 ) من طريق شيخه الواقدي ولا يصح حديثه .
بعدها ذكر المحاضر وفقه الله رواية تبين أن الصحابة بعد أن فرغوا من دفن النبي صلى الله عليه وسلم ، توجه علي رضي الله عنه إلى بيته فقابل زوجته فاطمة رضي الله عنها فقالت له : يا علي أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب ! ؟ .. الخ
قلت : رحمك الله إن الرواية الصحيحة في هذا الشأن هي ما أخرجها البخاري في صحيحه برقم ( 3623 ) و ( 6325 ) من حديث أنس رضي الله عنه قال : ( .. فلما دفن قالت فاطمة يا أنس ، أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب ) .
ذكر المحاضر وفقه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضي الله عنها وهي بنت تسع سنين ، وبنى بها وهي بنت إحدى عشرة سنة .(1/7)
قلت : رحمك الله ، الصحيح في هذه المسألة ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم متوفى خديجة قبل الهجرة وأنا بنت ست ، وأدخلت عليه وأنا ابنة تسع سنين .. البخاري برقم ( 5133 ) . وفي رواية أنه تزوجها وهي ابنة سبع . مسلم برقم ( 1422 ) . وأكثر الروايات تذكر أنها ابنة ست سنين ، و يجمع بينهما بأنه كان لها ست وكسر ، فمنهم من يجبره ومنهم من يحذفه . انظر : الفتح الرباني (22/109 ) .
والله أعلم وإلى لقاء آخر في الجزء الثاني للشريط الأول من هذه السلسلة والله الموفق ..
أخوكم : أبو عبد الله الذهبي ..
نظرات في أشرطة سيرة الصديق والفاروق للدكتور طارق السويدان ( 2 ج2 )
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة السلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
نكمل اليوم ما تبقى من هذا الشريط ..
ذكر المحاضر وفقه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أبا بكر ليحج بالناس في العام التاسع من الهجرة ، وذكر سبباً غريباً في ذلك وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد الحج إلى مكة بسبب وجود الكفار والعرايا ، فوجه أبا بكر نيابة عنه ؟؟!!
قلت : رحمك الله هذا من الكلام الذي ليس له أي دليل ، بل كان السبب في تأمير أبي بكر رضي الله عنه على الحج في هذا العام هو قدوم الوفود عليه صلى الله عليه وسلم و انشغاله باستقبالهم ومبايعتهم ..
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك أنه قد تخلف عن بيعة أبي بكر الصديق عدد من الصحابة ومنهم علي بن أبي طالب .
قلت رحمك الله : إن القارئ والمطلع على الروايات التي ساقها المحدثون والمؤرخون من غير طريق أبي مخنف الكذاب – لأن المحاضر وفقه الله حكم على الموضوع لاعتماده على رواية أبي مخنف - ، يعلم أنه لم يبق أحد من المهاجرين والأنصار لم يبايع أبا بكر الصديق ، وأن سعد بن عابدة قد بايع في السقيفة .(1/8)
أما مبايعة علي رضي الله عنه لأبي بكر فهي ثابتة منذ أول يوم أو في اليوم الثاني من الوفاة ، وهذا حق فإن علي رضي الله عنه لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات ولم ينقطع في صلاة من الصلوات خلفه . والبيعة التي ذكرتها هي البيعة الثانية وهي تأكيد للبيعة الأولى ، ومن هنا جاء الالتباس وظن البعض أن علياً لم يبايع أبا بكر إلا بعد وفاة فاطمة رضوان الله عليهم أجمعين .
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها ( أنه بعد ما بويع لأبي بكر الصديق ، و بايعه الناس ، مرضت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت النبي مباشرة و لزمت الفراش ، و كان علي يمرضها ، [ على أشهر الروايات أنها عاشت بعد النبي ستة أشهر ] ، فكان عليٌ عندها لا يخرج إلا للصلاة تقريباً ، و بعد موت فاطمة رضي الله عنها خرج فإذا بوجوه الناس قد تغيرت ، فالتمس مصالحة أبي بكر و مبايعته ، و لم يكن يبايع تلك الأشهر ، فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ، و لا يأتين أحد معك ، فقال عمر لا والله لا تدخل عليهم وحدك ، فقال أبوبكر : و ما عسيتهم أن يفعلوا بي ؟ والله لآتينهم . فدخل عليهم ، فتشهد علي وقال : إنّا قد عرفنا فضلك و ما أعطاك الله ، ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك ، و لكنك استبددت علينا بالأمر ، و كنا نرى لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيباً ، حتى فاضت عينا أبي بكر ، فقال : والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله أحب إلي من أن أصل قرابتي ، و أما الذي شجر بيني و بينكم من هذه الأموال ، فلم آلُ فيه عن الخير ، و لم أترك أمراً رأيت رسول الله يصنعه فيها إلا صنعته، فقال علي لأبي بكر : موعدك العشية للبيعة . فلما صلى أبوبكر الظهر ، رقى على المنبر و ذكر شأن علي(1/9)
و تخلفه عن البيعة ، و عذره بالذي اعتذر إليه ، واستغفر ، هنا تشهد علي فعظم حق أبي بكر ، و حدث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر ، ولا إنكاراً للذي فضله الله به ، و لكنا نرى لنا في هذا الأمر نصيباً فاستبد علينا ، فوجدنا في أنفسنا ، فسُر بذلك المسلمون و قالوا : أصبت ) . البخاري مع الفتح (7/564) .
و في السنة عند عبد الله بن الإمام أحمد ( أن علي بايع أبابكر ثم اعتزل ستة أشهر [ أي أنه لم يبايع جهرة . وذكر القصة مع أبي بكر ] ثم صعد علي المنبر فبايع علانية ) . (2/554) بسند صحيح كما قال المحقق .
و هذا الذي تدل عليه الروايات الصحيحة . و جمع ابن كثير في البداية و النهاية (6/301-302 ) و ابن حجر في الفتح (7/564-566 ) بين الأحاديث الصحيحة بأن علياً بايع أول الأمر مع الناس ثم بايعه بعد وفاة فاطمة تأكيداً للأولى و إزالة لما حدث من جفوة بسبب الاختلاف حول الميراث .
أخرج البخاري عن عقبة بن الحارث قال :( صلى أبوبكر رضي الله عنه العصر ثم خرج يمشي ، فرأى الحسن يلعب مع الصبيان ، فحمله على عاتقه وقال : بأبي شبيه بالنبي لا شبيه بعلي ، و علي يضحك . البخاري مع الفتح (7/119) .
و زاد الإمام أحمد :( أن ذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بليال ، و علي يمشي إلى جانبه . المسند (1/8) . و للمزيد حول ثبوت مبايعة علي و الزبير لأبي بكر رضي الله عنهم ، أنظر كتاب الإمامة العظمة عند أهل السنة لعبد الله الدميجي (ص 142-143) . و كذلك رسالة الدكتور خالد الغيث حيث ذكر أدلة أخرى لم أذكرها هنا راجعها ( ص 59 – 64 ) .
ذكر المحاضر بعد ذلك قصة الخلافة بين أبي بكر رضي الله عنه وبين فاطمة في قصة الميراث ، وذكر أنها هجرت أبا بكر ولم تكلمه وظلا متهاجرين إلى أن ماتت رضي الله عنها .(1/10)
قلت : رحمك الله إن قصة الميراث ثابتة في كتب الصحاح والسنن ، لكن هناك تفصيل في الأمر و توضيح لمعنى الهجر الذي ورد في الحديث ، وهو : (( أن ما ذكر من هجران فاطمة لأبي بكر رضي الله عنهما ، فمعناه انقباضها عن لقائه ، و ليس هذا من الهجران المحرم ، الذي هو ترك السلام والإعراض عند اللقاء .. وقوله في حديث البخاري ( فلم تكلمه ) يعني في هذا الأمر ، أو لانقباضها ، فلم تطلب منه حاجة ولا اضطرت إلى لقائه فتكلمه ، و لم ينقل قط أنهما التقيا فلم تسلم عليه ولا كلمته )) . شرح صحيح مسلم (12/111) .
أما مسألة الغضب فهي ثابتة في الصحيح ، لكن لم يكن من أجل فدك ولا من أجل من يتولى الإشراف على فدك ، وإنما كان من أجل الميراث .
أخرج البخاري في صحيحه عن عائشة أن فاطمة رضي الله عنها بنت النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله مما أفاء الله عليه بالمدينة و فدك و ما بقي من خمس خيبر ، فقال أبو بكر : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا نورث ما تركنا صدقة ، إنما يأكل آل محمد من هذا المال ) وإني والله لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و لأعملن فيها بما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأبا أبو بكر أن يدفع لفاطمة منها شيئاً ، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت .. الحديث . و قد ورد بألفاظ مختلفة .
فأما قولها – أي عائشة – فوجدت أو فغضبت فاطمة .. وقع عند عمر بن شبة في تاريخ المدينة (1/198) من وجه آخر عن معمر : ( فلم تكلمه في ذلك المال ) .
و كذا نقل الترمذي عن بعض مشايخه أن معنى قول فاطمة لأبي بكر و عمر لا أكلمكما ، أي في هذا الميراث . سنن الترمذي (4/115) .(1/11)
و تعقبه الشاشي – هو أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم ( ت325هـ ) – بأن قرينة قوله ( غضبت ) تدل على أنه امتنعت عن الكلام جملة و هذا صريح الهجر .
و قد ثبت عند البيهقي في السنن الكبرى (6/301) من طريق الشعبي : أن أبا بكر عاد فاطمة ، فقال لها علي : هذا أبو بكر يستأذن عليك ، قالت : أتحب أن آذن له ؟ قال : نعم ، فأذنت له فدخل عليها فترضاها حتى رضيت . و هذا الإسناد وإن كان مرسلاً فإسناده إلى الشعبي صحيح ، و به يزول الإشكال في جواز تمادي فاطمة عليها السلام على هجر أبي بكر .
و قد قال بعض الأئمة : إنما كانت هجرتها انقباضاً عن لقائه والاجتماع به ، و ليس ذلك من الهجران المحرم ، لأن شرطه أن يلتقيا فيعرض هذا و هذا ، و كأن فاطمة رضي الله عنها لما خرجت غضبى من عند أبي بكر تمادت في اشتغالها بحزنها ثم بمرضها ، وأما سبب غضبها مع احتجاج أبي بكر بالحديث المذكور ، فلاعتقادها تأويل الحديث على خلاف ما تمسك به أبو بكر ، وكأنها اعتقدت تخصيص العموم في قوله ( لا نورث ) و رأت أن منافع ما خلفه من أرض و عقار لا يمتنع أن تورث عنه ، و تمسك أبو بكر بالعموم ، واختلفا في أمر محتمل للتأويل ، فلما صمم على ذلك انقطعت عن الاجتماع به لذلك ، فإن ثبت حديث الشعبي أزال الإشكال ، وأخلق بالأمر أن يكون كذلك لما علم من وفور عقلها و دينها رضي الله عنها . راجع كتاب : الخلافة الراشدة والدولة الأموية من فتح الباري للدكتور : يحيى اليحيى ( ص 200-201 ) .
وفي الختام أود أن أنبه على ملحوظة بسيطة وهي وقوع المحاضر في بعض الأخطاء أثناء ذكره للأسماء التي تتكرر في أثناء عرض الموضوع ، ومثال لك :-
1 – قال المحاضر بعد أن سرد قصة قيام الصحابة بتجهيز النبي صلى الله عليه وسلم للدفن أن ممن شارك في تغسيله قِثم بن العباس رضي الله عنه ، بكسر القام ، والنطق الصحيح لها هو قُثم بن العباس ، بالضم .(1/12)
2 – وقال : وكان معهم أيضاً شَقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والصحيح هو شُقران بالضم أيضاً .
3 – وقال : و معهم أوس بن خُولي ، والصحيح هو : أوس بن خَوْلي رضي الله عنه .
هذا والله أعلم والحمد لله رب العالمين وإلى لقاء آخر ومع الشريط الثاني ..
أخوكم : أبو عبد الله الذهبي ..(1/13)