لقد نظر إلى مجلس طبقات الأمة (مايو 1789) كاجتماع مرتبط بملاك الأراضي والعقارات وعندما تطور الصراع بين هذا المجلس ولويس السادس عشر شعر بتهديد قوي لكل الملوك وليس للويس السادس عشر وحده فعرض وهو الليبرالي المتنور أن يكون على رأس تحالف ضد الثورة الفرنسية، وبينما كان منشغلا بوضع الخطط لإنقاذ لويس السادس عشر دبر بعض النبلاء السويديين مؤامرة لاغتياله· وفي 16 مارس 1792 تم إطلاق النار عليه، ومات في 26 مارس وعمت الفوضى السياسية في السويد حتى سنة 1810·
وكان حكم جوستافوس الرابع (1792 - 1809) حكما تعساً· لقد انضم للتحالف الثالث ضد فرنسا (1805) مما أعطى نابليون مبررا للاستيلاء على بوميرانيا Pomerania وسترالسوند Stralsund - وهي آخر الممتلكات السويدية على البر الأوربي المقابل لها· وفي سنة 1808 عبر جيش روسي خليج بوثنيا Bothnia على الجليد وهدد ستوكهولم فاضطرت السويد إلى التخلي عن فنلندا مقابل السلام، وعزل الريكسداج Riksdag، جوستافوس الرابع وأعاد سلطان الأرستقراطية واختار عم الملك المعزول، وكان في الواحدة والستين من عمره سهلا طيعا· إنه تشارلز الثالث عشر (حكم من 1809 - 1818)، ولأنه لم ينجب فكان لابد من اختيار وريث لعرشه، فطلب الريكسداج Riksdag من نابليون أن يسمح لأحد أبرز مارشالاته وهو جان - بابتست بيرنادوت Jean - Baptiste Bernadotte بقبول ولاية العهد· ووافق نابليون، ربما أملاً في أن يكون لزوجة بيرنادوت التي كانت ذات مرة خطيبة نابليون وكانت أخت جوزيف بونابرت - نفوذ في السويد· وعلى هذا أصبح بيرنادوت في سنة 1810 هو ولي عهد السويد وأصبح اسمه تشارلز جون Charles John·(ملحق/1320)
وفي ظل حكومة هذا تكوينها واصل العقل السويدي جهوده في مضمار التعليم والعلم والأدب والفن، فكانت جامعات أوبسالا Uppsala وأبو Abo ولوند Lund من بين أفضل الجامعات في أوربا· وكان جون جاكوب بيرزيليوس Jons Jakob Berzelius (1779 - 1848) أحد مؤسس الكيمياء المعاصرة· إذ استطاع بدراسته المتأنية الدقيقة لنحو ألفي مركب أن يصل إلى قائمة بالأوزان الذرية أكثر دقة بكثير من قائمة دالتون Dalton ولا تختلف إلا قليلا جدا من حيث دقتها عن القائمة التي استقر عليها العلم في سنة 1917· وعزل كثيرا من العناصر الكيميائية للمرة الأولى· وراجع نظام الرموز الكيميائية الذي وضعه لافوازيه Lavoisier وقام بدراسات كلاسيكية في الأثر الكيميائي للكهرباء وطور نظاما ثنائيا لدراسة عناصر في التفاعل الكيميائي كموجبة أو سالبة كهربيا· وأصبح كتابه الموجز الذي نشره في سنة 1808 وتقريره السنوي Jahresbericht الذي بدأ صدوره سنة 1810 إنجيلا للكيميائيين طوال جيل·
وكذلك كان في السويد كثير من الشعراء انقسموا إلى مدرستين شعريتين متنافستين: الفوسفوريون Phosphorists الذين ترجع تسميتهم بهذا الاسم إلى مجلتهم التي أصدروها بعنوان (الفسفوري Phosphorous) وكانوا متأثرين بالرومانسية الألمانية الوافدة وتحوي أشعارهم الكثير من العناصر الباطنية (الصوفية) أكثر من سواهم من الشعراء، والقوطيون (المدرسة الشعرية القوطية Gothics) الذين راحوا يعزفون في أشعارهم على أنغام البطولة·(ملحق/1321)
وبدأ تجنر Esaias Tegner كقوطي (من المدرسة الشعرية القوطية السابق ذكرها) لكنه كان كلَّما سار قدما في مضمار الشعر راح يوسع مجالات تناوله الشعري حتى بدا وكأنه يضم بين جنبيه كل مدارس الشعر السويدية· ولد تجنر في سنة 1782 ولم يكن قد بلغ السابعة من عمره عندما نشرت الثورة الفرنسية - وكانت كأعظم الفسفوريين - نورها وحرارتها خلال أوربا، وما كاد يبلغ الثالثة والثلاثين حتى نفي نابليون إلى سانت هيلينا وعاش تجنر إحدى وثلاثين سنة أخرى لكنه كان قد حقق بالفعل تفوقه وشهرته عندما منحته الأكاديمية الملكية السويدية في سنة 1811 جائزة لقصيدته ( Svea) التي وبّخ فيها كل معاصريه لفشلهم في الحفاظ على عادات أسلافهم·
وانضم (إلى الاتحاد القوطي Gothic Union) وسخر من الفسفوريين (أتباع المدرسة الشعرية الفسفورية السابق ذكرها) متهما إياهم بالضعف الرومانسي· وأصبح وهو في الثلاثين من عمره أستاذا للغة اليونانية في جامعة لوند Lund وأصبح وهو في الثانية والأربعين (أسقف فكسجو Vaxjo) وفي الثالثة والأربعين (1825) نشر أشهر قصيدة في الأدب السويدي· لقد كانت هذه القصيدة الطويلة ( Frithjofs Saga) سلسلة من الحكايات الأسطورية مستوحاة من التراث الشعري الاسكندينافي القديم وظن بعض النقاد أن الملحمة مغرقة جدا في الاتجاه الخطابي (ذات نبرة عالية) - فالشاعر لم يستطع استبعاد مزاجه الأسقفي، لكن بهاء قصائده وروحها الغنائية جعلتها تحظى بقبول حماسي حتى خارج السويد فبحلول عام 1888 ترجمت إلى الإنجليزية إحدى وعشرين مرة وإلى الألمانية تسع عشرة مرة·(ملحق/1322)
وبدا وكأن تجنر Tegner قد استنفد قواه في عمله الشعري هذا فبعد أن أنهاه تدهورت صحته لكنه ظل يكتب الشعر في المناسبات وأهدى إحدى قصائده لامرأة متزوجة من فكسجو Vaxjo· لقد كان ليبراليا في الأساس لكنه تحول إلى متحفظ متمسك بالاتجاه المحافظ ودخل في خلافات ساخنة مع الأقلية الليبرالية في الريكسداج Riksdag· وأعقب اضطرابات 1840 اضطراب فكري لكن واصل كتابة شعره الجيد حتى مات في سنة 1846 في فكسجو Vaxjo وفي هذه الأثناء أصبح الملك تشارلز الثالث عشر مريضا بشكل مستمر، فتولى ولي العهد تشارلز جون الوصاية على العرش وتولى مسئولية الحكم·
وسرعان ما واجه خيارا صعباً بين ولائه لوطنه الأصلي (فرنسا) والبلاد التي احتضنته (السويد)، ومادامت الدول تكون مولعة بضم بلاد أخرى تماما كمواطنيها، فإنها ترسل زوائدها الكاذبة pseudopodia كزوائد الأميبيا المعدة للإمساك - تلك الزوائد المسماة بالجيوش - للإمساك بما يعد وجبات شهية، فقد راحت الحكومة السويدية تتطلع بنهم لامتلاك جارتها النرويج التي كانت الدنمرك منذ سنة 1397 تدعي حق ملكيتها· واقترح ولي عهد السويد على نابليون أن تضم السويد النرويج إليها فبهذا تتوثق عرى العلاقات بين السويد وفرنسا فرفضه نابليون لأن الدنمرك كانت من أخلص حلفائه، وفي يناير سنة 1812 استولى نابليون مرة أخرى على بوميرانيا Pomerania السويدية بحجة أنها سمحت باستيراد البضائع البريطانية وهذا إخلال بالحصار القاري الذي فرضه نابليون، فاتجه الأمير تشارلز جون إلى روسيا التي كانت هي بدورها تتجاهل الحصار القاري فوافقت روسيا على أن تبتلع السويد النرويج مقابل أن تؤيد السويد بما قامت به روسيا من ضم فنلندا إليها· وفي أبريل سنة 1812 وقعت السويد تحالفاً مع روسيا وفتحت موانئها للتجارة البريطانية· هذا هو الوضع في السويد عندما كان نابليون يحتفي بملوك أوربا في دريسدن Dresden في طريقه إلى موسكو·(ملحق/1323)
3 - الدنمرك
لم تثر أخبار سقوط الباستيل دهشة كبيرة لدى الدنمركيين الذين كانوا بالفعل منذ سنة 1772 قد ألغوا القنانة serfdom ( عبودية الأرض) والتعذيب في أثناء المحاكمة وأصلحوا القانون والمحاكم والشرطة وطهروا مجال الخدمة المدينة من الرشوة واستغلال النفوذ وأعلنوا حرية العبادة لكل الأديان وشجعوا الأدب والفن· وكان الدنمركيون ينظرون إلى أسرتهم المالكة كأساس استقرار وسط صراع الطبقات وتقلبات السياسة· وعندما هاجم الجمهور الباريسي الملك لويس السادس عشر، وبعد الحكم عليه بالإعدام - رغم أنه أي لويس السادس عشر كان كالملك الدنمركي مؤيداً لاتخاذ إجراءات ليبرالية، كان الدنمركيون متفقين مع مليكهم على أنهم ليسوا في حاجة إلى هذا الانفعال (العنف) · وسرعان ما نظر الدنمركيون بتسامح إلى نابليون لتهدئته الثورة وإعادته النظام في فرنسا، فرفضت الدنمرك الانضمام لتحالف مضادٍ له·
بل على العكس فقد تحدت الحكومة الدنمركية دعاوي الأدميرالية البريطانية بحق قباطنتها في الصعود إلى أي سفينة متجهة إلى فرنسا والبحث عن البضائع المهربة فيها· وفي مناسبات عديدة في سنتي 1799 و1800 اعتلى القباطنة البريطانيون سفنا دنمركية وقبض أحدهم على سبعة تجار دنمركيين ممن قاوموه واحتجزهم في ميناء بريطاني· وفي أغسطس سنة 1800 دعا القيصر بول الأول Czar Paul I ملوك بروسيا والسويد والدنمرك للانضمام إليه في العصبة الثانية للحياد المسلح بهدف مقاومة تفتيش البريطانيين للسفن المحايدة· وفي 16 و18 ديسمبر سنة 1800 وقعت القوى البلطيقية الأربع إعلان مبادئ وافقوا بمقتضاه على الدفاع عن الآتي:
(1) لكل سفينة محايدة الحق في الإبحار بحرية من ميناء إلى ميناء على سواحل الدول المتحاربة·
(2) البضائع التي تخص رعايا القوى المتحاربة - باستثناء المهربة - لا يجوز التفتيش عليها إذا كانت على متون سفن تمتلكها دول محايدة····
(5) إعلان قائد السفينة (المحايدة) أن السفينة أو السفن التابع للبحرية الملكية أو الإمبراطورية·· ليس في حمولتها بضائع مهربة - يكفي لمنع أي تفتيش·(ملحق/1324)
أعرب نابليون عن اغتباطه بهذا الإعلان، ودعا بول الأول فرنسا للانضمام إلى روسيا في غزو الهند للقضاء على السيطرة البريطانية هناك· وأحست إنجلترا أن النزاع وصل إلى نقطة حرجة لأن الأساطيل المشتركة للقوى المحايدة وفرنسا يمكن أن تنهي السيطرة البريطانية على البحار التي هي - أي هذه السيطرة - المانع الوحيد الذي يمنع نابليون من غزو إنجلترا، فانتهت الحكومة البريطانية إلى أن الحل الوحيد هو الاستيلاء على الأسطول الدنمركي أو الروسي أو تدميره· ومن الأفضل أن يلحقوا هذا بالأسطول الدنمركي لأن الهجوم على روسيا قد يتيح للأسطول الدنمركي الهجوم على مؤخرة الأسطول البريطاني·
وفي 12 مارس 1801 غادر أسطول بريطاني بقيادة السير هايد باركر Hyde Parker، ميناء يارموث Yarmouth مزودًا بتعليمات للتوجه إلى كوبنهاجن ومطالبة الدنمرك بالانسحاب من عصبة الحياد المسلح وفي حالة الرفض يقوم الأسطول الإنجليزي بالاستيلاء على الأسطول الدنمركي أو تدميره· وكان الأدميرال المساعد هو هوراشيو نيلسون Horatio Nelson وكان في الثانية والأربعين من عمره، وكان هو القائد الثاني، وكان مستاء من تبعيته للأدميرال باركر البالغ من العمر اثنين وستين عاما والذي أظهر ميلا للحذر من ميل نيلسون للخروج عن قيادته·
ووصلا إلى الساحل الغربي لجوتلاند Jutland في 17 مارس وأبحرا بحذر شمالا وحول رأس شجيراك Skaggerak لشبه الجزيرة ثم جنوباً في خليج كتيجات Kattegat الكبير إلى جزيرة سجالاند Sjaelland ومن ثم عبرا المضيق الضيق بين هالسنجبورج Halsingborg السويدية وهلسنجور Helsingor الدنمركية فأطلق عليهم حصن كرونبورج Kronborg مدافعه، فاتجه الأسطول البريطاني جنوبا في المضيق حيث مضيق آخر هو أضيق المضايق جميعا فبدت كوبنهاجن منيعة يحميها الأسطول الدنمركي والحصون - لقد كان هناك سبع عشرة سفينة مصفوفة في خط من الشمال إلى الجنوب، وكان كل منها مسلحا بمدافع يتراوح عددها بين عشرين وأربعة وستين مدفعا·(ملحق/1325)
وقرر الأدميرال باركر Admiral Parker أن سفنه الكبرى حجما ذوات الغاطس الأعمق من سفن نيلسون Nelson لا يمكنها دخول هذا المضيق ذي المياه الضحلة، دون خطر الارتطام بالأرض أو التعرض للتدمير فانتقل نيلسون بعلم قيادته من السفينة سانت جورج إلى السفينة إليفانت (الفيل Elephant) وقاد إحدى وعشرين سفينة أصغر من سواها في المضيق ركزها في مواجهة السفن والحصون الدنمركية مباشرة· لقد دارت المعركة (2 أبريل 1801) وكل طرف منهما على مقربة من الطرف الآخر حتى كادت كل طلقة أو قذيفة تحمل معها الدمار أو الموت وقد حارب الدنمركيون بشجاعتهم المألوفة، وحارب الإنجليز بنظامهم المعهود ومهارتهم في التصويب· وكادت كل سفينة من السفن المشتركة في القتال تتعرض لخطر شديد، وبدا موقف نيلسون حرجاً جداً حتى إن الأدميرال باركر أشار إليه بالإشارة رقم 39 الشهيرة والتي تعني التراجع·
وثمة رواية إنجليزية تذكر أن نيلسون راح ينظر للإشارة بإمعان بعينه المصابة بالعمى، وعلى أيه حال فقد أقسم في وقت لاحق أنه لم ير أبدا الإشارة التي تأمر بالتراجع، فواصل القتال· ونجح المغامر الكبير فراحت السفن الدنمركية تهوي غارقة أو تصبح غير صالحة للقتال· وعرض نيلسون وقف إطلاق النار فقبل طلبه، وكان نيلسون - كنابليون - يستخدم الدبلوماسية إلى جانب الحرب لتحقيق غرضه، فاتجه إلى الساحل لمناقشة شروط السلام مع فريدريك الوصي على العرش الدنمركي وولي العهد· وكان الأمير قد تلقى أخبارا مفادها أن القيصر بول الأول قد اغتيل (23 مارس 1801) وأن عصبة الحياد المسلح قد انهارت، فوافق على الانسحاب منها· وأكدت الحكومة البريطانية الاتفاق الذي وقعه نيلسون، وعاد إلى نصر آخر، فقد دعته الأمة (1805) لينقذ السيادة البريطانية على البحار في معركة الطرف الأغر·(ملحق/1326)
ونجت الدنمرك واحترمتها إنجلترا كما كانت تحترمها سائر دول أوروبا، وظلت هذه المملكة الصغيرة طوال الست سنوات التالية تُناضل للحفاظ على حيادها بين بريطانيا العظمى وروسيا اللتين تسيطران على البحار المجاورة، والجيوش الفرنسية التي تَعِسّ في الأراضي المجاورة لهذه الشبه جزيرة التي يعمها الاضطراب· وكان الدنمركيون بشكل عام يميلون لنابليون لكنهم امتعضوا بسبب إلحاحه عليهم لمزيد من الانحياز له· وبعد سلام تيلسيت Tilsit أرسل نابليون رسالة إلى الحكومة الدنمركية ملحاً على ضرورة منع أي بضائع إنجليزية، ومطالباً بتعاون أسطول الدنمرك الجديد مع الفرنسيين·
والآن - كما كان الأمر في سنة 1801 - أخذت الحكومة البريطانية بزمام المبادرة وأرسلت أسطولاً كبيراً على متون سفنه 27,000 مقاتل إلى المياه الدنمركية (26 يوليو 1807) متذرعة بأن عملها هذا لا هدف له إلا تحقيق السلام، وحذَّر وزير الخارجية البريطاني جورج كاننج George Canning حكومته من أن نابليون كان يخطط لضم الأسطول الدنمركي إلى أسطول آخر في محاولة لإنزال جنود في اسكتلندا أو أيرلندا، وفي 28 يوليو أصدر كاننج تعليمات لممثلي الحكومة البريطانية في الدنمرك بإعلام ولي العهد الدنمركي أنه من الضروري لأمن بريطانيا العظمى أن تتحالف معها (أي الدنمرك) وأن تضع أسطولها تحت تصرف الحكومة الإنجليزية·
ورفض ولي العهد الدنمركي واستعد للمقاومة، فحاصرت السفن البريطانية سجالاند Sjaelland وأحكم الجند البريطانيون الحصار حول كوبنهاجن، وتعرضت المدينة لقذف بالمدفعية من البر والبحر (2 - 5 سبتمبر 1807) وكان القصف عنيفاً لدرجة أن الدنمركيين سلَّموا لإنجلترا كل أسطولهم: 18 سفينة كبيرة وعشر فرقاطات وأربع وعشرين سفينة صغيرة· ومع هذا فقد واصلت الدنمرك الحرب وظلت منحازة لفرنسا حتى سنة 1813·(ملحق/1327)
وفي أثناء الحروب، بل وبإلهام منها في غالب الأحيان - قدم الدنمركيون إسهامات مهمة في العلوم والآداب والفنون· لقد اكتشف هانز كريستيان أورستد Christian Oersted (1777 - 1851) أن إبرة ممغنطة (على محور) ستعود عند الزوايا القائمة إلى الطرف الآخر حاملة تياراً كهربيا· ودخلت الكلمة (أورستد) إلى كل اللغات الأوروبية والأمريكية لتعني وحدة القوَّة في مجال مغناطيسي (وحدة شدّة المجال المغناطيسي) · لقد أسس أورستد علم الكهرباء المغناطيسية خلال ثلاثين عاماً من التجارب·
وكان نيكولاي جرندتفج Nikolai Grundtvig طوال عمره البالغ ثمانية وتسعين عاماً يبذل كل جهده ليكون لاهوتياً متحرراً وأسقفاً وفيلسوفاً ومؤرخاً ومربّيا مبدعا ورائداً في دراسة الحكايات الشعبية والتراثية من الآداب الأنجلوسكسونية وآداب اسكندينافيا، وألَّف بعض القصائد الملحمية والأغاني والترانيم الدينية التي مازالت محبوبة في اسكندينافيا·
وكان للدنمرك في هذا العصر المفعم بالأحداث مسرح ناشط، عملت كوميدياته على وخز مظاهر الادعاء على المستوى الاجتماعي، فسخر بيتر أندرياس هايبرج Heiberg (1758 - 1841) من التمييز الطبقي في مسرحيته ( De Vonner og de Vanner) فكثر أعداؤه بسبب ذلك حتى إنه لجأ إلى باريس طلباً للأمان فعمل في وزارة الخارجية الفرنسية مع تاليران، وقد أنجب ابنا هو جوهان لودفيج هايبرج (1791 - 1860) الذي كان له شأن كبير في المسرح الدنمركي في الفترة التالية·
وظهر في الأدب الدنمركي شاعران على الأقل تخطت شهرتهما حدود الدنمرك واللغة الدنمركية، ولا شك أن جينز إيمانويل باجسن Jens Immanuel Baggesen (1764 - 1826) كان ذا شخصية جذابة وأسلوب رشيق· ولقد افتتن دوق أوجستنبورج Augustenburg بأشعاره الأولى، فدفع للشاعر الشاب تكاليف زيارته لألمانيا وسويسرا· وقابل جينز Jens كلاً من فيلاند، وشيلر، وهيردر وكلوبستوك، وأحس بتطلعات روسّو الرومانسية، وسعد بالثورة الفرنسية وابتهج لقيامها·(ملحق/1328)
ودرس فلسفة كانط وسار في تيارها، ذلك التيار الذي أنعش الفلسفة الألمانية، وأضاف اسم كانط إلى اسمه وكتب حصاد رحلاته وتأملاته في كتاب متاهة شاعر جوّال Labyrinthen eller Digtervandringer (1792) كاد يضارع فيه لورنس ستيرن Laurence Stern فكاهةً وفيضَ مشاعر· ولما عاد للدنمرك تخلّى عن إثارة فيمار وباريس، وعاش في فرنسا في الفترة من 1800 إلى 1811 يراقب نابليون وهو يصوغ النظام من الحرية ويحول الجمهورية إلى إمبراطورية (المقصود يحول النظام الجمهوري إلى نظام إمبراطوري أو ملكي) · وفي سنة 1807 ألف قصيدة حيوية (الشبح ونفسه Gjengengeren og han selv) عرض فيها بذكاء وعمق تأرجحه بين المُثل الكلاسيكية من نظام وانضباط وحقيقة من ناحية، والاعتدال والتطلع الرومانسي إلى الحرية والخيال والرغبة من ناحية أخرى· وفي سنة 1811 أصبح أستاذاً في جامعة كيل Kiel، وبعد ذلك بعامين دخل في معركة حامية مع أعظم شعراء الدنمرك·
لقد عاش آدم جوتلوب أولنشليجر Adam Gottlob Oehlenschlager (1779 - 1850) حياة سعيدة - بشكل غير عادي - في فترة شبابه· كان والده ناظراً لأحد قصور الضواحي التي تحيط بها الحدائق والحقول، فاستمتع ابنه بحديقة يلعب فيها ومكتبة يقرأ فيها وصالة يعرض فيها الأعمال الفنية، وحلق به خياله وتطلّع للعمل في مهنة التمثيل لكن صديقه هانز كريستيان أورستد جذبه إلى جامعة كوبنهاجن· لقد عاش خلال الفترة التي قذف فيها البريطانيون بمدافعهم الأسطول الدنمركي والعاصمة الدنمركية في سنة 1801، وأحس بتأثير الفيلسوف النرويجي هنريك ستيفنز Henrik Steffens، وأخيراً وصل إلى مكانته من الشهرة بإصداره مجموعة قصائد في سنة 1802 رسَّخت الاتجاه الرومانسي في الأدب الدنمركي·(ملحق/1329)
وواصل معركته فأصدر مجموعة أشعار (1803) يوازن فيها بين حياة المسيح والتغييرات السنوية الحادثة في الطبيعة فأدانته الكنيسة الرسمية كحلولي (قائل بوحدة الوجود) مهرطق، لكن الحكومة الدنمركية كافأته بمنحة للسفر إلى ألمانيا وإيطاليا وفرنسا· وقابل جوته، وربما تعلم منه أن يراجع ذاتيته الرومانسية· وفي ديوانه قصائد شمالية، 1807 ( Nordiske Digte) استوحى الميثولوجيا الاسكندينافية بملحمة تحتفي برحلات الرب تور Thor، ودراما عن هاكون جارل Haakon Jarl الذي حكم النرويج من سنة 790 إلى سنة 995 وخاض معركة خاسرة لمواجهة انتشار المسيحية· وعندما عاد أولنشليجر إلى كوبنهاجن (1809) استقبلته الدوائر الأدبية كأعظم شاعر دنمركي·
وانتهز فرصة شهرته وشعبيته فنشر سلسلة من الأعمال المتعجلة، فانتقده جينز بجسن Beggesen علناً ذاكراً أن أعماله تتسم بتدني المستوى والإهمال· واستعر الخلاف، ولم يدافع فيه أولنشليجر عن نفسه كثيرا، إلا أن أصدقاءه - على أية حال - تولوا هذه المهمة عنه وتحدوا بجسن بدخول مبارزة في شكل نقاش أو مناظرة باللغة اللاتينية· وفي هذه الأثناء نشر أولنشليجر عمله ( Helge and Den Lille Hyrdedreng) فرحب بجسن به لأنه عودة آدم القديم وفي سنة 1829 توّج أولينشليجر في لوند كأمير للشعراء، وقام بتتويجه تجنر Esaias Tegner
وفي 4 نوفمبر 1849 امتدحه الشعراء المعاصرون في عيد ميلاده السبعين واصفينه بأنه آدم جبلنا المقدس ( The Adam of our Parnassus) وفي مضمار الفن قدمت الدنمرك لأوربا نحاتا لم يكن هناك من يضارعه عندما بلغ أوجه سوى كانوفا Canova· إنه بيرتل ثوروالدسن Thorwaldsen (1770 - 1844) الذي فاز بمنحة لدراسة الفن بأكاديمية كوبنهاجن واستقر في سنة 1797 في روما التي كانت لا تزال راضخة لإنجيل فنكلمان Winckelmann في الفن الهيليني Hellenic باعتباره هو الفن الذي يجب احتذاؤه (النموذج الأمثل) ·(ملحق/1330)
لقد لفت انتباه كانوفا Canova، وحذا حذوه في نحت تماثيل لأرباب المعتقدات الوثنية، كما نحت تماثيل للمشاهير المعاصرين له في أوضاع وملابس إغريقية أو رومانية، وعلى هذا فقد وجدناه في سنة 1817 يقيم تمثالا نصفيا لبايرون على نسق أنطونيوس الوقور· وكان يلي كانوفا من حيث المكان كزعيم للمدرسة الكلاسيكية الجديدة في النحت وانتشر أسلوبه النحتي انتشارا كبيرا حتى إنه عندما غادر روما في سنة 1819 ليقيم في كوبنهاجن كان يلقى ترحيباً كبيرا في أثناء مروره بفيينا وبرلين ووارسو Warsaw ( فرسافا) ·
والآن (1819) وجدناه يصنع النموذج الذي إحتذاه لوكاس أهورن Lucas Ahorn ونحته من حجر رملي ( Lion of Lucerne) تخليدا لذكرى الحرس السويسري الذي مات أفراده دفاعا عن لويس السادس عشر في سنة 1792· وتألمت كوبنهاجن عندما وجدته يغادرها مرة أخرى إلى روما· لكنها - في سنة 1838 - احتفت مفتخرة بعودته· وكان في هذا الوقت قد حقق ثروة وهب جزءا منها لإقامة متحف لعرض أعماله التي كان من أشهرها تمثال له شخصيا ليس كلاسيكيا إذ أظهر فيه بدانته بأمانة· وتوفي في سنة 1844 ودفن في حديقة متحفه·(ملحق/1331)
4 - بولندا
لم تكن بولندا قادرة على مقاومة روسيا وبروسيا والنمسا تلك القوى التي قسمتها مرات ثلاث (1772 و1793 و1795 - 1796) فيما بينها، وبهذا التقسيم لم تعد بولندا دولة لها وجود سياسي، لكنها استمرت كثقافة غنية أدباً وفنا وكشعب تواق للحرية· وكان كل البولنديين تقريبا من السلاف فيما عدا جيب ألماني في الغرب وقلة يهودية في وارسو وفي شرقي البلاد· وكان البولنديون كاثوليكياً متحمسين لأن هذه العقيدة (الكاثوليكية) كانت تواسيهم في أحزانهم وتعطيهم الأمل في الخلاص وتحفظ النظام الاجتماعي في ظل دولة محطمة، لذا فقد أدانوا الهرطقة واعتبروها خيانة (المقصود بالهرطقة هنا الخروج على الكاثوليكية) فكان نزوعهم الوطني غير متسم بالتسامح ولم يكن أحد من البولنديين - خلا الذين تلقوا قسطا وافرا من التعليم - بقادر على الشعور بالتآخي مع اليهود الذين تفوقوا في مضمار التجارة والمهن، أما اليهود الفقراء الذين يحملون سمات العزلة (الجيتو ghetto) وبؤسها فكان التعاطف معهم أقل بكثير·
وقد تعجب المسيحيون واليهود البولنديون للإهانة التي ألحقها نابليون بالنمسا وروسيا في أوسترليتز Austerlitz وزاد عجبهم وإعجابهم بانتصاراته على البروسيين في يينا Jena وأورشتدت Auerstedt، والآن (1806) فإن (نابليون) متمركز في برلين يصدر الأوامر لنصف أوربا· لقد طارد نابليون مغتصبي بولندا، وكان في طريقه لمحاربة روسيا· فإذا لم يعلن في طريقه إلى روسيا أن بولندا دولة حرة فإنه على الأقل سيقيم عليها ملكا ويمنحها دستورا ويعدها بالحماية· والزعماء البولنديون إليه فردهم بأدب مؤكدا لهم أنه سيساعدهم الآن بقدر طاقته، لكن تحرير بولندا متوقف على نتيجة مواجهة التالية مع الروس·
وحذر كوزكيو سكو Kosciusko أكثر الزعماء البولنديين تحفظا أهل بولندا من تعليق الآمال على نابليون· فهو - أي نابليون - لا يفكر إلا في نفسه، وهو يكره كل أمة عظيمة، وهو طاغية ولا هم له إلا إرضاء طموحه وعندما أرسل نابليون ليسأل كوزكيو سكو عن طلباته أجاب: حكومة كحكومة إنجلترا وإلغاء القنانة (عبودية الأرض)، وأن تحكم بولندا من داترج (دانتسج) إلى المجر، من ريجا Riga إلى أوديسا Odessa·(ملحق/1332)
وفي هذه الأثناء نظم البولنديون جيشا صغيرا وطردوا البروس من وارسو، وعندما دخل نابليون العاصمة في 19 ديسمبر 1806 استقبله الجماهير بحفاوة بالغة وانضم الجنود البولنديون إلى جيشه راغبين في محاربة روسيا تحت قيادته، تماما كما كان فيلق بولندي يحارب باسمه (باسم نابليون) في إيطاليا· وربما كان نابليون يقدر جمال النسوة البولنديات وسحرهن أكثر من تقديره لعروض قادتهم· لقد وجدنا مدام فالفسكا Walewska التي وهبت نفسها له في البداية كنوع من التضحية أملاً في حثه على إنقاذ وطنها، وجدناها تحبه الآن بعمق وظلت معه خلال فصل الشتاء القارس الذي دمر - تقريبا - كل جيشه في إيلاو Eylau، ثم عادت إلى وارسو (فرسافا)، بينما واصل هو طريقه ليهزم الروس في فريدلاند Friedland·
وفي معاهدة تيلسيت (9 يوليو 1807) أجبر فريدريك وليم الثالث على التخلي عن مزاعمه في وسط بولندا (بولندا الوسطى) واعترفت المادة الرابعة من المعاهدة بدوقية وارسو الكبيرة (والجديدة) كدولة مستقلة يحكمها ملك سكسونيا· وفي 22 يوليو قدم نابليون للدوقية دستوراً مستقى من الدستور الفرنسي، والمساواة أمام القانون والتسامح الديني والتجنيد الإجباري، ورفع قيمة الضرائب وفرض رقابة على الصحف· ووضع الكنيسة الكاثوليكية تحت سلطة الدولة لكن كان يجب على الدولة أن تقبل بالعقيدة الكاثوليكية وتحميها·
وأعطى الدستور لليهود الحقوق الكاملة لكنه اشترط توثيق الدولة لزواجهم وممتلكاتهم من الأراضي· وكان نابليون يتوقع حربا حتى الموت مع إسكندر Alexander فأوعز أن يحوي الدستور البولندي تأكيدا بدعم بولندا لفرنسا· وبالفعل فقد ظلت كل الطبقات تؤيد نابليون حتى عام 1814 أي عندما أصبح - أي نابليون - غير قادر على حمايتها· وظلت الفيالق البولندية في جيوشه تحارب معه بإخلاص حتى النفس الأخير· لقد راح كثيرون من البولنديين يهتفون في أثناء غرقهم عند انهيار جسر فوق البيريزينا Berezina: عاش الإمبراطور، رغم أنه كان عائدا من روسيا بعد أن حاقت به أكبر نكبة عسكرية في التاريخ·(ملحق/1333)
5 - تركيا (الدولة العثمانية) في أوربا
كانت أيام الإنجاز العثماني في مجال الحكم والأدب والفن قد ولت، لكن الأتراك (العثمانيين) كانوا ما يزالون في سنة 1789 يمسكون بأيد غير ثابتة زمام الأمر في مصر والشرق الأدنى إلى الفرات وآسيا الصغرى وأرمينيا واليونان وبلغاريا وألبانيا وصربيا والمقاطعتين الدانوبيتين فاليشيا ومولدافيا (الأفلاق والبغدان) (الآن رومانيا) اللتين كانتا من بين مناطق متنازع عليها تركها نابليون لإسكندر Alexander في اتفاقية تيلسيت Peace of Tilsit وكان السلاطين العثمانيون قد ضعفوا بسبب الجمود الاقتصادي والتفسخ الأخلاقي، فسمحوا للباشاوات بحكم الولايات، واستنزافها دون تدخل من إسطنبول Constantinople إلا قليلا· وسبق أن لاحظنا مع بايرون حكم علي باشا القوي في ألبانيا (1788 - 1822) وكيف أن (علي باشا) تجاوز حده وراح يتآمر على الباب العالي، فدبر السلطان أمر قتله·
لقد حارب الصرب من أجل الاستقلال· وعندما أعدم الإنكشارية الباشا ذا الشعبية حاول الوطني الصربي قره جورج Karageorge (1804) أن يؤسس جمهورية بجمعية وطنية تختار بدورها مجلس شيوخ (سينات Senate) وفي سنة 1808 انتخب مجلس الشيوخ هذا قره جورج أميرا تتوارث ذريته الحكم، فأرسل السلطان محمود جيشا كبيرا إلى بلجراد للقضاء على هذه الجمهورية الجديدة (1813) فهرب قره جورج وآلاف من أتباعه إلى النمسا·
وقامت ثورة أخرى بقيادة الأمير ميلوسي أوبرينوفتش Milos Obrenovich فاضطر السلطان محمود لقبول تسوية (1815) يمنح الصرب بمقتضاها حرية الاعتقاد (الحرية الدينية) والتجارة وأن يكون لهم نظامهم التعليمي الخاص· ودعم ميلوسي أوبرينوفتش حكمه بالأساليب السياسية والاغتيالات إذ عمل على إعدام منافسه قره جورج، وحصل من السلطان على اعتراف بأن يكون الحكم متوارثا في ذريته· وفي سنة 1830 كانت صربيا من الناحية الفعلية دولة مستقلة·(ملحق/1334)
وكانت اليونان قد سقطت في أيدي الأتراك (العثمانيين) في سنة 1452 وظلت طوال هذه الفترة خاضعة لهم حتى كادت تنسى كبرياءها القديم· واختلطت الدماء في اليونان بعد أن غزاها الروم (المقصود: الأتراك العثمانيين) وهاجر إليها الصرب، وكما اختلطت الدماء اختلطت أيضا الذكريات الوطنية (العرقية) واللهجات حتى لم تعد لغة الحديث العامة وثيقة الصلة باللغة اليونانية التي كانت سائدة أيام أفلاطون·
ومع هذا احتفظ العلماء والشعراء والوطنيون بشيء من بلاء الإغريق الكلاسيكية وبذكرى أحد عشر قرنا (395 - 1452) كان اليونانيون خلالها يحكمون الإمبراطورية البيزنطية (الدولة الرومانية الشرقية) واستمروا طوال هذه القرون يثرون العلم والفلسفة والفن· لقد ألهبت أخبار الثورة الفرنسية هذه الذكريات وجعلت اليونانيين يندهشون مع لورد بايرون (في ديوانه شايلد هارولد Childe Harold) ويتساءلون لم لا تعود اليونان حرة كما كانت؟ وأعاد ريجاس فيروس Rhigas Pheraios (1757؟ - 1798) كتابة نشيد المارسليز باليونانية وحوره بما يناسب أوضاع اليونان، ونشره على نطاق واسع، وكون جمعية تهدف إلى ربط اليونانيين والأتراك معا على أساس من الحرية والمساواة وكان ريجاس قد وُلد في فاليشيا (في رومانيا الحالية) في مدينة تيسالي Thessaly وعاش في فيينا(ملحق/1335)
وذهب قاصدا اليونان في سنة 1797 ومعه صندوق ملئ بالمنشورات فتم القبض عليه في تريست وأعدم في بلجراد· وتم تكوين جمعية hetairia أخرى في أوديسا Odessa امتدت في سائر بلاد اليونان وشاركت في تهيئة اليونان للثورة· وكرس كوريز Koraes (1748 - 1833) العنيد نفسه لتنقية لغة الحديث اليونانية ليجعلها أقرب ما تكون إلى اليونانية القديمة· وكوريز هذا يوناني من سميرنا Smyrna استقر في باريس في سنة 1788، وقد ابتهج لقيام الثورة الفرنسية وراح ينشر المنشورات وينشد القصائد التي لم يكن يعزوها لنفسه (جعلها مجهولة المؤلف) كما راح يطبع التراث اليوناني الكلاسيكي، فنشر بذلك الأفكار الجمهورية والأفكار المناهضة للكنيسة - رغم أنه حذر من أن الثورة قد تكون مبتسرة (أي أتت قبل الأوان) · كانت جهوده هذه في سنة 1821 ولم تأت سنة 1830 إلا وكانت اليونان حرة·
ولم تكن الحكومة التركية في ظل ظروف العصر والموقع أكثر جورا بشكل واضح - من حكومات أوربا قبل سنة 1800· لقد صدم بايرون (21 مايو 1810) وهو يرى رؤوس المجرمين المقطوعة معلقة على جانبي بوابة سيراجليو Seraglio لكن لابد أن نسلم بأن، ما جزته مقصلة الحكومة الثورية الفرنسية من رؤوس الرجال والنساء كان أكثر من الرؤوس التي أمر السلاطين العثمانيون بقطعها في أي فترة زمنية مساوية لفترة الحكومة الثورية الفرنسية·
وكانت الثروة مركزة في يد قلة كما هو عليه الحال في كل مكان (أي أن ذلك لم يكن قصرا على الدولة العثمانية) وكان الأتراك (العثمانيون) أهل فلسفة وشعر كما كانوا أهل حرب، وهم يؤمنون بالقضاء والقدر خيره وشره من الله، لن يغيره تذمرهم، ويعتبرون المرأة المهذبة المعطرة أثمن من أي شيء خلا الذهب، ويؤثرون تعدد الزوجات إن استطاعوا مئونة ذلك، فلم لا يكونون أقدر سلالة؟ ولم يكونوا في حاجة للعاهرات إلا قليلا، وإنما كانت مواخيرهم يرتادها المسيحيون، وكان الترك (العثمانيون) لا يزالون ينتجون أدباً وفنا، فكثر الشعراء وتألقت المساجد وربما كانت إسطنبول هي أجمل مدن أوربا في سنة 1800·(ملحق/1336)
لقد كان وضع تركيا من الناحية السياسية محفوفاً بالمخاطر فقد كان اقتصادها وجيشها في حالة مضطربة بينما كانت موارد أعدائها وقواتهم العسكرية في حالة نمو· وكانت عاصمتها (إسطنبول) هي أكثر النقاط إستراتيجية على الخريطة فكانت أوربا المسيحية كلها تتحرق شوقا للاستيلاء على هذه اللؤلؤة· ومدت الإمبراطورة كاترين قبضة روسيا للبحر الأسود، فاستولت على القرم Crimea من التتار Tatars وراحت - بمباركة فولتير - تحلم بتتويج حفيدها - قسطنطين - في إسطنبول (القسطنطينية) - كان هذا هو الوضع عند تولي السلطنة سليم الثالث (1789) وهو في السابعة والعشرين من عمره،
وكان قد تلقى تعليما جيدا وكون صداقة حميمة مع السفير الفرنسي، وأرسل ممثلا عنه إلى فرنسا ليكتب له تقارير عن غرب أوربا، سياسة وفكرا وأساليب حياة، وقرر السلطان أنه إذا لم يتم إصلاح المؤسسات التركية إصلاحا جوهريا فلن تستطيع تركيا التصدي لأعدائها، فعقد سلاما مع كاترين في جسي Jassy (1792) واعترف بالسيادة الروسية على القرم ونهري دنيستر Dniester وبج Bug ثم كرس نفسه لاستحداث نظام جديد في الإمبراطورية العثمانية، قائم على انتخاب النواب والولاة (المحافظين)، وبمساعدة ضباط وخبراء من غرب أوربا أقام مدارس للملاحة والهندسة وكون بالتدريج جيشا جديدا·
ووضع الخطط لنقض عهوده مع روسيا لكن استيلاء نابليون على مصر ومهاجمته عكا عرقلا خططه، وانضم السلطان إلى إنجلترا وروسيا لشن حرب على فرنسا (1798) واستتب السلام في سنة 1802 لكن الحرب كلفت كثيرا وتمرد الولاة والرسميون الفاسدون ضد الدستور الجديد فاعتزل سليم الثالث (1807) ومع ذلك فقد قتلوه (بعد ذلك)، وبعد عام من الفوضى ساد المناصرون له وتولى محمود الثاني (ابن أخيه) السلطنة في سنة 1808 وهو في الواحد والثلاثين من عمره· وحولت القوى المتصارعة في العالم المسيحي التحكم في سياسات الباب العالي (الحكومة العثمانية) باستخدام المال والتهديد·(ملحق/1337)
ولم تبق الدولة العثمانية على قيد الحياة إلا لأن واحدة من القوى الأوربية المتصارعة لم تكن لتسمح للقوى الأخرى بالتحكم في مضيق البوسفور· وفي سنة 1806 أرسل إسكندر الأول جيشا إلى مولدافيا Moldavia وفاليشيا Wallachia ( الأفلاق والبغدان) لضمهما إلى روسيا فحث سفير نابليون السلطان سليم على المقاومة، فأعلنت تركيا (الدولة العثمانية) الحرب على روسيا، وفي معاهدة تيلسيت (1807) رتب نابليون أمر السلام لكن الهدنة كانت تخرق مرارا إلى أن قرر إسكندر سحب جيوشه من الجبهة الجنوبية تحسبا للحرب ضد نابليون، وفي 28 مايو 1812 قبل مغادرة نابليون - بيوم واحد - لدريسدن Dresden لينضم إلى قواته المتجمعة في بولندا، تخلت روسيا عن كل دعاويها في الولايتين الدانوبيتين (الأفلاق والبغدان) · لقد أصبح في مقدور إسكندر الآن تجميع كل قواته ومدافعه لمواجهة 400,000 مقاتل من الفرنسيين وحلفائهم كانوا يستعدون لعبور النيمن Niemen إلى روسيا·(ملحق/1338)
الفصل الرابع والثلاثون
روسيا
من 1796 إلى 1812م
1 - الظروف المحيطة بالروس
كتب تاليران Talleyrand في سنة 1816: كان من الممكن أن تكون فرنسا والنمسا أقوى قوتين في أوربا لو لم تكن قوة أخرى قد ظهرت في الشمال (خلال القرن الأخير) تلك القوة الشمالية التي كان تقدمها المرعب والسريع مسببا بالضرورة للفزع، فقد كانت اعتداءاتها وتجاوزاتها قد أصبحت بالفعل سمة من سماتها، ولم تكن هذه التجاوزات سوى مقدمات لمزيد من الغزو الذي سينتهي بابتلاعها كل شيء·
إن المساحة الهائلة يمكن أن تصنع التاريخ· طالع خريطة العالم من كالينينجراد Kaliningrad ( التي عرفها كانط باسم كونيجسبرج Konigsberg) على بحر البلطيق إلى كامشتكا Kamchatka على المحيط الهادئ (الباسفيكي)، ومن المحيط المتجمد الشمالي إلى بحر قزوين، وروسيا تشغل كل المساحة الواقعة بين الهملايا Himalayas ومنغوليا والصين واليابان· لندع الخريطة تتكلم أو لنستمع إلى مدام دي ستيل de Stael التي اتخذت طريقها من فيينا إلى سان بطرسبرج في سنة 1812:(ملحق/1339)
مساحة روسيا شاسعة لدرجة أن كل شيء يضيع فيها حتى القصور الضخام بل وحتى السكان· إنه يهيأ للمسافر فيها أنه يسافر في بلاد هجرها سكانها للتو··· وأوكرانيا خصبة التربة جدا·· فأنت ترى سهولاً شاسعة مزروعة حنطة فيهيأ لك أن أيادي خفية زرعتها، فعدد السكان قليل، والتجمعات السكنية نادرة·
ويحتشد السكان في قرى متناثرة لأنهم لم ينسوا بعد التتار الذي عاثوا في الأرض فسادا وراحوا يقتلون باستمتاع· لقد رحل التتار لكن قد يأتي آخرون مثلهم، وقد تركوا (التتار) شيئا من قسوتهم ليؤثر في أساليب الروس في العيش ونزوعهم الشديد إلى الكد والكدح والانضباط· لقد كان الانتخاب الطبيعي (البقاء للأصلح) يعمل عمله فيهم بلا رحمة ليبقي على قيد الحياة التواقين للعمل يزرعون الأرض ويحرثون النساء بلا كلل ولا ملل، وقد جعل بطرس الأكبر من بعضهم جندا وملاحين، وجلب من أتوا بعده المغامرين الألمان، والتشيك المهرة، ودفعت كاترين الجيوش الكبيرة والجنرالات المغرورين ليتوغلوا جنوبا دافعين التتار والترك أمامهم فاستولوا على القرم Crimea وأبحروا منتصرين في البحر الأسود·
واستمر التوسع في عهد إسكندر الأول، واستقر الروس في ألاسكا وأقاموا حصنا بالقرب من سان فرانسيسكو وأسسوا مستعمرة كاليفورنيا، لقد جعل المناخ القاسي لروسيا الأوربية - حيث لا جبال ولا غابات تحميها من برد القطب الشمالي - من الشعب الروسي شعباً شديد البأس يمكنه تحقيق المستحيل إذا وجد الخبز وأتيح له الوقت· وفي ظل هذه الظروف كان من الممكن أن يكون الروس قساة لأن الحياة قاسية عليهم، وكان من المفهوم أن يكونوا معذبين للأسرى والسجناء، ذباحين لليهود· لكنهم لم يكونوا جامدين يتعذر تغيير طباعهم، فقد أثرت الحياة الآمنة فيهم بشكل متزايد فصاروا أرق حاشية وأتقى، وراحوا يتعجبون لم قتلوا؟ ولم كانوا آثمين؟ وراحوا ينظرون إلى العالم الثائر المضطرب غير المفهوم باستغراب شديد وصل بهم إلى حد الهذيان·(ملحق/1340)
إلا أن الدين هدأ من عجبهم ولطف من حدة اضطرابهم· لقد قام رجال الدين هنا بدور الجيش الروحي لدعم قوة القانون بقوى أخرى باطنية مستمدة من الميثولوجيا لإعطاء القانون بعداً باطنيا أو لشرحه وتفسيره، وللترغيب والترهيب، تماما كما فعل رجال الدين في المراحل الأولى في مجتمعات غرب أوربا· وكان القياصرة يعلمون أهمية هذه الميثولوجيا وحيويتها لتحقيق الانضباط الاجتماعي وحث العامل على أداء عمله بصبر، والتشجيع على التضحية بالنفس في الحرب والسلم· فدفع القياصرة مرتبات عالية لرجال الدين من ذوي الرتب الكنسية العليا، ودفعوا لرجال الدين ممن هم أقل درجة مرتبات كفيلة بإعاشتهم وكفيلة بدعم ولائهم الوطني· وقد حمى القياصرة المنشقين الدينيين طالما ظلوا موالين للدولة ولا يسببون إزعاجا· لقد تغاضت كاترين الثانية وتغاضى أيضا إسكندر الأول عن المحافل الماسونية Freemasonry lodges التي كانت تدعو - بحذر - لإصلاحات سياسية·
لقد تمسك النبلاء الروس بكل حقوقهم الإقطاعية ومارسوها وكانوا يتحكمون - تقريبا - في كل جانب من جوانب حياة أقنان الأرض العاملين في أراضيهم، فكان يمكن للسيد الإقطاعي أن يبيع رقيق الأرض من العاملين عنده، كما كان يمكنه تأجيرهم للعمل في المصانع في المدن، وكان يمكنه أن يودع من يشاء منهم في السجن ويضربه بالعصا أو يجلده بالسوط· وكان يمكنه أن يعهد بهم إلى الحكومة لتشغيلهم في سيبيريا أو سجنهم هناك وكان في هذا شيء من التخفيف عليهم·
وكان بيع عبد الأرض (القن) بمفرده دون أسرته أمراً نادرا، لكن بعض النبلاء أسهموا في تعليم بعض الأقنان وغالبا ما كان هذا التعليم من النوع التقني أو الحرفي الذي يفيد العمل في ممتلكات النبيل، وأحيانا يكون هذا التعليم لإعداده لمجال أوسع، فقد سمعنا أنه في نحو سنة 1800 كان هناك قن serf يدير مشروعاً للنسيج به خمسمائة نول لكن معظم هذه الأنوال كانت في بيوت في مزارع أسرة شيرمتيف Sheremetev الشاسعة·(ملحق/1341)
ويشير تعداد السكان في روسيا في سنة 1783 إلى أن إجمالي عدد السكان هو 25,677,058 نفس، وكان هناك من بين الذكور البالغ عددهم 12,838,529: أقنان يمتلكهم أصحاب الأراضي، يبلغ عددهم 6,678,239 (لكل قن منهم أنثاه) أي أكثر من نصف السكان· لقد بلغت القنانة ذروتها في تلك الفترة، وساءت في عهد كاترين، وتخلى إسكندر الأول عن محاولاته الباكرة للتقليل منها·
ويشير الإحصاء السابق إلى أن 94,5% من سكان روسيا من أهل الريف، لكن هذا الرقم يشتمل على فلاحين يعملون في المدن ويعيشون فيها· وكانت المدن تنمو ببطء فلم يكن يزيد عدد ساكنيها في سنة 1796 عن 1,30,1000 نفس·
وكانت التجارة فعالة ونامية خاصة على طوال السواحل وفي القنوات المائية الكبيرة - وكانت أوديسا Odessa بالفعل مركزا عامراً للتجارة البحرية، أما الصناعة فكان نموها أبطأ، فكثير من النشاطات الصناعية كان يتم في محلات ومنازل في مناطق ريفية· وكانت حرب الطبقات أقل استعارا بين البروليتاريا وأصحاب الأعمال منها بين طبقة التجار الصاعدة - التي كان أفرادها يئنون من وطأة الضرائب - والنبلاء المعفيين من أداء الضرائب·
وكان التفاوت بين الطبقات حادا وكان القانون يقننه ويرسم له حدودا، ومع هذا فقد كان هذا التفاوت الطبقي يقل رويدا رويدا كلما تطور الاقتصاد وانتشر التعليم· وكان الحكام الروس قبل بطرس الأكبر غير مرتاحين للمدارس لأنها تفتح الطريق لراديكالية غرب أوربا، وللعقوق (اللاتقوى) ومع هذا فإن بطرس - رغبة منه في أن يكون مقبولا لدى الغرب الأوربي - أسس مدارس للبحرية والهندسة ليدخلها أبناء النبلاء ومدارس أبرشية لإعداد القسس، واثنتين وأربعين مدرسة ابتدائية يدخلها أبناء كل الطبقات ما عدا أبناء الأقنان، وكانت هذه المدارس تنحو نحواً حرفيا (تكنولوجيا) ·(ملحق/1342)
وفي سنة 1795 أسس ب· ا· شوفالوف P.A.Shuvalov جامعة موسكو بقسمين؛ قسم للنبلاء وآخر للعوام، وتأثرت كاترين بأفكار المثقفين الفرنسيين فنشرت المدارس على نطاق واسع، ودافعت عن حق المرأة في التعليم· وسمحت بإقامة دور نشر خاصة، فقد صدر في أثناء فترة حكمها 84% من إجمالي الكتب التي نشرت في روسيا في القرن الثامن عشر· وبحلول عام 1800 كان في روسيا بالفعل طبقة مثقفين (أهل الفكر) سرعان ما ستكون ذات شأن في التاريخ السياسي للأمة الروسية· وبحلول هذا العام أيضا (1800) وصل بعض التجار أو أبناء التجار إلى مواقع النفوذ، بل ووصل بعضهم إلى مناصب في البلاط· ورغم لاهوت الأساقفة والقسس المحليين - ذلك اللاهوت المتسم بالحرارة والتوقد - فإن مستوى الأخلاق والطباع كان بشكل عام أدنى في غرب أوربا فيما عدا لدى القلة في البلاط·
فغالب الروس كانوا طيبي القلب وكرماء، وربما يرجع ذلك إلى أنهم كانوا ينظرون إلى الآخرين كشركاء لهم في المعاناة في عالم قاس· لكن البربرية كانت تغلي في الروح متذكرة أياما كان على المرء فيها أن يكون قاتلا أو مقتولا· وكان الإغراق في الشراب ملجأ للراحة هروبا من الواقع حتى بين النبلاء، وكانت الحياة غير المستقرة التي عانى منها الكتاب والمؤلفون سبباً لإدمانهم الكحول وسبباًًًً لموتهم المبكر· وانتشر المكر والكذب والنشل (السرقات الصغيرة) بين العوام، فكل حيلة بدت لهم جائزة في مواجهة السادة القساة، والتجار الغشاشين وجامعي الضرائب اللحوحين· وكانت النساء صارمات كالرجال أو كن - على الأقل - يعملن بجد وشدة كالرجال، ويحاربن بضراوة، وإذا سمحت لهن الظروف حكمن بمهارة، فمن من القياصرة بعد بطرس نجح في الحكم كما نجحت كاترين الثانية؟ وانتشر الزنا بزيادة الدخول·(ملحق/1343)
وكان الاغتسال والنظافة أمراً نادرا خاصة في الشتاء، ومن ناحية أخرى أدمن قلة من الناس الحمامات الساخنة والتدليك (المساج massage) القاسي· وعمت الرشوة والفساد بدءا من القن (رقيق الأرض) للنبيل، ومن موظف المدينة للوزير الإمبراطوري· لقد كتب سفير فرنسي في سنة 1820 الرشوة هنا منتشرة انتشارا لا يجده المرء في أي دولة أخرى· إنها عمل منظم بمعنى من المعاني، وربما لا يوجد موظف حكومي واحد لا يمكن شراء ذمته·
وفي عهد كاترين وصل البلاط إلى درجة من الدماثة والكياسة والترف لم يكن يسبقه فيها سوى بلاط فرساي في عهد: لويس الخامس عشر ولويس السادس عشر رغم أن البربرية كانت في بعض الأحيان كامنة خلف المظاهر· وكانت اللغة المستخدمة في بلاط كاترين هي الفرنسية، كما كانت أفكار الأرستقراطية الفرنسية هي السائدة فيه مع استثناءات قليلة· وكان النبلاء الفرنسيون مثل الأمير دي لني de Ligne غالباً ما يعتبرون أنفسهم في مواطنهم سواء كانوا في باريس أم في سان بطرسبرج وكان الأدب الفرنسي رائجا في هذا العاصمة الشمالية (سان بطرسبرج) وكانت الأوبرا الإيطالية تلقى استحسانا فيها كالاستحسان الذي تلقاه في البندقية وفيينا
وكانت النسوة الروسيات الثريات وسليلات الأسر العريقة يضعن الشعر المستعار (الباروكات wigs) ويمتعن رجالهن على نحو ما كانت تفعل الدوقات قبل الثورة الفرنسية وفي ظل نظام الحكم القديم Ancien Regime· ولم يكن هناك شيء في المهرجانات الاجتماعية المقامة على نهر السين في فرنسا يفوق بهاء التجمعات في سان بطرسبرج وفي القصر الفخم على نهر النيفا Neva، تلك التجمعات التي تتطلع إلى شمس الصيف في سماء الليل وكأنها لا تريد أن يضيع منها المشهد·
2 - بول الأول PAUL I: من 1796 إلى 1801م
وعند ذروة هذا البهاء الودود كانت توجد سيدة (مدام) · لقد كان بول Paul ( بافال بتروفيتش Pavel Petrovich) ابن كاترين الثانية، لكن عبقريتها تخطت جيلا، وتركت بول صغيرا نزاعاً للشك مكتئباً - رغم صغر سنه - مولعا إلى حد الجنون بالسلطة المطلقة(ملحق/1344)
لم يكن عمره قد تجاوز الثماني سنوات عندما علم أن أباه القيصر بطرس الثالث Peter III كان قد قتل وتستر على جريمة قتله أليكسى أورلوف Aleksei Orlov أخو جريجوري أورلوف Grigori Orlov العشيق الدائم لأم بول· ولم يفق بول أبداً من هذا الكابوس· وكان من الطبيعي - على وفق التسلسل المعتاد - أن يرث بول عرش أبيه، لكن كاترين نحته وقبضت على زمام السلطة كاملة· وحبكت زوجة بول الأولى - بعلمه - مؤامرة للإطاحة بكاترين وتنصيب بول قيصرا، واكتشفت كاترين المؤامرة وأجبرت بول وزوجته على الاعتراف· واعترفت الإمبراطورة كاترين به وريثاً لها لكنه لم يطمئن أبداً وكان يحس أنها ستزيحه هو أيضا، وعاشت زوجته في رعب دائم وماتت عندما كانت تضع طفلاً ولد ميتا·
ووضعت له زوجته الثانية ماريا فودوروفنا Maria Feodorovna ابنه إسكندر (1777) وفكرت كاترين لفترة في تسميته وليا لعهدها وإزاحة بول، لكنها لم تحول هذه الفكرة الدائرة في رأسها إلى عمل، وإن كان بول قد أحس بها مما جعله مرتاباً في ابنه· وفي سنة 1783 منحت كاترين، بول، مزرعة وعقارا في جاتشينا Gatchina على بعد ثلاثين ميلا من سان بطرسبرج، وهناك راح بول يدرب فوجاً عسكريا خاصا به ويعلمه على نسق أسلوب أبيه - أسلوب خطوة الإوزة الذي أخذ به فريدريك الكبير، وخشيت كاترين أن يقوم بمحاولة أخرى لعزلها فأرسلت جواسيسها لمراقبته، فعين هو بدوره جواسيس لمراقبة الجواسيس، وتملكته الهلاوس التي كانت تدور حول لقائه مع شبح جده بطرس الأول الكبير في أثناء الليل· وبعد اثنتين وأربعين سنة غير سعيدة اعتلى أخيراً العرش كان عقله بالفعل قد اقترب من الإفلات منه·
وفي غمرة مشاعره الطيبة أصدر بعض المراسيم الخيرة· لقد حرر عددا من ضحايا مخاوف كاترين المزمنة - نوفيكوف Novikov وراديشيف Radishchev ومفكرين راديكاليين وكوزكيو سكو Kosciusko وآخرين ممن سبق لهم النضال لتحرير بولندا· وكان مرتاعاً من أحوال مستشفى موسكو فأمر بتجديدها وإصلاحها وإعادة تنظيمها (1797) فأصبحت نتيجة لذلك واحدة من أفضل مستشفيات أوربا· وأصلح العملة وجعلها مستقرة· وخفض الجمارك، وافتتح قنوات (ترعا) جديدة لخدمة التجارة الداخلية·(ملحق/1345)
وعلى أية حال فقد أصدر أوامر محمومة للجنود لتلميع أزرار ملابسهم الرسمية وإصلاحها وتنظيف باروكات الشعر، وأصدر أوامر للشعب يحدد فيها ما يجب عليهم لبسه، ومنع الأزياء التي سادت أوربا بعد الثورة الفرنسية، مهددا المخالفين بعقوبات شديدة وبحلول عام 1800 منع استيراد الكتب المنشورة خارج روسيا ولم يشجع طباعة كتب جديدة في روسيا· وتصدى لأوتوقراطية النبلاء وأعاد لملاك الأراضي 530,000 قناً (من أقنان الأرض) كانوا ينعمون فيما سبق بأوضاع أيسر كموظفين في الدولة· وأقر العقوبات الصارمة التي صدرت ضد الأقنان المتمردين، على وفق رغبة الملاك·
أما جنوده الذين كانوا في وقت من الأوقات مخلصين له، فقد امتعضوا لمراقبته الصارمة ونظامه شديد الانضباط· وكانت سياسته الخارجية شديدة التقلب· لقد ألغى خطط كاترين القاضية بإرسال 40,000 جندي ضد فرنسا الثورة· واستاء من استيلاء نابليون على مالطة ومصر، وتحالف مع تركيا وإنجلترا ضده، وحث السلطان على السماح للسفن الحربية الروسية بالمرور عبر البوسفور والدردنيل· واستولت سفنه الحربية على الجزر الأيونية وأنزل جنوده في مملكة نابلي للمساعدة على طرد الفرنسيين· لكن عندما رفضت بريطانيا العظمى تسليمه مالطة باعتباره الرئيس الأعلى المنتخب لفرسان مالطة Knights of Malta ( من بقايا الحروب الصليبية) انسحب بول من التحالف ضد فرنسا بل وأصبح محبا لنابليون·
وعندما بدرت عن نابليون إشارات تدل على نوايا حسنة، منع كل أنواع التجارة مع انجلترا واستولى على البضائع البريطانية الموجودة في المخازن الروسية، وناقش مع نابليون إرسال حملة فرنسية روسية مشتركة لطرد إنجلترا من الهند، وتضاعفت نوبات غضبه بعد أن رأى مجريات الأمور الخارجية لا تسير على وفق هواه وبعد أن رأى مجريات الأمور في الداخل تتضاءل أمام طلباته الكثيرة· لقد عاقب بقسوة لأدنى خطأ وأبعد عن موسكو نبلاء سبق لهم أن شككوا في سياساته وأرسل إلى سيبيريا ضباط جيش توانوا في تنفيذ الأوامر·(ملحق/1346)
وغالبا ما كان ابنه إسكندر موضع حنقه وسخطه· وراح النبلاء والضباط - أكثر فأكثر - ينخرطون في المؤامرة لعزله، فأقنع الجنرال ليفين بنيجسن Levin Bennigsen الكونت نيكيتا بانين Nikita Panin وزير الخارجية، واستمالا لخطتهما الكونت بطرس فون باهلن Peter Von Pahlen الذي كان على رأس شرطة المدينة ورئيسا للعسكر فيها، وعملوا ثلاثتهم عل إقناع إسكندر بخطتهم ونجحوا أخيرا إذ وافق إسكندر شريطة عدم إلحاق الأذى البدني بوالده، فوافقوا على ذلك وهم يعلمون أن فرض الأمر الواقع سيكون هو خير دفاع، وفي الساعة الثانية صباح يوم 24 مارس 1801 قاد باهلن المتآمرين ورهطاً من الجند إلى قصر ميخائيلوفسكي Mikhailovsky وهزموا قوات الحرس وأحاطوا بالإمبراطور المُقاوم (بكسر الواو) وخنقوه حتى مات· وبعد ساعات قليلة أحاطوا إسكندر علماً أنه قد أصبح الآن هو قيصر روسيا الجديد·
3 - تعليم إمبراطور
من الصعب على عقول انشغلت طوال أعوام بحكاية نجم مذنب يقال له نابليون أن تدرك أن إسكندر الأول (ألكساندر بافلولوفتش Aleksandr Pavlovich 1777 - 1825) كان محبوباً في روسيا على نحو ما كان بونابرت محبوبا في فرنسا·لقد نشأ مثل صديقه وعدوه في رحاب التنوير الفرنسي، ومزج - مثله (أوتوقراطيته autocracy) بالأفكار الليبرالية liberal ideas، لقد حقق ما حاول أعظم الجنرالات (المعاصرين) تحقيقه (لأنه لابد من احترام سمي القيصر) وفشل - قاد جيشه عبر القارة من عاصمته إلى عاصمة عدوه وتغلب عليه، وأنه في ساعة النصر تصرف باعتدال وتواضع، وأثبت أنه من بين هذا العدد الكبير من الجنرالات والعباقرة أفضلهم أدبا وكياسة· أيمكن أن تنجب روسيا هذا المثل الأعلى؟ نعم، لكن بعد أن انغمس طويلا في آداب فرنسا وفلسفتها بفضل معلم سويسري·(ملحق/1347)
إن طريقة تعليمه في حاجة إلى زينوفون Xenophon آخر ليجعله في سيروبيديا Cyropaedeia أخرى عن شباب ملك وتعليمه وتدريبه· لقد تعرض تعليمه لعناصر متضاربة متصارعة· فأولاً كانت هناك جدته كاترين الكبيرة المشغولة الغائبة - رغم متابعة أمره بدقة· لقد أبعدته كاترين عن أمه ونقلت له مبادئ الحكم المطلق المتنور ممتزجة بنتف من المؤلفين الذين كانت تحبهم - فولتير وروسو وديدرو Diderot - وذلك قبل أن تفقد هي نفسها هذه المبادئ· وربما بتوجيه منها تعلم منذ طفولته أن ينام بلا غطاء ثقيل والنوافذ مشرعة، على حشية من جلد مراكشي (جلد ماعز) محشوة بالقش، فأصبح بذلك محصنا ضد تقلبات الجو وتمتع بصحة وحيوية فائقتين· لكنه مات في الثامنة والأربعين من عمره·
وفي سنة 1784 أحضرت له كاترين من سويسرا فريدريك سيزار دي لاهارب Frederic - Cesar de La Harpe (1754 - 1838) ليكون مشرفا على تعليمه، وكان دي لاهارب متحمساً مخلصاً للمفكرين والمثقفين الفرنسيين· ولقن دي لاهارب تلميذه إسكندر طوال تسع سنوات تاريخ فرنسا وآدابها· وتعلم الأمير كيف يتكلم الفرنسية بإتقان بل وأن يفكر - غالبا - كالفرنسيين· (لا حظ أن نابليون كان يتحدث الفرنسية لكن ليس بشكل تام، وكان يفكر كإيطالي من عصر النهضة الرينيسانس Renaissance) ·(ملحق/1348)
وكانت هناك ممرضة علمت الأمير - بالفعل - اللغة الإنجليزية، والآن فإن ميخائيل مورافيوف Mikhail Muraviov قد علمه لغة الإغريق القديمة وآدابها، ونقل إليه الكونت ن· ج· سالتيكوف N. J. Saltykov عادات الأوتوقراطية الإمبراطورية (الأوتوقراطية تعني حكم الفرد)، وكان هناك معلمون آخرون يعلمونه الرياضيات والفيزياء والجغرافيا· ونقل إليه سومبورسكى Somborsky كبير القسس الأخلاق المسيحية على وفق مبدأ مؤداه أن على كل إنسان أن يجد في كل إنسان جاراً له لكي يحقق شرع الرب وربما وجب علينا أن نضيف إلى قائمة معلمي إسكندر لويزا إليزابيث (من بادن - دورلاش) Luise Elisabeth of Baden - Durlach التي أصبح اسمها إليزافيتا أليكسيفنا Elizaveta Alekseevna والتي تزوجته في سنة 1793 بناء على طلب كاترين، وكان في السادسة عشرة من عمره، ومن المفهوم أن إليزافيتا قد علمته الطرق الصحيحة لمباشرة النساء·
لقد كان هذا البرنامج التعليمي ملائما لتخريج عالم ورجل مهذب لكنه لا يكاد يصلح لحاكم مطلق يحكم الروس· وعندما خافت كاترين من التطورات التي حدثت في مسار الثورة الفرنسية لم تعد معجبة بفولتير وديدرو، وأبعدت لاهارب (1794) عن تولي مهمة الإشراف على تعليم إسكندر، فعاد إلى سويسرا ليقود ثورة هناك· ووجد إسكندر أن الواقع في البلاط وفي جاتشينا Gatchina يختلف بشكل مربك عن مناقشات الفلاسفة ومثاليات روسو · لقد أصابه الرعب لتشابك القضايا التي تواجه الحكومة وتعقدها، وربما ضاع منه التفاؤل الذي علمه إياه لاهارب La Harpe واكتأب لموت جدته (كاترين) · لقد كتب في سنة 1796 لصديقه المقرب الكونت كوشبي Kochubey:(ملحق/1349)
إنني مشمئز للوضع الذي أجد نفسي فيه· إنه بعيد جدا عن طبيعتي التي تتلاءم على نحو أكثر مع حياة السلام والهدوء· فحياة البلاط لا تصلح لي· إنني أحس بالبؤس أن أكون وسط مثل هؤلاء الناس (رجال البلاط) ··· وفي الوقت نفسه أجدهم يشغلون أعلى المناصب في الإمبراطورية· وباختصار يا صديقي العزيز فأنا أدرك أنني لم أولد لأشغل منصبا عاليا ذلك المنصب الذي أشغله الآن بل إنني أقل من المنصب الذي ينتظرني في المستقبل، وقد أقسمت بيني وبين نفسي أن أتخلى عنه بطريقة أو بأخرى··· إن أمور الدولة مضطربة تماما، فالابتزاز والاختلاس في كل مكان، وكل الوزارات والإدارات تدار بشكل سيء··· ورغم كل هذا فلا هم للإمبراطورية سوى التوسع، وعلى هذا أيمكنني أن أدير الدولة، بل أيمكنني ما هو أكثر من هذا - أعني إصلاحها والقضاء على الشرور المتأصلة فيها؟ أظن أن هذا يفوق طاقة أي عبقري في البال بشخص مثلي ذي قدرات عادية·
إنني بعد أن وضعت كل هذا في اعتباري إتخذت قراري الذي ذكرته لك آنفا· إن خطتي هي التخلي عن العرش (لا أستطيع أن أقول متى) وأن استقر مع زوجتي على شواطئ الراين لأعيش حياتي الخاصة كمواطن أستمتع بصحبة الأصدقاء ودراسة الطبيعة·
إلا أن الحظ أتاح له خمس سنوات ليكيف نفسه مع متطلبات منصبه· لقد تعلم كيف يقدر العناصر البناءة في الحياة الروسية: المثالية والإخلاص المستوحيان من المسيحية، والاستعداد لتبادل تقديم المساعدة (التعاون)، والشجاعة وتحمل المشاق الناتجة عن الحروب مع التتار والترك، وقوة الخيال السلافي Slavic وعمقه الذي سرعان ما أفرز أدباً عميقا وفريدا، والكبرياء الصامتة الناتجة عن الوعي بحاضر الروس والمساحة المكانية الكبيرة التي يشغلونها· وفي 24 مارس 1801 وجدنا إسكندر - الشاعر محب العزلة - وقد تحدته الفرصة المتاحة له، فوجد في جذوره وأحلامه ما يمكنه من فهم شعبه وقيادته نحو العظمة ليجعل من روسيا حَكَماً (بفتح الحاء والكاف) لأوربا·
4 - القيصر الشاب: من 1801 إلى 1804م(ملحق/1350)
لم يطرد إسكندر أياً من بانين Panin أو باهلن Pahlen فجأة وهما اللذان خططا لمقتل أبيه، فقد خاف نفوذهما كما أنه لم يكن متأكدا من براءته هو نفسه (إذ كان قد وافق على تدبيرهما لخلع والده)، كما كان في حاجة إلى باهلن ورجال البوليس التابعين له لحفظ الأمن في موسكو، كما كان في حاجة إلى بانين للتعامل مع إنجلترا التي كان أسطولها يهدد بتحطيم الأسطول الروسي بعد أن دمر بالفعل الأسطول الدنمركي، وعلى هذا فقد جرى استرضاء بريطانيا، وهكذا انهارت عصبة الحياد المسلح الثانية· فطرد باهلن في يونيو 1801 واستقال بانين في ديسمبر من العام نفسه·
لقد أمر إسكندر في العام الأول من حكمه بإطلاق سراح آلاف السجناء السياسيين، وسرعان ما طرد الذين كانوا مستشاري بول، ومن كانوا ضالعين في إجراءاته الإرهابية· وفي 30 مارس جمع اثني عشر مسئولا من مسئولي الدولة الكبار ممن هم أقل فساداً من سواهم وكون منهم مجلساً دائما لتقديم المشورة له في مجالي التشريع والإدارة· واستدعى بعض المبعدين من أكثر النبلاء ليبرالية وعينهم في حكومته: الكونت فيكتور كوشبي Kochubey وزيراً للداخلية، ونيكولاي نوفوسيلاتسوف Novosiltsov وزيراً للدولة، والكونت بافال ستروجانوف Stroganov وزيراً للتعليم، كما عين الأمير آدم جرزي شارتورسكي Adam Jerzy Czartoryski - الوطني البولندي المتآلف مع السلطة الروسية - وزيراً للشئون الخارجية·
وكون من هؤلاء وغيرهم من رؤساء الإدارات مجلس الوزراء Committee of Ministers كجهاز استشاري آخر· وقد استدعى إسكندر من سويسرا لاهارب كمستشار آخر له (نوفمبر 1801) لمساعدته في تحديد سياساته والتنسيق بين عناصرها· وكان هناك تحت هذه الأجهزة التنفيذية، مجلس (سينات) نبلاء ذو سلطات تشريعية وقضائية، لمراسيمه وقراراته Ukases قوة القانون إذا لم يعترض عليها القيصر· وظلت إدارة الولايات في أيدي معينين من قبل الحكومة المركزية·(ملحق/1351)
وكل هذه التنظيمات تشبه التنظيمات الإمبراطورية في ظل نابليون باستثناء أن مجلس النواب كان في ظل نابليون يتم اختيار أعضائه بالانتخاب، كما أنَّه القَنانة ظلت موجودة في روسيا ولم يكن للأقنان (عبيد الأرض) أيُّ حقوق سياسية، وكان مستشارو إسكندر في أعوام حكمه الأولى من الليبراليين المتعلمين تعليماً جيداً، لكنهم كانوا "خاضعين لطبيعة الأشياء أو لأحكام الضرورة" على حد تعبير نابليون· فقد بدت الحقوق rights في هذه الظروف مجرد أوهام في مواجهة الضروريات، في أمة 90% من أهلها فلاحون أشداء أميون لا يتوقع منهم أحد أن يفكروا لأبعد من القرى التي يعيشون فيها سواء من ناحية الاقتصاد أو التنظيم السياسي أو الإنتاج والتوزيع أو الدفاع·
لقد كان إسكندر مُذْعناً لنظام النبالة القوي حيث كان للنبلاء تشكيلاتهم التنظيمية الخاصة، ونظامهم المحلِّي لتسيير أمور الزراعة والقضاء والشرطة والصناعات الريفية· وكانت القنانة (عبودية الأرض) عميقة الجذور راسخة عبر الزمن حتى إن القيصر لم يكن يجسر على مهاجمتها خوفاً من قَلْقَلة النظام الاجتماعي وضياع عرشه· وكان إسكندر يتلقّى شكاوى من الفلاحين، وكان في حالات كثيرة يُنزل عقوبات قاسية بملاَّك الأراضي المذنبين لكنه لم يكن يستطيع أن يقيم على مثل هذه الحالات برنامجاً لتحرير رقيق الأرض·
لقد كان لابد من مرور ستين عاماً قبل أن يستطيع إسكندر الثاني تحرير رقيق الأرض في روسيا (قبل إعلان لينكولن Lincoln إلغاء الاسترقاق بعامين) · ولم يجد نابليون - الذي عاد من روسيا مهزوماً (1812) أن إسكندر قد أخطأ في هذا الاتجاه لقد قال نابليون لكولينكور Caulaincourt:
" إن إسكندر ليبرالي جداً، وهو ديمقراطي جداً بالنسبة إلى الروس·· فهذه الأمة تحتاج لقبضة حديدية·· وسيكون أكثر ملائمة لو حكم أهل باريس·· إنه ودود مع النساء، مجامل مع الرجال···، وطريقته اللطيفة في التصرف تدعو إلى البهجة" ·(ملحق/1352)
وفي ظل هذه الظروف المقيِّدة (بتشديد الياء وكسرها) أحدث إسكندر شيئاً من التقدم· لقد عمل على تحرير 47,153 فلاحاً، وأمر أن تكون القوانين واضحة دائمة متَّسقة، فكما ورد في مذكراته التفسيرية لقوانينه أن يقوم رخاء شعبنا على نسق قوانيننا الموحَّدة اعتقاداً منا أن هذه الإجراءات المختلفة قد تجلب للبلاد السعادة التي لا يؤكدها - للأبد - إلاّ تلك القوانين، ولقد عملتُ منذ اليوم الأول لحكمي على استقصاء أحوال هذا الجانب في الدولة· وأمر أن يكون الاتهام والمحاكمة والعقاب على وفق إجراءات محدَّدة مقنّنة ومُلزمة· كما أمر أن تقضي المحاكم العادية - لا السرية - في الجرائم السياسية·
والآن فقد هذَّبت التنظيمات من أحوال البوليس السرِّي وتمّ منع التعذيب (لقد منعه بول لكنه ظل سائداً في أثناء حكمه) وتمَّ السماحُ للروس الأحرار (المقصود غير الأقنان) بالسفر خارج روسيا والعودة إليها، وسُمح للأجانب بدخول روسيا على وفق إجراءات ميسّرة من ذي قبل· وتم دعوة 12,000 مَنْفِىّ للعودة إلى روسيا· وظلت الرقابة على الصحف قائمة لكنها أصبحت من اختصاص وزارة التعليم مع طلب مهذّب وهو أن تكون هيّنة ليّنة مع المؤلفين· وتم إلغاء الحظر على استيراد الكتب الأجنبية وإن ظل هذا الحظر سارياً على المجلات، وفي سنة 1804 تم إقرار الحرية الأكاديمية تحت إشراف مجالس جامعية، على وفق نظام أساسي·(ملحق/1353)
وكان إسكندر مدركاً أنَّ أيَّ إصلاح لا يمكن أن يزدهر ويُؤتي ثماره إلاّ إذا كان مفهوماً ومؤيَّداً من نسبة كبيرة من السكان، ففي سنة 1802 عَهِدَ إلى وزارة التعليم بمعاونة نوفوسيلتستوف Novolsiltsov وتشارتوريسكي Czartoryski ومخائيل مورافيوف Muraviov مهمة تنسيق نظام تعليمي عام جديد· وصدر قانون (نظام أساسي) في 26 يناير 1803 يُقسِّم روسيا إلى ستة أقاليم regions يكون في كل إقليم منها جامعة واحدة على الأقل، وأن تكون هناك مدرسة ثانوية على الأقل في كل جوبرنيا Guberniya ( ولاية)، وأن تكون هناك مدرسة - على الأقل - في كل مقاطعة (كونتية) ومدرسة ابتدائية على الأقل في كل تقسيم أبرشي، وبالإضافة إلى الجامعات التي كانت موجودة بالفعل (جامعات موسكو وفيلنا Vilna ودوربات Dorpat) أنشئت جامعات سان بطرسبرج، وخاركوف Kharkov وقازان Kazan، وفي هذه الأثناء كان النبلاء لا يزالون يُتيحون التعليم الخاص والمدارس الخاصة لأبنائهم، ومنع الرّبيون اليهود (الحاخامات) الآباءَ من إلحاق أبنائهم بمدارس الدولة باعتبارها أداةً مراوِغةً لتدمير الإيمان اليهودي·
5 - اليهود في ظل حكم إسكندر
تحسَّنت أحوال اليهود بشكل ملحوظ في ظلِّ (حظائر الاستيطان Pale of settlement) أي المناطق التي سُمح لليهود بالإقامة فيها، وذلك في عهد كاترين الثانية· وفي سنة 1800 كانت هذه المناطق Pale ( الحظائر) تشمل كل المناطق البولندية التي كانت تابعة لروسيا ومعظم مناطق جنوب روسيا بما في ذلك كييف Kiev وشيرنيجوف Chernigov، وإكاترينوسلاف Ekaterinoslav والقرم· وخارج هذه المناطق Pale لم يكن أي يهودي يستطع أن يُقيم إقامة دائمة· أمّا خلال هذه المناطق فقد كان اليهودُ البالغُ عددهم 900,000 في سنة 1804 يتمتعون بكل حقوق المواطنة بما في ذلك التعيين في الوظائف الحكومية مع استثناء واحد: اليهودي الراغب في الانضمام إلى طبقة التجار ورجال الأعمال في المدن كان عليه أن يدفع ضريبة ضِعْف الضريبة التي يدفعها غير اليهودي فقد كان غير اليهودي يرى أنّ منافسة اليهودي مسألة مستحيلة وأنه إذا تُرِك الأمر تحقق دماره على يد اليهودي·(ملحق/1354)
وفي هنا وجدنا تجار موسكو (1790) يُقدمون شكوى ضد التجار اليهود الذين يبيعون البضائع الأجنبية بأسعار أقل من أسعارها الحقيقية ومن ثَمّ يُلحقون أضراراً بالغة بالتجارة المحلية وفي هذه الأثناء أدت منافسة اليهود إلى امتعاض أصحاب الحانات والخانات في الريف فبذلت الحكومةُ قصارى جهدها للإبقاء على اليهود في المدن بعيداً عن القرى· وفي سنة 1795 أمرت كاترين ألاّ يكون لليهود حقوق مدنية إلاّ في المدن وألا يُقيموا في الريف·
وفي نوفمبر سنة 1802 عيَّن إسكندر (لجنة لتحسين Amelioration أوضاع اليهود) ودراسة مشاكلهم وتقديم توصيات، فدعت اللجنة الكاهالات Kahals ( المجالس الإدارية التي تحكم المجتمعات اليهودية وتفرض عليهم ضرائب تصرف لصالح هذه المجتمعات) لإرسال مندوبين عنها إلى سان بطرسبرج ليناقشوا مع الحكومة المطالب اليهودية، فطلبوا بعد مناقشات مستفيضة مهلة ستة أشهر ليتمكنوا فيها من الحصول على مزيد من الصلاحيات والتعليمات من كاهالاتهم، فأرسلت اللجنة توصياتها مباشرة إلى الكاهلات بدلاً من التباحث مع مندوبيها، فرفضت الكاهلات اقتراح اللجنة منع اليهود من امتلاك الأراضي، ومنعهم من بيع الخمور، وطلبوا تأجيل هذه الإجراءات مدة عشرين عاماً لإتاحة الوقت اللازم للتوائم مع هذه الإجراءات الاقتصادية الصعبة، ورفضت اللجنة، وفي 9 ديسمبر سنة 1804 أصدرت الحكومة الروسية بعد موافقة القيصر إسكندر دستور اليهود أو الدستور اليهودي Jewish Constitution·(ملحق/1355)
وكان هذا الدستور مرسوماً بالحقوق، كما كان يقصر الوجود اليهودي على المدن· وكانت الحقوق كبيرة إذ أتاح للأطفال اليهود الالتحاق بكل المدارس والجامعات في الإمبراطورية الروسية وأجازَ لهم تأسيس مدارس خاصة بهم على أن يكون التدريس فيها باللغة الروسية أو البولندية أو الألمانية وأن تستخدم إحدى هذه اللغات في المحَرّرات الرسمية· ولكلِّ جماعة يهودية أن تختار الرَّابيين (الحاخامات) الخاصين بها وكذلك كاهلاتها على ألا يصدر الرابي قراراً بالحرمان وأن يكون الكاهال مسئولاً عن جمع كل الضرائب التي تفرضها الدولة· ودُعي اليهود للعمل في مجال الزراعة بشراء الأراضي الشاغرة في أجزاء معينة من المناطق المتاح لهم الإقامة فيها Pale أو الاستقرار في أراضي التاج (أراضي الدولة) على أن يُعفوا من الضرائب في غضون السنوات القليلة الأولى·
وعلى أية حال فبحلول الأول من يناير سنة 1808 يصبح "ممنوعاً على أيَّ يهودي في قرية أو نجع أن يُؤجِّر أرضاً، أو يفتح حانة أو فندقاً أو صالوناً·· أو يبيع نبيذاً في القرى أو حتى أن يعيش فيها بأيِّ حجة مهما كانت "·
وكان هذا يعني إبعاد ستين ألف أسرة يهودية عن مساكنها في القرى، ووصلت مئات الالتماسات لسان بطرسبرج يطلب مُقدِّموها تأجيل هذا الترحيل الجماعي وانضم كثير من المسيحيين إليهم يؤيدونهم في مطلبهم هذا وأشار الكونت كوشبي Kochubey إسكندر إلى أنَّ نابليون كان يخطط ليعقد في باريس في فبراير 1807 اجتماعاً (سنهدريم) للرَّبيين (للحاخامات) من كل أنحاء غرب أوروبا لصياغة برنامج إجرائي لإعتاق اليهود ومنحهم حق الاقتراع· فأمر إسكندر بإيقاف برنامجه محل الجدل·(ملحق/1356)
وربما أحْيت لقاءاته مع نابليون في تيلسيت Tilsit (1807) وإيرفورت Erfurt (1808) طموحه في إقناع الغرب West بأنه حاكم متنوِّر· وفي سنة 1809 أخبر حكومته أن خطة إخلاء اليهود السابق ذكرها خطة غير عملية لأن اليهود لن يكون لديهم الوسائل التي تمكنهم من الاستقرار والحصول على مساكن في الأماكن المحيطة بالقرى التي سيُطردون منها، والحكومة بدورها غير قادرة على تدبير مساكن لهم جميعاً وعندما أصبح الغزو الفرنسي لروسيا وشيكاً أقنع نفسه بضرورة أن يحبه اليهود وأن يكونوا مُوالين للدولة·
6 - الفن الرّوسي
وصف الأمير دي لِنْي de Ligne الذي عرف كل شخص ذي شأن وكل شيء ذي بال في أوروبا في هذا العصر - سان بطرسبرج في نحو سنة 1787 بأنها أجمل مدينة في العالم وفي سنة 1812 وصفتها مدام دي ستيل بأنها من أجمل مدن العالم فقد كان بطرس الأول قد بدأ في تزيين عاصمته الوليدة بعد أن تملَّكته الغيرة من جمال باريس·
وكانت كاترين تُرضى عشَّاقها الذين تخلَّت عنهم بقصور أكثر بقاء من حبها، وواصل إسكندر الأول رعايته الملكية للأعمدة الكلاسيكيّة التي تواجه - بصرامة - نيفا Neva· لقد كانت أوروبا تشهد موجة الكلاسيكيّة الجديدة في هذه الفترة، وقد نسي القيصر والقيصرة الأشكال (الأنماط الفنية) الروسية واستدعوا الأنماط الرومانية، فأرسلا إلى إيطاليا وفرنسا لدعوة المعماريين والنحَّاتين للقدوم إلى روسيا لتخليد الكبرياء السلافية Slavic بالفن الكلاسيكي·
فقصر الشتاء الذي بدأ العمل فيه بارتولوميو راستريلّي Bartolomeo Rastrelli في سنة 1755 وأكمله في سنة 1817 جياكومو كارنيجي Giacomo Quarenghi وس· ج روسّي C.J. Rossi - هذا القصر كان أكثر القصور الملكية في أوروبا جلالاً ومهابة، يصبح قصرُ فرساي إلى جواره قزما وأقل بهاء: 15 ميلاً من الممرات (أروقة ودهاليز··) و2,500 غرفة، وما لا يُحصى من الأعمدة الرخاميّة، وألف لوحة فنية شهيرة، وفي الأدوار الدنيا ألفا خادم، وفي جناح واحد، دجاج وبط وماعز وخنازير في مأوى مغطى بالقش·(ملحق/1357)
لقد راح إسكندر الأول بعد لقاء نابليون في تيلسيت يجد في نفسه الدافع لمنافسته ليس فقط في مجال القوّة وإنما أيضاً في أن يجعل عاصمته في مثل عظمة عاصمة نابليون· لقد أحضر إسكندر المعماريين الفرنسيين والإيطاليين ليُلْهبوا حماس البنّائين الروس ويُفجِّروا طاقاتهم بما لديهم من علم ومهارة· لقد ظل الفنانون الغربيون مرتبطين بالنماذج الكلاسيكية لكنهم ذهبوا إلى ما وراء روما وآثارها إلى الجنوب الإيطالي والآثار الإغريقية كمعابد هيرا في بيستيم Hera at Paestum ( بيز Paese بالقرب من سالرنو Salerno) · لقد كانت هذه الآثار في مثل قِدَمِ البارثينون Parthenon وتكاد تكون في مثل جمالها، وأعطت الروح الرجولية للأعمدة الدُّورية Doric ( الأعمدة الإغريقية على الطراز الدّوري) روحاً جديداً للنزوع الروسي إلى الكلاسيكيّة الجديدة·
لكن الملمح المميّز للنمط الإمبراطوري Empire Style في عهد إسكندر هو تخلص فن العمارة الروسي تدريجياً من التأثير اللاتيني· فبينما كان البناءون البارزون في عهد كاترين (1762 - 1796) ثلاثة إيطاليين: بارتولوميو راسترلّي Rastrelli وأنطونيو رينالدي Rinaldi وجياكومو كارينجي Quarenghi، فإن المعماريين الأساسيِّين في عهد إسكندر الأول كانوا هم توماس ثومون Thomas Thomon وأندري فورونيكين Andrei Voronykhin وأدريان زاخاروف Zakharov وهم روس تأثَّروا بالأسلوب الفرنسي، وإيطالي هو كارلو روسّي Rossi الذي تبوَّأ مكاناً رفيعاً في أواخر حكم إسكندر·(ملحق/1358)
وفي سنة 1801 عَهِدَ إسكندر إلى توماس بتصميم وبناء بورصة الأوراق المالية لمواكبة نشاطات طبقة التجار والماليين الصاعدة في سان بطرسبرج· فأقام المعماري الطموح (سنة 1807 وما بعدها) مبنى ضخماً مستوحياً فيه معابد بيستوم Paestum ومحاكياً بورصة إسكندر برونجنيار Brongniart في باريس (1808 - 1827) - تحفة فورونيكين Voronykhin الفنية هي الكازانسكي سوبور Kazansky Sobor - الكاتدرائية التي أنشئت تخليداً لذكرى سديتنا (ستّنا) ست (سيدة) قازان التي أقيمت على ضفاف نهر النيفا Neva بين عامي 1801 - 1811، بأروقتها التي تدور مدار نصف دائرة وقبابها الثلاث المدرَّجة التي تذكرنا بأعمال بيرنيني Bernini ومايكل أنجلو الخالدة أو ببانثيون سوفلو Soufflot's Pantheon في باريس - ومبنى الأدميرالية الأكثر مدعاة للتقدير حيث ربع ميل من الأعمدة والكارتيدات Caryatids ( الكارتيد عمود على شكل امرأة) وأبراج الكنائس المدببة الذرى، ذلك المبنى الذي تم تصميمه لخدمة البحرية الروسية - ويضارع هذا مبنى الأركان العامة الذي أقامه في ميدان القصر روسّي Rossi بعد موت إسكندر بفترة وجيزة·
وبناء على وصية نيكولاس الأول Nicholas I تَوَّجَ ريكارد دي مونتفرّان de Montferrand عصر إسكندر بعمود مرتفع من حجر واحد (عمود مونوليثي) ربما ذكرنا بعمود فيندوم Vendome في باريس، فرغم أنَّ القيصر قد هزم فرنسا إلا أنه لم يفقد احترامه لفنها·(ملحق/1359)
وجلس النحَّاتون الروس أيضاً تحت أقدام الفنَّانين الفرنسيين الذين ركعوا بدورهم أمام فنّاني روما الذي استعاروا من فن الإغريق رغم انتصار الرومان على الإغريق· وقبل كاترين الثانية الغربية الشرقية West - Oriented ( المقصود تأثرها بالحضارة البيزنطية والرومانية معا)، كان تأثير الدين البيزنطي ذا طابع شرقي Oriental في غالبه يخشى الجسد البشري باعتباره أداةً للشيطان مما دفع الروس إلى الابتعاد عن معظم فنون النحت المتجسدِّة التي يراها المشاهد من كل الجوانب لكن شيئاً فشيئاً وببطء ومع الروح الوثنية الشهوانية للتنوير دخل النحت مع كاترين وتمَّ التخلِّي عن هذه المحاذير (التابو taboo) في خضم الحرب الداخلية وفي خضم التذبذب بين الدين والجنس·
لقد ظل إتْين موريس فالكون Etienne - Maurice Falconet الذي أغرته كاترين بترك فرنسا والقدوم إلى روسيا في 1766 - وظل ينحت ويحفرُ حتّى سنة 1778، وفي تمثاله المهم لبطرس الكبير لم يكتف برفع الحصان وراكبه في الهواء وإنما ترك العنان للفن الصحيح لتوصيل رسالته لا يعوقه شيء ودون أن يضع في الاعتبار شيئاً سوى التعبير عن الجمال والحقيقة والقوّة·
وفي هذه الأثناء أتى نيكولاس فرانسوا جِل Nicolas - Francois Gillet ليدرِّس النحت في سنة 1758 في أكاديمية الفنون الجميلة التي كانت قد افتُتِحت في سان بطرسبرج قبل قدومه بعام· وكان أحد تلاميذه هو اف· اف شخيدرين (شيدرين) F. F. Shchedrin قد تم ابتعاثه إلى باريس لمزيد من إتقانه لفن النحت بالأزميل، وقد حقق نتائج باهرة حتى إن تمثاله فينوس Venus ضارع النموذج الفرنسي (المستحمّه Baigneuse) الذي نحته أستاذه جبريل دلجريه d'Allegrain· وكان شخيدرين هو الذي نحت الكارتيدات (أعمدة على هيئة نساء) الخاصة بالبوابة الرئيسية لأدميراليّة زخاروف Zakharov's Admiralty - والأخير من بين تلاميذ جل Gillet المشاهير هو إيفان ماركوس Ivan Markos - عمل لفترة مع كانوفا Canova وثوروالدسين Thorwaldsen في روما وأضاف إلى مثاليتهم الكلاسيكيّة شيئاً من العواطف الرومانسية التي حلت محل عصر الكلاسيكية الجديدة·(ملحق/1360)
وقال النقاد إنه جعل الرخام يبكي وإن عمله لا يصلح إلا للقبور· ولازالت مقابر ليننجراد تعرض فنه·
واجتاز فن الرسم في روسيا تحولاً أساسياً من خلال التأثير الفرنسي في أكاديمية الفنون الجميلة· فحتى سنة 1750 كاد الفن يكون دينيا تماماً إذ كان في غالبه يتكون من أيقونات Icons مرسومة بالألوان المموهة distemper، أو رسوماً جداريه (فريسكو fresco) على الخشب· وسرعان ما أدَّت الميول الفرنسية لكاترين واستدعائها للفنانين الفرنسيين والإيطاليين إلى أن قلّدهم الفنانون الروس، فانتقلوا من الرسم على الخشب إلى استخدام الكانفا Canvas ومن الفريسكو إلى الرسم بالزيت ومن الموضوعات الدينية إلى الموضوعات الأخرى المختلفة - تاريخية ووطنية وطبيعية وأخيراً شعبية·
ووصل أربعةُ فنانين إلى درجة الامتياز في عهد بول وعهد إسكندر· لقد وجد فلاديمير بورفكوفسكي Vladimir Borovikovsky ( مودلات) جذابة من بين نساء البلاط الشابات بعيونهن المرحة أو المتأمّلة وبصدورهن العالية الفخورة وبملابسهن المزهرّة، وربما يكون قد تأثر بمدام فيجيه - ليبرون Vigee-Lebrun التي كانت ترسم في سان بطرسبرج في سنة 1800 - كما رسم كاترين المسنّة في لحظة بساطة وبراءة غير متوقَّعة أبداً من هذه المرأة الشَّبقه التوَّاقة للجماع، وترك لنا - في هيئة قاسية رسماً لامرأة مجهولة وعلى رأسها شعرها المستعار ربما كان يقصد بها مدام دي ستيل التي دارت في أنحاء أوروبا هروباً من نابليون·
أما فودور أليكسيف Feodor Alekseev بُعث إلى البندقية ليكون مهندس ديكور إلا أنه عاد ليصبح أحد أبرز رسَّامي المناظر الطبيعية الروس· وفي سنة 1800 رسم سلسلة لوحات لموسكو بقيت لتكون أفضل مرشد لنا لشكل المدينة قبل أن يتم حرق ثلثها وأنف نابليون يَشُم ريح الحريق·
أما سيلفستر شيدرين Sylvester Shchedrin ابن النحات السابق ذكره فقد أحب الطبيعة أكثر من النساء كملهمة لفرشاته· بُعث إلى إيطاليا في سنة 1818 لدراسة الفن فأحب شمس نابلي وسواحلها وغاباتها، كما أحب كل ذلك في سورِّنتو Sorrento·(ملحق/1361)
أما أوريست أداموفتش كبرنسكي Orest Adamovich Kiprensky (1782 - 1836) فاقترب من ذروة العظمة بين الرسامين الروس في عصره· وكان ابناً غير شرعي أنجبته امرأة من أقنان الأرض فتبنّاه زوجها وحرّره فوجد طريقه إلى أكاديمية الفنون الجميلة بعد أن ساعدته الظروف، ومن أفضل رسومه الأولى صورة لأبيه بالتبنّي، رسمها في سنة 1804 وهو لم يتجاوز الثانية والعشرين من عمره، لقد بدا أمراً لا يُصدَّق أن يستطيع شابٌ في مثل هذه السن الوصولَ إلى الفهم والتمكّن اللذين يجعلانه يرى (وينقل) في صورة شخصية واحدة قوّة البدن وقوة الشخصية اللتين تجلّيا في سوفورف Suvorov وكوتوزوف Kutuzov، واللتين (قوة البدن وقوة الشخصية) قادا الروس المنتصرين من موسكو إلى باريس (1812 - 1813) أما الصورة التي رسمها كبرنسكي (1827) للشاعر بوشكين Pushkin فمختلفة تماماً إذ أظهر فيها الجمالَ والوسامةَ والحساسيةَ والتأملَ ورأساً عامراً بالروائع·
ومرة أخرى نجد له عملاً فريداً، ونعني به تلك الصورة (1809) للضابط الفارس إيفجراف دافيودوف Evgraf Davidov، وهي صورة بالحجم الطبيعي في حلة رسمية جميلة ومظهر فخور، وإحدى يديه على سيفه وفي سنة 1813 بعد أن أصبح العالمُ مختلفاً تماماً رسم صورة للشاب إسكندر بافلوفتش باكونين Bakunin ولا ندري مدى قرابته لميخائيل ألكزاندروفتش باكونين الذي أزعج في وقت لاحق كارل ماركس بأطروحاته المخالفة وأسس الحركة التقدميّة في روسيا Nihilist movement وكان كبرنسكي نفسه متمرداً على نحوٍ ما متعاطفاً مع حركة الديسمبريين Decembrist التي قامت في سنة 1825 ولما اتضح للسلطات أنه محرِّض اتجه لفلورنسا طلباً للأمان، حيث طلب منه متحفُ أوفيزي Uffizi صورةً له· ومات في إيطاليا في سنة 1836 واعترفت به الأجيال الروسية اللاحقة كأعظم فنان روسي في عصره·(ملحق/1362)
7 - الأدب الروسي
في ظل كاترين الكبرى أزهر الأدبُ الروسيُّ وانحطّ في آن، فقلما شهد التاريخ حاكماً أبدى هذا الحماس للاستسلام لثقافة أجنبيّة، فقد أحبّت التنوير الفرنسي وجنّدت بحذق كُلاً من فولتير وديدرو Diderot وفريدريش ملشيور فون جريم Friedrich Melchior von Grimm كمدافعين فصحاء عن روسيا في كل من فرنسا وألمانيا· لكن عندما قامت الثورة الفرنسية اهتزّت كل العروش فتم استبعاد كل أرباب التنوير باعتبارهم أصل المقصلة (الجيلوتين guillotine) · لقد ظل البلاط الروسي يتحدث فرنسية القرن الثامن عشر لكن الكتَّاب الروس أظهروا ما في لغتهم الروسية من جمال، وكان بعضهم على وفق رواية مدام دي ستيل يطلقون على من يجهل لغتهم الروسية (أبكم وبه صَمَمُ) ودارت معركة حامية على مستوى الأمة بين المعجبين بالأنماط الأجنبية في الحياة والأدب والمتمسكين بالأخلاق الروسية، والعادات الروسية وأساليب الحياة والحديث في روسيا، وكانت هذه الروح مفهومة وضرورية لتأكيد ذات الأمة وطبيعتها وعقلها، وفتحت الطريق لفيض العبقرية الأدبية الروسية في القرن التاسع عشر· وقد استلهمت هذه الحركة اتجاهها إلى حد كبير من حروب إسكندر ونابليون·
وكان إسكندر نفسه رمزاً لهذا الصراع في طويّة نفسه وفي تاريخه لقد كان حسّاساً جداً للجمال من الطبيعة والفن، وفي المرأة وفي طويّة نفسه، لقد اعترف للفن بمعجزتين، معجزة الدوام والخلود فهو يخلّد الحب العابر ويخلّد الشخصية الطارئة، ومعجزة المعنى المتنور فهو يستخرج النموذج الأمثل من الواقع غير المتجانس· لقد جعل تأثير لاهارب La Harpe وفرنسة البلاط الروسي من حفيد كاترين الألمانية رجلاً مهذّباً (جنتلمان) يضارع أيّ غالي (فرنسي) في مسلكه وتعليمه· وكان من الطبيعي أن يشجِّع كارامزين Karamzin وآخرين على إدخال اللطائف والحدّة الذهنية في الحديث الروسي وطرق التصرف·(ملحق/1363)
تلك اللطائف والحدّة الذهنية السائدة في أسلوب الفرنسي إذا تحدث، وفي طريقته في التصرف، وأدّت صداقته لنابليون (1807 - 1810) إلى تدعيم هذا الاتجاه الغربي Westward، لكن صراعه مع نابليون (1811 - 1815) أدى إلى لمس جذوره الروسية فعاد ليتعاطف مع إسكندر شيزكوف Aleksandre Shiskov والسلافوفيليين Slavophils، وفي كلتا الحالتين كان إسكندر يشجع المؤلفين بالرواتب أو الوظائف الشرفية (حيث يتقاضى شاغلها راتباً دون أن يؤدي عملاً حقيقياً) أو الأوسمة أو المنح·
وأمر بأن تطبع الحكومة على نفقتها الأعمال المهمة أدبية كانت أم علمية أم تاريخية· وقدم العون المالي لترجمة أعمال آدم سميث وبنثام Bentham وبيكاريا Beccaria ومونتسكيو·
وعندما علم أن كارامزين يرغب في كتابة تاريخ روسيا لكنه يخشى أن يفتقر نتيجة تفرغه لهذا العمل، قدَّم له ألفي روبل كراتب سنوي وأمر وزارة الخزانة بنشر مجلداته على نفقتها·
وكان نيكولاي ميخائيلوفتش كارامزين Nikolai Mikhailovich Karamzin (1766-1826) ابنا لتتري من ملاك الأراضي في ولاية سيمبيرسك Simbirsk في حوض الفولجا الأدنى· وتلقَّى قسطاً وافراً من التعليم وأتقن الألمانية والفرنسية وقام برحلة أعد لها جيداً في كل من ألمانيا وسويسرا وفرنسا وإنجلترا استغرقت ثمانية عشر شهراً، وعندما عاد إلى روسيا أسس مجلة شهرية ( the Moskovsky zhurnal) كان من أجمل ما نشر فيها ما كتبه هو عن رحلته (خطابات رحّالة روسي) إذ كان بأسلوبه السهل الرشيق لا يصف الأشياء التي رآها فقط· وإنما يعبّر عن مشاعره إزاءها مستوحياً تأثيرات روسو والنزوع الروسي الوجداني· وسار كارامزين خطى أوسع في اتجاهه الرومانسي هذا في روايته: ليز البائسة Poor Lisa (1792) : وليزا هذه بنت فلاحة تعرضت للاغتصاب والهجر وانتحرت· ورغم أن الحكاية لا تدّعي أكثر من كونها قصة (من نسج الخيال) فإن البقعة التي أغرقت فيها ليزا نفسها أصبحت محجاً للشباب الروس·(ملحق/1364)
لقد كاد كارامزين يترك بصماته في كل مجالات الأدب· فقد كان لقصائده ذوات الاتجاه الرومانسي الواضح جمهور عريض· وقد صدم السلافوفيليين (الرافضين للتأثيرات الأجنبية في الأدب الروسي وأسلوب الحياة الروسية) بإدخاله المصطلحات الفرنسية والإنجليزية لتحل محل المصطلحات أو العبارات الروسية التي بدت لأذنيه - وهما أذنا رحالة - غير رشيقة أو غير دقيقة أو متنافرة النغمات· وقد اتهمه شيشكوف بأنه خائن لوطنه إلا أن كارامزين ظل متمسكا بموقفه وانتصر: فقد نقى اللغة الروسية ونشرها وجعلها لغة موسيقية نقلها واضحة نقية ليتلقفها بوشكين وليرمونتوف Lermontov·
لقد ساد اتجاه كارامزين لسبب آخر أيضا: لقد كان يطبق ما يدعو إليه في اثني عشر مجلدا تكوّن أول تاريخ حقيقي لروسيا· وقد أعانته المساعدة المالية التي قدمتها له الحكومة على التفرغ تماما لهذا العمل· لقد نقل عن الحوليين الأوائل بحكمة وتمييز وأفعم سردهم البارد بالعاطفة وخفف وطأة الحكاية الطويلة برشاقة أسلوبه ووضوحه· وعندما ظهرت المجلدات الثمانية الأولى (1816 - 1818) في ثلاثة آلاف نسخة تلقفتها الأيدي فنفدت في خمسة وعشرين يوما· ولم يكن تاريخه هذا يضارع الكتابات التاريخية لفولتير وهيوم وجيبون Gibbon، ولكنه كان عملا ذا طابع وطني صريح، وكان المؤلف يرى أن الحكم الملكي المطلق هو الحكم الأمثل لشعب يناضل ليعيش في مواجهة مناخ لا يرحم وغزاة بربريين وكان مضطرا لإيجاد قانون وهو ينتشر مبتعدا عن مصادر الخطر· وقد أثبت هذا الكتاب (تاريخ روسيا) أنه منجم نفيس استقى منه الشعراء الروائيون طوال أجيال متعاقبة فمن هنا - على سبيل المثال - وجد بوشكين قصة بوريس جودونوف Boris Godunov· لقد أسهم كتاب (تاريخ روسيا) بتواضع في صد نابليون وإبعاده عن موسكو بالسمو بالروح الروسية لتقوم بدورها المتألق والفريد في مجالي الأدب والموسيقى في القرن التاسع عشر·(ملحق/1365)
وكما كان كارامزين هو هيرودوت عصر إسكندر المزدهر، كذلك كان إيفان أندريفتش كريلوف Ivan Andreevich Krylov (1769 - 1844) هو كإيسوب Aesop في هذا العصر نفسه· وكان إيفان ابنا لجندي بسيط في الجيش ربما أخذ من معسكرات الجيش بعض الخشونة في الحديث وبعض الشتائم الحادة التي جعلت كوميدياته حادة حتى أدمت الأوضاع القائمة، وعندما أجبرته الحكومة على السكوت انسحب من مجال الأدب إلى مجالات عملية أخرى - عمل مدرسا وسكرتيرًا ومقامرا ولاعب ورق محترف··
وفي سنة 1809 أصدر كتابا عن الحكايات والنوادر على ألسنة الحيوانات والطيور جعلت كل من يقرأها يغرق في الضحك على الجنس البشري إلا القارئ (أي أن القارئ في هذه الحال لا يضحك على نفسه ظنا منه أنه مستثنى من النقد والسخرية الواردين في الحكاية) · وكانت بعض هذه الحكايات - كما جرت العادة غالبا في كتب الحكايات - تعكس ما رواه قصاصون سابقون، خاصة لافونتين La Fontaine وتعرض معظم حكاياته - على ألسنة الأسود والأفيال والغربان وفلاسفة آخرين - الحكمة الشعبية في أشعار شعبية يتكون البيت الواحد منها من مقطع قصير وآخر طويل، يتفق طوله مع المناسبة·
وأعاد كريلوف اكتشاف أسرار الراوين الكبار لهذه الحكايات - إنها الحكمة الوحيدة المفهومة الواضحة أعني بها حكمة الفلاحين التي تظهر فيها الذات واضحة دون رياء أو غطاء كاذب· لقد عرض كريلوف رذائل الناس وغباءهم وخداعهم وفسادهم، وكان من رأيه أن هجاءه هذا كله وتعريته كتعليم وإرشاد يفوق تأثير شهر في السجن· ولم يكن هناك من يظن أن الحكاية تنطبق عليه - سوى قليل من القراء - لذا فقد أقبل القراء بشغف على شراء هذا المجلد الصغير (بيع منه أربعون ألف نسخة في عشر سنوات)، وكان هذا الإقبال غريبا في بلاد تعد معرفة القراءة والكتابة فيه مدعاة للفخر·
وراح كريلوف Krylov يدمي مجتمعه بشكل دوري بنشر عشرة مجلدات أخرى في الفترة من 1809 إلى 1843· ولأن الحكومة كانت ممتنة لكريلوف لتحفظه بشكل العام فقد عينته في المكتبة العامة، فتولى منصبه راضيا كسولا حتى أتى يوم - وكان في الخامسة والسبعين من عمره - تناول فيه عدد كبيرا من طيور الحجل فمات·(ملحق/1366)
8 - إسكندر ونابليون من 1805 إلى 1812م
كاد كل منهما (إسكندر ونابليون) يصلان إلى السلطة في الوقت نفسه، وقد وصل كلاهما إليها بعد أحداث عنف· لقد وصل نابليون إلى السلطة في 9 نوفمبر 1799 أما إسكندر فتسلمها في 24 مارس 1801· وكما اقتربا زمانا فقد تباعدا مكانا: كقوتين متواجهتين في خلية فقد مد كل منهما سلطانه حتى مزّقا القارة الأوربية، الأول (نابليون) في أوسترليتز Austerlitz حربا، ثم في تيلسيت Tilsit سلاما· وكان كلاهما يتصارعان على تركيا لأن كليهما كان يفكر في السيطرة على القارة الأوربية، ومفتاحها إسطنبول (القسطنطينية)، وكلاهما أخذ دوره في مغازلة بولندا لأنها معبر إستراتيجي بين شرق (أوربا) وغربها· وكانت حرب 1812 - 1813 ذات هدف فقد كانت هي التي ستقرر أي قوة منهما ستسيطر على القارة، وربما تغزو الهند·
لقد واجه إسكندر ابن الرابعة والعشرين في سنة 1801 هرج القوى العريقة في أساليب الخداع فتذبذبت سياسته الخارجية لكنه كان يمد مجال حكمه بشكل متكرر· وتغيرت مواقفه من تركيا بين الحرب والسلام وضم جورجيا في سنة 1801 وألاسكا Alaska في سنة 1803 وتحالف مع بروسيا في 1802 ومع النمسا في 1804 ومع إنجلترا في 1805· وفي سنة 1804 رفع له وزير خارجيته خطة لتقسيم الإمبراطورية العثمانية وامتدح جهود نابليون في فترة القنصلية وأدانه لإعدامه دوق دنجين d'Enghien دون محاكمة متأنية، وانضم للنمسا وبروسيا في حرب مدمرة ضد المغتصب (نابليون) (1805 - 1806) ثم قابله وقبله في تيلسيت (1807) واتفق معه على أن نصف أوربا يكفي الواحد منهم، حتى إشعار آخر·(ملحق/1367)
وغادر كل منهما تيلسيت وهو مقتنع أنه حقق نصرا دبلوماسيا كبيرا، وحث نابليون القيصر إسكندر على التخلي عن إنجلترا والتحالف مع فرنسا وتقوية الحصار القاري بمنع دخول البضائع البريطانية·وقد أنقذ إسكندر مملكته من غزو مدمر بالتخلي عن حليف والتحالف مع حليف أقوى، وأمن لنفسه حرية التصرف مع السويد وتركيا، فقد كان جيشه الرئيس مبعثرا في فريدلاند Friedland· لقد امتدح الجيش الفرنسي والعاصمة الفرنسية انتصارات نابليون العسكرية والدبلوماسية، أما إسكندر فعندما عاد إلى سان بطرسبرج وجد كل من فيها تقريبا - الأسرة المالكة والبلاط والنبلاء ورجال الدين والتجار والعامة - مصدومين لأنه - أي إسكندر - وقع اتفاق سلام مهين مع مدع لص ملحد ونشر بعض الكتاب - مثل ف· ن· جلينكا Glinka وكونت فودور روستوبشين Rostopchin ( حاكم موسكو في وقت لاحق) مقالات يوضحون فيها أن سلام تيلسيت مجرد هدنة ووعدا بأن الحرب ستنشب من جديد ضد نابليون في الوقت المناسب وستنتهي - أي هذه الحرب - بتدميره نهائيا·
وانضمت طبقة رجال الأعمال إلى المهاجمين لمعاهدة السلام ما دامت تعني قيام روسيا بإحكام الحصار القاري إذ كان التبادل التجاري تصديراً واستيرادا مع بريطانيا مسألة حيوية لتحقيق الرخاء، وكان منع هذه التجارة يعني تدمير التجار ورجال الأعمال وإرباك اقتصاد البلاد خاصة وأن حكومة روسيا كانت قد اقتربت من الإفلاس في سنة 1810·
واهتزت ثقة إسكندر فأحكم قبضته وأعاد فرض الرقابة على الأحاديث والصحافة وألغى خطته الإصلاحية واستقال وزراؤه الليبراليون - كوشبي Kochubey وتشارتوريسكى Czartoryski ونوفوسيلستوف Novosilstov - وغادر اثنان منهم روسيا· وكان إسكندر قد اتخذ في سنة 1809 مستشارا أثيرا لديه وهو إصلاحي مندفع افترض أن القيصر مقبل على تكوين حكومة دستورية (ونعني به الكونت ميخائيل ميخائيلوفتش سبيرانسكي Speransky) وذلك في محاولة أخيرة من إسكندر لتحرير نفسه من التيار المحافظ المحيط به·(ملحق/1368)
كان الكونت ميخائيل سبيرانسكى ابنا لقس في إحدى القرى· ولد في سنة 1772، وطور شغفه بالعلوم ووصل إلى درجة أستاذ الرياضيات والفيزياء في معهد سان بطرسبرج ولفتت جهوده تشاريفتش إسكندر فتم تعيينه في وزارة الداخلية التي كان على رأسها في ذلك الوقت كوشبي · فأظهر قدرة على العمل بجد شديد وتقديم التقارير الواضحة حتى إن القيصر عينه للإشراف على تقنين القوانين الروسية (تنظيمها وتقسيمها إلى مواد)، وعندما انطلق إسكندر للقائه الثاني مع نابليون اصطحب معه سبيرانسكي كصاحب أوضح رأس في روسيا (المقصود أن تفكيره واضح) · وثمة رواية غير مؤكدة مؤداها أن إسكندر عندما سأله عن رأيه في أحوال الدول الواقعة تحت سيطرة نابليون أجاب: "إن لدينا رجالاً أفضل، ولديهم مؤسسات أفضل" وعندما عادا إلى سان بطرسبرج راح القيصر يوكل إليه المزيد من الصلاحيات حتى وجدا نفسيهما يفكران في إعادة بناء الحكومة الروسية برمتها·
لقد أراد سبيرانسكي إلغاء القنانة (عبودية الأرض) ولكنه اعترف أن هذا محال في سنة 1809، وعلى أية حال فقد اقترح إصدار مرسوم للتمهيد لذلك بالسماح لكل الطبقات بشراء الأراضي، وربما يكون في هذا متأثرا بإجراء مشابه اتخذه شتاين Stein في بروسيا· واقترح أن تكون الخطوة التالية هي أن يقوم كل الملاك في كل مدينة وزمامها (فولوست Volost) بانتخاب مجلس محلي Local duma يتحكم في الميزانية ويعين الموظفين المحليين ويختار ممثليه، ويقدم التوصيات لمجلس المركز district duma الذي يعين الموظفين على مستوى المركز ويقترح سياساتها، ويرسل مندوبيه وتوصياته إلى مجلس الولاية (أو المقاطعة) Provincial duma التي ترسل بدورها مندوبيها وتوصياتها إلى المجلس الوطني National duma في سان بطرسبرج· وليس لأحد سلطة إقرار القوانين سوى القيصر، لكن المجلس الوطني له حق اقتراح القوانين· ويوجد بين المجلس (الدوما) والحاكم مجلس استشاري يعينه الحاكم نفسه ليعينه في الأمور الإدارية والتشريعية·(ملحق/1369)
ووافق إسكندر على الخطة بشكل عام لكن القوى الأخرى في الدولة عوقته· لقد شعر النبلاء أنه قلل من شأنهم، واتهموا سبيرانسكي بأنه من العوام (ليس نبيلا) وأنه منحاز لليهود، ومعجب بنابليون وأنه أثر في فكر إسكندر ليكون - وهو الوزير الطموح - السلطة الكامنة وراء العرش (المقصود ليكون هو الحاكم الفعلي) وانضمت البيروقراطية إلى صفوف المهاجمين لأن سبيرانسكي حث إسكندر على إصدار مرسوم (6 أغسطس 1809) يجعل الحصول على درجة جامعية أو اجتياز اختبار نزيه شرطا للتعيين في الوظائف الإدارية العليا· وتأثر إسكندر بهذه الاعتراضات فأعلن أن الوضع الدولي لا يسمح بتجارب جوهرية في أمور الحكم·
لقد ساءت العلاقات بين إسكندر وفرنسا بسبب زواج نابليون من أرشدوقة نمساوية وبسبب استيلائه على دوقية أولدنبورج Oldenburg (22 يناير 1811) التي كان دوقها هو حما أخت القيصر (إسكندر)، وتعلل نابليون بأن الدوق رفض إغلاق موانئه في وجه البضائع الإنجليزية· ولم يكن إسكندر يحب قيام نابليون بإنشاء دوقية وارسو الكبيرة القريبة جدا من المناطق البولندية التي استولت عليها روسيا مخافة أن يقوم نابليون في أي وقت بإحياء مملكة بولندا المعادية لروسيا· ووجد إسكندر أنه ليوحد بلاده صفاً واحدا وراءه، فعليه أن يقدم تنازلات للنبلاء والتجار·
لقد كان يعلم أن البضائع البريطانية (أو البضائع الواردة من المستعمرات البريطانية) تدخل روسيا بأوراق يزورها التجار والموظفون الروس لتفيد أنها بضائع أمريكية وبالتالي فدخولها مباح· فسمح بدخول البضائع البريطانية وكان جانب من هذه البضائع يتخذ طريقه من روسيا إلى بروسيا وغيرها·(ملحق/1370)
وقد أرسل نابليون احتجاجا غاضبا إلى القيصر عن طريق الوزير minister الروسي في باريس إلا أن القيصر أصدر مرسوما في 31 ديسمبر 1810 يجيز فيه دخول بضائع المستعمرات البريطانية وخفض التعريفة الجمركية عليها، ورفع التعريفة الجمركية على البضائع الفرنسية· وفي فبراير سنة 1811 أرسل له نابليون خطابا حزينا: "إن جلالتكم لم تعودوا تكنون أي صداقة لي، فلم نعد في نظر إنجلترا وأوربا حلفاء" ولم يجب إسكندر وإنما حشد 240,000 من جنوده في نقاط مختلفة على حدوده الغربية· وعلى وفق ما ذكره كولينكور Caulaincourt فإن إسكندر كان قد قرر خوض حرب منذ بواكير شهر مايو 1811: "من الممكن بل ربما من المحتمل أن يهزمنا نابليون لكن هذا لن يتيح له السلام··· إن بلادنا شاسعة يمكن أن نتراجع فيها···· سوف نتركه لمناخنا، ولشتائنا ليخوضا الحرب ضده··· إنني سأنسحب إلى كامشاتكا Kamchatka لكنني لن أتخلى أبدا عن أي من ممتلكاتي"·
لقد اتفق - الآن - إسكندر مع الدبلوماسيين الإنجليز في سان بطرسبرج ومع شتاين Stein واللاجئين البروس في بلاطه الذين كانوا يقولون له منذ وقت طويل أن هدف نابليون هو ضم كل أوربا إلى حكمه· وليوحد الأمة ألغى كل الإصلاحات وكل اقتراح بالإصلاح، إذ كانت هذه الإصلاحات ستثير عليه أكثر الأسر الروسية نفوذا، بل لقد شعر أنه حتى العوام لم يكونوا مهيئين لها·
وفي 29 مارس 1812 طرد سبيرانسكي ليس من منصبه فقط وإنما من البلاط ومن سان بطرسبرج، وراح يصغي على نحو أكثر فأكثر للكونت المحافظ أليكسي إراكشيف Aleksei Aradcheev· وفي أبريل وقع معاهدة مع السويد مؤيدا دعاويها في النرويج، وأرسل أوامر سرية لممثليه في جنوب روسيا لعقد معاهدة سلام مع تركيا حتى ولو أدى هذا إلى التخلي عن كل الدعاوي الروسية في مولدافيا وفاليشيا (الأفلاق والبغدان) ليكون الجيش الروسي كله متاحاً لمواجهة نابليون· ووقعت تركيا معاهدة سلام مع روسيا في 28 مايو·(ملحق/1371)
وكان إسكندر يعلم أنه يخاطر بكل شيء لكنه كان قد ارتمى أكثر فأكثر في أحضان الدين كسند يستند إليه في هذه الأيام العصيبة التي يتحتم عليه أن يتخذ فيها قرارا· لقد راح يصلي ويقرأ الكتاب المقدس المسيحي كل يوم· لقد أصبح يرى نابليون الآن أصل الشرور وتجسيداً لها أصبح يراه فوضويا مجنونا لا يشبع من التوسع، ويزداد قوة يوما بعد يوم، وأصبح إسكندر يرى نفسه بمؤازرة شعبه المؤمن، وبمساحة بلاده الشاسعة، هو الوحيد القادر على إيقاف هذا الشيطان المدمر لينقذ استقلال بلاده ويعيد النظام القديم في أوربا، وينزع الأمم من فولتير ليعيدها للمسيح·
وفي 21 أبريل 1812 غادر سان بطرسبرج بصحبة قادة حكومته مصحوبا بدعوات شعبه، واتجه جنوباً إلى فيلنا Vilna عاصمة ليتوانيا الروسية فوصلها في 26 أبريل وانتظر هناك - على رأس أحد جيوشه - قدوم نابليون·(ملحق/1372)
الفصل الخامس والثلاثون
خاتمة المطاف
إلى موسكو من: 1811 إلى 1812
1 - الحصار القارِّي
THE CONTINENTAL BLOCKADE
كان السبب المباشر للحرب الفرنسية الروسية سنة 1812 هو رفض روسيا الاستمرار في الحصار القاري الذي نصَّ عليه مرسوم برلين الذي أصدره نابليون في 21 نوفمبر 1806· وكان هذا المرسوم ينطوي على خطة نابليون بإغلاق كلِّ موانئ وسواحل القارة الأوروبية في وجه البضائع البريطانية، وكانت هذه الخطة تهدف إلى إجبار بريطانيا العظمى على إنهاء حصارها - الذي كانت قد أعلنته في 16 مايو 1806 - على كل الموانئ الخاضعة لفرنسا من بريست Brest إلى إلبا the Elbe، ولإنهاء التدخل البريطاني في حركة التجارة الفرنسية البحرية ولاستعادة المستعمرات الفرنسية التي استولت عليها بريطانيا العظمى، ولإنهاء التمويل البريطاني لدول القارة الأوروبية التي تشن حرباً على فرنسا·(ملحق/1373)
كيف كانت آلية الحصار القاري؟ بحلول عام 1810 أدى هذا الحصار النابليوني المضاد إلى تعرض إنجلترا لهبوط اقتصادي قاس· وفي العامين الأولين (1806 - 1808) بعد إصدار نابليون مرسوم برلين السابق ذكره انخفضت الصادرات البريطانية من 40,800,000 جنيه إسترليني إلى 35,200,000 جنيه إسترليني، وانخفضت وارداتها من القطن بنسبة 95%· وكإحدى نتائج الحصار ارتفع سعر القمح (الحبوب بشكل عام) من 66 شلناً إلى 94 شلناً لكل ربع quarter ( كوارتر: وحدة وزن تساوي 28 باونداً) (ربع الهندريدويت hundredweight الذي يساوي 112 باوند)، وفي غضون ما لا يزيد إلا قليلا عن عام (1807 - 1808) · وفي هذه الأثناء أدى تدهور التجارة الخارجية إلى هبوط الأجور وانتشار البطالة وقيام الإضرابات المدمرة·
لقد كانت بريطانيا تحتاج إلى الحديد السويدي لمصانعها وللأخشاب الروسية لسفنها، لكن الحرب مع السويد وتحالف روسيا مع فرنسا (1807) أديا إلى منعه هذين الموردين عنها· وناضلت بريطانيا لمواجهة هذا التقهقر بحماية من تبقّى لها من متنفسات لتجارتها، فارتفعت صادراتها إلى البرتغال وأسبانيا وتركيا (الدولة العثمانية) 400% بين عام 1805 و1811 إلى أن أتى الغزو الفرنسي المكلِّف لشبه الجزيرة الأيبيرية·
وكانت الأمور تزداد سوءا في بريطانيا كلَّما استمر الحصار؛ لقد انخفضت صادراتها إلى شمال أوربا بما نسبته 20% في عامي 1810 - 1811· وأدى تراجع ميزانها التجاري إلى ارتفاع المبالغ المدفوعة بالذهب في أوربا، كما أدى إلى انهيار قيمة الجنيه في العالم إلى درجة دفعت المعارضة ممثلة في زعيميها جرينفيل وجراي Grenville & Grey إلى المطالبة بالسلام بأي ثمن· وفي سنة 1811 - أي قبل عام من حرب نابليون مع روسيا - وصل تأثير حصاره القاري ذروته في بريطانيا العظمى·(ملحق/1374)
وكان الحصار البريطاني لفرنسا مفيداً بشكل جوهري لها (أي لفرنسا) فرغم أن موانئ فرنسا - لي هافر Le Havre ونانت Nantes وبوردو ومرسيليا - كانت قد تعرضت لخراب اقتصادي شديد حتى إن المدينتين الأخيرتين طالبتا بعودة حكم البوربون، إلا أن التجارة الفرنسية الداخلية استفادت من إزاحة المنافسة البريطانية، واستفادت من تدفق الذهب ووفرة رأس المال، والإعانات المالية التي تقدمها حكومة رجل الأعمال التي أَثْرت خزانتها بغنائم الحرب· وكانت أرباح التجار ورجال الأعمال الفرنسيين لا تزال أكثر بسبب هذه العوامل وبسبب تحسن أحوال أسواق القارة وزيادة التيسيرات فيها في ظل سيادة نابليون· وتضاعفت صناعة النسيج أربع مرات في الفترة من 1806 إلى 1810 مما عجَّل بالثورة الصناعية - بعد ذلك - في فرنسا· وأعطى انعدام البطالة والاستقرار السياسي في نطاق الحدود الممتدة حافزاً للصناعة حتى إنه لو ربحت فرنسا الحروب النابليونية لكانت قد أدركت إنجلترا إنتاجاً وتجارة عالمية، وضارعتها·
وكان الحصار القاري (الذي فرضته فرنسا) مفيداً لصناعتها وتجارتها الداخلية، لكنه كان مُضراً بالتجارة الخارجية بالنسبة إلى دول النظام القاري التابعة لنابليون· فالمدن الهانسيتية Hanseatic - أمستردام، وهامبورج، وبريمن ولوبك Lubeck - كان من الطبيعي أن تعاني من الحصار القاري المزدوج (المقصود الحصار القاري الذي فرضه نابليون على البضائع البريطانية، والحصار الذي فرضته بريطانيا على الموانئ والسواحل الفرنسية والتابعة لفرنسا)، لكن سويسرا وشمال إيطاليا ومجتمعات الراين ازدهرت نتيجة امتداد المؤسسات النابليونية بشكل غير معوِّق· أما كلما اتجهنا إلى الشرق (في أوربا) حيث الصناعة أقل تطورا، فإن الحصار القاري - بمنعه بيع منتجات الإقليم لبريطانيا - كان عبئاً أدى إلى زيادة الاستياء· وبطبيعة الحال، كان هذا أكثر ما يكون وضوحاً على نحو خاص في روسيا·(ملحق/1375)
وكانت نقطة الضعف الأساسية في الحصار القاري (الذي فرضه نابليون) هي أنه كان معاكسا للرغبة البشرية الطبيعية في طرق كل الأبواب المؤدية إلى الكسب· لقد كانت موانئ أوربا ومدنها الساحلية غاصة بأناس كان الواحد منهم راغباً في المخاطرة بحياته لتهريب البضائع البريطانية إلى القارة، فقد أصبحت هذه البضائع جذابة بسبب منعها، وكان أصحاب الصناعات داخل القارة الذين كانوا يجدون لبضائعهم أسواقاً أجنبية غير راضين بإجبارهم على التخلي عن الأسواق البريطانية· وأدى استياء الأسر التجارية الكبيرة في هولندا إلى حدٍ دفع الملك لويس بونابرت إلى الكتابة للقيصر الروسي إسكندر متجاوزاً الحد في انتقاد نابليون بمرارة لا ترحم·
وفي مواجهة المعارضة المتزايدة استخدم نابليون 200,000 دار جمارك وآلافاً من رجال الشرطة السرية أو المعروفين، وما لا يُحصى من الجنود لكشف أي خرق للحصار، والقبض على من يرتكب هذه المخالفة وعقابه ومصادرة البضائع المهربة· وفي سنة 1812 أصدرت محكمة الجمارك في هامبورج في ظرف ثمانية عشر يوماً، 127 حكماً كان بعضها بالإعدام، إلا أن الحكم بالإعدام كان على أية حال نادراً، بل وحتى أحكام الإعدام التي صدرت لم تكن تُنفَّذ· وكانت البضائع المصادرة تباع للخزانة الفرنسية، وكان بعضها يُحرق علناً مما كان ينفّر كل المشاهدين تقريبا ويسبّب استياءهم·(ملحق/1376)
ولتخفيف العداء على نحو ما، ولزيادة الدخل ولسد العجز، بدأ نابليون في سنة 1809 في بيع التراخيص، وعادة ما كان الحصول على الترخيص مقابل ألف فرنك - وذلك لاستيراد البضائع البريطانية التي يثبت ضرورتها للصناعة الفرنسية أو ضرورتها لرفع الروح المعنوية للفرنسيين، أو تصدير بضائع إلى بريطانيا مقابل البن والسكر والذهب· ورغم أن نابليون بدأ رسمياً في إصدار هذه التراخيص علناً منذ سنة 1809 إلاَّ أنه فيما يُقال كان يصدرها قبل ذلك بمدة طويلة، وكانت بريطانيا قد سبق لها أن أصدرت تراخيص مشابهة - 44,346 منها بين 1807 و1812 - لإلغاء الحظر على بضائعها· إن نابليون - بالمقارنة - لم يُصدر سوى 494 ترخيصاً بحلول 25 نوفمبر سنة 1811، ومع هذا فإن إسكندر أشار إلى أنه بينما يطالب نابليون روسيا بحظر دخول البضائع البريطانية حظراً تاماً فإنه - أي نابليون يتغاضى عن دخولها إلى فرنسا·
وباختصار فإن الحصار القاري الذي فرضه نابليون كان رغم تدني جماهيريته بشكل واسع، ورغم الصعوبات والأخطاء التي قامت في سبيله - يبدو ناجحاً في سنة 1810· لقد أصبحت إنجلترا على حافة الإفلاس، بل وعلى حافة الثورة المطالبة بالسلام مع فرنسا، وكانت الدول المتحالفة مع فرنسا متذمرة لكنها كانت خاضعة مطيعة، وكانت فرنسا رغم الاستنزاف المالي والبشري الذي سبَّبته الحرب الأيبيرية، مزدهرة اقتصاديا ربما كما لم تكن في أي وقت آخر مضى· ولم يكن لدى الفرنسي سوى القليل من الحرية، لكن كان لديه فرنكاته، ونصيبه من عظمة فرنسا المنتصرة، وإمبراطورها الذي لا نظير له·
2 - فرنسا في حالة ركود اقتصادي: 1811م
وفجأة - كما لو أن بعض القوى الشريرة كانت تُنسّق لإحداث كوارث - بدا كل الاقتصاد المتعدد الأوجه ينهار متمزقا إربا غارقاً في دوامات الفشل البنكي، والاضطرابات في الأسواق، وإغلاق المصانع والبطالة والإضرابات والتمرد بل وخطر المجاعة - كان كل هذا والإمبراطور الأعجوبة الذي لا يمل يخطط لجمع الأموال والجنود ورفع الروح المعنوية لخوض معركة حياة أو موت مع روسيا البعيدة المجهولة الواسعة·(ملحق/1377)
إن أسباب ركود اقتصادي حديث يصعب تحديدها، فكيف سنحلِّل أسباب الركود الاقتصادي في فرنسا في سنة 1811؟ إنه لأمر أشد صعوبة، مما يظن أكبرنا سناً (ممن شهدوا الركود الاقتصادي الحديث)، وهناك مؤرخ نابه أرجع الركود الاقتصادي الفرنسي السابق ذكره إلى سببين:
(1) فشل صناعة الغزل والنسيج في فرنسا في تدبير المواد الخام ورأس المال·
(2) وفشل شركات الصرافة في لوبك · لقد كانت مصانع الغزل في فرنسا تعتمد على استيراد القطن الخام إلا أن سياسة حماية المنتجات المحلية التي اتخذتها الحكومة الفرنسية قضت بوضع تعريفة جمركية عالية على مثل هذه الواردات فقلَّ الوارد وارتفعت أثمان القطن، ولم يستطع أصحاب مصانع الغزل دفع المبالغ اللازمة لتشغيل كل أنوالهم، ولم يستطيعوا دفع نسبة الربح العالية التي تفرضها البنوك الفرنسية على القروض·
وشعر أصحاب هذه المصانع بضرورة الاستغناء عن المزيد والمزيد من العاملين لديهم· وسرعان ما أعقب فشل بنك لوبك إفلاسات مماثلة في هامبورج وأمستردام أثرت في الشركات والمؤسسات الباريسية· لقد زاد عدد البنوك المفلسة في فرنسا من 17 بنكا في أكتوبر سنة 1810 إلى 41 في نوفمبر من السنة نفسها، إلى 61 في يناير 1811، وأدت ندرة القروض البنكية وارتفاع فوائدها إلى اضطرار الشركات شركة إثر أخرى إلى تقليص عدد العاملين فيها، بل وإيقاف أعمالها، وسرعان ما ازدحمت شوارع المدن الفرنسية بالعاطلين الذين راحوا يعرضون ممتلكاتهم للبيع أو راحوا يتسولون الخبز، بل وانتحر بعضهم·
وتكوّنت عصابات من العاطلين في المناطق الشمالية أغارت على المزارع واستولت على الغلال، وفي المدن هاجم العاطلون الأسواق والمخازن واعترضوا حمولات الطعام في الطرق والأنهار ونهبوها· لقد بدت الفوضى التي سادت عام 1793 تعود من جديد·(ملحق/1378)
وأصدر نابليون قرارات بعقوبات قاسية ضد جرائم الإخلال بالنظام العام، وأرسل الجنود لقمع المضربين، ونظم أمر توزيع الطعام مجانا· وأصدر قرارا في 28 أغسطس بإرسال 500,000 هندريدويت من القمح و30,000 جوال من الدقيق للمراكز ذوات الوضع الحرج· وفي هذه الأثناء خرق هو نفسه الحصار القاري بالسماح باستيراد الغلال من الخارج، ورفع التعريفة الجمركية عن المنتجات الأجنبية التي تنافس الصناعات الفرنسية، ونظّم أمر القروض الحكومية لتمكين الشركات من مواصلة التعيين (التوظيف) والإنتاج،
وفي مايو سنة 1812 وضع حدا أعلى لسعر القمح تأسِّياً بسوابق ثورية، لكن هذه المحاولة فشلت لأن الفلاحين منعوا منتجاتهم منه عن السوق حتى ترتفع الأسعار فيحصلوا على السعر الذي يطلبونه· وساعدت الأعمال الخيرية الخاصة الحكومة على تجنب هيجان على مستوى الأمة، فالكونت رمفورت Rumfort العالم الأمريكي البريطاني الذي كان يعيش آنئذ في فرنسا رتب نوعاً من الحساء هو (حساء رمفورت) مكوَّناً أساساً من اللوبيا أو الفاصوليا، والبسلَّة أو الفول، وهو حساء لا تقتصر فائدته على احتوائه على البروتينات النباتية وإنما تُقلل من الحاجة إلى الخبز·
وكانت الأزمة الاقتصادية التي أطلت في أثناء استعدادات نابليون لغزو روسيا اختباراً لقوة أعصابه وربما أسهمت في إضعاف ثقته في نفسه وإضعاف قراراته، ومع هذا فلم يتخل عنه حظه الطيب، فقد كانت البشائر تشير إلى محصول وفير في سنة 1812 وثبت هذا بالفعل، فأصبح الخبز أرخص سعراً، وأصبح يمكن العاطلين - على الأقل - من أن يجدوا ما يسد رمقهم· وفتحت البنوك أبوابها مرة أخرى أو حلت محلها بنوك أخرى وتدفقت القروض وواصلت العاصمة دورها في المصانع وكان لابد من هذا وأصبح من الممكن دفع الأجور بالعمل في إنتاج بضائع قد يستغرق وصولها إلى المشتري نصف عام· وأصبحت الأسواق عامرة مرة أخرى· والآن كان في مقدور نابليون أن يكرس نفسه لحرب لإحكام الحصار القاري الذي كان قد بدأ فعلاً في الإخفاق بسبب تصرفات الأمم وطبيعة البشر·(ملحق/1379)
3 - مقدّمات الحرب: من 1811 إلى 1812م
استعدَّ الإمبراطوران المتخاصمان للمعركة بتحركات دبلوماسية، وتجمعات عسكرية، وتهيئة جماهيرية، وحاول كل منهما إقناع الآخر بأنه مُخلص للسلام· اختار نابليون كسفير له في روسيا أرمان دي كولينكور Armand de Caulaincourt وهو رجل تفوق قيمته مجرد أصله النبيل· وعندما وصل هذا السفير إلى سان بطرسبرج (نوفمبر 1807) تأثر بما لحق بإسكندر من تطور من حاكم شاب حَيِى - ذلك الحاكم الذي كان قد رآه في سنة 1801 إلى قيصر كان قد أصبح مثالاً للمظهر الطيب والعادات الرشيقة والأسلوب الودود في الحديث· واعترف إسكندر أنه مُحب لنابليون وأنه لا يزال متمسكاً بالاتفاقات التي عُقِدَت في تيلسيت Tilsit - وأبدى بعض التوافقات الخفيفة اعتبرها الإمبراطور الفرنسي الأريب معقولة·
لكن بولندا فرَّقت بينهما· لقد كان نابليون قد أسس دوقية وارسو ( Warsaw) الكبيرة (1807) تحت الحماية الفرنسية لكن إسكندر واجه هذا بأن راح يتودَّد للنبلاء البولنديين بعرضه عليهم إعادة بولندا مملكة موحّدة كما كانت قبل التقسيم تحكم نفسها حكماً ذاتياً مع الاعتراف بقيصر روسيا كمليك لها مهيمن على علاقاتها الخارجية· ووقعت خطابات تحوي هذا العرض في يد نابليون فاستشاط غضباً، واستدعى كولينكور (فبراير 1811) وعيّن بدلاً منه جاك لو Jacques Law ( ماركيز لوريستور Lauriston مستقبلاً) سفيراً لفرنسا في روسيا·
وفي هذا الشهر حثَّ إسكندر النمسا على الانضمام إليه في شن هجوم على قوات نابليون في بولندا مغرياً إيّاها بمكسب عرضي - نصف ملدافيا Moldavia وكل فاليشيا Wallachia، ورفضت النمسا· وقد ألقى نابليون - بعد ذلك - وهو في سانت هيلينا بعض الضوء على سياسته في بولندا لم أكن أبداً لأشن الحرب على روسيا لأخدم - ببساطة - مصالح طبقة النبلاء البولنديين، أما بالنسبة إلى مسألة تحرير أقنان الأرض فإنني لا أستطيع أبداً أن أنسى أنني عندما تحدثت إلى أقنان الأرض في بولندا عن الحرية، أجابوني: بالتأكيد نحن نحب الحرية كثيراً جداً، لكن من سيُطعمنا ويكسونا ويدبّر لنا سكناً؟ وهذا يعني أنهم كانوا سيتعثرون في حالة حدوث أي تغيير مفاجئ·(ملحق/1380)
ووصل كولينكور إلى باريس في 5 يونيو 1811 محملاً بالهدايا من القيصر، وحاول بكل جهده إقناع نابليون بنوايا إسكندر السلمية وحذّره من أن غزو فرنسا لروسيا قد ينتهي إلى هزيمة بسبب مناخها ومساحتها الشاسعة، وانتهى نابليون إلى أنّ كولينكور قد وقع في حب القيصر، فانتهك بذلك واجبات منصبه الدبلوماسي، وعبّأ نابليون جيشه في بروسيا أو بالقرب منها بعد أن استبعد الأمل في حل سلمي وبعد أن ساوره الشك أن روسيا تحاول كسب بروسيا والنمسا إلى جانبها، فأرهب - أي نابليون - فريدريك وليم الثالث لتوقيع تحالف مع فرنسا (5 مارس 1812) ألزم بروسيا بتقديم عشرين ألف جندي ينضمون إلى الجيش الفرنسي لغزو روسيا، كما ألزمها بإطعام الجيش الفرنسي عند مروره بالأراضي البروسية على أن تُخصم تكاليف الطعام من تعويض الحرب الذي كانت بروسيا لا تزال ملتزمة بدفعه لفرنسا·
وفي 14 مارس دخلت النمسا في تحالف قَسْري مماثل مع فرنسا· وفي أبريل اقترح نابليون على السلطان (العثماني) تحالفاً يُتيح لتركيا تطوير صراعها مع روسيا في حرب مقدسة (جهاد) وأن نتعاون مع فرنسا في مسيرة متزامنة إلى موسكو، ويستعيد الباب العالي - في حالة نجاح الحملة - ولاياته الدانوبية Danubian مع ضمان سيطرته على القرم Crimea والبحر الأسود· لكن الباب العالي وقد تذكر أن نابليون قد حارب الترك (العثمانيين) في مصر والشام، وأنه عرض في تيلسيت على إسكندر أن يتصرف كما يحلو له ضد تركيا (الدولة العثمانية) - رفض عروض نابليون، ووقع - أي السلطان العثماني - اتفاق سلام مع روسيا (28 مايو 1812)، وفي 5 أبريل وقع إسكندر اتفاقية تعاون مشترك مع السويد، وفي 18 أبريل عرض على بريطانيا العظمى التحالف· وفي 29 مايو أعلن أن كل الموانئ الروسية مفتوحة لسفن كل الأمم· والحقيقة أن هذا الإعلان كان يعني الانسحاب من الحصار القاري (الذي فرضه نابليون) وإعلان الحرب على فرنسا·(ملحق/1381)
ومع هذه المبارزة الدبلوماسية كانت تجري واحدة من أكثر الاستعدادات العسكرية في التاريخ ضخامة· وفي هذا المجال كانت مهمة إسكندر أبسط وأضيق من مهمة نابليون· لقد كان أمام إسكندر دولة واحدة كان عليه تعبئة قواتها ومشاعرها· أما تعبئة المشاعر فكادت تتم بدون مجهود منه: فروسيا الأم هبت بشكل تلقائي ضد جحافل البرابرة الذين نظموا أنفسهم وعلى رأسهم كافر وتوجهوا لغزو روسيا· وتحولت العاطفة الوطنية التي أدت فيما سبق إلى إدانة سلام تيلسيت إلى دعم ذي طابع ديني للقيصر، فحيثما ذهب تحلق حوله البسطاء رجالا ونساء يُقبّلون حصانه أو حذاءه· أما وقد وجد نفسه بهذه القوة فقد زاد من عدد جيوشه وأمرها بالاستعداد للحرب، ومرْكز 200,000 جندي على طوال الدفينا Dvina والدنيبر Dnieper وهما أطول نهرين يفصلان روسيا الروسية عن ليتوانيا والولايات البولندية التي حصلت عليها روسيا في أثناء تقسيم بولندا·
أما تعبئة نابليون فكانت أكثر تعقيداً· لقد واجه الصعوبة المبدئية المتمثلة في أن 30,000 جندي فرنسي واثنى عشر جنرالاً فرنسيا كانوا متورطين في إسبانيا والحاجة إليهم أكثر لمنع ولينجتون Wellington من اجتياح شبه جزيرة أيبيريا واجتياز جبال البرانس إلى فرنسا· لقد كان نابليون يأمل العودة إلى إسبانيا ليكرر نصراً آخر كالذي كان قد أحرزه في سنة 1809، والآن كان على نابليون أن يختار بين فقد إسبانيا والبرتغال والحصار القاري من ناحية، وفقد التحالف الروسي والحصار:
"إنني أعلم أكثر من أي شخص آخر أن إسبانيا كانت سرطاناً مزعجاً كان لابد من علاجه قبل أن نستطيع الدخول في مثل هذه الحرب المرعبة التي لابد أن تكون معركتها الأولى على بعد ألف وخمسمائة ميل من حدودي"·(ملحق/1382)
وكان نابليون قد بدأ استعداداته العسكرية في سنة 1810 بتقوية الحاميات الفرنسية في دانتسج (دانزج) Danzig وأوعز - بالإضافة لذلك - بحذر شديد، إلى تنظيم أمور العسكر الفرنسيين في بروسيا· وفي يناير 1811 استدعى للخدمة العسكرية الذين أتى عليهم الدور في هذا العام ووزَّعهم على طول الساحل الألماني من نهر إلبا Elbe إلى نهر أودر Oder تحسباً لهجوم بحري روسي· وفي الربيع أمر أمراء كونفدرالية الراين أن يجهزوا حصتهم من الجنود المفروض تقديمها لجيوش نابليون، للقيام بعمل عسكري فعلي· وفي أغسطس بدأ في دراسة الأراضي الروسية دراسة جادة متأنية، ووقع اختياره على شهر يونيو كأفضل شهر لغزوها· وفي ديسمبر نشر شبكة جواسيس للعمل في روسيا وما حولها·
وبحلول شهر فبراير سنة 1812 كان الطرفان قد أتما التعبئة العامة اللازمة للحرب· كانت عملية التجنيد في فرنسا تُوحي بهبوط حاد في شعبية الجيش: من بين 300,000 تم استدعاؤهم للخدمة اختفى 80,000 وتم البحث عن آلاف منهم باعتبارهم مجرمين (هاربين من الخدمة العسكرية) · وكثيرون من المجندين الجدد تركوا الخدمة العسكرية أو كانوا كارهين للجندية وأثبتوا - بشكل خطير - أنه لا يمكن الاعتماد عليهم في الأزمات· أما في المعارك السابقة فقد كان المجندون الجدد يجدون أمامهم القدوة والمثال الطيب الذي يدعو للفخر في التشجيع الأبوي من المحاربين المخضرمين القدماء في الحرس الإمبراطوري، أما الآن فقد كان معظم رفاق المعارك هؤلاء قد ماتوا أو كانوا في إسبانيا أو بلغ بهم العمر عتيا· فلم يعودوا قادرين على القيام بأدوار بطولية فعلية وكل ما كانوا يستطيعونه هو اجترار ذكريات بطولاتهم الماضية· بل إنه لم يكن للمجنَّدين الجُدد إلهام من أمة موحدة ومتحمسة تقف وراءهم·(ملحق/1383)
وقد ناشدهم نابليون كما ناشد رعاياه أن ينظروا إلى هذا المشروع كحرب مقدسة تشنها الحضارة الغربية ضد موجة غرور البربرية السلافية Slavic barbarism لكن الفرنسيين المتشككين كانوا قد سمعوا مثل هذه الحكايات من قبل، وعلى أية حال فقد كانت روسيا بعيدة بعداً يكفي لعدم إرهابهم· وحاول نابليون إلهاب مشاعر جنرالاته إلا أنهم لم يكادوا يُصيخون إليه سمعاً لأنهم كانوا ضد الحرب الجديدة لأنها - في رأيهم - دعوة إلى مأساة· وكان كثيرون منهم قد غدوا أثرياء بفضل هباته وكانوا راغبين أن يتركهم لينعموا بها في سلام·
وكان بعض مساعديه من الشجاعة بمكان بحيث صارحوه بشكوكهم· بل إن كولينكور رغم ولائه له وبرغم أنه خدمه حتى سنة 1814 كقيِّم على إسطبله الإمبراطوري ومشرف على خيوله - حذّره من أن الحرب مع روسيا مدمرة، بل وجرؤ على أن يقول له إنه قد سبّب كل هذه المتاعب لإرضاء ولعه الشديد بالحرب· أما فوشيه Fouche الذي كان قد أُبعد عن الحضرة الإمبراطورية بسبب تآمره الشديد، كما هو مفترض فقد استدعاه نابليون مرة أخرى ليضعه تحت ناظريه أو ليتمكن من توجيهه· فوشيه هذا قال لنابليون إنه من الصعب هزيمة روسيا بسبب المناخ وإنه - أي نابليون - يفعل كل هذا بسبب حلمه المضلل بأن يحكم العالم كله - هذا إن جاز لنا أن نصدّق فوشيه هذا·
وقد شرح نابليون أنه لا يحلم إلا بإيجاد ولايات متحدة أوربية وأن يقدم للقارة تشريعات قانونية واحدة وعُملة واحدة، ونظام مقاييس وموازين واحد ومحكمة استئناف واحدة - كل هذا تحت قبعة واحدة ذات زوايا ثلاث· وهذا الجيش الهائل الذي لم يسبق له مثيل الذي بذل جهودا كبيرة لجمعه وإعداده - كيف يُعيده إلى دياره الآن ليسير خلال ما بقي له من حياة وذيله بين سيقانه؟!(ملحق/1384)
لقد كان فعلاً جيشاً هائلاً: 680,000 مقاتل من بينهم 100,000 فارس وما لا يُحصى من المسئولين السياسيين والخدم والنسوة المرافقات· وكان أقل من نصف هذا العدد من الفرنسيين، أما الباقون فكانوا كتائب عسكرية مطلوبة من كل من إيطاليا، وإيليريا Illyria والنمسا وألمانيا وبولندا· وكان هناك خمسون جنرالاً: ليفبفر Lefebvre، دافو، أودينو Oudinot، ني Ney، مورا Murat، فيكتور Victor، أوجيرو Augereau، يوجين دي بوهارنيه Eugene de Beauharnais، الأمير جوزيف أنتوني بونياتوفسكي Jozef Antoni Poniatowski ابن أخي آخر ملوك بولندا الفرسان، وغيرهم· لقد تجمعت كل هذه القوى في جيوش منفصلة في نقاط مختلفة في الطريق إلى روسيا وتم تزويد كل جنرال بتعليمات محددة عن متى وأين يقود جيشه؟ ·
لقد كانت مهمة إعداد وتمويل هذا العدد الكبير تحتاج إلى عبقرية وصبر ومال، ربما أكثر من مهمة جمعها (حشدها) · حقيقة لقد كانت المرحلة الأولى من هذا المشروع وكذلك الأخيرة قد تأثرت بشكل حيوي بظروف نقل الجنود وتمويلهم، ولم يكن من الممكن بدء المعركة إلا بعد أن تكون التربة قد سمحت بنمو الحشائش بقدر كاف لإطعام الخيول· وكان دمار الحملة يكاد يكون تاماً باستيلاء الروس على المؤن التي كان الفرنسيون الجوعي العائدون يتوقعون وجودها في سمولنسك Smolensk·
لقد حاول نابليون أن يحسب حساب كل شيء سوى الكارثة· لقد كان قد رتَّب أموره ليكون لديه مخازن للمواد وقطع الغيار الميكانيكية والطعام والملابس والأدوية في كل من وزل Wesel وكولوني Cologne وبون Bonn وكوبلنز ( Coblenz) ومينز ( Mainz) وغيرها من النقاط في طرق جيوشه المتجمعة، وكان لابد من إمدادات شبيهة ممثلة في مئات من عربات النقل تتبعُ الغزاة إلى روسيا· وكان نابليون يعرف أين يشتري وماذا يدفع· لقد كان يعرف خداع المورِّدين، وكان مستعداً لإحراق أي تاجر يُحمِّل جيشه أكثر مما يطيق أو يبيعه بضائع رديئة أو مغشوشة·(ملحق/1385)
كيف دفع تكاليف كل هذه المؤن ونقلها وخزنها وكيف دفع لجنده ومستخدميه؟ لقد فرض الضرائب وفرض على المقرضين إقراضه وأخذ القروض من بنك فرنسا ومن البنوك الخاصة، وأخذ الملايين من المبالغ الخاصة به والبالغة 380 مليون فرنك ذهباً والتي أودعها في أقبية التوليري Tuileries، وراح يقاوم الإسراف أينما كان ووبَّخ مطلّقته الحبيبة جوزيفين لأنها تنفق كإمبراطورة وامتدح الإمبراطورة ماري لويز Marie Louise لاقتصادها في النفقات· وباختصار فإنه قال في وقت لاحق: "إن معركة روسيا··· كانت هي الأفضل، والأكثر إتقاناً، والأكثر براعة في قيادتها، بل والأكثر منهجية (نظاماً) من بين كل المعارك التي قُدْتها"·
أكان كفؤاً لقيادتها؟ ربما كان أكثر معاصريه كفاءة لكنه كان أقل ملائمة مما تحتاجه مثل هذه المعركة· لقد كان في الثالثة والأربعين، وكان في هذه السن قد أَلِفَ بالفعل حياة المعسكرات وواجبات المعارك، ويمكننا أن نفترض أنه ربما كان يعاني من آلام عوَّقته في بورودينو Borodino وواترلو Waterloo ( بعد ذلك): آلام في المعدة، صعوبات متوالية في التبوّل، آلام البواسير· ومع هذا فقد كان لا يزال رفيقاً عادلاً وزوجاً طيباً لماري لويز وأباً مولعاً بابنه منها· ولكنه كان قد أصبح بعد ثمانية أعوام من الحكم الإمبراطوري نافد الصبر دكتاتوراً سهل الاستثارة سريع الغضب مُغالياً في تقدير قدراته العقلية وإمكاناته السياسية· مع استثناءات كثيرة: لقد تحمل انتقادات كولينكور بفكاهة وصدر رحب· وغفر كثيراً من الأخطاء المكلّفة لإخوته وجنرالاته· وكانت تمر به لحظات ينظر فيها لنفسه نظرة واقعية: يخبرنا سكرتيره أنه: "في الحالات التي كان يستغرق فيها في التفكير والتأمل كنت أسمعه يشخّص وضعه وموقفه بعبارة يقول فيها لقد شددنا القوسَ إلى منتهاه". لكنه قلما كان يفقد الرؤية والإحساس بالقصور· لقد قال لناربون Narbonne وبعد كل هذا، "فإن هذا الطريق الطويل [إلى موسكو] هو الطريق إلى الهند"·
وعلى هذا ففي 9 مايو 1812 غادر سان كلود St.-Cloud قاصداً موسكو على الأقل، لقد كان كل شيء في حياته مقامرة، وكانت هذه (ذهابه بجيشه إلى موسكو) هي أكبرها·(ملحق/1386)
4 - الطريق إلى موسكو: 26 يونيو - 14 سبتمبر 1812
ألحت عليه ماري لويز أن تصاحبه حتى دريسدن Dresden وأن يدعو والديها للقائهما هناك لتكون مرة أخرى مع أسرتها لفترة، وستكون هذه الفترة وجيزة على أية حال· ووافق نابليون، ووجد من الحكمة أن يدعو أيضاً فريدريك الثالث البروسي وعدداً كبيراً من الشخصيات الملكية وذوي الحيثية· لقد أصبحت مسيرته من مينز مُشرِّقا عبر بلاد الراين موكب نصر، إذ كان الحكام المحليون يخرجون لاستقبال سيّدهم الأعلى، وكانوا ينضمون إلى موكبه طوال تقدمه في سكسونيا· وإلى الغرب من دريسدن بأميال قليلة التقى بالملك فريدريك أوغسطس الذي صحبه ومن معه إلى العاصمة، فوصلوا المدينة قبل منتصف الليل بساعة في 16 مايو وازدحمت الشوارع التي مرّوا بها بالناس حاملين المشاعل وهاتفين مرحبين ودقت أجراس الكنائس ودوَّت المدافع بطلقات التحية·
وفي 18 مايو وصل ميترنيخ Metternich مع إمبراطور النمسا وإمبراطورتها، وعانقت ماري لويز أباها بعاطفة جياشة وكانت سعادتها قد قلّت بسبب هواجس اعترتها بأن هذا العام مليء بالنحس· وسرعان ما أتى ملك بروسيا وولي عهدها وربما لم يكونا سعيدين وسط هذا الجو من التوافق والود بين أعداء وطنهم التاريخيين، وعلى أية حال فقد كان القيصر إسكندر قد تلقّى تأكيدات سرية بأن بروسيا والنمسا تتمنيان هزيمة نابليون· وقام الملك فريدريك أوغسطس كمضيف بتخفيف أمور السياسة بالأوبرا والدراما والصيد والألعاب النارية والرقص والاستقبالات التي كان حكام ألمانيا يقدمون فيها لنابليون فروض الولاء والطاعة (البيعة homage) وكان هذا مبهجاً له - رغم تواضعه - وبلغ ابتهاجه الذروة·(ملحق/1387)
وفي 28 مايو انطلق نابليون لينضم إلى أحد جيوشه في ثورن Thorn على الفيستولا Vistula، وكانت الأوامر قد صدرت لجنرالاته للقائه عند شاطئ نهر نيمن Niemen الذي يفصل دوقية وارسو (فرسافا) الكبيرة عن روسيا· وركب هو نفسه في عربة مزوّدة بمصباح ومنضدة وأدوات كتابة وخرائط وكتب· وكانت هذه الأدوات تُنقل كل يوم في أثناء المسيرة إلى خيمته حيث كان يكتب الأوامر ويطلب من سكرتيريه نقلها لجنرالاته، وكانت هذه الأوامر تتعلق بالعمليات في صباح اليوم التالي· وقد صحبه سكرتيره العجوز مينيفال Meneval وسكرتيره الجديد نسبياً فرانسوا فا Fain وخادمه الخصوصي كونستانت Constant طوال الطريق إلى موسكو وطوال رحلة العودة·
ووصل نابليون إلى شاطئ نهر نيمن في 23 يوليو فاستطلع الأحوال ولم يجد أثراً لوجود العدو على الضفة الأخرى من النهر، فأقيمت ثلاثة جسور عائمة بسرعة، وفي 24 - 26 يونيو عبر 200,000 من جنوده إلى مدينة كوفنو Kovno ( الآن كاوناس Kaunas) وفي الوقت نفسه تقريباً عبر جيش فرنسي آخر مكوّن من نحو 200,000 مقاتل النهر نفسه في أدنى المجرى عند تيلسيت ,الآن سوفيتسيك Sovetsk, حيث التقى نابليون وإسكندر منذ خمس سنوات خلت وأقسما على أن يظلاَّ صديقين حتى الممات·(ملحق/1388)
لقد كان إسكندر الآن في فيلنا Vilna إلى الجنوب الشرقي من كوفنو بسبعة وخمسين ميلاً· وكانت هناك عدة جيوش في انتظار أوامره: في الشمال 150,000 مقاتل بقيادة الأمير ميخائيل بارسلي دي توللي Mikhail Barclay de Tolly ( من أصول اسكتلندية) وفي الجنوب 60,000 بقيادة الأمير بيوتر باجراتيون Pyotr Bagration ( من جورجيا)، وفي الشرق 40,000 بقيادة الجنرال إسكندر تورماسوف Aleksandr Tarmasov· ولم تكن هذه الجيوش نداً قوياً لجيوش نابليون البالغ عددها 400,000، لكن بالانسحاب المنظّم يمكنها أن تستهلك أو تدمّر كل المؤن وموارد الطعام أو تبعدها، ولا تترك إلاّ القليل لينهبه الغزاة· وكان هناك جيش روسي آخر مكون من 60,000 مقاتل شديد البأس أصبح متاحاً الآن بعد الاتفاق مع تركيا وتوقيع معاهدة سلام معها، وكان هذا الجيش في طريقه للشمال بقيادة الجنرال بول شيخاجوف Chichagov لكن هذا الجيش كان يبعد مسيرة سبعة أيام·
وفي 24 يونيو كان إسكندر هو ضيف الشرف في حفل راقص في مزارع الكونت ليفين بنيجسن Levin Bennigsen الذي سبق له أن حارب نابليون في إيلاو Eylau سنة 1807· وفي أثناء الحفل أفضى حامل الرسائل لقيصر بأن الفرنسيين عبروا النيمن Niemen إلى روسيا، فأخفى قيصر الخبر حتى انتهى الاحتفال· ولما عاد لمقره أصدر الأوامر لجيوشه المحلية بالانضمام معاً إن أمكن، وعليها في كل الأحوال أن تنسحب إلى المناطق الداخلية· لقد وصل الفرنسيون أسرع مما كان متوقعاً ولم تستطع القوات الروسية أن ينضم بعضها إلى بعضها الآخر لكنها راحت تتراجع (تنسحب) بنظام جيد·
وفي 26 يونيو أرسل قيصر إلى نابليون طالباً فتح باب المفاوضات شريطة مغادرة القوات الفرنسية للأراضي الروسية فوراً· ولم يكن هو نفسه مؤمناً بجدوى اقتراحه، فغادر فيلنا Vilna مع جيش باسلي دي تولي Barclay de Tolly قاصداً فيتبسك Vitebsk، وهنالك، ألح عليه ضباطه بأنه غير مؤهّل لوضع إستراتيجية عسكرية، فغادر قاصداً موسكو وناشد المواطنين التضحية بالمال والدم للدفاع عن بلاد آبائهم وأجدادهم فتفاعلوا بحماس مع مناشداته فعاد إلى سان بطرسبرج وقد امتلأ شجاعة·(ملحق/1389)
وفي 27 يونيو بدأ نابليون وجيشه الرئيس مسيرة طويلة - 550 ميل - من كوفنو إلى موسكو· وحتى هذه الأيام الأولى في روسيا كانت محنة؛ إذ بلّل المطر الثقيل كل شيء ونقعه في الماء· وكان كل جندي يحمل معه طعاماً يكفيه لخمسة أيام لكنهم راحوا ينهبون الحقول وأكواخ القرى دون مراعاة لأوامر الإمبراطور بالكف عن السلب والنهب، وكان هذا رغبة منهم في زيادة كميات الطعام لديهم أو تعزيزها بأنواع أخرى· ووصل الجيش إلى فيلنا Vilna في 28 يونيو ونهبها بقدر ما يستطيع قبل وصول نابليون، وأتى (أي نابليون) وهو يتوقع أن يستقبله أهلها كمحرر، وحياه بعض اللتوانيين والبولنديين لكن آخرين قابلوه بصمت مُتجهِّم مُمتعضين مما قام به جيشه من سلب ونهب وأتته وفود طالبة منه أن يضمن عودة العرش البولندي، ولم يستطع أن يُلزم نفسه خوفاً من تحوّل البروس والنمساويين في حكومته عنه أو تمرد الجنود البروس والنمساويين في جيشه عليه، وطلب من الوفود تأجيل هذا الطلب إلى حين عودته منتصراً من موسكو·
وكان نابليون يأمل أن يُفاجئ في فيلنا أحد جيوش القيصر ويدمّره، لكن بارسلي Barclay وجنوده كانوا قد هربوا (انسحبوا) إلى فيتبسك Vitebsk وكانت قوات نابليون تخشى ملاحقته خشية شديدة، واستمر نابليون طوال أسبوعين يستعيد النظام ويرفع الروح المعنوية للجنود، وتعكّر مزاج الإمبراطور لأحداث متوالية غير مواتية، فقد كان قد أرسل أخاه جيروم Jerome بجيش مهم لملاحقة باجراتيون في الجنوب، وفشل جيروم في الإيقاع بفريسته فعاد إلى الجيش الفرنسي الرئيسي فوبَّخه نابليون لإجراءاته البطيئة وقيادته المتراخية فسلَّم القيادة وانسحب إلى بلاطه في وستفاليا Westphalia ·(ملحق/1390)
وفي 16 يوليو قاد نابليون جيشه الذي أُعيد إنعاشه وتمويله خارج فيلنا Vilna في مسيرة بلغ طولها 250 ميلاً إلى فيتبسك Vitebsk· وكان يخطط أن يلحق هناك بجيش بارسلي دي تولي Barclay de Tolly لكن الاسكتلندي (المقصود: ذو الأصول الاسكتلندية) البارع كان بالفعل قد تقدم في الطريق إلى سمولنسك ولم يستطع نابليون ملاحقته إلى أبعد من فيتبسك لأنه (أي نابليون) كان قد أمر بإرسال دعم ومؤن لجيشه في فيتبسك، فلا شيء يمكن به إجبار إسكندر على الإذعان لشروطه (شروط نابليون) سوى الاستيلاء على عاصمة روسيا المقدسة والعريقة·
وبعد أن قضى نابليون خمسة عشر يوماً في فيتبسك قاد جيشه في 13 أغسطس آملاً أن يلحق بجيش بارسلي في سمولنسك التي كانت مركزاً مزدحماً بالسكان وكانت المناطق المحيطة بها ذوات تربة خصبة وتقع على نهر الدنيبر Dnieper فازدهرت تجارتها وصناعتها وكانت محصنة بشكل جيد حتى إن بارسلي وباجراتيون Bagration بعد أن وحّدا جيشيهما قررا مواجهة نابليون فيها أو على الأقل إيقاف تقدمه·(ملحق/1391)
ووصل الفرنسيون في 16 أغسطس مُنهكين بسبب مسيرتهم الطويلة وقل عددهم بسبب من مات منهم وبسبب فرار الجنود إذ بلغ عدد من مات أو فرّ 160,000 رجل· ومع هذا كان الهجوم الفرنسي عنيفاً وفعّالاً، وفي ليل 17 أغسطس اشتعلت المدينة بالنار سواء بسبب المدفعية الفرنسية، أو بفعل الروس أنفسهم يأساً منهم، وكان هذا مبعث بهجة لنابليون ولذوقه الجمالي إذ قال متسائلاً لمسئول خيوله (كولينكور): ألا ترى هذا المشهد بهيجاً؟ فأجابه: هذا مرعب يا سيدي فقال له نابليون: ياه!! تذَّكر ما قاله إمبراطور روماني: رائحة جثة العدو رائحة زكية دائماً· وفي 18 أغسطس أرسل الإمبراطور إلى مارا Maret وزير الشؤون الخارجية تقريرا لرفع الروح المعنوية في باريس: "لقد استولينا على سمولنسك Smolensk ودون أن نخسر رجلاً واحداً" لكن تقريراً آخر لمؤرخ إنجليزي ذكر أن "الفرنسيين خسروا في هذه المعركة ما بين 8,000 و9,000 رجل أما الروس فخسروا 6,000"· وكان من المحال تعويض الخسارة الفرنسية (بقوات أخرى)، وتراجعت الجيوش الروسية إلى المدن· ومناطق تجمع المياه Pools الموالية للجيش الروسي حيث يمكن تجنيد مزيد من الرجال·
وفي 20 يوليو - بعد أن استاء القيصر من خلافات جنرالاته وتكتيكاتهم - قرر أن قواته المسلحة في حاجة إلى قيادة واحدة، فعين في منصب القائد العام ميخائيل إلارينوفيتش كوتوزوف Mikhail Ilarionovich Kutuzov (1745 - 1813) الذي كان قد حقَّق شهرة بسبب قيادته الناجحة في كثير من المعارك· لقد كان قد بلغ الثالثة والستين من عمره كسولاً قعيداً سميناً لدرجة أنه كان يتعين نقله إلى المعسكر أو ميدان المعركة في عربة، وكان قد فقد إحدى عينيه وكانت الأخرى معتلَّة وكان - شيئاً ما - داعراً، دُبّاً مع النساء، لكنه كان قد تعلّم فن الحرب خلال خمسين عاما من الممارسة الفعلية، واستاءت كل روسيا لهذا التعيين· لقد استاء كل الناس تقريباً بمن فيهم نابليون بسبب تجنبه المواجهة العسكرية وأمره بمزيد من الانسحاب (أمره بالانسحاب إلى مناطق داخلية أبعد)(ملحق/1392)
وعالج نابليون التوقَّف عن المطاردة بأن جعل من سمولنسك Smolensk مركزاً حصيناً في وسط روسيا وقضى الشتاء هناك وحافظ على خطوط مواصلات - تحميها قواته - مع غرب أوربا، لكنه الآن قد وجد نفسه في موقف غير متوقع بالمرّة: جيشه عير منضبط بسبب الانقسامات العرقية (لم يكن جميع أفراده من الفرنسيين) وانهيار النظام فيه حتى أنه - أي نابليون - وجد أكثر أماناً أن يواصل المسيرة حيث يؤدي الخوف من هجوم العدو إلى تماسك جيشه· لقد قال للجنرال سيباستياني Sebastiani: " هذا الجيش لا يمكن أن يتوقف الآن·· فالحركة وحدها هي التي تجعله على قلب رجل واحد· إن المرء يمكنه أن يتقدم على رأسه، لكن دون توقف أو تراجع" وعلى هذا فبعد منتصف ليلة 25 أغسطس بقليل - أي بعد أسبوع واحد من الاستيلاء على المدينة - غادرها بجنوده في طريق حار ومترب إلى فيازما Viazma وجازهاتسك Gzhatsk ··· وموسكو - التي تبعد مسيرة ثلاثة أسابيع· وكان مورا Murat على رأس قوات الخيّالة (الفرسان) قد راح يرفع الروح المعنوية لقواته بطيش مرح بأن راح - وقواته - يحاربون للخلف (يتراجعون) لمواجهة أي هجوم من مؤخرة الجيش الروسي المنسحب· وقد وصفه نابليون في وقت لاحق:
"إنه لا يكون شجاعاً إلاّ في حضور العدو، وفي هذه الحال تجده أشجع رجل في العالم· لقد أدت به شجاعته الطائشة (المتهوّرة) إلى وضع نفسه وسط الأخطار· لقد كان وقتها مُثقلاً بالذهب والريش فوق رأسه فبدا كبرج الكنيسة· لقد نجا باستمرار - كما لو كان ذلك بفعل معجزة - لأنه كان معروفاً بلباسه· لقد كان هدفا دائماً للعدو، واعتاد القوزاق الإعجاب به بسبب شجاعته المدهشة"·
وفي الخامس من سبتمبر، وبينما كان الجيش الفرنسي يقترب من بورودينو Borodino ( لازال هناك خمسة وسبعون ميلاً للوصول إلى موسكو) وصلت طليعة الجيش إلى قمة تل فرأوا في السهل أمامهم منظراً أبهجهم وأحزنهم: مئات من المتاريس والحواجز الدفاعية المكتملة يمكن أن تختفي وراءها المدافع، وإلى الأبعد من السهل حيث يلتقي نهرا كالاشا Kalacha وموسكفا Moskva آلاف الجند· من الظاهر أن كوتوزوف Kutuzov قرر المواجهة·(ملحق/1393)
وطوال السادس من سبتمبر ظل الجيشان يستعدان للمعركة· وفي هذا الليل البارد الرطب كان من الصعب أن ينام أحد· وفي الثانية صباحاً أرسل نابليون بياناً ليُقرأ على جنوده، مصحوباً بترجمة إلى اللغات التي يتحدث بها جنوده غير الفرنسيين: "أيها الجنود! ها هي المعركة التي طال انتظاركم لها· الآن، النصر يعتمد عليكم إنه آتٍ لا ريب· إنه سيتيح لنا رخاء ومنتجعا شتوياً طيباً وعودة باكرة إلى بلاد آبائنا وأجدادنا",
وفي هذه الليلة - وبناء على أوامر كوتوزوف - حمل القسسُ المصاحبون للجيش الروسي أيقونة العذراء السوداء Black Virgin وطافوا بها في المعسكرات وكانت هذه الأيقونة قد تم إنقاذها من حريق سمولنسك (السابق ذكره) وركع الجنود ورسموا شارة الصليب وتجاوبوا مع القسس وراحوا يدعون الله رحيم وانحنى كوتوزوف ليقبِّل الأيقونة·
وفي نحو هذا الوقت أتى حامل الرسائل لنابليون بخطاب من ماري لويز مع صورة جانبية حديثة لابنهما البالغ من العمر عاما واحدا، كما وصلت إليه أخبار مفادها أن جيشه عانى هزيمة عصيبة على يد ولينجتون Wellington في سالامنكا Salamanca، وقضى نابليون جانباً كبيراً من الليل يصدر التوجيهات لضباطه فيما يتعلق بتكتيكات الصباح· ولابد أنه كان من الصعب عليه أن ينام لأن عُسر البول كان يسبب له آلاماً، وكان لون بوله متغيراً بشكل ينذر بالخطر وكانت ساقاه متورمتين مع استسقاء وكان نبضه ضعيفا غير محسوس بشكل متتابع·
ورغم هذا فقد أرهق ثلاثة خيول في اليوم الأول من المعركة إذ راح يتنقل من جانب إلى آخر في جيشه·(ملحق/1394)
لقد كان نابليون يقود 30,000 رجل مرهق، أما كوتوزوف فكان على رأس 112,000، وكان مع الجيش الفرنسي 587 مدفعاً بينما كان مع الروس 640· وطوال السابع من سبتمبر راحت هذه الألوف المؤلفّة من الجيش تحارب بعناد وبطولة، يقتلون ويُقتلون وقد شملهم الخوف والكراهية، وكان كلا الطرفين يحاربان ببطولة وكأنما كانا يشعران أن مصير أوروبا سيتحدد بنتيجة المعركة· وضحّى باجراتيون بحياته، وفقد كولينكور في هذه الحرب التي سبق له أن عمل لمنعها أخاه الحبيب، وواجه يوجين ودافو Davout ومورا الموت مئات المرّات، وفاز نَي Ney في ميدان المعركة من نابليون بلقب أمير موسكو Moskva هذا اللقب الأثير المغري، لقد كان النصر عواناً بين الجانبين المتقاتلين وعندما حلّ الليل انسحب الروس بهدوء وظل الفرنسيون سادة الميدان لكن نابليون اعتبر النصر أبعد ما يكون عن أن يكون أكيداً· وأرسل كوتوزوف إلى إسكندر تقريراً فخوراً حتى إن كاتدرائيات سان بطرسبرج وموسكو قدّمت ابتهالات الشكر للرب· لقد فقد الفرنسيون 30,000 ما بين قتيل وجريح أما الروس ففقدوا 50,000·
وفي البداية، في 8 سبتمبر فكر كوتوزوف في تجديد المعركة لكن عندما علم بعدد قتلاه وجرحاه شعر أنه لا يستطيع تعريض جنوده الباقين لمذبحة مماثلة ليوم آخر، فواصل سياسة التراجع ومن الآن فصاعدا سيواصل هذه السياسة حتى النهاية· وفي 13 سبتمبر أمر بإخلاء موسكو، وفي 14 من الشهر نفسه انطلق محزوناً إلى حيث لا يدري الخطوة التالية·(ملحق/1395)
وفي هذا اليوم وصل نابليون ومن تبقى معه (59,000 مقاتل) إلى بوابات موسكو بعد مسيرة ثلاثة وثمانين يوماً من كوفنو Kovno ووصلته رسالة من الجنرال ميلورادوفتش Miloradovich قائد حامية موسكو بوقف إطلاق النار في أثناء خروجه ورجاله من المدينة فوافق نابليون، وانتظر نابليون قدوم ذوي الحيثيَّة في المدينة ليقدموا أنفسهم له ويطلبوا منه الحماية لكن أحداً منهم لم يأتِ· وعندما دخل المدينة (موسكو) لاحظ أن أحداً من ساكنيها لم يبق فيها خلا آلاف قليلة من الطبقات الدنيا· لقد بقي بعض البغايا طمعاً في الفرنكات وكن مستعدات لتقديم المطلوب مقابل المأوي والغذاء· وكان نابليون قد أحضر معه حملاً من أوراق البنكنوت الروسية المزيَّفة ورفضها الروس فأحرقها نابليون· وجال المنتصرون في المدينة ونهبوا القصور ومزارع الريف المحيطة بالمدينة وحملوا النبيذ والأمتعة (خاصة الأعمال الفنية) ·
وكان مقدراً لهذه الأعمال الفنية أن تُفقد (بالبيع أو خلافه) عملاً إثر عمل، في أثناء طريق العودة·
وفي 15 سبتمبر تحرك نابليون إلى الكرملين وراح ينتظر أن يطلب إسكندر السلام· وفي المساء بدأت موسكو MOSCOW تحترق·
5 - موسكو تحترق: 15 - 19 سبتمبر 1812م
لقد أعجب نابليون بجمال المدينة المهجورة إذ أخبر لاكاس Las Cases: " إنها من كل الزوايا يمكن مقارنتها بأي عاصمة أوروبية بل إنها تفوق في جمالها معظم هذه العواصم"· إنها أضخم مدن روسيا· إنها المدينة المقدسة أو العاصمة الروحية للروس، وبها 340 كنيسة تزين السماء بقبابها الكبيرة· وقد نجت معظم هذه الكنائس من الحريق لأنها كانت مشيّدة بالحجارة، أما المساكن فكان معظمها من الخشب· لقد دمرت النيران 11,000 منزل كان بعضها (6,000 منزل) من مواد مقاومة للنيران·(ملحق/1396)
وقد شاهد الفرنسيون الداخلون للمدينة بعض هذه النيران فهرعوا لإطفائها، لكن نيراناً أخرى سرعان ما كانت تشتعل، وانتشرت النيران بسرعة حتى أحالت ليل 16 سبتمبر إلى نهار ونبهت النيران خدم نابليون الذين كانوا يحرسونه في أثناء نومه، فأيقظوه، فأمر فرقة الإطفاء في جيشه بالعمل على إخمادها ثم عاد إلى سريره، وفي صباح 16 سبتمبر طلب يوجين مورا من نابليون مغادرة المدينة مخافة أن تُشعل إحدى شرارات الحريق مخازن البارود التي أقامها الجيش في الكرملين Kremlin فقاوم طلبهم كثيرا، لكنه رضخ أخيراً وركب معهم خارجاً من المدينة تتبعه عربات محملة بالسجلات والمواد· وخمدت النيران في 18 سبتمبر بعد أن دمرت ثلثي موسكو، فعاد نابليون إلى الكرملين·
من كان مسئولاً عن هذا الحريق؟ لقد كانت سلطات المدينة قبل مغادرتها قد أطلقت سراح المسجونين وقد يكون هؤلاء هم الذين أشعلوا النيران في المدينة في أثناء نهبهم لها، وربما كان بعض الفرنسيين غير مبالين في أثناء السلب والنهب مثلهم مثل السجناء المطلق سراحهم والسابق ذكرهم، فتسببوا هم أيضاً في إحداث حرائق· ووصلت تقارير كثيرة لنابليون في 16 سبتمبر تُفيد أن حملة مشاعل كانوا منتشرين في موسكو وكانوا يُشعلون النار عمداً، فأمر بأن من يُقبض عليه من هؤلاء المحرقين عمداً لابد من إطلاق النار عليه أو شنقه، وتم تنفيذ هذه الأوامر بالفعل· وتم القبض على أحد هؤلاء المحرقين - وكان رجلاً من الشرطة الحربية الروسية - وهو يشعل النيران في برج الكرملين فدافع عن نفسه بأنه كان ينفّذ الأوامر، فتم تحويله لمقابلة نابليون، وتم بعد ذلك قتله في الساحة· ودافع عدد من الروس المقبوض عليهم بتهمة الإحراق عن أنفسهم بأنهم تلقوا أوامر بذلك من حاكم موسكو الذي غادرها، الكونت روستوبشين Rostopchin· وفي 20 سبتمبر كتب نابليون لإسكندر:(ملحق/1397)
لم يعد لمدينة موسكو الفخورة الجميلة وجود· لقد تسبب روستوبشين في إحراقها· لقد تم القبض على أربعمائة من المحرقين عمداً وقد أقروا جميعاً بأنهم تلقوا أوامر بذلك من الحاكم مدير الشرطة· وقد تم إطلاق النيران عليهم· لقد دُمرت ثلاثة أرباع المنازل· إنه عمل لا جدوى منه كما أنه عمل آثم شرير· هل المقصود حرماننا من المؤن؟ إنها في مخازن لم تطلها النيران· يا له من هدف تافه، أَنُدمِّر من أجل هذا جهود قرون خلت وإحدى أجمل المدن في العالم! لا يمكنني أن أصدّق هذا· أهذا يتفق مع مبادئكم ومشاعركم وأفكاركم عمّا هو حق؟! أهذا الاسفاف جدير بحاكم عادل وأمة عظيمة؟ ·
لقد قمتُ بشن الحرب على عظمتكم دون أية مشاعر عدائية· لقد كان خطاب واحد منكم قبل هذه المعركة الأخيرة أو بعدها كفيل بإيقاف أي تقدّم للجيش الفرنسي، بل لقد كنت قد تخلّيتُ راغباً عن احتلال موسكو، لو كنتم عظمتكم مازلتم تحتفظون لي ببعض المشاعر التي كنتم تكنونها لي سابقاً، لفسّرتم هذا الخطاب تفسيراً حسنا· وعلى أية حال فإنه لا يمكنكم إلا الموافقة على أن ما ذكرته عن حَرْق موسكو صحيح·
ولم يجبه إسكندر، لكنه أجاب الضابط الروسي المكلّف بإبلاغه خبر حرق موسكو إذ سأله عمّا إذا كان هذا الحدث (حرق موسكو) قد أثَّر في معنويات جيش كوتوزوف Kutuzov فكانت إجابة الضابط هو أن أخشى ما يخشونه أن يعقد القيصر اتفاق سلام مع نابليون· وقيل إن إسكندر أجابه قائلا:
قل لرجالي الشجعان أنه عندما لا يبقى لدي إلاّ جندي واحد فسأضع نفسي على رأس نبلائي وفلاحي لأقاتله· وإذا قدّر القدر أن ينتهي حُكم أسرتي فسأترك لحيتي تنمو حتى صدري وسأتجه إلى سيبريا لآكل البطاطس، فهذا أفضل من إلحاق العار بوطني ورعاياي الطيبين·(ملحق/1398)
ورحب الشعب الروسي بقراره لأن الاستيلاء على موسكو، وحرقها قد صدمهم ولمس أعمق أعماق مشاعرهم الدينية· لقد كانوا يوقِّرون موسكو كحصن لعقيدتهم الدينية، وكانوا ينظرون إلى نابليون كملحد عديم الضمير، واعتقدوا أن همجيّته الوافدة هي التي أحرقت المدينة المقدّسة· لقد اعتبروا إسكندر مذنباً لأنه قبل في وقت من الأوقات صداقة مثل هذا الرجل (نابليون)، وفي بعض الأوقات كانوا يخشون أن يستولي هذا الشيطان الحي على سان بطرسبرج أيضاً ليذبح ملايين من الروس·
وكان بعض النبلاء يفضلون إبرام تسوية مع نابليون لإخراجه من روسيا مخافة أن يثير الأقنان (عبيد الأرض) ويحرّرهم في أي وقت، لكن معظم المحيطين بإسكندر كانوا يحثّونه على المقاومة· وكان الأجانب المحيطون: شتاين Stein، أرندت Arndt، مدام دي ستيل De Stael والعديد من المهاجرين الفرنسيين الذين تركوا فرنسا إثر أحداث الثورة الفرنسية - كانوا يرّددون معه أنه مع تطور المعركة سيجد نفسه (أي إسكندر) ليس قائداً لبلاده فقط وإنما أيضاً زعيما لأوربا والمسيحية والحضارة· ورفض إسكندر الإجابة عن ثلاث رسائل أرسلها له نابليون من موسكو عارضاً عليه السلام· ولما وجدت الأرستقراطية الروسية أن الأسابيع تمضي أسبوعا بعد أسبوع دون أن يحرك نابليون ساكنا ودون مزيد من العمليات، بدءوا يفهمون حكمة كوتوزف في عدم التحرك، ووطّنوا أنفسهم على حرب طويلة، ومرّةً أخرى راحت قصور العاصمة تتألق بالكونتيسات اللائي تزيّن ملابسهن المجوهرات، وبالضباط بحللهم الرسمية الفخورة يتحركون بثقة راقصين على أنغام الموسيقى التي لم تشعر أبداً بالثورة·(ملحق/1399)
وبعد أن خمدت النيران في موسكو أمر نابليون رجاله بالعناية بالجرحى أو المعدمين (الذين لا يجدون قوتاً) بصرف النظر عن أعراقهم، واتخذ الترتيبات لخزن المؤن التي تركها المواطنون الروس أو استهلاكها على وفق نظام خاص· وكان نابليون يجيب عن الرسائل والاستفسارات التي يحضرها حاملو الرسائل من بلاد رعاياه، وقد راح يفخر في وقت لاحق بأنه طوال إقامته في موسكو لم يقع واحد من حاملي الرسائل - وكانوا يصلون إليه يومياً - في أيدي الأعداء طوال مراحل الطريق· وأعاد نابليون تنظيم جيشه كما أعاد تجهيزه باللازم، وحاول أن يجعل جنوده في حالة قتالية جيدة بالمداومة على التدريبات· لكن جنود الجيش الفرنسي ملّوا هذه العروض· لقد كانت الحفلات الموسيقية والمسرحيات يقدمها الموسيقيون الفرنسيون الذين كانوا مستقرين في موسكو (قبل الغزو الفرنسي)، ووجد نابليون الوقت الذي يجعله يصدر أمراً مفصّلاً بإعادة تنظيم مسرح الكوميدي فرانسيز Comedie-Francaise في باريس·
ومضى شهر ولم تصل لنابليون كلمة واحدة من إسكندر· وتذمّر نابليون قائلا: "إنني أضرب (أهزم) الروس كل يوم، لكن هذا لم يحدث لي في أي مكان". سبتمبر بارد ويأتي بعده أكتوبر وسرعان ما يحلّ الشتاء الروسي· وأخيراً وبعد أن يئس من رد يأتيه من القيصر، أو تحدٍ من كوتوزوف، وبعد أن تحقق من أن كل يوم يمضي يكون موقفه فيه أسوأ - استسلم لقرار أشد مرارة: أن يعود بخفّي حنين (خاوي الوفاض) أو ببعض الأشياء التذكارية القليلة·· لقد قرر العودة إلى سمولنسك، ففيلنا Vilna فوارسو (فرسافا) ··· وأخيراً ليصل إلى باريس· أي نصر هذا؟ أيمكن لمثل هذا النصر أن يُزيل عار الهزيمة؟!(ملحق/1400)
6 - طريق العودة 19 أكتوبر - 28 نوفمبر 1812م
لم يبق إلاّ أمل واحد· لقد كان كوتزوف قد جمّع مؤناً في كالوجا Kaluga إلى الجنوب الغربي من موسكو بتسعين ميلاً· وفكر نابليون في التوجه إلى هناك وأن يجبر الجنرال الماكر للدفاع عن هذه المخازن، فإن انتصر الفرنسيون نصراً حاسماً فقد يُجبر النبلاء الروس القيصر إسكندر على التوسّل لاتفاق سلام· وأكثر من هذا فإن كالوجا كانت على طريق آخر مؤد إلى سمولنسك غير الطريق الذي كان الغزاة قد أتوا منه، وفي اتخاذ هذا الطريق تجنب للذكريات الأليمة عند المرور ببورودينو Borodino حيث كان قد مات كثير من رفاق الحرب· وصدرت الأوامر بالاستعداد لإخلاء موسكو·
وعلى هذا ففي 19 أكتوبر بدأ جيش نابليون (50,000 جندي و50,000 من غير المقاتلين) في الخروج من موسكو· وكانت عربات التحميل تحوي مؤناً لعشرين يوماً، وهو وقت يكفي للوصول إلى سمولنسك حيث صدرت الأوامر بتجهيز مؤن طازجة لهم فيها· وكانت هناك عربات أخرى تضم المرضى أو الجرحى وبعض الأشياء التذكارية الثقيلة وذهب نابليون المتناقص·
وفي مالورياروسلافتش Maloyaroslavets - على بعد خمسة وعشرين ميلاً من كالوجا اتصل الفرنسيون اتصالاً مباشراً بجيش كوتوزوف، وأعقب ذلك حركة (عملية) حادة (24 أكتوبر) مما أجبر الروس على الانسحاب خلف دفاعاتهم في كالوجا · وقرر نابليون أن جيشه ليس مجهزاً لحصار طويل، فأمر رجاله - وهو كاره - باتخاذ طريقهم عبر بوروفسك Borovsk وموزهايسك Moshaisk إلى بورودينو Borodino، وليتخذوا بعد ذلك الطريق الذي كانوا قد اتبعوه في فصل الصيف حيث كانوا مفعمين بالأمل· وعلى أية حال فإن شيطان كوتوزوف قد جعله الآن يحث جيشه على المسير في طريق مواز لطريق عدوّه مراعيا - بشكل مراوغ - أن يكون بعيداً عن نظره عدوّه، لكنه راح بين الحين والآخر يرسل فصائل من الفرسان القوزاق الأشداء لإزعاج جناحي الجيش الفرنسي وراح الفلاحون السعداء يطلقون النار على الفرنسيين المنتشرين في غير نظام والذين غامروا بالابتعاد عن خط سير الجيش البالغ ستين ميلاً·(ملحق/1401)
وكان نابليون محميّاً بشكل جيد اللهم إلاّ من خطر طارئ·· وكان حاملو الرسائل يجلبون إليه في أثناء مسيرته أخباراً عن نزاعات شديدة تهدّد حكومته في باريس وثورات في الأراضي (البلاد) التابعة له· وفي 26 أكتوبر بعد خروجه من موسكو بأسبوع سأل كولينكور عما إذا كان يجب عليه (أي يجب على نابليون) أن يتجه مباشرة إلى باريس ليواجه السخط الناجم عن هزيمته ويسيطر عليه، وليقيم جيشاً جديداً للدفاع عن القوات الفرنسية التي تركها في بروسيا والنمسا، فنصحه كولينكور بالذهاب· وفي 6 نوفمبر وصلت أخبار مُفادها أن كلود - فرانسوا دي مال de Malet - وهو جنرال في الجيش الفرنسي - قد أطاح بالحكومة الفرنسية في 22 أكتوبر وأنه لقي دعما من أشخاص بارزين لكنه خُلِع وتمّ إطلاق النار عليه (29 أكتوبر) فتأكد العزم لدى نابليون بضرورة التوجه إلى باريس·
وكلما أوغل الفرنسيون في طريق العودة كان الطقس يزداد سوءاً· لقد تساقط الثلج في 29 أكتوبر وسرعان ما كوَّن غطاء دائماً - جميلاً وممتعاً، وتحول في الليل البارد إلى جليد انزلقت فوقه الخيول التي تجر العربات وسقطت، وكان بعض هذه الخيول منهكا بدرجة استحال معها قيامها من جديد وكان لابد من تركها، ومع طول مسافة المسيرة راح الجنود يأكلون مثل هذه الضحايا (الخيول الساقطة أو النافقة) لكن معظم الضباط حافظوا على حياة خيولهم برعايتها وتغطيتها· وكان الإمبراطور (نابليون) يركب بعض الوقت في عربته مع المارشال بيرثييه Berthier لكنه كان يسير مع الباقين مرتين أو ثلاثاً في اليوم أو أكثر من هذا على وفق رواية مينيفال Meneval·
وفي 13 نوفمبر بدأ الجيش الذي تقلّص عدده الآن إلى رقم إجمالي هو 50,000 - في دخول سمولنسك، وانتابهم الرعب عندما وجدوا أن معظم الطعام والكساء الذي كان نابليون قد أمر بتجهيزهما قد فقدا نتيجة غارات القوزاق Cossack والاختلاس، ومن ثمَّ تم عرض ألف ثور مخصصة للجيش لبيعها للتجار الذين قاموا بدورهم بعرضها على أي مشتر، وحارب الجنود للحصول على ما تبقى من التموين واستولوا بالقوة على كل ما وجدوه في الأسواق·(ملحق/1402)
وكان نابليون راغباً في إتاحة فترة راحة طويلة لجنوده في سمولنسك لكن أخباراً وصلته باقتراب كوتوزوف على رأس 80,000 روسي لم يعودوا راغبين - بعد - في الانسحاب، ولم يكن مع نابليون من الصالحين للقتال سوى 25,000· وفي 14 نوفمبر قاد جزءا من قواته في الطريق إلى كراسنو Krasnoe مستخدماً طريقاً إلى فيلنا Vilna غير الطريق الذي سبق له استخدامه في الصيف· وكان على دافو أن يتبعه في 15 نوفمبر، وني Ney في 16 من الشهر نفسه· وكان الطريق جبلياً ومغطى بالجليد، ولم تكن الخيول ذوات حدوات (جمع حدوة) تمكنها من التقدم في هذا الشتاء الروسي فانزلجت فوق التلال وفشلت كل الجهود لإقامة مئات منها، وفضلت الموت باعتباره رحمة في ظل هذه الظروف بل إن رجالاً كثيرين فضلوا هذا الحل تخلصاً من المتاعب·
وذكر جندي بعد ذلك: "أنه طوال الطريق كنا مضطرين للخطو فوق ميّت أو محتضر", فعند المنحدرات الجليدية لهذه التلال "لم يكن أحد يجرؤ على الركوب أو السير على قدميه، فالجميع بمن فيهم الإمبراطور (نابليون) كان يتزلج وهو جالس"، كما سبق لقلّة منهم أن فعلت عند عبور جبال الألب إلى مارينجو Marengo منذ اثنتي عشرة سنة خلت· لقد كانت أياماً تعادل سنوات من عمر القائد ورجاله· ويبدو أنه عند هذه النقطة حثّ نابليون الدكتور يفان Yvan على أن يعطيه قِنّينة سم يحتفظ بها معه ليستخدم سمّها إذا أسره العدو أو لأي سبب آخر يجعله يود إنهاء حياته·
ووصل الفرنسيون كراسنو في 15 نوفمبر لكنهم لم يستطيعوا أن ينالوا قسطاً من الراحة، فقد كان كوتوزوف Kutuzov يقترب بقوات يفوق عددها قوات نابليون بشكل كبير، فأمر نابليون رجاله بمواصلة الطريق إلى أورشا Orsha، وقاد يوجين المسيرة ليحارب بين الحين والحين العصابات المسلحة التي تعترض الطريق، وتبعه الإمبراطور (نابليون) ودافو · ووصلوا أورشا بعد ثلاثة أيام أخرى من المشي على الجليد، وانتظروا هناك بقلق وصول ني Ney بالجزء الثالث من القوات الفرنسية·(ملحق/1403)
وكان ني Ney هو نجم الجيش المتألق في هذا الوقت، كما كان في بورودينو Borodino· لقد قاد رجاله البالغ عددهم 7,000 رجل باعتباره حارساً لمؤخرة الجيش الفرنسي، وخاض اثنتي عشرة معركة لحماية الجيش الفرنسي في أثناء انسحابه من هجوم المغيرين من رجال كوتوزوف، ودخل هو ورجاله سمولنسك أخيراً في 15 نوفمبر وصُدِموا لاكتشافهم قلة الطعام الذي تركه نابليون وديفو عند مغادرة المدينة، فأسرع برجاله رغبة في البقاء على قيد الحياة إلى كراسنو، فلم يجدوا نابليون كما سبق أن وعدهم وإنما وجدوا كوتوزوف الذي سد طريقهم بنيران مدفعيته المهلكة، وفي جُنح الليل (18 - 19 نوفمبر) قاد ني Ney جنوده على طول مجرى متجمد إلى نهر دنيبر Dnieper وعبره وتكبد في أثناء عبوره خسارة في بعض رجاله وخيوله وراح يحارب في أثناء مسيرته القوزاق كما حاربهم فوق المستنقعات المتجمدة ليصل إلى أورشا في 20 نوفمبر، وهنالك رحَّب نابليون والجيشان المنتظران بالأبطال الجائعين بالمديح وبالطعام· وعانق نابليون جنراله ني Ney وأطلق عليه (أشجع الشجعان) وفي وقت لاحق قال نابليون: إن لدي أربعمائة مليون قطعة ذهبية في أقبية التوليري، ويسعدني أن أعطيها جميعاً لمن يمكنني من رؤية المارشال ني Ney مرة أخرى·
وليُبعد الفرنسيون عنهم جموع كوتوزوف الأبطأ، أسرعوا طوال أربعة أيام ليواجهوا العقبة التالية - نهر بيريزينا Berezina· وعندما وصلوه (25 نوفمبر) وجدوا أن الجنرال الروسي شيخاجوف Chichagov كان قد وصل من الجنوب على رأس 24,000 مقاتل كما علموا أن قوة روسية أخرى مؤلفة من 34,000 من الجنود الأشداء بقيادة المارشال لودفيج وتجنشتين Wittgenstein كانت تسرع قادمة من الشمال لحصر الفرنسيين بين نارين عندما يكونون - أي الفرنسيون - في حالة فوضى فييأس قائدهم من إنقاذهم من الدمار·(ملحق/1404)
لكن الأخبار لم تكن كلها سيئة إذ سرعان ما علم نابليون أن قوتين مواليتين له قد هبتا لنجدته· فرقة عسكرية بولندية بقيادة الجنرال جان هنريك دومبروفسكو Dombrowski استطاعت - رغم أن عدد جنودها ثلث قوات شيخاجوف Chichagov - مواجهة هذه القوات وتأخير التقدم الروسي، وفي 23 نوفمبر فاجأت قوات فرنسية من 8,000 رجل بقيادة المارشال أودينو Oudinot - الجنرال الروسي شيخاجوف واستولت على إحدى كتائبه وأجبروا الباقين على الفرار عبر جسر على بوريسوف Borisov ناحية الشاطئ الأيمن (الغربي) لنهر بيريزينا Berezina· وعلى أية حال فقد حطّم الروس الجسر وهو الجسر الوحيد الذي يمكن بواسطته اجتياز النهر في هذا الموقع·
ووصلت أخبار هذه العمليات إلى نابليون بينما جيشه الخائف يقترب من المجرى الذي يأملون أن يؤخّر ملاحقة كوتوزوف Kutuzov لهم (كانت قوات نابليون الآن 25,000 جندي و24,000 من غير المقاتلين) كما كان نابليون قد فقد أيضاً عدداً من رجاله هربوا أو مرضوا أو ماتوا· لم يبق معه سوى 27,000 من 97,000 كانوا معه عند خروجه من كالوجا، والآن بقي أربعون ميلا خلف مؤخرة جيش نابليون· لازال هناك وقت لعبور النهر إذا كان من الممكن عبوره·(ملحق/1405)
واستعاد نابليون الأمل فأرسل فصيلا بقيادة المارشال فيكتور Victor للاتجاه شمالاً وإيقاف ويتجنشتين Wittgenstein وفصيلاً آخر بقيادة ني Ney للانضمام إلى أودينو Oudiont في منع شيخاروف من معاودة عبور النهر· وكان نابليون منذ عبور النيمن قد احتفظ معه بالمهندسين الذين كانوا قد أقاموا الجسور هناك في شهر يونيو، والآن طلب منهم أن يجدوا بقعة على نهر بيريزينا يمكن أن يقيموا عليها جسرين طوّافين، فأخبروه بوجود هذه البعقة المناسبة في ستدنكي Studenki إلى الشمال من بوريسوف Borisov بتسعة أميال· وراح المهندسون ومساعدوهم يعملون طوال يومين في مياه متجمّدة، وغرق عدد منهم بسب انخداعهم بالجليد الطافي فوق مياه غير متجمدة، لكن في الساعة الواحدة بعد الظهر في 26 نوفمبر اكتمل إنشاء أحد الجسرين وبدأ الجيش في العبور فوقه، وبحلول الساعة الرابعة كان الجسر الثاني يحمل فوقه المدفعية والأحمال الثقيلة، وانتظر نابليون وجنرالاته حتى وصل معظم الجنود للشاطئ الغربي ومن ثم عبروا تاركين قوة بقيادة فيكتور Victor لحماية نحو 8,000 من غير المقاتلين سيعبرون بعد ذلك· وقبل تمام نجاح هذه العملية الأخيرة خطط الروس لهجوم على طول جانبي النهر لكن قوات فيكتور وأودينو وني Ney تصدّت لهم·
لقد راح نابليون ينظم العبور والمقاومة في آن واحد وسط آلاف الرجال الذين يناضلون ليبقوا على قيد الحياة· وانكسر الجسر مرتين، وغرق مئات وفي هذه الأثناء كانت مدفعية ويتجنشتاين Wittgenstein تمطر قذائف على الآلاف الأخيرة التي تزاحمت للعبور، وفي 29 نوفمبر أمر نابليون المهندسين العسكريين بتدمير الجسرين، تاركاً مئات من غير المقاتلين يبحثون عن فرصة للعبور· وكان هدف نابليون من تدمير الجسرين تعويق قوات ويتجنشتاين عن ملاحقته ومنع وصول قوات كوتوزوف· وباختصار كان عبور بيريزينا Berezina هو أكثر ذرى البطولة طوال ستة أشهر أساء فيها أحد أعظم الجنرالات في التاريخ - تقدير الأمور على حقيقتها·(ملحق/1406)
واستمرت المأساة طوال مسيرة من بقي على قيد الحياة من الجنود الفرنسيين نحو الغرب، لقد هبطت درجة الحرارة ثانية إلى ما دون درجة التجمّد، لكن كان لهذا ميزة واحدة إذ سمح بالانتقال فوق المستنقعات المتجمدة فقصّر المسافة إلى فيلنا Vilna· ولأن الخوف من القوزاق والفلاحين المعادين قلّ، فقد تضاعف عدد الهاربين واختفى النظام·
ورأى نابليون أن من تبقى معه لم يعودوا في حاجة ماسة له، فوافق على نصيحة مورا Murat بالعودة إلى باريس مخافة أن تستسلم فرنسا لثورة أخرى، وعند توقفه في مولودشنو Molodechno وهي محطة التوقف الرئيسية التالية تلقّى مزيداً من التفاصيل عن أمور مال Malet· لقد انتهى هذا المغتصب لكن السهولة التي خدع بها المسئولين دلّت على استرخاء الحكومة التي لم تعد مؤمنة بنابليون الذي غاب غياباً طويلا وربما انتهت حياته السياسية بل وربما مات· لقد راح اليعاقبة والملكيون، فوشيه وتاليران يتآمرون لخلعه·
وكي يعيد ترسيخ نفسه ويبعث اليقين في الشعب الفرنسي من جديد أرسل من سمورجوني Smorgonie في 5 ديسمبر النشرة رقم 29 التي كانت تختلف عن سابقاتها إذ كان غالبها يحوي حقائق صادقة· تقول النشرة إن الفرنسيين قد انتصروا في كل معركة واستولوا على كل مدينة مروا بها وحكموا موسكو إلاّ أن قسوة الشتاء الروسي التي لا ترحم قد دمّرت هذا المشروع العظيم وألحقت الألم والموت بالفرنسيين المتحضرين الذين اعتادوا العيش في مناخ متحضر· وأشارت النشرة إلى خسارة في الرجال بلغت 50,000 لكنها أشارت بفخر لقصَّة تخلص ني Ney من ملاحقة كوتوزوف وقدَّمت عبور نهر بيريزينا من جانبها البطولي لا المأسوي وانتهت النشرة بعبارة ذات مغزى وكأنها تحذير لأعداء نابليون: "إن صحّة عظمته لم تكن في يوم من الأيام أفضل مما هي عليه الآن"· ومع هذا فقد كان هو منزعجاً·
لقد قال لكولينكور: "إنني استطيع أن أحكم قبضتي على أوربا من التوليري وحده" واتفق معه يوجين ومورا Murat ودافو · ونقل قيادة الجيش المتحرك إلى الملك مورا وأخبره أن يتوقع مؤناً وتعزيزات من فيلنا Vilna· وفي وقت متأخر من مساء الخامس من ديسمبر غادر (أي نابليون) سمورجوني Smorgonie قاصداً باريس·(ملحق/1407)
لقد تقلّصت القافلة إلى 35,000 وغادرت في اليوم التالي قاصدة فيلنا التي تبعد ستة وأربعين ميلاً· الآن انخفضت الحرارة إلى 30 درجة فهرنهيت تحت الصفر وكانت الرياح على حد تعبير جندي بقي على قيد الحياة تمزق اللحم والعظم· وعندما وصلوا إلى فيلنا (8 ديسمبر) اندفع الجنود الجياع في فوضى لا حدَّ لها نحو المؤن التي تنتظرهم وضاع طعام كثير وسط الفوضى· وواصلوا مسيرتهم وفي 13 ديسمبر وعند كوفنو Kovno عبروا نهر النيمن نفسه وكان عددهم 30,000، بينما شهدهم النهر وقد بلغ عددهم 400,000 يعبرون في شهر يونيو، هنا وعند تيلسيت وعند بوزن Posen سلّم مورا القيادة ليوجين (16 يناير 1813) خائفاً - هو بدوره - على عرشه وأسرع عبر أوربا إلى نابلي· أما يوجين البالغ من العمر ثلاثين عاماً فكان ذا خبرة رغم شبابه، فتولى مسؤولية ما تبقى من الجنود وقادهم بصبر يوماً بعد يوم إلى ضفاف نهر الألب Elbe وراح ينتظر أوامر متبنيه (نابليون) ·
ركب نابليون من سمورجوني في أوّل عربة من عربات ثلاث، وكانت كل عربة منها موضوعة على مركبة جليد يجرها حصانان، وكانت إحدى العربات تحمل أصدقاء الإمبراطور ومساعديه وأخرى تحمل حرسا بولنديا من حملة الرماح· لقد ركب نابليون مع كولينكور الذي كان ينظم مسألة تبديل الخيل، ومع الجنرال فونسوفيتش Wonsowicz المترجم الذي عَهِد إليه نابليون بمسدَّسيه قائلاً: "إن حدث خطر حقيقي اقتلني ولا تجعل العدو يأسرني" ومخافة أن يتعرّض للاغتيال أو الأسر، تنكرَّ في لباس كولينكور، بينما ارتدى كولينكور ملابس نابليون· وقد تذكر كولينكور في وقت لاحق ما حدث، إذ قال: "في أثناء مرورنا ببولندا، كنت أنا دائماً المسافر المميّز، وكان الإمبراطور - ببساطة - هو سكرتيري"·(ملحق/1408)
لقد واصل الركب طريقه إلى باريس دون توقف ليلاً أو نهاراً، وكانت أطول فترة توقَّف فيها نابليون ومن معه هي فترة التوقف في وارسو (فرسافا) حيث أدهش نابليون الممثل الفرنسي في بولندا بقوله الذي صار مثلاً: "بين الذروة والقاع خطوة واحدة"· وأراد أن يقوم بزيارة أخرى للكونتيسة فالفسكا Walewska لكن كولينكور نصحه بالعدول عن هذه الزيارة، ربما بتذكيره أن حماه هو أيضاً إمبراطور· وفي أثناء الركوب من وارسو إلى دريسدن راح الإمبراطور (نابليون) فيما يقول كولينكور "يمتدح الإمبراطورة ماري لويز باستمرار متحدثاً عن حياته الأسرية بمشاعر طيبة وبساطة يسعدُ المرءُ بسماعها"·
وفي دريسدن أراح نابليون وكولينكور مركبة الجليد والحرس البولندي، وانتقلا إلى عربة السفير الفرنسي المغلقة· ووصلوا إلى باريس في وقت متأخر من يوم 18 ديسمبر بعد ثلاثة عشر يوماً من سفر كاد يكون بلا توقف· وذهب نابليون مباشرة إلى قصر التوليري وعرَّف حرس القصر بنفسه وأرسل يُعلم زوجته بوصوله وقبل منتصف الليل تماما اندفع إلى غرفة نوم الإمبراطورة وضمها بين ذراعيه· وأرسل حامل الرسائل إلى جوزيفين يطمئنها أن ابنها بخير وأدفأ قلبه بنظرة إلى ابنه ذي الشعر الجَعْد الذي كان قد أسماه ملك روما·(ملحق/1409)
الفصل السَّادس والثلاثون
إلى إلبا Elba: من 1813 إلى 1814م
1 - إلى برلين
بدت أوروبا كلُّها متوتّرة تعودُ القَهْقرى إلى انقسامات القرن الثامن عشر، ونابليون يندفع فوق ثلوجها وعبر مدنها ليدعّم عرشه المهتز، فقد أصبحت كل التخوم (الحدود) القديمة صدوعاً في قصر غير قائم على أساس ونعني به الحكم الأجنبي· لقد راح أهل ميلان يتفجَّعون على أبنائهم الذين استدعاهم نابليون للخدمة العسكرية في جيشه لغزو روسيا، ولم يعودوا أبداً، فراحوا (أي أهل ميلان) يعملون لخلع يوجين اللطيف النائب الغائب لملك غائب· وأهل روما المغرمون بالبابا الصبور الذي كان لا يزال يتعرض للإهانة أسيراً في فونتينبلو Fontainebleau، راحوا يدعون لعودته إلى كرسيّه الرسولي (المقصود الباباوي أي كرسي الدعاة الأوائل للمسيحية) ·(ملحق/1410)
وراح أهل نابلي وأمراؤها ينتظرون اللحظة التي يسقط فيها مورا Murat المنكفئ على ذاته مُخلياً الطريق أمام البوربون Bourbon الشرعيِّين الممسوحين بالزيت (أي المكرّسين الذين اعتمدتهم الكنيسة) · أما النمسا - وقد مزّقتها الحرب، وتعرضت للإهانة بسبب سلامٍ مفروض عليها - فراحت تنتظر توَّاقة إلى ميترنيخ Metternich كي يحرّرها بشيء من براعته الدبلوماسية من تحالف مفروض عليها مع عدوّها التقليدي (فرنسا) · أما دول كونفدرالية الرَّاين على طول نهر الرَّاين فراحت تحلم بالازدهار الذي لا يكون بتسليم أبنائهم للعبقري الأجنبي صعب المراس· أما بروسيا فقد تمّ تجريدها من نصف المناطق التابعة لها (جرى تقليص حدودها إلى النصف) ومن نصف مواردها، وتمّ هذا على يد عدوّها القديم والتي أصبحت (أي بروسيا) الآن حليفته على غير رغبتها· إنها الآن ترى عدوّها (ناهبها) وقد مزقته كارثة مروّعة: لقد حانت الفرصة - أخيراً - والتي طالما تمنوّها· إنها الآن تتذكر دعوة فيشته Fichte وهي الآن تُصيخ السمع إلي مناشدة شتاين Stein المنفي، لطرد هؤلاء الجنود الفرنسيين الذي يَعِسُّون بينهم وهؤلاء الجامعين لتعويضات الحرب الذين يستنزفونهم، وليهبوا أقوياء أحراراً كما كانوا في ظل فريدريك وليصبحوا حصناً للحرية الألمانية·
وكان يكمن خلف هذا الامتعاض والتمرد ذي الأصول المشتركة، الأخبارُ المدهشة التي مُفادها أنّ روسيا لم تهزم فحسب جيش هذا الكورسيكي Corsican الذي كان من المفترض أنه لا يُهزم، ولم تطرد - فحسب - الجيش الفرنسي من فوق التراب الروسي، وإنما كانت تتعقّبه عبر الحدود إلى دوقية وارسو (فرسافا) Warsaw الكبيرة، وكانت (أي روسيا) تدعو قلب أوروبا للانضمام إليها في حرب مقدسة للإطاحة بالمغتصب (نابليون) الذي جعل من فرنسا مركزاً لطغيانه في القارة الأوروبية·(ملحق/1411)
وفي 18 ديسمبر سنة 1812 (وهو اليوم الذي وصل فيه نابليون المهزوم إلى باريس) غادر إسكندر سان بطرسبرج· وفي الثالث والعشرين من الشهر نفسه وصل إلى فيلينا Vilna وشارك كوتوزوف وجيشه الاحتفال بالنصر· لقد كان هذا الجيش قد عانى كثيراً خلال مسيرته لإزعاج الفرنسيين المغادرين لبلاده· لقد مات مائة ألف وجُرِح خمسون ألفاً، وهرب أو فُقِد خمسون ألفاً· وامتدح إسكندر جنراله علناً، لكنه تشكك في قيادته في مجالسه الخاصة، لقد قال للسير روبرت ويلسون Robert Wilson ( إن جاز لنا أن نصدق السير روبرت):
"كل ما فعله ضدَّ العدو أنه كان يُقاد بحكم الظروف· لقد انتصر رغم أنفه·· إنني لن أترك الجيش مرة أخرى لأنني لا أريد أن يتعرض لأخطار مثل هذه القيادة"·
ومع هذا فقد مُنح المقاتل المُرهق أعلى الأوسمة العسكرية الروسية: وسام الصليب الكبير لجماعة Order القديس جورج (العسكرية) ·
وكان إسكندر - بسبب تحقّق نبوءته - مقتنعاً بأنه - بشكل أو آخر - ملهم من السماء، فلم يأنس لتردّد جنراله، وتولّى القيادة العليا لجيوشه المتحدة بنفسه، وأصدر الأوامر لها بالتوجّه إلى الحدود الغربية· وتحاشى المرور بكفونو Kovno ( لأنها كانت مواجهة لبولندا التي كانت لا تزال مُعادية)، وواصل طريقه على طول نهر النيمن Niemen إلى تورجِّن Tauroggen حيث كان الجنرال جوهان يورك فون فارتنبورج Johann Yorck Von Wartenburg على رأس قوة بروسية فسمح للروس بعبور النهر إلى بروسيا الشرقية (30 ديسمبر 1812) وحث شتاين Stein الذي كان مرافقاً لإسكندر منذ خروجه من سان بطرسبرج - حثّه على التقدم في المناطق التي يتوقّع أن يرحَّب به فيها شعب بروسيا· وأعلن القيصر العفو العام عن كل البروس الذين سبق أن حاربوه ودعا ملك بروسيا وشعبها للانضمام إليه في حربه المقدسة in his Crusade· وكان فريدريك وليم الثالث ممزَّقاً بين النسر Eagle الفرنسي والدب Bear الروسي فرفض امتداح تصرف يورك Yorck وانسحب من برلين إلى بريسلو (بريسلاو Breslau) · وتقدم إسكندر عبر بروسيا الشرقية وراح الناس يحيّونه صائحين: "إسكندر طويل العُمر! حياة مديدة للقوزاق"·(ملحق/1412)
وعندما اقترب من المناطق الحدودية بين بروسيا الشرقية وبولندا، أرسل رسالة للزعماء البولنديين يعدهم بالعفو العام وبدستور وبمملكة على رأسها قيصر روسيا· وبناء على تفاهم سري - فيما يبدو - بين روسيا والنمسا قام الأمير كارل فيليب فون شفارتسنبرج Von Schwarzenberg قائد الحامية النمساوية في وارسو بالانسحاب مع جنوده إلى غاليسيا (جاليسيا Galicia) ، وأقبل المسئولون البولنديون للترحيب بإسكندر، وفي 7 فبراير 1813 دخل العاصمة دون مقاومة· وهكذا ماتت دوقية وارسو الكبيرة موتاً مبكراً وأصبحت بولندا كلها تابعة لروسيا· وكانت بروسيا تأمل في استعادة جزء بولندا الذي كان ضمن ممتلكاتها في سنة 1795، فسارع إسكندر بالتأكيد لفريدريك وليم أنه سرعان ما ستوجد تسوية مقبولة لنصيبه المفقود (في بولندا)، وفي هذه الأثناء راح إسكندر مرة أخرى يحث ملك بروسيا وشعبها للانضمام إليه ضد نابليون·
وكان البروس قد طال انتظارهم لهذه الدعوة (مواجهة نابليون) فقد كانوا شعباً معتزاً بنفسه لا يزال يتذكر فريدريك· ومما ألّق الروح الوطنية لدى البروس وعمَّقها هذا التوسع الفرنسي السريع، وقيام إسبانيا بانتفاضة ناجحة· وكانت الطبقات الوسطى متحمسة في الاعتراض على الحصار القاري (الذي فرضه نابليون) كما كانت معترضة على الضرائب المرتفعة المفروضة لدفع تعويضات الحرب للفرنسيين· وكان مسيحيو بروسيا مغرمين بكنائسهم غيورين على عقيدتهم، وكانت كل الطوائف المسيحية لا تثق في نابليون وتعتبره ملحداً يخفي إلحاده (المقصود عدم إيمانه باللاهوت المسيحي) · واتفقت الفرق المسيحية جميعاً على إدانة معاملته السيئة للبابا· ودعا اتحاد الفضيلة (التوجنبوند Tugenbund) كل الألمان أن يهبوا جميعاً للدفاع عن بلاد آبائهم وأجدادهم Vaterland، وسمح الملك البروسي لوزرائه بإعادة بناء الجيش البروسي وزيادة عدده تحت غطاء الدفاع عن بروسيا ضد الغزو الروسي· وكان الروس قد استولوا على مارينبورج Marienburg في يناير، وفي 11 مارس توجهوا - دون أن يلقوا مقاومة - إلى برلين·(ملحق/1413)
وأصدر الملك البروسي المحب للسلام قراراً فُرِض عليه من بريسلو (بريسلاو Breslau) : نداء إلى شعبي An mein Volk في 17 مارس يناشدهم فيه أن يهبّوا حاملين أسلحتهم لمواجهة نابليون:
"··· يا أهل براندنبورج! أيها البروس Prussians، يا أهل سيليزيا، يا أهل بوميرانيا، يا أهل ليتوانيا! أنتم تعلمون ما تحملتموه طوال سبع سنين! أنتم تعلمون القدر التَّعِس الذي ينتظركم إذا لم تُنْه هذه الحرب نهاية مُشَرِّفة· فكروا في أيامكم الخوالي - أيام الناخب الأعظم Great Elector فريدريك العظيم! تذكَّروا البركات التي حارب من أجلها آباؤكم وأجدادكم تحت قيادتهم والتي بذلوا من أجلها دماءهم - حرية الشعور، والفخر بالوطن والاستقلال والتجارة والصناعة والتعليم· انظروا إلى النموذج العظيم لحلفائنا الأقوياء الروس، انظروا إلى الأسبان والبرتغاليين· اشهدوا السويسري البطل، وشعب الأراضي المنخفضة···
إنها المعركة النهائية والحاسمة التي يعتمد عليها استقلالنا ورخاؤنا ووجودنا· ليس أمامنا بديل آخر إمّا سلام مشرف وإما نهاية بطولية··· إن الرب، وتصميمنا على هدفنا سيكونان عوناً لنا فتنتصر قضيتنا، وبانتصارها يتحقق السلام المؤكد العظيم وتعود أيامنا أكثر سعادة"·
وهبَّت كل الطبقات استجابةً لدعوة الملك، فأعلن رجال الدين clergy - خاصة البروتستنت - الحرب المقدسة ضد الكافر (نابليون) · وصرف المعلّمون - ومنهم فيشته وشلايرماخر Schleiermacher - طلبتهم قائلين لهم إن الوقت ليس وقت دراسة بل وقت عمل· وظل هيجل فوق المعركة لكن جوته بارك أحد الأفواج العسكرية التي حيّته في أثناء مرورها· وعبّر الشعراء - مثل شنكندروف Schenkendrof وأولاند Uhland وريكرت Korner - عن مشاعر الملك والشعب بأشعارهم، أو نحّوا أقلامهم جانباً وامتشقوا الحسام أو حملوا البنادق، ومات بعضهم - مثل ثيودور كورنر Theodor Korner - في المعركة· وعاون إرنست موريتز أرندت Ernst Moritz Arndt - الذي عاد من منفاه في روسيا - في رفع الروح المعنوية الألمانية وصياغتها بقصيدته (أتلك ألمانيا أرض الآباء؟!) · وفي حرب التحرير هذه وُلدت ألمانيا جديدة·(ملحق/1414)
وعلى أية حال فما من أمة يمكنها أن تعتمد على المتطوِّعين عندما يكون وجودها في خطر وعلى هذا فقد أمر فريدريك الثالث بالتجنيد الإلزامي لكل الذكور ما بين السابعة عشرة والأربعين، مع عدم قبول أي بديل (بمعنى عدم قبول تطوع شخص بدلاً عن الآخر) وكان هذا في اليوم نفسه الذي ناشد فيه شعبه القتال لتحرير البلاد· وعندما بدأ ربيع سنة 1813 كان لدى بروسيا 60,000 رجل مدرّب ومستعد للخدمة العسكرية· ومن بين الجيوش المختلفة التي كانت قد أتت من روسيا، كان هناك 50,000 رجل صالحين للقتال· وبهؤلاء الجنود البالغ عددهم 110,000 دخل إسكندر وفريدريك وليم المعركة التي كان عليها أن تقرر مصير نابليون وتكوين أوروبا·
وقد تحقّقا من أن هذا العدد قد لا يكون كافياً فراحا يبحثان عن حلفاء يمكنهم المساهمة بالرجال والأموال· وظلت النمسا لفترة على إخلاصها لتحالفها مع فرنسا فقد كانت تخشى أن تكون أول من يتعرض لهجوم نابليون إن هي انضمت إلى الحلف الجديد، وتذكر فرانسيس الثاني أنّ له أختاً في التاج الفرنسي· وكان الأمير بيرنادوت Bernadotte قد وعد إسكندر بتقديم 30,000 جندي له لكنه شغل معظمهم بفتح النرويج· أما إنجلترا فتعهدت بتقديم مليوني جنيه إسترليني لدعم هذه المعركة الجديدة بنهاية شهر أبريل، وفتحت بروسيا موانئها للبضائع البريطانية وسرعان ما وصلت هذه البضائع بكميات كبيرة إلى المخازن على نهر إلبا (إلبه Elbe) ·
ومات كوتوزوف Kutuzov في سيليزيا Silesia في 28 أبريل، وكان لا يزال ينصح الروس بالعودة إلى بلادهم، وأمر إسكندر بأن يتولى بارسلي دي تولي Tolly أمر الجيش الروسي بعد موت كوتوزوف، لكن إسكندر احتفظ بالقيادة العليا لنفسه (جعل من نفسه قائداً أعلى للقوات المسلحة) · إنه (إسكندر) قد انطلق ليحقق في تقدمه غرباً كل ما كان يريد نابليون تحقيقه في تقدمه شرقاً: وأن يغزو بلاد العدو ويهزم جيوشه ويستولي على عاصمته ويجبره على التخلّى عن عرشه، ويجبره على السلام·(ملحق/1415)
2 - إلى براغ
وفي هذه الأثناء كان نابليون يحارب للاحتفاظ بمكانه في فرنسا ولم يعد مفتوناً بانتصاراته· وكاد يتعيّن على كل أسرة في فرنسا أن تسلّم ابنا أو أخا آخر من أبنائها· لقد كانت الطبقة الوسطى قد رحّبت بنابليون كحامٍ لها، لكنه الآن أصبح ملكياً أكثر من البوربون وحلّق حوله الملكيين الذين كانوا قد تآمروا لخلعه· ولم يكن القسس يثقون في نابليون، وكان الجنرالات الفرنسيون يتمنَّون السلام· وكان نابليون نفسه قد تَعِب من الحرب· لقد تضخم بطنه (كرشه) وأرهقته الآلام وكبر سنه وبَطُؤ تفكيره وتذبذبت إرادته، ولم يعد قادر أن يستخلص من جوهر النصر فتنة تدعوه إلى مزيد من المعارك أو تفتح شهيته للحكم· كيف يستطيع هذا الرجل المرهق أن يجد في هذه الأمة المرهقة الموارد البشرية المطلوبة لمواجهة أعداء في ذروة الاندفاع؟
لكن اعتزازه بنفسه وفخره كانا هما آخر قوة يركن إليها· فهذا القيصر الغادر، هذا الراقص الوسيم الذي يلعب دور الجنرال، وهذا الجيش الذي يصيبه الرعب أمام القوزاق Cossack - جيش فريدريك، وهذا المارشال الفرنسي الذي تخلّى عن قضية وطنه والمفترض أنه سيقود الجيش السويسري ضد بلاده (فرنسا) - كل أولئك لن يجدوا الشجاعة والمهارة والسرعة التي تحلى بها الجندي الفرنسي، والتي تتحلى بها أمة قوية متحمسة لحماية أرقى الحضارات في أوروبا· قال نابليون في ديسمبر سنة 1812 في دعوة يائسة لاستنهاض الفخر العنصري: "من الآن فصاعدا ليس لأوروبا إلا عدو واحد - الصنم الروسي الكبير"·(ملحق/1416)
ومن ثمّ فرض الضرائب وتفاوض للحصول على القروض، وسحب من رصيده المالي في أقبية التوليري، وأصدر الأوامر باستدعاء دفعة التجنيد الإجباري لسنة 1813 للخدمة العسكرية الفعلية، وأن يتم تدريب دفعة 1813، كما أمر بإعداد الكتائب العسكرية التي كانت معدّة للخدمة داخل فرنسا، لتكون مستعدة للحرب خارجها كما أمر بإبرام عقود لتمويل جيشه بالذخائر والملابس والأسلحة والخيول والطعام· ونظم أمور التدريب والتقدم والمعركة بمركزة الكتائب المدرّبة في مواقع بعينها، وجعلها مستعدة كي ينضم بعضها إلى بعضها الآخر عند صدور الأوامر، لتكون معاً في المكان المحدد والزمان المحدّد· وفي منتصف أبريل 1813 كان قد نظّم جيشاً بلغ تعداده 225,000 رجل· وعيّن وصيّ regent ماري لويز ليقوم مقامه عند غيابه في الجبهة وجعل من مينيفال Meneval سكرتيراً لها، وكان مينيفال هو سكرتيره المرهق، وغادر نابليون باريس في 15 أبريل لمقابلة جيوشه في مين Main وإلبا Elbe ( مفهوم أنه نهر إلبا وليس الجزيرة المعروفة) ·
وسار يوجين جنوباً ومعه البقية الناجية من الفاجعة الروسية (الهزيمة في روسيا) ومعه أيضاً جنود تم استدعاؤهم من مواقعهم في ألمانيا، وأقبل من الجنوب برتران Bertrand· وبهؤلاء الرجال الموثوق بهم على رأس ميسرته وميمنته تحرك نابليون متقدماً بجيشه (جيش مين Main) ، وفي 2 مايو قابل من ليتزن Lutzen بالقرب من ليبزج Leipzig جيشاً متحالفاً بقيادة الجنرال الروسي ويتجنستن Wittgenstein وبرعاية القيصر والملك· عدد الجنود الفرنسيين الآن 150,000، وعدد الجنود الروس 58,000 أما الجنود البروس فعددهم 45,000· وربما ليشجع الإمبراطور جنوده ويزيد من حماسهم راح يخاطر بنفسه في مقدّمة الجيش، فقد كتب المارشال مارمون Marshal Marmont: " ربما كان هذا اليوم قد شهد مخاطرته بنفسه كأشد ما تكون المخاطرة في ميدان المعركة"· وهُزِم الحلفاء وتراجعوا لكن بعد أن كبدوا الفرنسيين 20,000 رجل (أي بخسارة تزيد بمقدار 8,000 عن خسائر أعدائهم) ·(ملحق/1417)
لكن فريدريك أوغسطس الأول ملك سكسونيا قرر ضم جيشه البالغ عدده 10,000 جندي إلى القوات الفرنسية خوفاً من جارته النهمة بروسيا، فكان في ذلك - إلى حد ما - عزاء لنابليون· وفي 9 مايو أصبحت دريسدن عاصمة فريدريك أوغسطس قاعدة لنابليون يقود منها معركتين·
ومخافة أن تنضم النمسا إلى الحلفاء لمحاولة الاستيلاء مرة أخرى على شمال إيطاليا، أرسل نابليون قائده يوجين إلى ميلان Milan لإعادة بناء جيشه هناك ومراقبة الثوريين الإيطاليين· وغادر نابليون - نفسه - دريسدن في 18 مايو آملاً أن يحقق نصراً أكثر حسماً على المتحالفين ضده الذين أعادوا تنظيم أنفسهم في بوتزن Bautzen إلى الشرق من دريسدن بثلاثين ميلاً، فأرسل قائده ني Ney ليتقدم في نصف دائرة مُلتفاً حول العدو مهاجماً إياه من المؤخرة، بينما هو نفسه (نابليون) يقود الجيش الرئيسي ليشن هجوماً على مقدمة العدو، وتأخر ني Ney فلم يستطع منع الحلفاء الذين هزمهم نابليون من التراجع إلى سيليزيا Silesia بعد أن فقدوا 15,000 مقاتل· وتقدم نابليون إلى الأودر Oder وضم جنود الحامية الفرنسية في جلوجاو Glogau إلى جيشه· لقد كتب أحد المهاجرين الفرنسيين (الذين تركوا فرنسا عقب أحداث الثورة الفرنسية) واسمه روجر دي داماس Roger de Damas معبراً عن غضبه: "إن الإمبراطورية الفرنسية قد حلت بها نكبة ومع هذا فقد خرجت منتصرة"·
وفي هذه اللحظة وبينما كان نابليون يتحرك على طول الأودر ويضم حاميات فرنسية أخرى إلى جيشه، استمع نابليون إلى عرض ميترنيخ بتوسط النمسا لترتيب سلام بين القوى المتحاربة· وحثّه بيرثييه Berthier باسم الجنرالات، وكولينكور Caulaincourt باسم الدبلوماسيين على القبول خوفاً من حرب طويلة مع حلفاء متحدين لهم موارد لا تنفد، بينما فرنسا منقسمة مستنزفة، وأحس نابليون بمؤامرة (فخ) لكنه كان يأمل في أن عقد هدنة سيتيح له وقتاً لتجنيد مزيد من الجنود وتعزيز سلاح الفرسان في جيشه، كما خشي من أن رفضه عرض ميترنيخ قد يؤدي إلى انضمام النمسا إلى المتحالفين ضده· وتم ترتيب أمور الهدنة في بلايسفيتز (بلايسفيتس Pleisswitz) (4 يونيو) وكانت هذه الهدنة لمدة شهرين ثم مُدّت في وقت لاحق إلى 10 أغسطس·(ملحق/1418)
وسحب نابليون قواته إلى دريسدن وأصدر توجيهاته باستكمال كتائبه واتجه إلى مينز Mainz ليقضي بعض الوقت مع ماري لويز فربما تستطيع أن تحث أباها على مواصلة تحالفه مع فرنسا، ذلك التحالف الذي كانت هي ضمانه· وفي هذه الأثناء راح ميترنيخ يزيد عدد الجيش النمساوي ويقوّيه بالمعدّات اللازمة متظاهراً بأن ذلك العمل موجه ضد أعداء نابليون (المتحالفين) ·
واستفاد المتحالفون ضد نابليون من الهدنة· لقد رحبوا ببيرنادوت Bernadotte الذي جعل الآن جيشه المكوّن من 25,000 مقاتل في خدمة قضيتهم· وأتى معه مورو Moreau الذي كان قد اُتِّهمَ بارتباطه بمتآمرين لقتل نابليون وسُمِحَ له بالهجرة إلى أمريكا· لقد عاد الآن ليعرض خدماته على الحلفاء باعتباره يعرف أسرار إستراتيجية نابليون· لقد ركّز على قاعدة واحدة: تجنبّوا المعركة إذا كان نابليون يقودها، واسعوا إليها (المعركة) عندما يكون بعيداً· وكان الحلفاء أكثر سعادة بلورد كاثكار Cathcart الذي قدم لهم في 15 يونيو إعانة مالية مقدارها أربعة ملايين جنيه على ألاَّ يعقدوا سلاماً مع نابليون دون موافقة انجلترا·
وفي 27 يونيو قبل المتحالفون ضد نابليون وساطة النمسا واتفقوا على أن يرسل الأطراف الثلاثة مفاوضين إلى براغ لترتيب شروط السلام· وأرسل نابليون كلا من ناربون Narbonne وكولينكور على أمل أن يكون اطمئنان إسكندر إلى كولنيكور (الذي جعل نابليون معه ناربون لمراقبته) سبباً للوصول إلى نتائج مواتية· وعلى كل حال فإن الشروط التي قُدّمت لنابليون من خلال كولينكور وميترنيخ كانت راجعة في رأيه إلى هزيمته (السابقة) في روسيا وبولندا وإلى الثورة البروسية ضده·(ملحق/1419)
لقد طُلب منه أن يُسلِّم المناطق التي استولى عليها من بروسيا، وأن يترك كل دعاويه في دوقية، والدول - المدن الهانسياتية Hanseatic وبوميرانيا Pomerania وهانوفر وإيليريا Illyria وكونفدرالية الرّاين· وأنه يمكنه العودة إلى فرنسا ليحتفظ بحدودها الطبيعية وبعرشه وبأسرته الحاكمة لا يتحداها أحد· لكن كان هناك عيب خطير في هذه الاقتراحات: لإنجلترا الحق في إضافة مطالب أخرى، وأن المتحالفين ضد نابليون لن يُوقِّعوا سلاماً مع نابليون دون موافقة إنجلترا·
وأرسل نابليون إلى براغ طالباً تأكيداً رسمياً لهذه الشروط، فلم يصله هذا التأكيد إلا في 9 أغسطس مع تحذير من ميترنيخ أن الهدنة ستنتهي في منتصف ليلة العاشر من أغسطس، وسينفض مؤتمر الحلفاء في هذا الوقت أيضاً ولابد أن تصل موافقة نابليون قبل هذا التاريخ· وأرسل نابليون موافقة مشروطة لم تصل إلى براغ حتى إعلان ميترنيخ انتهاء الهدنة وفضّ المؤتمر· وفي 11 أغسطس انضمت النمسا إلى الحلف المضاد لفرنسا، واستُؤنفت الحرب·
3 - إلى الرّاين TO THE RHINE
لقد زادت قوات الحلفاء عددا وتمويلا· لقد أصبحت الآن نحو 492,000 مقاتل و1,383 مدفعا، واستقبل نابليون فرقة عسكرية من الدنمرك، ودفعة مجنّدين كان ينتظرها وأصبح لديه الآن 440,000 مقاتل و1,200 مدفع· وكوّن الحلفاء ثلاثة جيوش: جيش الشمال بقيادة بيرنادوت وتمركز في برلين، وجيش سيليزيا بقيادة بلوشر (بلوخر Blucher) المندفع الذي لا تنقصه الشجاعة، وتحلّق جيشه في تشكيلاته المختلفة حول بريسلو (بريسلاو Breslau) والجيش الثالث وهو أكبرها جميعا هو جيش بوهيميا بقيادة الأمير فون شفارتسنبرج von Schwarzenberg المتمركز في براغ· وكونت الجيوش الثلاثة نصف دائرة حول نابليون المتمركز في دريسدن·(ملحق/1420)
وُترك لكل جيش من هذه الجيوش حرية القتال لشق طريقة إلى باريس بشكل مستقل· وفي مواجهة هذه الجيوش أعد نابليون جيش الميسرة Left بقيادة أودينو Oudinot لإيقاف بيرنادوت، وجيش الوسط بقيادة ني Ney لمراقبة بلوخر Blucher وجيش الميمنة بقيادته هو نفسه (نابليون) لحراسة الطرق التي قد يُطلق عبرها شفارتسنبرج من بوهيميا عدداً كبيراً من قوّاته لقد كانت هناك عيوب في الموقف الفرنسي لم يكن يمكن كما هو واضح تجنبها؛ لم يكن نابليون بقادر على استخدام خطته التي استخدمها في إيطاليا بالتركيز بكل قواته على أحد الجيوش، فهذا قد يودي إلى فتح الطريق إلى باريس للجيشين الآخرين أو أحدهما،
وكان يتعيَّن على جيشين من جيوشه أن يتحركا بعيداً عن الأثر المحمّس الذي كان يتركه وجوده في صفوف الجيش، وأدى عدم وجوده إلى حرمان هذين الجيشين من مناورته السريعة وتكتيكاته البارعة وفي 12 أغسطس بدأ بلوخر معركة خريف 1813 بالتحرك غرباً من برسلو (برسلاو Breslau) لمهاجمة قوات ني Ney من كاتسباخ Katzbach في سكسونيا فأخذهم على غِرّة وفرّوا وقد تملكهم الذعر، فاندفع نابليون من جورليتس Gorlitz بحرسه الإمبراطوري وقوات الفرسان بقيادة مورا Murat لإعادة تنظيم قوّات ني Ney، وقادهم إلى نصر كلف قوات بلوخر 6,000 قتيل·
لكن في الوقت نفسه قاد شفارتسنبرج قواته البالغ عددها 200,000 شمالاً في هجوم سريع للاستيلاء على مقر القيادة الفرنسية في دريسدن· واستدار نابليون وكفّ عن متابعة بلوخر، وقاد 100,000 رجل مسافة 120 ميلاً في أربعة أيام، ووجد أن النمساويين يكادون يتحكمون في كل المرتفعات حول العاصمة السكسونية، وفي 26 أغسطس راح الجيش الفرنسي بقيادة الحرس القديم والحرس الجديد يهتف عاش الإمبراطور وهو - أي الجيش الفرنسي - يقتحم صفوف الأعداء ويحاربهم بضراوة شديدة حتى إن مورا Murat قاد سلاح الفرسان التابع له بتهوّر شديد كما كان يفعل أيام شبابه لدرجة أنه بعد يومين من المعركة، أمر شفارتسنبرج قواته بالتراجع مخلّفاً 6,000 من رجاله بين قتيل وجريح وأسير· وكان نابليون نفسه يوجه إطلاق المدافع فأصلى العدو ناراً كثيفة حامية·(ملحق/1421)
وكان إسكندر يراقب الصراع من فوق تل مكشوف، وكان معه مورو Moreau الذي كان قد أصبح أثيراً لديه· وأصابت قذيفة مدفع ساقي مورو فأطاحت بهما، ومات بعد أيام قليلة وسط جيش القيصر، لكنه صاح وهو يموت: "أأنا مورو! تصيبني طلقة من الجيش الفرنسي وأموت بين أعداء فرنسا!! "·
وتعقّب فاندام Vandamme النمساويين المنسحبين ولم يتبعه نابليون ولم يقدم له دعماً (كان نابليون قد تعرّض لآلام حادة في معدته)، ووقع فاندام في شرك نصبه له العدو فاستسلم مع رجاله البالغين 7,000 في 28 أغسطس لأحد أقسام جيش شفارتسنبرج، وبعد ذلك سرعان ما فقد ني Ney 15,000 من رجاله في اشتباكات مع العدو في دنيفتس Dennewitz (6 سبتمبر)، وحزن نابليون لأن نصره الذي أحرزه في دريسدن سرعان ما ضاع هباء· فأرسل (أي نابليون) إلى السينات Senate لاستدعاء 120,000 مجند إلزامي من دفعة 1814 (الدفعة التي يحين وقت تجنيدها في سنة 1814) و160,000 من دفعة 1815· وكان هؤلاء المجندون الجُدد صغاراً وسيحتاجون لشهور كثيرة لتدريبهم· وفي الوقت نفسه كان 60,000 جندي قد أُضيفوا إل الجيش الروسي، وكانوا ممّن تمرسوا على الحرب في معركة في بولندا، وفي 8 أكتوبر انضم جيش بافاريا Bavaria إلى أعداء نابليون بعد أن كان يقاتل في صفّه·(ملحق/1422)
أما وقد أصبح المتحالفون ضد نابليون على هذا القدر من القوّة فقد أصبح هدفهم هو الاستيلاء على ليبزج (ليبتسج) وأن يحسموا الحرب بمعركة تستطيع فيها قواتهم الموحّدة إحباط أي إستراتيجية نابليونية· وفي أكتوبر قاد كلٌّ من بلوخر وبنجسن وبيرنادوت وشفارتسنبرج ويوجين الفيرتمبرجي of Wurttemberg وغيرهم من الجنرالات - قوات من 160,000 رجل حول المدينة· فاستدعى نابليون جيوشه من الشمال والوسط والجنوب فبلغ تعدادها 115,000 رجل بقيادة مارمون Marmont وإسكندر ماكدونالد وأوجيرو Augereau وبرتران Bertrand وكليرمان Kellermann وفيكتور، ومورا Murat وني Ney والأمير جوزيف بونياتوفسكي Poniatowski· قلما وجدنا مثل هذه العبقرية العسكرية وقلما رأينا هذا العدد من الجنسيات تتجمع لتتلاقى في معركة واحدة· إنها معركة الأمم أو كما سماها الألمان (فولكرشلاخت Volkerschlacht) والكلمة تعني حرفياً (مذبحة الشعوب) ·(ملحق/1423)
واتخذ نابليون موقعاً مكشوفاً في مؤخرة قواته وراح يُوجّه تحركاتها طوال ثلاثة أيام من العمليات (16 - 19 أكتوبر 1813)، على وفق ما قاله (أي نابليون) فقد ظلَّ للفرنسيين اليد العليا حتى 18 أكتوبر وعندها تحوّل الجنود السكسونيين Saxon troops إلى القوات المتحالفة ضد نابليون ووجهوا مدافعهم ضدّ الفرنسيين الذين اعترتهم الدهشة وغمرتهم الفوضى فبدءوا يفقدون مواقعهم· وفي اليوم التالي تخلّت كتائب كونفدرالية الراين عن الفرنسيين وانضمت إلى المتحالفين ضدهم· وعندما وجد نابليون أن رجاله بدأت تعوزهم الذخيرة وتعرضوا لخسائر فادحة - أمر بالتراجع (الانسحاب) عبر نهري بليس Pleisse وإلستر Elster· ونجحت معظم القوات الفرنسية في تنفيذ هذا الانسحاب عبر النهرين الآنف ذكرهما لكن مهندساً مُهتاجا نسف جسرا فوق نهر الإلستر بينما كان بعض الفرنسيين يعبرونه، فغرق كثيرون بمن فيهم بونياتوفسكي الأنيق الذي كان قد حارب في صف نابليون ببراعة حتى إنه (أي نابليون) رقاه في ميدان المعركة إلى رتبة مارشال· ولم يصل من بين 115,000 من الجنود الذين حاربوا مع نابليون في ليبزج إلى نهر سال Saale إلاَّ 60,000، لقد وقع الآلاف أسرى، وتلقى الفرنسيون الذين وصلوا إلى نهر سال غذاء وكساء ومؤنا ثم واصلوا طريقهم غرباً إلى المين Main عند هاناو Hanau وهناك حاربوا قوات نمساوية وبافارية وهزموها في 2 نوفمبر وصلوا إلى الراين عند مينز Mainz بعد أسبوعين من الفرار، وعبروا النهر إلى فرنسا·(ملحق/1424)
4 - الانكسار
لقد بدا نابليون وقد لحقه انكسار لا انجبار بعده· فقد كان جيشه (الآن) مكوّناً من 60,000 مقاتل مهزومين ومُحبطين ومستنفدين، يحتشدون على غير هدى على ضفة الراين، أما القوات الفرنسية في ألمانيا فكانت مجمَّدة لا يمكن تعبئتها· لقد كانت قواته البالغة 60,000 (السابقة) والمحتشدة عند ضفة الراين بغير سلاح وبغير ملابس وقد تفشى فيهم التيفوس الذي راحوا يصيبون به كل المناطق التي مرّوا بها وراحت الأخبار المحبطة تأتي من كل اتجاه· ففي إيطاليا كان يوجين قد استطاع بشق النفس أن يجمع قوة من 36,000 رجل لكنه أصبح الآن في مواجهة 60,000 جندي نمساوي عَبْر الأديج Adige·
وفي نابلي راح مورا يتآمر لإنقاذ عرشه بالتخلّي عن نابليون ومناصرة المتحالفين ضدّه· وفي الأراضي المنخفضة أطاحت ثورة داخلية تدعمها قوات بروسية بقيادة بولو Bulow بالحكم الفرنسي (نوفمبر 1813) وأحكمت قوات إنجليزية قبضتها على الشيلدت Scheldt وعادت أسرة أورنج orange وهرب جيروم من وستفاليا (فستفاليا) · ومن إسبانيا عبر ولينجتون Wellington المنتصر البيداسوا Bidassoa إلى فرنسا (7 أكتوبر) وفرض حصاراً على بايون Bayonne في ديسمبر·
وبدت فرنسا نفسها ممزّقة، فقد أدّى ضياع إسبانيا، واضطراب الحركة التجارية مع ألمانيا وإيطاليا إلى أزمة اقتصادية فأفلست البنوك وأغلقت المصانع أبوابها، وأعقب إغلاق بيت جاباش Jabach للتمويل، سلسلة من عمليات الإفلاس· وهبطت البورصة من 80 في شهر يناير 1813 إلى 47 في شهر ديسمبر نفس السنة· وراح آلاف المتعطِّلين يتسكعون في الشوارع أو يخفون فقرهم بالاعتكاف في بيوتهم أو يلتحقون بالجيش ليأكلوا وتمرّد الشعب احتجاجاً على المزيد من التجنيد الإلزامي، واحتجت الطبقة الوسطى على رفع الضرائب، وطالب الملكيون بتولي لويس الثامن عشر العرش، لقد راحت كل الطبقات تطالب بالسلام·(ملحق/1425)
ووصل نابليون إلى باريس في 9 نوفمبر فرّحبت به مليكته غير السعيدة وابنه المرح، وراح يعمل على إقامة جيش جديد من 300,000 مقاتل كضرورة أولى للحرب أو السلام· لقد أرسل المهندسين لإصلاح الطرق لجبهات جديدة ولإعادة الأسوار إلى المدن ولبناء الحصون، وللاستعداد لحفر الخنادق وتدمير الجسور عند الضرورة لإعاقة تقدم الغزاة· وصادر الخيول لسلاح الفرسان وأمر بإعداد المدافع من السبائك كما أمر بإعداد الأسلحة والذخائر للمشاة وراح يسحب المزيد من الأموال التي ادخرها من أقبية التوليري، وراحت الأمة تنظر إليه باستغراب وخوف معجبة بقدرته على استعادة رباطة جأشه وطاقته التي لا تنفد كما أصابها الرعب مخافة عام جديد مليء بالحروب·
أما الحلفاء (القوى المتحالفة ضد نابليون) فقد تردّدوا أمام الراين وبسبب حلول الشتاء، فأرسلوا له من فرانكفورت في 9 نوفمبر عرضاً غير رسمي وغير موقّع لإحلال السلام: أن تحتفظ فرنسا بحدودها الطبيعية - الرّاين، والألب، والبرانس، وأن تتخلّى عن دعاويها كلها فيما وراء ذلك· وفي الثاني من شهر ديسمبر أجاب نابليون من خلال وزير الشؤون الخارجية (كولينكور) بالموافقة· وعلى أية حال فإن ثورة هولندا أنهت السيطرة الفرنسية على مصاب الراين· وساعد الحلفاء هذه الثورة وسحبوا موافقتهم على مبدأ الحدود الطبيعية لفرنسا·
بل لقد أصدروا في 5 ديسمبر إعلان فرانكفورت:
إنّ القوى المتحالفة لا تشن الحرب على فرنسا· فملوك وحكام أوروبا يريدون أن تكون فرنسا عظيمة قوية سعيدة·· فالقوى المتحالفة تؤيد الإمبراطورية الفرنسية في امتلاك مناطق لم يحدث أبداً أن كانت تحت حكم ملوكها·
لم تكن المسألة في حاجة إلى مزيد من الجهد لإبعاد الشعب عن إمبراطوره، فقد كان السينات Senate والهيئة التشريعية معارضين له علناً مطالبين بدستور يضمن الحرية·(ملحق/1426)
وفي 21 ديسمبر عبر الحلفاء نهر الرّاين إلى فرنسا· وفي 29 ديسمبر أرسل السينات إلى نابليون تأييده وتأكيده أنه موالٍ له· لكن في اليوم نفسه قرأ لينيه Laine - أحد الأعضاء الملكيّين من بوردو - على المجلس التشريعي تقريراً ينتقد فيه "أخطاء وتجاوزات الإدارة الإمبراطورية، ممتدحاً الحكم السعيد على أيام البوربون"، ومرحّباً بالمتحالفين ضد نابليون الذين "يرغبون في الإبقاء علينا ضمن نطاق حدود بلادنا، والذين يودّون كبح النشاطات الطموحة التي أدت طوال العشرين سنة الماضية إلى إيذاء كل شعوب أوروبا"·
وصوّت المجلس التشريعي بواقع 223 ضد 31 بالسماح بطبع تقرير لينيه · وفي مساء ذلك اليوم أمر نابليون بإنهاء الدورة التشريعية للمجلس، وفي 1 يناير 1814 أرسل له المجلس التشريعي وفد يبلغه التمنيات الطيبة للموسم التشريعي, فأجاب بهياج شديد غاضباً مرهقاً:
من المؤكَّد أنّه عندما يكون علينا أن نطرد العدو من بلادنا، فإن هذا الوقت يكون غير ملائم لمطالبتي بدستور· إنكم لستم ممثلي الأُمّة فأنتم مجرد مندوبين أرسلتهم الدوائر (المحافظات) ·· إنني أنا وحدي ممثل الأمّة· ومع ذلك، فما هو العرش؟ أهو أربع قطع من الخشب المموّه بالذهب تغطيه القطيفة (المخمل)؟ لا، إنه ليس كذلك، إنه شاغله، وأنا شاغله· إنني أنا الذي أستطيع إنقاذ فرنسا، وليس أنتم! إنني إن أصغيت لكم لسلَّمت للعدو أكثر مما يطلب· إنكم ستحصلون على السلام في ثلاثة أشهر أو أَهْلَك·
وبعد أن تخلّى عنه المندوبون المصدومون، أرسل (أي نابليون) يستعدي بعض الشيوخ Senators الذين وقع عليهم اختياره وشرح لهم سياسته لإحلال السلام وخطط مفاوضاته، وانتهى باعتراف كسير، كما لو كان يعترف أمام محكمة
التاريخ:(ملحق/1427)
إنني لا أخاف من الاعتراف أنني قد أطلت أمد الحرب كثيراً· لقد كنت مقتنعاً بمشروعات واسعة المدى· لقد كنت راغباً في أن أُؤمّن لفرنسا إمبراطورية العالم (حكم العالم) · لقد كنتُ مخطئاً، فهذه المشروعات لم تكن متناسبة مع عدد سكان فرنسا، لقد كنتُ سأجد نفسي مضطراً لتجنيد الشعب الفرنسي كله، وإنني مقتنع الآن بأن تقدم المجتمع ورفاهية الدولة وازدهارها الأخلاقي والمعنوي لا يتّفق مع تحويل الشعب كله إلى أمّة من الجنود·
ولا بد أن أُكَفِّر عن أخطائي التي ارتكبتها بركوني كثيراً جداً إلى حظّي السعيد، إنني سأكفِّر عن أخطائي، إنني سأُبرِم اتفاق سلام، على وفق الشروط التي تمليها الظروف، وهذا السلام لن يكون فيه خِزْي إلاَّ لي وحدي، فسيكون عليَّ وحدي أن أخدع نفسي، وسيجب عليّ وحدي أن أُعاني، وليس فرنسا· إن فرنسا لم ترتكب أيّ خطأ، فهي قد بذلت دماءها لي ولم تبخل عليَّ بأية تضحيات··
اذهبوا إذن أيها السّادة إلى دوائركم (محافظاتكم) لأنني على وشك إبرام اتفاق سلام، فأنا لن أطلب من الفرنسيين بعد الآن أن يبذلوا دماءهم لمشروعاتي ولي·· لكن لفرنسا ولسلامة أراضيها (حدودها) · أخبروا مواطنيكم أنني لا أطلب منهم سوى الوسائل التي تعين على طرد العدو الأجنبي من أراضي الوطن· قولوا لهم إن العدو قد غزا الألزاس Alsace ونافار Navarre وبيارن Bearn· قولوا لهم إنني أدعو الفرنسيين لمد يد العون للحرية·(ملحق/1428)
وفي 21 يناير أمر مندوبيه بإطلاق سراح البابا بيوس السابع من محبسه في فونتينبلو Fontainebleau وترتيب الأمر لعودته إلى إيطاليا· وفي 23 يناير جمع من التوليري Tuileries ضباط الحرس الوطني وقدم لهم الإمبراطورة (زوجته) وابنه (ملك روما) الذي كان وسيماً ولم يكن قد بلغ الثالثة من عمره بعد وأوصاهما بالاهتمام بالحرس· ومرة أخرى عيّن ماري لويز وصية على العرش في أثناء غيابه، وفي هذه المرة عيّن أيضاً أخاه جوزيف ليفتينانت جنرال lieutenant general للإمبراطورية والقائم بالأعمال الإدارية للإمبراطورة· وفي يوم 24 من يناير أُحيط علماً بأن مورا Murat قد انحاز إلى الحلفاء (المتحالفين ضد نابليون) وأنه يتقدم من نابلي على رأس 18,000 مقاتل ليساعد في طرد يوجين من إيطاليا· ومن هذا اليوم نفسه ودّع نابليون زوجته وابنه لآخر مرة، فلن يتأتّى له رؤيتهما بعد ذلك، وغادر باريس لينضم إلى جيشه الذي أُعيد تكوينه ليتحدى غزاة فرنسا·
5 - إلى باريس
لقد راح الحلفاء يتقدمون في صفوف يقترب بعضها من بعض لتتجمع في نقطة واحدة، وكانت عيونهم هذه المرة على باريس· لقد سرق (بالمعنى الحرفي للكلمة) شفارتسنبرج Schwarzenberg طريقه من الفرنسيين بعبوره نهر الراين عند بازل على رأس 160,000 من رجاله وانتهك الحياد السويسري إذ تغاضت الأوليجاركيات السويسرية بسعادة عن تحركاته، وتحرك بسرعة عبر الكانتونات واستولى على جنيف التي لم تُبد دفاعاً، وظهر من الأراضي الفرنسية لمسافة أبعد بمائة ميل مما كان يتوقع الفرنسيون، وأسرع بالاتجاه شمالاً نحو نانسي Nancy على أمل الانضمام إلى قوات بلوخر Blucher أو التنسيق معه هناك·
وكان نابليون قد أمر الجيوش الفرنسيّة أن يفاجئوا العدو بمعارك غير متوقعة في إيطاليا وجنوب شرق فرنسا، ومن ثمّ يتجهون شمالاً لاعتراض سبيل شفارتسنبرج أو على الأقل إبطاء مسيرته، لكن النمساويين عطّلوا حركة يوجين·(ملحق/1429)
وفي هذه الأثناء عبر بلوخر Blucher بجيشه جيش سيليزيا المكون من 60,000 مقاتل لازالوا أقوياء - نهر الراين عند مينز ومانهايم Mannheim وكوبلنز (كوبلنتس Coblenz) وراح يتقدم بلا مقاومة تقريباً إلى نانسي Nancy حيث استقبله حكامها وجمهورها مع جنوده البروس كمخلِّصين من طغيان نابليون· أما بيرنادوت فإنه بعد أن فقد أمله في أن يخلف نابليون كحاكم لفرنسا، وجدناه يتخلّى عن الحلفاء بعد ليبزج ليضرب الدنمركيين ليتخلّوا عن النرويج للسويد (14 يناير 1814) وبعد أن أتمّ هذه المهمة انضم بجيشه إلى بلوخر في الزحف تجاه باريس·
ولم تجسر القوات الفرنسية التي تركها نابليون في شرق فرنسا على مواجهة قوات بلوخر أو قوات شفارتسنبرج لقد تراجع ني Ney غرباً من نانسي، وتراجع مورتييه Mortier من لانجر Langers وتراجع مارمون من ميتز Metz وراحوا ينتظرون قدوم نابليون·
لقد أحضر نابليون معه إلى مقر قيادته الجديد في شالون - سير - مارن Chalons-sur-Marne ( التي لا تبعد عن باريس سوى خمسة وتسعين ميلاً) نحو 60,000 مجنّد ليُضافوا إلى 60,000 ممن بقوا أحياء بعد ليبزج (ليبسج) بقيادة ني Ney ومارمون ومورتييه وبذلك أصبح تحت قيادته 120,000 كان عليه أن يوقف بهم جنود بلوخر وشفارتسنبرج البالغ عددهم 220,000·
لقد كان نابليون ملتزماً بسياسة عدم السماح لقوات الحلفاء بالاندماج معاً ومنعهم من أن يكو ّنوا قوة واحدة، مع تجنّب مواجهة قوات شفارتسنبرج، وإيقاف أو تأخير تقدمها نحو باريس بإحراز انتصارات سهلة على كتائب الحلفاء البعيدة عن مركز القيادة الرئيسي، وبذلك لا تواجه القوات الفرنسية قوات الحلفاء الرئيسية·
لقد كانت معركة 1814 إحدى أكثر معارك نابليون براعة من الناحية الإستراتيجية، لكنها أيضاً كانت واحدة من أكثرها خسائر وأخطاء بسبب ندرة التعزيزات العسكرية· وقد وقع بلوخر بدوره في كثير من الأخطاء، لكنه كاد لا يكون عُرضة للهزيمة أو قلة الموارد بسبب كل هؤلاء الجنرالات المعارضين لنابليون الآن أو بعد ذلك· وكان شفارتسنبرج أكثر حذراً، وكان هذا في جانب منه لطبيعته الخاصة، كما كان في جانب آخر منه لأنه كان يصحب القيصر إسكندر والإمبراطور فرانسيس الثاني·(ملحق/1430)
وأدّت بعض الانتصارات المبدئية التي أحرزها نابليون إلى إفراطه في الثقة (ثقة لم تكن في محلّها) · لقد أسر رجال بلوخر وهم يتناولون طعامهم أو ينعمون بقسط من الراحة في برين Brienne (29 يناير 1814) وكادت قواته تأسر بلوخر نفسه· وتراجعت قوات بلوخر، لكن نابليون كان حكيماً فلم يتعقّبه لأن جيشه (أي جيش نابليون) كان قد خسر 4,000 مقاتل، كما لم يكن أمامه (أي نابليون) إلاّ مجال ضيق للهرب: لقد كان البروس يقتربون منه وسيوفهم مُصْلته، عندما أقدم الجنرال جورجو Gourgeaud على إطلاق النار على تابعه الذي تجاوز حده فأرداه قتيلاً· وحزن نابليون بسبب الدمار الذي أحدثته المعركة في المدينة وفي مدرستها الشهيرة التي تلقى فيها تعليمه وتدريبه العسكري، ووعد بإعادتهما (المدينة والمدرسة) إلى ما كانتا عليه بعد طرد الغزاة من فرنسا·
واندفع شفارتسنبرج فلم يكن لديه وقت للتفكير، لدعم بلوخر، فوجد جنود نابليون 46,000 المنتصرين وهم يكادون يكونون محاصرين بمائة ألف جندي نمساوي وبروسي وروسي في لاروثيير La Rothiere ( أول فبراير) فلم يكن لدى نابليون سوى خيار واحد هو أن يحارب، فقاد المعركة بنفسه· وكانت المعركة تكاد تكون متعادلة (لم يحقق أي من الطرفين انتصاراً حاسماً)، لكن تعادل الفريقين المتقاتلين في الخسائر كان كارثة بالنسبة إلى الفرنسيين الذين قادهم الإمبراطور منسحباً إلى تروي Troyes، وقرر بلوخر ألا يتبع شفارتسنبرج في حذره، فانفصل عنه بقواته وقرر مواصلة طريقه إلى باريس عبر المارن Marne بينما يتابع النمساويون طريقهم على طول السين Seine· وكانت قوات الحلفاء واثقة من النصر حتى إنها أجرت الترتيبات لتتلاقى عند القصر الملكي في الأسبوع المقبل·(ملحق/1431)
وبعد أن أتاح نابليون لجيشه الجريح أسبوع راحة أسند جانباً منه إلى قائده فيكتور وأودينو Oudinot لإعاقة تقدم شفارتسنبرج، وتقدم هو نفسه (نابليون) على رأس 60,000 مقاتل عبر مستنقعات سان جون St. Gond كطريق مختصر إلى شامبوبيرت Champaubert· وهناك لحقوا بمؤخرة قوات بلوخر، وقاد مارمون القوات الفرنسية في نصر حاسم (10 فبراير)، واندفعت القوات الفرنسية فالتقت بعد ذلك بيوم بقسم من جيش بلوخر عند مونتميريال Montmirail، وكان كل من نابليون وبلوخر حاضرين في المعركة، لكن مارمون أثبت مرة أخرى أنه بطل المواجهة، ففي 14 فبراير التحمت القوتان في معركة أكبر في فوشامب Vouchamps، وقاد نابليون جيشه الذي أصبح الآن أكثر ثقة - إلى النصر· لقد فقد بلوخر في غضون أربعة أيام 30,000 من رجاله· وأرسل نابليون 8,000 أسير ليتم عرضهم في باريس لرفع الروح المعنوية للمواطنين الفرنسيين·
وعلى أية حال فإن شفارتسنبرج كان في هذه الأثناء يلاحق قوات أودينو وفيكتور حتى كاد يصل إلى فونتينبلو · لقد أصبح في إمكان الجيش النمساوي البروسي القيام بهجوم شامل كي يصل مع الإمبراطوريْن إلى باريس في غضون أربعة أيام· وصُدِم نابليون بهذا التعزيز الذي محق كل انتصاراته فترك مارمون لمواجهة بلوخر الذي اعترت قواته الإرهاق (على الأقل)، واندفع جنوباً على رأس 70,000 من قواته والتقى بأحد جيوش الحلفاء في مونترو Montereau بقيادة فيتجنشتاين Wittgenstein وهزمه (18 فبراير) وتمركز في نانجي Nangis وأرسل كلاً من فيكتور وأودينو لمهاجمة قوات شفارتسنبرج من الجناحين والمؤخرة· ووجد شفارتسنبرج أن قواته في وضع خطر من ثلاث جهات ففكر هذا القائد النمساوي أن الوقت قد أصبح مناسباً لعرض الهدنة على نابليون، الذي أجاب أنه يستطيع الموافقة على وقف إطلاق النيران في حالة واحدة وهي أن يضمن الحلفاء ما عرضوه في فرانكفورت والقاضي بضمان حقوق فرنسا في حدودها الطبيعية·(ملحق/1432)
وتشاور الحلفاء في هذا العرض الذي يعني انسحابهم إلى ما وراء الراين وأنهوا المفاوضات، ولم يضعوا في اعتبارهم عرض نابليون، وأكدّوا تحالفهم لمدة عشرين عاماً أخرى في شومون Chaumont في 9 مارس، وتراجع شفارتسنبرج إلى تروي Troyes وكان لا يزال معه 100,000 مقاتل·
وراح نابليون يلاحقه بحذر على رأس 40,000 مقاتل· وفي هذه الأثناء علم أنّ بلوخر أعاد تكوين قواته وتشكيلها وأنه راح - مرة أخرى - يشق طريقه إلى باريس على رأس 50,000 مقاتل، فترك (أي نابليون) كلاً من أودينو Oudinot وماكدونالد Macdonald وإتين - موريس - جيرار Etienne - Maurice Gerard لمناوشة قوات شفارتسنبرج وعاد برجاله من السين إلى المارن Marne، ودمج بين قوات مارمون ومورتييه Mortier على أمل الإيقاع بقوات بوخلر عند نهر آسن Aisne حيث لا يمكن للقوات البروسية أن تهرب إلا من فوق جسر سويسون Soissons، لكن جيشين آخرين من جيوش الحلفاء (50,000 مقاتل) تحركا من الشمال وانقضا على جسر سويسون، وأرهبا القائد الفرنسي على تسليم الجسر والمدينة، فعبرت قوات بلوخر الجسر Blucher وأحرقته (بعد العبور) وانضمت إلى القوات المنقِذة (بكسر القاف) فأصبح إجمالي عدد القوات 100,000، وتعقبهم نابليون على رأس 50,000 وقاتلهم بشكل غير حاسم في كرون Craonne ولاقى الهزيمة في معركة شرسة استمرت يومين في لون Loan (9-10 مارس) ·
ولم يساعده ذلك كثيراً وفي 13 مارس وجد جيش بروسي آخر عند الراين فهزمهم فتلفى التهاني والتشجيع من الجماهير , وترك نابليون كلاً من مارمون، ومورتييه لمواجهة بلوخر وراح مرة أخرى ينتقل من مواجهة عدو إلى مواجهة عدو آخر، وفي أرسى - سير - أوبى Arcis-Sur-Aube ( في 20 مارس) بدأ حرباً عنيفة مجنونة بمن بقي معه (20,000) مع جيش شفارتسنبرج (90,000 من الجنود الأقوياء) وبعد يومين من المذابح والحرب البطولية اعترف بالهزيمة وعبر الأوبي Aube لإتاحة مكان ملائم لجيشه المستنزف كي يستريح·(ملحق/1433)
لقد أصبح نابليون مرة أخرى على وشك الانتهاء· لقد أصبح حاد المزاج لتوتر أعصابه واعتلال جسده وراح يوبخ ضباطه بشكل غاضب مع أنهم خاطروا بحياتهم من أجله في حرب إثر حرب· لقد حذّروه ذاكرين أنه لن يتلقى تعزيزات عسكرية أخرى من أمة تعبت من العظمة وتلبّستها اللامبالاة· وراحت الحكومة التي تركها وراءه في باريس - حتى أخوه جوزيف - ترسل له مناشدات لإبرام السلام بأي ثمن·
وفي حالة اليأس هذه قرر نابليون أن يخاطر بكل شيء بالقيام بهجوم آخر يتسم بإستراتيجية خيالية· سيترك أفضل جنرالاته لإيقاف تقدم قوات الحلفاء على قدر ما يستطيعون، ويتجه هو (أي نابليون) بقوات غير كثيرة العدد إلى ناحية الشرق ويحرر الجنود الفرنسيين المحتجزين في الحصون الألمانية على طول نهر الراين، وبهؤلاء الجنود المتمرسين على القتال بالإضافة لكتيبة (كتيبة نابليون) المزوّدة بالمدافع يقطع خطوط مواصلات العدو ويمنع عنه المؤن، ويهاجم مؤخرة حراساتهم ويجبرهم على عدم متابعة تقدمهم، فيمكن بذلك أن تستعيد باريس روحها المعنوية العالية بفضل شجاعته فتبني دفاعاتها، وتتحدّى غزاتها· وفي لحظة أكثر تعقلاً أرسل نابليون تعليمات إلى جوزيف مُفادها أنه إذا كان التسليم وشيكاً فإن على الحكومة أن تصحب ماري لويز، وملك روما (ابنه إلى مكان آمن وراء نهر اللوار حيث يمكن تجميع كل القوات الفرنسية المتاحة لخوض معركة أخيرة) ·
وبينما كان نابليون يقود قواته المندهشة شرقاً، راح الحلفاء يوماً بعد يوم يحطمون مقاومة بقايا الجيش الفرنسي، ويتحركون ليقتربوا أكثر فأكثر من نهاية رحلتهم الطويلة· وبقي فرانسيس الثاني عند ديجون Dijon غير راغب بالمشاركة في إذلال ابنته، وكان فريدريك وليم الثالث معتدلاً كالعادة، إذ شعر أنه ثأر لتحطيم جيشه وتمزيق بلاده وإبعاده منفياً عن عاصمته، أما إسكندر فقد كان فخوراً متوتراً فلم يعد يجد سعادته في المذابح اليومية، ونظر إلى نفسه باعتباره قد أنجز ما وعد به في فيلنا Vilna من تطهير روسيا ممّن دنّس موسكو وحرر أوروبا من جنون القوة ممثلة في هذا الكورسيكي (نابليون) ·(ملحق/1434)
وفي 25 مارس قام مارمون ومورتييه بمحاولة يائسة لوقف تقدم الحلفاء عند لافير - شامبنواز La Fere-Champenoise على بعد مائة ميل من باريس، فحارب الفرنسيون بشجاعة منقطعة النظير مع أن قواتهم كانت نصف قوات العدو، حتى أن إسكندر نفسه تقدم إلى ساحة المعركة وأمر بإيقاف هذه المذبحة غير المتكافئة وصاح قائلاً: "أريد إنقاذ هؤلاء الشجعان" Je veux Sauver ces braves وبعد انتهاء المعركة أعاد المنتصرون إلى الجنرالات المهزومين خيولهم وسيوفهم· وانسحب مارمون ومورتييه إلى باريس استعداداً للدفاع عن العاصمة·
ووصل بلوخر وشفارتسنبرج إلى ضواحي باريس في 29 مارس، وأصيب المواطنون الباريسيون بالذعر بسبب أصوات قذائف المدافع، وفرار الفلاحين إلى المدينة، وأصاب الذعر أيضاً 12,000 من أفراد الميليشيا الذين كان معظمهم غير مسلحين سوى بالرماح، وهم مدعوون الآن لمساعدة الجيش الفرنسي المقيم في باريس بشغل حصون العاصمة والتمركز فوق تلالها· وكان جوزيف يتوسل إلى الإمبراطورة الوصية على العرش منذ مدة لمغادرة العاصمة على وفق ما كان نابليون قد وجّه به، وقد امتثلت الإمبراطورة الآن للطلب لكن ليجلون L'Aiglon قاوم إلا أن جلبة المعركة التي أصبحت وشيكة، جعلته يذعن·(ملحق/1435)
وفي 30 مارس بدأ الغزاة البالغ عدد جنودهم 70,000 هجومهم الأخير، فراح مارمون ومورتييه على رأس 25,000 مقاتل يبذلان كل ما في وسعهما من جهد للدفاع عن المدينة التي لم يفكر الإمبراطور الفخور (نابليون) أبداً في تحصينها، وانضم إلى القوات المدافعة عدد من المحاربين القدماء وضحايا الحرب وطلبة مدرسة البوليتقنيَّة Ecole Polytechnique والعمال وغيرهم من المتطوعين· وراح جوزيف يراقب المقاومة إلى أن أدرك أنه لا جدوى منها وأنها قد تدفع الغزاة إلى دك المدينة (باريس) بالمدافع، وهي مدينة عزيزة على أثريائها وفقرائها على سواء· ورغم أن إسكندر قد يتصرف تصرف المعزّى المواسي المحسن، إلا أن الجنود القوزاق قد يستعصون على السيطرة، ولم يكن بلوخر بالرجل الذي يمنع كتائبه البروسية من الأخذ بثأرها كاملاً· لكل هذا فقد حوّل جوزيف سلطاته إلى المارشالات وغادر المدينة ليلحق بماري لويز والحكومة الفرنسية في بلوا Blois على نهر اللوار Loire ·
وبعد يوم من المقاومة الدموية وجد مارمون ألا جدوى من استمرارها فوقَّع وثيقة استسلام المدينة في الساعة الثانية من صباح 31 مارس سنة 1814·
وفي وقت لاحق من هذا الصباح دخل إسكندر وفريدريك وليم الثالث وشفارتسنبرج على رأس 50,000 جندي رسمياً إلى باريس، فحيّاهم الناس بحقد صامت لكن القيصر هدّأ من روعهم بتكرار التحية وإظهار شيء من المودّة· وعندما انتهت المراسم بحث عن تاليران Talleyrand في شارع سان فلورنتين· St Florentin وطلب منه النصيحة لإحداث تغيير منظم في الحكومة الفرنسية· واتفقا على ضرورة انعقاد جلسات السينات Senate مرة أخرى، وأن يضع دستوراً وأن يعيّن حكومة مؤقّتة· واجتمع السينات في أول أبريل ووضع دستوراً يضمن الحريات الأساسية وعيّن حكومة مؤقتة اختار تاليران رئيساً لها،
وفي 2 أبريل أعلن السينات Senate عزل نابليون·(ملحق/1436)
6 - طريق السّلام
لقد كان نابليون في سان ديزييه St. Dizier على بعد 150 ميلاً من باريس عندما وصلته الأخبار (27 مارس) بأن الحلفاء يحاصرون باريس، فانطلق بجيشه في الصباح التالي، وبعد ظهر اليوم نفسه تلقى رسالة عاجلة أكثر أهمية: "حضور الإمبراطور أمر ضروري إن كان راغباً في ألا تستسلم عاصمته للعدو· لا يجب تضييع لحظة واحدة"· وترك نابليون جيشه عند تروي Troyes وامتطى حصانه طوال معظم الأميال المتبقية رغم آلامه، واقترب من باريس (13 مارس) وأرسل كولينكور Caulaincourt إلى باريس على أمل أن يحثّ هذا الروسي إسكندر على عقد تسوية·· وواصل الإمبراطور (نابليون) طريقه راكباً حصانه إلى فونتينبلو مخافة أن يُقبض عليه إِنْ - هو - دخل المدينة (باريس)،
وفي مساء اليوم نفسه تلقى رسالة من كولينكور: "لقد خاب مسعاي"· وفي 2 أبريل علم أنه نُحِّي عن العرش، ففكّر للحظة كم هو شيء يدعو إلى السرور أن يترك العرش· لقد قال: "إنني لستُ معلّقاً بالعرش· لقد وُلدت جندياً· إنه يمكنني أن أكون مواطناً دون تذمّر"· لكن وصول جيشه الذي كان عدده 50,000 مقاتل لمس الوتر المناسب في طبيعته، فأمر أن ينصب هذا الجيش خيامه على طول إيسون Essonne ( أحد روافد السين) استعداداً لأوامر أخرى، وقاد مارمون إلى هذا المعسكر ما تبقى من الجنود الذين كانوا يدافعون عن باريس·
وفي 3 أبريل استعرض نابليون الحرس الإمبراطوري في ساحة ميدان فونتينبلو، وقال لهم: "لقد عرضت على الإمبراطور إسكندر سلاماً لا يتحقق إلا بتضحيات جسام·· لكنه رفض·· إنني في غضون أيام قليلة سأذهب لأهاجمه في باريس· هل أعوّل عليكم؟ ", وفي البداية لم يجيبوه لكن عندما سألهم: "أأنا على صواب؟ ", أجابوا: "عاش الإمبراطور! هيا إلى باريس"· وراح رماة القنابل ينشدون نشيدي الثورة في أيامها الأولى: "نشيد الانطلاق، ونشيد المارسيليز"·(ملحق/1437)
وكان الجنرالات متشكّكين· لقد وجدهم في اجتماع خاص معارضين لعودة البوربون، لكنهم أيضاً كانوا غير متحمسين لبذل محاولة لإخراج الحلفاء من باريس· وفي 4 أبريل دخل المارشالات (ني Ney وأودينو ومونسي Moncey وليفيبفر Lefebvre) غرفة نابليون دون دعوة منه وقالوا له: "إنه ما دام السينات (مجلس الشيوخ) قد عزله فإنهم لا يستطيعون أن يتبعوه في هجوم على القوات المتحالفة والحكومة المؤقتة"، فقال لهم: "إنه سيقود الجيش بدونهم"، فردّ عليه نَيْ Ney بحسم: "إن الجيش سيطيع قادته", فسألهم نابليون ماذا يريدون منه، فأجاب نَيْ Ney وأودينو: "التنازل فكتب نابليون تنازلاً مشروطاً يترك بمقتضاه العرش لأبنه تحت وصاية ماري لويز"·
وأرسل كولينكور، وماكدونالد ونَيْ إلى باريس لتقديم هذا العرض· وفي الطريق توقفوا عند معسكر إيسون لاستشارة مارمون فراعهم أن وجدوه قد شرع في التفاوض مع شفارتسنبرج حول شروط تسليم المدينة·
وفي تلك الليلة (4 - 5 أبريل) قاد مارمون رجاله البالغ عددهم 11,000 عبر تخوم المدينة بعد أن قبل تماماً شروط شفارتسنبرج المتساهلة· وفي 5 أبريل أحاط قادة الحلفاء كولينكور علماً بأنهم لن يتعاملوا منذ الآن مع نابليون إلا إذا تنازل عن العرش دون قيد أو شرط وفي هذه الأثناء أرسلوا جنوداً لتطويق فونتينبلو لمنعه من الهرب·
وخفّف إسكندر من وطأة هذه الإجراءات القاسية بأن حمى باريس من السلب والنهب، كما قام بزيارات وديّة لكل من ماري لويز، وجوزفين، وهورتنس Hortense· لقد كان الروسي هو الأكثر تحضّراً من بين الفاتحين· لقد حثَّ زملاءه على أن يوقِّعوا معه معاهدة فونتينبلو التي تقدم لنابليون جزيرة في البحر المتوسط كسجن فسيح ينعم فيه بسماء إيطالي مشمس ودخل يأتيه من فرنسا· وفيما يلي النص الأساسي لهذه الاتفاقية:
صاحب الجلالة الإمبراطور نابليون من ناحية وأصحاب الجلالة إمبراطور النمسا·· وإمبراطور كل روسيا، وملك بروسيا يتعهدون بالأصالة عن أنفسهم وكل حلفائهم··
مادة (1): يتخلَّى صاحب الجلالة الإمبراطور نابليون بالأصالة عن نفسه وأخلافه وذريته وكل أفراد أسرته عن كل حقوق السيادة في الإمبراطورية الفرنسية·· وفي كل المناطق الأخرى·(ملحق/1438)
مادة (2): يحتفظ صاحبا الجلالة: الإمبراطور نابليون والإمبراطورة ماري لويز بألقابهما ورتبهما طوال فترة حياتيهما· ويحتفظ أيضاً كل من: أم الإمبراطور وإخوته وأخواته وأبناء إخوته وأبناء أخواته وبنات إخوته وبنات أخواته - أينما حلّوا بألقابهم الملكية·
مادة (3): جزيرة إلبا Elba التي اختارها صاحب الجلالة الإمبراطور نابليون كمقر ستبقى خلال حياته ولاية منفصلة يتملكها ويكون له فيها حق السيادة الكاملة، وهي ملك له·
وعلاوة على ذلك سيقدّم للإمبراطور نابليون عائد سنوي مقداره 2,000,000 فرنك كمِلْك خالص له من الخزانة الفرنسية يحوّل منها 1,000,000 للإمبراطورة·
(المفهوم أن الحلفاء سيدفعون هذا المبلغ مع إضافته إلى ديون فرنسا) ·
ووقع نابليون هذا الاتفاق في 13 أبريل كما وقع تنازله الأول عن العرش ومن ثمّ وقّعه الحلفاء· لقد كان نابليون يتطلع إلى كورسيكا لتكون منفى له لكنه علم أنه لن يُسمح له بذلك لأن كورسيكا حاضنة للثورة (مهيّأة لها)، فكانت إلبا Elba هي اختياره الثاني· ولم يُسمح لماري لويز باصطحابه إلى إلبا، وكانت قد حاولت اللحاق به في فونتينبلو، لكن الحلفاء حالوا بينها وبين رغبتها كما أن نابليون - بدوره - لم يشجّعها على القدوم إليه· وفي 27 أبريل غادرت مع ابنها رامبول Rambouillet قاصدة فينا، وكان هذا على غير رغبتها·
وربما يكون نابليون قد أَثْناها عن القدومِ إليه لاعتزامه الانتحار· لقد لاحظنا فيما سبق أن الدكتور يفا Yvan قد أعطاه قنينة سُم عند عودته من روسيا، وفي ليلة 12 - 13 أبريل ابتلع محتويات القنينة، ويبدو أن السّم كان قد فقد مفعوله فعانى نابليون لكنه شفي واعتراه الخجل كثيراً لهذا، فراح يبرر استمرار وجوده على قيد الحياة بأن اقترح على نفسه كتابه سيرته الذاتية التي تقدم القصة من وجهة نظره والتي تحتفي بأعمال الشجعان الذين قاتلوا معه Mes braves·(ملحق/1439)
وفي 16 أبريل كتب وداعاً لجوزيفين: لا تنسِ هذا الذي لم ينسَكِ ولن ينساكِ أبدا. ً وماتت جوزيفين بعد ذلك بشهر (29 مايو)، وفي 19 أبريل ودّع خادمه الخصوصي كونستانت (قسطنطين) وحارسه الشخصي روستا Roustam ( النص مملوكة Mameluke) وفي 20 مايو ودّع جنود حرسه القديم الذين كانوا قد بقوا معه إلى النهاية:
أيها الجنود وداعاً، فطوال عشرين عاماً كنا فيها معاً كان تصرفكم مثالياً محققاً لكل رغباتي· لقد كنت أجدكم دوماً على طريق العظمة·· فبكم وبالرجال الشجعان الذين لا زالوا مخلصين كان يمكنني أن أقود حرباً أهلية لكن فرنسا ساعتها لن تكون سعيدة· إذن كونوا مخلصين لملككم الجديد، وكونوا مُطيعين لقادتكم الجُدد ولا تتخلوا عن وطنكم المحبوب·
لا تندبوا حظِّي، فسأكون سعيداً إذا علمت أنكم سعداء· ربما مِتُّ·· لكنني إن كنت قد رضيت بالحياة فليس إلاّ لاستجلاء مزيد من عظمتكم· سأكتب عن الأمور العظيمة التي حققناها·
لا أستطيع أن أعانقكم واحداً واحداً، لكنني سأعانق جنرالكم تعالَ يا جنرالي لأضمك إلى قلبي· أحضر لي العُقاب (النسر) لأعانقه أيضاً (النسر هو شعار الحرس) · آه يا عقابي (نسري) العزيز، ربما تجد هذه القُبلة التي أقدمها لك - صداها لدى الأجيال القادمة· وداعاً يا أولادي، سيتمنى لكم قلبي دوماً أحسن الأماني· لا تنسوني! ·
واختار أربعمائة من الحرس ليصطحبوه إلى جزيرة إلبا· ودخل العربة مع الجنرال بيرتران Bertrand الذي سيظل معه إلى النهاية وصحبه أربعة من ضباط الحلفاء للتأكد من غرضه - روسي وبروسي ونمساوي وإنجليزي، كما صحبته حامية فرنسية صغيرة لحمايته· لقد كان في حاجة إلى حماية في أثناء مروره في بروفانس Provence حيث كان السكان كاثوليك متعصبين كما كانوا موالين للملكية على نحوٍ ما فراحوا يوجهون له الإهانة في أثناء مروره· وفي أورجون Orgon بالقرب من آرل Arles رأي تمثاله مشنوقاً، وهدّدته الجماهير، وأمرته أن يقول: "عاش الملك", فامتثل للأمر تماماً كما سبق للثوار أن أجبروا لويس السادس عشر على الهتاف للثورة·(ملحق/1440)
وبعد ذلك تنكَّر بارتدائه حلّه رسمية وعباءة قدمهما له الضباط النمساويون والروس· وارتفعت روحه المعنوية في 26 أبريل عندما وجد أخته بولين Pauline في انتظاره في لي لوس Le Lus· لقد تركت الريفيرا Riviera الفرنسية وتخلت عن دعوة إلى روما، ومكثت في بيت ريفي صغير وكتبت إلى فيليس باكيوشي Felice Bacciocchi: " إن الإمبراطور سرعان ما سيمر من هنا وأنا راغبة في رؤيته لأعبر له عن عواطفي، فأنا لم أكن أحبه كإمبراطور وإنما لأنه أخي", ورفضت أن تعانقه وهو متنكر، فأزاح عن نفسه ملابس التنكر وراح ينعم بإخلاصها ووفائها طوال أربع ساعات·
وفي 27 من الشهر نفسه واصل الطريق إلى فريجو Frejus وهناك (في 28 أبريل) حيّته السفينة البريطانية (أندونتد Undaunted - ومعناها الشجاع أو الجسور) بإطلاق إحدى وعشرين طلقة من مدافعها، وأبحر قاصداً إلبا، وحاول طوال الأشهر التسعة التالية أن يتعامل مع هذا السلام الذي اتسمت شروطه بالسذاجة·(ملحق/1441)
الفصل السابع والثلاثون
إلى واترلو To Waterloo: من 1814 إلى 1815م
1 - لويس الثامن عشر LOUIS XVIII
هو لويس 18 ابن لويس الدوفين Dauphin ( الكلمة تعني الابن البكر)، ابن لويس 15 فهو إذن رابع لويس، كما كان لويس السادس عشر هو ثالث لويس· وحتى سنة 1791 - عندما كان في الثلاثين من عمره - كان قانعاً فيما يظهر بأن يكون كونتاً لبروفانس، وكان وسيماً لطيفاً يتذوق الأدب ويدعم الأدباء ويشارك في المناقشات الرائعة في صالون خليلته· وعندما حاول لويس السادس عشر الهربَ من فرنسا (1791) حاول هو بدوره ونجح وانضم إلى أخيه كونت درتوا d'Artois في بروكسل Brussels، وعندما مات لويس السابع عشر في العاشرة من عمره (1795) بعد أن ذَوَي بسبب السجن والأحزان، حمل كونت بروفانس Comte de Provence - باعتباره الوريث الشرعي لعرش فرنسا - اسم لويس الثامن عشر واعتبر نفسه ملك فرنسا طوال سنوات الثورة وطوال فترة حكم نابليون· ولأنَّ نفوذ الثورة ونابليون راحا ينتشران، فقد كان على لويس الثامن عشر أن يغيِّر مقر إقامته فراح ينتقل من مكان إلى مكان - من ألمانيا إلى روسيا إلى بولندا إلى روسيا إلى إنجلترا (1811)، وهناك أيدته الحكومة، واحتفظ هو نفسه باحترام للدستور البريطاني·
وفي 14 أبريل 1814 أصدر السينات (مجلس الشيوخ الفرنسي) وعلى رأسه تاليران Talleyrand القرار التالي:
امتثالاً لاقتراح الحكومة المؤقتة وتقرير لجنة خاصة من سبعة أعضاء، يعهد مجلس الشيوخ (السينات) بحكومة فرنسا المؤقتة، لصاحب الجلالة كونت درتوا بمسمّى ليفتينانت جنرال المملكة حتى يتم استدعاء لويس - ستانيسلاوس زافييه Louis - Stanislaus - Xavier ليشغل عرش فرنسا مع قبول الصيغة الدستورية·
ودعا الدستور الذي صاغه مجلس الشيوخ (السينات) إلى عفو عام عن الثوريين الذين على قيد الحياة، كما دعا إلى إلغاء الرسوم الإقطاعية والأعشار الكنسية، وأكَّد صحة حجج الملكية التي يحوزها من اشتروا ممتلكات من ممتلكات الدولة (مما صودر من الكنيسة ومن المهاجرين الذين تركوا فرنسا عقب أحداث الثورة الفرنسية) والإبقاء على مجلس النوّاب ومجلس الشيوخ واحترام الحريات المدنية وسيادة الشعب·(ملحق/1442)
وطلب لويس وقتاً للتفكير وقد أسعدته الدعوة لشغل العرش الفرنسي وأزعجته الشروط المفروضة· وفي 24 أبريل غادر إنجلترا قاصداً فرنسا· ومن سان أوِن Ouen ( في 2 مايو) أعلن أنه سيحترم غالب ما ورد في الدستور المقترح لكنه يرفض سيادة الشعب لأنها تتعارض مع الحقوق الوراثية للملك كما منحها الله· واقترح أن يمنح فرنسا ومجلس الشيوخ ميثاقاً Charter بدلاً من الدستور· وسيصبح مجلس الشيوخ (السينات Senate) مجلس نبلاء Chamber of Peers يختار الملك أعضاءه، وسيصبح اسم الجمعية التشريعية مجلس النواب Chamber of Deputies ويتم انتخاب أعضائه بواسطة الناخبين الذين يدفع الواحد منهم ثلاثمائة فرنك أو أكثر كل سنة كضرائب مباشرة، وسيكون على هذين المجلسين إدارة عوائد الحكومة ونفقاتها· وأغرى العرضُ بالسيطرة على أموال فرنسا، المجلسين بقبول الميثاق (عِوَضاً عن الدستور) وتعهد الملك بالتعاون، وهكذا عاد حكم البوربون Bourbon (4 يونيو 1814) ·
وفي معمعة هذه التغييرات قلَّصت القوى المتحالفة على وفق معاهدة باريس الأولى (30 مايو 1814) حدود فرنسا إلى ما كانت عليه في سنة 1792، وأعطتها شامبري Chambery، وأنيسي Annecy وملهوس Mulhouse، ومونتبيليار Montbeliard· وسلّمت فرنسا مستعمرات مهمّة لإنجلترا وإسبانيا واعترفت بالحكم النمساوي لشمال إيطاليا، ووافقت - مقدَّماً - على أية قرارات سيتخذها مؤتمر فيينا فيما يتعلق بكل المناطق التي استولت عليها فرنسا منذ سنة 1792·
وبعد أن استقر لويس الثامن عشر في التوليري شعر أنّ من حقه أن يستريح ويسترخي ويسعد بعودة ملكه، وراح يتحدث عن عام 1814 باعتبارها السنة التاسعة عشرة لحكمي· لقد أصبح عمره الآن 59 سنة وسيما ودوداً كسولاً بطيئاً سميناً مصاباً بداء المفاصل، ولم يكن في كل حالاته ملكاً· لقد أسلم نفسه لحكومة دستورية، وكيّف نفسه - بكياسة - مع ناخبين وخطباء ومتنازعين وصحافة أصبحت تنعم بحرية أكثر مما كانت تنعم به في ظل حكومة الإدارة أو نابليون، وانتعشت الصالونات بالمناقشات الأدبية والسياسية· وبعد أن أصبحت مدام دي ستيل منتصرة (بمعنى أن أغراضها قد تحقّقت واصلت اجتماعاتها في باريس واستضافت الملوك) ·(ملحق/1443)
وكانت النجاحات الاقتصادية التي حققها الحكم الجديد مدعاةً لسعادة الشعب بشكل عام· لقد كان لويس 18 ذا حِسٍّ سليم فترك قوانين المدوّنة القانونية النابليونية دون تغيير وترك - وبدون تغيير أيضاً - نظام نابليون القضائي والإداري، كما أنه (أي لويس) لم يغيّر البنية الاقتصادية· وكما كان نابليون محظوظاً بأن وجد لوزارة المالية - تلك الوزارة الحيوية - شخصاً على قدر كبير من الكفاءة والاستقامة هو فرانسوا موليا Francois Mollien - كذلك وجد لويس الثامن عشر لشغل هذا المنصب نفسه البارون جوزيف - دومينيك لويس Baron Joseph - Dominique Louis الذي واجه دون توان متطلبات الخزانة وقاوم كل إغراءات الخداع المالي (المغالطات المالية) ·
وقد أشاد البلاط الملكي بجهوده كرمز لتيسير الانتقال من نظام حكم إلى نظام حكم آخر (كمرحلة انتقال)، وفي العام الأول من الحكم الجديد، كان هناك قدر قليل من الانتقام من أولئك الذين عملوا مع نابليون· لقد راح المارشالات الإمبراطوريون (الذين عملوا مع نابليون) يختلطون بحرية مع الملكيين من ذوي الأنساب في بلاط البوربون ونستثني من هؤلاء المارشال دافو Davout، أما أفراد النبالة الدُّنيا مثل مدام دي ريموزا Remusat والسيد ريموزا الذين كانوا قريبين من نابليون فراحوا يتعبدون عند الضريح الذي أُعيد ترميمه وصقله (المقصود: راحوا يتقربون للبوربون من جديد)، وسخر تاليران قائلاً: "إن البوربون لم يتعلموا شيئاً ولم ينسوا شيئاً" وقد يكون هذا القول صحيحا بالنسبة إلى الكونت درتوا الذي كان متكبراً بغباء رغم طباعه الجيدة ومنظره الحسن، لكن هذا القول لا ينطبق على لويس 18، بل إن نابليون نفسه شهد بعد ذلك (في سانت هيلينا) بسرعة قبول معظم الفرنسيين للحكم القديم بعد إلحاق تجديدات به كما لو كانوا قد وقعوا في أسر العادات القديمة الراسخة منذ زمن بعيد، بحيث لم يكن ممكناً استئصالها تماماً·
ومع هذا كان هناك شيء من الاستياء وعدم الرضا·(ملحق/1444)
لقد جحدت الكنيسة الكونكوردات Concordat النابليوني وأصرّت على عودة سلطانها كما كان قبل الثورة، خاصة سلطانها على التعليم· وحصلت الكنيسة من الملك على مرسوم بمراعاة الالتزام الديني الصارم في أيام الآحاد وأيام الأعياد الدينية، ففي هذه الأيام يتعين إغلاق كل المحال من الصباح إلى المساء فيما عدا محال الكيماويين (المقصود الصيادلة) والعشابين، ولم يكن مسموحاً في هذه الأيام: (الآحاد والأعياد الدينية) بالقيام بأعمال مدفوعة الأجر أو نقل البضائع لأغراض تجارية· وأصبح من الصعب عدم الاعتراف بالكاثوليكية· لكن الأكثر مدعاة للإزعاج هو مطالبة الكنيسة بكل الممتلكات الكنسية التي صادرتها الثورة، وهو طلب بدا معقولاً· لكن تنفيذه لا يمكن إلا أن يُواجه بثورة مئات الألوف من الفلاحين وأفراد الطبقة الوسطى الذين سبق أن اشتروا هذه الممتلكات من الدولة· إن خوف هؤلاء المشترين من نزع ملكياتهم كلها أو جزءاً منها جعلهم يفكرون في الترحيب بعودة نابليون شفى من داء شن الحرب·
لازالت هناك أقلية نشيطة متعلِّقة بمبادئ الثورة راحت - على أية حال - تعمل بشكل سري لإحياء هذه المبادئ· لقد راح اليعاقبة Jacobins الذين تعرضوا لضغط شديد على يد الحكم الملكي الجديد - يعملون على أمل أن تصبح عودة نابليون ضرورة وأن يطيح بحكم البوربون، ويصبح مرة أخرى ابنا للثورة· واستطاع اليعاقبة أن يجندوا كثيرين في صفوف الجيش لتحقيق هذا الأمل· وكان المارشالات قد وقعوا أسرى كرم الملك ودماثته ولكن طبقة الضباط كانت تتطلع إلى إحياء الأيام التي كانت فيها هراوة المارشال يمكن أن يحوزها الضابط في ميدان المعركة (المعنى: يمكن أن يتحول الضابط العادي إلى مارشال على وفق بلائه في المعركة) ·(ملحق/1445)
لقد راحت طبقة الضباط تتوق لتلك الأيام خاصة وهم يرون أن طبقة النبلاء راحت تستعيد احتكارها للمناصب العليا· وكان لويس 18 - رغبة منه في موازنة الميزانية - قد سرّح 18,000 ضابط و300,000 جندي، وراح كل هؤلاء الرجال المطرودين تقريباً يناضلون ليجدوا لهم مكاناً في ظل النظام الاقتصادي السائد، وراحوا يتذكرون بحسرة أيام الإمبراطور (نابليون) التي بدت في عيونهم مثالية، تلك الأيام التي بدا فيها الموت دالاً على العظمة·
وكان سخط الجيش هو الأكثر وضوحاً من بين مظاهر السخط البادية في القوى الأخرى التي فتحت الباب أمام عودة المبالغات الفاتنة· أضف إلى هذا خوف الفلاحين من نزع ملكياتهم أو عودة الرسوم الإقطاعية، وكان الصناع يعانون من تدفق البضائع البريطانية تدفقاً شديداً· لقد كان الجميع مستائين باستثناء الكاثوليك شديدي التمسك بكاثوليكيتهم والخاضعين لسيطرة الإكليروس خضوعاً شديداً، وكان حل الملك للمجلسين في نهاية سنة 1814 (لم يُعدها حتى شهر مايو) مما زاد السخط، وكان الفقراء مشتاقين في طوايا نفوسهم لفرنسا النابليونية المثيرة ذات البهاء؛ كل هؤلاء كانوا سهلي الانقياد وكانوا في انتظار ريح مواتية فوصلت أخبارهم إلى إلبا Elba ورفعت الروح المعنوية للمقاتل السجين (نابليون) الذي اتضح أنه وإن كان قد جُرح فإنه لم يمت·
2 - مؤتمر فيينا: سبتمبر 1814 - يونيو 1815م
THE CONGRESS OF VIENNA
كان هذا المؤتمر أكثر الاجتماعات السياسية تميزاً في التاريخ الأوروبي وكان من الطبيعي أن يكون أعضاؤه البارزون هم المنتصرين الكبار في حرب الأمم: روسيا وبروسيا والنمسا وبريطانيا العظمى، لكن كان هناك أيضاً مندوبون عن السويد والدنمرك وإسبانيا والبرتغال والباباوية Papacy وبافاريا Bavaria وسكسونيا وفيرتمبرج Wurttemberg···، ولأن تاليران المخادع كان يمثل فرنسا المهزومة، فإن هذا وحده كان كافياً لوضعها في الاعتبار· وستوضِّح إجراءات المؤتمر مبدئين ليسا متناقضين تماماً بالضرورة: أصوات المدافع أقوى وأعلى من الكلمات، كما أن القوة قلَّما تُحرز نصراً إذا لم يحكمها العقل·(ملحق/1446)
كانت روسيا ممثلة بشكل أساسي بالقيصر إسكندر الأول ذي الجيش الأكبر والجاذبية الأوضح· لقد اقترح بمساعدة الكونت أندرياس رازوموفسكي Andreas Razumovsky ( راعي بيتهوفن) والكونت كارل روبرت نسلرود Nesselrode أن تحصل روسيا على بولندا كلها مكافأةً لها لقيادتها الحلفاء من مرحلة التردد على النيمن Niemen والسبري Spree إلى النصر على ضفاف السين Seine، وأيد الأمير تشارتوريسكي Czartoryski ممثل بولندا (بإذن من إسكندر) هذا الاقتراح على أمل أن توحيد بولندا يمكن أن يكون خطوة نحو استقلالها·
وكان يمثل بروسيا من الناحية الرسمية الملك فريدريك وليم الثالث وإن كان الأكثر فعالية في وفدها هو الأمير فون هاردنبرج von Hardenberg مع فيلهلم فون همبولدت Wilhelm von Humboldt الذي كان كفيلسوف الحاشية·
لقد طالبوا بمكافأة مناسبة للقيادة العسكرية الباهرة للقائد البروسي بلوخر Blucher ولتضحية البروس بحياتهم· ووافق إسكندر بشرط أن تسحب بروسيا دعاويها في المنطقة البولندية التي كانت تابعة لها، وقدَّم لفريدريك وليم كل سكسونيا (التي كان ملكها مسجوناً في هذا الوقت في برلين) والذي يستحق عزله من منصبه لأنه كان قد قدَّم الجيش السكسوني ليكون تحت إمرة نابليون، ووجد الفريهر فوم شتاين Freiherr Vom Stein أن هذا حل لطيف للمسألة·(ملحق/1447)
وادّعت النمسا أن دعوتها للتحالف (ضد نابليون) هي التي قررت نتيجة الحرب، ولابد - لهذا - أن تتلقى عوناً كريماً على مائدة المنتصرين· وكان إبعادُ النمسا عن بولندا أمراً لا يُحتمل كما أن ضم سكسونيا إلى بروسيا قد يطيح بتوازن القوى كلية بين الشمال والجنوب، وبذل ميترنيخ Metternich كل جهده وكياسته وحدّة ذهنه للحيلولة بين المجتمعين وبين أن يجعلوا من النمسا قوة أوروبية (أو كياناً أوروبيا) من الدرجة الثانية· وعاون الإمبراطور فرانسيس الثاني وزير خارجيته في تحقيق هذا الغرض بإغراق ضيوفه بالولائم والحفلات· لقد كانت خزانته بعد الحرب على شفا الإفلاس، فغامر بما بقي فيها بإغراق ضيوفه بالنبيذ والشمبانيا (نوع من الخمور) وإتخامهم بالوجبات الدسمة Neanderthal Meals، وتألقت صالات القصور الملكية طوال معظم الليل بالحفلات المسرفة، وظهر الممثلون والممثلات والمغنون والمغنيات والفنانون والفنانات لتحقيق البهجة لأصحاب الجلالة والسعادة والسمو ومن معهم·
وهز بيتهوفن مشاعر المدينة بمقطوعته " Die Schlacht Von Vittaria" وحملت النسوة الجميلات ثروات طائلة في ملابسهم وشعرهن (المقصود الحلي والمجوهرات)، وأبدين للعيان كثيراً من زينتهن بقدر ما يسمح احترامهن الرقيق للكاردينال كونسالفي Consalvi، وأصبحت الخليلات رهن إشارة الباحثين عنهن من ذوي المكانة، وسدّت المحظيات والعاهرات حاجة أفراد النبالة الدنيا· وسرت الإشاعات في المدينة عن علاقات القيصر الغرامية·(ملحق/1448)
لقد ربح قيصرُ النساءَ لكنه خسر معركته الدبلوماسية· لقد راح ميترنيخ يبحث عن حلفاء ضدّه (ضد القيصر) من بين أعضاء وفود القوى الصغرى· لقد دافع عن أن مبدأ الشرعية يمنع سلب ملك (نزعه من ملكه) وهو الاقتراح الذي قدمته كل من روسيا وبروسيا فيما يتعلق بسكسونيا وملكها· وقد اتفقوا، لكن كيف يستطيعون إقناع روسيا بهذا المبدأ وهي تمركز على جبهتها الغربية 500,000 جندي؟ وناشد ميترنيخ اللورد كاسلريه Castlereagh المتحدث باسم إنجلترا: ألن تتوقّع إنجلترا شرا من روسيا الممتدة عبر بولندا والمتحالفة مع بروسيا المنتفخة بضم سكسونيا إليها؟ ماذا سيفعل هذا بتوازن القوى شرقاً وغرباً؟ وبرّر كاسلريه موقفه قائلاً إن بريطانيا في حرب مع الولايات المتحدة ولا تستطيع المخاطرة بمواجهة روسيا·
وهنا لجأ ميترنيخ - كملاذ أخير - إلى تاليران لقد كان ميترنيخ قد أغضب الرجل الفرنسي (تاليران) باستثناء فرنسا من الاجتماعات الخاصة للأربعة الكبار Big Four كما استثنى معها القوى الأقل أهمية، وأجّل (أي ميترنيخ) أول اجتماع شامل لكل الدول التي حضرت المؤتمر إلى أول نوفمبر 1814· فكوّن تاليران فكراً عاماً (قضية مشتركة) بين كل أعضاء الوفود الذين لم يحضروا اجتماعات الأربعة الكبار، وسرعان ما وافقوا على أن يكون متحدثاً باسمهم· وبعد أن أصبح موقفه قوياً على هذا النحو بدأ يتحدث عن فرنسا كقوّة لازالت من الدرجة الأولى، يمكنها أن تقيم جيشاً من 300,000 مقاتل وتموّله· ووجد ميترنيخ في هذا أملاً (أفكاراً واعدة يمكن استثمارها) مع أنه ربما يكون قد اعتبر هذا تهديدا· وضمن تاليران موافقة لويس 18، وكسب الدبلوماسيان (تاليران وميترنيخ) تأييد كاسلريه الذي عقدت بلاده الآن اتفاق سلام مع أمريكا·(ملحق/1449)
وفي 3 يناير 1815 كوّن كل من فرنسا والنمسا وبريطانيا العظمى تحالفاً ثلاثياً Triple Alliance ليؤازر بعضُهم بعضَهم الآخر للحفاظ على توازن القوى· وعندما وُوجهت روسيا بهذا التحالف الجديد سحبت كل دعاوٍى لها في بولندا، ووافقت بروسيا - بعد أن استعادت ثورن Thorn وبوزن Posen - على أن تحصل على خُمْسَيْ سكسونيا فقط· لقد أصبح من حق تاليران أن يفخر بأنه حوّل بدبلوماسيته فرنسا من متسوّل مُهان إلى قوة كبرى مرة أخرى·
وبعد نحو تسعة أشهر من المساومة أعاد أصحاب الجلالة والفخامة والسمو المجتمعون توزيع أراضي أوروبا على وفق المبدأ القديم - تبقى الأسلابُ للمنتصرين إن كانوا مازالوا أقوياء قوّة تمكّنهم من الاستيلاء عليها، وظهر هذا واضحا في قرارات مؤتمر فيينا الصادرة في 8 يونيو 1815· واحتفظت مالطة باعتبارها مركز حراسة تابع لها في قلب البحر المتوسط، وبسطت حمايتها على الجزر الأيونية كمراكز حراسة تابعة لها في الأدرياتك Adriatic وشرق البحر المتوسط· وأعادت بعض المستعمرات الفرنسية والهولندية التي كانت قد استولت عليها في أثناء الحرب، لكنها احتفظت لنفسها بمستعمرات أخرى لم تردها (خاصة سيلان ورأس الرجاء الصالح) واستعادت سيطرتها على هانوفر ورتّبت تفاهماً مشتركاً قوياً مع مملكة الأراضي المنخفضة Netherlands الجديدة التي تضم الآن هولندا وبلجيكا وبالتالي تضم بين جنبيها مصبَّات نهر الرّاين·
وعانت بولندا من تقسيم جديد مع بعض التحسينات· وتسلّمت بروسيا المناطق المحيطة بكلٍّ من بوزن Posen ودانزج (دانتسج Danzig) ، وتسلمت النمسا جاليسيا Galicia، وتسلمت روسيا دوقية وارسو (فرسافا) الكبرى التي أصبح اسمها مملكة بولندا وأصبح القيصر الروسي ملكاً عليها كما أصبح لها دستور ليبرالي·(ملحق/1450)
لقد خرجت بروسيا من الحرب بمكاسب أعدّتها لبسمارك (بمعنى أنها أصبحت تربة صالحة لأفكار بسمارك وجهوده): فبالإضافة إلى خُمْسَي سكسونيا ضمتّ إليها بوميرانيا Pomerania السويدية وريجن Rugen ومعظم وستفاليا ونيوشاتل Neuchatel في سويسرا، وتأثير سائد غلاب في الكونفدرالية الألمانية التي حلّت الآن محل الكيان الذي كان نابليون قد أسماه كونفدرالية الرّاين Confederation of the Rhine· واحتفظت سكسونيا بثلاثة أخماس أراضيها السابقة واستعادت ملكها· أما النمسا فبالإضافة إلى أراضيها التي كانت في حوزتها قبل مؤتمر فيينا حصلت على سالزبورج Salzburg وإليريا، ودلماشيا والتيرول والمملكة اللومبارديه الفينيسية في الشمال الإيطالي· وعادت الولايات الباباوية إلى البابا، وعادت تسكانيا إلى الحكم الهابسبورجي البوربوني· وأخيراً أدان المؤتمر تجارة الرقيق إذعاناً للمسيحية·
وخلال شهري ديسمبر ويناير 1814 - 1815 نظر المؤتمر بجدية إلى اقتراحات باتخاذ مزيد من الإجراءات مع نابليون· لقد كان من رأي بعض أعضاء الوفود أنه من المؤكد أن هذا الرجل المثير (نابليون) لن يستقر راضياً لفترة طويلة وهو حاكم لجزيرة إلبا الصغيرة، وهذه الجزيرة (إلبا) قريبة جدا (بشكل غير مريح) لإيطاليا وفرنسا· فأي إزعاج سيسببه إن هرب منها؟ وكانت هناك اقتراحات عديدة بإرسال قوة عسكرية إلى إلبا للقبض على نابليون وعزله في مكان آخر أكثر بُعدا، وأكثر أمناً لأوربا· وكان هذا أيضا هو رأي تاليران وكاسلريه، ولكن القيصر إسكندر اعترض، فاستقر الأمر على تركه في إلبا·(ملحق/1451)
وبينما المؤتمر على وشك إنهاء أعماله وصلته في بكور صباح 7 مارس رسالة تحمل خاتم طارئ وعاجل· لقد كانت هذه الرسالة من القنصل النمساوي في جنوى وموجهة إلى الوزير النمساوي ومُفادها أن نابليون هرب من إلبا· وعندما أحيطت الوفود علما وافقت على تأجيل فض المؤتمر وأن يبقوا في فيينا حتى يتم الاتفاق على عمل موحّد· وفي 11 مارس وصلت أخبار أخرى مفادها أن نابليون قد نزل بالقرب من أنتيب Antibes، وفي 13 مارس أصدر المؤتمر من خلال لجنة الثمانية إدانة لنابليون مع اعتباره مُهْدَر الدم، فكل من يقتله لا يقع تحت طائلة القانون، وكان المؤتمر قد أكمل برنامجه، لكنه رغم تفرق الوفود ظل رسميا منعقدا حتى 19 يونيو عندما وصلت أخبار بهزيمة نابليون في واترلو في اليوم السابق· ساعتها أعلن المؤتمر إنهاء أعماله رسميا·
3 - إلبا ELBA
وصل نابليون إلى بُورْتو فِرْياو Portoferraio في 3 مايو 1814· ونزل إلى البر في صباح اليوم التالي فاستقبله سكان المدينة بترحيب يفوق الوصف ظناً منهم أنه أحضر معه ملايين الفرنكات لينفقها (في جزيرتهم) وكانوا قبل ثمانية أيام قد شنقوا تمثالاً له باعتباره رجلا مولعا بالحرب إلى حدّ الجنون· لقد حَفّوه حارسين له إلى قصر الحاكم الذي أصبح لابد، الآن، يكتسي بالأبهة الإمبراطورية· وطوال التسعة شهور التالية كان على نابليون أن يكون إمبراطورا على جزيرة مساحتها 86 ميلا وسكانها 12,000 نفس· وأحاط نفسه بكل مظاهر العظمة - ملابس فاخرة وحرس ملكي وحجّاب وياورات وخدم وحشم وموسيقيين ومائة حصان وسبع وعشرين عربة، وربما كان هذا في جانب منه لإيمانه بأن المظاهر هي لعبة الحكم·
وفي 26 مايو أتى 400 عضو من أعضاء الحرس القديم لخدمته كنواة لجيش مصغّر· وأتى نحو مائتي متطوع من فرنسا كما أتاه متطوعون آخرون من إيطاليا وكورسيكا فسرعان ما أصبح لديه نحو 1,600 مقاتل مستعدين للحرب في مواجهة أية محاولة لإيذاء إمبراطورهم المحبوب رغم كراهية آخرين له· وليتمتع بمزيد من المناعة حصّن الميناء ونظّم أسطولا - سفينة كبيرة بصاريين (السفينة إنكونستانت Inconstant) وأربع سفن صغار، وكانت كلها مسلّحة·(ملحق/1452)
كيف أمكنه تمويل كل ذلك، وغير ذلك من الأعمال العامة والمشروعات التي حسّن بها أحوال الجزيرة؟ لقد كانت معاهدة فونتينبلو قد ضمنت له مبلغاً سنوياً يأتيه من فرنسا، لكن ذلك لم يحدث، ولم يتلق المبلغ· لقد كان نابليون على أية حال قد أحضر معه 3,400,000 فرنك ذهباً وفضة، وجمع 400,000 ليرة سنوياً من الضرائب وعوائد أخرى· وبعد انقضاء نصف عام راح يفكر في كيفية مواجهة هذه النفقات إذا مكث في الجزيرة أكثر من عام·
وظل لفترة سعيداً بشكل معقول، واضعاً في اعتباره أساليبه الموسّعة (المقصود خططه طويلة المدى)، وفي 9 مايو كتب إلى ماري لويز:
"وصلت هنا منذ خمسة عشر يوماً· لقد اتخذت لي محلَّ إقامة جميلا·· صحتي على ما يُرام· المنطقة (الجزيرة) · مقبولة· لا ينقصني سوى أخبار منك وتأكيدات بأنك على خير ما يرام·· إلى اللقاء يا حبيبتي· قبلة لابني"·
وكان ابن آخر مع أمه الكونتيسة المخلصة فالفسكا Walewska من بين أوَّل من زاره، وظن البحارة والمواطنون أنها الإمبراطورة، فرحبوا بها كما يجري الترحيب بإمبراطورة· وانزعج نابليون فقد كان يأمل أن تلحق به زوجته (ماري لويز) وابنه ملك روما، فاستراح ليوم أو يومين بين ذراعي فالفسكا ثم طردها برفق متعلِّلا بالأحوال· وربما تكون ماري لويز قد سمعت إشاعات مبالغاً فيها عمّا جرى في هذين اليومين·
وفي أكتوبر أتت أمه وأخته بولين للإقامة معه· وقدّمت له بولين جواهرها والتمست عنده الأعذار لما ظهر من مورا Murat من عدم ولاء· واهتمت به أمه اهتماما مفعماً بالعاطفة، وواسته وقدَّمت له كل مدّخراتها· وظلت أمه وأخته معه رغم افتقادهما حيوية الحياة الإيطالية·
ويمكننا أن نتصّور كم كان يعاني بعد الشهور القليلة الأولى من المجال الصغير للجزيرة، وضيقها عن إمكاناته الكبيرة وأحلامه العظيمة· وحاول أن يهرب من الملل بالانهماك في النشاط البدني، لكن ما كان يمضى يوم حتى تأتيه أخبار من البر الأوربي تزيده اضطرابا وتحول بينه وبين الاستقرار·(ملحق/1453)
لقد أخبره مينيفال Meneval الذي كان في خدمة ماري لويز في فيينا عن المناقشات التي جرت في المؤتمر (مؤتمر فيينا) بخصوص إبعاده عن جزيرة إلبا إلى مكان أبعد ضمانا لأمن أوربا وأضاف قائلا له إن المؤتمر ربما ينتهي في 20 فبراير· وأخبره آخرون باستياء الجيش الفرنسي، ومخاوف الفلاّحين وهياج اليعاقبة وعودة نظم العبادة الكاثوليكية إلى قوتها الأولى· وفي فبراير 1815 أرسل له هوج مار Hugues Maret ( دوق باسانو Duc de Bassano) رسالة حملها فلوري دي شابولو Fleruy de Chaboulon يؤكد له فيها كل هذه التقارير·
واندهش لهذه التقارير التي أنعشت فيه الآمال بنهاية أكثر نبلاً من الموت بسبب الفراغ والعزلة، فأخبر أمه بنواياه وطلب منها النصح، فاعتراها القلق من أنها لو تركته الآن يذهب فلن تراه مرة أخرى أبدا، فقالت له: "دعني أنعم بالأمومة لفترة وبعدها سأقول لك رأيي", لكنها علمت أنه كان قد قررّ بالفعل أن يقوم بمغامرته الأخيرة· فقالت: "له اذهب يا ولدي لتنفيذ ما كتبه القدر لك"·
لقد شعر أنّ عليه أن يعمل بسرعة· فإن انقضى وقت قصير قد لا يكون لديه الوسائل التي يدفع منها لهؤلاء الفرنسيين البالغين ألفا الذين خدموه والذين يجب أن تستمر خدماتهم· إن الظروف قد تطورت بما يسمح له بمحاولة لاستعادة عرشه والدفاع عنه ليورّثه لابنه الجميل كأدونيس Adonis بعد تدريبه على فنون الحكم· لقد كان الحلفاء ينهون مؤتمرهم وبسبيل عودتهم إلى بلادهم مصحوبين بجنودهم، وربما يكونون قد أصبحوا مستعدين للاستجابة لدعوته للسلام فُرادى· لقد كانت لياليه لا تزال طويلة، وفي جنح الليل يمكن لأسطوله الصغير أن يُفلت من المراقبة ليكون - مرة أخرى - على الأرض الفرنسية·
لقد جهّز أموره بسرية قدر الإمكان، لكن من خلال تفكيره العميق ونظره الثاقب كما هو معتاد منه· لقد أمر الحرس الإمبراطوري وثمانمائة من رماة القنابل (المجموع 1100 مقاتل) أن يُعدّوا أنفسهم ليكونوا على رصيف الميناء في مساء 26 فبراير للقيام برحلة تستغرق عدة أيام إلى جهة غير محدّدة، ومع هذا فقد استنتجوا أنهم ذاهبون إلى فرنسا وأسعدهم هذا·(ملحق/1454)
وفي مساء اليوم المحدد عانق أمه وأخته (اللتين كان عليهما أن تتجها حالا إلى أصدقاء في إيطاليا) وانضم إلى كتيبته الصغيرة وركبوا معه السفينة إنكونستانت والسفن الأربع الصغار وأبحروا بهدوء في جُنح الليل· ولم تكن الريح مواتية فكانت تهمد حينا فتترك أسطولهم بلا عون، وأحيانا كانت تقترب بهم إلى الشاطئ، واعتراهم القلق مخافة أن تعرفهم السلطات ويتم إيقافهم فيتعرضون للسجن بشكل مخز· لقد ظلوا طوال ثلاثة أيام يبحرون شمالا ثم غربا متجاوزين جنوا والريفيرا الفرنسية· وفي أثناء الإبحار على هؤلاء الرجال - ممن يعرفون الكتابة - أن يستنسخوا مئات النسخ من بيان نابليون الذي سيُوَزَّع في فرنسا:
أيها الفرنسيون
لقد سمعتُ في منفاى تفجعّكم ودعاءكم· إنكم تتطلعون إلى الحكومة التي تختارونها، فالحكومة التي تختارونها هي وحدها الحكومة الشرعية· لقد عبرْتُ البحرَ، وإنني آتٍ لاسترداد حقوقي التي هي حقوقكم - بالنسبة إلى الجيش: إن ممتلكاتك ورتبك وعظمتك ومجدك، هي ممتلكات أبنائك ورتبهم وعظمتهم ومجدهم، وليس هناك للأبناء أعداء أشد وطأة من هؤلاء الأمراء الذين فرضهم الأجانب عليكم···· إن النصر سيُسِرع الخطى، والنسر (العقاب) والأعلام الوطنية ستتحلّق فوق كل أبراج الكنائس من برج كنيسة إلى برج كنيسة آخر، بل حتى على أبراج نوتردام · ستكونون أنتم محرّري وطنكم·
4 - رحلة لا تُصَدَّق: من 1 - 20 مارس 1815م(ملحق/1455)
ظهر الأسطول الصغير الذي يحمل الإمبراطور وقَدَره أمام رأس أنتيب Cap d, Antibes في فجر أول مارس، وفي وسط النهار بدأ الجنود البالغ عددهم 1100 بالنزول إلى البر في جولف جوان Golfe Juan، وقفز بعضهم في المياه الضحلة وخاضوا إلى الساحل· وكان نابليون آخر من هبط، فأمر بإقامة معسكر مؤقت في مزرعة زيتون بين البحر والطريق من أنتيب إلى كان Cannes· وأرسل مجموعة صغيرة إلى كان لشراء خيول ومؤن على أن يدفعوا ثمنها نقدا إذ كان قد أحضر معه من إلبا 800,000 فرنك ذهبا· وأمر مجموعة أخرى أن تذهب إلى أنتيب لتحث حاميتها على الانضمام إليه، فعنَّف آمرُ الحامية مبعوثي نابليون وسجنهم ولم يحاول نابليون التوجه إليه لإطلاق سراح رجاله فقد كان قد قرر الاستيلاء على باريس دون أن يطلق طلقة واحدة·
لم يجد نابليون ترحيبا في أنتيب فلم يكن العابرون يبدون حماسا عندما كان يقال لهم إن الرجل الضئيل الحجم الذي يدرس الخرائط على منضدة في الهواء الطلق هو الإمبراطور· لقد كانت المنطقة قد أصابها الضُّر بسبب الحرب والتجنيد الإلزامي والحصار المزدوج (حصار بريطانيا للسواحل الفرنسية والحصار المضاد الذي فرضه نابليون على البضائع البريطانية) وبالتالي لم يكن لدى أهل أنتيب شهية للمزيد من هذا· وأتى محافظ أنتيب (رئيس بلديتها) ليتفحّص أحوال هؤلاء الغزاة (نابليون ورجاله) وقال لنابليون: "لقد كنا قد بدأنا نشعر بالسعادة والسكون· إنك ستفسد كلّ شيء"· وقد تذكر نابليون بعد ذلك وهو في سانت هيلينا هذا القول، فذكر لجورجو Gourgaud: " لن أقول لك كيف أثّرت فيّ هذه الملاحظة ولا الألم الذي سببته لي"· وأكد له مراسل (جاسوس) عابر أن كل الجيش والعوام يقفون إلى جانبه - على نحو أو آخر - من باريس إلى كان، لكن أهل بروفانس Provence يقفون ضدّه·(ملحق/1456)
وكان نابليون يعرف ذلك جيدا فتذكر تجاربه المريرة في أورجون Orgon قبل ذلك بأحد عشر شهرا، والآن فإن هذه الذكريات حدّدت طريقه إلى باريس· لقد اختار أن يْسلك الطريق الجبلي من كان إلى جراس Grasse، ودِنْي Digne وجرينوبل Grenoble وليون وكانت المنطقة إلى الجنوب من جرينوبل غير كثيفة السكان كما كانت الحاميات فيها قليلة العدد، وكانت مناطق معروفة بعدم موالاتها للبوربون· وكانت الجبال التي سيتعين مرورهم فوقها لازالت مغطاة بالجليد، وقد يتذمر من ذلك حرسه القديم ورماة القنابل، لكنهم لن يتخلّوا عنه·
وهكذا، في نحو منتصف ليلة الأول من مارس انطلق بجنوده البالغين 1100 في الطريق إلى كان· وكان نحو ستين منهم قد تمكنوا من شراء خيول، لكن كان عليهم أن يحفظوا المسافة والأُلفة بينهم وبين الباقين، ولهذا ساروا إلى جانب الركائب الحاملة للأمتعة· وعادة ما كان نابليون يركب عربة، وفي وسط الركب كان هناك حرس يحرس ذهب نابليون، كما كان هناك عدد من الكورسيكيين الصارمين يحمون المؤخرة·
وفي جراس تركوا مدفعهم لفرط ضخامته لأنه سيسبب مشكلة في طرق جبلية يجلّلها الجليد· وقطع المحاربون القدماء الذين اعتادوا كسب المعارك بسيقانهم (المقصود بسرعة حركتهم) مسافات طيبة، وفي الخامس من مارس وصل الرَّكب إلى جاب Gap بعد أن كان غالبهم قد قطع 150 ميلاً في أربعة أيام· وعند لامور La Mure (20 ميلا إلى الجنوب من جرينوبل) واجهوا أوّل تحٍدّ خطير·(ملحق/1457)
لقد كان قائد القسم الخامس في الجيش المتمركز في جرينوبل قد تلقّى أوامر من باريس بالقبض على نابليون فأرسل كتيبة من 500 جندي لوقف المتمردين الذين اقتربوا· وعندما اقتربت الكتيبة المعترضة وتقارب أفرادها أمر نابليون رجاله بإلقاء أسلحتهم (تنحيتها جانبا) وتقدم هو إلى الصدراة وترجّل متقدما إلى الجنود (المهاجمين) واقترب منهم، وتوقف إزاءهم وخاطبهم: "يا جنود القسم الخامس، أنا إمبراطوركم، ألا تعرفونني؟! ", وكشف عن معطفه العسكري ثم قال: "إن كان بينكم جندي يريد أن يقتل إمبراطوره، فها أنا ذا", فخفض غالبهم أسلحتهم (نحوُّها جانبا) وصاحوا: "عاش الإمبراطور" وتفرقت الكتيبة وتجمع جنودها حول نابليون سعداء محاولين لمسه، فتحدث إليهم نابليون بعاطفة جيَّاشة وعاد إلى جيشه الصغير، وهناك قال: "إن الأمور قد استقرّت وسنصبح في غضون عشرة أيام في التوليري"·
وفي تلك الليلة اقتربوا من جرينوبل فتجمهر مئات الفلاحين والبروليتاريا للترحيب بنابليون، وعندما وجدوا إحدى بوابات المدينة مغلقة كسروها ليتمكن جيشه الصغير من العبور، وترك رجاله المرهقين لينالوا قسطا طيبا من الراحة حتى ظُهر اليوم التالي، وذهب هو نفسه إلى فندق تروا دوفين Trois Dauphins ( الدلافين الثلاثة)، فرحب به رئيس المجلس البلدي ومسئولو الإدارة، بل وجاء القادة العسكريون لتحيته·
وفي الصباح أقبلت إليه وفود أكبر طالبة منه أن يتعهَّد بحكومة دستورية· لقد كان يعلم أنّ جرينوبل كانت في طليعة الثورة وأنها لم تفقد أبداً تعطّشها للحرية فحدّثهم حديث من ترك أفكار تركز السلطة في يد الحاكم (الحكم الاستبدادي) ووعدهم بالإصلاح· لقد اعترف أنه كان أسرف في استخدام السلطة وأنه كان قد سمح للحرب التي كانت دفاعية في الأساس لتصبح موجّهة للغزو فاستنزفت فرنسا تقريبا، ووعد أن يقدم لفرنسا حكومة نيابية على وفق مبادئ 1789 و1792· وقال لهم إن: "أعزّ أمانيه الآن هو أن يُعد ابنه ليكون زعيما ليبراليا جديرا بحكم فرنسا المتنوّرة"·(ملحق/1458)
وبعد ظهر هذا اليوم (8 مارس) أمر أتباعه بمواصلة مسيرتهم لأنه سيبقى يوما آخر في جرينوبل لإصدار توجيهات للمدن التي قبلت قيادته لكنه وعد جماعته بالانضمام إليهم ثانية في الوقت المناسب لمساعدتهم في تحقيق انتصارات سلمية· وفي العاشر من مارس انضم إليهم وقادهم إلى ليون·
وقبيل هذا الوقت، وصلت أخبار مغامرة نابليون إلى لويس الثامن عشر، فلم ينزعج في البداية، وشعر بالثقة في أن هذا المتَّهم (نابليون) سُرعان ما سيتم إيقافه· لكن عندما استمرت مسيرة نابليون واقتربت من جرينوبل - المعروفة بعدائها للبوربون - أصدر (أي لويس) إعلانا في السابع من مارس يحُضُّ فيه كل مواطن على المساعدة في القبض على هذا المجرم المزعج (نابليون) لإعدامه بعد محاكمة عسكرية، كما صدر مرسوم بإيقاع العقاب نفسه على كل من ساعده· واستدعى الملك نَيْ Ney من محل تقاعده وطلب منه أن يقود قوّة عسكرية ضد نابليون، فوافق، لكن قصّة تعهّده بأن يأتي بنابليون في قفص حديدي، ربما كانت قصة موضوعه· لقد أسرع نَيْ Ney جنوبا، وتولّى قيادة كتيبة عسكرية في بيسانسو Besancon واستدعى الجنرال دي بورمون de Bourmont والجنرال ليكورب Lecourbe للانضمام إليه بقواتهما عند لون - لي - سونييه Lons-Le-Saunier ( شمال غرب جنيف)، وتوجه للستة آلاف مقاتل الذين جُمّعوا على هذا النحو بكلام حماسي شديد لإلهاب شجاعتهم· لقد قال لهم: "حسنا· هذا الرجل القادم من إلبا حاول تنفيذ مشروعه الغبي، وسيكون هذا آخر عمل له", ولم يتجاوب معه رجاله إلا قليلا·(ملحق/1459)
وفي ذلك اليوم (10 مارس) كانت ليون ترحِّب بنابليون، فقد كان الصنّاع وأصحاب المصانع هناك قد انتعشت أحوالهم في ظل الحصار القاري الذي فتح كل أوربا (ما عدا إنجلترا) أمام منتجات ليون ولم يكن أهل ليون يحبون المهاجرين (الذين تركوا فرنسا إِثْر أحداث الثورة الفرنسية) الذين عادوا الآن إلى المدينة وراحوا يتصرفون كما لو أن الثورة الفرنسية لم تقم في وقت من الأوقات أو بتعبير آخر راحوا يتصرفون كما كانوا يتصرفون قبل الثورة· وفي وسط هذا الاستياء راح أصحاب الأعمال - لأسباب خاصة بهم - يرحبون بنابليون، وكان كثيرون من أهل المدينة يعاقبة متحمِّسين كما ظهرت الآن على السطح تيارات لم تكن ظاهرة راحت ترحب بنابليون على أمل أن يعود بهم إلى عام 1789· وكان الفلاحون في المناطق الداخلية قلقين بشأن أراضيهم، وراحوا يتطلعون إلى نابليون كمخلّص سينهي لصالحهم معركة استرداد الأراضي المؤمّمة أو الأراضي التي وزعتها الثورة من ممتلكات الكنيسة، وكان جنود حامية ليون توّاقين لوضع عقدة الشريط الأحمر على حرابهم·
لكل هذا فتحت ليون بواباتها، فهرب الملكيون وابتسم البورجوازيون وابتهج العمال والجنود، بينما كان نابليون يقود كتيبته في المدينة· وأقبل مسئولو البلدية والقضاة بل وبعض القادة العسكريين ليقدموا ولاءهم له، فأجابهم بأن وعدهم بحكومة دستورية وبانتهاج سياسة السَّلام· وانضمت الحامية كلها - فيما عدا الضباط النبلاء - إلى جيشه المتضخّم (الذي راح عدده يزداد بالتدريج) وهو يواصل مسيرته إلى باريس· لقد أصبح عدد جيشه الآن 12,000 كلهم مستعد للحرب بناء على أوامره، لكنه كان لا يزال عاقداً الأمل على إحراز النصر دون إطلاق النار·(ملحق/1460)
وكتب إلى ماري لويز واعداً إياها أن يكون في باريس في 20 مارس (الذكرى السنوية الثالثة لميلاد ابنه) وقال لها إنها ستُسعده سعادة فوق الحد إن استطاعت اللحاق به هناك حالا· وكتب إلى نَيْ Ney ملاحظات ودودة كما لو أن صداقتهما لم تشبها شائبة قط، ودعاه للالتقاء به في شالون Chalons ووعده أن يلقاه كما لقيه بعد معركة بورودينو Borodino، أي كأمير موسكو Prince of Moskva وفي 14 مارس دعا نَيْ Ney ( وكان لا يزال في لون - لي - سونييه Lons-Le-Saunier) جنوده جميعا وقرأ عليهم الإعلان الذي كلفه حياته بعد ذلك: أيها الجنود إن قضية البوربون قضية خاسرة وإلى الأبد· فالأسرة الحاكمة الشرعية لفرنسا على وشك أن تعتلي العرش· إن الإمبراطور نابليون هو حاكمنا وهو الذي سيحكم بلدنا العظيم من الآن فصاعدا فهزّ الجنود الأرض بصيحاتهم وهتافهم المتكرر: "عاش الإمبراطور عاش المارشال نَيْ! ", وعرض عليهم أن يقودهم للانضمام إلى قوات نابليون، فوافقوا، ووجدهم نابليون في أوكزير Auxerre في 17 مارس· وفي 18 مارس استقبل نابليون المارشال ني Ney وتجدّدت صداقتهما وبعدها لم يجسر أحد على اعتراض سبيل الزحف إلى باريس·
وفي مساء 17 مارس اجتمع الملك لويس 18 بالمجلسين في قصر البوربون، مرتديا زيه الملكي كاملا وأعلن عزمه على مقاومة نابليون· قال:
لقد عملتُ لسعادة شعبي، أيمكن - وأنا في الستين من عمري - أن أجد نهاية أفضل من الموت دفاعا عنه؟
وأمر بتعبئة كل القوى الملكية، وقد استجاب له بعض ممثلي هذه القوى وكان معظمهم - بشكل أساسي - من جنود حرس أسرته، أما الجيش النظامي فكان متوانياً بطيء الاستجابة، ولم يظهر قائد قدير يعرض قيادته لهذا الجيش أو بث الحماس فيه· وشرعَ الملكيون والموالون للملكية في الهجرة (تَرْك فرنسا) مرة أخرى·
وغصّ صالون مدام دي سيتل بالإشاعات وراحت هي أيضا تفكّر في الهرب· وفي 19 مارس نشرت جريدة (جورنال دي ديبات Journal des de bats) ( أي: جريدة المناقشات) مقالا بقلم عشيق مدام دي ستيل غير الدائم - بنيامين كونستانت يعيد فيه تأييده للويس الثامن عشر والحكومة الدستورية، ثم اختفى في مساء اليوم نفسه (أي أخفى نفسه وسترها عن العيون) ·(ملحق/1461)
أما لويس الثامن عشر نفسه الذي كان دوما كارها للانتقال فقد أجّل رحيله حتى وصلته الأخبار في 19 مارس بأن نابليون وصل إلى فونتينبلو، ومن المتوقع أن يصل باريس في اليوم التالي· وفي الساعة الحادية عشر مساء ركب لويس 18 مع أسرته خارجاً من التوليري قاصدا ليل Lille تلك المدينة الموالية للملكية بشدّة لكن الملك – بلا شك - فكر في أخ له انطلق في رحلة مماثلة في سنة 1791 فأعاده الشعب سجينا (إشارة إلى محاولة الهرب التي قام بها لويس 16) · وفي 20 مارس قام بعض البونابارتييّن المتحمّسين - بعد أن علموا أن قصر التوليري قد خلا من الملك وحرسه - بدخول القصر بفرح غير منضبط، وأعدوا الغرف الملكية لاستقبال نابليون· وكان جيش نابليون كلما تقدم لهدفه ازداد عدده· وبقي نابليون نفسه في فونتينبلو حتى الثانية ليلا· يُملي الرسائل ويصدر التعليمات، ومن المفترض أنه تجوّل بشغف بالقرب من القصر الذي شهد كثيرا من أحداث التاريخ بما في ذلك تنازله عن العرش للمرة الأولى، ذلك التنازل الذي حان وقت إلغائه والثأر ممن كانوا سببا فيه· ووصل باريس في نحو الساعة التاسعة صباحا بصحبة بيرتران Bertrand وكولينكور Caulaincourt، فساروا ولا يكاد تعرفهم أحد حتى وصلوا التوليري، وهناك كان جمع من الأقارب والأصدقاء حيّوه بعاطفة جيّاشة وحملوه ليرقوا به الدرجات، وراح ينتهي من عناق أحدهم حتى يعانق الآخر حتى جلس أمامهم منهكا مذهولا لكنه كان سعيدا إلى درجة أن الدموع ذرفت من عينيه· وأتت هورتنس Hortense فوبّخها لأنها قبلت تودّد إسكندر إليها، فدافعت عن نفسها، فرقّ لها وأخذها بين ذراعيه وقال:
"أنا أب طيب·· أنت تعرفين هذا··· وأنتِ حضرت موتَ جوزيفين البائسة· لقد آلم قلبي موتها رغم أني كنت أعاني من أمور سيئة كثيرة"·(ملحق/1462)
وهكذا انتهت هذه الرحلة التي تفوق الخيال: 720 ميلا من كان إلى باريس في عشرين يوما، وأنجزها غالب الجنود والمرافقين سيرا على الأقدام، وأوفى نابليون وعده بأن تتم إعادة فتح فرنسا دون إطلاق نار· والآن كونّ حكومة جديدة لإعادة السلام والوحدة في البلاد واستعد لمواجهة 500,000 جندي تجمعوا من روسيا وبروسيا والنمسا وإنجلترا ليعيدوه إلى جزيرته الصغيرة أو إلى جزيرة أخرى أبعد أو إطلاق النار عليه·
كل نهاية هي بداية، ففي 20 مارس 1815 بدأ نابليون فترة حكم المائة يوم Hundred Days منها·
5 - إعادة البناء
لقد كانت عملية استعادة الحكومة والجيش والإرادة الوطنية عملية صعبة تواجهها عوائق ثلاثة: عدم شرعية موقفه، واتحاد القوى الخارجية المعادية له، وتفرّق شعبه·
هاهو مرة أخرى يستولي على السلطة بالقوة، كما حدث في سنة 1799 أو على الأقل بالتهديد باستخدام القوة ويزيح حكومة مستقرة تشريعيا· وحقيقة أنه استولى بالقوة على سلطة نُزِعت منه بقوّة السلاح، لكنه كان قد تنازل عن العرش كما أن السينات Senate قدَّم العرش للويس 18 فقبله كحق شرعي له، وهو الآن (أي لويس 18) لم يتخلّ عنه (أي عن العرش) · لقد بدا في نظر الحلفاء وعدد غير قليل من الفرنسيين مغتصباً· لقد زاد اتحاد أعدائه الأجانب ضدّه عن ذي قبل أي عن أيام معاركهم المشتركة ضده في عامي 1813 و1814· لقد أجمعت الأمم العديدة التي مُثّلت في مؤتمر فيينا على أنه خارج على القانون·(ملحق/1463)
لقد تعهّدت كل من روسيا وبروسيا والنمسا وإنجلترا بأن تقدم كل منها 150,000 مقاتل لخوض معركة جديدة لإخفائه من فوق مسرح الأحداث، ولم تكن هذه الدول وحدها، فقد قامت فدرالية الراين الجديدة بل وسويسرا الصغيرة بالإسهام في تكوين حاجز بشري ضده وتقديم المال اللازم للانقضاض عليه· وأرسل لهم نابليون عرضاً ذليلا للمفاوضات دون إراقة دماء فلم يتلقَّ منهم ردا، وناشد والد زوجته (إمبراطور النمسا فرانسيس الثاني) للتدخل لصالحه لدى المتحالفين الآخرين ضده، فلم يتلق منه ردا، وكتب لزوجته (ماري لويز) يتوسّل إليها أن تُلين عريكة والدها، ومن الظاهر أن الرسالة لم تصل إليها· وفي 25 مارس أعلن الحلفاء أنهم لن يشنوا الحرب على فرنسا ولكنهم لن يُبرموا أبداً سلاماً مع نابليون بونابرت مخافة أن يقود فرنسا ثانية - راغبةً أو غير راغبةٍ - في حرب أخرى تزعزع مؤسسات النظام الأوربي·
لم تكن فرنسا موحّدة بأية حال في مواجهة حلفاء متحدين· لقد ظل فيها آلافُ الملكيين للدفاع عن قضية الملك الغائب (لويس 18) وتنظيم دفاعاتهم وفي 22 مارس رحب مئات من الملكيين بالملك (لويس18) عند وصوله إلى ليل Lille هاربا من باريس وحزنوا عندما تركهم مواصلا طريقه إلى جنت Ghent ليكون مرة أخرى تحت حماية القوات الإنجليزية - وفي الجنوب الفرنسي كان الملكيون أقوياء قوَّة تمكنهم من إحكام السيطرة على بوردو Bordeaux ومرسيليا· وفي الغرب الفرنسي هب إقليم فندي الكاثوليكي شديد التمسك بكاثوليكيته، هب مرَّة أخرى حاملا السلاح ضد نابليون الذي كانوا يعتبرونه ملحداً اضطهد باباهم، وتحالف مع قاتلي الملك، وكان حليفا لليعاقبة crypto-Jacobin في السر كما كان مدافعا عنيدا عن الاستيلاء على أموال الكنيسة· وفي مايو سنة 1815 أرسل نابليون 20,000 مقاتل لقمع هذا العصيان المسلح في إقليم الفندي Vendee، لكنه في وقت لاحق راح يندم على ذلك فلو أن هذا العدد من الجنود (20,000) قد انضم إليه في معركة واترلو فربما كان قد ربحها·(ملحق/1464)
وفي مواجهة أعدائه داخل فرنسا قد يجد بعض عناصر الدّعْم العام لم تكن كلها متمشية مع آرائه وطبيعته، وكان الجيش هو الأكثر توافقاً معه، ذلك الجيش الذي كان مخلصا له (فيما خلا القوات الموجودة في بوردو Bordeaux والفندي) باعتباره مخطط النصر والمكافئ عليه· وكانت الشرائح الدنيا من الأمة الفرنسية - الفلاحون والبروليتاريا وجماهير المدن - على استعداد لإتباع قيادته لكنها - أي هذه الشرائح - كانت تأمل أن يتمكن من تجنّب الحرب، كما أنهم لم يعودوا يعبدونه عبادة تجعله متكبراً طائشا· ولازال هناك كثير من اليعاقبة في المدن راغبين في نسيان عداوته لهم إذا ما أعلن ولاءه للثورة· وقد قبل تأييدهم له لكنه لم يتعهّد بالانضمام إليهم في حربهم ضد التجّار ورجال الدين·
وكان نابليون محلّ إعجاب الطبقة الوسطى باعتباره واضع أسس النظام الاجتماعي والأخلاقي منذ مذابح سبتمبر، وقد أصبح هذا النظام محور فلسفته السياسية، ولكنها - أي الطبقة الوسطى - لم تقدم له الدّعم ولم تقدّم له أبناءها· لقد كانت الطبقة الوسطى تقدّر حرية التجارة وحرية الصحافة لكنها لم تكن تؤيد حرية الاقتراع العامة (السرية) أو الحديث العام؛ فقد كانت تخشى الرّاديكاليين وترغب في قَصْر حق الانتخاب على الملاَّك· لقد كان أفراد الطبقة الوسطى قد انتخبوا مجلس النواب وقرروا حماية حقوق هذا المجلس لمواجهة سلطان الملك (أو الإمبراطور) وسياساته· كما أن ذلك القسم الصاعد من البورجوازية (الصحفيين والمؤلفين والعلماء والفلاسفة) قد أوضح بجلاء أنه سيحارب بكل أسلحته أي محاولة يقوم بها نابليون لفرض سلطة إمبراطورية مرة أخرى·(ملحق/1465)
أما البطل الذي يواجه التحدي فكان هو نفسه ممزّقاً بين الغرض والرغبة· لقد كان ما يزال يعمل بجد، يراقب كل شيء ويدوّن كل شيء، وأحيانا كان يُملي 150 خطابا في اليوم· لكن فَرْط انتباهه وحذره أوْهنه إذ تبيّن الآن أنه لا يمكنه - إلاّ قليلا - الاعتماد على جنرالاته الجُدد أو مجلسيْه أو الأمة بل ولا حتى على نفسه· لقد كانت الأمراض التي تمكنت منه طوال الست سنوات التالية قد أضعفته بالفعل، لقد وتّره داء البواسير وأذلّه فلم يعد قادرا على العمل لمدة طويلة كما كان حاله أيام تألقه في مارينجو Marengo، وأوسترليتز Austerlitz · لقد كان قد فقد شيئا من صفاء ذهنه ووضوح غرضه وثقته القديمة في النصر؛ تلك الثقة التي كانت مصحوبة بالتفاؤل والبهجة· لقد كان قد بدأ يشك في نجمه his star·
اختار نابليون في المساء نفسه الذي وصل فيه باريس وزارة جديدة، لأنه كان في حاجة إلى عونها تماما· واعتراه السرور عندما علم أن لازار كارنو Lazare Carnot منظّم النصر في أثناء الثورة مستعد لخدمته لمواجهة أعدائه لكن نابليون وجده كبير السن (62 عاماً) لا يتحمل معركة حربية، لكن نابليون عينه وزيرا للداخلية باعتباره شخصا يمكن للجميع الوثوق به· ويكاد يكون هذا السبب هو نفسه الذي دعاه لاختيار جوزيف فوشيه Fouche وزيرا للشرطة إذ كان قد بلغ من العمر ستا وخمسين عاما يخشى الجميع بأسه ويشكّون فيه، وكان يدير شبكة خاصة من الجواسيس وتكاد تكون له علاقات سرّية بكل الفرق، وربما أسرع الحاكم الذي هو في عجلة من أمره (نابليون) للاستعانة به بعرض منصبه (منصب فوشيه) القديم عليه، رغبة منه (نابليون) في إحكام مراقبته والتدقيق في أعماله وتوجهاته بالإضافة إلى أن أحداً ما لا يشكك في قدرات فوشيه · وظل فوشيه محتفظا بأوضح رؤية كما كان متمتعا بمرونة لا حد لها طوال معظم الفترة المعقَّدة التالية· لقد كتب في مذكراته:
الإمبراطور في نظري مجرّد ممثل احترق، لن يستطيع إعادة ما كان قد أنجزه· وحتى في أثناء عمله مع نابليون نجده قد تنبأ في نحو نهاية شهر مارس أنه - أي نابليون - لن يستطيع البقاء أكثر من ثلاثة أشهر·(ملحق/1466)
وكانت الخطوة التالية، بعد اختيار الحكومة هي تنظيم جيش· لقد كان لويس 18 قد شعر بعدم جدوى الجيش سوى لضبط الأمور الداخلية، وبالتالي فقد ألغى التجنيد الإلزامي وقلّص القوات العسكرية إلى 160,000 رجل، فأعاد نابليون التجنيد الإلزامي في شهر يونيو لكن هؤلاء الشباب المحظوظين لم يكونوا قد جُنّدوا عندما أنهت معركة واترلو الحرب· ودعا نابليون الحرس الوطني للاستعداد لأداء خدمات عسكرية كاملة بما في ذلك الحرب ضد الأجانب، فرفض كثيرون منهم، ولم يمثل سوى 150,000· وبهؤلاء وبعض المتطوعين بالإضافة إلى الجيش القائم أصبح في إمكانه أن يحشد في يونيو 300,000، مَرْكَزَ معظمهم في الدوائر (المحافظات) الشمالية وأمرهم بانتظار أوامر أخرى·
وفي هذه الأثناء كررّ مرة أخرى أعماله الجليلة كما كان في سنة 1813 و1814 بتدبير المؤن والمواد اللازمة للجيش الجديد· واستورد سرا البنادق والمدافع من إنجلترا عدوته الأثيرة· ولم يستطع استخدام كل مارشالاته السابقين لأن بعضهم نذر نفسه لخدمة لويس الثامن عشر، لكن كان لا يزال في خدمته كل من ني Ney ودافو Davout وصول Soult وجروشي Grouchy وفاندام Vandamme· ودرس خرائط الطرق والتضاريس وتقارير تحركات العدو وخطط لكل الجوانب الكبيرة في المعركة القادمة· وفي هذا التخطيط كان في ذروة تألقه العقلي وفي ذروة سعادته· ورغم أنه كان يقبض على زمام الحكم إلاّ أن مهمته الثالثة ألا وهي كسب الدّعم الجماهيري، كانت هي الأصعب من مهامه الثلاث - لقد كانت كل العناصر تقريبا - فيما عدا الملكيّين - يطالبون بالتزامه بدستور يحمي حرية الحديث والصحافة ويجعله مسئولاً أمام برلمان منتَخَب· وكان هذا ضد مزاجه على نحو موجع، لأنه كان قد اعتاد لفترة طويلة على الحكم المطلق، وشعر أنّ موجّها (مُرشدا) مقتدرا حسن النوايا مثله أفضل للبلاد من برلمان اللَّغو والمناقشات، ومع هذا ففي إيماءة منه للتسوية أرسل يستدعي بنيامين كونستانت (6 أبريل) لصياغة دستور لتهدئة الليبراليين دون أن يُغِلّ يد العرش·(ملحق/1467)
لقد كان نابليون يعرف أنه كتب ضدَّه بعنف لكنه كان يعرف أنه صاحب أسلوب محكم وعقل مَرِن· وأقبل كونستانت - غير واثق من مصيره - فتم استقباله ليجد أن كل ما يطلبه الإمبراطور منه هو أن يرتجل دستورا يرضي كلاً من نابليون ومدام دي سيتل، فظل يعمل في هذا المشروع طوال أسبوع، ويعرض كل يوم ما أنجزه على (صاحب العمل) وفي 14 أبريل قدم نتاج عمله لمجلس الدولة· لقد أقترح ملكية دستورية يكون المُلك (بضم الميم) فيها متوارثا وتكون السلطة التنفيذية في يد رأس الدولة هذا، لكنه سيكون مسئولاً أمام مجلس الشيوخ الذي يعين أعضاءه الحاكم (الملك) · ومجلس تشريعي (من 600 عضو) يضم ممثلين ينتخبهم الشعب عن طريق جمعيات (لجان) وسطى (أي بين الشعب والحكومة) وألغت مواد معينة رقابة الدولة وضمنت حرية العبادة، وحرية الصحافة· وبهذه الطريقة التقليدية تماما وجد الإمبراطور وكاتبه (المقصود كونستانت) أنهما جمعا بين مزايا الديمقراطية والأرستقراطية والملكية·
وبعد أن قبل نابليون كل هذا أصر على تقديم الدستور الجديد للشعب لا باعتباره تبرؤاً من حكمه الماضي وإنما باعتباره وثيقة إضافية تشهد بالحريات التي كانت موجودة بالفعل في ظل الإمبراطورية (من وجهة نظر نابليون) واعترض كونستانت ومستشاروه الليبراليون واستسلموا· وفي 23 أبريل طُرِحت (الوثيقة الجديدة) للاستفتاء العام على كل الناخبين المسجَّلين، ورفض الملكيون التصويت وامتنع آخرون كثيرون· وكانت نتيجة التصويت 1,552,450 لصالح الدستور واعترض 4800، وأمر نابليون بضرورة اجتماع الشعب في كامب - دي مارس Champ-de-Mars لإقامة احتفال جماهيري رسمي احتفاءً بالدستور وبداية حقبة جديدة ولمباركة الجنود ووداعهم في أثناء الرحيل· وتم تأجيل هذا الاحتشاد إلى أول يونيو حيث شاهدت الجموع نابليون في أبهته الملكية:
لقد أقبل مرتديا ملابسه الإمبراطورية في عربة تتويجه التي تجرها خيول أربعة يسبقه إخوته كأمراء للإمبراطورية· ولم تكن الجموع سعيدة بهذا العبق الآتي من مََاضٍ مات· ماذا جرى للدستور الجديد؟(ملحق/1468)
لقد قابلته الأمة ببعض التشكّك وكثير من عدم الاهتمام فقد كان من الجلى أن كثيرين تشكّكوا في إخلاصه وإمكان استمراره، بل إن نابليون نفسه أبدى شواهد متناقضة· لقد شعر فيما يقول لا كاس Las Cases أنّ الشكّ في إخلاصه ليس له ما يبرّره:
"لقد عُدت من جزيرة إلبا رجلا جديدا"· إنهم لا يستطيعون تصديق هذا· إنهم لا يستطيعون أن يتخيلوا أن المرء قد يكون لديه من قوة العقل والنفس ما يمكنه من تغيير شخصيته أو ما يمكنه من الانحناء أمام قوة الظروف· وعلى أية حال فإن لدي ما يثبت هذا وهناك آخرون يخضعون للتأثير نفسه· من يجهل أنني لست رجلا ناقص التدبير؟ إنه يمكنني أن أكون مخلصا للملكية الدستورية والسلام تماما كما كنت مخلصا للحكم المطلق والمشروعات (التوسعية) الكبرى"·
لكن جورجو Gourgaud وهو مخلص لنابليون، كما عادة ما يكون محل ثقة (في رواياته) نقل عن نابليون قوله:
لقد كنت مخطئا في إضاعة وقت ثمين في مسألة الدستور، فلم هذا ما دامت نيتي قد انعقدت على إزاحتهم جميعا (النوَّاب) حالما أُحقّق النصر؟ ·
لقد كان قد خطط ألاّ يدعو المجلسيْن للانعقاد إلاَّ بعد المعركة حين قد يأيتهم مُكلَّلاً بنصرٍ مُقْنِع· لكن لافاييت Lafayette الذي كان قد خرج من مكان اعتزاله وقد بلغ الثامنة والخمسين من عمره، ليلعب دورا في هذه الدراما (الأحداث)، فقد أحرّ على عقد اجتماع لمجلس النوَّاب قبل مغادرة نابليون للانضمام إلى جنوده· وأذعن نابليون واجتمع المجلس في 3 يونيو، وسرعان ما أبدى المجلس ما يشير إلى اتجاهه إذ انتخب لرئاسته الكونت جان - دينيس - لانجواني Jean-Denis Lanjuinais عدو الإمبراطور اللدود· وفي 7 يونيو ذهب نابليون في زى بسيط إلى قصر البوربون، وخاطب المجلسين المجتمعْين معا بتواضع طالب أن يُقسم كل عضو للالتزام بالدستور والإخلاص للإمبراطور·
وفي 12 يونيو، في نحو الساعة الثالثة صباحا غادر نابليون باريس - وأهلها نيام - قاصداً الجبهة·
6 - المعركة الأخيرة
6/ 1 - 15 يونيو 1815 بلجيكا(ملحق/1469)
كانت خطة نابليون للمعركة القادمة تقوم على المعلومات التي جمعها عن حجم قوات الحلفاء وتقسيمها وقيادتها وموقعها وإستراتيجيتها القادمة· لقد كانت قوات الحلفاء قد تباطأت في تقدمها غرباً لإتاحة الوقت اللازم لوصول القوات الروسية واشتراكها في المعركة، لكن تقدم نابليون السريع حسم المسألة قبل وصول القوات الروسية لنهر الراين·
وفي أول يونيو تجمع جيش بروسي قوامه 120,000 مقاتل بالقرب من نامور Namur في بلجيكا بقياده المارشال بلوخر (بلوشر Blucher) البالغ من العمر 73 سنة· وإلى الأبعد شمالا كان الدوق ولينجتون Wellington ( كانت مهمته في البرتغال وإسبانيا قد انتهت بالنصر) على رأس ما أسماه الجيش سيء السمعة المكوّن من 93,000 مجنَّد بريطاني وهولندي وبلجيكي وألماني، وكان معظمهم لا يعرف الواحد منهم سوى لغة واحدة مما سبّب مشكلة للقائد الإنجليزي· وكان على ولينجتون أن يعوّض نقص تدريبهم، بقرارات وحلول يبتدعها من عند نفسه على وفق خبرته· وقد رسم له لورنس صورة شخصية وهو في لحظة تأمل تُظهره في وضع فخور (معتز ينفسه) وملامح وسيمة ونظرة هادئة ثابتة، ومن هذه الصورة يمكن أن نستنتج ما كان يجب على نابليون المرهَق والمعتَل كبير السن أن يفعله عند المواجهة في 18 يونيو·
وكان نابليون قد ترك جزءاً من جيشه لحماية باريس وخطوط مواصلاته· ولم يكن مع نابليون سوى 126,000 مقاتل مما يسمّى بجيش الشمال Armee dn Nord لمواجهة 213,000 مقاتل بقيادة بلوخر وولينجتون وبطبيعة الحال فقد كان يأمل أن يلتقي بواحدٍ من الجيشين (جيش بلوخر أو جيش ولينجتون) ويهزمة قبل أن يجتمع شمل الجيشين، ومن ثم يعطي جيشه قسطا من الراحة ويعيد تنظيم صفوفه قبل خوض معركة مع الجيش الآخر·
لقد كان الطريق بين الجيشين المتحالفين (جيش بلوخر وجيش ولينجتون) يمتد من نامور عَبْر سومبريف Sombreffe إلى كاتر - برا – Quatre-Bras ( أربعة جيوش) ومن ثمّ غرباً (حيث يتسع الطريق عن ذي قبل) من الحدود الفرنسية البلجيكية عند شارلروي Charleroi فشمالاً من واترلو إلى بروكسل· وكان هدف نابليون الأول هو الاستيلاء على كاتر - برا Quatre-Bras ومن ثم يُوصد الطريق بين الجيشين الحليفين·(ملحق/1470)
وكان نابليون قد أصدر تعليمات بأن تتقارب الكتائب الثلاث من جيشه (جيش الشمال) في 14 يونيو عند نهر سامبر Sambre في مواجهة شارلروي · وانضم هو إلى واحدة من الكتائب الثلاث وأمر الكتائب الثلاث جميعا بعبور النهر إلى الأرض البلجيكية نحو الساعة الثالثة من صباح 15 يونيو، وتمَّ هذا، فاستولوا بسهولة على شارلروي بعد أن هزموا حاميتها البروسية الصغيرة·
وعلى أية حال، ففي الوقت نفسه انهزم الجنرال لويس دي بورمون لصالح الحلفاء وأفضى إلى ضباط بلوخر بخطط نابليون· لكن الحَذِر (بلوخر) كان قد استنتج هذه الخطط وبالتالي فقد كان قد أرسل جانبا من جيشه غربا إلى سومبريف Sombreffe وانضم إليه في نحو الساعة الرابعة من صباح 15 يونيو· لقد قسم نابليون الآن جيشه إلى ميمنة بقيادة جروشي Grouchy وميسرة بقيادة ني Ney وقوة احتياطية بقيادة درو دَرْلو Drouet d'Erlon بالقرب من شارلروي لتهب لنجدة جروشي أو نَيْ على وفق ما تمليه الظروف· وكان على جروشي أن يتقدم شمالا بشرق نحو سومبريف لمواجهة بلوخر· وكان على نَيْ Ney أن يتوجه شمالاً للاستيلاء على كاتر - برا وأن يمنع في كل الأحوال قوات ولينجتون من الانضمام إلى قوات بلوخر· ولأن نابليون نفسه كان يتوقع صداما حادا مع بلوخر، فقد ركب مع جروشي·(ملحق/1471)
ونَيْ Ney الذي كان حتى الآن أشجع الشجعان راح طوال 15 و16 يونيو يتبع سياسة الحذر التي عطلت خطط نابليون بشكل سيء· لقد توجه شمالا من شالروي وطرد البروسيين من جوسِّيل Gosselies ومن ثمَّ توقّف مخافة مواجهة قوات ولينجتون الأكثر عددا· لقد أرسل فصيلة خيّالة (فرسان) لدراسة الموقع عند كاتر - برا فعادت له بتقرير مُفاده أنها خالية من قوات العدو، فقاد 3,000 من رجاله للاستيلاء عليها اعتقادا منه أن هذا سيكون كافيا لكن في الوقت الذي رأى فيه كاتر - برا، كانت قوات الأمير بيرنهارد الساكس - فيماري Bernhard of Saxe-Weimar البالغ عددها 4,000 مقاتل قد استولت عليها، وكان بيرنهارد يصحب معه أربعة مدافع، فاستدار نَيْ Ney عائدا إلى جوسيل وراح ينتظر هناك تعليمات أخرى· وأرسل بيرنهارد رسالة إلى ولينجتون طالبا أن يحضر بقواته الرئيسية إلى كاتر - برا مخافة أن تأتي قوات ني Ney سريعا لحصارها·
وفي الساعة الثالثة صباح 15 يونيو تلقى ولينجتون في بروكسل أخبارا مفادها أن جيش نابليون قد عبر إلى بلجيكا، واحتفظ ولينجتون بقواته في حالة استعداد قرب العاصمة البلجيكية ظناً منه أن نابليون سينفذ خطته المعتادة بالإسراع للقيام بهجوم جانبي (على جناح العدو) · وفي تلك الليلة كان هو وكثيرون من ضباطه الرجال الشجعان منهمكين مع النسوة الجميلات إذ كانوا في حفل راقص أعدته الدوقة ريشمون Richmond وفي أثناء الحفل تلقى في منتصف الليل الرسالة التي تُفيد أن كاتر - برا في خطر، فأصدر أوامره بهدوء لضباطه بالاستعداد للانطلاق في بكور الصباح، أما هو فلم يُعكّر صفو الحفل الراقص وظل يرقص حتى الساعة الثالثة صباحا·
6/ 2 - 16 يونيو لِنيْ Ligny
في نحو الساعة الثانية من صباح 16 يونيو، أرسل المارشال سول (صول Soult) رئيس أركان نابليون أوامر نهائية إلى ني Ney:(ملحق/1472)
كلَّفني الإمبراطور أن أحيطك علما بأنّ العدو جمَّع جانبا من قواته بين سومبريف وبري Brye وأنه في الساعة الثانية والنصف صباحا سيهاجم بالفصيل الثالث والرابع هذه القوات· إن صاحب الجلالة الإمبراطور يريد أن تهاجم أيّ عدو تواجهه وبعد الضغط عليه بشدّة وإجباره على التراجع، عُد إلينا لتنضم إلى قواتنا لتطويق العدو·
لقد أحضر بلوخر كل رجاله البالغ عددهم 83,000 لمقاومة الفرنسيين، وبدأت المعركة في نحو الساعة الثالثة بعد الظهر بالقرب من مدينة لني (ليجني Ligny) بهجوم متزامن (في الوقت نفسه) تقوم به ميمنة جروشي بقيادة فاندام وقلب قوات جروشي بقيادة جيرار Gerard، وميسرة جيشه (جيش جروشي) بالإضافة إلى سلاح الفرسان بقيادة جروشي نفسه، بينما يوجِّه نابليون العمليات الثلاث التي ينفذها 78,000 مقاتل· وسرعان ما اتضح أنّ تحطيم بلوخر المهيب ليس أمراً سهلا، وإذا كان لابد أن ينهزم الفرنسيون هنا إذن فقد تنهار معركتهم كلها (يفقدوا المعركة الأساسية كلها) · وفي الساعة الثالثة والربع أرسل نابليون إلى ني Ney:
سيتبدّد الجيش البروسي إن حاربت بضراوة· مستقبل فرنسا بين يديك، لذا فلا تتوانَ للحظة في إنجاز ما أُوكِلَ إليك، ثم عد إلى سان أمان Amand وبري Brye لتشارك في النصر الذي قد يقرر مصيرنا جميعا·
لكن ني Ney أيضا كان يواجه صعوبات· فبحلول الساعة الثالثة بعد الظهر كان ولينجتون قد جلب معظم جيشه إلى كاتر - برا Quatre-Bras· ولم يعلم نابليون بهذا (لأن السيطرة على وسائل الاتصال كانت قد أفلتت من صول)، لذا فقد أرسل الأوامر إلى درو درلو في شارلروي ليسرع شمالا بقوات الاحتياط التابعة له ليهاجم ميمنة بلوخر، وتقدم درو بالفعل حتى كاد يصل إلى لني (لجني) حيث وصله طلب عاجل من ني Ney ليندفع مسارعا إلى نجدته في مواجهة قوات ويلنجنون الأكثر عددا في كاتر - برا، ووجد درو أن طلب ني Ney هو الأكثر إلحاحا فسارع إليه ليجده - بعد جهود يائسة - قد تخلَّى عن محاولة طرد ولينجتون من المدينة (كاتر - برا) ·(ملحق/1473)
في لني (لجني) استمرت المعركة ست ساعات من المذابح· وتذكر ضابط بروسي - في وقت لاحق - ما حدث، قائلاً: "لقد راح الرجال يذبح بعضهم بعضا بكراهية شديدة وكأنما الواحد منهم يكن للآخر كراهية شخصية"· إن قريتين هادئتين مثل سان أمان ولا هاي La Haye كانتا تنتقلان من حَوْزة فريق إلى حَوْزة فريق آخر، والحرب على أشدها رجلا إزاء رجل، واشتعلت النيران في لني (لجني) نفسها، وبينما الليل يرخى سدوله والمطر يهطل، أمر نابليون حرسه القديم بمهاجمة قلب Center القوات البروسية، وأصبح المطر مصحوبا برعد، فأفسح القلب البروسي الطريق، وسقط بلوخر الذي كان لا يزال يقاوم من فوق حصانه، وكان لابد من حمله بعيدا· وكانت القوات الفرنسية قد اعتراها إرهاق شديد فلم تحّول هزيمة أعدائها إلى هزيمة منكرة لا قيامة بعدها· وانسحبت القوات البروسية شمالا نحو ويفر Wavre مُخلِّفة وراءها 12,000 قتيل وجريح· وكان نابليون نفسه قد كاد يستنفد كل موارده وأعصابه، فلو أن ولينجتون كان قد استطاع الوصول هذه اللحظة إلى هنا من كاتر - برا لما كانت هناك حاجة إلى معركة واترلو·
6/ 3 - 17 يونيو المطر(ملحق/1474)
لقد كان من صالح نابليون أن جعل المطُر الغزيرُ المعركة الكبرى مستحيلة في 17 يونيو· لقد كانت الأرض غاصّة بالطين فكيف يمكن سحب المدافع وتثبيتها فوق أرض مشبعة بالمياه وغير ثابتة بسبب الطين الكثير فوقها؟ ربما كانت هذه الأوضاع واضحة في عقل الإمبراطور عندما وصلته رسالة من ني Ney تفيد أنَّ ولينجتون قابض على زمام الأمر في كاتر - برا Quatre-Bras، ولمحّ - أي ني Ney - إلى أنه: "لا يمكن إخراجه منها إلاّ بالقوات الفرنسية مجتمعة"، فأجابه نابليون بعبارة مبهمة لابد أنها تركت ني Ney أكثر ارتباكاً من ذي قبل: "تمسّك بموقعك عند كاتر - برا ·· لكن إن كان هذا مستحيلا، أرسل حالاً معلومات عن الموقف، وسيتصرف الإمبراطور على وفقها· وإذا···· لم يكن هناك إلاَّ مؤخرة جيش العدو فهاجمها واستولِ على الموقع"· وكان هناك أكثر من المؤخرة، ورفض ني Ney أن يجدّد الهجوم· وكان ولينجتون - بعد أن علم بهزيمة بلوخر - قد سحب جيشه شمالاً إلى هضبة مونت سان جان Mont St. Jean التي يمكن الدفاع منها وتراجع هو إلى مركز قيادته بالقرب من واترلو·
ووجّه نابليون جنراله جروشي على رأس 30,000 لمتابعه البروس طوال يوم 17 يونيو ولمنعهم في كل الأحوال من الانضمام إلى قوات ولينجتون أما هو نفسه (نابليون) فقاد 40,000 ممن نجوا من معركة لني (لجني) لينضم إلى ني Ney عند كاتر - برا، وعندما وصل في الساعة الثانية مساء ثبطت همته فتفجّع صارخا ضاعت منا فرنسا! فراح يلاحقه وقاد هو نفسه عملية الملاحقة هذه لكن المطر الكثيف أجبره على إنهاء هذه العملية، وفي التاسعة مساء حيث كانت الرطوبة شديدة ركب عانداً قاطعا ميلا أو ميلين لينام في مخدع في كيلو Caillou بينما عسكر جيشه المنهك على أرض رطبة طوال الليل، وكان المطر قد توقف·
6/ 4 - الأحد 18 يونيو واترلو(ملحق/1475)
في الثانية صباحاً أرسل بلوخر رسالة إلى ولينجتون يعده فيها بأن جيشا بروسيا بقيادة الجنرال فريدريش فيلهيلم فون بولو Friedrich Wilhelm Von Bulow سيغادر ويفر فجراً لينضم بقواته إليه لقتال الفرنسيين، وأن جيشين بروسيّين آخرين سرعان ما سيتبعانه· وفي العاشرة صباحا أرسل نابليون الذي لم يكن يعلم بهذا التدبير تعليمات إلى جروشي لمواصلة ملاحقة بلوخر إلى ويفر Wavre·
لقد كان قد خطط ليبدأ العمليات في التاسعة صباحا لكن قادة المدفعية حثّوه على التأجيل حتى تبدأ التربة في الجفاف· وفي هذه الأثناء ركز ميلنجتون قواته فوق أرض مرتفعة جنوب تل مونت سان - جان Mont St. Jean لقد كان معه 70,000 مقاتل و184 مدفعاً، أما نابليون فكان على رأس 74,000 مقاتل وكان معه 266 مدفعاً· وكان مع كل منهما (ولينجتون ونابليون) جنرالات كان لهم مكانة في التاريخ (أو حققوا في هذه المعركة مكانة): الأمير فريدريش البرونسفيكي Friedrich of Brunswick ( ابن الدوق الذي خسر في فالمي وجُرِح جرحاً مميتا في أورشتدت Auerstedt) ودورنبرج Dornberg وألتن Alten وكمبت Kempt وسومرست Somerset وأكسبردج Uxbridge وهِل Hill وبونسونبي Ponsonby وبيكتون Picton، وكان كل هؤلاء مرتبطين بولينجتون، وكان كل واحد منهم معتزا بنفسه كدوق· وبالإضافة إلى هؤلاء كان هناك بولوف Bulow وتسيدتن Zieten وبيرخ (بيرش Pirch) تحت قيادة بلوشر (بلوخر)، وبالنسبة إلى الفرنسيين كان هناك ني Ney وجروشي وفاندام وجيرار وكامبرون وكيلرمان Kellermann وريل Reille ولوبو Lobau ونابليون·(ملحق/1476)
لقد كان نابليون قد بدأ يدفع حساب سنواته المزدحمة بالأحداث حيث كان يأكل بعجلة ويضاجع بعجلة ويعاني غاية التوتر وهو فوق العرش أو في ميدان المعارك وأخيرا وجد سلواه في الأكل بنهم· وبعد ذلك بست سنوات أثبت تشريح أعضائه بعد مماته وجود ست علل· والآن في واترلو كان عليه أن يظل ممتطياً جواده طوال ساعات بينما هو يعاني من داء البواسير، وكان يعاني من حصوات في المثانة، وكان عُسر البول يتطلب منه محاولة التبول مرارا وغالبا ما يكون ذلك في أوقات غير مناسبة· وربما يكون السرطان الذي أودى بحياته وحياة أبيه قد بدأ فعلاً في التغلغل في بدنه· هذه المتاعب قد ثبطت من همته وأثرت في شجاعته وصبره وثقته:
لم أعد أجد في نفسي الإحساس بالنجاح النهائي··· إنني أحس أن الحظّ قد تخلّى عني ومع هذا فقد أكّد لجنرالاته الذين اعتراهم الخوف (من المفترض أن ذلك لتقوية عزيمتهم): إذا تم تنفيذ أوامري بشكل جيد، فسننام الليلة في بروكسل·
لكن جنرالاته كانوا يرون الموقف بشكل أوضح· لقد نصحه صول Soult أن يأمر جروشي Grouchy بالاتجاه بقواته البالغ عددها 30,000 غربا بالسرعة الممكنة لينضم إلى الهجوم، لكن بدلاً من ذلك سمح نابليون لهم أن يضيعوا الوقت وأنفسهم في مطاردة قوات بلوخر شمالاً حتى ويفر Wavre، ومن المفترض أنه كان يأمل أنه إذا اتجه البروس غربا لمساعدة ولينجتون لاستطاع جروشي مهاجمة المؤخرة· وقد ارتكب ولينجتون على وفق ما ورد في تحليل لاحق سلسلة من الأخطاء المماثلة بتركه 17,000 من رجاله بالقرب من بروكسل لمواجهة هجوم فرنسي جانبي على طرقه المهمة والحيوية المؤدية إلى البحر·(ملحق/1477)
وأمر نابليون في الساعة الحادية عشرة صباحا جيشه ببدء الهجوم على قلب (مركز أو وسط) العدو حيث كان المقاتلون من الاسكتلنديين الأشداء · وقاد ني Ney قواته باندفاعه وبسالته المعروفين لكن البريطانيين ثبتوا وراحوا من وراء تل بعد تل ينشرون الموت بالجملة بمدافعهم (التي أخفوها عن الأعين) في صفوف الفرنسيين الذين اعتراهم الهلع· وفي نحو الساعة الواحدة بعد الظهر رأى نابليون من موقع المراقبة جنوب غرب العمليات جيشا في أقصى الشرق يتحرك صَوْب ميدان العمليات، فأخبره أسير ألماني أن هذه القوات هي طليعة قوات بولو Bulow البروسية تتقدم لمساعدة ولينجتون
فأرسل نابليون كتيبة بقيادة الجنرال لوبو لوقف القوات البروسية المتقدمة، وأرسل إلى جروشي لمهاجمة بولو (بولوف) Bulow ثم القدوم لمساعدة الجيش الفرنسي الرئيسي ضد ولينجتون وفي نحو الساعة الحادية عشرة صباحا توجه جروشي شمالا بين جمبلو Gembloux وويفر فسمع صوت إطلاق المدافع قادما (أي الصوت) من الغرب، فحثّه الجنرال جيرار Gerard ليكفَّ عن ملاحقة بلوخر وأن يشق طريقه عبر المنطقة ليضم جنوده البالغ عددهم 30,000 إلى قوات نابليون، والتقى جروشي بجزء من قوات بلوخر وهزمها، ودخل ويفر فاستراح بقواته بعد أن وجد بلوخر قد ابتعد بقواته·
لكن في هذا الوقت (الساعة الرابعة عصرا) كانت معركة واترلو في ذروتها: تلاحم صاخب بين رجال يقتلون ويُقتلون (بضم الياء) يفقدون ضربات إستراتيجية أو يستعيدونها، يواجهون الخيول المندفعة يتلقَّون ضربات السيوف أو يروغون منها، يسقطون ويموتون في الوحل· وفر الآلاف من الجانبيْن تاركين ساحة الوغى· وقضى ولينجتون جانبا من وقته يُرهب الفارين للعودة إلى مواقعهم· وتولّى ني Ney مهمّة بعد مهمّة ومسئولية بعد مسئولية، وماتت تحته أربعة خيول·(ملحق/1478)
وفي نحو الساعة التاسعة مساء تلقى أمراً من نابليون بالاستيلاء على لاهاي سانت La Haye Sainte - الهولي هيدجرو the Holy Hedgerow· ونجح في مهمته وظن أنه وجد طريقا (فتحة) إلى مؤخرة ولينجتون، فأرسل إلى نابليون طالبا مزيدا من الجنود المشاة واندفع متقدما·واستشاط نابليون غضبا بسبب تقدّمه الطائش إذ لم يكن لدى نابليون الدّعم العسكري الكافي الذي يُمكن إرساله إليه دون أن يكون ذلك على حساب الخطة العامة (أي دون أن يؤدّي هذا إلى إضعاف الموقف العام) لكنه - أي نابليون - شعر أنه لا يجب تَرْك هذا البائس ليهلك ومن معه، فأمر كيلرمان Kellermann بالتوجه لدعْم نَيْ بثلاثة آلاف من الفرسان المدّرعين (اللابسين دروعا) ·
وعندما طلب قائد الخط البريطاني الأخير دعماً من ولينجتون أجاب الدوق بأنه لا يستطيع تقديم أية تعزيزات· ويُقال إن الضابط أجابه: "حسنا جدا يا سيدي اللورد، إننا سنصمد حتى آخر رجل"· وعندما بدأ هذا الخط الإنجليزي في الانكسار اندفع الفرسان الفرنسيون إلى الأمام للمشاركة في النصر؛ فعلّق ضابط إنجليزي هو الكولونيل جولد Gould: " لقد انتهى كل شيء", وهربت كتيبة هانوفرية عند هذا الحد إلى بروكسل، وراح أفرادها يصيحون جميعا: "خسرنا المعركة، والفرنسيون قادمون"·
وحقيقة الأمر أن البروسيِّين كانوا هم القادمين· لقد كسر بولو (بولوف Bulow) ( البروسي) مقاومة لوبو Lobau ( الفرنسي) وراح يقترب بسرعة من مسرح العمليات الرئيسية، كما كانت قوتان بروسيتان أخريان تقتربان· ورأى نابليون أنّ فرصته الأخيرة هو أن يهزم الإنجليز قبل أن يتمكّن البروسي من التدخّل، فدعا حرسه القديم ليتبعه في معركة حاسمة، واتخذ هارب فرنسي طريقه إلى ولينجتون وحذّره ستصل إليك قوات الحرس الفرنسي في غضون نصف ساعة· وفي نحو هذا الوقت رأى رجل مراقبة بريطاني - نابليون، وقال: "ها هو نابليون يا سيدي أظن أنني أستطيع اصطياده، هل أطلق عليه النار"؟ فمنعه الدوق:
"لا·· لا·· فالجنرالات الذين يقودون الجيوش، لديهم ما هو أهم من إطلاقهم النار بعضهم على بعضهم الآخر"·(ملحق/1479)
وهنا ظن الفرنسيون أنّهم الغالبون، لكنهم علموا فجأة بهجوم 30,000 جندي بروسي راحوا ينشرون الفزع والفوضى في صفوف الفرنسيين· وعندما شرع ني Ney في مواصلة مهمته تماسكت القوات البريطانية بسرعة وتراجع ني Ney، وانتهز ولينجتون هذه الفرصة فصعد قمة منحدر وراح يلوّح بقبعته - كإشارة متّفق عليها لتتقدَّم قواته كلها، وواصلت الطبول والأبواق توصيل الرسالة، فتحوّل 40,000 إنجليزي واسكتلندي وبلجيكي وألماني من الدفاع إلى الهجوم واندفعوا متقدمين لا يهابون الموت· ووهنت الروح المعنوية للفرنسيين وعمهم الانهيار فولّوا مُدْبرين، حتى أفراد الحرس القديم بدءوا يُديرون رؤوس خيولهم متراجعين·
وصاح نابليون مُصدرا الأوامر بالتوقف فذهب صوته أدراج الرياح وسط الجلبة، ولم يعد من الممكن تمييزه (التعرف عليه) بسبب دخان المعركة والأتربة المتصاعدة فاستسلم لهذا الاستفتاء العام (بمعنى أنه أذعن للتحركات العفوية لقوّاته) فأمر بالانسحاب في تشكيلات لكن القوات الفرنسية التي كانت تتعرض لهجوم من قوات تفوقها عدداً بكثير، من المقدمة ومن الجانب - لم يكن لديها الوقت لتنظم نفسها في تشكيلات، فأصبح شعار كل فرد فيها "دع كل فرد يُنقذ نفسه بقدر ما يستطيع" لقد أصبح هذا هو الشعار السائد سواء نطقوا به أم لا، ذلك أنهم لم يعودوا جنودا بل بشراً ليس إلاّ·
ووسط هذه الهزيمة وقف المارشال ني Ney مذهولا بلا حصان، وقد اسودّ وجهه بالبارود وتمزقت ثيابه العسكرية، وسيفه مكسور في يده، هذا السيف الذي طالما حقق به النصر· كان هذا هو وضع ني Ney بطل الأبطال في واترلو,· لقد انضم هو ونابليون إلى أربعين ألف فرنسي يندفعون في الطرقات والحقول إلى جيناب Gennape وإلى كاتر - برا وإلى شارلروي Charleroi ومن ثم عبروا بكل وسيلة متاحة نهر سامبر Sambre إلى فرنسا· لقد ترك الفرنسيون في ميدان المعركة 25.000 ما بين قتيل وجريح و8,000 أسير، وفقد ولينجتون 15,000 وفقد بلوخر 7,000. والتقى المنتصران (ولينجتون وبلوخر) في الطريق بالقرب من لا بِل أليانس La Belle Alliance وتبادلا القبلات فرحاً بالنصر· وترك ولينجتون مهمة ملاحقة الفرنسيين للبروس المتحمسين·
وبلوخر أيضا كان كبير السن بدرجة لا تسمح له بالمطاردة، فترك هذه المهمّة لجنايسناو Gneisenau في جيناب التي أرسل منها خطابا لزوجته: "بالتنسيق مع صديقي ولينجتون أبدنا جيش نابليون"· لكنه كتب أيضا لصديقه كنيزبك Knesebeck: " لقد اضطربت كل أعضائي، فقد بذلنا جهودا مُضنية"·
أما ولينجتون فقد بَسَط الأمر أمام لورد أكسبردج Uxbridge بطريقة حماسية: "لقد وجهنا لنابليون ضربة حاسمة فليس أمامه إلاّ أن يشنق نفسه"·
وفي أثناء الانسحاب انضم نابليون إلى كتيبة أكثر انضباطا من غيرها، وترجّل وسار على قدميه مع الآخرين· وبكى لضياع جيشه، وحزن لأنه لم يَلْق حتفه·(ملحق/1480)
الفصل الثامن والثلاثون
إلى سانت هيلينا (هيلانا) St. Helena
1 - التنازل الثاني عن العرش: في 22 يونيو 1815م
وصل نابليون إلى باريس في نحو الساعة الثامنة صباح يوم 21 يونيه· وذكر في وقت لاحق لقد كنُت منهكاً تماما، لأنني لم آكل شيئا ولم أنم منذ ثلاثة أيام وذهب إلى قصر الإليزيه، وقال لكولينكور Caulaincourt ملتمساً: "أريد أن أستريح ساعتين"· وفي هذه الأثناء اجتمع مجلس النوّاب، وكان الشعور العام يميل بشدّة لعزله· ولما علم بهذا الاتجاه، اقترح على أصدقائه أن الأمر يتطلب دكتاتورية مؤقتة نظراً لاضطراب الآراء في البلاد، والحاجة إلى عمل موحّد للدفاع عن فرنسا وعاصمتها في مواجهة الحلفاء، وذلك لضبط الأمة وحكومتها·
وعندما علم أهل باريس بالنكسة العسكرية تجمع عدد كبير منهم أمام قصر الإليزيه مؤكّدين استمرار ثقتهم في نابليون بهتافهم: "عاش الإمبراطور" وراحوا يطالبون بالسلاح للدفاع عن مدينتهم· ولما سمعهم نابليون قال لبنيامين كونستانت Constant:
" أنت ترى! ليس هؤلاء هم الرجال الذين أغدقت عليهم التشريف والأموال· بماذا هم مدينون لي؟ إنني أراهم بؤساء، وقد تركتهم بؤساء··· إنني لو أردتُ لأنهيتُ وجود هذا المجلس Chamber المتمردّ في ظرف ساعة··· لكن حياة شخص واحد لا تستحق هذا الثمن· إنني لا أريد أن أكون ملك الفلاّحين Jacqueries· إنني لم آت من إلبا لأُغرق باريس في الدماء"·(ملحق/1481)
لقد كان نابليون حتى في أثناء فراره من واترلو Waterloo يخطط لإقامة جيش جديد من 300,000 مقاتل· وفي الفترة من 22 إلى 24 يونيو كانت بقايا جيشه المهزوم تتجمع في لون Loan وكان هناك من يُعيد تنظيمها تقع لون على بعد ستة وسبعين ميلا إلى الشمال الشرقي من باريس)، وهناك - في 26 يونيو - انضم إلى هذه البقايا جروشي Grouchy على رأس 30,000 من رجاله بعد انسحاب عبقري· وعلى أية حال، ففي هذه الأثناء، كان بلوخر Blucher قد جمّع قواته المنتصرة وكان يقودها نحو باريس متجنبا - بعناية - المرور بلون Laon· وتردّد ولينجتون Wellington الذي أُضير جيشه ضررا شديدا في الانضمام إلى البروسي المندفع لكنه سرعان ما كان على الطريق نفسه (إلى باريس) متجنبا المرور بلون Loan، وفي الفترة نفسها (22 - 25 يونيو) كانت جيوش النمسا وبافاريا Bavaria وفيرتمبرج Wurttemberg تعبر نهر الراين في طريقها إلى باريس· إن التاريخ يُعيد نفسه·
وقرر مجلس النواب بعد مناقشات حامية أن مقاومة القوات المتحالفة مسألة غير عملية وأن الأعضاء سيصرّون على اعتزال نابليون· وعمل فوشيه Fouche بأساليبه الحاذقة على ضمان هذا الاعتزال، وكان فوشيه قد تنبأ قبل واترلو أن الإمبراطور سينتصر في معركة أو معركتين لكنه سيُهزم في الثالثة وعندها سيبدأ دورنا لكن فوشيه لم ينتظر طويلا، لقد اندفع لوسيا Lucien - أخو نابليون - إلى المجلس Chamber طالبا التريّث فعارضه فوشيه وتساءل لافَايِيت Lafayette:
ألم يستهلك نابليون ما يكفي من الحيوات؟ (جمع حياة) · لقد فشل لوسيا الآن فيما كان قد نجح فيه في سنة 1799، ولكنه نصح نابليون أن يُطيح بالمجلسين بالقوة، فرفض نابليون· لقد كانت المعركة قد استنفدت قواه، وكانت الهزيمة قد أضعفت من إرادته لكنها أنارت بصيرته، وبينما كانت الجماهير تهتف حول القصر "عاش الإمبراطور"، راح يُملي على أخيه لوسيا في 22 يونيو 1815 صيغة اعتزاله للمرة الثانية موجها إيّاه للمجلسين:(ملحق/1482)
"لقد عملت على إعادة توحيد كل الجهود·· وموافقة كل الأجهزة في الحكم في بداية الحرب التي كان هدفها تحقيق استقلال الأمة، لكن الظروف تبدو لي وقد تغيرت··· إنني أقدم نفسي فداء (أضحية) لمواجهة كراهية أعداء فرنسا· ربما كانوا صادقين في إعلاناتهم من أنهم حقيقة لا يريدون إلاّ الخلاص منّي· اتحدوا جميعا لتحقيق السلامة العامة ومن أجل ما بقي من استقلال إرادتنا·· إنني أعلن تنصيب ابني باسم نابليون الثاني"·
ووافق كل الوزراء على هذا التنازل ما عدا كارنو Carnot فقد بكى، أما فوشيه فقد غمرته السعادة·
وقبل المجلسان هذا التنازل متجاهلين تعيين ابنه ذي الأعوام الأربعة (وكان وقتها في فينا) كخَلَف له، واختار المجلسان خمسة من أعضائها " فوشيه وكارنو Carnot، وكولينكور، وجرينييه Grenier ( الجنرال الغامض) وأونيت Ouinette عضو الجمعية الوطنية الثورية القديمة"، ليكونوا مجلسا تنفيذيا Commission Executive وحكومة مؤقتة· وتم اختيار فوشيه رئيسا للمجلس التنفيذي وشرع مباشرة في التفاوض مع الحلفاء ونابليون· ومخافة القيام باضطرابات شعبية لصالح نابليون·
حثَّ دافو Davout القائد العسكري في باريس على إقناع نابليون بمغادرة باريس والإقامة في مالميزو Malmaison· وفي 25 يونيو غادر نابليون قاصدا مالميزو بصحبة برتران Bertrand وجورجو Gourgaud وكونت دي لا كاس de Las Cas وكونت دي مونثولو Montholon، فرحبت به هورتنس بدعوته إلى بيت أمها الراحلة· وراح يمشي مع هورتنس Hortense في الحديقة ويتحدث برقة عن جوزيفين· لقد قال: "حقا لقد كانت أفضل امرأة عرفتها"·
إنه يفكّر الآن في البحث عن الملجأ والأمان في أمريكا· لقد طلب من بيرتران أن يدبّر له مجموعة كتب عن الولايات المتحدة· وكان قد قرأ كتاب إسكندر فون همبولدت Humboldt رحلات إلى القارة الجديدة، وقد اعتزم أن يكرّس ما بقي من حياته للعلم· انه يود الآن الذهاب إلى أمريكا لاكتشاف أرضها وغطائها النباتي وحيواناتها من كندا إلى رأس هورن Horn،(ملحق/1483)
وفي 26 يونيو أرسل إلى الحكومة المؤقتة طلباً للانتقال إلى روشفور Rochefort ليُبحر إلى أمريكا· فأمر فوشيه على الفور وزير البحرية بتجهيز فرقاطتين في روشفور لنقل نابليون إلى الولايات المتحدة وفي اليوم نفسه زار نابليونَ أخوه جوزيف وأخوه لوسيا وأخوه جيروم، وكانوا جميعا قد قرروا مغادرة فرنسا، وكان جوزيف يريد الهجرة إلى أمريكا مع أخيه نابليون· وربما يكونون هم الذين أحضروا له خطابا من أمهم تعرض عليه فيه كل ما تملك فأرسل لها شاكرا ولم يأخذ منها شيئا· فلازال معه قدر كبير من المال مع البنكيِّ جاك لافيت Jacques Lafitte الذي أتي بنفسه إلى مالميزو ليرتب أمور نابليون المالية·
وفي 28 يونيو أتاه ضابط يحذره من اقتراب البروس من مالميزو قُربا يكفي لإرسالهم فصيلاً عسكريا للقبض عليه، وبالفعل فقد كان بلوخر قد أرسل رتلاً سريعا آمراً وإيّاه بإحضار نابليون حيا أو ميتا وعبر عن نيته بإطلاق النار عليه كمجرم خارج على القانون· وعندما سمع جورجو بهذه النية أقسم لئن رأى الإمبراطور وقد سقط في أيدي البروس لأطلق النار عليه، ومع هذا كان نابليون كارها لمغادرة مالميزو الذي حفلت كل غرفة وممراته بذكريات سعيدة· وفي 29 يونيو كلّف فوشيه الجنرال بكه (بكر Becker) بالتوجه بفرقة من الجنود لإجبار نابليون على الاتجاه إلى روشفور·
ووافق نابليون، وأقنعته هورتنس بقبول قلادتها الألماسية الموضوعة في حزام والتي تساوي 200,000 فرنك· وودع نابليون الجنود القلائل الذين كانوا في حمايته· وفي الخامسة مساء (29يونيو) ركب عربة ذات غطاء تجرها أربعة خيول مصحوبا بحرس عسكري قليل العدد وغادر مالميزو، وبعد ساعات قليلة من مغادرته وصلت خيّالة بلوخر·
2 - البوربون يستعيدون العرش للمرة الثانية:
7 يوليو 1815(ملحق/1484)
راح المجلسان والحكومة المؤقتة يتناقشون هل يحاربون الحلفاء الذين اقتربوا أم يتفاوضون للوصول لأفضل الشروط المتاحة· وعرض دافو أن يقود الميليشيا الموجودة بالمدينة (باريس) ضد ولينجتون وبلوخر إن أصرّا على إعادة لويس 18 إلى العرش· وخاف النوَّاب أن تؤدي المقاومة والهزيمة إلى تمزيق فرنسا وما يعقب ذلك بوقت وجيز، من فضّ المجلسين معا· ولم تكن بقايا جيش نابليون المعروف بجيش الشمال في حالة نفسيه تسمح بهزيمة أخرى (واترلو أخرى) بالإضافة إلى نقص المؤن، بينما كانت قوات الأعداء موحَّدة بين لون Loan وباريس·
وعندما علم لويس الثامن عشر أن فريقاً من الحلفاء كان يعمل على إحلال لويس فيليب (دوق دأورليان Duc d'Orleans) مكانه كملك لفرنسا انتقل وهو في حالة قلق من جنت Ghent إلى شاتو كمبريزي Cateau-Cambresis وأصدر من هناك (في 25 يونيو) بيانا يعد فيه بالترضية (التسوية) ونظام الحكم الليبرالي· وأدى هذا إلى ابتهاج المجلسين، وفي 30 يونيو وقَّعت الحكومة الفرنسية المؤقتة والحلفاء شروط تسليم العاصمة· كان على كل القوات الفرنسية أن تنسحب فيما وراء نهر اللوار مع ضمان أمن المواطنين وممتلكاتهم· وفي السابع من يوليو دخل الحلفاء باريس وفي الثامن من يوليو أصبح لويس 18 مرة أخرى ملكاً لفرنسا· واستخدم مدير شرطة دائرة (محافظة) السين Seine عند الترحيب به عبارة المائة اليوم Cent Jours للمرّة الأولى ليصف بها الفترة الواقعة بين اغتصاب نابليون الملك للمرة الثانية (20 مارس) واستعادة لويس 18 عرشَه·(ملحق/1485)
وقبل معظم الفرنسيين وَقْف المقاومة باعتباره الحل العملي الوحيد للمشاكل الناجمة عن انهيار حكم نابليون المفاجئ· وعلى أية حال فإن بلوخر قد أطلق صيحة احتجاج مؤدّاها أنه سيطلب من مهندسيه نسف جسر بونت دينا Pont d'Iena وذلك الجسر الذي يُذكّر بانتصار الفرنسيين على البروس في سنة 1806، واقترح تدمير كل ما يذكّر بنابليون (المقصود الآثار والنصب التذكارية··· الخ)، وانضم ولينجتون مع لويس 18 في حث بلوخر على الكف عن كل ذلك، لكنه أصر، غير أن وصول القيصر إسكندر والملك فريدريك وليم والإمبراطور فرانسيس الثاني على رأس قوات روسية ونمساوية وبيدمونتية أدى إلى إجبار الوطني العجوز (بلوخر) على التهدئة من حدة غضبه· لقد بلغ إجمالي القوات الأجنبية الآن نحو 800,000 لابد أن يُطعمها الشعب الفرنسي لقاء حمايتها له policing ( أي قيامها بدور رجال الشرطة)، وعلى وفق حساب كاسلريه Castlereagh فإن هذا كان يكلّف فرنسا 1,750,000 فرنك في اليوم (لإطعام الذين يحتلّون بلاده)، وبالإضافة إلى هذا كان على كل ولاية أو منطقة أو محافظة أن تدفع للحلفاء تعويضات حرب، وكانت هذه التعويضات باهظة·
وأخبر لويس 18 قادةَ الحلفاء أنهم إذا لم يلتزموا بإعلان 25 مارس واستمروا في معاملة رعاياه كأعداء، فإنه سيترك فرنسا باحثاً عن ملجأ له في إسبانيا· فوافق الحلفاء على تخفيض تعويضات الحرب إلى خمسين مليون فرنك متذرّعين بأنهم راضون تماما بقوانين الحرب وبالسوابق التي رسخّها نابليون عندما غزا بروسيا والنمسا·(ملحق/1486)
ووجدنا أيضا الملكيّين في بعض المدن الفرنسيّة منهمكين في إرهاب أبيض White Terror ثأرا من الإرهاب الأحمر الذي أدى إلى مقتل عدد كبير من الملكيّين في عامي 1793 - 1794 · ولم يكن هذا الإرهاب الأبيض دائما بغير إعدام عاجل، فعندما تظاهر فريق من الملكيّين في مرسيليا مطالبين بعودة لويس الثامن عشر إلى العرش قام بعض جنود الحامية المحلية ممن لا زالوا موالين لنابليون بإطلاق النار عليهم · وسرعان ما أوقف القائدُ إطلاق النيران وحاول أن يقود جنوده خارج المدينة المعادية لكن في أثناء خروجهم تعرَّض مئات منهم لقذائف النيران التي أُطلقت عليهم من النوافذ ومن فوق الأسطح (25 يونيو)
وفي هذا اليوم واليوم الذي تلاه راح الملكيون المسلحون يجرون حول المدينة مطلقين النار على البونابرتييِّن واليعاقبة فسقط منهم مئة ضحيّة، وكان كثيرون من هؤلاء الضحايا لا يزالون يهتفون حتى وهم يحتضرون عاش الإمبراطور وراحت النسوة الملكيات يرقصن حول جثت البونابرتييِّن واليعاقبة·
وفي أفنيون Avignon سجن الملكيون البونابرتيِّين وقتلوهم· وثمّة شخص كان الملكيون يبحثون عنه على نحو خاص، إنه جولوم برونيه Guillaume Brune الذي كان متهماً بحمل رأس الأمير لامبل Lamballe على سن رمحه في سنة 1792. لقد اختبأ في فندق أفنيون وعثرت عليه الجماهير فأطلقت عليه النار وجرّت جثته في شوارع المدينة وراحوا يضربون جثة بنشوة حانقة، ثم ألقوها في الرون Rhone وراح الرجال والنساء يرقصون بنشوة وسعادة (2 أغسطس 1815) · وشهدت مُدن نيم Nimes ومونبلييه Montpellier وتولوز Toulouse مشاهد مماثلة·(ملحق/1487)
لقد كان لويس 18 رجلا متسامحا لا يمكن عَزو هذه البريرية له، لكنه لم يكن قادرا على التسامح مع ني Ney الذي سبق أن تعهد له (تعهد للويس 18) بإحضار نابليون حيا أو ميتا لكنه تخلّى عن وعده وانضم إلى نابليون وتسبب في موت كثيرين في واترلو· لقد فرّ ني Ney من باريس في 6 يوليو وراح يتنقل متخفيا من مدينة إلى أخرى لكن تم التعرف عليه فقُبض عليه وقُدّم إلى محكمة مكونة من 161 عضوا (نبيلا) Peers أصدرت حكمها بأنه متهم بالخيانة فتم إعدامه بإطلاق النار عليه في 7 ديسمبر سنة 1815 بعد أن رفض أي خدمات دينية من القسس (رفض أن يُلقنه القسس أصول المسيحية الكاثوليكية كما رفض الطقوس الكنسية المرتبطة بالموت) ·
لقد أصبح فوشيه وتاليران الآن في خدمة (وزارة) لويس 18 لقد انتصرا لكنهما لم يكونا سعيدين· لقد وصم الملكيون في مجلس الوزراء فوشيه بأنه ضالع في قتل لويس 16 ونصحوا الملك بطرده، وسوّى الملك الأمر بتعيينه وزيرا له (سفيرا) في سكسونيا (15 سبتمبر) لكنه استدعاه بعد ثلاثة أشهر ونفاه من فرنسا، فراح فوشيه يتنقل من براغ إلى لينز (لينتس Linz) إلى تريست حيث مات في سنة 1820 عن عمر يناهز الواحد والستين عاما مارس فيها كثيرا جدا من الشرور والسلوك الطائش·
وكان تاليران يضارعه مكرا ودهاء ويفوقه تحملا وصمودا· لقد وصفه لويس 18 بسطور من كورنيل Corneille: " لقد فعل معي كثيرا من الأمور الطيبة تمنعني من ذكره بشر، وألحق بي كثيرا من الأذى مما يمنعني من ذكره بخير",.
ويبدو أن تاليران هو الذي قال (في سنة 1796) عن البوربون:
"إنهم لم يتعلموا شيئا ولم ينسوا شيئا"·(ملحق/1488)
لكن هذا القول لا يكاد ينطبق على لويس الثامن عشر الذي تعلّم كيف يتعامل مع المجالس المنتخبة وكيف يُرحِّب بجنرالات نابليون وكيف يُبقي على كثير من التشريعات النابليونيّة· وكان الوزراء الملكيون يكرهون تاليران ليس لأنه كان شريكا في المؤامرة على قتل الملك (لويس 16) فحسب وإنما أيضا باعتباره خائنا لطبقته، وأذعن لويس 18 لهم فطرده (24 سبتمبر 1815)، ولكن تاليَران عاد إلى منصبه، وعاش بعد لويس 18 بل وعاش بعد تنازل شارل العاشر (1830) وتم تعيينه سفيرا لفرنسا لدى بريطانيا العظمى (1830 - 1834) وهو في السادسة والسبعين من عمره· وعندما انتقد مركِز لوندوندري Londonderry السفيرَ تاليران في مجلس اللوردات دافع عنه ولينجتون الذي كان قد تعامل مع السيد تاليران في مواقف كثيرة فوجده على حد تعبير دوق ولينجتون أكثر من عرف من الرجال حماسا ومهارة في حماية مصالح بلاده (فرنسا) وأكثر من عرف من الرجال استقامة وشرفا في تعامله مع الدول الأخرى· وعندما قرأ تاليران هذه الكلمات كاد يبكي، فلا شيء أفضل له من هذه الكلمات:
"إنني ممتن شديد الامتنان لدوق ولينجتون فهو رجل الدولة الوحيد في العالم الذي تحدث عني حديثا طيبا أَمَا وقد عاون في تنظيم التحالف الرباعي في سنة 1834 ومات في سنة 1838 عن عمر يناهز الرابعة والثمانين، وفاق الجميع حدة ذهن ودهاء، فإنه كاد يخدع الموتَ نفسه"·(ملحق/1489)
وفي 20 نوفمبر 1815 وقّع لويس الثامن عشر مع الحلفاء معاهدة باريس الثانية التي صاغت العقوبات التي كان على فرنسا أن تتحمّلها لسماحها لنابليون بمواصلة الحكم (بعد عودته من إلبا) لقد كان على فرنسا أن تتنازل عن السار Saar وسافوي وأربع مدن حدودية بما في ذلك فيليبفيل Philippeville ومارينبورج Marienburg، وأن يعيد الأعمال الفنية التي استولى عليها جنرالاتها الغازون، وأن تدفع تعويضات حرب مقدارها 700 مليون فرنك بالإضافة إلى 240 مليون فرنك على وفق دعاوى (مطالبات) خاصة، وأن تظل قوات الحلفاء في الأراضي الفرنسية مدة تتراوح بين ثلاث سنوات وخمس وأن تدفع فرنسا تكاليف هذه القوات· ورفض تاليران توقيع هذه الوثيقة لكن وزير الخارجية الذي خلفه - أرمان إمانويل دي بلسِّ Armand-Emmanuel du Plessis دوق ريشليو Duc de Richelieu وقعها محتجّا (وقعها معلنا احتجاجه عليها) وبعدها صاح: لقد لوّثتُ شرفي·
3 - التسليم من 4 يوليو إلى 8 أغسطس 1815م
لقد ركب نابليون من مالميزو متجها جنوبا فلحق به عند نيور Niort أخوه جوزيف، ورفيقه في السلاح جورجو Gourgaud · ووصلوا إلى روشفور Rochefort ( جنوب شرق لا روشيل La Rochelle بثلاثة عشر ميلا) في وقت متأخر من الثالث من يوليو فوجدوا الفرقاطتين اللتين توقعوا وجودهما (الفرقاطة سال والفرقاطة ميدوز Meduse) في الميناء، لكن خلف هاتين الفرقاطتين كان يوجد أسطول حربي بريطاني صغير يحاصر الميناء ويمنع فيما يبدو أي خروج منه دون تصريح·(ملحق/1490)
وفي 4 يوليو أرسل نابليون استفسارا إلى قبطان الفرقاطة سال - هل تم احتجاز مكان له ولبعض أصدقائه لرحلة إلى أمريكا، وهل يمكن للفرقاطة سال Saale اختراق الحصار؟ فأتته الإجابة بأن الفرقاطة جاهزة ومستعدة للإبحار وستحاول أن تراوغ من السفن الحربية (المحاصِرة - بكسر الصاد) ليلا مع احتمال أن تتعرَّض للتوقيف أو القصف لكن إن أفلتت فإن سرعتها الفائقة لن تمكن السفن الحربية من اللحاق بها· إن نابليون الآن في مِحَن راح يقلِّبها فظل تسعة أيام مترددا يقلّب الخطط - خطط هربه، وراح يطلب النصيحة من رفيق بعد رفيق، فعرض عليه جوزيف الذي كان يشبهه في المظهر أن يتنكر هو (أي جوزيف) متقمصا شخصية نابليون وأن يترك نفسه ليحتجزه البريطانيون، بينما قد يُسمح لنابليون بملابسه المدنيّة بمواصلة رحلة تبدو روتينية على متن إحدى الفرقاطتين، ورفض نابليون تعريض أخيه للخطر·
وقد أبحر جوزيف نفسه في وقت لاحق على إحدى الفرقاطتين إلى أمريكا· لقد نسي نابليون خمسة عشر عاما من الحرب، وراح الآن يعزف على أنغام الهوى مع إنجلترا مؤمّلا أنه إذا سلّم نفسه لها فقد تعامله كأسير مُميّز وتسمح له بقطعة أرض متواضعة ليعيش فيها كمالك - بسلام· وفي 10 يوليو أرسل لا كاس Las Cases وسافاري Savary ( دوق روفيجو Rovigo) ليطلب من القبطان فريدريك ميتلاند Maitland على ظهر السفينة بيلروفون Bellerophon التابعة للتاج البريطاني عما إذا كان قد تلقى أية جوازات سفر (تصاريح سفر) باسم نابليون يتوجه بمقتضاها إلى أمريكا· ولم يكن لدي القبطان بطبيعة الحال مثل هذه الجوازات· عندئذٍ سأله لا كاس عما إذا سلّم نابليون نفسه للبريطانيين فهل يتوقع أن يعامله الإنجليز بالكرم المعروف عنهم، فأجاب ميتلاند: "أنه يسعده أن يستقبل نابليون ويأخذه إلى إنجلترا". لكنه - أي ميتلاند - غير مخوّل بتقديم أية وعود عن كيفية استقباله هناك·(ملحق/1491)
وقبل هذا الحوار أو في أثنائه أو بعده تلقى القبطان ميتلاند من رئيسه - السير هنري هوتام Hotham نائب الأدميرال (الذي كان يطوف وقتها إزاء الساحل الشمالي الغربي لفرنسا) رسالة يُخبره فيها أن نابليون موجود في روشفور أو بالقرب منها وأنه ينوي العبور إلى أمريكا، وأضاف الأدميرال: "عليك أن تبذل قصارى جهدك لمنعه من الإبحار فوق الفرقاطات،··· وإن أسعدك الحظ بالقبض عليه، ضعه تحت حراسة جيدة وتوجه به بأقصى سرعة إلى ميناء بريطاني"·
وفي 14 يوليو أَوْ نحو هذا التاريخ تلقى نابليون تحذيرا من أن لويس الثامن عشر كان قد أمر الجنرال بونفور Bonnefours بالتوجه إلى روشفور للقبض عليه (على نابليون) وتحرك بونفور ببطء· لقد أصبح نابليون الآن ملزما بخيار من خيارات ثلاثة: إما أن يسلم نفسه للويس الثامن عشر الذي لديه كل الأسباب التي تجعله كارها له، أو أن يخاطر بالهرب محاولا الإفلات من الحصار البريطاني أو أن يسلم نفسه للقبطان ميتلاند على أمل أن يحظى بمعاملة كريمة من بريطانيا· واختار نابليون الطريق الثالث، ففي 14 يوليو كتب للوصي على العرش الذي كان يحكم بريطانيا آنئذ:
يا صاحب السمو الملكي
"نظراً للفُرقة (الشقاق) التي استنزفت بلادي، واختلاف القوى الكبرى في أوربا قررت أن أنهي كل عمل لي في مجال السياسة وإنني آت - مثل تيميستوكل Themistocles - لأقيم في بيت الشعب البريطاني لأنعم بالدفء بينه· إنني أضع نفسي تحت حماية قوانينكم التي أناشد سموكم الملكي باعتباركم أكثر أعدائي قوة وعزما وكرما أن تمنحوني حمايتها·
نابليون"·
وعَهِد نابليون إلى جورجو بتسليم هذا الخطاب وطلب منه أن يحصل على إذن لتوصيل الخطاب في القارب التالي· وقد وافق ميتلاند لكن القارب الذي استقل جورجو قد تم احتجازه طويلا في الحجر الصحي، وليس هناك ما يشير إلى أن هذا الخطاب قد وصل إلى الوصي على العرش·
وفي 15 يوليو وُضع نابليون ورفاقه على متن السفينة البريطانية بيلروفون Bellerophon، واستسلموا طائعين لبريطانيا العظمى· قال نابليون لميتلاند: "لقد أتيتُ على متن سفينتك لأضع نفسي تحت حماية القوانين الإنجليزية"·(ملحق/1492)
وقد استقبلهم القبطان بمودّة ووافق على نقلهم إلى إنجلترا ولم يقل لهم شيئا عن رسالة الأدميرال هوثام Hotham لكنه حذّر نابليون من أنه لا يضمن أن يتم استقباله بود في إنجلترا· وفي 16 يوليو أبحرت السفينة بيلروفون قاصدة إنجلترا وفي وقت لاحق أبدى ميتلاند ملاحظة طيبه عن أسيره الكبير:
"لقد كانت طباعة دَمثة تماما· لقد كان يشارك في كل مناقشة، ويروي كثيرا من النوادر، ويسلك كل السبل ليجعل الجوّ فَكِهاً مِرَحا· وكان مؤتلفاً بشكل كبير جدا مع كل من معه·· رغم أنهم كانوا يعاملونه بكثير من الاحترام· وكان يملك - بشكل مدهش - القدرة على إحداث تأثير محبّب على من يناقشونه"·
وكان طاقم السفينة مبتهجاً وعامله بأقصى درجات الاحترام· وفي 24 يوليو وصلت السفينة بيلروفون إلى خليج تور Tor Bay وهو خليج صغير في القنال الإنجليزي على ساحل ديفونشير Devonshire وسرعان ما تمركزت فرقاطتان مسلحتان عند الجانب الآخر للسفينة· لقد أصبح من الواضح أن نابليون قد غدا أسيرا، وأتى الأدميرال الفيسكونت (النبيل) كيث Viscount Keith فوق سطح السفينة وحيّاه بمودّة متسمة بالبساطة: وبعد ذلك قال جورجو لنابليون إنه لم يستطع تسليم خطابه (خطاب نابليون) للوصي البريطاني على العرش، لكنه كان مضطراً لتسليمه إلى كيث الذي لم يعره اهتماما· وأمر كيث القبطانَ ميتلاند أن يتجه بسفينته إلى بلايموث Plymouth على بعد ثلاثين ميلا حيث ظلت السفينة هناك حتى الخامس من أغسطس· وفي هذه الفترة أصبحت محط حب استطلاع البريطانيين· لقد ركب الرجال والنساء من كل أنحاء جنوب إنجلترا إلى بلايموث وازدحموا في القوارب ليروا الغول الإمبراطوري وهو يمشي الفترة المقررة له يوميا فوق متن السفينة·(ملحق/1493)
وأمضت الحكومة البريطانية أياما لتقرر ما تصنعه معه· وكان الرأي السّائد هو معاملته كشخص خارج على القانون على وفق ما سبق للحلفاء أن أعلنوه رسميا وباعتباره شخصا خرق اتفاق فونتينبلو المتساهِل معه، فأجبر أوربا على حرب أخرى معه كلفتها كثيرا من الأرواح والأموال· من الواضح أنه يستحق الموت، فإن سُجن فقط لكان ممتنا، لكن إن كان لا مناص من سجنه فليكن بحيث لا يهرب ليحارب مرة أخرى· وربما كان يستحق بعض الرحمة لتسليم نفسه طوعا فوقى الحلفاء مزيدا من المتاعب، لكن هذه الرحمة لا يجب أن تدع له طريقاً للهرب، وعلى هذا أمرت الحكومة البريطانية الأدميرال كيث أن يخبر الأسير (السجين) أنه عليه أن يقيم من الآن فصاعدا في جزيرة سانت هيلينا على بعد نحو 1200 ميل من غرب إفريقية·
إنها جزيرة بعيدة، لكن كان لابد أن يختاروا له مكانا بعيدا، كما أن بُعدها قد يُريح السجين (نابليون) والمتحفّظين عليه مما تتطلبه المراقبة عن قرب من صرامة· وتناقش حلفاء بريطانيا ووافقوا على هذا الحكم مع احتفاظهم بحق إرسال مندوبين عنهم للجزيرة للمشاركة في الإشراف عليه (مراقبته) وكاد نابليون ينهار عندما علم أنه قد حُكم عليه بما اعتبره موتا رغم أنه يتنفّس، فاعترض بشدة لكنه استسلم عندما رأى أنه لا جدوى من ذلك· ومُنِح عدة مزايا، فقد سُمِح له باختيار من يرغب من أصدقائه ليصاحبوه، فذكر الجنرال بيرتران المارشال الكبير في القصر والكونت دي مونثولو، والكونتيسه دي مونثولو Montholon ( كان هذا الكونت هو معاونه في معركة واترلو) والجنرال جورجو المدافع المخلص عنه، كما اختار واحدا من اثنين: الكونت دي لا كاس وابنه·(ملحق/1494)
وسمحت السلطات لكل واحد منهم (نابليون وصحبه) أن يصحب معه خدما ومبلغ 1,600 فرنك· لقد أخذ نابليون معه عديدا من الخدم ودبّر ليأخذ معه مبلغا كبيرا من المال، فقد أخفى قلادة هورتنس الألماسية الثمينة في حزام لا كاس، وخبّأ 350,000 فرنك في عباءات خدمه· وكان مطلوبا من كل منهم تسليم سيفه، لكن عندما تقدم الأدميرال كيث ليأخذ سيف نابليون هدده نابليون بسلّه دفاعا عن نفسه، ولم يصر كيث· وفي الرابع من أغسطس أبحرت السفينة بيلروفون من بلايموث قاصدة بورتسموث Portsmouth ,
وهناك سلّمت أسيرها (نابليون) وحاشيته ومتعلّقاتهم لسفينة أكبر (النورثمبرلاند Northumberland) التي أبحرت في 8 أغسطس قاصدة سانت هيلينا St. Helena ·(ملحق/1495)
الفصل التاسع والثلاثون
إلى النهاية
1 - جزيرة سانت هيلانا ST. HELENA
لقد كانت رحلة طويلة من إنجلترا - من 8 أغسطس إلى 15 أكتوبر· وكان نابليون معتادا على السرعة في الحركة والفِعل والحديث فاعتراه الملل وتحمَّله بشق النفس· وفكر الأدميرال السير جورج كوكبورن George Cockburn في تيسير الأمر بأن راح يدعو يوميا نابليون وأحد رفاقه لتناول الغداء معه ومع بعض الضباط البريطانيين، وعلى أية حال فقد كان البريطانيون يقضون ساعتين ونصف على مائدة الغداء أمّا نابليون فكان يحثهم على قبول اعتذاره عندما يبدءون في تناول الشراب (الخمور)، وكان يجفل عندما ينادونه بجنرال بدلا من إمبراطور لكنه كان معجبا بمودَّتهم ولطفهم·(ملحق/1496)
واقترح أصدقاؤه كوسيلة لقتل الوقت وتهوينه أن يُملي عليهم ذكرياته في الحكم والحرب· لقد بدأ الآن دور الذكريات التي دوَّنها أوميرا O'Meara أوْ لاكاس Las Cases أو جورجو Gourgaud، أو مونثولو Montholon والتي نشروها بعد وفاته· ولعبت دورا في أن أصبحت ذكرى نابليون قوَّة حيّة في فرنسا طوال القرن· لقد طال مقام الرجال في البحر فلابد أن نابليون نفسه قد اعتراه السرور عندما رأى الساحل الصخري لجزيرة سانت هيلينا إن نظرة واحدة يمكنها أن تحيط بمعظم أنحاء الجزيرة· لقد كان محيطها عشرين ميلا فقط، ويكاد يكون كل سكانها متجمعّين في مينائها جيمستون Jamestown ذي الشارع الواحد· لقد كان عدد سكان هذه الجزيرة خمسة آلاف نفس·
وكانت الأرض وعرة وغير المستوية ترتفع صُعُدا إلى هضبة عند لونجوود Longwood ومناخها استوائي حار ممطر سديمي، والفصول المنتظمة لا وجود لها وإنما هناك تغيرات غير محسوبة من رطوبة وجفاف· وكانت تربتها غير ودودة (المقصود غير خصبة) تضن بالطعام عند زراعتها· إنها بقعة من الأرض صالحة لعزل صانع مشاكل لكنها كتعذيب لرجل كانت حياته عملاً يتطلب قارة تكون مسرحاً له·
لقد ظل هو ومن معه على متن السفينة، بينما راح الأدميرال كوكبورن Cockburn يبحث لهم عن مقر إقامة مؤقت حتى ينتهي العمل في البيت الكبير الذي كانت الحكومة البريطانية قد اختارته ليقيموا فيه معا· فبالنسبة إلى نابليون ولا كاس Las Cases وابنه وجد الأدميرال مكانا باعثا على المسرّة البريار Briars ظن مالكه (وليم بالكومب Balcombe) أن استضافته للإمبراطور (نابليون) ستكون أمراً شائقا· وكان لمالك هذا البيت ابنتان إحداهما في السادسة عشرة والأخرى في الرابعة عشرة، أبهجتا البيت، فقد كانتا تتحدثان قليلا من الفرنسية وتمثلان وتغنيان، وقد شُغفتا بنابليون حتى أن الصغيرة منهما بكت عندما أصبح عليه أن يغادر إلى البيت المشترك الذي أعدته الحكومة البريطانية لإقامته ومن معه، وكانت يطلق عليه بيت لونجوود Longwood·(ملحق/1497)
لقد كان هذا البيت المشترك لونجوود بيتا ريفيا قديما على بعد نحو ستة أميال من جيمستون· وكانت غرفه الكثيرة بسيطة لكنها مؤثّثة بشكل كاف· وعلى وفق الخطة الممتازة التي وضعها لاكاس Las Cases يكون من نصيب نابليون ست غرف: غرفة انتظار واسعة للزوار وحجرة مؤدية إليها وردهة وغرفة نوم وغرفة دراسة ومكتبة وغرفة طعام واسعة· وكانت الجدران مغطاة من الداخل بكانافا canvas مشبعة بالقار، وكانت طريقة تغطيتها أنيقة، وكان هناك نوافذ كثيرة·
وقبل نابليون هذا دون شكوى مبدئياً، بل إنه كان سعيداً بالحمّام الذي وصفه بأنه فخم مترف بطريقة لم يُسمع عنها في هذه الجزيرة البائسة وقد ذكر لا كاس أن الإمبراطور كان راضيا عن كل شيء· أما الجناح الآخر من الغرف المشيّدة فقد هيِّئت لكل من لا كاس وابنه والكونت دي مونثولو Montholon والكونتيسة دي مونثولو، والجنرال جورجو، والدكتور أوميرا O'Meara طبيب نابليون· وتم إعداد غرف كبيرة عامة لخدم نابليون وخدم الآخرين· أما الجنرال بيرتران Bertrand وزوجته وخدمهما فقد أقاموا في بيت صغير في الطريق إلى جيمستون·
وكان لنابليون حرية الحركة - على قدميه أو راكباً حصانا أو في عربته في حدود دائرة نصف قطرها خمسة أميال من البيت الذي يُقيم فيه، لكن كان لابد أن يخضع لمراقبة الجنود الإنجليز إذا ما خرج من هضبة لونجوود (الهضبة التي فيها بيت لونجوود الذي يقيم فيه، والسابق ذكره)، وكان حاكم الجزيرة الإنجليزي يرسل يوميا الوجبات الغذائية لنابليون ومن معه، وكان يمكنهم طلب طعامهم في حدود لا يتعدونها·(ملحق/1498)
واعتاد الإمبراطور أن يأكل بمقادير ضئيلة حتى الساعة الثامنة مساء (المعنى: لا يتناول وجبته مرة واحدة) ثم يتناول هو ومن معه عشاءهم بتروّ مما يجعله - بعد العشاء - مستعدا للنوم· وكان نابليون قد أحضر معه من فرنسا أدوات مائدة مُترفة غالية الثمن، وكان يستخدمها بانتظام بل لقد سمعنا أنه جلب معه سكاكين وملاعق وشوكات من ذهب· أما الأطباق فكان غالبها من خزف سيفر Porcelain Sevres ( سيفر مدينة فرنسية) · وكان الخدم يرتدون ملابسهم الرسمية الخضراء المحلاة بالذهب كاملة· وكان لا كاس مبهورا بأناقة أدوات المائدة والطريقة الممتازة التي تنظّم بها موائد الطعام لقد استمر الإتيكيت etiquette الذي كان معمولا به في التوليري Tuileries في لونجوود·
وسمح نابليون لأصدقائه المخلصين بالحديث معه بكثير من الصراحة لكنه لم يُزل الكلفة بينه وبينهم، فقد كانوا دوْما يشيرون إليه في حديثهم بالإمبراطور، وكانوا يخاطبونه بصاحب العظمة، وكانت الخطابات التي توجه إليه كجنرال لا يتم فضّها، وكان على الزوّار أن يخاطبوه كإمبراطور أو أن يمكثوا بعيدا عنه (لا يخاطبونه) وكانت هناك بعض الصعوبات ومسبّبات السخط، فقد استوطنت الفئران في منزل الإمبراطور، بل وحتى في قبعته، وكانت تجري حول أرجل المائدة وهو يتناول طعامه، ولم تكن البراغيث ولا البّق لتميز بين الخادم والإمبراطور· لقد تذمّر لاكاس قائلا: "لقد أكلتنا هذه الحشرات بكل معنى الكلمة",
وكان الضباب المسبب للكآبة يَعُم المنطقة يوما بعد يوم، وكان الماء يسقط أحيانا وافتقد الإمبراطور حمامهُ الدافئ· وأدت المراقبة الدائمة - مهما كانت مهذّبة أو من بُعد - إلى اعتكاف يشبه اعتكاف الرهبان في الدير، ومما جعل هذا مقبولا رتابة الحياة في هذا المكان· لكن في أي مكان آخر يُتاح لسجين أن يكون له هذا العدد من الأصدقاء والخدم وحصان وعربة خفيفة وكل الكتب التي يمكنه استخدامها؟ باختصار لقد كان سجنا محتملا أكثر مما يتوقع أي سجين خاصة بعد أن هرب من مكان احتجازه السابق وبعد أن كلف ملايين الجنيهات الإسترلينية والضحايا لإعادة القبض عليه· لقد سارت الأمور بشكل معقول حتى وصل السير هدسون لو ·(ملحق/1499)
2 - السير هدسون لو SIR HUDSON LOWE
وصل إلى جزيرة سانت هيلينا في 41 أبريل سنة 1816 ليحل محل السير جورج كوكبورن George Cockburn، كحاكم للجزيرة· وقد وضعت الحكومة البريطانية في اعتبارها عند اختياره أنه موظف واع ينفّذ التعليمات بإخلاص· وكان لابد أن تمتد التعليمات التي لديه لتشمل السجين (نابليون) كل عمل مرتبط بسلامته لقد بدأ السير هدسون لو مهامّه بشكل طيب· لقد أحضر معه نحو ألفي مجلّد باللغة الفرنسية وجعلها تحت أمر نابليون ومن معه وأرسل يقول إنه سمع أن المنزل الذي يقيم فيه هو ومن معه (منزل لونجوود) في حاجة لبعض الترميمات وإنه سيأمر بإجرائها حالا·
وظن أنَّ عليه أَنْ يزور سجينه المميّز وطلب من سلفه الأدميرال كوكبورن أَنْ يصاحبه في هذه الزيارة· ومن المُفترض أنه لم يكن يعلم أن نابليون كان قد أصدر تعليماته إلى بيرتران Bertrand ألاّ يسمح لأحد بزيارته إلاّ بإذنه - أي إذن بيرتران - وعلى أن يكون هو (أي بيرتران) مرافقا لهذا الزائر، خوفا من الفضوليين والراغبين في مشاهدته حبا للاستطلاع·
وأتى السير هدسون والأدميرال دون ميعاد سابق وطلبا الإذن فكان رد نابليون: "أنه مريض ولا يمكنه رؤيتهما", فسأل لو Lowe: " متى يأتي إذن"، فأجاب نابليون: "غداً"· لقد جُرِح كبرياء لو Lowe ولكنه أتى في اليوم التالي ومعه بيرتران، فاستقبله نابليون ببرود وسرد عليه بعض الأمور التي يُعاني منها: "الحُراس متمركزون بالقرب القريب من منزله وهم أحيانا يحدّقون ليلا عبر نوافذ بيته، وهو لا يستطيع أن يجول بحصانه إلا في حدود ضيقة دون أن يتبعه ضابط بريطاني"· فوعده لو Lowe بأن يبذل قصارى جهده لإزالة أسباب الشكوى· وبعد مغادرته، ذكر نابليون لرفاقه أنه لم ير أبداً ملامح أكثر شبها بملامح طائر السفّاح الإيطالي من ملامحه·(ملحق/1500)
وكان السير هدسون لديه من الكبرياء أكثر مما لديه من روح الفكاهة، وبعد عودته إلى مكتبه أرسل إلى مساعدي نابليون يخبرهم أن القيود موضع الشكوى فرضتها الحكومة البريطانية وليس لديه الصلاحيات لإلغائها، وأضاف قائلا إنه بناء على تعليمات حكومته لابد أن تمر كل مراسلات بين لونجوود والعالم الخارجي من خلاله وأن تكون خاضعة لتفتيشه (رقابته) وعلى وفق ما ذكره لا كاس Las Cases رفض الحاكم أن يوصّل لنابليون الخطابات التي تخاطبه بالإمبراطور نابليون·
وأرسل الحاكم دعوة على العشاء للجنرال بيرتران، والجنرال نابليون، فرفضها نابليون· وبلغ النزاع درجة عالية من السخونة عندما أخبر الحاكمُ الجنرالَ بيرتران أن الحكومة البريطانية تذمّرت من التكاليف الباهظة التي تتكبدها للحفاظ على نابليون والإنفاق على إقامته ومن معه (51 شخصا) · وكانت الحكومة قد سمحت بمبلغ 8,000 جنيه إسترليني سنويا لهذا الغرض، لكن المصاريف الفعلية بلغت 18,000 جنيه إسترليني في العام الأول واقترحت الحكومة البريطانية أن أي مبلغ يزيد - بعد ذلك - عن 8,000 جنيه لابد أن يدفعه نابليون·
فأمر الإمبراطور مونثولو أن يبيع الفضة الإمبراطورية وعرض أن يدفع المصاريف الزائدة إذا وافق لو على ألا يَفُض خطاب نابليون لمسئوله البنكي في باريس، ولم يستجب لو Lowe· وأرسلت أسرة نابليون له عروضا بتقديم الأموال له فشكرهم ولكنه قال إنه سيضع ذلك في اعتباره، وعرضوا عليه أن يأتوا للإقامة معه فمنعهم قائلا إنهم لن يتحملوا المناخ ولا العزلة طويلا· وفكر لو في تيسير الموقف برفع المخصصات إلى 12,000 جنيه إسترليني، لكن مناقشاته حول النفقات أحنقت نابليون·
وعندما زاره (لو) مرة أخرى (16 يوليو 1816) قال له نابليون (على وفق ما ذكره للاكاس) محرقا كل الجسور بينهما:
"أتسمح لي أن أقول لك عن رأينا فيك؟ إننا نعتبرك قادراً على كل شيء··· نعم كل شيء· إنني لن أشكو من هؤلاء الذين أرسلوني إلى سانت هيلينا، وإنما من هؤلاء الذين جعلوك حاكما عليها· إنك مصيبة حلّت بنا، مصيبة أبشع من كل ما تسببه لنا هذه الصخرة المرعبة من بؤس"·(ملحق/1501)
يقول لا كاس: "إن الإمبراطور ذكر أنه أزعج مرارا السير هدسون لو في أثناء المناقشة"· "لقد كنت متعكر المزاج تماما· لقد أرسلوا إلي أكثر من سجان· إن السير هدسون لو جلاّد بكل معنى الكلمة··· ولابد أن يكون غضبي قد ازداد بقوّه لأنني كنت أشعر باهتزاز ربلة ساقي (بطة ساقي) اليسرى"·
وسيطر السير هدسون على نفسه وانسحب، ولم تجر بينهما أية مناقشات بعد ذلك·
3 - الرفاق العظماء
إن الجانب المثير والداعي إلى الدهشة في حياة الحبس هذه هو الإخلاص الدائم والعميق لهؤلاء المساعدين الذين صحبوا نابليون إلى سانت هيلينا ومن المفترض أن عطر الشهرة المُسْكر قد حفزهم على المزيد من خدمته، لكن إصرارهم على هذا ومثابرتهم عليه رغم قيود المنفى وحنينهم إلى وطنهم، يكاد يضفي على ذكراهم طابعا أسطوريا Arthurian Legend، فهم قد واصلوا إخلاصهم بل وتعاركوا متنافسين على خدمة الإمبراطور، رغم المناخ القاسي المسبب للإحباط، ورغم حاكم الجزيرة غير المقبول منهم· لقد كان إخلاصهم نبيلا رغم الغيرة·
وكان أنبلهم جميعا هو الكونت هنري - جراتيا بيرتران Henri-Gartien Bertrand (1773 - 1844) · لقد دخل التاريخ كمهندس في أثناء معركة نابليون الأولى في إيطاليا· وفي الحملة الفرنسية على مصر قاد كتيبة في معركة الأهرام، وجُرِح في أثناء معركة أبي قير، وكانت الجسور التي أقامها على الدانوب في معركة 1809 تُعد على وفق تقدير نابليون من أجمل الكباري (الجسور) منذ عهد الرومان·(ملحق/1502)
وفي سنة 1813 تم تعيينه مارشالا لحراسة القصر· وظل مواليا لنابليون خلال الأعوام المريرة التي انسحب (تراجع) فيها نابليون أمام الحلفاء، وصحبه إلى إلبا Elba وظل معه طوال المائة يوم (بعد العودة إلى فرنسا) وركب معه إلى روشفور Rochefort وأبحر معه إلى إنجلترا وسانت هيلينا وظل في سانت هيلينا مارشالا لمحل الإقامة، يُعاين الزوّار ويهدِّئ الغِضاب ويلّطف الجو بين نابليون وحاكم الجزيرة، وتحمل بصبر متسامح محاولة اغتصاب زوجته· لقد كانت إنجليزية مخلّطة (كيرول Creole) ابنة أخ اللورد ديلون Dillon وتمت بصلة قرابة لجوزيفين· وتحملت عزلتها بصبر نادر في سانت هيلينا تاركة الحياة الاجتماعية في باريس· وقد صحبها بيرتران عائداً بها إلى فرنسا بعد موت نابليون بخمسة أشهر، وكتب ثلاثة مجلدات عن يوميات سانت هيلينا ولكنه رفض نشرها· وقد تمّ فك رموزها وتم نشرها (1949 - 1959) بعد قرن من وفاته؛ وقد دفن في سرداب مقبرة المحاربين القدماء بجانب رفات نابليون·
ويكاد يضارعه في إخلاصه لنابليون الجراح الأيرلندي بري أوميرا Barry O'Meara (1786 - 1836) · لقد كان - باعتباره طبيبا على متن السفينة نورثمبرلاند Northumberland - يعود نابليون ويتحدث معه بالفرنسية والإيطالية، وكان متفقا معه إلى حد ما في آرائه عن الأطباء، وارتبط به ارتباطا شديدا حتى إنه طلب الإذن من الحكومة البريطانية أن يظل يرعى نابليون طبيا في سانت هيلينا، فوافقت الحكومة على ذلك·(ملحق/1503)
ولم يكن السير هدسون لو موافقا على هذه العلاقة الحميمة بين الطبيب البريطاني والمجرم الفرنسي (نابليون) وشك في أن الطبيب أوميرا يشارك في خطة لتمكين نابليون من الهرب، وأصر (أي الحاكم) على تعيين جندي ليصحب هذا الطبيب الجراح أينما ذهب فاعترض أوميرا، فعمل (لو) على أن يتم استدعاؤه إلى بريطانيا (يوليو 1818) وفي سنة 1822 نشر أوميرا كتابه (نابليون في المنفى أو نداء من سانت هيلينا،) وهو دفاع مشبوب بالعاطفة يطالب فيه بمعاملة أفضل للإمبراطور الذي سقط· وحقق هذا الكتاب ذو المجلدين مبيعات كبيرة فبدأت موجة من التعاطف البريطاني مع نابليون· ويحتوي الكتاب على بعض الأخطاء لكن لا كاس دافع عن رواية أوميرا، وكان كل المحيطين بنابليون يكنون لأوميرا احتراما كبيرا كطبيب وكإنسان مهذب (جنتلمان) ·
أما إخلاص الكونت إمانويل - أوجسطين - ديودونيه دي لا كاس Emmanuel-Augustin-Dieudonne de Las Cases (1766 - 1842) والأحداث الكثيرة التي شهدها وكتابه متعدد المجلدات عن ذكريات سانت هيلينا Memorial de Sainte - Helena - فتجعله في المقام الثاني بعد نابليون ولو Lowe في النزاع الشخصي الذي جرى في الجزيرة· لقد كان نبيلا صغيرا (المقصود ليس من طبقة النبلاء العليا) حارب في جيش كونديه Conde ضد الثورة، وهاجر إلى إنجلترا وانضم إلى محاولة بعض المهاجرين (الذين تركوا فرنسا عِقب أحداث الثورة الفرنسية) لغزو فرنسا عند كويبرو Quiberon وفشلت المحاولة فعاد إلى إنجلترا وراح يكسب معيشته بتدريس التاريخ· ولقد وضع الأطلس التاريخي الذي حظي في وقت لاحق بتقدير نابليون الشديد· وغامر بعد 18 بروميير Brumiere بالعودة إلى فرنسا، وانتهى إلى أن نابليون هو أحسن دواء للثورة وراح ينتهز كل الفرص للعمل في خدمته فترقى ليصبح عضوا في مجلس الدولة، ولم تطفئ معركة واترلو من حرارة إعجابه بنابليون، فذهب إلى مالميزو Malmaison لمساعدته وتبعه إلى روشفور وإلى إنجلترا وإلى سانت هيلينا(ملحق/1504)
لقد كان هو الأقرب إلى الإمبراطور من بين كل رفاقه، فكان هو الأكثر حماسا في تسجيل ما يمليه، وحظي بتقديره الكبير خلال كل العواصف (المشكلات) التي مرت بهم في المنفى· لقد دوّن كل شيء عن نابليون خلا أخطاءه، فلم يكن يعتقد - مثله في ذلك مثل كرومويل Cromwell - في الأخطاء الخالدة (المقصود التي لا تُمحى· وكان تقريره عن ذكريات نابليون وملاحظاته يفيد أنها ليست دقيقة دقة كاملة:
"كان الإمبراطور يُملي بسرعة، وعادة ما كانت سرعته في أثناء الإملاء تفوق سرعته في أثناء المناقشات العادية، لذا فقد كنت مضطرا لابتداع نوع من الكتابة الهيروغليفية (المقصود المختصرة أو المختزلة) ثم أعود فأمليها بدوري على ابني أو كنت أجلس إلى جوار ابني وهو يعيد كتابة ما أملاه الإمبراطور··· وكنت دائما أقرأ على الإمبراطور ما كان قد أملاه في اليوم السابق فيقوم بإجراء تصحيحات ثم يواصل الإملاء"·
وعلى أية حال فإن اللغة التي عبّر بها لا كاس عن آرائه الخاصة تشبه إلى حد كبير اللغة التي عزاها (نسبها) إلى نابليون حتى إننا لا نستطيع أن نقبل تقريره باعتباره بالنزاهة نفسها التي ظهرت في كتابات جورجو Gourgaud حيث كان يدوّن مباشرة يومياته المفعمة بالحيوية·
ورغبة من لا كاس في إثارة أوربا بسبب الصعوبات التي كان نابليون يواجهها في منفاه كتب عن هذه المشاق والصعوبات على قطعة من الحرير ليرسلها إلى لوسيا بونابرت Lucien عَهِد بها إلى خادم كان على وشك العودة إلى أوربا، إلا أن سلطات الجزيرة فتَّشت الخادم واكتشفت الرسالة، فأمر السير هدسون لو بالقبض على لا كاس ومصادرة أوراقه (بما في ذلك مناقشاته مع نابليون) وأمر بترحيله هو وابنه إلى كيب تاون (مدينة الرأس) في 15 نوفمبر 1816 ومن هذا المكان القصي (كيب تون) بدأ الكونت أعواما من الترحال إلى إنجلترا وبلجيكا وألمانيا، وعادة ما كان خاضعا لمراقبة مشددة في أثناء تجواله هذا·(ملحق/1505)
وفي أكتوبر سنة 1818 قدم لمؤتمر الحلفاء المنعقد في إيكس - لا - شابل Aix-La-Chapelle ( آخِن Aachen) التماساً من أم نابليون لإطلاق سراح ابنها، وقدم هو نفسه مناشدات لحكام روسيا وبروسيا والنمسا وإنجلترا للغرض نفسه لكنه لم يتلق ردا· وبعد موت نابليون سُمح له بالعودة إلى فرنسا (1822) · وحصل من الحكومة البريطانية على مخطوطاته المصادرة ونشرها كلها تقريبا في كتابه ذكريات سانت هيلينا (1823) فأصبحت هذه المذكرات هي الحدث الأدبي لذلك العام· وقد أثرى لاكاس وورثته من حصيلة البيع·
وقد أدت شهادته المتحمسة على المعاملة السيئة - كما اعتقد - التي أدت إلى موت نابليون إلى استمرار نابليون كأسطورة وأدت إلى رفع نابليون الثالث إلى سدّة الحكم فاستمر فيه أكثر مما استمر عمّه، كما أدى إلى وصول لا كاس الصغير إلى منصب السيناتور في الإمبراطورية الفرنسية الثانية (أصبح عضوا في مجلس الشيوخ) وكان الرفاق الآخرون غيورين من لا كاس Las Cases لأنه كان كثير التردد على نابليون وأكثر منهم قربا إليه، ولأن نابليون كان يُكن له مودّة شديدة·
وكان أكثرهم ضجراً وغيرة هو الجنرال جاسبار جورجو Gaspard Gourgaud (1783 - 1852) الذي كان لديه أسباب كثيرة لهذا، فقد حارب من أجل الإمبراطور في إسبانيا والنمسا وروسيا وفرنسا، وكان قد أنقذ حياة الإمبراطور في برين Brienne· وكان أكثر مَنْ في المنفى حيوية وحديثا، متحمس في صداقته، متحمس في عداوته، وتحدى مونثولو وطلب مبارزته، وكان يحب نابليون ويغار عليه من محبيّه الآخرين· قال "نابليون إنه يحبني كما يحب العاشق عشيقته" (بمعنى أنه يغار عليه من الآخرين) · ولكي يُعيد نابليون الوئام إلى جماعة المنفى، أرسله إلى أوربا (1818) حاملا رسالة إلى القيصر إسكندر·(ملحق/1506)
ورغم هذا فإن يوميات جورجو (1899) Journal inedit de Sainte Helene هي الأكثر واقعية وفتنة (جمالاً) من بين كل الأصداء التي انبعثت من سانت هيلينا ولا يكاد الكونت تشارلز - تريزا دي مونثولو Comte Charles-Tristan de Montholon (1783 - 1853) يستحق كراهية جورجو لأنه كان أكثر الأربعة المحيطين بالإمبراطور أدباً ولين عريكة· لقد كان لديه ذكريات تدعو إلى الفخر إذ تعلّم الرياضيات وهو في العاشرة من عمره على يد قائد مدفعية شاب اسمه بونابرت، وبعد ذلك تبع نابليون في صعوده وسقوطه وأحرّ على اصطحابه إلى سانت هيلينا، وكانت زوجته ألبني دي فاسا Albinie de Vassal قد تزوجت وطلقت قبله مرتين، وكان مطلّقاها لا يزالان على قيد الحياة، لذلك لم يكن مونثولو واثقا فيها تماما في أي وقت من الأوقات، وتردّدت إشاعات في سانت هيلينا أنها كانت تساعد نابليون على تدفئة فراشه، وقد تناول المندوبون الروس أمرها بخشونة: "رغم أنها كبيرة السن وفاسقة وسمينة فإنها اليوم خليلة رجل عظيم"· وعندما غادرت الجزيرة (1819) بكى نابليون· أما مونثولو نفسه فقد بقي إلى النهاية وشارك بيرتران في العناية بالأسير المحتضر وكان يُسمَّى المنفّذ المشارك لتحقيق الإرادة الإمبراطورية· وعندما عاد إلى فرنسا شارك ابن أخي نابليون في السجن سبع سنين وساعده بعد ذلك ليكون إمبراطورا آخر·
4 - الدكتاتور الكبير
لقد كان العدو اللدود لهؤلاء المنفيِّين هو الوقت وابنه الضجر، فهم رجال كانوا قد أدمنوا العمل وتآلفوا مع الموت، وصاروا الآن وقد أصبحت مهمتهم هي العناية بشخصية عالمية سقط من عليائه الإمبراطورية إلى سجين لا حول له ولا قوة بكل آلامه وأمراضه وضعفه البشري، بل إن نابليون نفسه قال:
"إن وضْعي مُرْعب، إنني كميّت حي أو كميت لازالت رغباته موجودة"،(ملحق/1507)
فالبطل الذي كان فيما سبق يتطلع إلى مزيد من الوقت لمواجهة مهامه التي اختارها أو لينفذ خططه، أصبح يشعر الآن أن الساعات تمر ثِقَالا، وأصبح يرحب بالليل ليخفف عنه - بالنوم - وطأة الوقت، بل لم يكن الليل حتى ليشفي علّته، فنظراً لقلة العمل وجد صعوبة في النوم فراح يتنقّل من سرير إلى أريكة إلى كرسي، ثم يعود مرة أخرى بحثا عن اللاوعي (راغباً في الغَيبوبة) ·
وغالبا ما كان يلعب الشطرنج يوميا، وكان يضجر بانتصاره (في الشطرنج) فلم يكن من ندٍ له يجرؤ على هزيمته (في لعبة الشطرنج) وخلال السنة الأولى في منفاه كان يركب حصانه لعدة أميال يوميا لكنه سرعان ما عزف عن ذلك عندما لاحظ أن بعض الضباط البريطانيين كانوا يراقبونه دوما· وكان يقرأ لعدّة ساعات في اليوم لقد كان دَوْما يحب الكتب، وكان لابد أن يقرأ بعض الوقت حتى في الأيام التي يكون مشغولاً فيها، لقد كان يأخذ معه مئات المجلدات في أثناء المعارك، ولقد أخذ معه مئات إلى واترلو (كان من بينها سبعون مجلدا لفولتير) ·
وكان قد جلب معه إلى سانت هيلينا 400 كتاب من فرنسا، وعند توقف السفينة نورثمبرلاند في ماديرا Madeira أرسل طلباً للحكومة البريطانية طالباً عدداً من الكتب التعليمية وصلته في يونيو سنة 1816، ووصلته شحنة أخرى في العام التالي، وأرسل له السير هدسون لو بعض الكتب من مكتبته· وأصبح خبيرا في معارك الإسكندر الأكبر وهانيبعل Hannibal ( هانيبال) وقيصر· وقرأ مرارا درامات كورنيل Corneille وراسين بل لقد كان يقرأهما بصوت عال أمام رفاقه ويوزّع عليهم الأدوار· وكان يحب الأدب الإنجليزي وجعل لا كاس يعلّمه المزيد من الإنجليزية ليتمكن من القراءة بها بل والحديث بها· ذكر جورجو: "أن الإمبراطور كان دَوْما يتحدث معي بالإنجليزية"·(ملحق/1508)
وكان لديه ميزة يتميز بها عن سائر مرافقيه في المنفى: لقد كان يستطيع أن يدمج الحاضر في الماضي بإعادة سرد تاريخ بلاده، وتاريخ نصف أوربا من سنة 1796 إلى سنة 1815، وغالبا ما كان هذا من الذاكرة (كان التاريخ حاضراً في ذاكرته)، ومن وجهة نظر المشارك الرئيسي (في الحدث)، ولم يكن يطيق صبرا على الكتابة لكنه كان يستطيع أن يتحدث· ويبدو أن لا كاس هو الذي اقترح أنه (أي نابليون) بإملائه مذكراته لواحد أو آخر من حاشيته يعطي قيمة وتشويقا لكل يوم يمر· والآن قد لا يجد نابليون في قول دانتي حقيقة ينقصها الكمال: "ليس هناك أكثر مدعاة للألم من تذكر السعادة في أيام الشقاء", فإن ذكريات الأيام السعيدة قد تخفف الأحزان الحالية وإن كانت تعمقها في الوقت نفسه· لقد هتف قائلا:
لقد كانت إمبراطورية جميلة! لقد كان هناك 83 مليون إنسان تحت حكمي - آه إنهم نصف سكان أوربا·
ومن هنا فقد دشَّن دكتاتورية جديدة في السفينة نورثمبرلاند واستمر يمارسها على نحو أو آخر في سانت هيلينا طوال أربع سنوات· لقد بدأ بأن راح يعيد على لا كاس رواية معاركه الإيطالية في سنة 1796 حيث أدت سرعته الحاسمة وانبهار أوربا إلى أن أصبح (أي نابليون) لازما لفرنسا لزوما لا فكاك منه· وعندما لم يصبح لا كاس موجودا بسبب حنق لو Low راح الإمبراطور يملي على جورجو، وبعد ذلك على مونثولو، وقليلا على بيرتران وأحيانا كان يملي على اثنين منهم في يوم واحد·(ملحق/1509)
الآن، تحوّل هؤلاء المقاتلون من السيف إلى القلم، فأراقوا أحبارا كثيرة واستهلكوا أوراقا كثيرة لحفظ ذكريات الإمبراطور من الضياع وليصبح اسمه مقبولا حسن السمعة في فرنسا التي أصبحت بوربونية من جديد، وأمام محكمة التاريخ· وسرعان ما تعبوا أسرع مما تعب هو، فقد شعر أن هذه هي فرصته الأخيرة ليدافع عن نفسه في مواجهة الخطباء والبلغاء والصحفيين ورسّامي الرسوم الكاريكاتيرية الذين مكّنوا أعداءَه من تصويره في صورة لا إنسانية بجعله غولاً متعطشا للدماء· وكان نابليون يعلم أنه لا يمكن أن يكون وازعهم لتسجيل أعماله ومذكراته دون مقابل، لذا فقد أعطى لكل منهم الحق الكامل للتصرف في مخطوطته وما تدرّه من عوائد· والحقيقة أن كل مخطوطة من هذه المخطوطات أفاضت - عندما نُشرت - على كاتبها أو ورثته ثروة·
ومن الطبيعي أن يُبرز المؤلف أفضل الوجوه مبررا أخطاءه لكن - بشكل عام - كانت هذه المذكرات صحيحة بقدر ما يمكن أن يُتوقع من رجل يدافع عما فعله في حياته· وقد كان نابليون قد تعلم في هذا الوقت أنه ارتكب أخطاء خطيرة في مجالي السياسة والقيادة العسكرية·
"لقد كنتُ مخطئا في الاختلاف مع تاليران· لقد كان يمتلك كل ما ينقصني· فلو أنني سمحت له بنفس رضيّة أن يشاركني عظمتي لكان قد خدمني جيدا، ولظللتُ حتى تحين منيتي وأنا أعتلي عرش فرنسا"
وقد اعترف أنه أساء تقدير صعوبات غزو إسبانيا، وقهر روسيا· "لقد تسرّعت في الانطلاق من إلبا· لقد كان عليّ أن أنتظر حتى ينفض مؤتمر فينا وحتى يكون الأمراء والملوك قد عادوا إلى بلادهم"· "لا أستطيع أن أفهم حتى الآن الهزيمة في والترلو"· "لقد كنت أتمنى أن أموت في واترلو"·(ملحق/1510)
لقد كاد الذين أَمْلى عليهم مذكراته يتعبون، فلم يجدوا وقتا لتدوين مناقشاته إلا بشق الأنفس· وكانت بطبيعة الحال شائقة فمن في عصره يضارعه في مغامراته المثيرة التي شملت ثلاث قارات؟ لقد كان راوية ممتازا يذكر كثيرا من النوادر والطرائف في أي موضوع يتناوله· لقد كان بطريقته الموضوعية (المحايدة) فيلسوفا، وكان يمكنه أن يتحدث بتسامح في أي موضوع بدءا من الزراعة حتى زيوس Zeus· لقد قرأ التاريخ وتوسع في قراءته توسعا جعله يتنبأ بالمستقبل وإن كان في بعض تنبؤاته جنوح عن الصواب·
"النظام الاستعماري··· انتهى بالنسبة إلى الجميع، انتهى بالنسبة إلى إنجلترا التي تملك كل المستعمرات، وانتهى بالنسبة إلى القوى الأخرى"· "سرعان ما سيطيح الشعب الفرنسي بعبودية البوربون"· "سرعان ما ستواصل ألمانيا طريقه الذي بدأه هو (أي نابليون) نحو الوحدة"· "سيكون القرن التاسع عشر قرن الثورات، فمبادئ الثورة الفرنسية - باستثناء بعض الإسفاف - ستنتصر في أمريكا وفرنسا وإنجلترا، ومن هذه الدول الثلاث سيغمر النورُ العالَم"· "لقد انتهى النظام القديم، وثمة نظام جديد يقوّي من نفسه ولن يكونَ قبل حدوث اضطرابات عنيفة إن روسيا قوة ستتقدم مندفعة بالتأكيد، وبخطىً واسعة نحو الهيمنة العالمية"· وإحدى تخميناته الخاطئة "إن السلطة الملكية في إنجلترا تزداد قوة يوميا···· إنها الآن تسير ولا يعوقها عائق نحو السيادة المطلقة"
وأخيرا عرض لنا سياسة ولخصها لنا بشكلٍ مُرْضٍ:(ملحق/1511)
"لقد أغلقت خليج الأنارشية gulf of anarchy ( المناداة بمبدأ القضاء على الحكومة) وطهرت الطريق من الفوضوية· لقد نقّيت الثورة ووقّرتُ الأُمم ورسخت أقدام الملوك· وضربت المثل وكنتُ القدوة ومددتُ حدود العظمة، وكافأت على كل تميّز·· إن الدكتاتورية كانت ضرورية بكل ما في كلمة الضرورة من معنى· ألن يُقال إنني قمعتُ الحرية؟ لقد كان هذا هو مستهل الحرية· ألن أتّهم أيضاً بأنني كنتُ مولعاً بالحرب ولعاً شديدا؟ لقد كنتُ أنا الذي أتلقّى الهجوم الأول· ألن يُقال إنني كنت أهدف إلى حُكم العالم كله (أن أتربّع على عرش العالم؟) إن أعدائي أنفسهم هم الذين قادوني خطوة بخطوة إلى هذا العزم· وأخيرا، أسوف أُلامُ على طموحي؟ لابد أن يُسمح لي بالطموح بلا شك، فطموحي هو أسمى وأنبل أنواع الطموح، بل وربما أسمى وأنبل أنواع الطموح على الإطلاق - إنه الطموح إلى تأسيس إمبراطورية العقل وتكريسها، وإلى الاستفادة الكاملة من كل القدرات والملكات البشرية والتنعّم بها· هنا ربما يشعر المؤرخ أنه مضطر إلى الأسف لأن هذا الطموح لم يتحقق ولم يُكافأ صاحبه عليه··· هذا هو كل تاريخي في كلمات قلائل"·
وفي 9 مارس 1812 أدفأ قلبه اُلمحبَط بالتنبؤ برؤيا فخورة:
سيظل خيال الفرنسيين طوال الخمسمائة سنة القادمة عامراً بذكراي· إنهم لن يتحدثوا إلا عن عظمة معاركنا العبقرية· فليكن الله في عون من سيجرؤ على الحديث عني بشكل سيء·
5 - المعركة الأخيرة
أدت الاضطرابات الداخلية ونقص التدريبات البدنية إلى أن أصبح نابليون شيخا هَرِماً وهو لا يزال في سني الأربعين· لقد أدّى إصرار لو Lowe على أن يقوم جندي بريطاني بمتابعة الإمبراطور أينما ذهب بحصانه خارج حدود لونجوود إلى غضب الأسير (نابليون) فتحاشى الخروج للتريّض بحصانه أو في عربته· كما أن وجود العسس على مرأى من غرفه جعله يطيل المكث وراء الأبواب المغلقة، كما أدّى عزوفه عن الحياة وأمله ألاّ يطول مقامه في الدنيا إلى سكون وعدم نشاط· لقد كتب بيرتران في سنة 1818:
"مضى مائة يوم منذ··· خرج من المنزل" وذكر لا كاس أن الدورة الدموية للإمبراطور كانت تعاني صعوبات إذ انخفض نبضه إلى 55 نبضة في الدقيقة·(ملحق/1512)
وفي سنة 1820 بدأ العمل في زراعة حديقة، وهاجم مشاكله بشجاعة حربية وانضباط· لقد جنّد كل مستعمرته للعمل في المشروع فسعدوا بالخروج على روتينهم اليومي وانخراطهم في الحفر وجر عربات المزرعة والزرع والري وإزالة الأعشاب الضارة· وبادر السير هدسون لو - في مبادرة ودية منه - إلى إرسال النباتات وأدوات الزراعة لسجينه· وازدهرت الحديقة فسرعان ما أنبتت خضروات طازجة راح نابليون يأكلها ببهجة· وتحسنت صحته بشكل ملحوظ· لكن بعد أن تمّ استهلال محصول الحديقة وساد الطقس السيئ عاد نابليون إلى كسله قابعا خلف الأبواب·
وسرعان ما عاودته الآلام وحاصرته في جبهات عديدة: آلام في الأسنان، صداع، طفح جلدي، تقيّؤ، دوسنتاريا dysentery، برودة أطراف، وساءت قرحته، وداء السرطان الذي تبين أنه مصاب به بعد تشريح جثته، اتضح أنه كان قد بدأ يُسبب له آلاما متواصلة· لقد أثرت هذه المعاناة الجسدية في مزاجه بل وحتى في عقله، فأصبح متشائما سريع الهياج، مُحِسّا بالمرارة، بل إنه راح ينظر لما حققه من فخار وعظمة على أنهما شيء تافه، مستعداً للإساءة سريع التسامح، يَعُد البنسات القليلة ويعطي - برغبته - مبالغ كبيرة· وفي سنة 1820 وصف حالته بجزع:
"كيف سقطت؟! أنا - الذي كان نشاطي لا حد له· أنا الذي لم أخلد للراحة! أيصبح هذا حالي؟ كسولا بليدا خَدِرا! لقد أصبحت أبذل جهدا لأفتح عيني (لأرفع الجفن عن عيني) لقد كنت في بعض الأحيان معتاداً أن أُملي في مختلف الموضوعات على أربعة أو خمسة من السكرتيرين يكتبون بالسرعة نفسها التي بها أتحدث، لكنني كنتُ وقتها نابليون··· أما الآنا فأنا لا شيء···· إنني حي لكنني ميت"·(ملحق/1513)
لقد تعاقب عليه عدد من الأطباء المختلفين لكن واحداً منهم لم يمكث معه الفترة الزمنية الكافية لدراسة أعراض مرضه بشكل منهجي أو وضع نظام دائم لعلاجه وطعامه· وكان الدكتور أوميرا O'Meara هو أول أطبائه (في سانت هيلينا) وأفضلهم، لكن مهمته قد أُنْهيت بعد فترة وجيزة· وحل محله طبيبان بريطانيان (ستوكو Stokoe وأرنوت Arnott) وكان كلاهما طبيبا جيدا وصبورا وواعيا، لكن في 21 سبتمبر 1819 اضطرب الأمر بوصول الدكتور فرانسيسكو أنتومارشي Antommarchi البالغ من العمر تسعة وثلاثين عاما، وكان يحمل توصية من خال نابليون (الكاردينال فيش Fesch) فسمح له الطبيبان الآخران بالعناية به·
لقد أجاب أنتومارشي بإسهاب عن سؤال نابليون عما إذا كان الجنرالات أم الأطباء هم الأكثر إفناءً للبشرية أو بتعبير آخر أيهما أكثر ضحايا، إذ كان هذا الطبيب معتزا بنفسه واثقا منها عديم الرحمة إذ عندما اشتكى نابليون من آلام في معدته، وصف له أنتومارشي مُقَيئّا على عصير الليمون، فكادت روحه تخرج لفرط الألم، وظن أنّ السُّم قد دُسَّ له في الدواء، فطرد أنتومارشي ولم يسمح له بالعودة لعلاجه، لكن في غضون يوم أو يومين عاد أنتومارشي بأدويته وقاروراته، وكان على الإمبراطور أن يتحمله رغم أنه (أي الإمبراطور) راح يسبّه ويلعنه بأقذع السباب واللعنات مما لا يُمكن كتابته هنا·
وفي نحو منتصف مارس 1821 لزم نابليون فراشه ولم يعد يغادره بعد ذلك إلا نادرا· لقد كان يعاني من آلام مستمرة لا تكاد تتوقّف فراح أنتومارشي والطبيبان الآخران يهدّئانها بإعطائه جرعات صغيرة من الأفيون على نحوٍ متكرر· وقال نابليون في 27 مارس:
"لو انتهت مهمتي في هذه الدنيا، إني إذن لسعيد· لقد كنتُ أتطلّع للموت في عدة أوقات فأنا لا أخاف الموت"·
وخلال هذا الشهر الأخير من حياته كان يتقيّأ كل الطعام الذي يتناوله تقريبا· وفي 15 أبريل كتب وصيته، وفيما يلي قبس منها:(ملحق/1514)
1 - أموت على دين الدين الرسولي الروماني (دين الدعاة الأوائل للمسيحية) الذي وُلدت في أحضانه···· 2 - أريد أن توضع رفاتي على ضفاف نهر السين وسط الشعب الفرنسي الذي أحببته كثيرا· 3 - لقد كان لدي دوما من الأسباب ما يجعلني أسعد بزوجتي الحبيبة ماري لويز· إنني أكِنّ لها لآخر لحظة في حياتي أسمى مشاعر المودّة· إنني أتوسل إليها أن ترعى ابني وأن تحميه من الشِّراك (والمشاكل) التي لا زالت تعكر طفولته··· 5 - إنني أموت قبل الأوان مقتولا على يد الحكومة البريطانية The English Oligarchy·
لقد كان لديه ستة ملايين فرنك، كان عليه توزيعها (5,3 مليون + الفوائد)، وكان قد أودعها مع لافيت Laffitte، وكان يعتقد أن له مليونين آخرين عند يوجين بوهارنيه· لقد أوصى بمبلغ كبير لبيرتران ومونثولو ولا كاس، ولكبير خدمه مارشان Marchand وسكرتيره مينيفال Meneval ولجنرالات آخرين أو أبنائهم وأوقف أشياء مختلفة على عدد كبير من الأشخاص ممن خدموه أو ساعدوه· لم ينس أحدا· كما أوصى بعشرة آلاف فرنك للضابط كانتيلون Cantillon الذي تحمل المحاكمة بتهمة اشتراكه في مؤامرة لقتل اللورد ويلنجتون، وهي التهمة التي بُرِّئَ منها· لقد كان لكانتيلون كثير من الحق لقتل هذا الأوليجارشي (الملكي المؤيد لحكم الأقلية) تماما كما كان لهذا الأخير الحق في أن يرسلني لأهلك على صخرة سانت هيلينا
وترك في ورقة منفصلة " وصية لابني ", ربيع 1821:(ملحق/1515)
"لا يجب أن يفكر ابني في الثأر لموتي، بل الأحرى به أن يتعلم منه درسا· يجب أن يضع في عقله ما أنجزته دون أن ينساه· وعليه أن يكون مثلي فرنسيا تماما· وعليه أن يكافح ليحكم بسلام· وإن كان عليه أن يحاول بدء حروبي التي انتهت بدءا جديدا لا لشيء إلا لمجرد تقليدي، وبدون ضرورة تفرضها هذه الحرب، فإنه ساعتها لن يكون أكثر من قرد (مقلّد) · فإن يبدأ أحد القيام بعملي نفسه فهذا يعني أنني لم أنجز شيئا· فالأجدى هو إكمال هذا العمل بإثبات قوّة أساساته (ومؤسساته) وإكمال الصّرْح الذي وضعت أساسه وتصميمه· فالعمل الذي قمتُ به لا يمكن أن يحدث مرتين في قرن واحد· لقد كنتُ مضطرا لكبح أوربا وترويضها بقوّة السلاح، أما الآن فيجب إقناعها (لابد أن تكون مقتنعة) · لقد أنقذتُ الثورة بينما كانت على وشك الموت· لقد طهّرتها من جرائمها وسموْتُ بها فأصبح الشعب الفرنسي يتألق شهرة· لقد أوحيتُ لفرنسا وأوربا بأفكار جديدة لن تُنسى أبدا· عسى أن يرعى ابني البذرة التي وضعتها حتى تُزْهر! عساه يطور كل عناصر الرخاء الكامنة في التربة الفرنسية"·
وكان لابد أن تتم الاستعدادات الأخيرة كي يُسْلم الروح· لقد استغرق وقتا طويلا ليصل إلى الإيمان الديني (المقصود الكاثوليكي - المترجم) ولأنه كان قد قرأ جيبون Gibbon فقد ظهر أنه يعتبر كل الأديان زائفة (كما ينظر إليها الفيلسوف) لكنه كرجل دولة كان يعتبرها مفيدة· لقد كان قد تحّول للإسلام (النص: الدين المحمدّي) ليربح مصر، وإلى الكاثوليكية ليقبض على زمام الأمر في فرنسا· ولقد عبَّر لجورجو بما يفيد إيمانه بالمادية البسيطة:
"قل ما تشاء! إن كل شيء مادي (كل شيء مادة) غير أن التنظيم (الاتساق) فيها مختلف، فهناك هو أكثر اتساقا، وهناك ما هو أقل· عندما أخرج للصيد آمر بفتح أحشاء الأيْل deer فأرى أن ما بداخله هو نفسه الذي بداخلي· وعندما أرى أن للخنزير معدة مثلي، وحصيلة هضم مثلي، أقول لنفسي (إن كان لي روح فإن له أيضا روحاً· عندما نموت يا عزيزي جورجو نصبح جميعا موتى"·
وفي 27 مارس (أي قبل موته بستة أسابيع) قال لبيرتران:(ملحق/1516)
"إنني سعيد جدا أنني بغير دين· إنني أجد في هذا ترضية (سلوى كبرى، فأنا لا أضع في اعتباري إرهابا متخّيلا (المقصود عذابا مُنتَظراً) ولا خوفاً من المستقبل"· وسأل: "كيف نوائم بين ازدهار الشرّير وعذاب القدّيس مع وجود إله عادل؟ انظر إلى تاليران· إنّه متأكد أنّه سيموت في فراشه"·
وكلما اقترب منه الموت بدأ يجد أسبابا للإيمان· قال لجورجو: "المجنون وحده هو الذين يعلن أنه سيموت دون اعتراف· هناك الكثير مما لا يعرفه المرء".
وكان يشعر؟ أن الدين جزء ضروري من الوطنية:
"الدين يشكل جزءا من قدرنا· إنه مع التربة والقوانين والعادات يكوّن الكلّ المقدّس الذي نسميه (أرض الآباء Fatherland) التي لا يجب أن نتخلّى عن مصالحها· وعندما طلب مني بعض الثوريين القدامى أيام الكونكوردات (الوفاق مع الكنيسة الكاثوليكية) أن أجعل فرنسا بروتستنتية شعرتُ كما لو أنهم يطلبون مني خلع الجنسية الفرنسية لأصبح إنجليزيا أو ألمانيا"·
لذا فقد قررّ بتواضع أن يخضع للطقوس التقليدية التي يتبعها الفرنسي وهو يُسلم الروح، فوجد قسيسا محليا ورتب الأمر لإقامة قدّاس على روحه كل يوم أحد في لونجوود، وراح يجد راحة في عقيدة طفولته وراح يُسلّي أصدقاءه ونفسه بكيفية استقباله في السماء:
"إنني أذهب للقاء كليبه Kleber ( كليبر) وديزيه Desaix ولان Lannes وماسينا Massena··· ني Ney· سيأتون للقائي· وسنتحدث عما فعلناه· سنتحدث عن مهامنا مع فريدريك وتورين Turenne وكونديه Conde وقيصر وهانيبال Hannibal".
وفي 26 أبريل بلغ به الوَهَن مبلغا كبيرا حتى أنه أطاع الأطباء دون سؤال· وفي هذا المساء راح يهذي مهتاجا للحظة قائلا إنه سيعطي ابنه 400 مليون فرنك· وذكر مونثولو الذي يقيم معه الآن ليل نهار أنه في نحو الساعة الرابعة صباح يوم 26 أبريل قال له بعاطفة جيّاشة:
"لقد رأيتُ لتوّى جوزيفين الطيبة··· إنها تجلس هناك، كما لو أنني لم أرها إلا ليلة البارحة· إنها لم تتغير - إنها دائما هي نفسها لا زالت مخلصة لي· لقد قالت لي إننا سنلقي ثانية، ولن نفترق ثانيةً أبدا· لقد وعدتني، أرأيتها؟ "·(ملحق/1517)
وفي 3 مايو أُجريت له الطقوس الدينية· وفي هذا اليوم انضم طبيبان إلى أرنوت Arnott وأنتومارشي واتفق الأربعة على إعطاء المريض عشر حبات من الكالول Calomel ( مُسهِّل):
"لقد أدّت هذه الجرعة الكبيرة بشكل غير معتاد من هذا الدواء غير المناسب إلى اضطراب عنيف مرعب مع فقد للوعي·· وظهرت كل علامات النزيف في الجهاز المعوي"·
فمات في 5 مايو 1821 وهو يتمتم قائلاً:
"على رأس الجيش A la tete de L'armee "
وفي 6 مايو أنهى أنتومارشي فحص الجثة بعد الوفاة بحضور ستة عشر آخرين بمن فيهم سبعة جراحين بريطانيين، وبيرتران ومونثولو· لقد أظهر تشريح الجثة السبب الرئيسي لما كان يعاني منه نابليون: قرحة سرطانية في الفتحة بين المعدة والمعي (البيلورس Pylorus) وثمة قرحة أحدثت ثقبا بسعة ربع بوصة في جدار المعدة متسببة في نشر التعفّن فيما حولها، وكان أنتومارشي قد شخص العلّه على أنها التهاب كبدي لكن اتضح أن الكبد رغم أنه كان أكبر من المعتاد لم تكن به ظواهر مرضية·
واتضح وجود الأكياس الدهنية لا في الجلد فقط وغشاء التجويف البطني وإنما أيضا في القلب وربما كان هذا سببا في بطء نبضاته على نحو غير طبيعي· وكانت المثانة صغيرة وبها بعض الحصوات الصغيرة، وربما كان هذا بالإضافة إلى تشوّه الكلية اليسرى سببا في حاجة الإمبراطور إلى التبول تباعا وربما يفسّر هذا عدم تركيزه بشكل مستمر في أثناء معركة بورودينو Borodino ومعركة واترلو· ولم يسجل أي واحد ممن فحصوا الجثة أي أثر لمرض السيفلس syphilis ( الزهري) لكن أعضاءه التناسلية كانت صغيرة وبدت ضامرة·
وفي 9 مايو انطلق موكب كبير يضم السير هدسون لو Lowe لنقل الجثمان إلى مقبرة خارج لونجوود في وادي جيرانيومز Geraniums وكان نابليون نفسه قد اختار هذا الموقع، ولُف بالعباءة التي كان يرتديها في معركة مارينجو Marengo ودُفن معه سيفه الذي كان محل فخره وشعار حياته·
وظلت جثته في هذا القبر تسعة عشر عاما حتى أحبته فرنسا ثانية فأعادت رفاته إلى بلاده·(ملحق/1518)
الفصل الأربعون
وماذا بعد؟: من 1815 إلى 1840م
1 - الأسرة
عاشت أمه بعده خمسة عشر عاما وماتت من عمر يناهز السادسة والثمانين· وتكاد تكون حياتها موجزا للأمومة في مراحلها المختلفة: زوج غير دائم الإقامة في البيت، أطفال كثيرون، أفراح وأحزان، إنجاز وحرمان، فزع ووحدة، دهشة وأمل· لقد رأت كل انتصارات أبنائها، وظلّت ليوم قد يحتاجون فيه إليها· "من يدري غيري، فربما يأتي يوم يتعيَّن عليَّ فيه أن أُقدِّم لكل هؤلاء الملوك؟ "· لقد ظلّت تعيش باعتدال (بلا إسراف) لآخر عمرها، وكان البابا يحميها ويجلّها، مع أنّ ابنها قد أساء معاملته· وكانت من الناحية العرقية أقوى آل بونابرت وأصحَّهم عقلا·
أما جوزيف - ابنها الأكبر - فكان مُولعاً بالكتب والمال وتزوّج زواجا سعيدا من جولي كلاري Julie Clary وقد أحبه أخوه الإمبراطور وكلّفه بمهام، وخدم جوزيف أخاه (نابليون) بكل قدراته المحدودة، ولجأ إلى أمريكا بعد انهيار الإمبراطورية وعاد إلى أوربا حيث عاش بهدوء في منطقة ريفية بجوار جنوا، ومات في فلورنسا في سنة 1844 وهو في السادسة والسبعين من عمره·
أما لوسيا Lucien، فبعد أن ترقى في ظل حكومة الإدارة وبعد أن ساعد أخاه (نابليون) في الإطاحة بها، عارض دكتاتورية نابليون، وتزوّج ضد الرغبة الإمبراطورية، وابتعد عن الصراع من أجل السلطة، وأصبح أميرا باباويا، وأبحر إلى أمريكا فأسرته سفينة بريطانية وتم التحفظ عليه في إنجلترا، ووجد طريقه إلى جانب نابليون في الأيام المائة (بعد عودة نابليون من إلبا) ودافع عنه في المجلسين، وهرب إلى روما بعد تنازل أخيه عن العرش للمرة الثانية، ومات في فيتربو Viterbo في سنة 1840·
أما لويس بونابرت فبعد أن تخلّى عن عرش هولندا، وانفصل عن هورتنس Hortense - عاش في بوهيميا Bohemia والنمسا وإيطاليا، ومات قبل ست سنوات من وصول ابنه الثالث إلى العرش باسم نابليون الثالث·(ملحق/1519)
ونَعِم جيروم بثروته الملكية في وستفاليا، وفشل كجنرال في الشهر الأول في أثناء المعركة مع الروس، وعاد إلى عرشه، وفقده لصالح الحلفاء في سنة 1813 وحارب ببسالة في واترلو، وكاد يكون آخر فرنسي يغادر ميدان الهزيمة· وبعد تنازل نابليون عن العرش للمرة الثانية راح ينتقل من مكان إلى مكان وعاد إلى فرنسا في سنة 1847 وشهد وصول ابن أخيه للحكم فأصبح رئيسا للسينات في ظله (في ظل نابليون الثالث) ومات في سنة 1860 وهو في السادسة والسبعين من عمره في عصر كان كل عام فيه عامراً بالأحداث·
أما إليزا بونابرت بكيوشي Elisa Bonaparte Bacciocchi فكانت أكبر أخوات نابليون وأكثرهن قدرة· لقد لاحظنا نجاحها كحاكمة في تسكانيا Tuscany المنطقة الإيطالية المتأثرة بالثقافة الهيلينية (الطُرز الأثينية) · وعندما تبيّنت أنّ أخاها لا يستطيع مواجهة الحلفاء المتحدين، انسحبت إلى نابلي وانضمت إلى أختها كارولين لمساعدة مورا Murat في الحفاظ على عرشه·
وكان مورا Murat بعد أن قاد قوات الفرسان إلى جانب نابليون في ليبزج (ليبتسج) عاد إلى نابلي ودخل في تحالف مع النمسا (8 يناير 1814) وتعهد باستخدام جيشه لصالح الحلفاء ضد نابليون في مقابل أن تساعده النمسا في الحفاظ على عرشه في نابلي· ورفض الحلفاء اعتماد هذه المعاهدة· وعندما هرب نابليون من إلبا، خاطر مورا بكل شيء بمناشدته كل إيطاليا للانضمام إليه لشن حرب استقلال ضد الحكم الأجنبي كله (30 مارس 1815)، وتركته زوجته (كارولين) وأختها (إليزا) ووجدتا ملجأ لهما في فيينا وهُزِم مورا في تولينتينو Tolentino أمام جيش نمساوي (2 مايو) وهرب إلى فرنسا ومنها إلى كورسيكا واستعاد فرديناند الرابع عرش نابلي·
وبعد معركة واترلو كان مورا قد أصبح رجلا بلا وطن، فعبر من كورسيكا إلى كالابريا Calabria مع حفنة رجال، فتم القبض عليه وحوكم أمام محكمة عسكرية، قضت بإطلاق النار عليه وتم تنفيذ الحكم في 13 أكتوبر· وقد وصفه نابليون في سانت هيلينا بما يفيد حبه له، وإن كان حكمه عليه قاسيا لا يرحم: إنه أشجع الرجال في مواجهة العدو، ولا نظير له في ساحة الوغى، لكنه غبي في كل أفعاله الأخرى خارج الميدان·(ملحق/1520)
وكانت بولين (1780 - 1825) أخت نابليون هي أكثر ذويه جاذبية· لقد كان من نصيبها أن تنشر السعادة والمشاكل لأنها كانت أجمل نساء عصرها، فالرجال الذين رأوها لم ينسوها أبدا، والنسوة اللاتي رأينها لم يسامحنها أبدا· ولم تكن مكتفية أبداً بزوج واحد، لكنها كانت فيما يبدو زوجة محبوبة في أثناء زواجها الأول حيث شاركت زوجها الجنرال ليكليرك Leclerc المخاطر التي تعرض لها ولم تتركه عندما أصيب بالحمى الصفراء في سانت دومنج St.-Domingue·
وعندما مات (1802) عادت إلى باريس، وبعد فترة حداد قصيرة كوّنت ثروة أخرى من الشَّعر تجلّل رأسها، وكانت تستحم بخمسة جالونات من الحليب الطازج يوميا· وافتتحت صالونا وأسعدت الأزواج بجمالها وأسعدت بعضهم بكرمها· وكان نابليون نفسه مفتونا - على نحو طاهر - بتكوينها فسارع بتزويجها من الأمير الثري الوسيم كاميلو بورجيز Camillo Borghese (1803) وفي فلورنسا (1805) طلب منها كانوفا Canova أن تتخذ وضع ديانا الصيادة، وكانت بولين ميّالة للموافقة، إلا أنها عندما سمعت أنّ ديانا طلبت من جوبيتر Jupiter أن يهبها عذرية دائمة ضحكت واستبعدت الفكرة·
وعلى أية حال فهناك من حثها على أن تتخذ وضع فينوس Venus Victrix وهي شبه عارية، فكثر المترددون على متحف بورجيز (جاليريا بورجيز Galleria Borghese) لرؤية الصورة وكان بورجيز نفسه واعيا بعدم كفاءته فتفرغ لواجباته العسكرية كضابط عند نابليون، وتركها· وراحت بولين Pauline تسلِّي نفسها بشكل مخزٍ متجاوزة المعايير الأخلاقية، فألحقت بصحتها الضرر لكن ليس من دليل واضح على إصابتها بالسيفلس (الزهري) وكانت ربة الجمال اللعوب أيضا مثالا للرقة ولم تكن تفوقها في رقتها سوى جوزيفين التي راح كل آل بونابرت - ما عدا نابليون - يشنون عليها حرب مستمرة·(ملحق/1521)
لقد أعطت بولين بسخاء وكسبت صداقات كثيرة دائمة حتى من بين عشاّقها الذي تخلّت عنهم، وكانت أكثر آل بونابرت ولاءً لنابليون بعد أمّها· لقد خرجت عن طريقها لتقابل أخاها غير السعيد وتواسيه وهو في طريقه إلى فريجو Frejus في سنة 1814 وسرعان ما تبعته إلى إلبا، وهناك عملت مضيفة له وأنعشت حياته وحياة الجزيرة بحفلاتها ومرحها وحيويتها ومداعباتها· وعندما خرج من الجزيرة في آخر مغامراته أعطته أجمل قلادة من قلائدها· وعمل مارشان Marchand على انتقالها إلى سانت هيلينا، وكانت تخطط بالفعل لذلك عندما وصلتها أخبار موت نابليون، ولم تعش بعده أكثر من أربع سنوات إذ كان السرطان سببا في موتها (5 يونيو 1825) وهي في الرابعة والأربعين، وسامحها زوجها على ما ارتكبته من آثام وعاش معها عامها الأخير وأقفل جفنيها عندما ماتت·
وكانت جوزيفين قد ماتت (29 مايو 1814) نتيجة إصابتها بنوبة برد حادة بينما كانت تستقبل القيصر إسكندر في مالميزو Malmaison · أما ابنتها هورتنس دي بوهارنيه Hortense de Beauharnais (1783 - 1837) فبعد انفصالها عن لويس بونابرت عاشت في كنف الإمبراطور ثم تحت القيصر في وقت لاحق· ولم تعش حتى ترى ابنها وقد اعتلى العرش باسم نابليون الثالث· أما أخوها يوجين فقد ظل مخلصا لنابليون (الذي تبناه) حتى اعتزاله العرش للمرة الأولى، وبعد ذلك بخمسة أعوام تراجع مع زوجته إلى ميونخ حيث استقبله أبو زوجته ملك بافاريا Bavaria بترحاب· وعندما مات هناك (21 فبراير 1824) وهو في الثالثة والأربعين من عمره، كان كل الفرقاء مجمعين على احترامه·(ملحق/1522)
أما ماري لويز Marie Louise، فقد أخذوها من فرنسا على غير رغبتها وجرى استقبالها في فيينا كأميرة لم تخطئ (في حق بلدها) فتم إنقاذها من الانتقام الذي حل بآل بونابرت· وسمح لها بالاحتفاظ بمينيفال كمرافق لها فبذل كل جهده لمواجهة التأثيرات التي كانت تقع عليها يوميا لنزعها من إخلاصها لنابليون· ويخبرنا مينيفال Meneval أنها في أثناء أسابيعها الخمسة في فيينا تلقت عدة خطابات من زوجها لم تجد وسيلة لإرسال الرد عليها لكنها كانت تأمل أن تنضم إليه في إلبا، وإن لم تُظهر هذا الأمل لمن حولها· ولخوف أبيها أن تتدهور صحتها في فيينا التي تستعد لمؤتمر الحلفاء المنتصرين أرسلها للاستحمام في إيكسلز بينز Aix-les-Bains وفي أول يوليو سنة 1814 عيّن الكونت آدم فون نيبرج Von Neipperg هناك ليكون مساعداً لها في أمورها·
ورغم أنه كان في التاسعة والثلاثين ولم تكن هي قد تجاوزت الواحدة والعشرين فقد ادى اقترابه منها إلى أن قبلته عاشقا عندما بدت لها كل فرص العودة لنابليون وقد تلاشت· وفي سنة 1815 أنعم عليها مؤتمر فيينا بدوقيات بارما، وبياسنزا Piacenza وجواستالا Guastalla، فصحبها نيبرج Niepperg وشاركها في الحكم· وفي سنة 1817 ولدت له طفلة· وعلم نابليون بهذا في سانت هيلينا لكنه لم يُزح صورتها المعلقة على جدار غرفته في لونجوود، وذكرها في وصيته - كما رأينا - بود، وبعد موت نابليون تزوجت نيبرج وعاشت معه على ما يبدو بإخلاص حتى موته في سنة 1829· وتزوجت مرة أخرى في سنة 1834 وماتت في سنة 1847· وإذا وضعنا الظروف المحيطة بها، فإنها تبدو امرأة صالحة لا تستحق إهمال ذكرها·(ملحق/1523)
أما ابنها من نابليون المسمّى ملك روما (وهو اللقبَ التقليدي لوارث الإمبراطورية الرومانية المقدسة) والعُقاب الشاب " L'Aiglon" فقد تم فصله عن أمّه عند مغادرتها باريس وأعيد تعميده باسم دوق رايخشتادت Duke Reichstadt وأصبح في بلاط فيينا لينشأ في ظل تقاليد الهابسبورج Hapsburg وتحت إشرافهم الكامل· وظل مخلصا لذكرى أبيه وراح يحلم أن يستعيد مملكته يوما، وكان يعاني من المرض الذي عاوده مرارا، ومات بالسل في قصر شونبرون Schonbrunn في فيينا في 22 يوليو 1832 وهو في الواحد والعشرين من عمره·
2 - العودة إلى رحاب الوطن
حتى وإن تلاشت ظواهر الأحداث من ذاكرة الفرنسيين فإن صورة نابليون نفسه أخذت شكلا حيا جديدا في ذاكرتهم وخيالهم· فكلّما التأمت الجروح بفعل الزمن، وكلما تم تعويض الملايين الذين ذهبوا للحرب ولم يعودوا، فامتلأت الحقول والدكاكين من جديد، وزاد عدد أفراد الأسر، بدت صوت عصر نابليون أكثر تألقا وبطولة بشكل لا مثيل في التاريخ المدني (أي بصرف النظر عن الوقائع الدينية في التاريخ) · إننا نجد - بادئ ذي بدء - أن الجنود القدماء راحوا يتذكرون أعمالهم البطولية ومآثرهم وينسون معاناتهم· لقد راقت لعيونهم انتصارات نابليون وقلما كانوا يلومونه لهزيمته·(ملحق/1524)
لقد أحبوه ربما كما لم يحب جنود قائدهم في وقت من الأوقات· لقد أصبح رامي القنابل المعمّر الذي حارب مع نابليون هو حكيم قريته تخلّده آلاف القصائد والحكايات والأغاني· ففي القصة الشعرية التي تحمل عنوان (العَلَم القديم Le Vieux Drapean) ومئات غيرها وجدنا Pierre de Beranger (1780 - 1857) يمجدّ نابليون ومعاركه ويهجو النبلاء المستبدين والأساقفة النَّهِمين لتملّك الأراضي لدرجة أحنقت حكومة البوربون فسجنته (1821 - 1828) وكتب فيكتور هوجو Hugo قصيدته ( Ode to the Column) يحتفي فيها بعمود فيندوم Vendome ودلالته التاريخية متوجاً بتمثال نابليون الذي أُزيح سنة 1815 ثم أُعيد سنة 1833· أما بلزاك Balzac في عمله (طبيب المعركة) (1833) فقد صوّر لنا بشكل مُفعم حيوي جندياً محنّكا غيورا يشجب البوربون Bourbon لإصدارهم تقريرا يفيد أن نابليون قد مات· هذا لم يحدث، فالعكس هو الصحيح فمن المؤكد أن نابليون ما زال حيا، وأنه كان ابنا لله جعله أبا للجنود· أما ستندهال Stendhal فلم يكتف بأن بث في رواياته مديحا لنابليون، وإنما أصدر في سنة 1837 كتابه حياة نابليون يلخص لنا فحواه (فحوى كتابه) في المقدمة حيث يقول:
"ليس في قلبي حب إلا لنابليون وقال عن نابليون إنه أعظم من عرفته البشرية منذ قيصر"·
وربما قبل نابليون هذا الإطراء مع شيء غير مؤكد بالنسبة إلى قيصر (دكتاتور روما القديمة)، فلم يكن نابليون ليفقد الأمل في أن تعود فرنسا إلى أيامه (أيام قيصر) · وكان نابليون قد راح يعزّي نفسه في منفاه بأن يؤدي امتعاض الفرنسيين Gallic بسبب نفيه وسجنه إلى أن يصبحوا مخلصين له ثانية· لقد قال لأوميرا O'Meara:
" ستكون هناك ردّة فعل لصالحي بعد أن أرسلوني للمنفى· إن استشهادي (كوني ضحية) هو الذي سيعيد تاج فرنسا لأسرتي··· قبل انقضاء عشرين سنة عندما أكون قد وُوريتُ الثرى، سترى ثورة أخرى في فرنسا"·
وقد تحقَّقت النبوءتان·(ملحق/1525)
ومن هنا فقد أملى مذكراته لتبقى على صورته حية، وقد حقَّقت أغراضها جيدا· وقد تم تهريب مذكراته عن معركة واترلو التي أملاها على جورجو Gourgaud من جزيرة سانت هيلينا، وتم نشرها في باريس سنة 1820، وذكر لنا لا كاس أن نشرها كان نبأ مثيرا وأنه أحدث ضجة· وفي عامي 1821 - 1822 صدرت في فرنسا ستة مجلدات أخرى من سيرته الذاتية· وسرعان ما شقّت مذكرات وحكايات الإمبراطور طريقها ولعبت دورا كبيرا في تعديل الأسطورة (أي صورته بين الناس) وجعلته وهو ميت، قوة حيّة في فرنسا·
وأصبح رفاقه هم رُسُله apostles ( أي حواريوه وفي هذا تشبيه له بالمسيح، والرسل في المفهوم المسيحي هم الدعاة الأوائل للمسيحية - المترجم)، ودافع عنه أوميرا بشجاعة (1822) في عقر دار ألد أعدائه، ودافع عنه لا كاس وجعله بلا أخطاء في كتابه ذي المجلدات الأربعة (1823)، ذلك الكتاب الذي أصبح إنجيلا لعقيدة جديدة مُلهمة·
ولم يظهر تقرير الكونت دي مونثولو de Montholon الموسّع حتى سنة 1847، كما لم يظهر تقريرا جورجو، وبيرتران Bertrand إلا بعد موتهما، لكن في هذه الأثناء كانت شهادتاهما الحية تغذيان هذا الإيمان (بنابليون)، وراح مونثولو يذكرنا بتوجيهاته لابنه وهو - أي نابليون - على فراش الموت مُضْفيا الفضائل على الماضي الإمبراطوري: الحذر والاعتدال والحكم الدستوري وحرية الصحافة وانتهاج سياسة السلام مع العالم والآن أتى دور النصيحة المناسبة:
"دعوا ابني يقرأ التاريخ ويتأمله، فالتاريخ هو الفلسفة الوحيدة الصادقة"·(ملحق/1526)
وحتى في شهادة رفاقه المخلصين فإن الإمبراطور العظيم رغم متاعبه وآلامه وحبسه ومرضه وزيادة أخطائه بحكم كبر سنه، بدا الناس رغم كل هذا وقد نسوا كل هذا وركزوا على انتصاراته الحربية وتراثه الإداري وحدّة ذهنه· لقد كان في الواقع قد تبّرأ من معظم الثورة، فاستبدل الاستبداد بالحرية (أي ترك الحرية وأخذ بالاستبداد) وأحل الارستقراطية محل المساواة والنظام محل جماعات الإخاء (الأخويات)، لكن في صورته الجديدة المعدّلة أصبح مرة أخرى ابنا للثورة واليعاقبة الذين كانوا في وقت من الأوقات أعداءه المضْطهدين، أما الآن فإنهم يتحلّقون حول ذكراه· وفي الوقت الذي كان فيه نابليون ينقِّي سجله ويكفّر عن ذنوبه بما لاقاه من عقاب، كان حكم البوربون الذين حلّوا محله يفقد بريقه، ويقل إقبال الفرنسيين عليه رغم قبولهم إياه في البداية·
لقد كان لويس الثامن عشر نفسه رجلا معقولا تأثر بالتنوير لكنه كان قد سمح أن يسيطر الملكيون على حاشيته، وكان هؤلاء الملكيون غير متسامحين في شيء، ويطالبون بكل شيء بما في ذلك عقاراتهم ومزارعهم القديمة بل ويطالبون بحكومة لا تقيدها مؤسسات التمثيل النيابي· وَوُوجهت المعارضة (بإرهاب أبيض) من الجواسيس والمطاردين، وبالإعدام السريع· ولم يكن الجنود القدامى بمستطيعين نسيان مطاردة ني Ney وإطلاق الرصاص عليه، وكان الجيش لا يزال يذكر بإعزاز نابليون (ذا الجسد الضئيل) الذي كان يتحدث بلا كلفة مع المجنّدين حول النيران الموقدة للتدفئة في المعسكرات، فنابليون هذا قد رقّاهم دون نظر إلى طبقاتهم ودون تأخير بيروقراطي، وكان جيشه العظيم فخراً لفرنسا ورعبا للملوك (أعداء فرنسا) ·(ملحق/1527)
وتذكر الفلاحون أن نابليون حماهم في مواجهة مطالب النبلاء والإكليروس clergy · وكانت البروليتاريا proletariat قد انتعشت في ظل حكمه، وكانت الطبقة الوسطى قد حققت ثروة وحظيت بالمكانة الاجتماعية· وشعر ملايين الفرنسيين أنه رغم أوتوقراطيته autocracy ( ممارسته حكم الفرد) فإنه حافظ على أساسيّات الثورة: نهاية الإقطاع وعوائده ورسومه المرهقة، فتح الطريق للتقدم والترقي أمام كل الطبقات دون استثناء، المساواة أمام القانون، تسيير أمور العدالة بناءً على قوانين واضحة ومكتوبة موحّدة على مستوى الأمة· وعلى هذا فبعد عشرين عاما من وفاته، وُلد نابليون من جديد وراح من جديد يسيطر على عقول الناس وخيالهم· كتب شاتوبريان Chateaubriand:
" العالم مرتبط بنابليون··· لقد فشل نابليون في الاستيلاء على العالم وهو حي، لكنه امتلكه بعد أن مات"·
لقد غذَّت المشاعر البونابرتية ثورة 1830 المعتدلة· لقد انتهى تسلسل الملك بشكل مباشر في أسرة البوربون بتنحّي شارل العاشر عن العرش، فقد كان الملك الجديد لويس فيليب من الفرع الأورلياني Orleanist للبوربون، وكان ابنا للويس فيليب جوزيف، دوق أورليان الذي كان يطلق على نفسه فيليب إيجاليتيه Philippe-Egalite ( فيليب مساواة، فالكلمة Egalite تعنى مساواة) وكان قد صوّت لصالح إعدام لويس السادس عشر· لقد نَعِم الملك الجديد لفترة بتأييد البونابرتيين ودعْمهم، وقد جعل من شعار الألوان الثلاثة (علم الثورة) رمزا للحكم الإمبراطوري وأمر بإعادة تمثال نابليون إلى قمة عمود فيندوم Vendome·
وفي هذه الأثناء كانت وصيّة الرجل الميت (نابليون) قد نُشِرت، وبدت الفقرة الثانية منها رغبة إمبراطورية أخيرة:
"أرغب في أن أُدفن على ضفاف نهر السين بين الشعب الفرنسي الذي أحببته كثيرا"·(ملحق/1528)
وفي كل أنحاء فرنسا راحت ترتفع وتتعالى مناشدات الأمة "أعيدوه إلى وطنه"· دعوا فرنسا تقيم لبطلها الجنازة التي يستحقها مثله· دعوا الرفات المنتصر (انتصار الرفات - كما أصبح يسمّى) يُزيل عار السجن الكئيب! ووصلت المناشدة إلى الحكومة، ويبدو أن وزير الخارجية الفرنسية لويس أدولف ثييه (ثيير Thiers) هو الذي اقترح على زملائه في الوزارة أن يطلبوا من الملك أن يخاطب بريطانيا العظمى للموافقة على نقل جثة نابليون إلى باريس· وثييه هذا (1797 - 1877) هو الذي كتب أعظم كتاب عن تاريخ نابليون، وتم انتخابه في سنة 1871 كأول رئيس في الجمهورية الثالثة· لقد وافق لويس فيليب على مخاطبة الحكومة البريطانية في هذا الشأن لأن ركوبه هذه الموجة قد يُكسبه قلوب الفرنسيين· ولم يكن مجلس الوزراء البريطاني فوافقا على رأي زعماء الحكومة لكن اللورد بالمرستون Palmerston أجاب مباشرة وببراعة:
"إن حكومة صاحبة الجلالة تأمل أن يكون ردها الإيجابي دليلا تقدمه للشعب الفرنسي على رغبتها في محو آخر أثر للعداوة بين الأمتين، تلك العداوة التي أدت في حياة الإمبراطور - إلى حرب مسلحة بين الأمتين".
وعَهِد الملك الفرنسي إلى ابنه فرانسوا أمير جونفيل Prince de Joinville بالتوجه إلى سانت هيلينا ليعيد رفات نابليون· وفي 7 يوليو سنة 1840 أبحر الأمير من طولون على منَ السفينة (بل بول Belle Poule) وبصحبته الجنرالات؛ بيرتيران، وجورجو، وكونت دي لا كاس ومارشان خادم نابليون الأثير لديه، فهؤلاء هم الذين سيقررن أنَّ الجثّة لنابليون· وصلوا سانت هيلينا في 8 أكتوبر، وبعد كثير من الإجراءات الرسمية رأوا الجثة بعد إخراجها من القبر وتعرفوا عليها وفي 30 نوفمبر وصلوا بها إلى شيربورج Cherbourg·(ملحق/1529)
وهناك بدأت أطول جنازة في التاريخ· نقول أطول جنازة كحقيقة مؤكَّدة· لقد نقلت الجثة إلى الباخرة نورماندي Normandie التي نقلتها بدورها إلى فال دي لا هاي Val de La Haye على السين إلى الأدنى من الرون Rouen ثم نقلت إلى سفينة نهرية أقيم عليها معبد (مصلّى أو كنيسة صغيرة) يحرسها في أركانها الأربعة كل من بيرتران، وجورجو، ولاكاس، ومارشان، وتحت هذا المعبد (أو الكنيسة الصغيرة) كان التابوت الذي يضم الرفات مُطلاً على نهر السين· وراحت السفينة تتوقف أمام كل مدينة كبرى للاحتفاء على الشاطئ · وعند كوربفوّى Courbevoie ( شمال باريس بأربعة أميال) نقل التابوت إلى عربة جنائزية مزيّنة يحفها موكب من الجنود والبحارة وذوي المكانة ليمر عبر نيللي Neuilly وتحت قوس النصر وعلى طول الإليزيه، وكانت الحشود فرحة تصفّق ·
وفي وقت متأخر من هذا اليوم اللاذعة برودته وصل الجثمان أخيرا إلى مكانه (القبر) - كنيسة مقابر ضحايا الحرب ذات القبة الرائعة· وغصّ صحن الكنيسة ومماشيها بآلاف المشاهدين الصامتين بينما يحمل أربعة وعشرون بحارا التابوت الثقيل إلى مذبح الكنيسة حيث خاطب الأمير دي جونفيل de Joinville أباه الملك قائلا: سيدي، لقد أحضرت لك جثمان إمبراطور فرنسا فأجاب الملك لويس فيليب: إنني أستقبله باسم فرنسا· ووضع بيرتران سيف نابليون فوق التابوت، وأضاف جورجو قبّعة الإمبراطور، وأنشدت الجموع القداس Mass على روحه بمصاحبة موسيقي موزارت Mozart، وأخيرا أصبح رفات الإمبراطور حيث كان يود أن يكون - في قلب باريس وعلى ضفاف نهر السّين·(ملحق/1530)
3 - منظور (زاوية رؤية)
بعد أن نكون قد فرغنا من هذا الكتاب نكون جميعا - المؤلفان والقراء - قد حقَّقنا نبوءته - إن العالم سيحييّ موته بتنهيدة ارتياح· لقد كان قوّة جرى استنفادها، وظاهرة من ظواهر الطاقة الكافية المتفجرة، طاقة صاعدة حارقة، شعلة ماحقة تلتهم تماما كلَّ من يلمسها· إننا لم نجد في التاريخ روحاً أخرى تحرق بهذه الشدّة وعلى طول هذا المدى· لقد كانت إرادته في البداية متردّدة خائفة كئيبة، لكنه سرعان ما اكتشف أسلحتها ومصادرها في ذهن ثاقب وعين فاحصة، فأصبحت إرادة واثقة مندفعة مهيبة كل ذلك مع فهم وإدراك وقوة، حتى حارت الأرباب معه، فربطت إرادات أقل من إرادته قوة لتتحالف معا وتتعقبه وتحاصره وتقيده إلى صخرة حتى تخمد نيرانه· إنها واحدة من أعظم أنواع الدراما في التاريخ، لا تزال تنتظر كاتبا مثل إيسخيلوس Aeschylus ليكتبها·
لكن حتى في عصره كان لديه شخص كهيجل Hegel, لم تُعميه الحدود فرأى فيه قوة عالمية - تتحدث من خلاله لوازم الأحداث والظروف - لتحيل التفرّق إلى وحدة· والفوضى إلى معنى مؤثر· هنا - في فرنسا أولا ثم في وسط أوربا - كانت توجد روح العصر Zeitgeist: الحاجة إلى الانضباط والنظام، نهاية الإفراط المدمّر في الحرية الفردية، والإفراط المدمر في تشظِّي الحكم (المقصود تقسيم أوربا إلى كيانات سياسية صغيرة يحكم كل منها حاكم) · بهذا المعنى كان نابليون قوة تقدميّة، أرسى دعائم الاستقرار السياسي، وأعاد القيم الأخلاقية ونظم الهُويّة وحدّث القوانين ونقّاها وقنّنَها (نظّمها)، وحمى الحياة والممتلكات، وأنهى الإقطاع أو خفّف وطأته، وطمأن الفلاّحين وقدم العون للصناعة، وحافظ على العملة الصحيحة، وطهرّ الإدارة والقضاء وطوّرهما وشجع العلوم والفنون (لكنه لم يشجع الأدب وقمع الصحافة) وشيّد المدارس، وجمّل المدن وأصلح بعض ما دمّرته الحرب، وبفضل حثّه وَدَأَبِه تقدّمت أوربا في ظرف الخمسة عشر عاما التي حكم فيها تقدماً ما كان يحدث إلا في خمسين عاما·(ملحق/1531)
ولم يكن نابليون هو أقوى قوة في عصره وأكثرها دوما، فقد كانت الثورة الصناعية أقوى منه، فقد جعلت بريطانيا العظمى من الثراء بحيث أمدّت وموّلت كي تُسقط نابليون، وبعدها جعلت هذه الثورة الصناعية من أوربا قوّة فعّالة بحيث سيطرت على الكرة الأرضية ثم إن هذه الثورة الصناعية استطاعت بعد ذلك أن تجعل من أمريكا قارة ذات موارد بما يكفي لإنقاذ أوربا وتعويض ما نقص فيها وما كان يلي الثورة الصناعية في القوة هو الثورة الفرنسية التي بدأت في فرنسا 1789 والتي هي بدورها أقوى من نابليون (ابن الثورة) بكثير وأبقى منه بمراحل، فهذه الثورة الفرنسية (1789) نشرت تأثيراتها في كل أنحاء أوربا إذ ألغت الروابط الإقطاعية والرسوم الإقطاعية وأحلّت محلها الحقوق الفردية، وجعلت الجياع (المتعطشين) على مستوى العالم يجدون فيها (أي في الثورة الفرنسية أوضح صوت معبرّ عنهم: الجياع للحرية - حرية الحركة والنمو والعمل الاقتصادي والعبادة والفكر والصحافة، والجياع للمساواة - في الفرص المتاحة والتعليم والصحة والعدالة القانونية·
هؤلاء الجياع (المتعطشون) المعادون - لما هو قائم أخذوا دورهم في السيطرة على تاريخ الإنسان المعاصر: لقد أصبح التعطش للحرية، والضرر الناتج عن المساواة موضوعْين أثيرْين تمّ تناولهما بشكل مستمر في أوربا وأمريكا في القرن التاسع عشر، وأصبح التعطّش للمساواة - على حساب الحرية - جانبا مهيمنا على التاريخ الأوربي والأمريكي في القرن العشرين· فالثورة الفرنسية، والثورة الأمريكية كما فسّرها جيفرسون Jefferson حمَّلت الحرية فوق طاقتها وأفرطت فيها· حَّررت الفرد إلى حد إفساد النظام، وحَّررت القدرات المتفوقة إلى حد نشوء أزمات متكررة بسبب تكدّس الثروة· وقد قدَّم نابليون النظام الذي قمع الفوضى السياسية والاقتصادية والأخلاقية في فرنسا في فترة ما بعد الثورة· وليس هناك نظام يكبح هذه الفوضى في زماننا·(ملحق/1532)
وعندما بالغ نابليون في فرض النظام بعد سلام تيلسيت Tilsit (1807) وأخضع أمور الدولة لإرادة السلطة (القوة) فإنه ساعتها لم يعد يمثل روح العصر· لقد انضم وقتها إلى ملكيات أوربا المطلقة وراح يقلّدها، تلك الملكيات التي كان هو نفسه قد حاربها· لقد حسد الأرستقراطية وحاول إغراءها، تلك الأرستقراطية التي احتقرته وتآمرت لتدميره· لقد أصبح قوة رجعية عندما راحت فرنسا من جديد تَتُوق للحرية وتطالب بالديمقراطية·
ومن سخرية التاريخ أنه بينما كان نابليون في أثناء حياته يعمل على تجسيد حاجة بلاده للانضباط والنظام بعد فترة من الحرية المنفلتة، فإنه أصبح مرة أخرى بعد مماته ابنا للثورة وعدوا للحكم المطلق والأرستقراطية ورمزا للثوار والمتحدث المتمكن المنادي بالحرية (وكان هذا بفضل إعادة صياغة تاريخ حياته، تلك الحياة التي اتخذت طابعا أسطوريا) · في سنة 1799 كانت الظروف وطبيعته قد جعلتاه دكتاتورا يكاد يكون أكثر دكتاتورية من التاريخ، وبعد سنة 1815 وسجنه في سانت هيلينا أعاد الخيال العام تشكيله، وكانت إعادة التشكيل هذه أوضح بعد موته 1821، ليصبح طوال نصف قرن أكثر الدعاة إلى الحرية · لقد ترك لنا عدد قليل من الرجَال العظماء بعد موتهم ما يفيدنا بما كانوا عليه في أثناء حياتهم·
أكان نابليون مثير حرب؟ أكان مسئولاً عن هذه السلسلة المتعاقبة من الحروب الحاشدة، وعن هؤلاء الملايين من الشباب الذين قضوا نَحْبهم ولم يستفيدوا شيئا سوى نشوة المعركة وخُدارها، وملايين النسوة اللائي لم يعد إليهن ذووهن؟ فلنسمعه (أي نسمع نابليون) · لقد اعترف أنه كان يسعد بالقيادة العسكرية (بكونه جنرال) لأنه كان قد تدرب على الفن العسكري ومارسه ممارسة جيدة، لكن كيف كان غالبا ما يتطلّع للخلاص من الحرب لممارسة أحد فنونه الأخرى - الإدارة تحويل الفوضى (الهيولى) السائدة في الحياة إلى نظام فعّال بتأسيس بنية قانونية قوية وقاعدة أخلاقية متينة! كم مرة عرض السلام فووجه بالتسفيه والاحتقار والرفض!(ملحق/1533)
لقد رحب به الإيطاليون كمحرّر سواء في عام 1796 أو في عام 1800· وأعاد النمساويين، ضمّهم (إخضاعهم) عندما كان (أي نابليون) في مصر· وهاجمه النمساويون بينما كان مشغولا عند القنال الإنجليزي، وانضمت بروسيا وروسيا إلى هذا الهجوم دون أن يكون قد ألحق بأيّهما ضررا· وهاجمته النمسا مرة أخرى بينما كان يحارب في إسبانيا، ونقضت روسيا عهدها فلم تدعمه في مثل هذا الموقف، وتعهّدت روسيا في تيلسيت أن تُحكم الحصار القاري على البضائع البريطانية وكان هذا الحصار (المضاد) الذي فرضه نابليون هو السبيل الوحيد أمام فرنسا لمواجهة الحصار البريطاني للموانئ الفرنسية، واستيلاء البريطانيين على السفن الفرنسية والمستعمرات الفرنسية·
وكان الذهب البريطاني قد موّل تحالفاً إثْر تحالف ضد نابليون حتى عندما جنح أعداؤه الآخرون للسلم، وعاملته الحكومة البريطانية كمجرم رغم تسليمه نفسه طوْعا، بينما كان هو نفسه يعامل ضباط الأعداء المأسورين في أثناء المعارك بمودة وإنسانية· لقد قرر أعداؤه تدميره لأنه وصل للملك بجهده وعمله وليس بالوراثة· وهكذا جرى دفاع نابليون· لقد اتفق المؤرخون الإنجليز (عادة ما كانوا عادلين) والمؤرخون الألمان (عادة ما كانوا دقيقين) وكثير من المؤرخين الفرنسيين (عادة ما كانوا وطنيين) مثل ميشيل Michelet ولانفري Lanfrey وتين Taine وليفيبفر Lefebvre - على إدانة الكورسيكي Corsican ·
لقد اغتصب العرش إذ استفاد من إعدام لويس السادس عشر وانهيار حكومة الإدارة الفاسدة ليستولي على عرش هو حق للويس الثامن عشر· مثل هذا الاغتصاب لا يمكن التسامح فيه طالما كان يقلقل الاستقرار السياسي العزيز على كل أمم أوربا· ولم تكن مطالباته بمؤتمرات سلام تؤخذ على محمل الجد طالما كان الحلفاء يرفضون الاعتراف بأمور يرونها غير محتملة كالاعتراف بالسيادة الفرنسية على سويسرا وإيطاليا، وفي وقت لاحق على كونفدرالية الراين·(ملحق/1534)
وشجعته مهارته الحربية على شن الحرب لذا فقد كان سيفاً مصلتاً لا على توازن القوى المطلوب لتحقيق السلام فحسب وإنما على النظام السياسي الأوربي كله، وأدت غرامات الحرب الباهظة التي فرضها بعد انتصاراته إلى أن أصبحت الحكومات المهزومة غير قادرة على تمويل أية حركة مقاومة لحلمه الخيالي، ألا وهو توحيد كل أوربا تحت السيادة الفرنسية وفي ظل قوانين المدوّنة القانونية النابليونية، فاضطرت هذه الحكومات المهزومة إلى أن تقبل راضية الإعانات المالية التي قدّمتها لها الحكومة البريطانية·
وكان الاستيلاء على المستعمرات الفرنسية كوسيلة لإعادة فرنسا إلى وعيها متفقاً مع ما جرى عليه العرف بين الحكومات في حروب القرن الثامن عشر· أكان يمكن لحكومات كاثوليكية - كحكومة النمسا - أن تكون في ظل ملحد لا يخفي إلحاده (المقصود معاد للكاثوليكية) كان قد اضطهد بقسوة البابا الذي مسحه بالزيت (كرّسه) والذي لا يملك سلاحاً سوى تقواه؟ وقد عامل الحلفاء نابليون بكرم بعد تنازله عن العرش للمرة الأولى إلا أنه بمغادرته إلبا نقض الاتفاق فأجبر أوربا على إنفاق الملايين من عوائدها والآلاف من أرواح أبنائها لقمعه وأسره، واكتفت إنجلترا وحلفاؤها بعزله بعيداً من مكان يستحيل معه أن ينطلق مرة أخرى لتحطيم السلام في أوربا·
قلما تكون الحقيقة بسيطة، فغالباً ما يكون لها يد يمنى وأخرى يسرى وغالباً ما تمشي على قدمين· أكان هناك - منذ أشوكا Ashoka - حرب كبرى قدمت فيها أمّة واحدة لقضية أعدائها حلا عادلاً عدالة كاملة؟ يوجد جانب في طبيعة المواطن يجعله يؤمن بأن الله شريك في حروب بلاده· (يحارب في صف بلاده) · ليست هناك دولة مهما كبرت ومهما قوت يمكنها أن تحل المشكلة لأن بعض حروبنا الكبرى ذوات أبعاد غير حربية (مدنية) · إن أفضل سبيل نأمل تحقيقها هو أن نحث مزيدا من الرجال والنساء على تقديم نزاعاتهم إلى محكمة دولية أو عصبة أمم دولية، لكن يجب ألاّ نتوقَّع أن تقدِّم أمة للتحكيم ما تعتبره مسألة حياة أو موت· فالحفاظ على النفس يظل هو القانون الأساسي للحياة·(ملحق/1535)
في نطاق هذه الحدود، على الفيلسوف أن يعمل على تطبيق بضاعته (أفكاره أو فلسفته)، إن عليه أن يفهم ويتسامح· إننا نستطيع أن نفهم الإمبراطور فرانسيس الثاني الذي جرّده نابليون من نصف دولته، وطرده من عاصمته الحبيبة إلى نفسه، ومع هذا فقد عاد إليها وظل محبوباً من شعبه، رغم أنه سُلب وتعرّض للإهانة، ونستطيع أن نفهم الكاثوليكي الطيب وقد صدمه أن يُعامل البابا معاملةً سيئة، ومع هذا فقد طلب من الحلفاء في وقت لاحق تيسير ظروف سجن نابليون الذي اضطهد البابا· ونستطيع أن نفهم ممانعة القيصر إسكندر في التضحية بتجارة بلاده بالتزامه بالحصار القاري (المضاد) الذي فرضه نابليون، ونستطيع أن نفهم قرار إنجلترا بالدفاع عن توازن القوى، ذلك التوازن الذي تعتمد عليه لضمان أمنها وحماية نفسها من سيطرة القوى الخارجية عليها·
ونستطيع أن نفهم دفاع فرنسا عن الرجل الذي خلص حكومتها وقيمها من الفوضى القاتلة، والذي وسّع حدودها بانتصاراته العبقرية وحقق لها عظمة غير مسبوقة· لا· إن نابليون، هذا الرجل الرائع ليس مجرد غول قاتل مخرّب· حقيقة إن رغبته في السلطة وتوقه إليها، واتساع مدى حُلمه الذي لا يقاوم - كل أولئك قاده إلى أفعاله ومصيره، لقد كان أوتوقراطيا (مؤمنا بحكم الفرد) واثقا من أنه يعرف أفضل مما يعرف مواطنوه، ما هو خير لفرنسا وأوربا· لكنه كان أيضاً رجلا كريما، سريع العفو، حنونا يخفي حنانه، تردّد عدة سنوات قبل أن يطلّق جوزيفين، تلك المرأة التي تُقَاد للإثم بسهولة· ويمكننا أن نقول من أجله أنه هو أيضاً قد عانى وكفّر عن ذنوبه، لقد عانى من الأمراض والأطباء وعانى عند تراجعه من روسيا (انسحابه) وعانى في سانت هيلينا التي كان فيها ميتاً حياً·
إنه يبقى الشخصية البارزة المميزة في عصره، وبقي منه شيء نبيل ظل باقياً رغم حبه الأناني للسلطة ورغم تعرضه للهبوط بين الحين والحين من سؤدد العظمة إلى الهزيمة· لقد ظنّ نابليون أننا لن نرى مثيلاً له مرة أخرى لمدة خمسمائة عام· إننا لا نتمنّى هذا، بل إنه لأمر طيب (طيب بما فيه الكفاية) أن نتأمل ونعاني - مرة كل ألف عام - في سلطان العقل البشري، مدى قوته، ومدى قصوره·(ملحق/1536)