ففي سنة 1801 دعا المعهد العلمي الفرنسي باسمه العالم أليساندرو فولتا Alessandro Volta للحضور إلى باريس ليعرض نظرياته عن التيار الكهربائي، وحضر فولتا بالفعل وحضر نابليون ثلاث محاضرات من محاضراته وقدَّم لهذا الفيزيائي الإيطالي ميدالية ذهبية· وفي سنة 1808 أعطى جائزة الاكتشافات في مجالي الكيمياء الكهربيّة لهمفري ديفي Humphry Davy الذي حضر إلى باريس لتسلّمها رغم أن فرنسا وانجلترا كانا في حالة حرب· وكان نابليون يدعو بشكل دوري علماء المعهد العلمي الفرنسي ليجتمعوا به ليقدموا له تقريراً عن الأعمال التي قاموا بها أو الجاري العمل فيها في مختلف مجالات تخصصهم· وفي أحد هذه الاجتماعات، في 26 فبراير سنة 1808 تحدث سكرتير المعهد كوفييه Cuvier ببلاغة كلاسيكيّة رصينة كبلاغة بوفوّن Buffon وكان يحق لنابليون أن يشعر أن العصر الذهبي للنثر الفرنسي قد عاد من جديد·
لقد تفوق الفرنسيون في العلوم البحتة مما جعل فرنسا أكثر الأمم عقلانية وتشكّكاً، أما الإنجليز فشجعوا العلوم التطبيقية وطوّروا الصناعة والتجارة والثروة· مما جعلهم سادة العالم في القرن التاسع عشر· وفي الحقبة الأولى من هذا القرن التاسع عشر خطا في الرياضيات خطوات واسعة كلٌّ من لاجرانج Lagrange وليجندر Legendre ولابلاس Laplace ومونج Monge وهذا الأخير كان صديقا حميماً لنابليون واستمرت صداقتهما حتى الموت· لقد أسف لتحوّل القنصل إلى إمبراطور ولكنه تحمل ذلك بتسامح بل لقد سعد عندما جعله نابليون كونت بلوز Conte de Peluse، وربما كان بينهما سرُّ أن البيلوزيوم Pelusium كان خرائب قديمة في مصر· وقد حزن عندما نفى نابليون إلى إلبا Elba وأظهر فرحه وسعادته علناً عند عودته· وقد أمر البوربوني العائد إلى مُلكه المعهد الفرنسي بطرد مونج، فاستجاب المعهد للطلب، وعندما مات مونج في سنة 1818 أراد تلاميذه في مدرسة البوليتقنية Ecole Polytechnique ( التي ساعد في إنشائها) في حضور جنازته لكنهم مُنِعوا من ذلك، وفي اليوم التالي ذهبوا متجمّعين إلى قبره ووضعوا باقة من الزهور·(ملحق/667)
وقد تأثر لازار كارنو Lazare Carnot بمونج عندما كان يدرس في الأكاديمية العسكرية في ميزيير Mezieres· وبعد أن عمل كمنسِّق للنصر في لجنة الأمن العام وهروبه مع زوجته من الانقلاب الراديكالي في 4 سبتمبر 1797، وجد أمنه وسلواه في الرياضيات· وفي سنة 1803 نشر كتابه انعكاسات على ميتافيزيقيّة حساب التفاضل والتكامل:
Reflexions sur la metaphysique du calcul infinitesimal
وبعد ذلك كتب مقالين آخرين وضع فيهما أسس علم الهندسة التركيبية Synthetic geometry· - وفي سنة 1806 أحدث فرانسوا مولييه Mollein ثورة في مجاله بإدخاله نظام المدخلين في علم مسك الدفاتر إلى بنك فرنسا - وفي سنة 1812 التحق جان فيكتور بونسيل Jean Victor Poncelet - تلميذ مونج - بالجيش العظيم لغزو روسيا، فتم أسره، فشغل وقته في فترة حبسه في صياغة النظريات الأساسية في الهندسة الاسقاطيّة (الإسقاط الهندسي) Projective Geometry وكان وقتا في الرابعة والعشرين من عمره·
الرياضيات هي أم العلوم ونموذجها الأمثل: فقد بدأت بالحساب وارتفعت إلى مستوى المعادلات· ومن خلال مثل هذه التقديرات الكمية دلّت الفيزياء والكيمياء المهندس على ملاحظة العالم وفهمه، وفي بعض الأحيان - كما في حالة تصميم معبد أو جسر - قد تُثمرُ الرياضيات فَنّا· ولم يكن جوزيف (يوسف) فورييه Fourier راضيا بطريقة أيرز Isere (1801) فأراد أيضا تسجيل المعلومات عن توصيل الحرارة في صياغات رياضية دقيقة·
فأجرى على مراحل، تجارب في جرينوبل Grenoble وطوّر، بل واستخدم ما يعرف الآن باسم متتاليات فورييه Fourier Series في المعادلات التفاضلية - ولا زالت معادلات فورييه التفاضلية هذه فعالة في مجال الرياضيات ولا تزال سرا غامضا بالنسبة للمؤرخين· وقد أعلن اكتشافاته في سنة 1807 لكنه لم يعرض منهجه ونتائج بحوثه في هذا المجال في كتابه نظرية تحليلية في الحرارة Theorie Analytique de la Chaleur (1822) الذي يعد واحداً من أكثر الكتب أهمية في القرن التاسع عشر لقد كتب فورييه:(ملحق/668)
"أثر الحرارة موضوع لقوانين ظهرت باستمرار، ولا يمكن اكتشاف هذا الأثر دون الاستعانة بالتحليل الرياضي· وهدف النظرية التي علينا أن نشرحها هو عرض هذه القوانين وإظهارها· إن التحليل الرياضي يختصر كل البحوث الفيزيائية عن انتشار (امتداد) الحرارة في مسائل متعلقة بحساب التكامل، بعد إخضاع الانتشار الحراري للتجارب·· وهذه الاعتبارات تقدم لنا مثالاً فريدا للعلاقة الموجودة بين الرياضيات، والقضايا (أو المسائل) الطبيعية"·
والأكثر إثارة هي التجارب التي أجراها جوزيف لويس جاي لوزاك Lussac بهدف قياس أثر الارتفاع عن سطح البحر على المغناطيسية الأرضية وانتشار الغازات، ففي 16 سبتمبر 1804 صعد في بالون إلى ارتفاع 23,012 قدم، وأدت اكتشافاته التي كتب عنها تقريراً إلى المعهد العلمي الفرنسي في الفترة من 1805 إلى 1809 إلى وضعه بين مؤسسي علم الأرصاد الجوية (الميتيورولويجا meteorology) كما أن دراساته (التي أتت بعد ذلك) عن البوتاسيوم والكلور والسيانوجين cyanogen كانت تعد استمرارا لأبحاث لافوازيه Lavoisier وبيرثول Berthollet في جعل الكيمياء النظرية في خدمة الصناعة والحياة اليومية·
وكان الأكثر تأثيراً في العلوم الفيزيائية في عهد نابليون هو لابلاس Pierre Simon Laplace انه لم يكن يدري أنه كان أوسم رجل في مجلس الشيوخ الذي تم تعيينه فيه بعد فشله كوزير للداخلية· وفي سنة 1796 قدّم بأسلوب متألق لكن ليفهمه العامة كتابة عن نظام الكون " Exposition du Systeme du Monde" تناول فيه نظريته السديمية cosmic origins ( نظرية السديم الأعظم) عن أصل الكون· أما العمل الذي بذل فيه جهودا أكثر روية فهو كتابه الصادر في خمسة مجلدات معالجة للميكانيكا الفلكية " Traite de mecanique celeste" (1799 - 1825) · لقد وظّف التطورات في مجال الرياضيات والفيزياء لتطبيقها على النظام الشمسي - وبالتالي أخضع كل الأجسام السماوية الأخرى لقوانين الحركة ومبدأ الجاذبية·(ملحق/669)
وكان نيوتن Newton قد ذكر أن بعض ما يبدو وكأنه عدم انضباط (عدم انتظام أو عدم خضوع لقاعدة) في حركة الكواكب السيارة - قد تحدّى كل محاولاته لشرحها· فعلى سبيل المثال فإن مدار زُحل يتسع باستمرار وإن كان ببطء أو تمهل - حتى أنه إذا لم يتم وقف هذا الاتساع في المدار، فلابد أن يضيع (أي زُحل) في الفضاء اللانهائي· كما أن مدار المشتري ( Jupiter) ومدار القمر ينكمشان (يضيقان) ببطء، لذا فإنه - على المدى البعيد - لابد أن تمتص (تستوعب) الشمس كوب المشتري، ولابد أن تحدث مأساة بارتطام القمر بالأرض·
واستنتج نيوتن أن الله نفسه لابد أن يتدخل بين الحين والحين لتصحيح مثل هذا الخلل، لكن كثيرين من الفلكيين رفضوا هذا الفرض الباعث على اليأس باعتباره مناقضاً لمبادئ العلم والطبيعة، وذهب لابلاس إلى أن هذا التفاوت (عدم الانتظام) راجع إلى تأثيرات تُصحح نفسها بنفسها بشكل دوري وأن قليلا من الصبر (في حالة المشتري 929 سنة) لازم لتعود الأمور لمسارها المنضبط· وانتهى إلى أنه ليس من سبب يدعونا للقول أن النظام الشمسي والنظام النجمي لن يستمرا حتى النهاية وفقاً للقوانين التي اكتشفها نيوتن ولابلاس·
لقد كانت فكرة مهيبة مرعبة، تلك الفكرة القائلة بأن الكون آلة محكوم عليها أن تستمر وفقاً لرسم بياني لا يتغير، في حركة دائمة في السماء وإلى الأبد· لقد كان لهذه الفكرة أثر هائل في تطوير النظرة الميكانيكية للعقل (النفس) وللمادة على سواء وساهمت مع أفكار داروين Darwin في تقويض أساس اللاهوت المسيحي وإضعافه· فالله - كما قال لابلاس لنابليون - لم يكن رغم كل شيء لازماً (أو لابد من وجوده كضرورة) واعتقد نابليون أن هذا الافتراض غير واضح أو أنه غائم أو غامض بعض الشيء، بل أن لابلاس نفسه أتى عليه حين بدأ فيه يتشكك فيما كان هو نفسه قد قال به في وقت من الأوقات (تراجع عن رأيه) · وكان يتوقف بين الحين والحين عن بحوثه عن النظام الشمسي والنجمي ليكتب نظرية تحليلية عن الاحتمالات " Theorie analytique des probabilities" (1812 - 1820) · وفي نهاية عمره ذكر زملاءه العلماء:
"أن ما نعرفه قليل وأن ما لا نعرفه هائل"·(ملحق/670)
" That which we know is a little thing; that which we do not know is immense."
2 - الطب
ويمكن للأطباء أن يتحدثوا أيضاً عن نابليون برضاً تام· وهو لم يتخلّ أبداً عن أمله في إقناع طبيبه أن العقاقير (الأدوية) ضررها أكثر من نفعها وأنهم سيعذبون يوم القيامة لأن أعداد من تسببوا في قتلهم تفوق أعداد من راحوا ضحية حروب الجنرالات· وكان الدكتور كورفيزار Corvisart الذي أحب نابليون يسمع مزاحه صابرا، وقد انتقم الدكتور أنتومارشي Antommarchi من سخرية نابليون بأن راح يعطيه حقنه شرجية إثر أخرى، وكان نابليون حال تلقيه هذه الحقن الشرجية قد اقترب من الموت، وكان الدكتور الآنف ذكره يعتقد أنه يستحق (يستاهل) هذه الحقن· ويتضح مدى تقدير نابليون لعمل الأطباء المخلصين الأكفاء من أنه أوصى بمائة ألف فرنك للجرّاح الدومينيكاني "الفاضل" لرّي Larrey) 1766 - 1824) الذي صحب الجيش الفرنسي إلى مصر وروسيا وواترلو والذي كان يسارع لتقديم المساعدة السريعة للجرحى، وأنجز مائتي عملية بتر في يوم واحد في بورودينو Borodino وترك لنا أربعة مجلدات عن العمليات الجراحية أثناء الحروب والمعارك Memoires de chirurgie militaire et Campagnes (1812 - 1817) ·(ملحق/671)
ولم يخطئ نابليون عندما اختار جان - نيكولا كورفيزار كطبيب خاص له· فقد كان أستاذا للطب التطبيقي في الكوليج دي فرانس College de France حريصاً عند التشخيص حذراً عند وصف الدواء· لقد كان هو أول طبيب فرنسي يفحص مرضاه بدق الأصابع percussion ( طريقه في التشخيص) - بزل الصدر - كوسيلة تشخيصية مُعِيَنة في حالة أمراض القلب أو الرئتين· وكان قد قرأ عن هذه الطريقة في كتاب ليوبولد أونبرجر Leopold Auenbrugger من أهل فيينا بعنوان طريقة جديدة للتشخيص بقرع الأصابع Inventum novum ex Percussione (1760) وترجم كورفيزار إلى الفرنسية هذه الدراسة المكونة من 95 صفحة وأضاف إليها خبراته وشرحها في كتاب تعليمي في 440 صفحة· وأدى نشر مقاله عن الأمراض والآفاق العضوية في القلب·· إلخ Essai sur les maladies et les lesions organiques du coeur et des gros Vaisseaux (1806) إلى اعتباره أحد المؤسسين الكبار لعلم التشريح الباثولوجي (المرضي) وبعد ذلك بعام انتقل إلى المقر الإمبراطوري كطبيب مقيم، واعتاد الإمبراطور الصعب أن يقول أنه لا يؤمن بالطب لكنه يعتقد في كفاءة كورفيزار· وعندما نفى نابليون في سانت هيلينا انسحب كورفيزار ليعيش مغموراً في الريف، ومات وهو باق على إخلاصه في العام نفسه الذي مات فيه نابليون (1821) ·(ملحق/672)
وأجرى تلميذه رينيه - نيوفيل لينِّي Rene Theophile Laennec مزايد من التجارب على طريقة الفحص بالتسمّع auscultation ( الكلمة حرفيا تعني الإصغاء) وقد استخدم في محاولته الأولى اسطوانتين يوضع طرف كل منهما على جسد المريض وطرف كل منهما الآخر عند أذن الطبيب الذي يفحص بهذه الطريقة الصدر ( Seeing the Chest) والمقصود يتسمَّع الصدر Stethos بأذنيه، فالأصوات الصادرة عن الأعضاء الداخلية - كما في حالة التنفس والكحّة والهضم يمكن سماعها واضحة غير مختلطة بأصوات أخرى تشوّش على معناها، ولمساعدة هذه الأداة واصل لينِّي أبحاثه ولخَّص نتائجه في بحث عن استخدام طريقة التسمّع في التشخيص Traite de l'auscultation mediate (1819) الذي طبع طبعة ثانية في سنة 1826 ووصف هذا المبحث في طبعته الجديدة بأنه أهم بحث كُتب في أعضاء الصدر وظل وصفه لمرض التهاب الرئة (ذات الرئة) مصدرا تقليدياً حتى القرن العشرين·
وكان الانجاز البارز للطب الفرنسي في هذه الفترة هو الطريقة الإنسانية في معالجة المجانين وطريقة معاملتهم· وفي سنة 1792 عندما تم تعيين فيليب بينل Philippe Pinel مشرفاً طبياً على البيمارستان (مستشفى الأمراض العقلية) الذي كان ريشليو Richelieu قد أسسه في ضاحية بيكتر Bicetre - صُدِم عندما وجد أنّ حقوق الإنسان التي أعلنتها الثورة بثقة لا وجود لها بالنسبة للمرضى العقليين المحجوزين هنا أو في البيمارستان الآخر - سالبترييه Salpetriere، فكثير من النزلاء كانوا مقيَّدين بالسلاسل حتى لا يؤذوا الآخرين أو أنفسهم كما كان يتم تهدئة كثيرين منهم بِفَصْدِ دمائهم بشكل متتابع أو بتقديم أدوية منوّمة لهم، وأي نزيل جديد (ليس من الضروري أن يكون مجنونا فربما كان مزعجاً - لا غير - لأهله أو للحكومة) يُزَج به في البيمارستان ويُترك عُرضة للتلف البدني بتعرضه للعدوى أو المرض العقلي (النفسي) كمداً وحزناً·(ملحق/673)
والنتيجة جمع من غريبي الأطوار المحدّقين بغباء اليائسين يظهرون في المناسبات للتسوّل من العامة· وقد ذهب بينل بنفسه للمؤتمر الوطني ليطلب الصلاحيات لمحاولة تخفيف الوضع· لقد فك القيود، وقلَّل عدد مرات فصد الدم وعدد جرعات الأدوية (المهدئة)، وأطلق صراح المرضى في الهواء المنعش وأمر الحراس ألاَّ يعاملوا المجانين كمجرمين ارتكبوا جرائم سرية حقت عليهم بسببها لعنة الله وإنما كمرضى يمكن شفائهم بتحسين أحوالهم ورعايتهم بصبر· وقد صاغ وجهات نظره ونظامه هذا في مبحث كُتب له البقاء بعنوان" Traite medico-philosophique sur l'alienation mentale" (1801) ، وكان لهذا العنوان أكثر من دلالة، إذ كان يقصد ما ذهب إليه أبقراط Hippocratic من أن الطبيب إذا جمع بين عِلْم العَالِم والفهم السوّي الذي يتحلى به الفيلسوف أصبح هو النموذج والمثال· قال أبقراط: "الطبيب محب الحكمة مساوٍ للأرباب"·
3 - البيولوجيا (علم الأحياء) BIOLOGY
3/1 - كوفييه Cuvier (1769 - 1832)
بلغ كوفييه النهى وأصبح على رأس أقرانه رغم انه كان بروتستنتيا في بلد كاثوليكي، وقد شغل منصبا سياسيا رفيعا بل وأصبح عضوا في مجلس الدولة (1814) فقد رفع نابليون من شأن كثير من العلماء في عهده، واحتفظ كوفييه بمكانه في مجلس الدولة في عهد البوربون العائدين للحكم وأصبح رئيساً للمجلس ونبيل فرنسا في سنة 1830· وعندما مات (1832) كان قد حاز الشرف في كل أنحاء أوروبا باعتباره مؤسسا لعلم البالونتولوجيا paleontology ( علم أشكال الحياة في العصور الجيولوجية السالفة) وعلم التشريح المقارن كما أنه جعل البيولوجيا (علم الأحياء) مفهومة للعقل الأوروبي وقادرة على تغييره·(ملحق/674)
وكان أبوه ضابطا في كتيبة سويسرية فازت بوسام الاستحقاق (الجدارة) وتزوج أبوه في الخمسين من عمره من زوجة شابة رعت بحب واهتمام ابنه من الناحيتين البدنية والعقلية (النفسية) وكان ابنه هذا هو جورج - ليوبولد - شريتي Georges Leopold-Chretien، لقد كانت تراجع واجباته المدرسية وهو طالب وتجعله يقرأ لها كلاسيكيّات الأدب والتاريخ، فتعلم كوفييه أن يكون فصيحا إذا كان الحديث عن الرخويات molluscs ( كالمُحّار والبسيدج والحلزون··) والديدان worms ·
وكان لديه من المال ليقدمه للأكاديمية التي كان تشارلز يوجين Charles Eugene دوق فيرتمبرج Wurttemberg قد أسسها في ستوتجارت Stuttgart حيث يقوم ثمانون معلماً بتعليم أربعمائة طالب مختار· وفي هذه الأكاديمية فُتِنَ لفترة بكتابات لينايوس Linnaeus وفُتِن بشكل دائم بكتاب بوفون Buffon: " التاريخ الطبيعي Histoire naturelle"· وتخرّج من الأكاديمية وحصل منها على كثير من الجوائز لكن لم يكن لديه أي إرث يُتيح له تموين مزيد من الدراسة فعمل معلّما خصوصياً لدى أسرة تعيش بالقرب من فيكامب Fecamp على القنال الإنجليزي· وجذب اهتمامه بعض الحفريات (البقايا المتحجرة من عصور جيولوجية سالفة) قد ظهرت عليها - بكل معنى الكلمة - بقايا حياة نباتية وحيوانية لعصور ما قبل التاريخ·
كما فتنته بعض الأصداف (المحارات) المتجمعة من البحر بتباين تكوينها الداخلي وأشكالها الخارجية حتى أنه اقترح من خلالها تصنيفا جديداً للكائنات الحيّة وفقاً لتركيبها واختلافها أو بتعبير آخر وفقاً لطبيعة تكوينها واختلاف كل نوع منها عن النوع الآخر· ومن هذه البداية طوّر معلومات عن الحفريات وأشكال الحياة لم يكن لها نظير قبله وربما لم يحدث بعده أن ظهرت معلومات على الدرجة نفسها من القيمة· لقد عكف بشغف وحب استطلاع ودأب لا يكلّ ولا يمل·(ملحق/675)
ووصلت أخبار عن علمه وتطبيقاته إلى باريس وحظي بتوصيات مفيدة من أولئك الذين سينافسونه مستقبلا، سانت هيلار Saint - Hilaire ولامارك Lamarck وجعلته هذه التوصيات ينال أستاذية علم التشريح المقارن وهو في سن السابعة والعشرين (1796) في المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي· ونشر وهو في الواحدة والثلاثين كتاباً يُعد واحداً من كلاسيكيّات العلوم في فرنسا دروس في "علم التشريح المقارن Lecons d'anatomie Comparee" وحتى الثالثة والثلاثين أصبح أستاذا أساسيا (باحثاً معترفاً به) في حديقة النباتات (جاردين دي بلانت Jardin des Plants) ، وفي الرابعة والثلاثين أصبح سكرتيراً دائماً (أي مديراً تنفيذياً) لقسم العلوم الفيزيائية والطبيعية في المعهد الوطني· وفي هذه الأثناء (1802) كثرت أسفاره كمندوب للمعهد في مهمة إعادة تنظيم التعليم الثانوي·
ورغم واجباته كمعلّم وإداري فقد واصل أبحاثه مستعيناً ببعض المتعاونين معه لدراسة وتصنيف كل أنواع النبات والحيوان التي حفظت الحفريات بقاياها أو التي لا تزال حيّة تدب على الأرض أو تعيش في البحر· وكتابه "التاريخ الطبيعي للأسماك Histoire naturelle des Poissons " (1828 - 1831) يصف لنا خمسة آلاف نوع من السمك· وأبحاثه عن "حفريات ذوات الأربع Recherches sur les ossements fossiles des quadrupedes " (1812 - 1825) تكاد تكون قد أوجدت علم حفريات الثدييات· إنّ هذا البحث يضم وصف كوفييه للفيل الأول الغامض وقد أسماه الماموث mammoth والذي تم العثور على بقاياه (1802) مدفونة تحت كتل جليدية ظلت متجمدة بشكل دائم في سيبيريا وظلت محفوظة بشكل جيد حتى أن الكلاب أكلت من لحمها بعد إذابة الجليد الذي فوقها· وفي واحد من مجلداته هذه شرح كوفييه مبدأه العلمي عن اتصال الأجزاء وعن طريق هذا المبدأ فكر في إعادة بناء نوع محدّد بدراسة عظمة واحدة تكون باقية من أحد أفراده (أي أفراد هذا النوع) ·(ملحق/676)
كل فرد سوي (المقصود فرد من النوع أياً كان هذا النوع) يكوّن نظاماً (نسقاً) كاملا، فكل أجزائه تتواصل بشكل طبيعي، وتعمل في الوقت نفسه لتحقيق هدف محدّد بعينه عن طريق ردود فعل تبادلية، أو عن طريق العمل المشترك الذي يصل إلى غاية واحدة· ومن هنا فإن أيّاً من هذه الأجزاء المنفصلة لا يمكن أن يُغيَّر شكله دون تغيير يتم بالاتفاق مع الأجزاء الأخرى في الكائن الحي نفسه (الحيوان) وعلى هذا فإن كل جزء من هذه الأجزاء، - إذا تمت دراسته بشكل منفصل - يشير إلى كل الأجزاء الأخرى في الكيان (الفرد) الذي ينتمي إليه· وعلى هذا··· إذا كانت أمعاء حيوان منضبطة لتكون ملائمة فقط لهضم اللحوم الطازجة، فإن هذا يتطلب أن يكون الفكّان مهيَّأين لالتهام الفريسة وأن تكون الأسنان مهيّأة لتقطيع لحمها،
وأن يكون نظام الأطراف كله، أو سائر أعضاء الحركة مهيّأة لنتبّع الفريسة وإدراكها، وأن تكون الحواس مهيّأة لاكتشافها - أي الفريسة - عن بُعد·· وإذا كنا قد استنتجنا كل ذلك من دراستنا للأمعاء، فالأمر أيضاً ينطبق على المخالب وعظام الكتف والنتوءات المفصلية وعظم الذراع أو أي عظام منفصلة، فكل هذه الأجزاء تمكننا من اكتشاف وصف الأسنان في الحيوان الذي تنتمي إليه، وعلى نحو تبادلي يمكننا أن نعرف عن عظام هذا الكائن بدراسة أسنانه· وعلى هذا فإن بدأنا دراستنا بتمعّن عظمة واحدة من الكائن الحي أمكننا أن كنا على قدر كافٍ من العلم بالتكوين العضوي للحيوان، إعادة تشكيل أو تكون (أو تصور) هذا الكائن الحي - الذي أتت منه هذه العظمة - بشكل كامل·(ملحق/677)
وفي سنة 1817 ومن خلال عمله في ماموث آخر قدّم لنا كوفييه في مبحثه " Le Regne animal distribue d'apres son organization" تصنيفه للحيوانات في فقاريات، ورخويات ومفصليات وإشعاعات radiates وعمد إلى شرح تعاقب طبقات الحفريات بإرجاعها إلى انقراض مئات الأنواع بسبب اضطرابات أرضية شديدة· أما عن أصل الأنواع فقد قبل النظرة التقليدية السائدة وقتئذ والتي مؤدّاها أن الله خلق كل نوع على حدة (أي لم يتطور نوع من نوع آخر) لأن تباينها ناتج عن التوجيه الإلهي ليتلاءم كل كائن عضوي مع بيئته، وأن هذا التباين بين الأنواع لا يمكن أن يُنتج أنواعاً جديدة· ولقد انشغل كوفييه في مناقشة هذه الأمور وغيرها طوال عامين قبل وفاته، وكانت مناقشاته قد حققت شهرة كبيرة بدت لجوته أهم أحداث التاريخ الأوروبي في سنة 1830· وكان إتين جيوفروي سانت هيلار Etienne Geoffroy Saint Hilaire هو مناوئه ممن بقوا على قيد الحياة قد بني نظريته على تحوّل العضو الحي وتطور الأنواع معارضاً بذلك كوفييه الذي لا يزال أعظم علماء البيولوجيا (علم الأحياء) ·
3/ 2 - لامارك Lamarck (1744 – 1829)
من السهل أن نحب لامارك لنضاله ضد الفقر في شبابه، ولنضاله في فترة نضجه ضد كافييه الذي حقق شهرة عالمية، ولنضاله ضد العمى والفقر في شيخوخته، وأكثر من هذا لأنه ترك لنا نظريته عن أسباب التطور وطرائقه، تلك النظرية الأكثر قبولا لرقتها وتخلّصها الرفيق من نظرية الاختيار الطبيعي القاسية التي قدمها لنا دارون المهذب·
ومثل معظم الفرنسيين حمل لامارك جيشاً من الأسماء· انه جان - بابتست - بيير - أنطوان دي مونت - فارس لامارك Jean - Baptiste-Pierre-Antoine de Monet, Chevalier de Lamarck وكان الابن الحادي عشر لأب عسكري استطاع تدبير مناصب عسكرية لكل أبنائه ما عدا الأخير الذي أرسله إلى كلية من كليات الجزويتيين Jesuit college ( اليسوعيين) في أمين Amiens··· وغار من إخوته بأسلحتهم وخيولهم فترك الكلية فأنفق مخصصاته في شراء حصان هَرِم وانطلق إلى أسبانيا محارباً· لقد حارب ببسالة، لكن مجاله البطولي انتهى بجرح في رقبته أثناء مباريات في المعسكر، وكانت هزيمته في المباراة مخزية،(ملحق/678)
فذهب ليعمل ككاتب في بنك ودرس الطب وقابل روسّو واهتم بالنباتات وراح يتتبعها ويدرسها طوال تسع سنين ونشر في سنة 1778 كتابه عن النباتات في فرنسا Flore francaise وقَبِلَ بعد أن أوشكت موارده الاقتصادية على النفاد أن يعمل كمعلم خصوصي لأولاد بَفّون Buffon، ولو حتى مقابل انتهاز فرصة مقابلة هذا العجوز المخضرم· وعندما مات بفّون (1788) قبل لامارك عملاً متواضعاً كأمين لمخزن الأعشاب في الحديقة الملكية Jardin du Roi ( جاردين دي روي) في باريس وبعد إقالة الملك تحول اسمها بناء على اقتراح لامارك إلى حديقة النباتات· ولأن الحديقة كانت تضم أيضاً مجموعات حيوانية فقد أطلق لامارك مصطلح البيولوجيا على العلم الذي يدرس كل الأحياء من نبات وحيوان·
وكلما اتسعت دائرة اهتمامه لتشمل الحيوانات إلى جانب النباتات، ترك دراسة الفقاريات لكوفييه وأخذ على عاتقه دراسة الحيوانات التي ليس لها عمود فقري وأطلق عليها اسم اللافقاريات invertebres · وبحلول عام 1809 توصّل لأفكار أصلية فشرحها في مبحثيه: "نظام اللافقاريات Systeme des animaux sans vertebres" و"فلسفة عالم الحيوان Philosophie Zoologique" · ورغم تدهور قدرته على الإبصار، فقد واصل دراساته وكتاباته مستعيناً بأخته الكبرى وبيير أندريه لاتريل Pierre Andre Latreille· وفي الفترة من 1815 إلى 1822 أصدر تصنيفه النهائي والنتائج التي توصّل إليها في كتابه الضخم: "التاريخ الطبيعي للافقاريات Histoire naturelle des animaux sans vertebres" وبعد ذلك أصابه العمى تماماً وأصبح عاطلاً عن العمل يكاد يكون معدوما· لقد كانت حياته ضريبة ثقيلة دفعها لقاء شجاعته، وكانت حالُه في شيخوخته عاراً لحكومته·(ملحق/679)
وبدأت فلسفته في علم الحيوان (أو بتعبير آخر إقامته على أسس عقلية) بتأمله التغيّر الدائم (الذي لا ينتهي) والغامض في أشكال الحياة· فكل فرد يختلف عن كل الأفراد الأخرى (فرد بمعنى واحد من جنس أو نوع من الكائنات الحية)، ومن بين أي نوع يمكن أن نجد فروقاً دقيقة تجعل من الصعب - وربما من عدم الدقة - أن نفصل النوع عن جيرانه الأقرب إليه شبها ونَسَبا سواء من حيث الشكل أو الوظيفة، وانتهى لامارك إلى أن النوع هو فكرة مجرَّدة أو مجرد مفهوم، أما في الحقيقة فليس هناك إلاّ موجودات فُرادى أو أشياء فُرادى أما الأقسام والفروع والأنواع التي نجعلها إطارا نجمع تحتها الأفراد أو نصنِّفهم من خلالها فما هي إلاّ أدوات فكرية (عقلية) تساعدنا على التفكير فيما هو متشابه·
لكن كيف ظهرت هذه الأنواع المختلفة من نبات وحيوان؟ هنا يجيبنا لامارك بالقانونين التاليين:
القانون الأول: في كل حيوان مازال في حالة تطور نجد أن العضو الأكثر استخداما والأكثر اعتماداً عليه، يقوى تدريجيا ويتطور وينمو بمرور الوقت، بينما العضو الذي لا يستخدم باستمرار يضعُف ويتقلص تدريجيا وينتهي الأمر باختفائه· (قانون الاستعمال والإهمال) ·
القانون الثاني: كل شيء أرادته الطبيعة أفرادا كي يكتسب بتأثير الظروف التي يمر بها جنس أو نوع هؤلاء الأفراد صفات بطول التعرض لهذه الظروف، أو يفقد بتأثير هذه الظروف نفسها صفات أخرى، وعلى هذا فتأثير الاستخدام السائد (المهيمن أو الغالب) للعضو أو بتأثير عدم استخدامه ينتقل بالوراثة إلى أفراد جديدين ينحدرون منه، والتغييرات الحادثة نتيجة الظروف السابقة تشمل الذكر والأنثى أو بتعبير آخر تشمل أولئك الأفراد الناتجين من أصلاب السابقين·(ملحق/680)
وكان القانون الأول واضحاً· فذراع الحداد تنمو لتصير أكبر وأقوى بسبب كثرة الاستخدام، ورقبة الزرافة تطول بسبب جهدها في الوصول إلى الأوراق العلوية للأشجار، وحيوان الخُلْد mole أعمى لأن حياته بشكل مستمر في الجحور تجعل عينيه لا تستخدمان· وفي كتاباته الأخيرة قسّم لامارك قانونه الأول إلى عنصرين مكمِّلين: الظروف البيئية أو (التحدي) وحاجة الكائن الحي ورغبته التي تحث جهوده لتحقيق الاستجابة المطلوبة كتدفق الدم في الحيوان أو العصارة في النبات إلى العضو المستخدم· وهنا حاول لامارك أن يجد إجابة للسؤال الصعب التالي: كيف تنشأ هذه الاختلافات؟ لقد أجاب كوفييه Cuvier عند هذا السؤال قائلا أن الله سبحانه يتدخل بشكل مباشر لإحداث هذا التغيير، أما دارون فذهب إلى أن هذا يتم من خلال اختلافات تصادفية أي تتم بالصدفة، ولا نعرف سببها· أما لامارك فقال بأن التغييرات تنشأ من حاجة الكائن الحي ورغبته وجهده الدائم لمواجهة الظروف البيئية· وقد لاقى هذا التفسير ترحيبا من علماء النفس المعاصرين الذين ركّزوا على الفعل الإبداعي للإرادة·
لكن قانون لامارك الثاني ووجه بآلاف من الاعتراضات· فقد رفضه البعض على أساس أن الختان عند الشعوب السامية وهو عادة تُمارس منذ القديم لم تؤد إلى ظهور مواليد مختونين بالطبيعة، والأمر نفسه بالنسبة لضغط القدم عند الصينيين لم تؤد إلى ظهور مواليد ذوي أقدام صغيرة (رغم أن العادة تُمارس من قديم)، وهذا ينفي وراثة الصفات المكتسبة التي قال بها لامارك، لكن مثل هذه الاعتراضات التافهة فشلت - بطبيعة الحالي - في أدراك أن هذه العمليات كانت ذات أبعاد خارجية متعدّدة الجوانب وليست بأية حال منطوية على حاجة داخلية أو نتيجة جُهد داخلي مبذول·(ملحق/681)
وفشلت بعض الاعتراضات الأخرى لفشلها في إدراك معنى المدى الزمني الطويل المطلوب لكي تُحدث الظروف البيئة أثرها بإحداث تغيير في (الجنس) أو (النوع) وقد وافق كل من دارون، وهربرت سبنسر - وفقاً لهذه الشروط: طول المدى الزمني، والجهد الداخلي المبذول - على إمكانية توريث الصفات المكتسبة، وكان هذا لصالح نظرية التطور، والمقصود بالصفات المكتسبة العادات أو التغيرات العضوية التي تتطور بعد الميلاد· واتخذ ماركس وانجلز موقفاً مؤيداً لمبدأ التوريث (البيولوجي) هذا وعوّلا على بيئة أفضل لإنتاج إنسان أفضل، وظل الاتحاد السوفييتي لفترة طويلة يعتبر اللاماركية جزءا من عقيدته المحدّدة·
وفي حوالي سنة 1885 صفع أوجست فيسمان August Weisman نظرية لامارك صفعة قوية بأن أعلن أن البلازما germ plasm ( الخلايا التي تحمل الصفات الوراثية) محصّنة ضد التغييرات في الجسد المحمي (المغطّى enveloping body) فهذا الجسد وفقاً للتعبير العلمي سوما بلازم Somaplasm وبالتالي لا يمكن أن يتأثر (يتغير) بالخبرات الحادثة بعد الولادة· لكن هذا الزعم أصبح غير صحيح عندما وجدت بعض الكروموزومات Chromosomes ( المورثات) في الخلايا البدنية، وخلايا البلازما، لقد أعادت التجارب - بشكل عام - التشكيك في نظرية لامارك، لكن أخيراً ظهرت بعض الأدلة في الباراميسيوم Paramecium وبروتوزوا Protozoa أخرى تؤيد التغير أو التحوّل الذي قال به لامارك· وربما ظهرت أمثلة أخرى تؤيد نظريته إذا أمكن أن تستمر التجارب على مدى الأجيال المتعاقبة، فمعاملنا تعاني من عدم إمكانية استمرار التجربة لفترة طويلة، وليس الأمر كذلك بالنسبة للطبيعة·(ملحق/682)
4 - ما هو العقل؟
كان تركيز لامارك على الشعور بالحاجة وعلى الجهد المتواصل كعوامل لرد الفعل العضوي متناسقا مع تراجع علماء السيكولوجي (علم النفس) في المعهد العلمي الفرنسي عن النظر للعقل كآلة ليس لها حق المبادرة وإنما هو استجابة لأحاسيس خارجية وداخلية· وقد استخدم علماء النفس كلمة فلسفة عند تلخيص ما توصّلوا إليه· فالفلسفة لم تنفصل بعد تماما عن العلم، والحقيقة أن الفلسفة قد تكون - بالضبط - هي خُلاصة العلم إذا نجح العلم في أن يكون مطابقاً للعقل (المنطقة) وكان واعيا لصياغة مناهج فروضه، وتطبيق ملاحظاته (مشاهداته) وإحكام تجاربه وصياغاته الرياضية ذات النتائج التي يمكن إثباتها والتحقق منها لكن هذا الوقت لم يكن قد أتى بعد واعتبر (علماء نفس) القرن التاسع عشر أنفسهم هم الذين عليهم أن يجدوا المبررات المنطقية أو الأسس الفعلية للأمور التي لازالت بعيدة عن منال العلم وأدواته·
ورغم معارضة نابليون، استمر الأيديولوجيون ideologues طوال عقد من الزمان يهيمنون من خلال تدريس الفلسفة وعلم النفس في المعهد العلمي الفرنسي· وكان عدوّه اللدود his bete noire في المعهد العلمي هو أنتوان ديستون دي تراسي Antoine Destutt De Tracy المهيّج حامل شعلة حسيَّه كوندياك Condillac's sensationism طوال سنوات الحكم الإمبراطوري· وتم إرساله كمندوب جماهيري إلى مجلس الدولة في سنة 1789 فعمل على إصدار دستور ليبرالي وهو الذي صدر بالفعل في سنة 1791، لكن في سنة 1793 اعتراه سخط وخوف بسبب وحشية الجماهير وإرهاب اللجنة الكبرى فابتعد عن السياسة واشتغل بالفلسفة·(ملحق/683)
ففي ضاحية أوتيل Auteuil انضم لمجموعة جذابة مُلتفة حول مدام هلفيتيوس Helvetius الجميلة أبدا، وهناك تعرض للتأثيرات الراديكالية لكل من كوندورسيه Condercet وكاباني Cabanis· وأصبح عضواً في المعهد العلمي فكانت له السيادة في القسم الثاني المخصص للفلسفة وعلم النفس وفي سنة 1801 بدأ في نشر أجزاء من كتابه عناصر الأيديولوجية Elements d'ideologie وأتم نشره في سنة 1815· وقد عرّف الأيديولوجية بأنها دراسة الأفكار على أساس حسِّية كوندياك أو المذهب الحسي القائل بأن كل الأفكار نابعة من الحواس أو مشتقّة منها· وهذا - فيما اعتقد - قد يبدو غير حقيقي فيما يتعلق بالأفكار العامة والمجردة كالفضيلة والدين والجمال أو الإنسان،
لكن عند التعامل مع مثل هذه الأفكار يجب أن نفحص الأفكار الأساسية التي تم استخلاصها منها، وأن نعود إلى الإدراك الحسّي البسيط الذي انبثقت منه وظن ديستوت Destutt أن هذه الدراسة الموضوعية يمكن أن تُزيح الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعية) من مكانها، وتُنهي حكم كانط Kant · وإذا لم نستطع أن نصل إلى نتيجة محدّدة بهذه الطريقة علينا أن ننتظر وأن نُرجئ الحكم وأن نحاول توضيح أننا - حقيقة - لا ندري· هذه أللا أدرية agnosticism ( مشتقه من لا ندرى) المحكمة لم تُعجب نابليون أللا أدري ذلك أن نابليون في هذا الوقت كان يرتب أمور الوفاق (الكونكوردات Concordat) مع الكنيسة·
وصنّف ديستوت - دون أن يأبه لاعتراض - الأيديولوجيا (ويقصد السيكولوجيا psychology) باعتبارها أحد أقسام علم الحيوان Zoology، وعرَّف الوعي consciousness بأنه إدراك الحواس (إدراك حسّي sensations) وعرّف الحكم Judgment ( أي التمييز الإدراكي) بأنه الإحساس بالعلاقات، وعرّف الإرادة بأنها حاسّة الرغبة· فكما أن المثاليين (أصحاب المذهب المثالي) نافحوا عن فكرة أن الحواس لا تُثبت بطريق لا تحتمل الشك وجود العالم الخارجي، فإن ديستوت كان يعني المشاهد والأصوات والروائح والطعم لكنه أصرّ على أنها قد تدرك على سبيل اليقين وجود العالم الخارجي عن طريق اللمس والوجود والحركة، فكما سبق أن قال الدكتور جونسون أننا نستطيع أن نحسم هذه المسألة بركل حجر·(ملحق/684)
وفي سنة 1803 ألغى نابليون القسم الثاني في المعهد العلمي فوجد ديستوت دي تراسي نفسه بلا مدرّج يلقي فيه محاضراته وبلا طابع ولم يكن قادرا على الحصول على تصريح لنشر كتابه ملاحظات على روح القوانين لمونتسكيو فأرسل مخطوطة الكتاب إلى توماس جيفرسون رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الذي أمر بترجمته للإنجليزية وطُبع في سنة 1811 دون الإشارة لاسم مؤلفة· وعاش ديستوت حتى بلغ الثانية والثمانين، وأصدر في أواخر عمره بحثاً عن الحب De L'Amour (1826) ·
بدأ مين دي بيران ( Marie-Francois-Pierre Gonthier de Biran) عمله في مجال الفلسفة بعرض فلسفته الحسية Sensationism بغموض ضَمِن له الشهرة· لقد بدأ عسكرياً وانتهى صوفيا (باطنيا) · في سنة 1784 التحق بالحرس الملكي للويس السادس عشر وساعد في الدفاع عنه ضد كتيبة النساء الرهيبة التي حاصرت الملك والملكة في فرساي في الخامس والسادس من أكتوبر سنة 1789· ولما أصابه الرعب من الثورة عاد إلى عقارٍ له بالقرب من برجراك Bergerac· وتم انتخابه للمجلس التشريعي في سنة 1809 وعارض نابليون في سنة 1813 وأصبح مسئولاً عن خزانة مجلس النواب في عهد لويس الثامن عشر· وكانت كتاباته عملاً إضافياً إلى جانب مهمته السياسية، ولكنها رفعت شأنه بين الفلاسفة الفرنسيين في عصره وجعلته في مكان الصدارة، وحقق شهرة سنة 1802 بفوزه بالجائزة الأولى في مسابقة موّلها المعهد العلمي· وبدت مقالته أثر العادة في القدرة على التفكير L'Influence de l'habitude sur les facultes de penser تنهج نهج وهات النظر الحسية التي قال بها كوندياك بل وحتى السيكولوجيا الفسيولوجية (علم النفس الفسيولوجي) التي قال بها ديستوت دي تراسي Destutt de Tracy·(ملحق/685)
"لقد كتب أن طبيعة الفهم ليست أكثر من مجموع العادات الرئيسية للعضو المركزي الذي لابد من اعتباره الحاسة الجامعة للإدراك وفكر في أن المرء قد يفترض أن أي تأثير (انفعال) في الحقيقة ممثل في المخ بحركة عن طريق الألياف العصبية لكن مع الإستطراد ابتعد عن هذه الفكرة التي تعني أن العقل ليس أكثر من جامع لحواس الجسم، فقد بدا له أنه عند بذل الجهد للانتباه أو جمع الإرادة يصبح العقل فعّالاً، وفاعلاً أصيلاً وليس مجرد اختصار لأي تجميع لإشارات الحواس"·
واتسعت هوّة الخلاف مع الأيدلوجيين في سنة 1805 بنشر مبحث مذكرات عن تحليل التفكير Memoire sur la decomposition de la pensee الذي يتفق مع رجوع نابليون للدين· لقد برهن مين دي بيران على أن الجهد المبذول لتحقيق الإرادة يُظهر أن روح الإنسان ليست مجرد ترداد سلبي لحواسه وإنما هي إيجابية وذات قوة إرادية كاملة· إنها الجوهر الحقيقي للنفس، فالإرادة والذات (الأنا ego) شيء واحد· (شوبنهاور Schopenhauer سيركز على هذه الإرادية Voluntarism في سنة 1819 وستستمر في الفلسفة الفرنسية لتأخذ شكلاً متألقاً عبقرياً على يد بيرجسون Bergson) · هذه الإرادة المبذولة بجهد بالإضافة للعوامل الأخرى هي التي تقرر الفعل، فيصبح الإنسان حر الإرادة Free will ( قضاؤه وقدره في يده) وبالتالي لا يصبح مجرد آلة لا معنى لها· هذه القوة الداخلية هي حقيقة روحية وليست مجرد تجميع لخبرات الحواس والذكريات· وليس هناك شيء مادي عنها، ولا نعرف لها حيزا أو مكانا· حقيقة - كما يقول مين دي بيران - ربما كانت كل القوى - على هذا النحو - غير مادية ولا يمكن فهما إلا - بالقياس التمثيلي - للإرادة نفسها· وانطلاقاً من وجهة النظر هذه كان ليبنز Leibniz على حق في وصف العالم (الكون) بأنه مجموعة من عناصر الوجود الأولية monads مركبة ومتصارعة، وكل منها يمثل محوراً أو مركزاً لقوة Force وإرادة Will وذاتية individuality·(ملحق/686)
وربما كانت حياة مين دي بيران الموزّعة بين السياسة والفلسفة بالإضافة إلى المشاركات الحية في اللقاءات الأسبوعية في المعهد العلمي مع كل من كوفييه، وروييه كولار Royer-Collard وأمبير Ampere وجيزو Guizot وفيكتور كوزي Victor Cousin، قد أصبحت حياة خصبة وشاقة، فتدهور صحته وقربت حياته القصيرة البالغة ثمانية وخمسين عاما من الانتهاء، فتحول من التفكير العقلي الواسع المدى إلى الإيمان الديني الهادئ وأخيراً إلى الصوفية (التأمل الباطني) التي انتشلته من آلام العالم· لقد قال إن الإنسان لابد أن يترقّى من المرحلة الحيوانية الحسّية إلى المرحلة الإنسانية حيث الإرادة الحرة الواعية ليذوب في الوعي بالله وحبهّ·
5 - أصوات محافظة
لقد أضعف مفكرو القرن الثامن عشر الحكومة الفرنسية بتشكيكهم في مصداقية الكنيسة وموقفها الأخلاقي وبدعوتهم إلى الاستبداد المتنّور (فكرة المستبد العادل enlightened despotism) للتخفيف من شرور الجهل، وعدم الكفاءة والفساد والظلم والفقر والحرب· وقد أجاب فلاسفة بواكير القرن التاسع عشر على هؤلاء الحالمين بالدفاع عن ضرورة الدين وحكمة التراث وسلطة الأسرة ومزايا المَلَكية monarchy ( بفتح الميم واللام) الشرعية والحاجة الدائمة لأسيجة (حدود سياسية) وأخلاقية واقتصادية لمواجهة طوفان الجهل والطمع والعنف والبربرية وزيادة السكان عن المعدَّل المطلوب·
هناك رجلان في هذه الفترة أدانا بغضب دعوة القرن الثامن عشر للتحول من الإيمان إلى العقل ومن التراث للتنوير· ولد الفيكونت لويس جبريل امبروز دي بونال Ambroise de Bonald (1754) في أسرة تنعم بالرخاء ودرس في ظل الأمن والطاعة والتقوى· واعترته الدهشة لأحداث الثورة الفرنسية وأصبح مهدّداً فهاجر إلى ألمانيا وانضم لفترة إلى جيش الأمير كونديه Conde المعادي للثورة لكنه امتعض من فَوْضاه الانتحارية، فتراجع إلى هايدلبرج Heidelberg ليواصل حربه بقلمه المتحفّظ (المنضبط)(ملحق/687)
ففي كتابه الذي تناول فيه إمكانات السياسة والدين Theorie du pouvoir politique et religieux (1796) دافع عن المَلَكِيّة المطلقة وعن الأرستقراطية المتوارثة ومن السلطة الأبوية في الأسرة وعن سلطان الباباوات الديني والمعنوي على كل ملوك العالم المسيحي وأدانت حكومة الإدارة هذا الكتاب لكنها سمحت للمؤلف بالعودة إلى فرنسا (1797) · وبعد فترة التزم فيها الحذر واصل هجومه الفلسفي بنشره مقالاً بعنوان: مقال تحليلي عن القوانين الطبيعية للنظام الاجتماعي (1800) ورحب نابليون بدفاعه عن الدين كضرورة للحكومة، وعرض عليه عضوية مجلس الدولة فرفضها، ثم قبل في سنة 1806 قائلاً إن الله هو الذي عيّن نابليون ليُعيد الإيمان الحق·
وبعد عودة الملكية شغل سلسلة من الوظائف العامة، وأصدر سلسلة من البيانات المتحفّظة، المتوهّجة حماساً إلاّ أنها كانت غبيّة· لقد عارض الطلاق وعارض حقوق المرأة باعتبارها مدمّرة للأسرة والنظام الاجتماعي وأدان حرية الصحافة باعتبارها تشكل تهديداً لاستقرار الحكومة ودافع عن الرقابة وعقوبة الإعدام واقترح الحكم بالإعدام على كل من يجدِّف (يسخر من) الأواني (الكئوس) المستخدمة في طقوس العبادة الكاثوليكية· وابتسم المحافظون لإمعانه في الحماسة وتمسكه الشديد بالأصولية (المفهوم أنهم ابتسموا ساخرين)، لكنه لقي ترضيةً بمراسلاته مع جوزيف (يوسف) دي ميستر Joseph de Maistre الذي أرسل له من سانت بطرسبرج ما يفيد تأييده الكامل له، ونشر هذا الأخير بعد ذلك مجلدات لابد أنها أسعدت بونال Bonald وهيجت فيه ميلهما الكامل للمحافظة، والتزام الأسلوب المتألق·(ملحق/688)
ولد ميستر في سنة 1753 في شامبري Chambery التي علّمت فيها مدام دي وارن de Warens روسّو فن الحب قبل ذلك بعشرين عاماً· وباعتبار شامبري عاصمة لدوقية سافوي فقد كانت تابعة لملوك سردنيا، وعلى أية حال فإن أهل سافوي كانوا يتكلمون الفرنسية كلغة وطنية وتعلَّم جوزيف أن يكتب الفرنسية بحيوية وقوة بشكل جعل أسلوبه قريباً من أسلوب فولتير· وكان أبوه رئيساً لمجلس شيوخ سافوي وأصبح هو نفسه عضواً في هذا المجلس في سنة 1787، إذن لقد كان لديه هو وأبوه أسبابٌ تجعلهما يدافعان عن الوضع الراهن، أسباب أكثر من كونها فلسفية·
وإذا كان جوزيف ابن أبيه سياسياً (المقصود يذهب مذهب أبيه في السياسة) فقد كان ابناً لأمه عاطفياً فقد نقلت إليه الولاء الحار للكنسية الكاثوليكية· لقد كتب في فترة لاحقة لا شيء يمكن أن يحل محل ما يتلقاه المرء من تعليم على يد أمه وتلقى تعليمه على يد الراهبات والقسس ثم في الكلية الجزوتية (اليسوعية) في تورين Turin، ولم يفقد حبه أبداً لهؤلاء القسس والراهبات، وبعد مغازلة - لم تَطُل - للماسونيين Freemasonry قبل بشكل تام نظرة الجزويت (اليسوعيين) والتي مؤدّاها أن الدولة يجب أن تكون تابعة للكنيسة وأن الكنيسة يجب أن تكون تابعة للبابا·
وفي سبتمبر سنة 1792 دخل جيشُ الثورة الفرنسية سافوي Savoy وفي نوفمبر من العام نفسه تم إلحاق الدوقية بفرنسا· لقد تركت هذه الصدمة التي أعادت تقديم كل الأمور على أسس جديدة - القِيَم والكلاسيكيّات والسلطات والعقائد - ميستر، في حالة من البعض والكراهية عكَّرت مزاجه وجعلت حياته قاتمة، وأثَّر ذلك في كتبه وجعل أسلوبه حاراً مُفْعماً، لقد هرب مع زوجته إلى لوزان وأصبح مراسلاً رسمياً لملك سردنيا تشارلز إمانوئيل الرابع Emmanuel وكان يجد بعض السلوى في تردّده على صالون مدام دي ستيل de Stael بالقرب من كوبت Coppet، لكن المفكرين الذين قابلهم عندها - مثل بنيامين كونستانت (قسطنطين) بَدوْاله وقد أصابتهم عدوى التشكّك المخزي الذي ساد فرنسا في القرن الثامن عشر·(ملحق/689)
حتى المهاجرين (الذين تركوا فرنسا إثْر أحداث الثورة الفرنسيّة) المحتشدين في لوزان كانوا مدمنين على قراءة فولتير، واعترت الدهشة ميستر لعدم وعيهم فقد كان يرى أنَّ معاداة الكاثوليكية ستقوّض كل أساسات الحياة في فرنسا بإضعافها السّند الديني للقيم والأخلاق والأسرة والدولة· ولأنه قد غدا كبير السن لا يستطيع حمل السلاح ضد الثورة فقد قرر أن يحارب بقلمه غير المؤمنين (بالكاثوليكية) والثوريين· لقد مزج النّقد اللاذع بحبر قلمه وترك أثره كعلامة في هذا القرن· ولم يتفوق عليه - في عصره - في نزعته المحافظة تلك سوى إدموند بورك Edmund Burke ·
وعلى هذا فقد أصدرت له إحدى مطابع نيوشاتل Neuchatel ملاحظات حول فرنسا Considerations sur la France ذكر فيه أن حكومة لويس السادس عشر كانت متذبذبة متردّدة تُعْوِزها الكفاءة وأن الكنيسة الفرنسية تحتاج إصلاحاً· لكن أن نُغَيِّر شكل الدولة وسياساتها ونهجها بمثل هذه السرعة وهذا التهوّر يعني أن نُضَلل جهل المراهق (غير الناضج) الذي لا يفهم الأسس العميقة لفن الحكم· لقد اعتقد أنه.
"لا يمكن أن يكون للأخلاق مكان إذا لم يكن لها جذور في التراث والزمن أو إذا لم تجد لها سنداً من دين وقِيَم، والثورة الفرنسية لمَ أغلقت كل هذه الأبواب المُفضية للأخلاق بإعدامها الملك وتجريدها الكنيسة من ممتلكاتها· أبداً لم يحدث أن كان لمثل هذه الجريمة البشعة كل هؤلاء المشاركين الكثيرين فيها·· إن كل قطرة نزفت من الملك لويس السادس عشر ستكلف فرنسا سيلاً من الدماء· ربما سيدفع أربعة ملايين فرنسي حياتهم بسبب هذه الجريمة الوطنية البشعة·· جريمة العصيان المسلح ضد الدين وضد النظام الاجتماعي، تلك الجريمة التي بلغت ذروتها بقتل الملك"·(ملحق/690)
وفي سنة 1797 دعاه الملك شارل إمانوئيل ليعمل في تورين كتابع له، لكن سرعان ما استولى نابليون على تورين فهرب الفيلسوف إلى البندقية (فينيسيا) · وفي سنة 1802 تم تعيينه مفوّضاً سردنيا كامل الصلاحيات في بلاط القيصر اسكندر الأول· ولأنه كان يتوقع ألاّ تطول مدّة مهمته فقد ترك أسرته ولم يصطحبها معه لكن خدمة مليكه اقتضت منه البقاء في سانت بطرسبرج حتى سنة 1817· وتحمل بُعده عن وطنه بصبر نافذ·
وأهم أعماله هو مبحثه عن المبادئ الدستورية Essai Sur le principe generateur des Constitutions Politiques (1810) وقد استخلص مثل هذه الدساتير التي تناولها من الصراع البشري بين الخير والشر (بين ما هو اجتماعي وما هو غير اجتماعي)، ومن الاندفاعات (الاضطرابات) ومن الحاجة لسلطة منظمة ودائمة لحفظ النظام العام ولحفظ الجماعة بدعْم روح التعاون في مواجهة الفردية والأهواء· إن كل إنسان يتطلع وهذا طبيعي للسلطة والتملّك وهو إذا لم يُروّض تحول إلى دكتاتور مجرم مغتصب· إن بعض القدّيسين يتحكمون في جشع البشر، وعدد قليل من الفلاسفة قد يمكنهم تحقيق ذلك (التحكم في أطماع البشر) عن طريق العقل لكن ما هو كامن في معظمنا لا يمكّن الفضيلة من السيطرة على غرائزنا الأساسية· وأن نترك كل من نفترض أنه ناضج ليحكم على الأمور وفقاً لعقله هو (وهو عقل ضعيف بسبب عدم الخبرة وبسبب العبودية للرغبة) فإن معنى هذا أن نضحّي بالانضباط (النظام) لصالح الحرية· ومثل هذه الحرية غير المنضبطة تصبح فوضى اجتماعية تهدد سلطة الجماعة التي من حقها أن تتّحِدَ ضدَّ هجوم يأتيها من الخارج أو فوضى تنشب في الداخل·(ملحق/691)
وعلى هذا فقد كانت حركة التنوير المغالية فيما يرى ميستر Maistre خطأ هائلاً· لقد قارنها بالشاب الذي تبنّى لنفسه وهو في الثامنة عشرة من عمره خططاً راديكالية لإعادة البناء في مجالات التعليم والأسرة والدين والمجتمع والحكم· واعتبر ميستر أن فولتير مثالاً اختاره لمثل هؤلاء التافهين الذين ادَّعْوا الإحاطة بكل شيء علماً انه حدّثنا عن كل شيء في كل العصور دون أن يتوغّل مرة واحدة إلى ما تحت السطح، لقد كان مشغولاً دائماً بتعليم العالم أنه قلما يكون لديه وقت للتفكير لو أنه درس التاريخ بتواضع كفرد زائل (مجرد فرد في مرحلة تاريخية) يبحث عن العلم من خبرات الجنس البشري، لكان قد عرف أن" الزمن نفسه مُعَلِّم أفضل من التفكير الشخصي"، ولكان عرف "أن أصحّ اختبار لفكرة هو تأثيراتها العملية (البرجماتية) في الحياة والتاريخ والجنس البشري"،
ولكان عرف أن المؤسسات العريقة في تراث القرون الخوالي لا يجب رفضها دون حساب دقيق للخسائر في مقابل المكاسب، ولكان عرف أن:
"المعركة التي شُنّت لتدمير الكنيسة وإلحاق الخزي بها ستؤدي إلى انهيار الأخلاق والأسرة والمجتمع والدولة فالكنيسة هي التي صاغت النظام الاجتماعي في غرب أوروبا (يقصد الكنيسة الكاثوليكية) "·
إن الثورة القاتلة المغتالة هي النتيجة المنطقية لحركة التنوير العمياء·
"إن الفلسفة قوّة مخرّبة أساسيّة لأنها وضعت كل ثقتها في العقل، والعقل فردي، والعقل يمثل الفكر الفردي، وتحرر الفرد من التراث السياسي والديني وتحرره من قبضة السلطة، يهدد الدولة بل والحضارة نفسها"·
ومن هنا فإن الجيل الحالي يشهد واحداً من أكثر الصراعات حدّة لم تشهد لها البشرية مثيلاً: الحرب حتى الموت بين المسيحية وعقيدة الفلاسفة·(ملحق/692)
وما دام عمر الفرد قصيراً جداً لا يمكنه من سَبْر حِكْمة التراث فيجب أن يتعلّم القبول به (أي بالتراث) كمرشد له ودليل حتى يبلغ من العمر مبلغاً كبيرا يمكّنه من فهمه (أي هذا التراث) · انه - بطبيعة الحال - لن يكون قادراً على فهمه فهماً كاملاً· ولا بد أن يتشكك في أي تغيير مقترح في الدستور أو الأعراف الأخلاقية· ويجب أن يكرّم السلطة الشرعية باعتبارها رأي التراث وتوجّهه، وباعتبارها خبرة بشرية وباعتبارها بالتالي صوت الله·
الملكية الوراثية والمطلقة سلطتها هي من رأيه أفضل أنواع الحكم لأنها تمثل التراث الأعرض والأعمق والأطول وهي تعمل على تحقيق الانضباط والاستمرارية والاستقرار والقوة، بينما الديمقراطية بدوام التغيير فيها - سواء تغيير القادة والزعماء أو تغيير الأفكار - وجنوحها بشكل دَورْي لإرضاء نزوات العوام وجهلهم تؤدي إلى الفوضى وعدم الرضي والطيش، وتنتهي سريعاً· إن فن الحكم يعني من بين ما يعني تسكين العوام، أمَّا إِنْ أطاعتهم الحكومة فهي - بذلك - تنتحر·
وبتؤدة (1802 - 1816) عرض في أكثر مؤلفاته شهرة: أمسيات في سان بطرسبرج Les Soirees de Saint petersbourg ( نشر سنة 1821) بعض الجوانب الثانوية لفلسفته· لقد كان يؤمن أن العلم يثبت وجود الله، لأن
"الله قد أوحى للطبيعة انضباطها العظيم الذي هو جزء من عبقرية النظام الكوني لا يجب أن ننزعج وألاّ تهتز عقائدنا بالنجاحات المؤقتة للشر، أو للإحباطات التي يواجهها الخير"،
فالله يتيح للخير والشر أن يهبطا على القديس والمجرم على سواء كما يتيح الشمس أن تشرق على كليهما، ويتيح للمطر أيضاً أن يهطل عليهما لا يمنعه عن أحدهما، لأنه - أي الله - يكره أن يعطّل قوانين الطبيعة، وعلى أية حال فإن الله قد يستجيب لدعاء الدَّاعين لتغيير تأثير هذه القوانين الطبيعية· بالإضافة إلى أن معظم الشرور تعد عقاباً على أخطاء أو خطايا، وربما كان كل مرض وكل ألم عقاباً على بعض الفساد الكامن في نفوسنا أو نفوس أسلافنا أو نفوس مجموعتنا التي نعيش بينها·(ملحق/693)
وإذا كان الأمر كذلك فلا بد أن ندافع عن العقاب البدني، والإعدام كعقاب لبعض الجرائم بل وندافع حتى عن التعذيب الذي تقوم به محاكم التفتيش، ويجب أن نبارك الجلاّد (منفّذ حكم الإعدام) بدلاً من جعله منبوذاً، فهو يقوم أيضاً بعمل الله (المهمة التي كلفه بها الله) وهي مُهمة حيوية للانضباط الاجتماعي· فاستمرار الشر ومثابرته يتطلب استمرار العقاب ومثابرته، فإن تواني العقاب نمت الجريمة· وأكثر من هذا فليس هناك عقاب لا يؤدي إلى تطهير وليس ثمة اعتلال جسدي أو عقلي يُحدثه الحبيب الباقي (الله Eternal love) إلاّ ويتحول إلى سهم في صدر مبدأ الشر والحرب مقدَّسة ما دامت هي قانون العالم وما دام الله قد سمح بها عبر التاريخ· إن الحيوانات المفترسة تطيع هذه القاعدة وتنفّذها· ويأتي الملاك الفاني (كذا: exterminating) بشكل دوري ليُفْنى آلافاً من هذه الحيوانات·
ويمكن اعتبار البشرية كشجرة، وأن هناك يداً غير منظورة تشذّبها باستمرار، وغالباً ما يكون هذا التشذيب لصالحها··· والدماء الغزيرة التي تُراق غالباً ما يمكن ربطها بزيادة عدد السكان فابتداء من الديدان بل وحتى الإنسان نجد القانون الكبير - وهو قانون التدمير العنيف للأحياء - يفعل فِعْله· فالأرض جميعاً التي تشرب الدماء ليست إلا مذبحاً كبيراً (المقصود بالمذبح مكان تقديم القرابين في الكنائس والمعابد) حيث لا بد من التضحية بكل موجود حي، فالوقت بلا نهاية، بلا حدود، بلا توقف بل وحتى فناء كل شيء وحتى مَوْت الموْت نفسه·
وإذا كنّا نعارض أنّ مثل هذا الكون يدفعنا بشدَّة لعبادة خالقه· فإن ميستر يجيب بأننا لا بد أن نعبده رغم كل شيء لأن كل الشعوب وكل الأجيال عبدته، وأن مثل هذا التراث الباقي والعالمي لابد أن يحتوي حقيقة تفوق قدرة العقل الإنساني على الفهم وتستعصي على الدحض أو التفنيد· في خاتمة المطاف فإن الفلسفة - إن كانت حقيقة تحب الحكمة - ستستسلم للدين، والعقل سيستسلم للإيمان·(ملحق/694)
وفي سنة 1817 استدعى ملك سردنيا - وكان قد استعاد عرش تورين Turin - ميستر من روسيا، وفي سنة 1818 عينه في منصب كبير وجعله مستشاراً للدولة· وفي هذين العامين أَلَّف هذا الفيلسوف الشَّرس grim كتابه الأخير عن البابا Du Pape نُشر سنة 1821 بعد موته مباشرة· والكتاب إجابة عنيده عن الأسئلة التي أثيرت حول تمجيده للملكيّة كحماية للمجتمع ضد فرديّة المواطن: ماذا لو أن الملك كان هو أيضاً - كقيصر أو نابليون - متسما بالفردية والاهتمام بذاته كأي مواطن، وكان عاشقاً للسلطة عشقاً يفوق عشقه لسواها؟
هنا يجيب ميستر بغير تردّد أن كل الحكَّام يجب أن يقبلوا تبعيتهم وخضوعهم لسلطة أعرق من سلطتهم وأعظم منها وأحكم: لابد أن يخضعوا في كل الأمور الدينية والأخلاقية لحُكم الحَبْر الجليل (البابا) الذي ورث سلطانه من القديس بطرس (النص الرسول بطرس، وكلمة الرسول يُطلقها المسيحيون على الدعاة الأوائل للمسيحية والمسيحيون يُلحقون بالأناجيل الأربعة ما يُسمّى أعمال الرسل Apostles أي الدعاة الأوائل، وفضلنا كلمة القديس على الرسول لأنها توفي بالمعنى وحتى لا يختلط الأمر على القارئ العربي) الذي ورثه بدوره عن المسيح (النص: Son of God) ·(ملحق/695)
وفي هذا الوقت (1821) ودول أوروبا تكافح لتتخلَّص من وحشية الثورة واستبداد نابليون، لزم أن يتذكر قادة أوروبا كيف أن الكنيسة الكاثوليكية قد أنقذت بقايا الحضارة الرومانية بتصدّيها للبرابرة كثيري العدد وترويضهم، وكيف أنها أسست - من خلال أسقُفيَّاتها - نظاماً اجتماعياً منضبطاً وتعليماً نظامياً أنجب - ببطء - خلال الظُّلمة والعصور الوسطى، حضارةً قائمة على موافقة الملوك على الاعتراف بالسلطة الروحية للبابا· "فالأمم لا تتحضّر أبداً إلاَّ بالدين" لأن الخوف من الله الذي يرى كل شيء والقادر على كل شيء هو وحده - أي هذا الخوف - الذي يضبط النزعات الفردية المتمثلة في الرغبات البشرية والدين مصاحب لمولد كل الحضارات، وغياب الدين نذير بموتها· وعلى هذا فلا بد أن يقبل ملوك أوروبا مرة أخرى البابا كسيد أعلى لهم في كل الأمور الأخلاقية والروحية· يجب أن يُبْعدوا التعليم عن أيدي العلماء ويعيدوه للقسس لأن ارتقاء العلم سيُقَسى قلوب الناس بينما استعادة الدين لمكانته ستؤدي إلى سلام للأمة وأرواح أفرادها·
لكن ماذا لو كان البابا أيضاً أنانياً ويعمل على تحويل كل مسألة وقضية لتحقيق مكاسب دنيوية للباباوية؟ هنا نجد ميستر حاضر الإجابة: ما دام البابا يُرشده الرّب - فإنه معصوم إذا تحدث في أمور العقيدة والأخلاق لأنه الرّأس الرسمي للكنيسة التي أسسها المسيح· وعلى هذا فقد أعلن ميستر عصمة البابا قبل أن تعلنها الكنيسة نفسها كجزء من الإيمان الكاثوليكي بنصف قرن· لقد اعترت الدهشةُ البابا نفسه ووجد الفاتيكان من الحكمة أن يعارض المبالغين في سيادة البابا Ultramontanists الذين يعلنون مزاعم مُرْبكة عن السيادة السياسية للباباوية·(ملحق/696)
وباستثناء هذه النقطة الأخيرة وبعض المبالغات الأخرى التي يمكن أن تدعو للابتسام (المقصود السخرية) فإن المحافظين في أوروبا رحبوا بدفاعه العنيد عن وجهات نظرهم، وأثنى عليه كل من شاتوبريان وبونال Bonald ولاميني Lamennais ولامارتين· بل وحتى نابليون اتفق معه في بعض المسائل - نزوع الملك لويس السادس عشر للخير وخسّة قاتليه، وتجاوزات الثورة، وضعف العقل وسهولة وقوعه في الخطأ وتهافت الفلاسفة، وضرورة الدين، وقيمة التراث وأهمية السلطة، وضعف الديمقراطية، وكون الملكية المطلقة والوراثية أمراً مرغوباً فيه، وكون الحرب مفيدة للتقليل من عدد السكان (الخدمات البيولوجية للحرب) ···
وكان الأمر بالنسبة لأعداء نابليون الذين لا يزالون في الحكم أنهم شعروا أنَّ في فلسفة ميستر المستقيمة بعض الأسباب المعقولة تحتم عليهم الإطاحة بهذا الكورسيكي مُحْدث النعْمة (نابليون) وريث الثورة التي هدّدت كل ملكيّات العالم· لقد كانوا يؤمنون في قرارة أنفسهم أنهم لم يكونوا أبداً قادرين (ولن يقدروا) على أن يبرّروا لرعاياهم: لماذا قبلوا وهم الملوك الذين ورثوا الملك كابرا عن كابر، وهم أباطرة أوروبا وارستقراطييها - أعباء الحكم وأخطاره وطقوسه بينما كان مارا Marat وروبيسبير وبابيف Babeufs يتهمونهم بعدم الرحمة باستغلال العوام الأبرياء بدعوى الحق الإلهي للملوك، مستغلِّين كل المزايا (محقّقين كل المكاسب) من النظام الاجتماعي (السائد) مبتلعين كل خيرات الأرض، وكيف كانوا يقتلون رعاياهم ويذبحونهم بدعوى هذا الحق نفسه (حق الملوك الإلهي) ·
أما الآن وبعد كتابات ميستر Maistre فقد ظهرت عقيدة يستطيع في ظلها أن يتحد كل حكام أوروبا الشرعيون لإعادة النظام القديم في بلدهم ولشعوبهم، بل وحتى لفرنسا البربرية غير المتسامحة قاتلة الملوك خائنة ربها المتخلّية عنه·(ملحق/697)
الكتاب الثالث
بريطانيا: من 1789 م إلى 1812 م
مقدمة الترجمة العربية
يقدّم لنا المؤلفان كعهدنا بهما في الكتب السابقة فيضاً من الوقائع التاريخية، وفيضاً من الأفكار الجديدة التي لا نلتقي بها في كتب التاريخ التقليدية· إنه يسوق لنا عبر فصوله أسباباً مقنعة لعدم قيام ثورة في إنجلترا ومن ثم بريطانيا بكياناتها المختلفة (اسكتلندا، وإنجلترا وويلز وأيرلندا)، كتلك التي قامت في فرنسا·
إنه يربط ذلك بطبيعة الشعب الإنجليزي لا تقلقل ما هو مُستقر كما يربطه بطبيعة الأرستقراطية الحاكمة التي لا ترى في نظام الطبقات قيداً على الحريات، ويؤكد لنا أنه نظام طبقي غير جامد شتان بينه وبين النظام الطبقي الديني في الهند مثلاً، حيث يستحيل الانتقال من طبقة إلى أخرى، وحيث طبقة البراهمة المقدسة، ويشير إلى علاقات صداقة ودودة بين الفلاحين واللوردات·· إلخ· كما يشير إلى أن إنجلترا كانت قد شهدت ثورة دموية في القرن السابع عشر، ومن ثمّ لم تكن في حاجة إلى ثورة جديدة·
ولعل من أطرف الأفكار وأكثرها جدّة أن الشعب البريطاني في هذه الفترة على الأقل، بمليكه وبرلمانه ومثقفيه وعلمائه وشعرائه، كانوا متفقين - اتفاقاً غير مكتوب - على أن كثيراً من المسائل الدينية في المسيحية غير واضحة وغير مؤكدة، بل وفي كثير من الأحيان غير موثوق بها، وعلى هذا فليعتقد كل واحد ما يشاء، وليتصور الرب أو الإله كما يشاء، وليقم بأية طقوس يراها مناسبة بشرط واحد وهو أن يُعلن أنه مسيحي·(ملحق/698)
ولا نكاد نجد من بين الشخصيات اللامعة التي أوردها المؤلف، مسيحياً حقيقياً بالمعنى الدارج للكلمة، لقد كان بعضهم ربانياً يؤمن بالله وحده ويُنكر تماما إلوهية المسيح، كما ينكر أي نبوّات أخرى، ووجدنا الموحدين Uniterians أو المناهضين للتثليث الذين لم يعترض عليهم التاج البريطاني شريطة أن يدرجوا أنفسهم تحت المسمّى العام (المسيحية)، ووجدنا الحلوليين (الشاعر وردزورث) الذي يرى الله غير منفصل عن الطبيعة، ورأينا المصلح أوين Owen الذي حارب الميسر، وطالب بتحريمه وتجريمه، وطالب الدولة بمنع اللوترية (اليانصيب) وأوصل صوته إلى البرلمان وعبّر عنه في كتبه، وطالب بتحريم الخمر، ومنع استيرادها، بل وطالب بعدم إصدار تراخيص للحانات والخمارات، ليبقى السُّكر في أضيق الحدود لينفق فيه الأثرياء الأغبياء أموالهم وأقام أوين مدارس لم تحجُر عليها الدولة يُعلِّم فيها الناشئة كل شيء مفيد إلا الخرافات - وهو يقصد اللاهوت المسيحي، ومع هذا فقد كان المسمى الرسمي للرجل أنه مسيحي·
أما موقف الدولة من الكاثوليكية فلم يكن مسألة خلاف عقائد في المقام الأول، وإنما كان مسألة - في الأساس - ذات بُعد وطني، فكيف يكون ولاء الكاثوليكي لملك بريطانيا بينما هو يقسم يمين الولاء لملك آخر هو الحَبْر الجليل في روما وكان هذا البابا صاحب سلطة زمنية إلى جانب سلطانه الديني؟!
والمؤلف يربط فصول كتابه كلها بمجريات الأمور في فرنسا، فهو عندما يتناول في الفصل الثاني والعشرين، الشعراء المتمردين وعلى رأسهم لورد بايرون يبيّن لنا تعاطف هؤلاء الشعراء في فترة من الفترات مع مبادئ الثورة الفرنسية ودستورها، ولكنه يُبيّن لنا أيضاً كيف تراجعوا عن هذا التأييد عندما أكلت الثورة أبناءها، وأقامت المذابح· وقد أورد المؤلف تفاصيل حياة الشخصيات التي يُترجم لها مما قطع في بعض الأحيان تسلسل العرض التاريخي، لكن هذا قد يكون مفيدا للراغبين في تتبع حياة هؤلاء المشاهير، فقراءة هذا الكتاب تحتاج إذن إلى صبر وجُهد إن أراد القارئ العام متابعته، لكنه لا يخلو من أفكار طريفة تتخلل عرضه الرتيب أحياناً·(ملحق/699)
وقد ركزت عند ترجمة هذا الكتاب على المعاني وأضفتُ بعض التعليقات البسيطة الشارحة، ففي التعليقات التي أوردتها عند ترجمة الكتابين السابقين ما لا داعي لتكراره هنا· ومن العدل والصدق أن أنوه هنا مرة أخرى، بفضل المجمع الثقافي، وعلى رأسه الأستاذ محمد السويدي باختيار هذه الكتب المفيدة لتقديمها إلى القارئ العربي·
وعلى اللَه قصد السبيل·
د· عبد الرحمن عبد الله الشيخ
الفصل الخامس عشر
تأثير إنجلترا في مسيرة الأحداث
كانت إنجلترا، حكومةً وشعباً، بانتشار صناعتها واتساع تجارتها وبأسطولها Navy وعلى رأسه ونيلسون Nelson، وبعقلها وإرادتها - كانت على رأس المعارضين للثورة الفرنسية بعد سنة 1792· كانت على رأس المقاومة ضد نابليون في الوقت الذي تهاوى فيه أعداء الثورة الآخرون نتيجة الهزائم المدمرة التي حاقت بهم أو نتيجة انهيار تحالفاتهم· لكن هذا الموقف الذي اتخذته إنجلترا لم يكن مفاجئاً كما لم تكن كل القوى فيها متفقة عليه منذ البداية، ففي بداية اندلاع الحريق الهائل (الثورة الفرنسية) كانت مواقف زعماء إنجلترا والرسميين فيها غير محددة، وظهر الانقسام بينهم، وتباينت المشاعر ما بين الخوف واستلهام أفكار الثورة، لقد تجاوب الشعراء والفلاسفة بحماس مع المثاليات الأولى للثورة، ومع حماسة جيوشها وشجاعتها، ولكنهم سرعان ما تأثروا ببلاغة بورك Burke الغاضبة،
وسرعان ما فُجِعُوا بأخبار المذابح والإرهاب في هذه اليوتوبيا Utopia ( فرنسا)، ولأن هؤلاء المحرِّرين (يقصد الثوار الفرنسيين) أصبحوا غزاة ضموا نصف - طموحاً منهم - لفرنسا، فقد رأت إنجلترا أن توازن القوى في القارة الأوروبية يتوقف على نتيجة هذا الصراع بين فرنسا والقوى الأوروبية الأخرى، ذلك التوازن الذي ظلت إنجلترا - تلك الجزيرة الصغيرة - تعتمدُ عليه لضمان سلامتها وحريتها طوال قرون·(ملحق/700)
وشيئاً فشيئاً أصبحت الأمة الإنجليزية على قلب رجلٍ واحد، فرغم استسلام حلفائها، فإن التحدي الأكبر الذي لم تشهده إنجلترا منذ سنة 1066 متمثلاً في تعويق تجارتها وإفلاس شركاتها ومالييها واستنزاف صانعي الأقمشة، والإغراء اليومي بقبول شروط هذا الكورسيكي Corsican العبقري المرعب (نابليون) الذي يمتطي الآن القارة الأوروبية ويهدد بعبور القنال الإنجليزي بنصف مليون مقاتل لم يعرفوا الهزيمة - كل هذا جعل الملك الإنجليزي وبرلمانه يقفان بحزم، وجعل النبلاء والتجار يدفعون الضرائب الباهظة وجعل الإنجليزي العادي يؤدي خدمته الإلزامية في الجيش أو الأسطول، وجعل البحار الإنجليزي الذي لا مثيل له يجتاز مرحلة التمرد إلى مرحلة تحقيق الانتصارات، وجعل هذه البقعة الصغيرة الحبيبة (إنجلترا) تنطلق خارجة من العوز والمجاعة التي كادت تحيق بها في سنة 1810/ 1811 لتبني خلال نصف قرن أكثر الإمبراطوريات قوة وتحضرا منذ سقوط روما·
لابد لنا أن نتوقف هنيهة عن متابعة هذه الدراما وهذا الصراع لندرس الأمور التي جعلت انتصار إنجلترا ممكنا - هذا الانتصار الذي يعد تحولا· لابد من التوقف لدراسة موارد التربة والعمل والعلم والأدب والفن والعقل والعقيدة والشخصية·
1 - ثورة مختلفة
لقد لعبت الجغرافيا دوراً، فلم يكن مناخ إنجلترا مثالياً، فالرياح الدافئة التي يسببها تيار الخليج شمال الأطلنطي تواجه بشكل مستمر الرياح القطبية الشمالية، ويؤدي هذا الصراع (المواجهة) إلى تتابع نشوء الضباب وتتابع هطول المطر فوق أيرلندا واسكتلندا وإنجلترا مما يجعل التربة خصبة، والحدائق خضراء والأشجار ضخاماً رائعة، والشوارع مبتلة، ومن هنا كانت السخرية السخيفة التي مؤداها أن الشمس لا تهاجم بعنف الكومنولث البريطاني، لكنها أيضاً لا تشرق في إنجلترا أبداً، وقد وقع نابليون في هذه المبالغة إذ قال ذات مرة لطبيبه البريطاني أرنوت Arnott: " ليس لديكم شمس في إنجلترا"، فصحَّح له معلوماته قائلا: "هذا صحيح·· لكن الشمس تشرق دافئة في إنجلترا في شهري يوليو وأغسطس"·(ملحق/701)
هذا الضباب الذي يغلِّف البيئة الحيوانية والنباتية قد يكون ظلة استظل بها شعر بليك Blake وغلافاً تغلّف به تيرنر Turner، وربما يكون قد أسهم في تقوية شخصية الشعب الإنجليزي وتقوية مؤسساته· لقد جعلتهم هذه الجزيرة (البريطانية) معزولين (متفردين) لكنها كانت لهم دِرعاً يحميهم من التقلبات العقائدية التي كانت تهب كرياحٍ عاصفةٍ بين الحين والحين، وضد بِدَعِ الفن، وضد هوس الثورات وجنونها، وضد فظائع الحرب التي غالباً ما كانت تشوِّه وجه القارة الأوروبية· لقد وقفت الأمة الانجليزي بقدمين راسختين فوق الأرض الإنجليزية·
وإذا كانت جزيرتهم صغيرة، فقد كانت البحار بأمواجها التي تلطم شواطئها حيناً وتداعبها حانية مقبلة حينا آخر - تدعوهم إلى القيام بمغامرات للوصول إلى أماكن بعيدة· لقد أغرت آلاف الطرق السلسة الميسرة الرجال القادرين على الحل والترحال ليكونوا دائما شامخين· لقد كانت آلاف المناطق Lands في انتظارهم بمنتجاتها وأسواقها، لتتحول إنجلترا - بسببها - من الزراعة إلى الصناعة والتجارة والمالية الواسعة على مستوى العالم· لقد أدت كثرة تعاريج سواحلها كثرة هائلة إلى وجود مداخل كثيرة وخلجان صغيرة كثيرة تقدم مرافئ آمنة للسفن من كل أنحاء العالم· وكان في الجزيرة البريطانية نفسها اثنا عشر نهراً صالحاً للملاحة النهرية ومئة قناة تُفضي إلى نهر أو آخر من هذه الأنهار فليس هناك إنجليزي واحد يبعد أكثر من خمسة وسبعين ميلاً عن المياه التي يمكن - عن طريقها - أن يصل إلى البحر·(ملحق/702)
لقد واجهت بريطانيا التحدي الجغرافي بقيامها بالثورة الصناعية وحمل تبعاتها على عواتقهم· لقد شيد البريطانيون سفناً ذوات أحجام كبار لم يُعرف لها من قبل مثيل، وكان بعضها مصمما للقيام برحلات تستغرق الرحلة منها نصف عام إلى الهند والصين· لقد أحبت إنجلترا البحر كأحد ممتلكاتها تعتبره امتداداً لها، وحاربت بلا هوادة للسيطرة على هذا الامتداد البحري ضد الأسبان، فالهولنديين، والآن ضد الفرنسيين· لقد مخرت عباب طرقٍ بحرية جديدة حول القارات وإليها؛ إلى موارد وأسواق أفريقيا والهند والشرق الأقصى وأستراليا وجنوب المحيط الهادي (الباسيفيكي) والأمريكيتين، وكان الإنجليز - سواء كأجانب (غرباء) أو كمتمردين - تواقين للتجارة مع الآخرين· ولم يتحد هؤلاء البريتون Britons النهمون سوى الطريق (الممر) الشمالي الغربي فقد صدهم وعادوا منه فرادى متفرقين، لكن غير مقهورين·
وعلى أية حال فإن هذه الأساطيل التجارية والأساطيل البحرية الطوافة التي تحميها كان لابد من بنائها - غالبا - من أخشاب منشورة مستوردة وكان لابد أن تحصل هذه المستعمرات وهؤلاء العملاء على مقابل لموادهم الخامة وفضتهم وذهبهم وبهاراتهم ومؤنهم وفاكهتهم الغريبة، فكان هذا المقابل هو المنتجات الصناعية البريطانية· وكان لا بد للثورة الصناعية من تمويل هذه التجارة المنتعشة ونقلها· وشيئاً فشيئاً راحت إنجلترا - خاصة المناطق الوسطى والشمالية منها، واسكتلندا - خاصة منطقتها الشمالية - تعيد تنظيم حياتها الاقتصادية بسحب المزيد من سكانها من الحقول والقرى إلى المصانع والمدن، ومن العمل البطيء في مجال الحرف المنزلية وفي نطاق الطوائف المهنية (الحرفية) إلى العمل في نطاق مجموعات محددة منظمة ومدربة من رجال ونساء وأطفال دربوا على الميكنة والآلات لإنتاج منتجات مصنعة للعالم·(ملحق/703)
لقد ساعدت العزلة (كون بريطانيا جزراً تحيطها البحار) على إحداث هذا الانتقال· فمنذ وقت باكر يعود إلى القرن الثاني عشر للميلاد كان الإنجليز النشطون قد وقر في عقولهم أن بإمكانهم الاستفادة من الأراضي إن كانت شاسعة أكثر من استفادتهم منها إن كانت مجزأة في قطع صغيرة· لقد اشتروا مزارع كبيرة وكونوا مشاعات Commons وكانت هذه المشاعات حقولاً ومحاطب حيث يقوم الفلاحون - تقليدياً - برعي مواشيهم وجمع حطب الوقود، وكان الإنجليز يشغِّلون في ممتلكاتهم الواسعة أُجراء hired hand's يعملون تحت إشراف مشرفين (نظّار) ·
وفي القرن الخامس عشر أدركوا أنه يمكنهم الحصول على مزيد من الأرباح بتربية الماشية والدواجن أو - وهذا هو الأفضل - برعي الخراف، فهذا أفضل من حرث الأرض وزراعتها، فهم بذلك يكونون أقل حاجة إلى الأيدي العاملة، كما أنهم قد وجدوا بالفعل أسواقاً للذبائح والصوف لدى البريطانيين الذين يعانون من البرد والمحبين لأكل اللحوم، وأيضاً لدى الشعوب الأخرى خارج بريطانيا، وشيئاً فشيئاً راح مزيد من الفلاحين يبيعون ممتلكاتهم أو يهجرون مزارعهم إلى المدن· واختفى - ببطء - صغار مالكي الأرض من الطبقة الوسطى آخذين معهم شيئاً من قوة الشخصية الإنجليزية وكبريائها· وبحلول سنة 1800 كان عدد السكان في بريطانيا 15 مليون نفس، بينما كان عدد الخراف 19 مليون، فقال الظرفاء "إن الخراف قد التهمت الناس"·
وحتى اليوم يفاجأ المرء عند ترحاله في وسط إنجلترا وشمالها بندرة المزارع والأراضي المعدة للزراعة، بينما يكثر عدد المسيجات enclosures ( الأراضي المسيّجة) الخضراء التي لا يرى فيها إلا الخراف التي تحوِّلُ العشب إلى صوف وتكافئ التربة الممتنة بإفرازاتها (تُسمدها) ·(ملحق/704)
يجب ألا نبالغ، فخلال هذه الفترة (باستثناء الأزمة التي اقتربت في أثنائها بريطانيا من المجاعة في سنة 1811 بسبب الحصار القاري الذي فرضه نابليون) نجحت الزراعة في إنجلترا - تلك الزراعة التي راحت بشكل متزايد تعتمد على الميكنة ورأس المال - في إطعام إنجلترا دون حاجة لعون خارجي· لقد كان الزرّاع واثقين من أنفسهم لدرجة أنهم حثوا البرلمان على اعتماد (تمرير) وقف (مراجعة) قوانين الغلال (الحبوب) بفرض تعريفة عالية (رسوم جمركية قاسية) على استيراد الغلال (الحبوب grain) المنافسة (كانت الكلمة الإنجليزية Corn تعني أي حبوب، وفي إنجلترا كانت هذه الكلمة Corn تعني عادة القمح، بينما كانت تعني في اسكتلندا الشوفان Oats ومع هذا فحتى سنة 1790 كانت هجرة الفلاحين المرحلين إلى المدن بالإضافة إلى المهاجرين الذين اعتراهم الفقر من اسكتلندا وأيرلندا - هي التي قدمت القوى العاملة التي جعلت حركة التصنيع ممكنة·
لقد كانت الصناعة لا تزال في غالبها في البيوت والدكاكين لكن معظمها كان مصمماً محلياً ويتم استهلاك منتجاتها محلياً أيضاً· إن الصناعة في هذه المرحلة لم تكن منظمة للإنتاج بكميات كبيرة (للبيع بالجملة) فلم تكن تستطيع تمويل الأسواق المختلفة المنتشرة عبر الحدود· وكان العامل في المنزل أو الدكان تحت رحمة الوسطاء (السماسرة) الذي يبيعون له المواد الخامة ويشترون منه منتجاته· وكان ما يحصل عليه من مال لقاء منتجاته محكوماً بالعرض والطلب، وكذلك بمنافسيه الذين هم أشد منه جوعاً، وعادة ما كان على زوجته وأطفاله أن يعملوا معه من الفجر حتى حلول الظلام، لإبعاد الذئب عن باب الدار (المقصود لإبعاد شبح الفقر) وكان لابد من إيجاد طريقة ما أكثر كفاءة لتمويل الصناعة وتنظيمها إن كان عليها مواجهة احتياجات سكان المدن المتزايدين أو ملء مخازن التجار الراغبين في البضائع الأجنبية أو الذهب (المقصود التجار العاملين في مجال التصدير) ·(ملحق/705)
لقد دُفِعت الصناعة في إنجلترا نحو الخصخصة (المشروعات الخاصة) حيث الحافز لتحقيق الربح واضح، وحيث التحرر إلى حد كبير من التنظيمات أو الترتيبات الحكومية، وكان الاندفاع في هذا الطريق بتأثير من فكر آدم سميث Adam Smith مع تجاهل تحذيراته· لقد حصلت الصناعة الإنجليزية على رأس المال مما توفر لها من عوائدها ومن التجار الأثرياء ومن ملاك الأراضي الذين يجمعون العوائد الزراعية (الرَّيع) ومن الإيجارات في المناطق الحضرية، ومن رجال المال (البنكيين bankers) الذين عرفوا كيف يُولِّدون المالَ من المال، والذين أقرضوا الأموال نظير نسبة من الفوائد أقل من النسبة التي كان يحصل عليها نظراؤهم الفرنسيون·
وعلى هذا فإن الأفراد والمؤسسات قدموا الأموال للمقاولين الذين عملوا على تدعيم منتجات المزرعة والحقل بخدمات الآلات (الماكينات) والعمل والمهارة اللذين يقدمهما العمال رجالاً ونساء وأطفالاً فيكون مقدار الإنتاج أكبر، إذ حقق لإنجلترا عوائد مالية لم تعرفها من قبل أبداً، وراح الممولون (مقدمو الأموال) يراقبون كيفية استخدام أموالهم، وحمل النظام الاقتصادي الذي كان على وشك إعادة تشكيل العالم الغربي أسماءهم·
لقد كانت لعبة تنطوي على المخاطرة، فقد تدمر الإدارة السيئة أي استثمار، وقد تدمِّره أيضاً تقلبات الأسعار والأسواق وتغير الأذواق وزيادة الإنتاج بما يفوق طاقة المستهلكين أو بسبب اكتشاف جديد يُخفيه أحد المنافسين·
لقد جعل الخوف من الخسارة الطمع والرغبة الشديدة في الكسب أكثر حدة· لقد كان لابد من الإبقاء على أجور العمل في حدها الأدنى وكان لابد من تقديم المكافآت على الاختراعات الجديدة، وكان لابد أن تحل الآلة محل القوى العاملة البشرية كلما أمكن ذلك· وكان لابد من استخراج الحديد أو استيراده لصنع الآلات والسفن الحربية المدرعة والجسور والمدافع والبنادق، وكان لابد من استخراج الفحم (وكان متوفراً في إنجلترا لحسن الحظ) لتزويد المصاهر التي تصهر المعادن بالوقود اللازم ولتنقية المعادن الخامة ولتحويل الحديد إلى صلب فيصير أشد وأمتن،(ملحق/706)
وكان لابد من ربط أكبر عدد ممكن من الآلات بمصدر طاقة واحد قوي، وقد يكون مصدر الطاقة هذا رياحاً أو ماءً أو حيوانات تدور بشكل مستمر أو تحرك لولباً ( screw) ، لكن أفضل منتج للطاقة لابد أن يكون ماكينة (محرك) بخارية كتلك المحركات (الآلات) التي أقامها جيمس وات Watt في مصنع متّى بولتون Matthew Boulton بالقرب من برمنجهام (1774م) · وإذا كان هناك رأس مال كاف، وإدارة دقيقة أمكن تشغيل أي عدد من الآلات بمحرك واحد (أو عدد قليل من المحركات)، ويمكن أن يرتبط بكل آلة رجل أو امرأة أو طفل يراقبها ويهتم بأمرها طوال ساعات تتراوح ما بين 12 و14 ساعة في اليوم مقابل أجرٍ يقيم أوده·(ملحق/707)
وسرعان ما راحت آلاف المداخن تقذف بدخانها في سماوات المراكز الصناعية الناشئة - مانشستر، وبرمنجهام، وشفيلد، وليدز، وجلاسجو، وادنبره Manchester, Birmingham, Sheffield, Leeds, Glasgow, Edinburgh - وكان في بريطانيا في سنة 1750 مدينتان سكان كل منهما 50,000، وفي سنة 1801 بلغ عدد مثل هذه المدن ثماني، ستصبح في سنة 1851 تسعاً وعشرين مدينة· وتم تمهيد الطرق لتسهيل نقل المواد الخامة والوقود والمنتجات للمصانع والأسواق والموانئ، وتم تشييد مركبات الجياد العمومية التي تسع الواحدة منها ثمانية ركاب ولتقطع عشرة أميال في الساعة· وفي نحو سنة 1808 قام توماس تلفورد Thomas Telford بابتكار أسطح جديدة للطرق تشبه بشكل أساسي الطرق السريعة المرصوفة بالحصباء هذه الأيام، وفعل الشيء نفسه جون مكآدم John McAdam في نحو سنة 1811، وكلاهما من المهندسين الاسكتلنديين· وفي سنة 1801 شيد جورج تريفيثك Trevithick أول محرك بخاري لسحب عربة المسافرين فوق قضبان، وفي سنة 1813 شيد جورج ستيفنسون Stephenson محركاً أفضل، وفي سنة 1825 افتتح أول سكة حديدية نظامية تجري عليها قاطرات بخارية بين ستكتون Stockton ودارلنجتون Darlington· وفي سنة 1801 بدأ تشغيل أول قارب بخاري في القناة الاسكتلندية، وفي سنة 1807 شيد مصنع بولتون ووات Boulton & Watt قارباً بخاريا لنقل الركاب حذا فيه حذو أنموذج قدمه روبرت فلتون Robert Fulton الذي أطلق قاربه (كليرمونت Clermont) من نيويورك إلى ألباني Albany في أغسطس من العام نفسه· وفي هذه الأثناء كانت لندن وهارفتش Harwich ونيوكاسل Newcastle وليفربول وجلاسجو موانئ متطورة وبها تسهيلات للتجارة عبر المحيط، وكان نيلسون قد انتصر في أبي قير وفي الطرف الأغر، محققاً لإنجلترا السيادة على البحار·(ملحق/708)
وفي سنة 1801 أجرت الحكومة أول إحصاء مبني على أسس علمية في بريطانيا العظمى (إنجلترا، وويلز، واسكتلندا) وأدى هذا إلى فزع المواطنين الذين استاءوا من انتهاك خصوصياتهم كمقدمة لإخضاعهم لتنظيم صارم· وأظهرت نتيجة الإحصاء المسجلة أن عدد سكان بريطانيا العظمى في ذلك الوقت كان 10,942,646 (كان عدد سكان الولايات المتحدة في ذلك الوقت نحو 6,000,000) وبحلول عام 1811 كان عدد سكان بريطانيا العظمى قد ازداد ليصبح 12,552,144· وربما تعكس الزيادة زيادة كميات الطعام المتاحة وتحسن الخدمات الطبية وانخفاض نسبة الوفيات بين كبار السن والأطفال·
لقد زاد سكان لندن في سنة 1811 ليصبح 1,009,546 لكن التوسع الأكثر أهمية والأكثر ضخامة كان في الشمال والغرب الصناعيين، وفي سنة 1811 كان عدد السكان العاملين في مجالي الزراعة والرعي هو: 895,998 على وفق ما هو وارد في السجلات بينما كان العاملون في مجالي الصناعة والتجارة 1,128,049 وفي أعمال أخرى 51,9168·
لقد ضيّقت الحكومة على الزراعة بإقرارها نظام الحظائر المُسيجة (التي ترعى فيها الأغنام···) وشجعت الصناعة بالعمل لصالح المشروعات الخاصة (الحرة) وبالحماية الجمركية وبمنع اتحادات العمال من المطالبة بأجور أفضل (1800)، كما عملت على تحسين أحوال التجارة بتحسين الطرق والمجاري المائية، وبتشييد أسطول بحري بريطاني لا يُقهر· لقد حقق التجار والصناع والماليون ثروات كبيرة وفاز بعضهم بمقاعد في البرلمان أو اشتروها (حصلوا عليها لقاء مال دفعوه) ·(ملحق/709)
تُظهر الصورة الاقتصادية لبريطانيا في سنة 1800 أنه يوجد في القمة - كانت الأرستقراطية لا تزال موجودة وإن كانت في تناقص - سادة الاقتصاد الذين تسوّدوا خلال ملكيتهم للأراضي، وكان يتعاون معهم نبلاء البرلمان والأرستقراطية المهيمنة (الحاكمة)، وحولهم أو أدنى منهم التجار والصناع البورجوازيون أصحاب المشاريع الذين لا يرحمون، وهم يُظهرون ثراءهم الجديد ومسلكهم السيئ، ويصخبون مطالبين بمزيد من السلطة السياسية، وإلى الأدنى منهم أصحاب المهن المحترمة بدءاً من أكثر الأطباء علماً إلى أكثر الصحفيين شجاعة ودهاء، وإلى الأدنى من هؤلاء جميعاً الفلاحون الذين يفقدون ملكياتهم بشكل متزايد منتظرين العون والنجدة، وعمال المناجم الذين لا يرون الشمس والذين يعيشون في أحشاء الأرض، والعمال غير المهرة الذين يعبدون الطرق ويحفرون الترع وعمال المصانع الذين يشكلون بركة أو مجمعاً للجوع وعدم الانضباط وانهيار المعنويات، والذين راحوا يكتبون مأساتهم على صفحات سماوات ملوثة (لوثها دخان المصانع) ·
2 - في القاع
وإذا كان لنا أن نعيد النظر في أحوال عمال المصانع في بريطانيا في سنة 1800 وجب علينا ألا نبالغ في أهميتهم في نطاق الصورة العامة في ذلك الوقت، إذ يمكن أن نفترض وجود كثير من المشاهد الباعثة على السرور في إنجلترا السعيدة Merrie England· فلم يكن العمل في المصانع في حد ذاته في ذلك الوقت هو المَعْلم الرئيسي للصناعة البريطانية، فقد كان معظم الإنتاج الصناعي لا يزال يجري إنجازه في البيوت في الريف والحضر على أنوال أو مخارط، أو على يد حرفيين في محلات (دكاكين) مستقلة· وكان التصنيع من خلال نظام المصانع مقتصراً على عمليات إعداد القطن والكتان والصوف، ورغم محدودية هذا النظام، فإن دوره في بانوراما العصر panorama ( المشهد العام للعصر) كان واحداً من أشد الأدوار مدعاة للحزن في التاريخ الإنجليزي·(ملحق/710)
لقد كانت المصانع نفسها قائمة في الأحياء القذرة أي أحياء الفقراء مكفّنة بالروائح الكريهة المنبعثة من الماء الآسن والدخان الناتج عن المصانع ذاتها التي كانت من الداخل متربة بشكل عام وقذرة وسيئة التهوية والإضاءة حتى عام 1805 حين بدأت الإضاءة بغاز الاستصباح· وكان يتم تشغيل الماكينات بسرعتها القصوى مما كان يتطلب من العاملين عليها مراقبتها بعيون حذرة وتظل أيديهم مشغولة طوال اثنتي عشرة أو أربع عشرة ساعة في اليوم· لقد حدث وقتها كما حدث في وقت لاحق أن أدت المخترعات الآلية إلى إنقاذ العمل واستهلاك الإنسان· وكان مسموحاً للعمال بساعة لتناول الغداء وبعدها يستمر الكدح حتى الساعة الثامنة مساء في معظم الحالات· وعند الحاجة كان يتم دعم القوى العاملة من المخزون البشري المتمثل في الفلاحين المرحّلين والنسوة الضائعات·
وكان أصحاب المصانع يفضلون النساء على الرجال، والأطفال على النساء لقلة أجورهم· وفي سنة 1816 كان من بين 10,000 من العاملين في 41 طاحونة اسكتلندية: 3,146 رجلاً و6,854 امرأة و4,581 طفلاً دون الثامنة عشرة من العمر· وكان أصحاب المصانع يفضلون تشغيل الأطفال الأيتام والمعوزين الذين يُرسلهم مقاولو تشغيل الفقراء لنجدتهم، وذلك لانخفاض أجورهم· وحاول مرسوم المصانع The Factory Act الصادر في سنة 1802 أن يضع حدودا دنيا لاستخدام مثل هؤلاء العمال المهنيين بمنع تشغيلهم أكثر من 21 ساعة يومياً، ولكن البرلمان قد رفض الدفع للمفوضين (مندوبي الحكومة) لوضع المرسوم موضع التطبيق وبشكل عام ظل تشغيل الأطفال ساري المفعول في المصانع البريطانية حتى سنة 1842·(ملحق/711)
وفي سنة 1800 كان متوسط أجر العامل البالغ في لندن هو 18 شلنا في الأسبوع (نحو 23 دولاراً في الولايات المتحدة سنة 1960) أما في الريف فكان المتوسط ينقص بنحو الثلث· وبالجملة فإن أجور الأسرة كان يتحكم فيها العدد المطلوب لاستمرار العمل لكن هذا كان يتوقف على انضمام الزوجة والابن إلى القوى العاملة في المصنع· وكان أصحاب العمل يدافعون عن مبدأ بقاء الأجور منخفضة لضمان عودة العمال إلى العمل، وكان بعض العمال يحصلون على إجازة أسبوعية لمدة يومين أو ثلاثة وعندما يعودون للعمل يكونون في حالة غير يقظة لفرط ما تناولوه من كحول في أثناء الإجازة ولم يكن يدفع العامل للعودة للعمل في المصنع بين الآلات سوى الجوع·
وكانت هناك بعض الميزات المعينة التي تُلطِّف عناء العمال، فبعض أصحاب الأعمال كانوا يدفعون قيمة الإيجار وتكاليف الوقود للعاملين لديهم· وكانت أسعار السلع منخفضة - كانت أرخص بنحو الثلث من الأسعار التي سادت في بريطانيا العظمى سنة 1960· وكانت الأجور - بشكل عام - تتناسب طردياً مع الأسعار، فكلما ارتفعت الأسعار زادت الأجور وكلما انخفضت الأسعار قلت الأجور، وظل الحال على هذا النحو حتى سنة 1793 عندما بدأت الحرب مع فرنسا فعانت الطبقات كلها من نقص دخولها، وإن كانت معاناة العمال هي الأشد لأن أجورهم كانت منخفضة انخفاضاً لا يمكّنهم من العيش إلاّ بشق الأنفس·
لقد كان العمال يعيشون في المدن حيث الهواء الملوّث (المسمَّم) في أحياء منعزلة تعمها الأمراض، في مساكن مزدحمة - وأحيانا في غرف رطبة ضيقة كالقبور لا يصلها نور الشمس إلاَّ لماما، ولا مكان فيها للنظافة، وحيث النزاعات بين المقيمين فيها تتلف الأعصاب المرهقة ولم يكن هناك مجال لاحتفاظ الفرد بخصوصيته ولم يكن ثمة ملجأ أمام المرأة سوى التقوى، ولم يكن أمام الرجل سوى الخمَّارة· وكان السُّكر (تناول الخمر) يتم كل أسبوع· وكان سكان البيوت يحصلون على المياه من الآبار والطلمبات العامة فإذا ما قلَّ معين الماء في هذين المصدرين راحت النسوة يحملن الماء من أقرب نهر أو ترعة، وكانت هذه المياه ملوثة بالمخلفات الصناعية أو المنزلية أو البشرية·(ملحق/712)
وكان الصرف الصحي بدائيا وكانت البالوعات نادرة الوجود· وكتب ثورولد روجرز Thorold Rogers في سنة 1890 عندما كان أستاذاً للاقتصاد السياسي في أكسفورد: "إنني مُوقن أن التاريخ الإنجليزي الموثَّق لم يسجِّل في أي فترة من فتراته ظروفاً أسوأ للعمل اليدوي من تلك الظروف التي كانت موجودة في الأربعين سنة الممتدة من 1782 إلى 1821 وهي الفترة التي جمع فيها أصحاب المصانع ثرواتهم بسرعة، وهي الفترة التي تضاعفت فيها أجور الأرض الزراعية"·
وقد استمرت هذه الأحوال حتى سني الأربعين من القرن التاسع عشر (1840) · وقد لخّص كارليل Carlyle الذي نشأ في اسكتلندا وإنجلترا ما بين سنتي 1795 و1840 حال عامل المصنع البريطاني في تلك الفترة بأن قال: إن البريتون Briton كانوا في حالة أفضل منه عندما كانوا أقنانا (عبيداً للأرض) في العصور الوسطى· فالتقدم الصناعي جعل للبروليتاري نصيباً تافهاً جداً من الثروة المتنامية، حتى إنّها جعلته يرتد إلى مرحلة البربرية في مسلكه ولباسه وطريقة حديثه والأسلوب الذي يتَّبعه للترفيه عن نفسه· وقد كتب أليكسيس دي توكفيل Alexis de Tocqueville بعد زيارته لمانشستر: "لقد كاد الإنسان المتحضر يتحول إلى همجي بدائي· ويرجع الفضل إلى هذه الأيام المريرة فيما حققته مانشستر والمدن الصناعية البريطانية الأخرى من تقدم"·
وقدَّم قانون الفقراء الذي سُنّ في سنة 1601 (وجرت عليه تعديلات في فترات لاحقة) بعض المساعدة للمعدمين والعاطلين· وكان العاملون على تنفيذه مسئولين إداريين في الوحدات الإدارية المختلفة وكانوا عادة ما يسلّمون المبالغ المجمّعة للملاجئ وإصلاحيات الأحداث· ولتمويل تنفيذ هذا القانون كان لابد من ضريبة خاصة مفروضة على أرباب البيوت الذين كانوا متذمرين من هذه الضريبة لأنها - على حد رأيهم - تُنفق على العاطلين وعديمي النفع وتساعد على تفريخ الطائشين والمهملين، وكان من رأيهم أن ضريبة المبيعات (المكوس) على ما يُباع أو يُتاجر به محلياً هي خير ضمان ضد الفوضى الاجتماعية·(ملحق/713)
وفي كثير من المديريات (الوحدات الإدارية) - بعد سنة 1795 - كان يتم تنظيم المساعدات (الإعانات) ليحصل عليها أصحاب الأجور المتدنية (التي لا تكفي لإقامة أَوَد العمّال الحاصلين عليها)، وكان بعض أصحاب العمل ينتهزون فرصة تقديم هذه الإعانات للإبقاء على الأجور التي يدفعونها للعمال متدنية·
ورغم هذه الإعانات المتواضعة، فقد وصلت الحالة البائسة للعمال إلى منعطف خطير مع بداية القرن التاسع عشر· فحتى سنة 1824 كان محظوراً تشكيل تنظيمات للمطالبة بأجور أفضل، ومع هذا فقد كانت هناك تنظيمات سرية، وكان محظوراً القيام بإضرابات ومع هذا فقد أضرب العمال وجرى قمعهم، فأضربوا ثانية· وحذر الإصلاحيين مثل روبرت أوين Robert Owen البرلمان أنه إذا لم تتحسن أحوال المصانع، فسيزداد العنف مما سيكلف كثيرا· وواجهت الحكومة السخط المتزايد بتجديد الأعمال العدائية مع فرنسا (1803) وراحت حالة السخط تزداد كلما ابتعد شبحُ الحرب حتى انفجرت في ثورة علنية في سنة 1811، ولم يكن في طليعة هذه الثورة عمال المصانع وإنما نسّاجو الجوارب والربط الذين يقومون بعملهم على ماكينات في البيوت والمحلات الصغيرة في نوتنجهام Nottingham أو بالقرب منها· وهؤلاء النسّاجون رجالاً ونساء كانوا لا يزالون قادرين على الاستمتاع بحياة في الهواء الطلق في الحقول والمزارع، وربا تحققوا من أن حياتهم ذات الطبيعة المنطلقة تتناقض - من الناحية المثالية مع انكفائهم على أنوالهم·
لقد امتعضوا من تبعيتهم لأصحاب الأنوال (آلات نسج الجوارب) الذين أجَّروا لهم هذه الأنوال، وباعوا لهم المواد الخامة واشتروا منهم منتجاتهم ولم يتركوا لهم ربحاً إلاَّ بالنسب التي يحددونها هم (أصحاب الأنوال) أو يحددها الذين موَّلوه بالخامات أو برأس المال· وأكثر من هذا فقد كانوا يخشون أن يفقدوا أعمالهم الحالية لصالح المصانع المنتشرة ذوات الأنوال الآلية التي تحركها الطاقة (البخارية) ذات الإنتاج المُضاعف، وفي فورة غضبهم قرروا أن يدمروا كلَّ ما يستطيعون تدميره من الآلات والماكينات التي اعتبروها رمزا لعبوديتهم·(ملحق/714)
ونظم ند Ned أو الملك لُود King Ludd - وهو شخصية غامضة وربما كان شخصاً أسطوريا - النسَّاجين الغاضبين ووضع الخطط لغاراتهم· وفي خريف سنة 1811 راحت جماعات منفصلة من هؤلاء النسّاجين الثائرين (اللوديين Luddites) يغزون مديرية إِثر مديرية وحطموا كل ما وجدوه من آلات النسيج· وامتدت الحركة من نوتنجهامشير Nottinghamshire إلى لانكشير Lancashire ودربيشير Derbyshire وليزيسترشير Leicestershire واستمرت الحركة خلال عام 1812· وامتنع محطِّمو الآلات (اللوديون) عن إلحاق الأذى بالأشخاص إلاّ في حالة صاحب مصنع أمر رجاله بإطلاق النار عليهم، فقد أخرجه المضربون وقتلوه· وارتعد نصف إنجلترا خوفا وهلعاً متذكرة الثورة الفرنسية· وكتب روبرت سوثي R. Southey:
" في هذه اللحظات" لا شيء ينقذنا سوى الجيش· إنه الذي سينقذنا من أكثر النكبات والكوارث ضراوة· سينقذنا من عصيان الفقراء المسلّح ضد الأثرياء، لكن إلى أي مدى يمكن الاعتماد على الجيش في هذا الأمر؟ فهذا موضع سؤال قلما أجرؤ أن أوجهه إلى نفسي· إن البلاد ملغّمة تتسخ تحت أقدامنا"·
ودافع وليم كوبت W. Cobbett الصحفي المفعم حيوية عن هؤلاء المغيرين في مجلس العموم البريطاني وألقى الشاعر بايرون Byron خطاباً حاراً لصالحهم في مجلس اللوردات، وقدم اللورد ليفربول Liverpool رئيس الوزراء بعض التشريعات القاسية التي أجازها البرلمان وأرسل كتيبة عسكرية لقمع الثوّار وتم القبض على قادة الثوار وأدينوا بسرعة في محاكمة جماعية في يورك (1813) ونفى بعضهم وشُنق آخرون· وتضاعف عدد الآلات والماكينات ولم يصدر تشريع يرحم العامل البريطاني البالغ حتى سنة 1824·(ملحق/715)
3 - قسوة العِلْم
لم يقدم الاقتصاديون سوى القليل لإراحة العمال والتخفيف من معاناتهم· وشرح توماس مالتوس Thomas Malthus في مبحثه (مقال عن السكّان) صدر سنة 1798 أن زيادة الأجور تؤدي إلى ظهور أسرة أكثر عدداً مما يؤدي بدوره إلى زيادة الضغط على موارد الطعام وهذا يؤدي بدوره إلى عودة الفقر حالاً لأن الفقر هو النتيجة الدائمة لعدم كفاية الموارد الطبيعية لحاجة الإنسان· وقد راجع مالتوس نظريته هذه سنة 1803 لكن دون تراجع عن أفكارها الأساسية واضعاً بذلك قانونه الحديدي للأجور والقاضي بأََنّ أُجرة العامل ينبغي ألاَّ تتجاوز الحدَّ اللازم لعيش الكفاف أو بتعبير آخر ستظل أجور العمل دائما تتحكم فيها نسبة إمداد العمل للحاجة ·
وفي مبحثه مبادئ الاقتصاد السياسي (1820) حذَّر من أنَّ النمو الاقتصادي قد يؤدي إلى التجاوز مادام سيؤدي إلى تقليص الاستثمار والإنتاج، ودافع عن الرِّيع rent ( العوائد عن استثمار الممتلكات) باعتباره مكافأة عن الشجاعة والحكمة في الوقت الحالي، وعن قوةٍ أو براعةٍ كانتا في الماضي، واتفق مع فولتير في أنّ حياة الترف التي يعيشها الأثرياء لها أثر طيب إذ تتيح للحرفيين الفنيين المهرة فرصاً للعمل· وفي لحظة ليبرالية أوصى بإقامة الأعمال العامة (الأشغال العامة) وفي فترات نقص الإنتاج كإعانة للعاطلين وتخفيفاً من معاناتهم·
واتفق ريكاردو Ricardo مع نظريات صديقه مالتوس وأقام عليها مبحثه أسس الاقتصاد السياسي والضرائب (1817) الذي ظل طوال نصف قرن هو النص الكلاسيكي لما أطلق عليه كارليل العلم البارد أو القاسي· لقد كان (ريكاردو) ابناً ليهودي هولندي كانت أحواله قد انتعشت في سوق لندن للصرافة والأوراق المالية، وكان قد تحوّل إلى المسيحية على مذهب الموحِدين وتزوِّج من فتاة على مذهب الكواكر Quaker ( جماعة مسيحية) وأسس شركة سمسرة وكوّن ثروة كبيرة وانسحب من عالم الأعمال سنة 1815 وكتب عدّة مباحث عميقة خاصة في المالية·(ملحق/716)
وفي سنة 1819 تم انتخابه لمجلس العموم البريطاني حيث حارب المفاسد البرلمانية ودافع عن الاتحادات العمالية وحذّر الرأسماليين كي ينتبهوا مخافة أن يجني ملاَّكُ الأراضي في بريطانيا - عاجلا أم آجلا - حصادَ الصناعة ومكاسبها بما لهم من حق في رفع الإيجارات· ودلّل في بحث له في هذه الفترة على أن رفع الأجور لم يكن أبداً أمراً حقيقيا بسبب ارتفاع الأسعار الناتج عن زيادة تكاليف الإنتاج، لأن الأجر الخالص للعامل هو ذلك الذي يمكِّنه من العيش والإبقاء على نوْعه (دون زيادة) ولم يترك ريكاردو إلا القليل لكارل ماركس بتعريفه لقيمة value ( وليس سعر price) البضاعة "بكمية العمل المبذول اللازم لإنتاجها"·
ولم يكن هو نفسه قاسيا (باردا) كَعِلْمه، فقد ظلّ هو ومالتوس صديقين إلى النهاية رغم أنهما كانا يختلفان غالبا في أمور خاصة وفي أمور الطباعة، وعندما ماتا (ريكاردو في سنة 1823 ومالتوس في سنة 1834) قال عنهما سير جيمس ماكينتوش Mackintosh ( الومضة الباقية من التنوير الاسكتلندي): لقد عرفتُ آدم سميث معرفة سطحية، وعرفت ريكاردو جيدا وعرفت مالتوس بعمق فقد كانت علاقتي به حميمة· وبصرف النظر عمّا يُقال عن العلم الذي كان هؤلاء الثلاثة هم سادته ورجاله الأساسيين، فإن ثلاثتهم كانوا من أفضل من عرفت على الإطلاق·
4 - روبرت أوين ROBERT OWEN: 1771 - 1858
نعود الآن بسرور إلى روبرت أوين، رجل الصناعة الناجح الذي حاول أن يجعل الاقتصاد البريطاني شأنا بهيجا يجعله عواناً بين الرأسمالية والاشتراكية· وُلد روبرت في نيوتن Newtown في ويلز Wales حيث كان أبوه صانع سروج وصاحب محطة تزويد المسافرين بجياد البريد، وصاحب مصنع حديد، وكان ناجحا في كل هذه الأعمال· وكان روبرت في صباه ضعيف البدن ولكنه تعلم كيف يحافظ على صحته وعاش حتى بلغ السابعة والثمانين· وقد جعله أهله يمارس العمل وهو في التاسعة من عمره، وفي العاشرة تمَّ تدريبه ليمتَهِن تجارة الأجواخ والألبسة في ستامفورد Stamford.(ملحق/717)
وفي الرابعة عشرة من عمره أصبح مساعدا لتاجر أجواخ وألبسة في مانشستر Manchester، وفي التاسعة عشرة من عمره أصبح مديرا لإحدى أكبر المصانع في لانكشير براتب سنوي قدره ثلاثمائة جنيه pounds ( بوند) (نحو 7500 دولار؟) وظل في عمله هذا ثمانية أعوام حقق خلالها شهرة لكفاءته واستقامته· لقد راح يوفِّر ويدرس ويقرأ بشغف يفوق الحد، وكوّن صداقات مثيرة للانتباه مع كل من: جون دالتون Dalton المعروف بكيميائه الجزيئية atomic Chemistry وروبرت فلتون Fulton المعروف بقواربه البخارية وصموئيل (صامويل) كولرِدْج Coleridge المعروف بأفكاره الراديكالية وأشعاره المعروفة· وفي سنة 1799 وكان قد بلغ الثامنة والعشرين اشترى من ديفيد ديل David dale لنفسه واثنين من شرَكائه مجموعة مصانع نسيج في نيو لانارك New Lanark بالقرب من جلاسجو Glasgow وحظي - مكافأةً له - بابنة ديل Dale التي أصبحت زوجته المحبوبة التي أنجب منها سبعة أبناء·
وكانت نيو لانارك تضم نحو 2,000 نفس بمن فيهم نحو 500 طفل أُرسلوا إليها من البيوت الفقيرة في جلاسجو وادنبره وكما تذكَّر أوين فيما بعد:
"كان السكان يعيشون في بطالة وفقر وسادت تقريبا كل أنواع الجرائم، وكانوا مدينين مرارا غير أصحاء وفي حالة بؤس··· وأدى الجهل وقلة التدريب إلى اعتيادهم السُّكر والسرقة والكذب والغش والقذارة··· وكانوا مجحفين في حق الأمة سياسيا ودينيا يتصدون لأية محاولة لتحسين أوضاعهم· وكانت المدن الصناعية الصغيرة تكاد تخلو من وسائل الصحة العامة ووسائل منع تفشي الأمراض· وكانت المساكن مظلمة قذرة، وبدت ممارسة الجريمة عملا ترفيهيا من عناء العمل، وكانت الحانات ملاذاً دافئا وباعثا على المسرّة من مشاكل البيوت"·
وكان أوين Owen قد فقد إيمانه بالغيبيات تماما لكنّه تعلّق بإخلاص بالمثالية الأخلاقية للمسيح، لكنه صُدِم بالمزج بين العبودية الصناعية الجديدة واللاهوت المسيحي القديم (المقصود التوفيق بينهما)، وإنما راح يبحث عن سبيل للتوفيق بين الرأسمالية الناجحة والأخلاق المسيحية·(ملحق/718)
وأقنع نفسه - رغم تحذير والديه - بعائد قدره 5% من رأس المال المستثمر، ورفع الأجور ومنع تشغيل الأطفال تحت سن العاشرة، ورفض حجة مالتوس التي مؤدّاها أن زيادة الأجور ستزيد ضغط (استهلاك) السكان على الطعام المتاح مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار مما يجعل الأجر الذي يتلقاه العامل وكأنه لم يزد (بمعنى أن قيمته الشرائية رغم الزيادة تظل كما هي) وساق الحجة على أن ما هو صالح للأكل مما يجود به البحر لا حد له، كما أن زيادة السكان تؤدي إلى زيادة الأراضي المزروعة وأن زيادة الإنتاج ستقترن بظهور المزيد من الاختراعات والمزيد من العمالة، كل ذلك سيساعد على توفير الطعام وتحقيق الازدهار للسكان، إذا أخذت الحكومة بالبرنامج الإصلاحي الذي يقترحه·
وافتتح في نيو لانارك New lanark محلا يبيع فيه مستلزمات الحياة بسعر التكلفة تقريبا، ودرّب - بصبر - العاملين معه ليس فقط على تقنيات الإنتاج بل أيضا على فن الحياة، وأكد لهم أنهم إذا تعاونوا وراعى بعضهم بعضا سينعمون بسلام ورضا لم يألفوهما من قبل· ويبدو أنه كسب كثيرا من العمال إلى جانب النظام والنظافة والاعتدال، وعندما تذمّر والداه من أنه ينفق على أعمال الإحسان والتعليم أموالاً كان يمكن أَنْ تحقق أرباحاً وافرة، كوّن لنفسه شركة خاصة به (1813) بعد أن فسخ شركته معهما، ورحب شركاؤه الجدد (كان من بينهم جيرمي بنثام Jeremy Bentham) بتجربته وكانوا راضين بنسبة الخمسة في المائة كعائد لاستثماراتهم·(ملحق/719)
وحقَّقت مصانعه ومشروعاته في نيو لامارك شهرة على مستوى الوطن إن لم يكن على مستوى العالم· وكانت مدينة نيو لامارك تبعد عن الطريق الرئيسي مسافة تستغرق ركوب يوم كامل من جلاسجو عبر جبالٍ وضباب، ومع هذا كان آلاف الزائرين يأتون لفهم هذه الظاهرة التي لا تصدق - مصنع يُدار على وفق للمبادئ المسيحية، ووقَّع عشرون ألفا في دفتر الزيارات فيما بين عامي 1815 و1825، كان منهم كتاب ومصلحون ورجال أعمال وأمراء مثل الأرشيدوق جوهان Johann ( يوهان) وماكسميليان Maximilian النمساوي، وفي سنة 1815 كان الدوق الكبير نيكولاس (الذي سرعان ما أصبح قيصرا) قد اقتنع بمشروع أوين وبنتائجه فدعا أوين Owen إلى لتأسيس مصانع ومشروعات مماثلة في روسيا·
وبعد أربعة عشر عاما من التجربة شعر أوين Owen بضرورة تأكيد تجربته وإعلانها للعالم لأنه كان واثقا من أن انتشارها في أنحاء العالم "سيضمن السعادة لكل البشر عبر الأجيال" لذا فقد أصدر في سنة 1813 أول مقال من مقالات أربع كان لها عنوان شامل (نظرة جديدة للمجتمع) أصبحت من الكلاسيكيّات الكبرى في الإنتاج الفكري الذي يتناول الإصلاح· ولم يقدم اقتراحاته بشكل مُستقر وكأنه مستعد للقتال، فقد أكَّد لحكّام بريطانيا ورجال الصناعة فيها أنه لا يرغب في إحداث أيّ تغيير ثوري، ولا يؤمن به وأن خطته لا تهدف إلى إلحاق الخسارة بأيِّ أحد بل إنها حقاً قد تزيد من دخل صاحب العمل، وأنها - أي خطته - قد تجنِّب إنجلترا الثورة·
لقد بدأ باقتراحٍ وجدهُ أساسيا لأي إصلاح جذري - وهو ضرورة تعديل شخصية الإنسان منذ الطفولة ببث معتقدات وتجارب مفيده تُغير ما يبدو أنّه قد غُرِس فيه من خلال موروثات ثابتة تذكي فيه التنافس والصراع· إن أكبر أخطائنا تتمثل في فكرة مؤداها أن الأفراد يشكلون شخصياتهم لكن العكس هو الصحيح، فآلاف المؤثرات التي تؤثر في الشخص قبل ميلاده ومن ميلاده إلى موته هي التي تكوّن شخصيته·(ملحق/720)
وانتهى أوين Owen بحماس رافضاً أي معدل أو ملطف فأي شخصية سواء كانت من أفضل الشخصيات أم من أسوئها، ومن أكثرها جهلاً أو أكثرها تنوراً لابد أن تكون موجودة في أي مجتمع، بل وفي العالم كله وذلك من خلال وسائل خاصة هي إلى حد كبير تحت سيطرة من يملكون زمام الأمر في الحكومات· ومن هذا المبدأ خلُص أوين بافتراضين: الأول؛ أن الطبقات المالكة الحالية لا لَوْم عليها في ممارساتها وأفكارها طالما أن أفراد هذه الطبقات هم نتاج ماضيهم والبيئات التي هم فيها الآن، والثاني أن الإصلاح لابد أن يبدأ بالأطفال وبتحسين أحوال المدارس وزيادة أعدادها· لابد من بذل كل جهد لتنشئة الأطفال بحيث يفهمون أنه لابد أن يحترم كل فرد الأفراد الآخرين طالما أن أي فرد غير ملوم لصفاته (شخصيته) وغير ملوم بسبب ظروف المجتمع الذي نشأ فيه: "لابد من تعليم الأطفال كيف يتعاونون بإراداتهم وأن يكونوا شجعانا"· ولذا وجدناه عندما كانت المدارس المتاحة للعوام في إنجلترا قليلة جدا يقترح على الحكومات في كل البلاد "وضع خطة وطنية (على مستوى الأمة) للتعليم وإعادة تشكيل الشخصية·· دون نظر إلى وطن أو مذهب ديني أو حزب"·
وكان ديفيد ديل David Dale قد أنجز بالفعل الكثير لتعليم الأطفال في نيو لانارك، وزاد أوين على ذلك بأن أقام في إحدى المباني من ممتلكاته المعهد الجديد 1816 لتحويل الملائكة والبربريين إلى مسحيين بدون لاهوت· لقد راح يبحث عن تلاميذ لمعهده من بين الأطفال الذين يستطيعون المشي فقد:(ملحق/721)
"كان يخشى (مثل أفلاطون) أن ينقل الآباء الذين تكونوا بالفعل (تشكلت عقولهم ونفوسهم بالفعل) أو فسدت طباعهم بالفعل - إلى أطفالهم روح التنافس ········· في الحكم الموجود (القائم)، واستسلم للأمهات اللائي أصررن على أن الأطفال في أعوامهن الأولى يحتجن إلى عطف الأم ورعايتها، وعادة ما كان يُلحق بمدرسته الأطفال في سن الثالثة ويتركهم - إن سمح الطقس - يتعلمون ويلعبون في الهواء الطلق، وكان الأطفال ذكوراً وإناثاً يلعبون ويتدربون معاً، وكان عليهم أيضاً أن يتدربوا في دار الفنون (الصناعات)، وكان الأولاد يتلقون تدريبات عسكرية، لكن كان عليهم أن يتعلموا أيضاً الغناء والرقص والعزف على بعض الآلات الموسيقية كالبنات"·
وكان كل هذا البرنامج التعليمي لخدمة تكوين الشخصية الأخلاقية مع تركيز على الاحترام واللطف والكياسة والرفق والتعاون· ولم يكن هنا عقاب وعند نهاية كل يوم دراسي يعود الأطفال إلى آبائهم ولا يكون مسموحاً لهم بالعمل في المصانع قبل العاشرة·
ولم تقدم مدرسة أوين أي مقرر ديني، ولا حتى في المحاضرات المسائية التي يحضرها الكبار، فقد كان أوين Owen مقتنعاً أن الدين سيفسد عقل الطفل بخرافاته ومن ثم وجب البعد بطفل التنوير عن الدين، فالذكاء هو الفضيلة العليا وانتشار التعليم هو الحل الوحيد للمشاكل الاجتماعية، وأن التقدم - إذا ما أُتيح التعليم - حتمي ولا حدود له· ولم تكن هناك في مصانعه ومدرسته أي فصل عرقي أو ديني· فقد كان يُقدم الإحسان والرفق للجميع على سواء وكان يؤمن أن "المناهج التي يقدمها هي محاولة للتحرك في اتجاه أخلاق المسيح وراح يتطلع بحماس ليوتوبيا أخلاقية! "(ملحق/722)
وفي مقاله الرابع (1816) وهو المقال الذي أهداه للوصيِّ على العرش قدم بعض المقترحات في مجال التشريع· لقد طالب البرلمان بالإسراع في إصدار مرسوم بتقليل المستورد من الخمور، ورفع الضرائب على المباع منها، وأخيراً إنهاء تراخيص محلات الجِن gin ( شراب مُسْكر قوي) وحانات البيرة (الجعّة) وتضييق الخناق على السكر حتى يقتصر في النهاية على الأغنياء من ذوي المال· وأوصى "بنشر التعليم الابتدائي وتمويله لتحسين أخلاق الأجيال القادمة"· ودافع عن صدور تشريع المصانع الذي يمنع تشغيل الأطفال دون العاشرة ومنع العمل الليلي لمن هم دون الثامنة عشرة كما أوصى بتحسين ظروف العمل وتنظيم ساعاته، وتدبير نُظم للتفتيش الدوري على المصانع· وأوصى بضرورة أن:
"يقوم المكتب الحكومي للعمل (الإدارة الحكومية المنوط بها أمور العمل) بجمع الإحصاءات بشكل دوري عن الحاجة للعمالة وغير ذلك من أمور العمل لاستخدامها للتخفيف من حدة البطالة"· ودعا إلى "إلغاء اللوترية lottery ( اليانصيب) التي تنظمها الدولة باعتبارها وسيلة للإيقاع بغير الوعي، وسرقة الجاهل"·
واتفق مع مالتوس أن (قوانين الفقراء Poor laws) التي تُبقي العاطلين والفقراء على قيد الحياة بالكاد ليست إلا خطوة واحدة من المجاعة، وهي تترك الذين يتلقون العون على وفق هذه لهذه القوانين نهباً للجريمة، وتجعلهم يتفرغون للتناسل، واقترح أوين (1817) بدلا من بيوت التشغيل Work houses التي تُدار في ظل هذه القوانين أن تقيم الدولة مجتمعات كل منها يتكوّن من 500 أو 1,500 نفس، وتنظم كل منها نفسها تنظيما داخليا ويقتسمون العمل فيما بينهم لإنتاج طعامهم وملابسهم وليديروا مدرستهم·(ملحق/723)
ولم تلق دعوته إلا استجابة قليلة الشأن من البرلمان، فتوجه في سنة 1818 إلى أصحاب المصانع البريطانيين يصف لهم نجاح النظام الذي اتبعه في نيو لانارك ويحثّهم أن يكفّوا عن تشغيل الأطفال دون الثانية عشرة من أعمارهم، لكنهم لم يجدوا ذلك متفقاً معهم وامتعضوا من تحليل أوين للركود الاقتصادي باعتباره راجعا إلى كون الإنتاج inventive productivity يتجاوز القدرة الشرائية للسكان· لقد رفضوه باعتباره حالما ملحدا لا يفهم فهما حقيقا حقيقة المشاكل التي يواجهها أصحاب العمل، ولا الحاجات البشرية التي لا يستطيع أن يشبعها إلاّ الدين·
وأخيراً عاد أُوين Owen إلى العمال أنفسهم فتوجه إليهم بخطاب إلى الطبقة العاملة (1819)، ولقد أسعدهم بإعلانه: "أن العمل اليدوي إذا تم توجيهه بشكل صحيح هو مصدر الثروة كلها ومصدر الرخاء والازدهار للأمة" ولكنه حذرهم من أن "إنجلترا وطبقاتها العاملة ليست مستعدة للاشتراكية"، وأنكر أي نيّة يُضمرها لتقديم اقتراح للحكومة البريطانية بضرورة تعيين كل القادرين على العمل في البلاد، تعيينا مباشرا· ورفض قيام الحكومة بأية إجراءات متطرفة كما رفض القيام بثورة لأنها ستثير الأحقاد والكراهية والثأر وعلى أية حال فقد أعلن في سنة 1820 في (تقرير إلى أصحاب الأراضي في لانارك): "أن إنجلترا الآن لا تحتاج إلى إصلاحات تدريجية وإنما إلى تغيير جذري في نظامها الاجتماعي"·
وعندما لاقى إحباطاً في إنجلترا وجه وَجْهَهُ آملاً شطر الولايات المتحدة الأمريكية حيث كان أصحاب فرق دينية مختلفة قد أقاموا بعض التجارب الاشتراكية· ففي سنة 1814 قامت جماعة من التقويين Pietists الألمان الأمريكيين بشراء ثلاثين ألف فدان (أكر) على طول نهر وابش Wabash في جنوب غرب إنديانا وشيدوا مدينة طوروها أطلقوا عليها اسم هارموني Harmonie، وبحلول عام 1825 حل بهم الإفلاس فأسعفهم أوين، ودمر ماليته بأن قدم لهم أربعين ألف جنيه من أجل الأكرات (الفدادين) والمدينة التي أعاد تسميتها لتصبح هارموني الجديدة New Harmony ودعا الرجال والنساء من ذوي النوايا الحسنة للانضمام إليه لتكوين مجتمع تعاوني·(ملحق/724)
ودفع كل التكاليف ماعدا تكاليف المدرسة إذ دفعها وليم ماكلور Maclure وأتى إليه آلاف المتحمسين راحوا يأكلون طوال عام على نفقة أوين وتكيّفوا ببطء مع العمل المنظم واختلفوا في أمور الدين والسياسة، وفي 1827 كان قد خسر معظم الأربعين ألف جنيه فأحال أمور هذه المستعمرة إلى ماكلور وعاد إلى بريطانيا·
ومع هذا لم يكن قد أنهى ما في جُعبته تماماً، فقد قاد حركة لتطوير نقابات العمال لتكوّن روابط صناعية وتجارية تنافس المشروعات الخاصة في الإنتاج الصناعي· وقَبِل الاتحاد الوطني للبنائين عقوداً· وفعلت الاتحادات الأخرى ما يناسبها وفي سنة 1833 نظمها أوين في المنظمة الوطنية الكبرى للنقابات العمالية وكان يأمل أن تستأصل هذه المنظمة - بالتدريج - شأفة الرأسمالية وتحل أخيراً محل الدولة· وتدخل البرلمان بقوانين تكبح هذا الاتجاه لكنها لقيت مقاومة شديدة فرفضت البنوك تقديم قروض له وفي سنة 1834 اعترف أوين بالهزيمة·
إن حياته التي شهدت نجاحا كبيراً في مضمار الصناعة، يبدو أنها وصلت الآن أو كادت إلى مرحلة الفشل الكامل، وأدت الاختلافات الدينية إلى تعكير صفو زواجه، فقد كانت زوجته كالفنية متحمسة عندما اكتشفت أنه (لا أدري)، وفي وقت لاحق حثت ابنها روبرت على إعادة أبيه إلى حظيرة الكالفنية Calvinist، فكانت النتيجة أن تشكك الولد في دينه بدلا من أن يُقنع أباه· وبعد أن عاد أوين من أمريكا عاش منفصلاً عن زوجته رغم أنه ظل على علاقة صداقة بها· وكان يؤمن بالطلاق ولكنه لم يسع إليه واستغرق في مهمته (رسالته) استغراقاً كاملاً·(ملحق/725)
وقدَّم تشجيعاً فعّالاً للجماعات المختلفة التي حاولت تطبيق مبادئه: في أوربستون Orbiston في اسكتلندا، وفي رالاهين Ralahine في أيرلندا وفي كوينوود Queenwood في إنجلترا· وقد حلت الجماعة الأولى نفسها في غضون عامين والثانية في غضون ثلاثة أعوام والثالثة في غضون ستة أعوام· وظل ينشر أفكاره بالخطب والتأليف وعاش حتى رأى كثيراً من تعاونيات المستهلكين في الجزر البريطانية· وظل مشغولاً بكتابة توصيات بالإصلاح للهيئات التعليمية والمسئولين الحكوميين والملكة فيكتوريا· وأخيراً - في سنة 1853 - عاد إلى الاتجاه الروحي Spiritualism وأغرق في التأمل الذاتي، وراح يجري حوارات حميمة (باطنية) مع فرانكلين وجيفرسون وشكسبير وشيلي ونابليون والنبي دانيال· وفي سنة 1858 كان قد تخلّى منذ زمن عن مجال اهتمامه بل وعن نفسه فعاد إلى بلدته نيوتون Newtown ومات فيها وهو في الثامنة والثمانين·
لقد كان رجلا طيبا، وكان غيْرياً يفكر في غيره أكثر من أي شخص آخر، ولم يستطع أن يسمو فوق ذاته كلية، فقد كان فخوراً في طيّات نفسه بسلطانه ونجاحه وفكره، وكان على حق عندما قرر أن التعاون السليم الذي يحقق الغرض في حاجة إلى نظام وسلطة· إنه أفضل من استطاع تضخيم ذاته لتضم بين جنباتها أقاربه وبلده وجنسه، ووجد - لهذا - رضا في توسيع نطاق الرحمة والعطاء· وهذا هو ما فعله روبرت أوين بعد كل شيء وقبل كل شيء، بشجاعة، وهذا وحده يكفي لنجعله بين الدعاة prophets الملهمين الداعيين إلى حياة أفضل·(ملحق/726)
الفصل السادس عشر
الحياة الإنجليزية: من 1804 إلى 1807 م
1 - الطبقات
الحضارة شعب له نظام اجتماعي قامت عليه حكومة وقانون ودين وأخلاق وعادات وتقاليد ونظام تعليمي، مع إتاحة قدر كاف من الحرية للإبداع والتجربة وقدر كاف من الحرية لتكوين الصداقات وعلاقات الحب وأعمال الخير وتطويرها، وقدر كاف من الحرية يُتيح إبداع فن وأدب وعلم وفلسفة· والآن كيف كان حال هذه النظم والحريات في إنجلترا في الفترة من 1789 إلى 1815 وكيف كان شكلهما (تكوينهما) وماذا نتج عنهما؟
في البداية نجد أن الفروق التي فرضتها الطبيعة بين الناس - فيما هو موروث، وفي الفرص والمهارات - جعلتهم يندرجون في طبقات تُسهم كل طبقة منها بنصيب في الحياة المشتركة· ولم يكن في إنجلترا نظام الطبقات المغلقة (أو المتحجرة) لأن الفرد ذا الثروة الكبيرة أو التفوق قد يترقى (يصعد) من طبقة إلى أخرى بل يصل حتى إلى مرتبة النبالة، وغالبا ما كانت العلاقة بين النبيل والفلاح تتسم بروح الصداقة وقلما تكون ذات طابع برهمي of Brahmin ( أو علاقة لا تسمح بأن يمس (يلمس) الفلاحُ النبيلَ) · وكانت القِنانة Serfdom ( عبودية الأرض) قد اختفت رغم أنه لم تكن هناك إلا أقلية تمتلك الأرض التي تزرعها· وكان النبلاء يدفعون الضرائب مثل غيرهم وفي بعض الأحيان (على عكس نظرائهم الفرنسيين) كانوا يعملون في مجال التجارة أو الصناعة· ولم يكن يرث لقب النبالة إلا الابن الأكبر أما بقية الأبناء فكانوا من الناحية القانونية (وليس الاجتماعية) من العوام·
وظلت كثير من مظاهر عدم المساواة (الفوارق) غير الطبيعية باقية· وكان تركُّزُ الثروةِ شديداً بشكل غير عادي· وكانت المساواةُ أمام القانون غير ذات معنى بسبب ارتفاع تكاليف التقاضي· ولم يكن ممكنا محاكمة اللوردات المتهمين إلا في مجلس اللوردات (الشيوخ)، وظلت مزايا النبالة هذه مستمرة حتى سنة 1841· وكان من الممكن إجبار من لا شجرة نسب لهم على الخدمة في البحرية· وقلما كان العوام يصلون إلى رتبٍ عليا في البحرية أو الجيش أو الخدمة المدنية أو الجامعات أو القضاء· وقلما كانت طبقة النبلاء الحاكم تسمح للجماهير التي لا تنتمي لطبقة معينة بأي دور في تقرير سياسات الحكومة أو اختيار القائمين عليها·(ملحق/727)
وربما كان الوعي الطبقي أكثر حدّة ووضوحاً لدى البورجوازية التي ظلت متعالية بكبرياء بعيدة عن الفلاحين والبروليتاريا، وكان أفرادها يحلمون بمراتب النبالة· وفي داخل الطبقة البورجوازية نفسها كانت هناك قطاعات متنافسة؛ فكان الرأسمالي العامل في المجال الصناعي يتعالى على جاره صاحب المحل التجاري، والتاجر الكبير الذي تحلَّى بالأموال نتيجة مغامراته التجارية يقف متباهياً إزاء رجل الصناعة· وكان ذوو المكانة أو الثروة العظيمة يطلون ما جمعوه من المستعمرات بطلاء الوطنية وكوّنوا طبقة خاصة بهم·
وكما في فرنسا، كذلك في إنجلترا لم يكن أي فرد راضياً بما فيه الكفاية بقسمته التي قسمها الله له، أتاحتها له قدراته، أو فرضتها الظروف· لقد كان كل شخص منشغلاً بالصعود أو التردي· لقد كان قلق العصر الحديث قد بدأ· وكانت المعركة الأساسية هي معركة الرأسمالي كي يحل محل الأرستقراطي في توجيه أمور الدولة· وكان هذا قد استغرق جيلا كاملا في فرنسا، أما في إنجلترا فاستغرق قروناً·
وعلى هذا، فحتى سنة 1832 كان لطبقة النبلاء الغلبة، وكانوا يبتسمون ساخرين من متحديهم· وبالمعنى الضيق فقد كانت طبقة النبلاء هذه في سنة 1801 تتكوّن من 287 نبيلاً أو نبيلة زمنياً (أي ليس من الإكليروس أو رجال الدين) و26 أسقفاً إنجيلياً هم النبلاء أو اللوردات الروحيون spiritual lords ( أي من رجال الدين) وهم الذين يشكلون مجلس الشيوخ (مجلس اللوردات House of Lords) · وكان النبلاء الزمنيون (من غير رجال الدين) مرتبين طبقياً فيما بينهم ترتيباً تنازلياً: أمراء من دماء ملكية، دوقات dukes، ماركيزات marquesses، إيرلات earls، فيكونتات Viscount وبارونات barons ·
وكان يمكن أن يُطلق على الواحد من كل هؤلاء - ما عدا الأمراء ذوي الدماء الملكية - لقب لورد، وكان اللقب يُورَّث جيلاً بعد جيل للابن الأكبر· وكان الواحد منهم يمتلك أراضي شاسعة يزرعها فلاحون مقيمون وعمال مستأجرون، وكان لها بطبيعة الحال ريع بلغ في حالة دوق نيوكاسل Newcastle 120,000 جنيه إسترليني في السنة أو نحو 12,000 جنيه عادة كما في حالة الفيكونت بالمرستون Palmerston ·(ملحق/728)
وكانت مزارع دوق بدفورد Bedford، ودوق نورفولك Norfolk ودوق ديفونشير Devonshire يمكن أن تغطي كونتيّة county ( مقاطعة) · وإلى الأدنى من هؤلاء اللوردات الزمنيين (من غير رجال الدين) واللوردات الروحانيين (من رجال الدين) نجد 540 بويرين! baronets ( تصغير بارون، وتكتب أحيان بارونت) وزوجاتهم (الواحدة منهن بويرينه، وتكتب أحياناً بارونيته) ويشفع الاسم المسيحي للواحد منهم باللفظ (سير Sir) إن كان بويرينا، وباللفظ (ليدي Lady) إن كانت بويرينه ويُتوارث هذا اللقب (سير أو ليدي) من هذه الأسرات·
ويلي ذلك 350 فارساً Knights ( لقب وليس له علاقة بالضرورة بركوب الخيل) وزوجاتهم، ويُسبق الاسم المسيحي للواحد منهم باللفظ (سير) أو (ليدي) أيضاً، لكن اللقب هنا لا يتوارث، ويلي حاملي لقب فارس نحو ستة آلاف من حاملي لقب حامل الدرع Squire أو شريف المحتد gentry وهم من ملاك الأراضي الذين وُلدوا في أسرات قديمة حازت قبولاً اجتماعياً ومن حق الواحد منهم أن يحمل شعار النبالة· كل هذه المجموعات السابق ذكرها من حملة الألقاب تقع دون اللوردات وهم يكوِّنون النبالة الدنيا أو النبالة الأقل درجة لكنهم بشكل عام من بين الأرستقراطية التي تحكم إنجلترا·(ملحق/729)
لم يكن أحد يشعر بأن حكم الأقلية ينطوي على شيء من الخطأ· فقد كان هناك رضاً متزناً قانعاً رواقياً (متسم بقبول الواقع) يبرر فقر الفلاحين وتدني أوضاع عمال المصانع واستغلال أيرلندا· لقد كانت هناك قناعة أن الفقر هو عقاب ضروري وطبيعي لعدم الكفاءة أو الكسل ويجب ألا يُسمحً للمنظِّرين الخوَّارين بتحويل بريطانيا إلى ديمقراطية تقوم على تقديم الإعانات المالية (للكسالى وغير الأكفاء) ورغم الحالمين باختفاء أشكال الحكومة مثل وليم جودوين William Godwin أو بيرسي شيلي Percy Shelley، فإن شكلاً من أشكال الحكومة يُعد أمراً ضرورياً فمن غير الحكومة يصبح الشعب غوغاء يهددون كل فرد وكل حرية، ولم يكن نابليون ظالما في حكمه لصالح الأرستقراطية الإنجليزية، بل إنه قال في سانت هيلينا: "ستكون مأساة (أو كارثة) أوروبية إذا اختفت الأرستقراطية الإنجليزية وتُركت الأمور لغوغاء لندن", فكل الحكومات تقوم إما على حكم الأقلية أو حكم الطغاة (الحكم الفردي المستبد) والأقلية الحاكمة إما أن تكون بأرستقراطية المولد أو بلوتقراطية الثروة plutocracy of wealth ( حكومة الأثرياء / أو حكم الطبقة الثرية) وبطبيعة الحال فإن الديمقراطية كانت في هذا الاتجاه الأخير (البلوتوقراطي) لأن الثروة وحدها هي التي يمكنها تمويل المعارك أو دفع تكاليف حث الناس على التصويت لصالح المرشحين الأغنياء والذين يتم انتخابهم بطريقة ديمقراطية وهم قلما يكونون - بحكم المولد أو الخبرات - قادرين على التعامل بنجاح مع قضايا الحكم، أما تعاملهم مع الشؤون الخارجية فنجاحهم فيها أقل بكثير·
فأرستقراطية المولد هي مدرسة لأجل الدولة· حقيقة إن بعض من تخرجوا في هذه المدرسة (أرستقراطية المولد) قد يصبحون عاطلين لا يصلحون لعمل، لكن هؤلاء قلّة، فأرستقراطيو المولد بحكم طول ارتباطهم بقضايا الحكم والأشخاص الحاكمين يكتسبون القدرة على التعامل مع الأمور الحرجة دون تعريض الأمة للخطر بحماقاتهم (تصرفاتهم غير المنضبطة) · وأكثر من هذا فإن الأرستقراطية الموظفة توظيفا صحيحاً تستطيع أن تُلزم الناس بعادة الطاعة واحترام السلطة اللذين هما منحة للنظام العام والأمن·(ملحق/730)
وبدت هذه الحجج التي صيغت ببراعة وتغلغلت في الشعور بشكل غامض مقنعة لغالب الشعب البريطاني· لكنها لم تكن مقنعة للبورجوازية الصاعدة التي كان أفرادها ممتعضين من الثروة التي حققها ملاّك الأراضي فسيطروا على الوزارات والبرلمانات، كما كان العمال المتمردون ينكرون على الأرستقراطية - بغضب - دورها، كما تعرضت الأرستقراطية للمساءلة من المثقفين الذين هالتهم الوسائل التي توظفها الأرستقراطية التي تحكم إنجلترا لخدمة مصالحها·
2 - الحكومة
2/ 1 - الهيئة التشريعية The Legislature
دستور إنجلترا هو الكيان الكامل للتشريعات غير المُلغاة التي أصدرها البرلمان، والقرارات غير المُبْطَلة (بضم الميم) للمحاكم· فمثل هذه السوابق القانونية تُسند كل السلطات الحكومية إلى التاج (سواء أكان صاحبه ملكاً أو ملكة) والبرلمان اللذين يعملان بتوافق· وعادة ما كان الملك منذ سنة 1688 يقبلُ ما يشرّعه البرلمان ويوافق عليه· وليست هناك وثيقة مكتوبة تحد من سلطة البرلمان في إجازة أيِّ قانون يُرضي مجلسيه (مجلس العموم ومجلس اللوردات) (النص: غرفتا مشورته two chambers) وتتكون الغرفة العليا (مجلس اللوردات) من اللوردات الزمنيين (من غير رجال الدين) واللوردات الروحانيين (من رجال الدين) الذين يجلسون بترتيب على وفق الميلاد والتقليد،
ومن سلطتهم رفض أي إجراء يصوت عليه مجلس العموم وهم كمحكمة عليا تُستأنف (بضم التاء) القرارات القضائية لديها، وكمحكمة عليا عند تولي مجلس العموم محاكمة أحد أعضائه بسبب جناية أو جُنحة أو عند محاكمة أحد أعضاء الحكومة كما أنه مختص بالنظر في الأمر عند اتهام أحد أعضائه من غير الإكليروس في جريمة كبرى· لقد كان هو حصن الأرستقراطية تقوم من خلاله بنضال يعوق تقدم البورجوازية المتقدمة·(ملحق/731)
وكان عدد أعضاء مجلس العموم 558 عضواً: اثنان من جامعة أكسفورد واثنان من جامعة كامبردج، وواحد من كلية التثليث في دبلن، و45 من اسكتلندا، والباقون يتم انتخابهم في أربعين كونتية (مقاطعة) وعشرين مدينة تمثل كل منها دائرة انتخابية من قِبَل ناخبين لهم امتيازات محدودة مختلفة اختلافاً كبيراً مما يجعل من غير الممكن النص عليها بالتفصيل في هذا السياق· ويُستثنى من المنتخبين (بكسر الخاء) النساء والذين يتلقون إعانات، والروم الكاثوليك والكويكرز Quakers ( أصحاب مذهب ديني) واليهود واللا أدريين agnostics، وبشكل عام كل من لا يؤدي قسم الولاء والطاعة لكنيسة إنجلترا وعقائدها· وفي المجموع كان في إنجلترا ذات التسعة ملايين نفس 245,000 ناخباً·
وطالما كان التصويت علنياً فإن قلة من المصوتين (الناخبين) هم الذين كانوا يجسرون على انتخاب مرشح غير مالك الأرض· وكان كثيرون من أهل المدن ممن لهم حق الانتخاب لا يُزعجون أنفسهم بالإدلاء بأصواتهم، وكانت بعض الانتخابات تجرى بترتيبات بين الزعماء دون أي تصويت· وكان عدد الممثلين البرلمانيين المسموح بهم لكل مدينة borough قد تحدد بحكم التقاليد المتوارثة دون أن يوضع في الاعتبار زيادة عدد السكان أو نقصهم في هذه المدينة التي تمثل دائرة انتخابية، إذ كان لبعض المدن التي لا يتجاوز عدد المصوتين فيها أصابع اليد ممثل أو أكثر، بينما لم يكن مسموحاً للندن سوى بأربعة ممثلين رغم أن عدد المصوتين فيها ستة آلاف· وكانت المراكز الصناعية قليلة التمثيل في البرلمان إن لم تكن غير ذات ممثلين برلمانيين أبداً·(ملحق/732)
فمانشستر Manchester وبرمنجهام Birmingham وشيفلد Sheffield لم يكن لها ممثلون في البرلمان، بينما كانت كونتية (مقاطعة كورنوال Cornwall القديمة) تتمتع باثنين وأربعين نائباً· وعلى أية حال يجب أن نضيف أن كثيراً من المدن والقرى كانت محتفظة بقدر كبير من الحكم الذاتي فيما يتعلق بأمورها الداخلية، وعلى هذا فمدينة لندن كانت تختار حكومتها عن طريق أصحاب الأملاك فيها (فهم وحدهم لهم حق التصويت) · وكان نحو نصف مقاعد مجلس العموم يتم شغلها عن طريق انتخابات نصف جماهيرية، أما النصف الثاني فيتم شغله من خلال تعيينات الملاك المحليين أو المقيمين في مناطق نائية، ولا معقِّب على تعيينهم· وكان الراغبون في مثل هذه التعيينات يدفعون للمجالس المحلية في كثير من الحالات، وكانت هذه المجالس تعيِّن من يدفع أكثر من غيره أو بعبارة أخرى كانت مجالس المدن تبيع وتشتري مقاعدها في مجلس العموم بشكل علني واضح كما يجري التعامل في أية بضاعة·
وكان الأعضاء المختارون يقسمون بشكل مرن بين الحزبين: التوري Tories ( المحافظون) والهويجز Whigs ( الأحرار)، وكان هذان الحزبان قد نسيا إلى حد كبير القضايا التي اختلفا عليها في الماضي والتي كانت سبباً في انقسامهما إلى حزبين· وكان زعيماهما من بين الأسرات الأرستقراطية القديمة لكن الهويجز (الأحرار) كانوا أكثر ميلاً من التوري (المحافظين) للاستماع إلى لوردات التجارة والصناعة الأثرياء، بينما كان التوري (المحافظون) يدافعون عن الحقوق المقصورة على السلطة الملكية، وكان الهويجز (الأحرار) يتحدونها· لقد كان عصب الصراع هو السلطة لا المبدأ؛ أي حزب عليه تشكيل الوزارة الحاكمة واقتسام المناصب الرابحة والإشراف على التطور·(ملحق/733)
ورغم الأساس الأرستقراطي للحكومة البريطانية فإنها كانت - بشكل ملحوظ - أكثر ديمقراطية في سَنِّ القوانين من حكومات معظم دول القارة الأوروبية، ففي هذه الدول (بما في ذلك فرنسا بعد سنة 1804) كان الإمبراطور أو الملك هو الذي يقبض على زمام السلطة، أما في بريطانيا فقد كان الحاكم الحقيقي منذ سنة 1688 هو البرلمان وليس الملك، وفي هذا البرلمان ذي المجلسين (مجلس اللوردات ومجلس العموم) كانت السلطة في الأساس في يد مجلس العموم من خلال سلطته على الميزانية Power of the purse: إذ لم يكن ممكنا إنفاق أي مبلغ من الميزانية العامة دون موافقته، ومن الناحية النظرية كان يمكن للملك أن يعترض على أي إجراء يُقرِّه البرلمان، لكن جورج الثالث - من الناحية الفعلية - لم يمد هذا الحق المقصور عليه إلى هذه النقطة الحساسة· وعلى أية حال، كان في مقدور الملك أن يحل البرلمان، ويلجأ إلى أهل البلاد go to the Country لإجراء انتخابات جديدة·
وفي هذه الحال يكون لدى المرشحين الذين يُؤيدهم ويُمولهم فرصة طيبة للفوز بالمقاعد لأن الملك الطبيعي المؤتلف مع شعبه قد أصبح مرة أخرى تجسيداً للأمة ومحور الولاء لها والفخر بها·
2/ 2 - النظام القضائي The Judiciary
كان النظام القضائي في إنجلترا - مثله مثل النظام التشريعي - كافياً بالغرض، وكان قد تم مصادفة (أي بدون قصد)، وكان مشوشاً غير محدد المعالم· لقد كان لابد بادئ ذي بدء من السيطرة على مجموعة القوانين التي كانت تكاد تصدر يومياً خلال مئات السنين فظلت طويلاً غير منظمة ولا متسقة وكانت تنص على عقوبات قاسية جداً حتى إن القضاة كانوا غالبا ما يعدلونها أو يتجاهلونها· لقد كان القانون مثقلا ببقايا أصوله الإقطاعية وتنقيحاته المسيحية: فاللوردات المتهمون كان لا يزال من الضروري أن يُحاكمهم لوردات، وحتى سنة 1827 كان القسس الأنجليكان Anglican مُستثنون من المثول أمام المحاكم المدنية·(ملحق/734)
وظلّت مئات القوانين (التي تنص على منع المقامرة ووسائل الترفيه الليلية والاجتماعات غير المصرَّح بها) مُثبتة ومنصوصاً عليها، رغم عدم تطبيقها إلا فيما ندر· وجرت بعض التحسينات في هذه الفترة: فعدد الجرائم (نحو مائتين) التي كان (في سنة 1800) عقابها الموت، جرى تخفيف عقوبتها مراراً· وأصبح من الممكن تفادي السجن لعدم وفاء الدين بالحصر الدقيق للموجودات والديون والعوائق التي تعوق المدين عن سداد ديْنه· لكن قانون الإفلاس ظل ثقيل الوطأة حتى إن رجال الأعمال تحاشوه باعتباره طريقاً إلى إفلاس مضاعف·
وقانون الإحضار لأغراض التحقيق الصادر في سنة 1679 والذي كان يهدف إلى منع سجن المتهم قبل المحاكمة، غالباً ما عُلِّق (لم يُنفّذ) حتى فقد قوته في أثناء أزمات مرّت بها البلاد مثل فترة الحروب الثورية الفرنسية· واستمرت التناقضات والمعوقات والتشوّيش سمة من سمات القانون البريطاني حتى عكف بنثام Bentham عليها وأخضعها لمثابرته ودقته ومتابعته للتفاصيل بُغية إصلاحها·
ومما زاد من صعوبة القبض على المجرمين قلة عدد رجال الشرطة في المدن وانعدامهم - تقريباً - في القرى· وكان المواطنون مضطرون إلى تكوين مجموعات تطوعية لحماية حياتهم وممتلكاتهم، وحتى عندما كان يتم القبض على المجرم، فإن يستطيع أن يؤخِّر سجنه أو يُفلت منه باستئجار المحامين ليجدوا له أسباباً لاستئناف الدعوى أو ليفتعلوها له أو ليبحثوا له عن ثغرات في القانون فقد كان مجالا لفخر المحامين أنه لا يوجد قانون إلا واستطاعوا اختراقه وتوسيع رتقه ليسيروا خلاله بعربة بل وستة خيول·
في الدرجةِ الأدنى للمهنةِ القانونيةِ كَانتْ الوكلاء القانونيون ( attorneys solicitors or) ، الذين يعملون كوكلاءِ قانونيينِ للزبائن، أَو يبَحثوا ويجهزوا مُحَضّرة للمحامين ( barristers) ، وهم المحامين الوحيدينَ المسوح لهم بالدخول والاقتراب من منصة المحكمة. ومنهم الملك، عادة وبتوصياتِ مِن قِبل الوزراء يختارَ القضاة.(ملحق/735)
ومرَّة أو مرَّتين في السَنَة كان قضاة القانون العامَ يجوّلوا المقاطعات لعقد محاكم استئناف، محلياً، في القضايا مدنية والجنائية. كانوا يبقوا في مكان واحد مدة قصيرة، الحكومة في بعض الحالات تدع القضاة المحلين في كل مقاطعة أو دائرة ابتكار القوانين، و هم منتخبون من الحكومة المركزية من أغنى ملاك الأراضي بتلك المقاطعات ,وكانوا لا يتقاضون أجور, وكان من المتوقع أن يبعدهم غناهم عن الفساد , لكنهم لم يكونوا بعيدين عن الشبهات وبعضهم كانوا مشهورين بأحكامهم القاسية ضد الراديكاليين؛ لكن، الكل في الكل، قاموا بنزاهة بدور الإدارة المحلية المؤهّلة، يَساوي تقريباً بذلك الحكامِ في فرنسا النابليونية.
وكان أفضل لمحة في القانون الإنجليزي هو حق المتهم في المحاكمة أمام هيئة محلفين· ومن الواضح أن هذه المؤسسة من مؤسسات الفرانك الكارولنجيين Carolingian Franks قد دخلت إنجلترا بشكلها الأوّلي مع الفتح النورماني Norman · ولم يكن عدد هيئة المحلفين قد حُدِّد بعد باثني عشر عضوا حتى سنة 1367، وفي نحو ذلك الوقت فقط كانت الموافقة الاجتماعية للمحلفين على قرار واحد أمراً مطلوباً· وكان يتم اختيار المحلفين (عادة كانوا من الطبقة الوسطى) من بين قائمة تضم من ثمانية وأربعين إلى واحد وسبعين رجلاً بعد جدال بين الحزبين المتصارعين· وكان قُضاة الصلح يعينون بشكل دوري بواسطة هيئة محلفين كبرى في كل كونتية county ( إقليم)، وكان من المتوقع أن تأخذ المحاكم بتوصياتهم· وفي أثناء نظر القضايا كان المحلفون يسمعون الأدلة والمرافعات المختلفة ويقوم القاضي بتلخيص كل ذلك، وبعد ذلك ينسحبون إلى غرفة مجاورة ويُمنع عنهم الطعام والشراب والتدفئة والشموع (إلاّ بإذن القاضي) لتجنب أي تأخير غير مُبرَّر أو إسراف، إلى أن يصدروا حكمهم بالإجماع·
2/ 3 - السلطة التنفيذية The Executive(ملحق/736)
من الناحية النظرية فإن الملك هو المخوَّل بالسلطة التنفيذية، ومن الناحية الفعلية فإنها مسؤولية مجلس وزرائه الذين لابد أن يكونوا أعضاء في البرلمان ومسئولين أمامه عن أعمالهم ومعتمدين عليه في إقرار ميزانيات وزاراتهم· ومن الناحية النظرية فإن الملك هو الذي يُعيّن هؤلاء الوزراء، ومن الناحية العملية كان من المتوقع أن يختار الملك رئيس الوزراء زعيم الحزب الفائز في آخر انتخابات، ويقوم رئيس الوزراء هذا مع البارزين من حزبه بتعيين الوزراء· وكان وليم بت Pitt في ولايته Administration الأولى (1783 - 1801) قد قام بدور مزدوج كمستشار لوزارة المالية ومسئول أول first Lord للخزانة وكانت هاتان المهمتان اللتان يقوم بهما مرهونتين بموافقة البرلمان فكل ما يتعلق بجمع الأموال المكونة للدخل الوطني وإنفاقها مرهونة بموافقة البرلمان· وفي مجلس الوزراء - والحكومة بشكل عام - كانت السلطة المالية هي الأداة الرئيسية للنظام والحكم·
ولم يقر الملك جورج الثالث George III بتبعيِّته للبرلمان فمنذ توليه العرش في سنة 1760 وهو في الثانية والعشرين من عمره عمل على تقوية الهيمنة الملكية، لكن الانهيار المكلِّف لقيادته في حرب الاستقلال الأمريكية وتعرضه بشكل متكرر لنوبات خلل عقلي (1765، 1788، 1804، 1810 - 1820) أوهن جسده وروحه وإرادته وبعد سنة 1788 سمح لوليم بت بالحكم بشروط ثلاثة:
"عدم تجريم الرّق وعدم السماح للكاثوليك البريطانيين بالتصويت (حق الانتخاب) وعدم إبرام سلام مع فرنسا حتى يعود لويس الثامن عشر إلى عرشه الذي هو حق له"·(ملحق/737)
وكان جورج الثالث رجلاً طيباً ولكنه كان قصير النظر ضيق الأفق من الناحية الدينية· وقد وصفه نابليون في أثناء أسره وفي معرض تذكره للأحداث الماضية بأنه - أي جورج الثالث "أكثر الناس أمانة في بلاده" وكان يمتاز عن أسلافه الهانوفريين Hanoverian بالتزامه بكل الوصايا العشر ما عدا الوصية الخامسة وقصّر كثيراً في الوصية اللاوية Levitican أحب جارك كحبّك لنفسك لكنه أحب الشعب الإنجليزي· ورغم أخطائه فقد أحبه شعبه بدوره (بادله حباً بحب) بسبب ما حل به من نكبات - لأنه أحب دينه الذي ورثه عن أسلافه وأحب زوجته وبناته ولأنه أعطى الأمة مثلاً مُلهِماً لحياة البساطة والإخلاص· لقد تقطَّعت قلوب شعبه من أجله حباً له وحدباً عليه عندما لوَّث معظم أبنائه ألقابهم الأميرية بعدم انضباطهم عسكرياً وانعدام وعيهم وممارستهم المقامرة وغلوّهم الطائش الذي أدى إلى انهيارهم جسدياً وتدهور شخصياتهم، رغم أن أباهم كان رجلاً طيباً· لقد وصفهم ولينجتون Wellington: " إنهم أكبر لعنة يمكن تصورها تحيط برقبة حكومة"·
لقد كان أكبرهم - جورج أمير ويلز مزعجاً بشكل لا يمكن تصوّره· لقد كان جذاباً وسيماً وكان على وعي بذلك· وكان قد تلقى قدراً طيباً من التعليم ويستطيع التحدث بالفرنسية والألمانية والإيطالية بطلاقة وكان يُحسن الغناء ويعزف على الفيولونشللو Violoncello ( آلة موسيقية إيطالية) ويكتب الشعر كما كان مُلماً بالأدب الإنجليزي المعاصر، وكان يُعد من بين أصدقائه الحميمين ريتشارد شريدان Richard Sheridan وتوماس مور Thomas Moore كما كان راعياً ذكياً للفنون وأقام في دار كارلتون Carlton House مؤسسة أميرية جعل فيها أثاثاً أنيقاً من أموال الأمة واشتغل بالسياسة ونافس تشارلز جيمس فوكس في اهتمامه الشديد بالسياسة، وأصاب والده بالذعر عندما أصبح معبوداً لحزب الهويجز (الأحرار) وكان أيضاً يحب الشباب المتأنقين الذين أنفقوا ثرواتهم على الملابس الأنيقة والنساء والخيول والكلاب· حذا حذو هؤلاء البريتون Britons في إقامة مباريات تكسبية (رهانات) ولم يكن له نظير في إنفاقه وديونه· وخصَّص البرلمان مرات عديدة مئة ألف جنيه لسداد ديونه·(ملحق/738)
وفي السابعة عشرة من عمره اعترف أنه "مغرم بالنساء والنبيذ أكثر من أي شيء آخر" وكان من بين خليلاته الأوليات - ماري روبنسون التي فتنته بقيامها بدور بيرديتا Perdita في حكاية شتاء A Winter's Tale، وظل ينفق عليها ببذخ طوال ثلاث سنوات· ثم كوَّن علاقة أكثر جدية مع ماريا آن فيتزهيربرت Maria Anne Fitzherbert التي ترمَّلت مرّتين (مات عنها زوجها فتزوجت غيره ومات بدوره) وكانت كاثوليكية وأكبر منه بست سنوات، وكانت رقيقة لطيفة متحررة وقد رفضت أن تكون خليلته لكنها لم تمانع في الزواج منه·
وكان قانون وراثة العرش الذي كان قد أعطى عرش إنجلترا لأسرة هانوفر قد استثنى من حق المُلك كل من يتزوج كاثوليكية أو تتزوج كاثوليكياً، كما منع قانون 1772 أي فرد في الأسرة المالكة دون الخامسة والعشرين من الزواج دون موافقة الحاكم· ومع هذا فقد تزوج الأمير من السيدة ماريا فيتزهيربرت (1785) بعد أن دفع لراعي أبرشية شاب خمسمائة جنيه ليقوم بإجراءات (طقوس) الزواج غير الشرعي، مما أدى إلى احتفاظه بحق وراثة العرش إذ ادعى هذا الحق في سنة 1788 عندما انتابت والده نوبة خَبَل فراح يترقب موت والده بصبر نافد، وقلما كان الابن وأبوه على وفاق·
وعلى كل حال فقد كان هناك اتفاق أنه إذا دفع الملك (عملياً البرلمان) ديون الأمير (110,000 جنيه إسترليني) قام الوريث الظاهر بترك زوجته الأدنى منه منزلة وتزوج قريبة والده الأميرة كارولين البرونسفيكيه of Brunswick· لقد بدت في عينيه دميمة غير مشجعّة، وبدا في عينيها سميناً مقززا، لكنهما تزوجا في 8 أبريل 1795، وقد أكدت كارولين فيما بعد أنه قضى ليلة العُرس (الدُّخْلة) وقد أضاع الشراب همّته· وعلى أية حال فقد أنجبت له بنتاً في 7 يناير 1796 (الأميرة شارلوت Charlotte) وسرعان ما فارقها وعاد لفترة إلى زوجته السابقة السيدة فيتزهيربرت التي كانت فيما يبدو المرأة الوحيدة التي أحبها بعمق· (عندما مات وجدوا صورتها معلقة على صدره) ·(ملحق/739)
وفي نوفمبر سنة 1810 أصبح جورج الثالث مجنوناً تماماً بعد إنكساره أمام المعارضة البرلمانية، وخجلاً من تصرفات ابنه وحزناً على وفاة ابنته أميليا Amelia· وطوال تسع سنين بعد ذلك أصبح ملك إنجلترا مقيداً كمجنون يرتدي سترة المجانين وأشفق عليه شعبه وأحبه، بينما تولى الوصي على العرش (الابن السابق ذكره) مكانه مدّعياً السلطة الملكية والأبهة، وكان وقتها قد أصبح سميناً محطماً رقيقاً ديّوثاً Cuckolded مكروهاً محتقراً·
3 - الدين
كانت الحكومة وأهل الفكر في إنجلترا قد وصلوا إلى اتفاق شرف (اتفاق يسري بمراعاة الشرف لا بقوة القانون) بخصوص الدين· فالهجوم الذي شنه الربوبيون deistic على العقيدة التقليدية orthodox لابد أن تخف وطأته مادام المتشككون في الدين (المسيحي) ليس لديهم ما يحل محل الدين لتحقيق السلام بين الناس وضبط سلوك الأفراد· لقد كان وليم جودوين William Godwin، وروبرت أوين Owen، وجيرمي بنثام وجيمس مل James Mill أمثلة حية لعدم الإيمان (بالمسيحية) لكنهم لم يقوموا بدعاية ضد الدين· وكان توم بين Paine استثناء منهم· وكانت الأرستقراطية الإنجليزية - التي وجدت في فولتير الشاب ما يجذبها - تراعي الآن حرمة السبت بوضوح·
لقد لاحظ مؤرخ حوليّ في سنة 1798 دهشة الطبقات الدنيا في كل أنحاء إنجلترا لرؤيتها الطرق إلى الكنائس غاصّة بالعربات التي تجرها الخيول في أيام الآحاد· وفي سنة 1838 لاحظ جون ستيوارت مِلْ:
"يوجد في العقل الإنجليزي سواء من ناحية التفكير والتأمل أو الممارسة بُعد صحّي على درجة عالية من البُعد عن التطرّف··· لا تزعج الهدوء أو بتعبير آخر لا تغير ما هو مستقر Quieta non movere وكانت هذه هي العقيدة الأثيرة في تلك الأيام··· وعلى هذا، ففي حالة عدم إثارة ضوضاء كثيرة حول الدين أو عدم تناوله بجدية شديدة فلم يكن لدى الناس حتى الفلاسفة مانع من تأييد الكنيسة باعتبارها حصناً ضد التعصّب ومسكناً للروح الدينية لمنعها من إفساد هارمونية harmony المجتمع (اتساقه) أو تعكير صَفْو الدولة· ووجد الإكيروس clergy أنهم حققوا صفقة طيبة بهذا الاتفاق والتزموا بشروطه بإخلاص·(ملحق/740)
لقد كانت الكنيسة من الناحية الرسمية هي الكنيسة المتحدة لإنجلترا وأيرلندا· ورغم أنها قبلت تسعاً وثلاثين مادة من العقيدة الكالفنيّة إلاّ أنها احتفظت بكثير من ملامح الطقوس الكاثوليكية· لقد كانت تضم رؤساء أساقفة وأساقفة لكنهم عادة ما كانوا يتزوجون، وكان تعيينهم يتم عن طريق التاج· وبشكل عام كان كبار ملاك الأراضي المحليون هم الذين يختارون الكهنة والقسس البروتستنت، وكان هؤلاء الكهنة والقسس يساعدونهم في حفظ النظام الاجتماعي· واعترف الإكليروس الإنجليكان بالملك باعتباره رأس كنيستهم وباعتباره حاكماً، واعتمدوا على الدولة في جمع العشور للكنيسة من أسر إنجلترا·
وقد وصف بورك Burke بريطانيا بأنها: "كومنولث مسيحي كانت فيه الكنيسة والدولة كياناً واحداً بل إنهما الشيء نفسه"· إن كلاً منهما جزء مختلف عن الآخر لكنّه مكمّل له ووصف جون ولسون كروكر John Wilson Croker كنيسة وستمنستر Westminster Abbey بأنها جزء من الكومنولث البريطاني· لقد كانت العلاقة بينهما تشبه العلاقة التي بين الكنيسة الكاثوليكية وحكومة فرنسا في أثناء حكم لويس الرابع عشر مع فارق وهو أن إنجلترا لم تشهد - غالباً - إضطهادات أو مضايقات بسبب تهمة الهرطقة (الإلحاد) ·(ملحق/741)
وسُمِح للفِرَق (أصحاب المذاهب) المنشقة - الميثوديين Methodists ( المنهجيين) والمشيخيِّين Presbyterians والمعمدانيين Baptists والإندبندنت Independents ( المستقلّين) والابرشيين Congregationalists والكويكرز Quakers والموحّدين (المناهضين للتثليث) Unitarians - بالدعوة لعقائدهم بشرط واحد: أن يُعلنوا أنهم مسيحيون وكان هناك بعض من هؤلاء المنشقّين في مجلس اللوردات· وتحلّق عدد كبير من المستمعين حول المبشِّرين (الدعاة) الميثوديِّين لما عُرفوا به من بلاغة رائعة· ولجأ عمال المدن المعارضون بعد أن يئسوا من تحقيق آمالهم في الدنيا إلى عقيدتهم البسيطة (عقيدة الطفولة) وبهذه العقيدة البسيطة قاوموا كل الجهود لتحريضهم على الثورة عندما تسلّلت الأفكار الثورية عَبْر القنال الإنجليزي من فرنسا· وفي سنة 1792 طلب القادة الدينيون لجماعة الويزليان الميثوديّين Wesleyan Methodism من كل عضو من أعضائهم أن يقسم يمين الولاء والطاعة للملك·
وفي نطاق الكنيسة الرسمية نفسها وجدنا تأثير الميثودية الحركة الإنجيلية Evangelical؛ كثير من رجال الدين صغار السن وكذلك كثير من جمهور المؤمنين (بالمذهب) قرروا إحياء العقيدة الإنجليكانية بتناول الإنجيل بحماسة وعاطفة (وضعه في القلب)، وتكريس أنفسهم لحياة البساطة والتقوى والإحسان وإصلاح الكنيسة· وكان أحدهم هو وليم ويلبرفورس , William Wilberforce هو الذي قاد معركة الإنجليز ضد الرق، وهناك أيضاً هانا مور Hannah More التي نشرت حماساً مسيحياً جديداً بمحاضراتها وكتبها ومدارس الأحد التي أسستها·(ملحق/742)
وظلت جماعتان دينيتان خارج دائرة التسامح الكامل: الكاثوليك واليهود· لم يكن البروتستنت الإنجليز قد نسوا جاي فوكس Guy Fawkes ومحاولته نسف البرلمان (1605) ولا مغازلات ملوك ستيوارت Stuart - تشارلز الأول وتشارلز الثاني وجيمس الثاني - للقوى الكاثوليكية والأفكار الكاثوليكية والخليلات الكاثوليكيات، ومال الإنجليز إلى النظر للكاثوليكي كشخص يُوالي حاكما أجنبياً (كان الباباوات يمثلون سلطة زمنية كحكام للولايات الباباوية)، وكان الإنجليز يندهشون كيف سيتصرف الكاثوليكي في حالة حدوث صراع بين الحَبْر الروحاني (البابا) والملك البريطاني·
وكان في إنجلترا في سنة 1800 نحو ستين ألف كاثوليكي· كان معظمهم من أصول أيرلندية لكن بعضهم كان ينحدر من سلالة كاثوليكية متوطنة قبل حركة الإصلاح الكاثوليكية في بريطانيا Pre. Reformation British Catholics· وفي الفترة الزمنية التي نتناولها كانت القوانين المناهضة لهم قد خفَّت وطأتها، فثمة مراسيم مختلفة صدرت فيما بين 1774 و1793 أعادت لهم حق تملّك الأراضي وحق العمل في مجال الخدمة المدنية وحق الدعوة لعقيدتهم من خلال مدارسهم الخاصة بهم، وحقهم - على نحو خاص في ترديد قسم الولاء للملك والحكومة دون التبرؤ من البابا أو جحده· إلاّ أنه لم يكن لهم - على أية حال - حق التصويت، ولم يكن لهم حق ترشيح أنفسهم لعضوية البرلمان·(ملحق/743)
وفي نحو نهاية القرن الثامن عشر بدت حركة إعطاء الكاثوليك كل حقوق المواطنة على وشك النجاح، وأيدها بروتستنت بارزون - ويزلي Wesley، وكاننج Canning، وويلبرفورس، ولورد جراي Grey· وقد أدّت الثورة الفرنسيّة إلى موقف مضاد لفولتير في إنجلترا بل وموقف مضاد لحركة التنوير، كما أدّت إلى شيء من التعاطف مع الدين (المسيحي) الذي تعارضه الحكومة الثورية (الفرنسية)، وبعد سنة 1792 تلَّقى المهاجرون الفرنسيون emigres ( الذين تركوا فرنسا إثر أحداث الثورة الفرنسية) استقبالاً حاراً ومساعدات مالية من الدولة البريطانية وكان بينهم رجال دين كاثوليك· وسمحت الدولة البريطانية لهؤلاء المهاجرين بإقامة أديرة، وحلقات بحثية· إن إنجلترا تبدو الآن في موقف سخيف (منافٍ للعقل) فقد كان الاتجاه أن الكنيسة الكاثوليكية يمكن أن تكون حليفاً ذا قيمة في حربها ضد فرنسا·
وفي سنة 1800 قدَّم بِتْ Pitt مشروع قانون لمنح كاثوليك إنجلترا حقوقهم كاملة· وعارض التوري (المحافظون) والكنائس والإنجليكانية العليا هذا القانون وأيدهم جورج الثالث بعزم، فسحب بِتْ مشروع قانونه واستقال، وكان على تحقيق الكاثوليك للمساواة الكاملة في إنجلترا أن ينتظر حتى سنة 1829·
أما مساواة اليهود في إنجلترا فتأخرت حتى سنة 1858· كان عددهم في سنة 1800 نحو 26,000؛ معظمهم في لندن وكان بعضهم في المدن الكبرى ولم يكن منهم - تقريباً - أحد في الريف· وقد أوقفت الحربُ الطويلة مزيداً من عمليات التهجير وسمحت لليهود بمواءمة أنفسهم مع أساليب الحياة البريطانية وإزالة بعض الحواجز العرقية· وظل القانون الإنجليزي يحول بينهم وبين حق الانتخاب وتولي المناصب الكبرى فذلك كان يتطلب قَسَماً بالإخلاص للعقيدة المسيحية وإقامة الشعائر على وفق لطقوس الكنيسة الرسمية في إنجلترا·(ملحق/744)
وفيما عدا ذلك فقد كان اليهود أحراراً ولهم حق العبادة في منازلهم ومعابدهم دون خفاء، وقبِل عدد من اليهود البارزين التحوّل إلى المسيحية - صامويل (صموئيل) جِدون Gideon رجل المال، وديفيد ريكاردو Ricardo الاقتصادي وإيزاك Isaac ( إسحاق) المؤلف· وهذا الأخير نشر فيما بين 1791 و1834 "نوادر الأدب Curiosities of Literature" دون أن يسجل اسمه عليه (تركهُ مجهول المؤلف)، وقد كان يكتبه بشكل عَرَضي أو مصادفة (أي كلما أتيحت له الظروف)، ولازال هذا الكتاب ممتعاً لأصحاب العقول المتعلِّمة التي تأنس للمتعة والراحة·
إن خبرات اليهود الطويلة في أعمال البنوك وارتباطاتهم العائلية والأسرية عبر الحدود مكنتهم من مساعدة الحكومة البريطانية في حرب السنوات السبع وفي نزاعها الطويل مع فرنسا· وساعد الأخوان أبراهام (إبراهيم) جولدسميد، وبنيامين جولدسميد Goldsmid، بِتْ، في كسر طوق السماسرة المبتزين الذين كانوا قد احتكروا التعاملات مع الخزانة· وفي سنة 1810 أسس ناثان روتشيلد Nathan Rothschild (1777 - 1836) في لندن فرعاً للشركة التي كان أبوه - مِيَر أمشيل روتشيلد Meyer Amschel Rothschild - قد أسسها في فرانكفورت - آم - مين Frankfurt - am - Main وبدا ناثان أكثر الماليين عبقرية - تلك العبقرية التي مازت الأسرة خلال عدة قرون في عدة دول· وأصبح هو الوسيط الأثير للحكومة البريطانية في علاقاتها المالية مع القوى الأجنبية، وكان هو - أو وكلاؤه - الذي نقل من إنجلترا إلى النمسا وبروسيا المساعدات التي مكنتهما من حرب نابليون، وقام بدور رائد في التوسع التجاري والتطور الصناعي في إنجلترا بعد سنة 1815·(ملحق/745)
4 - التعليم
بدت إنجلترا وكأنها اعتزمت أن تعرض قضية عدم إرسال أطفالها إلى المدارس، فكيف تستمر الحكومة دون الالتزام بهذا الواجب؟ ولم يكن الأرستقراطيون مهتمين بالتعليم إلاّ بالنسبة إلى أبنائهم· لقد بدا من الأفضل بالنسبة إلى الوقت الراهن (في ذلك الوقت) ألا يستطيع الفلاحون والبروليتاريا - بل وربما البورجوازيون - أن يقرءوا خاصة وأن جودوين Godwin، وأوين Owen وكوبت Cobbett وبين Paine وكولردج Coleridge وشيلي Shelley كانوا يطبعون في هذا الوقت هذا الهراء عن الأرستقراطية الاستكشافية (التمهيدية) والكمونات communes الزراعية ورِقّ المصانع وضرورة الإلحاد· لقد كتب جودوين نحو سنة 1793:
"المصممون على الدفاع عن النظام القديم ليس لديهم بصيرة نافذة· إنهم يعارضون بخسّة توصيل المعرفة للناس باعتباره بدعة تدعو إلى الحذر· ففي ملاحظتهم المشهورة إن الخادم الذي يعرف القراءة والكتابة لا يصبح بعد تعلّمهما هو الأداة التي يطلبونها نجد الجنين أو البذرة التي يسهل علينا من خلالها شرح كل فلسفة المجتمع الأوروبي"·
بالإضافة إلى أن الطبقات الدنيا فيما ترى الطبقات الأعلى غير قادرة على الحكم بحذر وحكمة على الأفكار التي تُطرح عليهم في المحاضرات أو الصحف أو الكتب، وقد تكون أفكاراً مثيرة تخرّج من المدارس على مستوى الأمة أفواجاً من غير الأسوياء السذّج الحالمين الذين قد يحاولون تحطيم السلطات (القوى) والامتيازات الطبقية هي الوحيدة التي يمكنها حفظ النظام الاجتماعي والحضارة·
"وكان أصحاب الصناعات قد اعتراهم الفزع من منافسيهم فكانوا يتطلعون إلى العمالة الرخيصة ولم يروا جدوى من تعليم الأطفال العاملين حقوق الإنسان وفخامة اليوتوبيا وبهائها" (اليوتوبيا هي المدينة المثالية) ·
لقد قال واحد من المحافظين غير المعروفين، اقتبس منه جودوين قوله: "إن هذه المبادئ سوف تثور بلا شك في عقول السّوقة محدثة هياجاً·· أو محاولة وضعها موضع التنفيذ (أي هذه المبادئ) مما سيؤدي إلى كل أنواع الكوارث··· فالمعرفة والذوق وتطوير الفكر واكتشافات الحكماء وجمال الشعر والفن كل ذلك سيتم سحقه تحت أقدام البرابرة"·(ملحق/746)
وفي سنة 1806 قدَّر باتريك كولكهون Colquhoun القاضي البوليسي في لندن - أن عدد الأطفال الذين لم يتلقوا أي قدر من التعليم في إنجلترا وويلز بلغ مليونين، وفي سنة 1810 ذكر إسكندر مري Murray عالم فقه اللغة أن ثلاثة أرباع العاملين بالزراعة أميون، وفي سنة 1819 ذكرت الإحصاءات الرسمية أن 674,883 طفلاً ملحقون بالمدارس في إنجلترا وويلز - 15% من السكان· وعندما اقترح بِت Pitt في سنة 1796 على الحكومة إنشاء مدارس للتعليم الصناعي، لم يُقدَّم مشروعه للتصويت، وعندما قدَّم صمويل (صموئيل) هوايتبريد Whitbread في سنة 1806 مشروع قانون بإقامة مدرسة ابتدائية في كل دائرة (كما كان موجوداً بالفعل في اسكتلندا) أقرّه مجلس العموم، لكن مجلس اللوردات رفضه على أساس أن هذا المشروع لا يجعل التعليم قائماً على أُسس دينية·
وكانت الجماعات الدينية تفرض رسوما على نفسها لإتاحة بعض التعليم لأطفالها، وواظب المجتمع على إقامة مدارس خيرية لتقديم المعارف المتعلقة بالدين المسيحي، لكن عدد التلاميذ في هذه المدارس لم يكن يتجاوز 150,000· وكانت مدارس هانا مور Hannah More تكاد تكون مقتصرة على التعليم الديني· وبناء على قانون الفقراء Poor Law تم إنشاء المدارس الصناعية لتستوعب 21,600 طفل لتأهيلهم للعمل، وكانت هناك إدارة منوط بها تنفيذ هذا القانون يتبعها 194,914 طفلاً· وفي المدارس الدينية لم يكن الأطفال يتعلمون إلاّ شيئاً واحداً بإتقان ألا وهو الكتاب المسيحي المقدس· لقد أصبح عقيدتهم وأدبهم وحكومتهم ومُعيناً له وزنه وقيمته يُعينهم في حياة لا تخلو من سوء حظ وظلم وارتباك·(ملحق/747)
وفي سنة 1797 أسس الدكتور أندرو بل Bell نظام العرِّيفين أو المعيدين لمواجهة نقص المدرسين، وذلك بالاستعانة بالطلاب الأكابر سناً كمدرسين مساعدين في المدارس الابتدائية المرتبطة بنظم العبادة الإنجليكانية· وبعد ذلك بعام قدَّم جوزيف لانكاستر Lancaster مشروعاً شبيهاً على أسس قبلها كل المسيحيين ورفض رجال الكنيسة العمل من خلال هذه الخطة غير الطائفية (المفهوم غير الملتزم بعقائد فرقة مسيحية بعينها) فقد كان لانكاستر متهما بأنه ربوي Deist ( مؤمن بالله مع عدم اعترافه بأديان منزّلة) مُرتد (عن دينه) وأداة للشيطان وفي سنة 1810 أسس جيمس مل، وولورد بروهام Brougham وفرانسيس بلاس Place، وصمويل (صموئيل) روجرز المؤسسة الملكية اللانكسترية لنشر المدارس غير الطائفية· وأسس الأساقفة الإنجليكان جمعية تعليم الفقراء على أسس المبادئ الدينية للكنيسة الرسمية وذلك خوفاً من انتشار التعليم غير الطائفي المشار إليه آنفاً· ولم يُؤسس في إنجلترا نظام وطني للمدارس الابتدائية على أسس غير طائفية إلاّ في سنة 1870·
وكان التعليم العالي متاحاً أيضاً لمن يقدر على تكاليفه، وذلك من خلال الأساتذة الذين يعلّمون في المنازل، ومن خلال المدارس العامة والمحاضرين وجامعتين· فالمدارس العامة - في إتون Eton وهارو Harrow ورجبي Rugby ووينشستر Winchester ووستمنستر، وتشارترهوس Charterhouse، كانت مفتوحة مقابل مصروفات لأولاد النبلاء والطبقات العليا وكان يُسمح بها في بعض المناسبات للبورجوازية الثرية· وكانت برامج الدراسة في هذه المدارس كلاسيكية في الأساس - لغة وأدب الإغريق القدماء والرومان، وفي بعض الأحيان كان يتم إضافة بعض العلوم Sciences لكن أهالي الطلبة كانوا يريدون تدريب أولادهم على فن الحكم والصُّحبة الرفيعة، وكانوا مقتنعين أن الشاب إذا تعلّم أدب الإغريق والرومان وتاريخهما وفن الخطابة كان ذلك أجدى لتحقيق الغرض من تعلم الفيزياء والكيمياء والشعر الإنجليزي· وعلى أية حال فإن هذه المدارس كانت تقدم ميلتون Milton الذي كان يكتب اللاتينية بكفاءة تقارب كفاءته في كتابة الإنجليزية - كمؤلف لا يقل كفاءة عن الرومان·(ملحق/748)
وكان النظام في المدارس الثانوية (الداخلية) الأهلية Public Schools قائماً على الجلد والانتقاد القاسي flogging· والتكدير أو إلزام التلاميذ الصغار على خدمة الطلاب الآخرين ممّن هم أكبر سناً· وكان نظّار المدارس يجلدون الذين يرتكبون مخالفات كبيرة، أما إجبار التلاميذ الصغار على خدمة من هم أكبر فتعني أن يقوم التلاميذ في الصفوف الدنيا بأداء خدمات صغيرة لطلاب الصفوف الأعلى: ينقلون رسائلهم، وينظفون أحذيتهم ويعدّون لهم الشاي، ويحملون كُراتهم ومضارب الكريكت cricket bats الخاصة بهم، ويتحمّلون تنمّرهم صابرين، وكانت النظرية الكامنة وراء هذا الأسلوب هي أن على المرء أن يتعلّم كيف يُطيع حتى يكون صالحاً لإصدار الأوامر·
وكانت النظرية السائدة في الجيش والبحرية أيضاً قائمة على الجَلْد والانتقاد الشديد وقيام من هم أدنى رُتبة بخدمة من هُم أعلى رتبة وتنفيذ الأوامر دون اعتراض الطاعة الصامتة (وعلى هذا فإن الانتصار الذي تحقَّق في الطرف الأغر وفي واترلو لم يكن نتيجة الجهود في ميدان القتال فحسب وإنما أيضاً نتيجة ما كان يجري في قاعات وفصول المدارس الثانوية الأهلية)، وإذا ما وصل طالب الصفوف الدنيا الذي كان يخدم طالب الصفوف العليا أصبح مستعداً للدفاع عن هذا النظام· وكان هناك بعض الديمقراطية في حضّانات الأرستقراطية هذه (أو بتعبير آخر في معامل تفريخ متعلّمي الطبقة الأرستقراطية: لقد كان كل الخَدَم fags ( الطلاب الذين يخدمون من هم في الصفوف الأعلى) متساوين بصرف النظر عن الثروة والنّسب، وكان كل المتخرّجين (إذا تحاشوا التجارة) يعتبرون أنفسهم سواء، ويعتبرون غيرهم أدنى منهم درجة مهما كانت مواهبهم·(ملحق/749)
ومن مثل هذه المدارس التي يتخرّج فيها الطالب وهو عادة في الثامنة عشرة من عمره، يلتحق بأكسفورد أو كمبردج· وكانت هاتان الجامعتان قد انحدرتا عن وضعهما الممتاز في أواخر العصور الوسطى وعصر النهضة، ولم يكن جيبون Gibbon هو وحده الذي تأسف على الأيام التي قضاها في أكسفورد باعتبارها أياماً ضاعت في دراسات غير مجدية (رغم أنه استفاد كثيراً من دراسته للغتين؛ اللاتينية واليونانية) وتنافس بين الطلاب في المقامرة وشرب الخمر ومعاشرة البغايا· وكانت موافقة الكنيسة الرسمية شرطا للتقدم لإحدى هاتين الجامعتين· وكان المعلمون أو العمداء يقومون بالتدريس، وكان كل واحد يأخذ على عاتقه طالباً أو أكثر وينقل إليهم معارفه وخبراته العلمية بأسلوب المحاضرة أو التوجيه والإرشاد، وهنا أيضا كانت الدراسات الكلاسيكية تسود المنهج الدراسي، لكن كان هناك أيضاً مكان للرياضيات والقانون والفلسفة والتاريخ الحديث، وكانت هناك أيضاً محاضرات في الفلك والفيزياء والنبات والكيمياء لكنها كانت قليلة·
وكانت جامعة أكسفورد من التوري (الاتجاه السائد فيها محافظ) أما كامبردج فكانت هويجز (الأفكار السائدة فيها كأفكار حزب الأحرار أو الهويجز) · وفي كامبردج لم يكن يحصل على الدرجة العلمية إلا التابعون لكنيسة إنجلترا، رغم أن القيود المفروضة كشرط للالتحاق بهذه الجامعة وعددها تسعة وثلاثون قد أُزيلت· وكانت كامبردج هي التي سنّت الحرب على الرق منذ سنة 1785· ووجد العلم Science في كامبردج معلّمين أكثر وطلبة أكثر مما وجد في أكسفورد، وكانت كلتا الجامعتين متخلِّفة عن جامعات ألمانيا وفرنسا·
وكانت أكسفورد تدرِّس لطلبتها الفلسفة من كتب أرسطو، وأضافت كامبردج كتابات لوك Locke وهارتلي Hartley وهيوم Hume، وكانت كامبردج تخرِّج باحثين ذوي شهرة عالمية، أما أكسفورد فكانت أكثر اهتماماً بتخريج أفراد على قدر من الفصاحة، وملمّين بالإستراتيجية في البرلمان كي يصبحوا - بعد تجارب وخبرات، ومن خلال ارتباطات صحيحة - أصحاب أدوار في حكومة بريطانيا·
5 - المبادئ الأخلاقية
5/ 1 - الرجل والمرأة(ملحق/750)
أي نوع من الأخلاق يمكن أن ينبثق عن هذه الحكومة الطبقية، وهذا الاقتصاد المتغير، وهذه الوحدة بين الدولة والكنيسة، وهذا التعليم المحدود انتشاره، والمحدود في محتواه، وهذا التراث الوطني الذي كان في وقت من الأوقات قويا مؤثراً بسبب العُزلة التي تحدّتها الآن الاتصالات بالعالم الخارجي والثورة والحرب؟
ليس الرجال والنساء من الناحية الطبيعية naturally ملتزمين بالمبادئ الأخلاقية لأن مواهبهم الاجتماعية التي تُؤثر التعاون والعمل المشترك ليست في قوّة بواعثهم الفردية ورغبتهم في تحقيق مصالحهم الذاتية، ومن هنا كان لابد من تقوية الباعث الاجتماعي وإضعاف الباعث الفردي بسن القوانين المعبّرة عن قوة الجماعة ورغبتها، وبالمواثيق الأخلاقية التي يتم بثّ محتواها من خلال الأسرة والكنيسة والمدرسة والرأي العام والعادات وتحديد المحرمات (الطابو أو التابو taboos) ·
من الطبيعي إذن أن تكثر الجرائم في إنجلترا في الفترة من 1789 إلى 1815 وأن تكثر حالات عدم الأمانة، وأن يكون هناك ما لا حصر له من العلاقات الجنسية قبل الزواج، وإذا كان لنا أن نصدّق هوجارث Hogarth وبوزويل Boswell فقد كانت بيوت الدعارة والعاهرات تملأ لندن والمدن الصناعية· وكان أفراد الأرستقراطية يجدون البغايا أقل تكلفة من الخليلات مدبّرات شؤون المنزل، فاللورد إجريمونت Egremont الذي كان يفيض بكرمه على تيرنر Turner وغيره من الفنانين، يقال إنه استمتع بسلسلة من الخليلات أنجب منهن أطفالاً كثيرين·· وعلى أية حال فد زادت الشائعات أخباراً عن علاقة أصدقائه الدافئة به ويمكننا أن نحكم على أخلاق الطبقات العليا من خلال محاكاتهم لأمير ويلز واستئناسهم بأخلاقه، وكان هذا الأمير قد نشأ وسط أكثر الأرستقراطيين فجوراً وانحلالا· لقد كانوا ثُلَّة لم تشهد إنجلترا مثيلاً في فجورها وانحلالها منذ العصور الوسطى·(ملحق/751)
وربما كان الفلاحون يحترمون القيم الأخلاقية القديمة، لأن تنظيم الأسرة بما يخدم أغراض الزراعة يستلزم سلطة أبوية قوية، وقلما يسمح للشباب بالإفلات من سلطة من هم أكبر سنا· وعلى أية حال، فقد كانت البروليتاريا النامية قد تحررت من مثل هذه الهيمنة مقلّدة مستغليها في حدود ما تسمح به دخولهم (أي دخول البروليتاريا)، وقد كانت الأجور المتدنية في المصانع الصغيرة غير المنضبطة تمثل دافعاً قوياً للفسق بالنسبة إلى النسوة العاملات في المصانع ليبعن أجسادهن بثمن بخس ليُضفنه (أي هذا الثمن) إلى أجورهن المتدنية·
وحتى سنة 1929 كان العمر القانوني الذي يُسمح فيه بالزواج هو 14 سنة للذكور و12 للإناث· وكان الزواج العادي ارتزاقا أو مصدر تعيّش وكسب· فالرجل (الزوج) كان مرغوباً بقدر ما لديه من مال فعلي أو متوقع، وكذلك كانت المرأة (الزوجة) مرغوب فيها بقدر مالها الموجود فعلاً أو المتوقع الحصول عليه، وكانت الأمهات يخططن ليل نهار (كما في روايات جين أوستن Austen) لتزويج بناتهن بُغية الحصول على المال· ومع أن الأعمال الأدبية تُعلي من شأن الزواج عن حب، إلا أن مثل هذا الزواج كان استثناء لا قاعدة· وكان الزواج على وفق للقانون العام مُعترفاً به رغم عدم عقده بواسطة رجال الدين وكان عدد أفراد الأسرة كبيراً لأن الأطفال كانوا يُعينون الأسرة من الناحية الاقتصادية، وكان عددهم (الأطفال) في المصانع أقل بقليل من عددهم في المزارع· وكان منع الحمل يتم بطرق بدائية·(ملحق/752)
وكان عدد السكان يزداد لكنها كانت زيادة بطيئة بسبب وفيات الأطفال والشيوخ، وبسبب نقص الغذاء ونقص الرعاية الطبية وعدم مراعاة قواعد الصحة العامة· وانتشر الزنا، وكان يمكن أن يطلب الزوج الطلاق، وكذلك المرأة (بعد سنة 1801)، لكن هذا لم يكن ليتم دون إذن من البرلمان، وكان هذا يكلِّف كثيراً جداً، لدرجة أنه لم يحصل على الطلاق إلا 317 شخص قبل أن يُصبغ القانون بطابع ليبرالي في سنة 1859· وحتى سنة 1859 كانت الممتلكات المنقولة للزوجة تصبح مُلكاً للزوج عند الزواج، بالإضافة إلى أنه كان يحصل تلقائياً على كل مالٍ يأتيها بعد الزواج، لكنها كانت تحتفظ بملكية الأرض الخاصة بها أما الريع فلزوجها وإن ماتت قبله ورث كل ممتلكاتها·
وسمعنا عن نسوة ثريّات لكنهن كن قليلات العدد· وجرى العُرف أن يقوم الأب الذي ليس له ولد (ذكر) بوقف ثروته على أحد أقربائه الذكور، تاركاً بناته دون مال يرثنه وإنما يعشن على إعانات الأصدقاء ومن يتلطّف عليهن· إنه عالم الرجال·
5/ 2 - ماري ولستونكرافت Mary Wollstonecraft
لقد تعوّد معظم النساء البريطانيات على هذا الجوْر بحكم ما اعتدْنَ عليه، لكن الرياح الآن تهب من فرنسا الثورية، فدفعت بعض اللائي يُعانين إلى الاحتجاج، وقد أحسَّت ماري ولستونكرافت بهذه الرياح فرفعت عقيرتها مطالبة بتحرير المرأة، وكانت مطالبتها من أقوى المطالبات التي شاهدتها حركة تحرير المرأة·
وكان أبوها من أهل لندن وقرر أن يجرب العمل في مجال الزراعة ففشل وفقد ثروته وزوجته فعكف على الشراب وتخلى عن بناته الثلاث فتركهن يدبّرن أمور معيشتهن بأنفسهن، فافتتحن مدرسة فامتدحهن صامويل (صموئيل) جونسون لكنهم أفلسن وأصبحت ماري مربّية أطفال لكنها طُرِدت من عملها بعد عام لأن الأطفال أحبوا مربّيتهم أكثر من حبهّم لأمّهم وفي هذه الأثناء كتبت عدة كتب من بينها "دفاع عن حقوق المرأة" الذي كتبته في سنة 1792 وهي في الثالثة والثلاثين من عمرها·(ملحق/753)
وقد أهدت كتابها إلى م· تاليران - بيريجورد M. Talleyrand-Perigord أسقف أوتون Autun الراحل مع إشارة إلى أنه ما دامت الهيئة التأسيسية قد أعلنت حقوق الإنسان فهي ملزمة أخلاقيا بإعلان حقوق المرأة· وربما رغبة منها في تسهيل طريقها وتحقيق أهدافها تحدثت بنبرة أخلاقية عالية معترفة بولائها لبلادها وتمسكها بالفضيلة، وإيمانها بالله· ولم تتحدث إلاّ قليلاً عن حق النساء في التصويت لأن:
"نظام التمثيل النيابي كله الآن في هذه البلاد ليس إلا أداة في يد الحكم الاستبدادي (حكم الفرد) فلا مجال لشكوى النساء لأنّهن معدودات كطبقة ذات عدد للعمل الشاق وكأنهن آلات"،
يدفعن لدعم الملكية عندما يصبحن قادرات بشق النفس على إسكات أصوات أطفالهن بحشوها خبزاً ومع هذا فإنني حقا أعتقد أنه من الضروري أن يمثل النساء في البرلمان بدلا من أن يُسْلبن حقهن في أي مشاركة مباشرة في تفكير الحكومة وتخطيطها· وأشارت كمثال على انحياز القانون للرجل إلى قانون حق الابن البكر في ميراث أبيه، وحق الأب في وقف ممتلكاته على نسله أو أقاربه من الذكور، وذكرت:
"أن الأعراف والعادات أشد قسوة على المرأة من القوانين فهي تُدين - وتُعاقب - المرأة للحظة واحدة فقدت فيها طهارتها، رغم أن الرجال يظلّون محترمين بينما هم منغمسون في الرذيلة"·
وربما صُدِم بعض القراء بإعلان ماري حق المرأة بالإحساس بالإشباع عند اللقاء الجنسي، لكنها حذرت الجنسين قائلة إن الحب (المقصود هنا المتعة الجنسية) شهوة حيوانية لها نهاية فالحب (المقصود هنا المتعة الجنسية) كعلاقة مادية لابد "أن تحل محله الصداقة بالتدريج، وهذا يتطلب احتراما متبادلا، والاحترام يتطلب أن يجد كل طرف (الزوج أو الزوجة) في الطرف الآخر شخصية متطورة" (يعتبر الطرف الآخر كياناً له ذاته) وهنا فإن أفضل طريق لتحرر المرأة هو اعترافها بأخطائها والتحقّق من أن حريتها تعتمد على تثقيف عقلها وسلوكها·(ملحق/754)
وراحت المؤلفة في كتابها تعدّد أخطاء النساء في زمانها: "نزوعها إلى الضعف والجبن مما يغذي دعوى الرجل في التفوق والسيطرة ويُسعده، وإدمان لعب الورق والثرثرة والقيل والقال والتنجيم والتأثر العاطفي والتفاهة والاهتمام الزائد بالملبس والغرور·
الطبيعة والموسيقى والشعر والكياسة، كل ذلك يميل إلى جعل النساء مخلوقات للإحساس·· وهذا الإحساس أو الشعور إذا ما زاد عن حده أضعف - بشكل طبيعي - قوى النفس الأخرى ومنع الفكر من الوصول إلى المرتبة التي يجب أن يشغلها··· لأن التدرّب على الفهم والاستيعاب - كما تشير لنا الحياة - هو الطريق الوحيد الذي قدّمته لنا الطبيعة لتهدئة عواطفنا وانفعالاتنا ورغباتنا الجنسية"·
وقد شعرت ماري أن كل هذه الأخطاء تقريباً راجعة إلى "عدم المساواة مع الرجل في التعليم، وإلى نجاح الرجل في إقناعها بأن أفضل إمبراطورية لها وأحلاها هي أن تُمتع" (كما قالت لهن إحدى المؤلفات) ·
لقد امتعضت ماري من الأناقة المتكلّفة ومن التصنّع وراحت تنظر بحسد إلى النسوة الفرنسيات اللائي أصررن على تحصيل العلم واللائي تعلَّمن كيف يكتبن خطابات تعد من أجمل ما أنتجه العقل الفرنسي· في فرنسا تنتشر المعرفة أكثر من أي جزء آخر من العالم الأوروبي، "وأنا أعزو ذلك في جانب منه إلى العلاقات بين الجنسين على المستوى الاجتماعي، تلك العلاقات التي كانت مستمرة منذ فترة طويلة"· لقد لاحظت ماري ولستونكرافت قبل بلزاك Balzac بجيل أنَّ:
"الفرنسي الذي يحكّم عقله في أمور الجمال أكثر من غيره، يفضل المرأة في الثلاثين من عمرها·· والفرنسيون يسمحون للنساء أن يكنّ في أكمل أوضاعهن عندما تتنازل الحيويّة لتعطي مكانها للعقل ولجدية الشخصية الدالة على النضوج··· وفي مرحلة الشباب - حتى العشرين - يقذف الجسم خارج نفسه، وحتى الثلاثين تحقق الصلابة درجة من الكثافة، وتصبح عضلات الوجه المرنة يوما بعد يوم أكثر حدّة فتعطي شخصية للملامح - هذا يعني أنها تعبر عما يعتمل في النفس"، فلا تخبرنا فقط عن القوى الكامنة فيها وإنما كيف يتم توظيفها·(ملحق/755)
لقد اعتقدت ماري أن أخطاء النساء راجعة كلها - تقريبا - إلى "إنكار حق المرأة في تعليم مساوٍ لتعليم الرجل، وإلى نجاح الرجل في إقناع المرأة بأنها لُعبة جنسية قبل الزواج وحِلية للزينة وخادمة مطيعة وآلة للإنجاب بعد الزواج"· ولكي نُعطي الجنسين فرصاً متساوية لتنمية عقولهم وأجسادهم "لا بُد أن يتعلم الأولاد والبنات معاً" (حتى مرحلة الإعداد للوظيفة أو المهنة) وأن يتلقوا المناهج الدراسية نفسها، بل وأن يشتركوا في الألعاب الرياضية نفسها، في حالة إمكانية ذلك·
"ولابد أن تجعل كل امرأة من نفسها إنسانة قوية البدن وذات كفاءة عقلية لتتمكن من كسب عيشها بنفسها عند الضرورة"·
وعلى أية حال فعاجلاً أو آجلاً ستلعب الوظائف البيولوجية والفروق الفسيولوجية بين الجنسين دورها· إن قيام المرأة بدورها كأم مفيد لصحتها، وقد يؤدي ما ذكرنا آنفاً إلى أن تصبح الأسر أقل عدداً وأقوى صحّة· إن تحرير المرأة بشكل مثالي يعني اتحاداً - على قدم المساواة - بين أم متعلمة وزوج متعلم·
وبعد أن رأت المؤلفة الشابة اللامعة كتابها في المطبعة عبرت القنال الإنجليزي إلى فرنسا، وقد كانت مفتونة بالسنوات الخلاقة التي عاشتها الثورة الفرنسية، لكنها الآن - أي الثورة - قد تردّت في المذابح والإرهاب· وأحبّت في باريس أمريكياً هو القبطان جيلبرت إملي Gilbert Imlay ووافقت على الحياة معه دون ارتباط رسمي· وبعد أن أصبحت حُبلى غاب عنها إملي لعدّة شهور منشغلاً بأعماله أو أية أمور أخرى، فكتبت له خطابات تتوسّل فيها له أن يعود وكانت خطاباتها بليغة لكنها كانت بغير جدوى تماماً كخطابات جولي دي ليبيناس Julie de Lespinasse قبلها بجيل· وفي سنة 1794 حملت طفلها الذي بغير أب، وعرض إملي أن يُرسل لها مبلغاً سنوياً لكنها رفضت وعادت إلى إنجلترا (1795) وحاولت إغراق نفسها في نهر التايمز Thames لكن بعض المراكبية أنقذوها·(ملحق/756)
وبعد ذلك بعام قابلت وليم جودوين Godwin الذي تزوجها على وفق القانون العام (دون حضور رجل دين)، ولم يكن أي منهما يؤمن بحق الدولة في تنظيم الزواج· وعلى أية حال فقد عقدا قرانهما على وفق الطقوس الدينية في 29 مارس 1797 تحسبا لطفلهما المرتقب· وتألقت - لفترة - بين الجماعة الثورية التي تحلّقت حول الناشر جوزيف جونسون وهم: جودوين، وتوماس هولكروفت Thomas Holcroft، وتوم بين Tom Paine، ووليم وردزورث William Wordsworth، ووليم بليك Blake ( الذي رسم رسوماً لبعض كتاباتها) وفي 30 أغسطس 1797 وضعت طفلة بعد معاناة شديدة، وبعد ذلك بسنوات عشر ماتت·
5/ 3 - الأخلاق الاجتماعية
وعلى العموم فإن كل طبقات إنجلترا في هذه الفترة قد أسهمت في التفسخ الخلقي الذي عمّ البلاد، رغم ما أوردناه آنفاً عن حياة أشخاص عاشوا حياة مستقيمة ومحتشمة أهملها التاريخ· لقد كانت المقامرة شائعة تماماً، بل إن الحكومة نفسها (حتى سنة 1826) أسهمت فيها بإصدار اللوتارية الوطنية (اليانصيب الوطني) وكان الإغراق في شرب الخمور أمراً متوطّناً كوسيلة للهروب من الضباب البارد والأمطار والفقر المُدقع والنزاعات الأسرية والتوترات السياسية واليأس الفلسفي (المقصود تبرير الواقع على نحو يائس) وقد اتفق بِت Pitt وفوكس Fox - رغم ما بينهما من فروق - على تشجيع هذا السُّكر (المهدئ أو المخدر) كعامل مسكّن· وسُمِح للحانات أن تبقى مفتوحة في مساء السبت وحتى الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الأحد· لأن يوم السبت هو يوم استلام الأجور وبذلك يُتاح للحانات أن تكون أول من يحصل على نصيبها من هذه الأجور الأسبوعية، وكان أفراد الطبقة الوسطى يشربون باعتدال، أما أفراد الطبقات العليا فيسرفون في الشراب لكن كان عليهم أن يتعلموا حمل مُسْكرهم بثبات كحوض يرشَح بما فيه·(ملحق/757)
وكان الانغماس في الشراب يُتيح الفساد والرشوة في كل مستوى من مستويات الحكم· وفي حالات كثيرة - كما لاحظنا آنفاً - كانت الأصوات الانتخابية وعضوية المجالس المحلية والتعيينات والوظائف - وفي بعض الأحيان رُتب النبالة - تُشترى وتُباع علناً كما تباع الأسهم والسندات في سوق الأوراق المالية· ولم يكن جورج الثالث - وكانت فضائله متأصّلة - لا يرى بأساً في تخصيص أموال للحصول على أصوات الناخبين لأعضاء البرلمان أو توزيع الوظائف طلباً للدعم السياسي· وفي سنة 1809 كان ستة وسبعون عضواً في البرلمان M.P.s يشغلون وظائف عاطلة مجموعة قليلة من المقربين الأثيرين بحكم القرابة أو المصلحة التي تربطهم بالأثرياء وذوي النفوذ - تتلقى رواتب ضخمة دون عمل يؤدّونه بينما الذين يعملون بالفعل يتلقون في حالات كثيرة رواتب أقل مما يستحقون وكان القضاةُ يبيعون المراكز التابعة (الملحقة) لزمام مناطقهم القضائية وينتزعون من شاغليها حصّة من الرسوم التي يدفعها الناس لقضاء مصالحهم لدى الجهات الرسمية·
والحكومة قد تكون قاسية، كما قد تكون فاسدة قابلة للرشوة· لقد ذكرنا قسوة تشريعاتها العقابية· لقد كان إلقاء القبض على عابري السبيل لتجنيدهم إجبارياً في البحرية مقدمة لدفع رواتب متدنية وتقديم طعام سيء لهم، وضبطهم بقسوة وصرامة لا ترحم وفي عدة مناسبات تمرّدت أطقم السفن، وأدّى أحد هذه الإضرابات إلى تعويق ميناء لندن طوال شهر· ومع هذا كان البحارة الإنجليز هم أفضل رجال بحر وأفضل مقاتلين في الأساطيل عرفهم التاريخ·(ملحق/758)
وكان هناك سعي وجهود كثيرة للإصلاح الأخلاقي، ففي سنة 1787 أصدر جورج الثالث إدانة لكسر أحكام السبت، والتجديف على الله، والسُّكر، والأدب الفاحش، ووسائل الترفيه أللا أخلاقية، ولم يسجّل التاريخ أثراً لهذه الإدانة· وقد دلّنا جيرمي بنثام Jeremy Bentham التعاليم الإصلاحية البرلمانية Parliamentary Reform Catechism (1809) على اثنتي عشرة وسيلة لكشف الفساد السياسي وعدم الكفاءة السياسية· وكان لعظات الميثوديين، (طائفة دينية بروتستنتية) والإنجيليين (طائفة دينية بروتستنتية) بعض الأثر، وتضاعف تأثيرها عندما أثارت الثورة الفرنسية المخاوف، فقد أكد هؤلاء الدعاة أن أمة منضبطة أخلاقيا يمكنها أن تواجه بنجاح غزواً فرنسياً أو ثورة داخلية·
وحاربت جمعية القضاء على الرذائل ضد المبارزة والمواخير وبيوت الدعارة والكتابات الداعرة (الأدب الإباحي) · وهاجم إصلاحيون آخرون تشغيل الأطفال، واستخدامهم في تنظيف المداخن وقسوة أحوال السجون، ووحشية القوانين العقابية· وقد كان لموجة الاتجاه الإنساني (الحركة الإنسانية) التي انبثقت في جانب منها من ناحية، ومن حركة التنوير من ناحية أخرى أثر في نشر الأعمال التطوعية والخيرية والميل للإحسان وعمل الخير·
وكان وليم ويلبرفورس أكثر المصلحين الإنجليز دأباً· لقد ولد في هَلْ Hull (1759) في أسرة ثرية تعمل في التجارة وتمتلك الضياع، وكان زميلاً لوليم بِت Pitt في كامبردج، ولم يجد صعوبة تُذكر ليحرز النجاح في انتخابات أوصلته للبرلمان (1774) بعد عام من تولى وليم بِتْ منصب رئيس الوزراء· وعندما شعر بتأثير الحركة الإنجيلية Evangelical ساعد في تأسيس جمعية إصلاح عادات الشعب وأسلوب حياته (1787) · والأهم من كل هذا أنه عارض أن تتسامح أمة تعتنق الديانة المسيحية رسمياً مع التجارة في الرقيق الإفريقي (تجارة العبيد) ·(ملحق/759)
وكانت إنجلترا الآن (في ذلك الوقت) رائدة في هذا المجال· وفي سنة 1790 نقلت السفن البريطانية 38,000 عبد إلى أمريكا ونقلت السفن الفرنسية 20,000 والبرتغالية 10,000 والهولندية 4,000 والدنمركية 2,000· لقد أسهمت كل أمة أوروبية في هذه التجارة على وفق قدراتها، تلك التجارة التي ربما كانت أفظع الأفعال إجرامية في التاريخ· ومن ليفربول Liverpool وبريستول Bristol حملت السفن الخمور والأسلحة النارية والمنسوجات القطنية والأشياء التافهة إلى ساحل العبيد في إفريقية· وهناك - أي في إفريقية - غالباً ما كان الزعماء من أهل إفريقية يساعدون الزعماء المسيحيين في تسلّم عبيد أو زنوج Negros مقابل ما جلبوه من بضاعة، ويتم نقل هؤلاء العبيد (الزنوج) بعد ذلك إلى جزر الهند الغربية والمستعمرات الجنوبية في أمريكا الشمالية·
وكان هؤلاء الأسرى (العبيد من الزنوج) يوضعون في جوف السفينة وفي أحيان كثيرة كانوا يُقيّدون بالسلاسل لمنعهم من التمرد أو الانتحار· وكانوا يُزوّدون بالماء والطعام بالقدر الذي يكفي - بالكاد - لإبقائهم على قيد الحياة، وكانت التهوية بائسة كما كانت وسائل التخلص من الإفرازات والفضلات في حدها الأدنى، وإذا ما هبت عاصفة شديدة وكان لابد من تخفيف حمولة السفينة تم - أحياناً - إلقاء العبيد المرضى في عُرض البحر لتخفيف الحمولة، وفي بعض الأحيان كان يتم إلقاء غير المرضى أيضاً· فمن بين عشرين مليون زنجي كانوا يُنقلون إلى جزر الهند الغربية البريطانية لم يصل منهم على قيد الحياة سوى 20% وفي رحلة العودة كانت السفن تحمل دِبْس السكّر molasses ( المولاس) الذي كان يستقطر في بريطانيا لصنع الرُّم (نوع من الخمور) الذي كان يستخدم بدوره كثمن لشراء العبيد في الرحلة التالية (إلى إفريقية) ·(ملحق/760)
وكان الكويكرز Quakers ( صحاب مذهب ديني منشق) هم أصحاب الريادة في القارتين في مهاجمة هذه التجارة باعتبارها الخطوة الأولى لإلغاء الرق· وانضم ما لا حصر لهم من الكتاب الإنجليز لمحاربة هذه التجارة: جون لوك، إسكندر بوب، جيمس طومسون، ريتشارد سافج Richard Savage، وليم كوبر، ولا ننس أن السيدة أفرا بيهن Aphra Behn قد قدمت لنا في روايتها "أورونوكو Oroonoko " (1678) وصفاً للأحوال في جزر الهند الغربية يثير التقزز· وفي سنة 1772 استصدر جرانفل شارب Granville Sharp ( من الكويكرز - جماعة دينية) من إيرل مانسفيلد رئيس مجلس الملكة مرسوماً بمنع استيراد العبيد في بريطانيا، وكل عبد يصبح حراً بمجرد أن تطأ قدمه أرض بريطانيا· وفي سنة 1786 نشر توماس كلاركسون , Thomas Clarkson ( وهو أيضاً من جماعة الكويكرز) مبحثاً بعنوان (مقال عن الرق والتجارة في البشر) قدم فيه خلاصة مؤثرة لنتائج الرق والتجارة في العبيد، تكاد تكون حصاد عُمر بأكمله· وفي سنة 1787 كوّن كل من كلاركسون, شارب، ويلبرفورس، جوزياه ودجوود، زاكاري ماكولاي (والد المؤرّخ) Clarkson, Sharp, Wilberforce, Josiah Wedgwood, Zachary Macaulay جمعية منع تجارة الرق·
وفي سنة 1789 قدَّم ويلبرفورس إلى مجلس العموم مشروع قانون لإنهاء هذا الشر· ولم يحصل المشروع على الأصوات المطلوبة بسب أموال التجار، وفي سنة 1792 دافع بِت في واحد من أعظم خطبه عن إجراء مماثل (منع تجارة الرقيق) لكنه أيضاً لم يُوفق في تحقيق غرضه· وحاول ويلبرفورس مرات أخرى في سنة 1798 و1802 و1804 و1805 لكنه مُني بالفشل في محاولاته تلك· وبقي على تشارلز جيمس فوكس في فترة وزارته القصيرة (1806/ 1807) أن يضغط على هذا الأمر حتى حقّق النصر، إذ استسلم البرلمان ومنع التجار البريطانيين من أي مشاركة في تجارة الرقيق· وكان ويلبرفورس والقدّيسون الذي ساندوه يعلمون أن هذا النصر الذي حققوه ليس سوى البداية، فواصلوا نضالهم لتحرير (عِتق) كل الرقيق على الأرض البريطانية· ومات ويلبرفورس في سنة 1833 وبعد موته بشهر جرى منع الرق في كل البلاد الخاضعة للحكم البريطاني، وكان هذا في 28 أغسطس سنة 1833·(ملحق/761)
6 - العادات وأسلوب الحياة
من بين أكثر الأحداث إثارة في سنة 1797 ظهور القبعة الحريرية العالية Silk top hat لأول مرة، ويظهر أن خردواتياً لندنياً وضعها فوق رأسه زاعماً أن الحق الفطري (الموروث) للرجل الإنجليزي أن يكون متفرداً، وتجمهر الناس حوله وقيل إن بعض النسوة بُهتْنَ لهذا المنظر المُرعب alarming sight، لكن لم يكن هناك ما هو منافٍ للعقل يمنع مصمّمي الأزياء النسائية والخردواتية haberdashers من تعميم هذه التقليعة (الموضة)، فسرعان ما وضع الذكور من أبناء الطبقات العليا هذه القبعات الحريرية فوق رؤوسهم·
واختفت السيوف الموضوعة على سنام تصفيفة الشعر وعلى الشعر المستعار· وحلق الناس لحاهم، وترك معظم الذكور شعرهم ينمو حتى الكتفين، لكن بعض الشباب عبروا عن تحديهم وفرديتهم بقص شعورهم وكسبت السراويل (البنطلونات) المعركة على سيقان الرجال، فبحلول سنة 1785 كان السروال (البنطلون) يصل إلى منتصف بطّة الساق ( calf) ، وبحلول عام 1793 وصل إلى الكعب (رسغ القدم)، وحل رباط الحذاء محل الحِلية المعدنية، وبذا بدأت (أربطة الأحذية) دورها في مضايقة لابسي الأحذية وإزعاجهم· وكانت المعاطف طويلة خالية من التطريز والزخارف، لكن الصدرية كانت موضع اهتمام إذ كان الواحد منهم يُنفق عليها كثيراً من دخله ويتفنّن في تطريزها·
لقد أدّى التنافس بين النبلاء وأعضاء مجلس العموم إلى ظهور المتأنقين bucks ( المعنى الحرفي ذكر الوَعل أو الظبي، والمعنى لا يتضح تماما هنا إلا باللهجات العربية العامية إنه كاشخ أو كشخة كما يُقال عادة في دول الخليج، أو إنه كالهامور وما إلى ذلك، وفي مصر عادة يقولون نافش ريشه أو محلفط··· إلخ) وظهور المنمقين أو الذين يلبسون ملابس تروق للنساء beau· لقد كان جورج بريان "متأنقا" برومل George Bryan"Beau" Brummel (1778 - 1840) معروفا بشدة التأنق وتزيين نفسه فقد كان يقضي نصف النهار في ارتداء ملابسه وخلعها·(ملحق/762)
وفي أتون Aton حيث كان الطلبة يسمونه بَكْ duck وأصبح صديقاً حميماً لأمير ويلز الذي شعر أن التأنق في الملبس هو نصف فنّ الحُكم· ولأن برومل كان قد ورث ثلاثين ألف جنيه فقد استأجر حائكاً لكل جزء من بدنه وجعل من نفسه حكماً للأناقة بين رجال لندن، وكان حسن الفكاهة رقيقاً، وكان يهتم بنفسه ورباط عنقه اهتماماً شديداً، لكنه كان يحب المغامرة ربما أكثر من التأنق فركبته الديون وفرّ عبر القنال الإنجليزي تخلّصا من دائنيه وعاش عشرين سنة في فقر مُدقع وملابس رثة ومات في الثانية والستين من عمره في مصحة فرنسية للمجانين·
وتخلّت النساء عن الطوق الموسِّع hoop ( بتشديد السين وكسرها / وهو طوق من مادة لَدِنة لتوسيع أطراف التنورة أو الجيبة وتستخدم النسوة في بعض البلاد العربية الكلمة الأجنبية الدالة عليه: الهوب hoop ويجمعنه على هوبات) لكنهن ظللن المشدات corsets ( الكورسيهات، والمفرد كورسيه) لصدورهن، ليبدو ثديا المرأة ممتلئين متوازنين وكان خط الوسط في الفساتين مرفوعاً إلى أعلى (أي أعلى من مستوى الخصر) وثمة ديكولتيه decollete ( تقويرة واسعة قد تشمل الصدر والظهر والكتفين) تكشف ما فوق خط الوسط، وخلال فترة الوصاية على العرش (1811 - 1820) تغيرت أساليب اللباس (المودة) تغيراً شديداً، فاختفت المشدّات (الكورسيهات) ولم يَعُدن يستخدمن التنورات petticoats ( الجيبات)، واستُخدمت العباءات gowns الشفافة بما يكفي للإيحاء بخطوط الفخذين والساقين أو بتعبير آخر أصبحت العباءات النسائية شفافة وصَّافة، وكان من رأي بايرون Byron أن هذا الأسلوب في اللباس يقلل من فتنة النساء وراح يشكو - على غير عادته - مدافعاً عن الأخلاق:
- لقد ضلّت نساؤنا السبيل كأمنّا حواء
- فهن عرايا
- لكنهن غير خَجِلات من عُرْيِهن(ملحق/763)
ومع هذا فقد كان هناك اعتدال في اللباس أكثر منه في تناول الطعام· لقد كانت الوجبات هائلة، لأن المناخ كان يحثّ على تناول اللحوم ذات الدهن طلباً للدفء وليس نَهَما تماماً وإن كان النَّهم أيضاً سبباً وارداً· وكان الفقراء يتناولون في الأساس خبزاً وجبناً ويشربون شاياَ أو مزرا (نوع من الجعة)، أما الطبقات ذوات المال فكانت الوجبة الرئيسية عندها تمتد أحياناً من الساعة التاسعة إلى منتصف الليل، وكان يكن أن تمر بمراحل مختلفة: حساء، سمك، دجاج أو غيره من الطيور، لحوم، لحم غزال أو غيره من لحوم الطرائد، حلوى أو فاكهة، ونبيذ معدّل حسب الرغبة·
وبعد تناول الحلوى أو الفاكهة تفارق النسوة المائدة حتى يتناقش الرجال بحرية في أمور السياسة والخيل والنساء· وكانت مدام دي ستيل de Stael تعترض على هذا الفصل بين الرجال والنساء بعد تناول الحلوى أو الفاكهة لأن هذا يزيل الباعث إلى الاحتشام وإلى العادات والتصرفات المهذبة، كما أنه يُقلل من سعادة الجماعة· ولم تكن آداب المائدة (الإتيكيت) في إنجلترا بالأناقة نفسها التي هي عليها في فرنسا·
وكانت العادات بشكل عام حميمة وخالية من التصنع (مباشرة) وكان الحديث يُتَبَّل بكلمات لا تتناول الذات الإلهية بوقار (كلمات ذات طابع تجديفي) · لقد اشتكى رئيس أساقفة كانتربري Canterbury قائلا إن الكلمات المنطوية على التجديف تزداد يوماً بعد يوم بسرعة وكان التلاكم Fisticuffs منتشرا بين الطبقات الدنيا، وكانت الملاكمة boxing رياضة أثيرة، وكانت الملاكمة بقصد الحصول على جائزة (الملاكمة التكسبية) تجذب المنظمين الطامعين من كل الطبقات· ولقد وصلنا وصف مكثف معاصر لهذه المباريات من روبرت سوثي Southey (1807) :(ملحق/764)
عندما يتم الإعداد لمباراة بين اثنين كل منهما يبغي الحصول على الجائزة سرعان ما تصل الأخبار للناس عن طريق الصحف، فتظهر فقرات فيها في مناسبات مختلفة متناولة المتنافسين وكيف يتدربون، وما هي التمارين التي يقومون بها، وكيف أن أحدهم يتناول اللحم النيئ استعداداً للمباراة· وفي هذه الأثناء يختار الهواة والمقامرون أحد الطرفين لينحازوا إليه أو يقامروا على فوزه أو إخفاقه، وتظهر المراهنات في الصحف أيضاً، وفي حالات غير قليلة ينخرط الجميع في المراهنات حتى إن عدداً قليلاً من المحتالين الأوغاد قد يخدعون أعدادً كبيرة من الأغبياء·
ويتجمع جمهور غفير يصل أحياناً إلى عشرين ألفاً وكأن هذا التجمع ولهذا الغرض بديلٌ عن الثورة والتمرد (أو بتعبير أدق تسامٍ بهذه الرغبة) وقد أوصى اللورد ألثورب Althorp بممارسة الألعاب الرياضية للتسامي بالغرائز العدوانية السائدة بين الناس، لكن منظمي هذه المباريات يعتبرونها تطهيراً لجيوب المرتادين (أي وسيلة لتجريد الناس من أموالهم) ·
أما الأفقر حالاً فيبحثون عن التنفيس عن مكنونات صدورهم بتقييد ثور أو دُب، ثم يظلون يزعجونه بالعصي ويغرون به الكلاب، وأحياناً يظل هذا طوال ثلاثة أيام حتى تأتي لحظة الرحمة فيقتلون ضحيتهم أو يرسلونها إلى دار الذبح (أو القتل / المسلخ أو السلخانة)، واستمرت مباريات صراع الديوك حتى مُنعت في سنة 1822· أما الكريكت Cricket الذي عرفته إنجلترا منذ سنة 1550 فقد جرى تقنين قواعده في القرن الثامن عشر، وكانت مبارياته في إنجلترا هي الأكثر إثارة إذ كان يحضرها عدد غفير، وتكون المراهنات على أشدها، ويكون مشجعو كلٍ في حالة سعار·
وكان سباق الخيول يمثل ميداناً آخر للمقامرة لكنه أيضاً كان يُحيي العشق القديم للخيول والاهتمام اللذيذ بتدريبها ومتابعة سلالاتها· أما الصيد فكان رياضة تمثل ذروة المتعة إذ يركب الصيادون في عربات أنيقة، وتطير العظاءات Swifts محلقة فوق الحقول ويعبر الصيادون المحاصيل والقنوات المائية والأسيجة (جمع سياج) فوق ظهور الخيول التي تبدو عليها - بعد الكلاب - السعادة بهذه المهمة·(ملحق/765)
وكان لكل طبقة مناسباتها التي يتجمع فيها أفرادها بدءاً من المقاهي - حيث يجتمع البسطاء لشرب البيرة (الجعة) وتدخين البايب pipes ( الغليون) وقراءة الصحف والحديث في السياسة والفلسفة - حتى الأجنحة الملكية الفخمة Royal Pavilion ( البافليون الملكي) في بريتون Brighton حيث يشترك الأثرياء في مهرجانات غالباً ما كانت باعثة على المسرّة في الشتاء والصيف على سواء وعندما يتجمع الناس في منازلهم يلعبون الورق أو غيره من الألعاب المناسبة أو يستمعون للموسيقي أو يرقصون، وقد وصلت رقصة الفالس Waltz قادمة من ألمانيا واسمها مشتق من الفعل الألماني Walzen بمعنى يدور، وقد علم المتمسكون بالأخلاق على انتشارها بوصفها بأنها ألفة أو مودّة آثمة (المعنى يكاد يكون: لقاء جنسياً آثماً Sinful intimacy) ، وقد شكي كولردج عن قناعة في سنة 1798: "لقد أزعجوني بدعوتي للرقص في كل حفلة رقص ليلية، وقد رفضت بتواضع· إنهم يرقصون رقصة شائنة تسمى الفالس" Waltzen· ربما بلغ عددهم عشرين راقصاً وعشرين راقصة - لقد كان كل راقص يحتضن مراقصته وهي أيضاً تحتضنه، فتتلامس الأذرع والخصور والركب يلف بها وتلف به، وهكذا دواليك·· على موسيقى داعرة·
وكان أفراد الطبقات العليا يستطيعون إقامة حفلات راقصة أو حفلات من أي نوع كانت في واحدة من النوادي الأنيقة: ألماك Almack، والهويت White والبروك Brook وهناك أيضاً يمكنهم المقامرة على مبالغ ضخمة ومناقشة آخر إنجازات السيدة سيدون Siddons وحفلات سمر الأمير وروايات جين أوستن ونقوش بليك Blake وأعمال تيرنر Turner وصور كونستابل· وكانت ذروة اللقاءات الاجتماعية عند الهويجز (الأحرار) تتمثل في دار هولاند Holland House حيث كانت ليدي هولاند تعقد اجتماعات مسائية كان يمكن للمرء أن يلتقي فيها بذوي المكانة مثل اللورد بروهام Brougham أو فيليب دوق أورليان، أو تاليران، أو ميترنيخ، أو جرتان Grattan أو مدام دي ستيل أو بايرون أو توماس مور، أو أكثر من الهويجز (الأحرار) نبالة - تشارلز جيمس فوكس· ولم يكن في فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر صالوناً يضارع صالون هولاند·(ملحق/766)
7 - المسرح الإنجليزي
أَضِف إلى كل هذه الحياة المتعددة الأوجه، عشق الإنجليز للمسرح ولا يزالون مولعين به حتى اليوم· وكان الوضع كما هو عليه الآن حيث كان الناس ينظرون للمسرحية من خلال ممثليها ولا يعبئون كثيرا بمؤلفي هذه المسرحيات· ويبدو أن المؤلفين المسرحيين خشوا أن يكتبوا التراجيديات مخافة أن يبدوا قليلي الشأن في نظر الناس الذين سيعقدون بينهم وبين شكسبير مقارنة لن تكون في صالحهم، وبعد ذروة شريدان Sheridan وجولدسميث Goldsmith كانت الكوميديات (الملهاة) تمثل أعمالاً لا بقاء لها مثل الطريق إلى رون Ruin (1792) التي ألفها توماس هولكروفت Holcroft و (تعاهد العشاق) (1798) التي ألفتها إليزابيث إنشبالد Inchbald، فمثل تلك الأعمال تشبثت بالاتجاه الضعيف ولعبت على أوتار سهولة الانقياد إلى الإثم مداعبة بذلك الطبقة الوسطى، وأين هذا من فكاهة شكسبير المنطوية على معان فلسفية، والأثر الرجولي الذي تحدثه مسرحيات بن جونسون في المشاهدين؟ ولم يبق في عالم المسرح من ظل متبوئاً مكانه سوى الممثلين·
لقد بدا الممثلون - من النظرة الأولى - وكأنهم جميعاً من أسرة (واحدة) من روجر كمبل Roger Kemble الذي توفي في سنة 1802 إلى هنري كمبل الذي توفي سنة 1907، وروجر كمبل أنجب سارة كمبل (التي أصبحت مدام سيدونز Siddons) وجون فيليب كمبل الذي انضم لفرقة دروري لين Drury Lane وفي سنة 1783 وأصبح مديراً للفرقة في سنة 1788، وستيفن كميل الذي أدار مسرح أدنبرة من سنة 1792 إلى سنة 1800·(ملحق/767)
وُلدت سارة في سنة 1755 في فندق شولدر أف متون Shoulder-of-Mutton Inn في بريكون Brecon، وفي ويلز في أثناء جولة فرقة أبيها· وأُسند إليها دور بمجرد أن أصبحت قادرة على التمثيل، وأصبحت ممثلة موسمية وهي في العاشرة من عمرها· وقد دبرت أمرها لتحصل على قسط غير قليل من التعليم في أثناء حياتها غير المستقرة هذه، فأصبحت امرأة ذات نضج أنثوي، وذات عقل واع مثقف، واحتفظت بجاذبيتها دوما، وتزوجت وهي في الثامنة عشر من عمرها وليم سيدونز Siddons أصغر أعضاء فرقتها· وبعد ذلك بعامين أرسل جارك Garrick - بعد أن سمع بنجاحاتها - وكيلا عنه لمراقبة أدائها التمثيلي، فكتب تقريرا لصالحها فعرض عليها جارك الارتباط بفرقة دروري لين, فظهرت هناك في دور بورتيا Portia في 29 ديسمبر 1775· ولم تؤد الدور جيدا لسببين أحدهما عصبيتها وربما كان ثانيهما أنها كانت قد وضعت مولوداً منذ فترة وجيزة·
لقد كانت نحيلة طويلة رزينة ذات ملامح كلاسيكية وكان صوتها ملائماً للمسارح الصغيرة، إذ كانت تفشل في مواءمة صوتها مع المسارح الواسعة· وبعد موسم غير ناجح عادت إلى جولاتها في المنطقة (المقاطعة) وظلت طوال سبع سنوات تعمل صابرة على الرقي بفنها· وفي سنة 1782 حثها شريدان - الذي خلف جارّك كمدير للفرقة - على العودة إلى لندن· وفي 10 أكتوبر 1782 أخذت دور البطولة في مسرحية (الزواج القدري) لتوماس سوثرن Southerne فأدت دورها بإتقان تام حتى إنها أصبحت منذ هذه الأمسية تسير بخطى حثيثة لتصبح أفضل ممثلة مأساة (تراجيدية) في التاريخ البريطاني· وظلت طوال واحد وعشرين عاما تحكم دروري لين، وأصبحت لعشر سنوات بعدها ملكة كوفنت جاردن Covent Garden بلا منازع·(ملحق/768)
وأدت دور ليدي مكبث Lady Macbeth بإتقان صبّت فيه كل خبراتها المسرحية· وعندما اعتزلت خشبة المسرح في 29 يونيو 1812 وهي في السابعة والخمسين من عمرها بعد أن أدّت هذا الدور (ليدي مكبث) تأثر جمهور المسرح تأثراً شديداً بأدائها لمشهد (السير نائما) حتى أنه فضّل أن يظل يصفق لها على متابعة العرض المسرحي· وظلت طوال تسعة عشر عاماً بعد ذلك تعيش في عزلة هادئة، وقطعت ألسن مروجي الشائعات في المدينة، بوفائها لزوجها· وفاز جينسبورو Gainsborough برسم صورة لها لازالت حتى اليوم في المتحف الوطني للصور الشخصية·
وكان أخوها جون فيليب كمبل الذي وُلد مثلها في إحدى فنادق (خانات) الأقاليم، قد نذر والداه ليكون قساً كاثوليكياً وربما كان هذا (النذر) تمشياً مع الفكر الشعبي الذي مؤداه أن وجود أحد أفراد الأسرة في المؤسسة الدينية قد يضمن الفردوس لسائر أفراد الأسرة، فأرسله والداه إلى دواي Douai ليدرس في كليتها الكاثوليكية فتلقى هناك قدراً طيباً من التعليم الكلاسيكي كما اكتسب الرزانة والوقار اللذين مازا بعد ذلك كل أدواره تقريباً، وظل مفتوناً في طوايا نفسه بمهنة والده (التمثيل) فغادر وهو في الثامنة عشرة (1775) من عمره دواي وعاد إلى إنجلترا·
وبعد عودته بعام انضم لفرقة مسرحية، وبحلول عام 1781 كان يؤدي دور هملت Hamlet في دبلن، وانضمت إليه أخته سارة لفترة ثم ألحقته معها في فرقة دروري لين Drury Lane فكان ظهوره للمرة الأولى على هذا المسرح كظهوره في هملت (1783) مصحوباً بنجاح متواضع· لقد وجده جمهور لندن رزينا رزانة شديدة لا تتفق مع الدور وأدانه النقاد لأنه عدّل في نص شكسبير واختصره· وعلى أية حال فإنه عندما انضم إلى مدام سيدونز Siddons في مكبث (1785) كان أداؤهما رائعاً حتى إنه أصبح حدثا مهما في تاريخ المسرح الإنجليزي·(ملحق/769)
وفي سنة 1788 عيَّن شريدان - الذين كان في ذلك الوقت هو المالك الرئيسي لمسرح دروري لين - كمبل مديرا للفرقة، فواصل القيام بأدوار البطولة لكن الممثل الحساس لم يكن مرتاحا بسبب تحكمات شريدان Sheridan وبسبب قلة العائد المالي· وفي سنة 1803 قبل إدارة مسرح كوفنت جاردن واشترى سدس الأسهم في هذا المسرح بمبلغ 23,000 جنيه إسترليني، وفي سنة 1808 احترق المبنى، وبعد فترة بطالة سببت له خسائر جسيمة أخذ كمبل على عاتقه إدارة المسرح بعد أن يعيد بناءه·
ولكنه عندما حاول أن يوازن التكاليف الهائلة غير المتوقعة للمبنى الجديد برفع أسعار دخول المسرح أوقف الجمهور عرضه التالي بصياحهم محتجين عُد إلى الأسعار القديمة ولم يسمح له الجمهور بالاستمرار في عروضه حتى يعد بذلك· وأنقذ دوق نورثمبرلاند Northumberland الفرقة بمنحة مقدارها 10,000 جنيه إسترليني وواصل كمبل كفاحه لكن ظهر ممثلون شبان مثلوا تحدياً له· وكان آخر نجاحاته في (كوريولانوس Coriolanus) عندما هز الجمهور المسرح تصفيقاً لفرط إعجابه، وكان هو الجمهور نفسه الذي سبق أن صاح في وجهه محتجاً في سنة 1809· واعتزل كمبل المسرح البريطاني مسلّماً تاجه لإدموند كين Edmund Kean واختفى الأسلوب الكلاسيكي في التمثيل من إنجلترا باعتزاله، تماما كما اختفى في فرنسا بانتهاء دور صديقه تالما Talma، وانتصرت الحركة الرومانسية في المسرح كما انتصرت في الرسم والموسيقى والشعر والنثر·
تضم حياة كين Kean بين جنباتها كل التقلبات التي حاقت بمهنته شديدة الحساسية - بما فيها من ملهاة ومأساة· وُلد في حي الفقراء بلندن في سنة 7871 نتيجة لقاء في نزهة ليلية بين آرون Aaron ( أو إدموند) كين Kean وهو عامل (فرّاش) في مسرح وآن كاري Ann Carey التي كانت تكسب مالاً قليلاً من المسرح والشارع، وقد طرده أبواه في طفولته الباكرة فرباه عمه موسى كين المغني المشهور، وتولته على نحو خاص خليلة موسى واسمها شارلوت تدسويل Tidswell وهي ممثلة قليلة الشأن في مسرح الدروري لين·(ملحق/770)
لقد دربته على الفن المسرحي والخدع المسرحية، وحثه موسى على دراسة الأدوار الشكسبيرية، فتعلم الفتى يجلب إليه النظارة بدءاً من الأكروبات (الألعاب البهلوانية) وإصدار الأصوات من بطنه (دون تحريك شفتيه) والملاكمة إلى هملت وماكبث· لكنه كان متمردا في أعماقه، ففر مراراً، وأخيراً وضعت شارلوت الطوق المقيّد للكلب حول عنقه ونقشت عليه مسرح دروري لين (المقصد ضبطته وربطته بهذا المسرح) لكنه نزع الطوق وهو في الخامسة عشرة من عمره، وشرد وراح يعمل ممثلاً بشكل مستقل يؤدي أي دور، مقابل 51 شلناً في الأسبوع·
وظل طوال عشر سنين يعيش حياة قلقة غير مستقرة ممثلاً جوالاً، يكاد يكون معدما محترقاً في كل الأوقات، لكنه كان واثقاً تماما من أنه يستطيع أن يبز الجميع على خشبة المسرح· وسرعان ما عكف على الكحول لينسى تعبه وعذابه وليغذي أحلامه وتمنياته بأن يكون نبيل الأصل، وليتصور انتصاراته المرتقبة· وفي سنة 1808 تزوج ماري شامبرز Mary Chambers زميلته في إحدى الفرق التي كان يعمل بها، فأنجبت له ولدين والتصقت به لم تفارقه في أثناء كل استبعاده لنفسه أمام الويسكي (الخمور) والنساء· وأخيرا بعد سنوات عديدة قضاها وهو يمثل الأدوار الشكسبيرية، ويحاكي الشمبانزي (قرد) الذكي تلقى دعوة من مسرح دروري لين ليقوم بدور تجريبي (ممثل تحت الاختبار) ·
وقد اختار دور شيلوك Shylock الصعب ليؤديه في أول صعود له على خشبة الدروري لين في 26 يناير 1814· لقد صَبّ في هذا الدور بعض الإهانات التي تلقاها في هذه الحياة· فعندما قال شيلوك - باحتقار وسخرية - لتاجر البندقية المسيحي الذي طلب منه قرضاً:
- ألدى الكلب مال؟ محال
- ألخسيس يستطيع أن يقرضك ثلاثة آلاف دوكة؟(ملحق/771)
لقد بدا أن كين قد تقمّص تماماً شخصية شيلوك ونسى أنه شخص آخر· لقد وضعت العواطف والمشاعر والانفعالات التي صبّها في دوره هذا نهاية للحقبة الكلاسيكية لفن التمثيل الإنجليزي (مع أن الدور الذي أدّاه كادت كلماته لا تتجاوز السطرين، وهكذا بدأت على مسارح لندن حقبة جديدة في التمثيل قوامها المشاعر والخيال والرومانسية· وبالتدريج راح جمهور المسرح يتفاعل مع هذا الممثل غير المعروف· لقد بدا المتحمسون له في البداية فرادى متشككين، لكن الجمهور سرعان ما تفاعل معه لفرط تفاعله واستغراقه في دوره· وسارع وليم هازلت Hazlitt أبرع النقاد في عصره بكتابة عرض تحمس فيه كثيرا لهذا الممثل، واندفع كين عائدا إلى أسرته فعانق زوجته قائلا لها: الآن يا ماري ستركبين مركبتك الأنيقة وعانق ابنه قائلا: "يا ابني سوف تدرس في إيتون Eton"·
وامتلأ المسرح عند عرض مسرحية تاجر البندقية التي كان يؤدي كين فيها دوره للمرة الثانية (في العرض الثاني) وبعد العرض الثالث قدم صامويل (صموئيل) هويتبيرد Whitebeard له عقداً للعمل في هذا المسرح لمدة ثلاث سنوات مقابل ثمانية جنيهات أسبوعياً فوقعه كين، لكن هويتبيرد غيرّه بعد التوقيع فجعل الجنيهات الثمانية، عشرين جنيها مع أن كين كان قد وافق على الثمانية· وأتى وقت دُعي فيه كين لأداء دور لليلة واحدة بخمسين جنيها· لقد أدى تقريباً كل الأدوار المشهورة في مسرحيات شكسبير - هملت، ريتشارد الثالث، ريتشارد الثاني، هنري الخامس، ماكبث، أوثيلو Othello، ياجو Iago، روميو· وقد نجح في كل هذه الأدوار باستثناء الأخير (روميو) ·
وعندما حان الوقت ليرى الممثلين الشبان ينتظرون بتوق ليحلوا محله، بدّد عوائده المالية في الشراب، وراح يرضي نفسه بما يتلقاه من حب شديد من مرتادي الحانات التي يرتادها وانضم إلى حركة سرية لإدانة كل اللوردات وذوي المكانة ونجح في إقامة علاقة آثمة مع زوجة أحد أعضاء المجلس التشريعي بالمدينة (1825) وعمل على استعادة مكانته في المسرح، لكن ذاكرته لم تعد قوية كما كانت فَصَعُب عليه حفظ أدواره فقد كان ينسى السطور الموكل به أداؤها· لقد حدث هذا أكثر من مرة·(ملحق/772)
ومع أن الجمهور كان معجباً به إعجاباً شديداً، إلاّ أنه عندما قصَّر لم يرحمه وصبّ عليه الإهانات صباً، وسأله لم يُغرق في الشراب دون اهتمام أو حذر؟ فغادر إنجلترا، وقام برحلة في أمريكا أدى فيها أدواراً تمثيلية فحقق انتصاراً في فنه وكوّن ثروة بدلاً من التي بددها، وبدّد الثروة الجديدة التي حققها، وعاد إلى لندن ووافق على القيام بتمثيل دور أوثيلو Othello أمام ابنه الذي كان عليه القيام بدور ياجو على مسرح كوفنت جاردن Covent Garden (1833) وصفق الجمهور لياجو، واستقبلوا أوثيلو صامتين·
وكان هذا شديد الوقع على كين الذي لم يلق التصفيق الكافي، فانهارت قواه وأصبح على شفا الانهيار وبعد أن نطق بعبارة وداعا، لقد انتهت مهمة أوثيلو سقط بين ذراعي ابنه وهمس له: إنني أحتضر يا تشارلز تحدّث لهم نيابة عني فحملوه إلى بيته لترعاه زوجته التي كان قد هجرها ذات مرة، وبعد شهرين مات في 15 مايو 1833 ولم يتجاوز السادسة والأربعين· لقد اختطف الموت أعظم الممثلين في التاريخ الإنجليزي - باستثناء جارِك - وهو في منتصف العمر·
8 - خلاصة
الحق أن الحياة في إنجلترا كانت ناشطة مثمرة، والحق أيضاً أن الصورة لم تكن خالية من عيوب كثيرة، وهذا أمر طبيعي في الحياة· لقد اختفى صغار ملاك الأراضي من الطبقة الوسطى، وتعرضت البروليتاريا للاستعباد وخرّب القمار بيوتاً ودمّر ثروات، وكانت الحكومة قائمة على الامتيازات الطبقية، وكان هذا أمراً معلناً واضحاً، وكانت قلة قليلة من الرجال هي التي تشرّع لرجال آخرين ولكل النساء، ومع هذا ففي وسط الأخطاء والجرائم، كان العلم يتطوّر، وكانت الفلسفة تترعرع، وكان كونستابل يستوحي مناظر الريف الإنجليزي، وكان تيرنر Turner يقيّد الشمس ويثبّت العاصفة (المقصود يرسمهما) وكان وردزورث وكولردج Coleridge وبايرون وشيلي يقدمون لإنجلترا مهرجاناً من الشعر لا نظير له في أي مكان منذ إليزابيث الأولى·(ملحق/773)
وكان التمرد والاضطراب كقشرة خارجية إذ كان النظام والاستقرار هما العصب الأصيل الذي أتاح كثيرا من الحريات لم تكن متاحة في أي دولة أوروبية أخرى خلا فرنسا التي كان الإفراط في الحرية فيها مؤديا إلى الانتحار· لقد كانت حرية الحركة والانتقال والسفن مكفولة بغير قيود إلا في أوقات الحروب، وكانت حرية العبادة مكفولة فيما عدا التجديف على الله، وكانت حرية الصحافة مكفولة أيضاً فيما عدا الخيانة العظمى، وكانت حرية الرأي مكفولة فيما عدا الدفاع عن الثورة والتمرد فهذا على وفق لكل الشواهد والسوابق سيؤدي إلى عقد أو أكثر من الخطر حيث يختفي الأمن ومن الفوضى حيث يختفي القانون·
ولم يكن الرأي العام راقياً جدا فقد كان يتمسك بالمحاذير taboos البالية وغالبا ما كان يدافع عن القديم لكن كانت لديه الشجاعة لإطلاق أصوات الازدراء نقداً لأمير منحط، واستحساناً لموقف زوجته التي طردها بقسوة، وعبّر الرأي العام عن نفسه أيضاً في مئات التجمعات والجمعيات التي وقفت نفسها لأغراض التعليم والعلم والفلسفة والإصلاح· وكان الرأي العام يظهر واضحاً في القضايا الحرجة إذ يعبّر الناس عن آرائهم في اجتماعات عامة، ويمارسون حق تقديم العرائض (الاحتجاجات) الذي كفله القانون الإنجليزي، فالإنجليز الصبورون لا يعمدون إلى المقاومة إلاّ كحل أخير إزاء هذه الدولة الأوليجاركية oligarchic ·
لقد حدث أكثر من مرة أن قام تمرّد ناجح (حقق غرضه) في شوارع القرى والمدن· لقد كانت الحكومة أرستقراطية ومع ارستقراطيتها فقد كان أقل ما تتصف به هو أنها مهذبة فهذبت العادات وتصدَّت للمستحدثات الضارة، وحافظت على الذوق السليم في الآداب والفنون وحمته من البربرية، كما تصدت للخرافات، وأيدت العديد من القضايا الطيبة (الصالحة) ولم تترك شعراءها الكبار نهباً لمجاعة·(ملحق/774)
حقيقة لقد مر بها في بعض الأحيان ملك مجنون، لكن الحكومة كانت تُغل يده، ليظل ملكا محبوبا يمثل رمزاً للوحدة الوطنية ومحورا لكبرياء الأمة وحماسها ولم يجد الإنجليز معنى في قتل مليون شخص لعزل ملك له كل هذه الفائدة كرأس للتشريفات· فبعد انحراف لمرة أو مرتين يعود الإنجليزي إلى طبيعته غير مُصر على أن ماسح الأحذية والبويرن - البارون الصغير (البارونت baronets) لهما الحقوق نفسها في اقتراح بنود قانون الأراضي· وقد ذكرت مدام دي ستيل أن الإبداع في إنجلترا مُتاح للأفراد، ومن هناك كان يمكن تنظيم الجموع· إن النظام الأصالة originality في إنجلترا - حيث لكل طبقة مكانتها فوق الأخرى - هو الذي سمح بانتشار الحرية·
دعونا الآن نرى كيف تفاعل الفن والعلم والفلسفة، ونظام الحكم حتى تكتمل صورة الحياة في إنجلترا في سنة 1800· إننا سنعرض لذلك في الفصول التالية بقدر جهدنا·(ملحق/775)
الفصل السابع عشر
الفنون في إنجلترا
1 - الفنانون
كانت كلمةُ (فن art) تُطلق في العصور الوسطى (أيام نظام الطوائف التجارية والصناعَّية) على أية حرفة، كما كانت كلمة (فنّان artist) تطلق على أيٍّ حرفي وقد تغير معنى الكلمتين في القرن الثامن عشر لأن الحرف ونظام الطوائف الحرفية قد حل محلهما صناعات وعمال صناعة، لقد أصبحت كلمة (فن) تطلق على الموسيقى والديكور وأعمال السيراميك (الخزف) والرسم والحفر والتصوير والنحت والعمارة، وأصبحت كلمة فنان تطلق على كل من يمارس واحداً أو أكثر من هذه الأعمال· وقد تغير أيضا معنى كلمة العبقرية أو النبوغ genius، فقد كانت تعنى شيئا من التميُّز الفطري، أو روحا متفوقة بشكل غير طبيعي، أما الآن فقد أصبحت بشكل متزايد تشير إلى القدرة الوطنية الفائقة أو المتعالية (والمتَّسمة بشيء من الغموض بمعنى أن أسبابها غير واضحةً تماما) أو يوصف بها مالكو هذه المقدرة· إنها كالمعجزة أو لنقل هبة من الله أو هي فعل من أفعاله· لقد أصبحت هذه الكلمة (العبقرية) أو (النبوغ) بديلا مناسبا لوصف (شخص) أو (حدث) متفرّد أو غير عادي(ملحق/776)
لقد أدَّى الانتقال إلى الصناعة (الحديثة) والتجارة وحياة المدن إلى مزيد من التدهور فيما يتعلق برعاية الأرستقراطية للفن· وعلى أية حال لابد لنا أن نذكر رعاية الأثرياء للشاعر وردزورث Wordsworth والشاعر كولردج Coleridge، وأن لورد إجريمونت Egremont فتح بيته المحاط بمزرعة، في بتورث Petworth للرسّام تيرنر Turner ليلجأ إليه هروبا من ضوضاء لندن· وكان جورج الثالث قد عاون في تأسيس أكاديميةالفنون الملكية Royal Academy of Art (1768) بخمسة آلاف جنيه ومقار (جمع مقر) أنيقة في دار سومرست Somerset House · ولم يكن أعضاؤها الأربعون ليصبحوا خالدين بمجرد عضويتهم بها كنظرائهم الفرنسيين وإنما كان الواحد منهم يرقى إلى مرتبة النبالة (الأرستقراطية) بحصوله على لقب اسكوير (معناها الحرفي حامل الدروع Squire أو المبجّل المحترم) ورغم أن هذا اللقب لم يكن يرثه أبناؤهم، فقد ساعد على تحسين الوضع الاجتماعي للفنانين الكبار في بريطانيا ونظمت الأكاديمية فصولا لتعليم التشريح والرسم والتصوير والنحت والعمارة·ومن الطبيعي أن تصبح قلعةً للتراث والتقاليد والوقار مادام يدعمها عرش محافظ·
وقد عارضها الفنانون المجددون الذين كثر عددهم وحازوا الإعجاب حتى إن بعض النبلاء والماليين موَّلوهم لتأسيس المعهد البريطاني لتطوير الفنون الجميلة الذي أقام معارض دورية وحصل على جوائز وأصبح منافسا - بشكل حيوي - للأكاديمية الملكية· وأدت هذه النافسة إلى ظهور أعمال ممتازة في مختلف مجالات الفنون في بريطانيا·
عفواً، لقد كانت الموسيقى مستثناةً من هذا، ففي هذه الفترة لم تظهر أعمال موسيقية خالدة· وكان الإنجليز على وعي شديد بهذا النقص، وتجلَّى هذا في تقديرهم الوافر للمؤلفين الموسيقيين الذين كانوا يأتون إليهم من القارة الأوروبية· لقد احتفوا بهايدن Haydn احتفاءً حارا في سنة 1790 وفي سنة 1794· وتمّ تأسيس الجمعية الملكية لعشاق الموسيقى في سنة 1813 وظلت باقية بعد الثورة الصناعية، والثورة الفرنسية، وبعد النابليونيْين، وبعد قيام حربين عالميتين، ولازالت موجودة كعنصر دوام واستمرار في فيض غير متقطع· وانتعشت الفنون الصغرى دون أن يكون لها خصائص خاصة·(ملحق/777)
لقد واصل الإنجليز إنتاجهم للأثاث الأنيق - رغم صرامته، وأشغال المعادن المتسمة بالقوة والجمال وأعمال السيراميك (الخزف) البديعة تماما· وقد طوع بنيامين سميث Smith الحديد فشكل منه شمعدانا ذا شعب لتقدمه مدينة لندن لدوق ولينجتون Wellington · أما جون فلاكسمان John Flaxman فبالإضافة إلى قيامه بتصميمات كلاسيكيّة لمصنع ودجوود Wedgwood للفخار فإنه صمَّم كأس الطرف الأعز الشهير لتخليد ذكرى انتصار نيلسون Nelson، وكان نحَّاتا ومعماريا في أن عندما أقام النصب التذكاري لنيلسون في كنيسة القديس بول·
وعلى أية حال فإن فن النحت أوشك أن يكون من الفنون الصغرى في إنجلترا، وربما كان هذا لأن فن النحت يفضِّل العري غير الملائم للمناخ أو للأخلاق السائدة· وفي سنة 1801 - بينما كان توماس بروس Thomas Bruce, إيرل إلجن السابع Earl of Elgin، مبعوثاً لبريطانيا لدى الباب العالي (الدولة العثمانية) طلب من السلطات التركية (العثمانية) في أثينا السماح له بأن ينقل من الأكروبولس Acropolis أية أحجار عليها نقوش قديمة أو رسوم، وقد وجّه طلبه هذا باعتباره لوردا، وبالفعل نقل اللورد الإفريز الضخم للبارثينون (معبدا إغريقي) وكثيرا من التماثيل النصفية في سفينة إثر سفينة إلى إنجلترا في الفترة من 1803 إلى 1812· وقد وصفه بايرون وآخرون - احتجاجا على هذا العمل - بأنه فاندالي vandal ( نسبه إلى قبيلة أغارة على وسط أوروبا في القرن 15) وسلب، لكن لجنة برلمانية برأته، وبيع رخام إلجن بمبلغ 35,000 جنيه إسترليني دفعها الشعب البريطاني وتم إيداعها في المتحف البريطاني والمبلغ الذي دفعته الحكومة للورد إلجن كان أقل بكثير مما دفعه هو للحصول عليها ·(ملحق/778)
2 - النَّحت
لقد أسهمت هذه الرخامات (المقصود الأعمال النحتية التي جلبها من اليونان اللورد إلجن السابق ذكره) في دعم الاتجاه الكلاسيكي، في مواجهة الاتجاه القوطي Gothic، وأنهى الصراع بينهما لصالح الاتجاه الأول في مضمار الأساليب المعمارية· لقد أدت آلاف الأعمدة - من الطراز الإغريقي: الدوري Doric أو الأيوني Ionic أو الكورنثي Corinthian - إلى تحدي جهود الهواة مثل والبول Walpole وبكفورد Beckford لإعادة الأقواس المستدقة (التي تنهتي من الجانبين بنقطة واحدة pointed arches) والشرفات أو الأسوار المفرجة (ذات الفرج أسوة بأسوار قلاع العصور الوسطى حيث كانت هذه الفرج تستخدم لإطلاق السهام وغيرها على العدو) · تلك الشرفات والفرج التي كانت عزيزة على فرسان العصور الوسطى وقديسيها·
وحتى في المباني المدنَّية (غير الدينية) ربحت الأعمدة الجولة، فدار سومرست للسير وليم شامبرز William Chambers (1775 وما بعدها) كانت مثل بارثينون Parthenon واسع، وكان الكثير من بيوت الريف يبدو كالأروقة الإغريقية المعمّدة (ذات الأعمدة) التي تحيط بقصر روماني، ولندع قصر حديقة أشردج Ashridge Park mansion لجيمس وايات James Wyatt (1806 - 1813) يعطينا مثالا راسخا على هذا النوع· وفي سنة 1792 بدأ من سيعرف باسم السير جون سون John Soane وهو ابن أحد البنائين بالآجر - بدأ في إعادة بناء بنك إنجلترا خلف رواق كورنثي (على النسق الإغريقي الكورنثي) مازجاً بين قوس قسطنطين ومعبد الشمس أو القمر·
وبدأت المنافسة القوطية· بمبني هوراس ولبول Horace Walpole لستروبري هل Strawberry Hill (1748 - 1773) ولم تستطع (أي هذه المنافسة القوطية) أن تصمد في وجه طوفان الأعمدة والقباب والقواصر pediments ( جمع قوصرة وهي مثلث في أعلى واجهة المبنى) · وكان وليم بكفورد W. Beckford هو البطل الرومانسي لهذه النشوة الوسيطة (نشوة العصور الوسطى) لقد ولد ثرياً، فقد شغل أبوه منصب رئيس بلدية لندن لمرتين وتلقى تعليما مكثفا؛ تلقى دراسات في البيانو من الشاب موزارت وتدريبات معمارية على يد سير وليم شامبرز ومدرس التاريخ من خلال جولات واسعة زار خلالها المتاحف والمواقع الأثرية·(ملحق/779)
وفي لوزان اشترى مكتبة إدوارد جيبون Gibbon، وبعد إشاعات جنسية مخزية تزوج ليدي مارجريت جوردون Margaret Gordon التي ماتت في أثناء الولادة· وفي هذه الأثناء كتب رواية (فاثك Vathek) التي تعد أقوى الروايات التي استوحت أحداثها من أساطير الشرق، والتي كان لها فضل كبير على الحركة الرومانسية وقد نشرت بالإنجليزية والفرنسية (1786 - 1787) وأثنى عليها اللورد بايرون ثناءً عاطرا· وبدأ في سنة 1796 بمعاونة وايات Wyatt وبكفورد في تشييد مبنى على الطراز القوطي (على شكل كنيسة) في مزرعته في ولشير Wilshire، وملأه بالقطع الفنية والكتب وعاش فيها حياة النساك في الفترة من 1807 إلى 1822 ثم باعها، وتبين أن بالمبنى عيوبا في الأساسات والتصميم أدى إلى انهياره· ومات في باث Bath في سنة 1844 وهو في الخامسة والثمانين من عمره· وقد رسم له جون هوبنر Hoppner صورة شخصية أظهر فيها حبّه له (رسمها حوالي سنة 1800) · والصورة تنطق بروحه الشاعرة وإنسانيته وتأمله الباطني·(ملحق/780)
وقد أضاف جون ناش Nash إلى العمارة البريطانية المتجهّمة لمسةً من مرح الروكوكو rococo ( لمسة من الزخارف ذات الطابع المرح) وأتى ول Well وأعقبه همفري ربتون Humphry Repton ليقوم بدور بستاني فصمم القصور والمباني الواقعة في المزارع الريفية واضعاً في اعتباره توزيع الأكواخ والعرائش والزرائب على الطراز الفرنسي والهندي والصيني· وقد أمتعت هذه التصميمات النبلاء الذين كانوا قد برموا بحياتهم، وأفراد الطبقة العليا · وأصبح ناش Nash ثريا ورعاه الأمير السَّخيُّ · وفي سنة 1811 عهد إليه إعادة تشييد ميل من شارع الوصي على العرش (ريجنت ستريت Regent Street. بدءا من دار كارلتون Carlton House ثم في قوس كبير (شامل) إلى المناطق الريفية· ونوع ناش في خطوط مشروعه مستخدما الأهلة والشرفات جاعلاً مساحات مكشوفة من الحشائش والأشجار بين مجموعات المباني واستخدم الأعمدة ذوات الطرز الأيونية لإضفاء البهجة على قوس الطريق (في وقت لاحق تم تدمير معظم هذا العمل للسماح بمزيد من المباني على حساب الحشائش والأشجار)، لقد كان مشروعا عبقريا في تخطيط المدن لكن تكاليفه صدمت الشعب الذي كان صابراً على الجوع أملاً في إلحاق الهزيمة بنابليون·
ومع هذا فإن الوصي على العرش كان مبتهجاً بعمل ناش فعهد إليه بتجديد الجناح الملكي في بريتون Brighton الذي كان مكاناً أثيرا للأمير وأصدقائه، فأنجز ناش العمل فيما بين عامي 1815 و1823 بتكلفة بلغت 160,000 جنيه إسترليني لقد أعاد بناء الجناح على الطراز الهندي الإسلامي بمآذن ذات اليمين وأخرى ذات الشمال· ومبان أخرى ذوات قباب وكانت صالة المآدب ذات سقف محدّب وزخارف صينية، وبها ثريات على هيئة اللوتس والتنين، وتكلفَّت هذه الصالة 4,290 جنيها إسترلينيا · وكان الانطباع الأول الذي يأخذه المرء عند رؤيتها هو الفخامة الغريبة، وكان الحكم النهائي عليها أنها عمل مسرف سواء في النفقات أم في الزينات والزخارف ·(ملحق/781)
وفي سنة 1820 أصبح الوصي على العرش ملكا· إنه جورج الرابع· وسرعان ما عهد هذا الملك الجديد إلى ناش إعادة بناء دار بكنجهام Buckingham لتكون قصرا ملكيا· ووسط هذا الفقر والاقتراب من الإفلاس الذي أعقب الانتصار على نابليون، راح ناش يعمل حتى مات الملك المبذّر (1830) فاستدعت الحكومة ناش ذلك المعماري الوافر الإنتاج ليوضح لها ما صرفه ويفسّر بعض الأخطاء التي نسبت إليه· قلما كانت إنجلترا في مثل هذا السناء العظيم أو البؤس الشديد·
3 - من الكارتون إلى كونستابل
FROM CARTOONS TO CONSTABLE
كان على آلاف الفنانين البريطانيين - طوال عشرين عاما من الحروب - أن يكافحوا لإطعام أسرهم وتحقيق أحلامهم· ولم يكن أسوأهم حالا من حيث العائد المالي والشهرة رسامو الكاريكاتير الذين ملئوا الصحف برسومهم عن الأحداث الجارية· وكان نابليون هو الموضوع الأثير لدى هؤلاء العباقرة الشياطين· فقد راحوا يهجونه كل يوم هذا "الضئيل الحجم ناتئ العظام" أو هذا "المتوسطي الهجين" كما كانت تسميه صحيفة المورننج بوست Morning Post ويخزونه لإضعاف جهوده الحربية والحط من كبريائه كإمبراطور·(ملحق/782)
وكان أعظم هؤلاء الرسامين الكاريكاتيريين الذين ظلوا يخزون نابليون وخزا مؤلما هو توماس رولاندسون Thomas Rowlandson (1765 - 1827) الذي ولد لأب تاجر غني مولع بالمضاربة شجعه تشجيعا كبيرا لتنمية مواهبه في الرسم، وبعد أن درس في الأكاديمية الملكية قيد نفسه في أكاديمية باريس وعاد إلى إنجلترا فحازت رسومه الإعجاب، وفجأة اعتراه الفقر بسبب خسائر أبيه في القمار، وأقيل من عثرته عندما أرسلت له إحدى قريباته ( aunt) الفرنسيات 35,000 جنيه إسترليني· وكان متحررا في هجاء ما في عصره من سخافات ورياء· لقد رسم كاريكاتيرا عن دوقة تقبل يد جزار طمعاً في صوته الانتخابي، وشخصا سمينا يتلقى خنزيرا كضريبة عشر من فلاح على وشك الموت جوعا، ومجموعة من ضباط البحرية تصطاد البغايا من الشاطئ· وواصل رسم صور مركبة وشاملة: حدائق فوكسهول Vauxhall، مباهج باث Bath، وسلسلة رسوم مرحة صاخبة حققت شهرة على مستوى بريطانيا - رحلات الدكتور سينتاكس Syntax· وأدى غضبه من السياسيين والمهرجين (الصخابين) والأغبياء إلى رسم رسوم كاريكاتيرية فيها مبالغة شديدة، لكنها كانت مبالغة يمكن غفرانها· وكثير من رسومه تحتاج إلى تنقيتها مما فيها من بذاءات، وقد فقد هجاؤه (البحث عن المثالب) كل تعاطف· وإنجازه الفني الأخير ينضح احتقارا للجنس البشري كما لو أن البشرية لم تشهد أما عطوفا ولا رجلاً كريما·
وكانت رسوم جيمس جيلراي James Gillray (1757 - 1815) الكاريكاتيرية أكثر شعبية، فكان الناس يتزاحمون على محلات بيع الكتب للحصول على الطبعات الأولى لرسومه · وقد درس جيمس جيلراي - مثل رولاندسون - في الأكاديمية الملكية وأصبح فناناً مصقولا خصب الخيال وإن كانت خطوطه صارمة· وكاد يضع كل فنه في خدمة الحرب: لقد صور نابليون كقزم وصور جوزيفين كامرأة بذيئة، ورسم فوكس Fox وشريدان Sheridan وهورن توك Horne Tooke ( مؤيّدي الثورة الفرنسية) ينتظرون في نادي لندن حضور الجنرال الثوري المنتصر· وقد انتشرت رسومه الهجائية ذات الأفكار البسيطة والخطوط المصقولة في مختلف أنحاء أوربا وأسهمت في خلع نابليون من فوق عرشه · وقد مات قبل معركة واترلو Waterloo بسبعة عشر يوما·(ملحق/783)
وشهد هذا الجيل كثيرا من الحفارين (النقاشين على الأخشاب أو المعادن) لكن أعمال وليم بليك Blake كانت هي الأكثر خلودا· لقد طور لنفسه طريقة خاصة في الحفر، بل إنه حاول أن يحل الحفر محل الطباعة، بحفر نصوص إلى جوارها رسومها التوضيحية على ألواح نحاسية، لكن قلمه سبق حفره، إذ راح يعبر عن نفسه في خاتمة المطاف بالشعر· وكان متمردا لأنه امتعض من فقره ويرجع هذا إلى كون الأكاديمية رفضت الاعتراف بالحفارين كفنانين ورفضت أن يقدموا أعمالهم في معارضها· ولأنه كان يرفض بشدة وصاياها بضرورة الالتزام بقواعد معينة وبالتقاليد الفنية التي فرضتها· لقد صرح في نحو سنة 1808:
"بأن القضية في إنجلترا ليست مسألة رجل موهوب وعبقري، وإنما لا بد أن يكون خاضعا مشتغلا بالسياسة وثورا قويا، ومطيعا لأوامر النبلاء فيما ينتجه من فن، فإن كان كذلك فهو رجل طيب، وإلا فعليه أن يموت جوعاً "·
وكان بالفعل قد اقترب من الموت جوعا في أوقات عدة لأنه لم يكن يتلقى سوى أجر زهيد لرسوم وأعمال حفر قدر ثمنها في لندن في سنة 1918 بمبلغ 110,000 دولار، ومكنته أعمال الحفر على المعادن التي قام بها لسفر أيوب والتي بلغت 22 لوحة، من العيش بما مقداره جنيهان في الأسبوع في الفترة من 1823 إلى 1825، وقد بيعت هذه اللوحات في سنة 1907 إلى ج· بيربونت مورجان J. Pierpont Morgan بمبلغ 5,600 جنيه إسترليني وهذه اللوحات التي حفرها لسفر أيوب من بين أجمل أعمال الحفر في التاريخ·(ملحق/784)
وكان بليك Blake في موقف وسط بين البيوريتانية puritan ( مذهب ديني مسيحي متشدد) وإنكار المسيحية، كما كان في موقف وسط بين الكلاسيكية والرومانسية، وكان مفتونا بمجموعة تماثيل ميشيل أنجلو (مايكل أنجلو) والرسوم التي رسمها على سقف الكنيسة وأحسّ أيضا ببهاء الجسم الإنساني السليم ورمز له بتجسيد بارز (1780) في عمل جعل عنوانه يوم سعيد بشاب يرتدي ملابس شفافة يعرف الحيوية المنضبطة، ولم يكن للجنس (العلاقة بين الرجل والمرأة سوى مكان متواضع في أعماله) فقد كانت زوجته مطيعة متعاونة محبة فجعلت الإخلاص لها ممكنا، وكانت خطوطه في البداية كلاسيكية صارمة يجعل الخط أهم من اللون والشكل أهم من الصورة الذهبية، لكنه كان كلما تقدمت به السنون وازداد حبه للعهد القديم (الجزء الأول من الكتاب المقدس عند المسيحيين)، ترك قلمه يجول في شخوص خيالية يغمرها بالملابس الكاسية، ووجوه تعبر عن ألغاز الحياة وغموضها ·
وفي أعوامه الأخيرة حفر سبع لوحات لطبعة من طبعات دانتي Dante وحفر وهو على فراش الموت (1827) لوحة أخرى للرب يخلق العالم في قديم الزمان· ومن خلال خياله الراقي وتصوراته لما فوق الطبيعة، وكذلك من خلال دقة خيوطه وبراعتها، أصبح - طوال جيل بعد موته - السلف المعلن لمدرسة ما قبل الرافاييلية Pre-Raphaelite School · وسنلتقي به مرة أخرى في هذه الصفحات·(ملحق/785)
لقد كان السؤال الحيوي بين الرسامين (وهو سؤال ينطوي أحياناً على طلب الخبز والزبد) هو: إلى أي مدى هم متوافقون مع نصيحة الأكاديمية وذوقها؟ لقد كان بعض أساتذة هذه الأكاديمية يوافقون موافقة تنطوي على التشجيع على الموضوعات التاريخية باعتبارها تذكر بالشخصيات المشهورة في الأحداث الخالدة· وكان أساتذة آخرون يمتدحون رسم الشخصيات باعتباره فناً يسبر أغوار الشخصية، وباعتباره فنا يسعد المشاهير الراغبين في تخليد أنفسهم في صور زيتية· وكان عدد قليل جدا من أساتذة الأكاديمية يهتم بالرسوم التي تصور مشاهد من الحياة اليومية لأنها تبدو عامية، أو بتعبير آخر فيها ريح العامة· وكانت رسوم المناظر الريفية تحظى بأدنى موافقة· لقد كان على كونستابل Constable أن يطل يعمل فاقد الأمل في رسم لوحات فن الريف وهو خامل الذكر، ولم تمنحه الأكاديمية عضويتها الكاملة إلا وهو في الثالثة والخمسين·
وفي سنة 1792 مات السير جوشوا رينولدز Joshua Reynolds فاختارت الأكاديمية رئيساً لها أمريكياً مقيماً في إنجلترا إقامة دائمة· إنه بنيامين وست West الذي ولد في سبرنجفيلد Springfield في بنسلفانيا من سنة 1738· وقد أظهر في شبابه موهبة فنية عظيمة حتى إن جيرانه الكرماء أرسلوه للدراسة في فيلادلفيا وبعد ذلك إلى إيطاليا· وبعد أن تشرب التراث الكلاسيكي هناك في الصالات الفنية والمتاحف والمواقع الأثرية انتقل إلى لندن (1763) حيث رسم بعض الصور الشخصية التي جلبت له الأموال، وأعجبت جورج الثالث، فتقدم بعدها لتناول الموضوعات التاريخية· لقد صُدمت الأكاديمية بلوحته (موت ولف Wolfe) (1771) الذي انتزع كندا من مونتكالم Montcalm وفرنسا - صُدمت لأنه صور شخوصا معاصرة بملابس حديثة، لكن كبار السن ذكروا أن نصف قارة أوربا تنحني احتراما للسراويل (البنطلونات) ·(ملحق/786)
وثمة أمريكي آخر هو جون سنجلتون كوبلي John Singleton Copley ولد بالقرب من بوسطن في سنة 1738حقق شهرة برسمه جون هانوك John Hancock، وصامويل آدمز وأسرة كوبلي· وفي سنة1775انتقل إلى لندن وسرعان ما وصل إلى لذروة بلوحته (موت شاتام Chatham) (1779) · وليهرب من مثالية الكلاسيكية الجديدة في رسم الشخوص التاريخية رسم المشهد بواقعية شجاعة، أحدثت - رغم أنها أزعجت الأكاديمية - ثورة في فن الرسم الإنجليزي·
واستمر التعليم في الأكاديمية على أكتاف جوهان هينريتش فوسلي Johann Heinrich Fussli ( من زيورخ) الذي أصبح اسمه في سنة 1764 هنري فوسيلي اللندني (من لندن) وكان وقتها في الثالثة والعشرين من عمره· وبتشجيع من رينولدز غادر إنجلترا في سنة 1770 ليدرس لمدة ثماني سنوات في إيطاليا· وكان نزوعه إلى التحليق الخيالي ذي الطابع الهرطقي غير متفق تماما مع النماذج والأساليب الكلاسيكية، وعندما عاد إلى لندن أيقظ الجمال النائم بلوحته الكابوس (1781) التي صور فيها امرأة جميلة تحلم باقتراب عفريت مرعب منها· (ارتبطت هذه اللوحة بدراسة لسيجموند فرويد Sigmund Freud) ، ورغم اتجاهه الساخر أصبح (فوسلي) أستاذا في الأكاديمية ويسرت محاضراته فيها الانتقال من الرومانسية إلى ما قبل الرافاييلية (اتجاه فني إنجليزي ذو طابع صوفي) ·(ملحق/787)
وقد وضحت أحوال جون هوبنر Hoppner (1758 - 1810) وجون كروم Crome (1768 - 1821) صعوبة حصول الفنانين على ما يمكنهم من العيش برسم الطبيعة، فهوبنر عانى شظف العيش كعاشق للمناظر الطبيعة لكن أحواله انتعشت كرسام للصور الشخصية، وكاد ينافس لورنس في زبائنه وأجره· لقد جلس نيلسون أمامه وكذلك فعل ولينجتون Wellington ووالتر سكوت Walter Scott وعدد من اللوردات· وقصرُ القديس جيمس غني بلوحات هوبنر، وظل كروم في مسقط رأسه نورتش Norwich طوال ثلاثة وخمسين عاما هي كل عمره، ودرس صور هوبيما Hobbema وغيره من الرسامين الهولنديين الكبار وتعلم أن يجعل المشاهد البسيطة المألوفة في حياة العامة سائغة، ولأنه كان ملازما لبلدته لا يكاد يفارقها فقد بحث عن موضوعات للوحاته في المناطق الريفية المحيطة بنوروتش Norwich· لقد وجد هناك منظرا سجله في إحدى أجمل لوحاته (مرج موسهولد) · لقد كانت هذه اللوحة ذروة فنية بالإضافة لما تنطوي عليه من معادن فلسفية ليس هناك ما هو أرقى منها·
أما السير توماس لورنس (1769 - 1830) فاتخذ طريق رسم الصور الشخصية (البورترية portraiture) وهو طريق معترف به ولا يحتاج إلى مقاومة· وكان السير توماس ابنا لصاحب فندق، ولم يتلق قدرا كبيرا من التعليم ولم يتلق إلا قدرا قليلا من التدريب الفني· وكان لابد أن تحار الأكاديمية عندما لاحظ أساتذتها أنه نجح في الالتزام بما يريدون· لقد كان لديه حاسة التقاط الشبه بسرعة، وبسرعة كان يرسمه - في صباه في بريستول Bristol كان يرسمه بقلمه الرصاص، وفي شبابه في باث Bath كان يرسمه بالألوان البستل Pastel ولم يستخدم الألوان الزيتية إلا عندما انتقل إلى لندن (1786) وربما كانت جاذبيته وروحه المرحة هما اللذين فتحا له القلوب والأبواب· وقد كلف وهو لم يتجاوز العشرين بالذهاب إلى وندسور Windsor لرسم صورة شخصية للأميرة شارلوت صوفيا Charlotte Sophia·(ملحق/788)
وتصرف بدبلوماسية شديدة انطبعت على لوحته (ذلك لأن الأميرة لم تكن جميلة) وأدت به دبلوماسيته هذه إلى أن انتخب عضوا مشاركا في الأكاديمية وهو في الثانية والعشرين، ومنح العضوية الكاملة فيها وهو في الخامسة والعشرين· وتنافس ذوو الحيثيات على الجلوس أمامه لرسمهم، ورفض نصيحة كرومويل Cromwell برسم البقع والبثور والتجاعيد كما يرسم الخال والغمازة (المقصود أن يرسم مظاهر القبح ومظاهر الجمال فيمن يرسمهم) ورفض لورنس الأخذ بهذه النصيحة فليس في البثور ذهب (المقصود أن ذلك قد لا يرضي من يرسمه فلا يدفع له مالاً كثيرا) · لقد كان يحسن من ملامح من يرسمه، ولم يكن المرسوم ليعترض على ذلك· فإذا كانت المرأة أو الفتاة التي يصورها يعوزها الجمال، عمد إلى رسمها بملابس رقيقة شفافة جميلة، ورسم يديها جميلتين دقيقتين، وجعل عينيها فاتنتين، وجعلها في وضع (بوز Pose) درامي (مثير) ·
وتعد لوحته (بورتريهه) للوصي على العرش التي أظهره فيها وسيما جميلا نموذجا نمطيا للوحاته· وقد رسم هذه اللوحة السابق ذكرها في سنة 1815· وفي بعض الأحيان كان يضفي شيئا من الغرابة الباعثة على السعادة في صوره كما في صورته ( Pinkie) في جاليري (رواق) هنتجتون Huntington Gallery، لكن لوحاته التي رسم فيها الرجال كانت تفتقد الطبيعة القوية التي نجدها في رسوم رينولدز Reynolds· لقد كسب لورنس الكثير وأنفق الكثير وأصبح محبوب عصره· وعندما مات حفه موكب جنائزي فخم إلى مثواه الأخير في كنيسة القديس بول·
وأصر جون كونستابل (1776 - 1837) على رسم المناظر الطبيعة، ولم يتزوج حتى الأربعين· وكان والده هو طحان miller سوسكس Sussex، وقد قدم الدعم المالي لابنه لدراسة الفن في لندن لمدة عامين عندما لمس مواهبه، لكن تطور جون كان بطيئا، فعاد في سنة 1797 إلى سوسكس ليعمل في طاحونة أبيه، وظل يواصل الرسم في أوقات فراغه، وأرسل بعض أعماله إلى الأكاديمية فأتاحت له فرصة الالتحاق بمدرستها، فعاد إلى لندن في سنة 1799 بموافقة أبيه بتشجيع من بنيامين ويست West، ورسم له ريتشارد ريناجل Reinagle - وهو فنان زميل له - صورة شخصية في العام نفسه·(ملحق/789)
وربما قرأ أشعار وردزورث عن المناظر حول بحيرة وندرمير Windermere، لأنه كان يرى الله في كل ورقة شجر· وفي سنة 1806 قام برحلة في أنحاء منطقة (دائرة) البحيرة فدرس الجبال يحتضنها الهضاب، والحقول تهطل عليها الأمطار الهادئة، وعاد إلى لندن وقد قوي عزمه على وقف فنه للطبيعة·
لقد قال عن لوحته التي عالج فيها الطبيعة أنه يأمل أن يخلّد لحظة قصيرة أمسك بها من زمن سريع الزوال ليجعل لها وجودا دائماً رزينا وفي هذه الأثناء كان يتلقى تكليفات عرضية مكنته من تدبير أمر طعامه وسكناه· وأخيرا في سنة 1811 رسم لوحته العظيمة التي حازت الإعجاب - وادي ددهام Dedham Vale وهي بانوراما panorama ( مشهد عام) لإسكس Essex في شمس منتصف النهار·
وفي ذلك العام فيما يبدو وقع في حب ماريا بكل Maria Bickell التي رحبت باهتمامه بها لكن أباها منعها كي لا تنحط بقبول شخص ذي دخل منحط مثل كونستابل، ولم تكن تنقضي خمس سنوات حتى مات والده فأورثه دخلا ثابتا فعاود التقدم لطلب ماريا فوافق أبوها فانطلق كونستابل بعروسه واحتفى بها برسم صورة (بورتريه) لها لا زالت تزين جدار تيت جاليري (رواق تيت Tate Gallery) وبعد ذلك راح يرسم أجمل لوحات المناظر الطبيعية، التي لم تكن إنجلترا قد شهدت مثيلا لجمالها قبله·
لم تكن لوحاته مثيرة مدهشة كلوحات تيرنر Turner لكنها كانت تحتفي بأدق التفاصيل حتى ورقة الشجرة كما كانت تركز على الهدوء والسلام والثروة الخضراء في الريف الانجليزي· وفي هذه الفترة السعيدة قدم للأكاديمية (طاحونة فلا تفورد Flatford Mill ((1817) والحصان الأبيض (1819) والهاي وين Hay Wain (1821) وكاتدرائية سالسبوري Salisbury (1823) وحقول القمح (1826) وكانت كل لوحة من هذه اللوحات حدثا فنيا وحازت الإعجاب وكثيرا من الإطراء·
وفي سنة 1824 قدم الهاي وين (اسم لعربة تجرها الخيول) لتعرض في صالون باريس، وفي 1825 عرض (الحصان الأبيض) في ليل Lille وفازت كلتا اللوحتين بالميدالية الذهبية واحتفى الفرنسيون بكونستابل كأستاذ في فنه· وأحست أكاديمية لندن بتقصيرها في حقه فمنحته أخيرا عضويتها الكاملة (1829) ·(ملحق/790)
لقد أتى التكريم متأخراً فلم يكن له عنده معنى كبير، لأن زوجته ماتت في هذا العام نفسه بالسل الذي تفاقم ربما بسبب تلوث جو لندن بالسخام· وواصل كونستابل رسم المناظر مثل (مزرعة الوادي) و (جسر واترلو) لكن تكاد تكون كل أعماله الأخيرة تعكس ما يتحمله من أحزان، إذ ظل يلبس ملابس الحداد حتى موته المفاجئ·
4 - تيرنر TURNER: من 1775 إلى 1851 م
كان چوزيف وليم تيرنر معتزاً بنفسه وباسمه ولم يسمح أبداً لنقد معاد أو حب عنيف محطم بتعويق مسيرته نحو التفوق المطلق في مجاله· ولد في 23 أبريل سنة 1775، وربما شارك شكسبير في يوم الميلاد وكذلك الشهر· وكان أبوه صاحب محل حلاقة في ميدن لين Maiden Lane خلف الكوفنت جاردن Covent Garden، وهو مكان لا يكاد يكون ملائما لفنان المناظر (الطبيعة)، فعلى وفق لكاتب سيرة ذاتية متقدم زمنا كانت ميدن لين منطقة كئيبة مسواة بالطين، مزدحمة تعج بصيحات البائعين· وكان بالقرب من محل الحلاقة خان يغني المترددون عليه بأصوات منكرة· أضف إلى هذا أن أخت وليم سرعان ما ماتت وأصبحت أمها مجنونة لكن الطبيعة والظروف عوضا الصبي شيئا ما فجعلته قوي البدن حديد الإرادة، واقعي العقل، لا تهتز ثقته بنفسه فاستعان بهذا كله ليقاوم طوال ست وسبعين سنة الأزمات والنكبات والنقاد والجراثيم·
ورأى فيه والده علامات الموهبة، كما رأى أن مكانه ليس في ميدن لين، فأرسله وهو في العاشرة ليعيش مع عمه، وليلتحق بالمدرسة في برنتوود Brentwood في ميدلسكس Middlesex· وفي غضون عامين رسم الصبي لوحات فنية حتى إن والده الفخور علق بعضها في محل الحلاقة وعلق بعضها الآخر حول المحل، وعرضها للبيع· وذكر رجل دين كان يحلق عند أبيه بعض هذه اللوحات بخير عند صديق له في الأكاديمية، وسرعان ما أجري له اختبار في الأكاديمية فاجتازه بنجاح فقبل طالبا في مدرستها وهو في الرابعة عشرة من عمره، وبعد ذلك بعام سمح له بعرض لوحات بالألوان المائية في معرض الأكاديمية·(ملحق/791)
وفيما بين عام 1789 و1792 كان يقضي فترة الإجازة متجولا في الريف ومعه دفتر الرسم (دفتر الإسكتشات) · لقد ذهب بعيدا حتى أكسفورد وبريستول وويلز، ولازالت هذه الاسكتشات sketches الشائقة التي سجل فيها الأرض والشمس والبحر موجودة في المتحف البريطاني· وكان يبيع رسومه وهو في التاسعة عشرة من عمره للمجلات، وفي الحادية والعشرين بدأ يعرض لوحاته الزيتية في الأكاديمية، وفي الرابعة والعشرين ثم اختياره عضوا مشاركا، وفي السابعة والعشرين أصبح عضوا كامل العضوية (في الأكاديمية) وبعد أن أصبح مستقلا من الناحية المالية بفضل ما باعه من لوحات افتتح في سنة 1800 مرسماً (ستوديو studio) واسعا في 64 شارع هرلي Hurly وأتى أبوه ليعيش معه كمساعد وممثل تجاري له· وكان هذا الحب المتبادل بين الوالد وابنه متمشيا مع عزوف الفنان الابن عن الزواج، فلم يكن جذابا من الناحية البدنية ولم يكن مليح الوجه، وكان ذا طباع فيها القليل من الجاذبية· لقد كان رجلا منشغلا ظل نحو نصف قرن يسيطر على الفن في إنجلترا ويسوده بأعماله الرائعة الكثيرة·
وعمد كتاب السير إلى تقسيم حياته إلى ثلاث مراحل لتيسير دراستها ومحاولة فهمها· المرحلة الأولى (1787 - 1820) كان يميل فيها إلى الموضوعات التاريخية لكنه حولها إلى دراسات للشمس والبحر· وفي سنة 1799 كان من بين الرسامين الأربعة الذين احتفوا في معرض الأكاديمية بانتصار نيلسون وتحطيم أسطول نابليون في (أبو قير)، وفي سنة 1802 قام بأول رحلة له خارج بلاده، وعندما اقتربت السفينة التي تقله من كاليه Calais ارتفعت الأمواج عالية وهبت العاصفة الشديدة، فدبر تيرنر وبعض الركاب أمر الوصول إلى الشاطئ بقارب تجديف، وتناول - على الشاطئ - كراسة الرسم (الاسكتشات) وراح يخطط المنظر المعقد لسفينة تناضل ضد العاصفة، وبعد ذلك بعام عرض في لندن لوحته القماشية الضخمة (رصيف كاليه Calais Pier) قدم فيها تفاعله مع مناظر السحب السوداء والبحار الغاضبة والرجال الشجعان ومن فرنسا أسرع إلى سويسرا ليرسم 400 لوحة للجبال وهي تتحدى السماء بشموخها· لقد أصبحت رسومه (إسكتشاته) كذاكرة ثانية له·(ملحق/792)
وعندما عاد إلى لندن وجد النقاد الأكاديميين يشكون من أنه وضع ألوانه ثقيلة وباضطراب وبشكل طائش وخلطها بشكل ينافي كل السوابق المعقولة، ذلك أن طريقته تجاهلت التعاليم التي علمها الراحل سير جوشوا رينولدز Sir Joshua Reynolds للأساتذة Masters القدامى الذين خلفوه كما تتجاهل القواعد التقليدية المرعية·
وقد احترم تيرنر ذكرى الدكتاتور الرفيق (المقصود رينولدز) ولكنه أطاع ما تمليه عليه شخصيته· ومن الآن فصاعدا أصبح هو أوضح الأصوات المعبرة عن الثورة الرومانسية في مواجهة الموضوعات القديمة والقواعد العتيقة، والمحاكاة الحرفية للواقع والالتزام بما هو معتاد مما يخنق التجربة ويقيد الخيال· وقد واجه ناقديه بعرض لوحة (سفينة جانحة أو جنوح سفينة) في الاستوديو الخاص به في سنة 1804 وكانت اللوحة توضّح قسوة الطبيعة وهيمتها على الإنسان· وحظيت اللوحة بالإعجاب، وبعد ذلك بعام أحبه البريطانيون كثيرا لاحتفائه بانتصار نيلسون في معركة الطرف الأغر·
لقد كانت لوحته فوضى من السفن والرجال والعناصر الأخرى لكن هكذا تكون المعارك· ومع هذا فقد أحس النقاد إزاءها بالارتباك:
لقد كان كل ما يستخدمه تيرنر هو الألوان، وليس هناك خط واحد، وحتى الألوان بدت وكأنما رشرشها دون أن يقصد تكوين شكل محدد، بل وجعلها موضوعا في حد ذاتها· لقد كانت القصور والصروح والمباني والبشر في لوحاته (المرسومة على كانافاه canvases) بقعاً غير محددة ونقطا تشير إلى المعنى كما لو كان الفنان قد سلم بعجز الإنسان في مواجهة الطبيعة الساخطة·
وهذا لا يمنع من وجود استثناءات مبهجة كما في لوحة الشمس تشرق من خلال الضباب (1807) لكن في لوحته هانيبال يعبر الألب (1812) نجد كل معاني البطولة البشرية يضيع وسط السحب السوداء والصفراء التي تمثل دوامة فوق جنود يرتعدون خوفا· أكان هذا الفنان الجامح عدوا للجنس البشري؟ ·(ملحق/793)
لقد واصل تيرنر منهجه مُعْمِلاً فرشاته بقوة وحيوية عازما فيما يظهر على محق الحياة والبشر من فوق الأرض، مُخليِاً إياها إلا من الشمس والسحب والجبال والبحار الهائجة· لكنه لم يكن عدوا للبشرية تماما فقد كان قادرا على تكوين علاقات دافئة وطور صداقات هادئة مع السير توماس لورنس المناقض له في أسلوبه الفني وفي نظرياته الفنية· ولم يكن تيرنر يعترف بأية نبالة سوى نبالة العبقرية، وكان مخدوعا شيئا ما من العوام، وكان يحب عمله وخصوصيته، وكان يشعر - مثل ليوناردو Leonardo - أنه إذا كنت متفردا كلية فستكون كلية نفسك أي خير معبر عن نفسك ولم يكن له عقيدة إيمانية يمكن التأكد منها فيما يتعلق بأي وجود فوق الطبيعة (غيبي)،
فقد كان إلهه هو الطبيعة وقد وجه إليها نوعاً من العبادة خاصا به - عبادة ليست من نوع عبادة وردزودث الذي بحث في حكمتها وجمالها، وإنما راح تيرنر يركز على بقائها وإلحاحها وسطوتها، وكان يعلم أنها ستغمره أيضاً وستغمر الإنسان في زمنها الشرس المروع· ولم يزعج نفسه كثيرا بشأن الأخلاق· لقد كان لديه خليلة أو خليلتان، وجعلهما - بشكل رقيق - مقتصرتين عليه، ورسم بعض الصور الزيتية العارية ذات طابع جنس فتم تدميرها ذات مرة عندما وقعا في يد روسكين Ruskin وكان يحب المال ويتقاضى أثمانا باهظة وخلف ثروة· لقد كان ألماسا خاما "سوليتير solitaire"·(ملحق/794)
وبدأ في المرحلة الثانية (1820 - 1833) رحلة إلى إيطاليا بحثا عن دفء الشمس، وخلال هذه الرحلة التي استغرقت ستة أشهر رسم خمسة عشر إسكتشا، وبعد عودته إلى إنجلترا حول بعضها إلى لوحات حاول فيها استخدام أساليب جديدة في اللون والضوء والظلال مثل (خليج بايي Baiae) 1823 جعل كل شيء فيها ينطق - حتى الظل· ومرة أخرى في فرنسا (1821) استخدم الألوان المائية في رسم نهر السين وجعله يتألق منيرا· في 1825 - 1826 تجول في بلجيكا وهولندا وأحضر إلى بلاده إسكتشات حول بعضها إلى لوحات مثل (كولوني Cologne) و (ديبي Dieppe) وهي الآن في مجموعة الفريك Frick في نيويورك· وفي سني الثلاثين من هذا القرن كان بين الحين والحين ينعم بضيافة اللورد إجريمونت Egermont في بتورث Petworth وكان كعادته ينشغل بعمله لكنه أعطى لمضيفه لحظة خالدة بلوحته (البحيرة عند الغروب)
وفي مرحلته الأخيرة (1834 - 1845) راح يستسلم أكثر فأكثر لإغراء الضوء، فغالبا ما كانت تختفي في لوحاته الأشياء فلا يتبقى إلا دراسة فاتنة للألوان والتألق والظلال، وفي بعض الأحيان كان يترك الأشياء تلعب دورا أساسيا كما في لوحته Fighting temeraire towed to her Last berth (1839) أو لوحته (المطر والبخار والسرعة) (1844) التي تمثل إعلانا حركيا فخورا لقرن من الخيول الحديدية· وعندما احترق مبنى البرلمان في سنة 1834 جلس تيرنر بالقرب منه يرسم إسكتشات لآخر لوحاته عن هذا المشهد· وعندما كان يعبر من هاروتش Harwich تعرضت سفينة لريح مجنونة وهطل عليها الجليد فاندفع الفنان الهرم نحو الساري (ساري المركب) وظل عنده طوال أربع ساعات حتى يحفر في ذاكرته تفاصيل المشهد وما فيه من رعب ورسمه بعد ذلك مستخدما اللون الأبيض بكثرة في لوحته عاصفة ثلجية (1842)، وفي سنة 1843 حقق نصره الأخير بلوحته (شمس البندقية تتجه للبحر) ·(ملحق/795)
واسودت سنوات عمره الأخيرة بذروة الإجماع على إدانته، وإن خفف وطأة ذلك عنه ما كاله له سيد النثر الإنجليزي من مديح· لقد انتقد أحد النقاد لوحة (العاصفة الثلجية) باعتبارها مجرد رغوة صابون ودهان أبيض ولخص آخر أعمال الفنان في حقبته الأخيرة بأنها نتاج عين مريضة ويد طائشة واقترح شرابا مخلصا من عناصر شتى كعنوان عام لأي لوحة من لوحات تيرنر (إعصار استوائي) يضرب (برياح سمومه) (دوامة) محدثا (اضطرابا عظيما) و (سفينة تحترق) وقت (الكسوف)، وتأثير (قوس قزح القمري) - لقد بدت الأعمال الكاملة لهذا الفنان الكبير المتألق بعد نصف قرن من العمل - حقيرة مرفوضة في نظر أصحاب الاتجاه المحافظ·
وفي مايو 1843 أصدر جون روسكين John Ruskin وكان في الرابعة والعشرين المجلد الأول من كتابه (رسامون معاصرون Modern Painters) ، ألح فيه بحماس على تفوق تيرنر على كل رسامي المناظر المحدثين، والحيوية البالعة التي عبر فيها تيرنر عن العالم (الوجود) الخارجي (خارج ذاته) حتى إنها تعد أفضل تقرير عن هذا العالم (الوجود)، ووجد تيرنر نفسه في درجة أعلى من كلود لورين Claude Lorrain الذي كان يستلهم رسومه من مطلع شبابه، ولم يكن هذا غريبا بالنسبة إليه، لكنه كلما واصل قراءة كتاب روسكين راح يتساءل: "ألن يضره هذا المديح المبالغ فيه؟ " لقد أضره فعلا ولكن لفترة· لقد راح النقاد يثنون على كتاب روسكين لكنهم راحوا يناقشون أحكامه طالبين حكما أكثر توازنا، ولم يتقيد روسكين بهذا النقد فراح يكرر في مجلد إثر مجلد دفاعه عن تيرنر وتمجيده له حتى كاد يخصص لتيرنر ثلث كتابه ذي الألفي صفحة· وأخيرا كسب معركته وعاش حتى رأى فنانه المحبوب وقد اعترف به الجميع كواحد من أعظم المبدعين في الفن الحديث·(ملحق/796)
وفي هذه الأثناء مات تيرنر (19 ديسمبر 1851) وتم دفنه في مقبرة كنيسة القديس بول، وكان قد أوصى بأن تكون أعماله الفنية للأمة - 300 سكتش، 300 لوحة بالألوان المائية، 19,000 تخطيط (رسوم تخطيطية) وترك 140,000 جنيه إسترليني لإنفاقها على الفنانين الفقراء (حصل أقرباؤه الأحياء بعد موته على قرار ببطلان الوصية وقسموا الأموال بين أنفسهم ومحاميهم) وربما كان أعظم تراثه هو اكتشافه للضوئية (نزعة في التصوير الحديث)، وفي هذا الجيل نفسه صاغ توماس يونج Young نظريته عن الأمواج الضوئية، لقد نشر تيرنر عبر أوروبا رسومه التي طبق فيها هذا الأسلوب (الضوئي) وكذلك لوحاته بالألوان المائية، معلنا أن الضوء هو (موضوع) للرسم كما أنه (وسيلة) للرسام أو (وسط) يرسم فيه الأشياء، وبالتالي فهو يستحق أن يمثل بأشكاله المختلفة وألوانه وتشكيلاته وتأثيراته·
تلك هي الانطباعية impressionism ظهرت على يد تيرنر فبل ظهور الانطباعيين Impressionists· وربما كان مانت Manet وبيسارو Pissarro قد رأوا بعض أعمال تيرنر التي استخدم فيها هذا الأسلوب عند زيارتهم للندن في سنة 1870 · وبعد ذلك بسبع سنين أرسل ديجاس Degas، ومونت (مونيه) Monet وبيسارو، ورينوار Renoir، خطاباً إلى تاجر أعمال فنية، ذكروا فيه أنه في دراساتهم للظاهرة الهائمة للضوء لم ينسوا أنه قد سبقهم في هذا الاتجاه أستاذ عظيم لمدرسة فنية إنجليزية - إنه الفنان الشهير - تيرنر ·(ملحق/797)
الفصل الثامن عشر
العِلْم في إنجلترا
1 - سُبُل التقدم
لقد كانت إنجلترا تقود النَّقلة من الزراعة إلى الصناعة، وكان طبيعيا أن تشجع تلك العلوم التي تقدم إمكانات عملية، تاركة الدراسات النظرية للفرنسيين، وكان من المتوقع أن يكون فلاسفتها في هذه الفترة - بورك Burke ومالتوس Malthus وجودوين Godwin وبنثام Bentham وبين Paine - رجال دُنيا يواجهون المشاكل أو القضايا الحية، والأخلاقية والدينية والسكانية والحكومية والثورية، تاركين للفلاسفة الألمان التحليق في أجواء المنطق والميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة metaphysics) والدراسات الفلسفية لتطور العقل (فينومينولوجيا العقل phenomenology of mind) · وقد أعلنت جمعية لندن الملكية لزيادة المعلومات في مجال العلوم الطبيعية Natural عند تشكيلها في سنة 1660 أنها تعمل على تأسيس كلية لتحسين التعليم التجريبي الفيزيائي الرياضي·
لكنها لم تصبح كلية بمعنى أنها لم تصبح مؤسسة أو منظمة لتخريج معلمي الشباب في المرحلة الثانوية وإنما تطورت لتصبح ناديا مقتصر على خمسة وخمسين عالما، يجتمعون بشكل دوري للتشاور وتكوين مكتبة تضم كتب العلوم والفلسفة ويقدمون للجمهور المهتم المحاضرات والتجارب، ويقدمون الأوسمة لذوي الإسهامات العلمية، وينشرون في المناسبات مطبوعا بعنوان المدونات الفلسفية Transactions Philosophical· وكانت الفلسفة لا تزال تضم العلم بين جنبيها وقد تبرعمت العلوم وانبثقت منها علماً في إثر علم نتيجة إحلال الصياغات الكمية والتجارب اليقينية محل المنطق والنظر المجرد· ونظمت الجمعية الملكية - بدعم حكومي عادة - مشروعات ومهام علمية·
وفي سنة 1780 خصصت الحكومة لها مقراً أنيقا في دار سومرست Somerset House ظلت به حتى سنة 1857 حيث انتقلت إلى مقرها الحالي في دار بيرلنجتون Burlington House في بيكادلي Piccadilly وأنفق السير جوزيف بانكس Banks - رئيسها في الفترة من 1778 إلى 1820 - كثيرا من أمواله للارتقاء بالعلم ورعاية العلماء· وكانت مؤسسة لندن الملكية - الأقل شهرة من الجمعية الملكية، وإن كانت أهدافها أكثر وضوحا من حيث كونها مؤسسة تهتم بالتعليم -(ملحق/798)
قد أسسها الكونت رمفورد Rumford في سنة 1800 لتوجيه الاكتشافات الجديدة في مجال العلوم لخدمة الفنون والصناعات، وذلك عن طريق تقديم دراسات نظامية - محاضرات فلسفية وتجارب (معملية أو ميدانية) وأتاحت مبنى شاسعاً في شارع البيمارل Albemarle لتقديم برامجها التعليمية فألقى فيه جون دلتون Dalton وسير همفري ديفي Humphry Davy محاضرات في الكيمياء، وتوماس يونج Young محاضرات في الطبيعة وانتشار الضوء، وكولردج Coleridge محاضرات في الفكر والأدب وسير إدوين لاندسير Edwin Landseer محاضرات في الفنون ··· وكانت هناك جمعيات أكثر تخصصا كجمعيات الشلالات التي اندمجت في سنة 1802 في جمعية للنبات،
والجمعية الجغرافية (1807) وسرعان ما ظهرت بعد ذلك جمعية لعلم الحيوان وأخرى للبساتين وثالثة للكيمياء الحيوية ورابعة للفلك، وأسست مانشستر وبرمنجهام جمعياتها الفلسفية رغبة منها في تطبيق العلم على صناعاتها، وأقامت بريستول Bristol معهد دراسة الغازات، وتم تكوين أكاديميات لشرح العلوم وتبسيطها للجمهور العام· وقدم ميشيل فاراداي Michael Faraday في إحدى هذه الأكاديميات وهو في الخامسة والعشرين من عمره سلسلة محاضرات أسهمت طوال نصف قرن في حفز البحوث في مجال الكهرباء·
وقد ألقى ميشيل محاضراته هذه سنة 1816، وبشكل عام، ففي التعليم العلمي، كان مجتمع رجال الأعمال في طليعة الجامعات كما جرى كثير من التقدم العلمي في مجال العلوم على أيدي أفراد مستقلين (غير تابعين لمؤسسات علمية أو تعليمية) يدعمهم أو يمولهم أصدقاؤهم· لقد تخلى البريطانيون عن الرياضيات للفرنسيين، وراح العلم البريطاني يركز على الفلك والجيولوجيا والجغرافيا والفيزياء والكيمياء·
لقد اهتم التاج البريطاني بعلم الفلك ووضعه تحت حمايته وقدم لبحوثه الإعانات المالية، لأنه علم حيوي للملاحة ويساعد في السيطرة على البحار· واعترف بمرصد جرينتش Greenwich بما فيه من أدق المعدات التي أمكن شراؤها بالأموال التي أقر البرلمان صرفها - بأنه على قمة المراصد الأخرى· ونشر جيمس هتون Hutton سنة 1795 قبل موته بعامين مبحثه نظرية الأرض وهو مبحث جيولوجي كلاسيكي:(ملحق/799)
يلخص الحياة العامة لكوكبنا من خلال عمليات دورية يقوم المطر في كل دور منها بجرف سطح الأرض فتنشأ الأنهار نتيجة التعرية الذي تسببه الأمطار أو تحمل الأنهار بدورها نتيجة التأكُل إلى البحر، وتتبخر المياه والرطوبة من فوق سطح الأرض فتصير سحابا، وبتكثيف المياه في السحب تنزل مرة أخرى مطرا···
وعند الطرف الآخر لهذا العصر (1815) حقق وليم سميث W. Smith - الملقب بستراتا سميث أو سميث طبقات جيولوجية Strata Smith - شهرة لبحثه المركز الذي لا يزيد عن خمس عشرة صفحة والذي يحمل عنوان خريطة جيولوجية لإنجلترا وويلز ويظهر هذا البحث أن طبقات جيولوجية تتجه تدريجيا نحو الشرق صاعدة حتى تصل في النهاية إلى سطح الأرض، وتقدم لنا في أثناء اتجاهها الصاعد أشكال الحياة في العصور الجيولوجية السابقة كما تظهر في المتحجرات الحيوانية والنباتية في العصور الجيولوجية المختلفة، وقد قدمت له الحكومة البريطانية راتبا سنويا مقداره مائة جنيه إسترليني مدى الحياة بدءا من عام 1831 مكافأة له لكشفه عن أسرار باطن الأرض، وتوفي وليم سميث سنة 1839·
واستمر الملاحون البريطانيون في شرح زوايا الأرض والبحر وشقوقها· وفيما بين عامي 1791 و1794 رسم جورج فانكوفر G. Vancouver خريطة لسواحل أستراليا ونيوزيلندا وهاواي والباسيفيكي شمال غرب أمريكا، وهناك دار مبحرا حول الجزيرة الفاتنة التي تحمل اسمه·
2 - الفيزياء: رمفورد، ويونج
RUMFORD & YOUNG
من الصعب أن تحدد جنسية بنيامين طومسون Thompson الذي ولد سنة 1753 وأقام في أمريكا وحصل على رتبة فارس في إنجلترا وأصبح هو الكونت رمفورد في بافاريا Bavaria ومات في فرنسا سنة 1814· واتخذ جانب بريطانيا في أثناء حرب الاستقلال الأمريكية وانتقل إلى لندن في سنة 1776· وأعادته بريطانيا كوزير في مستعمرة جورجيا، وقد امتد اهتمامه ليشمل العلوم إلى جانب اهتمامه السياسية وقام بأبحاث علمية ضمنت له زمالة الجمعية الملكية·(ملحق/800)
وفي سنة 1784 دخل - بإذن من الحكومة البريطانية - في خدمة بافاريا التي كان يحكمها الأمير ماكسميليان جوزيف - Maximilian Joseph وفي غضون الأحد عشر عاما التي قضاها وزيراً للحرب والشرطة في بافاريا أعاد تنظيم الجيش وحسن أحوال الطبقة العاملة وقضى على التسول ومع هذا فقد وجد لديه من الوقت لكتابة أبحاث لدورية الجمعية الملكية المدونة الفلسفية وقد جعله ماكسميليان - اعترافاً منه بفضله - كونت الإمبراطورية الرومانية المقدسة (1791)، ويظن أن لقبه هو اسم مكان ميلاد زوجته (الآن كونكورد Concord) في ماساشوستس ·
وفي غضون عام قضاه في بريطانيا (1795) عمل على تنظيم وسائل التدفئة والطهي بقصد تخفيف حدة التلوث في الهواء، وبعد عام آخر قضاه في الخدمة في بافاريا عاد إلى إنجلترا وأسس مع السير جوزيف بانكس Banks المؤسسة الملكية Royal Institution، وأسس نظام تكريم العلماء المعروف باسم وسام رمفورد الذي تمنحه الجمعية الملكية وكان هو نفسه أول من حصل عليه· وقدم أموالا لجوائز وأوسمة مماثلة تقدمها أكاديميات الفنون والعلوم في بافاريا وأمريكا ولأستاذية رمفورد في جامعة هارفارد·
وبعد وفاة زوجته انتقل إلى باريس (1802) واتخذ لنفسه مسكنا في أوتيل Auteuil وتزوج من أرملة لافوازيه Lavoisier ظل في فرنسا رغم تجدد حربها مع إنجلترا· وظل نشيطا إلى آخر حياته وعمل في آخر أعوامه على إطعام العامة المعوزين من فرنسيين حساء رمفورد وكان نابليون قد أخذ معه كل أبنائهم (جنّدهم) وانطلق إلى قدره·(ملحق/801)
كانت إسهامات رمفورد في العلوم متباينة وعرضية بدرجة لا تجعلها دراماتيكية مذهلة، لكن إذا جمعناها معاَ وجدناها تمثل مجموعة عناصر مؤتلفة جديرة بالملاحظة نظراَ لانشغاله بالأعمال الإدارية، وبينما كان يراقب تجويف مدفع في ميونخ فوجئ بالحرارة الشديدة الناتجة من العملية· ولقياس هذه الحرارة رتب الحصول على أسطوانة معدنية دوارة ورأسها في مواجهة مثقب من الصلب وكلاهما الأسطوانة والمثقاب في صندوق محكم يحتوي على ثمانية عشر رطلا وثلاثة أرباع الرطل من المياه· وفي غضون ساعتين وثلاثة أرباع ساعة ارتفعت حرارة الماء من ستين درجه فهرنهيت Fahrenheit إلى 212 - درجة الغليان ·
وقد ذكر رمفورد في وقت لاحق كان من الصعب أن نصف الدهشة التي اعترت المشاهدين عند رؤيتهم هذا القدر الكبير من المياه يصل إلى درجة الغليان دون استخدام نيران وقد أثبتت هذه التجربة أن الحرارة ليست جوهرا أو مادة وإنما هي أسلوب للحركة الجزيئية تتناسب في الدرجة مع كمية الجهد المبذول لإنتاجها· وكان هذا الاعتقاد سائدا منذ فترة طويلة لكن تجربة رمفورد كانت هي الدليل التجريبي الأول، كما أنها كانت طريقة (منهجاً) لقياس المعادل الميكانيكي للحرارة - أي كمية العمل المطلوبة لتسخين رطل من المياه درجة حرارية واحدة·
ويكاد يكون توماس يونج مثل مونتيني Montaigne في تباين اهتماماته· ولد في سنة 1773 من أسرة على مذهب الكويكر Quaker في سومرست· لقد بدأ متعلقاً بالدين وانتهى مخلصا الإخلاص كله للعلم· وهناك ما يؤكد لنا أنه كان قد قرأ الكتاب المقدس المسيحي وهو في الرابعة من عمره وكان يستطيع الكتابة بأربع عشرة لغة وهو في الرابعة عشر من عمره وتم انتخابه وهو في الواحدة والعشرين من عمره كزميل في الجمعية الملكية، وفي الثمانية والعشرين كان يقوم بتدريس الفيزياء في المؤسسة الملكية، وفي سنة 1801 بدأ هناك التجارب التي أكدت - وطورت- فكرة هويجنز Huyghens عن الضوء كموجات لأثير افتراضي·(ملحق/802)
وبعد مناقشات طويلة أزاحت هذه النظرية بشكل عام - وليس على مستوى العالم - نظرية نيوتن Newton عن الضوء كإشعاع لجسيمات مادية، وقدم يونج أيضا فرضا مؤداه أن إدراك اللون يعتمد على وجود ثلاثة أنواع من الألياف العصبية في شبكية العين حساسة - على التوالي - للأحمر والبنفسجي والأخضر، وقد طور هيلمهولتس Helmholtz هذا الفرض فيما بعد· وقدم لنا أول وصف لحرج البصر (اللابؤرية أو اللا استجمية astigmatism) وضغط الدم والجاذبية الشعرية والمد والجزر وشارك بنشاط (1814) في فك رموز حجر رشيد· وقال مؤرخ طبي مثقف إنه كان أكثر الأطباء ثقافة وعلماً في عصره وأضاف هيلمهولتس قائلا "إنه كان أوضح الناس بصيرة" ·
3 - الكيمياء: دالتون وديفي
DALTON AND DAVY
في العقد نفسه، وأيضا في المؤسسة الملكية نفسها أحدث دالتون ثورة في مجال الكيمياء بنظريته الذرية atomic theory (1804) لقد كان ابنا لنساج من طائفة الكويكر· ولد في سنة 1766 في إيجلسفيلد Eaglesfield بالقرب من كوكرموث Cockermouth في الطرف الشمالي لمنطقة البحيرة الضبابية الرائعة Lake District التي أنجبت الشعراء: وردزورث Wordsworth وكولردج Coleridge وسوثي Southey· وفي وقت لاحق كتب على لسان شخص ثالث ملخصاً اهتماماته الأولى في عرض زمني مجرد لم يخف طموحه الحار الذي أضاء أمامه طريق الإنجاز:(ملحق/803)
كاتب هذه ··· درس في مدرسة القرية··· حتى سن الحادية عشرة· وفي هذه الفترة قطع شوطا في دراسة حساب المساحات والأحجام، والمساحة والملاحة ···الخ، وبدأ في سن الثانية عشرة في التدريس في مدرسة القرية ···وكان يعمل في المناسبات لمدة عام أو أكثر في مجال الزراعة وتربية الحيوانات الداجنة، وانتقل إلى كندال Kendal وهو في الخامسة عشرة من عمره مساعداً في مدرسة مؤقتة (مشيدة من الألواح الخشبية) وظل في هذا العمل مدة ثلاث سنوات أو أربع، ثم أخذ على عاتقه إقامة مدرسة على نسق هذه المدرسة وقضى ثماني سنوات فيها وبينما كان في كندال كان يقضي وقت فراغه في دراسة اللاتينية واليونانية والفرنسية، والرياضيات مع الفلسفة الطبيعية natural، وفي سنة 1793 انتقل إلى مانشستر معلماً للرياضيات والفلسفة (العلوم) الطبيعية في الكلية الجديدة
وكان يواصل - إذا سمح الوقت والمال - ملاحظاته ومشاهداته وتجاربه التي كان يقوم هو شخصيا بكثير منها رغم أنه كان مصاباً بعمى الألوان ورغم الأدوات المعملية البسيطة (البدائية) ووسط اهتماماته الكثيرة وجد الوقت الكافي لتدوين سجل بالأرصاد الجوية منذ كان في الواحدة والعشرين من عمره إلى اليوم الذي سبق وفاته مباشرة · وعادة ما كان يقضي إجازاته طوافا باحثاً عن الحقائق في الجبال نفسها التي كان الشاعر وردزورث يجول فيها بعد ذلك بأعوام قلائل، وعلى أية حال فبينما كان وردزورث يطوف بحثا عن الله مصغيا له فإن دالتون كان يرصد الأحوال الجوية عند الارتفاعات المختلفة (فوق سطح البحر)، وكان عمله هذا يشبه إلى حد كبير عمل بسكال Pascal قبل ذلك بقرن ونصف قرن·(ملحق/804)
وقد قبل في تجاربه نظرية أن المادة مكونة من ذرات atoms غير قابلة للانقسام تلك النظرية التي قال بها كل من ليوسيبوس Leucippus ( حوالي 450 ق م) وديموقريطس Democritus ( حوالي 400 ق·م) وواصل فرضية روبرت بويل Boyle (1627 - 1691) التي مؤداها أن كل الذرات تنتمي إلى واحد أو آخر من عناصر معينة لا تنحل إلى عناصر أخرى أساسية - هذه العناصر المعينة التي لا تنحل هي: الهيدروجين والأكسوجين والكالسيوم··· وقد دلل دالتون في كتابه نظام جديد لفلسفة الكيمياء (1808) A New System of Chemical Philosophy على أن وزن أي ذرة من ذرات عنصر إذا قورنت بأي ذرة من عنصر آخر، يجب أن يكون هو نفسه تماما كما أن وزن إجمالي العنصر الأول هو نفسه وزن إجمالي العنصر الآخر·
وبعد العديد من التجارب والحسابات أخذ دالتون وزن ذرة الهيدروجين كوحدة ( as one) وراح يراوح بين كل ذرة من ذرات العناصر الأخرى بالوزن النسبي لأي واحدة من ذراتها من ناحية وذرة الهيدروجين من ناحية أخرى، ومن ثم كوّن قائمة بالأوزان الذرية للثلاثين عنصرا التي كانت معروفة لديه ·
وفي 1967 تعرف الكيميائيين علي 96 عنصر جديد وكان لابد من أن تصحِّح أبحاث لاحقة ما وصل إليه دالتون من نتائج، لكن نتائجه وكذلك قانونه المعقد المعروف باسم قانون النسب المتضاعفة Law of multiple proportions ثبت أنها ساهمت إسهاما كبيرا في تطور العلم في القرن التاسع عشر·
كان السير همفري ديفي Humphry Davy بحياته وتعليمه واكتشافاته أكثر إثارة كما أنه كان نمطاً مختلفا· ولد في بنزانس Penzance (1778) من أسرة ثرية من الطبقة الوسطى وتلقى تعليما وزاد عليه بدراسات في الجيولوجيا وصيد الأسماك ورسم الاسكتشات sketches والشعر·(ملحق/805)
وأكسبته طبيعته المرحة أصدقاء مختلفين بدءا من كولردج وسوثي والدكتور بيتر روجت Peter Roget ( الذي أعد قاموسا بمفردات الإنجليزية وعباراتها، والذي اتسم بالجد والاجتهاد والعبقرية، وأطلق على عمله هذا الذي صدر في سنة 1852 اسم: " Thesaurus of English words & phrases" - حتى نابليون· وكان له صديق آخر أتاح له استخدام معمله الكيميائي مما جعل ديفي يعبر عن امتنانه له في صيغة الإهداء التي وجهها له· وقد نظم ديفي مكتبته الخاصة وكان يصنف الغازات بتشممها وحث كولردج وسوثي على مشاركته في تشمم الغازات كاد يقتل نفسه بتسممه أبخرة الغازات شديدة السمية·
ونشر وهو في الثانية والعشرين مبحثا عن تجاربه بعنوان مباحث كيميائية وفلسفية Researches Chemical and Philosophical في سنة 1800· ودعاه الكونت رمفورد وجوزيف بانكس Banks إلى لندن لإلقاء محاضرات عن عجائب المركم (البطارية battery) ( عمود فولتا Voltas pile) وعرض لبعض إمكاناتها، فحقق شهرة جديدة في المعهد الملكي Royal Institution لقد استخدم بطارية مكونة من 250 زوج من الرقائق المعدنية كوسيلة للتحليل الكيميائي بالكهرباء واستطاع - بهذه الطريقة - تحليل المواد المختلفة إلى عناصرها، فاكتشف - وعزل - الصوديوم والبوتاسيوم، وواصل تجاربه فاستطاع عزل الباريوم barium والبورون boron والسترونتيوم strontium والكالسيوم والمغنيسيوم وأضافها إلى قائمة العناصر· لقد وضعت اكتشافاته وإنجازاته أسس علم الكيمياء الكهربائية، كعلم له إمكانات نظرية وعملية لا حد لها· ووصلت أخبار أعماله إلى نابليون فأرسل له في سنة 1806 عبر جبهة القتال جائزة المعهد الوطني الفرنسي Institute Nationale·(ملحق/806)
وكان بيرثوليه Berthollet قد شرح في سنة 1786 لجيمس وات Watt ما في الكلور chlorine من طاقة تبييض bleaching power وتوانت إنجلترا في الأخذ بهذه الفكرة إلا أن ديفي جدد الأخذ بها وكانت جهوده فعالة· لقد تطور العلم والصناعة من خلاله فقد كانت اكتشافاته وتجاربه ذوات دور رائد في التحول الاقتصادي لبريطانيا العظمى· وفي سنة 1810 أجرى ديفي تجارب لإظهار قوة التيار الكهربائي بتمريره من سلك كربوني دقيق إلى سلك آخر، لإنتاج ضوء وحرارة، وكان ذلك أمام جمهور المعهد الملكي· وقد وصف هذه العملية كالتالي:
عند تقريب قطع من الفحم النباتي يبلغ طول القطعة الواحدة منها بوصة واحدة ويبلغ قطرها سدس بوصة - بعضها من بعضها الآخر (بحيث تكون كل قطعة على بعد: واحد على أربعين أو واحد على ثلاثين من البوصة) ينتج عن هذا شرارة فيحترق أكثر من نصف حجم الفحم النباتي ليصبح رمادا أبيض، وبسحب مآخذ التيار points وإبعادها بعضها عن بعضها الآخر يحدث تفريغ خلال الهواء الساخن في مساحة تبلغ أربع بوصات على الأقل فينتج عن هذا قوس من النور صاعد متألق ··· وعند إدخال أي مادة في هذا القوس الضوئي فإنها تشتعل (تحترق) فورا، فكل المواد في هذه الحال تنصهر وتتحد سواء البلاتين أو الشمع المعتاد أو الكوارتز أو الياقوت الأزرق أو الماغنسيوم أو الجير (أكسيد الكلسيوم) ·
إن إمكانات توليد الضوء والحرارة السابق ذكرها لم تتطور حتى تم اختراع وسائل أرخص لإنتاج التيار الكهربائي، لكن في هذه التجربة الألمعية كان أساس الأفران الكهربائية التي أحالت الليل إلى نهار لنصف سكان المعمورة·
وفي سنة 1813 ارتحل ديفي بصحبة مساعده الشاب ميشيل فاراداي Faraday عبر فرنسا وإيطاليا في وقت كانت فيه كل أوربا تقريبا تخوض الحرب، لكنه استطاع التنقل بفضل حق المرور الآمن الذي أصدره له نابليون· وراح يزور المعامل ويجرب التجارب واكتشف خواص اليود (عنصر لا فلزي) وأثبت أن الألماس هو نوع من الكربون· ولما عاد إلى إنجلترا درس أسباب إنفجارات المناجم واخترع مصباح أمان للعاملين في المناجم·(ملحق/807)
وفي سنة 1818 منحه الوصي على العرش Regent رتبة البارونتية (وهي رتبة دون البارون) وفي سنة 1820 خلف بانكس Banks كرئيس للجمعية الملكية Royal Society· وفي سنة 1827 بدأت صحته في التدهور فترك العلم ليمارس صيد السمك وكتب كتابا في هذا الموضوع وجعل فيه رسوم إيضاح من رسمه· وفي سنة 1829 - وكان مصابا بشلل جزئي - ذهب إلى روما ليكون حطاما بين الخرائب أو بتعبير آخر ليكون أثرا بين الآثار لكنه مات قبل انصرام العام· إنه لم يعش سوى 15 سنة لكن سنواته هذه كانت تساوي حيوات كثيرة· لقد كان رجلاً عظيما طيبا وكان واحداً من البشر المخلِّصين (بتشديد اللام وكسرها) الذين عملوا على تخليصنا من الجهل والخطايا (الآثام) ·
4 - البيولوجيا (علم الأحياء) إرازموس داروين
ERASMUS DARWIN
حتى الآن لم تكن البيولوجيا Biology ( علم الأحياء) في إنجلترا تسير سيرا حسنا كسير الفيزياء والكيمياء والجغرافيا، فقد كانت هذه العلوم ذوات صلات وثيقة بالعمل على تحسين الصناعة والتجارة وتطويرهما، أما البيولوجيا فقد كانت توحي بتراجيدية (مأساوية) الحياة وبهائها وكانت تهز العقيدة الدينية·
لقد كان إرازمس داروين - جد تشارلز - قد تلقى بالفعل تقديرنا وثناءنا فقد كان شرارة وضّاءة وسط ألمعية هذا العصر الذي شهد نشر أعماله: الحديقة النباتية Botanic Garden (1792) وعلم أصول الحياة الحيوانية Zoonomia (1794 - 1796) ومعبد الطبيعة The Temple of Nature (1803) · لقد كتبت هذه الكتب جميعا من وجهة نظر تطورية· وقد اتفقت هذه الدراسات مع لامارك Lamarck في إقامة النظرية على أمل تكيف العادات والأعضاء على وفق للرغبة والمجهود والعزم فإذا ما استمر ذلك وقويت خلال أجيال كثيرة لأمكن انتقال (هذه الصفات الجديدة والمرغوب فيها) إلى العصب والجسم·(ملحق/808)
هذا الأستاذ العبقري الذي أصبح اسمه كبيرا على طول المدى عمد إلى التوفيق بين التطور والدين بافتراض "أن كل الحياة الحيوانية (بما فيها البشرية) كانت قد بدأت من مستودع لقاح حي واحد كان هو العلة الأولى الكبيرة المتضمنة لكل الكائنات الحية ثم خُلِّي سبيلها لتتحسن على وفق لنشاطها الداخلي الخاص بها، ولتسلم ما لحق بها من تطورات وتحسينات للأجيال اللاحقة جيلا بعد جيل وبلا نهاية" ·
لقد دخل الحوار الدائم بين الدين والعلم - رغم خفوته في هذا العصر - في مملكة (عالم) السيكولوجي psychology الذي أصبح مجالا يحظى بالرعاية في وقت من الأوقات، عندما قام هارتلي Hartley وبريستلي Priestly بإعداد تفسير فسيولوجي للربط بين الأفكار وعندما استوحى علماء التشريح - بشكل متزايد - فكرة العلاقة بين الجسد والعقل (النفس) ·
وفي سنة 1811 نشر تشارلز بل Bell مبحثه فكرة جديدة عن تشريح المخ Anew Idea of the Anatomy of the Brain وبدأ في هذا المبحث يبرهن على أن أجزاء مخصوصة في الجهاز العصبي تحول انطباعات الحواس إلى أجزاء مخصوصة في المخ، وأن أعصاباً مخصوصة تحمل أوامر الحركة إلى أعضاء الاستجابة المنوط بها التنفيذ· وبدت ظاهرة التنويم المغناطيسي - التي زاد انتشارها - تشير إلى تحول فسيولوجي للإحساس إلى أفكار ومن ثم إلى أعمال، وقد تم تناول تأثير الأفيون من حيث جلبه للنوم وتأثيره في الأحلام وحفزه للخيال وإضعافه للإرادة (كما ذكر كولردج Coleridge ودى كوينسي De Quincey) في سياق الحديث عن حرية الإرادة، وتم تقليص هذه القضية الكبيرة (حرية الإرادة) إلى مقادير جبرية تصوغ الدوافع والمحركات والخيالات المختلفة المتصارعة·
وبدا الوضع المزدهر الصاعد للمناقشات العلمية والمركز الاجتماعي المرموق لمهنة الطب مقارنة بالمركز المتدني للإكليروس الأنجليكاني (رجال الدين الأنجليكان) الذي قلت فعاليته كثيرا - يعكس اللامبالاة الدينية التي كانت قد بدأت تنتشر بشكل سري، بل وتعكس ما حاق بالدين من شك لدرجة وجود من أنكره تماما·
5 - الطب: جنر Jenner(ملحق/809)
لا يكاد الإخاء الطبي (تمتع الجميع بالرعاية الطبية) يستحق هذا الاسم الذي أطلق عليه لأن الرعاية الطبية تعكس تماما الولع البريطاني بالتمييز بين الطبقات، فكلية الأطباء الملكية Royal College of physicians - الفخورة بتأسيسها في عهد هنري الثامن في سنة 1518 - تقصر زمالتها على نحو خمسين كانوا قد حصلوا على درجاتهم العلمية من أكسفورد Oxford أو كمبردج Cambridge، كما تقصر إجازاتها Licentiate على نحو خمسين من الممارسين المميزين· ويكون هؤلاء المائة نوعاً من المجالس أقرب ما يكون إلى مجلس لوردات الأطباء ودارسي الطب House of Lords to medicos في إنجلترا·
ويحصل هؤلاء الأعضاء على دخول كبيرة فأحيانا ما يصل دخل الواحد منهم إلى عشرين ألف جنيه في السنة· ولا يمكن للواحد منهم أن يكون نبيلا أو أميرا، وإن كان يمكن أن يصبح في رتبة فارس وقد يطمح للبارونتية baronetcy ( درجة دون البارون) والكلية الملكية للجراحين التي أسست سنة 1800 من بين المؤسسات الأدنى درجة· ويلي تلك الدرجة الأطباء القائمون بتوليد النساء (الذين يقومون بعمل القابلات male midwives) الذين تخصصوا في سحب الأجنة من الأرحام (حيث الدفء والأمان) إلى العالم الخارجي حيث المنافسة والصداع· وفي قاع السلم الاجتماعي للعاملين في المهن الطبية يأتي الصيادلة الذين يقدمون كل الرعاية الطبية تقريبا في المناطق الريفية·
ولا تقدم أي كلية من هذه الكليات السابق ذكرها أي نوع من التعليم الطبي فيما عدا بعض المحاضرات التي يلقيها مشاهير الأطباء في المناسبات· ولم يكن في أكسفورد ولا كامبردج مدرسة للطب فالطلاب الذين كانوا يرغبون في الحصول على تعليم وتدريب طبيين كان عليهم أن يلتمسوه في اسكتلندا وفيما عدا ذلك فإن تدريب الأطباء الإنجليز ترك للمدارس الخاصة التي أقيمت بالقرب من المستشفيات الكبرى بأموال المؤسسات الخيرية وتبرعات المحسنين·(ملحق/810)
وقد أنقق السير توماس برنارد Thomas Bernard كثيرا من ثروته في إصلاح مستشفى اللقطاء الشهيرة في شمال لندن وشارك غيره من الأثرياء في تمويل مستوصفات (عيادات Clinics) لعلاج السرطان والرمد والفتق، في لندن وأماكن أخرى· لكن وسائل منع انتشار الأمراض كانت هزيلة في المدن مما أدى إلى انتشار الأمراض بل وظهور أمراض جديدة، وكانت سرعة انتشار الأمراض تفوق إمكانات العلاج·
وفي سنة 1806 سجلت لندن حدثا فريدا: "لقد مضى أسبوع كامل دون أن يتوفى أحد بمرض الجدري - ذلك المرض المسبب للبثور والحمى والمشوّه للوجه والمعدي والذي كان في وقت من الأوقات متوطنا في إنجلترا وقد ينتشر في أي وقت مرة أخرى ليصبح طاعونا مميتا" (المقصود كارثة مسببة للموت) ·
وقد أعاد أسبوع المعجزات طبيب إنجليزي بسيط هو إدوارد جنر كان مدمنا على الصيد (القنص) وعلم النبات وقرض الشعر، وعزف الفلوت flute والضرب على الكمان violin ( العثيولين)، بنشر التطعيم ضد هذا المرض طوال عقد من الزمان منهيا بذلك موقف المجتمع البريطاني المتحفظ ضد كل ما هو جديد· لقد كانت الوقاية من مرض الجدري عن طريق التطعيم بفيروس المرض بعد إضعافه طريقة يمارسها الصينيون القدماء ووجدت ليدي ماري ورتلى مونتاجيو Mary Wortley Montagu هذه الطريقة معتادة في القسطنطينية (إسطنبول أو استانبول) في سنة 1717 وقد أوصت عند عودتها إلى إنجلترا باستخدام هذه الطريقة· وقد جرب نظام التطعيم هذا على المجرمين ومن ثم على الأيتام وحقق نجاحا ملحوظا· وفي سنة 1760 قرر الدكتور روبرت ستون Sutton والدكتور دانيال ستون أنه من بين ثلاثين ألف حالة طعمت ضد الجدري لم يصب بهذا المرض سوى 1200 (حالة) · أيمكن أن تكون هناك طريقة أفضل لمنع الجدري؟(ملحق/811)
لقد اهتدى جنر إلى طريقة أفضل عندما لاحظ أن كثيرات من العاملات في حلب ماشية اللبن في بلده جلوسسترشير Gloucestershire يصابون بجدري البقر من خلال ملامستهم لحلمات الأبقار المصابة وبالتالي يصبحن ذوات مناعة ضد مرض الجدري (الذي يصيب البشر)، وتراءى له أنه يمكن تكوين مناعة شبيهة باستخدام طعم (لقاح) (الكلمة الإنجليزية Vaccine من الكلمة اللاتيينة Vacca وتعني بقرة) من فيروس جدري البقر الذي يمكن الحصول عليه من الأبقار المصابة· وفي بحث نشر في سنة 1798 ذكر جنر الإجراء المغاير لما هو متبع والذي وضع به أسس الطب التجريبي وعلم الطب الوقائي (علم المناعة):
·· لقد تخيرت صبيا صحيحا في نحو الثامنة من عمره بغرض تجريب تطعيمه بجدري البقر Cow Pox، وتم الحصول على القيح matter من قرحة من يد إحدى العاملات في حلب ألبان البقر وحقن الصبي بهذا القيح في 14 مايو سنة 1796 في ذراعه ··· وفي اليوم السابع اشتكى متوعكا ·· وفي اليوم التاسع أصبح يرتعد وفقد شهيته وأصيب بصداع خفيف ··· وفي اليوم التالي كان في حالة جيدة تماما···
وكي أتأكد مما إذا كان الصبي بعد تعريضه لإصابة خفيفة من فيروس جدري البقر، أصبح آمنا (اكتسب مناعة) ضد الجدري (الذي يصيب البشر)، فقد تم حقنه في أول يوليو التالي بقيح الجدري الذي يصيب البشر Variolous matter ( الكلمة اللاتينية Variola تعنى الجدري Smallpox) تم أخذها مباشرة من بثرة مصاب بالجدري ··· فلم تظهر على الصبي أعراض الجدري وبعد عدة أشهر تم حقنه مرة أخرى بقيح الجدري الذي يصيب البشر لكن لم يظهر على بدنه أي عرض من أعراض الجدري·(ملحق/812)
واستمر جنر Jenner يصف حالات أخرى بلغت اثنتين وعشرين حالة اتخذ معها الإجراء نفسه فكانت النتائج مرضية تماما· وقد تعرض لاتهامات بإجراء التجارب على الأحياء وبدا للذين اتهموه وكأنه يقوم بتشريح الأحياء وحاول الاستفادة من الأقلية الموافقة ببناء بيت صغير له، وإنشاء حديقة زهور يزرعها بيديه وفي عامي 1802 و1807 وافق البرلمان على منح جنر 30,000 جنيه إسترليني لتحسين طرائقه لمقاومة الجدري ونشرها· وكاد الجدري يختفي من أوربا وأمريكا خلال القرن التاسع عشر، وإذا حدث وأصيب به شخص فإن هذا الشخص يكون غير مطعم (لم يتلق التطعيم ضد المرض) ·
وتم تطبيق نظام التطعيمات الواقية ضد أمراض أخرى وأسهم علم المناعة الجديد بالإضافة للوسائل الجديدة التي أحرزها الطب وبالإضافة لتحسن الظروف الصحية والبيئية العامة في تحسين الأحوال الصحية في المجتمعات الحديثة التي نهشها الفقر وترعرع فيها الجهل وازداد فيها الجشع وثابر فيها المرض بأساليب شتى·(ملحق/813)
الفصل التاسع عشر
الفلسفة الإنجليزيّة
لم يكن للعلم في بريطانيا في الفترة من 1789 إلى 1815 سوى تأثير ضئيل في الفلسفة· أعني أن العلوم الطبيعية Physical يمكن أن تتوافق مع اللاهوت (الثيولوجيا theology) الليبرالي liberal ( المتحرر) بل وحتى فكرة التطور يمكن· مواءمتها مع تفسير الخلق في ستة أيام باعتبار كل يوم يمثل فترة من فترات التطور تتسم بالطول· لقد أصبح أفراد الطبقات العليا الآن بعد أن أنهت الثورة الفرنسية تعاطفهم مع فولتير والموسوعيين Encyclopedists، لا يثقون في الأفكار (الجديدة) باعتبارها أمراضاً معدية تصيب الشباب· لقد اعتبروا العبادة الأسبوعية استثمارا حكيما يؤدي إلى الانضباط الاجتماعي والاستقرار السياسي واشتكوا لأن رئيس الوزراء بت Pitt لا يجد وقتا للذهاب إلى الكنيسة وكان هناك بعض الأساقفة الذين تشككوا في أمور الدين فيما بينهم وبين أنفسهم لكنهم عرفوا بين العامة بتقواهم ومع هذا استمر الصراع القديم·
وفي عام 1794 ظهر صوتان معبران عن الفكرتين المتناقضتين: توماس بين Paine في كتابه عصر العقل The Age of Reason ووليم بيلي Paley في كتابه "نظرة في البراهين على المسيحية"(ملحق/814)
A view of the Evidences of Christianity·
1 - توم بين: عن المسيحية
لقد كان توم بين TOM PAINE - الذي عرف بهذا الاسم توم في قارتين - رجلا إنجليزيا ولد في أسرة من الكويكر Quaker في ثتفورد Thetford في نورفولك Norfolk في سنة 1737، وهاجر إلى أمريكا في سنة 1774 بناء على نصيحة بنيامين فرانكلين، وقام بدور ناشط في الثورة الأمريكية· وأثنى الجنرال واشنطن على كتيب بين Paine الموسوم باسم الحصافة أو الفطرة السليمة Common Sense ( يناير 1776) لأنه أحدث تغييراً قويا في عقول أناس كثيرين وفي أثناء حروب الثورة الأمريكية أصدر سلسلة من نشرات الدعاية باعتباره معاونا للجنرال ناثانيال جرين Nathanael Greene بعنوان الأزمة لرفع الروح المعنوية لجيش الثوار وللمواطنين· وقد بدأت إحدى هذه النشرات بالعبارة الشهيرة في هذه الأوقات تعرف معادن الرجال أو بتعبير آخر تلك هي الأوقات التي تختبر فيها أرواح الرجال·
وفي الفترة من 1787 إلى 1802 كان يعيش معظم الوقت في أوربا عاملاً لصالح الثورة الفرنسية في كل من فرنسا وإنجلترا· ووجدناه يخاطر برأسه عند تصويته لصالح تخفيف عقوبة الإعدام الصادرة ضد لويس السادس عشر إلى النفي· وفي ديسمبر من هذا العام (1793) - بتحريض ظاهر من روبيسبير Robespierre - أصدرت الجمعية الوطنية مرسوما بطرد كل الأجانب من عضويتها ولم يبق فيها إلا اثنان: أناكارزيس كلوتس Anacharsis Cloots وتوماس بين Paine· وعندما توقع بين Paine أن يقبض عليه سارع بكتابة ما يعرف الآن بالجزء الأول من عصر العقل The Age of Reason، وأرسل مخطوطة الكتاب إلى أمريكا مشفوعة بالإهداء التالي:
إلى رفاقي أهل بلدي في الولايات المتحدة الأمريكية: إنني أضع العمل التالي تحت حمايتكم· إنه يضم آرائي في الدين· إنكم ستسدون إليّ عدلاً إن تذكرتم أنني كنت دائما أؤيد بشدة حق كل إنسان في إبداء رأيه مهما كان مختلفا مع ما قد يكون رأيي· إن من ينكر على الآخرين حقهم في إبداء رأيهم إنما هو عبد لرأيه الحالي لأنه يسلب نفسه حق تغيير هذا الرأي·(ملحق/815)
إن العقل هو أمضى سلاح ضد كل أنواع الخطأ ولم يحدث أبداً أن استخدمت سواه وإنني واثق أنني لن أثق - مستقبلاً - في سواه ·
صديقكم المخلص ومواطنكم
توماس بين
باريس، 27 يناير 1794·
ويقدم لنا بين Paine في مستهل كتابه هذا سببا غير متوقع لتأليف كتابه فيقول:
"إنه لا يهدف إلى تدمير الدين وإنما يهدف إلى منع الفساد الناتج عن أشكاله (أشكال الدين) غير العقلية (اللاعقلانية) من أن يقوض النظام الاجتماعي ويدمره خوفا من الخراب العام الذي تسببه الخرافة، والذي تسببه النظم الحكومية الزائفة واللاهوت الزائف، فهذه النظم الزائفة تفقدنا الأخلاق والإنسانية واللاهوت الحق",
ويضيف قائلاً ومؤكداً مجدداً: "إنني أومن بالله الواحد الأحد لا رب سواه One and no more، وإنني آمل في تحقيق السعادة بعد هذه الحياة أي بعد الموت" ·
ثم يستل موسى أوكام Occam's razor يقول: "إنني لا أومن بعقائد اليهود ولا عقائد كنيسة روما ولا كنيسة الأرثوذكسية الشرقية (الكنيسة اليونانية) ولا عقائد المسلمين (النص: الكنيسة التركية Turkish Church) ولا الكنيسة البروتستنتية ولا أي كنيسة (مؤسسة دينية) أعرفها· فعقلي هو كنيستي· فكل الكنائس كمؤسسات وطنية··· لا تبدو لي أكثر من كونها بدع بشرية أقيمت لإرهاب البشر واسترقاقهم ولاحتكار السلطة وتحقيق المكاسب "·
وكان معجبا بالمسيح كرجل فاضل ودود وكان مقتنعا أن الأخلاق والقيم اللتين بشر بهما وطبقهما كانتا خيرتين إلى أقصى حد لكن حكاية كونه ابن الله ليست سوى خرافة مشتقة من خرافة شائعة بين الوثنيين·(ملحق/816)
إذ يكاد كل الرجال المميزين الذين عاشوا في ظل الميثولوجيا mythology الوثنية قد كرروا الزعم بأنهم أبناء الآلهة ··· لقد كان اتصال الأرباب (الآلهة) اتصالا جنسيا بالنساء رأيا شائعا بين الناس· فالرب جوبيتر Jupiter في زعمهم قد تعايش مع كثيرات عيشة الأزواج· وعلى هذا فحكاية أن المسيح ابن الله ليست جديدة ولا غريبة ولا مدهشة ولا فاحشة وإنما هي مجرد فكرة كانت موجودة بالفعل ومريحة ومتمشية مع آراء وعقول غير اليهود Gentiles، ولأنها كانت منتشرة بينهم فهم وحدهم الذين آمنوا بها· أما اليهود الذين احتفظوا بالإيمان بإله واحد ولا سواه (لا شريك له) فكانوا يرفضون دائما الميثولوجيا mythology الوثنية ولم يوافقوا أبدا على هذه الحكاية (على أن المسيح هو ابن الله) ·
وعلى هذا فالميثوجيا المسيحية ليست سوى الميثولوجيا الوثنية في شكل جديد· إنها لا تعدو كونها تكراراً للميثولوجيا الوثنية:
ففكرة التثليث أو وجود أرباب (أقانيم) ثلاثة التي ظهرت بعد ذلك ليست سوى تخفيض أو تنقيص للتعددية السابقة التي كانت تقول بوجود نحو عشرين ألف أو ثلاثين ألف رب· وقد حل تمثال مريم (العذراء) محل تمثال ديانا الإفسوسية Diane of Ephesus، وحل تأليه الأبطال heroes محل تقديس القديسين (المصطلح المسيحي canonization يعني ضم شخص ما إلى قائمة القديسين) · فالمؤمنون بالأساطير (الميثولوجيون) لديهم آلهة (أرباب) لكل شيء، والمسيحيون المؤمنون بالأساطير عندهم قديسون لكل شيء، وأصبحت الكنيسة مزدحمة بهم كما كان البانثيون Pantheon مزدحما بالآلهة·
فالنظرية (العقيدة) المسيحية لا تختلف إلا قليلا عن وثنية الميثولوجيين Mythologists القدماء بعد تحويرها (أي العقيدة المسيحية) لتخدم أغراض السلطة والدخل (الاقتصاد) وبقي على العقل والفلسفة أن يبطلا هذا الدجل المبهم · ثم راح بين Paine يلقي أضواءه البحثية مستخدما العقل في سفر التكوين (السفر الأول في التوراة) ولم يطق صبرا على حكاياته الرمزية وأمثاله فهوى بمعوله على حواء والتفاحة·(ملحق/817)
وكان مثل ميلتون Milton مفتونا بالشيطان أول الثائرين لقد كان الشيطان (إبليس) ملكاً أُدْخِل جهنم لمحاولته الإطاحة بالعرش، وفي جهنم ظل يعاني طول الوقت بلا نهاية· ومع هذا فلا بد أن يهرب من هذه النار التي لا تخمد (جهنم) في وقت أو آخر لأنه كان قد وجد طريقه إلى جنة عدن، ولأنه استطاع غواية (الناس) بأكثر الطرق التواء· لقد استطاع أن يقدم المعرفة لحواء ونصف عالم المسيح·
ويعجب بين Paine من أن الميثولوجيا المسيحية قد أضفت على الشيطان (إبليس) شرفاً كبيرا· إنها تفترض أنه أجبر الله (عز وجل) على إرسال ابنه (المقصود المسيح) لبلاد اليهودية Judea ليُصلَب، وذلك ليعيد له (المقصود لله سبحانه) على الأقل جزءا من أهل الأرض كانوا على علاقة حب - بشكل واضح - مع الشيطان· ورغم صلب المسيح فلازال الشيطان يحتفظ لنفسه بكل الممالك غير المسيحية بل وله ملايين من الأتباع في الممالك المسيحية نفسها·
كل هذا - كما يقول مفكرنا المتشكك توماس - تُقدمه لنا بوقار شديد - على لسان الله جل جلاله - سلسلة من الأقوال منسوبة إلى موسى وحتى القديس بول (بولس) · ورفض بين Paine كل هذه الأقوال (الحكايات) باعتبارها حكايات تصلح لأطفال الحضانة وللكبار الذين أنهكهم البحث عن الخبز والزبد وأعياهم المرض وأرهبهم الموت فباع لهم اللاهوتيون أوهام الوعود الموعودة· وقدم بين Paine لذوي الأرواح الأقوى الله بصورة لا تشبه الإنسان وإنما باعتباره حياة الكون (الروح الحي في الكون) ·
"لا يمكننا أن نوحد كل أفكارنا عن الله إلا من خلال الخلق ·· إن الخلق (الكون) يتحدث لغة عالمية (كونية) ··· إنه كلمة الله (الكون) التي توحي للبشر كل ما هو ضروري لمعرفة الله· أتريد أن تتأمل قوته؟ إنها تتجلى في عظمة خلقه· أتريد أن تتأمل حكمته؟ إنها تتجلى في سنن الكون التي لا يعتريها تبديل والتي تحكم الكل الذي لا يحيط به أحد· أتريد أن تتأمل كرمه؟ إنها تتجلى في تلك الوفرة التي تملأ الأرض· أتريد أن تتأمل رحمته؟ إنها تتجلى في كونه لا يمسك فضله حتى عن ألعصاة· باختصار أتريد أن تعرف الله؟ ابحث عنه في الخلق لا في الكتاب المقدس المسيحي Scripture"·(ملحق/818)
وقد سُجن في الفترة من 28 ديسمبر 1793 حتى سقوط روبيسبير في 27 يوليو سنة 1794· وفي 4 نوفمبر: "دعتني الجمعية الوطنية Convention علناً وبالإجماع للعودة إليها (الجمعية الوطنية) ··· وقبلت ·" وفي أثناء الاضطراب العظيم لرد الثيرموديريين Thermidorean reaction ألف الجزء الثاني من كتابه (عصر العقل The Age of Reason) وكرسه لتوجيه نقد حاد للكتاب المقدس Bible وأضاف قليلا لنقد أفكار وردت في دراسات أكاديمية كان معظمها من تأليف رجال الدين· لقد ضاعت سدى - في إنجلترا وأمريكا - اعتراضاته على الإيمان بالرب (المقصود هنا يسوع المسيح) بسبب اعتراضه وعدم تعاطفه مع الكتاب المقدس الذي كان عزيزا على الشعوب والحكومات، فوجد نفسه بلا تكريم في وطنه الأصلي ووطنه الجديد، وعندما عاد في سنة 1802إلى نيويورك (التي سبق لها أن قدرت خدماته لجمهور الأمريكيين بمنحه 300 أكر (فدان) في نيوروشل New Rochelle) ووجه باستقبال بارد·
وأدمن الشرب في السنوات السبع الأخيرة من عمره ومات في نيويورك سنة 1809 وبعد موته بعشرة أعوام عمل وليم كوبت William Cobbett على نقل رفاته إلى إنجلترا، حيث لعبت روحه غير الواهنة - من خلال كتبه - دورا في المعارك الطوال التي تمخض عنها صدور مرسوم الإصلاح Reform Act في سنة 1832·
ورغم أن بين Paine كان من القائلين بوجود إله (دون إيمان بأديان منزلة) ولم يكن ملحدا إلا أن كثيرين من المؤمنين بالمسيحية شعروا أن إيمانه بوجود إله لم يكن إلا غطاء مهذبا لعدم إيمانه برب متجسد (المسيح كرب) وقدم وليم بالي William Paley كاهن أسقفية ويرموث Wearmouth دفاعا مقتدرا عن عقيدته في كتابه نظرة في البراهين على المسيحية (1794) لدرجة أن قراءة هذا الكتاب ظلت حتى سنة 1900 شرطا للقبول في جامعة كمبردج وكان كتابه لاهوت الطبيعة Natural history (1802) لا يزال هو الأكثر شهرة فهو كتاب يبحث في البرهنة على وجود قوة ذكية علوية بتجميع براهين وأدلة من العلوم المختلفة· لقد قال:(ملحق/819)
"برهنا إذا رأى إنسان ساعة ولم يكن قد سبق له رؤية ساعة من قبل، ألن يتفحص ماكينتها، ويضع في اعتباره أن كائنا ذكيا صممها؟! ثم أليس في الطبيعة مئات العمليات تشير إلى تنظيم الوسائل لتحقيق الأثر المطلوب؟! فمن ناحية نحن نرى قوة ذكية ترتب نظام الكواكب ··· ومن ناحية أخرى فإنها - أي هذه القوة الذكية تقدم العملية (الميكانيكية) المناسبة لحركة جناحي الطائر الطنان وحركة ريشه··· فكل جسم طبيعي متسق، بما ينطوي عليه من إمكانية حفظ نوعه وكيانه وإمكانية تكاثره يشهد بعناية الخالق وتوجيهه لتحقيق أهدافه "·
وبدأ نصف المتعلمين في إنجلترا بمناقشة كتب بالي Paley وساعته، وتحدث كولردج ووردزورث وهازلت Hazlitt عنها في مناقشة حيّة في كزويك Keswick· لقد عاش كتاب اللاهوت الطبيعي Natural Theology طويلا، بل إن دارون العظيم نفسه درسه بعناية قبل صياغة نظريته المنافسة عن تكيف الأعضاء وتطورها لتحقيق الغايات المطلوبة وأن البقاء للأصلح من خلال الانتخاب الطبيعي· وبعد بالي Paley بقرن جاء هنري بيرجسون Henri Bergson ليفيد - ببلاغة - صياغة برهان من تصميم الكون في كتابه " L'Evolution Creatrice" الصادر في سنة 1906· واستمر الجدل·
2 - جودوين: عن العدالة
GODWIN
رغم أن الجميع قد نسوا وليم جودوين (1756 - 1836) الآن إلا أنه كان أكثر الفلاسفة الإنجليز تأثيرا في جيله· لقد كتب هازلت Hazlitt في نحو سنة 1823: "ليس ثمة عمل في زماننا وجّه لطمة للتفكير الفلسفي في هذه البلاد مثل العمل الشهير "أسئلة حول العدالة السياسية" Enquiry Concerning Political Justice لقد قال وردزورث لطالب شاب: "القِ بكتب الكيمياء الخاصة بك واقرأ كتاب جودوين عن الضرورة" On Necessity(ملحق/820)
وعندما كبر جودوين في السن وراح يشك في نفسه رأى أفكاره تنتشر على جناحي أغنية تغنى بها الشاعر شيلي Shelley زوج ابنته وكان أبواه مسيحيين متمسكين بمذهب كالفن مؤمنين بالقضاء والقدر خيره وشره من الله (الجبرية) وقد أصبح جودوين مثلهما قدريا (جبريا) وكان أبوه منشقا عن كنيسة إنجلترا وتلقى هو نفسه تعليماً ليكون واعظاً وعمل كرجل دين في مدن كثيرة، وبينما كان في ستوماركت Stowmarket قدمه شاب جمهوري للمفكرين الفرنسيين الذين سرعان ما قلبوا عقيدته رأساً على عقب·
لقد أخذ الإلحاد عن دهولباخ d'Holbach رغم أنه في سنوات لاحقة جعل لله مكاناً - بشكل مهذب - في مجلده الحاشد· لقد أخذ من هلفيتيوس Helvetius الإيمان بالتعليم والعقل باعتبارهما أساس اليوتوبيا utopia ( المدينة الفاضلة) وحذا حذو روسو في قبول مبدأ صلاح البشر لكنه كان يفضل إقامة مجتمع قائم على التعاون الطوعي بين الأفراد والجماعات - يفضله على دولة روسو ذات السلطة المطلقة· لقد تخلى عن منصبه في الكهنوت المسيحي وشرع في دهن خبزه بالأحبار والقلم· وانضم إلى لورد ستانهوب Stanhope وتوماس هولكروفت Holcroft في نادي الثوريين لكنه أسلم نفسه معظم الوقت للدراسة الشاقة والكتابة الصعبة، وفي سنة 1793 - وكان قد بلغ السابعة والثلاثين - أصدر أكثر الأعمال (الكتب) راديكالية في زمانه·
وقد جعل لكتابه عنواناً هو سؤال عن العدل السياسي وتأثيره في الفضائل العامة والسعادة Enquiry Concerning Political Justice & its influence on General virtue & Happiness وواضح أنه كتابا عن الحكومة يغطي تقريبا كل قضايا الفلسفة من الإدراك إلى فن الحكم (فن إدارة شؤون الدولة) ويتوقف غير بعيد عن تناول الرب (الله) · لقد احتقر خرافات الجنة والجحيم كأدوات (وسائل) واضحة لتسهيل أمور الحكم وفرض الطاعة · وأدان الإكليروس (رجال الدين) الذين يقسمون على قبولهم الإيمان الرسمي المصاغ في تسع وثلاثين مادة (قانون الإيمان) بينما هم يتخلون عنه فيما بينهم وبين أنفسهم ·(ملحق/821)
لقد رفض حرية الإرادة free will والإرادة نفسها إذا جرى فهمها كسلطة أو صلاحية أو مقدرة مميزة أو استثنائية· إنها بالنسبة إليه مجرد مصطلح مجرد للاستجابات الواعية للمواقف والرغبات والحوافز أو المثيرات · وما دامت الأفعال مقررة سلفاً بفعل الوراثة والخبرة الفردية والظروف الحالية فلا بد أن نواجه أخطاء الآخرين بدون غضب أو اتهام مضاد وإنما لا بد من إصلاح نظامنا العقابي ليكون مبنياً على الإصلاح أو إعادة التأهيل أكثر من أن يكون مبنيا على العقاب، وعلى أية حال، فإنه قد يكون من الضروري أن نستخدم المديح واللوم والعقاب كوسائل معينة على الإصلاح مستقبلا ·
ما هو الذي سنمتدحه وما هو الذي سندينه؟ سنمتدح ما هو حسن وسندين ما هو قبيح، فما هو الحسن؟ لقد سار جودوين على خطى هلفيتيوس (1758) وبنثام Bentham (1789) فعرف الحسن (الخير) بأنه ما يزيد سعادة الفرد والجماعة وعرف السعادة بأنها بهجة الجسد والنفس والعقل والمشاعر، بهجة سوية، وهذه الفلسفة الأخلاقية ليست حسية جسدية (شهوانية) وليست هي فلسفة اللذة لأنها تجعل المباهج العقلية فوق مباهج الحواس· إنها ليست أنانية (ذاتية تتحلق حول الأنا) لأنها تقول بأن الفرد جزء من جماعة لأن صلاح الجماعة شرط لأمان الأفراد الذين يكوّنون هذه الجماعة، ولأن من بين أرقى أنواع المباهج إسهام الأفراد في إسعاد رفاقهم في الجماعة· فغرائزنا الاجتماعية تؤدي إلى قيامنا بأفعال غير أنانية (منطوية على حب الغير) وهذه الأفعال يمكن أن تمنحنا مسرة تفوق أي بهجة حسية أو عقلية وأكثر دواماً منها · فأن تكون شفوقا رحيما يعني أن تكون سعيدا، وأن تنزع منك الرحمة يعني أن تكون بائسا·
"فالأخلاق - علم السعادة البشرية - هي المبدأ الذي يربط الفرد بجنسه البشري وهي الدوافع التي تعمل على حثنا على تعديل سلوكنا وجعله على نحو أمثل لتحصيل مزايا يجنيها الجميع "·(ملحق/822)
فالعدالة إذن هي تنظيم سلوك الفرد والجماعة لتحقيق أقصى قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس· "فالهدف العاجل للحكومة هو أمن الجماعة والفرد وما دام الفرد يرغب في أكبر قدر من الحرية مما ينسجم مع أمنه، فإن أفضل وضع للبشر هو الوضع الذي يحافظ على الأمن العام مع أقل انتهاك ممكن لاستقلال الفرد "· وعلى هذا فليست هناك حاجة لمراسيم حكومية أو دينية للزواج، فاتفاق اثنين من البالغين على العيش معا يجب أن يكون كافيا، ويجب فسخ الارتباط (الاتفاق على العيش معا) إذا رغب في ذلك أحد الطرفين · (وقد أعجب الشاعر شيلي Shelley بهذا الاتجاه على نحو خاص) ·
ولم يكن جودوين يحب الحكومات· فمهما كانت أشكالها ومهما كانت النظريات التي تقوم عليها، فإنها لا تعدو أن تكون سيطرة الأقلية على الأغلبية· لقد كان دوما يتبرأ من دعوى المحافظين أن الجماهير مفطورة على الدونية وأنها دائما تميل للقتل، ولهذا فلا بد من حكمها إما بالكذب عليها أو إرهابها أو إجبارها (بالكذب أو الإرهاب أو القوة) · وكان - مثل أوين Owen - يعتقد أن هذه الصفات الدونية ترجع إلى نقص التعليم أو قلة الفرص أو فساد البيئة · وسخر من المساواة أمام القانون لأنه كان يرى كل يوم الذين يحصلون الأموال الطائلة بطرق ملتوية وغير سليمة يفلتون من العقاب بحيل قانونية أو بسبب محاباة القضاة لهم · ولم يكن اشتراكيا فقد قبل مبدأ توريث الثروة ومبدأ تعيين أوصياء لإدارتها · وعارض السيطرة الحكومية على الإنتاج والتوزيع، لكنه أصر على ضرورة أن تكون الملكية الشخصية في خدمة الصالح العام، وحذر من أن تركيز الثروة ما هو إلا دعوة إلى الثورة ·(ملحق/823)
وعلى أية حال، لم يكن ميّالاً إلى الثورة· فحين تتغير طبائع الأجناس البشرية تغيرا جوهريا فإن الإطاحة بالنظام القائم بالقوة، وأية محاولة ثورية لإعادة توزيع الثروة، ستسبب فوضى اجتماعية تلحق ضررا بالرخاء العام أكثر من الضرر الذي يلحقه عدم المساواة (التفاوت في الثروة) الذي تحاول إزالته · فالثورة في الفكر (تغيير الآراء) هي السبيل الوحيد للوصول لتوزيع أفضل للثروة · وهذا يتطلب تعليماً يستغرق فترة طويلة ويتطلب صبرا·· تعليماً تتلقاه الأجيال من خلال المدارس والإنتاج الأدبي والفكري·
ومع هذا فسيكون من الخطأ أن نقدم تعليما عاما من خلال نظام وطني للمدارس (المقصود نظام حكومي تتبناه الدولة) لأنه سيكون في هذه الحال أداة من أدوات الشوفينية chauvinism ( الغلوّ في الوطنية) مما يؤدي إلى قيام الحروب، وأداة من أدوات البروباجندا propaganda ( الدعاية) الحكومية التي تهدف إلى ترسيخ قيم الطاعة العمياء · إذ لا بد من ترك التعليم في أيدي القطاع الخاص الذي يجب دائما أن يقول الحق والذي يجب أن يعوّد الطالب على استخدام العقل· فالعقل ليس مبدأً مستقلاً أو ملكة أو قدرة كلية وليس لديه ميل لحثنا على الفعل· فهو من الناحية العملية مجرد أداة للمقارنة - والموازنة - بين المشاعر المختلفة· "فالعقل ··· قد صُمِّم (بضم الصاد) لتنظيم سلوكنا على وفق القيمة المقارنة للمثيرات أو المنبهات أو الدوافع· فالأخلاق ليست إلا حساب النتائج أو العواقب بما في ذلك النتائج أو العواقب التي تعود على المجتمع"· وعلى هذا فتحسين العقل يعني تحسين أحوالنا الاجتماعية ·
إن الطريق إلى المدينة المثالية (اليوتوبيا) عن طريق التعليم طريق طويل وشاق لكن الإنسان قد حقق بعض التقدم في السير في هذا الطريق، وليس هناك حد لمزيد من التقدم فيه· إن الهدف أن تتلقى البشرية تعليما كافيا متبصرا يتيح لها إعمال العقل بحرية (دون قيود) · إن إلغاء الحكومة (الأنارشية Anarchism) هدف بعيد لكنه سيظل مع هذا هدفا لكثير من الأجيال القادمة وطبيعة الإنسان ستحتم شكلاً أو آخر من أشكال الحكومة· دعونا نواصل آمالنا في أن يتطور الذكاء - عبر أجيالنا القادمة - ليصبح حرية منضبطة·(ملحق/824)
ولابد أن جودوين كان يمتلك نبعاً ثرّاً من الذكاء لأنه في سنة 1794 أصدر - بعد عام واحد من نشرة كتابه الحاشد (أسئلة عن العدالة السياسية ···) أصدر رواية حكم عليها كثيرون بأنها الرواية الرائعة البارزة في ذلك العصر· إنها رواية كالب وليمز Caleb Williams التي أظهرت روح الحكومة وطبيعتها من حيث كونها تقحم نفسها في حياة كل طبقات المجتمع وقد أضاف المؤلف إلى هذه الرواية قصة حياته: لقد تزوج ماري ولستونكرافت Wollstonecraft (1797) وتبنى ابنتها فاني إمالي Fanny Imaly التي أنجبتها نتيجة اتصالها الجنسي بشخص دون زواج (نتيجة علاقة زنا) وعاش مع ماري مدة عام في عِشْرةٍ مثيرة· يقول: "لقد قدرت فيها طاقاتها العقلية، ونزوعها النبيل إلى الكرم، ولم تكن الرقة وحدها كافية لتحقيق السعادة التي جربناها" وقد ماتت - كما رأينا - بعد فترة قصيرة من إنجابها ماري جودوين شيلي Mary Godwin Shelley
وفي سنة 1801 تزوج من مدام ماري جين كليرمونت Mary Jane Clairmont التي كانت ابنتها (من زوجها الأول) واحدة من مديرات منزل بايرون · وقد دعم الزوج والزوجة حياتهما المعقدة بنشر الكتب التي كان من بينها حكايات من شكسبير (1807) الذي ألفه تشارلز لامب وماري لامب Charles & Mary Lamb· ونتيجة تخلي وردزورث وكولردج عنه وابتعادهما عن صداقته واجه أياما عصيبة، وساعده شيلي الذي كان هو نفسه معسرا، وفي سنة 1833 - ويا لسخرية التاريخ - عينته الحكومة - التي كان يعتبرها شرا لا بد منه - موظفاً في الخزانة براتب متواضع كان يكفي طعامه حتى مات في سنة 1836·(ملحق/825)
3 - دانيال مالتوس: عن السكان
لقد عمل كتاب جودوين السابق ذكره (أسئلة حول العدالة السياسية) على دفع كتاب آخر إلى المطبعة وقد أصبح هذا الكتاب الآخر أكثر شهرة من كتاب جودوين نفسه· وساعد على ذلك رد فعل غير عادي من ابن ضد فلسفة أبيه الليبرالية· لقد كان دانيال مالتوس Daniel Malthus ( توفي سنة 1800) شخصاً لطيفاً غريب الأطوار وكان صديقاً شخصيا لديفيد هيوم David Hume ( تكتب أيضا دافيد/الصيغة العربية للاسم هي داود) وجان جاك روسو· وشارك الاسكتلندي شكوكيتة skepticism والسويسري تشاؤمه، حول الحضارة· وقد كان هو شخصيا مشرفا على تعليم ابنه فيما قبل دخوله الكلية، وكان واثقا من أن توماس مالتوس (1766 - 1834) سيكون راديكاليا ممثلاً للقانون مثله (أي مثل أبيه دانيال مالتوس) مثل جودوين
وواصل مالتوس في كامبردج ودخل في سنة 1797 سلك الكهنوت الإنجليكاني Anglican، وعندما ظهر كتاب جودوين (1793) راح الأب والابن يتناقشان بشغف فيما ورد به من أفكار، ولم يشارك الابن أباه في حماسه لأفكار الكتاب· لقد شعر الابن بأنّ هذا الولع المثالي (اليوتوبي) بالعقل المنتصر (بانتصار العقل) لا مبرر له، لأنه قد جرى تسفيهه مرارا بالحقيقة البسيطة التي مؤداها أنه كلما زاد الطعام وتحقيق الرخاء سرعان ما يؤدي تزايد السكان إلى محق هذا الرخاء، وقد عبر سِفْر الجامعة في التوراة عن هذا ببلاغة·
فمادامت خصوبة الأرض محدودة ولا سبيل لوقف الشهوة الجنسية فهذا يؤدي إلى تضاعف عدد الأفواه بسبب الزواج المبكر والإنجاب الكثير وانخفاض نسبة الوفيات بين الأطفال والشيوخ، وهذا بدوره يؤدي إلى استهلاك أية زيادة في الطعام بسرعة· ولم يتفق الأب مع ابنه في هذا النتيجة ولكنه كان معجبا بالطريقة التي دافع بها ابنه عن آرائه فطلب من ابنه أن يكتب وجهات نظره وبالفعل كتبها توماس ونشرها في سنة 1798 في كتاب بعنوان: مقال عن مبادئ السكان وتأثيرها في مستقبل المجتمع An Essay on the principle of population as it affects the future improvement of Society وقد بدأ كتابه باعتذار يسترضي فيه الكاتبين اللذين يتحدى في كتابه نزعتهما التفاؤلية:(ملحق/826)
"لا أستطيع أن أشك في مواهب رجال مثل جودوين، وكوندورسيه Condorcet··· لقد قرأت - وبسرور شديد - بعضاً من آرائهما عن طرائق الوصول بالإنسان والمجتمع إلى حد الكمال، ولقد ابتهجت وتفاعلت بحرارة مع الصورة البهيجة التي رسماها· إنني أرغب بشدة في تحقيق هذه التحسينات· إلا أنني - على وفق ما يهديني إليه تفكيري - أرى صعوبات شديدة لا تقهر أمام ما ذكراه· وهدفي هو تبيان هذه الصعوبات، لكنني أعلن في الوقت نفسه أنني أبعد ما يكون عن السعادة لوجود هذه الصعوبات، وأنني لم أتخذها سببا يسعدني للانتصار على أصدقاء الفكر، فلا شيء يسعدني أكثر من أن أرى هذه الصعوبات وقد تلاشت "·
وحاول مالتوس أن يصيغ حججه بشكل رياضي· فافترض أن الطعام يزيد كل 25 عاما بمتوالية حسابية (من 1 إلى 2 إلى 3 إلى 4 إلى 5 إلى 6 وهكذا) أما السكان فيزيدون - إذا لم تكن هناك عوائق تمنع الزيادة - بمتوالية هندسية (1، 2، 4، 8، 16، 32·· وهكذا) مفترضا: "أن كل زوج وزوجة سينجبان 4 أبناء يظلون على قيد الحياة· وعلى وفق هذه النسبة فإنه في غضون قرنين سيصبح (عدد السكان) بالنسبة إلى موارد الرزق 25 إلى 9، وفي غضون ثلاثة قرون 4096 إلى 13، وفي غضون ألفي سنة سيصبح الفارق مهولا"
والسبب في أن عدد السكان لا يرتفع بمثل هذه السرعة هو أن الناس يواجهون بعوامل سلبية أو إيجابية تحول بينهم وبين التناسل· فالعوامل السلبية مانعة (وقائية): تأجيل الزواج بسبب الفقر أو غيره من الأسباب، الرذيلة (ويعنى بها مالتوس العلاقات الجنسية خارج نطاق الزوجية) والعلاقات غير الطبيعية (كالشذوذ الجنسي ··الخ) واستخدام وسائل منع الحمل أو تمديد النسل داخل نطاق الزوجية أو خارجها· وإذا فشلت هذه العوامل السلبية في حفظ التوازن بين السكان والطعام المتاح فإن الطبيعة nature والتاريخ يقدمان لنا عوامل إيجابية تؤتي مفعولها مع الأفراد الموجودين بالفعل: قتل الأطفال، الأمراض، المجاعات، الحروب، وبذلك تتم الموازنة بين المواليد والوفيات·(ملحق/827)
وخلص مالتوس من هذا التحليل الكئيب بنتائج غريبة· أولا، لا يوصي بزيادة أجور العمال لأنه إن زادت أجورهم تزوجوا مبكرا وأنجبوا مزيداً من الأطفال مما سيؤدي إلى زيادة السكان زيادة تفوق الزيادة المتاحة في الطعام فيعود الفقر من جديد· وعلى النحو نفسه لا داعي لزيادة الضرائب المخصصة للإنفاق على العاطلين فهذا سيؤدي إلى التشجيع على الكسل وسيجعل عدد أفراد الأسرة يزداد فتتضاعف الأفواه بسرعة أكثر من تضاعف الطعام المتاح، وسيؤدي التنافس بين المشترين لأن يرفع البائعون أسعار بضائعهم المتناقصة، وسرعان ما يعود الفقراء الذين كانوا قد نعموا بشيء من الرخاء إلى الفقر من جديد ·
وليواصل تدمير (أفكار) جودوين، استمر مالتوس متناولاً حلم فلسفة اختفاء الحكومة (الاستغناء عنها) فإذا اختفت الحكومة تعين على كل فرد أن يحرس مخزونه القليل بالقوة كما نحكم إغلاق أبوابنا ونوافذنا إذا ضاع القانون وعمت الفوضى· وستنتصر الأنانية وسيصبح النزاع أبديا وبإزالة كل العوائق أمام الاتصال الجنسي سيزيد عدد السكان زيادة تفوق زيادة الإنتاج مما سيؤدي إلى تقليص نصيب الفرد وستضيع المدينة الفاضلة (اليوتوبيا) في خضم منافسة يائسة وستحل فوضى لا سبيل إلى تجنبها وسينتشر البؤس ·
فلا يكون هناك حل إلا إعادة الحكومة وحماية الملكية الخاصة وتشجيع الإنتاج والاستثمار وإن حدث تمرد قامت عليه جماعة مخصوصة تحتم قمعه بالقوة وسيعود التاريخ إلى صيغته التقليدية: منتجات الطبيعة nature تقسمها طبيعة الإنسان، أو طبيعة الإنسان هي التي تقسم منتجات الطبيعة· وفي صياغة جديدة موسعة ومراجعة لكتابه وضّح مالتوس بشكل أكثر حدة وتفصيلا العلاجات الوقائية التي تحول بيننا وبين الكوارث التي يلحقها بنا التاريخ والطبيعة كعلاج لمشكلاتنا (عدم التوازن بين عدد السكان والطعام المتاح) ·(ملحق/828)
لقد اقترح وقف الإعانات عن الفقراء وعدم التصدي للمشروعات الخاصة (الحرة) واقترح ترك قانون العرض والطلب ليقوم بدوره في العلاقات بين المنتجين والمستهلكين وبين العاملين وأصحاب العمل· واقترح وضع العوائق أمام الزواج المبكر لخفض نسبة المواليد· إن التزامنا هو ألا نتزوج إلا بعد أن تكون إمكاناتنا في حالة تسمح لنا بدعم (رعاية) أبنائنا وفوق هذا يجب أن يتعلم الناس كيف يكبحون شهواتهم قبل الزواج وبعده ولا بد أن تتسم الفترة الواقعة بين سن البلوغ والزواج، بالعفة والتزام الفضيلة فإذا ما تم الزواج لا بد أن يمنع الحمل بأي طريقة وبأي صورة من الصور·
وإذا لم نلتزم بهذه التدابير أو تدابير مماثلة، فلا بد أن نوطن أنفسنا على مجاعات أو أوبئة أو حروب تقوم بدورها في إنقاص عدد السكان· وتلقى المحافظون البريطانيون ما ورد في كتاب مالتوس كوحي مقدس (إلهي)، وشعر البرلمان وأصحاب الأعمال بأن لديهم ما يبرر موقفهم في مقاومة مطالب الليبراليين - مثل روبرت أوين Robert Owen - التي تنادي بالتخفيف من وطأة قانون العرض والطلب بإصدار قوانين لتخفيف آلام المحتاجين· وسحب وليم بت Pitt المرسوم الذي كان قد قدمه لتوسيع نطاق قوانين إغاثة الفقراء ·
وبدت الإجراءات التي كانت الحكومة قد اتخذتها بالفعل ضد الراديكاليين البريطانيين عادلة بفعل مبررات مالتوس واتهاماته لهؤلاء الباعة الجوالين الذين يسوقون المدينة الفاضلة (اليوتوبيا) والذين يضلون البسطاء تضليلا مأسويا· واشتد إيمان أصحاب الصناعة البريطانيين في جدوى خفض الأجور لتحقيق الطاعة والانضباط في العمل· وجعل ريكاردو Ricardo من نظرية مالتوس أساسا لعلمه الكئيب his dismal Science ( أطلق كارليل Carlyle هذا الاسم العم الكئيب على الاقتصاد بعد قراءته لكتابات مالتوس) ·(ملحق/829)
والآن أصبحت كل الشرور تقريبا تعزى إلى خصوبة الفقراء الطائشة أو بتعبير آخر تعزى إلى كثرة إنجابهم بشكل غير محسوب - لقد أحدث كتاب مالتوس الاضطراب والفزع في صفوف الليبراليين، فاستغرق جودوين عشرين عاما لإعداد رده وأخيرا أصدر كتابة عن السكان، رد على مالتوس (1820) وكان في غالبه تكراراً لآماله وشكوى من أن مالتوس حول أصدقاء التقدم إلى رجعيين · وكان وليم هازلت Hazlitt استثناء: ففي مقال عن مالتوس في كتاب روح العصر The spirit of the Age (1824) هاجم هذه القدسية التي لا تعرف الرحمة أو بتعبير آخر هاجم نسبة القسوة إلى الله بكل ما أوتي من طاقة عقلية وحدة في الذهن· لقد ذكر: "أن خصوبة النبات تفوق كثيرا خصوبة النساء فالحبوب ستتكاثر وتتضاعف أسرع بكثير جدا من زيادة الجنس البشري، فمقدار بوشل bushel ( مكيال للحبوب يساوي ثمانية جالونات أو نحو 32 لترا ونصف اللتر) يزرع حقلا، وهذا الحقل سيثمر حبوبا تكفي لزراعة عشرين حقلا آخر"· ستكون هناك ثورات خضراء green revolutions ·
وفي أوقات لاحقة راح الكتاب يجمعون الحقائق لإبطال مخاوف مالتوس وتسكينها· ففي أوروبا والصين والهند زاد السكان لأكثر من الضعف بعد مالتوس، ومع هذا كان لديهم من موارد الطعام أكثر من ذي قبل· وفي الولايات المتحدة الأمريكية تضاعف السكان عدة مرات منذ سنة 1800 ومع ذلك زاد الإنتاج الزراعي عن الحاجة وتبقى فائض وفير للتصدير· وعلى العكس مما قاله مالتوس أدى ارتفاع الأجور إلى انخفاض نسبة المواليد· فلم تعد المشكلة نقصا في البذور أو الحقول وإنما نقصا في الطاقة غير البشرية (الآلية) لاستخدامها في الزراعة والصناعة، وإمداد القرى والمدن·(ملحق/830)
وبطبيعة الحال فإن الإجابة الحقيقية بالنسبة إلى مالتوس كانت هي منع الحمل - لقبوله على المستوى الأخلاقي، ولانتشاره وكفايته وقلة تكلفته· لقد حطمت علمانية الفكر الحواجز اللاهوتية التي وضعها رجال الدين في وجه ضبط النسل· لقد حولت الثورة الصناعية الأطفال من موجودات اقتصادية ذات نفع كما كان الحال عند عملهم في المزارع إلى موجودات معوقه اقتصاديا في المدن إذ راح تشغيل الأطفال ينقص تدريجيا، وارتفعت تكاليف التعليم وزاد ازدحام المناطق الحضريّة· وانتشر الوعي (الذكاء) فقد تحقق الرجال والنساء أن الأحوال التي تغيرت لم تعد تتطلب أسرة كبيرة العدد·
وحتى الحروب لم تعد تتطلب حشوداً من الشباب ينتشرون في مواجهة حشود أخرى ليلقوا مصرعهم بقدر ما أصبحت في حاجة إلى الابتكار التقني لتحقيق التدمير المادي·وعلى هذا فالرد على مالتوس لم يكن متمثلاً في نظريات جودوين وإنما من المالتوسيين الجدد Neo Malthusians ودعوتهم إلى ضبط النسل·
وفي سنة 1822 نشر فرانسيس بلاس Place كتابيه توضيحات وبراهين حول قضية السكان· لقد وافق على المبدأ الذي وضعه مالتوس والذي مؤداه أن السكان يزيدون بمعدل أسرع من زيادة مقادير الطعام· ووافق على ضرورة وضع قيود على الزواج لكن ليس بتأجيله وإنما الأفضل قبول منع الحمل كبديل شرعي ومقبول - نسبيا - من الناحية الأخلاقية لمواجهة الخصوبة الطبيعية العمياء (غير الموجهة) والتدمير الجماعي الذي تسببه الحروب·
(وكان هو نفسه قد أنجب خمسة عشر طفلا مات منهم خمسة في مرحلة الطفولة) وقد وزع في لندن نشرات طبعها على نفقته الخاصة يدعو فيها لضبط النسل وواصل معركته (دعوته) هذه حتى موته وهو في الثالثة والثمانين من عمره (مات سنة 1854) · ولقد عاش مالتوس عمرا طويلا يسمح له بالشعور بمدى قوة حجج بلاس Place· وفي سنة 1824 ساهم في دائرة المعارف البريطانية بمقال راجع فيه نظريته وتراجع عن نِسَبه الرياضية المرعبة، وركز - بشكل جديد - على زيادة عدد السكان كعامل في النضال من أجل الوجود· وبعد ذلك بسنوات طوال كتب تشارلز دارون في سيرته الذاتية:(ملحق/831)
"في أكتوبر سنة 1838 بعد أن بدأت بحثي النظامي بخمسة عشر شهرا، حدث أن قرأت - ترفيها عن نفسي - كتاب مالتوس عن السكان وكنت مهيأ لتقدير قيمة الصراع من أجل البقاء ··· من خلال ملاحظاتي المستمرة الطويلة لعادات الحيوانات والنباتات· لقد أذهلني ذات مرة أنه في ظل هذه الظروف فإن التغييرات الملائمة (المناسبة) ستتسبب حفظ النوع، والتغييرات غير الملائمة ستؤدي إلى التدمير· ونتيجة هذه العملية هو ظهور أجناس جديدة· وهنا أمسكت بنواصي نظرية البقاء للأصلح"
وعلى هذا وبعد نحو جيل استمر فيه المزيد من البحوث والتأمل والتفكير نشر دارون في سنة 1859 كتابه أصل الأنواع The Origin of species وهو الكتاب الأكثر تأثيرا في القرن التاسع عشر· إن سلسلة من الأفكار تزين السلسلة الكبرى للوجود وتشكل تاريخ الحضارة·
4 - بنثام: عن القانون
استخلاص أفكار جرمي بنثام Jeremy Bentham أصعب من استخلاص أفكار جودوين ومالتوس، لأن جودوين قدم مثاليات مغرية، ومالتوس قدم بعض الرعب الفاتن أما بنثام (1748 - 1832) فكتب في الاقتصاد والربا والمنفعة والقانون والعدالة والسجون - بالإضافة إلى أنه كان ماردا انعزاليا ظل يتعلم بلا نهاية، دائم التفكير في الأمور التي يصعب تحديدها، وكان لا ينشر إلا قليلا وفكر في إصلاح كل شيء، وتذمر من اقتران العملاقين (الغولين): المنطق والقانون، واستمر تأثيره يزداد في أثناء حياته (بلغ من العمر 84 عاما) وساد طوال قرن·
لقد كان ابنا لمحام ثري كاد يسحقه من كثرة التعليم· وقيل إنه قرأ في الثالثة من عمره كتاب تاريخ إنجلترا ذي الثمانية مجلدات الذي ألفه بول دي رابين Paul de Rapin وكان قد بدأ تعلم اللغة اللاتينية وهو في هذه السن (كانت هذه التربية القاسية الخانقة قد انتقلت إلى جيمس مل Mill تلميذ بنثام وطبقها على ابنه جون) · وفي مدرسة وستمنستر Westminster تفوق جيرمي في كتابة الشعر باليونانية واللاتينية·(ملحق/832)
وفي أكسفورد تخصص في المنطق وحصل على درجته العلمية وهو في الخامسة عشرة من عمره· وواصل دراسة القانون في لينكولن Lincoln لكن اضطراب كتب القانون أثار سخطه وانتهى إلى إدخال المنطق والنظام للتشريعات البريطانية وعلم القانون في بريطانيا مهما كلفه ذلك · وفي ديسمبر سنة 1763 وكان في الخامسة عشرة من عمره سمع مديح وليم بلاكستون William Blackstone للقانون البريطاني فاعترته الدهشة والسخط لهذا النفاق الصَّدّاح الذي سيؤخر الإصلاح التشريعي ولا شيء غير ذلك ويكاد يكون قد قضى عمره منذ ذلك الوقت حتى وفاته في إدخال المنطق والاتساق والروح الإنسانية للقانون الإنجليزي· لقد سأل نفسه:
"ألدى عبقرية في أي شيء؟ ماذا أستطيع أن أنجز؟ ما هو الأكثر أهمية في هذه الحياة؟ التشريع· ألدى عبقرية في التشريع (سن القوانين)؟ لقد أحببت نفسي خائفا مرتجفا: نعم إن هذه الثقة وهذا الاعتزاز المصحوب بالخوف يمكن أن يكون ينبوعا للإنجاز"·
لقد جلب إلى عمله الروح العملية (الواقعية) وسيف النظام والمنطق (العقل) · لقد امتعض من التجريدات شديدة الوطأة، امتعض من المجردات كالواجب والشرف والسلطة والحق· لقد أراد أن يحولها إلى حقائق مشخصة (محددة) وأن يفحص كل جزء ليعرضه على الحقيقة من خلال وجهة نظر ثاقبة مثابرة· فما هو الحق - على سبيل المثال؟ أهو طبيعي natural - شيء مرتبط بنا منذ الميلاد كما افترض إعلان حقوق الإنسان الذي أصدرته الثورة الفرنسية؟ أم أنه مجرد حرية فردية تابعة للصالح العام أو في إطار الصالح العام؟ ما هي المساواة؟ آثمة شيء اسمه المساواة خارج نطاق المفاهيم الرياضية المجردة؟ هل التفاوت (عدم المساواة) قدر لا فكاك منه لكل كائن حي سواء عدم المساواة في القدرات أو الممتلكات أو السلطان؟ · ما هو القانون الطبيعي؟ وما هي الحصافة أو الفطرة السليمة Common sense؟ كل هذه المجردات - في رأي بنثام هراء تضلل به الجامعات والبرلمانات والمحاكم·(ملحق/833)
وقد يمكننا أن نتخيل ما أحدثه هذا الواقعي realist في اللاهوت السائد في عصره وفي بلاده· إنه لم يجد جدوى في الإلوهية التقليدية عند محاولته النظر بتجرد إلى عالم العلم أو التاريخ أو الاقتصاد أو الحكم· لقد حاول أن يمسك لسانه الحاد الذَّرِب عن هذه الأمور لأنه شعر أن الكنيسة الإنجليكانية تعد كنيسة عقلية (تحترم العقل) بالنسبة إلى غيرها من الكنائس، وقد تكون خيِّرة، لكن الإكليروس (رجال الدين) شعروا بخصومته الصامتة وشجبوا مذهبه النفعي his utilitarianism تماما باعتباره فلسفة إلحادية godless philosophy
لقد بدأ بمحاولة عزل بلاكستون كاقتصادي يقوم بدور في نسج الدستور البريطاني، لقد بدا له هذا الوجود الباطني (الغامض) كخليط وناتج عتيق (عفا عليه الزمن) لمصادفات وأمور عارضة يتسم بالتناقض والتنقيحات المتعجلة غير قائم على منطق ولا أساس، وعلى هذا أصدر بنثام واحدة من الشرارات من سندانه، إنه كتابه A fragment on government (1776) - كأول سهم تطلقه الراديكالية الفلسفية philosophical radicalism التي كان عليها أن تناضل طوال نصف قرن قبل أن تحرز نصف انتصار في سنة 1832·
وفي الوقت الذي قام فيه هذا المتحدي البالغ من العمر ثمانية وعشرين عاما بامتداح بلاكستون لأنه علّم عِلْم القانون أن ينطق لغة الباحثين والسادة الأماجد gentlemen إلا أنه لامه لأنه قلص الدستور فجعله لا ينص إلا على سلطة الملك المطلقة· وعلى العكس من ذلك فالدستور السليم (الذي يميز الخطأ من الصواب) هو الذي يوزع سلطات الحكومة بين أجزائها (مكوناتها) المختلفة، وسيسهل تعاونها وفرضها للقيود المتبادلة - فالمبدأ الهادي للمشرعين يجب ألا يكون هو الرغبة في الهيمنة وإنما تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس فهؤلاء الناس هم هدف التشريع والتشريع لم يوضع إلا لهم، والاختبار الصحيح لأي قانون مقترح هو مدى نفعه لتحقيق هذه الغاية (إسعاد أكبر عدد من الناس) هنا نجد أن مبدأ النفعية الشهير كان هو جوهر تعاليم بنثام التشريعية والأخلاقية·(ملحق/834)
لقد كان هناك ارتباط ملحوظ بينه وبين إعلان الاستقلال الذي أصدره توماس جيفرسون Thomas Jefferson في هذا العام نفسه· باختصار لقد تعانق التاريخ والفلسفة وعمل التراث المسيحي - بغير قصد من بنثام - على توثيق عرى هذه الوحدة (المقصود هذا التلازم) ومباركتها· لقد كتب بنثام كتابه الصغير الذي عرض فيه أفكاره هذه بأسلوب أكثر وضوحا وبروح أكثر جاذبية من مباحثه اللاحقة· والآن راح يقضي بعض الوقت في السفر والترحال· ومن روسيا أرسل في سنة 1787 إلى إنجلترا مبحثه دفاع عن الربا Defence of usury - أي الفائدة·
لقد عارض الإدانة اللاهوتية للفائدة interest، ففي مجال الاقتصاد ومجال السياسة يجب أن يترك الفرد حرا في تنفيذ ما يراه على وفق لأحكامه على أن يكون هذا في صالح المجتمع· لقد كان بنثام ليبراليا ولكن الكلمة (ليبرالي) في المفهوم السائد في القرن الثامن عشر كانت تعني المدافع عن الحرية· لقد اتفق مع الفزيوقراط Physiocrats ومع جيفرسون على أن يكون تدخل الدولة في حرية الفرد في حده الأدنى· لقد كان راديكاليا - يحب الوصول إلى جذور الأمور، ولكنه لم يكن مؤيدا لتأميم الصناعة· وفي سنة 1787 لم تكن الصناعة منتشرة انتشارا كبيرا ليطالب بتأميمها·
وعند عودته من روسيا أعد لنشر كتابه المهم: "مبادئ الأخلاق والتشريع The Principles of Morals & Legislation " (1789) ، ارتبط طبعه بالتواريخ الثورية) · لقد كان كتابا صعبا مدعما بصرامة بمئات التعريفات لدرجة تترك القارئ غير المختص مشوشاً لكن بنثام كان يأخذ على عاتقه عملاً عقليا مجهدا: لقد كان يهدف إلى إحلال الأخلاق الطبيعية محل اللاهوت، وإقامة السلوك والقانون على أسس قوامها صالح المجموع أو الوطن أكثر من إقامتها على أسس قوامها إرادة السلطة التنفيذية أو مصالح طبقة من الطبقات، وتحرير القانون والسلوك من فروض الدين من ناحية ومن الأحلام الثورية من ناحية أخرى·(ملحق/835)
إن هذه الأسس الجديدة - لكل من الأخلاق والقانون - قامت على مبدأ النفعية - فائدة الفعل act للفرد، وفائدة العادة للجماعة، وفائدة القانون للشعب وفائدة الاتفاقات الدولية للجنس البشري· وذهب بنثام إلى أن كل النظم تسعى لتحقيق المسرة وإبعاد الألم· وعرّف السرور بأنه "أي ترضية" وعرّف الألم بأنه "أي إزعاج" سواء للبدن أو النفس· والنفعية هي "ميزة تحقيق السعادة أو اجتناب الألم"، والسعادة هي "استمرار السرور"· والنفعية "لا تحتاج لقصرها على الفرد فقد تكون - جزئيا أو أساساَ - للأسرة أو المجتمع أو الدولة أو الجنس البشري"· وقد يجد الفرد (من خلال غرائزه الاجتماعية) السعادة أو تجنب الألم في ربط ما يرضيه بما يرضي الجماعة التي ينتمي إليها وعلى هذا فعلاوة على تحقيق الهدف العاجل، فإن الهدف النهائي والمحك الأخلاقي لكل الأعمال والقوانين هو مدى إسهامها في تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد· "قد يكون لدى صديق هو أعز الأصدقاء لكنني إن عرفت أن مصالحه تتعارض مع مصالح المجموع، فإنني لن أضع مصالحه في اعتباري· إنني سأخدم أصدقائي وأتوقع أن يخدموني" ولم يدع بنثام أنه أصل هذه الصيغة النفعية·
لقد أعلن بصراحته المعتادة - أنه وجد أساسها في كتاب جوزيف بريستلى Joseph Priestly مقال عن المبادئ الأساسية للحكم " Essay on the first principles of Government" (1768) وكان يمكن أن يجده في كتاب فرانسيس هتشسون في الأخلاق Hutcheson's Enquiry. عن الخير والشر Concerning Moral Good & Evil (1725) , حيث عرف المواطن الصالح بأنه "الذي يقدم أقصى قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس" أو في كتاب بيكاريا Beccaria الموسوم باسم: " Trattato dei delitti e delle pene" (1764) الذي وصف لنا محك الأخلاق وهدفها La massima felicita divisa nel maggior numero أو كما أورد هلفيتيوس - بشكل أوضح - في كتابه عن الروح " De l'Esprit ... " 1758:
" النفعية هي أساس كل الفضائل البشرية وأساس كل التشريعات ··· فكل القوانين يجب أن تتبع مبدأ واحدا - منفعة العامة - أي أكبر عدد من الناس يعيشون في ظل الحكومة نفسها"(ملحق/836)
إن بنثام لم يفعل أكثر من تقديم صيغة كمية لوصية الكتاب المقدس أحب لجارك ما تحب لنفسك لقد كان إنجازه هو تطبيق مبدأ السعادة القصوى على قوانين إنجلترا· لقد أصبح لديه الآن حقيقة أخلاقية فكرتها واضحة وأصبح لديه معيار يمكن به الحكم على وصايا المبشرين وتحذيرات المعلمين ومبادئ الأحزاب وقوانين المشرعين ومراسيم الملوك· فلا يجب أن يقدم القانون كليات غامضة (باطنية) كالحقوق طبيعية أو جماهيرية أو مقدسة (إلهية) ولا يجب عليه أن يقدم وحيا أوحاه الله إلى موسى أو محمد أو عيسى، ولا عقوبات بقصد الثأر·
فكل اقتراح تشريعي يجب أن يجيب عن هذا السؤال: ما هو الأفضل أو ما هو الأصلح؟ ما هو الأصلح للفرد أو للأقلية أو للكثرة أو للجميع؟ فالقانون يجب أن يكيف نفسه مع الطبيعة البشرية التي لا سبيل لتغييرها ومع القدرات المحدودة للبشر ومع الحاجات العلمية للمجتمع، ولابد أن يكون واضحا ويسمح بالتنفيذ أو التطبيق العملي والمحاكمة العاجلة والحكم الحازم والعقوبات الصحيحة والإنسانية· ولهذه الغايات كرس بنثام الفصول العشرة الأخيرة من كتابه والسنوات الأخيرة من حياته·
وفي هذه الأثناء راح يطبق معياره هذا على القضايا المثارة في أيامه· لقد أيد آراء الفزيوقراطين في مبدأ عدم التدخل الحكومي في الشؤون الصناعية وإدارة الشؤون العامة Politics إلا في الحدود الدنيا، فالفرد هو - بشكل عام - أفضل من يجيد الحكم فيما يحقق سعادته ولا بد من تركه حرا في نطاق ما هو مقبول اجتماعيا، وعلى أية حال لا بد أن يشجع المجتمع المؤسسات الخيرية التي يتنازل أعضاؤها عن جانب من حريتهم لتوحيد الجهود لخدمة قضية عامة· وانطلاقا من المبادئ نفسها دافع بنثام عن حكومة التمثيل الغيابي فهي الأفضل مع كل أخطائها ومفاسدها·(ملحق/837)
وقد لاقى كتاب مبادئ الأخلاق والتشريع ترحيبا وثناء على نطاق واسع أكثر مما كان متوقعا فقد كان الكتاب صعبا في صياغته ذا روح إنتقادية وذا منحى علماني· وكان الترحيب به خارج البلاد أشد حرارة من الترحيب به داخلها· لقد ترجم في فرنسا التي جعلت مؤلفه مواطنا فرنسيا (منحته حق المواطنة الفرنسية) في سنة 1792· وراسله القادة السياسيون والمفكرون وأتته الرسائل من العواصم المختلفة ومن جامعات أوروبا· وفي إنجلترا أدان المحافظون Tories مبدأ النفعية باعتباره مبدأ غير وطني وغير مسيحي وأنه مبدأ مادي·
ودافع بعض الكتاب ذاكرين أن أفعالا كثيرة - مثل الحب الرومانسي والأبوي والتضحية بالنفس وتبادل المساعدة - لا تنطوي على حسابات واعية بإرضاء الذات (أو إشباع رغبات الذات)، واعترى الفنانون الإحباط للحكم على أعمالهم الفنية بمقياس المنفعة· لكن الجميع فيما عدا الموظفين الحكوميين وافقوا على أن النفع الذاتي هو خلق كل الحكومات وسياساتها إذا نحينا جانبا الادعاء والخداع·
لقد عاش بنثام لفلسفته وجعل أعوامه مفيدة بشكل متواصل· لقد ناضل في كتابه عن العقلانية في الدليل القضائي Rationale of Judicial Evidence (1825) وفي مواضع أخرى ليوضح القوانين القديمة والحالات المعاصرة ونجح في تحديث (التخفيف من وطأة) المبالغات البربرية في أساليب إدارة السجون ومعاملة المجرمين· وبدأ في سنة 1827 - وكان قد بلغ التاسعة والسبعين من عمره - في تقنين Codify القوانين الإنجليزية لكن المنية وافته بين المجلد الأول والثاني·
وقد ساهم في تأسيس The Westminster Review (1823) كمنبر للأفكار الليبرالية· وجمع حوله جماعة من التلاميذ والمريدين اعترفوا بحرارة قلبه وطيبته رغم فظاظته الخارجية· وكان بيير إتين دومون Pierre - Etienne Dumont داعيا لأفكاره في فرنسا، وجيمس ميل Mill - المفكر البارز - حرر بنفسه المخطوطة التي كتبها بنثام، ورفع جون ستيوارت ميل Mill الدافع أو السبب من مرحلة الحساب إلى مرحلة الإنسانية·(ملحق/838)
لقد عمل هؤلاء الفلاسفة الراديكاليون بقيادة بنثام على حق التصويت للذكور البالغين والاقتراع السري وحرية التجارة وتحسين الصحة العامة وتطوير السجون وتطهير القضاء وعفة مجلس اللوردات وتطوير القانون الدولي· وحتى سني الستين من القرن التاسع عشر أكد أتباع بنثام فلسفته المنطوية على الفردية والحرية· وفيما بعد ترصدت الاشتراكية لمقولة سعادة أكثر لأكبر عدد من الناس وحولت تيار الإصلاح نحو استخدام كممثل لإرادة العامة في مهاجمة الأمراض الاجتماعية· وبينما كان بنثام يحتضر كان يفكر في أن يجعل جثته مفيدة تماما لأكبر عدد من الناس فأوصى بتشريح جثته في حضور أصدقائه· وحدث هذا بالفعل وبعد تشريحها ملئت جمجمته بالشمع - وطليت به وتم إلباس هيكله العظمي الملابس الداكنة التي اعتاد (بنثام) ارتداءها، ووضع بشكل منتصب في صندوق زجاجي في الكلية الجامعية في كمبردج ولازال موجودا حتى الآن·(ملحق/839)
الفصل العشرون
الأدب والفكر في مرحلة انتقال
1 - الصحافة THE PRESS
إن كانت فرنسا قد هيمنت على المسرح السياسي في هذه الحقبة، فقد كانت إنجلترا هي قائدة الأدب والحركة الفكرية· فإذا استثنينا شاتوبريان Chateaubriand فَمَن لفرنسا في هذه الفترة يمكن مقارنته بوردزورث Wordsworth وكولردج وبايرون وشيلي Shelley؟ ولم نُدرج كيتس Keats (1795 - 1821) في هذه القائمة فأعماله الكبرى لا تدخل في مجال مقارناتنا الحالية، فقد كانت أزهى الورود في الشعر الإنجليزي طوال أربعة قرون بعد عصر إليزابيث الأولى·
فحتَّى الرسائل المتبادلة كان يمكن اعتبارها في ذلك العصر أدباً، فخطابات بايرون Byron وكولردج Coleridge تبدو أقرب إلى روحنا من أشعارهما· وفي تلك الأيام عندما جرت العادة أن يدفع المُرْسَل إليه ثمن طابع البريد، فإنّه كان يطلب لقاء ما دفعه ثروة أو أسلوباً (المقصود أنه كان يتوقع نظير دفعه لتكاليف البريد أن يكون الخطاب مشتملاً على أموال أو أن يكون على الأقل ذا أسلوب جميل) وكان معنى أن يتلقى خطابا من هذه الأرواح المتوهجة (المقصود الشعراء المشاهير) أنه حصل على جواز سفر يخلد ذكره بعد الوفاة·(ملحق/840)
ولم تكن الصحف على أية حال تمثل أدبا وفكرا· فعادة ما كانت الصحيفة صفحة كبيرة مطوية لتصبح أربع صفحات؛ الأولى والرابعة للإعلانات، والصفحة الثانية تتناول السياسة بما في ذلك ملخص للأعمال البرلمانية في اليوم السابق · وكان يصدر في لندن عدة صحف يومية: خاصة التايمز Times ( الأزمنة) التي أسست في سنة 1788 وكانت تبيع نحو خمسة آلاف نسخة، والكوريير Courier ( الوقائع) التي تبيع عشرة آلاف نسخة، وصحيفة مورننج بوست Morning Post وهي صحيفة حزب الأحرار Whigs ( حزب الهويجز الذي عُرِف فيما بعد بحزب الأحرار) والمراقب Examiner صوت الليبراليين من أمثال لاي هنت Leigh Hunt· وكان لكل مركز من المراكز التي لها ممثلون في البرلمان ولكل كونتية (إقليم أو مقاطعة) صحيفته الخاصة وأحيانا صحيفتان، واحدة للضالعين في السلطة، وأخرى لغير الضالعين فيها· وكانت هناك صحف أسبوعية مختلفة كان أشهرها بوليتكال ريجستر (المسجل السياسي) التي يصدرها وليم كوبت William Cobbett وكان هناك عدة دوريات سياسية واجتماعية وأدبية· كان أقواها مراجعات أدنبره Edinburgh Review التي تصدر أربع مرات في السنة (فصلية) وكان قد أسسها في سنة 1802 كل من فرانسيس جفري Francis Jeffery وهنرى بروهام Brougham وسدني سميث Sydney Smith للدفاع عن الأفكار التقدمية والمراجعات الفصلية Quarterly Review التي أسسها في 1807 جون مري Murray وروبرت سوثي Robert Southey ووالتر سكوت Walter Scott للدفاع عن أفكار حزب المحافظين (التوري Tory) وكانت سلطة الصحافة عنصرا مهيمنا على الساحة البريطانية·(ملحق/841)
فلم تعد أداة للتعبير الأدبي كما كانت في الأيام المتمهّلة التي عاشها أديسون وستيل Addison & Steele وإنما أصبحت منفذاً للمعلنين ولساناً ناطقا باسم الجماعات السياسية · وما دام المعلنون يدفعون على وفق مدى انتشار الصحيفة فقد كان على المحرر والناشرين أن يضعوا في اعتبارهم الرأي العام حتى لو كان هذا على حساب الحزب في السلطة، وعلى هذا راحت الصحافة تسخر من أبناء الملك الذين لا عمل لهم رغم كل جهود الحكومة لحمايتهم، وبالتدريج وكلما تقدمت أعوام القرن التاسع عشر، أصبحت الصحافة أداة - أصبحت أخيراَ أداة لا مفر منها - للديمقراطية الصاعدة
2 - الكتب
تضاعف عدد الكتب مع نمو الطبقة الوسطى وزيادة عدد القراء وأصبح النشر عملاً مربحاً بشكل كاف حتى إنه أصبح مهنة مستقلة، منفصلة عن بيع الكتب - لقد تنافس الناشرون للتعاقد مع المؤلفين ودفعوا لهم مبالغ جيدة وكرموهم في الصالونات الأدبية ومن هنا وجدنا الناشر جوزيف جونسون يفوز بالنشر لجودوين Godwin وبين Paine وبلايك Blake، ووجدنا الناشر أرشيبالد كونستابل Archibald Constable يشرك والتر سكوت في ديونه، ووجدنا توماس نورتون لونجمان Thomas Norton Longman ينشر لوردزورث وجوزيف كوتل Joseph Cottle - في بريستول Bristol - ينشر لكولردج وسوثي· ووجدنا جون مري John Murray - من لندن· يستأثر ببايرون ويتحكم في تجواله·
وفي هذه الأثناء راحت شركة آل لونجمان العريقة تنفق ثلاثمائة ألف جنيه لنشر طبعة جديدة (1819) من موسوعة شامبرز Chamber's Cyclopoedia في 39 مجلدا، وصدر من الموسوعة البريطانية ثلاث طبعات جديدة في فترة وجيزة - الطبعة الثالثة في 18 مجلداً (1788 - 1797)، والطبعة الرابعة في 20 مجلدا في سنة 1810 والطبعة الخامسة في 25 مجلدا في سنة 1815· وكان الناشر يدفع مبلغا إجماليا (دفعة واحدة) عند تسلمه مخطوط الكتاب من المؤلف، ولا يتحدد المبلغ بنسبة من سعر كل نسخة مباعة، كما كان الناشر يدفع بعض المال بالإضافة إلى هذا المبلغ الإجمالي السابق ذكره إذا طبع من الكتاب طبعات أخرى وذلك بعد بيع النسخ المطبوعة من هذه الطبعات الجديدة،(ملحق/842)
ومع هذا فقد كان قليلون من الكتّاب هم الذين يعيشون من حصاد مؤلفاتهم - لقد هيأ التأليف لتوماس مور Thomas Moore معيشة مريحة، وكان الأمر مشكوكا فيه بالنسبة إلى سوثى وهازلت Hazlitt، وتراوحت حياة سكوت Scott بين الثراء والفقر· لقد خلف الناشرون النبلاء كحماة للأدب والفكر وظل بعض الأثرياء يقدمون يد العون، ومن هنا رأينا آل ودجوودز Wedgwoods يقدمون العون المالي لكولردج ووجدنا ريزلي كالفرت Raisley Calvert يوصي لوردزورث بتسعمائة جنيه، وأرسلت الحكومة للمؤلفين حَسَنِي السلوك مكافآت شرفية في المناسبات، ورعت شاعر البلاط بمائة جنيه لذا كان من المتوقع أن يؤلف قصائد تتناول نصرا حققه الجيش، أو تهنئة بمولود ملكي أو زواج ملكي أو رثاء لفقيد من الأسرة المالكية·
وقد عاق حركة القراءة العامة ارتفاع أسعار الكتب، لكن حركة القراءة هذه قد زادت بانتشار نوادي الكتب وبإتاحة الاستعارة من المكتبات التي كان أفضلها المكتبة العامة (قاعة المطالعة أو الأثينايوم Athenaeum) وقاعة المحاضرات (الليسيوم Lyceum) وكلتاهما في ليفربول Liverpool، وكان في الأولى ثمانية آلاف مجلد وفي الأخرى أحد عشر ألفا· وكان على المشترك أن يدفع رسماً (اشتراكا) سنويا يتراوح ما بين جنيه (إنجليزي) وجنيهين مما يعطيه الحق في استعارة أي كتاب من الكتب المصفوفة فوق الرفوف· وكان في كل مدينة مكتبة لإقراض (إعارة) الكتب·
وكلما انتشرت القراءة بين العوام متخطية حدود الطبقة الوسطى فقدت شيئا من مذاقها ومستواها· فكلما اتسع جمهور القراء زاد التحول من التراث الكلاسيكي إلى الكتابات العاطفية (الرومانسية) ومما ساعد على هذا التحول أيضا زيادة إنعتاق حب الشباب وانفلاته من الرقابة الأبوية وروابط المِلكية (بكسر الميم) وكان من الممكن توظيف حكاية حب واحدة في خلق مائة عقدة قصصية· إن موضوعات ريتشاردسون Richardson المبكية مستقاة من حكايات فيلدنج Fielding عن العشاق المتيمين ومن حكايات سمولت Smollett عن المغامرين المفعمين رجولة·(ملحق/843)
لقد غلبت النساء (المقصود الشخصيات النسائية) على أعمال الروائيين باستثناء متى مونك Monk لويس وقصة أمبروزيو Ambrosio أو الراهب (1795) التي عرض فيها مشاهد مرعبة، ويليه في مدرسة الغموض والرعب السيدة آن راد كليف Ann Radcliffe، فهي فقط التي تستحق المكانة الثانية بعده في هذه المدرسة بأعمالها الناجحة: قصة صقلية (1790) قصة الغابة (1791) وأسرار أدولفو (1794) وعادة ما يطلق العامة من الإنجليز على مثل هذه الكتب: قصص romances ( من الكلمة الفرنسية roman التي تعني قصة) أما الكلمة novel فخصصت للأعمال القصصية الممتدة التي تتناول أحداثا طبيعية في حياة مألوفة كما هو الحال في كتابات فيلدنج Fielding والكاتبة جين أوستن Jane Austin وقد وصلت روايات ويفرلي التي ألفها سكوت بين هذين الفرعين أو بتعبير آخر كانت وسطاً بينهما· وفي القصص الرومانسي تفوقت النساء على الرجال، وكان هذا أمراً طبيعيا·
لقد أحدثت فرانسيس (فانى) بيرنى Frances (Fanny) Burney زوبعة بروايتها "إفيلينا Evelina " (1778) واستمرت رواياتها كشرارات في الوسط الأدبي: سيسيليا Cecilia (1782) وكاميلا Camilla (1796) والمتجول Wanderer (1814) وبعد موتها (1840) شغلت يومياتها (1842) جيلاً آخر وكانت ماريا إدجورث Maria Edgeworth أكثر شهرة، فروايتاها Castle Rackrent (1800) والمتغيب Absentee (1812؟) اتسمتا بالواقعية وقدمتا وصفا تفصيليا لاستغلال اللوردات الإنجليز للأيرلنديين لدرجة أن إنجلترا نفسها تأثرت وعملت على تخفيف هذه الشرور· ولم تتفوق عليها من نساء عصرها المؤلفات سوى امرأة واحدة فاقت الرجال جميعا·(ملحق/844)
3 - جين أوستن JANE AUSTEN: من 1775 إلى 1817 م
كل المغامرين في قصصها كانت هي وكيلة عنهم (تتحدث باسمهم)، وما دامت تجد في الحياة العادية للأرستقراطيين والمهذبين إغراء كافيا فلم تكن في حاجة لإضافة إلا ما هو قليل - فهذه الحياة العادية لهذه الطبقة كانت عامرة بنساء متعلمات حساسات مثلها· وكان أبوها قسّاً لأبرشية ستيفنتون Steventon في هامبشير Hampshire· لقد وُلدت - إذن - في بيت قس وعاشت فيه حتى بلغت السادسة والعشرين من عمرها· وفي سنة 1809 قدم أخوها إدوارد لأمه وأخواته بيتا في شوتون Chawton·
وعاشت في هذا البيت حتى العام الأخير من عمرها وكانت تغير نمط حياتها البسيط بالقيام بزيارات لإخوتها وبالإقامة في لندن · وفي مايو سنة 1817 ذهبت إلى ونشستر Winchester لتعالج من مرض ألم بها فقضت نحبها في 18 يوليو عن عمر يناهز الواحدة والأربعين ولم تكن قد تزوجت·
وقد أعطت لحياتها معنى وأضفت عليها تشويقا بالحب الأخوي الذي جعل خطاباتها دافئة، بفكاهاتها الساخرة الخفيفة التي يشع منها الذكاء تلك الفكاهات التي تقتنص ما في الحياة من سخف وقلق باطني، ثم إنها راحت تصور كل هذا دون مرارة، ومما أضفى أيضا على حياتها معنى سعادتها بمشاهد الريف وإيقاع الحياة السهل فيه· وكان لديها من الأسباب ما يكفي لتكره مدينة لندن فهي لم تقدم لنا صورة مشوقة لها وإنما عرضت الحياة فيها توسط بين الفقر المزري والفساد المتأصل وصورتها كمكان لا تأتي إليه البنات الريفيات إلا ليتعرضن للاغتصاب· لقد شعرت أن أفضل أنواع الحياة في إنجلترا هي حياة الطبقة الأرستقراطية الدنيا في الريف الإنجليزي·(ملحق/845)
ففي بيوتهم تراث متوارث وانضباط يؤدي إلى شيوع الاستقرار والرضا والقناعة· وفي هذا الجو المشبع سلاما قلما يسمع المرء عن الثورة الفرنسية، ونابليون في هذا الوسط غول أو شبح بعيد جدا، إنه أبعد ما يكون عن انتزاع المرء من أشغاله الأكثر أهمية المتمثلة في اختيار الشريك المناسب ليُراقصه أو ليعيش معه· وفي بيوت هذه الطبقة يجد المرء للدين مكانا يحفظه إذ إنهم نزعوا من الدين ما يجعله يسبب الرعب نتيجة التكلف الباطني (المقصود غالبا المصطنع) الذي قد يزدهر في بيت قسيس· ولم تكن الثورة الصناعية قد وصلت بعد إلى الريف لتغيظ الطبقات وتشوه المناظر وتلوث الهواء· إننا نسمع صوت جين أوستن الموثق والموثوق به في مواساتها لفاني برايس Fanny Price التي كان عليها أن تقضي شهورا في لندن على غير رغبتها:
"لقد حزنت فاني Fanny لا فتقادها كل مباهج الربيع ·· إنها لم تكن تعرف إلى أي مدى كانت تسببه لها بداية ظهور الأوراق واستمرارها في الاخضرار من بهجة وسرور، إلا بعد أن افتقدتها· يا للانتعاش الذي كان يحس به الجسد والروح عند مراقبة تقدم الربيع الذي لا يمكن - رغم نزواته وتقلباته - أن يكرهه المرء··· انظر إلى جماله الذي يزداد رويدا رويدا من بداية ظهور وروده الباكرة في أكثر الأجزاء دفئا في حديقة خالتها إلى البراعم في مزرعة عمها وعظمة الأشجار وسموقها" ·
لقد كانت مثل هذه البيئة هي التي أضفت على روايات جين أوستن جوا منعشا من السلام والصحة والطبيعة - إنها بيئة تمثل المنزل المريح والحديقة ذات العبير والتجول في الأمسيات مع الأخوات السعيدات، وكلمات التشجيع التي كانت تسمعها من أبيها عن تصفح مخطوطات رواياتها، هذا كله جعل قراءها من النوع غير التعجل الذين كانوا راضين بهدوء عما يقرءون وقلما نجد قراء من هذا النوع لأي نوع من الروايات· لقد تعلمت أن النهار نفسه به ما يكفي من البركة·(ملحق/846)
لقد كتبت رواياتها الست وصبرت كثيرا على عدم نشرها· نفي سنة 1795 - وكانت قد بلغت العشرين - ألفت أول أعمالها الشعور والإحساس لكنها لم تكن راضية عنه وفي العامين التاليين أنهت روايتها الكبرياء والكراهية وواصلت مراجعتها وتنقيحها وأرسلتها إلى الناشر وأعادها إليها لأنها لن تحقق ربحا· وفي سنة 1798 - 1799 وضعت التخطيط العام لرواية دير نورثانجر Northanger فاشترى كروسبي Crosby حق نشرها لكنه تركها - بعد أن دفع للمؤلفة - دون نشر· ثم مرت بها فترة غير مثمرة (بلا إنتاج) ربما كانت بسبب تغير محل الإقامة وربما كانت بسبب عدم التشجيع·
وفي فبراير 1811 بدأت كتابة رواياتها حديقة مانسفيلد Mansfield Park، وفي نوفمبر أعادت صياغة روايتها الشعور والإحساس وتمت طباعتها· وفي آخر خمس سنوات عمرها ظهر الحصاد الكبير: فوجدت رواية الكبرياء والكراهية ناشرا في سنة 1813 وحديقة مانسفيلد في سنة 1814، وإيما Emma في سنة 1816، وبعد موتها في سنة 1817 ظهرت رواية دير نورثانجر وبعدها بقليل رواية الإقناع· وتقدِّم رواية الكبرياء والكراهية في بدايتها خمس أخوات كلهن جاهزات للزواج وتواقات إليه·
فقد كانت السيدة بنت Bennet ذات روح متقلبة مندهشة وكانت دعواتها كل صباح أن تجد لبناتها أزواجا، وكان فكرها دوماً يدور حول هذا الأمر· أما زوجها السيد بِينت فقد تعلم الهروب من حياته اليومية إلى المكتبة حيث يجد عالما آخر بلا إزعاج وكان قد تخلى تماما عن مشكلة تقديم خمس دوطات dowries - من الأراضي والجنيهات - لبناته، فهو يحتفظ ببيته طوال حياته فقط، وبعد الموت ينقل على وفق وصية للسيد المبجل كولنز Collins وهو قس بروتستنتي في مدينة قريبة ولما يتزوج بعد· آه لو أن إحدى بناته (بنات السيد بنت) استطاعت أن توقع هذا القسي في شراكها! لقد كانت كبرى البنات وألطفهن (جين Jane) ·(ملحق/847)
قد عقدت الآمال على الزواج من السيد بنجلي Mr. Bingley الثري الوسيم لكن يبدو أنه كان يفضل أخرى، ولم تكن جين Jane تستطيع إخفاء أحزانها إلا بالكاد· أما إليزابيث Elizabeth التي تليها في العمر فلم تكن فخورة بجمال وجهها وقوامها وإنما باستقلالها وكونها شخصية معتمدة على نفسها فكانت تفكر بنفسها في أمر نفسها ولم تكن لتقبل أن تطرح في مزاد· لقد كانت تقرأ كثيرا في مجالات مختلفة وكان يمكنها مواجهة أي رجل في مضمار الثقافة والفكر، وأبدت المؤلفة إعجابا بمثل هذه الشخصية· والأخت الثالثة ماري Mary كانت صالحة للزواج من حيث السن وكانت تواقة إليه وكانت مغيظة ساخطة لأن الأكبر منها سنا سيستغرقن وقتا طويلا قبل أن يفسحن لها الطريق (المقصود أنها لن تتزوج إلا إذا تزوجن) · أما ليديا Lydia أصغرهن فكانت مندهشة تتساءل لم يتحتم على البنت أن تنتظر الزواج الرسمي؟ ولِمَ لا يسمح لها باكتشاف أسرار الجنس قبل ذلك؟ ·
لقد ابتهجت الأسرة بأخبار مفادها أن السيد كولنز يخطط لزيارتها· وكان السيد كولنز هذا رجلا معتزا بنفسه وواعيا بقداسته، لكنه يراعي بعناية الفروق الطبقية والمصالح المادية· ومن خلاله قدمت المؤلفة صورة قاسية للتبعية المطلقة للطبقة الاجتماعية المغلقة، تلك التبعية التي وقع فيها هذا القس الإنجليكاني Anglican المتدني الرتبة في السلك الكهنوتي· لقد كان هجاء المؤلفة شديدا، لكنه كان واضحا وعميقا وحادا كحد المقصلة ·
وأتى الشاب المبجل ورأى أن جين الجميلة منيعة صعبة القياد فتقدم للزواج من إليزابيث التي أربكت الأسرة برفضها إياه فقد كانت إليزابيث حبيسة الصورة المثالية التي رسمتها لشريك حياتها· لكن ماري تُوجِّه عينيها وابتساماتها صوب وريث الثروة الموعود وراحت تلفت نظره برقتها وقد دفعه هذا إلى طلب يدها من والديها السيد والسيدة بنت، وهي لم تفعل ذلك إلا لإحساسها أن زواج الأخت الثالثة قبل الأخريات سيكون شركاً بكل معنى الكلمة·(ملحق/848)
لقد بدت كل الأمور على ما يرام ولكن ليديا كانت خائفة أن يفوتها قطار الزواج بسبب تهور السيد وكهام Wickham معها· لقد تلوثت الأسرة كلها بسبب خطيئتها مع السيد وكْمان وتجنبها كل الجيران تقريبا· وأرسل السيد المبجل كولنز توبيخاً للسيد بنت: "إن موت ابنتك كان أفضل مما حدث··· من الذي سيرتبط بمثل هذه الأسرة؟ " وأنقذت إليزابيث الجميع بإغرائها السيد داركي Darcy الطبقي المتحفظ بتمنعها وكبريائها فألقى بملاينيه تحت قدميها وأجبر وكمان على إصلاح خطئه بالزواج من ليديا وحلت كل المشكلات وعبّرت المؤلفة عن هذا بطريقتها الساحرة لدرجة أن السيد بنجلي Bingley اكتشف أنه كان دوماً يحب جين·
أما رواية حديقة مانسفيلد فقد كانت أفضل بناء، فقد كان الحل متوقعاً في مستهل القصة· ويكاد يكون الإعداد له في كل حدث من أحداث الخطة بشكل تدريجي (خطوة خطوة) · ولم تكن شخصيات القصة مجرد دمى في حبكة فنية وإنما كانت أرواحا تشق طريقها في الحياة بحيوية، وكلها توضح بشكل سوي توجيه (أو ملاحظة) هيراكليتوس Heracleitus التي مؤداها شخصية الإنسان هي قدره (وستكون هذه الملاحظة هي الدليل المرشد في كل القصة) أما الحديقة فمن الممتلكات الجميلة للسيد توماس برترام Thomas Bertram الذي كان أبا أكثر تدقيقا ومراقبة من السيد بنت·
وعلى أية حال فقد ارتكب هو أيضا أخطاء غريبة؛ فقد انشغل بجمع الثروة والحصول على الرتب الشرفية فترك ابنه الكبير الذي انحط أخلاقيا وتدهور بدنيا بسبب عدم رعاية أبيه له، وسمح هذا الأب أيضا لابنته بقضاء إجازة طويلة في لندن حيث تصبح كل أخلاق الريف مجالا للسخرية مع أن أهل الريف هم عماد الحياة·
وكان مما يحسب له أنه تبنى في أسرته فاني برايس Fanny Price ابنة أخت زوجته الفقيرة والمتواضعة والحساسة· وكان محط فخره هو ابنه الأصغر إدموند Edmund المكرس للكنيسة والذي وصف بأنه نموذج لما يجب أن يكون عليه رجل الدين· لقد كان بديلاً مؤقتا للسيد كولنز· لقد استغرق الحديث عن إدموند مئات الصفحات لتؤكد المؤلفة أن تأثيره في فاني كبير، وقد عرضت المؤلفة في سياقها الهادئ ارتباطهما معا بالطريقة التي يحدث بها مثل هذا الارتباط في الحكايات الكلاسيكية·(ملحق/849)
لقد كانت جين أوستن حتى في روايتها هذه وفي دراساتها عن الحب كلاسيكيّة ذات عقل رزين وتناول ممتاز· ففي زمن سادت فيه أسرار أدولف Udolphian mysteries وقلاع والبول Walpolian Castles ظلت واقعية وظلت مراقبة تحكم أحكام العقل· وكان أسلوبها عفيفا محتشما كأسلوب دريدن Dryden وكانت تقواها غير انفعالية وإنما كانت كتقوى البابا (رزينة متعقلة) وكان مجال اهتمامها ضيقا لكنه كان عميقا تسبره بمسبارها· لقد أدركت أن الجانب الأساسي في الحياة هو تجنيد الفرد لخدمة الجنس البشري، فحتى أزمات الحكومات وصراع القوى بل والمطالبة بالعدالة الاجتماعية، كل ذلك أقل أهمية من الجهود غير الواعية للشباب للوصول إلى مرحلة النضج، واستخدام قواهم والاستفادة منها· ونظرت المؤلفة إلى عنصري البشرية - الرجال والنساء - على قدم المساواة، فكلاهما - الرجل والمرأة - تستعصي أمراضهما على العلاج وتستعصي أهدافهما على الفهم، فيما ترى المؤلفة·
إنها تتناول موضوعها بهدوء، فلا نسمع لها صراخا لكننا نستطيع تتبع أفكارها بشوق بالقدر الذي تسمح به سرعة خطى الحياة أو سرعة وقع أحداثها، ويمكن في وسط هذه السرعة أن نكون هادئين أو بتعبير آخر أن نسمح لهدوء المؤلفة بالانتقال إلينا· في هذه الأيام كنا قلما نجد قرية في إنجلترا إلا وفيها متعبدوها (طائفة من المتدينين) ·
4 - وليم بلايك WILLIAM BLAKE: 1757 - 1827
ولد وليم بلايك قبل جين أوستن بثمانية عشر عاما ولاقى نحبه بعد موتها بعشر سنين· ويمثل بلايك حلقة الوصل أو المرحلة الانتقالية إلى الرومانسية· لقد عاش في عالم الأسرار ورفض العلم وشك في الله وعبد المسيح وحوّل الكتاب المقدس ونافس الأنبياء ودعا إلى مدينة مثالية (يوتوبيا utopia) يقطنها قديسون يمشون على الأرض ·(ملحق/850)
لقد كان ابنا لصانع جوارب في لندن، واعتراه الرعب وهو في الرابعة من عمره عندما رأى الرب ينظر إليه عبر النافذة· وبعد ذلك بقليل رأى الملائكة ترفرف فوق شجرة، كما رأى النبي حزقيال Ezekiel يتجول في حقل · وربما لم يُرسل به أهله إلى المدرسة حتى العاشرة من عمره بسبب خيالاته التي كانت تختلط بحواسه دون فاصل أو قاعدة· وقد التحق بعد وصوله هذه السن (العاشرة) إلى مدرسة رسم، وفي الخامسة عشرة بدأ التدرب على مهنة النحت مع النحات جيمس باسير Basire واستمر على هذه الحال طوال سبع سنوات ·
لقد قرأ كثيرا بما في ذلك أعمالا رومانسية مثل ذخائر الشعر الإنجليزي القديم لبيرسى Percy ومؤلف ماكفرسون Macpherson المعروف باسم أوسيان Ossian وكتب هو نفسه الشعر ورسم الرسوم التوضيحية· وعندما بلغ الثانية والعشرين تم قبوله كدارس للحفر في الأكاديمية الملكية Royal Academy ولكنه تمرد على نصائح رينولدز Reynolds الكلاسيكية، وفي وقت لاحق ندم على أنه أضاع جهده وشبابه وعبقريته في ظل كابوس السيد يشوع Joshua وجماعته الماكرة من الخدم المستأجرين وقد طور أسلوبه الخيالي في الرسم رغماً عنهم وكان قادرا على إبراز شخصيته من خلال الألوان المائية وأعمال الحفر·
ولم يكن ميالاً بشدة إلى الجنس الآخر وقد عبر ذات مرة عن أمله في ألا تكون هناك لقاءات جنسية وعن أمنيته في زوال هذه الرغبة من البشر · ومع هذا فقد تزوج وهو في الخامسة والعشرين من كاترين بوشير Catherine Boucher وكان غالبا ما يسبب لها المتاعب بنوبات غضبه كما كان يرعبها برؤاه، ومع هذا فقد اعترفت بعبقريته واهتمت به بإخلاص حتى آخر حياته ولا نعرف أن له أطفالا لكنه كان يجب اللعب مع أطفال أصدقائه·(ملحق/851)
وفي سنة 1783 قام جون فلاكسمان Flaxman وأ· س · ماثوس A.S. Mathews بتمويل طبعة خاصة لأشعار بلايك الباكرة، وقد أعيد نشر هذه "الاسكتشات الشعرية Poetical Sketches" في سنة 1868 فأسهم ذلك في تحقيق شهرته التي تأخرت· وبعض هذه الأشعار مثل إلى نجم المساء (الزهرة) وهي مقطع ملحمي غير مقفى احتل مكانا حفيا في الشعر الإنجليزي · وقد كان مثله في ذلك مثل أي روح شاعرة حساسة باغضا لتركز الثروة وشيوع الفقر في إنجلترا·
لقد كان مثل توم بين Tom Paine وجودوين وماري ولستونكرافت Wollstonecraft وغيرهم من الراديكاليين الذين تعاملوا مع الناشر جوزيف جونسون، قد شرب حتى الثمالة من نبيذ التنوير الفرنسي وتغنوا بالعدالة الاجتماعية والمساواة· وكان مظهره ينم عن روح نافرة من أي نظام مفروض· كان قصيرا ممتلئا ذا ملامح نبيلة مفعمة تعبيرا وحيوية وكان شَعره بنيا مُشرباً بصفرة مصففا بإتقان وكانت خصلاته غير متدلية وإنما منتصبة وكان ينظر وكأنه رادار لما هو بعيد، ولابد أن عينه الحادة وجبهته العريضة وفراسته الشديدة قد أضفت على مظهره جاذبية حقيقية ·
وفي سنة 1784 افتتح محل طباعة في شارع برود Broad Street واتخذ من أخيه الأصغر روبرت مساعداً له فكانت علاقتهما حميمة لأن كل وحد منهما كرس حياته للآخر، ولكن روبرت كان متلافا كثير الإنفاق وقد أدى موته في سنة 1787 إلى تعميق التوتر والكآبة في نفس وليم، وأدّى إلى الجانب الصوفي في فكره· لقد كان مقتنعا أنه رأى روح روبرت لحظة موته وهي تصعد عبر السقف· رآها وهي تصفق من فرط السعادة وقد عزا إلى شبح روبرت طريقة الحفر على إحدى اللوحات - سواء حفر النص أو حفر الرسوم التوضيحية· وكانت كل كتب بلايك تقريبا محفورة على النحو نفسه وكانت تباع بمبلغ يتراوح بين شلنات قليلة وعدة جنيهات للواحد منها· وكان قراؤه - حتى ذلك الوقت - قليلين·(ملحق/852)
وفي سنة 1789 أصدر أول عمل كبير من أعماله هو أغاني البراءة وكان يضم تسع عشرة مقطوعة شعرية· ومن الواضح أنه كان يعني بالبراءة مرحلة ما قبل البلوغ عندما كانت الحكايات المجمعة والمتعلقة بالمسيح تحظى بالتصديق وتسبب للمستمع إليها سعادة قصوى وبهجة، وعلى أية حال فقد كان بلايك قد بلغ الثانية والثلاثين من عمره عندما ظهرت قصائده هذه ونحن نحس أن الخبرة راحت تنمي موت البراءة· ولابد أن نعيد هنا سطوره الشهيرة التي يمكن أن نضاهيها بأبياته التي وجهها لنمر Tiger بعد ذلك بخمس سنوات:
أيّها الحمل الصغير، من خلقك؟
ألا تعلم من سوّاك؟
ألا تعلم من نفخ فيك الحياة ورزقك؟
وهيأ لك المجرى تشرب منه
وكساك ثوب البهجة
ياله من ثوب! إنه أنعم الأثواب
ثوب من صوف فاتن متألق
أيها الحمل الصغير، من سوّاك فعدلك حملا؟
ألا تعرفه؟!
أيها الحمل الصغير
أنا سأقول لك
إنه يدعى باسمك
لأنه أسمى نفسه حَمَلا
إننا ندعو نفسنا باسمه
أيها الحمل الصغير ليباركك الرّب
ليباركك الرّب
وربما كانت القصيدة التالية هي الأجمل· إنها بعنوان الصبي الأسود الصغير وفيها يعجب الصبي الزنجي لم خلقه الله أسود البشرة· إنه يحلم بوقت يأتي يلعب فيه الصبي الأسود مع الصبي الأبيض دون أن تعوق ظلال اللون لعبهما· وثمة قصيدتان بعد ذلك - قصيدة كنّاس المدخنة وفيها يتخيل ملكاً (ملاك) ينزل من السماء ليحرر العاملين في تنظيف المداخن من معاطفهم الملوثة بالسخام التي يعملون - وينامون - وهي تغطي أبدانهم، أما القصيدة الأخرى فهي الخميس المقدس والتي ينهيها بتحذيره: والآن، فلتتمسك بالرحمة والشفقة، وإلا أبعدت الملائكة عن بابك(ملحق/853)
ومرت خمسة أعوم: إنها الأعوام التي اندلعت فيها الثورة الفرنسية وتألقت مثاليتها (1791) ثم عادت إلى المذابح والإرهاب (1792 - 1794) · وفي سنة 1789 - على وفق بعض الروايات - وضع بلايك فوق رأسه غطاء الرأس الأحمر الذي يرمز للثورة الفرنسية وانضم إلى باين Paine في مهاجمة الكنيسة الإنجليزية وأثرت فيه الاضطرابات والفوضى فانفجر مؤلفاً قصيدة قصصية بسيطة زاخرة بالنبوءات تعكس ما ورد في إرمياء Jeremiah وهوشع Hosea، فكانت إعلانا مشئوما لعالم تجلله الخطايا والآثام·
ولا نوصي أولئك الذين يمتعضون من الإبهام بقراءة عمله هذا ولكننا نلاحظ أن بلايك في ديوانه زواج الفردوس وجهنم (في معرض هجائه لسويدنبرج Swedenborg) يقارن بين هاتين المملكتين (مملكة الفردوس ومملكة جهنم) من ناحية والبراءة والخبرة من ناحية أخرى· وبعض الأمثال التي أتى بها من الجحيم استوحت راديكالية هوتيمان وفرويد ونيتشه Whitmanic-Freudian-Nietzschean radicalism:
كل الطعام المفيد يتم الحصول عليه دون شباك أو شراك···
فما هو أجدى وأرفع أن تجعل آخر في مواجهتك···
فكبرياء الطاووس هي عظمة الرب ··· وعري
النساء هو عمل الرب···
وقتله لطفل في مهده لا تجدي معه رغبات ممرضة
لا جدوى من جهودها···
فالرب هو - فقط - الفعل والوجود في الكائنات
أو البشر···
فكل الأرباب في صدور البشر···
فعبادة الرب هي توقير مواهبه للآخرين ·· وهي حب أعظم الرجال ···
إن أولئك الذين يغارون من الرجال العظماء أو يشوهون سمعتهم إنما يكرهون الرب لأنه ليس هناك أرباب سوى هؤلاء العظماء·
وفي ديوانه أغاني الخبرة (1794) نجد الشاعر يعارض ما ورد في ديوانه أغاني البراءة بقصائد غنائية أخرى عامرة بالشك والإدانة:
أيها النمر·· أيها النمر
المتألق كالنار في ظلمات الغابة
أي يد خالدة أو عين ساهرة
أمكنها صياغة تطابق (سيمتريّة) رُعبك؟!
يالكتفيك! يالمكرك! ويالحيلك!
أيمكنها أن تتحمل قلبك؟!
ومتى بدأ قلبك يسحق ويضرب ويخفق؟
يا لقسوة أقدامك! ·· يالقسوة قدميك الخلفيتين!
وقدميك الأماميتين!
متى تطرح النجوم حرابك؟
ومتى ترتوى السماء بدموعك؟
أليس هو الذي يسرّه فعلك؟(ملحق/854)
أليس هو الذي جعل الحمل Lamb يوجدك؟
وبينما نجد في ديوانه أغاني البراءة الصبي الصغير التائه وقد أنقذه الرب وأعادهُ مسرورا إلى بيته، نجد في أغاني الخبرة صبيا يحرقه القُسس لأنهم لم يعرفوا له دينا· وفي ديوان أغاني البراءة يصف في قصيدته الخميس المقدس كاتدرائية القديس بول مزدحمة بالأطفال السعداء الذين ينشدون الترانيم، نجده يتساءل في خبرة , يتساءل:
أهذا شيء مبارك (مقدس) يستحق أن نراه؟ ·
في بلاد غنية مثمرة
يرزح الأطفال في البؤس
يأكلهم البرد والمرابون
أتلك أغنية صارخة مضطربة؟
أيمكن أن تكون أغنية مرحة؟!
وهذا العدد الكبير من الأطفال الفقراء فيها
إنها بلاد الفقر·
ولم تكن الثورة فيما يبدو علاجا لهذه الشرور فالقبضة الحديدية أطاحت برأس الطاغية، ثم أصبحت طاغية بدلا عنه · لقد وجد بلايك - الذي لم يكن يحب الثورات العنيفة - العزاء فيما تبقى لديه من عقيدة دينية· إنه الآن لا يثق في العلم لأنه خادم للماديّة وأداة يستخدمها النشيط ضد البريء وتستخدمها السلطة ضد البسطاء· فالفن هو شجرة الحياة والعلم هو شجرة الموت، والرب هو يسوع المسيح·
وبعد سنة 1818 لم يكتب بلايك شعرا إلا قليلا ولم يجد له إلا قلة من القراء، وعاش على إنتاجه في الفن· وفي بعض سني الستينيات من عمره عانى الفقر الشديد حتى اضطر إلى حفر الإعلانات لمصنع ودجوود Wedgwood للخزف· وفي سنة 1819 أنقذه من فقره جون لينل John Linnell إذ عهد إليه برسم الرسوم التوضيحيه لسفر أيوب Book of Job والكوميديا الإلهية لدانتي Dante's Divine Comedy ·
ووافته منيته (1827) بينما كان يعمل في هذين العملين، ولم يكن ثمة حجر يشير إلى موضع دفنه لكن بعد قرن كامل من وفاته نصب لوح حجري عليه اسمه في البقعة التي دفن فيها، وفي سنة 1957 صنع له سير جاكوب إبستين Jacob Epstein تمثالا نصفيا وضع في كنيسة وستمنستر Westminster وعند موته كان الانتقال إلى مرحلة الرومانسية قد غدا انتقالا كاملا·(ملحق/855)
لقد بدأ هذا الانتقال مترددا عندما كانت الكلاسيكية في ذروتها مع الفصول Seasons التي ألفها طومسون (1730) , والقصائد الغنائية Odes التي ألفها كولنز (1747)، و Clarissa Harlowe التي ألفها ريتشاردسون (1747) , وأغاني الرثاء Elegy التي ألفها جري Gray (1751) , وجولي Julie, ou La Nouvelle Heloise لروسو (1761)، و Fingal التي ألفها ماكفرسون (1762) , وقلعة أوترانتو Otranto التي ألفها ولبول Walpole (1764) , وكتابات بيرسي Percy عن الشعر الإنجليزي القديم (1768) , والقصائد الغنائية الاسكتلندية والألمانية، وما كتبه تشاترتن Chatterton (1769) , وفرتر Werther التي كتبها جوته Goethe (1774) ·
حقيقة أن أي عهد لم يكن يخلو من الرومانسية، فالرومانسية لم تنعدم أبداً في أي وطن أو عصر عند أي فتى أو فتاة، وكانت الكلاسيكية بناء متغلغلاً غير راسخ في الحكم وكانت قيدا على نبضات وعواطف تسري في العروق مسرى الدم·
ثم أتت الثورة الفرنسية فجلبت الحرية حتى في مرحلة انهيارها - أي انهيار الثورة، ففقدت الأشكال القديمة للقوانين والنظم التقليدية هيبتها وسطوتها، وانطلقت المشاعر والخيالات والطموحات والتطلعات تعبّر عن نفسها بالكلمة والفعل· لقد أشعل الشباب نيران الشعر والفن تحت كل قاعدة أدبية وكل حظر أخلاقي وكل تضييق عقدي وكل دولة مكتسية بقشور القانون، وفي سنة 1798 راح وردزورث وكولردج يكتبان معا القصائد والمباحث التقديمية للقصائد الغنائية المعروفة باسم Lyrical Ballads وراح بيرنز Burns وسكوت Scott يغنيان للحب والثورة والحب في اسكتلندا، وراحت جيوش نابليون تحطم الحدود بشكل أسرع من قدرة الثورة على نشر حلمها· لقد أصبح الأدب في كل مكان هو صوت الحرية· قلما بدا المستقبل مفتوحا بلا آفاق تحده كما هو الآن، وقلما كانت الآمال بلا نهاية كما هو الآن، وقلما بدا العالم شابا كما يبدو لنا الآن·(ملحق/856)
الفصل الواحد والعشرون
شعراء منطقة البُحَيْرة: من 1770 إلى 1850م
The Lake Poets
1 - البيئة المحيطة
لقد جمعنا في فصل واحد مُرْبك بين وردزورث Wordsworth، وكولردج Coleridge وسوثي Southey، لا لأنهم أسسوا مدرسة أدبية، فهذا لم يحدث ولا لأنهم اشتركوا في سمات أدبية واحدة، فأشعار كولردج الساحرة تغوص في أسرار عامرة بالغموض والأرواح الغريبة بينما أشعار وردزورث ذوات روح نثري تجول برضا بين ما هو عام مألوف، من البشر رجالاً ونساء وأطفالا وما هو عام مألوف من الأشياء· ولقد عاش كولردج ومات رومانسيا - لقد كان رجل المشاعر والآمال والمخاوف والهوى، أما وردزورث - باستثناء فترة رومانسية انتقالية في فرنسا وفترة الإعلان الثوري سنة 1798 - فقد كان كلاسيكيا مثل كريب Crabbe وكان يتسم بهدوء محافظ· أما بالنسبة إلى سوثي Southey فكان شعره رومانسياً في وقت راج فيه هذا الشعر،
وكان نثره ملتزما جديرا بدريدن Dryden ( المقصود يضارع كتابات دريدن) وكانت سياساته الناضجة مرتبطة بالوضع الحالي (الراهن) وكانت حياته الزوجية المستقرة وصداقاته الخصبة توازن الاتجاهات الفلسفية والمالية والجولات الجغرافية لرفيق الشاعر الذي راح يحلم وإياه في وقت من الأوقات بمدينة مثالية (يوتوبيا utopia) اشتراكية على شواطئ سسكويهانا Susquehanna· إن هؤلاء الرجال لم يكونوا مدرسة إلا بمعنى أنهم جميعا قطنوا لسنوات طوال منطقة (ولاية أو محافظة) البحيرة في شمال غرب إنجلترا - إنها منطقة ضبابية ممطرة تتجمع فيها السحب ··(ملحق/857)
إنها منطقة تجلّل ذرى جبالها الثلوج وتمتلئ بالبحيرات والبرك الفضية مما يجعل المنطقة من كندال Kendal وعبر وندرمير Windermere أومبلسيد Ambleside وريدال ووتر Rydal Water وجراسمير Grasmere ودرونتووتر Derwentwater وكزويك Keswick حتى كوكرموث Cockermouth واحدة من أجمل مناطق كوكبنا· إن جبال المنطقة غير شاهقة فأعلاها لا يتجاوز ارتفاعه ثلاثة آلاف قدم وهي غير متجانسة (لا يشبه بعضها البعض) ويكاد المطر يهطل يوميا لكن الضباب يعانق الجبال بحب، وتكاد الشمس تطل يوميا واعتاد المترددون على تحمل تقلبات المناخ بسبب السلام الذي يخيم على القرى وبسبب الخضرة الدائمة وكثرة الورود السعيدة يبللها الندى وروحي كولردج المجنون، ووردزورث الرصين اللتين تتردد أصواتهما بين التلال·
هناك في كوكرموث ولد وردزورث وفي جراسمير Grasmere مات، وهناك في كزويك Keswick عاش كولردج فترات متقطعة وعاش سوثي أربعين سنة، وهناك عاش فترات مختلفة كل من: دي كوينسي De Quincey وأرنولد الروجبي Arnold of Rugby وروسكين Ruskin وباختصار، فهناك أتى كل من سكوت Scott وشيلي Shelley وكارليل Carlyle وكيتس Keats ليتذوقوا طعم الجنة ويتنسموا عبيرها·
2 - وردزورث WORDSWORTH: 1770 - 1797
كانت أمه ني آن كوكسون Nee Ann Cookson ابنة تاجر كتان في بنريث Penrith - أما أبوه جون وردزورث فكان محامياً نجح في عمله كوكيل لأعمال السير جيمس لوثر Lowther، وقد ربى الزوج والزوجة في منزلهما المريح في كوكرموث Cockermouth خمسة أطفال: ريتشارد الذي أصبح محاميا ووكيل أعمال، وأدار الأمور المالية للشاعر، ووليم William ودوروثي Dorothy وهما اللذان سنهتم بهما في سياقنا هذا، وجون الذي مات في حادث جنوح سفينة، وكريستيان الذي درس وتدرج في المناصب حتى صار رئيسا لكلية التثليث في كمبردج· ولأسباب لا نعلمها الآن لم يتم تعميد وليم إلا بعد ميلاد دوروثي التي ولدت بعده بعام (في سنة 1771) فقد تم تعميد الأخ وأخته في اليوم نفسه كما لو كان هذا لمباركة حبهما الذي استمر مدى الحياة·(ملحق/858)
لقد أصبحت دوروثي هي صديقة طفولته وكان ارتباطه بها يفوق ارتباطه بإخوته الآخرين · وكان وليم وردزورث حاد الذهن حساسا، وكانت هي أكثر منه حدة وأشد حساسية إذ كانت أسرع منه في تمييز أشكال النباتات وألوانها، وأنواع الأشجار وطبيعتها وما تفرزه وحركة السحب البطيئة وكانت شديدة الإحساس بضوء القمر الفضي الذي يكسو البحيرات· لقد كان على الشاعر أن يقول عن أخته: "لقد كانت عيني التي أرى بها وأذني التي أسمع بها"· لقد كانت تلطف من حدة اندفاعه في القنص ليطارد ويقتل، لقد أصرت على أن عليه ألا يؤذي أي كائن حي ·
وعندما بلغت دوروثي السابعة من عمرها فُجِعا بموت أمهما· وحزن أبوهما حزنا شديدا ورفض أن يتخذ له زوجه أخرى، واستغرق في عمله وأرسل أطفاله ليعيشوا مع أقاربهم· فذهبت دوروثي إلى خالة لها في هاليفاكس Halifax في يوركشير Yorkshire فلم تعد الآن قادرة على رؤية وليم إلا في فترة الإجازات·
وتم إلحاقه في سنة 1779 بمدرسة جيدة في هوكشيد Hawkshead بالقرب من بحيرة وندرمير Windermere وفيها درس الكلاسيكيّات الإغريقية واللاتينية وبدأ - كما قال - ينسج الشعر· ويبدو أن الغابات والمياه القريبة قد لعبت دورا أكبر من دور كتبه في تشكيل أسلوبه وشخصيته· ولم يكن عازفا عن الحياة الاجتماعية فقد كان يشارك غيره من الشباب في المباريات وأحيانا كان يقضي أمسيات صاخبة في فندق محلي لكنه كثيرا ما كان يتجول وحيدا بين التلال على طول شاطئ اسثويت Esthwaite Water وبحيرة وندرمير · وبين الحين والآخر كان لا يعبأ بالمناخ فقد ألف تغيراته، فكان يمعن في تجوله إلى أماكن لا يكون فيها آمنا وعرف المخاوف التي يمكن أن تلم بالشباب الذين يترددون على الأماكن التي بها كائنات حية غير بشرية، لكنه بالتدريج بدأ يحس بالروح الكامنة في نمو النباتات وفي لعب الحيوانات وصراعها، وفي شموخ الجبال وفي ابتسام السماء وتجهمها·(ملحق/859)
لقد بدا له وكأن كل هذه الأصوات المنبعثة من الحقول والغابات والذرى والسحب تتحدث إليه بلغتها الخاصة· لغة أدق من لغة الكلمات وأرق وأكثر باطنية، لكنه يحس معانيها التي تؤكد له أن الأشياء المتعددة الكثيرة كثرة لا تصدق الموجودة حوله ليست مجرد ماديات لا حول لها وإنما هي إبداع رب أعظم وأقرب من الإله البعيد الصامت الذي لا شكل له، الذي يتوجه إليه في صلواته· ومن هنا أصبح ذا مزاج استبطاني جعله يستغرق في تأمل الحياة الداخلية أو الباطنية بالإضافة للعبادة الظاهرة·
وفي سنة 1783 مات أبوه فجأة· وكانت ممتلكاته متفرقة وغير موثقة، فمرت عبر قضايا استغرقت وقتاً طويلا وكلفت الكثير من الأموال وتأخر سداد مبلغ 4700 جنيه إسترليني التي كان السير جيمس لوثر مدينا بها كثيرا حتى إن الوصية الموجودة لم تكن تسمح سوى بست مائه جنيه لكل طفل وهو مبلغ لا يسمح أبدا بمواصلة تعليمهم ومع ذلك وجد أخوهم ريتشارد من الوسائل ما يمكنه من رؤية وليم في هوكشيد وفي أكتوبر سنة 1787 التحق وردزورث بكلية القديس جون في كمبردج· وحث أحد أعمامه مدير الكلية لتقديم منحة دراسية له على أمل أن يتمكن من إعداد نفسه لتسلم منصب كهنوتي في الكنيسة الإنجليكانية Anglican، وبالتالي لا يشكل عبئا مالياً على أقاربه ·
لكن وليم بدلاً من أن يعكف على دراسات تؤهله لمنصب كهنوتي راح يقرأ ما يعجبه، خاصة تشوسر Chaucer وسبنسر Spenser وشكسبير وميلتون Milton - واعترض على إلزامه بالحضور إلى الكنيسة مرتين في اليوم، فقد كان من الواضح أن قراءاته قد أزاحت شيئا من عقيدته الموروثة· لكن كثيرا من إيمانه وعقيدته الموروثة هذه لا بد أن يكون قد ظل مصاحباً له لأنه لم يكن يأنس لأفكار فولتير·
وفي يوليو سنة 1790 حث زميل دراسته، ابن ويلز، روبرت جون على أن يدخرا معا عشرين جنيها للقيام معا برحلة - مشيا على الأقدام - في القارة الأوربية· واتخذا طريقهما إلى بحيرة كومو Como واتجها شرقا في سويسرا، وهناك أصبح المال اللازم معهما قليلا فأسرعا بالعودة إلى إنجلترا ليهدئا من غضب المسئولين الماليين· وعوض وردزورث، دوروثي عن إهماله لها طوال عام بأن(ملحق/860)
راح يقضي أيام الكريسماس معها في فورنست ركتوري Fornsett Rectory ( المقابل الحرفي للكلمة ركتوري هو بيت القسيس) بالقرب من نورويتش Norwich - لقد كتبت دوروثي إلى جين بولارد Jane Pollard: " لقد اعتدنا أن نتمشى كل صباح نحو ساعتين، وكنا في كل يوم نذهب إلى الحديقة في الساعة الرابعة مساء··· لنسير جيئة وذهابا حتى السادسة ·· آه يا جين ·· إنني لم أكن أشعر بالبرد عندما يكون معي". وكانت تأمل أن يصير رجل دين وأن يسمح لها عندئذ بأن ترعى بيته· وعندما تخرج من كمبردج (يناير 1791) تحطمت كثير من آماله بذهابه إلى لندن "حيث عاش في خمول يكاد يكون تاما" وكان في كل شهر من شهور مايو يقوم مع جونز Jones بجولة في أنحاء ويلز، فكانا يتسلقان جبل سنودون Snowdon (1350 قدما) ليريا شروق الشمس· وفي 27 نوفمبر عبر مرة أخرى بمفرده إلى فرنسا·
لقد كانت الثورة الفرنسية وقت وصوله إلى فرنسا هذه المرة في أجمل وأرق مراحلها، لقد كانت الثورة قد صاغت دستورها الليبرالي وتم إعلان حقوق الإنسان للعالم، فإلي أي حد كان شاب صغير لازال يتمرغ في مهاد الفلسفة، يستطيع أن يقاوم هذه الدعوة للعدالة والأخوة العالمية (على مستوى العالم)؟ لقد كان يصعب كثيرا على دارس فقير لحقه بعض الضرر من اللوردات وذوي الألقاب الطبقية (سير جيمس لوثر) أن يدين هؤلاء الفرنسيين الذين وصفهم بعد ذلك في مستهل ترجمته الذاتية (كتابته عن تاريخ حياته):
- هؤلاء الفرنسيون الذين يعرضون أموراً علينا النظر إليها،
- إنهم يعرضون جمهورية حيث يكون،
- كل الناس فيها - إلى حد كبير - سواء،
- يقفون على أرضية مشتركة
- لنصبح جميعا إخوة
- متساويين في الكرامة والشرف لنكوّن مجتمعا
- واحدا كريما وشريفا،
- مجتمعا واحداً يضم السادة والدارسين، ولا تغدو
-هناك فوارق
- ويقل شأن الألقاب والثروة
- أمام المواهب والجدارة والحرف (الصناعات) المزدهرة·(ملحق/861)
وعندما وصل إلى فرنسا تأثر بحماسة أمةٍ تفزع إلى السلاح لمواجهة تهديدات الدوق برونسفيك Brunswick بسحق الثورة وتسوية باريس بالأرض إن قاومته· وعقد صداقة مع أحد ضباط جيش الثوار ميشيل دي بوبوى Michel de Beaupuis الذي كان ينتمي بحكم ميلاده إلى طبقة النبلاء، لكنه يشعر الآن بضرورة الدفاع عن فرنسا ضد الغزاة· لقد حرك هذا الانفلات من أسر الطبقية مشاعر وردزورث وأوحى له أن يكون مفيدا لخدمة قضية الثورة، لكنه شعر أنه أوهن من أن يحمل سلاحا وأن ما يعرفه من اللغة الفرنسية لا يؤهله للعمل في
المجال المدني أو السياسي، فاستقر في أورليان Orleans لدراسة الفرنسية، هذه اللغة الفاتنة خاصة إذا تحركت بها شفاه النساء· ووجد هذه اللغة رائعة جذابة، ومما زاد من هذه الروعة وتلك الجاذبية أنه تلقاها على يد أَنِت فالون Annette Vallon الشابة دافئة القلب دافئة الدماء التي لم تكتف بتعليمه الفرنسية وإنما وهبته جسدها أيضا· ولم يقدم لها مقابل هذا إلا شبابه فقد كان في الواحدة والعشرين بينما كانت هي في الخامسة والعشرين· وعندما ظهرت عليها بوادر الحمل ظنت أنها جديرة أن تكون زوجة له، ولكن وليم تساءل: أيستطيع هو - الذي يعرف من اللاتينية أكثر مما يعرف من الفرنسية أن يكون زوجاً في فرنسا، وهل تستطيع هي، وهي كاثوليكية وثنية Pagan Catholic أن تعيش في إنجلترا البيوريتانية Puritan ( التطهرية)؟
وفي 29 أكتوبر سنة 1792 تركها في أورليان واتجه إلى باريس وقبل مغادرتها وقع مستنداً يخول السيد م· دفور M. Dufour أن يقوم بدور الأب الغائب عند تعميد الطفل المرتقب الذي ستنجبه أنت Annette وفي 15 ديسمبر أنجبت طفلة أطلق عليها اسم كارولين·
وانخرط وردزورث وهو في باريس في هذا الوقت في وقائع الثورة، فحضر اجتماعا لليعاقبة Jacobin Club وزار الجمعية التشريعية وكون صداقات مع الجيرونديين Girondins · لقد دهمته حمى العصر (المقصود أحداثه الساخنة) فوجد نفسه في وسط أحداث صنعت التاريخ وهزته:
- أن تكون على قيد الحياة في فجر هذه الأحداث، فتلك نعمة،
- أما أن تكون شابا فقد أدركت الفردوس بعينه!(ملحق/862)
ووصله خطاب من أخيه ريتشارد يرفض تقديم مزيد من الدعم المالي ويصر على عودته السريعة· ولم يعرض عليه الثوار دعما فعبر إلى لندن وحاول تحسين الأمور المالية للأسرة، وظل الأخ ريتشارد صارماً رغم حبه· أما العم وليم كوكسون Cookson وكاهن فورنست ومضيف دوروثي (أي الذي تقيم عنده دوروثي) فقد أوصد أبوابه في وجه هذا الشاب الذي كان يقدم له الدعم المالي لمواصلة تعليمه ليكون رجل دين فإذا به الآن يتحول فيما يبدو إلى يعقوبي كسول·
لقد أضير وليم ضررا شديدا، فعكف على الشعر يدرسه ويقرضه، وشعر أنه كتابع مخلص لربة الشعر والغناء (موزيه Muse) جدير بدعم الإخوة والأعمام والأخوال، وانضم إلى الراديكاليين الذين كانوا يترددون على مكتبة جونسون (لبيع الكتب ونشرها) وواصل تأييده العلني للثورة· وفي السطور الخمسين الأخيرة لإسكتشاته الوصفية Descriptive التي كتبها ونشرها في سنة 1793 امتدح الثورة الفرنسية لا باعتبارها تحريرا لأمة فحسب وإنما باعتبارها تنطوي على تحرير الجنس البشري كله، وقد اعترف في كتابات نشرت بعد وفاته أنه: "كان يكتم سعادته لانتصارات الثورة الفرنسية حتى عندما كان آلاف الإنجليز يلقون حتفهم في ميدان المعركة دون أن يتركوا وراءهم مجداً" ,
وفي أول فبراير سنة 1793 أعلنت فرنسا الحرب على إنجلترا وفي مارس من العام نفسه وصل إلى وردزورث خطاب من أنت Annette تتوسل إليه أن يعود إليها لكن القنال الإنجليزي كان قد أغلق في وجه المسافرين المدنيين· ولم ينسها أبدا، فقد كانت ذكراها تحرق شعوره، وسنراه بعد ذلك بتسع سنين يحاول تقديم بعض الترضيات، وخلال هذه الأعوام أصبحت أنت Annette من أنصار الملكية المتحمسين، واكتشف وليم شيئا فشيئا مزايا الدستور البريطاني· لقد تضاءل إيمانه بالثورة الفرنسية عندما قطعت المقصلة رؤوس الجيرونديين في عهد الإرهاب في سنة 1794، وكان وليم معجباً بهم· وفي نحو هذا التاريخ كان متأثرا تأثرا شديدا بكتاب جودوين عن العدالة السياسية Enquiry Concerning Political Justice لقد شجع هذا الكتاب اتجاهه الراديكالي لكنه أثر في تحذيره من الثورات التي يشعل الثوريون نيرانها·(ملحق/863)
وفي سنة 1795 قابل جودوين نفسه وأعجب به ودعي سبع مرات في هذا العام إلى منزل الفيلسوف الشهير· وحتى عندما أصبح هو محافظا متحمساً للاتجاه المحافظ ظل على صداقته لجودوين حتى فرق الموت بينهما (1836) · وفي سنة 1795 أوصى له ريزلي كلفرت Raisley Calvert بتسعمائة جنيه، فزاده هذا اعتدالا ووقارا لكنه أقرض - بطيش - ثلاثمائة جنيه من هذه الثروة لصديقه المتلاف سيئ السمعة بازيل مونتاجيو Basil Montagu كما أقرض لصديق مونتاجيو الحميم المدعو تشارلز دوجلاس Douglas مائتي جنيه - وفي كلتا الحالتين لم يكن هذا الرهن ليدر أكثر من 10%، وحسب وردزورث أن الفوائد السنوية التي قوامها خمسون جنيها (لم تكن تدفع بانتظام) مع الأربع مائه جنيه المتبقية لن تكفي حتى مع العشرين جنيها التي تمثل دخلا سنويا لدوروثي لتمويل حلم أخته بإقامة سكن يعيشان فيه عيشة مشتركة متواضعة قوامها الشعر والحب، لكن منذ الآن قدم لهما صديق آخر هو جون بني البريستولي John Pinney of Bristol مقر إقامته المؤثث في دورست Dorset ليقيما فيه مجانا، وهناك ظلا حتى يونيو سنة 1797 ونعما في هذا المكان بما لم يكونا يتوقعانه من راحة وخير·(ملحق/864)
إننا نصفه الآن وقد بلغ الخامسة والعشرين· شخص متوسط الطول، نحيل، منحن انحناء خفيفا، يتدلى شعره غير الكثيف وغير المرجَّل حول أذنيه وياقة قميصه، وتنظر عيناه الداكنتان الحزينتان على طول أنفه المتسائل العدواني المستفز على نحو ما· وكان سرواله ذا طابع ريفي من نسيج مزخرف بالمربعات، وكان معطفه عباءة واسعة، ولديه منديل أسود يستخدمه كرباط عنق وكان واهن الجسم لكنه كان ذا طاقه كبيرة وروح قوية وإرادة شديدة، وكان يستطيع أن يلبي حاجة ضيوفه مهما ثقلت وكان يستطيع أن يجعل نيرانه مشتعلة في الأخشاب التي جمعها من الغابة أو قطعها من أشجارها مستخدما قوة ذراعيه وضربات فأسه· لقد كان حساساً كشاعر، وعصبيا كامرأة وكان يعاني من الصداع خاصة عندما ينخرط في تأليف الشعر· وغالباً ما كان مكتئباً متقلب المزاج يميل إلى الهيبوكوندريا hypochondria ( الوسواس المرضي) وكان قريب الدمع، وفكر ذات مرة في الانتحار - لكن هذا كان وسيلة معروفة في العلم للتظاهر بالشجاعة· وكان يحب المال حبا جما، معتزا بنفسه واثقا من تفوق أحاسيسه وسموه العقلي ورقيه الخلقي (متساهلاً مع ما أتاه من اتصالات جنسية لا تتسم بالمبالاة) لكنه كان متواضعا أمام الطبيعة معتزا بنفسه خادماً لها ومعبراً عنها·
أما دوروثي فكانت على نقيضه، أكسبت وجهها سمرة بكثرة مشيها تحت أشعة الشمس، ولم تكن أنانية مستغرقة حول ذاتها أو مفرطة بالإعجاب بنفسها فعكفت على خدمة أخيها ولم تكن تشك في عبقريته أبدا وجعلت بيتهما نظيفا دافئا ورعته في مرضه و"كانت تبحث عن مباهج الطبيعة وعجائبها وخوارقها بعينين متوهجتين" وذلك على حد تعبيره، وكانت تدون بسرعة في يومياتها هذه المدركات لتتذكرها، وكان هو يستخدم هذه اليوميات (لتوحي له أفكارا وأشعارا) · لقد جعلت أذنيها ويديها وعينيها في خدمته، فلم تكن تمل أبدا من الإصغاء إليه وهو ينشد أشعاره، ولم تكن تمل من نسخها· أما من ناحيته هو فقد أحبها حبا عميقا - دون أن يمنع نفسه عن إقامة علاقات جنسية محرمة معها - لأنها كانت أعز مساعداته له، كما كانت لا تطلب منه الكثير، وكانت بالنسبة إليه تمثل الجزء الذي يحتاجه النبات المتسلق للتعلّق والامتداد·(ملحق/865)
وعندما عادا إلى بيتهما حيث الأسرة، وحصلا على خمسين جنيها إضافية لدخلهما السنوي، شرعا يرعيان بازل Basil ذا الأعوام الثلاثة وهو ابن بازيل مونتاجيو وسعدا لرؤية هذا القاصر الغض وهو يتحول من نبات مرتعش هش على وشك الموت إلى صبي مفعم حيوية متوردا لا يعرف الخوف إليه سبيلا·
وفي ربيع سنة 1797 أتت صديقة دوروثي، ماري هتشنسون Mary Hutchinson من بنرث Penrith لتقيم معها حتى الخامس من يونيو· وفي السادس من الشهر نفسه اقتحم شاب في الخامسة والعشرين من عمره مسكون بالشِّعر البوابة وجاس خلال الحقل ودخل بكل قوته حياة وليم وردزورث ودوروثي وردزورث، وكان هذا استجابة لدعوة أرسلها إليه وليم وردزورث· إن هذا الشاب الشاعر هو كولردج·
3 - كولردج COLERIDGE: 1772 - 1794
كولردج هو أكثر أفراد المجموعة التي نتناولها في هذا الفصل تشويقا وأكثرهم تباينا في مواهبه وتنوعا في جاذبيته، وأفكاره وقلقه ونقائصه· لقد اجتاز السلسلة كاملة من المثالية إلى كوارث في الحب والأخلاق، ونكبات في الأدب والفلسفة· وقد اقتبس من أفكار - وكلمات - مؤلفين كثيرين تأثر بهم واستوحى أفكارهم ولا يمكن لقسمٍ من فصل أن يوفيه حقه·
ولد صمويل (صموئيل) تايلور كولردج في 21 أكتوبر سنة 1772 وكان هو الابن العاشر والأخير لجون كولردج ناظر المدرسة والذي كان عند مولده قسا في أوتري سانت ماري Ottery St. Mary في ديفونشير Devonshire وكان جون دارسا للرياضيات المتطورة وعالما باللغتين اليونانية واللاتينية واللغات الشرقية، وهو مؤلف كتاب عن نحو اللغة اللاتينية A Critical Latin Grammar أما الابن الذي أصبح بعد ذلك يشير إلى اسمه بالأحرف الأولى ( S. T. C) فقد وقع في إسار هذا التراث الذي تعلمه إذ كادت كل فقرة من فقراته تتضمن اقتباسا يونانيا أو لاتينيا· وقد روى - فيما بعد - ما كان عليه حاله من الثالثة إلى السابعة:(ملحق/866)
"لقد أصبحتُ نكداً شكِساَ رعديدا نمَّاما واشيا، وكان رفاقي في المدرسة يبعدونني عن اللعب معهم وكانوا دائما يؤذونني لذا فلم أسعد بألعاب الصبية ومن ثم عكفت على القراءة باستمرار··· لقد قرأت في السادسة من عمري بيليزاريوس Belisarius وروبنسون كروزو Robinson Crusoe وألف ليله وليلة ··· فتملكتني الأشباح ··· وأصبحت حالما وأصبحت أعاني انحرافا في صحتي إثر أي نشاط جسماني، وكنت جباناً رعديدا عاطفيا انفعاليا بشكل مبالغ فيه ·· وكنت كسولا مكروها من الصبية لأنني كنت أستطيع القراءة والهجاء ··· وكانت لدي ذاكرة قوية وقدرة على الفهم تكادان تنمان عن نضج غير طبيعي، وكنت موضع إطراء وإعجاب من النسوة كبيرات السن ··· ولذا فقد أصبحت مختالا فخورا، وأصبحت قبل أن أبلغ الثامنة من عمري شخصية (المقصود شخصا ذا سمات خاصة) من حيث الأحاسيس والخيال والزهو والكسل، ومشاعر الاحتقار العميق والمرير لكل من يمر على تفكيري· حتى لو كان من المبرزين المشاهير"·
وكان موت أبيه (1779) الذي كان الشاعر يحبه بعمق صدمة عنيفة له · وبعد موت أبيه بعامين أُرسل إلى مدرسة خيرية في لندن تابعة لمستشفى يسوع Christ's Hospital لمواصلة تعليمه· وكانت الوجبات التي تقدمها هذه المدرسة هزيلة وكان النظام فيها صارما، وقد تحدث في أواخر حياته عن العقاب الشائن الذي أنزلوه مضاعفا وبقسوة على صبي شعر أن أسرته قد نسيته· لقد أرادوا له أن يكون قسّا بينما كان هو يرنو أن يكون صانع أحذية· وفي سنة 1830 (في هذا التاريخ كانت ذاكرته - على نحو خاص لا يُعوّل عليها) جُلد، وهو يروي لنا قصة جلده ولم تكن هي المرة الوحيدة، فيقول:
"عندما كنت في الثالثة عشرة من العمر ذهبت إلى صانع أحذية وتوسلت إليه أن أعمل عنده ليعلمني المهنة· وكان رجلا أمينا لذا فإنه سرعان ما دبّر لي لقاء مع بوير Bowyer رئيس جماعة صانعي الأحذية، فثار غاضبا وركلني ·· وسألني لماذا أبرهن هكذا على غبائي؟ فأجبته إنني شديد الرغبة في أن أكون صانع أحذية وأكره أن أكون رجل دين، فسألني لماذا؟ فقلت له: الحق أقول لك يا سيدي ·· إنني كافر وبمجرد أن قلت ذلك لم يسمح بوير بمزيد من الكلام، وجلدني".(ملحق/867)
ومن الواضح أنه اقتطف بعض الفاكهة المحرمة، وربما كان ذلك من كتب إحدى محلات بيع الكتب بشارع الملك (كنج ستريت King Street) ففي هذه المكتبات - كما زعم بعد ذلك - بطريقته التذكارية:
"لقد قرأت في كل الكتب الواردة في الفهرس (المقصود كتالوج المكتبة) وفي كل الكتب الضخام (من القطع الأعظم) سواء كنت أفهم ما أقرأه أم لا ··· وكنت أغامر بكل شيء للحصول على المجلدين اللذين فرضت على نفسي الحصول عليهما يوميا· لقد كنت مدركا لما يجب أن أكون عليه وأنا في الرابعة عشرة من عمري· لقد كنت محموما دائما (المقصود أنه كان شديد التوق للقراءة) · لقد كان كياني كله موجها نحو الانسحاب إلى ركن مشمس لأقرأ وأقرأ وأقرأ، مغمضا عيني عن أي هدف آخر"·
وبطبيعة الحال فإننا نلمح زهواً مبالغا فيه هنا· وعلى أية حال فقد أنجز إنجازا طيبا في مدرسة مستشفى يسوع حتى إن أسرته رتبت أمر إدراجه بين الطلبة المساعَدين (بفتح العين) الذين يعملون ويدرسون في آن واحد في كلية يسوع Jesus College بكمبردج (1791) وهناك حاول دراسة الرياضيات المتقدمة واللغة اليونانية المغرقة في قدمها.
"لقد قرأت بندار Pindar ورحت أؤلف الشعر باللغة اليونانية وكأنني كلب مجنون أو بتعبير آخر ككلب مصاب بالسعار ··· وفي أي وقت فراغ يتاح لي كنت أترجم Anacreon ·· وتعلمت العزف على الفيولين (الكمان) " ·(ملحق/868)
وعندما نقرأ عن كولردج لابد أن نسمح لأنفسنا بتقبل ما هو عليه من غلو وإفراط· لقد أهمل صحته، وأصيب في سنة 1793 بالحمى الروماتزمية، ولجأ إلى الأفيون لتسكين آلامه، وكان الأفيون في ذلك الوقت شائعا كعقار مسكن لكن كولردج أدمنه، وأبطأت خطاه في المجال الدراسي، وسمح لنفسه بمزيد من الاهتمام بالأمور العامة· وعلى أية حال فقد تجاوز ما سمحت له به أسرته ووقع في الديون وطارده دائنوه وفي جهد يائس للهرب منهم غادر كمبردج فجأة، وفي ديسمبر سنة 1793 تطوع في جيش كان يعد لحرب فرنسا· واشترى أخوه جورج إطلاق سراحه مقابل أربعين جنيها إنجليزيا وحثه على العودة إلى كمبردج· ودبر أمر تخرجه من الجامعة في سنة 1794 دون الحصول على الدرجة العلمية، ولم يزعجه هذا كثيرا لأنه في هذه الأثناء كان قد اكتشف اليوتوبيا (المدينة المثالية) ·
وكان يعد نفسه لهذا الاكتشاف بتخليه عن عقيدته الدينية، وعقد آماله على السعادة واليوتوبيا, وقد حركت الثورة الفرنسية مشاعره كما كادت تحرك مشاعر كل المتعلمين وغير الماليين في إنجلترا· والآن، في ربيع سنة 1794 وصلته رسالة من صديقه روبرت ألن Allen في أكسفورد مفادها أن طلبة مختلفي المشارب راغبون جدا في إصلاح الأساليب والمؤسسات البريطانية، وذكر ألن Allen أن أحد الطلبة يتميز بالألمعية ويكتب شعرا يحتفى فيه بالثورة الاجتماعية· أيستطيع كولردج أن يذهب إلى أكسفورد للقاء هؤلاء الشباب؟ · لقد فعلها كولردج في يونيو سنة 1794·
4 - سوثي Southey: 1774 - 1803(ملحق/869)
من بين ثلاثي منطقة البحيرة كان روبرت سوثي أفضل الرجال وأسوأ الشعراء (أقلهم قيمة) · ولد في بريستول Bristol وكان ابنا لتاجر أثواب وأقمشة، لكن من بين هذه البيئة التجارية (الميركانتيلية mercantile) كانت خالته إليزابيث تايلور Elizabeth Tyler غالبا ما تدفعه إلى التهذب بسلوكيات المجتمع الأرستقراطي في باث Bath، وتم إرساله في الرابعة عشرة من عمره إلى مدرسة وستمنستر الراقية في لندن وفيها - بلا شك - قرأ سرا أعمال فولتير وروسو وجيبون كما قرأ "فرتر Werther" لجوته كما كتب بعض الشعر الملحمي وقطعا نثرية ثورية، وأثارت مهاجمته للعقاب البدني في مجلة مدرسية بعنوان "الضارب بالسياط The Flagellant" ناظر المدرسة الذي حار جوابا ففصله من المدرسة وهو على وشك التخرج، لكن روبرت استطاع بطريقة أو أخرى أن يتقدم إلى كلية باليول Balliol في أكسفورد في ديسمبر سنة 1792·
وهناك واصل أعماله السرية، فكتب ملحمة John of Arc امتدح فيها الثورة الفرنسية، واشتغل بالدراما الشعرية محاكيا وات تيلر Wat Tyler الثائر الإنجليزي في سنة 1381 - عندما وصل كولردج· ووجد الشاعر الأكبر سنا أن الرجل الأكثر شبابا مستغرق في تفكير عميق لأن روبيسبير Robespierre كان قد أطاح برؤوس أكثر قادة الثورة الفرنسية حيوية - دانتون Danton وديمولان Desmoulins، ألم تنته حقوق الإنسان التي تم إعلانها إلى مجرد تنافس على القتل؟ لكن كولردج طمأن باله شارحاً أن أوربا ممزقة مهترئة، ومع هذا ففي غضون أسبوع أو نحو ذلك أبحرت من مدينة بريستول موطن سوثي سفينة متجهة إلى أمريكا الرحبة الخصبة الجمهورية·
لم لا ينظم كولردج وسوثي مجموعة من الشبان والشابات الجسورين ويتم عقد قرانهم بشكل صحيح ويهاجرون معاً إلى بنسلفانيا ليقيموا مستعمرة جماعية (اشتراكية) على شواطئ سسكويهانا Susquehanna الجميلة غير الملوّثة؟ لقد كان كل ما هو ضروري هو أن يشارك كل شاب بمبلغ 125 جنيه إسترليني لتكوين ميزانية موحّدة (مشتركة، وكان لا بد أن يكون لكل زوجين صوت - على قدم المساواة - في حكم المستعمرة، ومن هنا أطلق كولردج على هذه المستعمرة اسم البانتيسوكراسيا Pantisocracy·(ملحق/870)
وليرفع المؤسسان من نصيبهما المالي في التكاليف اشتركا معا في كتابة دراما شعرية بعنوان سقوط روبيسبير وتم نشرها لكنها لم تحقق المبيعات المطلوبة· وباع سوثي عمله الأدبي " John of Acre" إلى كوتل Cottle البريستولي of Bristol نظير خمسين جنيها·
وقام الخريجون (الذين لم يحصلوا على درجاتهم العلمية) بإلقاء محاضرات في بريستول وكسبوا ما يكفي لتمكين سوثي من الزواج وبالفعل فقد قبلته إديث فريكر Edith Fricker زوجاً لها (14 نوفمبر 1795) وكانت أخت إديث واسمها ماري قد قبلت بالفعل روبرت لوفل Lovell زوجاً لها كما قبلت مبدأ البانتيسوكراسيا (العيش في مستعمرة اشتراكية) · والآن كما يقول سوثي كان من المرغوب فيه جدا أن يحب كولردج الأخت الثالثة سارة، وأن يتزوجها·
وقبل سوثي دعوة لزيارة لشبونة كمرافق لعم كان قسا بالسفارة البريطانية، وقد وسعت الرحلة أفق هذا الشاب (سوثي) · لقد ارتحل في إسبانيا وكذلك في البرتغال، وعندما عاد إلى إنجلترا (مايو 1796) اكتشف أنه يحب إليزابيث تيلر Tyler التي سبق أن رفضته لأفكاره المخربة وعدم عراقة أصله، كما اكتشف أن فكرة البانتيسوكراسيا أضاعت شبابه، فدرس القانون ووجد عملا كصحفي، وكان لديه الوقت الكافي لكتابة ملاحم لم يكتب لها الخلود بالإضافة إلى بعض القصائد القصصية البسيطة مثل معركة بلنهايم The Battle of Blenheim في سنة 1803 وأقام في جريتا هول Greta Hall في كزويك Keswick مستعينا بإعانة ودية قوامها 160 جنيها إسترلينيا·
5 - كولردج COLERIDGE: 1794 - 1797
كان كولردج ممزقا بين أعصاب حية وجَلَد وصَبْر من ناحية، وإرادة مترددة من ناحية أخرى· لقد أحب ماري إيفانز Mary Evans ابنة لندن لكنه جفل من مهمة الإبقاء عليها في ظل أسلوبها المعتاد، أما هي فقد أحبت روحه الثرية المتحمسة لكنها لم تكن واثقة في قدرته على الكسب فابتعدت عنه، فوجد نفسه مستسلما لسارة فريكر Sara Fricker فهي رغم بساطتها وإفلاسها يمكن أن تحافظ له على بيته وتنجب أطفالا وإن كانت غير قادرة على إلهامه أشعاره·(ملحق/871)
وليموّل زواجه المأمول وأحلامه الباقية راح يلقي المزيد من المحاضرات في بريستول محصلا شلنا كرسم دخول (لقاعة الاستماع) (واستمر هذا في الفترة من يناير إلى يونيو 1795)، وكان نشاط هذه الجماعة راديكاليا بشكل طائش: لقد شجبوا الكنيسة القائمة Established Church كخادمة للأثرياء، وأنها لا تعرف ربا Lord سوى المالك الإقطاعي Lord of the manor وأدوانوا الحرب ضد فرنسا لقمع الثورة وإحداث ردة تاريخية· والتمسوا الأعذار للإرهاب باعتباره رد فعل لحرب بت Pitt's war وأدانوا مراسيم تقييد حرية الرأي Gag Bills كجهود حكومية لكبت إرادة الجماهير· لقد كان ما حصلوه من الأموال قليلا لكنه كان كافيا ليعقد كولردج قرانه على سارة فريكر في مذبح الكنيسة في 4 أكتوبر 1795·
وفي هذا الخريف نفسه التقى لأول مرة بوردزورث، ولم يكن وليم ليكبر صمويل (صموئيل) بأكثر من عامين لكنه كان قد خَبَر الثورة الفرنسية، لقد كان قد عاين اليوتوبيا معاينة حية معاينة من رأى لا من سمع· وقد شارك الرجل الأصغر منه بعامين الخشية من استعادة البوربون عرش فرنسا، لكنه لم يكن قادرا على العيش في بنسلفانيا فقد كانت أوربا هي مسرح الصراع الفكري، أما بالنسبة إلى بهاء منطقة سسكويهانا وجمالها، فلم لا يكتفي قانعا بعظمة البحيرات الإنجليزية وبهائها؟ ولم يكن كولردج مقتنعا تمام الاقتناع لكنه كتب في مذكراته (مجموعة أوراقه) أن يتابع تطور وليم وربما ليتعلم منه كيف يتخطى صعوبات الحياة (يجتاز عواصفها ومنحدراتها) لقد ملأ كثيرا من الأوراق بمعلومات وأفكار كثيرة جمعها من الكتب وممن قابلهم· لقد كان يقرأ قراءات واسعة في مجالات شتى وبشغف في اثني عشر مجالا، لقد قرأ في التراجم وعن الحيوانات والنباتات والعلوم والأديان والفلسفة والأمم والأدب والفكر والفنون·(ملحق/872)
وكان واحداً من أكثر من عرفنا شغفا بالقراءة واستيعابا لما يقرأ وقدرة على التذكر· لقد أصبحت ذاكرته مخزنا يسحب من رصيده حتى نهاية حياته يسحب منه الأفكار والأخيلة والعبارات والأدلة، بل وحتى فقرات كاملة· وكثيرا ما كان يهمل ذكر مصدر معلوماته وربما كان ينسى المصدر سعيدا بهذا النسيان، وكان يخلط دون اهتمام أفكاره بالأفكار التي استقاها من مصادر أخرى· وفي خاتمة المطاف ضاق عقله بهذا المخزون الكبير من المعرفة المتباينة خاصة وأن عقله كان نزاعا للحرية نافراً من الانضباط· لقد كاد المخزن ينهار على المخزون·
وربما رغبة منه في تحرير ذاكرته أو رغبة منه في إطعام زوجته وجدناه يركز على فكرة طبع مجلة وبيعها، وكاد هو أن يكون كاتبها الوحيد، وأجبر معارفه والمستمعين لمحاضراته على الاشتراك في هذه المجلة ووزع عددا محدودا من هذه النشرة التمهيدية Prospectus حتى يعلم الجميع الحقيقة فقد تجعلنا الحقيقة أحرارا· وفي يوم الجمعة، الخامس من فبراير سنة 1796 تم نشر العدد الأول (بسعر أربعة بنسات) على أن تصدر كل ثمانية أيام بعنوان (المراقب Watchman) بقلم س· ت· كولردج مؤلف "نداءات إلى الشعب Addresses To the People"·
وهنا - كما هو الحال في محاضراته - كان يتحدث كراديكالي أحرق خلفه كل الجسور، لقد راح يهاجم الحرب والعبودية (الرق) وتعويق حرية الصحافة والنشر، وكان يهاجم بشكل خاص الضرائب على المبيعات لوطأتها الثقيلة على عامة الشعب· لكنه لم يوص بحق الانتخاب العام للبالغين من الذكور أو الإناث· يجب أن تكون لدينا الجرأة بالاعتراف بالحقيقة السياسية فقط لأولئك الذين هم قادرون على استخدام عقولهم والإقناع بما هو منطقي، ولا نعترف بها أو نقرها للغالبية الجاهلة المحتاجة, التي تحركها بالضرورة عواطفها المهتاجة· ووجد كولردج أنه من غير المحتمل أن يكتب اثنتين وثلاثين صفحة كل ثمانية أيام إذ راحت هذه الصفحات - بشكل متزايد - تمتلئ بكتابات غرباء لم يكونوا دائما معروفين· واحتج بعض القراء المتابعين للمجلة وقل التوزيع وارتفعت الديون وبعد العدد العاشر توقفت هذه المجلة (مجلة المراقب Watchman) ·(ملحق/873)
وفي أول سبتمبر سنة 1796 وُلد لكولردج أول مولود· فأسماه ديفيد هارتلي David Hartley على اسم رائد علم النفس الإرتباطي (سيكولوجية الترابط أو التداعي associationist psychology) · لقد كان المولود صبوح الوجه باعثاً للمسرة، لكنه كان فماً جديدا يطالب بالطعام· وفي هذه الأثناء كان كولردج نفسه يعاني متاعب في القلب والرئتين، وراح يزيد من جرعات الأفيون لتسكين آلامه، وكادت موارده تنفد عندما قدم له صديق متساهل ودود هو توماس بول Poole منزلا صغيرا بالقرب من منزله (منزل بول) في نذر ستوي Nether Stowey بالقرب من بردجووتر Bridgewater - بإيجار رمزي مقداره سبعة جنيهات سنويا·
وفي 31 ديسمبر سنة 1796 انتقل كولردج وسارة وابنهما (ديفيد) إلى هذا المنزل· وجعلت سارة المنزل نظيفا مريحا، وعمل كولردج في حديقة مجاورة وساعد في رعاية خنازير بول Poole ودواجنه، وكتب شعرا جديراً بأن يخلد·
وفي نحو هذا الوقت - على وفق ذاكرته الثرية العامرة دائما - ظهرت له فكرة قبلاي خان Kubla Khan في حلم رائع وقد كتب غالبها مستوحيا هذا الحلم:
"في صيف سنة 1797 عكف المؤلف - وكان معتلا صحيا - في منزل ريفي منعزل بين بورلوك Porlock ولينتون Linton ··· ونتيجة توعك صحته وتناوله العقارات المسكنة (الأفيون) غلبه النوم وهو جالس على مقعده بينما كان يقرأ ··· في كتاب رحلة بورشاز Purchas's Pilgrimage· وفي الحلم أمر قبلاي خان ببناء قصر بداخله حديقة، وتم تسوير هذه الأميال العشرة من الأرض الخصبة بسور· ولقد استمر المؤلف في نوم عميق نحو ثلاث ساعات - على الأقل كانت حواسه الخارجية هي النائمة - وخلال هذه الساعات كان واثقاً ثقة تامة أنه لا يستطيع أن يكتب أقل من مائتي سطر أو ثلاثمائة سطر دون أن ينتابه الإرهاق والتعب· وعندما استيقظ ظهر أنه يتذكر تفاصيل الحلم فأمسك بقلمه وأدنى منه الحبر والورق، وراح يكتب بشكل مستمر وبشغف السطور التي بقيت لنا"·(ملحق/874)
هذه المقدمة الشهيرة فسرها النقاد بأنها خرافة خدع بها كولردج نفسه أو آخرين لقبول فكرة الحَبَل بلا دنس immaculate Conception وديمومة قبلاي خان· وعلى أية حال فمن غير المعلوم أن المؤلف بعد صياغة جُمله خلال النهار، واصل عمله في أثناء الحلم أم لا، لكن تكاد هذه الدرّر دوما تغوص في اللاشعور وكأنها يقظة نائم وربما كان للأفيون أثره ليس في الحلم (الرؤيا) فقط وإنما في الإيهام بأن التأليف كان جزءا من الحلم· وعلى أية حال فإن كولردج بمهارته المميزة في السجع والجناس قد حول نثر بورشاز إلى واحد من أكثر النصوص - التي لم يكتمل إنجازها - تشويقاً في اللغة الإنجليزية·
وربما كان الحدث (الأدبي) الأكثر أهمية من قوبلاي بالنسبة لكولردج في عام 1797 هو دعوة ودزورث له لزيارته في ريسدون Racedown، فاستأذن من زوجته ساره وابنه ديفيد وانطلق ليسير كل المسافة تقريبا· وتراءى له هدفه في 6 يونيو فجرى - وقد أخذت الإثارة منه مأخذها - إلى باب أخيه الشاعر· وعندما فتح له وليم ودوروثي الباب وفتحا له مع الباب قلبيهما، بدأت حقبة جديدة في حياة ثلاثتهم، وكان تعاونهم واحداً من أعظم ما حققه التعاون بين الأدباء إثماراً في تاريخ الأدب·
6 - الثلاثي A THREESOME: 1797 - 1798
كان كولردج Coleridge آنئذ في ذروة تألقه· كان بدنه - رغم آلامه وسمومه غير الظاهرة - مستجيباً لاهتمامات عقله الحيوية· وكان وجهه الوسيم - بفمه الشهواني وأنفه دقيق التكوين وعينيه الرماديتين تتألقان شغفا وحب استطلاع، ورقبته وأذنيه، وشعره الأسود المهوّش المتدلي على رقبته وأذنيه - قد جعله جذابا خاصة في عيني دوروثي Dorothy ·
لم يطل الأمر أحبته بطريقتها الخجولة، وإن ظل إعجابها بوليم في المحل الأول· لقد أخذ كولردج برقتها وجذبته إليها بعاطفتها الهادئة· لقد كانت صديقة جارتْه في كل آثامه وتجاوزت عن كسله لتستمتع بمشاعره الدافئة وخيالاته العميقة الغريبة وإيمانه المهتز، وضاعت آلام الشاعر المبرحة بين الحيل والصراع· وعلى أية حال، فقد كاد يرى في هذه الفتاة شبحاً رعديدا سحقها أخوها (سيطر عليها تماما) ·(ملحق/875)
وهنا تحقق كولردج أن هذا الرجل وردزورث Wordsworth بوجهه الهادئ الحزين وجبهته المرتفعة وعينيه المتأملتين شاعر حقيقي وحيوي حساس لكل خلجة ونبضة من خلجات الأشياء والأشخاص ونبضاتهم، وينأى بنفسه عن أي اضطراب اقتصادي جاعلاً من خلجات الطبيعة والناس ونبضهما وسيلة للبحث عن الكلمات المعبرة بعمق وعاطفة عن بصيرته وأحلامه·
وكان كولردج - الذي كانت (أغاني البحار القديم) تعتمل بالفعل في نفسه - هو أعظم الشاعرين - لكنه أحسّ بتكريس هذا الشاعر (وردزورث) نفسه للشعر وحسده لتكريس نفسه تماما للشعر، وربما كان قد تعجب ما إذا كانت الأخت ليست أفضل من الزوجة· لقد كتب حالما وصل: لقد شعرت بضآلتي بجواره، ومع هذا لم أعتبر نفسي أقل مما كنت أظن نفسي سابقا إن وليم (وردزورث) رجل عظيم جدا· إنه الرجل الوحيد الذي أحسست أنني أقل منه في كل الأوقات وفي كل حالات تفوقي·
وبدأ ثلاثتهم ثلاثة أسابيع يحث بعضهم بعضاً، لقد راح كل واحد منهم يقرأ قصائده على الآخرين· وكان وردزورث يقرأ أكثر، بينما كان كولردج يتحدث أكثر· كتبت دوروثي:
"إن مناقشاته وحواراته تتزاحم في الروح والنفس والعقل· وهو خيّر جدا حسن الطباع جذاب ·· وهو يتحدث بعينه التي تعبر عن كل عواطفه"·
وعادة ما يبرد الحب بين هذا الثلاثي بعد ثلاثة أسابيع فرجا كولردج كلاً من وليم ودوروثي أن يصاحباه إلى نذر ستوى Nether Stowey ليكرمهما كما أكرماه، فانطلقا معه متوقعين أن يعودا سريعا إلى ريسدون لكن الصديق بول Poole علم أن الفترة التي يقضيانها مع كولردج ستنتهي ولا مجال لتمديدها فدبر لهما منزلا جميلا مؤثثا في ألفوكسدن مقابل 23 جنيهاً إسترلينياً سنويا، وألوفكسدن Alfoxden هذه على بعد أربعة أميال من مقر كولردج، وهناك أقام وليم وردزورث ودوروثي في راحة، وراحا يستلهمان الشعر طوال خمسة عشر شهرا·(ملحق/876)
وفي هذه الفترة السعيدة راحوا يسيرون وهم ينشدون الشعر أو يتناقشون فيه: أحيانا كان الرجلان يسيران معا، وأحيانا كولردج ودوروثي، وأحيانا ثلاثتهم معا· لقد راحوا يتبادلون المشاعر والأفكار والملاحظات: وردزورث شجع كولردج على ترك الخيال كمرشد له، وزاد كولردج من معارف وردزورث عن الفلاسفة وتحداه ليكتب ملحمة شعرية· وفي أعوام لاحقة تذكر وردزورث في (المقدمة) صديقه الذي كان يجول معه (كولردج) ذاكرا أنه:
صديق الأرواح المرحة / حيث كنا نخصص جانبا من أيامنا لأول مرة لننغمس معا في الشعر الجامح وكانت دوروثي هي رباطهما محفزتهما (مشجعتهما) · لقد كانت تبهجهما بمديحها، وباستماعها باهتمام وشغف متحدية إياهما بحماسها وعمق إدراكها ونفاذ بصيرتها، موحدة إياهما كعروس روحية لكليهما· لقد كانوا - كما قال كولردج ثلاثة أشخاص في روح واحدة·
ولابد أن وردزورث وكولردج قد طالعا اليوميات التي بدأت دوروثي كتابتها في ألفوكسدن في 20 يناير سنة 1797· ولا بد أنهما توقفا عند سطر في الصفحة الثانية طنين الحشرات، تلك الضوضاء الصامتة (غير المزعجة) التي تملأ أجواء الصيف أما سارة كولردج فلا بد أنها كانت أكثر تأثرا بما ورد عن الفترة من 3 إلى 12 فبراير:
3 فبراير: سرت مع كولردج فوق التلال ···
4 فبراير: سرت مسافة طويلة في الطريق إلى ستوي مع كولردج ····
5 فبراير: سرت إلى ستوي مع كولردج ···
11 فبراير: سرت إلى قرب ستوي مع كولردج
21 فبراير: سرت وحدي إلى ستوي، وعدت مساء مع كولردج·
ولم تكن ساره سعيدة بحكاية المشي هذه، لقد بدا الأمر لها برئياً غير مرتبط بعلاقة جنسية، لكن أين تنتهي هذه الحكاية؟
7 - الشعر الغنائي LYRICAL BALLADS: 1798(ملحق/877)
وفي يناير سنة 1798 ظهر في كولردج حافز آخر يحفزه على التفرغ للشعر، إذ إن جوسياه Josiah وتوماس ودجوود Wedgwood - ابني جوسياه ودجوود (1730 - 1795) ووريثاه - عرضا على الشاعر شبه المفلس راتباً سنوياً مقداره 150 جنيهاً (3,750 دولار) شريطة أن يتفرّغ تماماً للشعر والفلسفة· وكان أبوهما صانع فخار أتقن صنعته فجعل فخاره وخزفه مشهورا في أوربا كلها· وكتب كولردج لهما خطابا في 17 يناير يرحب فيه بهذه المنحة، وأغرق في التأمل والاندماج في عملية الإبداع ليكمل (أغنية الملاّح القديم) واقترح كولردج على وردزورث بعد أن تسلح بهذه المنحة الدالة على شهرته في مضمار الشعر - أن يجمعا معا قصائدهما الجديدة في مجلدات تحمل اسميهما فقد تعود عليهما بمبالغ مالية تكفي لتمويل رحلة يقومان بها إلى ألمانيا·
لقد كان كولردج يأمل في أن عاما يقضيه في ألمانيا سيمكنه من تعلم اللغة الألمانية بشكل يكفي لقراءة الأعمال الكبرى التي ألفها الألمان من جوته إلى كانط Kant في لغتها الأصلية وفهمها، فهؤلاء الأعلام الألمان قد جعلا من ألمانيا رائدة في مجال الفلسفة الأوربية بلا منازع أو على الأقل جعلتها تنافس إنجلترا وفرنسا في مجال الأدب والفكر· ولم يكن وردزورث متحمساً لألمانيا، لكن لأن فرنسا وشمال إيطاليا كانا في قبضة الثورة الفرنسية، فقد وافق كولردج على خطته·
وفي أبريل سنة 1798 وجها دعوة للناشر كوتل Cottle ليأتي إليهما من بريستول ليسمع أشعارهما الأخيرة، وأتى واستمع إليهما وعرض ثلاثين جنيها لشراء حق الطبع، وأراد أيضا أن ينشر اسمي الشاعرين ولكن كولردج رفض قائلا إن اسم وردزورث ليس شيئا أما اسمي فيلاقي احتجاجا عنيفاً ·
وبعد ذلك بثمانية عشر عاما شرح كولردج نظريته الكامنة وراء هذا التعاون (العمل المشترك):(ملحق/878)
"من المتفق عليه أن محاولاتي تتناول شخوصاً وشخصيات ميتافيزيقية (فوق الطبيعة) أو على الأقل رومانسية ···· أما السيد وردزورث فقد جعل هدفاً له أن يضفي الجدَّة والجاذبية على أمور تحدث كل يوم، وأن يثير مشاعر تناظر ما أثيره من أمور فوق طبيعيه (ميتافيزيقية) بلغت الأنظار إلى ما في العادات من بلادة ولا مبالاة، إنه يوجه شعره إلى ما في العالم أمامنا من جمال وعجائب ···لقد كتبت الملاح القديم من هذا المنطلق وكنت أجهز أيضا بمثل هذه الروح لعمليّ "الليدي السوداء The Dark Ladie " و"كريستابل Christable" اللذين كنت فيهما أكثر اقترابا من تحقيق هذه الغاية "·
وربما أخذت هذه النظرية شكلها بعد كتابة القصائد· وقد وضح هذا وردزورث في مقدمة الطبعة الأولى:
تعتبر معظم القصائد الواردة في هذه الطبعة تجارب شعرية· لقد كتبت في الأساس من وجهة نظر مؤداها التحقق من المدى الذي يمكن فيه للغة العادية (لغة الحوار) في الطبقتين الوسطى والدنيا أن تكون قادرة على تحقيق أغراض الشعر وما يحدث من بهجة· لقد اعتاد القراء على الزخارف اللفظية والأساليب الفارغة لكثيرين من الكتاب المعاصرين، لذا فإن هؤلاء القراء إذا ثابروا على قراءة هذا الكتاب إلى نهايته ربما كان عليهم أن يقاوموا ما يحسون به من غثاثة وسماجة وغرابة· إنهم سينظرون إلى الشعر الذي ألفوه واعتادوا عليه ثم يندفعون متسائلين بأي حق أطلقنا على محاولاتنا هذه لفظ الشعر؟ إنه لمن المرغوب فيه ألا يعاني مثل هؤلاء القراء أمام كلمة الشعر المتفردة، تلك الكلمة التي تنازع الناس حول معناها؟ انه لمن غير المرغوب فيه أن تقف هذه الكلمة عائقا بين الناس وبين الاستمتاع (بما نكتب) ····
والقراء الأرقى حكما قد لا يوافقون على الأسلوب الذي كتبنا به كثيرا من هذه القصائد··· فسيظهر لهم أن المؤلف (الشاعر) رغبة منه في تجنب الأخطاء الشائعة قد تنازل كثيرا واستخدم كثيرا من التعبيرات الشائعة جدا والتي لا تتسم لفرط تداولها بالوقار الكافي··· ·(ملحق/879)
وتدخل النثر ليقطع عليهم روح الشعر: مالك منزل ألفوكسدن أحاط آل وردزورث علما أن لاحق لهم في الإقامة في المنزل بعد 30 يونيو 1798· وفي 25 يونيو غادر وليم وردزورث ودوروثي إلى بريستول للتفاوض مع كوتل (الناشر) وفي 10 يوليو استقلتهما سفينة ليعبرا نهر سيفرن Severn وسار عشرة أميال في ويلز إلى كنيسة تنتيرن Tintern Abbey· وبالقرب من هذه الخرائب الجميلة جدا وفي طريق العودة إلى بريستول ألف وردزورث القصيدة التي أضيفت كقصيدة أخيرة إلى ديوانهما الشعر الغنائي Lyrical Ballads·
وتم نشر هذا الديوان الصغير في 4 أكتوبر 1798 بعد تسعة عشر يوما من مغادرة الشاعرين - غير المعترف بشاعريتهما - قاصدين ألمانيا· لقد كان عنوان الديوان مناسبا؛ فقد كان إسهام كولردج الرئيس يسير على نسق الأشعار الإنجليزية القديمة - حكايات شعرية صالحة للغناء، وكان معظم إسهام وردزورث قصائد غنائية بسيطة تتناول الحياة البسيطة تكاد تقتصر على استخدام ألفاظ من مقطع واحد يستخدمها الفلاحون الإنجليز·
وكانت القصيدة الأولى في الديوان هي (أغنية الملاح القديم) وشغلت 15 صفحة من 117 صفحة هي كل صفحات الديوان وهي أطول قصائده وربما أفضلها رغم أن إنجلترا لم تدرك ذلك إلا ببطء، أما وردزورث فلم يعترف بقيمتها أبدا· حقيقة أن هذه القصيدة كانت حاوية على أخطاء كثيرة لكن لا يجب التركيز على الأخطاء التي نعتبرها منافية للعقل (أفكار اللامعقول) في الحكاية الشعرية، ذلك لأن كولردج كان قد اقتحم عالم الغموض حيث الأسرار والرموز وحيث الخيال الذي يجعل كل شيء ممكنا، ففي عالم الخيال يمكن أن تنتج أحداث جسام من وقائع تافهة أو بسيطة· ومع هذا فإنه يتمسك بعبير الأسرار في الحكايات والأساطير القديمة، كما يتمسك بأوزان وإيقاعات الأشعار الغنائية والقصصية البسيطة القديمة (فالملاح القديم) تكاد تحملنا معه إلى النهاية· إنها (الملاح القديم) تعتبر - بالطبع - واحدة من أعظم قصائد الشعر الغنائي في اللغة الإنجليزية·(ملحق/880)
أما إسهامات وردزورث فتكاد كلها تكون نماذج من الحكمة التي وجدها في شخصيات البسطاء· وبعض هذه القصائد مثل (الصبي الأبله Idiot boy) و (سيمون لي Simon Lee) هجاهما المتابعون (النقاد) بصخب، لكن من منا لم يتعاطف مع حب الأم المتسم بالصبر لطفلها غير المؤذي ضعيف العقل (طفلها الأبله)؟ (إن شطراً واحدا من هذه القصيدة المفهومة يخبرنا عن العشب الأخضر - الذي تكاد تسمعه في أثناء نموه أيمكن أن يكون هذا التعبير اقتباساً من دوروثي؟) وبعد أن أطال كثيرا في قصائده ذات المذاق الريفي أنهى وردزورث الديوان بأبيات تأملية من (أميال قليلة) فوق (دير تنتيرن Tintern Abbey) ·
إنه هنا يقدم لنا تعبيرات فائقة (سامية) تعبر عن مشاعره عن أن (الطبيعة) و (الرب) هما شيء واحد (على وفق تعبير سبينوزا Spinoza's Deus sive Natura) إنهما (الطبيعة) و (الرب) لا يتحدثان فحسب من خلال معجزات النمو (أو التطور) وإنما أيضا من خلال الرهبة التي تبدو (من خلال قصر نظر البشر) قوى مدمرة كان تيرنر Turner يتعبد في محرابها (أي الرهبة) عند ممارسة فن الرسم· ومن جولاته (وردزورث) في الغابات والحقول، وتجديفه على صفحات البحيرات الهادئة وتسلقه فوق الصخور الضخام الوعرة، وعن آلاف النداءات صياحا أو همساً الصادرة من آلاف الكائنات الحية، وحتى من تلك الموجودات التي يفترض ألا حياة فيها نسمعه - عن هذا ينشد:
إليها ··· إنني مدين لها بكل ما هو مقدس ومبارك،
ففيها تكمن الأسرار،
وفيها يلقى الضوء،
على كل ما هو غامض مبهم في عالمنا،
وعن طريقها تريح هذا العبء الثقيل المرعب من الغموض والإبهام في عالمنا
فبسلطان التناسق (الهارمونية harmony) تسعد العين بالهدوء
وبسلطان البهجة العميقة
نرى أعماق كل ما هو حي ·
وبعد ذلك يشرئب إلى دقائق إيمانه:
لقد تعلمت،
أن أنظر إلى الطبيعة،
لا كشاب لا فكر له، لكنني أسمع في أحوال كثيرة،
هارمونية الصمت، وموسيقاه الحزينة،
إنها ليست فجة وليست ضبابية غامضة رغم سلطانها الواسع الممتد، وقدرتها
على التطهير (تطهير النفس) والسيطرة (القهر) · ولقد شعرت،
بحضور يثيرني بالبهجة،
بهجة الأفكار السامية: معانٍ تسمو،(ملحق/881)
الأشياء سمواً عميقا وبعيدا بما يتخللها،
معان محورها ضوء الشمس الغاربة،
والمحيط الهائل والهواء الطلق،
والسماء الزرقاء، وفي نفس الإنسان،
الحركة والروح اللتان تدفعان،
كل ما هو مفكر، وكل أهداف للأفكار،
وتدور في كل الأشياء، لذا ألا زلتُ
عاشقا لكل المروج والغابات
والجبال ··· معترفا أن،
في الطبيعة ولغة المعاني
دليل قلبي وحارسه وروح،
كل وجودي المعنوي (أو بتعبير آخر مغزى وجودي) ·
وقد وصلت دوروثي أيضا إلى هذه العقيدة (الإيمان) الشافية التي توحّد بين الطبيعة والرب ووجدت أنها لا تتفق مع العقيدة المسيحية· وفي نهاية قصيدته أضاف وردزورث إهداء يعبر فيه عن شكره لها وتسبيحه بفضلها كأخت روحه معلنا تمسكه بها حتى النهاية:
إن إيماننا البهيج الذي نتمسك به جميعا،
إيمان مقدس ومبارك· لذا دع القمر،
يبزغ بنوره عليك عندما تكون سائرا بمفردك،
ودع رياح الجبال التي بللها السديم تهب حرة،
دعها تهب عليك، ···· وفي الأعوام التالية،
عندما تصبح هذه الانجذابات البرية ناضجة
في بهجة رصينة، عندما تصبح نفسك
ملاذاً لكل ما هو محبب
ستصبح ذاكرتك مسكناً
لكل الأصوات الحلوة، وكل ما هو متناسق جميل ····
ولم يحظ هذا الديوان ( Lyrical Ballads) باستقبال حسن إذ ذكرت السيدة كولردج أن أحداً لم يحب هذه القصائد - لقد كانت السيدة كولردج زوجة معذورة إذ كانت تغار من ملهمة زوجها الشاعر·
وانشغل المتابعون (النقاد) انشغالا شديدا بعدم الحبكة في قصيدة (البحار القديم) وعدم الترابط في الأفكار العاطفية في القصائد الغنائية القصيرة التي كتبها وردزورث، وبدا أن أحدا منهم لم يعترف بقصيدة (البحار القديم) كشكل سيسود مستقبلا في كل الأعمال الأدبية الشعرية رغم أن بعض التابعين لاحظ وحدة الوجود (كون الطبيعة والرب شيئا واحدا) والإيمان بهما إيمانا شديداً في قصيدة (دير تنتيرن)، وبيع من هذا الديوان الصغير خمسمائة نسخة على مدار عامين وعزا كولردج أحد أسباب نقص المباع منه إلى كلمه (البحار) التي أوحت أن الديوان يتناول أغاني التجارة أما وردزورث فقد عزاه إلى احتواء الديوان في على قصيدة (الملاح القديم) هذه وليس مجرد اسم (الملاح) ·(ملحق/882)
وفي سنة 1799 بينما كان كولردج في ألمانيا أعد وردزورث طبعة ثانية من هذا الديوان· وفي 24 يونيو كتب إلى الناشر كوتل Cottle:
" من خلال ما سمعته وقرأته يبدو أن قصيدة (الملاح القديم) قد ألحقت ضررا بالديوان (قد يكون هذا صحيحا) ···إذا قدر طبع الديوان طبعة ثانية فإنني سأضع مكانها بعض المقطوعات الصغيرة قد تكون أكثر مواءمة للذوق العام".
ومع هذا فقد اشتمل الديوان في طبعته الثانية على قصيدة (الملاح القديم) مع شروح غير متعاطفة قدمها وردزورث، يبيّن فيها عيوب القصيدة وأخطاءها ولكنه لفت الأنظار إلى كونها قصيدة ممتازة · وهذه الطبعة (يناير1801) اشتملت على قصيدة جديدة لوردزورث هي قصيدة تحمل عنوان ميشيل Michael - وهي حكاية كتبها بالشعر المرسل (غير المقفى) عن راع بلغ من العمر أربعة وثمانين عاما مخلص في عمله متمسك بالأخلاق الحميدة، محبوب في قريته، وعن ابنه الذي انتقل إلى المدينة فغدا فاسقا منحلا ·
وذكر وردزورث في مقدمة جديدة للديوان بالتفصيل - وفي عبارات أصبحت الآن مشهورة -نظريته في الشعر:
"إن أي شيء وأية فكرة أن تثمر شعرا إذا حملت بالمشاعر والمعاني، وإن أي أسلوب أو لغة يمكن أن يكون شعرية إ ذا كان قادراً على نقل هذه المشاعر والأحاسيس والمعاني فالشعر هو فيض عفوي للمشاعر القوية"·
التي تعود إلى أحاسيس وعواطف تراكمت بهدوء وعلى الشاعر نفسه أن يتحكم في هذه الأحاسيس وتلك العواطف قبل أن يعطيها شكلها الفني، ولكن مثل تلك المشاعر والأحاسيس ليست قصرا على المتعلمين أو النخبة المثقفة إذ يمكن أن تكون لدى الفلاح الأمي كما يمكن أن تكون لدى الدارس أو الباحث أو اللورد وربما تتخذ شكلها أنقى وأوضح عند الأشخاص الأكثرين بساطة، ولا يحتاج التعبير عنها إلى مفردات شعرية خاصة أو أسلوب شعري خاص فأفضل الأساليب هو أبسطها وأفضل الألفاظ هو أقلها زخرفة وخلوا من الادعاء والخيلاء·
والوضع الأمثل هو أن يتحدث الشاعر بلغة الرجل العادي وحتى الكلمات العلمية أو المكتسبة بالتعليم يمكن أن تكون شعرية إذا نقلت المشاعر والقيم المعنوية· وفي خاتمة المطاف(ملحق/883)
"فإن المضمون المعنوي - مشاعر وأحاسيس - هو المعول عليه في كل الفنون والآداب ·المسألة إذن هي إلى أي مدى إذن نوظف مهارتنا (كشعراء) في توضيح الأفكار وتبرِئتها مما يشوبها والتسامي بها (جعلها نبيلة)، فالشاعر العظيم يجب أن ينقي المشاعر الإنسانية إلى درجة معينة··· ليجعلها أكثر معقولية ونقاء ودواما - باختصار أكثر توافقا وتناغما مع الطبيعة - أعني مع الطبيعة الخالدة، والروح العظمى للأشياء· لابد للشاعر أن يكون إلى جوار الإنسان، وأن يسبقه (يستشف المستقبل) بين الحين والحين" ·
والشاعر المثالي - أو الرسام أو النحات - هو فيلسوف يلبس الحكمة ثوب الفن والأدب، ويوحي المعاني من خلال الشكل الأدبي أو الفني الذي ابتغاه·
لقد قامت هذه المقدمة (التي كتبها وردزورث) بدور في التاريخ لأنها ساعدت في وضع نهاية للذوق اللغوي الذي كان سائدا غالبا في الشعر والخطابة لدى الإنجليز في العهد الأوغسطي Augustan Age كما ساعد على وضع نهاية للظلم الطبقي والمرجعيات الكلاسيكية في ذلك العصر· لقد أعلنت هذه المقدمة حرية المشاعر (حق الجميع في الشعور)، وكانت عاملا آخر من عوامل الترحيب بالقصص الرومانسي - وإن صاغها وردزورث بأسلوب أبعد ما يكون عن الرومانسية· لقد كان وردزورث نفسه ذا مزاج وصفات كلاسيكية فكرا وحكما لقد تفاعلت ذكرياته معه بهدوء، بينما كان كولردج رجل عواطف وأحاسيس وخيال· لقد كان التعاون بين الرجلين تعاونا مثمرا ومفيدا· إنها مشاركة ممتازة·
8 - الباحثان المتجولان: 1798 - 1799
لم ينتظر الشاعران (وردزورث وكولردج) ليريا ديوانهما منشورا وأبحرا ومعهما دوروثي في 15 سبتمبر سنة 1798 من يارموث Yarmouth إلى هامبورج، وكان أحد أسباب قرارهما منحة إضافية تلقاها كولردج من جوزياه ودجوود Josiah Wedgwood وقرضا تلقاه وردزورث من أخيه رتشارد· وفي هامبورج، افترقا بعد أن قاما بزيارة غير ملهمة للشاعر العجوز كلوبشتوك Klopstock·(ملحق/884)
وذهب كولردج للدراسة في جامعة جوتنجن Gottingen أما وردزورث ودوروثي فاستقلتهما مركبة عمومية إلى جوسلار Goslar المدينة الإمبراطورية الحرة عند السفوح الشمالية لجبال هارتس Harz، وهناك مكثا أربعة أشهر، ولم يكن ذلك في خطتهما وإنما بسبب البرد الشديد· وفي هذه الفترة راحا يتسكعان في الشوارع ويتدفآن أمام الموقد المدفأة ويكتبان الشعر أو ينسخانه· وليدفئ نفسه بالذكريات ألف وردزورث الكتاب الأول من مقدمته ( The Prelude) وهو ملحمة سيرته الذاتية· وفجأة تحققا من أنها يحبان إنجلترا كثيرا فانطلقا سيرا على الأقدام في 23 فبراير سنة 1799 وكان البرد قارسا ليودعا كولردج في جوتنجن، ثم أسرعا عائدين عبر بحر الشمال القارس إلى يارموث Yarmouth ومنها إلى سوكبيرن Sockburn حيث كانت ماري هتشنسون Mary Hutchinson تنتظر بصبر قدوم وليم (وردزورث) ليتزوجها·
وفي هذه الأثناء كان كولردج قد بذل قصارى جهده في جوتنجن ليكون ألمانياً إذ تعلم الألمانية وأصبح مشغولاً بالفلسفة الألمانية· ولم يجد توضيحا للعقل (أو النفس mind) في سيكولوجيا المادية Psychology of materialism وتخلى عن نظرية هارتلي Hartley عن التداعي Mechanistic associationism وتبنى مثالية idealism كانط ولاهوت شيلنج Schelling الذي جعل الطبيعة Nature والعقل Mind هما وجهي الرب (جانبي الله) · وقرأ أو سمع محاضرات أوغسطس فيلهلم فون شليجل August Wilhelm Von Schlegel عن شكسبير واقتبس منها أفكارا كثيرة في محاضراته اللاحقة عن الدراما في عهد إليزابيث· وبعد أن تشبع تماما بالفكر والمجردات، فقد ميله للمشاعر والخيال وترك الشعر إلى الفلسفة· وكتب: "لقد مات الشعر فيّ· لقد نسيتُ كيف أنظم قصيدة "·(ملحق/885)
لقد أصبح هو حامل الفلسفة الألمانية إلى إنجلترا· وفي يوليو سنة 1799، غادر ألمانيا عائداً إلى نذر ستوى لكن ابتعاده عن زوجه مدة عام كان قد أثر في قدرتها على رعاية بيتها، لم تعد ساره كولردج رومانسية حالمة، وأصابها هم بسبب موت ابنهما الثاني حديثا - بيركيلي Berkeley· وفي شهر أكتوبر انطلق - وقد اعتراه الملل - شمالا ليرى وردزورث في سوكبيرن · وفي تلك الزيارة أبقى يد سارة هتشنسون - أخت ماري - في يده طويلا، وسرى تيار باطني غامض من المرأة إلى الرجل، وانشغل كولردج بحبه الثالث غير السعيد، فسارة هذه - لم تقدم له أكثر من التعاطف لأنها كانت تدرك التزاماته تجاه الأخرى· وبعد عامين من التودد إليها بلا أمل استسلم للهزيمة وكتب قصيدة غنائية مؤثرة بعنوان الأحزان تكاد تكون آخر نبض شعري له·
وصحب وردزورث في جولة على الأقدام في منطقة البحيرة يبحث كل منهما عن مسكن، وفي كزويك Keswick ظن أنه وجد مكانا للإقامة لكنه تلقى عرضا للعمل في جريدة مورنينج بوسط morning Past فغير خطته واتجه إلى لندن· وفي هذه الأثناء استأجر وردزورث مسكنا على بعد ثلاثة عشر ميلا إلى الجنوب - في جراسمير Grasmere· وعاد إلى سوكبيرن ورضيت دوروثي بالتحرك للمنزل الجديد وفي 17 ديسمبر 1799 بدأ الأخ والأخت رحلتهما الطويلة سيرا على الأقدام في معظم الوقت قطعا خلالها أميالا كثيرة في طرق وعرة وغير مستوية في فصل الشتاء· وفي 12 ديسمبر أقاما مدفأتهما في المنزل الجديد فيما أ سماه ورزورث طرف المدينة وأصبح فيما بعد يحمل اسم مسكن اليمامة (دوف كوتاج Dove Cottage) وهناك قضيا أصعب أعوامهما وأسعدها في الوقت نفسه·
9 - قصيدة رومانسية في جراسمير: 1800 - 1803
IDYL IN GRASMERE(ملحق/886)
احتفظت لنا دوروثي في يومياتها في جراسمير في الفترة من 14 مايو 1800 إلى 16 يناير 1803 بتفاصيل شغلت 150 صفحة تمكننا من معرفة الحياة اليومية للأخ والأخت - والتي أصبحت باختصار فيما بعد حياة أخ وأخت وزوجة في آن واحد· ولم يكن مناخ جراسمير صحيا: فالمطر والثلج يكادان يسقطان يوميا· وبرد الشتاء بما يصاحبه من ثلوج قد يعاود الظهور في يونيو أو يوليو· لقد كانت الأيام المشمسة تمثل - لندرتها - بهجة غامرة، وكان ظهور القمر بين الحين والحين إلهاما وتجليا· وكان المنزل يدفأ بإشعال الفحم في المستوقد ولكن دوروثي ذكرت أنني لم أكن أستطيع النوم بسبب شدة البرد وقسوته
لقد اعتبرا مسألة المناخ هذه مسألة مفروضة وتصرفا إزاءها على نحو رُواقي، وكانا ممتنين للربيع وهوادة الأمطار لقد كانت السماء تمطر باعتدال وبشكل لطيف· هذه العبارة تكررت مرارا في يوميات دوروثي· وورد فيها أيضا أنه في بعض الأحيان كانت جراسمير تبدو جميلة جمالا يكاد يذيب القلب·
وكانا يسيران مسافات طويلة، معاً، أو فرادى وأحيانا كانا يقطعان ميلا إلى أمبلسيد Ambleside حيث مقر البريد، وأحيانا كانا يقطعان رحلة تستغرق نصف يوم إلى كزويك Keswick بعد استقرار كولردج بها· وبدا ورد زورت راضيا بزواجه من أخته إذ كان يدعوها:
رفيقة وحدتي في مسيرتي،
أملي وفرحتي وأختي وصديقتي،
وأحيانا أعز عليّ من هذا كله إن كان
العقل يدرك ما هو أعز من ذلك، أو كان،
في قلب الحب، ما هو أعز·
وفي وقت تأخر حتى سنة 1802 (عام زواجه) كان يشير إليها بعبارة (حبي) وكانت راضية بدعوتها له (أخي اللطيف) ·
لقد أصبح دخلها الآن أربعين جنيها أما هو فدخله سبعون جنيها بالإضافة إلى مبالغ ضئيلة متقطعة تصل إلى حوالي 140 جنيها (3,500؟ دولار) وهذا هو كل دخلهما السنوي· وكان عندهما خادم أو خادمان، ذلك لأن الفقر كان منتشرا جدا حتى إن نسوة كثيرات بل ورجالا من غير المتزوجين كانوا راغبين في أداء عمل مقابل المأوى والطعام··(ملحق/887)
وكان الشاعر وأخته يرتديان ملابس بسيطة: دوروثي كانت ترتدي عباءة عادة ما تكون من صنعها هي، بل إنها عادة ما كانت تصنع حذاءها أما وليم وردزورث فكان يرتدي ملابس فلاح أو ملابس مستعملة أرسلها له أصدقاؤه·
وكان لديهما حديقة خضراوات، وكانا أحيانا يصطادان الأسماك من البحيرة· وأكثر من هذا فقد ورد في يوميات دوروثي: "لقد كنت أصنع كعكة الفاكهة والحلوى الخبز والحلوى الحلوى والكعك"· لقد كانت تدلل وليم ·
لقد كان وليم يعمل أيضا: فقد خصص شطراً من كل يوم عادي للتأليف، وعادة ما كان يؤلف في أثناء سيره منفردا فإذا ما عاد أملى على دوروثي· وكان أيضا يقطع الأخشاب ويعزق أرض الحديقة ويزرعها كان وليم يطهر المجرى المائي اللازم مثل المجرى اللازم حفره في الجليد للتخلص من صرف المرحاض· وبالإضافة إلى هذا كانت دوروثي تخمر الجعة وكنا نستعير بعض الزجاجات لتعبئة الرُّم (شراب مسكر) ورغم تناول وليم للخضراوات فقد كان يعاني من البواسير وبعد سنة 1805 أصبح يعاني من ضعف الإبصار والأرق فكان على دوروثي في كثير من الأمسيات أن تقرأ له حتى ينام·
وفجأة اضطربت تلك الأيام بسبب المال والزواج· ففي 24 مايو سنة 1802 توفي سير جيمس لوثر إيرل لونسديل Lonsdale تاركا ثروته ولقبه لابن أخيه - السير وليم لوثر الذي رتب دفع المبالغ المدين بها السير جيمس لورثة جون وردزورث· وكان من الواضح أنه قد جرى تقسيم أربعة آلاف جنيه بين الأطفال ورغم أن نصيبي وليم ودوروثي لم يتم دفعه حتى سنة 1803 فإن وليم شعر أن توقعاته المعقولة تدعم تقدمه لطلب الزواج من ماري هتشنسون لكن ذكرى أنيت فالون Annette Vallon راحت تعتمل في وعيه·(ملحق/888)
ألا يجب عليه الكشف عن علاقته بها قبل أن يطلب من ماري الاقتران به؟ وفي التاسع من يوليو 1802غادرا جالو هل Gallow Hill ثم في 26 من الشهر نفسه أقلتهما عربة إلى لندن· لقد أخذ بروعة المدينة كما بدت له في الصباح الباكر من جسر وستمنستر · وألف وردزورث واحدة من سونيتاته sonnets ( السونيتة قصيدة من أربعة عشر بيتا) الخالدة - "ليس على وجه البسيطة ما هو أجمل من ذلك Earth has not anything to show more fair" وواصلا طريقهما إلى دوفر Dover واستقلتهما سفينة نقل البريد عبر القنال وفي 31 يوليو وجدا أنيت ابنتها كارولين ذات الأعوام التسعة في انتظارهما في كاليه Calais· ولا ندري ما توصلا إليه من اتفاق، وكل ما نعرفه أنه بعد 14 سنة، عندما تزوجت كارولين، كانت حالة وردزورث وقتها منتعشة خصص لها راتبا سنويا مقداره 30 جنيها (750 دولار) · ومكث الأربعة في كاليه مدة أربعة أسابيع حيث راحوا يسيرون على شاطئ البحر في وفاق ظاهر· ونسج وردزورث قصيدة (سونيتة) أخرى رائعة:
إنها أمسية جميلة، هادئة وسمحة
الزمن القدسي هادئ كراهبة
كتم أنفاسه لفرط الوقار·
وانتهى بالدعاء لكارولين· وفي 29 أغسطس غادر وردزورث ودوروثي إلى دوفر ولندن· ومن الواضح أنه لم يكن في عجلة من أمره فلم يعد الأخ ولا أخته إلى جالو هل حتى 24 سبتمبر·
وفي 4 أكتوبر 1802 تزوج وليم وماري ولم تتلق العروس هدايا لأن أقاربها لم يكونوا موافقين على زواجها منه أما دوروثي التي كانت قد كتبت في يومياتها مؤخرا عن وليم أنه (عشيقها) فلم تستطع أن تثق في قدرتها على حضور مراسم زواجه فقد كانت مشاعرها مهتاجة تكاد لا تستطيع السيطرة عليها فصعدت السلم وهي لا تكاد تحس بما حولها حتى دعتها سارة هتشنسون قائلة "إنهما عادا من الكنيسة"· كان هذا - كما ذكرت في يومياتها - بعد الظهر -
"فاضطرت إلى انتزاع نفسها من سريرها وتحركت لا تدري كيف ··· وهي لا تكاد تحمل نفسها حتى قابلت حبيبي وليم فارتميت على صدره، فقام هو وجون هتشنسون باقتيادي إلى البيت وهناك مكثت لأرحب بعزيزتي ماري"·(ملحق/889)
وفي هذا اليوم نفسه بدأ الشاعر وزوجته وأخته رحلة طويلة إلى جراسمير في عربة خفيفة تجرها خيول· وبالتدريج كيّفت دوروثي نفسها للعيش كثالثة ثلاثة وسرعان ما تعلمت أن تحب ماري كأخت وصديقة حميمة· بالإضافة إلى ذلك فقد جلبت ماري إلى بيت الزوجية دخلها السنوي البالغ عشرين جنيها· وعندما وصل مبلغ لوثر السابق ذكره أخيرا ارتقت أحوال الأسرة فنعمت بالرفاهية البورجوازية، وأصبح وليم وطنيا غيورا وأُدرج اسمه في قائمة متطوعي جراسمير للدفاع المدني عن إنجلترا ضد نابليون·
ومن أناشيده الرعوية الرومانسية التي تعد من أجمل قصائده (إلى فراشة To a Butterfly) وأقوى سونيتاته (ميلتون Milton) ، أما قصيدته (الثبات والاستقلال Resolution and Independence) فتعكس نزعته إلى الحزن الشديد، وبين عامي 1803 و1806 ظهر أشهر أعماله (إعلانات الخلود من ذكريات الطفولة الباكرة) فقلما تكون هناك فنتازيا فلسفية جرى التعبير عنها بمثل هذا الجمال·
لقد بدأت بملاحظة كئيبة عن إعتام عينيه:
أدور قدر ما يمكن
ليلا أو نهارا
فالأشياء التي كنت أراها لم أعد أراها الآن·
ترى لم تخبو كلما تقدم بنا السن؟
ميلادنا ليس سوى نومٍ ونسيان،
فروحنا التي تشب معنا ونجم حياتنا،
لابد أن يخبوا (يغربا) في مكانٍ ما،
لقد أتت روحنا من بعد قَصِي
ليست من المجهول تماما
وليست من العري الكامل
لكننا أتينا من مؤخرات سحب الجلال
من الرب الذي هو سكننا
فالفردوس حولنا في مرحلة طفولتنا
وتبدأ ظلال السجن تدرك الصبي النامي،
لكنه يمسك النور، وحيثما ينساب النور
يراه في لحظات سعادته ومرحه
وأخيرا يدرك الإنسان أنه يتلاشى،
ويذوب في وضح النهار·
ومن ثم يحيى الشاعر الطفل باعتباره:
أنت أفضل فيلسوف، فأنت لا تزال تحتفظ
بتراثك ···
بل وعندما نبلغ من العمر مبلغا يكون لدينا وعي غائم بهذا الأفق الضائع:
الهواجس الشاحبة للخلق
تتحلق حول عوالم غير مؤكدة ··،
تلقي أرواحنا نظرة على هذا البحر الخالد
الذي ألقى بنا هنا
أيمكن في لحظة أن نرحل إلى هناك،
ونرى ألعاب الأطفال على الشاطئ،
ونسمع أصوات الأمواج الجليلة مرة أخرى؟(ملحق/890)
تلك إنثروبولوجيا anthropology كُسيت كساء لاهوتيا: الطفل لا يزال حيوانا يسعد بحريته وأطرافه وعواطفه الحيوانية، ينفض أي كساء وأية قيود وأي حظر، يتطلع إلى الحرية في الحياة الحيوانية والحركة في الحقول أو الغابات أو البحار أو الهواء وشيئا فشيئا يفقد - بامتعاض - تلك الحريات كلما تقدم به السن وكلما أصبح شابا يعيش في ظل الحضارة· لكن وردزورث لم يرد أن يكون كذلك، لقد راح يتذكر فيثاغورث وراح يأمل أن يجد فيه جسرا يعبر منه إلى عقيدته أيام الطفولة (عقيدة الطفولة أو إيمانها) إن الرجل الهرم يبحث عن رحم لمشاعره كالرحم الذي أتى به إلى الحياة·
10 - حب وعمل وأفيون: 1800 - 1810
LOVE, LABOR, AND OPIUM
في أبريل سنة 1800 أتى كولردج إلى جراسمير بعد أن أكمل مهمته في جريدة مورننج بوست Morning Post ليقضي ثلاثة أسابيع مع آل وردزورث، فأخبرته دوروثي أنها وجدت مأوى جميلا له ولأسرته في منزل كبير يقال له جريتا هول Greta hall على بعد نحو ثلاثة أميال خارج كزويك Keswick وذهب كولردج ورأى البيت في عز الصيف ووجد في إحدى الغرف مكتبة تضم خمسمائة مجلد، كثير منها غلال ملائمة لطاحونته (المقصود ملائمة لمزاجه الفكري) فوقع عقد الإيجار بحماس ·
وفي أغسطس سنة 1800 اصطحب زوجته سارة وابنه هارتلى Hartley من نذر ستوي إلى منزلهم الجديد، حيث وضعت ساره طفلا آخر أسموه درونت Derwent على اسم بحيرة ومجرى مائي قريب · وسرعان ما حل الشتاء فنبه الأسرة إلى خطئها فقد فاقم البرد والمطر من استعداد كولردج لمرض الربو والحمى الروماتيزمية، كما أن ابتعاد الزوجة عن أقاربها عمَّق اكتئابها لأن زوجها كان غالبا ما يتركها وحيدة مرتحلاً ببدنه وفكره·(ملحق/891)
فكثيرا ما كان يتركها ليسير على قدميه ستة عشر ميلا إلى كزويك وجراسمير ليسعد بمناقشات وردزورث المثيرة، ورعاية دوروثي الودودة· ولم يكن وردزورث ودورثي ليسيرا في اتجاه الشمال كثيرا ليبهجا أيام كولردج· وفي نوفمبر سنة 1800 أقبلت سارة هتشنسون من جالوهل لتمكث عدة شهور مع ماري ووليم ودوروثي في دوف كوتاج Dove Cottage وهناك تابع كولردج ملاحقته لها، وببساطة قاسية غير مقصودة اعترف لزوجته بحبه لسارة الثانية وطلب منها أن تأذن له بحبهما معا· ويوما فيوم ابتعدت عنه نفسيا منشغلة باهتماماتها كأم، وانكفأ هو على كتبه وتأملاته·
وحاول أن يكمل قصته الشعرية (كريستابل Christabel) التي كان قد بدأها في سنة 1797 لكنه لم يجد في نفسه حماسا أو إلهاما فتركها ولما تكتمل· وقد امتدح سكوت Scott وبايرون هذه القصيدة في شكلها المخطوط رغم أنهما أخذا عليها بعض الهنات في الموضوع والوزن والحالة النفسية، وأخيرا (1816) طبعها الناشر مري Murray بتشجيع وحث من بايرون إنها بقايا لم تكتمل لأثر راح ما به من جمال يذوي·
وبعد عام في جريتا هول Greta Hall كانت صحة كولردج وميزانيته تنفد شيئا فشيئا وأحس أنه لن يستطيع الحياة شتاء آخر في منطقة البحيرات· وسعد لتلقيه دعوة للانضمام إلى هيئة تحرير المورننج بوست Morning Post وفي أكتوبر سنة 1801 ذهب إلى جراسمير للوداع وفي التاسع من الشهر نفسه سارت معه دوروثي وماري إلى جريتا هول Greta Hall، وفي العاشر من الشهر نفسه غادر إلى لندن، أما دوروثي وماري فقد عادتا إلى جراسمير· وكتبت دوروثي في يومياتها:
"لقد قضى كولردج يوما ممتعا ··· إن كل مشهد وكل صوت يذكرني به كرفيق عزيز عزيز·· لقد كنت مكتئبة ولا أستطيع الحديث لكنني أخيرا هوّنت على نفسي بالبكاء - قال وليم: يا له من انتحاب عصبي· ولم يكن الأمر كذلك، آه يا لكثرة الأسباب التي تجعلني قلقة عليه! "·(ملحق/892)
وصل كرلردج إلى لندن وانشغل بالكتابة بجدية كاملة في كتاب (الزعماء) الذي كان يتمشى مع سياسة الجريدة (مورننج بوست) الأداة الرئيسية لحزب الأحرار (الهويجز Whigs) - المعارض للوزارة، وإن كان مؤيداً للملكية (بكسر الميم) · لقد أدان الرق والتنظيم الإداري القابل للرشوة (الذي كان يرسل بانتظام التورى Tories - المحافظين - إلى البرلمان) وأدان الحكومة لرفضها السلام الذي عرضه نابليون (1800) وكاد يحطم بت Pitt بتحليلاته التي لا ترحم له كرجل دولة· وعلى أية حال فقد دافع عن المِلكية (بكسر الميم) الشخصية كأساس ضروري لمجتمع متقدم ومنظم وساق الأدلة على أن الحكومة هي أفضل من يجعل سلطان كل فرد متناسبا مع ممتلكاته لقد كانت كتاباته قوية ومؤثرة فزاد توزيع الجريدة كثيرا أثناء كتابته فيها· لكن عاما من العمل الشاق أسهم في تدمير صحته· وعندما عاد إلى جريتا هول (1802) كان منهاراً صحيا ومعنويا - آلام بدنية، وانصراف عن الزوجة، وبُعد عن الحب وأصبح عبدا للأفيون· وكان قد بدأ في تناول الأفيون في سنة 1791، وهو في التاسعة عشر من عمره لتهدئة أعصابه وتخفيف آلامه وجلب النوم ووقف ما حاق به من تدهور في القلب والرئتين· وعندما وافاه النوم المتقطع أخيرا اجتاحته في أثنائه الأحلام المروعة (الكوابيس) التي أشار إليها في آلام النوم (1803) ·
حشد شيطاني شرير،
خليط غريب من الرغبة والقرف،
أشياء كريهة وحشية يختلط بعضها ببعضها الآخر،
عواطف جامحة وهدير مثير،
وخجل، ورعب شامل·
ويخبرنا في مذكراته عن بشر خياليين على سطح القمر:
"إنهم مثل البشر على الأرض في كل شيء إلا أنهم يأكلون بمؤخراتهم (إلياتهم - جمع إليه) ويتبرزون (يتغوطون) في أفواههم ·· ولا يمارسون التقبيل كثيراً "·
لقد كانت تعتريه الأحلام المزعجة (الكوابيس) مثل غالبنا، لكن أحلامه المزعجة هذه كانت حية جدا تكاد تكون حقيقية حتى إنه كان - في بعض الأحيان - يوقظ ساكني المنزل بصراخه ·(ملحق/893)
وربما فتحت له آلامه وما يتناوله من عقاقير آفاقا جديدة وأتاحت له صورا ذهنية ومدركات حسية وخيالات غير متاحة للعقل العادي، رغم أنها - أي هذه الأمراض وتلك العقاقير - كانت تشوش على أفكاره وتضعف إرادته· على أية حال فقد كان محصوله المعرفي لا يبارى في جيله، فهو في هذا يفوق وردزورث بمراحل، فلم يكن وردزورث يستطيع أن يتحدث في غير قصائده، بينما كان الحوار مع كولردج - حتى في فترة تدهوره - يشمل موضوعات كثيرة ويتسم بالحيوية كونه شائقا حتى إنه ترك بصماته على كارليل Carlyle، وربما كان قادرا حتى على إلزام مدام دي ستيل de Stael الصمت·
وما جعله مبهورا بوردزورث هو أن هذا الأخير كان شديد التركيز لتحقيق هدفه، بالإضافة إلى قوة إرادته أما هو (كولردج) فكان - شيئا فشيئا - يحل الإرادة محل الرغبة، ويزيح الخيال ليحل محله الحقيقة· لقد كان تواضعه شديدا بشكل غريب لكنه كان واعيا بذاته بشكل مكثف مدركاً أنه يكاد يكون مهتما بكل الموضوعات (وهو في هذا مثل وردزورث ومثلنا) وكان في طويته معتزا بنفسه بشكل عدواني (يفوق الحد) وقد لفت الانتباه بأمانته والتزامه الخلقي الصارم ولامبالاته بالشهرة والمال، لكنه كان يتطلع إلى المكانة · وانتحل عبارات الآخرين وأفكارهم بسعادة، واقترض المال وترك أصدقاءه ينفقون على زوجته وأولاده وربما أضعف الأفيون من قدرته على ممارسة الجنس·
وفي أبريل سنة 1804 راح يبحث عن تقليص آلامه التي ضاعفها الربو والحمى الروماتيزمية بالتوجه إلى شمس البحر المتوسط وهوائه فقبل مائة جنيه قرضا من وردزورث وأبحر إلى مالطة التي كانت في ذلك الوقت معقلا للقوة البريطانية وإن كانت موضح نزاع· وأخذ معه أوقية (أونصة) من الأفيون الخام crude opium وخمس أوقيات (أونصات ounces) من اللودانيوم laudanum ( مستحضر أفيوني يسمى أحيانا صبغ الأفيون) وقد كتب عن الرحلة في مذكراته (يوم 13 مايو) دعاء يائس:(ملحق/894)
"يا ربي العزيز! أعطني القوة أن أقوم بتجربة واحدة عميقة - إذا رسوت في جريرة مالطة، فلا يكون الجو متعباً طوال شهر واحد، وأن تكون الطبيعة هادئة ·· إنني عاشق رقيق القلب ولا أستطيع ممارسة الخطيئة دون إفلات من العاقبة، لكن آه إنني واهن جدا جدا منذ أيام طفولتي وحتى الآن، فلترحمني فلترحمني أيها الأب والرب "·
وفي نحو عام بدا وكأنه استعاد سيطرته على نفسه وفي يوليو تم تعيينه سكرتيرا خاصا لحاكم مالطة - السير إسكندر بول Ball، وفي يناير 1805 رقي إلى منصب السكرتير العام وهو منصب صلاحياته أكثر· لقد مارس عمله بجدية وأظهر براعة مدهشة في الحكم والتنفيذ· وبعد عام من الخدمة اعتراه إرهاق شديد، حتى إنه أسرف في تناول المخدرات، وغادر مالطة إلى صقلية وإيطاليا وعاد إلى إنجلترا (1806) وفي هذا الوقت أصبح أكثر اعتمادا على الأفيون، وكان يقاوم تأثيره المنوم بتناول البراندي·
وفي 26 أكتوبر 1806 قابل وردزورث في فندق في كندال Kendal، وكتبت دوروثي تحت هذا التاريخ:
"لم أشعر أبدا قبل ذلك بصدمة مثل صدمتي عندما وقع عليه نظري، فمن النظرة الأولى وجدته سمينا جدا حتى إن عينيه بدتا غائرتين في وجهه المنتفخ والتألق الوحيد الذي بدا في عينيه للحظة كان تعبيرا مقدساً عن هدوء محياه"
وذهب إلى كزويك ليطلب من زوجته الانفصال لكنها رفضت فتركها وأخذ معه ابنه درونت Derwent البالغ من العمر ست سنوات، وحول لزوجته الراتب السنوي الذي كان يتلقاه من ودجوود لكن جوزياه ودجوود Josiah Wedgwood سحب مساهمته في هذا الراتب السنوي في سنة 1813· وأخذت سوثي التي استقرت في جريتا هول منذ سنة 1803 - على عاتقها رعاية امرأة أخيه· وتغلب كولردج على أزمته بفضل هدية أرسلها له رفيقه في الإدمان دي كوينسي De Quincey، وقد أرسلها له دون أن يحدد أنه هو مرسلها (أرسلها مجهولة المصدر) وبفضل المحاضرات التي ألقاها في المعهد الملكي Royal Institution في سنة 1808 و1809 و1810·(ملحق/895)
وفي هذا العام انتهت الصداقة الكبيرة التي كان أساسها تبادل الخبرات الشعرية· لقد توقفت عندما جف ينبوع الشعر عند كولردج بعد سنة 1800 بسبب وهن جسمه وتأثير الأفيون المنوم والنفور الزوجي وافتتانه بالفلسفة· وكان وردزورث قد شجع كولردج على ترك ربات الشعر، واقترح عليه كتابة النثر لأنه أقرب إلى عبقريته· وقد انزعج كولردج عندما علم أن آل وردزورث الثلاثة قد حذروا سارة هتشنسون من الاقتران به وبلغ الخلاف أشده عندما كتب وردزورث خطابا في 31 مايو 1809 يحذر فيه بول Poole من الارتباط كثيرا بالعمل في مجلة كولردج الجديدة (1809 - 1810) والتي تحمل عنوان الصديق The friend باعتباره - أي بول - أحد أعز أصدقاء كولردج وأقربهم إليه· كتب وردزورث:
"إن ما أقوله لك هو رأيي الذي لم أقدمه لك إلا بعد ترو وتفكير، وهو رأي قائم على أدلة وبراهين تعمقت طوال سنوات · وإن كولردج لا يقدر ولا يستطيع ولا يريد تنفيذ أي شيء مفيد لنفسه أو لأسرته أو للبشرية· فلا مواهبه ولا عبقريته ولا معلوماته الواسعة ستفيده في أي شيء، لقد خابت جميعا بسبب ما اعترى تفكيره من تشويش· والحقيقة أنه لم يعد لديه طاقة عقلية من أي نوع ولا هو قادر على تنفيذ أي عمل يحتمه الواجب أو الالتزام المعنوي"
لقد كان هذا الرأي قاسيا متطرفا لكن وردزورث كان قد ذكر لكولردج الكثير في خطاب أرسله له منذ أسابيع قليلة سابقة · وتفاقم الأمر سوءا عندما أخبر بازيل مونتاجيو Basil Montagu كولردج أن وردزورث نصحه بألا يدعه (أي يدع كولردج) يقيم معه بسبب إدمانه الشديد الذي جعله مزعجا لا يطاق عندما كان يقيم في جراسمير إلا أن وردزورث بعد ذلك أكد لكولردج أن مونتاجيو أساء فهم كلماته، وتظاهر كولردج أنه اقتنع ولكن الخيوط بينهما كانت قد تقطعت واستحال وصلها وماتت الصداقة التاريخية·
11 - كولردج فيلسوفا: 1808 - 1817(ملحق/896)
ربما نكون قد بالغنا في انهيار كولردج، فلا بد أن نلاحظ أنه بين عامي 1808 - 1815 ألقى محاضرات في بريستول وفي المعهد الملكي في لندن - ظهر فيها أنه يعاني تشوشاً في الفكر والتعبير لكنه أثر في مستمعين مثل تشارلز لامب Lamb ولورد بايرون وصمويل (صموئيل) روجرز، وتوماس مور, ولاي هنت Leigh Hunt، وكأنما دفعتهم وغيرهم من الكتّاب للتضامن مع زميلهم الذي أصابه ما أصابه· وقد وصف هنري كراب Crabb الذي يعتبر واحدا من أصدقائه البارزين إنجليزاً وألماناً، المحاضرة الثالثة التي ألقاها في لندن بأنها محاضرة ممتازة وألمانية جدا وذكر أنه بالنسبة إلى لمحاضرة الرابعة فقد كانت ذات صبغة ألمانية جدا وكانت طريقة التناول فيها تتسم بالتجريد الشديد بما لا يطيقه المستمعون الذين كان عددهم قليلا·
لقد كان تجميع كولردج للحقائق والأفكار والفروض المسبقة تجميعا مزدحما وهائلا حتى إنه لم يستطع السيطرة على موضوعه· لقد كان يطوف بعناصر موضوعه بجموح لكنه كان مُلهما· لقد لخّص تشارلز لامب، كولردج في عبارة مشهورة إنه كمَلاك - بفتح الميم واللام - من الطبقة العليا، لحقه بعض الدمار وانتهى إلى أنه يكفينا أن نكون في نطاق رياح عبقريته ونسماتها حتى لا نمتلك مشاعرنا أو بتعبير آخر حتى لا تصبح أرواحنا مستقرة·
وفي الفترة من 1815 إلى 1817 عندما كان كولردج مرة أخرى على وشك الانهيار دفع بخلاصة فكره إلى المطبعة· ففي كتابه نظرية الحياة Theory of Life (1815) أظهر لنا معلومات مثيرة في العلم - خاصة الكيمياء التي تعلمها عن طريق صداقته لهمفري ديفي Humphry Davy لكنه رفض كل المحاولات ليشرح العقل من خلال مصطلحات فيزيوكيميائية physicochemical · لقد سمى:
"فكرة إرازمس داروين السخيفة·· بأنها فكرة رجل انطلق من حالة انبثاق برتقالية" orang-outang state
وفي مطبوع Statesman's manual (1816) قدم الكتاب المقدس باعتباره أفضل مرشد للفكر السياسي، والتبصر بالعواقب· نجده يقول:(ملحق/897)
"يجد المؤرخ أن الأحداث الكبرى - وحتى التغيرات الأكثر أهمية في العلاقات التجارية العالمية ·· أنا لا نجد جذورها لدى مجموعة رجال الدولة ولا في الرؤى العملية لرجال الأعمال وإنما نجد جذورها لدى المنظرين الذين لا تتسم كتاباتهم بالتشويق، وفي رؤى العباقرة المنعزلين (المتفردين) ··· كل الثورات الدينية التي أعادت صياغة فترات زمنية في العالم المسيحي، والثورات الدينية التي أعادت معها صياغة العادات المدنية والاجتماعية والمحلية تزامنت مع قيام نظم (نظريات) ميتافيزيقية أو سقوطها "·
ربما كان يفكر في نتائج الفكر الذي أتى به يسوع، وكوبرنيكس Copernicus ( كوبرنيق) وجوتنبرج Gutenberg ونيوتن وفولتير وروسو وبعد موجز واضح للعوامل التي أدت إلى الثورة الفرنسية انتهى كولردج إلى أن صوت الشعب ليس هو صوت الله لأن الناس (الشعب) يفكرون في مجردات عاطفية أو مطلقات عاطفية ولا يمكن الوثوق بهم عند تولي السلطة، وأن أفضل طريق للإصلاح لا يكون إلا من خلال وعي الأقلية المتعلمة ذوات الممتلكات، وأفعالها· وبشكل عام فإن أفضل مرشد للعمل الصحيح في السياسة وفي كل مجال هو الكتاب المقدس Bible لأنه يحتوي على كل الحقائق المهمة في التاريخ والفلسفة:
"فأنتم يا من تتحركون في الطبقات العليا من المجتمع يجب أن تعلموا أيضا التاريخ والفلسفة واللاهوت، فأنتم أهل لها وليس أفراد الطبقات العاملة فتعلمهم التاريخ والفلسفة واللاهوت غير مطلوب إلى حد كبير بل وربما كان غير مرغوب فيه عموما· إن ترياق زيف رجال الدولة هو التاريخ ذلك أن جمع الحاضر مع الماضي في سياق واحد، وتأصيل عادة مقارنة أحداث عصرنا - بعمق - بأحداث عصور خلت مسألة مطلوبة"
ويواصل في كتابه ( Alay Sermon) الصادر في سنة 1817 دعواه للطبقات العليا والوسطى باعتبارها أفضل أداة للإصلاح الصحيح وباعتبار أفرادها حراسا ضد الغوغائية والسفسطائية وضد المدرسة الثورية المضرمة للنيران لكن الكتاب يعترف ببعض الشرور الجارية (الموجودة في زمنه): تضخم الدين الوطني بشكل غير محسوب، فقر الفلاحين فقرا شديدا، وعمل الأطفال في المصانع، ولاحظ كولردج:(ملحق/898)
"الحماقات والوقاحات والتبذير والتطرف الذي أعقب الرخاء الذي حل بنا والذي لم يسبق لنا أن شهدناه"، كما لاحظ "الممارسات العمياء والولع الأعمى بالمضاربات على مستوى التجارة العالمية بما في ذلك من مخاطر غير واضحة ومفاسد لقد تفجَّع بسبب احتمال تعرض الاقتصاد الجديد لهزات دورية تؤدي إلى انهيار عام ومعاناة يشرب الجميع كأسها "·
وأوصى ببعض الإصلاحات الأساسية "ضرورة خضوع أصحاب المصانع للقوانين العامة" خاصة فيما يتعلق بتشغيل الأطفال، "ولابد أن تعترف الدولة أن أهدافها الإيجابية، هي: 1 - أن تجعل مصادر الرزق ووسائل الإعاشة أكثر يسرا لكل فرد· 2 - أن تؤمن لكل المواطنين آمالهم في تحسين أحوالهم وأحوال أبنائهم· 3 - تطوير القيم الضرورية لإنسانية المواطن - كمخلوق عاقل" ودعا إلى "إنشاء منظمات (نقابات) تضم رؤساء كل العاملين في كل الحرف لدراسة المشاكل الاجتماعية من منظور فلسفي ولتقديم توصيات للجماعة"، ولابد "أن تمول الدولة هذه الطوائف الوطنية national church "·
وأنهى كولردج كتابه (عظات غير دينية Lay Sermon) بأن رضخ للاهوتيين معترفاً بأنه ليست هناك عظة أو حكمة علمانية خالصة أو بتعبير آخر ليست هناك حكمة خالية من البعد الديني يمكنها أن تحل مشاكل البشرية فلا يستطيع إلا الدين الغيبي (الفوق طبيعي supernatural religion) والنظام الأخلاقي الذي قدمه الله للبشر أن يواجه الشر الموروث في نفوس البشر، فالشر من شيم النفوس لدرجة أن الذكاء البشري وحده لا يعتبر كافيا لجعل الإرادة البشرية مبرأة من العيوب·
لقد دعا إلى العودة بتواضع إلى الدين وإلى الاعتقاد الكامل في يسوع كرب مات لتخليص البشرية وفي 1815 - 1816 ألف (أو أملى) "فقرات عن حياتي الأدبية وآرائي Sketches of my Literary Life &opinions" لتكون أساساً لكتابة سيرته الذاتية· ولم يكمل هذا المجلد (سيرته الذاتية) ونشر (فقرات عن حياتي الأدبية وآرائي) في سنة 1817 بعنوان (ترجمة أدبية Biographia Literaria) التي تعد الآن أكثر مصادرنا أهمية عن فكر كولردج في مجالي الأدب والفلسفة·(ملحق/899)
إنه كتاب متماسك وواضح بشكل ملحوظ رغم أنه كتب غالبه خلال فترة قنوط وجزع بسبب إدمانه الأفيون وتراكم ديونه، وعدم قدرته على تقديم المال اللازم لتعليم أبنائه· لقد بدأ بالتبرؤ من علم النفس الترابطي associationist psychology الذي كان مفتوناً به في وقت من الأوقات· لقد رفض فكرة أن الفكر كله ما هو إلا نتيجة آلية (أوتوماتيكية) للحواس (للإحساس)، فالإحساس - كما أصبح يعتقد - يعطينا مجرد مواد خامة تقوم النفس - التذكر، والمقارنة، والفردية المستمرة - بإعادة تكييفها لتصبح خيالا خلاقا وفكرا موجها ذا هدف، وفعلا واعيا· فكل تجاربنا - واعية أو غير واعية - مسجلة في الذاكرة التي هي مخزن يستقي منه العقل - بوعي أو بغير وعي - المادة اللازمة لتفسير التجربة (الخبرة) الحالية، ولتنوير الخيارات الحالية (أي التي تعين الفرد على الاختيار من بين متعددات كثيرة) وهنا - بطبيعة الحال - نجد كولردج يتبع خطى كانط Kant·
إن الشهور العشرة التي قضاها في ألمانيا لم تحوله فقط من شاعر إلى فيلسوف وإنما من جبري determinist كسبينوزا إلى نصير لحرية الإرادة مثل كانط free-will Kantian وهنا اعترف اعترافا كاملا بدينه (المقصود اعترف لمن هو مدين له بفكره الجديد) كتابات الحكيم المشهور حكيم كونيجسبرج Konigsberg أكثر من أي كتابات أخرى، تلك الكتابات التي كانت في وقت من الأوقات قد أنعشت تفكيري ونظمته ومن أفكار كانط Kant تقدم كولردج إلى فكرة فيشته Fichte عن النفس وإعلاء مقامها باعتبارها الحقيقة الوحيدة المعروفة بشكل مباشر،(ملحق/900)
ومن ثم جاس خلال أفكار هيجل Hegel ( الديالكتيك الهيجلي) بين الفكرة ونقيضها، والوحدة بين الطبيعة والنفس، إلى أفكار شيلنج Schelling عن خضوع الطبيعة للنفس أو تبعيتها لها، باعتبارهما - أي الطبيعة والنفس - وجهان لحقيقة واحدة إلا أن الطبيعة - على أية حال - تعمل بلا وعي، بينما يعمل العقل بشكل واع ويصل إلى أسمى درجات التعبير من خلال الخلق العبقري الواعي· لقد اقتبس كولردج بانطلاق كامل من شيلنج إلا أنه غالباً ما كان يهمل ذكر مصادره · لكنه اعترف بشكل عام بمن هو مدين لهم بأفكاره وأضاف قائلا: بالنسبة إلي يكفيني سعادة وشرفا إن نجحت في نقل فكر شيلنج بشكل واضح إلى أهل بلدي ·
والأحد عشر فصلا الأخيرة من كتابه السابق ذكره (ترجمه أدبية ·· Biographia) تقدم مناقشة فلسفية للأدب باعتباره إفرازا للخيال، وقد ميز بين الوهم fancy والخيال، فالوهم فانتازيا (أو خيال جامح) كما في حالة حورية الماء (المخلوق البحري الذي له جسد امرأة ورأس سمكة) بينما الخيال IMAGINATION ( كتب كولردج الكلمة بحروف كبيرة / كابيتال هكذا) فهو توحيد واع بين أجزاء لتشكل كلا جديدا كما في حالة حبكة الرواية، وتصنيف كتاب، وخلق عمل فني أو صياغة نتائج العلوم في نسق (نظام) فلسفي·
هذا التصور (أو الإدراك) يصبح أداة لفهم - ونقد - أي قصيدة أو كتاب أو رسم أو سيمفونية أو تمثال أو عمارة؛ إلى أي مدى استطاع الشاعر أو الفنان أن يجعل مكونات عمله متناسقة أو بعبارة أخرى إلى أي مدى استطاع أن يصل بين الأجزاء بالأجزاء الأخرى المرتبطة بها أو ذات الصلة بها، لتحقيق معنى العمل ككل ولتجعله متماسكاً في كل واحد؟ إلى أي مدى نجح المنشئ في هذا وإلى أي مدى فشل؟ وفي هذه الصفحات قدم لنا كولردج الأساس الفلسفي للحركة الرومانسية في الأدب والفن·(ملحق/901)
وقد أنهى كتابه السابق ذكره بنقد حاد لفلسفة وردزورث، وطريقته الشعرية· هل حقيقة أن أسمى فلسفة في الحياة يمكن أن يجدها المرء في طرائق التفكير عند أبسط الناس؟ أحقا أن لغة هؤلاء البسطاء هي أفضل وسيلة شعرية؟ أليس هناك فارق جوهري بين الشعر والنثر؟ في كل هذه النقاط وجه كولردج نقده لوردزورث بشكل دمث لكنه حاد ومؤثر· وانتهى أخيرا بما يفيد ولاءه وتقديره لحكيم جراسمير كأعظم شاعر منذ ميلتون Milton·
12 - وردزورث: الذروة: 1804 - 1814
وبعد أن قام آل وردزورث بجولات قصيرة نقلوا مقر سكناهم (1808) من دوف كوتاج Dove Cottage إلى مسكن أوسع بالقرب من ألان بانك Allan Bank وهناك أبدع الشاعر كبستاني فزرع حول البيت نباتات ووروداً راحت تختال تحت أمطار جراسمير Grasmere · وفي سنة 1813 انتقلت الأسرة أخيرا إلى عقار بسيط في جبل ريدال Rydal Mount في أمبلسيد Ambleside إلى الجنوب من جراسمير بميل· لقد أصبح آل وردزورث الآن في رغد من العيش ولديهم عدد من الخدم وصادقوا بعض ذوي المكانة· وفي هذا العام رتب اللورد لونسديل Lonsdale لتعيين وردزورث موزعا للطوابع في إقليم وستمورلاند Westmorland فاستمر يزاول هذا العمل حتى سنة 1842 وكان يدر عليه مائة جنيه إضافية في العام· أما وقد تخلص من متاعبه المالية فقد راح يقضي مزيدا من الوقت في بستانه فجعله فردوساً من الورود والنباتات المزهرة لا تزال موجودة·
ومن نافذته في الطابق الثاني كان يطل على مشهد ملهم - انه منظر بحيرة ريدال Rydal water التي تبعد مسافة ميلين· وفي هذه الأثناء (1805) أكمل كتابه (المقدمة The Prelude) الذي كان قد بدأه سنة 1798· وقد كتبت دوروثي: إنه كان يجمعنا كل يوم في اجتماع كبير كله متعة وصفاء بعد أن يقوم بجولاته مشيا على الأقدام · لقد كانت هي وسارة هتشنسون تنشغلان دوما بكتابة ما يُملى عليهما، وكان وردزورث قد تعلم التفكير من خلال الشعر المنثور·(ملحق/902)
وكان يضع العناوين الجانبية لملحمته الشعرية التي تأنى في كتابتها تطور عقل شاعر The growth of Poet's mind، قد قصد بهذا العمل أن يكون سيرة ذاتية لتطوره العقلي والنفسي، وكمقدمة للنزهة The Excursion التي تعرض بالتفصيل الفلسفة التي تمخض عنها هذا التطور· وقد قدم لنا ما يفيد مودته لكولردج بأن راح مرارا يستعيد ذكرياته معه، وتوجيه الحديث إليه· لقد اعتذر للأنانية والحديث عن الذات كما تبدوان في القصيدة لمن تناولها بشكل سطحي، فقد اعترف أنه لم يسبق لأحد أن تحدث عن نفسه بهذه الكثرة وربما لهذا السبب لم ينشر هذا العمل في أثناء حياته·
لكنها مقبولة ومحتملة تماما إن تناولناها في جرعات قليلة، وأكثر ما هو مبهج فيها هو مشاهد طفولته (كتاب 1 و2) حيث ذكر جولاته في الغابات المنعزلة حيث بدا له أنه يسمع صوت الرب الكامن وراء كل شيء، الذي يأخذ صورا شتى، كلما جلس· لقد بدا له أنه يسمع هذا الصوت في أصوات الطيور والحيوانات وحفيف الأشجار بل ويسمعه حتى في الصخور نفسها وفي التلال:
- وحدي فوق ربوة ناتئة،
- مع تنفس الصبح
- ففي هذه اللحظات يكون - غالبا - هذا الهدوء القدسي،
- الذي يغمر روحي، فلا أعود أرى بعيني بدني
- إنني أنسى ذلك تماما، فما أراه
- يبدو لي وكأنه داخل نفسي، يبدو حلماً
- يبدو مشاهد موجودة داخل نفسي··
- لقد كنت في هذا الوقت
- أرى بركات تنتشر حولي وكأنها بحر···
- بركات قدسية لا توصف··
- لقد شعرت بعاطفة الموجود Being تنتشر،
- فوق كل ما يتحرك، وفوق كل ما يبدو ساكنا،
- فوق كل ما لا يطوله فكر
- وفوق كل المعرفة البشرية، وفوق ما لا
- تراه عين البشر، بل إنني أحسست أنه يعيش حتى في القلب،
- فوق كل ما يثب وكل ما يجري، وكل ما يصيح وكل ما يغني
- أو يحرك الهواء العليل، فوق كل ما هو بين الأمواج، بل إنه موجود حتى في الأمواج نفسها،
- وفي أعماق البحار، وأعماق أعماقها،
- أحس بالبهجة القصوى، إن وصل الاتصال ذروته
- بين الأرض والسماء
- اتصال بين كل ما هو مخلوق، مع
- الخالق (غير المخلوق) ··(ملحق/903)
(قد نرى هنا تناقضا أو تراجعا، فالبيت الأخير يفترض وجود فاصل حقيقي بين الخلق والخالق، بينما نظرة وردزورث - كنظرة سبينوزا Spinoza تريان الرب) والطبيعة شيئاً واحداً - النظرة القائلة (بوحدة الوجود) ·
وفي كامبردج ( III) كان أحيانا ينضم إلى حفلات السمر التي يرتبها الطلبة كما كان أحيانا يشاركهم عبثهم، ومع هذا فقد كان منزعجا لفهمهم للحياة بشكل سطحي طائش، فقد كان يجد متعة أكثر في دراسة الكلاسيكيات الإنجليزية (الأعمال الأدبية الكلاسيكية) أو ركوب الزوارق (النص boating on the Cam) وفي أوقات العطلات ( IV) كان يعود إلى مأواه الأصلي فيتناول طعامه على مائدة أسرته ويأوي إلى فراشه المعتاد:
- هذا السرير المنخفض الذي كنت أسمع وأنا ثاو فيه عصف الريح، وصوت المطر المنهمر بعنف
- وكنت في ليالي الصيف أظل يقظان رغم تمددي على السرير وكان هذا يحدث كثيرا، لأراقب
- القمر في بهائه مضطجعا بين أوراق
- أشجار الدردار الباسقة القريبة من مسكننا،
-ورحت أرقب هذه الأشجار بعينين لا تبغيان عنها حولا، بينما تتحرك ذراها بين الحين والحين
- مع كل هبة من هبات النسيم ·
وفي كوكرموث Cockermouth كان يستطيع السير مع كلبه الهرم الذي كان يتركه يؤلف الأشعار وينشدها بصوت عال دون أن يتهمه بخلل أصاب عقله:
- آه، أأنا في حاجة - يا صديقي العزيز
- أن أقول إن قلبي قد فاض؟، إنني لا
- أقدم نذورا، إنما كانت النذور تقدم لي
- ذلك أنني لا بد كنت روحا مكرسة يُهدى إليها
لقد كان يعيش للشعر· كما كان يجد مسرة أيضا في تلك الرحلات الممتعة التي كان يقوم بها خلسة في القنال الإنجليزي ( VI) ليشعر بالسعادة المجنونة لفرنسا الثورة، وبالفوران فوق الألب (المفهوم طبعا أنه لا يصل إلى هذه الأماكن) ومن ثم يعود إلى لندن تلك المدينة الضخمة التي تشبه كثيب الرمال الناتج عن تشييد النمل لمساكنها حيث برلمانها الذي يرتل تراتيل فضائل التقاليد مع احتقار شديد لنظرية (أفكار) محدثي النعمة (المقصود ثوار فرنسا) وراح يراقب الجموع المزدحمة في فوكسهول Vauxhall والذين يتعبدون في كنيسة القديس بول،(ملحق/904)
وراح يرى أو يسمع الجموع المتحركة تضم مختلف الأجناس والوجوه والأزياء واللغات، وفوضى المرور، وابتسامات العاهرات ونداءات البائعين، ومناشدة النسوة، والفنانين يرسمون بالطباشير على أحجار الطريق (الرسم التقليدي - قرود على ظهور جمال) والمغنين في الطريق وكأنهم عشاق يعزفون السرينادات serenade ( أغان يرددها العشاق تحت شرفات المعشوقات) - كل هذا شعر به الشاعر شعورا قويا كشعوره بالغابات لكنه لم يرتبط بها وانسل ( VIII) إلى المشاهد الأكثر هدوءا حيث الحب لكل الطبيعة يمكن أن يعلمه أن يفهم ويعفو·ثم يعود مرة أخرى لفرنسا ( IX) حيث برر الحكم الطاغي والبؤس القديم قيام الثورة وجعلها عادلة نبيلة بل إنه حتى البريتوني a Briton يمكنه أن ينخرط في هواها (تعتريه نشوة حب لها):
- الجمال بشير بالوعود،
- ليس في الأماكن الأثيرة وحدها وإنما في كل الأرض،
- فأي منا لا يتطلع مفكراً في السعادة المرتقبة·
ومن هذه النشوة التي بلغت السؤدد انحدرت فرنسا إلى الجريمة وانحدر وردزورث إلى النثر:
- لكن الآن أصبح الثوار ظلمة
- حولوا الحرب من أداة للدفاع عن أنفسهم
- إلى أداة للغزو، ولم يعودوا يرون
- كل ما كانوا يناضلون من أجله···
وببطء وتردد أنهى الشاعر مقدمته his Prelude داعيا صديقه للعودة من مالطة (المقصود كولردج) لينضم للجهود المبذولة للعودة من الحرب والثورة إلى حب الطبيعة والبشر· ولم يكن على وفاق مع قصيدته فقد كان يعلم أنه توجد صحراوات شاسعات حول الواحات· ولم يكن وردزورث يرى إلا فروقا قليلة بين النثر والشعر· لقد اعترف بذلك، وكان غالبا أيضا ما يمزج بينهما في شعره غير المقفى، المتسم بفتور نبرته وتؤدة وقعه·(ملحق/905)
لقد جعل العاطفة والأحاسيس تنبع من السكون وهدوء النبرة، وجعل من هذا جوهر الشعر وروحه (دعنا نقل الموسيقى الداخلية) لكن هذا السكون الشعري الذي يستمر على نحو متواصل طوال أربع عشرة مقطوعة قد يحيلها إلى هوادة أو هدهدة تبعث على النوم· وبشكل عام فإن طبيعة الملحمة أنها تتناول حدثا عظيما أو نبيلا، أما الأفكار فهي شخصية جدا حتى إنه لا يصلح تناولها في ملحمة· ومع هذا فإن (المقدمة) تركت القارئ المصمم على مواصلة قراءتها وقد شعر بقبول سليم للحقيقة الباقية· وفي بعض الأحيان كان وردزورث - كأغاني الطفولة - يطهرنا بنقاء الغابات والحقول ويجعلنا - كالتلال الراسخات - نتحمل العواصف صامتين صابرين·
وكان وردزورث قبل المغادرة قاصدا ألمانيا في سنة 1798 قد بدأ (الناسك The Recluse) وهو عمل بث فيه فكرة أن الإنسان الذي يعرف الحياة حق المعرفة هو الذي عايشها ومن ثم انسحب منها، وقد حثه كولردج على تطوير هذه الفكرة في صياغة كاملة ونهائية لفلسفته· وبتحديد أكثر اقترح عليه كولردج قائلا أريدك أن تكتب قصيدة بالشعر الحر (غير المقفى) موجهة إلى هؤلاء الذين فقدوا كل أمل في تحسن أحوال البشرية وانغمسوا فيما يكاد يكون أنانية لا تبحث إلا عن اللذة أو بتعبير آخر الأنانية الإبيقورية - وذلك نتيجة الفشل الكامل للثورة الفرنسية لقد اتفقا على أن ذروة الأدب هو الزواج السعيد بين الفلسفة والشعر·
وعندما عاود وردزورث التفكير شعر أنه غير مستعد لمواجهة هذا التحدي· وكان قد أحدث تطويرا مهما في (المقدمة) ليجعل منها تاريخا لتطوره العقلي (النفسي) فكيف يستطيع كتابة شرح أفكاره أو عرضها قبل إنجاز هذا العمل (الناسك)؟ لقد نحى (الناسك) جانبا وتابع كتابة (المقدمة The Prelude) إلى نهايتها· وبعد ذلك وجد نفسه واهن العزم قليل الثقة، وكان خروج كولردج من حياته قد حرمه من الإلهام الحي الذي كان يحفزه على العمل في وقت من الأوقات·(ملحق/906)
وفي ظل هذه الأحوال المثبطة كتب (الرحلة The Excursion) لقد بدأها بداية جيدة بوصفه لأطلال المسكن حيث كان يعيش الجوال (الرحالة) ويبدو أنه أخذ هذا الوصف من عمله الذي تخلى عنه ولم يكمله ونعني به الناسك Recluse وهذه الصورة التي رسمها وردزورث تقود الرحالة إلى العزلة والتنسك Solitary فهو يحكي لنا كيف فقد إيمانه الديني وأصبح متخماً بالحضارة فعاد إلى سلام الجبال· وقدم لنا الجوال الدين على أنه العلاج الوحيد لليأس، والمعرفة شيء طيب لكنها تزيد من قوتنا أكثر من زيادتها لسعادتنا، ثم ينقاد للقس (راعي الأبرشية) الذي يقدم الإيمان البسيط والترابط الأسري عند رعاياه الفلاحين باعتبارهما أكثر حكمة من محاولة الفيلسوف صياغة حكمة العصور في روابط فكرية· لقد كره الجوال حياة المدن المصطنعة وشرور الثورة الصناعية ودعا إلى تعليم عالمي وتنبأ بآثاره العظيمة· وعلى أية حال فإن القس (راعي الأبرشية) كانت لديه الكلمة الأخيرة فراح ينشد أنشودة التسبيح للرب·
وقد نُشرت (الرحلة) وهي في جانب منها (الناسك) في سنة 1814 وبيعت النسخة بجنيهين (ومن المفترض أن المقدمة لم تكن قد طبعت حتى سنة 1850) وطلب وردزورث من جيرانه - كلاركسون Clarksons - مساعدته في بيع نسخ مطبوعة بين أصدقائهم من طائفة الكويكر Quaker الذين كانوا أثرياء وشغوفين بالكتب التنويرية والثقافية وقدم نسخة للروائي تشارلز لويد Charles Lloyd على ألا يعيرها لأي قادر على شراء نسخة ورفض أن يعير نسخة لأرملة ثرية اعتبرت أن سعر النسخة مرتفع بالنسبة إلى جزء من عمل وبعد ثمانية أشهر من النشر لم يكن قد باع إلا ثلاثمائة نسخة ·(ملحق/907)
أما المتابعون للعمل فقد تباينت آراؤهم فاللورد جفري Jeffrey أدان في نوفمبر سنة 1814 (في مطبوع مستخلصات ادنبره Edinburgh Review) القصيدة بمقدمة تعتبرها نذير سوء إن هذا لن يحدث أبداً أما هازلت Hazlitt فبعد أن امتدح الفقرات البهيجة المتعلقة بوصف الطبيعة، والأفكار الموحية ذكر أن القصيدة طويلة ومتكلفة وكرر النتائج نفسها حتى أصبحت سطحية وتافهة أما كولردج الذي دعا إلى تأليف عمل كبير خالد، فقد رأى في (الرحلة Excursion) إسهابا وإطنابا وتكرارا وإعادة لكن كولردج راح بعد ذلك في ( Table Talk) يمتدح الكتابين (الجزأين) الأول والثاني باعتبارهما من أجمل القصائد في اللغة الإنجليزية· أما شيلي فقد كره (الرحلة) لأنها تبين استسلام وردزورث للفكر الحلولي naturalistic pantheism ( كوْن الرب والطبيعة شيئا واحدا)، لكن كيتس Keats اعتبر وردزورث بسبب هذه القصيدة أعلى مرتبة من بايرون، وبمرور الوقت ترسخ رأي كيتس·
13 - حكيم الهايجيت: 1816 - 1834
THE SAGE OF HIGHGATE
في أبريل سنة 1816 كان كولردج قريبا من الأنهيار الجسدي والنفسي وهو في الثالثة والأربعين، وفي هذه الأثناء استقبله د· جيمس جيلمان James Gillman كمريض في هايجيت بلندن، وكان كولردج في هذه الأثناء يتناول ما وزنه باينت Pint من اللودانيوم laudanum ( مستحضر أفيوني) يوميا· وقد وصفته سوثي في نحو هذه الفترة بأنه كان كزوج هائلا كمنزل·(ملحق/908)
لقد أصبح مُنحنيا غير متماسك، وأصبح وجهه شاحبا منتفخا مترهلا وأصبح ينهج (قصير النَّفَس)، وأصبحت يداه واهنتين مرتعشتين لا يستطيع إلا بالكاد أن يرفع كوباً إلى شفتيه وكان له بعض الأصدقاء المحبين له مثل لامب Lamb ودي كوانسي De Quincey وكراب روبنسون Crabb Robinson لكنه قلما كان يرى زوجته وأولاده· وربما كان الطبيب الشاب قد سمع أن بايرون ووالتر سكوت Walter Scott قد اعتبرا هذا الإنجليزي المكسور أعظم رجال الأدب الإنجليز· وعلى أية حال فقد كان من رأي هذا الطبيب أنه يمكن إنقاذ كولردج - فقط - بالمداومة على العناية الطبية به والإشراف عليه، فأخذه إلى بيته (أي بيت الطبيب) بموافقة زوجته (زوجة كولردج) وأطعمه واعتنى به وعالجه، وظل تحت إشرافه إلى أن مات·
لقد استعاد كولردج نشاطه العقلي بشكل مدهش، ودهش الطبيب لاتساع دائرة معارف مريضه وثراء أفكاره وألمعية حواراته ومناقشاته التي فتحت أبوابه لعدد كبير من الشباب وكبار السن اعتبروا هذا الملاك المحطم ذا تأثير كبير وذا فطنة، ولحديثه مذاق خاص رغم أنه قلما يلتزم الوضوح الكامل والنظام المنطقي الصارم · ولازالت متفرقات من هذه المناقشات المدونة في (الحوارت Table Talk) تبرق تألقا: كل إنسان ولد أرسطيا أو أفلاطونيا إما أن تكون لنا أرواح خالدة، أو لا تكون· فإن لم تكن لنا فنحن دواب، دواب من الدرجة الأولى أو دواب حكيمة أو أحكم الدواب ليس هذا مهما، المهم أننا بدون أرواح خالدة نكون دواباً (بهائم) حقيقية·
ولم يكن يرضيه أن يكون من بين أحكم الدواب· وكلما اقترب من الموت كان يبحث عن راحته وسلواه في أحضان الدين، كما لو كان يريد التأكيد من صفقته فقد اعتنق الدين (المسيحي) في أقصى درجات سلفيته (أرثوذكسية) المعروفة - ممثلة في كنيسة إنجلترا باعتبارها ركيزة الاستقرار والأخلاق في إنجلترا والتي لها الدوام للأبد·
وقد قدم في مقاله عن دستور الدولة وكنيستها الدستور والكنيسة باعتبارهما ثنائيا ضروريا لوحدة الأمة يحمي كل منهما الآخر· وقد عارض هو ووردزورث التحرر السياسي للكاثوليك البريطانيين على أساس أن قوة الباباوية ستعرض الدولة للخطر بازدياد تنازع الولاء بين الوطنية والدين·(ملحق/909)
وقد أخذ الجانب المحافظ حتى كبر سنه· ففي سنة 1818 أيد روبرت أوين والسير روبرت بيل Peel في معركتهما لفرض قيود على تشغيل الأطفال، لكنه في سنة 1831 عارض مرسوم الإصلاح Reform Bill الذي كان سيؤدي إلى كسر هيمنة التوريين (حزب المحافظين) على البرلمان، وعارض إلغاء الرق في الهند وجزر الهند الغربية وكان هو من درس العلوم وأيد العلم - أكثر من غيره من الفلاسفة، ومع هذا فقد رفض فكرة التطور وفضل على حد تعبيره التاريخ كما أجده في الكتاب المقدس وفي النهاية استسلم ذكاؤه الرحب ورؤيته البعيدة المدى لآلام جسده وما اعترى إرادته من اعتلال، واعتراه خوف شديد من أي تغيير في السياسة أو العقيدة الدينية·
وكان يفتقد الصبر والدأب لتأليف عمل متكامل مترابط، ففي السيرة الأدبية Biographia Literaria (1817) أخبرنا عن عزمه على كتابه اللوجوسوفيا Logosophia كعمل كبير يلخص فيه العلم والفلسفة والدين ويربط بينها، لكن كل ما سمح له به بدنه وروحه هو خليط غير مترابط مشوش وغامض· لقد أصبح هذا هو حال العقل الذي وصفه (في وقت من الأوقات) دي كوينسي De Quincey بأنه أرحب عقل بشري وأكثر العقول دقة وفهما·
وفي يوليو سنة 1834 بدأ كولردج وداعه للحياة· إنني أموت، لكن دون أن أتوقع راحة سريعة··· هوكر Hooker رغب العيش ليُنهي كتابه الحكومة الإكليريكية - كذلك أنا أرغب أن تمهلني الحياة ويكون لدي القوة لإكمال فلسفتي، لأنني - والله يسمعني - عزمت وصممت في قلبي على السمو باسمه الجليل كما أهدف - بعبارات أخرى - للرقي بالبشرية·
لكن المرء يريد والله يريد والله فعّال لما يريد، وما أراده الله كان وما لم يرده لم يكن ومات كولردج في 25 يوليو 1834 في الثانية والستين من عمره·
وصدم وردزورث لرحيل أفضل من عرفهم وقال لامب Lamb الصديق الصدوق لكليهما إن روحه العزيزة والعظيمة تلبَّستني·(ملحق/910)
14 - على الهامش
كان تشارلز لامب (1775 - 1834) واحداً من عدة أرواح قلقة ومؤثرة جعلتهم مؤلفاتهم أجدر بالتناول في فترة ما بعد سنة 1815، لكننا تناولناه في فترتنا هذه التي نتناولها الآن لأنه دخل بشكل حميم في حياة شعراء منطقة البحيرة· فقد كان لامب واحداً من أقرب أصدقاء كولردج في لندن· لقد تعارفا كرفيقي دراسة في مدرسة مستشفى يسوع، وفي هذه المدرسة لم يتفوق لامب بسبب ما يعانيه من تلعثم شديد· وغادر المدرسة في الرابعة عشرة من عمره ليعول نفسه، وفي السابعة عشرة عين محاسبا في مؤسسة الهند الشرقية وظل في هذه الوظيفة حتى أحيل للتقاعد في الخمسين من عمره·
وشهدت حياته سلسلة من حالات الجنون فقد قضى هو نفسه ستة أسابيع في مصحة للأمراض العقلية (1795 - 1796)، وفي سنة 1796 قتلت أخته ماري آن Ann (1764 - 1847) - في نوبة جنون شديدة - أمها، وبسبب جنونها ظلت ماري محتجزة في مصحة الأمراض العقلية عدة فترات، لكن لأن لامب لم يكن يرغب في الزواج فقد جعلها تقيم معه حتى وفاته· وقد شفيت ماري من جنونها بدرجة كانت تكفي لتشاركه في كتابة "حكايات من شكسبير Tales from Shakespeare" (1807) · أما عمله الوحيد الذي أنجزه بمفرده فهو "مقالات إليا Essays of Elia" (1820 - 1825) وفيه تجلى أسلوبه العبقري ووقاره وفنه الذي أوحى بواحدة من أكثر الشخصيات المحببة في هذا العصر غير المفرط في تسامحه·
وفي سنة 1797 - وكان لا يزال متأثرا بالمآسي التي واجهها في العام السابق - قبل دعوة من كولردج لزيارته في نذر ستوي Nether Stowey · وكان لا يكاد يتكلم - بسبب تلعثمه - عندما يكون في مواجهة شاعرين (كولردج، ووردزورث) يباري كل منهما الآخر في جراءة اللسان· وبعد ذلك بخمس سنوات زار مع أخته عائلة كولردج في جريتا هول Greta Hall، وذكر لامب أنه تلقاهم بفيض من الكرم يفوق الوصف ورغم أنه هو نفسه ظل شكوكيا skeptic حتى آخر عمره إلا أنه لم يسمح أبداً لتجاوزات كولردج اللاهوتية أن تتغلغل إليه رغم تأثره به ورغم إعجابه الشديد به·(ملحق/911)
ويضم المتحف الفني للفنون The National Portrait Gallery ( المفهوم أنه متحف مقتصر على رسوم الأشخاص) رسما مؤثرا ولطيفا للامب إلى جوار صديقه وليم هازلت William Hazlitt (1787 - 1830) الذي كان أبرع النقاد وأكثرهم حيوية في عصره· وقد زار هازلت كولردج سنة 1798· كما زاره مرة أخرى في جريتا هول في سنة 1803· وفي المناسبة الثانية انضم إليهما وردزورث وهناك راح ثلاثتهم يتناقشون فيما إذا كان الله God موجودا· وكان وليم بالي Paley - كما رأينا - قد دافع مؤخرا عن وجوده بأدلة من التصميمات الهندسية والفنية، وقد رفض هازلت هذه الأدلة، أما وردزورث فاتخذ موقفا وسطا مؤكدا أن الله ليس موجودا خارج الكون، يوجّهه من مكان قصي وإنما هو كامن فيه إنّه حياة الكون وعقله· وفي هذه الزيارة أثار هازلت غضب الجيران باغتصابه تلميذة، وخوفا من القبض عليه أو حدوث ما هو أسوأ هرب إلى جراسمير حيث آواه وردزورث هناك طوال ليلة، وفي الصباح قدم له مبلغا من المال ليسافر إلى لندن·
وعندما عاد كولردج ووردزورث وهاجما الثورة وأدانا نابليون في قصيدة هجاء شديدة اعتبرهما هازلت متراجعين عن أفكار آمنا بها يوماً، وكتب أربعة مجلدات عن (حياة نابليون بونابرت 1828 - 1830) مدافعا عن وجهات نظر نابليون· وفي هذه الأثناء كان معروفا كناقد من خلال محاضراته (1820) عن الدراما في العصر الإليزابيثي وكتابه عن (روح العصر - 1825) ولم يكن وردزورث سعيدا بهجومه على مدرسة البساطة في الأدب أو على حد تعبير وردزورث Peasant school·
لقد أحب الشاعر العجوز أكثر توماس دي كونسي Thomas De Quincey (1785 - 1859) الذي كان يبدي إعجابه به بشكل مستمر· لقد كان توماس عبقريا فيما يرى لأنه نبَّه بريطانيا في سنة 1821 بمؤلفه " Confessions of an English Opium Eater" أي (اعترافات إنجليزي يتعاطي الأفيون) ·(ملحق/912)
لقد كانت بدايته كولد معجزة يتحدث اليونانية الكلاسيكية بطلاقة وهو في الخامسة عشرة من عمره، وأنهى الدراسة في المدرسة بسرعة وانتقل إلى أكسفورد حيث كانت خطاه أسرع من خطى أقرانه (المقصود أنه كان أكثر تفوقا) ولابد أنه اندهش مبتهجاً بالبساطة الخلابة التي صيغت بها الأشعار الغنائية Lyrical Ballads وفي مايو سنة 1803 كتب إلى وردزورث خطابا ربما أدار رأس الشاعر المتفرد·
ليس هناك ما يغريني بصداقتك أكثر - فيما أظن - مما يغري كل من قرأ Lyrical Ballads وأحس بها كما أحس· إن محصلة البهجة التي أحسست بها من ثماني قصائد أو تسع استطعت الحصول عليها جعلت العالم يبدو مقصراً تقصيراً لا حد له عن إدراك ما يعنيه هذان المجلدان الفاتنان - إن اسمك سيرتبط معي إلى الأبد بمشاهد الطبيعة الجميلة ··· أي زعم يمكنني من ادعاء القدرة على مرافقة جماعة فيها مثلك تشع عبقرية وسناء فائقين؟ ·
وأضاف أن وردزورث "لن يجد أبداً أحدا أكثر استعدادا ·· للتضحية حتى بحياته (مثله) لتحقيق مصالحك وسعادتك" وكان رد وردزورث ينطوي على توجيهات رقيقة، فقد كتب له:
"إنني لا أقدر على منح صداقتي (لأحد) فهذا ليس في يدي· إنها هبة لا يستطيع الإنسان تقديمها ··· فالصداقة الصحيحة والحقة تتكون بمرور الوقت وتحكمها الظروف· إنها ستزهو كالزهور البرية إن كانت الظروف حولها ملائمة، فإن لم يحدث هذا فعبثا البحث عنها"·
وحاول أن يثني الشاب عن مراسلته بشكل منتظم فقال له "إنني أكثر الناس كسلاً في هذا العالم وأكثرهم عزوفاً عن كتابة الخطابات" لكنه أضاف قائلا: "وسأكون سعيداً جدا حقا أن أراك في جراسمير"·(ملحق/913)
ورغم حرارة دي كوانسي De Quincy ورغبته في لقاء وردزورث، فإنه لم يقبل الدعوة إلا بعد ثلاث سنوات، وعندما أصبح منزل وردزورث على مرأىً منه فقد الشجاعة وكأنما هو حاج واهن يقترب من روما، فرجع ولم يواصل رحلته للقاء وردزورث، ولكن في سنة 1807 وفي بريستول قبل كولردج دعوته لمرافقة زوجته (زوجة كولردج) وأولاده إلى كزويك Keswick، وفي الطريق توقف معه عند منزل وردزورث، والآن، وأخيرا رأى دي كوانسي، الشاعر وردزورث رأي العين، كما كان على بروننج Browning أن يرى شيلي Shelley· قال دي كوانسي: رأيته كومضة نور· إنه رجل أقرب إلى الطول· مد يده وحياني مرحبا ترحيبا ودوداً جداً ·
15 - سوثي SOUTHEY: 1803- 1843
وفي هذه الأثناء - في كل من جريتا هول ولندن - كان سوثي يعول زوجته إديث Edith وبناته الخمس (ولدن في الفترة من 1804 و1812) وابنه - الذي أحبه حبا يفوق الوصف، والذي وافته منيته سنة 1816 وهو في العاشرة من عمره· كان سوثي ينفق على كل هؤلاء من حصاد كتاباته المتقنة - لكنها غير ملهمة· وبعد انتقال كولردج إلى مالطة تولى سوثي رعاية أولاده (أي أولاد كولردج) وزوجته· وحتى وردزورث كان أحيانا يعتمد عليه: فعندما فقد أخو وليم في البحر (1805) اضطربت الأسرة في جراسمير· فأرسل وردزورث خطابا إلى سوثي متوسلا إليه أن يأتي ويساعده لبث الطمأنينة في دوروثي وماري· واستجاب سوثي، وكان رحيما رفيقا جدا: إذ كبت دوروثي: " لقد كان ودودا حتى إنني أحببته في وقت من الأوقات· لقد بكى معنا وأبدى حزنه لحزننا، لذا أظن أنني لا بد أن أحبه دائما" ·
وعبثا حاولوا إثناءه عن التسرع في الكتابة· فكتب ملحمة شعرية في إثر ملحمة، لاقت جميعا الفشل، فكرس نفسه للنثر فكانت النتائج أفضل، ونشر في سنة 1807 (خطابات من إنجلترا لدون مانويل ألفاريز إسبريلا Letters from England by Don Manuel Alvarez Esprlella) ووضع على لسان هذا الإسباني المتخيل شجباً عنيفا لتشغيل الأطفال والأحوال الأخرى السائدة في المصانع البريطانية:(ملحق/914)
إنني أجد الجرأة الكافية لأتساءل عن أحوال هؤلاء البشر الذين يعملون في ظل هذه الأحوال الرهيبة، وأجد··· أنه نتيجة جمع مثل هذه الأعداد من الجنسين بشكل يتنافى تماما مع مبادئ الدين والأخلاق، لابد أن يكون هناك تهتك وخلاعة وفساد، ورجال سكيرون ونساء منحلات، ومهما كانت الأجور التي يحصلون عليها مرتفعة، فإن قصر نظرهم سرعان ما يجعلهم في حالة عوز· وإن على المحافظات (الدوائر) التي هي غير قادرة على حمايتهم كأطفال، أن تقدم لهم العون في حالة المرض الناتج عن أسلوب حياتهم، وفي حالة العجز والشيخوخة وكان ما انتهى إليه هذا الأرستقراطي فيما يتعلق بالاقتصاد البريطاني هو أنه في التجارة - ربما أكثر مما في الحرب - يعتبر البشر والدواب - في الأساس - مجرد آلات، ويتم التضحية بهم دون أي وخز من ضمير ·
وسرعان ما أدرك سوثي أنه لن يستطيع العيش من حصاد كتاباته فقد وجد نفسه عاجزا عن إعالة من يعولهم خاصة زمن الحرب، إلا إذا تبنى اتجاها أكثر محافظة، وتم هذا التغير بسهولة بسبب إعانة حكومية قوامها 160 جنيهاً في السنة (1807) وبسبب دعوة للمساهمة بتقديم مقالات بشكل منتظم لمجلة حزب المحافظين (التوري) ربع السنوية Tory Quarterly Review· وفي سنة 1813 رفع من شأن نفسه كمؤلف وكوطني بإصداره كتابا عن حياة نيلسون Life of Nelson فكان كتابا واضحا وحيويا يتضح فيه أثر البحث الجاد، وكتبه بأسلوب القرن الثامن عشر، بسيطا واضحا وسهلا يحمل القارئ رغم انحياز المؤلف الطبيعي للتعاطف مع نيلسون بطلاً ومع بريطانيا وطنا· أما عن افتتان نيلسون بإمّا هاملتون Emma Hamilton فلم يتناوله المؤلف سوى في فقرة واحدة·(ملحق/915)
وقد حزن بايرون وشيلي وهازلت Hazlitt عندما بدأ سوثي يحط من شأن الشعر بقبوله جائزة إنجلترا Laureateship of England· وكان شأن هذه الجائزة قد انحط عندما قدمها بت Pitt في سنة 1790 لهنري بي Pye قاضي السلام الغامض· وعند موت بي Pye (1813) عرضت الحكومة المنصب على والتر سكوت Scott فرفضه وأوصى به لسوثي وقبل سوثي فكوفئ بزيادة معاشه السنوي إلى ثلاثمائة جنيه وعلق وردزورث الذي كان يجب أن يحصل على هذا التعيين بلطف قائلا: إن لدى سوثي عالما صغيرا يقوم على أكتافه ·
أما بايرون الذي أدان سوثي أخيرا بكلمات هي وسط بين التجريح والعفو فقد راح يتحدث عنه بشكل طيب بعد لقائه في دار هولندا Holland House في سبتمبر 1813: "إنه أفضل من رأيت من الشعراء منظرا" وذكر لتوماس مور Moore: " إنه رجل ذو موهبة ·· لطيف المعشر ·· نثره يتسم بالكمال" لكن حرص سوثي على إرضاء ذوي المال والسلطة جعل بايرون يشن عليه حربا علنية في سنة 1818، وتمت القطيعة الكاملة مع الجميع عندما استطاعت مجموعة من هؤلاء الثوار الحصول على مخطوطة مسرحية (وات تيلور Wat Tyler) وهي دراما راديكالية كان سوثي قد كتبها في سنة 1794 وتركها مخطوطة لم يطبعها وقاموا بنشرها - سعداء بما فعلوا - في سنة 1817·
وعاد سوثي إلى جريتا هول ومكتبته وزوجته التي كانت قد اقتربت من الجنون أكثر من مرة، وفي سنة 1834 فقدت عقلها تماماً وماتت في سنة 1837· أما سوثي نفسه فقد تخلى عن معركته مع المناوئين له في سنة 1834، ومن ثم جعل وردزورث أميرا للشعراء رغم معارضته هو نفسه (أي وردزورث) وقد حظي هذا التعيين بموافقة عالمية·
16 - آخر ما قاله وردزورث: 1815 - 1850
WORDSWORTH EPILOGUE(ملحق/916)
الشعر للشباب، وقد عاش وردزورث ثمانين عاما ومات كشاعر في نحو سنة 1807 وعندما كان عمره 37 سنة ألف أنثى الظبي البيضاء في ريلستون The White Doe of Rylstone· وفي هذا الوقت كان والتر سكوت قد نشر أنشودة آخر المغنين The Lay of the Last Minstrel (1805) ، وقد أثارت حسد وردزورث لأسلوبها المزهر فاستخدم الوزن نفسه لكتابة أنشودة من تأليفه - قصيدة قصصية غنائية عن الحروب الدينية في شمال إنجلترا في السنة الثانية عشرة من حكم إليزابيث الأولى·
إن أسرة كاملة تقريبا - أب وثمانية أبناء - قد هلكت في معركة واحدة· إميلى Emily - الأخت التي ظلت على قيد الحياة - قضت ما تبقى لها من الحياة في حالة حداد، وكانت أنثى الظبي البيضاء تأتيها كل يوم لتعزيها وكانت تصطحبها كل سبت لزيارة قبر أخيها الصغير في ساحة كنيسة بولتون Bolton وعندما ماتت إميلى ظلت أنثى الظبي البيضاء تقوم بهذه الرحلة الأسبوعية وحدها من رايلستون إلى بولتون وتظل إلى جوار القبر حتى تنتهي صلوات السبت Sabbath في الكنيسة ثم تعود بهدوء قاطعة الغابات والمجاري المائية إلى مأواها في رايلستون· إنها حكاية جميلة حكاها بطريقة جميلة ورائعة ومؤثرة·
وكان هذا العمل هو آخر انتصار أدبي لوردزورث، بصرف النظر عن بعض السونيتات Sonnets ( السونيتة قصيدة تتألف من أربعة عشر بيتا) التي عبر فيها عن مشاعره بأقل قدر من الإثارة - وفيما عدا ذلك - لم يقدم للشعر جديدا آخر· وبعد أن بلغ الخمسين بدا حكيما، طويلا، رزينا متدثرا بعباءة تقيه البرد الشديد وأصبح شعره مهوشا ورأسه مطأطأ وعيناه غائرتين مغرقتين في التأمل كما لو كان بعد أن رأى شيلي وبايرون ينتقلان من الطفولة إلى الانجذاب الصوفي إلى الموت - راح ينتظر الآن - بهدوء - دوره راضيا أن ترك من الآثار الأدبية ما هو أكثر خلودا من المدن المثالية (اليوتوبيات) أو الأشعار الساخرة·(ملحق/917)
لقد كان في فضائله نقص فقد تحدث عن ذاته كثيرا· لقد كتب هازلت إن ميلتون هو وثنه الأكبر أو بتعبير آخر هو إلهه الزائف، وكان أحيانا يجد الجرأة لمقارنة نفسه به وقد قبل المديح كأمر لا يمكن تجنبه وكان يكره النقد ويعتبره جحودا، وكان يحب إنشاد شعره وقد لاحظ ذلك - بخبث - إمرسون Emerson الذي زاره في سنة 1833، لكنه كان قد قال في مقدمة سنة 1815:
"إن قصائده قد ألفت لتقرأ بصوت عال والحقيقة أنها كانت قصائد تحوي من الموسيقى قدرا يساوي ما تحويه من معان، والقصيدة في حاجة إلى قيثارة"·
وبطبيعة الحال كان اتجاهه المحافظ يزداد كلما تقدم به السن· إنها ميزة التقدم في السن، وربما كان واجب الأعوام أن تجعل المرء محافظا· وإذا كان بايرون وشيلى لم يعترفا بهذا فربما لأنهما ماتا وهما لا يزالان في حالة جنون الشباب· لقد أدى تدهور الثورة الفرنسية من الدستور إلى الفوضى إلى تحفظ وردزورث إلى حد ما، كما أن وحشية الثورة الصناعية بدت على نحو ما مرضية لمشاعره؛ ذلك أن شيئا لطيفا ومفيدا قد لحق بإنجلترا بإحلال عمال المصانع محل الحرس الوطني المكون من فرسان غلاظ شداد من طبقة صغار مالكي الأرض، ذلك الحرس الذي أنشئ سنة 1761·
وفي سنة 1805 أصبح - عن طريق الشراء أو تلقي الهبات - مالكا لعدة عقارات متواضعة، وكان كمالك للأرض مستعدا للتعاطف مع فكرة (الرّيع) أو (عوائد الأرض) كأساس للنظام الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي· وقد عارض الحركة الإصلاحية كخطة تبناها أصحاب المصانع لخفض أسعار الغلال، وبالتالي أجور العمال بإبطال (قوانين الغلال Corn Laws) وكذلك الرسوم الجمركية العالية التي تفوق استيراد الغلال من الخارج·
وقد أصبح وردزورث الذي كان طوال سنوات عديدة معجبا بأفكار جودوين - أصبح الآن يرفض دعوة جودوين للفردية (الحرية الفردية Free individualism) على أساس أن الأفراد لا يمكنهم العيش إلا من خلال وحدة اجتماعية (إلا من خلال جماعة) لا يمكنها الاستمرار إلا من خلال الاحترام العام للتقاليد والملكية والقانون· وبعد سنة 1815 أيد الحكومة في كل إجراءاتها القمعية، ووصف بأنه ارتد عن مبدأ الحرية· وتمسك بموقفه ولخص تشخيصه لحال العصر قائلا:(ملحق/918)
"العالم يجري بجنون معتقدا أن شفاءه من شروره لا يكون إلا بالتغيرات السياسية والعلاجات السياسية والحلول السياسية، بينما الشرور العظمى - وهي الحضارة والرق والبؤس - تكمن عميقة في قلوب البشر ولا علاج لها إلا بالتمسك بالفضيلة وأهداب الدين"·
وعلى هذا فقد دعا الشعب الإنجليزي مناشدا لدعم الكنيسة الإنجليزية وكتب (1821) مقطوعات شعرية دينية بلغت سبعا وأربعين مقطوعة " Ecclesiastical Sonnets" ( سونيتات) تناول فيها جانبا من جوانب التاريخ الإنجليزي، نقلنا فيها إلى أبطال إنجليز لم يعد أحد يذكرهم، وأثار في قرائه الدهشة· على وفق ما قاله هنري كراب روبنسون، فإن وردزورث قال "إنه سيبذل دمه عند الضرورة للدفاع عن الكنيسة القائمة" (الإنجليزية) ولم يهتم بالضحكات الصاخبة التي ضحكها الآخرون ذاكرين أنه سبق أن اعترف أنه لا يدري متى كان تابعا لكنيسة في بلاده ·
ونحن لا نعرف أنه بحث عن سلواه في أحضان الدين عندما بدأ عالم الحب حوله ينهار· في سنة 1829 عانت دوروثي من حصاة في الكلى مما أدى إلى ضعف صحتها وانهيار روحها المعنوية باستمرار· وتعرض جهازها العصبي للتلف، وبعد سنة 1835 لم تعد تستطيع تحريك ساقها، ولم تعد تتذكر إلا الأحداث البعيدة التي مضى عليها زمن طويل، وقصائد أخيها التي كانت - لا تزال - تستطيع إنشادها· وظلت قعيدة طوال العشرين سنة التالية بلا معين وأطبق عليها الجنون، وكانت تجلس صامتة على مقعد قرب المدفأة منتظرة الموت صابرة· وفي سنة 1835 ماتت ساره هتشنسون، وتُرِك وردزورث مع زوجته ماري للعناية بأخته وأولاده· وفي سنة 1837 كان لديه الجلد الكافي للقيام بجولة طوال ستة أشهر في فرنسا وإيطاليا مع روبنسون ذي الشخصية المؤثرة·(ملحق/919)
وتوفي في 23 أبريل 1850 ودفن بين من مات من جيرانه في باحة كنيسة جراسمير· وعاشت دوروثي (أخته) بعد موته خمس سنوات صابرة تعينها ماري التي أصبحت الآن شبه عمياء· وماتت ماري سنة 1859 عن عمر يناهز التاسعة والثمانين، وبعد عمر طويل أدت فيه واجباتها بإخلاص· ولا بد أن وردزورث كان يتحلى بصفات أعظم من كونه شاعرا كبيرا لأنه احتفظ بحب امرأتين - من هذا النوع - أخلصتا له دوما· - ومثلهما في ملايين البيوت - لا بد من تذكرهما كلمحة من ملامح صورة إنجلترا·(ملحق/920)
الفصل الثاني والعشرون
الشُّعراء الثوريّون من 1788 إلى 1824م
1 - قافلة فقدت بريقها: 1066 - 1809 م
كي نفهم بايرون لابد أن نُعرّف ببعض التفاصيل تاريخ أجداده وطبيعتهم الذين تجري دماؤهم - كالحمّى المتقطعة - في عروقه· إن بعضاً من هذه الدماء - كاسمه - قد تعود إلى فرنسا، فالتاريخ يذكر لنا عديداً من آل بيرون Birons في فرنسا، وقد ذكر بايرون نفسه متفاخراً في (دون جوان) (النشيد 10 / البيت 63) أحد جدوده - ردولفس دي بورو Radulfus de Burun الذي قدم إلى إنجلترا في ركاب وليم الفاتح· وفي القرن الثاني عشر أصبح آل بورو Buruns هم آل بايرون Byron ( أي تغير نطق الاسم ليتماشى مع طبيعة اللغة الإنجليزية أو الأسماء الإنجليزية)،(ملحق/921)
وعمل السير جون بايرون في خدمة هنري الثامن بإخلاص حتى أن الملك عندما حل الأديرة نقل إليه نظير مبلغ ضئيل ملكية دير (أسس في نحو 1170) والأراضي التابعة له، ودير راهبات نيوستيد Newstede·· في زمام نوتنجهام Nottingham ولعب آل بايرون بعد ذلك أدوارا صغرى في التاريخ الإنجليزي وأيدوا أسرة ستيوارت المالكة وتبعوا تشارلز الثاني في المنفى وصادرت الحكومة منهم مبنى دير نيوستيد، واستعادوه بعد عودة الملك للعرش وخدم وليم عم والد الشاعر- لورد بايرون الخامس (1722 - 1798) في البحرية، وكان وسيما طائشا وأطلق عليه اسم اللورد الشقي أو اللورد الشرير إذ عاش حياة الخلاعة في مبنى الدير السابق ذكره وأتلف كثيرا من ثروته وقتل قريبه وليم شورث Chaworth في مبارزه مرتجلة (لم يُعد لها) في غرفة مظلمة بأحد الفنادق، فتم إرساله إلى القلعة بتهمة القتل وحاكمه مجلس اللوردات (1765) الذي قرر أنه ليس مذنبا كقاتل عمدا وإنما هو مذنب بالقتل غير العمد فعاد إلى مبنى الدير وعاش في عزلة كئيبة حتى وافته منيته·
وقد أصبح أخوه جون بايرون (1723 - 1786) ضابط صف بحري وتعرض لجنوح سفينته ونشر سرداً قصصيا عن جنوح السفينة استقى منه حفيده مشاهد حية في (دون جوان) · وقد دار جون - كقبطان للسفينة دولفين - حول الكرة الأرضية· وأخيرا عاد لموطنه في غرب إنجلترا وعرف باسم (الملاح العاشق) لأنه كان يحتفظ بزوجة أو خليلة في كل ميناء·
وكان ابنه الأكبر الكابتن جون بايرون (1756 - 1791) وهو والد شاعرنا الذي نتناوله الآن· قد مارس كثيرا من الأعمال الشريرة في سنوات عمره البالغة خمسا وثلاثين سنة حتى عُرف بجاك المجنون· وبعد أن خدم في المستعمرات الأمريكية قضى بعض الوقت في لندن وجعل خليلاته يدفعن ديونه· وفي سنة 1778 فرَّ مع مركيزة كارمارثن Carmarthen فطلقها زوجها المركيز، وتزوجها القبطان بايرون ونعم بثروتها وأنجبت له ثلاثة أبناء كان منهم أوجستا لاي Augusta Leigh الأخت غير الشقيقة لشاعرنا، وأحيانا خليلته·(ملحق/922)
وفي سنة 1784 ماتت لادي كارمارثن·وبعد ذلك بعام تزوج الأرمل الأنيق من فتاة اسكتلندية في العشرين من عمرها ولها دخل يبلغ 23,000 جنيه إسترليني - إنها كاترين جوردون الجيتية Catherine Gordon of Gight، وكانت متكبرة جدا وتعود شجرة نسبها إلى ملك اسكتلندا جيمس الأول· وعندما حملت بشاعرنا أورثته التميز والقلق: فرنسي الأصل، عاصف الشخصية أو بتعبير آخر ذو طبيعة عاصفة ميال للنهب والقتل والعداوة، وكانت الأم نفسها مزيجا من الحب العنيف والكراهية· لقد أنفقت على زوجها الذي بدد ثروتها ثم هجرها ثم على ابنها الوحيد الذي غمرته بعواطفها فأصبح لفرط الدلال كالطفل الكسيح· قال شيلد هارولد Childe Harold ( أي بايرون): "لا بُد أن يعرف المرء الثمرة التي تثمرها شجرة هذه بذورها"·
ولد جورج جوردون بايرون في لندن في 22 يناير 1788، ولحق بقدمه اليمنى تشوّه عند الولادة بسبب ليّة للداخل مع رفع الكعب لأعلى، وكان يمكن معالجة هذا الخلل بتدليك يدوي يوميا لكن الأم لم يكن لديها صبر ولا طاقة على هذا بالإضافة إلى أن هذا قد يبدو للطفل قسوة مقصودة كما أن الأطباء لم يكونوا ميالين لنصيحتها لهذا العمل العلاجي وفي سن الثامنة، تحسنت القدم المصابة كثيرا حتى أصبح الصبي يستطيع لبس الحذاء المعتاد فوق حذاء داخلي مصمم لموازنة الاعوجاج والتقليل من أثره· وفي الحياة العامة، وفي أثناء ممارسة الألعاب الرياضية اتسم بالرشاقة رغم عرجته لكنه لم يكن يستطيع عبور قاعة الاستقبال دون أن يحس بألم وفي شبابه كان يغضب بشدة عند أي إشارة لعاهته· وقد ساعد هذا على جعله حساسا، وربما حثه هذا على تحقيق انتصارات في مجال السباحة والتودد للنساء والشعر، فربما يصرف هذا النظر عن إعاقته·(ملحق/923)
وفي سنة 1789 انتقلت الأم مع ابنها إلى أبردين Aberdeen، وبعد ذلك بعام هرب زوجها إلى فرنسا حيث مات في سنة 1791 معدما فاجرا· ولم يكن قد ترك إلا قليلا من ثروة زوجته التي بذلت قصارى جهدها لتعليمه تعليما يليق بلورد· وكانت تصفه أوصافاً تنم عن حبها الشديد له عندما كان في السادسة من عمره "إنه ولد لطيف يمشي ويجري كأي ولد آخر" وفي السابعة دخل مدرسة أبردين الإعدادية حيث تلقى أساسا طيبا في اللغة اللاتينية وعن طريق مزيد من التعليم وكثير من الأسفار في اليونان وآسيا الصغرى وإيطاليا أصبح عاشقا للآداب اللاتينية واليونانية لدرجة أن الدارسين للآداب الكلاسيكية هم وحدهم الذين يمكنهم فهم الاقتباسات والإشارات التاريخية التي بثها في عمله (دون جوان Don Juan) · لقد أحب بايرون التاريخ - مبرّأ من الوطنية والميثولوجيا mythology - كحقيقة - لا حقيقة سواها - عن الإنسان - أما شيلي Shelley فقد أنكره وكان لا يرتاح للتاريخ·
وفي سنة 1798 مات عم والده اللورد الشقي أو الشرير السابق ذكره في نيوستيد تاركا لقب البارون لابنه البالغ من العمر عشرة أعوام، ومبنى الدير و3,200 أكر (فدان إنجليزي) وديونه (أي ديون اللورد الشقي)، وكان هذا لا يكفي إلا لتمكين الأرملة من الانتقال من أبردين إلى مبنى الدير لتعيش هناك مستمتعة بمزايا الطبقة الوسطى· لقد أرسلت الصبي إلى مدرسة في دلوش Dulwich، وفي سنة 1801 أرسلته إلى مدرسة ثانوية داخلية مشهورة في هارو Harrow على بعد أحد عشر ميلا من لندن· وفيها بَشِم العبادات المملة التي كان يفرضها الطلاب الأكابر سنا على الطلاب الأصغر سنا، وعندما أصبح هو نفسه كرجل من الطبقة العليا - يتحتم عليه القيام بهذه العبادات، أداها بحماس·(ملحق/924)
وكان طالبا قلقا يكره النظام ويحب التهريج ويهمل الواجبات المدرسية لكنه قرأ كثيرا من الكتب غالبها جيد، بل وقرأ بيكون ولوك Locke وهيوم Hume وبيركيلي Berkeley· وكان من الواضح أنه فقد عقيدته الدينية لأن أحد رفاق دراسته وصفه بأنه ملحد ملعون · وفي السابعة عشرة من عمره التحق بكلية التثليث Trinity College في كامبردج، وهناك أقام في جناح مكلف به خدم وكلب كما اتخذ له رفيقاً غير متزن يشاركه السكن وتعامل مع العاهرات والأطباء وكان بين الحين والحين يبحث عن خدمات متميزة في لندن· وفي إجازة قضاها في بريتون Brighton (1808) كان معه فتاة متنكرة في شكل صبي، لكنه طور في كامبردج ما أسماه حبا شديدا وعاطفة قوية - رغم نقائها though Pure لشاب وسيم·
وقد أقام صداقات دائمة بسبب مرحه وحيويته وكرمه، وكان أفضل هذه الصداقات هي صداقته مع جون كام هوبهوس John Cam Hobhouse الذي كان يسبقه في الدراسة بعامين إلا أنه ساهم في ضبط حياة بايرون غير المنضبطة في بعض الأحيان· فقد كان الشاعر الشاب (بايرون) يبدو على وشك تدمير نفسه بتحرره (المقصود عدم انضباطه الخلقي) فلم يكن ذكاؤه بقادر على أن يحل محل المحاذير الدينية التي لم يعد يأخذ بها·
وفي يونيو سنة 1807 - وكان قد بلغ التاسعة عشرة من عمره· ونشر ديوان ساعات من الكسل بقلم جورج جوردون ولورد بايرون، الصغير· وذهب إلى لندن لترتيب أن يحظى ديوانه بتعليقات طيبة وقد حيته دورية مستخلصات ادنبره (عدد يناير 1808) بتعليقات ساخرة· لقد سخرت من العنوان كعنوان يليق بالنثر لا بالشعر، وانتقدت المؤلف واعتبرت ذكر اسمه مقرونا بغيره هو نوع من الاعتذار، فلم لا ينتظر هذا اللورد المراهق الوقت المناسب للنشر عندما يصبح أكثر نضجا·(ملحق/925)
وبلغ الحادية والعشرين من عمره في 22 يناير 1809، ودفع ديونه الملحة وانغمس في المقامرة وشغل مقعده في مجلس اللوردات وعانى كثيرا بسبب الصمت الذي ينصح به العضو الجديد (المبتدئ) لكن بعد ثلاثة أيام شن هجوما على ناقدي كتابه في دورية ( English Bards & Scotch Reviewers) لقد شن هجوما حادا وحيويا وكأنما هو يحاكي - بل ويضارع - بيانات البابا· لقد سخر من الحركة الرومانسية الوجدانية (التي أصبح بعد ذلك رائدها) ودعا للعودة إلى الروح الرجولية والأسلوب الكلاسيكي اللذين سادا في عصر أوغسطس Augustan Age:
- سوف تؤمن بميلتون ودريدن والبابا Milton, Dryden, Pope،
- ولن تُعلي من شأن وردزورث وكلردج وسوثي،··· Wordsworth, Coleridge, Southey ·
- إننا نعلم من هوراس Horace إن "هوميروس Homer ينام أحياناً"،
- ونشعر بدونه أن وردزورث أحيانا يستيقظ
(يظل يقظان - والمقصود أنه نائم عادة) ·
وبعد أن حصل بايرون على درجة الماجستير في كمبردج صادق الملاكمين وتعلم تحاشي الضربات وأخذ دورة عملية أخرى في حياة الليل في لندن، وأبحر في 2 يوليو 1809 مع هوبهوس إلى لشبونة وتطلع للشرق·
2 - الرحلة الكبرى: بايرون 1809 - 1811 م
لم تكن رحلة - من الناحية التقليدية - هائلة: فقد كانت إنجلترا في حالة حرب، وكان نابليون يحكم فرنسا وبلجيكا وهولندا وألمانيا وإيطاليا، لذا فقد قضى بايرون معظم العامين اللذين استغرقتهما رحلته في ألبانيا واليونان وتركيا، وقد تركت هذه الرحلة أثرا مهما في سياساته وفي وجهات نظره عن النساء والزواج بل وأثرت في موته· لقد خلف ديونا مقدارها 13,000 جنيه إسترليني وراءه (المقصود قبل أن يبدأ رحلته) واصطحب معه أربعة من الخدم· لقد وجد لشبونة فقيرة مسلوبة القوة ولم تكن حرب شبه الجزيرة الأيبيرية مبررا كافيا لهذه الحال، وبدا كل الناس عدوانيين فكان بايرون يحمل مسدسيه أينما ذهب·(ملحق/926)
وانتقل ركبه على ظهور الخيل إلى أشبيلية وقادش Cadiz ومنها - على ظهر فرقاطة بريطانية - إلى جبل طارق (وهناك أعفى كل خدمه ما عدا خادمه الخصوصي متولي أمور ملابسه وليم فلتشر) ومن جبل طارق اتجه إلى مالطة حيث أحب السيدة سبنسر سميث (1 - 18 سبتمبر 1809)، وتصرف بشكل مناف للذوق حتى إن القبطان البريطاني علق على تهوره وعدم كياسته· فتحداه بايرون مع تلميح ادعائي سخيف
"طالما أن السفينة التي عليّ أن أركبها لا بد أن تبحر على أول تغير في اتجاه الريح، فإن الإبحار في الساعة السادسة غدا هو الوقت المناسب تماما، فهذا أدعى لترتيب أشغالنا بشكل أفضل وأسرع"
واعتذر القبطان عن عدم تنفيذ ذلك·
وفي 19 سبتمبر غادر بايرون وهوبهوس على السفينة سبيدر Spider ( الكلمة تعني العنكبوت أو المقلاة) وبعد أن ظلت مبحرة طوال أسبوع وصلت إلى باتراس Patras· فنزلا إلى الشاطئ فورا لمجرد وضع أقدامهما على تربة اليونان، لكن في الليلة نفسها عاودا ركوب السفينة (سبيدر) وأبحرت السفينة متجاوزة ميسولونجي Missolonghi وبينيلوب الملحقة بإيثاكا Penelope's Ithaca نزلا إلى الشاطئ في بريفيرا Preveza بالقرب من أكتيوم Actium التي شهدت معركة تحدد فيها مصير أنطونيو وكليوباترا· ومن هنا اتجها شمالا على ظهور الخيل خلال إبيروس Epirus ودخل ألبانيا التي كان التركي المرعب علي باشا يحكم من عاصمتها - بالسيف والأوامر - كل ألبانيا وإبيروس، وقد رحب ببايرون ترحيبا يليق بلورد بريطاني لأنه (كما قال للشاعر) عرف أنه ذو أصل نبيل لصغر يديه وأذنيه·(ملحق/927)
وفي 23 أكتوبر عاد بايرون ورفاقه· وفي 27 من الشهر نفسه وصلا إلى يانينا Janina عاصمة إبيروس· وهناك بدأ يسجل انطباعاته عن الرحلة في ( Childe Harold Pilgrimage) على شكل سيرة ذاتية· وفي 3 نوفمبر ارتحلت المجموعة جنوبا حتى ما يعرف اليوم باسم إيتوليا Aetolia في حماية حرس الباشا من المرتزقة الألبانيين، وكان كل واحد من هذا الحرس بارعاً في القتل والسرقة· وقد أحبوا سيدهم الجديد (المقصود لورد بايرون) وكان أحد أسباب ذلك أنه بدا لهم غير هياّب من الموت· وعندما أصابت الحمى بايرون هددوا الطبيب بالقتل إذا مات مريضه، ففر الطبيب وشفي بايرون·
وفي 12 نوفمبر استقلت المجموعة سفينة نقلتهم من ميسولونجي إلى باتراس Patras وتقدموا يصاحبهم حرس جديد على ظهور الخيول في البلوبونيز وأتيكا Attica ( في اليونان الحالية) ورأوا دلفي Delphi وثيبز Thebes ودخلوا أثينا في يوم الكريسماس 1809· وكان لابد أن يمر على الرحالتين يوم حافل بالأفراح والأحزان معا· عظمة الآثار القديمة، والدمار الذي لحق بالبلاد حديثا، وعدم الترحيب الشديد بالحكم التركي، فاليونانيون كانوا يوما شعبا فخورا معتزا بنفسه وأصبحوا الآن وقد نزلوا من علياء مجدهم السياسي والفكري ورضوا بحكم الأيام· لقد كان هذا مدعاة لتسلية هوبهوس لكنه أحزن بايرون الذي تجسدت فيه روح الاستقلال، والفخر بالعرق·
وعلى أية حال فقد كانت نساء اليونان جميلات، عيونهم سوداء مثيرات، خضوعهن (استسلامهن) لطيف· وقد سكن بايرون وهوبهوس عند الأرملة ماكرى Macri التي تولت خدمتهما، وكان لديها ثلاث بنات كلهن دون الخامسة عشرة· الفاسقة الصغيرة تعلمت أن تحسّ إزاءهم بعاطفة أبهجتهما وذكرتهما بحبهما أيام براءتهما الأولى· إنها تريزا البالغة من العمر اثنتي عشرة سنة وهي التي علّمته التحية الشجية:
"يا حياة حياتي، أنا أحبك" Zoe mou sas agapo
وقد كتب أغنيته الشهيرة مستوحيا أفكارها من هذه الكلمات:
يا عذراء أثينا، هل سنفترق!
أعيدي إليّ قلبي!(ملحق/928)
وفي 19 يناير 1810 انطلق بايرون وهوبهوس مع خادم ودليل ورجلين للعناية بالخيول لزيارة واحد من أكثر المشاهد إلهاما في اليونان، واستغرق انتقالهم راكبين أربعة أيام لكن الغاية تبرر الوسيلة: لقد أصبحوا على مرأى الأعمدة الباقية من معبد بوسيدون (النص temple to Poseidon) في الماضي البطولي على قُمةَّ جبل سونيوم ( Sunium Promontorium) Cape Colonna لتخبر البحارة أنهم وصلوا بلاد الإغريق· ومما يذكر أن مشاهد هذا الكمال القدسي المتناثرة ومنظر بحر إيجة الذي يبدو على البعد هادئا ناعما، كل ذلك أوحى للشاعر بتأليف قصيدته (جزر اليونان) التي أدرجها أخيرا في النشيد الثالث في عمله (دون جوان) · ومن سونيوم تستغرق المسافة إلى الماراثون ثلاثة أيام فقط على ظهور الخيل، وفي الماراثون Marathon تحركت قريحة الشاعر بالأبيات المشهورة التالية:
- الجبال تُطل على الماراثون،
- والماراثون يُطل على البحر،
- ورحت أسلّي نفسي هناك ساعة وحدي،
- وحلمت أن تعود اليونان حرة
- تقف على جثت الفرس (المقصود الأتراك)
- إنني لا أُطيق أن أكون عبدا·
وفي 5 مارس غادر بايرون وهوبهوس أثينا واستقلتهما سفينة إنجليزية (البايلادز Pylades) قاصدين سميرنا Smyrna، وأجبروا هناك على الانتظار شهرا حيث أكمل الشاعر النشيد الثاني في مؤلفه الشعري (شايلد هارولد Childe Harold) · وقام برحلة جانبية استغرقت ثلاثة أيام إلى إفسوس Ephesus واستوحى خرائب (آثار) مدينة شهدت أوج الحضارات الثلاث - الإغريق، والمسيحية والإسلام (النص: الديانة المحمدية) · ولاحظ هوبهوس أن انحلال الأديان الثلاثة يقدم هناك من وجهة نظر واحدة ·(ملحق/929)
وفي 11 أبريل عبروا (الشاعر وهوبهوس ومن معهما) على الفرقاطة سالست Salsette إلى القسطنطينية (المقصود إستانبول)، وأدت الرياح القاسية والموانع الدبلوماسية للإبقاء على السفينة طوال أسبوعين راسية على الجانب الأسيوي من الدردنيل، ووطئ بايرون وهوبهوس سهل طروادة Troad Plain على أمل أن يكون قد غطى عظام هومر (هوميروس) Homer's Ilium ولكن شليمان Schliemann لم يكن قد ولد بعد· وفي 15 أبريل قام بايرون والضابط البحري الإنجليزي - الليفتنانت ( Lieutenant) وليم إكنهيد بالانتقال عبر الهيليسبونت Hellespont إلى الجانب الأوربي، وحاولا العودة سباحة لكنها عانيا من شدة التيار وبرودة الماء·
وفي 3 مايو حاولا مرة ثانية وعبرا من سيستوس Sestos في الجانب الأوربي من تركيا إلى أبيدوس Abydos في آسيا الصغرى· وأنجز إكنهيد Ekenhead قطع المسافة في 65 دقيقة أما بايرون فأنجزها في سبعين دقيقة، وكان طول القناة في هذا الموضع (المقصود القناة الموصلة بين البر والأسيوي والبر الأوربي) ميلا واحدا فقط، لكن التيارات المائية أجبرتها على السباحة أكثر من أربعة أميال ·
ووصل السائحان إلى القسطنطينية (المقصود إستانبول) في 12 مايو وأثارت المساجد إعجابهما وغادراها في 14 يوليو وفي السابع عشر من الشهر نفسه رست سفينتهما في مرفأ زي Zea في جزيرة كوس Keos، وهناك افترقا فتابع هوبهوس طريقه إلى لندن واستقل بايرون وفلتشر Fletcher قارب آخر متجها إلى باتراس Patras· ومرة أخرى عبر الطريق البري إلى أثينا· وهناك راح بايرون يواصل بحثه الطويل عن الفروق بين النساء (الفوارق الأنثوية) · لقد تباهى بغزواته (المفهوم طبعا غزواته النسائية) وأصيب بالسيلان gonorrhea، وسار سراعا في طريق الاكتئاب، ففي 26 نوفمبر كتب إلى هوبهوس: "لقد رأيت العالم الآن ··· وذقت كل أنواع اللذة·· ليس لي من أمل آخر· وربما بدأت في التفكير في أفضل طريقة للخروج من هذا العالم ·· آمل أن أستطيع أن أجد بعضاً من نبات الشوكران Hemlock ( نبات سام) الذي حصل عليه سقراط".(ملحق/930)
وفي يناير سنة 1811 استأجر غرف لإقامته وإقامة بعض خدمه في دير كابوشن Capuchin عند سفح الأكروبولس Acropolis وراح يحلم بالسلام (النفسي) الذي تتيحه الحياة في دير·
وفي 22 أبريل غادر أثينا لآخر مرة ومكث شهرا في مالطة ثم واصل رحلته عائدا إلى إنجلترا التي وصلها في 14 يوليو بعد عامين واثني عشر يوما من مغادرتها، وبينما كان منشغلا بتجديد عقوده في لندن تلقى خبر وفاة أمه عن عمر يناهز السادسة والأربعين، فاندفع متجها إلى مبنى دير نيوستيد Newstead، وقضى الليل جالساً في الظلام إلى جوار جثمان أمه وعندما توسّلت إليه الخادمة أن يترك الجثمان ويعود إلى غرفته رفض قائلا: "لم يكن لدي إلا صديق وحيد في العالم إنها أمي· وقد فارقتني! ", وكان قد قال عبارة قريبة من هذه ونقشها على قبر كلبه (من نيو فوندلاند Newfoundland) بوتسوين Boatswain الذي مات في نوفمبر سنة 1808 ودفن في سرداب بحديقة الدير:
"للتذكير ببقايا صديق أقمت هذا الشاهد، فلم يكن لي إلا صديق واحد - انه يرقد هنا"·
وفي أغسطس سنة 1811 سجل وصية لوقف مبنى الدير على ابن عمه جورج بايرون، وخصص منحاً لخدمه، وترك توجيهات تنفذ عند دفنه:
"أريد أن يدفن جسدي في قبو في حديقة نيوستيد دون أية شعائر أو صلوات وألا ينقش على شاهد القبر أي شيء سوى الذي هو مدفون فيه" وبعد أن رتب الأمور المتعلقة بموته اتجه إلى لندن لمواصلة غزواته·
3 - أسد لندن: بايرون 1811 – 1814م(ملحق/931)
لقد كان لديه - في لندن - أصدقاء بالفعل لأنه كان جذابا دمثا جيد الحديث واسع المعرفة في الأدب والتاريخ كما كان مخلصا لأصدقائه أكثر من إخلاصه لخليلاته· لقد استأجر مقراً في 8 شارع جيمس، وهناك في مقره هذا استقبل بترحاب توماس مور Thomas Moore وتوماس كامبل Campbell وصامويل (صموئيل) روجرز، وهوبهوس··· كما زارهم ورحبوا به بدورهم· وعن طريق روجرز، ومور دخل بايرون دائرة الضوء في دار هولاند Holland House، وهناك قابل ريتشارد برينسلي شريدان Richard Brinsley Sheridan الذي كان نفوذه السياسي قد قل لكنه لم يكن قد فقد ميله للنقاش والحديث لقد روى بايرون متذكرا: "عندما كان يتحدث كنا نصغي من الساعة السادسة حتى الواحدة دون أن يتثاءب واحد منا ·· يا له من رفيق بائس! لقد انهمك في الشراب بشدة ·· لقد كان من نصيبي في عدة مناسبات أن أنقله للبيت".
وتبنى بايرون موقف اللوديت Luddite ( محطمو الماكينات في موطنه نوتنجهامشير Nottinghamshire) متأثرا بهؤلاء المثقفين المؤيدين للإصلاح (الهويجيين Whiggish- الهويجز هو حزب الأحرار فيما بعد)،
وفي 20 فبراير سنة 1812 أجاز مجلس العموم مرسوما بالحكم بالإعدام على كل من يضبط متلبساً بتحطيم الماكينات، وعند مناقشة هذا المرسوم في مجلس اللوردات في 27 فبراير عارضه بايرون، وكان قد كتب خطابه مقدما بلغة إنجليزية راقية· وذكر أن بعض العمال مذنبون لقيامهم بأعمال عنيفة سببت خسائر في الممتلكات وأن الماكينات المحطمة كانت - على المدى البعيد - ستحقق مكاسب للاقتصاد الوطني· لكنها - أي هذه الماكينات - قد أدت إلى حرمان المئات من العمال من العمل الذي كانوا يعولون أسرهم عن طريقه، فأصبحوا الآن فقراء بائسين يعتمدون على ما يتلقونه من هبات وصدقات، وأن هذا اليأس وهذه المرارة هما اللذان أديا إلى قيامهم بأعمال العنف· وكلما تقدم في خطابه تخلى الخطيب الشاب عن حذره وراح يهاجم الحرب كمصدر لبؤس غير مسبوق يعاني منه العمال الإنجليز·(ملحق/932)
لكن اللوردات تجهموا لمقالته وأجازوا المرسوم السابق ذكره· وفي 21 أبريل ألقى بايرون خطابا ثانيا أدان فيه الحكم البريطاني في أيرلندا ودعا إلى تحرير (عتق) الكاثوليك في كل أنحاء الإمبراطورية البريطانية، وقد امتدح اللوردات بلاغته ورفضوا قضيته وأجبروه على الجلوس (عدم مواصلة حديثه) باعتباره غرا سياسيا لمّا ينضج بعد، وتخلى عن السياسة وقرر الدفاع عن قضاياه وأفكاره من خلال الشعر·
فبعد اثني عشر يوما من خطبته الغير مسبوقة قدم النشيدين الأولين الواردين في مؤلفه " Childe Harold's Pilgrimage" للناس· وكادا يلقيان نجاحاً غير مسبوق فقد نفدت الطبعة الأولى (500 نسخة) في ثلاثة أيام مما أقنعه أنه وجد وسيلة أكثر بقاء وقوة من الخطب المثيرة للجدل· لقد لفت الآن الأنظار إليه بشدة "لقد استيقظت ذات يوم فوجدت نفسي مشهورا" · حتى أعداؤه القدامى في دورية (مستخلصات ادنبره) امتدحوه، وإقراراً بالفضل أرسل اعتذارا لجفري Jeffrey لتعرضه له في دورية " English Bards & Scotch Reviewers"·
تكاد تكون كل الأبواب مشرعة أمامه الآن، ودعته النساء الشهيرات - اثنتا عشر امرأة تحلّقن حوله مبتهجات بوجهه الوسيم كل منهن تأمل في إيقاع الأسد الشاب في حبائلها· ولم يبعدهن عنه ما عرف عنه من نهم جنسي، كما أن لقب اللورد الذي يحمله جعله يبدو صيدا ثمينا لمن لا يعرفن ديونه· لقد سعد باهتمامهن به وكان بالفعل مستثارا بسحرهن الغامض· لقد قال:
"هناك شيء فيَّ مريح جدا يظهر في حضور امرأة - إنه تأثير غريب على نحو ما حتى لو كنت غير عاشق لها - شيء لا أعرف كُنهه، فلست خبيرا بالجنس خبرة يشار إليها بالبنان "·(ملحق/933)
وكانت ليدي كارولين لامب Lady Caroline Lamb (1785 - 1828) تمثل إحدى غزواته النسائية الأولى، وهي ابنة الإيرل الثالث لبيسبورو Bessborough وتزوجت في العشرين من عمرها من وليم لامب الابن الثاني للورد ملبورن وليدي ملبورن Melbourne · وبعد أن قرأت كتابه ( Childe Harold's Pilgrimage) قررت مقابلة المؤلف لكنها عندما رأته اعتبرته "شخصا من الخطر معرفته" وابتعدت عنه سريعا، فأثاره ذلك وعندما التقى بها ثانية "رجاها أن يلتقيا" وأتى إليها وكانت وقتها أكبر منه بثلاث سنين وكانت قد أنجبت بالفعل وكانت وارثة لثروة كبيرة كما كانت عطرة مرحة·
وأتى إليها ثانية، وتكررت زياراته فغدت كل يوم تقريبا· وكان زوجها مشغولا بأعماله فقبله كمرافق لزوجته أو عشيق لها وهو أمر شائع في إيطاليا ( Cavaliere Servente) وتعلقت به أكثر فأكثر وذهبت إلى بيته علنا أو متنكرة في زى غلام وكتب له خطابات غرامية حارة، وازداد اندماجهما حتى إنه اقترح عليها أن تفر معه تاركة بيت الزوجية لكن عندما ذهبت إلى أيرلندا (في سبتمبر 1812) مع أمها وزوجها، كان قد تخلى عنها بالفعل وسرعان ما وثّق علاقته بليدي أكسفورد Lady Oxford ·
وفي خضم مثل هذه الأمور المعكرة للصفو، احتفظ بايرون ببعض الاستقرار النفسي بأن راح يكتب بسرعة شعراً سهلاً كان مجاله حكايات مغامرات وعنف وحب مستوحاة من تراث الشرق· ولم يعرض فيها صور العظمة الصارخة المدعاة، وإنما كانت حكايات خيال رومانسي تعكس أفكار الشاعر ومشاعره التي استوحاه من رحلاته في ألبانيا وإبيروس Epirus واليونان، ولم يجهد المؤلف فكره في كتابتها، كما لم تكن تتطلب من قارئها قدح ذهنه وإجهاد عقله، وقد راجت بشكل مدهش وبيع منها عدد كبير من النسخ·(ملحق/934)
ظهرت القصة الشعرية الأولى وهي " The Giaour" في مارس سنة 1813، وسرعان ما ظهرت الأخرى في ديسمبر The Bride of Abydos التي بيع منها ستة آلاف نسخة في شهر واحد، ثم الثالثة التي كانت أكثر رواجا وهي Corsair ( يناير 1814) التي حطمت كل الأرقام السابقة إذ بيع منها عشرة آلاف نسخة في اليوم نفسه الذي ظهرت فيه، ثم ظهرت "لارا Lara " (1815) و"حصار كورنثة The Siege of Corinth " (1816) · وجمع الناشر جنيهاته وقدم نصيبا منها لبايرون الذي تصرف كلورد وعفّ أن يأخذ ثمنا لأشعاره·
وحتى عندما كان بايرون يؤلف هذه الحكايات التي تدين الخارجين على القانون كان هو نفسه قلقا منزعجاً بسبب حياته غير الملتزمة (الخارجة عن العرف والقانون) · فلم يكن يستطيع مواصلة التشبب بالنساء إلا إذا دمَّر صحته، وميزانيته· لقد كان قد نذر هو وهوبهوس ألا يتزوجا لأن الزواج سجن للروح والبدن، أما الآن فقد راح يميل إلى أن الزواج كابح أساسي ومنظم للرغبات التي إن تركت على عواهنها دمرت الفرد والمجتمع جميعا· لقد شعر أنه قد يجد مبررا للتخلي عن حريته في سبيل الاستقرار والهدوء أو في سبيل دخل أكثر ثباتا مما يدره عليه مبنى الدير (الذي يمتلكه) ذلك المبنى الذي أصبح آيلاً للسقوط·
وبدت له أنابلا ميلبانك Annabella Milbanke وكأن فيها من المواصفات ما يحقق كل مطالبه· ففيها الجمال ونالت قسطا من التعليم وكانت الطفلة الوحيدة لأسرتها وتنتظرها ثروة طائلة· وعندما قابلها للمرة الأولى في 25 مارس 1812 في منزل عمتها ليدي ملبورن Melbourne تعلق بها فقد كانت:
"ملامحها صغيرة وأنثوية، رغم أنهما أي الملامح - غير منتظمة، كانت بشرتها أجمل بشرة يمكن تخيلها، وكان قوامها جميلا مكتمل الخلق متناسبا مع طولها، وكان يحيط بها جو من البساطة والتواضع ··· مما جعلني أزداد تعلقاً بها"·
ولم يتحدث إليها، فقد كان كل منهما ينتظر المبادأة من الآخر· لكنها كانت هي أيضا شغوفة به، ففي يومياتها وخطاباتها راحت - أحيانا - تحلل شخصيته:(ملحق/935)
"حدة روح·· سخرية شديدة··· مخلص ومستقل·· يقال إنه كافر (غير مؤمن) ربما كان هذا صحيحا وذلك من خلال الطبيعة العامة لعقليته· وقصيدته ( Childe Harold) برهان كافٍ على أنه يستطيع أن يحس أحاسيس نبيلة، لكنه كان يداري طيبته أو بتعبير آخر لا يظهر أحاسيسه الطيبة"·
كانت هذه عبارة متدبّرة ذكية ربما راودها بعد ذلك سؤال هو كيف حاولت أن تنزع من هذا الرجل الحساس مشاعره - تلك المحاولة الشائقة إلا أنها خَطِرة - وكيف حاولت أن تمنعه وهو أسد لندن - عن كل هؤلاء النسوة اللائي انجذبن إليه بسبب شهرته الكبيرة؟
ومضت شهور اعتلت فيها ليدي كارولين لامب خشبة المسرح (المقصود دخلت حياته ثانية) لكن لهيب الحب برد بسبب القناة الأيرلندية (المقصود أن البعد جفاء - أي أنها عندما ذهبت لأيرلندا تاركة حبيبها وفي لندن، راح لهيب شوقها وشوقه يبردان أو ينطفئان رويدا كلما زاد البعاد)، وفي 13 سبتمبر سنة 1812 كتب بايرون إلى ليدي ملبورن خطابا غريبا فرض على حياته اتجاها بدا وكأنه قدر محتوم:
"أخشى أن أقول إنني كنت ولا زلت وسأظل مفتونا··· بتلك الآنسة التي لم أقل عنها كثيرا، لكنها لم تغب أبداً عن ناظري·· إنها تلك التي أريد أن أتزوجها لولا أن أمور مدام لامب هذه اقتحمت حياتي ·· إنني أريد الزواج منها هي الآنسة ميلبانك Milbanke·· إنني لم أر أنثى حظيت بتقديري مثلما حظيت هي"
وأخبرت ليدي ملبورن - سعيدةً - ابنة أخيها باعتراف بايرون طالبة منها الموافقة· وفي 12 أكتوبر أرسلت الآنسة ميلبانك رداً جديراً بتاليران Talleyrand:(ملحق/936)
" اعتقاداً مني أنه لن يكون أبداً موضع حب شديد يجعلني سعيدة في حياتي الأسرية إلا أنني أغمطه حقه على نحو ما إن أنا - حتى ولو بشكل غير مباشر - جعلته يتأكد من مشاعره الحالية· فمن خلال ملاحظاتي المحدودة لمسلكه أراني أميل إلى أن سبب ذلك هو تزكيتك الشديدة له، وإنني أعزو موقفي هذا منه إلى قصور في مشاعري أكثر من أن أعزوه إلى طبيعته، ذلك أنني لا أميل إلى مبادلته مشاعره· بعد هذا الذي قلت بأسف لما يسببه من آلام له فلا بد أن أترك علاقاتنا في المستقبل حسب تقديره وحكمه· وليس لدي سبب يحملني على التخلي عن معرفة ما يشرفني فهو قادر على منحي كثيرا من المباهج والمسرات الفكرية إلا أنني أخشى خداعه بشكل غير مقصود··"
وتلقى بايرون هذا الرفض بتسامح فلم يكن في حاجة ماسة لهذه الليدي Lady المتعلمة يقظة الضمير، ذلك أنه - بالفعل - كان يجد سلواه في أحصان كونتيسة أكسفورد، وفي أحضان ليدي فرانس Frances وبستر وفي الوقت نفسه في أحضان أخته غير الشقيقة أوغسطا لاي Augusta Leigh لقد مضى على زواجها الآن (1813) من ابن عمها الأول الكولونيل جورج لاي، ست سنوات وأنجبت منه ثلاثة أطفال,
وفي هذه الأثناء أتت إلى لندن من منزلها في كمبردجشير Cambridgeshire لتطلب من بايرون مساعدة مالية لتعينها في مواجهة الصعاب بعد الخسائر التي مني بها زوجها وغيابه الطويل في حلبات السباق ولم يستطيع بايرون أن يقدم لها الكثير لأن دخله كان متقلقلاً غير قائم على أساس وطيد· لكنه أمتعها بحواراته الممتعة واكتشف أنها امرأة (المعنى مفهوم) · لقد كانت في الثلاثين ولم تكن أنثى متفجرة وكان ينقصها الجانب الفكري والثقافي كما كانت الحيوية تنقصها أيضا لكنها كانت عاطفية لينة العريكة وربما كانت متأثرة بشهرة أخيها، فكانت ميالة لإعطائه ما ترغبه، فطول بعادها عنه بالإضافة لإهمال زوجها جعلها في حالة خواء عاطفي·(ملحق/937)
وكان بايرون قد نحى جانبا كل المحاذير الأخلاقية أو كل المحرمات التي لم تتفق مع عقله الشاب فتساءل متعجبا لم لا يتزوج أخته كما كان الفراعنة يفعلون· وتشير الدلائل اللاحقة أنه الآن أو بعد ذلك أقام مع أخته أوجستا علاقات جنسية· وفي أغسطس سنة 1813 فكر في اصطحابها في رحلة في البحر المتوسط · لكن الخطة فشلت فأخذها إلى مبنى دير نيوستيد في شهر يناير، وعندما أنجبت بنتا في 51 أبريل كتب بايرون إلى ليدي ملبورن أنه: "إذا كانت قردة، فلا بد أن يكون ذلك خطئي" وكانت الطفلة نفسها - ميدورا لاى - تعتقد أنها ابنته · وفي شهر مايو أرسل إلى أوجستا ثلاثة آلاف جنيه لدفع ديون زوجها· وفي يوليو كان معها في هاستنجز Hastings وفي شهر أغسطس أقامت معه في مبنى الدير·
وبينما راح يندمج أكثر وأكثر في علاقاته الجنسية مع أخته غير الشقيقة أرسلت له الآنسة ميلبانك خطابات أججت مشاعره حتى إنه كتب في يومياته عند حديثه عن الأول من ديسمبر سنة 1813:
"بالأمس وصلني خطاب رقيق من (أنابلا Annabella) وقد أرسلت لها خطابا رداً على خطابها· إن لصداقتنا وموقفنا وضع فريد غريب، وأي غرابة! - فبدون بارقة حب واحدة من كلينا··· هي امرأة متفوقة جدا، عيوبها قليلة جدا بالنسبة لامرأة لها هذا النصيب الوافر من المال والثراء وفي العشرين من عمرها·· فمن هي في وضعها وفي سنها قد لا تزيد عن طفلة· إنها شاعرة ورياضية ومتيافيزيقية ومع ذلك - وفوق هذا - فهي لطيفة جدا وكريمة جدا وظريفة جدا، لا تدعي كثيرا· إن أحداً غيرها قد تدور رأسه إذا امتلك ما تملك وإن كان لديه عُشر مزاياها "·(ملحق/938)
وكأنما كانت قد قرأت هذا التقدير لها (مع أنه لم يكتبه لها وإنما سجله في يومياته) فقد أصبحت خطاباتها في سنة 1814 تعجّ شوقا وأكدت له أن قلبها غير مشغول الآن بأحد: "وطلبت منه صورة له ووقعت خطاباتها مشفوعة بكلمة (مع حبي) أو (المحبة) "· وقد كتب لها تجاوبا مع خطاباتها الدافئة في 10 أغسطس: "كنت دوما ولا زلت أحبك", فأجابت أنها لا تصلح للزواج فقد استغرقتها الفلسفة والشعر والتاريخ · وقد أجاب على تحديها بأن أرسل لها في 9 سبتمبر اقتراحاً آخر أقل عاطفية يدعوها لتواجهه في لعب الشطرنج فإن رفضت مرة أخرى فإنه سيخطط لمغادرة بريطانيا مع هوبهوس إلى إيطاليا· وقبلت مواجهته في (دَوْر) شطرنج·
لقد بدأ قدره ينحو به نحو الانضباط· لقد كان قد فقد الحرية التي اعتادها - حرية في الصداقة والجنس والأفكار آملاً في أن ينقذه الزواج من الروابط المتشابكة المعقدة والخطرة· لقد شرح لأصدقائه: "لا بد بطبيعة الحال أن أصلح حالي· ··إنها إنسانة طيبة", وقال لخطيبته: "آمل أن تكوني صالحة طيبة·· سأكون كما تريدين". وقبلت مهمتها على أساس أنها مهمة يقوم بها الصالحون الأتقياء· وكتبت لإميلي ميلنر Emily Milner في نحو الرابع من أكتوبر سنة 1814:
إن شخصية لورد بايرون الحقيقة لا مجال للبحث عن نظير لها في هذا العالم، وكل ما يمكننا هو البحث عن شخصية أقرب ما تكون إلى شخصيته· نبحث عن التعس الذي واساه وعن البائس الذي ساعده وعن أتباعه الذين كان لهم نعم السيد· أما عن قنوطه فأخشى أن أكون مسئولة عنه طوال العامين الأخيرين· إنني أحس باطمئنان عميق - فأنا أثق في الله وفي الإنسان·(ملحق/939)
وعندما حان الوقت ذهاب بايرون إلى أسرة أنابلا في سيهام (بالقرب من درهام Durham) لطلب الزواج منها خانته شجاعته فعرّج في الطريق على منزل أوجستا وهناك كتب خطابا إلى خطيبته معلنا انسحابه من مشروع الارتباط بها لكن أوجستا حثته على تمزيق الخطاب وأن يقبل الزواج كرباط منقذ له· وفي 29 أكتوبر تابع طريقه إلى سيهام وبصحبته هوبهوس الذي كتب في يومياته: "لم يكن متعجلا"· لم أر عاشقا أقل تسرعا منه ورحبت أسرة العروس به وأظهر هو من الصفات الطيبة ما جعلهم مسرورين وفي الثاني من شهر يناير 1815 ذهب معها إلى مذبح الكنيسة (لإتمام الزواج) ·
4 - محنة الزواج: بايرون 1815 - 1816 م
وبعد إتمام طقوس الزواج ركبا في يوم من أيام الشتاء العابسة متجهين إلى (هالنابي هول Halnaby Hall) في ضواحي درهام لقضاء شهر العسل· لقد كان عمره الآن يقترب من السابعة والعشرين، وكانت هي في الثالثة والعشرين· وقضى ثماني سنوات أو أكثر يكاد لا يكف عن اللقاءات الجنسية غير الشرعية وغير المسئولة وقلما كانت معاشرته الجنسية ترتبط بالحب· وعلى وفق ما ذكره مور Moore عن فقرة قرأها في مذكرات بايرون (تم إحراقها في عام 1824) فإن الزوج لم ينتظر حلول الليل، "وإنما طرح الليدي بايرون Lady Byron على الأريكة قبل تناول العشاء في يوم الزواج نفسه وبعد تناول العشاء" إن جاز لنا أن نثق في ذاكرته سألها إن كانت تنوي أن تنام معه في السرير نفسه، وأضاف قائلا: "إنني أكره النوم مع أي امرأة لكن إن اخترت ذلك فسأفعل", وكيّف وضعه مع طبيعتها (المعنى غير عادته ونام معها في السرير نفسه) لكنه أخبر هوبهوس أنه في تلك الليلة الأولى حاصرته نوبة مفاجئة من الانقباض وغادر السرير وفي اليوم التالي (كما زعمت الزوجة): "قابلني عازفا عني وتمتم بكلمات ساخرة لاذعة لقد نفد القضاء"، وكان ما كان ووصله خطاب من أوجستا لاي Leigh فقرأ على أنابلا استهلاله: "يا أعز خلق الله وأفضلهم وأولهم" وعلى وفق ما روته الزوجة فإنه كان يشكو قائلا:(ملحق/940)
"إنه إذا كنت تزوجته قبل ذلك بعامين لكنت قد أنقذته من علاقة لا يستطيع هو نفسه أن يسامح نفسه عليها - لقد قال إنه يستطيع أن يخبرني لكن لا يجوز لأن هذا سر شخص آخر··· وتساءلت إذا كانت أوجستا تعرف هذه العلاقة، فبدا مرعوبا لتساؤلي",
وعلى أية حال فيبدو أن أنابلا لم تكن تشك في أوجستا وقتها· وبعد ثلاثة أسابيع في (هالنابي هول) عاد العروسان وهما لا يزالان في شهر العسل إلى (سيهام) ليقيما مع أسرة (ميلبانك) · وكيّف بايرون نفسه وأصبح أليفا لكل من حوله بمن فيهم زوجته· وبعد ستة أسابيع بدأ يَحِنّ لمباهج لندن وأصوات أصدقائه· ووافقت (أنابلا) ·
وفي لندن أقاما في مقر فاخر في 13 (بيكادللي تراس Piccadilly Terrace) وبعد يوم من وصولهما أتى (هوبهوس) واستعاد بايرون روحه الفَكِهه· تروي زوجته أنه طوال عشرة أيام كان رقيقا رقة لم أعهدها فيه أبداً من قبل وربما عرفاناً بالجميل أو خوفاً من الوحدة دعت أوجستا لقضاء بعض الوقت معهما· وبالفعل أتت أوجستا في أبريل سنة 1815 وظلت مقيمة معهما حتى يونيو· وفي العشرين من هذا الشهر زار جورج تكنور George Ticknor المؤرخ الأمريكي الذي تخصص في تاريخ الأدب الإسباني عش الزوجية الجديد وأثنى على مسلك بايرون· وفي هذه المناسبة دخل عم (أنابلا) مبتهجا بأخبار يحملها مفادها أن نابليون قد هزم لتوه في واترلو Waterloo، فقال بايرون "لقد كدت أموت كمداً لذلك"·
وواصل بايرون كتابة الشعر· وفي أبريل 1815 اشترك مع مؤلفين يهوديين في إصدار (ألحان عبرية Hebrew Melodies) وقد ألف بايرون كلماتها ووضع اليهوديان ألحانها· وبيع منها عشرة آلاف نسخة رغم أن سعر النسخة كان جنيها إنجليزيا، وأصدر الناشر مري Murray طبعة بالقصائد وحدها (دون الألحان الموسيقية) لاقت أيضا رواجا كبيرا·(ملحق/941)
وفي أكتوبر أنهى بايرون (حصار كورنيث The Siege of Corinth) ، وقدمت ليدي بايرون نسخة واضحة للطابع· لقد قال بايرون لليدي بليسنجتون Blessington: " إن (أنابلا) على درجة كبيرة من الانضباط والتحكم في النفس بشكل لم أر له مثيلا·· وهذا يؤثر فيَّ سلبا "· وكان لديه بعض العذر لنزقه وسرعة استثارته· وقد استأجر بيتا مفروشا غاليا ليقيم فيه مع زوجته وراح ينفق ببذخ في إعادة تأثيثه - كل هذا لأنه افترض أن الثمن الذي سيتقاضاه من بيع بيته في نيوستيد سيكون مرتفعا، لكن الأسعار تدنت في هذه الأثناء ووجد بايرون نفسه محاصراً بكل ما تعنيه الكلمة· وفي نوفمبر سنة 1815 دخل مساعد المأمور البيت المؤثث واحتجز بعض الأثاث وهدد بالمبيت في البيت إلى أن يدفع بايرون ما عليه من ديون (يسدد فواتيره) · وشعر بايرون أن والديْ (أنابلا) الثريين لابد أن يساهما مساهمة أكثر كرما في تكاليف منزل الزوجية الجديد·
وقد طبعت متاعبه أثراً واضحا بسبب ما سببته من مرارة وكآبة· لقد قال لزوجته: "إذا كانت هناك امرأة قادرة على جعل الزواج أمراً محتملاً لي، فهو أنتِ· أعتقد أنك ستظلين تحبينني حتى أضربك", وعندما عبَّرت عن أملها ويقينها أنه سيعرف كيف يحبها، راح يكرر: "هذا متأخر جدا الآن· لو أنّك تزوجتني منذ عامين مضيا ···· لكن قدري هو أن أحطم كل من أقتربُ منه" · وقبل بايرون وظيفة في الهيئة الحكومية لمسرح درورى لين Drury Lane Theatre فاستغرقه الشّراب مع شريدات وآخرون، وكوّن علاقة جنسية مع إحدى الممثلات · ودعت (أنابلا) أخته غير الشقيقة (أوجستا) للقدوم لمعاونتها على ضبطه· وفي 15 نوفمبر 1815 قدمت (أوجستا) ووبخّت أخاها، ووجدت نفسها هي و (أنابلا) ضحايا حنقه وغضبه و"حزنت (أوجستا) كثيرا لحال زوجة أخيها "·(ملحق/942)
وخلال أصعب هذه الشهور حملت ليدي بايرون وفي العاشر من ديسمبر 1815 وضعت أنثى وأسمتها (أوجستا أدا Augusta Ada) وأصبح اسمها بعد ذلك (أدا) وفرح بايرون وسَعِد بالطفلة وبالتالي بزوجته· لقد قال لهوبهوس في هذا الشهر: "إن زوجتي كاملة ·· إنها الكمال نفسه· إنها أفضل مخلوق يتنفس ·· لكن نفسي ترفض الزواج" وسرعان ما عاودته نوبات الغضب بعد مولد (أدا) وفي إحدى نوبات غضبه قذف في نار المدفأة ساعة ثمينة كانت معه منذ صباه ثم كسرها بالقضيب المعدني الذي يحرّك به وقود المدفئة، وفي 3 يناير 1816 - على وفق ما قالته (أنابلا) لأبيها - "دخل بايرون غرفتها وتحدث بعنف ظاهر عن علاقته الجنسية بإحدى نساء المسرح"· وفي 8 يناير استدعت الدكتور متّى بيلي Matthew Baillie لفحص بايرون، فأتي وفحص الشاعر الحبيس، ومال إلى وصف الأفيون له·
وكان من الواضح أن بايرون موافق على ضرورة ذهاب (أنابلا) مع طفلها لتقيم مع أمها ليدي (ميلبانك) وكان اسم أسرتها قبل زواجها هو نول Noel - المقيمة في عقارات نول Noel في كيركبى Kirkby في ليسسترشير وفي بكور، الخامس عشر من شهر يناير غادرت مع (أدا) بينما كان بايرون لا يزال نائما· وفي ووبورن Woburn توقفت لترسل له تحذيرا وعظيا، جديرا بالذكر:
بايرون الأعز:
الطفلة على ما يرام وهي أفضل المسافرين· آمال أن تكون صالحا good، وتذكر دعواتي وصلواتي ووصاياي لا تستسلم لحرفة الشعر البغيضة ولا للبراندي (نوع من الخمور) ولا لأي شيء غير شرعي أو شخص لا يكون على جادة الطريق· رغم أنك غير مطيع فدعني أسمع أنك أصبحت مطيعا وأنا في كيركبى ابنتنا (أدا) تحبك · وكذلك أنا·
بيب Pip(ملحق/943)
وكتبت له من (كيركبى) مرة أخرى كتابات فكهة وعاطفية ذاكرة له: "أن والديها يتطلعان لرؤيته"· وفي اليوم نفسه كتبت لأوجستا (التي كانت لا تزال تقيم مع بايرون) تنصحها "بتخفيف اللودانيوم (مستحضر أفيوني) الذي يتناوله بايرون بثلاثة أرباعه ماء"· وبالتدريج أخبرت (أنابلا) والديها كيف كان بايرون يعاملها - ذلك من وجهة نظرها، فَصُدِما وأصرا على انفصالها عنه نهائيا، فاندفعت ليدي (ميلبانك) إلى لندن لمناقشة الطبيب الذي كان يراقب سلوك بايرون، فإذا كان خبل (جنون) بايرون محقَّقا لأمكن إبطال زواجه دون ضرورة الحصول على موافقته· وكتب الطبيب تقريراً ذكر فيه أنه لا يرى علامات الجنون على الشاعر لكنه سمع أنه كانت تنتابه حالات هياج عصبي وأرسلت (أنابلا) تحذيرا لأمها بألا تُدخِل (أوجستا لاي) في الأمر: "لأن (أوجستا) هي أصدق صديقاتي·· وأخشى كثيرا أن تدرك أن كثيرين يؤيدون الانفصال عن بايرون، وسيكون هذا قاسيا بالنسبة إليها"·
وفي الثاني من فبراير سنة 1816 راسل السير (رالف ميلبانك Sir Ralph Milbanke) - والد (أنابلا) - بايرون طالبا منه الانفصال عن ابنته بشكل ودي، فأجابه بايرون متوددا ذاكراً أنه لا يرى سببا لأن تغير زوجة ظلت ترسل إلى وقت قريب رسائل ملؤها الحب موقفها هذا التغيير الكامل· وكتب إلى (أنابلا) متسائلا هل هي حقا موافقة بكامل إرادتها على موقف أبيها· وأصبحت في حالة أسى ومحنة بسبب هذا الخطاب لكن والديها منعاها من كتابة خطاب ترد فيه عليه· وكتبت (أوجستا) إليها طالبة إعادة النظر في الأمر، فأجابتها (أنابلا):
"إنني فقط - أذكر اللورد بايرون بمقته الشديد الذي يفوق الحد للحياة الزوجية· وبرغبته وتصميمه· اللذين عبر عنهما - حتى منذ بداية الزواج - على التخلص من هذا الرباط الذي كان يرى فيه قيدا لا يحتمل".
وفي 12 فبراير ذهب (هوبهوس) ليرى بايرون· وفي الطريق سمع بعض الإشاعات تدور في الأوساط الاجتماعية والأدبية في لندن مفادها عدم إخلاص بايرون لزوجته وفيما يلي نُتفة مما كتبه (هوبهوس) في مذكراته عن هذا اليوم:(ملحق/944)
"رأيت السيدة (لاى Leigh) وجورج بايرون - ابن عم الشاعر - وعلمت منهما ما أخشى أن يكون حقيقة وهو أن بايرون مذنب لطغيانه الشديد، كثير التهديد والوعيد دائم الغضب والثورة، مهمل لزوجته، بل وألحق بها أذى حقيقيا فكان على سبيل المثال يخبرها بأنه كان يعيش مع امرأة أخرى··· لقد كان يغلق الأبواب، ويلوح بالمسدسات ·· وهي أمور ترويها جميعا ليدي بايرون تؤكد إنه مدان (مذنب) - لكنهم يبرئونه - كيف؟ بقولهم انه مجنون···· بينما سمعت هذه الأمور أتت السيدة (لاي) وراحت تقول إن أخاها يصرخ بمرارة في غرفة النوم·· إنه بائس ·· بائس حقا·
الآن وجدت من واجبي أن أخبر بايرون أنني غيرت رأيي··· وعندما أخبرته بما سمعته في الشوارع في هذا اليوم ذهل - لقد كان قد سمع أنه متهم بالقسوة والإغراق في الشراب وعدم الإخلاص لزوجته· لقد ذكرت له كثيرا مما سمعته في الصباح - فاهتاج هياجا هائلا وقال إنه محطم وإنه سيحطم رأس نفسه·· وكان أحيانا يقول: وحتى لو أحبتني ذات مرة، وفي أوقات أخرى كان يقول إنه سعيد للتخلص من مثل هذه المرأة - وقال: لو أنني غادرت البلاد لانفصلت عنها فورا" ·
وفي نحو هذه الفترة تلقى بايرون فاتورة مطلوباً سدادها بمبلغ ألفي جنيه ثمنا للمركبة الكبيرة التي كان قد اشتراها له ولزوجته· ولم يستطع تسديد الدين فلم يكن معه إلا 150 جنيها، ومع هذا فإنه في نحو 16 فبراير 1816 أرسل مائة جنيه إلى الشاعر كولردج Coleridge وهذا دليل على كرمه الطائش الذي تتسم به شخصيته·(ملحق/945)
وفي 22 فبراير أتت (أنابلا) إلى لندن وذكرت للدكتور (ستيفن لوشينجتون Stephen Lushington) أن الانفصال عن بايرون أصبح ضروريا بناء على تقريره عن حالة بايرون· وفي هذا الأسبوع سرت إشاعات ذكرت السيدة لاي Leigh وبايرون المتهم باللواط، أو العلاقة الجنسية غير السوية، وهنا أدرك بايرون أن الاستمرار في رفضه الانفصال بهدوء عن زوجته قد يؤدي إلى إجراء قضائي تتعرض فيه (أوجستا) لتدمير سمعتها· وفي 9 مارس وافق على الانفصال وعرض التخلي عن كل حقوقه في ثروة زوجته التي كانت تتيح للزوجين ألف جنيه في السنة· لكنها وافقت على حصوله على هذا المبلغ سنويا ووعدت علانية بتجديد صداقتها مع (أوجستا) وأوفت بوعدها، كما أنها لم تطلب الطلاق·
وسرعان ما ألف بعد الانفصال قصيدة أرسلها إليها:
رحيلك حَسناً، وإن للأبد
ما زالَ رحيلك حَسناً
- Fare thee well, and if for ever.
- Still fare thee well.
وواساه في إخفاق زواجه جماعة من أصدقائه أتوا إليه هم: هوبهوس، سكروب ديفز، لاي هنت، صامويل روجرز، لورد هولاند، بنيامين كونستانت Hobhouse, Scrope Davies, Leigh Hunt, Samuel Rogers, Lord Holland, Benjamin Constant · وحملت له ربيبة جودوين (ابنة زوجة جودوين Godwin) - كلير Claire كلمة إعجاب من الشاعر المنافس بيرسي شيلي Shelley وعرضت نفسها عليه لتكون بلسماً لجراحه· وقبل عرضها مفتتحاً بذلك سلسلة جديدة من الأحزان· وفي 25 أبريل 1816 أبحر مع ثلاثة من الخدم وطبيبه الخاص قاصدا أوستند ولم يرى إنجلترا بعد ذلك·(ملحق/946)
5 - شباب شيلي: من 1792 - 1811 م
THE YOUTH OF SHELLEY
كان بيرسي Percy معجباً بجده - السير بيشي شيلي Sir Bysshe Shelley لأنه تصرف بشكل جيد جدا مع زوجاته الثلاث وأكثر من هذا فقد كان ملحداً كامل الإلحاد وشيد كل آماله على إبطال العقيدة (المفهوم المسيحي) واتخذ بيشي اسمه غير المعتاد بين المسيحيين من اسم جدته لأمه قبل أن تتزوج أي قبل أن تحمل اسم زوجها· وكان له شجرة نسب طويلة (مثل بايرون) تعود إلى أيام الفتح النورماندي Norman Conquest وفي هذه السلالة المميزة تم إعدام واحد لتأييده ريتشارد الثاني، وتم إعدام آخر لاشتراكه في مؤامرة لقتل إليزابيث الأولى·
وقد أغوى بيشي زوجته الثانية فهرب معها بعد أن تركت زوجها، وماتت عنده، فأغوى امرأة أخرى وهرب معها، وكانت تعود في نسبها إلى السير فيليب سدني وقد تضخمت ثروتها فزادت ثروة زوجها فساعده ذلك على الوصول إلى البارونية في سنة 1806، وعاش إلى أن بلغ الثالثة والثمانين من عمره مما جعله عبئا على أبنائه الذين كان أكبرهم (تيموثي شيلي Timothy Shelley) الذي تخرج في أكسفورد وأصبح عضوا في البرلمان حيث اتخذ اتجاه حزب الهويجز (الأحرار) · وفي سنة 1791 تزوج من إليزابيث بلفولد Elizabeth Pilfold ذات الجمال الرائع والطباع الطيبة وشيء من أللا أدرية agnosticism وقد ظهرت هذه الصفات جميعاً مرةً أخرى في ابنها الأكبر·
وُلد بيرسي بيشي شيلي في 4 أغسطس 1792 في أحد عقارات الأسرة المعروف باسم فيلد بلاس (الترجمة الحرفية تعني مكان الحقل) - وهو بيت رحب بالقرب من (هورشام Horsham) بالقرب من سوزكس Sussex· وأنجبت أمه بعده أربع بنات وبعد ذلك بمدة طويلة أنجبت له أخا· ونشأ بيرسي بين أخواته فأخذ منهن شيئا من الرقة والخيال وسرعة الاستثارة، وكون مع أخته الكبرى علاقة حميمة·(ملحق/947)
وفي (إتون Eton) عانى كربا شديدا بسبب إلزامه بخدمة تلاميذ أكبر منه، وعزف عن كل أنواع الرياضة إلا التجديف ومن سوء الطالع أنه لم يتعلم السباحة أبدا، وسرعان ما نبغ في اللغة اللاتينية فراح يساعد زملاءه في دروسهم فرد لهم بذلك الكيل بتنمرهم له في مجالات أخرى· وكانت قراءاته الإضافية (الخارجة عن المقرر الدراسي) تضم كثيرا من الحكايات والأمور الغامضة والمرعبة، لكنه أيضا استساغ مادية لكريشيوس Lucretius في كتابه " De rerum natura" وكتاب بليني Pliny في العلوم - "التاريخ الطبيعي Natural History" وتفاؤل كوندورسيه في كتابه: " Sketch of a tableau of the Progress of Human Mind" وكتاب جودوين الذي يفلسف الفوضوية (إلغاء الحكومة) والذي جعل له عنوانا هو:
(البحث عن العدالة السياسية Enquiry Concerning Political Justice)
لقد كتب في وقت لاحق: "أن هذا الكتاب قد فتح عقلي على آراء جديدة ورحبة· لقد أثر في شخصيتي· لقد أصبحت بعد دراسته بإمعان، أفضل وأكثر حكمة··· لقد آمنت أن عليَّ واجبات لا بد أن أؤديها" ·
وخلال الإجازة وقع في حب قريبة لم تتجاوز ستة عشر ربيعا· إنها هاريت جروف Harriet Grove التي كانت تزور أسرته في (فيلد بلاس Field Place) كثيرا· وبدأا يتبادلان الرسائل الحارة حتى إنهما في سنة 1809 تعاهدا على الإخلاص الأبدي· لكنه اعترف لها بشكه في الرب، فأظهرت خطابه المنطوي على منحى لا أدري لأبيها فنصحها ألا ترتبط به (أن تتركه بلا هدف) وعندما نقلت هاريت في يناير سنة 1811 تعهدها بالإخلاص الأبدي له إلى وليم هلير William Helyer، كتب شيلي لصديقه توماس جيفرسون هوج خطابا جديرا بأن يكون على لسان أبطال بايرون القساة:
"إنها لم تعد لي· إنها تمقتني مقتا شديداً كربوني (مؤمن بالله دون الإيمان بأديان منزلة deist) مع أنها كانت تؤمن الإيمان نفسه قبل ذلك· آه! آه أيتها الديانة المسيحية كيف أغفر هذا الاضطهاد القاسي، عسى أن يدمرني الرب (إن كان للرب وجود) ·· هل الانتحار خطأ؟ لقد نمت ومعي مسدس محشو وبعض السم ليلة البارحة، لكنني لم أمت" ·(ملحق/948)
وفي هذه الأثناء (1810) كان قد انتقل من (إتون Eton) إلى الكلية الجامعية في أكسفورد· وتجنب هناك الإفراط في العلاقات الجنسية - فيما عدا ليلة أو ليلتين مارس فيهما الجنس على سبيل التجريب، وكانت العلاقات الجنسية تبدو لمعظم الطلبة الذين لم يتخرجوا بعد أمرا لازما دالا على الرجولة· وكان يستمع بين الحين والحين إلى محاضرات يلقيها الأساتذة والعمداء الذين لم يكونوا يتفوقون عليه في اللاتينية واليونانية سوى بخطوة واحدة وسرعان ما راح يؤلف الشعر باللاتينية ولم ينس أبدا إيسخيلوس Aeschylus · وكان مقر إقامته غاصا بالكتب المبعثرة والمخطوطات والتعويذات غير الواضحة الواردة في كتب العلم القديمة (في الكتب العلمية قبل نضوجها) ·
لقد كاد يملأ غرفته عند إجرائه لإحدى التجارب لقد كان يؤمن بقدرة العلم على صياغة الكون والإنسان· ولم يكن يهتم بالتاريخ فقد كان يؤمن بما قاله فولتير وجيبون Gibbon من أن التاريخ هو في الأساس سجل لجرائم البشر وغبائهم، ومع هذا فقد قرأ كتابات هذين المؤلفين المتشككين بشغف· وقد ظن أنه وجد حلا لسر الكون عند لكريشيوس والمثقفين الآخرين، فحركة الذرات atoms لابد أن تحكمها قوانين، ثم اكتشف سبينوزا Spinoza وفسره شارحاً أنه يؤمن بجوهرين وحيدين: المادة matter والعقل mind ( النفس) باعتبارهما جانبين لجوهر مقدس واحد - فشيء كالعقل (النفس) يسري في المادة، وشيء من المادة يغطي العقل (النفس) ·(ملحق/949)
لقد كان يقرأ بشغف، وقد وصفه رفيق دراسته هوج بأن: "كتابا في يده طوال الوقت - إنه يقرأ ·· وهو جالس إلى المائدة، وهو في السرير، بل وفي أثناء المشي خاصة ··· لم يكن هذا في أكسفورد فقط، وإنما في الطريق السريعة بل وفي أكثر مناطق لندن ازدحاما···· لم تقع عيناي على من يلتهم الصفحات التهاما بشراهه أكثر منه · وكان يعتبر تناول الطعام مضيعة للوقت إذا لم يكن مصحوبا بالقراءة، وكان يفضل أبسط أنواع الطعام، ولم يكن قد أصبح نباتيا بعد ومع هذا فقد كانت وجبة من الخبز والزبيب تبدو له متوازنة· وعلى أية حال فإنه كان مولعاً بما هو حلو، وكان يفضل عسل النحل على خبز الزنجبيل وكان يحب أن يخلط ماء الشرب بالنبيذ · وقد وصف في أيام أكسفورد بأنه طويل نحيل، حزمة منحنية من الأعصاب والنظريات والبراهين، غير مهتم بملبسه وغير مرجل لشعره، يترك قميصه مفتوحا من عند الرقبة يكاد يكون وجهه ذا ملامح أنثوية· عيناه متألقتان لكنهما غير مستقرتين وطباعه حادة لكنها ودودة، وكان كشاعر ذا أعصاب حساسة، دافئ المشاعر، مستسلما للأفكار الغامضة التي لم تتبلور بعد لكنه كان ينفر من التاريخ"·
وكان كالشعراء يركز على الحرية الفردية ويشك في القيود الاجتماعية وقد ذكر هوج Hogg أن الليالي في غرفة شيلي كانت رائعة عندما كانا يقرآن الشعر والفلسفة معاً ويدحضان القوانين والعقائد ويظلان يتبادلان الأفكار حتى الساعة الثانية صباحا ويتفقان - قبل كل شيء - على مسألة أساسية هي أن الرب God لا وجود له·(ملحق/950)
وقد أعد المتمردان الشابان مؤلفا عن هذا الموضوع جعلا له عنوانا هو (ضرورة الإلحاد The necessity of Atheism) وكان هذا المصطلح Atheism ( تستخدم القواميس المتداولة إنجليزي عربي، كلمه إلحاد كمعنى لهذا المصطلح)، وكان هذا المصطلح ممنوع الاستخدام في المجتمع المهذب، فقد كان الشكاكون المهذبون يطلقون على أنفسهم deists أي الربانيين أو الربوبيين أي المؤمنين بوجود إله مع عدم إيمانهم بالأديان (المفهوم هنا كما هو واضح عدم إيمانهم بالمسيحية) وكانوا يتحدثون باحترام عن الله God كموجود لا يمكن معرفة طبيعته، كموجود في الطبيعة وهو حياتها - أي الطبيعة - والروح السارية فيها، وهو موجود غير مشخص Spirit ( روحاني) ·
وقد اعتنق شيلي في وقت لاحق أفكارهم، لكن عند صدور الكتاب الذي نتحدث عنه كان شيلي وزميله في مرحلة الشباب وكانا لا يقدران عواقب الأمور ففضلا استخدام لفظ Atheists ليطلقاه على نفسيهما متحدين بذلك كل ما هو طابو taboo ( أي محرم) ولجذب الانتباه· وقد كانت الحجج التي ساقاها هي أنه لا الحواس ولا العقل ولا التاريخ تثبت وجود الرب فالحواس لا تدلنا إلا على المادة في حركتها على وفق قانون، والعقل يرفض الفكرة - فكرة وجود خالق واحد خلق الكون من لا شيء· والتاريخ لا يقدم مثلاً واحداً لفعل إلهي ولا لشخص إلهي ظهر على الأرض· ولم يوقع المؤلفان باسميهما لكنهما نسبا الكتاب على صفحة العنوان إلى ملحد، ألحد لنقص البراهين على وجود الرب·
واحتوى مطبوع جامعة أكسفورد وسيتي هيرالد Oxford university and City Herald إعلانا عن هذا الكتيب في 9 فبراير سنة 1811 وظهر الكتيب فعلا في 31 فبراير، ووضع شيلي على الفور نسخا منه في مدخل مكتبة بيع الكتب في أكسفورد، ورآه جون ووكر John Walker الإكليريكي الموقر فطلب من البائع تدمير كل النسخ وبالفعل تم هذا· وفي هذه الأثناء أرسل شيلي نسخاً إلى كثير من الأساقفة وكثير من الشخصيات المرموقة في الجامعة ·(ملحق/951)
وأحضر واحد من هؤلاء الكتيب (النشرة) إلى عميد الكلية الجامعية وأساتذتها فاستدعوا شيلي للمثول أمامهم في 25 مارس، فمثل أمامهم فسألوه عن مؤلف الكتيب فرفض الإجابة ودعا لحرية الفكر وحرية الكتابة، فطلبوا منه مغادرة أكسفورد في الصباح التالي، وعندما سمع هوج Hogg بذلك اعترف أنه شاركه في تأليف الكتيب وطلب أن يطبقوا عليه العقاب نفسه الذي طبقوه على شيلي، وقد كان· وبعد الظهر ظهر في نشرة الكلية أن شيلي، وهوج قد فصلا لتمردهما برفضهما الإجابة عن بعض الأسئلة الموجهة إليهما وأرسل العميد - بشكل شخصي إلى شيلي ذاكرا له أنه إذا تعذر عليه الرحيل (مغادرة أكسفورد) خلال هذه الفترة الوجيزة فإنه - أي العميد - يمكنه السماح له بالبقاء لأيام قليلة إن قدم طلبا بذلك، وتجاهل شيلي الرسالة وغادر ومعه هوج في 26 مارس في أعلى مركبة قاصدين لندن·
6 - التطور الأول: شيلي 1811 - 1812 م
استأجر شيلي وهوج مسكنا في 15 شارع بولاند Poland وأتى والد شيلي - الذي كان في لندن لحضور جلسات البرلمان - إليهما وطلب منهما التراجع عن آرائهما فلما وجد ابنه متمسكا بموقفه أمره بالانفصال عن هوج لما له من تأثير شرير عليه وأن يعود إلى بيت الأسرة ويمكن هناك في رعاية شخص سيعينه الأب وعليه الاستماع لتعاليمه وتوجيهاته، ورفض شيلي فتركهما الأب غاضبا يائسا· لقد اعترف بقدرات شيلي وكان يتطلع لتبوئه مكانا مرموقاً في البرلمان· وترك هوج لندن قاصدا يورك لدراسة القانون وسرعان ما نفد ما كان مع شيلي من مال وراحت أخواته اللاتي كن يدرسن في مدرسة مسز فننج Mrs. Fenning's School في محافظة (دائرة) كلافام Clapham يرسلن له ما يحصلن عليه من مصروف· وفي شهر مايو رق قلب أبيه فسمح له بمئتي جنيه إسترليني في العام·(ملحق/952)
وكان من بين زميلات أخواته في (كلافام) فتاة في السادسة عشرة من عمرها هي هاريت وستبروك Harriet Westbrook، وهي ابنة مالك ثري لحانة في ميدان جروسفينور Grosvenor Square · وعندما التقت ببيرسي فتنت بنسبه وبراعته في اللغة واتساع دائرة دراساته وسحر آرائه الفاتنة، وسرعان ما آمنت مثله أن الرب قد مات وأن القوانين إزعاج غير ضروري· وقرأت بشغف النصوص الثائرة التي أعارها إياها، والكلاسيكيات المترجمة التي تعكس حضارة رائعة، لم تسمع أبداً أن المسيح أتى بمثلها· ودعته لبيتها·
وكتب شيلي إلى هوج في مايو سنة 1811 إنني أقضي معظم وقتي في منزل الآنسة وستبروك إنها تقرأ المعجم الفلسفي لفولتير Dictionnaire Philosophique وعندما اكتشفت زميلاتها أن صديقها ملحد atheist قاطعنها باعتبارها قد شمت بالفعل ريح جهنم وعندما ضبط معها خطاب منه تم فصلها· وفي بدايات شهر أغسطس كتب شيلي إلى هوج:
"أبوها يضطهدها بشكل مرعب لإجبارها على الذهاب إلى المدرسة لقد طلبت نصيحتي، فنصحتها بالمقاومة وحاولت في الوقت نفسه أن أطوع السيد وستبروك، لكن دون جدوى! ونتيجة نصيحتي لها جعلت حمايتها على كاهلي". ثم تناول نتائج هذا فقال في خطابه "لقد أصبحت أخيرا مرتبطة بي وخائفة ألا أبادلها موقفها··· من غير الممكن أن أبتعد عن إنسانة لها مثل هذه المشاعر، لقد قررت أن أربط مصيري بمصيرها",
ومن الواضح أنه عرض عليها الارتباط بعلاقات حب حرة لكنها رفضت فلما اقترح عليها الزواج وافقت لكن والدها رفض·
وفي 25 أغسطس هرب العاشقان واستقلتهما مركبة إلى ادنبره وتزوجا على وفق طقوس الكنيسة الاسكتلندية في 28 أغسطس 1811 واستسلم أبوها للأمر الواقع وخصص لها مبلغاً سنويا مقداره 200 جنيه· وأتت أختها الكبرى إليزا Eliza لتعيش معها في يورك (اعترف شيلي أنه كان صفر اليدين) وكان شيلي ينفق من ميزانية الأسرة، وذكر أن: "إليزا كانت تحتفظ بالميزانية المشتركة في أحد جيوبها لتخرج منها عند الطلب" ولم يكن شيلي سعيدا تماما بالإشراف المالي لإليزا لكنه كان يجد عزاءه في مرونة هاريت وانصياعها له· لقد كتب في وقت لاحق إلى جودوين: "إن زوجتي تشاركني أفكاري ومشاعري"·(ملحق/953)
ومكثت هاريت وإليزا - غير بعيدتين عن هوج - في يورك، بينما ذهب شيلي إلى لندن ليلين من عريكة والده الذي كان قد أوقف دعمه المالي له بعد أن سمع بزواجه من هاريت، وبعد أن تودد الشاعر إليه عاد فسمح به لكنه منعه (أي منع ابنه) من دخول منزل الأسرة، وعاد شيلي إلى يورك ووجد "أن صديقه العزيز هوج كان قد حاول اغتصاب زوجته هاريت"· إنها لم تقل لزوجها شيئا عن هذه المحاولة لكن هوج هو الذي اعترف وطلب الغفران ورحل·
وفي نوفمبر غادر الثلاثة (الشاعر وإليزا وهاريت) إلى كزويك Keswick حيث تعرف شيلي على الشاعر سوثي Southey الذي كتب في 4 يناير 1812: "يوجد هنا رجل هو مثل قرين لي· إنه كشبحي· إنه يشبهني تماما عندما كنت في سنة 1794 ·· لقد قلت له إن الفرق الوحيد بيننا أنه في التاسعة عشرة من عمره وأنا في السابعة والثلاثين", ووجد شيلي أن سوثي شخص لطيف وكريم وراح يقرأ شعره بلذة· وبعد ذلك بأيام قلائل كتب: "إن سوثي يفكر بطريقة أسمى من الطريقة التي أفكر بها·· ولابد أن أعترف أنني عندما أراه في أسرته يبدو أكثر ما يكون سناء وبهاء··· كيف أزعجه العالم وأفسدته العادات، إن قلبي يتمزق عندما أفكر فيما آل إليه"·
ووجد بعض التسلية والمتعة عند قراءة كتاب جودوين (العدالة السياسية) · وعندما علم أن هذا المؤلف الذي كان ذات يوم فيلسوفا مشهورا أصبح يعيش الآن فقيرا في الظل، كتب خطاب إعجاب:
"لقد سجلت اسمك في قائمة العظماء الذين وافتهم المنية· لقد شعرت بالأسف لأن عظمة وجودك قد فارقت عالمنا الأرضي· ولم يكن الأمر كذلك· فأنت ستظل حيا وإنني أعتقد جازما أنك تخطط لرفاهية الجنس البشري· إنني لم أدخل إلا لتوي في معترك التفاعلات البشرية ومع هذا فمشاعري وتفكيري تواصلا مع مشاعرك وأفكارك·· إنني شاب وشغوف بقضايا الفلسفة والحقيقة·· عندما آتي إلى لندن سأبحث عنك· إنني مقتنع أنني أستطيع المثول أمامك مع أنني غير جدير بصداقتك·
وداعا· سأكون متشوقا لتلقي إجابتك·
وفقد رد جودوين Godwin، لكن يمكننا الحكم على فحواه من خطابه المؤرخ في مارس 1812:(ملحق/954)
"على قدر ما أستطيع التغلغل في شخصيتك فإنني مقتنع أن فيك جملة من الصفات الحميدة بشكل غير عادي، وإن كانت لا تخلو من بعض العيوب· وهذه العيوب تحدث دوما وبشكل أساسي نتيجة كونك لازلت صغيرا جدا، وأنك لست مقتنعا قناعة كافية بهذا ونصح شيلي ألا ينشر كل ما يعن له، وإن نشر شيئا من هذا النوع ألا يضع اسمه عليه فحياة الإنسان الذي ينشر ويوقع ستكون سلسلة من التراجعات"·
وكان شيلي بالفعل يطبق هذا بالاحتفاظ بمخطوطات مؤلفاته أو يطبعها طبعات خاصة (محدودة) وأول مؤلفاته المهمة ( Queen Mab) :
" كنت قد كتبتها وأنا في الثامنة عشرة من عمري - وأجرؤ على القول أنني كتبتها بحماس كاف وروح عاليه - لكنني··· لم أكن أنوي نشرها" وفي سنة 1810 كان لا يزال مولعا بالمثقفين والمفكرين الفرنسيين لقد قدم لقصيدته ( Queen Mab) بشعار فولتير الغاضب Ecrasez l'infame! واستعار أفكارا كثيرة من كتاب فولني:
Volney's Les Ruines, ou Meditations sur les revolutions des Empires (1791)
في مطلع القصيدة الآنف ذكرها نجد يانث Ianthe العذراء نائمة· وفي الحلم نجد الملكة ماب (وهي جنية) تهبط عليها من السماء وتصعد بها إلى النجوم وتطلب منها أن تتأمل من هذا المنظور ماضي الأرض وحاضرها ومستقبلها فمرت أمام عينيها إمبراطوريات الماضي متتابعة - مصر وتدمر واليهودية والإغريق والرومان··· وعند الانتقال إلى الحاضر صورت الملكة ماب ملكاً (من الواضح أن المقصود هو الوصي على العرش) هو في الحقيقة عبد لنهمه الشديد ودهشت لأن أحدا من البؤساء الذين يجوّعهم بينما هو متخم لم يرفع ذراعه للإطاحة به من فوق عرشه· فأطلقت حكمها الذي أصبح الآن مشهورا:
- الرجل
- ذو الروح الفاضلة العفيفة لا يأمر ولا يؤمر
- فالسلطة كالطاعون المدمر،
- تلوث كل ما تمسه·(ملحق/955)
وكانت الملكة ماب تكره أيضا التجارة وتكره آدم سميث: إن اتساق وسعادة شخص يستسلم لثروة الأمم يتمثلان في أن كل شيء للبيع حتى الحب · وصورت لها أيضا إحراق ملحد مما أرعب البكر يانث فواستها الملكة بأن أكدت لها أنه لا وجود لله There's no God ودخل أهاسويروس Ahasuerus اليهودي الجوال وراح يوبخ الله God كما ورد في سفر التكوين (السفر الأول من التوراة) لأنه عاقب بليون رجل وامرأة وطفل عبر آلاف السنين من أجل خطيئة غير مفهومة (خطيئة غامضة) ارتكبتها امرأة واحدة · (ربما وجد بايرون هنا أفكار أوحت له عمله قابيل Cain، وكان شيلي قد أرسل بصفة شخصية نسخة من عمله - ملكة ماب) · وأخيرا صورت الملكة ماب (الجنية) مستقبلا زاهرا: الحب بلا قانون· السجون خالية ولا لزوم لها· لا بغاء· الموت بلا ألم· وعندئذ أمرت يانث بالعودة إلى الأرض لتبشر بإنجيل الحب العالمي، وكان لديها إيمان غير واهن بانتصار هذا الحب· واستيقظت يانث ·
إنها قصيدة قوية رغم فكرها الصبياني ورغم أسلوبها عالي النبرة في بعض المواضع (المقصود الأسلوب المنمق أو الطنان رغم بساطة المعنى) · وعلى أية حال فقد كان هذا عملا لافتا للنظر لفتى في الثامنة عشرة من عمره· وعندما تم نشر (الملكة ماب) في سنة 1821 دون موافقة الشاعر رحب بها الراديكاليون في إنجلترا باعتبارها تمثل حلمهم وخلال عشرين عاما ظهرت منها أربع عشرة طبعة غير مرخص بها·
وبعد أن مكث شيلي وهاريت في أيرلندا (فبراير - مارس 1812) حيث عمل ببطولة محايدة لصالح قضايا الكاثوليكية والبروليتاريا، انتقل إلى ويلز· وهناك فجع وزوجته بمناظر الفقر السائدة فاتجها إلى لندن ليؤسسا صندوقا لجمع الأموال لصالح أهل ويلز· وانتهز هذه الفرصة لتقديم احترامه لجودوين الذي سره أن تتزاور أسرتاهما كثيرا· وبعد زيارات قصيرة متكررة لأيرلندا وويلز استقر الزوجان الشابان (شيلي وهاريت) في لندن· وهناك أعاد شيلي وهاريت مراسم زواجهما على وفق طقوس كنيسة إنجلترا ليضمنا شرعية أي ابن يرزقانه ليكون وريثا شرعيا، وكان هذا في 24 مارس سنة 1814· وكان شيلي قبل ذلك ببعض الوقت قد كتب لها قصيدة يجدد فيها حبه وعهده بمناسبة عيد ميلادها:(ملحق/956)
- هاريت، دعي الموت يدمر كل الروابط الزائلة،
- أما رباطنا فلن يتمزق أبدا،
- فالفضيلة والحب، راسخان صامدان
- وكذا الحرية والإخلاص والنقاء،
- فروحي مكرسة لك في هذه الحياة·
7 - التطور الثاني: شيلي 1812 - 1816 م
بدا شيلي خلال كل جولاته لا يفكر في تدبير مورد رزق له· ربما كان يشارك وردزورث نظرته في أن الشعر لا شريك له وأنه لا بد من إعفاء الشاعر من العمل أو الاهتمامات التي قد تخنق الشعر في دمه· ولم يكن يرى تناقضا بين دعوته للمساواة في الحقوق في ظل جمهورية وجهوده في الحصول على نصيبه من الثروة التي وقفها جده على أبيه· وقد أضاف إلى المبلغ السنوي الذي خصصه له والداه مبلغاً آخر فقد باع للمرابين حقه الذي سيحصل عليه بعد وفاة والده، ففي سنة 1813 تقاضى 600 جنيه نقدا مقابل تنازله عن ألفي جنيه من ميراثه المتوقع·
وربما شجع المرابين على ذلك هشاشة بنيانه، والأمراض التي كانت تعاوده دوما· فالآلام الدائمة التي كانت تعتري جنبه الأيسر (كما ذكرت زوجته الثانية) كانت تؤثر في أعصابه فتحيله حساساً حساسية شديدة، وتجعل نظرته للحياة مختلفة عن نظرة إنسان سليم الصحة· لقد كان يعاني من الاضطراب والقلق إلى حد كبير وكان أقرب ما يكون إلى الاستثارة وكانت قدرته على التحمل دوما يتسع مداها، حتى يكون لطيفا مع الآخرين متذرعاً بالصبر ·
وظن أن بمقدوره تخفيف آلامه بتناول وجبات نباتية، وتمسك بهذا الأمل بناء على تجارب وصفها جون نيوتن في كتابه عودة للطبيعة أو دفاع عن الرجيم النباتي (1811) · وثبت على هذه الفكرة فأصبح هو وهاريت نباتيين في سنة 1812· وفي سنة 1813 تحمس لما أسمته زوجته (النظام الفيثاغورسي) فأقحمه في تعليقاته على قصيدة (الملكة ماب) ودعا إليه:(ملحق/957)
"إنني أناشد كل الذين يحبون السعادة والحقيقة أن يجربوا بشكل مناسب النظام النباتي (الاكتفاء بأكل ما هو نباتي) ·· إنني أدعوهم لهذا بحق ما هو مقدس في آمالنا لصالح الجنس البشري··· فالوجبات النباتية والماء النقي لا تسببان أمراضاً بدنية أو عقلية (نفسية)، بل إنه لا يوجد مرض إلا ويسكنه هذا العلاج الناجع (الماء والنبات) فيتحول الضعف إلى قوة ويتحول المرض إلى صحة"·
وفي مطبوع (الدفاع عن الوجبات الطبيعية Vindication of Natural Diet) (1813) عزا الدوافع الشريرة للبشر ومعظم الحروب للوجبات التي تحتوي على لحوم ودعا إلى ترك التجارة والصناعة والعودة للزراعة:
"عندما نأخذ بالنظام الطبيعي لن نكون بحاجة إلى بهار الهند ولا نبيذ البرتغال وإسبانيا وفرنسا وماديرا Madeira ···· إن روح الأمة التي ستبادر بقيادة هذا الإصلاح العظيم ستصبح - لا إرادياً - زراعية· فالتجارة بكل آثامها وأنانيتها ستنهار تدريجيا، ومزيد من العادات الطبيعية سيتمخض عنها طباع أكثر دماثة"·
وأدت ظروف غريبة متتابعة نتجت عن نباتيته (مذهبه في الاقتصار على تناول ما هو نباتي) إلى دمار زواجه الأول· فبسبب إعجابه بجون نيوتن قابل أخت زوجته (أي أخت زوجة جون نيوتن) السيدة جون بوينتون John Boynton النباتية الجمهورية، الجذابة رغم شعرها الأبيض، والقادرة على إجراء مناقشات تنم عن علم وثقافة بالغتين·
وفي يونيو سنة 1813 وضعت هاريت Harriet مولودة جميلة أسماها شيلي (يانث Ianthe) وفي هذا الصيف انتقل بزوجته وابنته والأخت إليزا إلى براكنل Bracknell وهو مكان جميل يبعد عن لندن بثلاثين ميلا· وبعد ذلك بفترة يسيرة استأجرت السيدة بوينتون منزلاً هناك وجمعت حولها المهاجرين الفرنسيين (الذين تركوا فرنسا بسبب الثورة الفرنسية) والراديكاليين الإنجليز الذين كانت آراؤهم في الحكم والتشريع تعجب شيلي· وزادت فترات افتراقه عن هاريت وابنته يانث وإليزا Eliza فقد كان يذهب للاستمتاع بصحبة السيدة بوينتون وأصدقائها وابنتها المتزوجة·(ملحق/958)
ولم تعد علاقته بزوجته حميمة تماما كما كانت إذ يعدو أنه بدأ يشعر بشيء من التأخر في تطورها الفكري، كما أنها راحت تنشغل بابنتها انشغالا شديدا، ولم تعد تهتم بالسياسة بل راحت تهتم كثيرا بالمسرات والملابس الجميلة، وقد اشترى من أجلها عربة غالية الثمن، وفي هذه الفترة الحرجة تلقى في 26 مايو 1813 من والده ما يفيد أنه (شيلي) إذا لم يتراجع عن إلحاده atheism ويعتذر لعميد كليته في أكسفورد، فإنه (أي الوالد) سيحرمه من الميراث ويمنع عنه كل مساعدة مالية وكان شيلي قد استدان مقدماً على حساب الثروة التي ستأتيه بعد ذلك (استدان في 4 أغسطس1813) وذعرت هاريت وأختها إليزا· أحقا لا تستحق باريس إقامة قداس؟! (المقصود أن هذه الأحوال ومثلها مبرر كاف لقيام الثورة الفرنسية)
ورفض شيلي التراجع عن آرائه وواصل سهراته المسائية التي تقيمها السيدة بوينتون· وأرسل جودوين ما يفيد أن دائنيه يهددون بالقبض عليه وطلب المساعدة· وفي يونيو سنة 1814 انتقلت هاريت وابنتها إلى باث Bath متوقعة أن يلحق بها زوجها بسرعة، لكن شيلي ذهب إلى لندن واستأجر غرفة في شارع فليت وحاول أن يجمع مالاً لصالح جودوين وكان غالبا ما يتناول غداءه على مائدة هذا الفيلسوف في شارع سكينر Skinner، وهناك التقى بماري جودوين(ملحق/959)
لقد كان دفاعها عن حقوق المرأة دفاعا طيبا لكن لم يلق قبولا على نطاق واسع، وكان شبابها الغض وعقلها النشيط· ووجهها الشاحب المفكر وإعجابها الذي لم ينته بشيلي - كبيرا جدا بالنسبة لشاعر لازال شابا في الحادية والعشرين من عمره· ومرة أخرى اختلطت الشفقة بالرغبة· وكان طالما سمع عن ماري ولستونكرافت Mary Wollstonecraft وكتابها المثير للانتباه، وها هي ابنتها التي لم تكن سعيدة بحياتها مع زوجة أبيها القاسية، تذهب كثيرا لتجلس وحيدة بجوار قبر أمها· وهنا شعر شيلي معها بتآلف نفسي وعقلي ووجدها أرقى عقلا وألطف روحا من هاريت، وفي غضون أسبوع بدا له أنه يحس إزاءها بعاطفة قوية لم يألفها من قبل· وفي 6 يوليو طلب من جودوين يد ابنته، واعتبر الفيلسوف المندهش هذا الطلب فسقا منه فمنعه من دخول بيته، ووضع ماري في رعاية زوجته (زوجة أبيها) · وبعد ذلك وجد توماس لف بيكوك Thomas Love Peacock الشاعر يكاد يكون مهتاجا في غرفته بشارع فليت·
"لاشيء كالذي رأيته سبق لي أن قرأته في الحكايات أو التاريخ· لاشيء يقدم صورة أوضح للمفاجأة والعنف وعدم الاستقرار·· والوجد ··· أكثر من الصورة التي وجدته عليها عندما دعاني لآتيه من الريف··· لقد كانت عيناه كالدم وشعره مهوشا وثيابه غير مهندمة·· وأحضر زجاجة من اللودانيوم laudanum ( مستحضر أفيوني) وقال: لن أفارق هذه"·
ورغم كل هذه العراقيل رتب شيلي الأمر ليقابل ماري عند قبر أمها وخفف اعتراضها بأن أخبرها أن هاريت لم تكن مخلصة وأنها كانت تخونه مع المدعو السيد (مستر) ريان Mr. Ryan واستمر لفترة ينكر أبوته للطفل الذي تحمله هاريت في بطنها الآن (في وقت لاحق زعم أنه ابنه) · وأنكرت اتهامه وأيدها أصدقاء شيلي: بيكوك، وهوج، وتريلاوني Peacock, Hogg, Trelawny، ومتعهد نشر كتبه هوكهام Hookham · وقد رفض جودوين في وقت لاحق هذه التهمة · وكتب شيلي إلى هاريت (وكانت لا تزال في باث) وطلب منها القدوم إلى لندن فأتت في 14 يوليو 1814 إلى بيت والدها فزارها الشاعر هناك ووجدها مريضة بشكل خطر، فطلب منها أن توافق على الانفصال عنه لكنها رفضت وعندما عاد إلى غرفته كتب لها خطابا محموما يقترح فيه عليها نوعاً من الاتفاق:(ملحق/960)
يا أعز صديقة:
رغم أنني كنت منهكاً عندما التقينا ورغم أننا سنلتقي غدا في الساعة الثانية عشرة، فإنني لم أستطع منع نفسي من الكتابة لك· لقد أصبحت هادئا وأكثر سعادة بسبب تأكيداتك··· لهذا يا عزيزتي هاريت فإنني أشكرك من أعماق روحي· ربما كان هذا أعظم ما تلقيت من بركة على يديك· لقد كرهت النهار في وضحه وكرهت - بعمق - حتى وجودي· لقد عشت على أمل أن تمنحيني السعادة، والعزاء لما أنا فيه، ولم يخب أملي· إنني أكرر لك (صدقيني فأنا مخلص فيما أقول) أن ارتباطي بك لم تنفك عراه، بل إنني مقتنع أنه قد أصبح أعمق وأكثر ديمومة فهو الآن أقل عرضة لتقلبات الهوى والنزوات· فارتباطنا لم يكن ارتباط هوى ونزوة، بل لقد كانت الصداقة هي أساسه، وعلى هذا الأساس كبرت هذه الصداقة وقويت، فأنت لم تملئي قلبي بمشاعر المعاناة··· ألن أكون أكثر من صديق؟ آه·· سأكون أكثر من أخ، فأنا والد ابنتك الحبيبة لكلينا···
إن أردت الدفع لأصحاب المصارف قبل أن أراك، فإن هوكهام سيعطيك كل الشيكات·
وداعا· أحضري معك طفلتي الحبيبة الحلوة، فلا بد أنني سأكن لها حبا للأبد من أجلك·
المخلص والمحب دوما
پ· ب· شيلي
وروت هاريت الأمور من وجهة نظرها في خطاب إلى كاترين نُوجِنْت Catherine Nugent مؤرّخ في 20 نوفمبر سنة 1814:
··· إن ماري مصرة على اغتصابه··· لقد ألهبت خياله باصطحابه إلى قبر أمها كل يوم وبمداومة الحديث عن أمها حتى أخبرته أخيرا أنها تموت فيه حبا··· فلم لا نعيش جميعا معا؟ هكذا سألته ماري· أنا كأخته وهي كزوجته؟ وكان من الغباء أن اعتقد بإمكان هذا، فأرسل يطلبني ثم أقام في باث Bath· يمكنك تصور شعوري بعد افتضاح هذا الأمر· لقد لازمت الفراش طوال أسبوعين ولم أستطع إنجاز شيء· لقد توسل إليّ أن نعيش··· وها أنا يا صديقتي العزيزة في انتظار أن أضع طفلاً في هذا العام المحزن· وفي الشهر القادم سأكون حبيسة المخاض، ولن يكون قريباً مني·
هـ· شيلي
وقدم لنا جودوين بعض التفاصيل في خطاب أرسله إلى جون تايلور مؤرخ في 27 أغسطس سنة 1814:(ملحق/961)
لقد كنت أثق فيه (أي شيلي) إلى أقصى درجة فقد عرفته سريع التأثر بالمشاعر النبيلة· لقد كان رجلاً متزوجاً عاش بسعادة مع زوجته طوال ثلاث سنين··· وفي 26 يونيو (وكان يوم أحد) اصطحب ماري وأختها جين كليرمونت Jane Clairmont إلى قبر أم ماري··· وهناك يبدو أن فكرة غير تقية راودته· لقد فكر في اغتصابها، فخانني بعد أن ائتمنته، وهجر زوجته··· وفي السادس من يوليو، وكان يوم الأربعاء·· وصل به الجنون حدا جعله يفضي إليّ بما يعتزمه وطلب موافقتي، فتجادلت معه··· فوعدني في لحظة وهو في غاية التأثر بالتخلي عن حبه الآثم·· لكن الاثنين خدعاني، ففي ليلة 27 يوليو هربت ماري وأختها جين من بيتي وفي الصباح وجدت خطابا يخبرانني فيه بفعلتهما·
وكانت جين كليرمونت أختا غير شقيقة لماري فهي ابنة زوجة جودوين الثانية من زوجها السابق· وكان اسمها الأصلي كلارا ماري جين، لكنها كانت تفضل أن ينادوها كلارا ثم أصبح اسمها كلير ( Claire أو Clare) · ولدت في 27 أبريل 1798، وقد بلغت الآن السادسة عشرة من عمرها، وكانت صالحة للزواج بشكل واضح· لقد كانت موهوبة وحساسة ومعتزة بنفسها ولم تكن مرتاحة لسلطة أمها المرعبة وطباعها الثائرة، وكان زوج أمها مفلساً ومنشغلاً بدرجة لم تمكنه من تعويضها بأي قدر من الحب، فطلبت من ماري وشيلي أن يأخذاها معهما· وقد كان، ففي 28 يوليو سنة 1814 هرب ثلاثتهم من لندن إلى دوفر Dover ومنها إلى فرنسا·(ملحق/962)
وفي 20 أغسطس وصلوا إلى لوسيرن Lucerne، فلم يجد شيلي أية رسائل في انتظاره ولم يأته مال من لندن، ولم يكن معه سوى ثمانية وعشرين جنيهاً، فأخبر رفيقتيه وهو حزين بضرورة العودة إلى إنجلترا لتدبير المسائل المالية· فاستقلتهما عربة ثم قارب وأسرعا للشمال، وفي 13 سبتمبر سنة 1814 كانوا - مرة ثانية - في لندن· ومكث طوال اثني عشر شهرا مختبئا من دائنيه، بل واقترض أموالاً أخرى ليطعم نفسه وماري وكلير وجودوين الذي كان لا يزال يرفض رؤيته لكنه رحب بالمساعدة المالية· وفي هذه الأثناء وضعت هاريت مولودها الثاني، وأسمته تشارلز، ووضعت ماري مولودها الأول وليم· وأوت كلير إلى مخدع بايرون· وأخيرا مات جد شاعرنا تاركا ثروة لوالد شيلي الذي أصبح الآن هو السير تيموثي شيلي - تقدر بثمانين ألف جنيه· لقد أصبح شيلي الآن وارثا، لكن والده لم يعترف بذلك · لقد عرض عليه التنازل عن حقوقه مقابل مبلغ سنوي قدره ألف جنيه فوافق، فجعل شيلي مائتين منها كل عام لهاريت، وفي 4 مايو 1816 غادر الشاعر وماري ووليم وكلير مرة أخرى قاصدين دوفر ومنها إلى فرنسا، وكان بايرون - قبلهم بتسعة أيام قد نفض عن قدميه تراب إنجلترا·
8 - إجازة سويسرية: بايرون وشيلي 1816م
اختار شيلي وكذلك بايرون، دون اتفاق سابق، سويسرا لتكون ملاذا لهما، واختارا جنيف لتكون مركزا لنشاطهما· ووصلت جماعة شيلي في 15 مايو واتخذت لها محل إقامة في ضاحية سيشيرون Secheron· أما بايرون وبطانته فاستقلتهما في أوستند Ostend مركبة فخمة كان قد أمر بتشييدها بتكلفة خمسة مائه جنيه على نمط مركبة كان يستخدمها نابليون واستولى عليها أعداؤه في جناب Genappe بعد هزيمته في واترلو· لقد كان بها سرير ومكتبة وكل ما يلزم لتناول الطعام·(ملحق/963)
وقام بايرون بجولة خاصة في أرض المعركة (واترلو) وتفقد ما تخلف عنها، وربما يكون قد ألف في بروكسل هذه الليلة المقاطع الشعرية من 21 إلى 28 وهي المقاطع الأكثر خلودا في النشيد الثالث في (رحلة شيلد هارولد Childe Harold Pilgrimage) وفي 25 مايو وصل إلى فندق دنجلتير d'Angleterre الواقع على بعد ميل إلى الشمال من قلب جنيف، فطلب منه موظف الاستقبال كتابة سنّه فكتب مائة واكتشفت كلير كليرمونت التي كانت مشرفة بمراجعة أسماء الواصلين فأرسلت إليه تواسيه لكبر سنه واقترحت عليه اللقاء·
وفي 27 مايو أتى ليلتقي بشيلي وماري وكلير فكان هذا أول لقاء بين الشاعرين· وكان بايرون قد قرأ (الملكة ماب) فامتدح القدرة الشعرية لكنه صمت تأدبا فيما يتعلق بالجانب السياسي الذي تنطوي عليه، فقد كان من الصعب أن يتوقع من شاب في الرابعة والعشرين أن يفهم فضائل الأرستقراطية - رغم أنهما ربما اتفقا على أهمية التوريث· وأخيرا اعتبر شيلي أن لورد بايرون أرقى منه شعرا·
وفي 4 يوليو استأجر بيتا في مونتاليجر Montallegre التي تبعد عن جنيف بميلين، وتقع على الشاطئ الجنوبي لبحيرة جنيف· في 7 يوليو استأجر بايرون فيلا ديوداتي Diodati التي لا تبعد عن شيلي سوى بمسيرة عشر دقائق، واشتركا معا في استئجار قارب صغير وغالبا ما كانت الأسرتان تبحران فيه معاً في البحيرة كما كانا يقضيان الأمسيات في النقاش والمسامرة في فيلا ديوداتي·
وهناك، في 14 يوليو، اقترح بايرون أن يكتب كل واحد منهم قصة عن الأشباح· وحاول كل منهم وفشلوا إلا ماري التي كانت في التاسعة عشرة من عمرها فقد ألفت واحدة من أشهر الروايات في القرن التاسع عشر· هي:
"فرانكنشتين أو بروميثيوس المعاصر Frankenstein, or the Modern Prometheus"
وتم نشرها في سنة 1818 وكتب شيلي مقدمة لها· وقد طرحت القصة - من بين أمور أخرى كثيرة - قضيتين غاية في الأهمية، ما تزالان محل اهتمام: أيمكن للعلم أن يخلق الحياة؟ وهل يمكنه تسخير قوته لمنع الشر بنفس مقدرته على إزجاء الخير؟(ملحق/964)
واقترح بايرون أيضا أن يقوم هو وشيلي بالطواف بقاربهما المتواضع حول البحيرة وأن يتوقفا عند النقاط التاريخية خاصة التي حققت شهرة بسبب كتاب روسو "هلويز الجديدة" ( Julie, ou La Nouvelle Heloise) ووافق شيلي رغم أنه لم يكن قد تعلم السباحة· وانطلقا في 22 يونيو واستغرق منهما الوصول إلى مليري Meillerie ( في سافوي) يومين، وهناك تطلعا إلى البقعة التي افترق فيها سان - برو Saint - Preux عن جولي (كما ورد في الرواية أي أن هذه الأسماء وردت في الرواية وليس لها بالضرورة حقيقة تاريخية) وحيث - كما هو مفترض - نقش اسمها على الصخر· وواصلا الرحلة فتعرضا لعاصفة مفاجئة وغمرت الأمواج بشكل متكرر مقدمة القارب مهددة بقلبه رأساً على عقب، وقد تذكر بايرون بعد ذلك ما حدث:
"لقد خلعت معطفي وطلبت منه أن يفعل الشيء نفسه وأن يمسك بالمجداف وأخبرته أنني أظن··· أنه يمكنني إنقاذه إذا لم يقاوم إذا أمسكت به··· فأجاب ببرود شديد أنه ليست لديه فكرة عن إمكانية إنقاذه وأن كل ما يمكنني عمله هو إنقاذ نفسي وتوسل ألا يزعجني" ·
واستقر القارب ونزل الشاعران إلى البر واستراحا، وفي صباح اليوم التالي زارا شيلون Chillon والقلعة التي كان فرانسوا دي بونيفار de Bonnevard قد سجن فيها (1530 - 1536)، بأمر من دوق لوزان· وفي كلارنز Clarens كان شيلي يمسك بيده رواية روسو ليسترشد بها - لقد سار الشاعران على الأرض التي أصبحت جديرة بالذكر كمقدس للرومانسية الفرنسية· وفي 27 يونيو وصلا بقاربهما إلى أوشي Ouchy مرفأ لوزان، وفي هذه الليلة كتب بايرون "سجين شيلون Prisoner of Chillon" كما كتب مقاطع شعرية عن روسو في (شيلد هارولد Childe Harold) وفي 28 يوليو زار الشاعران منزلاً في لوزان كتب فيه جيبون كتابه (انهيار الإمبراطورية الرومانية وسقوطها) · وفي أول يوليو عاد الجوالان إلى مونتاليجر وديوداتي· وفي غضون الأسبوعين التاليين كتب بايرون النشيد الثالث في رحلة شيلد هارولد Childe Harold's Pilgrimage ونسخت كلير كليرمونت نسخة منها فقد عرفت الآن إحدى لحظات السعادة القليلة في حياتها·(ملحق/965)
لقد كان قدرها أن يصاحبها سوء الحظ، فقد أدى إخلاصها لبايرون إلى إثارة الأقاويل في سويسرا لدرجة مؤذية: لقد كان هناك اتهام بأن الشاعرين كانا يعيشان مع الأختين في علاقات مشتركة غير شرعية، وسمى بعض الخياليين بايرون وشيلي بالشيطانين المتجسدين، وأصيبت سيدة إنجليزية تقوم برحلة في سويسرا، بالإغماء عندما ظهر بايرون في صالون مدام دي ستيل de Stae في كوبت Coppet · وربما أسهمت هذه الأقاويل في تصميم بايرون على إنهاء علاقته بكلير· لقد طلب من شيلي ألا يسمح لها بالقدوم إلى فيلا ديوداتي مرة ثانية· وكانت كلير في ذلك الوقت حاملاً من بايرون، وكانت في شهر حملها الثالث، فطلبت أن يسمح لها بزيارة واحدة أخرى لكن تم إثناؤها عن عزمها·
وفي 24 يوليو أخذ شيلي كلا من كلير وماري في رحلة إلى شامونكس Chamonix في سافوي· وفشلوا في هذا اليوم في محاولتهم الوصول إلى المير دي جلاس the Mer-de-Glace لكنهما نجحا في اليوم التالي· وعند عودتهما إلى سويسرا توقفا عند دير شارتيز Chartreuse في مونتنفير Montenvers· وكتب تحت توقيعه في دفتر الزيارات - وقد أثارته مظاهر التدين - كتب باللغة اليونانية:
"إنني أحب البشر، وديمقراطي وملحد" ,
" Eimi philanthropos demokratikos t'atheos te-"
وعندما زار بايرون بعد ذلك بفترة وجيزة المكان نفسه محا الكلمة الدالة على الإلحاد خوفاً من أن تستخدم في غير صالح شيلي في إنجلترا·
وقد كان · وفي 9 أغسطس غادر شيلي وماري وكلير سويسرا قاصدين إنجلترا، وأعطى بايرون، مخطوطة (سجين شيلون) والنشيد الثالث والرابع من (شيلد هارولد) لشيلي كي يسلمها للناشر جون مري· أما شيلي نفسه فقد كان مشغولا مع ماري وكلير فلم يحضر سوى (ترنيمة جمال الفكر) وقصيدة Mount Blanc: ( أبيات كتبت في قصيدته (وادي شامونكس Chamonix) · وهذه القصيدة تكاد تكون مرتبكة كنهيرات الجليد التي تهبط ملتفة حول المنحدرات الجبلية في المير دي جلاس·(ملحق/966)
فقد وجد شيلي انطباعاته عديدة ومتباينة حتى إنه كان غير قادر على التعبير عنها بوضوح بأي شكل من الأشكال وفكر برهة من الزمن في الكتلة الشاهقة مخاطبا إله الطبيعة كما تصوره وردزورث لكنه عاد مرة أخرى إلى الشعور بالكثافة الباردة تاركاً كل الأمور لأحكام البشر· وتظهر أيضا في قصيدته (ترنيمة جمال الفكر Hymn to Intellectual Beauty) بعض تأثيرات وردزورث لكن سرعان ما زوي إعلان شيلي بالخلود لقد عبر عن دهشته لوجود الظلمة جنبا إلى جنب مع النور، والشر جنبا إلى جنب مع الخير، وراح يحلم بخلاص الإنسان بتنمية إحساسه بالجمال وتعميقه وتوسيع مداه، ومتابعة الإحساس بالجمال في الفكر والعمل كما نتابعه في الشكل والبدن:
- لقد نذرت نفسي··
- لك·· ألم أف بنذري؟
- ليس من فرح أزال عن جبيني التقطيب
- فلا أمل لدي أن تتحرري
- فمن هذا العالم، من عبوديته المظلمة
- يمكنك التعبير عما لم تستطع هذه الكلمات التعبير عنه
- يا للفتنة المدهشة!
وأخيراً كان على محاولات وردزورث، وبايرون، وشيلي أن تجد صديقا خيرا في طبيعة هوت أمام الحياد الهادئ، فاستسلم وردزورث لكنيسة إنجلترا، واستسلم بايرون وشيلي لليأس·
9 - انحلال في فينيسيا: بايرون 1816 - 1818 م
في شهر سبتمبر سنة 1816 قدم هوبهوس Hobhouse من إنجلترا وانضم إلى بايرون في رحلة واسعة المدى في الألب السويسرية· وفي أكتوبر عبراها إلى إيطاليا، فتلقاهما أهل ميلان بقبول حسن واحتفى المثقفون الإيطاليون ببايرون كأعظم شاعر إنجليزي على قيد الحياة وقدروا شجبه الواضح لحكم النمسا في لومبارديا Lombardy · لقد أخذ وساما في لاسكالا La Scala ورآه ستندهال Stendhal هناك ووصفه بإعجاب:
"لقد فوجئت بعينيه··· لم أر في حياتي ما هو أجمل ولا أكثر تعبيرا· وحتى اليوم فإنني إذا فكرت في التعبير الذي يجب أن يسبغه الرسام على العبقرية - لم أجد أمامي إلا هذا الرأس السامق (رأس بايرون) ··· لن أنسى أبدا التعبير القدسي في وجهه·· إنه يشيع جو القوة والعبقرية "·(ملحق/967)
ووصل الشاعر وصديقه إلى فينيسيا في 16 نوفمبر 1816 وفارقه هوبهوس لرؤية ما يستحق الرؤية وتابع طريقه بسرعة إلى روما، أما بايرون فاستأجر منزلاً في شارع جانبي متفرع من بيازا سان ماركو Piazza San Marco وجعل من زوجة صاحب الفندق واسمها ماريانا سيجاتي مدبرة لأمر جناحه في الفندق، ووجد وقتا لإتمام (مانفرد Manfred) وفي شهر سبتمبر سنة 1818 بدأ عمله (دون جوان Don Juan) الذي انتقل فيه من الرومانسية العابسة والانهماك في الذات إلى الأهاجي المرحة الساخرة ذات الطابع الواقعي·
وبطبيعة الحال فإن (مانفرد) هو (بايرون) نفسه مرة أخرى، وقد ألبسه المؤلف شخصية مكتئب كارهٍ للبشر في قلعة قوطية شاعرا بلعنة هائلة على روحي راقدا محتضنا بيض خطاياه· لقد استدعى الفاتنات من مخادعهن فوق الألب وطلب منهن منحة واحدة - النسيان، فقالا له لا نسيان إلا بالموت، وتسلق الجنجفراو Jungfrau ورأى في شجرة صنوبر ذابلة شبيها يرمز إليه جذع أصابه التلف على صخرة ملعونة لا تمد الشجرة إلا بالفناء وبحث عن الموت بمحاولة القفز من فوق منحدر صخري شاهق لكن صيادا أوقفه واصطحبه إلى كوخ في الجبل وقدم له نبيذا دافئا وسأله عن سبب يأسه· وأجاب مانفرد الذي اعتبر النبيذ رمزا للدم - بكلمات قد يفهم منها اعترافه بمعاشرة المحارم:
إنني أقول إنه (أي النبيذ) دم! فالمجرى الدافئ النقي
الذي جرى في عروق آبائي وعروقنا
عند ما كنا في شبابنا، وكانت قلوبنا
في حالة عشق وأحب أحدنا الآخر كما لا يجب أن يكون
إن هذا كان ولا يزال يغلق أبواب السماء دوني·
وراح يحسد الصياد لحريته وحياته الصحيحة·
وقدم للصياد ذهبا ورحل، واستخدم علمه غير المقدس
فاجتمع بأستارت Astarte التي رأى فيها شبح حبه المحرم
ودعاها للصفح عنه أستارت،
يا حبيبتي تحدثي إلي(ملحق/968)
- في الذروة إذ حلق بايرون معبراً عن عواطفه وانفعالاته· وكما كان يحدث في بلاد جليفر Gulliver التي يعيش فيها اللجناجيون Luggnaggians حكم عليه بالخلود، ظنا منه أن الخلود هو أقصى درجات العقاب· لقد توسل إليها (إلى أستارت) أن تستخدم قوتها السحرية وتمنحه الموت، فطمأنته قائلة مانفرد، غدا تنتهي حياتك في هذه الدنيا وصفقت ساحرة حاضرة لشجاعته: "إنه يسيطر على نفسه"·إنه يجعل عذابه مرتبطا بإرادته· أكان واحداً منا؟! سيكون روحا مرعبة· وربما يكون شيطان Satan ميلتون Milton قد ترك واحدا من أصدائه الكثيرة في أعمال بايرون· وقد أجاب (مانفرد) رئيس دير الرهبان الذي أراد جذبه مرة أخرى إلى المسيحية، قائلا: إن هذه دعوة جاءت متأخرة جدا وأضاف قائلا:
ليس هناك نظام
للبشر على الأرض، فهناك من أصبحوا
شيوخا في شبابهم وماتوا قبل منتصف العمر،
دون أن يذوقوا الموت في ساحات الوغى·
وعندما غادر (مانفرد) للقاءاته الأخيرة حزن رئيس الدير وتفجع:
هذا لا بد أنه كان مخلوقا نبيلا، إن لديه
كل الطاقة التي تخلق عناصر رائعة،
وقد تم مزجها بحكمة!
وكما لو كان يتحدى العالم معترفا بما كان موضع شك، أرسل بايرون عمله (مانفرد) إلى إنجلترا فنشره الناشر مري Murray في 16 يونيو سنة 1817، وبعد النشر بأسبوع ظهر عرض في صحيفة لندنية منهيا كل تعاطف مع بايرون انه: "تناول شخصه (أي شخص) بايرون وأطلق عليه اسم مانفرد· إنه يقصد نفسه·· إن (مانفرد) قد طرد نفسه من المجتمع فكيف نتعاطف مع منعزل مطرود؟! إنه ببساطة قد ارتكب أشد أنواع الجرائم المقززة· لقد غشي محارمه "·(ملحق/969)
وفي 17 أبريل 1817 غادر بايرون مدينة فينيسيا ليقضي شهرا مع هوبهوس في روما· وعاقته قدمه (المصابة) عن القيام بجولة في متاحف روما لكنه رأى البقايا الهائلة لروما الكلاسيكية وزار بومبي Pompeii " لقد وقفت كبقايا وسط بقايا" هكذا قال شيلد هارولد · وفي 28 مايو عاد إلى فينيسيا (البندقية) وفي ديسمبر نجح بعد محاولات كثيرة في بيع مبنى دير نيوستيد Newstead والأراضي المحيطة به بمبلغ 94,500 جنيه إسترليني وفوض مسئول أموره المالية في لندن دوجلاس كنيرد Douglas Kinnaird لدفع كل ديونه وأن يرسل له 3,300 جنيه إسترليني سنويا عن أرباح المبلغ المتبقي، وبالإضافة إلى هذا فقد أصبح الآن يقبل الحصول على أموال مقابل نشر أشعاره·
وامتلأ بالحيوية فاشترى قصرا فخما Palazzo Mocenigo على القنال الكبير (جراند كانال Grand Canal) وحشدها بأربعة عشر خادما وقردين وكلب حراسة ضخم وخليلة جديدة هي مارجاريتا كوجني وهي زوجة معتزة بنفسها لأحد المسئولين المحليين· ولم يكن ليكتفي بامرأة واحدة فقد تباهى بعلاقاته الجنسية بمائتي امرأة على التوالي في فينيسيا (البندقية) وفي 20 يناير سنة 1817 أخبر كنيرد أنه في الأمسيات أخرج أحيانا، وأنخرط دوما في علاقات جنسية وفي 9 مايو 1818 كتب لمسئوله المالي إن لدي عالماً من العاهرات وفي منتصف الصيف تردت أحواله الصحية فأصبح بعيدا تماما عن الأوصاف الرائعة التي وصفه بها ستندهال منذ عامين· لقد أصبح سمينا وتحول شعره إلى اللون الرمادي وبدا أكبر من سنه (كان في الثلاثين من عمره) وصدم شيلي عندما رآه على هذه الحال عندما التقيا مرة أخرى·
10 - أمور شيلي العائلية: من 1816 - 1818م
في الثامن من سبتمبر سنة 1816 وصل شيلي وماري Mary وابنهما وليم ومربيته السويسرية إليز فوجي Elise Foggi وكلير كليرمونت Claire Clairmont - إلى إنجلترا· وذهب جميعهم عدا شيلي إلى باث Bath أما شيلي فأسرع إلى لندن متوقعاً أن يجد أباه قد ترك له خمس مائه جنيه، لكن شيئا لم يصل وكان عليه أن يسحب وعده بأن يعطي ثلاثمائة جنيه لوالده الروحي واهتاج جودوين وهرب شيلي إلى باث حيث زوجته غير الشرعية·(ملحق/970)
وهناك (في باث) تلقت ماري خطابات حنونة من أختها غير الشقيقة فاني جودوين في 26 سبتمبر و3 أكتوبر· ولدت فاني Fanny في فرنسا سنة 1794 وكانت هي الابنة الطبيعية (ابنة زنا) من القبطان إملاي Imlay وماري ولستونكرافت Wollstonecraft، وتبناها جودوين عند زواجه من أمها ورغم شفقته عليها فإنها لم تكن سعيدة بحياتها مع زوجته الثانية السيدة كليرمونت· وعكست خطاباتها روحاً لطيفة تتحمل التعاسة بشجاعة ولا تلوم أحدا وتتوق للسرور بقلب مخلوع·
وكانت ماري محبة لها لكن بعد أن غادرت ماري وكلير مع شيلي, لم يعد لفاني سند يواسيها لظروف حياتها مع زوجة أبيها، وعندما عاد العاشقان الهاربان إلى إنجلترا لم تساعدهما ظروفهما المالية على استقبال فاني لتعيش معهما· وفي 12 سبتمبر حمل شيلي لماري وكلير أخبارا مفادها أن فاني كانت قد ذهبت إلى سوانسي Swansea واعتزلت في غرفتها بالفندق وقتلت نفسها بالأفيون·
ولم ترحم الأحوال شيلي إلا قليلا· فعند عودته إلى إنجلترا جرى معه تحقيق بشأن زوجته التي كان لا يزال مرتبطا بها من الناحية الرسمية· لقد علم أنها كانت تعيش مع أبيها وكانت تتلقى بانتظام مائتي جنيه سنويا· وفي نوفمبر سعى إلى زيارتها فعلم باختفائها، وفي 12 ديسمبر 1816 كتبت جريدة التايمز Times تقريرا عن انتشال جثتها منذ يومين من بحيرة سيربنتين Serpentine في الهايد بارك Hyde Park وأسرع شيلي بتوثيق زواجه من ماري (جعل ارتباطه بها شرعيا) في 30 ديسمبر سنة 1816، رغبة منه في رعاية نسله من هاريت Harriet - الابنة يانث والابن تشارلز، وظلت مطالبته بابنيه تسوّف في محكمة شانسري Chancery طوال ثلاثة أشهر ·(ملحق/971)
وقد أكدت له ماري أنها ستكون سعيدة باستقبال هذا الكنز العزيز ليكونا تحت رعايتها، لكن والد هاريت وأختها رفضا دعوى شيلي على أساس أنه ملحد وغير مؤمن بالزواج الشرعي (الزواج الموثق من الكنيسة) وأنه هجر زوجته وهرب مع امرأة غير متزوجة، فمثل هذا الرجل - على وفق رأيهما - غير جدير بتربية أطفال بطريقة سوية تجعلهم صالحين للعيش في إنجلترا، وحكمت المحكمة على شيلي في مارس سنة 1817 معترفة بالحجج التي ساقها والد هاريت بصرف النظر عن المسائل اللاهوتية (الدينية) ·
وعلى أية حال فإن المحكمة زكت اختياره والدين لتنشئة طفليه ووافق هو على دفع مائة جنيه سنويا لإعاشتهما· وسهرت ماري لرعاية كلير كليرمونت التي كانت لا تزال في التاسعة عشرة من عمرها ووضعت مولودة في 12 يناير سنة 1817 سميت أخيرا أليجرا Allegra في الوقت الذي كان فيه شيلي يرفع دعوى قضائية في لندن · ولم تكن كلير قد تلقت ردودا على خطاباتها التي أرسلتها لبايرون منذ مغادرة سويسرا، وكانت الفكرة الراسخة لديها أن بايرون لن يعترف أبداً بالطفلة مما دفع الأم لليأس وطلب شيلي من بايرون تعليمات بشأن رعاية الطفلة مركزاً في خطابه على جمالها·
ووافق بايرون على رعاية الطفلة وضمها إليه إذا أتت إليه· وتعقدت الأمور في سبتمبر سنة 1817 عندما وضعت ماري مولودها الثاني، وقد وضعتها أنثى وجرى تعميدها باسم كلارا إيفيرينا Clara Everina · وعانت الأم والمولودة فاتفقت الأسرة كلها على أن ما يحتاجونه هو دفء إيطاليا وسمائها وفاكهتها· وفي 11 مارس 1818 عبروا إلى فرنسا وبدؤوا رحلة طويلة في مركبات مال دي مير mal-de-mer إلى ميلان·(ملحق/972)
ومن ميلان أرسل شيلي إلى بايرون ليأتي لرؤية أليجرا· وخوفا من أن يؤدي هذا إلى تجديد العلاقة مع كلير، رفض بايرون القدوم، واقترح - بدلا من ذلك - أن تأتي المربية بالطفلة إلى فينيسيا، فإذا تم ذلك بشكل مرض أصبحت الأم حرة في زيارة الابنة (أليجرا) بين الحين والآخر، فوافقت كلير على كره منها، ووجد بايرون الطفلة رائعة جميلة فأخذها إلى قصره لكنها خافت من حيواناته ومومساته حتى إن بايرون سرعان ما دفع للقنصل البريطاني - ريتشارد هوبنر Richard Hoppner - وزوجته ليأخذا الطفلة إلى بيتهما·
وعندما سمع شيلي وكلير بذلك (تركا ماري وأطفالها في لوكا Lucca) وذهبا إلى فينيسيا ووجدا أليجرا تعامل معاملة جيدة بشكل معقول· وقابل بايرون، شيلي بحرارة واصطحبه في جولة في ممرات البندقية المائية " gondola ride" إلى الليدو Lido ودعاه هو وأسرته وكلير وأليجرا للإقامة في فيلته ما طابت لهم الإقامة· وقدمت ماري من Lucca مع أطفالها لكن كلارا إيفيرينا مرضت في الطريق وماتت في البندقية (فينيسيا) في 24 سبتمبر 1818· وفي 29 أكتوبر، بعد مرور شهر من الإقامة في فيلا بايرون ( I Cappuccini) ودعوا أليجرا وقصدوا روما·
11 - شيلي: الذروة: من 1819 - 1821 م(ملحق/973)
في الفترة من وصول شيلي إلى روما (1819) حتى ارتباطه ثانية ببايرون في بيزا Pisa، كانت قصائده هي الأحداث الكبرى في حياته· وهذا لا يمنع أنه قبل هذه الفترة كانت هناك ومضات شعرية فائقة الجودة متناثرة هنا وهناك في قصيدته الطويلة (الملكة ماب Queen Mab) وبعد ذلك في عمله ( Ozymandias) (1817) وهو سونتة (قصيدة من أربعة عشر بيتا) الفكر المحكم والقوة الهائلة فـ (الأبيات المكتوبة في التلال الإيجانية Lines Written in the Euganean Hills) (1818) كان ينقصها مثل هذا التركيز في الفكر والحبكة في الشكل والصياغة، والأبيات المكتوبة وهو في حال اكتئاب Dejection بالقرب من نابلي (1818) مغرقة في المرارة والتحسر على الذات إغراقا شديدا لا يدفع على المواساة (التعاطف مع كاتبها)، فالمرء لا يجب أن يحمل أحزانه وتظلماته في أكمامه· لكنه الآن بعد ثلاث سنين طلع علينا بروميثيوس المنطلق: (قصيدة إلى الريح الغربية Ode to the West Wind) و (إلى طائر القنبرة To a Skylark) و (السحاب The Cloud) و (إبيسيكيدون Epipsychidion) و (أدونيس Adonais) · ونغفل هنا عمله ( The Cenci) (1819) الذي حاول فيه - محققا بعض النجاح - أن ينافس جون وبستر وغيره من دراميي اليعاقبة في عصر إليزابيث في قصصهم الدموية القاتمة التي تعج قتلا وغشياناً للمحارم·
وعلى وفق مقدمة المؤلف (لبروميثيوس المنطلق Prometheus Unbound) فإنه كتبها في أعلى حمامات كاراكالا Caracalla في روما سنة 1820·
وكان قد تحدى مؤلفي العصر الإليزابيثي بعمله ( the Cenci) أما الآن فإنه يخاطر بقفزة أبعد بطموحه لتحدي الكتاب الإغريق· ففي (بروميثيوس المقيد Prometheus Bound) نجد إيسخيلوس يظهر العارف سلفاً fore knower كثائر· وتم تقييد تيتان Titan إلى صخرة في القوقاز ليوحي للبشرية كثيرا جدا من شجرة المعرفة· وفي البقايا المفقودة من هذه الثلاثية - على وفق المرويات - فإن زيوس Zeus فقد الآن قلبه وحرر بروميثيوس وفك قيوده كما حرره من الصقر الذي كان ينقر كبده باستمرار بناء على أوامر إلهية، ينقر كبد بطلنا كما ينقر الشك في صلب اليقين·(ملحق/974)
وتصور (الدراما الغنائية Lyrical Drama) كما أسماها شيلي, زيوس, كبوربوني as Bourbon عجوز فظ مسئول بقسوة عن تعاسة البشر وانقلاب حال الدنيا· لقد أطاح به بروميثيوس بكل حماسة خريج أكسفورد الفاهم المستوعب الذي يستدعي الأساقفة لحضور جنازة الرب (المقصود هنا جنازة زيوس) · وهنا يظهر ندم تيتان على قسوة لعنته: "إنني لا أرغب في أن يعاني كائن حي من الآلام" لقد عاد يباشر مهمته التي اختارها - أن يجلب الحكمة والحب للبشرية· وهنا نجد روح الأرض Earth تهلل سعيدة هاتفة باسمه: "أنت أكثر من إله، فأنت حكيم ورحيم" خلال الفصل الأول نجد الحديث محتملا وقصائد الأرواح الحاضرة تدمدم بقوة جوهرية، متلألئة بكنايات واستعارات ومجازات حلوة وقصائد مقفاة متسقة - لكن الخطب - سواء كانت لاهوتية أم غير لاهوتية ليست هي روح الشعر ونوره، فبالخطب تصبح القصائد الغنائية كريهة، وبالخطب تفقد القصائد فتنتها وإغراءها عندما تهبط كالصخرة على القارئ بإسراف مربك·(ملحق/975)
إن الجمال في هذه الحال يصبح مصدر إزعاج لا ينتهي! ففي كثير من شعر شيلي نجد عواطف متأججة دون سكون، وكلما تقدمنا في القراءة أحسسنا شيئا من الضعف في هذا الشعر وأحسسنا بكثير جدا من المشاعر إزاء أفعال درامية قليلة جدا، وكثير جدا من حالات القلوب ومجموعات الورود (تقول روح الأرض: "إنني كقطرة ندى تموت"· إن أسلوبه الشعري يمكن أن يكون لائقا جدا بالقصيدة الغنائية لكنه بطيء بالنسبة إلى الدراما، فكلمة الدراما تعني من بين ما تعني الفعل والحركة، وعلى هذا فعنوان عمله (الدراما الشعرية Lyrical Drama) ينطوي على تناقض (فالقصيدة تركز على المشاعر، والدراما تركز على الحركة مع عدم إغفال المشاعر) وعلى العكس من (الدراما الشعرية) نجد أن (قصيدة للريح الغربية Ode to the West Wind) تثيرنا لأن ما بها من أفكار ومشاعر قد تمّ تكثيفها في سبعين بيتاً· لقد ركز في قصيدته على فكرة واحدة، ولم ينشر المشاعر والعواطف على نحو ضحل، ولم يتخم قصيدته على ما فيها من ثراء القوافي والعبارات - إن الفكرة التي تتحلق حولها القصيدة هي أن الربيع آت بما يحمله من نماء رغم ما يعترينا من سخط نفقد الأمل فيه في أثناء الشتاء· لقد راح شيلي يستخدم المجاز الراقي على نحو متكرر· لقد كان هذا المجاز معيناً له عند التعبير عن عالم آماله وأحلامه الذي بدا حطاما أمام قسوة التجارب لكنه راح يأمل أن تبقى أفكاره وتنتشر من خلال أشعاره / النص: "تعاويذ أشعاره كما تذرو الرياح الأوراق المتساقطة فتنشرها"· وقد حدث هذا بالفعل· هذه القصيدة التي لامست ذروة الشعر راودت الشاعر فكرتها فكتب معظمها كما يقول لنا شيلي نفسه:
" في غابة تطوق الأرنو the Arno بالقرب من فلورنسا، في يوم كانت الريح فيه عاصفة··· مما أدى إلى تجمع الضباب فخرت أمطار الخريف"(ملحق/976)
لماذا غادر شيلي روما؟ إن هذا يرجع في جانب منه إلى أنه كان يريد أن ينفرد بنفسه لأنه لم يتحمل القرب من السياح البريطانيين الذين كان رأيهم فيه أنه زان ملحد لا شاعر كبير· كما أنه هو وماري قد أثر فيهما كثيرا موت ابنهما وليم (7 يناير 1819) ولم يتجاوز الرابعة من عمره· ولم يستطع الأب ولا الأم أن يفيق من هول فقدان طفليهما في غضون تسعة أشهر· لقد ظهر الشعر الأشيب في حاجب شيلي رغم أنه لم يتجاوز السابعة والعشرين من عمره·
وبعد دفن وليم في المقبرة الإنجليزية في روما انتقلت الأسرة إلى ليفورنو Livorno - ليجهورن الأنجليكانية Anglice Leghorn وعندما راح يتجول في حديقة هناك شعر بالألم -ربما كأي شاعر - لهروب الطيور طيراناً خوفاً من اقترابه -وقد فتن على نحو خاص بطائر من هذا السرب كان يغني في أثناء تحليقه، فلما عاد الشاعر إلى غرفته ألف قصيدته (إلى طائر القنبرة) من شكلها الأول بتفاعيلها السداسية hexameters المتتابعة، وسرعة وقعها· وهذه المقاطع الشعرية المرحة كان كل بيت شعري فيها عامراً بالمشاعر الدافئة، والفكر الجاف، في آن واحد·
وفي الثاني من شهر أكتوبر 1819 انتقل شيلي وأسرته إلى فلورنسا حيث وضعت ماري مولودها الثالث الذي سرعان ما أطلقوا عليها اسم بيرسي Percy· وفي فلورنسا وجدت كلير كليرمونت وظيفة معلمة خصوصية فأعفت - أخيرا - شيلي من رعايتها· وفي 29 أكتوبر 1820 نقل أسرته إلى فندق تري بالازي Tre Palazzi في بيزا حيث ربما يكون قد قام بأغرب مغامراته على الإطلاق· ورغم مرضه المتكرر فإنه لم يفقد حساسيته إزاء الجنس الآخر· وعندما وجد امرأة لم تكن فقط جميلة وإنما كانت تعسة، انجذب إلى جمالها وتعاستها·(ملحق/977)
لقد كانت إيميليا فيفياني Emilia Viviani فتاة من أسرة راقية وضعوها على غير رغبتها في دير بالقرب من بيزا لضمان احتفاظها بعذريتها حتى يتم تدبير زوج ثري لها· وكان شيلي وماري - وأحيانا كلير يذهبون لرؤيتها وقد فتنوا جميعا بملامحها الكلاسيكية، ومسلكها المتواضع وبساطتها الواثقة، ورأى الشاعر فيها مثالاً للمرأة فأصبحت محور أحلام يقظته وكتب بعض هذه الأحلام في عمله ( Epipsychidion) أي (إلى روح فريدة To a soul unique) نشرها دون توقيع في سنة 1821· ومن أبياتها المدهشة:
لم أتصور أن أرى قبل مماتي
مثل هذا الشباب المكتمل· أحبك
يا إميلي، رغم أن العالم سيواري هذا الحب بخجل لا قيمة له·
آه ليتني وأنت توأمان في رحم أم واحدة
أو تبادلنا قلبينا
أو نكون شعاعين في أبدية واحدة
أو أن يكون أحدنا شرعا، والآخر حقيقة
إنني ملك يديك
إنني لا أملك نفسي، فأنا قطعة منك!
ومن هذا الانجذاب الصوفي العاشق إلى انجذاب آخر:
قرينة، أخت، ملك، دليل قدري
دربك بلا نجوم (المقصود نورك يكفي)
آه لقد تأخر حبك، فأنت سرعان ما صرت معبودتي·
ففي حقول الخلود لابد أن تعبدك روحي، تعبدك أنت أول ما تعبد
يا ذات الحضور القدسي··
من الواضح أن ابن الثمانية والعشرين عاما كان في حالة انجذاب ومثالية، فقوانيننا ومعنوياتنا (أخلاقنا) لا يمكن أن تنظم تماما غددنا (تحكم نزواتنا) وإذا كان امرؤ عبقريا أو شاعرا فلا بد أن يجد خلاصا أو راحة في عمل أو فن· وفي هذه الحال كان العلاج أو الخلاص عن طريق قصيدة تتأرجح بين اللامعقول والتفوق (الامتياز):
سيأتي اليوم الذي ستطيرين فيه معي···
فالسفينة في المرفأ الآن،
والرياح تهب فوق حافة الجبل·· تهب ملوحة·
ليأخذهم إلى جزيرة في بحر إيجة الأزرق:
إنها جزيرة بين السماء والهواء والأرض والبحر
جزيرة معلقه وسط السكون
هذه الجزيرة وهذا البيت هما ملكي وإنني أعدك
أن تكوني سيدة العزلة والانفراد·
وهناك ستكون هي حبه وسيكون هو حبها:
ستختلط أنفاسنا، وسيتضام صدرانا
وستخفق عروقنا معا وستلتقي شفاهنا ببلاغة أقوى من بلاغة الكلمات
تلتقي لتطفئ لظى الروح التي تحترق بينها
والينابيع الفوارة في عمق أعماق خلايانا(ملحق/978)
إنني متلهف· إنني أغرق· إنني أهتز نشوة·
لقد انتهيت! ·
أيمكن أن تكون هذه هي سهل شيلي؟ مسكينة ماري، لقد تركها لطفلتها بيرسي وأحلامها فلم تلحظ هذا السيل العرم لفترة· وفي هذه الأثناء تبدد الحلم فتزوجت إيميليا وعدل شيلي عن خطيئته الشجية وراحت ماري تداوي أساها بفهم أمومي·
وعندما سمع بموت كيتس Keats ( مات في 23 فبراير 1821) دفعه هذا للارتقاء بشعره، وربما لم يهتم كثيرا من أجل Endymion لكن النقد القاسي الذي حيت به الدورية ربع السنوية Quarterly Review جهود كيتس العظيمة، أغضبت شيلي كثيرا فاستلهم الموزية Muse ( إحدى آلهة الشعر عند اليونان) لتلهمة ترنيمة جنائزية (قصيدة رثاء threnody) مناسبة·
وفي 11 يونيو كتب لناشره في لندن: "انتهيت من كتابة قصيدتي أدونيس Adonais وستسلمها حالا· قد لا يتقبلها العامة كثيرا لكنها ربما كانت أفضل أعمالي" وقد اختار شكلاً لهذه القصيدة الشكل الصعب الذي أخذ به الشاعر سبنسر والذي استخدمه مؤخرا جدا مع تحسين في نسق القوافي الشاعر بايرون في قصيدته (رحلة شايلد هارولد) وتعامل شيلي مع قصيدة الرثاء (النص: القداس المقام لراحة الميت) بكل عناية النحات الذي ينحت نصبا تذكاريا لصديق، لكن متطلبات الشكل الشعري الصارم (الوزن والقافية) أعطت لبعض الأبيات الشعرية طابعا مصطنعا·
وقد بلغ عدد أبيات القصيدة خمسة وخمسين بيتا (مقطعا) · وقد افترضت القصيدة بعجلة أن النقد (الظالم) قتل كيتس، ودعا الشاعر المتفجع أن تحل لعنة كاللعنة التي أصابت قابيل على من طعن هذا الصدر البريء لكن تشريح جثة كيتس أظهر أنه مات بمرض السل الحاد · ورحب شيلي في مقاطعه الشعرية الأخيرة في هذه القصيدة، بأن يموت، ففي الموت راحته لأنه سيلتقي بالميت الحي (المقصود كيتس):
يبقى الواحد the One، ويتغير كثيرون ويمضون،
فنور الله Heaven يشرق دائما، وظلال الأرض تطير،
والحياة كقبة مزدانة بكثير من الزجاج الملون
تلقي ظلالها على شعاع الأبدية الأبيض فتغير لونه
حتى يسحقها الموت فيهشمها
أيها الموت إن كان هذا ما تطلبه
فلم تتوان! لم تتراجع! لم تحزن قلبي؟
آمالك ذهبت آنفا ونزعت من كل الأشياء هنا(ملحق/979)
لقد (فارقتنا) ولا بد أن تفارق أنت الآن···
إن أدونيس يناديك· آه! أسرع إلينا
لا تدع الحياة أكثر من هذا تفرّق ما يمكن أن يجمعه الموت··
لقد حملت قتامه وخوفا وبعدا
بينما روح أدونيس كالنجم
تهدينا إلى طريق الخالد الباقي·· إلى طريق الله·
وكأنما كان كيتس يجيبه بأبياته الشعرية التي لا تنسى:
الآن أكثر من أي وقت، يبدو شيئا نفيسا أن تموت،
أن تتوقف أنفاسك في منتصف الليل بلا ألم،
بينما أنت تدفع روحك خارجك
في نشوة ما بعدها نشوة، وانجذاب يفوق الوصف·
12 - حب وثورة: بايرون 1818 - 1821 م
احتفظ شيلي بذكريات مختلفة عن بايرون في لقائهما الأخير - طباعه الرقيقة، ومناقشاته الصريحة، وكرمه - ورضاؤه الواضح عن علاقاته الجنسية غير الشرعية بالخليلات والعاهرات·
" فربما كانت النساء الإيطاليات اللائي كوّن معهن علاقات هن أحط النساء في العالم ··· لقد كان بايرون متآلف مع هذا النوع المنحط من النساء اللائي كان مسيّرو جوندولاته gondoliers ( القوارب التي تسير في قنوات البندقية) يلتقطونهنّ له· وكان يسمح للآباء والأمهات بمساومته على بناتهم··· لكن أعتقد أن شهرته كشاعر كبير ساعدته في ذلك" ·
وكان بايرون واعيا بتخليه عن الأخلاق الإنجليزية والذوق الإنجليزي· لقد كانت الأعراف الإنجليزية تجرمه (تعتبره خارجا على العرف والقانون) وقد رفضها هو بدوره· بل انه قال لأحد أصدقائه في سنة 1819: "إنني مشمئز ومُتّعتُ من الحياة التي وصلت إليها في فينيسيا وسعيد بأن أدير ظهري", لها وقد نجح بمساعدة تريزا جويشيولي Teresa Guiccioli وصبرها وإخلاصها·(ملحق/980)
لقد تقابلا للمرة الأولى عند قدومها من رافنا Ravenna إلى البندقية (فينيسيا) في أبريل سنة 1819 وكانت وقتها في التاسعة عشر من عمرها رقيقة الملامح وجميله وعابثة، تلقت تعليمها في دير، وكانت عاطفية دافئة القلب· وكان زوجها الكونت أليساندرو جويشيولي في الثامنة والخمسين قد تزوج مرتين قبلها وكان منشغلاً بأعماله غالبا· وقد جرى العرف تماما في الطبقة العليا الإيطالية على السماح للمرأة (الزوجة) في هذه الحال باتخاذ رفيق Cavaliere Servente - شخص مهذب في خدمتها يكون تحت إمرتها يثير إعجابها ويسليها ويحرسها وتكافئه بتقبيل يدها أو بما هو أكثر في السر والكتمان إذا كان الزوج مشغولاً أو متعبا·
ولم يكن من خطر كبير على الزوجة والرفيق بل إن الزوج في بعض الأحيان كان يقدر مساعدة هذا الرفيق، وربما تعمد أن يتغيب بعض الوقت ليتيح لهما إتمام المراد· وعلى هذا شعرت الكونتيسة بأن من حقها أن تنجذب إلى الوجه الإنجليزي الوسيم ومناقشاته المثيرة وشفتيه الجذابتين، أو على حد قولها في وقت لاحق:
"إن ملامحه النبيلة الجميلة الرائعة، ونغمة صوته وطباعه وآلاف الأشياء الساحرة الفاتنة التي تحيط به - جعلته مختلفاً تماما عن كل من رأيتهم ومخلوقاً أسمى بكثير منهم، فكان من المستحيل ألا يفتنني وألا يترك تأثيرا عميقا في نفسي· فمنذ ذلك المساء كنت ألتقي به كل يوم خلال كل فترة إقامتي في البندقية"
وانتهت أيام السعادة الطائشة هذه عندما أخذ الكونت زوجته تيريزا Teresa وعاد إلى رافنا، فأرسل لها بايرون تعهدات بالبقاء على حبه، ففي 22 أبريل سنة 1819 مثلا أرسل إليها يقول:
"أؤكد لك أنك ستظلين حبي الأخير، فقبل أن أعرفك شعرت باهتمام بكثير من النسوة لكنني لم أرتبط بواحدة بعينها· أما الآن فأنا أحبك وليس في حياتي حب آخر لامرأة أخرى سواك على وفق ما نعلم فقد حفظ عهده"·(ملحق/981)
وفي الأول من يونيو غادر البندقية في عربته النابليونية الثقيلة (المقصود المشيدة على طراز عربة نابليون) متوجها إلى رافنا كسائح يبحث عن آثار دانتي Dante فرحبت به تيريزا، وكان زوجها الكونت لطيفا كيسا، وكتب بايرون إلى أحد أصدقائه: إنهم يجعلون للحب هنا مساحة كبيرة من وقتهم ولا يشوهون سمعة شخص إلا قليلا وسمح له باصطحاب تيريزا إلى الميرا La Mira ( إلى الجنوب من البندقية بسبعة أميال) حيث كانت له فيلا هناك، وهناك باشر معها الحب من كل موضع ولم يعقه إصابتها بداء البواسير وانضمت إليهما أليجرا Allegra في الفيللا فجعلت جو المجموعة محترما·
ووصل توم مور Tom Moore واستلم الآن من بايرون مخطوطة كتابه (حياتي ومغامراتي My Life and Adventures) التي أحدثت كثيرا من الفتن والاضطرابات بعد موت المؤلف· ومن الميرا أصطحب بايرون، تيريزا إلى البندقية حيث عاشت معه في قصره Palazzo Mocenigo وأتى والدها ليردها إلى جادة الصواب فأخذها معه إلى رافنا ومنع بايرون من الذهاب معها· وعند وصولها إلى رافنا سقطت مريضة، وكان مرضها شديدا لا ادعاء فيه حتى إن زوجها الكونت أسرع باستدعاء عشيقها (بايرون) الذي وصل في 24 ديسمبر سنة 1819 وبعد أن قام ببعض الجولات استقر في الطابق الثالث في قصر الكونت مقابل دفع إيجار·
وأحضر معه في مقره الجديد قطتين وستة كلاب وحيوان الغرير badger وصقرا وغرابا مدجنا وقردا وثعلباً· وفي خضم هذه الحياة التي انشغل فيها بأمور مختلفة كتب سطورا كثيرة· في مؤلفه (دون جوان) وبعض مسرحيات عن دوقات (دوجات) البندقية غير قابلة للتمثيل على المسرح (مسرحيات ذهنية) ودراما جيدة عن سردانا بالوس Sardanapalus وفي يوليو سنة 1811 كتب (قابيل: سره Cain, A Mystery) ذلك العمل الذي به أصبح اسمه مكروها تماما، وموضع مقت شديد في إنجلترا·(ملحق/982)
المشهد الأول في هذا العمل يظهر آدم وحواء، وقابيل (قايين) وأخته التي هي زوجته في الوقت نفسه Adah، وهابيل وأخته التي هي زوجته Zillah, في الوقت نفسه يستعدون للصلاة وتقديم الأضاحي لله (جيهوفاه أو ياهوفاه Jehovah) ووجه قابيل لوالديه بعض الأسئلة - وهي أسئلة تحير بايرون في مرحلة الدراسة: لم خلق الله الموت؟ إذا كانت حواء قد أكلت من شجرة المعرفة، فلم زرع الله هذه الشجرة المحرمة في مكان ظاهر بجنة عدن؟ ولم كان طلب المعرفة خطيئة؟ ولماذا أصدر الله قراره بأن يعمل الجميع وأن يصبح الموت مصير الأحياء عقابا على وجبة بسيطة تناولتها حواء؟ وظهر الشيطان ( Lightbearer) Lucifer واعتلى خشبة المسرح - كما عند ميلتون - وأعلن نفسه متباهيا واحداً من تلك:
- الأرواح التي تجاسرت على النظر إلى وجه الطاغية (يقصد الله سبحانه وتعالى)
- الذي لا فناء له، ليقول له
- إن أفعاله الشريرة غير صالحة·
وتعود Adah ( زوجة قابيل) لتطلب من قابيل الانضمام إلى العمل مع أهله في الحقل، لأنه أهمل ما يخصه من العمل في هذا اليوم وأنها قامت بعمله بدلاً عنه، وهي تدعوه الآن لقضاء ساعة حب واستحمام· فوبّخها إبليس Lucifer بأن وصف لها الحب بأنه شرك أو طعم للإنجاب والتوالد وتنبأ لها بقرون من الكدح والنضال والمعاناة وبموت ينتظر الجموع التي ستنطلق للوجود من رحمها··· وأعد قابيل وهابيل مكانا (مذبحاً) لتقديم الأضحيات، فضحى هابيل بأول قطيعه، وقدم قابيل فاكهة، لكنه بدلا من أن يصلي ويدعو راح يسأل ثانية لم سمح الله بالشر؟(ملحق/983)
ونزلت نار متألقة من السماء أحرقت حمل هابيل (دليل قبول أضحيته)، وأطاحت ريح غاضبة بأضحية قابيل فألقتها إلى التراب فغضب وحاول تدمير مذبح (مكان تقديم الأضحية) هابيل Abel فقاومه، فضربه قابيل فمات· ووبخ آدم حواء باعتبارها المصدر الأول للخطيئة فلعنت حواء قابيل لكن Adah ( زوجة قابيل) دافعت عنه لا تلعنيه يا أمي، فهو أخي وزوجي my betrothed وأمر آدم قابيل أن يرحل عنهم وألا يعود، فلحقت Adah بقابيل وعوقبت بمثل عقابه، ولأن هابيل مات ولم يكن له ولد، فإن كل البشر (كما استنتج بايرون) من ذرية قابيل ويحملون طباعه في غرائزهم، تلك الطباع المتمثلة في العنف والقتل والحرب·
ويبدو قابيل مرات عديدة وكأنه طالب ملحد لم يقرأ سفر الجامعة في العهد القديم Ecclesiastes، ومع هذا ترقى هذه الدراما في بعض الأحيان إلى مستوى قريب من كتابات ميلتون القوية· وقد امتدح والتر سكوت هذا العمل، وكان بايرون قد أهداه إليه (كتب اسمه في صفحة الإهداء) وقال جوته: "لن نرى جمالا كجمال هذا العمل مرة ثانية في هذا العالم ولاشك أنه كان قد فقد منظوره الأولمبي للحظات عندما قال هذا "·
أما في إنجلترا فقد أدى نشر هذا العمل إلى موجة من النقد الساخط والرعب· لقد اعتبره الإنجليز قابيل آخر بل اعتبروه قاتلا أسوأ منه - إنه يقتل العقيدة التي حمت آلاف الأجيال وساندتهم· وحذر الناشر مري اللورد بايرون من أنه يفقد بسرعة قراءه· والصورة التي رسمها بايرون لزوجة قابيل المخلصة Adah تقدم برهانا آخر على الجوانب العطوفة في شخصيته، لكن معاملته لأليجرا Allegra وأمها تظهر قسوته·(ملحق/984)
فالطفلة التي كانت سعيدة يوما ما بلغت الآن الرابعة من عمرها، وكانت تعسة لبعدها عن والديها، فأرسل بايرون يستدعيها إلى رافنا وحتى عندما أتت لم يستطع إلا بالكاد أن يطلب منها العيش معه ومع مجموعة حيواناته في قصر الرجل الذي أصبح معروفا بسطوته غير المريحة، وبعد تفكير طويل وضعها في دير في باجنا سافالو Bagnacavallo التي تبعد عن رافنا باثني عشر ميلا (في أول مارس 1821) وهناك سيكون لها - كما افترض - صداقات فتبتعد عن طريقه وتتلقى قدراً من التعليم، ولم يزعجه أن تصبح كاثوليكية بل العكس فقد شعر أنها ستصبح في مأساة إن نشأت بلا دين في إيطاليا، فكل النساء فيها (إيطاليا) كاثوليكيات متمسكات بالكاثوليكية حتى في علاقاتهن غير الشرعية·
والأهم من كل هذا فإذا كان لابد للمرء أن يكون مسيحيا فالأفضل أن يسير في الطريق إلى منتهاه فيؤمن بما آمن به الدعاة الأوائل للمسيحية (الرسل Apostles) ويؤمن بالقداس والقديسين (الأولياء) ويصبح كاثوليكيا· لقد كتب في 3 أبريل سنة 1828: "إنني أرغب أن تصبح أليجرا من الروم الكاثوليك فدينهم أفضل الأديان" (المقصود أفضل المذاهب المسيحية)
وعند ما أصبحت أليجرا مستعدة للزواج رأى أنها لن تجد صعوبة في الارتباط بالزوج المرتقب، وأنها سيخصص لها مبلغ 4000 جنيه· وكان هذا ملائما لبايرون، ولكن عندما وصلت هذه الأخبار إلى كلير كليرمونت اعترضت وتأثرت عاطفيا على نحو مثير وطلبت من شيلي أن يعمل على إعادة إليجرا إليها فذهب شيلي إلى رافنا ليرى أحوال أليجرا فاستقبله بايرون في 6 أغسطس 1821 بترحاب فكتب شيلي لزوجته: "إن اللورد بيرون في أطيب حال وابتهج لرؤياي وقد استعاد صحته تماما ويعيش حياة غير الحياة التي كان يعيشها في البندقية" (فينيسيا) · وقد أخبره بايرون أن الظروف السياسية سرعان ما ستجبره للانتقال إلى فلورنسا أو بيزا، وسيأخذ أليجرا معه وستكون - بذلك - قريبة من أمها، ورضي شيلي بذلك، وصرف اهتمامه إلى شيء سيصبح حالا أكثر تأثيرا بالنسبة إليه·(ملحق/985)
لقد أصابه الرعب (أي شيلي) عندما علم أن المربية إليز Elise - مربية أليجرا - التي كان قد طردها من خدمته في سنة (1821) قد أخبرت الـ Hoppners أنه كان على علاقة جنسية سرية بأم أليجرا حتى إن كلير قد وضعت له طفلا في فلورنسا وضعه فورا في ملجأ للّقطاء، وأكثر من هذا أن شيلي وكلير كانا يعاملان ماري بطريقة تدعو للخجل ووصل الأمر إلى حد أنه كان يضربها· فكتب الشاعر الذي اعترته الدهشة إلى ماري (في أغسطس) طالبا منها أن تكتب لـ Hoppners مكذبة هذه الأقاويل، فقبلت ماري لكنها أرسلت خطابها إلى شيلي ليوافق على ما ورد به، فأظهره لبايرون وعول عليه في تسليم هذا الخطاب لـ Hoppners واستاء شيلي إذ وجد أن بايرون كان يعلم بهذه الإشاعات وكان - فيما هو واضح - يصدقها· وبدأت الصداقة الشهيرة بينهما تبرد وزاد برودها عندما انتقل بايرون من رافنا إلى بيزا تاركاً أليجرا في ديرها·
هذا التغير كان نتيجة تفاعل الحب والثورة في إهاب واحد· ففي يوليو سنة 1820 استصدر والد تيريزا - الكونت رجيرو جامبا Ruggero Gamba من الإدارة الباباوية Papal Curia أمراً باباويا (فتوى) بانفصالها عن زوجها مع حصولها على نفقة منه شريطة أن تعيش مع والديها· فانتقلت إلى بيت والديها بناء على هذا، وكان بايرون لايزال يعيش في قصر جويشيولى Guriccioli فأصبح يزور أسرة جامبا بشكل متتابع، وابتهج لأنه وجد جامبا وابنه بيترو Pietro كانا زعيمين في حركة الكاربونارى Carbonari وهي تنظيم سري يعمل على الإطاحة بالحكم النمساوي في شمال إيطاليا والحكم الباباوي في وسطها وحكم البوربون في نابلي لمملكة الصقليتين (جنوب إيطاليا وجزيرة صقلية) وكان بايرون في (نبوءة دانتي) الصادرة سنة 1819 قد دعا الشعب الإيطالي أن يهب للتحرر من حكم الهابسبورج Hapsburg والبوربون Bourbon ·(ملحق/986)
وفي سنة 1820 شكك الجواسيس النمساويين في أنه يدفع أموالا لشراء أسلحة للكاربوناري، ووضعت ملصقات ملكية في رافنا مطالبة بإعدامه· وفي 24 فبراير سنة 1821 فشلت حركة العصيان المسلح التي قام بها الكاربوناري وهرب قادتها من المناطق الإيطالية الخاضعة للبوربون· وذهب الكونت جامبا وابنه إلى بيزا وسرعان ما لحقت بهما تيريزا بناء على نصيحة بايرون، وفي الأول من نوفمبر سنة 1821 وصل بايرون إلى بيزا واستقر في الكازا لا نفرانشي the Casa Lanfranchi في الأرنو the Arno حيث كان شيلي قد استأجر بالفعل غرفا لاستقباله· والآن سيأتي المحك الأخير لصداقتهما·
13 – التباين
لقد كان كل من الشاعرين قد وصل الآن إلى ذروة تطوره· لقد كان على الأكبر سنا منهما أن ينظم بعض القصائد في عمله (دون جوان Don Juan) التي اشتملت على عداء مرير لإنجلترا، عداء لم يكن حتى الغاليون Gallic ( الفرنسيون) يستسيغونه· وكان علمه The vision of Judgment ( أكتوبر 1821) يمثل هجاء لا يرحم لكن سبق سوثي ( Southey) بعمله A vision of Judgment ( أبريل 1821) قد حرض على الثأر منه (من بايرون) بإطلاق زعيم المدرسة الشيطانية في الشعر الإنجليزي عليه (على بايرون) وقد هوى عليه بايرون بنقده الماهر الساخر·
وفي مؤلفاته الأخيرة هذه ابتعد بايرون عن روح (شايلد هارولد Childe Harold) الرومانسية والانقباض والمرارة، ليتخذ موقفاً أكثر كلاسيكية متجها نحو العقل والمنطق وروح الفكاهة، وإن كان لا يزال ينقصه الاعتدال· وتظهر خطاباته - خاصة تلك التي أرساها إلى الناشر مري - نضجاً أكثر لأنها تحتوي على نقد ساخر ينطوي على نقد ذاتي وتفحص لأعماله كما لو أنه اكتشف أن التواضع يفتح الباب للحكمة· لقد كان متواضعا فيما يتعلق بشعره:
"إنني أضع الشعر أو الشعراء في مرتبة فكرية سامية· وقد يبدو هذا انحيازا لكنه رأيي الحقيقي··· إنني أفضل المواهب العملية - مواهب الحرب في مجلس الشيوخ أو حتى في مجال العلم - فتلك أفضل من تأملات الحالمين الذين لا يملكون إلا الحلم"·(ملحق/987)
وقد امتدح شيلي إنساناً لكنه فكر كثيرا في شعره كفانتازيا طفولية Childish fantasy· وكان تواقا لتقييمه كإنسان أكثر من تقيمه شاعراً، وكان واعيا - بشكل مؤلم - بمظهره، وكان يفضل الركوب على المشي لأن إصابة قدمه اليمنى كانت تصرف النظر عن وجهه الوسيم، وكان موقفه من الطعام متذبذبا متغيراً فطورا يفرط في الطعام وطورا يقوم بحمية، ففي سنة 1806 كان وزنه 194 رطلا (وطوله خمس أقدام وثماني بوصات ونصف البوصة)، وفي سنة 1812 تدنى وزنه ليصبح 137رطلا وفي سنة 1818 أصبح سمينا وبلغ وزنه 202 رطلا· وكان فخورا بإنجازاته الجنسية وكان يرسل تقارير إحصائية بعدد هذه الإنجازات لأصدقائه· وكان عاطفيا وغالبا ما يفلت زمام مشاعره منه· وكان متألقا من الناحية العقلية لكنه لم يكن مستقرا· قال جوته: "في لحظة من اللحظات يصبح بايرون طفلا "·
أما من الناحية الدينية فقد بدأ كالفنياً Calvinist ( من أتباع مذهب كالفن البروتستنتي) ففي عمله [شايلد هارولد] تحدث عن الباباوية كبرتستنتي متحمس باعتبارها (زانية بابلية) وفي سني العشرين قرأ الفلسفة فأحب سبينوزا Spinoza وفضل عليه هيوم Hume وأعلن: "أنا لا أنكر شيئا لكنني أتشكك في كل شيء" وفي سنة 1811 كتب إليه صديق من مذهب مسيحي يقال له مذهب المهتدين: "أنا لا أدري ماذا أفعل بالخلود الذي تقول عنه"· وبعد ذلك بعشر سنوات كتب: "أعتقد أنني لا أشك كثيرا في خلود الروح", وفي إيطاليا تأثر بمن حوله وما حوله وبدأ يفكر في الكاثوليكية، وعندما حضر صلاة التجسد (أو صلاة التبشير) تطلع إلى حالة السلام (الصفاء) التي بدت للحظات تخيم على حياة أهل إيطاليا جميعا، وكتب: "طالما تمنيت أن أكون قد ولدت كاثوليكيا"(ملحق/988)
وفي أواخر حياته (1823) راح يتحدث - كما كان يتحدث في صباه - عن الله، وعن القضاء والقدر وكون الإنسان لا يملك من أمره شيئا· وعندما كان في مرحلة المراهقة فقد عقيدته الدينية ولم يجد قيما ومعنويات يرتمي في أحضانها في أدب أو فلسفة وبالتالي لم يجد وازعا يقاوم حواسه وعواطفه ورغباته، وكان عقله المتحرر وفكره المتقلب يجدان أسبابا حافزة للاستسلام لرغباته ولم تتكشف له فحوى حكمة القيود التي فرضها المجتمع· ومن الظاهر أنه كبح ميوله للشذوذ الجنسي وعوضّ منها بالصداقات الحميمة المخلصة بل لقد استسلم لمفاتن أخته، وفي ديوانه (شايلد هارولد) يخبرنا بجسارة عن حبه:
لواحدة ذات صدر ناهد
ارتبط صدره بصدرها برباط أقوى
من الارتباط بالكنيسة (أو أقوى من رباط تعقده الكنيسة)
وعندما أدانه المجتمع الإنجليزي لإطلاقه العنان لشهواته أو لفشله في إخفائها، أعلن الحرب على النفاق الإنجليزي أو بعبارة أخرى تظاهر الإنجليز بالفضيلة، وراح يهجو الطبقات العليا المكونة من قبيلتين قويتين وأدان استغلال أصحاب المصانع للعمال، بل ودعا أحيانا للثورة:
يحمي الله الملك والملوك
لأنه إن لم يفعل، أشك أن يستمر البشر!
أظن أنني أسمع طائرا صغيرا يغني قائلا:
سيغدو الشعب - عما قريب - أقوى··
وكذا سواد الناس
الكل أخيرا سيتخلى عن العمل الزائف··
سأقول سعيدا: يالتعاسة!
إذا لم أدرك هذه الثورة
فيمكنني وحدي أن أنقذ العالم من دنس جهنم·
وعلى أية حال فإنه لم يكن ميالاً للديمقراطية فلم يكن يثق في الجماهير وكان يخشى أن تؤدي الثورة إلى دكتاتورية أسوأ من دكتاتورية الملك أو البرلمان· وكان يرى بعض المزايا في حكم الأرستقراطيين بالمولد ويتطلع إلى أرستقراطية نظيفة عاقلة مدربة تتسم بالكفاءة· فلم ينس أنه هو نفسه لورد فسرعان ما عارض رفع الكلفة والمساواة فقد كان يعرف أن وجود مسافة أو حدود في العلاقات الاجتماعية يُضفى سحراً عليها· وتغيرت نظرته لنابليون مع مرور الأحداث مادام نابليون قد توج نفسه إمبراطورا وسلّح نفسه بالألقاب فقد رآه بايرون خير صيغة وسطية بين الملوك والجماهير·(ملحق/989)
لقد كان بايرون يدعو أن ينتصر نابليون على كل ملوك أوربا حتى عندما كان نابليون يغزو إسبانيا وروسيا دون مبرر واضح، وقد وبخ الإمبراطور المهزوم (نابليون) لتنازله عن العرش بدلاً من أن ينتحر لكن عندما عاد نابليون من إلبا Elba عاد الشاعر (بايرون) يدعو له بالنصر ثانية على كل أعدائه المتحالفين ضده · وبعد ست سنوات عندما سمع بموت نابليون حزن حزنا شديدا لقد كانت الإطاحة به سهما أصاب رأسي فمنذ مات أصبحنا عبيداً للأغبياء ·
لقد كان بايرون خليطا مربكا من الأخطاء والفضائل، ففي حال غضبه يصبح فظا قاسيا، وفي أحواله العادية نجده ودودا متحفظا كريما· لقد كان يعطي أصدقاءه بكرم غير محسوب، فقد نقل إلى روبرت دالاس حق نشر (حق المؤلف في النشر) وكان هذا الحق يساوي ألف جنيه، ودفع ألف أخرى لفرانسيس هودجسون Francis Hodgson فأنقذه بذلك من الإفلاس، ووصفته تيريزا جويشيولي Teresa Guiccioli التي كانت تراه تقريبا كل يوم بأنه ملك angel ( بفتح اللام) حقيقي · لقد كان - أكثر من كولردج Coleridge بكثير - كبير ملائكة محطم يحمل في جسمه ميراثا من الصدوع، وضحها وكان خلاصه منها بالجرأة وكتابة الشعر بوفرة وقوة الفكر الثوري مما دفع جوته العجوز إلى وصفه بأنه أعظم عبقرية أدبية في قرننا ·
وبالمقارنة فقد كان شيلي ملاكاً غير مؤثر ذا طابع تاريخي، لكننا لا نستطيع أن نقول إنه غير مؤثر تماما فمن هو القائل إن أوراق الشجر ستتبعثر عند تجسد أشعاره· لم يضع بعض البذور لتنمو في جو التسامح الديني وتحرر المرأة وانتصار العلم وقيام التكنولوجيا وتألق الفلسفة وامتداد الحقوق الدستورية وإصلاح البرلمان مما جعل القرن التاسع عشر قرنا مدهشا؟(ملحق/990)
وكان شيلي ملاكا بشريا تماما، فقد كان له جسد استسلم لطلباته على الأقل من خلال إغوائه زوجتين على الهروب معه، دعنا من الحديث عن إيميليا فيفاني Emilia Viviani · لقد كان نحيلا معتل الجسد، يعاني ألما دائما في ظهره· وكان بطبيعة الحال مفرط الحساسية - ربما أكثر من بايرون - للمثيرات الداخلية والخارجية فلنتذكر خطابه المؤرخ في 16 يناير 1821 لكلير كليرمونت: "أنت تسألينني أين أجد المتعة؟ إن الريح والنور والهواء ورائحة الورد تؤثر في وتثير عواطفي". وكان مثلنا جميعا معجباً بنفسه على نحو خاص· لقد اعترف لجودوين (28 يناير 1812): "يبدو أن إفراطي في الأنا لا ينضب له معين". وعندما أخذ ماري جودوين، وطلب من زوجتة هاريت أن تصبح علاقته بها مجرد علاقة الأخ بأخته، فإنه كان يبحث عن إرضاء شهواته مثله في ذلك مثل أي كائن معرض للموت، وبرر الأمر لنفسه بأنه هاريت أقل من ماري اتفاقا معه في فلسفته وأفكاره·
وكان له رأي متواضع في شعره (لم يكن شاعراً مغرورا) إذ كان يصنف أشعاره في رتبة أدنى من أشعار بايرون· وكان مخلصاً متحفظا في صداقته إلى النهاية· لقد كتب بايرون مخبرا الناشر مري بوفاة شيلي:
"لقد كنتم جميعا قساة ومخطئين في حق شيلي، فقد كان - بلا استثناء - أقل من عرفت أنانية أو بعبارة أخرى أفضل الأنانيين الذين عرفتهم· إنني لم أعرفه بهيمة ترتدي ثياب البشر مقارنة بالآخرين".
وذكرهوج Hogg الشاعر بأنه: "غريب الأطوار ينسى واجباته ووعوده، يستغرق في التأمل والتفكير فينسي الزمان والمكان" ·
وهو بشكل عام غير عملي لكن ليس من السهل خداعه في أمور المال، ولم يتخل عن حقوقه الموروثه قبل نضال شديد·(ملحق/991)
وكان متوتر الأعصاب شديد الاستثارة مما يحول بينه وبين أن يكون مفكراً هادئا، وكانت تنقصه روح الفكاهة عند مناقشة أفكاره، وكان مغرماً دوماً بالخيال، فكان يهرب من الواقع إلى أحلام اليقظة· لقد اقترح أن نتخلص من الملوك والمحامين ورجال الدين، وأن نتحول إلى الحياة النباتية - مكتفين بتناول النباتات ممتنعين عن تناول اللحوم، كما كان يدعو لتخليص العلاقات الجنسية للبشر من كل القيود· إنه يرى أن كل هذه الأمور والقيود طارئة ليس لها أساس في طبيعة الإنسان ولا في ماضيه البيولوجي· لقد قالت أرملته المخلصة: "كان شيلي يعتقد أن البشر لا يجب أن يتطلعوا إلا للقضاء على الشر··· لقد احتفى بهذا الرأي احتفاء بالغا "· وكاد يهمل التاريخ إلا أنه كان يرى الإغريق مثاليين ولكنه كان يجهل أن الإغريق مارسوا الاسترقاق
ونحن نميل إلى المبالغة في بساطة شيلي لأننا ننسى أن الموت عاجله فلم يتركه يعيش حتى مرحلة النضج - لقد عرفنا بايرون وشيلي وهما لما يصلا بعد إلى مرحلة النضج فوصلا إلى قلوبنا كشاعرين رومانسيين كانا مفيدين جدا للحركة الرومانسية في إنجلترا، أما لو أنهما عاشا حتى الستين لكان من المحتمل أن يكونا مواطنين محافظين، وفي هذه الحال ربما كانت مكانتهما في التاريخ أكثر تواضعا، لكن موتهما المبكر جعلهما علمين في عالم الرومانسية·(ملحق/992)
إلا أن شيلي كان حقيقة قد أصبح بالفعل وهو في الثامنة والعشرين معتدلا، ففي سنة 1820 كتب مقالاً جوهريا بعنوان "نظرة فلسفية للإصلاح" نشره بعد كتابته بعام، أعلن فيه أن "الشعراء الفلاسفة هم مشرعو العالم غير المعترف بهم"· الشعراء لأنهم صوت الخيال يأتون بأفكار جديدة تدحض كثيرا من السخافات السائدة، وهذه الأفكار الجديدة تثير في وقت من الأوقات الناس وتحفزهم إلى التجربة والتقدم· والفلاسفة لأنهم يخضعون القضايا الاجتماعية للفكر العقلي الهادئ، وينظرون إليها بمنظور السنين· وكان شيلي - مثله في ذلك مثل بايرون والإنسانيين - ساخطا لأحوال العمال في مصانع إنجلترا، كما كان مستاء من البرود الذي تعامل به مالتوس Malthus في كتاباته مع مشكلة السكان وطريقة ضبطها بينما (أي مالتوس) ترك الأجور ليحكمها قانون العرض والطلب ·
وأدان البروتستنتية والكاثوليكية معا لفشلهما في إضفاء روح المسيح على العلاقة بين الأغنياء والفقراء · واقترح فرض ضريبة على الأثرياء لسداد الدين الوطني الذي تتطلب فوائده السنوية الباهظة فرض ضرائب ثقيلة على العامة · وأشار إلى أن زيادة السكان فيما بين 1689 و1819 قد أخل بالتناسب بين المصوتين Voters وغير المصوتين مما جعل انتخاب أعضاء البرلمان قاصرا على أقلية صغيرة، وهذا يعني من الناحية العملية حرمان الشعب من حق الاقتراع ·
وقد غفر لأرستقراطية ملاك الأراضي لأنها تأصلت بمرور الزمن وأصبحت راسخة من الناحية القانونية (ربما بالنظر إلى مستقبل آل شيلي) وكان يبارك انتقال الثروة بطرق معتدلة، لكنه كان يحتقر البلوتوقراطية plutocracy ( حكم طبقة الأثرياء) ممثلة في التجار وأصحاب المصانع والماليين · وامتعض من آراء مكيافيللي التي تعفي الحكومة من الالتزام بالأخلاق: فالسياسات في الواقع هي أخلاق الأمم ودافع عن الثورة الفرنسية وامتدح حكومة نابليون القنصلية وتبرأ من نابليون عندما توج نفسه إمبراطورا وحزن لهزيمة فرنسا في واترلو ·(ملحق/993)
ولم يجد كتاب شيلي (دفاع عن الشعر) الذي كتبه سنة 1821 ناشرا حتى سنة 1840· وهنا وجدنا الشاعر الذي نفى نفسه الآن يسقط الفلاسفة، ويعلي من شأن الشعراء باعتبارهم مشرعي العالم الأكثرين رقيا · ولقد عبر عن رأيه هذا الذي اطمأن إليه في مقدمة (بروميثيوس المنطلق):
"كتاب عصرنا العظماء هم الذين يواكبون (أو يسبقون إلى) بعض التغيرات التي لا يمكن تصورها في نظامنا الاجتماعي أو في الأفكار والآراء المرتبطة به· إن لدينا أسبابا معقولة لقولنا هذا· فسحابة العقل تفرغ ضياءها المتجمع· والتوازن بين المؤسسات institutions والآراء·يعود الآن أو لنقل إنه على وشك العودة "·
لكنه عاد الآن ليضيف: "سيكون عصرنا عصراً خالدا بسبب إنجازاته الفكرية، فنحن نعيش وسط فلاسفة على شاكلة كانط وفيتشه وهيجل وشيلنج وجودوين Kant, Fichte, Hegel, Schelling, Godwin, وشعراء من أمثال جوته وشيلر، ووردزورث، وكولردج وبايرون وشيلي Goethe, Schiller, Wordsworth, Coleridge, Byron, Shelley, فاقوا كل من تقدموا منذ النضال الوطني الأخير للمطالبة بالحريات المدنية والتحرر الديني"· (1642) ·
وعلى النقيض من ذلك وجدنا شيلي يقلل من شأن دور العلم في إعادة تشكيل الأفكار والمؤسسات، وكان العلم قد بدأ بالفعل في تحقيق دوره في هذا المجال· لقد حذر من ترك التقدم العلمي يسبق التطور الأدبي والفلسفي - فالعلم ليس أكثر من أداة لتحسين أدواتنا tools بينما التطور الأدبي والفلسفة هو غايتنا · وإلا زاد ثراء الأقلية الماهرة وأدى ذلك إلى زيادة تركز الثروة والسلطة ·(ملحق/994)
لقد انتقل استياء شيلي من أمور حميه المالية إلى فلسفة جودوين وقد استكشف شيلي كتابات أفلاطون من جديد (كان قد ترجم جانبا من حواراته) وانتقل من الاتجاه الطبيعي إلى التفسير الروحي للطبيعة والحياة· إنه الآن يشك في هيمنة العقل وقدرته المطلقة وفقد حماسه للإلحاد· وكلما اقترب من سن الثلاثين· وجدناه يتوقف عن مهاجمة الأمور الغيبية في الدين· إنه الآن يفكر في أن الطبيعة هي الشكل الخارجي أو الظاهري لروح (جوهر) داخلي، وتفكيره على هذا النحو يشبه كثيرا تفكير وردزورث الشاب (في هذه النقطة) · ولابد أن يكون هناك نوع من الخلود فالقوة الحيوية (الروح) في الفرد تنتقل بعد موته إلى شكل أو كيان آخر لكنها لا تموت ·
14 - نشيد بيزا: من 1821 - 1822 م
PISAN CANTO
عندما وصل بايرون إلى بيزا Pisa كان قد تجاوز تاريخه الجنسي بالكاد منذ فترة، فيما عدا ذكرياته المثالية كما في أبياته العرضية (التي أدرجها بين نشيدين) في (دون جوان) · وفي بيزا كانت تيريزا جويشيولي تعيش مع بايرون لكن المودة بينهما كانت قد قلت· كان يقضي معظم وقته مع أصدقائه وأصدقاء شيلي وكان يرتب لهم وجبة غداء أسبوعيا، وكانت المناقشات تجري حرة في هذه الأثناء، وكان شيلي يحضر ويجلس مهذبا لكنه كان حاسماً في سوق حججه، وكان ينسحب قبل أن يبدأ تناول الخمور شديدة التأثير· وحاولت تيريزا Teresa أن تعطي لحياتها الهادئة روحا بصداقتها لماري شيلر، وبقراءة التاريخ لتجاري ماري في اهتماماتها·(ملحق/995)
ولم يكن بايرون موافقا على دراسة تيريزا للتاريخ مفضلاً أن تكون المرأة جذابة وفاتنة وأن تكون عقلها تابعها لهذه الجاذبية وتلك الفتنة أو بتعبير آخر أن يكون عقلها في المحل الثاني· وكان ينسى أليجرا Allegra · ودبرت أمها مع ماري شيلي الذهاب إلى فلورنسا ليدبر ثلاثتهم خطة للذهاب إلى رافنا لإبعاد الفتاة وإحضارها لتعيش في مناخ أفضل للصحة، ولتعيش حياة أرحب· ورفض شيلي السماح بهذا، وأتت بعد ذلك أخبار مفادها أنه في 20 أبريل سنة 1822 ماتت في الدير بالملاريا وهي في الخامسة من عمرها· وكان لهذا الخبر أثره في فتور العلاقة بين شيلي وبايرون· وفي بواكير هذا الربيع كتب إلى لاي هنت Leigh Hunt: ثمة ميول خاصة في شخصية اللورد بايرون تحول دون الاقتراب منه والتودد معه، "وهو ما وجدت نفسي أعاني منه ·· فهو أمر لا يحتمل · يا صديقي العزيز هذا ما أعترف به وأفضي به إليك، ثقة مني فيك" ·
لقد حاول أن يخفي استياءه لأنه كان قد حث بايرون على دعوة هنت إلى بيزا لتحرير مجلة جديدة (الليبرالى- Liberal) التي خطط بايرون وشيلي أن يبدآ بها كشعبة أو فرع من المستخلص ربع السنوي Quarterly المحافظة· وأرسل بايرون إلى هنت المفلس 250 جنيها فأبحر مع أسرته من لندن آملا أن يصل ليهجورن Leghorn في أول يوليو سنة 1822 ووعد شيلي بلقائه هناك·
ومن الناحية الظاهرية كانت الشهور الستة الأولى من هذا العام الحاسم فترة سعيدة للشاعرين· فقد كانا يذهبان راكبين كل يوم تقريبا إلى نادي الرماية ليجربا براعتهما في إصابة الهدف· وكاد شيلي يضارع بايرون في هذا المجال· لقد كتب إلى بيكوك Peacock:
" إن صحتي تحسنت، ومشاغلي قلت، ورغم أن شيئا لن يعالج مشكلة تضاؤل أموالي فإن جيوبي تبدو كجيوب الأثرياء دائما خاوية، لكن أموالهم لا تنفد تماما".(ملحق/996)
وفي يناير توفيت زوجة والد بايرون فتركته (رغم انفصاله عن زوجه) وقد أضافت إلى دخله السنوي ثلاثة آلاف جنيه، فأمر - سعيدا - ببناء يخت مناسب في ليهجورن وعين جون تريلاوني John Trelawny قائداً له وأطلق على يخته هذا اسم بوليفار Bolivar احتفاء بثائر أمريكا الجنوبية ودعا شيلي وصديقيه الجديدين إدوارد وليمز Edward Williams وتوماس مِدْوِن Thomas Medwin للانضمام إليه مع آل جامبا في رحلة باليخت في الصيف القادم · وشارك شيلي ووليمز بقارب أصغر طوله 84 قدما وأقصى عرض له ثماني أقدام وكانت تكلفته ثمانين جنيها وأطلق عليه تريلاوني اسم (دون جوان Don Juan) إلا أن مارى غيرت اسمه إلى (إريل) Ariel ·
وفي انتظار حلول الصيف للقيام بالرحلة، أقام بايرون في هذه الأثناء بفيلا دوبوي Dupuy بالقرب من ليهجورن (جنوة) واستأجر شيلي ووليمز لأسرتيهما الكازا ماجني Casa Magni بالقرب من ليريسي Lerice على ساحل خليج سبتسيا (سبيزيا Spezia) إلى شمال ليهجورن بأربعين ميلاً· وفي 26 أبريل 1822 انتقل شيلي ووليمز إلى المقر الجديد (الكازا ماجني Casa Magni) وراحا ينتظران تسلم القارب (الجديد) ·
15 - تضحية: شيلي 1822 م
شيء من نزوات الشعراء هو الذي أملى اختيار هذا المكان الموحش لقضاء إجازة فيه· لقد كان الكازا ماجني Casa Magni واسعا جدا بالنسبة إلى أسرتين كما أنه لم يكن مؤثثا، وكان قديما يقترب من الانهيار· وكانت الغابة تحيطه من ثلاث جهات، أما واجهته فكانت تطل على البحر الذي كان يقذف بأمواجه أحيانا إلى أبوابه· وقد راحت ماري شيلي تتذكر فيما بعد قائلة:
"لقد احتفت بنا الرياح الهوجاء والعواصف عند وصولنا، وكان أهل المنطقة أكثر وحشة من المكان· وبمجرد أن ارتطمت سفينتنا بجزيرة البحار السبعة حتى كدنا نشعر أننا أبعد ما نكون عن الراحة والحضارة "·(ملحق/997)
وفي 12 مايو وصل القارب أريل Ariel من جنوى Genoa، فابتهج وليمز الذي سبق له العمل في البحرية، وابتهج شيلي الذي لم يكن يجيد السباحة، وراحا يقضيان كثيرا من الفترات بعد الظهيرة أو في الماء وهما يبحران على طول الساحل· وقلما كان شيلي في أي وقت مضى سعيدا بمثل هذه السعادة الفائقة· وكانت النسوة أحيانا ينضممن إليهما في نزهاتهما هذه، لكن ماري أصبحت حاملاً مرة أخرى وكان المرض يعاودها ولم تكن سعيدة لأن زوجها لم يتركها تقرأ خطابات أبيها الحزينة ·
وقد كتب شيلي في المنزل أو القارب قصيدته الأخيرة انتصار الحياة التي توقف فيها عند البيت رقم 544 بسبب رحلته الأخيرة· ولم يكن هناك انتصار في هذه الرحلة لأنها تصف مواكب الأجناس البشرية المختلفة في طريقها للفشل والانحطاط مسرعة إلى الموت· وفي البيت رقم 82 نجد تأثير روسو، فالشاعر هنا يتعرض لغباء الحضارة، فهو يظهر مشاهير التاريخ - أفلاطون وقيصر وقسطنطين وفولتير ونابليون - وقد وقعوا في أحابيل الاندفاع المجنون نفسه نحو الثروة والسلطة، ويوصي بالعودة إلى الحياة الطبيعية البسيطة، ولا يجد خلاصا للبشر إلا بذلك·
لم يكن شيلي قد بلغ الثلاثين بعدما فكر في الانتحار في 18 يونيو سنة 1822· لقد كتب إلى تريلاوني:
"أيمكنك أن تقابل أي عالم يستطيع أن يحضر حامض البروسيك Prussic acid أو خلاصة زيت اللوز المر··· سأعتبر ذلك فضلاً كبيرا إن أنت وفرت لي قدرا قليلا من هاتين المادتين···· إنني سأدفع أي مبلغ مطلوب مقابل هذا الدواء··· لست في حاجة لأن أخبرك أنني لا أنوي الانتحار في الوقت الحاضر لكنني أعترف لك أنني سأكون مرتاحا إذا ما امتلكت المفتاح الذهبي لغرفة أرتاح فيها راحة أبدية "·(ملحق/998)
وربما رغبة منه (شيلي) في مساعدة زوجته المريضة - دعا كلير كليرمونت Claire Clairmont أن تأتي من فلورنسا لقضاء الصيف في الكازا ماجني، وبالفعل أتت في أوائل شهر يونيو وكان هذا وقتا مناسبا لمساعدة ماري في عملية الإجهاض المهلكة· وفي 22 يونيو كان شيلي على وشك الانهيار العصبي وكان يعاني كوابيس مرعبة جدا حتى إنه كان يهب فزعا ويجري من غرفته إلى ماري وهو يصرخ· وفي أول شهر يوليو وصلتهم الأخبار أن لاي هنت Leigh Hunt وأسرته قد وصلوا إلى جنوى وأنهم يستعدون لمغادرتها بقارب نقل للانضمام إلى بايرون· وكان شيلي تواقا للترحيب بصديقه المخلص، ولتيسير استقبال بايرون له (لهنت) ولتدعيم شريكه الذي تضاءلت مصالحه في إصدار مجلتهما الجديدة، فقرر أن يبحر فجأة مع وليمز في القارب أريل Ariel إلى ليهجورن وكانت ماري قد أرهصت بالكارثة (حدثها قلبها أن كارثة ستقع): "لقد طلبت منه ألا يقوم بهذه الرحلة مرتين أو ثلاث·· ورحت أصرخ بمرارة عندما ذهب", وغادر القارب أريل (كازا ماجني) في ظهر الأول من يوليو ووصل ليهجورن Leghorn بأمان في التاسعة مساء· وحيّا شيلي صديقه هنت بسعادة وفرح لكنه أصيب بالإحباط عندما علم أن السلطات التسكانية Tuscan قد أمرت آل جامبا Gambas بمغادرة البلاد فورا وأن بايرون الذي قرر أن يلحق بتيريزا كان يخطط لمغادرة ليهجورن حالاً ليلحق بها في جنوى Genoa ·
ومع هذا وافق بايرون على الاحتفاء باتفاقيته مع هنت وخصص له ولأسرته غرفاً في الكازا لانفرانشي Casa Lanfranchi في بيزا Pisa، فصحبهم شيلي إلى بيزا فلما اطمأن إلى مقامهم عاد إلى ليهجورن في السابع من يوليو· وقضى صباح الأحد الموافق 8 يوليو في شراء مستلزمات أسرته في كازا ماجني· وحثه وليمز على الإسراع لانتهاز فرصة الرياح المناسبة إلى ليريسي Lerici، وكان قائد السفينة (البوليفار) قد تنبأ بهبوب عاصفة بعد ظهر هذا اليوم ونصح بتأخير الإبحار يوما، إلا أن وليم كان يلح على الإبحار حالا، فوافق شيلي وفي نحو الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر أبحر القارب أريل Ariel من ليهجورن وعلى متنه شيلي ووليمز وبحار شاب هو تشارلز فيفان Charles Vivian ·(ملحق/999)
وفي نحو السادسة والنصف من هذا اليوم هبت عاصفة عنيفة مصحوبة برعد ومطر على خليج سبيريا Spezia فهرعت مئات السفن والقوارب إلى داخل الميناء· وفي كازا ماجني كانت العاصفة قاسية جدا حتى إن النسوة الثلاث مكثن قلقات يعزين أنفسهن قائلات إن الزوجين لم يبحرا في هذه العاصفة وإنهما في أمان في ليهجورن ومضى يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس· وراحت ماري في وقت لاحق تتذكر ما حدث:
"إن الكرب الحقيقي الذي عانيناه في هذه اللحظات يفوق كل كرب وصفته والقصص والروايات، فمهما ذهب الخيال لا يمكن أن يعبر عن حالتنا تلك، فعزلتنا، وطبيعة السكان الفظة في القرية المجاورة ومجاورتنا للبحر الهائج، كل ذلك تضافر معاً ليبعث فينا رعبا غريبا"
وفي يوم الجمعة وصل خطاب من هنت إلى شيلي يضم سطورا جلبت مزيدا من الرعب إلى قلوب المرأتين المنتظرتين: "أخبرنا كيف وصلت منزلك لأنهم قالوا إن الطقس لم يكن مناسبا بعد إبحارك ونحن قلقون"·
وركبت جين وليمز Jane Williams وماري طوال النهار ليصلا إلى بيزا· وفي منتصف الليل وصلتا إلى كازا لانفرانشي، فوجدتا بايرون وهنت هناك فأكدا لهما أن شيلي ووليمز غادرا ليهجورن يوم الأحد، فركبا ليلا ووصلا ليهجورن في الساعة الثانية صباح السبت 13 يوليو، وهناك حاول تريلاوني وروبرتز تهدئتهما بقولهما إن الأمواج ربما تكون قد أزاحت القارب إلى إلبا أو كورسيكا· وعهد بايرون إلى روبرتز Roberts بركوب (البوليفار) للبحث في البحر وعند السواحل بين ليهجورن وليريسي Lerici، وصحب تريلاوني كلا من جين وماري وفي بحث غير مجد على طول الساحل بحثا عن أخبار عن الرجلين المفقودين ومكث مع المرأتين المنتحبتين في كازا ماجني حتى 18 يوليو، ثم فارقهما لإجراء مزيد من التحريات·(ملحق/1000)
وفي 19 يوليو عاد إليهما وأخبرهما بكل ما في جعبته من لطف أن جثتي زوجيهما قد عثر عليهما بالقرب من فيارجيو Viareggio في 17 أو 18 يوليو· (وفي 30 يوليو ثم العثور على جثة تشارلز فيفان مشوهة على بعد أربعة أميال إلى الشمال وتم دفنها على الساحل) واصطحب ماري وجين إلى بيزا وعرض عليهما بايرون الإقامة في كازا لانفرانشي لكهنا استأجرا غرفا بالقرب منه· وكتبت ماري إلى إحدى صديقاتها: "إن لورد بايرون رفيق جدا بي، وغالبا ما يأتي مع جويشيولي لرؤيتنا"·
وكان أهالي المنطقة قد دفنوا بالفعل الجثث في الرمال وقانون تسكانيا يمنع نقل الجثث التي تم دفنها لإعادة دفنها من جديد في مكان آخر، لكن تريلاوني كان يعلم رغبة زوجة شيلي في دفن رفات زوجها بالقرب من رفات ابنه وليم في روما، فحث سلطات تسكانيا للسماح بإخراج رفاته على أن يتم حرقها على الساحل، وكانت جثة شيلي وصديقه قد تعفنتا أو تآكلتا فصعب تعرفهما، إلا أنهم وجدوا في أحد جيوب معطف أحدهما مجلدا لسوفكليس Sophocles وفي الجيب الآخر مجلداً لكيتس Keats·
وفي 15 أغسطس، وقف هنت، وتريلاونى مع مسئول الحجر الصحي، والكابتن شنلي Shenley وهو ضابط إنجليزي بينما تولت مجموعة من الجنود إحراق بقايا وليمز· وفي اليوم التالي تم النبش عن رفاة شيلي وتم إحراقه في حضور بايرون، وهنت وتريلاوني وبعض الفلاحين المجاورين، وقذف تريلاوني في اللهيب المشتعل في الرفات عطورا ونبيذا وزيتا وراح يترنم ببعض الدعوات طالبا أن يعود رماده إلى الطبيعة التي عبدها · ولم يطق بايرون تحمل المشهد إلى نهايته فسبح إلى (البوليفار) وبعد ثلاث ساعات تقريباً كان كل الجسد [الرفات] قد أصبح رمادا خلا القلب، فانتزعه تريلاوني من النار معرضا يده للإصابة بالحروق· وتم نقل رماد الرفات في سلة إلى روما، وتم دفنها في مقبرة جديدة بالقرب من مقبرة قديمة للبروتستنت تضم رفات ابنه وليم· أما قلب شيلي مقدمه تريلاوني لهنت الذي فقدمه بدوره لماري، وعند موتها في سنة 1851 تم العثور على رماد القلب في نسختها من كتاب أدونيس Adomaus·
16 - التجلي: بايرون 1822 - 1824 م(ملحق/1001)
في سبتمبر 1822 انطلق بايرون وآل جمبا Gambas من بيزا إلى ألبارو Albaro إحدى ضواحي جنوى· لقد أرهق بايرون بدنه وعقله منذ غادر إنجلترا، فبدأ يضجر حتى من حب تيريزا غير المضجر· لقد أزاحت عيناه الحادتان وروحه الساخرة ما على وجه الحياة من حجاب ويظهر أنه لم يترك حقيقة تحفزه على الإخلاص والمثالية· لقد كان أشهر شاعر على قيد الحياة لكنه لم يكن معتزا بشعره فالآلام المحمومة التي ظهرت في عمله (شايلد هارولد) بدت الآن تنم عن جبن، والملاحظات الساخرة في (دون جوان) تركت المؤلف والقارئ وقد خاب أملهما وتحررا من الوهم·
إنه يشعر الآن أن على الإنسان أن يقدم للبشرية شيئا أكثر من الشعر وفي جنوى طلب من طبيبه أن يدله على أفضل سم وأسرعه مفعولا · وعرض عليه اليونانيون موتا يخلصه· لقد سقطت اليونان في أيدي الترك (العثمانيين) في سنة 1465 وأصبحت مخدرة في ظلال حكم أجنبي· وكان بايرون قد دعا اليونانيين في قصيدته الطويلة (شايلد هارولد) (النشيد 2/الأبيات 73 - 84) للثورة ضد حكم الأتراك (العثمانيين): أيها الأرقاء! / ألا تعلمون أن تحرركم يحتاج إلى هبة كالإعصار؟ ·
وثار اليونانيون في سنة 1821 لكن كان ينقصهم السلاح والمال والوحدة، وكانوا يصرخون طالبين المساعدة من الأمم التي استفادت من تراثها الخصب، وأرسلت اليونان لجنة إلى لندن طالبة العون المالي، وأرسلت اللجنة ممثلين إلى جنوى متحدية بايرون أن يرسل بعض أمواله للتعجيل بالثورة التي كان يدعو إليها· وفي 7 أبريل 1823 أخبر المبعوثين أنه رهن إشارة الحكومة اليونانية المؤقتة·(ملحق/1002)
لقد تحول بايرون من الشعر إلى العمل· إنه قد كرس نفسه الآن للأفعال لا الأقوال· لقد أفسحت التعبيرات الساخرة الطريق للعمل من أجل قضية· لقد تنحى الشعر، وخرجت الرومانسية من قافيتها لتبحث عن حل· وبعد أن خصص جانبا من ميزانيته لآل هنت، وتيريزا على نحو خاص، جعل ما تبقى من ثروته لصالح الثورة اليونانية· لقد أصدر تعليماته لوكلائه في لندن لبيعوا كل ما يملك في إنجلترا ويرسلوا إليه المبالغ، وباع (البوليفار) بنصف تكلفته واتفق أن تقوم سفينة إنجليزية لتستقله هو، وبيترو Pietro جمبا Gamba وتريلاوني Trelawny إلى اليونان وأن تكون السفينة مزودة ببعض المدافع والذخيرة وإمدادات طبية تكفي ألف رجل مدة عامين·
وناضلت تريزا لإثنائه عن عزمه كي يكون إلى جوارها، فرفض برقة ورضي عندما علم أنها ووالديها قد حصلوا على إذن بالعودة إلى رافنا، وأخبر ليدي بليسنجتون لدى شعور أنني سأموت في اليونان· أتمنى أن يتحقق هذا، فلو حدث لكان خير نهاية لحياة كئيبة جدا ·
وفي 16 يوليو 1823 أبحرت السفينة ( Hercules) من جنوى قاصدة اليونان· وبعد تأخير كان مدعاة لسخطه رست في 3 أغسطس في ميناء أرجوستوليون Argostolion في سيفالونيا أكبر الجزر الأيونية· وبوصولهم لهذه الجزيرة يكونون على بعد خمسين ميلا من اليونان لكن بايرون أجبر على تضييع عدة شهور فيها· لقد كان يأمل أن ينضم في ميسولونجي Missolonghi بأهم الزعماء اليونانيين لكن ماركو بوزاريس Marco Bozzaris كان قد لقي حتفه في أثناء العمليات، وكانت ميسولونجي في أيدي الأتراك العثمانيين كما كانت السفن الحربية العثمانية تتحكم في كل السواحل المؤدية إلى البر اليوناني من جهة الغرب·(ملحق/1003)
وفي بواكير شهر ديسمبر استعاد الأمير أليكزاندروس مافروكورداتوس Alexandros Mavrokordatos، ميسولونجي، وفي 29 من الشهر نفسه غادر بايرون جزيرة سيفالونيا Cephalonia وكتب الكولونيل ليسستر ستانهوب Leicester Stanhope ممثل اللجنة اليونانية التي كانت تجمع الأموال في إنجلترا لمساعدة الثورة اليونانية - كتب من ميسولونجي: الكل يتطلع إلى وصول اللورد بايرون كما لو كانوا ينتظرون المسيح المخلص ووصل المخلص الشاب بعد عدة مغامرات وبعد اجتياز عدة مشاكل أدت لتأخره إلى ميسولونجي في 4 يناير سنة 1824 فتلقاه الأمير والناس بفرح غامر·
وعهد إليه مافروكورداتوس بقيادة ستمائة من السوليتو Suliotes، وتقديم المؤن لهم ودفع رواتبهم (والسوليتو فرقة انتحارية جزء منها يونانيون وجزء ألبان ولم يكن منظرهم ملهماً للورد بايرون وكان يعرف أن الثورة اليونانية منقسمة إلى فصائل متنافسة تحت قيادات ذوات ميول سياسية أكثر منها حربية· ومع هذا فقد كان سعيدا للقيام بدور فعَّال ولم يتأخر عن تقديم المساعدة· لقد قدم إلى مافروكورداتوس وحده نحو ألفين من الجنيهات كل أسبوع لتمويل أهالي ميسولونجي بالطعام والمشروبات· وفي هذه الأثناء كان يعيش في فيلا شمال المدينة بالقرب من الساحل· يقول تريلاوني: "عند حافة أسوأ مستنقع رأيته في حياتي"· وثبت أن السوليتو غير منضبطين ويميلون للتمرد، وكانوا مشتاقين لأمواله أكثر من رغبتهم لطاعة أوامره· وكان الشاب لوشينفار Lochinvar يأمل تأجيل الأعمال العسكرية حتى يتم استعادة النظام والانضباط، ولم يكن تريلاوني ميالا للتأجيل فمضى يبحث عن المغامرة في أي مكان· ولم يبق إلا بيترو جامبا قريبا من بايرون يرعاه قلقاً عليه لمعاناته من الحرارة والفزع والملاريا malarial air ·(ملحق/1004)
وفي 15 فبراير أصبح وجه بايرون على حين فجأة شاحبا في أثناء زيارة الكولونيل ستانهوب Stanhope، وسقط مغشيا عليه وراح في حالة تشنج فاقد الوعي· واستعاد وعيه فتم نقله إلى فيلته وتجمع حوله الأطباء وراحوا يفصدون بعلقات leeches تسحب الدم، وعندما تم إبعاد العلقات لم يتوقف نزيف الدم ووهن بايرون وأصبح يعاني من نقص دمه· وفي 18 فبراير تمرد رجال الكتيبة التابعة له (السوليتو) مرة ثانية مهددين باقتحام فيلته وقتل كل الأجانب الذين يقابلونهم· فهب من سريره وهدأهم لكن أمله في قيادتهم ضد الترك في ليبانتو كان قد تلاشى وضاع بذلك حلمه بموت بطولي مثمر· وتلقى خطابا - كان كالعزاء له - من أوجستا لاي Augusta Leigh به صورة لابنته أدا Ada مع وصف لعادات الطفلة وميولها كما قدمته أنابلا - فالتمعت عيناه بالسعادة للحظات، فقد تنكرت له كل الأمور التي ألفها الناس·
وفي 9 أبريل ذهب راكبا إلى بيترو Pietro وفي أثناء العودة دهمهم مطر عنيف وفي هذه الليلة عانى بايرون من القشعريرة والحمى· وفي 11 من الشهر نفسه زادت حالته سوءا فلزم سريره وشعر بانهيار قواه وأدرك أنه على وشك الموت· وفي أيامه العشرة الأخيرة كان يفكر أحيانا في الدين لكنه ذكر الحقيقة أنني أجد صعوبة في معرفة ما يجب الاعتقاد فيه في هذا العالم وما لا يجب· هناك أسباب كثيرة معقولة تدفعني لأن أموت متعصبا، تماما كتلك الأسباب التي جعلتني أعيش حتى الآن مفكرا حرا وذكر الدكتور جوليوس ميلينجن Julius Millingen - طبيبه الرئيسي:
يجب أن أذكر بأسف لا حد له أنه رغم كوني لم أفارق وسادة اللورد بايرون خلال فترة مرضه الأخيرة إلا نادرا، فلم أسمعه يشير إلى الدين أية إشارة، غير أنني في لحظة واحدة سمعته يقول هل سأطلب الرحمة؟ وبعد فترة صمت طويلة قال تعال! تعال! لا ضعف، فلأكن رجلاً حتى النفس الأخير· وهذا الطبيب نفسه يرون عنه قوله: لا ترسلوا جثتي إلى إنجلترا· دعوا عظامي تفنى هنا! اطرحوني في أول ركن دون جلبة ولا تصرفات حمقاء ·(ملحق/1005)
وفي 15 ابريل، بعد أن انتابته حالة تشنج أخرى سمح لأطبائه بفصد دمه ثانيةً، فأسالوا منه رطلين من الدماء ورطلين آخرين في فترة لاحقة، ومات في 19 أبريل 1829· وأظهر تشريح جثته - ولم يكن هذا أمرا معتادا - إصابته بتبول الدم (اختلاط بوله بدمه) ولم تكن هناك علامات على إصابته بداء الزهري (السيفلس syphilis) وظهرت أدلة أن كثرة الفصد والأدوية المسهلة (المسببة للإسهال) كانتا هما الأسباب الأخيرة لموته· وكان مخه من أكبر الأمخاخ المعروفة - إذ كان يزن 710 جرامات وهو رقم يزيد على أعلى متوسط لمخ الإنسان العادي· وربما أضعفه وعجل بنهايته ما عرف عنه من إفراط في الأمور الجنسية، وإفراطه في تناول الطعام أحيانا، وإفراطه في الحمية أحيانا أخرى بغير ضابط، فقد أضعف كل هذا مقاومته للإجهاد والقلق والهواء الرطب المحمل بالعفونة·
ولم تصل أخبار موته إلى لندن حتى 14 مايو، إذ حمل هوبهوس Hobhouse هذا الخبر إلى أوجستا لاي، وقد صدما معاً بهذا البناء · والآن عاد هوبهوس لمشكلة المذكرات السرية لبايرون· لقد كان مور Moore قد باعها للناشر مري Murray بمبلغ ألفين من الجنيهات، فحاول هذا الأخير دفعها للمطبعة رغم تحذير مستشاره وليم جيفورد قائلاً على حد تعبير هوبهوس:
"إنها لا تصلح إلا لبيوت الدعارة والمواخير وستسيء كثيرا جدا إلى اللورد بايرون وستلحق به عاراً أبديا إن نشرت"·
واقترح مرى وهوبهوس إتلاف المخطوطة، واعترض مور ولكنه وافق أن يترك الأمر لرأي السيدة لاى Leigh فكان من رأيها إحراق المذكرات، وتم ذلك بالفعل، وأعاد مور الألفي جنيه إلى مري·
وأصر فلتشر الخادم العجوز الذي صاحب لورد بايرون على أن سيده قد عبر عن رغبته قبل موته بقليل أن يدفن في إنجلترا، إلا أن السلطات اليونانية وعامة اليونانيين اعترضوا على ذلك لكن كان عليهم أن يقنعوا بأجزاء من أمعائه تمت إزالتها قبل تحنيطه· وتم حفظ بدنه باستخدام 180 جالون من الخمور، ووصلت الجثة بالفعل إلى لندن في 29 يونيو، وتم تقديم طلب لسلطات كنيسة وستمنستر لدفن الشاعر في الركن المخصص للشعراء فيها لكن الطلب لم يلق قبولا·(ملحق/1006)
وفي 9/ 10 يوليو سمح للعامة بإلقاء نظرة على الرفات المكفن فأقبل أناس كثيرون من قليلي الذكر، لكن بعض ذوي الحيثية سمحوا بأن تسير عرباتهم الخالية (أي التي لم يكونوا هم أنفسهم فيها) بالسير في الموكب الذي واكب الجثة من لندن إلى نوتنجهام في 12 - 15 يوليو· ورأت كلير كليرمونت، وماري شيلي من النافذة، موكب الجنازة وهو يتحرك· وفي 16 يوليو جرى دفن الشاعر في قبو أجداده بجوار أمه في كنيسة هكنال توركارد Hucknall Torkard - وهي قرية بالقرب من مبنى نيوستيد، وهو مبنى دير قديم لم يعد يستخدم كدير Newstead Abbey ·
17 - الباقون على قيد الحياة
عاش معظم من لعبوا أدوارا في حياة بايرون الحافلة في الحقبة التالية لوفاته· وكان أسرعهم لحاقاً به هو بيترو جامبا الذي عاد لليونان بعد أن رافق جثمان بطله (بايرون) إلى لندن، وظل وفيا للثورة اليونانية ومات بالحمى في سنة 1827 - وأصبحت ليدي كارولين لامب مريضة جدا عندما أخبرها زوجها أن جثمان بايرون قد مر في طريقه إلى مثواه الأخير، وكانت قد هجته في روايتها Glenarvon (1816) لكنها الآن تقول إنني آسفة على كل كلمة غير طيبة قلتها في حقه ·
وقد عاشت بعده ما لا يقل عن أربع سنوات - وورثت أوجستا لاي - بناء على وصية من بايرون كل ما تبقى من ثروته تقريبا (نحو مائة ألف جنيه) وأنفقت معظمها في دفع ديون زوجها وأولادها الناتجة عن المقامرة، وماتت فقيرة سنة 1852 - وليدي بايرون ظلت تذكر بشيء من الخير الرجل الذي تسببت شروره الموروثة لعنة لزواجها· لقد كتبت:
"طوال ما بقى لي من حياة تظل مشكلتي الرئيسة هي أنني لا أتذكره بمودة كبيرة · ومع هذا فبعد كل الأمور التي اتضحت أقول لقد كان هناك موجود (إنسان) أفضل بكثير·· لقد كان صدره يعتمل بما هو أفضل ··لقد كان كثير التحدي لكنه لم يستطع التدمير أبدا "·(ملحق/1007)
وابنتهما أدا Ada التي كان اللورد بايرون يعقد عليها الآمال تزوجت من الإيرل الثاني للوفيلاس Lovelace وفقدت ثروتها في الرهان على سباق الخيل وأنقذتها أمها من الإفلاس، وفقدت صحتها وآمالها - كأبيها - فماتت في السادسة والثلاثين (1852) وحاولت ليدي بايرون أن تملأ وحدتها بالعمل في مجال الخدمة العامة، وماتت في سنة 1860·ودخل جون كام هوبهوس البرلمان كراديكالي، وارتقى ليصبح وزيرا في فترة الحرب (1832 - 1833) وأصبح بارونا ومات في سنة 1869 في الثالثة والثمانين من عمره·
وعادت تيريزا جويشيولي - بعد وفاة بايرون - إلى زوجها لكنها سرعان ما عملت على الانفصال عنه، وتم لها ما أرادت· وكونت علاقات لم تطل مع صديق بايرون الأعرج هنري فوكس ومع لامارتين الشاعر الفرنسي المعجب ببايرون· وتنقلت بين العاشقين، ولم يطل مقامها مع أي منهم إلا قليلا وأخيرا تزوجت وهي في السابعة والأربعين من ماركيز بوسي Marquis da Boissy وكان ثريا لطيفاً يقدمها لمعارفه وأصدقائه بفخر قائلا: "زوجتي، والعشيقة السابقة لبايرون"· (على وفق وجهة النظر الإنجليزية المجحفة شيئاً ما) وعندما مات الماركيز اشتغلت بتحضير الأرواح (الاتصال بأرواح الموتى) وتحدثت مع روح بايرون وروح زوجها الذي مات وقالت: "إنهما معاً الآن، وهما أفضل الأصدقاء" - تقصد يصادق كل منهما الآخر صداقة مخلصة عميقة وماتت في سنة 1873 في الثانية والسبعين من عمرها بعد أن كتبت عدة كتب تصور فيها بايرون كعبقري ورجل مهذب لا عيوب فيه - وماتت كلير كليرمونت في سنة 1879 عن عمر يناهز الواحدة والثمانين وظلت حتى آخر أيامها متمسكة برأيها في بايرون بأنه مجرد تركيبة من العبث والغباء وكل ضعف بائس - قلما تجتمع في مخلوق بشري واحد ·
أما ماري شيلي فرغم ما لحقها منه ببعض الضرر فقد كانت تحتفظ لألبي Albe [ كما كان يطلق عليه المحيطون به - أي ببايرون -] بمشاعر أكثر ودّاً، فعندما علمت بوفاته كتبت:
"آه يا ألبي Albe ( المقصود اللورد بايرون) - أيها العزيز الفاتن المتقلب ألبي - غادرت هذا العالم الخرب، فليمنحنى الرب موتا باكرا في شبابي"(ملحق/1008)
وأمضت كثيرا من وقتها فيما تبقى لها من العمر (27 سنة) في تحرير كتب زوجها بحب ورعاية مستخدمة فصاحتها وقدرتها على البيان·
أما لاي هنت الذي كان قد تجاسر وامتدح أشعار شيلي في الوقت الذي أدانها كل النقاد تقريبا باعتبارها أوهام مراهقة - فقد ظل مخلصاً لراديكاليته الشابة وكتب مذكرات معادية لبايرون، وظل على قيد الحياة حتى 1859·
أما توماس جيفرسون هوج فبعد تجارب عاطفية مختلفة - تزوج من أرملة وليمز (جين) وعاش معها السنوات الخمس والثلاثين الباقية من حياته· وكان الأكثر لفتاً للنظر هو إدوارد جون تريلاوني الذي دخل حياة شيلي في بيزا، وكان كلاهما في الثلاثين من عمره· وكان شيلي يقترب من نهايته، بينما كان على تريلاوني أن يعيش تسعا وخمسين سنة أخرى· "لقد كان هذا الفارس الجوال··· الداكن الوسيم ذو الشارب الكبير" (كما وصفه هنت) قد قام بكثير من المغامرات في كثير من البلاد، حتى إن استعادته لما مر به من ذكريات وأحداث لم يكن يسبب ضيقاً لأصدقائه الجدد· ورغم أن بايرون قد عينه مسئولا عن خيوله وعن قاربه الفخم (يخته) بوليفار، فقد كان يحب كثيرا شيلي هذا الصبي الأمرد حسن الطباع· وبعد أن شهد وصول بايرون بأمان إلى ميسولونجي (وإن كان - أي بايرون - قد اضطر للبقاء هناك دون قدرة على الحركة لفترة) انطلق ليبحث عن قدره متوقعاً أن يموت في سبيل القضية اليونانية· لقد رأى اليونان وهي تتحرر فواصل تجواله وعاش حتى سنة 1881 وتم دفنه في مقبرة اشتراها في سنة 1822 بالقرب من رفات (رماد) شيلي في المقبرة الإنجليزية في روما·(ملحق/1009)
الفصل الثالث والعشرون
جيران إنجلترا من 1789م إلي 1815م
1 - الاسكتلنديون
كانوا تحت الحكم البريطاني منذ إتحاد 1707, متمتعين بحرية الحركة والتجارة داخل الجزيرة, ولكن لم يرضخوا أبداً لحكومة تُدار ببرلمان بعيد الذي فيه المجلس التشريعي لـ 1,800,000 نفس اسكتلنديه ممثله بـ 45 نائب مقابل 513 يمثلون 10,164,000 من مواطنين إنجلترا وويلز. من الأعضاء الاسكتلنديين, 15 تم تعينهم بشكل ثابت أرشوا مجلس المدينة الذي كان الأعضاء يتم اختيارهم بإجمالي 1,220 ناخب في كل دائرة انتخابية. الثلاثون الباقية يتم انتخابهم بواسطة المقاطعات الريفية في امتياز محدود لملاك الأراضي الكبار, ولذلك مقاطعة بيوت Bute التي بها 14.000 ساكن, لديها 12 ناخب, وكل المقاطعات مجتمعة لديها 2,405 ناخب. معظم المرشحين الناجحين, تم اختيارهم بواسطة النبلاء الكبار أصحاب العقارات الواسعة والقديمة, النظام الإقطاعي تم إلغاءه في اسكتلندا عام 1748, لكن الفقر ظل, منذ أن كان الجشع والتمييز من صفات الإنسان.
عموماً اسكتلندا مثل إنجلترا, قبل هذا الشكل من التمثيل الحكومي كأفضل ما يمكن لشعب مولع بالتقاليد, وينزعج بشدة من الاحتياجات اليومية لاكتساب المعرفة والخبرة المطلوبة للاقتراع العقلاني علي القضايا الوطنية.(ملحق/1010)
كان الدين أقوي من الدولة. وكان السبت ( Sabbath) عبادة قاتمة وذكرى للخطيئة, الكهنة يعظون بسقوط آدم (في الخطيئة) , وشيطان النفس, والرب المنتقم, وكان الحشد متمرس في المعتقدات والأخلاق أكثر من القسيسين. رئيس الكنيسة ديفيد, في "قلب ميدلوثيان" ( The Heart of Midlothian) , ( أمتأكد أن الفتاة التي تذهب للرقص سوف تذهب للجحيم). على الرغم من هذا اسكتلندا كَانتْ في عِدّة أشكالِ قبل إنجلترا. كان عندها نظام حقيقي للمدارس الوطنية العامة: في كل أبرشية parish تطلبت مدرسة حيث فيها الأولاد والبنات معاً يتعلمون القراءة والحساب, مقابل هذا التعليم يدفع الآباء شلنين كل ربع سنة, ومقابل شلنين إضافيين يتم تعليمهم ألاتينية. وأطفال الفقراء كانت تدفع لهم الأبرشية, وعندما كانت الأبرشية توسعت كثيراً لتجمع أطفالها معاً, مدير المدرسة المتجول جلب بعض المدرسيين لكل قسم في الفصل الدراسي, كان المدرسيين خاضعين بصرامة لكهنة الأبرشية, وكانوا يتوقعون أن يساعدوا في نقل اللاهوت المروع, بالنسبة للكبار وجدوا أن الكالفينية Calvinism تكون طريقة اقتصادية تجعل رئيس البلدة sheriff يستقر في كل نفس (من المواطنين) ,عدد لا بأس به ممن لم تثبط عزيمتهم قاوموا ليقودوا التنوير الاسكتلندي في أجيال سبقت الثورة الفرنسية, وليستمروا به, إلي حدٍ ما كان هادئ في عصر نابليون.(ملحق/1011)
الاسكتلنديين كانوا فخورين بجامعاتهم , سانت اندرو St. Andrews ( أسست في 1410) , جلاسجو Glasgow (1451) , أبرديين Aberdeen (1494) , ادنبره Edinburgh (1583) , اعتبروا أنفسهم في عديد من المجالات أفضل من أكسفورد وكمبردج, وبعض العلماء الحديثين أيدوا ذلك, في التعليم الطبي معترف بالصدارة لجامعة ادنبره , وأعيد تأسيسها في 1803, كانت بالقبول العام الأكثر تألقاً بشكل دوري في بريطانيا العظمي, والمحامي اللبرالي الشجاع توماس إرسكين Thomas Erskine (1750-1823) أبرع من كل المحامين تقريباً قبل جماعة محامين لندن ( London bar) , يجب الاعتراف بذلك, علي أية حال, ذلك عندما جاءوا ليخمدوا نية التحرر - خصوصاً عندما كان التأيد مع فرنسا الثورية - لم يستطيع رجال القانون الإنجليز أن ينافسوا الاسكتلندي.(ملحق/1012)
ومن ناحية أخري المناخ الفكري في ادنبره وجلاسجو استمر في تأيد الحرية, التي حمت ديفيد هيوم, وليم روبرتسون, جيمس بوزويل, روبرت بيرنز, وآدم سميث David Hume, William Robertson, James Boswell, Robert Burns, Adam Smith. نحن نقول ليس فقط الطلاب بل كل المفكرين من ادنبره تراهم كانوا يدونون ملاحظات في محاضرات ديجول ستيوارت Dugald Stewart الفلسفية. ستيوارت غالباً منسي اليوم خارج اسكتلندا, ولكن واحد من الصروح المهيبة في ادنبره هو معبد صغير كلاسيكي أقيم لذكراه. هو تلي توماس رايد Thomas Reid في تعليم الاستنتاجات الشكوكية skeptical لهيوم وعلم النفس الميكانيكي لديفيد هارتلي David Hartley ليلفت النظر "للإحساس العام". رفض فلسفة الميتافيزيقية (ما وراء الطبيعة - metaphysics) كمحاولة عابثة للعقل ليسبر أغوار طبيعة العقل (البارون مونتشاوزن Munchausen فقط يستطيع أن يرفع نفسه لأعلى بلبيسة الحذاء bootstrap) مكان ميتافيزيقيا ستيوارت يقترح علم النفس الإستقرائي inductive psychology, الذي يستطيع أن يدرس المريض ويضبط الملاحظات عن العمليات الذهنية بدون أن يتجرأ ليشرح الذهن نفسه, ستيوارت Stewart رجل الإدراك والأسلوب, هو الذي أعطي قياس ذكى للإدراك, الأحلام الوهمية, والمَلَكه الشِعرية. (بلدته مازالت ينبوع أغاني الحب, وبعض من الألحان الرقيقة التي أدفئت شبابنا جاءت من رصيد ومنحدرات اسكتلندا).(ملحق/1013)
جيمس مل James Mill (- ذلك الذي اتخم ابنه بالتعليم - كان الرجل الطيب والواسع الفكر.) ابن صانع الأحذية, ربح شرف الإغريق في جامعة ادنبره, تخرج وذهب للندن, عاش حياه محفوفة بالمخاطر بمهنة الصحافة, تزوج ورزق بابن سُمي علي اسم صديقه عضو البرلمان M.P. جون ستيوارت John Stuart. مابين 1806 و1818 كتب تاريخ الهند البريطانية. وفي هذه الأثناء (1808) قابل جيرمي بنثام Jeremy Bentham, وبحماسة شديدة قبل العرض النفعي الذي معه التقاليد الأخلاقية والسياسية والمفاهيم العامة يجب أن تُقيم علي حسب قدرتها علي تحسين سعادة البشرية. فيضان من الأفكار والطاقة, ميل صنع بنفسه هوامش بنثام Bentham لبريطانيا. للطبعة الربعة (1810) والخامسة (1815) والسادسة (1820) من الموسوعة البريطانية Encyclopaedia Britannica ( التي في حد ذاتها مشروع اسكتلندي) هو كتب مقالات - في الحكومة, فقه القانون, إصلاح السجون, التعليم, تحرير التجمهر - الذي أعيد طبعه, وحاذ توزيع وتأثير واسع.
هذه المقالات, ومساهمته لـ "مراجعة وستمنستر Westminster Review", أصبح قوة في الحركة التي أعادة تشكيل قانون 1832 , تحت تلك الزعامة الراديكالية البريطانية تحولت من الثورة الكاملة إلي الإصلاح التقدمي من خلال حكومة معتمدة علي اقتصاد متوسع (1821) ميل حذر من ترك النمو السكاني ليزيد عن رأس المال, واقترح ضرائب "زيادة الدخل - unearned increment" - العمال رفعوا في قيمة الأرض. في تحليل ظاهرة عقل الإنسان (1829) هو حاول أن يشرح كل العمليات العقلية التي تصاحب الأفكار. وقبل وفاته بسنة في عام 1835 ,نشر "مقتطفات علي ماكنتوش - Fragment on Mackintosh".(ملحق/1014)
السير جيمس ماكنتوش Sir James Mackintosh واصل التعليم الاسكتلندي لإنجلترا. بعد أن اكتسب أدوات التفكير في جامعة أبرديين وادنبره, هاجر إلي لندن (1788) حالاً ارتعش للتمرد الشعبي الذي استولي علي الباستيل, في 1790 استاء لانعكاسات إدموند بورك Edmund Burke العدائية علي الثورة الفرنسية, وفي 1791 أجاب بـ "برهان الديمقراطية الفرنسية" فندشى جاليكي Vindiciae Gallicae , الفيلسوف ذي الستة وعشرون عاماً رأي, في أولي مراحل الكارثة cataclysm, صوت النبلاء noble وفاكهة الفلاسفة الخيرين, بينما الحكومات الملكية المُهددة لم تكن (كما يقترح بورك) الحكمة المُجربة للتقليد والخبرة ولكن البقية المضطربة للمؤسسات العشوائية, والأحداث المفاجئة, والإصلاحات المرقعة.
كل الحكومات الموجودة في العالم اليوم (ما عدا الولايات المتحدة الأمريكية) شُكلت مصادفةً ...... لم يكن بالتأكيد أحداً يخمن أن تلك الحكومات المحظوظة ستفوق ما يعمله العقل ...... كان هذا هو الوقت الذي فيه علي الرجال أن يتعلموا يتقبلوا لا تاريخ لا يعني عدم الاحترام, ولتُقلص من - لا بدعه - إلي - الأسباب التي يمكن إدارتها. كان هذا الوقت الذي فيه القوى البشرية .... يجب أن تضع علامة لعصر era جديد في التاريخ. بولادة فن الحكومة المُتحسنة, وزيادة السعادة المدنية للإنسان.
مثل ما الثورة تحيد عن مثاليات الفلاسفة لاستبداد فوضوي يُرهب الرجال, ماكنتوش عَدَّل نظريته, وكَيَّفَ نفسه للقوة الاجتماعية لتعتدي عليه. مُحاضراته في "قانون الطبيعة والأمم The Laws of Nature and of Nations" (1799) معالجه, علي الطريقة التي أرادها بورك المُتفائل, كيفما المؤسسات الاجتماعية تستطيع أن تنتج - في تطورات فردية - عادات العمل وأحكام الضمير الذي يكتسب كل مظاهر ما هو فطري, ولهذا الراشدين, خلال الحضارة, ليس نتاج الطبيعة فقط ولكن للتنشئة أيضاً. - في سنواته الأخيرة كتب ماكنتوش, من البحوث الأصلية والوثائق, "تاريخ الثورة في إنجلترا" (1832).(ملحق/1015)
نحن يمكن أن نحكم من تلك الأمثلة أن الحضارة الاسكتلندية لم تكن معتمدة علي أمجادها في منعطف القرن الثامن عشر والتاسع عشر. الزراعة كانت مزدهرة, خصوصاً في الأراضي المنخفضة’ هناك الكثير من مصانع النسيج كانت مشغولة, وروبرت أوين فتح رؤية جديدة للتعاون البشري. جلاسجو كانت فخورة بعلمائها, وادنبره كانت تنبض بالمحامين والأطباء, والرهبان في شاحنة عصرهم. في فن السير هنري ريبيرن Henry Raeburn كان رسم البورتريه جعل منه رينولد اسكتلندا. في الأدب بوزويل نشر (1791) نافورة البهجة التي لا تنضب "حياة صامويل جاكسون The Life of Samuel Johnson" وعند أبوتسفورد Abbotsford علي التويد Tweed, توسط بين الأعداء القُدامى, مُغنياً الأغاني الشجية, كاتباً الروايات العالمية الشُهرة ليُسدد جزء من الديون التي عليه, كان أرق اسكتلندي وأنبلهم جميعاً.
والتر سكوت Walter Scott بحساسيته المفرطة كان هو المناسب جداً ليقود الازدهار الرومانتيكي للأدباء البريطانيين, لحبه التفكير بنفسه كما انحدر من زعماء الحدود الاسكتلندية الذين صارعوه في طفولته. أسلافه القريبين, من ناحية أخري, كانا محامي من ادنبره وابنة أستاذ في كلية الطب جامعة ادنبره. هو ولد هناك في 1771, واحد من 12 طفل, منهم ستة, علي عادة ذلك الوقت, ماتوا في الطفولة, أصيب بشلل الأطفال عندما كان عنده ثمانية عشر شهراً, مما جعله أعرج في ساقه اليمني إلي الأبد, عجز بايرون Byron القريب ربما ساعد سكوت ليحافظ علي صداقة حميمة مع الشاعر الشاب خلال كل تشعبات الأخلاق والمعتقدات, بعد التحاقه بكلية ادنبره القديمة, سكوت بدء خمس سنوات من التدرب علي القانون علي يد أبوه, وفي 1792 قُبل كمحامي في جماعة محامين اسكتلندا. زواجه بـ شارلوت كاربنتير Charlotte Charpentier (1797) وميراثه من أبوه (1799) منحه دخل ميسور, كان اجتماعي ومحبوب, وكسب الكثير من الأصدقاء المؤثرين, من خلالهم, في 1806, عُين كاتب جلسة في ادنبره, مرتب المكتب, وميراث بعض الأقارب, جعله يُهمل, وسريعاً يتخلى عن ممارسته القانون لكي ينغمس في تذوقه للأدب.(ملحق/1016)
فرصة المقابلة مع روبرت بيرنز Burns, وولَع بـ ( Reliques of Ancient English Poetry) لتوماس بيرسي Thomas Percy, وإطلاعه علي الشعر الغنائي - خاصةً "لينور Lenore" - لـ جوتفريد بيرجير Gottfried Burger, أنعش اهتماماته الشبابية في الأغاني الروائية البريطانية القديمة. في 1802 - 1803 أخرج ثلاث مجلدات "مطرب الحدود الاسكتلندية - The Minstrelsy of the Scottish Border ". تحفز بتلك الحكايات الحية, حاول أن يجرب يده في الشكل, وفي 1805 أصدر" أغنية المطرب الأخير - The Lay of the Last Minstrel ". مبيعاته كانت علامة في سجلات الشعر البريطاني. عندما ذهب للندن في 1807 أسس نفسه سيداً للصالونات, قرر أن يجعل الأدب حرفته, وتقريباً كل عمله, وبدء الاستثمار الخَطِر لوقته وماله في الإعداد والطباعة والنشر.
في الشعر الـ اوكتيوسيلاتك octosyllabic المُقفى لـ كولردج Coleridge " كرستبال Christabel " أسس وسطاً سهلاً لرشاقته المتحركة, القصص الرومانسية للحب والحرب, بالغموض والخوارق, في الأساطير الاسكتلندية والتاريخ. استغل مجال جديد مع "مارميان - Marmion" (1808) , " سيدة البحيرة The Lady of the Lake" (1810) , " روكابي - Rokeby " (1813) , " وسيد الجُزر The Lord of the Isles" (1815) . لم يطالب أن يكون شاعراً كبيراً, كتب لترفية المنفعة العامة, وليس لترفية ربات الشعر Muses , بعد كل هذا كان سئم الملاحم والتفاعيل السداسية. قرائه يتابعونه لاهثين من "الفارس- knight" لـ "السيدة الشقراء- fair lady" لـ "الشِجار البطولي- heroic fray", وهم يُغنون بمتعة كما ينثرون هنا وهناك أغاني
" أوه الشاب لاتشنفير Lochinvar من الغرب يخرج,
/خلال كل الحدود الواسعة جواده الأفضل".(ملحق/1017)
ثم في 1814 بايرون Byron نشر" الجاور- The Giaour" و"عروس أبيدوس The Bride of Abydos", وفي 1814 "القرصان The Corsair" و"لارا Lara". سكوت Scott رأى مستمعيه مغادرين الحدود للغموض الشرقي والكره اليائس للبشر, أدرك أن اللورد الشاب لـ نيوستيد آبي Newstead Abbey يستطيع أن يسجع خارج حدود أرض أبوتسفورد Abbotsford, وفي 1814 مع "وافيرلي- Waverley" تحول من قرض الشِعر للنثر prose وبذلك طرق خامة جديدة. كان في الغالب وقته المناسب, في 1803 قدم مال لـ جيمس بلانتين John Ballantyne, عامل طباعة في كلسو Kelso, واتجه بطباعته لادنبره, في 1805 أصبح شريك سري في " شركة جيمس وجون بلانتين للطباعة والنشر", من لأن فصاعداً رتب مقطوعاته, أياً كان النشر, يجب أن يُطبع في مطبعة بلانتين. بدخله مع أرباحه سكوت اشترى في 1811 عقارات أبوتسفورد (بالقرب من ميلروز Melrose) , وسع الـ 110 أكر إلي 1,200, وأستبدل البيت الريفي القديم بقصر, أُثث بأثاث غالي وبزخرفة جميلة, هو أحد أماكن العرض في اسكتلندا, ولكن في 1813 شركة بلانتين اقتربت من الإفلاس, جزئياً بسبب نشر مشاريع خاسرة حررها سكوت. هيأ نفسه ليستعيد الـ بلانتين ليوفي ديونه بقروض من أصدقائه الأغنياء وبربحه من الكتابة. وبحلول عام 1817 الشركة وفت ديونها, وسكوت كان انغمس في واحده من أشهر سلسلة روايات في التاريخ الأدبي.(ملحق/1018)
"وافيرلي" نُشرت مجهولة (الكاتب) في 1814, وكسب حوالي 2000 بوند - معظمه سريعاً أُنفق في أبوتسفورد. سكوت أخفى أنه المؤلف, شاعراً أنها قطعه غير ملائمة "لكاتب جلسة" أن يكتب رواية للبيع, تحرك قلمه سريعاً في النثر كما فعل في الشِعر, في ست أسابيع كتب " Guy Mannering" (1815) , في 1816 "جامع الآثار The Antiquary", في 1816 - 1819 (حكايات تحت عنوان واحد "صاحب مِلكي My Landlord ") عرض بانوراما رائعة للمشهد الاسكتلندي في - "الفَناء القديم Old Mortality", " قلب ميدلوثيان", "عروس لاميرمور The Bride of Lammermoor" و"أسطورة مونتروز The Legend of Montrose ", من هذه الـ " Donizetti" صنع ثروة أخري. سكوت إرتحل كثيراً في اسكتلندا وإنجلترا والجزر المجاورة, سَمى نفسه الجامع بدلاً من الروائي, وكان قادر علي أن يعطي قصته الطابع المحلي ويبرز ما يبهج متابعيه الاسكتلنديين. في "أيفنو- Ivanhoe ", " الدير- Monastery", و"رئيس الدير- The Abbot" - الكل في عام 1820 - أخذ إنجلترا القرون الوسطي كأنها مسرح أحداثه, ليس تماماً بواقعية كبيرة كما فعلت الروايات الاسكتلندية. في 1825 خاطر سكوت بالذهاب للقرون الوسطي بالشرق, وفي "الطلاسم- The Talisman" أعطي صورة مُحابية كثيراً لصلاح الدين لحد أن الاسكتلندي المُتدين بدأ يرتاب في تَمكُن مؤلفه (سكوت) الأرثوذوكسي. جورج إليوت عندما سُأل ماذا أول شيء هز إيمانه المسيحي, أجاب "والتر سكوت". البعض منا استساغ "روايات وافيرلي" في شباب الآن المحموم بتسارع حياتنا الحديثة ليستمتع بها اليوم, ولكن حتى وإن انغمس في واحدة منهم علي عجله - مثلاً "قلب ميدلوثيان" - يجدد إحساسنا بأن ذلك الرجل الذي يمكن أن يُنتج مثل هذه الكتب كل سنة لمدة عقد من الزمن لابد أن يكون أحد عجائب زمنه.(ملحق/1019)
نحن نراه يلعب دور البارون الإقطاعي في أبوتسفورد (كان نبيل في 1820) , برغم ذلك يقابل كل الرجال باللطف والبساطة, أكثر مؤلفين العصر شهرة - معروف من ادنبره إلي سان بطرسبرج (حيث بوشكين Pushkin احترمه) , لكن ضحك من قلبه عند سماع مقارنة نفسه بشكسبير, قصائده ورواياته كانت عامل مؤثر في الحركة الرومانسية, ومع ذلك آوي بعض الأوهام الرومانسية. شارك في إنعاش الوعي في أساليب القرون الوسطي, علي الرغم من ذلك ناشد مع الاسكتلنديين ليضعوا جانباً مثالياتهم عن ماضيهم الإقطاعي العنيف, ولتعديل أنفسهم إلي ذلك الإتحاد الذي يدمج ببطء شخصان في واحد. في شيخوخته أدفأ نفسه بوطنية مُحافظة (عضو توري- Tory) تلك التي لا تسمح بأخطاء في الدستور البريطاني. في هذه الأثناء من يطبع له, الـ بلانتين, وناشره, أرشيبالد كونستابل Archibald Constable, الاثنين كانا قريبين من الإفلاس. في 1826 سلموا ممتلكاتهم الباقية إلي المحكمة, وسير والتر, كشريك, أصبح مسئولاً عن ديون الـ بلانتين.
لأن علي الأقل عرفت أوروبا أن مؤلف روايات وافيرلي لورد أبوتسفورد. المحكمة سمحت له بلإحتفاظ بمنزله وبعض الإكرات (فدادين) , ومرتبه الحكومي ككاتب جلسة, ولكن باقي ممتلكاته كلها تم مصادرتها, استطاع أن يعيش ميسور الحال, وهلم جرا تدفق برواية بعد رواية علي أمل أن دخله يمكنه من سداد ديونه. في 1827 نشر عمله المُضني "حياة نابليون Life of Napoleon", الذي سُمي بسخرية "كُفر في عشر مجلدات", عرى كل ما يخص (جزيرة) كورسيكا من كل فضيلة, لكنه أسعد الروح البريطانية, وجزئياً قلل ديون المؤلف. جودة أعماله الباقية عكست عجلته وضجره.
في 1830 - 1831 عانى من جلطات (بالمخ) متعددة, تعافى, والحكومة عينت فرقاطة لتأخذه في نزهة تحت شمس البحر المتوسط, ولكن جلطات جديدة أعجزته, عَجل عودته ربما لو مات يمت في محبوبته أبوتسفورد (1832). ناشر آخر, روبرت كادل Robert Cadell تحمل ديونه الباقية (7,000 جنية) وحقوق الطبع, وكون ثروة تفوق الحصر, بسبب أن روايات والتر سكوت ظلت شعبية حتى نهاية القرن. وردزورث Wordsworth ذكره بـ "الروح الأعظم لجيلِه".(ملحق/1020)
2 - الأيرلنديون
أيرلندا في 1800 كان بها 4,550,000 نفس, منهم 3,150,000 يدينون بالكاثوليكية الرومانية, 500,000 أسقفين بروتستنت, و900,000 (غالباً في أوستر Ulster) ينتمون إلي قطاعات البروتستنت المنشقين. الكاثوليك وافقوا علي الاقتراع في 1793, بعد ذلك أصبحوا مؤهلين لأغلب مناصب الخدمات - المدنية, ولكن مازالوا ممنوعين من المناصب الإدارية العليا, من المقاعد القضائية, ومن البرلمان الأيرلندي, بتأثير الكاثوليك سُمحوا للاختيار بين المرشحين البروتستنت لحكم أيرلندا كاثوليكية. الملك أو وزرائه عين نائب بروتستنتي, أو نائب ملك, كرئيس تنفيذي علي أيرلندا, وسُمح له ليحكم البيروقراطية - وفي قياس مهم البرلمان الأيرلندي - خلال الرشوة والتوزيع وبيع الوظائف المسندة (المحسوبية). حتى 1793 كانت كل أرض أيرلندا تملكها البريطانيين والأيرلنديين البروتستنت. بعد 1793 عدد قليل من الكاثوليك سُمح لهم بتملك الأراضي, البقية كانوا فلاحين مستأجرين يفلحون قطع صغيرة, أو كانوا عمال في المزارع أو في المصانع. الإيجار وعشور tithes الكنيسة تجمع بصرامة منتظمة, نتيجة ذلك أغلب المزارعين الأيرلنديين عاشوا في فقر يائس. كانوا فقراء جداً, محرومين كثير من الحافز, ليشتروا آلات جديدة التي كانت تضاعف الإنتاج الريفي في بريطانيا, الزراعة الأيرلندية ظلت راكدة.
"ملاك الأراضي الكبار غائبين يعيشون في إنجلترا, الذين سحبوا ما استطاعوه من أيرلندا بدون مراعاة إمكانيتها".
في منطقة المصانع في دبلن الفقر أسوء منه في الأراضي. الصناعة الأيرلندية مختنقة بالضرائب العالية تلك التي منعت استيراد القطن الخام وبالنظم التجارية التي إلي درجة كبيرة منعت المنتجات الأيرلندية, ماعدا الكتان, لينافس المنتجات البريطانية في الإمبراطورية. شيلي , شاهد حالة عمال مصانع دبلن في 1812 كتب:
"لم يكن لدي أدنى فكرة عن تعاسة الإنسان حتى الآن"(ملحق/1021)
الكاثوليك الأيرلنديين, مثل كل السكان, دفعوا العشور ليدعموا الكنيسة البروتستنتية المتمكنة في أيرلندا, ولكن بالإضافة لذلك حافظوا علي تبرعاتهم التطوعية لكهنتهم الكاثوليك, التي جردت مدخراتهم. الرومان الكاثوليك طبيعياً دعموا حركة الاستقلال الأيرلندية, وبالتالي ربحوا الحب المخلص للسكان الكاثوليك. هنا الثورة الاجتماعية غالباً كانت دينية محافظة, تحررين (لبراليين) مثل توماس مور, بالرغم من ذلك هم ربما كانوا أصدقاء لشكاكين skeptics مثل بايرون Byron , لا يحيد أبداً بشكل مُعلن عن الكاثوليكية الأرثوذكسية.
كان البروتستنت الذين, في النصف الثاني من القرن الثامن عشر, قادوا الثورة ضد استغلال أيرلندا. هنري جراتان Henry Grattan (1746-1820) ينتمي لمدرسة الأيرلنديين الآخرين - بورك Burke وشريدان Sheridan , آمن بقوة عقل يعبر بفصاحة, بسلاحه أحرز بعض إنجازاته المحدودة لكنها انتصارات مؤثرة: ألغى قانون الاختبار, الذي يطلب الخضوع للكنيسة الإنجليزية كشرط أساسي للعضوية في البرلمان, إزالة مزيد من القيود الخانقة للتجارة الأيرلندية, وذلك الاعتراف (كما وضعة بشكل حساس) فقط ملك إنجلترا, مع موافقة البرلمان الأيرلندي يستطيع أن يُشرع لأيرلندا - مما يعني .. , قوانين البرلمان الأيرلندي لن تحتاج بعد الآن ضمان موافقة برلمان بريطانيا العظمي.
من ناحية أخري, عندما حاول جراتان أن يكسب للكاثوليك الأيرلنديين الأهلية الكاملة للبرلمان الأيرلندي, فشِل, ظلت أيرلندا بلد كاثوليكي محكوم بحكومة بروتستنتية. ثيوبولد ولف تون Theobald Wolfe Tone (1763-1798) خاض المعركة. تخرج, مثل العائدين (لوطنهم) , ساعد لتنظيم مجتمع أيرلندا المتحدة (1791) , الذي كان هدفه تعاون البروتستنت والكاثوليك في متابعة الإصلاح الاجتماع والسياسي. دافِعاً إلي الأمام بشغف وطاقة, تون نظم اجتماع للكاثوليك, وبرنامج عمله أخاف البرلمان لحد تسريع إلغاء قانون 1793, موسعاً الامتيازات للكاثوليك.(ملحق/1022)
تون لم يكن راضى. في 1794 , دخل في مفاوضات مع وليم جاكسون, الذي سرياً يمثل هيئة الأمن الشعبي, بعد ذلك ساد دخول فرنسا حرب ضد بريطانيا. جاكسون كُشف وأُعتقل. تون هرب للولايات المتحدة, ومن ثم لفرنسا. هناك أقنع لازار كارنو Lazare Carnot رئيس اللجنة, لإقرار غزو فرنسا لأيرلندا, جنرال لازار هوش تسلم الأوامر, جعلت تون مساعد جنرال, وأبحر لأيرلندا في 15 ديسمبر 1796, مع 46 سفينة 14 ألف جندي, الحملة واجهت عاصفة علي الساحل الإنجليزي, ومعظمها كان تحطم, تون نجا, ورافق قوات حملة صغيرة تهدف لمساعدة ايرلندا, جذب هذا انتباه البريطانيين, حُكم علي تون بالشنق, ولكن أفلت من حبل المشنقة بقطع حنجرته في السجن (1798).
في هذه الأثناء الاستياء الأيرلندي من الحكم البريطاني تطور إلي حد ثورة عامة. بيت Pitt المندوب الرئيسي البريطاني, فكر في إخماد الحركة بالمصالحة, سمح لدوق بورتلاند, وزير الداخلية (شاملاً الشئون الأيرلندية) ليُعين وليم وينتورث William Wentworth كنائب لورد, إيرل ثاني فيتزوليم Earl Fitzwilliam, الذي يُعرف بصراحة بتعاطفه مع الأيرلنديين. بعد ثلاث أشهر من الخدمة (يناير - مارس 1795) , التي صنع فيها مصالحات أكثر للكاثوليك بعد ذلك بيت فكر بحِكمه, مع ذلك أُلغي, وأصبحت المقاومة الأيرلندية حرباً مفتوحة, لبعض الوقت البروتستنت اتحدوا مع الكاثوليك ضد الحكم الأجنبي, ولكن في أوستر, حيث أن البروتستنت كانوا الأغلبية, تغيروا سريعاً من التعاون إلي التعارض, خوفاً من أن نجاح الثورة سوف يجر أوستر تحت السيطرة الكاثوليكية,(ملحق/1023)
في سبتمبر 1795, بروتستنت أوستر شكلوا "المجتمع البرتقالي = Orange Society", وانضموا إلي"طلائع أولاد اليوم= Peep-of-Day Boys" في إحراق وتحطيم منازل الكاثوليك, ومعابدهم chapels, ألاف الكاثوليك هربوا من أوستر, خوفاً من المذبحة. أكثر وأكثر انسحب البروتستنت من الاتحاد الأيرلندي, بقية الكاثوليك أخذت تتسلح, استولوا تماماً علي عدة مقاطعات, وتقدموا لحصن الحكومة في دبلن. جراتان, في البرلمان الأيرلندي, اهتم ليُحل السلام باقتراح أهلية الكاثوليك للبرلمان, رُفض هذا بشكل واسع لأن بتضمينهم (الكاثوليك لدهم لأن حق التصويت) يتحول سريعاً البرلمان الأيرلندي لقوة كاثوليكية. الجنرالات البريطانيين طلبوا ليستقبلوا التعزيزات, وأُعلن الحكم العسكري martial law , لأسابيع مرة أخري العاصمة البهيجة غدت جحيم الضغينة والقتل, عدد الجثث أعطي النصر للحكومة, بنهاية 1798 أُخمد العصيان.
بيت أدرك أن القمع ليس هو الحل, الدخان الساخط في أيرلندا كان قد أصبح خطر حيوي لبريطانيا. بحلول عام 1800 إنجلترا كان لديها سبع سنوات من الحرب مع فرنسا, خلالها ربحت من الفوضى الناتجة في فرنسا بالثورة. الآن, ومع ذلك, نابليون كان يجلب النظام لفرنسا والقوة لجيوشها, بني أسطول سريع الذي استطاع سريعاً تحدى سيطرة بريطانيا علي البحار. أيرلندا الثائرة دائماً علي شفا ثورة كانت دعوات يومية لنابليون ليقود قواته عبر القناة (الإنجليزية) , - الكاثوليك مع الكاثوليك - نظموا أغلب ايرلندا في قوة عدائية في الجناح البريطاني. بطريقةٍ ما, شُعر بيت, يجب أنْ يُوْجَدَ لجَلْب الشعبِ الأيرلنديِ إلى إتحاد آمن مَع بريطانيا تحت برلمانِ وملكِ واحد. إذا أمكن حدوث ذلك بيت اقترح ليعطي امتيازات كاملة - حق التصويت والتأهل للمناصب - لكل الذكور الكاثوليك البالغين ليس فقط في أيرلندا ولكن خلال إنجلترا, اسكتلندا وويلز, ليدخل الكاثوليك في "برلمان متحد" واحد في لندن, وليزود المرتبات الحكومية للوزراء المعارضين والقسيسين الكاثوليك وأيضاً لكهنة مؤسسة الكنيسة. هذه الخُطة السياسية سبقت بسنوات اتفاقية نابليون مع الكنية الكاثوليكية, قُوبلت بمعارضة متنوعة.(ملحق/1024)
الكاثوليك الأيرلنديين شكوا أنه يتظاهر لتستمر السيطرة علي أيرلندا من قبل بريطانيا, البروتستنت الأيرلنديين احتجوا بأنه يستطيع أن يعرضهم لحكم - ربما ينتقم ويصادر - بواسطة الكاثوليك الأيرلنديين المنتصرين, والبرلمان الأيرلندي كان رافضاً للموت. بيت أمِل علي المدى الطويل الاتحاد مع إنجلترا - شاملاً تجارة حرة مع كل أجزاء الإمبراطورية. يستطيع في النهاية نفع الاقتصاد الأيرلندي ويعيد توحيدهم كما الاسكتلنديين تصالحوا, معظم الكاثوليك في أيرلندا هادئين ومحكومين بالأغلبية البروتستنتية الهائلة في بريطانيا. بالإنفاق السخي للمال, وظائف عاطلة sinecures ( بطالة مقنعة) , التكريم, ومع دعم التجار الأيرلنديين, البرلمان الأيرلندي كان أُقنع ليقترع علي موته (أول أغسطس 1800).
من لآن فصاعاً, حتى 1921, أيرلندا كانت محكومة بالبرلمان البريطاني, الذي استطاعت أن تُمثل فيه بأربعة من رجال الدين و28 من الشرفاء غير دائمين في مجلس اللوردات ( House of Lords) , ومائة عضو في مجلس العموم. نجاح بيت الظاهر كان مُخيب بعدم قدرته علي كسب الملك لتأيد خطته. عندما اقترح تنفيذ وعده الضمني بالتحرر السياسي الكامل للكاثوليك في " المملكة المتحدة لبريطانيا العظمي وايرلندا" الجديدة, جورج الثالث رفض الموافقة, علي تلك الأرض تتويج قَسمه قيده ليحمي المؤسسة الكنسية لإنجلترا. عندما ألح عليه بيت Pitt, الملك أبدى علامات الانتكاس للجنون. بيت تنازل, و, شاعراً بأنه عرضه للشبهة, استقال من وزارة الملك (3 فبراير 1801). تحرر الكاثوليك كان وضع علي الرف. كان لابد أن ينتظر حتى عام 1829.معظم القادة الأيرلنديين استنتجوا أنه تم خداعهم, وأن بيت لم يكن ينوى تنفيذ وعوده. مقاومة الاتحاد كما هو واقعياً تقدم لاحقاً لعنف.(ملحق/1025)
في 1803 روبرت إميت Robert Emmet قاد ثورة يائسة جعلت منه أفضل الأشكال - المحبوبة في التاريخ والأغاني الأيرلندية, ولد في دبلن Dublin عام 1779 أصغر ابن لطبيب نائب اللورد. كطالب في كلية ترنتي Trinity كان قريب من التخرج مع مرتبة الشرف عندما, عندما أزالوا اسمه من كشف (وثيقة) ما قبل التخرج في احتجاج ضد التحقيق الرسمي في أرائهم السياسية. انضم لرجال الاتحاد الأيرلندي, حيث أخوه الأكبر توماس كان سكرتير المجلس الأعلى. توماس نصح ضد العنف الثوري ولكن روبرت ذهب لفرنسا.
وجد ما يوصله لنابليون, وناشد بمحاولة أخرى لفرنسا في أيرلندا. لم يستطيع أن يقنع نابليون, عاد إميت إلي دبلن, جمع أسلحته وحلفائه, خطّطَ هجوماً على قلعةِ دبلن. عندما أُعلم أن الحكومة اكتشفت مؤامرته وأصدرت أمر باعتقاله, شكل قوة ارتجالية من160 فرد, وزحف باتجاه القلعة. في طريقة صادفوا اللورد كيلوردن Lord Kilwarden, رئيس قضاة أيرلندا, الحشد الثائر والصعب المراس قتله هو وابن أخته في مكانهم, أدركوا أن جهده الآن يجب أن يكون انتهى, هرب إميت, واختبئ لفتر وسط جبال ويكلو Wicklow, خاطر بكشف نفسه بتحركه بالقرب من منزل خطيبته, ساره كيرن Sarah Curran, ابنة جون فيلبوت كيرن John Philpot Curran, مدافع بروتستنتي لقضايا الكاثوليك, تم اكتشاف روبرت, أُعتقل, حُكم بالخيانة, وحكم عليه بالموت. كلمته لهيئة المحلفين واحده من كلاسيكيات الفصاحة الأيرلندية:
"ولكن لي طلب وحيد ليجعل رحيلي من أجل العالم:
هي صدقه لصمته. لا تدعوا إنساناً يكتب نقش قبري epitaph, لهذا لا إنسان من الذين عرفوا دوافعي يجرؤ أن يُبرئهم, لا تدعوا التحيُز أو التجاهل يُشنع عليهم. دعوهم ودعوني نستريح في خفاءٍ وسلام, وضريحي يبقي بلا نقش, وذكراي في طي النسيان, حتى وقت آخر ورجال آخرين يستطيعوا فعل العدالة لشخصيتي. عندما بلدي تأخذ مكانها بين أمم الأرض, بعد ذلك, وليس قبل ذلك, دعوا نقش قبري يكتب"(ملحق/1026)
الفصل الرابع والعشرون
بيت, نيلسون , ونابليون من 1789م إلي 1812م
Pitt, Nelson, and Napoleon
1 - بيت والثورة
وليم بيت Pitt الثاني أخذ المنصب في 1780 وزير أول وزارة المالية واللورد الأول للخزانة, هو الذي يجمع ويوزع أموال المملكة كان سيصبح لورد الجُزر ونصير الاتحادات. تمتع بأغلب المميزات المتاحة للبريطاني. جاء من عائلة بارزة وتشرب سياسات العالم, الدخل المرتفع, أساليب راقية من الحديث ورعاية أبوه ألامع, إيرل شاتام Chatham (Earl= لقب إنجليزي). تلقي أفضل تعليم خاص, معظمة من أبوه مباشرةً. دخل البرلمان وعنده واحد وعشرون سنة, وأخذ التفويض عن إنجلترا وعمره أربعة وعشرون. غمر المعارضة بمخزون كبريائه, مؤهلاته الفكرية, المنطق, بدلاً من العاطفة, في خطاباته, نظره الحاد الثاقب, معرفته وتلاعبه بموارد الشعب.
قرأ وأُعجب بـ "ثروات الأمم Wealth of Nations" لآدم سميث Adam Smith, قبل فلسفة سميث عن المشاريع الحرة والتجارة الحرة. هو, الأرستقراطي, دعم طلب بورجوازي التجارة والصناعة الصاعدين للتمثيل الأكمل في البرلمان والسياسة, بثرواتهم السائلة كافح نابليون, بينما الأرستقراطيين, بأموالهم في أرض ثابتة, أسهموا في الشورى, الدبلوماسية, والبروتوكول. أسس رأس المال الاحتياطي ( sinking fund) لدفع الدَين وطني, ونجح في تقليص ذلك دَين, حتى أخذت الحرب كل شلن يمكن أن تسحبه من الدولة. حاول برجولة ولكنه فشل التخلص من "القصبات الفاسدة" مع ذلك استخدمهم في صعوده.
دعم إجراء ينقل القرار من القضاء إلي هيئة المحلفين الشعبية في قضايا إدعاء التشهير - بمعني, حَمى الصحافةَ في تعرّضِها مِنْ سوءِ التصرف الرسميِ. دعم ويلبرفورس Wilberforce في حملة طويلة ضد تجارة العبيد. نابليون هزمه وكسر روحه, لكنه كان البريطاني الذي أعاد التنظيم, التمويل, الإلهام, الذي هزم نابليون.(ملحق/1027)
الملك البريطاني كَانَ تقريباً أكبر مشكلة مثله مثل القنصل الفرنسي. جورج الثالث اتبع نصائح بيت غالباً في كل شيء ماعدا تحرر الكاثوليك' لكن الملك العجوز كان في أي لحظه عُرضه لينتكس للجنون - كما فعل في 1788 - 1789 , وعندما يجئ مثل هذا لانهيار, برنس Prince ويلز يرفرف - حول العرش - البرنس الذي كان محبوب الـ هويجز Whigs وصديق تشارلز جيمس فوكس, الذي توافق مع بيت فقط في مَحَبَّة النبيذِ هذا الجانبِ مِنْ الشللِ. لفترة من الوقت جورج الثالث كان من المؤكد علي وشك الموت (1787) , تعافى, ولكنه ظل ضعيف ومتردد, عموماً بعد ذلك امتثل, مُعجباً, لحكم بيت Pitt.
عندما السياسي الشاب أخذ زمام إنجلترا كانت فقط بداية للتعافي من حربها المشئومة مع المستعمرات الأمريكية. بدا للبريطانيين دمار الحرب في وجه فرنسا المُفلسة ولكنها منتصرة, ازدهار أسبانيا وتنورها الثقافي تحت حكم تشارلز الثالث وروسيا وسعت حدودها مع كاترين الثانية, نظم الجيوش الضخمة, ابتلع نصف بولندا , وتآمر مع جوزيف الثاني ملك النمسا لتقسيم أوروبا التركية بينهما. الآن أمن إنجلترا يعتمد علي حالتين: سيطرتها علي البحار, وتوازن القوى السياسية في القارة الأوروبية, إذا أي كفه من هذا الميزان أصبحت أعلى, تستطيع أن تُعلى شأن إنجلترا, ببساطة بإغلاق السوق الأوروبية للبضائع البريطانية.
موت جوزيف الثاني (1790) سهل تهديد المعسكر الشرقي, كاترين مترددة, بيت كان علي وشك التحول من المخاوف الخارجية إلي المخاوف الداخلية عندما الثورة الفرنسية أعلنتْ بأنّها جاءتْ لإعْطاء الدستور إلى الحكومات الملكيةِ, أو تحطمها. يوماً بعد يوم عَبرتْ الأخبارُ المُدهِشة القناةَ (الإنجليزية): الباستيل قد عُصف به من قِبل غوغاء المدينة, الحقوق الإقطاعية قد استسلمت, أملاك الكنيسة قد صُدرت من قِبل حكومة فاسقة, حشد النِساءِ زَحفَ على فرساي, وأُجبر لويس السّادس عشر وماري أنطوانيت للمَجيء والعَيْش في باريس تحت المراقبةِ الشعبيةِ.(ملحق/1028)
في بادئ الأمر بيت Pitt لم يكنَ قَلِقاً كأصدقائه من طبقته الراقيةِ. مع ذلك، إنجلترا كَانَ عِنْدَها دستور, الذي عديد من الرجال الفرنسيين المشهورين يمدحوه ويحسدوه. أي قليل من الاضطراب في فرنسا سَيُقدّرُ: إنجلترا استطاعت بعد ذلك العمل بسلام علي مشاكلها الداخلية, بينما فرنسا اضطربت وبعد ذلك أعادت تشكيل حياتها السياسية. بينما الأرستقراطيين ارتعشوا, رجال الأدب البريطانيين ابتهجوا - جودوين Godwin, وردزورث Wordsworth, كولردج Coleridge, سوثي Southey, كوبر Cowper, بيرنز Burns.
بحلول 4 نوفمبر 1789, "المجتمع لإحياء الثورة Society for Commemorating the Revolution" ( تأسس 1688) , كان مهتاج جداً بسب وعاظ التوحيد (ضد التثليث - Unitarian) , ريتشارد برايس Richard Price, كان قد أرسل خطاب تهنئه للمجتمع الوطني بباريس, مُعبراً عن تلك الآمال:
"المثال الرائع اُعْطِي في فرنسا" ربما شجع الأمم الأخرى لتدافع عن "الحقوق المنزوعة للبشرية". الرسالة وُقّعتْ للمجتمعِ مِن قِبل رئيسِها, الإيرل الثالث ستانهوب third Earl Stanhope, أخوة - في - القانون عن وليم بيت. خطاب برايس, نُشر ككتيب خلال إنجلترا, غالباً يدعوا للثورة:
"كُونُ مُشَجَّعاً، كُلّك أصدقائكم إلى الحريةِ، وكُتّاباً في
دفاعها! العصور محظوظة. أعمالكَ لم تكَن دون جدوى.
انظرْ الممالكَ، حذّرَ بواسطتك، بَدْأً مِنْ النومِ، كسروا
قيودهم، ومُطْالبُين عدالة مِنْ مضطهديهم! انظرْ
الضوء الذي لديك خفُتَ - بعد إقرار أمريكا حرة- انعَكسَ
إلى فرنسا، وأوقدَ هناك للهيب الذي يَضِعُ الاستبدادَ في
الرماد، ويُدفّئُ ويُنيرُ أوروبا!
ارتعدْ، ككُلّ مضطهدو العالمِ! خُذ التحذير، كُلّك
مؤيدو الحكوماتِ الاستعبادية والسلطاتِ الاستعباديةِ!. . . أنت
لا تستطيعُ الآن أن تُمسك العالمِ في الظلامِ. . . . أعدْ إلى بشريةِ
حقوقهم، ووافقُ على تصحيحِ الانتهاكاتِ، قبل أن تحطموا معاً"(ملحق/1029)
كَانَ هذا أكثر مِنْ أن يستطيع إدموند بورك تحتمله. هو لَمْ يَعُدْ بعد الخطيب الناري الذي دافع عن سببِ المستعمراتِ الأمريكيةِ قبْل البرلمانِ؛ كَانَ عمره ستّون الآن، رَهنَ نفسه إلى للضيعة الكبيرة، واستعادَ عقيدة شابِه. على 9 فبراير 1790, في مجلس العمومِ، بَدأَ النِقاش الذي أنهىَ صداقتُه القديمةُ مَع تشارلز جيمس فوكس:
"خطرُنا الحالي. . . مِنْ الفوضويةِ: الخطر الكائن قادَ، خلال الإعجابِ بالاحتيالِ والعنفِ الناجحِ، إلى تقليد لزيادةِ ألا عقلانيِة، ألا مبادئ, النفي، مصادرة أموال، السَلْب، الضرر، الدموية، وديمقراطية استبدادية. مِنْ جانب الدينِ الخطرِ لَمْ يَعُدْ بعد مِنْ التعصّبِ لكن مِنْ الإلحادِ - البذيء، رذائل غير طبيعية ,عداء إلى كُلّ كرامة وتعزية البشرية ِ - الذي يَبْدو في فرنسا، لوقت طويل، بأنه كان قد اندمج إلى فئة، مفوّضَه، وتقريباً".
في نوفمبر 1790، أصدرَ بورك انعكاساته على الثورة الفرنسية. أعطاَهم صيغة رسالة إلى " رجل محترم في باريس " الرسالة 365 صفحة طويلة. انتقد الدّكتورَ برايس و"المجتمع لإحْياء الثورةِ":
رجال الدين، أحسَ أنه، يَجِبُ أَنْ تدبّرْوا عملَهم، الذي أَنْ يَوصي بالوعظ بالمسيحيةَ، لَيسَ الإصلاحات السياسية؛ تَوصِلُ الفضائل إلى لبّ الموضوعِ، التي الميولُ الشريّرةُ للطبيعة البشريةِ؛ الإصلاحاتُ تغير فقط الأشكال السطحيّة للشرِّ، بسبب تأثيرها لَنْ تُحدث أي تغييرِ في طبيعةِ الرجلِ. الاقتراع العام احتيالِ مستخدماً الوهم؛ إحصاء الأنوفِ (الجواسيس) سوف لَنْ يُؤثّرَ على التوزيعِ وقراراتِ القوَّةِ. النظام الاجتماعي لا غنى عنهُ إلى الأمنِ الفرديِ، لَكنَّه لا يَستطيعُ البَقاء إذا كُلّ فرد يكُن حرُّ لانتِهاك أيّ قانون لا يحبه. الأرستقراطية مرغوبةُ، لأنه يَسْمحُ للأمة لتُحَكم بالعقولِ المُتَدَرّبةِ والمختارةِ. الحكم الملكي جيدُ لأنه يَعطي وحدة نفسية واستمرارية تاريخية مُساعده في المصالحة الصعبة للمطالبِة بالحريَّةِ.(ملحق/1030)
بعد شهرين من هذا الانفجارِ التاريخيِ بورك نَشر رسالة إلى عضو الجمعية الوطنية لفرنسا. في هذا - والأكثرِ بالكامل في رسالة إلى لورد نبيل (1796) - عَرضَ قاعدة فلسفية للمحافظين:
لا يوجد فردَ، مهما يكن رائع ومُطّلع جداً، يُمْكِنُ في عمرِ واحد أن يَكتسبُ المعرفةَ والحكمةَ تلك التي تمنحه الرخصة للجُلُوس في الحكمِ على أولئك المعقدين, الماكرين، والتقاليد المُلَحة التي تُجسّدُ التجربةَ وحكمَ المجتمع، الأمة، أَو الجنس بعد آلافِ التجاربِ في المختبرُ العظيمُ المسمى تاريخاً. الحضارة سَتَكُونُ مستحيلة
"إذا ممارسةِ كُلّ الواجبات الأخلاقية، ومؤسسات المجتمعِ، استندَت علي ما لديها من أسباب مصنوعة بوضوحِ وبرهانيه لكُلّ فرد".
لذا الدين فقط بصعوبةِ كبيرة يستطيع أن يُوَضَّح للشابِ الذي اكتسبَ قليلاً من المعرفة، ويكن مُبتهجاً في فِكرُه المُحرّرِ؛ ليس إلي أن يمتلك الكثير مِنْ الخبرة بالطبيعة البشريةِ، ويرَى قوَّةَ الغرائزِ البدائيةِ، سَيُقدّرُ خدمات الدينِ في مُسَاعَدَة المجتمعِ للسَيْطَرَة على الفرديةِ الفطريةِ للرجالِ. "إذا نحن يَجِبُ أَنْ نَكْشفَ تَجَرَّدَنا [نُحرر غرائزَنا] برَمي الدينِ المسيحيِ، الذي كَانَ. . . مصدر واحد عظيم للحضارةِ بيننا،. . . نحن متوجسون. . . تلك بَعْض الخُرافةِ المُحِطةِ والخبيثةِ والفَظّه ربما قَدْ تَأْخذُ مكانه."(ملحق/1031)
على نفس النمط من الصعب التَوضيح إلى الطفلِ مُستنبط عقلي Enreasoned جديد ولحاسد سلعِ جارِه، رجل الذي بقدرة استثنائية سوف لَنْ يَمْرَّ بالتدريب الطويلِ والغاليِ لاكتِساب مهارة مفيدة اجتماعياً، أَو يُهيّئُ نفسه لمُزَاوَلَتها، إن لم يسْمَحُ بإبْقاء جزء من دخله كهدية إلى لأطفاله. علاوة على ذلك، المجتمع الإنساني لَيسَ مجرّد جمعيةَ أشخاص في الفضاءِ، هو أيضاً تعاقب الأشخاصِ بمرور الزمان - لأشخاص مَوتى، معيشة، أَو مستقبل، في استمرارية اللحمِ والدمِّ خلال الأجيالِ. تلك الاستمراريةِ تَكْذبُ فينا بعمق أكثرَ من تجمعنا على بقعة مُعطاة مِنْ الأرضِ؛ هو يُمْكِنُ أَنْ يَستمرَّ خلال هجرات عبر حدودِ. كَيْفَ يمكن جعل هذا يَكُونُ واضحاً لأولادِ مُنبثقين بالطموحِ الفرديِ وفخرِ مدعى العلم وهو جاهل Sophomoric، وبشكل متهوّر جاهزين لعَضّ الروابطِ العائليةِ أَو الروابطِ الأخلاقيةِ؟
لحن بورك الحزين لعالم مُحْتَضر رُحب به بالامتنانِ وأبهجْ الزعماءِ المحافظينِ لبريطانيا؛ ورجال القضاء المحنّكينِ قَبلَ المنشوراتَ الثلاثة كمساهمة مميزة إلى الفلسفةِ الاجتماعيةِ والسياسيةِ. كولردج Coleridge، في سَنَواته الأخيرة، حمّسَهم مثلما ابتهجَ بسبب الثورة. "أنا لا أَستطيعُ التعبير"، كَتبَ في 1820:
" الوقت أَو حالة الأشياءِ التي فيها كتاباتِ بورك سوف لن تبلغ القيمة الأعلى. . . . ليس هناك كلمه واحده أنا أُضيفُ أَو أسحبْ."
بريطانيان، بين الكثيرِين، جاءوا للدفاعِ عن الثورةِ:(ملحق/1032)
السّير جيمس ماكنتوش Mackintosh مَع فندشى جاليكي Vindiciae Gallicae، وتوماس بين Thomas Paine مع حقوقِ الإنسان - كلاهما في 1791. الثورة كَانتْ أن ذاك لها سنتان، لَكنَّها فعلياً عمِلَت عملها الأساسيَ - أعطت فرنسا الدستور التحرّري (اللبرالي)، أنهت امتيازاتَ الإقطاعيةَ، أَسّسَت حريةً الخطابِ، الصحافة، والتجمّع، واستولت علي ثروةَ الكنيسة لإنْقاذ الدولة المفلسة؛ الفظائع التدميرية للثورة ما لم يحدث حتى الآن. في الظروف الحالية ماكنتوش يُمْكِنُ أَنْ يُجيبَ بورك أن الثورة كَانتْ شرّعُية تحتجَّ على حكومةِ ظالمةِ وعاجزةِ. بين Paine يُمْكِنُ أَنْ يُجادلَ ذل لا تقليدَ يَجِبُ أَنْ يُعانى لينْكر كُلّ الجُهود في الإصلاحِ، والحقوق التي أعلنتْ بالثورةِ كَانتْ الدستورَ الصحيحَ لدولة حديثة. لكن بين ذَهبَ بعيداً كثير. طَلبَ استبدال الحكم الملكي والأرستقراطيةِ بالجمهورية؛ ضريبةَ الدخل المتدرجة بشكل حادّ التي تُعيدُ توزيع الثروةَ المُرَكَّزةَ، وتَستعملُها لإبادة البطالةِ والفاقةِ، وتُزوّدُ تعليماً لكُلّ طفل، وراتب تقاعدي للمسنين. وهو أعادَ صياغة حقوقَ الإنسان من مصطلحات روسو:
1. الرجال ولدوا، ويَستمرّونَ دائماً، أحرّاراً ومتساوين في جميع حقوقهم. الامتيازات المدنية، لذا، يُمْكِنُ أَنْ يُؤسّسَ فقط على المنفعة الشعبية.
2. إنّ غايةَ كُلّ الجمعيات السياسية حفظُ الحقوقِ الطبيعيةِ والغير قابلة للانتهاكِ للرجلِ؛ هذه الحقوقِ حريَّةَ، ملكية، أمن، ومقاومة الظلمِ.
3. إنّ الأمةَ جوهرياً مصدرُ كُلّ السيادة؛ ولا يُمْكِنُ لأيّ فرد، أَو أي شخص مِنْ الرجالِ، يَكُونُ لَهُ الحق في أيّ سلطة التي لَمْ تُشتَقّْ (تُستمد) بشكل واضح منه.(ملحق/1033)
بيعتْ من "حقوقُ الإنسان" خمسون ألف نسخةِ في بضعة أسابيع؛ هذه قَدْ تُشيرُ إلى قوّةِ الحركةِ الراديكاليةِ في إنجلترا في1791. جمعيات تقريباً راديكالية ازدهرَت: المجتمع للمعلومات الدستورية، المجتمع المتطابق للندن، الأصدقاء الاسكتلنديون للناسِ، المجتمع لإحْياء الثورة. البعض مِنْ هذه أرسلَ المديح إلى الثورةِ الفرنسيةِ؛ اثنان منهم ساعدَ لإعْطاء كتابِ بين Paine توزيع عريض. بيت Pitt لاحظَ، وأُزعجَ. بشكل خاص هو كَانَ معجب بكتاب بين: " بين ليس أحمقَ" قالَ إلى لابنةِ أخته؛ "هو ربما علي حقّ؛ لكن إذا أنا عَمِلتُ ما يُريدُ يَجِبُ أَنْ يكونَ عِنْدي آلافُ قُطاعِ الطرق بين يداي غداً، ولندن احترقتْ". أصدرَ طلباً لاعتقال بين؛ هَربَ بين إلى فرنسا؛ حوكمَ غيابِياً، وأعلنَ أنه مذنب بالخيانةِ (ديسمبر 1792).
الإنجليز كَانَ عِنْدَهُمْ العديد مِنْ الأسبابِ لعدم إتباع فرنسا في الثورةِ. كَانَ عِنْدَهُمْ في 1642 ما عند فرنسا 1789. كَانَ عِنْدَهُمْ ثورتُهم الثقافيةُ قبل الفرنسيين: التآكل الربوبي deist للعقيدة الأرثوذكسيِة سَبقَ التنويرَ الفرنسيَ، وكَانَ قَدْ أُمتصَّ إلى الرصانةِ البريطانيةِ بوقت فولتير وَصلتْ إنجلترا في 1726. حوّلتْ الحركةُ الميثودية Methodist بَعْض السخطِ إلى التقوى. الكنيسة الأنجليكانية Anglican كَانتْ تحرّريةَ (ليبرالية) نِسْبياً، ولم تكتسب ثروةَ كافيةَ لإثارة الحسدِ وعداوةِ العلمانية laity. الإقطاعية اختفتْ؛ ما كان هناك مستحقاتَ إقطاعيةَ؛ نسبة كبيرة مِنْ طبقةِ الفلاحين امتلكوا الأرضَ التي يزرعون. دَخلتْ الطبقة المتوسطةُ البرلمان، وأوَجدتْ صوتَ فعّالَ في السياسةِ الوطنيةِ؛ دَعمَ رئيسُ الوزراء إدّعاءاتُهم في أغلب الأحيان. العُمّال عُومِلوا بشكل سيئ مِن قِبل أربابِ الأعمال والمشرّعين، وثارَ البعضَ بقسوة، لكن الجيشَ يُمْكِنُ أَنْ يُعتَمدَ عليه لقَمْعهم، والسلطة القضائية لشَنْق زعمائِهم. عندما إنجلترا وفرنسا دَخلتْ حرب، الوطنيةَ حولت كراهيةَ الطبقة إلى الحماس القوميِ. الثورة انحسرتْ إلى الإصلاحِ، ونشر نفسه خلال القرن التاسع عشرِ.(ملحق/1034)
في هذه الأثناء مَرّتْ الثورةُ الفرنسية من التشريعِ إلى مذابح سبتمبر؛ هَزمَ جيشُه البروسيونَ ونمساويون في فالمي Valmy (20 سبتمبر 1792)؛ وحُمَّى الثورية انَتشرتْ إلى أرض الراين الألمانية Rhineland Germany. مواطن مينز Mainz ودارمشتات Darmstadt، بَعْدَ أَنْ رَمى الحكم الإقطاعي وبَدأَ حكومة شعبية، وخَوْف احتلالِ وعقابِ بالقوَّاتِ الملكيةِ، أرسلَ المبعوثونُ إلى فرنسا، يَطلب الحمايةً. بعد بَعْض النِقاشِ الحكومة الفرنسية أصدرتْ (19 نوفمبر 1792) الأكثر الثورية من كُلّ مراسيمها:
المؤتمر الوطني يُعلنُ، باسم الأمة الفرنسية، بأنّها سَتَوفقْ الأخويةَ وتُساعدُ إلى كُلّ الناس الذين يَتمنّونَ اسْتِعْاَدة حريَّتِهم، وتَشْحنونَ السلطة التنفيذيةَ لإعْطاء الجنرالاتِ الطلباتَ الضروريَة لجَلْب المساعدةِ إلى هؤلاء الناسِ، وللدِفَاع عن المواطنين الذين سَيَكُونُون، أَو قَدْ يَكُونوا، أزعجَوا بسببِ قضية الحريةِ.(ملحق/1035)
وَضعَ هذا الإعلانِ السخي المتهوّر كُلّ حُكم ملكي أوروبي علي الحافة. حكومة بريطانيا العظمى كَانتْ أُقلقتْ أكثر بتقدّمِ القوَّاتِ الفرنسيةِ إلى بلجيكا ومُطالبات فرنسا لهولندا لافتتاح نهر شيلدت Scheldt لكُلّ التجارة. هذا النهر الصالح للملاحة، 270 ميل طولاً، ارتفاعات في شرقي فرنسا، ويَتجوّلُ خلال بلجيكا (يَعْبرُ قريباً من أنتورب Antwerp) إلى هولندا، حيث ينقسّمُ إلى مصبّين ويصب في بحر الشمال. هولندا، برخصةِ سلامِ وستفاليا Peace of Westphalia (1648) أغَلقَت كلتا المصبّات لكُلّ التجارة ماعدا اختيارِها الخاصِ، الذي فضّلَ بريطانيا واستثني بلجيكا؛ لذا أنتروب هَبطَت وأمستردام ازدهرتْ. في 27 نوفمبر 1792، أعلمتْ الحكومةَ الفرنسيةَ إنجلترا أنها مصمّمْة على فَتْح مخارجِ شيلدت Scheldt بالقوة, أجابَ بيت Pitt بأنّ بريطانيا ارتبطتْ، مِن قِبل بمعاهدة 1788، لحِماية هولندا مِنْ أيّ هجوم أجنبي. علاوة على ذلك، منذ أن صَبَ الراين أيضاً في بحر الشمال خلال المصبّات الهولندية، سيطرة هولندا يعني مِن قِبل فرنسا سيطرةَ فرنسيةَ لأفواهِ الراين، ولهذا علي التجارةِ البريطانيةِ التي تَصِلُ وسط ألمانيا بالراين. في 31 ديسمبر 1792، أعلمتْ الحكومةَ البريطانيةَ فرنسا ذلك:
إنجلترا لَنْ تَقْبلَ فرنسا التي يَجِبُ أَنْ تَدّعي القوَّةَ المُبْطلة من سعادتها – وتحت تظاهرِ بالحقّ الطبيعي المُدَّعى الذي منه تَجْعلُ نفسها الحَكمُ الوحيد - للنظامَ السياسيَ لأوروبا، أَسّسَ بالمعاهداتِ الجدّيةِ والمضمونِ بموافقة كُلّ السلطات. هذه الحكومةِ، مُلتزمة بالحِكَمة التي تُتبع لأكثر مِنْ قرن، أيضاً سوف لن تَرى أبداً أللامبالاةِ التي ستصنع فرنسا بنفسها، إمّا مُباشرةً أَو بشكل غير مباشر، ملك البلدانِ المنخفضةِ، أَو الحَكم العامّ general arbiter لحقوقِ وحُرّياتِ أوروبا.(ملحق/1036)
21 يناير 1793، قَطعَ الحكومةُ الفرنسية رأس لويس السّادس عشر. هذه الأخبار وصلت لندن في الثالثة والعشرونِ، صْدمُت جورج الثّالث، وقريباً فيما بعد، أغلب الشعب البريطانيِ. في 24 يناير الحكومة البريطانيون أَمرتْ السفير الفرنسيَ، المركيز فرانسوا بيرنارد دي تشوفيلين Francois-Bernard de Chauvelin، ليتَرْك المملكة. في 1 فبراير فرنسا أعلنتْ الحرب على إنجلترا وهولندا. جورج الثّالث رحّبَ بالحربِ، اعتِقاداً بأنَّه يُوحّدُ الأمة. بيت Pitt ندم عليه، لكنه أعطاَه كُلّ طاقاته. فَتحَ المفاوضات التي أدّتْ إلى التَحَالُفِ الأولِ (1793): بريطانيا، البرتغال، إسبانيا، ساردنيا Sardinia، نابولي، النمسا، بروسيا، وروسيا. فَرضَ الضرائب العاليةَ على كُلّ طبقة ومجموعة في المملكةِ، وأرسل إعانات ماليةَ متكرّرةَ لحلفائِه. شَدَّد القوانينَ ضدّ أيّ دعاية دفاع لفرنسا أَو الثورة. علّقَ حريةَ الصحافةِ، و (1794) قانون الإشعار القضائي، الذي ضَمنَ حقَّ كُلّ شخص مُعْتَقل في محاكمة مُبكرة أَو إطلاقِ سريعِ؛ المشتبه بهم السياسيين يُمْكِنُ أَنْ يَكُونوا مُحتجزين الآن بدون محاكمةِ. (فرنسا فعلت المثل) بعد مظاهرةِ ضِدِّ حربَ التي فيها الحجارة رُمِيتْ في الملكِ، نشاط الاجتماعات المشاغبة (1796) حرّمتْ الاجتماعاتَ لأكثر مِنْ خمسون شخصِ ماعدا تحت الرخصةِ والسيطرةِ الحكوميةِ. نُقّاد (معارضين) الدستورِ البريطانيِ كَانوا عرضه لسبع سَنَواتِ نفى في خليجِ بوتوني Botany بأستراليا Australia.(ملحق/1037)
الراديكاليون البارزون جون هورن توك Horne Tooke، عالم لغوي، جون ثيلول Thelwall، صديق كولردج الأول، وصانع الأحذية توماس هاردي Thomas Hardy، مؤسس "المجتمع المتطابق للندن London Corresponding Society" - حوكمَوا بتهم الخيانةِ (مايو 1794)، دوفعَ عنهم مِن قِبل توماس إرسكين Thomas Erskine، وتم تبرئتهم. كَشفتْ هذه المحاكماتِ الرعبَ الذي ضَربَ الطبقات الراقيةَ ببريطانيا عندما وَجدوا أنفسهم ووجهوا بالثورةِ أخرى بهذا السرعة بعد الثورةِ المكلفة للمستعمراتِ الأمريكية. يبدو أن عالم - بعمر ألف سنةً - مِنْ الملوك والأرستقراطيات يَنهارا، حاصرَ مِن قِبل الفلاحين يحرقُوا القلاعَ وسندات الملكيّة الإقطاعيةَ، ومِن قِبل غوغاء المدينة يَسْجنُوا العائلة المالكةَ ويَقْطعَوا مِئات من رؤوسِ النبلاء. كُلّ هذا، العديد مِنْ البريطانيين شَعروا، انه كَانَ نتيجةَ "الفلاسفة" الفرنسيين الإلحاديينِ وتقليدِ الإنجليز لهم، جودوين Godwin وبين Paine. يمكن بأي وقت الآن القوَّات الفرنسية الكافرة أن تَأْخذُ هولندا وأرض الراين Rhineland؛ في سَنَة أَو اثنان ربما هم يُحاولونَ غَزْو إنجلترا. كَيْفَ تستطيع بريطانيا، مَع 15 مليون رجلِ فقط وبدون جيش جاهز، الانتصار في الحربِ مع فرنسا ولديها 28 مليون رجل وجيش فخور بالنصر؟.
عَرفَ بيت كُلّ هذا، لَكنَّه اعتقدَ من ناحية أخرى في مقولة المالِ بدلاً مِنْ الرجالِ؛ الرجال يُمْكِنُ أَنْ يُشتَروا لأجل المالِ، إنْ لمْ يكونوا في إنجلترا، ثمّ في النمسا، بروسيا، روسيا؛ وإنجلترا كَانَ عِنْدَها مالُ، يَأتي في كُلّ يوم مِنْ التجارةِ، صناعة، أرض، مستعمرات، قروض، ضرائب على كُلّ بند من الاستهلاكِ، على كُلّ أشكال الدخلِ.(ملحق/1038)
هذه العائداتِ يُمْكِنُ أَنْ تُجهّزَ الجيش صغير للدفاعِ ضدّ احتلالِ غير محتملِ؛ هم يُمْكِنُ أَنْ يَبقوا مصانعَ بريطانيا تُهمهمُ، وطنيتها الصحفية، ورسامو كاريكاتيرها في قمة شكلِهم؛ هم يُمْكِنُ أَنْ يَدْفعوا ثمن جيوش جديدةَ زوّدتْ مِن قِبل الحلفاء بلا المالِ ومديدين بالرجالِ. قبل كل شيء، هم يُمْكِنُ أَنْ يَبْنوا ويَدُوروا سُفن عديدةَ بما فيه الكفاية، مُسلّحَة بما فيه الكفاية، للسَيْطَرَة على المحيطاتَ، يُحاصرُ كُلّ ميناء فرنسي، يَأْسرُ أيّ سفينة فرنسية في البحر، يَضْمُّ إلى الإمبراطورية البريطانيةِ أيّ مستعمرة فرنسية. كُلّ شهر تلك البحريةِ كَانتْ تَنْمو في السُفنِ القوية والمنضبطة، البحّارة لا يضاهون. وهو كَانَ عِنْدَه أحد أمراء البحر Admirals الأعظمِ في التأريخِ.
2 - نيلسون 1758 - 1804
عائلة نيلسون كَانتْ أصلاً Nielsens، مِنْ سلالة الفايكنج الأنجليان Anglian الشرقيِ؛ ربما هوراشيو Horatio كَانَ عِنْدَهُ السُفنُ في دمِّه. ولد في 29 سبتمبر 1758، في بيرنهام ثورب Burnham Thorpe، نورفولك Norfolk, التي تجاورُ البحرَ. أبوه كَانَ قسيس الأبرشيةِ. أمّه تُعلّقتْ بروبرت والبول Walpole، رئيس الوزراء. أَخّوها، النّقيب موريس ساكلينج Suckling، نُسب في 1770 للـ H.M.S Raisonnable في تَوقّعِ الحربِ مَع إسبانيا. هوراشيو Horatio، بعمرِ اثنا عشرَ، استجدى واستلمَ الرخصةَ للخِدْمَة تحت إمرته؛ فيما بعد مدرسة الولدَ كَانت البحرَ.(ملحق/1039)
لم يكَنَ قويَ جسدياً؛ كَانَ مريض في أغلب الأحيان؛ لَكنَّه قرر اغتِنام كُلّ فرصة للتثقف، التطوير، والشرف. خَدمَ في السُفُنِ المُتنوعة في المهماتِ المُخْتَلِفة، يُخاطرُ مراراً وتكراراً بحياته؛ رُوّقي خطوة بخطوة، وفي العشرون من عمره جُعل منه كابتن الفرقاطة هينتشنبورك Hinchinbrook. كَان متكبّر مِثْل ما هو مؤهّل، ومَا شَكَّ في أنَّه يوماً ما يستطيع أن يَصِلُ إلى القمة في المَنْصب والشهرة. بينما كَانَ بطيء في طَاعَة رؤسائِه بينما هم كَانوا يُكَاْفَئوه لخدماتِه؛ لَكنَّه أعطىَ ذراعاً، ثمّ عيناً، ثمّ حياته لبريطانيا، ويُمْكِنُ أَنْ يُشبع رغباته في فخر شامخ كنُصبِه التذكاري. حسّاس لكُلّ نظرة ولمسة، استسلمَ بسهولة إلى الجمالِ، نعمة،، ورقة النِساء.
في كويبيك Quebec في 1782، كقائد ألبيمارل Albemarle، هو كَانَ على شفا تَرْك معسكره في خسارة لمهنتِه، للعَودة إلى المدينةِ بعرضِ الزواجِ للمرأة التي أعطتْه دفئَها الليلة سابقة؛ صديق حازم مَنعَ طريقَه ودعاهَ ثانياً لواجبِه والقدر. في 1787، كقائد طرّادِ بورياس Boreas، توانى في أنتيجوا Antigua، في جزر الهند الغربية، وتَزوّجَ السّيدةَ فرانسيس نيسبيت Frances Nisbet, أرملة شابة جميلة مَع عمّ غني. أحضرها إلى إنجلترا، وَضعَها على عقار صغير لكن مريح، وقضي interbellum سعيد مَعها في البلادِ. عندما حرب مَع فرنسا أصبحتْ محتمله هو جُعِلَ كابتن (1793) أجميمنون Agamemnon - أحد السُفنِ عالية المستوى جداً في البحريةِ - بالأوامرِ للانْضِمام إلى أسطولِ اللّورد هود Hood في البحر الأبيض المتوسط، وعلى سبيل المصادفة أخذ مُذكرة إلى السّيرِ وليم هاملتون William Hamilton، وزير بريطاني في محكمةِ نابولي. سلّمَ الرسالةَ، وقابلَ السّيدةَ هاملتون.(ملحق/1040)
أيمي ليون Amy Lyon، ولدت في 1761 لحداد ويلزي Welsh، كَانَت بالشباب تكَسبُ خبزها بجسدها، وحَمِلَت بطفلين غير شرعيين في هذا الوقت هي كَانت في تسعة عشرَ. في تلك السَنَةِ استقرّتْ كعشيقة لفخامةِ تشارلز جريفيل Greville، الابن الثاني للإيرل ورويك Warwick. أعادَ تعميدها إيما هارت Emma Hart، علّمَها فنونَ غناء - السيدةِ الراقية، الرقص، البيانو، دُخُول الغرفة بشكل رشيق، تبادلُ عزب المحادثةِ، وصْبُّ الشاي. عندما جدّدَ كُلّ شيء ماعدا روحَها، أَخذَها إلى جورج رومني George Romney، الذي رسَمَ ثلاثون مِنْ صورِها. عندما جريفيل وَجد فُرصة لزَواج وريثةَ، كان لا بُدَّ أنْ يَجدَ مضجع آخرَ لسيدتِه الجميلة، التي تَعلّمتْ الآن أَنْ تَحبَّه. لحسن الحظ السّير وليم هاملتون عمّه، أرمل بدون أطفال، كَانَ آنذاك في إنجلترا.
كَان غني، أخ بالرّضاعة لجورج الثّالث، زميل الجمعية الملكية , جامعَ مُميز لهيركولانيا Herculanea والفَنّ الكلاسيكي. وَجد إيما كما هو يُحب، ووافقَ على ليأخذها من أيدي ابنِ أخيه. بعد عَودته لنابولي Naples، أرسلَ لإيما دعوة للمَجيء إلى نابولي مَع أمِّها وأكملِ هناك تعليمِها في الموسيقى. قَبلتْ، على تفاهم بأنَّ تشارلز جرفيل يَلحقها قريباً. هو لَمْ يَجيءْ. السّير وليم أعطاَها وأمّها أربع غُرَفَ في المفوّضيةِ البريطانيةِ. ريّحَها بالرفاهياتِ والإعجابِ اللبقِ؛ رتّبَ لتعليمها الموسيقى والإيطالية؛ دَفعَ لباعة قبعات النساءَ بدون شكوى.(ملحق/1041)
هي كَتبتْ رسائل غرامية لجرفيل، تَستجديه للمَجيء؛ عَرضَها "تَكرّم بها علي السّير وليم"؛ رسائلُه أصبحَت أقصرُ أندرُ، وتَوقّفَ. أصبحتْ عشيقةَ السّيرِ وليم، استمتعتْ بالحبّ فقط بعد الترف. ما عدا ذلك تَصرّفتْ بشكل معتدل وبشكل رصين، وزعت الصدقة، أصبحَت المفضّلة لدي الراهباتِ، الملك، والملكة. جَلستْ لصورتِها إلى رافاييل مينجز Raphael Mengs، أنجيليكا كوفمان Angelica Kauffmann، مدام فيجيه ليبرون Mme. Vigee Lebrun. سُر مِنْها، جَعلَها السّيرَ وليم زوجتَه (1791). عندما فرنسا أعلنتْ الحرب على إنجلترا أصبحتْ نشيطةً ومتعاطفة وطنية، وعَملَت لإبْقاء نابولي في التَحَالُف مَع إنجلترا.
في صيفِ 1794 نيلسون أمر بوضع حِصَار علي كالفي Calvi , ميناء كورسيكا، ثمّ قُبض عليه مِن قِبل الفرنسيين. أُسرَ بالمُعتقل، لكن أثناء المعركة طلقةَ عدو، يَضْربُ بقربه، رَشَّ رملاً داخل عينِه اليمني. شُفى الجرح بدون تشويه، لكن العينَ تُرِكتْ بشكل دائم عمياء. ذلك النصرِ عَنى قليلاً في منظورِ الأحداثِ، لمجري أحداثهم في السنتين القادمتين كَانوا بقوة ضدّ إنجلترا. نابليون دَخل إيطاليا، شتتَ الجيوشَ الساردينيةَ والنمساويةَ، وأرغم حكوماتَ ساردنيا، النمسا، ونابولي لتَرك التَحَالُف الأولِ وتَقْبل شروطَ السلامِ مَع فرنسا. في أكتوبر 1796، إسبانيا، غضبت من الأعمالِ البريطانيةِ في جزر الهند الغربية، أعلنت الحرب ضدّ إنجلترا. بالأسطولِ الإسبانيِ الجاهزِ للانضِمام إلى الفرنسيين في البحر الأبيض المتوسطِ، ذلك البحرِ أصبحَ خطراً للبريطانيينِ.(ملحق/1042)
في 14 فبراير 1797, قوة بريطانية مِنْ خمس عشْرة سفينةِ تحت قيادة الأدميرال السّيرِ جون جيرفيس Sir John Jervis، ثمّ قائد أسطولِ البحر الأبيض المتوسطَ، أتي على الأسطول الإسباني مِنْ سبع وعشرون سفينةِ حوالي ثلاثون ميلَ خارج رأسِ سانت فينسنت Cape St. Vincent، الساحل الجنوبي الغربي المُتطرّف للبرتغال. نيلسون، أَمْر كابتن H.M.S، ليوجّهَ سُفنه وغيره من السُفُنِ لمُهَاجَمَة الحارسِ الخلفيِ لأسطول العدو الصغيرِ، وبنفسه قادَ رجالَه في اقتحام وأَسْر سفن سان جوزيف وبعد ذلك سان نيكولاس. السُفن الإسبانية، مُسلّحَة بشكل سيئ وأديرت بشكل سيئ، مَع رجالِ غير مدرّبينِ علي الأسلحةِ، اسْتَسْلمت، الواحدة بعد الأخرى، أعطت الإنجليزَ النصر الكامل الذي جعل من جيرفيس - إيرل (لقب) سانت فينسنت، ونيلسون أصبح فارس باث. البحرية البريطانية مرة ثانية كَانتْ السيد الرئيسي للبحر الأبيض المتوسطِ.
في يوليو 1797، نيلسون الآن عميد بحري - أُرسلَ للاستيلاء علي سانتا كروز Santa Cruz، على أحد جُزُرِ الكناري. البلدة كَانتْ قَدْ حُصّنتْ بقوة بواسطة الأسبانِ كشكل استراتيجي حيوي لحماية تجارتِهم بالأمريكتينِ. قَدَّمت مقاومةَ قادرةَ بشكل مفاجئ، ساعدتها الأمواج القاسية التي جَعلتْ مراكبَ الإنزال البريطانيةِ تقريباً يصعب التحكم فيها؛ تحطّم البعض على الصخورِ، البعض تعطّل بالأسلحة الإسبانية؛ فَشِلَ الهجوم. نيلسون بنفسه ضُرِبَ في المِرْفَقِ الأيمن؛ الذراع بُتِر جُزئياً، ونيلسون أُرسل للوطن للتَعافي تحت عنايةِ زوجتِه. قَلقَ في التفكير بأنَّ الأدميرالية Admiralty ستُسجله - بذراعِ واحد فقط وعينِ واحدة - مُعوّقة بشكل دائم. التمس لوظيفة جديدة. في أبريل 1798، تم اختياره كعميد بحري للـ H.S.M.Vanguard، مع أمر للانْضِمام إلى أسطولِ اللّوردِ سانت فينسنت قُرْب جبل طارقِ.(ملحق/1043)
في 2 مايو هو أُعطىَ قيادةَ ثلاثة مِنْ سُفنِ الخَطِّ وخمس فرقاطاتِ، مع تعليمات بمُرَاقَبَة خارج طولون، حيث كان نابليون يُحضر حملة غامضة تحت حماية حصونِ الميناءَ. في 20 مايو سرب نيلسون كَانَ محطّم بشدّةَ جداً مِن قِبل عاصفة فكان لا بُدَّ أنْ يَتراجع إلى جبل طارقَ للتصليحاتِ. عندما عادتْ السُفن إلى راعيها نيلسون عرفتْ بأنّ الأسطول الصغيرَ flotilla الفرنسيَ، تحت جُنح الظلام، تَركَ طولون Toulon وأبحرَ شرقاً، الاتجاه مجهول. أبحرَ إلي المطاردة، أمضىَ الكثير من الوقت مُتبعاً المعلومات الخاطئةِ، استنفذَ التجهيزاتَ، ورسا في باليرمو Palermo للتَموين وإصلاح أسطولِه. سُمِحَ له بهذا من خلال شفاعة السّيدةِ هاملتون لدي الحكومةِ النابوليةِ، التي، آنذاك في سلام مَع فرنسا، تَردّدَت في السَماح لهذا الانتهاك لحيادِها. سُفنه ثانيةً بأوامر جيدة، نيلسون قادَهم ليَعُودوا للبحثَ عن أسطول نابليون. وَجدَه أخيراً في أبو قير Abukir، قُرْب الإسكندرية. الآن ثانيةً خاطرَ بكُلّ شيءَ. في ليلةِ 31 يوليو 1798، أمرَ ضبّاطَه يضعوا كُلّ سُفنهم في الاستعدادِ للمعركةِ عِندَ الفَجرِ.
"بهذا الوقتِ غداً"، قالَ، "أنا سَأكُونُ قَدْ كَسبتُ لقب بييرج peerage أَو آبي وستمنستر Westminster Abbey"- ضريح البطلِ.(ملحق/1044)
في المعركةِ هو كَشفَ نفسه كالمعتاد. جزء من طلقةِ ضَربَه في الجبهة؛ أُخِذَ للطابقِ السفلي في انتظار الموت، لكن تأكد أن الجرحَ سطحيَ، وبسرعة ضُمدَ, رأس نيلسون، أُعِيدَ إلى الطابقِ، وبَقى هناك حتى كان النصر البريطاني كاملاً. مَع خطر "قليلاً جسدي" كُبح على ما يبدو، بيت كَانَ قادر على تَشكيل تَحَالُف ثاني مَع روسيا، تركيا، النمسا، البرتغال، ونابولي. الملكة النابولية ماريا كارولينا، أخت "المقتولة بالمقصلة" ماري أنطوانيت، سعيد لرُؤية مملكتِها الفوضويةِ شَغلتْ مرةً أخرى جانباً مِنْ سلالةِ هابسبورج Hapsburg والكنيسة الكاثوليكية، انضمَّ إليها الملك المتكاسل فردناند الرّابع في تحضير ترحيب مَلكي لأسطولِ نيلسون المنتصر لكنه متضرّر، الذي رَسا في ميناءِ نابولي في 22 سبتمبر 1798. السّيدة هاملتون Hamilton، رأت العميد (الأدميرال) المجروحِ، أسرعَت للأمام لتَحْيِته، وغابَت عن الوعي بين ذراعيه. هي وزوجها أَخذَاه إلى مفوّضيتِهم، البلاتسو ساسا Palazzo Sassa، وفَعلَا كل شيء لراحتِه. إيما Emma لم تبذل أي جُهدِ لإخْفاء هيامِها، والبطل المُجَوَّع ارتاحَ لها تحت ابتساماتِها وعنايتِها. كَانَ يبلغ الأربعون، هي كَانتْ في سبعة وثلاثون؛ هي لَمْ تَعُدْ فاتنة، لَكنَّها تقرْبت وغذّت البريطاني بالتملقِ الذي قَدْ أَصْبَحَ له، بعد المعركةِ، نبيذ الحياةِ. السّير وليم، الآن في الثمانية والخمسون، يَستنفذُ الأموالِ ومُنهمك في الفَنِّ والسياسةِ، قَبلَ الحالةَ بشكل فلسفي، ورُبَما شَعرَ بالارتياح.(ملحق/1045)
بربيعِ 1799 نيلسون كَانَ يَدْفعُ جزء كبير مِنْ نفقاتِ إيما. الأدميرالية البريطانية، بعد التصويت له بالشرفِ الأعلى والمبالغِ الكبيرةِ، والسْماح له باستراحةَ مُسْتَحقّةَ، طُلب منه أن يَذْهبُ لمساعدةِ الأدميرالات الآخرينِ؛ أعفي نفسه على أساس أنه أكثر أهميَّةً لَهُ أَنْ يبْقى ويَحْمي نابولي مِنْ الثورة المنتشرة. متأخراً في 1799 هاملتون استُبدلَ بآرثر باجت Paget كسفير بريطاني في نابولي. في 24 أبريل 1800، تَركَ السّيرَ وليم وإيما نابولي لليجهورن Leghorn، حيث أنهم انضمّوا لنيلسون؛ من هناك سافروا براً إلى القناةِ، وعبر القناةِ إلى إنجلترا. كُلّ لندن حيّته، لكن الرأي العامَ أدانَ ارتباطَه المستمرَ إلى زوجةِ الرجلِ الآخرِ. جاءتْ السّيدةُ نيلسون لاسْتِرْداد زوجِها، وطَلبته بأن يسحب نفسه من إيما؛ عندما رَفضَ، تَركتْه.
في 30 يناير1801، إيما، في عِزْبَة السّيرِ وليم، وَلدَت بنت، التي سُمّيتْ هوراشيا نيلسون طومسون، من المفترض أنها نتاج "لمسة نيلسون". في ذلك شهرِ نيلسون، الذي أصبحَ في هذه الأثناء لواء - بحري، بَدأَ مهمتِه القادمة - لأَسْر أَو تَحْطيم الأسطولِ الدانمركيِ؛ نحن سَنَراه هناك. على عودتِه، وأثناء سلام أمين Amiens، إعتاشَ على عِزبته في ميرتون Merton بسُري Surrey، مَع عائلة هاملتون كضيوفه. في 6 أبريل 1803، السّير وليم ماتَ، بين زراعيّ زوجتِه ومُمسكاً يَدِّ نيلسون. فيما بعد، بميراثِ مِنْ ثمانمائة باوند في السّنة، عاشتْ مع نيلسون في ميرتون حتى دُعِيَ إلى انتصاره الأعظم وموته.
3 - معركة ترافالجار (الطرف الأغر) TRAFALGAR: 1805(ملحق/1046)
عندما تَركَ بيت وزارته الأولى (3 فبراير 1801) هو دَعمَ تعيينُ صديقِه هنري أدينجتون Addington بكل سهولة كخليفة له. شارك أدينجتون - بيت في كراهيته للحربِ. لاحظَ عدم شعبيته بالبلادِ، خصوصاً مَع المصدّرين؛ رَأى كَمْ بسهولة فسخت النمسا التَحَالُف الثاني بعد هزيمتِها في مارينجو Marengo؛ رَأى ليس من الحكمة إهْدار الإعانات الماليةِ على مثل هذه هؤلاء الحلفاء ضعفاء - القوائم؛ صمّمَ على إنْهاء الحربِ بأسرع وقت ممكن حفظاً - لماء وجهِ سيُستباح. في 27 مارس 1802، وكلائه وقّعوا مَع نابليون، السلام أمين Amiens. لأربعة عشرَ شهرِ التي الأسلحةِ كَانتْ صامتة؛ لكن نابليون وسّع قوَّتِه في إيطاليا وسويسرا، ورفض إنجلترا لتَرْك مالطة، أنهىَ هذه الفترةِ الصافية، وعداوات كَانتْ استأنفَ 20 في مايو 1803. كلّف أدينجتون - نيلسون لقيادة وتحضير أسطول الذي مهمّته كَانتْ بسيطةَ:
لتَحديد مكان الأسطولِ الفرنسيِ الرئيسيِ ويُحطّمُه حتى أخر سفنه. في هذه الأثناء نابليون كَانَ يقوم بالتعبئة بالرجالِ ومعسكراتِ ضخمة التجهيزات العسكريةِ , الموانئ، وترسانات في بولوني Boulogne، كاليه Calais، دنكرك Dunkirk، وأوستند Ostend، وكَانَ يَبْني مِئاتَ السُفُنِ صُمّمتْ لتنقل فيالقه عبر القناة لغزو إنجلترا. كافح أدينجتون من أجل مُوَاجَهَة هذا التحدي، لكن تَردد بدلاً مِنْ القيادة، في حين تنظيم دفاع الوطن تَعثّرَ إلى الفوضى. عندما مؤيدو حزبه سَقطَوا مِنْ 270 إلي107 بَيّنَ رغبتَه في الاسْتِقْاَلة؛ وفي 10 مايو 1804, بَدأَ بيت Pitt وزارته الثانية.(ملحق/1047)
وَهيأ نفسه حالاً لتَشكيل a تَحَالُف ثالث (1805)، مَع روسيا، النمسا، والسويد، وأعطاَهم إعانات ماليةَ رَفعتْ جزئياً في الضرائب إلي خمسة وعشرون بالمائة. رَدَّ نابليون بأمر جيشِه في القناة للزَحْف عبر فرنسا ويَعطي النمسا الدرس الآخر؛ وإلى لوائه البحري، بيير دي فيلينيف Villeneuve، أرسلَ الأوامر لتَهْيِئة أفضل سُفنِ البحريةِ الفرنسيةِ للقاء نيلسون في معركة لإنْهاء السيطرةِ البريطانيةِ مِنْ البحارِ. بارجة نيلسون، فيكتوري (النصر- Victory) ، كَانَ لديها 703 رجلُ، متوَسُّط أعمارهم اثنان وعشرون سنةً؛ البعض كَانوا اثنا عشرَ وثلاثة عشرَ، قليلاً منهم كَانوا عشَر سنوات. حاولي النِصْفِ منهم كَانَ قَدْ أُسِرَ بكتائبِ التجنيد؛ الكثير كَانوا سجناء حُكم عليهم بخدمةْ البحريةِ كعقوبة للجريمةِ. راتبهم كَانَ أقل ما يمكنَ، لَكنَّ حصتهم، طبقاً لمكانهم وسلوكهم، صرفت الرواتب مِنْ حصيلة السُفُنِ أَو المخازنِ المَأْسُورَةِ.
إجازة الشاطئ كَانتْ نادرةَ، خوفاً من الهروبِ؛ لتَلْبِية حاجاتِ الرجال، جُلبت حمولة المومساتِ بجانب السفينة؛ في بريست Brest، 309 امرأة في صباح واحد علي متنها، مَع 307 رجلِ. تَعلّمَ المجنّدون بسرعة، خلال الانضباطِ الشديد، لضبط أنفسهم لشروطهم، وعادة لأخذ الفَخْر بعملِهم وشجاعتهم.
نيلسون: يُقالُ لنا، كَانَ شعبياً مَع رجالِه لأنه لا عاقبَ إلا من خلال ضرورة واضحة وأسفٌ مرئي؛ لأنه عَرفَ عمل البَحّارِ، وقلّما يُخطئ في وسائل أَو قيادة؛ لأنه بنفسه واجهَ أسلحةَ العدو؛ ولأنه جَعلَ رجالَه يَعتقدونَ بأنَّهم أبداً لا يَخذلونه أَو إنجلترا، ولَنْ يُهْزَمَ.
هذا كَانَ "لمسة نيلسون" الذي جَعلَ هؤلاء الرجالِ المُدانينِ يَحبّونَه.(ملحق/1048)
في 8 يوليو 1803، انضمَّ إلى سُفنِه الأحدَ عشرَ في البحر الأبيض المتوسطِ جانب طولون Toulon، في هذا ميناءِ الواسعِ فيلينيف Villeneuve وأسطوله كَان يَجِد الحماية بأسلحةِ الحصونِ. الأدميرال الفرنسي كَانَ مؤخراً استلم أوامر جديدة مِنْ نابليون: للهُرُوب مِنْ طولون، القوة مروراً بجبل طارقِ، تُبحرُ إلى جزر الهند الغربية، تَنضمُّ إلى لسرب الفرنسيين الآخرينِ هناك وتُهاجمُ القواتَ بريطانيةَ حيثما صادفتْ. بينما سُفن نيلسون كَانتْ تَأْخذُ ماء في ميناء سارديني Sardinian، فيلينيف هَرب مِنْ طولون (30 مارس 1805)، وقام إبحار كامل لأمريكا. نيلسون طارده مُتأخّراً، ووَصلَ باربيدوس Barbados في 4 يونيو. سَمْع هذا، فيلينيف عادَ عبر الأطلسي، وأنجز الإتحاد، في كورانا Corunna، مَع سرب إسباني مِنْ أربعة عشرَ سفُينة تحت قيادة الأدميرال فيدريكو دي جرافينا Federico de Gravina.
أوامر مُعدلة مِنْ نابليون عَرضتْ عليه أن يُبحرُ شمالاً، ليَنضمُّ إلى القوة الفرنسية الأخرى في بريست Brest، وتُحاولُ أن تنتزع سيطرةِ القناةِ قبل أن يستطيع نيلسون العودة مِنْ جزر الهند الغربية. لكن سُفن فيلينيف، بعد جولتهم البحريةِ الكاريبيةِ، كَانتْ في وضع لا يسمح لمُوَاجَهَة المعركة. في 13 أغسطس قادَ أسطولَه المتوسع في تحطمه جنوباً إلى ميناء قادش Cadiz المُجَهَّز بشكل جيد والمُحَصَّن بشكل جيد، وبَدأَ هناك تَجديد سُفنِه ورجالِه. متأخراً في أغسطس سرب بريطاني تحت اللواء البحري كثبيرت كولينجوود Cuthbert Collingwood وافق على مهمّةِ مُرَاقَبَة فيلينيف. نيلسون، بعد إكْمال تمثيليته الساخرة comedy في العبور، فكر بأنَّهُ أيضاً، ورجاله، محتاجَ للتصليحات والاستراحة، وسُمِحَ لنفسه ببَعْض الأسابيعِ مَع عشيقتِه في ميرتون Merton. في 28 سبتمبر هو وسُفنه انضم إلى كولينجوود بجانب قادش، وانتظرَ بنفاذ صبر الفرنسيين للخُرُوج ومُحَارَبَة.(ملحق/1049)
غيّرَ نابليون أوامره ثانيةً: فيلينيف كَان يَتْرك قادش، يُحاولُ مُرَاوَغَة الأسطولِ البريطانيِ، ويَذْهبُ للتَعَاوُن مَع جوزيف بونابرت Bonaparte في السيطرةِ الفرنسيةِ لنابولي. في 19 و20 أكتوبر قادَ الأدميرال المعارض سُفنُه الثلاثة والثلاثون خارج قادش وانطلق لجبل طارقِ. في العشرين نيلسون شاهدَهم، وفي اللحظة أمر سُفُنه السبعة والعشرون لتَوضيح طوابقِهم للمعركةِ. تلك الليلة بَدأَ، والصباح التالي أنهىَ , رسالة إلى السّيدةِ هاملتون Lady Hamilton:
محبوبتي الأغلى إيما، صديقة أحضاني عزيزة
الإشارةِ جعِلتَ أسطولَ العدو المشتركَ يخْرج مِن الميناء.
عنْدَنا ريحُ صَغيرةُ جداً لذا لَيْسَ لِي آمالُ برُؤيتهم قبل غداً.
يا الله بالمعاركِ توج مساعيَ بالنجاحِ في كل الأحوال
سَوف أخذ حذري بأنّ اسمَي للأبد سَيَكُونُ أكثر العزيزِ لديك وهوراشيا Horatia
اللتان أَحبُّهما بقدر حبي لحياتي. . . .
إن شاء الله قويُ يَعطينا النجاحَ على هؤلاء الرِفقاء.
ويمَكّنْنا للحُصُول على السلامِ.
وفي مفكرتِه، في يومِ المعركةِ، كَتبَ:
. . . يا الله العظيم. . . امنحْ لبلادِي، ولمنفعةِ أوروبا عُموماً ,
النصر العظيم والمجيد، ولا أحد يمكنه بسوء التصرف أن يُلوّثُه؛
وربما الإنسانيةُ بَعْدَ أَنْ يَكُونُ النصرَ الميزّة السائدة في الأسطولِ البريطانيِ. لي،. . .
أنا أودع لهم حياتي هم الذين صنعوني؛
وبركته قد تضيء على مساعي لخِدْمَة بلادِي بإخلاص.
إليه أتخلي عن نفسي والسبب الأوحد يكن أنه إإتَمنني أَنْ أُدافعَ.
آمين. آمين. آمين.(ملحق/1050)
إجتمعت الأساطيل armadas ( أرمادا=الأسطول الأسباني) المنافسةُ في 21 أكتوبر 1805، مِنْ رأسِ ترافالجار Trafalgar، على ساحل إسبانيا قليلاً جنوبي قادش. فيلينيف، من بارجته بيوسنتشور Bucentaure، أشارَ إلى سُفنِه للتَشكيل في خَطّ واحد من الشمال إلى الجنوب، جوانب مينائَهم تواجه العدو المقبلِ؛ السُفُن، قِدت بشكل سيئ، أكملَ بالكاد هذه المناورةِ عندما وَجدوا أنفسهم هدفَ القواتِ البريطانيةِ المتقدّمة من شمال الشرقي في خط مزدوج. في 11:35 صباحاً نيلسون، مِنْ بارجته فيكتوري، أرسلَ وميض في كافة أنحاء أسطولِه الإشارة المشهورة:
"تَتوقّعُ إنجلترا بأنّ كُلّ رجلِ يَعمَلُ واجبَه."
في 11:50 الأدميرال كولينجوود، يَأْمرُ خمس عشْرة سفينةَ، قادَ الهجومَ مِن بارجته (سفينة القائد)، رويال سوفيرين Royal Sovereign، لإبْحار مباشرة خلال الفجوة بين الأولى سانتا آنا Santa Ana, والثانيةِ وفاوجواكس Fougueux, للأدميرال جرافينا Gravina رجال - الحربِ.
بهذا التحرّكِ رجالِه كَانوا قادرين على أَنْ يُطلقَوا هجوم ساحق ضدّ سفينتي الأسبان، التي لن تَستطيعُ أَنْ ترد النيران - السفن الحربيةَ كَانتْ آنذاك مصمّمه بقليل أَو بدون أسلحةِ في المقدمة أَو الخلف. المدفعيون البريطانيون كَانَ عِنْدَهُمْ أفضليه إضافية: يُمْكِنهم أَنْ يُشعلوا مدفعَهم مَع الفلنتلوكس flintlocks ( أقفال مسدّسِ عِنْدَها قدّاحه صوان في الزند لضَرْب شرارة)؛ هذا الطريقة كَانتْ أسرع مرتين كالطريقِة الفرنسيِ لإشْعال المدفعِ بأعواد الثقاب - بطيئة الاشتعال؛ وإطلاق النار يُمْكِنُ أَنْ يتزَامنَ بشكل أفضل مع لفّة السفينة.
بقيّة سرب كولينجوود تتبع مثالُه بثُقْب خَطِّ العدو، ثمّ تنحِرف، وتَركيز هجومهم على سُفنِ جرافينا، حيث الروح المعنوية كَانتْ منخفضةَ. في النهايةِ الشماليةِ لخطِّ المعركة، الفرنسيون لاقوا بشكل شجاع هجومِ نيلسون الغضب؛ البعض مِنهم بَكى،"يعيش الإمبراطور" " Vive l'Empereur! " مثلما ماتوا؛ على الرغم من هذا، مثلما عند أبو قير Abukir، التدريب الأعلى ومهارة الأطقمِ البريطانيةِ، في الملاحةِ والمدفعية، فازَ.(ملحق/1051)
لكن القضيةَ حُسمت عندما قنّاص في السارية العُليا لـ ريدوفتابل Redoutable وجّهَ طلقة قاتلة لنيلسون. الأدميرال لم يكَشفَ نفسه كالمعتاد فقط؛ ضاعفَ خطرَه برَفْضه إزالة، الشارات المُمَيِّزة للشرفِ مِنْ صدرِه تلك التي إنجلترا مَنحتْه. مَرّتْ الرصاصة بصدرِه وحطّمَ عموده الفقري.
مُساعده المُخلص، النّقيب توماس ماسترمان هاردي Thomas Masterman Hardy، حَملتْه أسفل بمخزن السفينة، حيث أَكّدَ الدّكتورَ بيتي أكد نيلسون لديه فقط بضعة ساعات مِنْ الحياةِ تَركتْ إليه. هو ظل واعي لأربع ساعات أخري، طويلة بما فيه الكفاية ليعَلّم بأنّ أسطوله رَبحَ النصر الكامل، الذي به تسعة عشرَ مِنْ سُفنِ العدو استسلمتْ، ولا واحده البريطانيةِ. تقريباً كلماته الأخيرة كَانتْ:
"إعتنِي بسّيدتِي العزيزة هاملتون، هاردي؛ اعتني بالسيدةِ المسكينة هاملتون." ثمّ، "قبّلُني، هاردي. الآن أَنا راضيُ. اشكرْ الله، أنا قامَت بواجبي."
كُلّ سُفنِ نيلسون، رَست بقيادةِ نعش نيلسون، نَجتْ من العاصفةِ التي تنبأ بها، ووَصلَت إنجلترا في الوقت المناسب لتدعْ أطقمَهما تَشتركُ فيها في الاحتفالِ الوطنيِ بنصرِهم. جثّة البطلَ، غُطسَت في البراندي لتَأخير التفسخِ، حُملت عمودياً في دنّ (برميل خشب) إلى إنجلترا، حيث استقبلت أروع استقبال جنائزي في الذاكرة الحية. سلّمَ النّقيبُ هاردي إلى السيدةِ هاملتون رسالة حبيبها الميت التوديعية. حفظتها كتعزيتها الوحيدة. في نهايتها كَتبتْ:
أوه إيما تَعِسة بائسة،
أوه نيلسون مجيد وسعيد.
وصيته تَركَ كُلّ ملكيته وجوائزه الحكومية لزوجته ماعدا البيتِ في ميرتون Merton، الذي احتفظتْ به لإيما هاملتون. قلقة خشية أن هذا - وسنويتِها مِنْ زوجِها - سوف لن يحفظ لها سعة العيش، كَتبَ ملحق وصيته في يومِ مِنْ المعركةِ:
"أَتْركُ السيدة إيما هاملتون كميراث إلى ملكِي وبلادِي، ذلك أنهم سَيَعطونَها مؤنه وفيرة لإبْقاء منزلتِها في الحياةِ "؛(ملحق/1052)
وفي ساعاتِ احْتَضاره، كما في تقرير الدّكتورِ سكوت، طلب بأنّ بلاده يَجِبُ أَنْ تَعتنيَ أيضاً "ابنتي هوراشيا." الملك والبلادَ أهملت هذه الطلباتِ. إيما اعتقلتْ بسبب الدَينِ في 1813، وسريعاً أُفرج عنها، وهَربت إلى فرنسا للهُرُوب من دائنيها. ماتتْ في الفاقةِ في كاليه، 20 يناير 1815.
الأدميرال جرافينا، بعد مقاومة شريفة، هَربَ ببارجته إلى إسبانيا، لكنه بجروح بالغة جداً بِحيث ماتَ بعد بضعة شهور. فيلينيف لمَ يَقدْ بحكمة لكن قاتلَ بشجاعة، كَشْف نفسه بشكل متهوّر كنيلسون؛ سلّمَ سفينتَه فقط بعد أن كان تقريباً كل رجاله مَوتى. هو أُخِذَ إلى إنجلترا، أُطلق سراحه، وغادر إلى فرنسا. غير راغب لمُوَاجَهَة نابليون، قَتلَ نفسه في فندق في رين Rennes، 22 أبريل 1806. رسالته النهائية اعتذرَ لزوجته بسبب هِجْرها، وشَكرَ القدر الذي لم يترك له طفلِ
"لكي يُرهَقَ باسمِي."
ترافالجار كَانت "أحد المعاركِ الحاسمةِ" بالتأريخِ. قرّرت لمدّة قرن سيادة بريطانيا علي البحارِ. أنهت فرصت نابليون لتَحرير فرنسا مِنْ حصار الأسطولِ البريطانيِ الذي ضربه على طول شواطئِها. أجبرَته علي التَخلّي عن كُلّ فكر لغَزْو إنجلترا. عَنت بأنّه يَجِبُ أَنْ يَخُوض معاركَ الأرضِ الغاليةِ دائما، وألا يزحف إلى المزيد أبداً. يُعْتَقَد بأنَّه يَلغي ترافالجار بنصره الهائل في أوسترليتز Austerlitz (2 ديسمبر 1805)؛ لكن هذا قادَ إلى يينا Jena، إيلاو Eylau، فريدلاند Friedland، واجرام Wagram، بورودينو Borodino، ليبزج Leipzig، واترلو Waterloo. القوة البحرية تَرْبح.(ملحق/1053)
رغم ذلك، بيت Pitt، الذي عاشَ خلال مائة أزمة ليبتِهج على ترافالجار، إتّفق مع نابليون في التَفْكير بأنّ أوسترليتز ضاهت ولغت نصر نيلسون. أُرهق مِن تعاقب أزمات في محليِة بالإضافة إلى الشؤون الخارجيةِ، انسحب مِنْ لندن للاستراحة في باث Bath. هناك استلم الأخبارَ أن النمسا، محور ائتلافه، انهارَت ثانياً. أعطتْ الصدمةُ المسه الأخيرة إلى الأمراضِ الطبيعيةِ التي تخدرت وتضاعفتْ بالبراندي. على 9 يناير 1806، أُخِذَ إلى بيتِه في بوتني Putney. في ذلك البيتِ، على 23 يناير 1806، ماتَ، بعمرِ سبعة وأربعون، بعد أن كان رئيس وزير بريطانيا العظمى تقريباً خلال كُلّ سنوات بلوغه. في تلك السَنَواتِ التسع عشْرة ساعد لتَوجيه بلادِه إلى السيادة الصناعيةِ، التجارية، والبحرية، وأصلحَ نظامه المالي بمهارة؛ لَكنَّه فَشلَ في أن يطهر ويقيد الثورة الفرنسية أَو يكبح التوسّعِ الخطرِ لسلطة نابليون في أوروبا. ميزان القوى القاري، ثمين جداً إلى إنجلترا، كَانَ يَختفي، وحريات الخطاب المحلية المكتسبة - بالمشقة، التجمّع، والصحافة كَانتْ قَدْ فُقِدتْ مدّةِ الحرب التي استمرّتْ الآن لاثنتا عشْرة سنة، ولم تُعطي أي إشارةِ بالنهايةِ.
4 - تَمضي إنجلترا الوقت: 1806 - 1812
مجال لوحتنا سوف لَنْ يَسْمحَ لنا الوَصْف بالتفصيل للوزارات الأربع التي خَلفت بيت Pitt. باستثناء سَنَة فوكس، طاقاتهم ذَهبت إلى المشاكل الشخصيةِ والحزبية بدلاً مِن إدارة شئون الدولة والسياسة، ومجموعها الكلي، عالمياً، كَانت تقريباً نفسها إلى نفس النتيجة: الهبوط مِن الازدهارِ إلى الفاقة، ومِنْ المشروعِ إلى التأجيلِ. الملخص "وزارة كُلّ المواهب" (1806 - 1807) تحسنت بجُهودِ تشارلز جيمس فوكس Charles James Fox، كسكرتير للشؤون الخارجيةِ، لتَرتيب سلام مع فرنسا. مهنته الغير مستقرة كَانتْ تميزت باللبرالية الصبورة وقدرته لقُبُول الثورةِ الفرنسيةِ، وحتى نابليون، إلى غرابةِ تطورات التاريخِ المحتملة. لسوء الحظ وَصل إلى السلطة عندما قوّتَه جسمه وعقلِه عَانى مِنْ متعتِه المتهوّرةِ للطعام والشرابِ.(ملحق/1054)
صنع طريقه مُمتازة للمفاوضاتِ بإرسال رسالة إلى تاليران Talleyrand (16 فبراير 1806) ذلك الوطني بريطاني جاءَ لوزارة الخارجية مَع خطة لاغْتياَل نابليون، ومُضيفاً ضمانات أن ذلك الأحمق مراقباً بعناية. قدّرَ الإمبراطورُ الإيماءة، لَكنَّه كَانَ مبتهجَ جداً بنصرِه على النمسا، وبريطانيا كَانتْ ممجده جداً بنصرِ نيلسون في ترافالجار، ذلك يعني لن يُقدّمُ أحداً التنازلاتَ المطلوبة كتحضيرات للسلامِ. نَجحَ فوكس بشكل أفضل باقتراحِه إلى البرلمانِ لإنهاء تجارة العبيدِ؛ بعد جهد جيل مِن قِبل ويلبرفورس Wilberforce ومائة آخرين، أصبحَ الإجراءُ قانوناً (مارس 1807). بذلك الوقتِ فوكس ماتَ (13 سبتمبر 1806)، بعمرِ سبعة وخمسون، والساسة البريطانيين سَقطوا في طاحونة القصور الذاتي المتفائلِ.
هذا، على أية حال، بصعوبة فقط تكون كلمة عن الشكل السائد في وزارة (1807 - 1809) وليم كافندش بنتنك William Cavendish Bentinck، دوق بورتلاند. جورج يُعلّب Canning، سكرتير للشؤون الخارجية، أرسلَ أسطول لقَصْف كوبنهاجن Copenhagen (1807) ؛ وروبرت ستيوارت، والفيكونت كاسلريه Castlereagh، سكرتيرين للحربِ، أرسلا بعثة مشئومة إلى والتشرن Walcheren في محاولةِ لأَسْر أنتورب (1809). السكرتيران، تشابها في القدرةِ والعاطفةِ , تشاجرا على كُل المشاريع الأخرى، وتَبارزا، الذي يُخَدشَ يُعلّب. أفسدت مضاعفاً بالكوميديا الداخلية والمأساةِ الخارجيةِ، وزارة بورتلاند استقالتْ.
سبنسر بيرسيفال Spencer Perceval، كوزير (1809 - 1812)، كَانَ لديه سوءُ الحظ المضاعف برُؤية بريطانيا تَصِلُ إلى حضيضِ قرنها التاسع عشرِ، ووجود اغتيالَ لآلامِه. بسقوطِ عام 1810 حصار نابليون القاري آذي الصناعةَ البريطانيةَ والتجارةَ إلي حد أنه الآلافِ البريطانيين كَانوا عاطلين، وملايين كَانوا على حافةِ الفاقة. تحول القلق إلى العنفِ الثوريِ؛ "مُحطم الماكينات" ( Luddite) بَدأَ الحائكُون بتَحْطيم الماكينِات في 1811.(ملحق/1055)
في 1810 الصادرات البريطانية إلى شمال أوروبا جَلبت 7,700,000؛ في 1811 جَلبت 1,500,000. في 1811 إنجلترا كَانتْ تَنزلقُ إلى حرب ثانية مَع أمريكا؛ كجزء مِن خُسارة صادراتِها إلى الولايات المتّحدةِ هبطت مِنْ 11,300,000 في 1810 إلى 1,870,000 في 1811. في هذه الأثناء الضرائب كَانتْ تَرتفعُ لكُلّ بريطاني، حتى، بـ 1814 عبئِهم هدّدَ بانهيار النظامِ المالي لبريطانيا، وإئتمان عُمْلتها في الخارج.
البريطانيون الجياع بكوا لتخفيض ضرائب الاستيراد على الحبوب الأجنبية؛ عارضَ المزارعين البريطانيين مثل هذا التحرّك خشية أن يُخفّضُ سعرَ مُنتَجِهم؛ خفّفَ نابليون الأزمة ل إنجلترا (1810 - 1811) ببيع رُخَص التصدير لمنتجي الحبوب الفرنسية؛ احتاج نقداً لحملاتِه. عندما الجيشِ الضخم تجهز لروسيا في 1812 إنجلترا عَرفتْ بأنَّ نصر لنابليون يعني الإغلاق الأكثرَ صرامة لكُلّ الموانئ القارية ضدّ البضائع البريطانية، وسيطرة نابليون الأكمل للشحناتِ القاريةِ إلى بريطانيا. كُلّ إنجلترا راقبتْ وقَلقتْ.
ماعدا جورج الثّالث. هو استغنى عن الوعي بهذه الأحداث بانحداره الأخير نحو الصمم، العمى، والجنون. موت أميليا Amelia أفضل من أحب من بناته (نوفمبر 1810) كَانت الضربةَ الأخيرةَ، قاطعاً كُلّ اتّصال بين عقله والحقيقة الواقعية؛ الآن هو صاحب امتيازات للعَيْش في عالمه الخاص، الذي لم يكن فيه مستعمرات ثائرة، لا ثعالبَ وزاريةَ، لا نابليونيون قتله. هو لا بدَّ وأنه وَجد بَعْض الرضاءِ في هذه الحالة، ما عدا ذلك صحته تَحسّنتْ؛ عاشَ بها لعشْرة سَنَواتِ أكثرِ، يَتكلّمُ بِمَرح، بدون قيد أَو عبءِ المنطقِ أَو قواعد اللغة، وسط كُلّ راحة وخدمة، وخلال كآبة ما بعد الحرب أسوأ مِنْ تلك 1810 - 1812. شعبيته نَمتْ بمرضِه. شعبه الجائع أشفق عليه، وتَساءلَ، بالأساطيرِ القديمةِ، ألا عنده مُسٌ وأَخذَ بيد الله.(ملحق/1056)
عليه،11 مايو 1812، في لوبي مجلس العمومِ، رئيس الوزير بيرسيفال Perceval قُتِلَ رمياً بالرصاص مِن قِبل سمسار مفلس، جون بلينهام Bellingham، الذي شَعرَ بأنّ مشاريعَه التجاريةَ كَانت قَدْ خُرّبت بسياسات الحكومةِ. في يونيو، تحت إيرلِ ليفربول Earl of Liverpool, الوزارة الجديدة شُكّلتْ، التي، بمعجزاتِ الكياسةِ والظروفِ، تَحمّلت حتى 1827. في يونيو نفسهِ، أعلنَ الولايات المتّحدةُ الحرب على إنجلترا، وعَبر رجال نابليون الـ 500,000 النيمن Niemen إلى روسيا.(ملحق/1057)
الكتاب الرَّابع
THE CHALLENGED KINGS
ملوك أوربا في مُواجهة التحدّي من 1789 - إلى 1812
مقدمة الترجمة العربية
يتناول هذا الكتاب: كيف واجه ملوك أوربا خطر الثورة الفرنسية ونابليون؟ لم يكن هذا في رأي مؤلفي هذا الكتاب (ول ديورانت وزوجته) بالحرب فقط، فالحروب كما يقول لنا المؤلفان هي الألعاب النارية في التاريخ (راجع الفصل 26)، وإنما كان في الأساس - وببساطة - بأن نقلوا إلى بلادهم ما وجدوه حسناً متمشيا مع روح العصر في هذه الثورة الفرنسية· لقد أخذوا بشيء كثير من التنظيمات النابليونية والقوانين النابليونية، بل لقد أخذوا من الدستور الفرنسي (راجع على سبيل المثال الفصل الخاص بالإمبراطورية الروسية، خاصة القسم المتعلق بالإمبراطور اسكندر) واتخذوا خطوات للقضاء التدريجي على الإقطاع بإتاحة ملكية الأرض لكل أبناء الوطن الواحد كخطوة تمهيدية ليصبح الجميع ملاكا (راجع على سبيل المثال جهود شتاين Stein في الفصل الخاص بألمانيا)، ورغم أنهم راحوا يركزون على الدين ويحمون الكنائس التقليدية في بلادهم كأداةٍ جماهيرية فعّالة في مواجهة الملحد نابليون - على حد قولهم،(ملحق/1058)
إلا أنهم أيضاً وجدوا من الحكمة أن يأخذوا بما طبَّقه نابليون من حرية اعتقاد للأقليات الدينية بل وحماية المنشقين عن الكنيسة الرسمية شريطة ألا يهددوا الأمن العام، بل وإعطائهم معظم حقوق المواطنين العاديين (كما حدث في روسيا وألمانيا والنمسا) وإن تقاعست أسبانيا والبرتغال عن هذه الخطوة لأسباب تاريخية· بعد أن اتخذ ملوك أوربا هذه الإصلاحات أتى دور الألعاب النارية التي حقق فيها ملوك أوربا النصر العسكري على نابليون، بعد أن كانت تحالفاتهم ضدّه·
قد فشلت تحالفاً إثر تحالف· وبذلك جنت شعوب أوربا كلها ما في الثورة الفرنسية من جوانب إيجابية وتحاشت سلبياتها التي اكتوت بنارها فرنسا من حروب داخلية، وصراع طبقي دام ومقصلة جزّت من الرؤوس أكثر مما جز أي سلطان عثماني كما يقول المؤلفان في معرض تقويمهما الحصيف للدولة العثمانية· ولم تكن هذه أول حالة في التاريخ ينتصر فيها المهزوم انتصاراً حضاريا على هازميه، فالمؤرخ الأمريكي روم لاندو يذكر لنا أن المغول بعد أن اجتاحوا العالم الإسلامي، بل ودمروه، اعتنقوا دين ضحاياهم الأرقى حضارة وفكرا وأخذوا بمؤسساتهم ونظمهم بل وراحوا يعمّرون ما سبق لهم تدميره· إننا هنا إزاء حالة انتصرت فيها الحضارة الإسلامية رغم هزيمة المسلمين· القول نفسه ينطبق شيئا ما على الثورة الفرنسية ونابليون، لقد خرجت جيوش نابليون من أوربا لكن بقيت المدوّنة القانونية النابليونية· خرجت جيوش نابليون لكن خرجت معها محاكم التفتيش وتقلصت سلطة الباباوات ولم تعد أبداً كما كانت·
في الفصل الخامس والعشرين يظهر لنا المؤلفان أن حركة تحرير المستعمرات الإسبانية والبرتغالية في العالم الجديد، بدأت بسبب إنهاك نابليون للدولتين المستعمرتين: إسبانيا والبرتغال، وفي الفصل السادس والعشرين يبين لنا أن الجذور التاريخية لحركة الوحدة الإيطالية بعد ذلك - إنما تعود لجهود نابليون في توحيد إيطاليا تحت سلطانه، وفي الفصل التاسع والعشرين يرى المؤلفان أن تكوين نابليون لكونفدرالية الرّاين، وإثارته حفيظة الشعوب الألمانية كان هو الأساس التاريخي لقيام الوحدة الألمانية بعد ذلك·(ملحق/1059)
والطريف أن المؤلفين يركزان هنا على ما سبق أن ألمحنا إليه في مقدمة المجلد الثالث، وهو أن المسيحية في أوربا أصبحت غطاء للم الشمل أكثر منها عقيدة محكمة، بعد أن تعرض شرق أوربا للاجتياح العثماني· إنه يقول لنا إن معظم رجال الدين البروتستنت في بروسيا كانوا يرون المسيح رجلا محبوبا أو بتعبير آخر مثله كمثل آدم، وإنهم رغم إيمانهم بهذه الحقيقة فإنهم لم يكونوا يصرحون بها (الفصل الثلاثون)، وكان بيتهوفن يقرأ الشعر الفارسي (الفصل 28)، ولم يرد أبداً في أحاديثه أو كتاباته أية إشارة للمسيح كرب (الفصل 28) وإنما تحدث وهو غير بعيد عن الموت عن الواحد القدوس (الفصل 28) وكان يعتبر الارتباط بزوجة رجل آخر زنا، ولم يتسامح أبداً مع زوجة أخيه عندما زنت، وظل يقاضيها لينزع منها حضانة ابن أخيه لأن الزانية لا تصلح لحضانة ابن أخيه··
وكان المؤلف قد علل في الفصل السادس والعشرين اهتزاز العقيدة المسيحية بتقدم العلم، فكلما ظهرت الحقائق العلمية انهارت الكنيسة أو تقهقر الإيمان المسيحي··· وبينما كان بيتهوفن يحتضر أشاروا عليه بإحضار القس فوافق وبعد أن انتهى القس من طقوسه قال بيتهوفن: انتهت المهزلة أو المسخرة أو الملهاة (كوميديا فينيتا) ورجح المؤلفان أن بتهوفن كان يقصد انتهت الحياة، ولا يقصد طقوس القس، ويبقى هذا - على أية حال - استنتاجاً قابلاً للجدل·
وقد وصف أحد أصدقاء بيتهوفن الرجل بأنه مثل (المور Moor) إشارة إلى هيئته الغريبة وعدم وسامته لكن هذا لا يمنعنا في ضوء ما سبق من استنتاجات أخرى، لكن بيتهوفن على أية حال كان يعترف بأنه غير وسيم، فقد كتب لأحدهم طالبا منه أن يبحث له عن عروس شريطة أن تكون جميلة، فمن غير المعقول أن أحب أي شيء غير جميل، وإلا لكنت قد أحببت نفسي وعتب بيتهوفن على خالقه بأسلوب غير مهذب لأنه خلقه بهذا الوجه النكد· على أية حال فقد كان أحد أسباب سخط بيتهوفن على نابليون أن هذا الأخير عقد اتفاقا (كونكورد) مع الكنيسة· هذا المجلد إذن كالمجلدات السابقة غاص بالتحليلات الجديدة، والعرض الطيب لهذه المرحلة التاريخية المهمة· وعلى الله قصد السبيل·
د · عبد الرحمن عبد الله الشيخ
الفصل الخامس والعشرون(ملحق/1060)
أيبيريا Iberia
1 - البرتغال: من 1789 إلى 1808م
وصلت أخبار الثورة الفرنسية إلى البرتغال التي كانت تناضل للعودة إلى نظم العصور الوسطى المحافظة بعد المحاولة العنيفة المخزية التي قام بها الماركيز دي بومبال Marquis de Pombal لجعل البرتغال تابعة في ثقافتها وقوانينها لفرنسا لويس الخامس عشر، وإسبانيا تشارلز الثالث · وكانت جبال البرانس تعوق تدفق الأفكار من فرنسا إلى شبه الجزيرة الأيبيرية· وكان يحول بين انتقال الأفكار من إسبانيا إلى البرتغال شغف إسبانيا وتوقها المتكرر لابتلاع أختها الصغرى (البرتغال)، وكان ممثلو محاكم التفتيش طوال قرنين يبدون كأسود على بوابة قصر يصدون أية كلمة وأية فكرة تشكك في العقيدة الدينية القديمة أو تضعها موضع تساؤل·
وفي أدنى السلم الاجتماعي كان هناك حرس آخر يحمي الماضي ويدافع عنه: العوام البسطاء الذين كانوا في غالبهم يجهلون القراءة والكتابة - الفلاحون والحرفيون والعمال والجنود، فقد كانت هذه الطوائف قد أنست إلى عقائدها المتوارثة وارتاحت إلى ما بها من أساطير، واعترتها الخشية لما بها من معجزات وتفاعلت بتقوى شديدة مع طقوسها·
وفي أعلى السلم الاجتماعي كان البارونات الإقطاعيون هم ملاك الأرض الذين يتصرفون بشكل نموذجي على وفق ما هو مطلوب في عصرهم، وكانت الملكة ماريا فرانسيسكا Maria Francisca الرعديدة الواهنة العقل، وابنها جون الوصي على العرش (1799) والذي أصبح ملكا (1816 - 1826)، يعتمدان على الكنيسة كأداة للحماية، وكوسيلة لا بد منها لدعم أخلاق الأفراد، وضبط النظام الاجتماعي ومؤازرة الملكية المقدسة ذات الحق الإلهي والسلطة المطلقة ووسط كل هذا الحرس المدافع عن القديم، كانت هناك قلة قلية - الدارسون والماسونيون Freemasons والعلماء والشعراء ورجال الأعمال، وقلة من الموظفين، بل وواحد من النبلاء أو اثنان - يزعجها الحكم المطلق الذي ورثته البلاد عن الماضي، وكان أفراد هذه القلة يغازلون الفلسفة ويحلمون بحكومة تمثيل نيابي، ويحلمون بحرية التجارة وحرية الصحافة وحرية الاجتماع وحرية الفكر، ويحلمون بمشاركة فعالة متجاوبة مع فكر العالم·(ملحق/1061)
وأتت أخبار الثورة الفرنسية لتسبب البهجة لتلك القلة المرتعدة، ولتسبب الرعب لذوي المقامات الرفيعة ومحاكم التفتيش، وعبَّر غير المتحفظين عن فرحتهم بشكل ينم عن الطيش، واحتفت المحافل الماسونية في البرتغال بهذا الحدث (الثورة الفرنسية) وهلل السفير البرتغالي في باريس للجمعية الوطنية الفرنسية، وربما كان قد قرأ كتابات روسو أو سمع خطب ميرابو Mirabeau، وسمح وزير الشئون الخارجية في البرتغال للجريدة الرسمية بنشر تحية لسقوط سجن الباستيل، وراح أصحاب المكتبات الفرنسيون في البرتغال يبيعون نسخاً من دستور 1791 ·
لكن عندما عزل ثوار باريس الملك لويس السادس عشر أحست الملكة ماريا أن عرشها يهتز وسلمت الحكم لابنها· وانقض جون الرابع (كما سيصبح اسمه فيما بعد) بشراسة على الليبراليين في البرتغال، فشجع مدير شرطتة على ملاحقة كل ماسوني، وكل أجنبي ذي شأن، وكل كاتب يدعو للإصلاح السياسي، بالقبض عليهم، أو نفيهم أو مراقبتهم بشكل دائم· وجرى سجن فرانسيسكو دا سيلفا Francisco da Silva زعيم الليبراليين، وجرى إبعاد النبلاء الليبراليين عن البلاط· وسجن مانويل دى بوكيج Manuel du Bocage (1765 - 1805) الشاعر البرتغالي الرائد في عصره الذي كان قد كتب قصائد sonnet ( سونيتات) قوية ضد الطغيان وسجن في 1797، فراح يستغل وقت فراغه في السجن في ترجمة أوفيد Ovid وفرجيل Virgil·(ملحق/1062)
وفي سنة 1793 حذت البرتغال حذو إسبانيا فشنت حربا مقدسة على فرنسا بأن أرسلت أسطولا صغيرا لينضم إلى الأسطول البريطاني في البحر المتوسط، والحقيقة أن تصرف البرتغال على هذا النحو كان يعبر عن استيائها الشديد من إعدام الملك الفرنسي لويس السادس عشر لكن سرعان ما سعت إسبانيا لعقد سلام منفرد مع فرنسا (1795) فطلبت البرتغال من فرنسا تسوية العلاقات بينهما على النحو نفسه، لكن فرنسا رفضت بحجة أن البرتغال هي في الواقع مستعمرة لإنجلترا وحليفة لها، واستعر النزاع حتى استطاع نابليون أن يطول هذه الدولة الصغيرة التي كانت ترفض الانضمام إلى جهوده لإغلاق القارة الأوربية في وجه البضائع البريطانية والنفوذ البريطاني (الحصار الفرنسي المضاد)، ولم يتمكن نابليون من وضع البرتغال في محور اهتمامه إلا بعد أن كان قد فتح نصف أوربا·
وكانت البنية الاقتصادية البرتغالية غير الراسخة كامنة وراء أوضاعها العسكرية والسياسية، فكما كان الحال في إسبانيا كانت ثروة البرتغال تقوم على جلب المعادن النفيسة من مستعمراتها· وكانت هذه المجلوبات من ذهب وفضة تذهب لقاء المواد التي تستوردها البرتغال لإضفاء مظهر براق زائف على العرش وزيادة غنى الغني، وشراء الرفاهية والعبيد· ولم تكن هناك طبقة وسطى نامية لتطوير الموارد الطبيعية بزراعة متقدمة وصناعة تقوم على التكنولوجيا· وعندما أصبحت السيادة على البحار لإنجلترا أصبح وصول إمدادات الذهب للبرتغال متوقفا على إمكانية الإفلات من الأساطيل البريطانية، أو إمكانية عقد اتفاقات مع الحكومة البريطانية·(ملحق/1063)
واختارت إسبانيا طريق الحرب وكادت تستنفد مواردها في بناء أسطول ممتاز في كل شيء خلا طاقم بحارته والروح المعنوية لقادته وجنوده، فعندما انضم هذا الأسطول الإسباني - على مضض - للأسطول الفرنسي، حاقت به الهزيمة في معركة الطرف الأغرّ، فأصبحت إسبانيا معتمدة على فرنسا، أما البرتغال فأصبحت معتمدة على إنجلترا مخافة أن تبتلعها أسبانيا أو فرنسا، فراح المغامرون الإنجليز يشغلون مناصب مهمة في البرتغال وراح آخرون منهم يقيمون فيها المصانع أو يتولون إدارة المصانع البرتغالية، وهيمنت البضائع البريطانية على تجارة الواردات البرتغالية ووافق البريتون Britons على شرب نبيذ الميناء من أوبورتو Oporto في البرتغال (الاسم أوبورتو يعنى ميناء port) ·
لقد أسخط هذا الوضع نابليون واستثاره، إذ كان فيه التحدي لخطته القائمة على إجبار إنجلترا على قبول السلام بمنع بضائعها ومنتجاتها من دخول أسواق القارة الأوربية، ووجد نابليون في ذلك مبررا لغزو البرتغال، فالبرتغال إذا تم فتحها يمكنها أن تساهم مع فرنسا في إجبار إسبانيا على الارتباط بالسياسة الفرنسية، أو بتعبير آخر لا تجد لها فكاكا من الارتباط الدائم بفرنسا، وعندها يمكن لبونابرت آخر أن يتبوأ عرش إسبانيا·
وعلى هذا، فكما سبق أن ذكرنا، حث نابليون الحكومة الإسبانية على الانضمام لفرنسا في غزو البرتغال، فهربت الأسرة المالكة البرتغالية في سفينة إنجليزية إلى البرازيل، وفي 30 نوفمبر سنة 1807 قاد جونو Junot جيشا فرنسيا إسبانيا إلى لشبونة، وكاد طريقة يكون خاليا من المقاومة، وتحلق الزعماء الليبراليون في البرتغال حول الحكومة الجديدة آملين أن يلحق نابليون بلادهم وأن يقيم فيها مؤسسات تمثيل نيابي · ولاطف جونو هؤلاء الرجال، وضحك منهم في سريرته، وأعلن في أو ل فبراير سنة 1808 انتهاء حكم أسرة براجانزا Braganza وراح هو نفسه يحكم قبضته، ويتصرف أكثر فأكثر كملك·(ملحق/1064)
2 - إسبانيا: 1808 م
كانت إسبانيا لا تزال تعيش أجواء العصور الوسطى· لقد كانت دولة ذائبة في عشق الرب، تزدحم كاتدرائياتها المهيبة، ويقوم أبناؤها بالحج إلى المزارات المقدسة، دولة مكتظة برجال الدين، أنست إلى الغفران الذي تمنحه الكنيسة الكاثوليكية، تخشى محاكم التفتيش وتوقرها، وكان الأسبان يخرِّون ركعا سجدا في الطرقات عندما يمر أعضاء محاكم التفتيش في موكبهم المهيب· كما كان الأسبان يضعون في اعتبارهم قبل أي شيء آخر أن يكون الرب God حاضراً في كل بيت من بيوتهم يرعى أطفالهم ويحفظ عذرية بناتهم ويثيب في النهاية بالفردوس بعد اختبار مرهق اسمه الحياة·
وقد وجد جورج بورو George Borrow بعد ذلك بجيل "أن جهل الجماهير كان فظيعاً" "على الأقل في ليون Leon لدرجة أن التمائم المطبوعة ضد الشيطان وأعوانه، والتمائم التي تبعد النحس، كانت تباع علناً في المحلات وكانت تلقى رواجا كبيرا" وقد انتهى نابليون الذي كان لا يزال ابنا لحركة التنوير إلى أن " دور الفلاحين الأسبان وإسهامهم في الحضارة الأوربية أقل حتى من دور الفلاحين الروس" · لقد عبر نابليون عن ذلك بينما هو يوقع الكونكوردات concordats ( الوفاق) مع الكنيسة الكاثوليكية· ومع هذا فقد كان الفلاح الإسباني - كما شهد لورد بايرون يستطيع " أن يكون فخورا معتزا بنفسه كأكثر الدوقات نبالة" ·(ملحق/1065)
وكاد يكون التعليم مقصورا على البورجوازية والنبلاء· وكانت معرفة القراءة والكتابة تمثل حداً فاصلا، فحتى الهيدالجوات hidalgos ( من طبقة النبلاء الدنيا) قلما كان الواحد منهم يستطيع قراءة كتاب· وكانت الطبقة الحاكمة تتخوف من الطباعة، وعلى أية حال لم يكن محو الأمية مطلوبا في ظل الاقتصاد الإسباني الموجود آنئذ· وكانت بعض المدن التجارية مثل قادش Cadiz وأشبيلية مزدهرة، وقد اعتبر اللورد بايرون قادش " أجمل مدن أوربا" في سنة 1809· وكانت هناك بعض المراكز الصناعية المزدهرة، فقد ظلت توليدو Toledo مشهورة بسيوفها لكن طبيعة البلاد الجبلية الوعرة لم تجعل غير ثلثها فقط هو الذي يمكن زراعته بمردود اقتصادي، وكانت الطرق والقنوات (الترع) قليلة جدا، ووعرة وتنقصها الصيانة كما كان المرور فيها يستلزم رسوما تفرضها الولايات أو السيد الإقطاعي، لدرجة أن الناس وجدوا أنه من الأرخص استيراد القمح من إنتاجه محليا ·
لقد راح الفلاحون - وقد أوهنت التربة التي لا تصلح للزراعة إلا بشق النفس - من عزائهم راحوا يفخرون بحياة البطالة الواضحة بدلاً من انتظار نتائج الكدح في تربة ليس نتاجها مؤكدا· ووجد أهل المدن سعادتهم في تهريب البضائع أكثر مما وجدوها في العمل الذي لا يتقاضون لقاءه أجوراً مجزية· وكان يجثم فوق أنفاس الحياة الاقتصادية ضرائب تزداد أكثر مما يزداد الدخل وجهاز شرطة فاسد وطبقة موظفين متزايدة، وحكومة منحطة (فاسدة) ·
ورغم هذه الصعوبات فقد ظلت روح الأمة العالية، يشد أزرها تراث فرديناند وإيزابيلا، وفيليب الثاني، وتراث فيلاسكويز Velasquez وموريللو Murillo، ويشد أزرها زيادة ثروة الإمبراطورية الإسبانية في الأمريكتين والشرق الأقصى، تلك الثروة الهائلة التي كانت إمكانية زيادتها أمراً متوقعا· وحقق الفن الإسباني شهرة ضارعت الفن الإيطالي والهولندي· لقد جمعت الأمة الإسبانية - الآن - كنوزها الفنية - رسماً ونحتا في متحف دل برادو Museo del Prado الذي شيده في مدريد (1785 - 1819) خوان دي فيلانوفا Juan de Villanueva ومعاونوه ومن أتوا بعده·(ملحق/1066)
وفي هذا المتحف توجد الأعمال العظيمة الخالدة لسيد رسامي العصر فرانسيسكو جوز اي جويا Francisco Jose de Goya Y Lucientes (1746 - 1828) وقد وصلتنا صورة لهذا الرسام رسمها له فيسنت لوبيزي بورتانا Vicente Lopez Y Portana وهي صورة تظهره عنيدا متصلباً مما يتوافق مع الروح المتجهمة التي أظهر فيها (في رسومه) الحرب بكل وحشيتها وقسوتها الدموية، ومما يتوافق مع رجل أحب بلاده لكنه في الوقت نفسه كان يحتقر ملكها· لقد انتعش الأدب الإسباني بفضل حافزين، أوّلهما الثقافة الكاثوليكية، وثانيهما التنوير الفرنسي، واستمر هذا الانتعاش حتى عندما استهلكت الحروب الأهلية والحروب الخارجية الأمة الإسبانية·
فالقس الجزويتي Jesuit ( اليسوعي) خوان فرانسيسكو دي ماسدو Juan Francisco de Masdeu أصدر على مراحل بدءا من سنة 1783 إلى سنة 1805 كتابه المهم عن تاريخ الثقافة الإسبانية Historia Critica de Espana Y de la Cultura Espanola تناول فيه التاريخ بشكل تكاملي إذ خلط التاريخ الثقافي في سياق التاريخ الحضاري العام · وتلقى خوان أنتونيو لورنت Juan Antonio Llorente - الذي كان سكرتيرا عاما لمحكمة التفتيش الإسبانية (الكاثوليكية) من 1789 إلى 1801 - من جوزيف بونابرت (1809) تكليفا بكتابة تاريخ هذه المؤسسة (محكمة التفتيش)، ووجد خوان أن كتابة هذا التاريخ في باريس سيكون أكثر أمناً، فكتبه بالفرنسية في الفترة بين عامي 1817 و1818·
ولم يكن ازدهار النثر والشعر الذي كان غرة في جبين عصر تشارلز الثالث قد ذبل تماما عند موته: فقد واصل جاسبار ملشور دي جوفيلانوس Gaspar Melchor de Jovellanos (1744 - 1811) دوره كصوت معبر عن الليبرالية في التعليم ونظم الحكم، وظل ليندرو فرناندز دي مورتين Leandro Fernandez de Mortain (1760 - 1828) يتسوّد على خشبة المسرح بمسرحياته الضاحكة (كوميدياته) التي ضمنت له لقب (موليير إسبانيا)، وخلال حرب التحرير (1808 - 1814) راح مانويل جوزي كوانتانا Manuel Jose Quintana والقس خوان نيكازيو جاليجو Juan Nicasio Gallego يفيضان أشعارا حماسية لتأجيج نيران الثورة على الفرنسيين·(ملحق/1067)
لقد تأثر معظم الكتاب الأسبان الرواد بالأفكار الفرنسية سواء في مجال الفكر الخالص أو التحرر السياسي، لقد تفرنس هؤلاء الكتاب تماما كما تفرنس الماسونيون· حدث هذا رغم النضال الإسباني للتحرر من الاحتلال الفرنسي· لقد استنكروا إضعاف الملكية لمجالس الأقاليم (المحافظات) تلك المجالس المحلية التي كان لها دور في وقت من الأوقات في المحافظة على أسبانيا حيّة في مختلف أنحائها· لقد هلّلوا للثورة الفرنسية ورحّبوا بنابليون كمتحدٍ يدفع اسبانيا لتخليص نفسها من الارستقراطية الإقطاعية والكنيسة ذات الصبغة الوسيطية (كنيسة العصور الوسطى) والحكومة التي لا تتسم بالكفاءة· ولندع مؤرخا أسبانيا متمكنا يقدم لنا لحنا جنائزيا حزينا ومتسما بالقوة يتناول فيه الأسرة الحاكمة الإسبانية المحتضرة:
"في سنة 1808، وعندما كانت أسرة البوربون Bourbon الحاكمة في فرنسا تسير نحو الهاوية - يمكننا أن نلخص الوضع السياسي والاجتماعي في أسبانيا كالتالي: أرستقراطية فقدت احترامها للملوك، فقد كان رجال الحاشية على نحو خاص لا يوقرون ملوكهم· وسياسات فاسدة يقوم عليها سياسيون تحركهم العداوات الشخصية، ويملأهم الخوف والتردد· وكانت الطبقات العليا تعوزها الوطنية لا يحركها سوى الجشع والهوى· وكانت الآمال المحمومة للجماهير تتحلق حول أمير (هو فرديناند) أثبت بالفعل أنه حقود يميل للانتقام وأنه أمير زائف· وأخيرا ظهر التأثير العميق في دوائر الأدب والفكر، لأفكار الموسوعيين ( Encyclopedists) الفرنسيين والثورة الفرنسية"·
وقد وصفنا في فصل سابق انهيار العرش الإسباني وتفسخه من وجهة نظر نابليون: لقد سمح تشارلز الرابع (حكم من 1788 إلى 1808) لزوجته ماريا لويزا Luisa وعشيقها جودوي Godoy أن يسلباه صلاحيات الحكم، وراح الأمير فرديناند الوريث الظاهر يناور لعزل أبيه، وحارب أنصار جودوي أنصار الأمير فرديناند، وغرقت مدريد وما حولها في حالة من الفوضى· ووجد نابليون في هذه الفوضى فرصة لضم كل شبه الجزيرة الأيبيرية للحكم الفرنسي ليحكم بها الحصار القاري (المضاد) في وجه البضائع والنفوذ البريطانيين·(ملحق/1068)
لقد أرسل نابليون مورا Murat والجيش الفرنسي الثاني إلى أسبانيا بتعليمات مؤداها إعادة النظام إلى أسبانيا· ودخل مورا Murat مدريد (23 مارس 1808) وقمع العصيان المسلح المعروف بعصيان الثاني من مايو historic Dos de Mayo· وفي هذه الأثناء دعا نابليون كلاً من تشارلز الرابع وفرديناند للالتقاء به في بايون Bayonne في فرنسا بالقرب من الحدود الإسبانية· وأرهب نابليون الأمير وأجبره على إعادة العرش لوالده، ثم حث نابليون الأب على التنازل عن العرش لصالح من يعينه هو (أي يعينه نابليون) ووعد نابليون بالاعتراف بالكاثوليكية كدين رسمي وحمايتها كدين وطني لأسبانيا·
وأمر نابليون أخاه جوزيف بالقدوم ليكون ملكاً على أسبانيا· ولم يكن جوزيف راغباً في القدوم لكنه أتى على مضض وتسلم من نابليون دستورا جديدا لأسبانيا منح فيه الأسبان كثيرا مما كان يطمح إليه الليبراليون الأسبان، لكنه - أي الدستور - طلب منهم أن يكونوا على علاقة طيبة بالكنيسة· وتولى جوزيف مهامه الجديدة غير سعيد بها، وعاد نابليون إلى باريس سعيدا بابتلاع أسبانيا غير واضع في اعتباره الجماهير الإسبانية وولينجتون Wellington ·
3 - آرثر ويلزلي ARTHUR WELLESLEY: 1769-1807
حتى سنة 1809 لم يحمل اسم ولينجتون، فحتى سنة 1798 كان اسمه ويزلي Wesley رغم أنه كان بعيدا عن الويزلية (أو الميثودية أو المنهجية Methodism) · ولد في دبلن Dublin في أول مايو سنة 1769 (قبل مولد نابليون بمائة يوم وخمسة أيام) وكان هو الابن الخامس لجاريت ويزلي Garret Wesley الإيرل الأول لمورننجتون Mornington مالك مزرعة وعقار إلى الشمال من العاصمة الأيرلندية· وجرى إرساله إلى إتون Eton وهو في الثانية عشرة من عمره لكنه دعي للعودة إلى منزله بعد ثلاثة أعوام غير مجيدة ·(ملحق/1069)
وليس هناك ما يشير إلى أنه كان متفوقاً في الرياضة إذ كان حاله فيها كحاله في الدراسة، وفي وقت لاحق شكك في صحة المقولة التي لا نعرف قائلها والتي مؤداها أن معركة واترلو Waterloo ما كانت ليحقق فيها البريطانيون نصرا لولا ما كان يجري في ملاعب إتون Eton لقد كانت أمه حزينة تردد دائما قولها إنني ألجأ إلى الله لأعرف ما سأفعله مع ابني آرثر غير البارع لكل هذا فقد تم إلحاقه بالجيش فجرى إرساله وهو في السابعة عشرة من عمره إلى الأكاديمية الملكية في أنجرز Academei Royale de l'Equitation at Angers حيث كان أبناء النبلاء يتعلمون الرياضيات وشيئا من العلوم الإنسانية ويتلقون كثيرا من التدريبات على ركوب الخيل والمبارزة وهي أمور لازمة للضباط· وعندما فاز بجوائزه - بفضل نفوذ أسرته أو مقابل دفع الأموال - تم تعيينه معاوناً للورد ليفتنانت أيرلندا كما شغل مقعداً في مجلس العموم في أيرلندا ممثلاً لمدينة تريم Trim·
وفي سنة 1799 أصبح ليفتنانت كولونيل lieutenant colonel وقاد ثلاث كتائب لغزو الفلاندرز Flanders وعاد من هذه المغامرة غير الناجحة مشمئزاً من الحرب ممرغاً في الوحل متهما بعدم الكفاءة حتى إنه فكر في ترك الجيش والانخراط في الحياة المدنية· لقد كان يفضل الكمان على الثكنات العسكرية وكان يعاني آلاما متلاحقة، وكان من رأي أخيه مور ننجتون Mornington أن أحداً لا يجب أن يتوقع منه الكثير لنقص كفاءته وقد رسمه جون هوبنر Hoppner في صورة تظهره وهو في السادسة والعشرين بعينين كعيني شاعر، وبوسامة كوسامة بايرون·
وقد رشح - مثل بايرون - للزواج من ليدي نبيلة رفضت الاقتران به· وفي سنة 1796 ذهب إلى الهند كولونيلاً تحت قيادة أخيه ريتشارد الذي هو الآن (في هذه الفترة) المركيز ويلزلي وأصبح حاكما لمدراس Madras ثم البنغال، وضم بعض الإمارات الهندية للإمبراطورية البريطانية· لقد أحرز آرثر ويلزلي Arthur Wellesley ( كما أصبح دوق المستقبل يكتب اسمه) بعض الانتصارات الباهرة في هذه المعارك في الهند، ومنح لقب فارس في سنة 1804·(ملحق/1070)
وعندما عاد إلى إنجلترا ضمن لنفسه مقعدا في البرلمان البريطاني وتقدم مرة أخرى لطلب يد كاثي باكنهام Cathey Pakenham فقبلته (1806) فعاش معها غير سعيد حتى تعلم كل منهما العيش بمعزل عن الآخر، وقد أنجب منها طفلين·
وواصل الترقي من منصب إلى آخر، ولم يكن هذا بتقديم الرشا وإنما كان في الأساس لشهرته بالتحليلات الدقيقة والإنجازات المتسمة بالكفاءة· وقد وصفه وليم بت Pitt قرب موته بأنه رجل يضع في اعتباره كل الصعوبات قبل القيام بمهمة فلا يبقى من هذه الصعوبات شيء بعد إتمام المهمة وفي سنة 1807 أصبح وزيرا أول لشؤون أيرلندا في وزارة دوق بورتلاند، وفي سنة 1808 أصبح ليفتنانت جنرال، وفي شهر يوليو من العام نفسه عهد إليه بقيادة 13500 مقاتل لطرد جونو Junot والفرنسيين من البرتغال·
وفي أول أغسطس رسا برجاله في ساحل خليج مونديجو Mondego إلى الشمال من لشبونة بمائة ميل·
وانضم إليه هناك نحو 5,000 برتغالي، ووصله خطاب من وزارة الحرب تعده فيه بإمداده بمحاربين آخرين عددهم 15,000 في أقرب وقت، لكن الخطاب أضاف أن السير هيو دالريمبل Hew Dalrymple البالغ من العمر ثمانية وخمسين عاما سيكون على رأس هذا المدد وسيتولى القيادة العليا للحملة كلها، ولكن ويلزلي كان قد وضع خططه بالفعل ولم يكن سعيدا بالعمل تحت قيادة قائد آخر، فقرر ألا ينتظر وصول المدد المكون من 15,000 مقاتل، فاتجه شمالا على رأس رجاله البالغ عددهم 18,500 ليخوض المعركة التي ستحدد مصير جونو ومصيره (أي مصير ويلزلي)،(ملحق/1071)
وكان جونو قد سمح لرجاله بالانغماس في اللهو بكل أنواعه في العاصمة، وكان على رأس 13,000 مقاتل، فقبل التحدي لكنه عانى هزيمة منكرة في فيميرو Vimeiro بالقرب من لشبونة (21 أغسطس 1808) · ووصل دالريمبل بعد المعركة فتولى القيادة، وأوقف مواصلة زحف القوات البريطانية ورتب مع جونو اتفاق سنترا Cintra (3 سبتمبر) يسلم بمقتضاه كل المدن والحصون التي كان الفرنسيون قد استولوا عليها في البرتغال، على أن ينسحب بمن بقي من رجاله بأمان، ووافق البريطانيون على تقديم سفنهم لنقل الراغبين في العودة إلى فرنسا، ووقع ويلزلي الوثيقة شاعراً أن تحرير البرتغال بمعركة واحدة أمر يستحق من بريطانيا بعض الرضا·
واتفاق سنترا هذا هو الاتفاق الذي وافق الشاعران وردزورث Wordsworth ولورد بايرون Byron على أنه غباء لا يصدق (وإن كانا لم يرددا هذا الرأي بعد ذلك إلا نادرا) فهؤلاء المقاتلون الفرنسيون الذين تم إطلاق سراحهم سرعان ما سيجندون مرة أخرى لمحاربة بريطانيا وحلفائها· وتم استدعاء ويلزلي إلى لندن لاستجوابه، فذهب غير آسف تماما فهو لم يكن راغبا في الخدمة تحت قيادة دالريمبل وكان يكره الحرب بالفعل· لقد قال بعد أن حقق انتصارات كثيرة: "اسمع رأيي عن الحرب: إنك إن خضت الحرب ولو ليوم واحد فستدعو الله القدير ألا تشهدها ولو لساعة واحدة مرة أخرى"· ويبدو أنه أقنع محاكميه أن اتفاق سنترا قد أنقذ حياة الآلاف من البريطانيين وحلفائهم بمنع القوات الفرنسية من إبداء المزيد من المقاومة· وبعد ذلك عاد إلى أيرلندا منتظراً فرصة أفضل لخدمة بلاده واسمه ذي السمعة الطيبة·
4 - حرب شبه الجزيرة الأيبيرية:
الحرب الثالثة من 1808 إلى 1812م(ملحق/1072)
لقد كان ملك أسبانيا جوزيف بونابرت في اضطراب لا مزيد عليه· لقد عمل على اكتساب قبول واسع أكثر من القبول الذي حباه به بعض الليبراليين· وكان الليبراليون يؤيدون إجراءات المصادرة ضد الكنيسة الثرية ولكن جوزيف الذي كان يعاني من شهرته كلا أدري agnostic ( اللا أدري هو الموقن بأن الأمور غير المادية يصعب الوصول إليها باليقين الإيماني) كان يدرك أن أي تصرف منه ضد رجال الدين clergy سيسارع يإشعال نيران المقاومة ضد الحكم الأجنبي (الفرنسي) وكانت الجيوش الإسبانية التي هزمها نابليون قد جرى تشكيلها من جديد في مناطق أسبانية متفرقة، حقيقة أنها لم تكن منظمة منضبطة، لكنها كانت متحمسة·
واستمرت حرب العصابات التي يشنها الفلاحون ضد مغتصبي العرش كل عام في الفترة ما بين موسم البذر وموسم الحصاد، وكان يتحتم على الجيش الفرنسي في أسبانيا أن يقسم نفسه إلى قوات متفرقة يقودها جنرالات متحاسدون يخوضون معارك في جو من الفوضى وعدم الانضباط أعجز جهود نابليون للتنسيق بينهم من مقره في باريس· قال كارل ماركس لقد تعلم نابليون درساً مفاده أنه:
"إذا كانت الدولة الإسبانية قد ماتت، فإن المجتمع الإسباني لا يزال مفعما بالحياة وأن كل جانب منه يفيض رغبة في المقاومة·· لقد كان محور المقاومة الإسبانية في كل مكان وليس في مكان واحد" ·
وبعد انهيار الجيش الفرنسي الرئيسي في بيلن Bailen انضم الجانب الرئيس من الأرستقراطية الإسبانية إلى الثورة وبذلك حولوا الكراهية الشعبية التي كانت موجهة إليهم إلى الغزاة· وكان للتأييد الفعال الذي قدمه رجال الدين الأسبان للثورة أثره المهم في تحويل الحركة عن الأفكار الليبرالية، بل لقد حدث العكس فقد أدى نجاح حرب التحرير الإسبانية إلى تقوية الكنيسة ومحاكم التفتيش · ومع هذا فقد ظلت بعض العناصر الليبرالية موجودة في المجالس السياسية Juntas في المديريات (الولايات) الإسبانية المختلفة،(ملحق/1073)
وكانت هذه المجالس ترسل ممثلين عنها للمجلس الرئيسي (على مستوى الوطن كله) في قادش Cadiz، وكان هؤلاء يكتبون دستورا جديدا· لقد كانت شبه الجزيرة الأيبيرية مفعمة بالعصيان المسلح والآمال والإيمان الكاثوليكي، بينما كان جوزيف بونابرت يتطلع إلى نابلي، في حين كان نابليون يحارب النمسا وكان ويلزلي Wellesley ( ولينجتون) يستعد لينقض مرة ثانية من إنجلترا ليساعد في عودة أسبانيا إلى ما كانت عليه في العصور الوسطى، مع أنه هو نفسه (ويلزلي) كان رجلا عصريا بكل معنى الكلمة·
وكان السير جون مور John Moore - قبل موته في كورونا Corunna (16 يناير 1809) قد نصح الحكومة البريطانية ألا تقوم بمحاولات أخرى للسيطرة على البرتغال، فقد كان يعتقد أن الفرنسيين سينفذون أوامر نابليون بضم البرتغال إلى فرنسا عاجلاً أم آجلا، كما كان يعتقد أن إنجلترا لن تجد وسيلة لنقل العدد الكافي من الجنود لمواجهة 100,000 جندي فرنسي موسمي في أسبانيا كما أنها لن تتمكن من تدبير المؤن اللازمة لجنودها· لكن السير آرثر ويلزلي كان قلقا في أيرلندا وأخبر وزير الحرب أنه إذا أتاح له قيادة عشرين ألف أو ثلاثين ألف جندي بريطاني ودعم وطني، فإنه يستطيع أن يحفظ البرتغال بعيدة عن قبضة أي جيش فرنسي لا يزيد عن 100,000 مقاتل، ووافقت الحكومة البريطانية وألزمته بكلماته، وفي 22 أبريل سنة 1809 وصل إلى لشبونة على رأس 25,000 بريطاني وصفهم في وقت لاحق بأنهم: "حثالة الأرض··· ومجموعة من الأوغاد·· لا يمكن السيطرة عليهم إلا بالسياط، إذ إنهم لم يخلقوا إلا للسكر" · لكنهم يستطيعون القتال بشراسة إذا لم يكن أمامهم سوى خيار واحد: إما أن يَقتلوا أو يُقتلوا ·(ملحق/1074)
وتحسبا لوصول ويلزلي وقواته، حرك المارشال سولت Soult 23,000 جندي فرنسي إلى أوبورتو Oporto وفي هذه الأثناء كان جيش فرنسي آخر بقيادة المارشال كلود فيكتور Claude Victor يتقدم من الغرب على طول التاجوس Tagus· وقرر ويلزلي - الذي كان قد درس معارك نابليون بدقة - أن يهاجم سولت Soult قبل أن يتمكن المارشلان من ضمّ قواتهما معاً لشنّ هجوم على لشبونة التي تمكن البريطانيون منها· وبعد أن انضم إلى قوات ويلزلي البالغة 25,000 مقاتل، 15,000 مقاتل برتغالي بقيادة وليم كار بيرسفورد W. Carr Beresford ( فيكونت بيرسفورد Beresford) قادهم جميعا إلى نقطة على نهر دورو Douro في مواجهة أو بورتو.
وفي 12 مايو سنة 1809 عبر مجرى النهر وهاجم مؤخرة جيش سولت بشكل مفاجئ فتراجع الجيش الفرنسي وعمته الفوضى، وخسر الجيش الفرنسي 6,000 قتيل وكل مدفعيته، ولم يتعقب ويلزلي الجيش الفرنسي المنهزم فقد كان عليه أن يسرع جنوبا للتصدي لجيش فرنسي آخر بقيادة فيكتور، لكن فيكتور بعد أن علم بهزيمة سولت استدار عائداً إلى تالافيرا Talavera وهناك تلقى من جوزيف مددا زاد من عدد جيشه ليصبح 46,000 مقاتل، ولم تكن قوات ويلزلي تزيد على 23,000 بريطاني و36,000 أسباني، والتقى الجيشان في تالافيرا Talavera في 28 يوليو سنة 1809، وهرب الجنود الأسبان ومع هذا فقد تمكن ويلزلي من تكبيد جيش فيكتور 7,000 قتيل وجريح واستولى منه على 17 مدفعا·
وسيطر ويلزلي على ميدان المعركة رغم أن جيشه فقد 5,000 ما بين قتيل وجريح، وقدرت الحكومة البريطانية كفاءة ويلزلي وشجاعته فأصبح يحمل لقب فيكونت ولينجتون ومع هذا فقد أدى انتصار نابليون في معركة واجرام Wagram (1809) وزواجه من ابنة الإمبراطور النمساوي (مارس1810) إلى وضع حد لولاء النمسا لإنجلترا· وكانت روسيا لا تزال حليفة لفرنسا، وكان هناك 138,000 جندي فرنسي إضافي مستعدين للخدمة العسكرية في أسبانيا، وكان المارشال أندريه ماسينا Andre Massena بجنوده البالغ عددهم 65,000 يخطط للخروج بهم من أسبانيا لغزو البرتغال·(ملحق/1075)
وأخبرت الحكومة البريطانية ولينجتون Wellington أنه إذا غزا الفرنسيون أسبانيا مرة أخرى فلا جناح عليه إن انسحب بجيشه إلى إنجلترا · وكانت هذه لحظة حرجة في مهمة ولينجتون، فالانسحاب - رغم أن الحكومة البريطانية قد سمحت به - قد يلوث سجله إذا لم يحقق نصراً كبيرا على نحو ما يخفف من وطأة الانسحاب، فقرر أن يخاطر برجاله وبمهمته وبحياته بضربة أخرى تعتمد على الحظ (برمية نَرْد أخرى)، وفي هذه الأثناء كان قد جعل رجاله يقيمون خطا من التحصينات إلى الشمال من قاعدته في لشبونة بخمسة وعشرين ميلا من التاجوس Tagus وعبر تورز فيدراس Torres Vedras حتى البحر·
وبدأ ماسينا معركته بالاستيلاء على حصن سيوداد رودريجو Ciudad Rodrigo الإسباني ثم عبر إلى البرتغال بستين ألف مقاتل· وكان ولينجتون على رأس 52,000 من المتحالفين (بريطانيين وأسبان وبرتغاليين) فالتقى به في بوساكو Bussaco ( شمال كويمبرا Coimbra) في 27 سبتمبر سنة 1810 فتكبّد 1,250 ما بين قتيل وجريح أما ماسينا فتكبّد 4,600، ومع هذا فقد أدرك ولينجتون أنه لن يستطيع - كماسينا - التعويل على مدد يأتيه، لذا فقد تراجع إلى تحصينات تورز فيدراس وأمر رجاله بإتباع سياسة الأرض المحروقة أي تدمير كل ما يلقونه في طريق تراجعهم حتى يعاني جيش ما سينا من الجوع، وفي 5 مارس سنة 1811 قاد ماسينا جنوده الجياع عائداً إلى أسبانيا وأسلم القيادة لأوجست مارمون Auguste Marmont·(ملحق/1076)
وبعد أن قضى ولينجتون فترة الشتاء في الراحة وتدريب رجاله أخذ المبادرة فاتجه إلى أسبانيا على رأس جنوده البالغ عددهم 50,000 وهاجم قوات مارمون البالغ عددها 48,000 بالقرب من سالامنكا Salamanca في 22 يوليو 1812، ففقدت القوات الفرنسية 14,000 ما بين قتيل وجريح بينما فقد البريطانيون وحلفاؤهم 4,700، وانسحب مارمون، وفي 21 يوليو غادر الملك جوزيف بونابرت مدريد على رأس 15,000 مقاتل لتقديم النجدة لمارمون، لكنه علم في أثناء الطريق بما حل بمارمون من هزيمة، فلم يجرؤ (أي الملك جوزيف بونابرت) على العودة للعاصمة (مدريد) فقاد قواته إلى فالنسيا Valencia ليلحق هناك بجيش فرنسي أكبر عددا بقيادة المارشال سوش Sochet ولحق به - بعجلة وفوضى - 10,000 من المتفرنسين (المؤيدين للحكم الفرنسي من الأسبان والبرتغاليين) وحاشيته وموظفوه·
وفي 12 أغسطس دخل ولينجتون مدريد فرحبت به الجماهير بحماس بالغ، تلك الجماهير التي ظلت غير مفتونة بدستور نابليون· وكتب ولينجتون لأحد أصدقائه: "إنني بين أُناس يكاد الفرح يذهب بعقولهم· لقد منحني الرب حظاً سعيداً أرجو أن يستمر لأكون أداة لتحقيق استقلاله "·
لكن الرب تردّد فلم يُعطه استمراراً لهذا الحظ فقد أعاد مارمون تنظيم جيشه خلف تحصينات بورجوز Burgos، فحاصره ولينجتون هناك؛، وتقدم جوزيف من فالنسيا على رأس 90,000 مقاتل لمواجهة القوات البريطانية والمتحالفين معها، فتراجع ولينجتون (18 أكتوبر 1812) متجاوزاً سالامنكا إلى سيوداد رودريجو Ciudad Rodrigo وفقد في أثناء تراجعه 6,000 من قواته (بين قتيل وجريح)، ودخل جوزيف مدريد مرة أخرى وسط استياء عارم من الجماهير، وإن ابتهجت الطبقة الوسطى لعودته، وفي هذه الأثناء كان نابليون يرتجف في موسكو، وظلت أسبانيا - مثلها في ذلك مثل سائر أوروبا - في انتظار نتيجة مغامرته التي ستؤثر في أحوال القارة الأوروبية·(ملحق/1077)
5 - النتائج
تمخضت حرب شبه الجزيرة الأيبيرية حتى عند هذه المرحلة غير الحاسمة عن بعض النتائج الواضحة· فمن الناحية الجغرافية كانت أهم النتائج هي أن المستعمرات البرتغالية والإسبانية في أمريكا الجنوبية قد استطاعت التحرر من قبضة الوطن الأم الذي اعتراه الضعف (إسبانيا أو البرتغال)، وبدأت هذا المستعمرات مرحلة نشيطة وحيوية· ومن النتائج أيضاً أن كل أسبانيا جنوب التاجوس Tagus قد تخلّصت من الجنود الفرنسيين· ومن الناحية العسكرية أثبت ولينجتون أن فرنسا يمكن ألاّ تستولي على البرتغال، أو بتعبير آخر أن منع فرنسا من الاستيلاء على البرتغال أمرٌ ممكن، بل وربما لا تستطيع فرنسا الاحتفاظ بأسبانيا، إلاّ إذا خاطرت بكل فتوحاتها إلى الشرق من الراين Rhine· ومن الناحية الاجتماعية حققت المقاومة الشعبية - رغم عدم انضباطها - انتصاراً لصالح الفلاحين والكنيسة·
ومن الناحية السياسية استعادت المجالس السياسية المحلية (في الدوائر أو الولايات) بعضاً من سلطانها القديم فأقامت كل منها جيشاً خاصاً بها وسكّت عُملة خاصة بها، وأصبح لكل منها سياسة خاصة بها، بل إنها في بعض الأحيان كانت تُوقع سلاماً منفصلاً مع بريطانيا (أي دون الرجوع إلى الحكومة المركزية) · والأكثر دلالة من ذلك كله هو أن هذه المجالس السياسية المحلية أرسلت ممثلين عنها إلى البرلمان المركزي مزوَّدين بتعليمات لصياغة دستور جديد لأسبانيا جديدة·
وبعد أن تحرر هذا البرلمان من الجيوش الفرنسية اجتمع للمرة الأولى في جزيرة دي ليون Isla de Leon في سنة 1810 وبعد الانسحاب الفرنسي انتقل إلى قادش Cadez، وهناك في 19 مارس 1812 تم إعلان الدستور الليبرالي· ولأن معظم المبعوثين (المفوَّضين) كانوا متمسكين بالكاثوليكية، فقد نصت المادة 12 من هذا الدستور على أن دين الأمة الإسبانية هو الكاثوليكية وسيظل دائما كذلك، فالكاثوليكية الرومانية (التابعة لكنيسة روما) الرسولية (كنيسة الرعاة الأوائل للمسيحية) هي الدين الوحيد الحق·(ملحق/1078)
إنها الدين الذي تحميه الأمة بالحكمة والتشريعات الصحيحة، ويتم حظر ممارسة شعائر أي دين آخر مهما كان· وعلى أية حال فقد حظر الدستور (الجديد) محاكم التفتيش، وحدّدت عدد الجماعات (الفِرَق) الدينية· وقبل البرلمان بمجلسيه في كل الأمور الأخرى تقريباً قيادة (زعامة) المفوضين (الممثلين) من الطبقة الوسطى والبالغ عددهم 184· وكان معظمهم يطلقون على أنفسهم (ليبراليين) - وكان استخدامهم لهذا المصطلح بمفهومه السياسي هو أول استخدام معروف له· وفي ظل قيادتهم أصبح دستور سنة 1812 يضارع دستور 1791 الذي أصدرته فرنسا الثورة·
لقد قبلوا بالملكية الإسبانية واعترفوا بفرديناند السابع (الغائب) ملكاً شرعياً، إلاّ أن الدستور على أية حال لم يضع السلطة في يد الملك وإنما في يد الأمة عن طريق ممثليها المنتخَبين (بفتح الخاء)، وكان على الملك أن يكون حاكما دستوريا يُطيع القوانين، ولا يجوز إبرام المعاهدات إلاّ بموافقة البرلمان، ولابد من إجراء انتخابات كل عامين لتكوين برلمان جديد، والانتخاب حق لكل ذكر بالغ، وتتم الانتخابات على ثلاث مراحل:
على المستوى الأبرشي Parochial، ومستوى المقاطعة، ومستوى الولاية· ولا بد من توحيد القوانين في إسبانيا كلها، وكل المواطنين سواء أمام القانون، والقضاء مستقل عن السلطة التشريعية وعن الملك· ودعا الدستور إلى إلغاء التعذيب والرق والمحاكم الإقطاعية، كما دعا إلى حرية الصحافة إلاّ في أمور الدين· كما دعا إلى ضرورة توزيع الأراضي العامة (أراضي الدولة) غير المزروعة على الفقراء·
لقد كان هذا الدستور شجاعاً وتقدمياً في ظل هذه الظروف وفي ظل التراث الديني الإسباني· لقد بدا الآن أن أسبانيا تدخل القرن التاسع عشر·(ملحق/1079)
الفصل السادس والعشرون
إيطاليا وغُزاتُها: من 1789 إلى 1813 م
1 - خريطة إيطاليا في سنة 1789 م
في هذه الفترة لم تكن إيطاليا أمة وإنما كانت ساحة قتال· لقد كانت ممزقة إلى مناطق منفصلة متناحرة، وإلى لهجات متباينة لقد كانت ممزقة بشكل يصعب معه أن تتحد في وجه هجوم أجنبي وكانت المنطقة شمال نابلي تنعم بالشمس والتربة المثمرة التي توفر لها ريٌ جيد ومجار مائية تهبط إليها من جبال الألب أو الأبينين Apennines، مما حمل أهلها مرارا على حمل السلاح بسبب الخلافات بينهم وبين الأجانب من جامعي الضرائب·
وكان معظم إيطاليا قد وقع تحت حكم - أو نفوذ - أسرة الهابسبورج Hapsburg النمساوية على وفق بنود معاهدة أوتريشت Utrecht ( أوترخت) الموقعة في سنة 1713، تلك المعاهدة التي جعلت ميلان، ومانتوا Mantua ونابلي وسردنيا وما يتبعها جميعا للإمبراطور تشارلز السادس - وفي الركن الشمالي الغربي من شبه الجزيرة الإيطالية، كانت سافوي وبيدمونت يحكمهما ملوك سردنيا وفي سنة 1734 كانت مملكة الصقليتين بمركزيها: نابلي، وبالرمو، قد انتقلت من الهابسبورج إلى البوربون Bourbons بفضل المقاتل المقتدر، والحاكم القدير الذي أصبح مليكا لأسبانيا ونعني به تشارلز الثالث، وقبل أن يتجه إلى أسبانيا ورث مملكة نابلي لابنه فرديناند الرابع الذي تزوج الأرشدوقة ماريا كارولينا Maria Carolina التي أدت سيطرتها على زوجها إلى وقوع مملكة نابلي بكاملها تحت النفوذ النمساوي·
وعندما ماتت الإمبراطورة ماريا تريزا (1780) حكم أبناؤها لومبارديا Lombardy وتسكانيا Tuscany ومودينا Modena وتزوجت ابنتاها من حاكمي نابلي وبارما Parma وأصبحت سافوي Savoy وبيدمونت Piedmont وسردنيا Sardinia تحت الحماية النمساوية· وكانت المنطقة الإيطالية الوحيدة التي تحظى بالاستقلال آنئذ هي البندقية (فينيسيا Venice) ولوسا Lucca وسان مارينو وجنوى Genoa· وكان في القسم الإيطالي الواقع بين المناطق التي يسيطر عليها هابسبورج النمسا في الشمال، والمناطق التي يسيطر عليها بوربون أسبانيا في الجنوب - الولايات الباباوية Papal states، ولم تبق هذه الولايات باباوية (أي تابعة للبابا) إلا بسبب التنافس بين الأسرتين، وبسبب كون الإيمان الكاثوليكي هو وحده الذي يربط إيطاليا ليجعل منها كيانا واحدا·(ملحق/1080)
وكان الحكم النمساوي في الشمال الإيطالي ممتازا بمقاييس العصر، فقد كانت الضرائب تفرض على الملاك الإقطاعيين والإكليريكيين (الملاك من رجال الدين)، وكانت امتيازات هؤلاء الإقطاعيين والإكليريكيين قد جرى تقليصها، وتم إغلاق مائة دير، وجرى تخصيص عوائدها لأغراض التعليم والإحسان 1764، وجري إصلاح إجراءات التقاضي، ومنع التعذيب وأصبح القانون الجنائي أكثر إنسانية (أكثر مراعاة للبعد الإنساني)، وفي تسكانيا في الفترة من 1765 إلى 1790 قدم الدوق الكبير ليوبولد Leopold لمناطق آل ميديتشي Medici سابقا، ربما أفضل حكومة في أوربا وظلت عاصمتها فلورنسا حصنا للحضارة خلال كل الفترات التي تماوجت فيها القوى والأفكار·
والبندقية الثرية الفاسدة المرتشية الجميلة أصبحت الآن (1789) تقترب - بشكل واضح - من نهايتها كدولة ذات سيادة· فإمبراطوريتها الشرقية وقعت منذ زمن طويل في أيدي الأتراك (العثمانيين)، لكن حكمها (أي البندقية) ظل معترفاً به فيما بين جبال الألب Alps وبادوا Padua وما بين تريسته Trieste وبريسكيا Brescia· وكانت البندقية من الناحية الرسمية جمهورية، لكنها كانت من الناحية الفعلية أرستقراطية مغلقة، وأصبحت حكومتها فاترة الهمة مستبدة لا تتسم بالكفاءة·
لقد كان لدى البندقية أفضل التوابل في العالم المسيحي لكنها لم تكن تمتلك جيشا· لقد كانت قد أصبحت ملعباً لأوربا تضمن لأهلها المسرات وتوفر لهم البغايا حتى تضمن أن يعاملها الأعداء بود· لقد كانت واقعة بين النمسا في الشمال ولومبارديا النمساوية في الغرب، وكان من الجلي أن قدرها سيؤول بها إلى الوقوع فريسة للنمسا بمجرد توقف فرنسا عن حمايتها·(ملحق/1081)
وإلى الجنوب من تسكانيا والبو the Po بدأت الولايات الباباوية أساليبها المتعرجة (غير المباشرة) مع منطقتها في روما، ومفوضياتها: فيرارا Ferrara وبولونيا Bologna ( ليس المقصود بطبيعية الحال كيان أو دولة بولونيا المعروفة حاليا) ورافنا Ravenna، وكان كل منها يديره مفوض باباوي (مفوض من قبل البابا)، ومن ثم إلى الجنوب مع الحدود أو الأراضي الحدودية بالقرب من الآدرياتك: ريمينى Rimini، وأنكونا Ancona وأوربينو Urbino، ومن ثم عبر جبال الأبينين Apennines خلال بيروجيا Perugia التابعة لأومبريا Umbria وسبوليتو Spoleto، وعبر أورفيتو لاتيوم Latium's Orvieto وفيتربو Viterbo إلى روما · كل هذه المنطقة التاريخية كانت تحت حكم الباباوات على وفق هبات قدمها للكنيسة الكاثوليكية بيبن Pepin ملك الفرنجة في سنة 754، وشارلمان في سنة 774· وبعد انتصار حاسم في مجمع ترنت (1545 - 1563) وسع الباباوات سلطاتهم على الأساقفة تماما كما فعل الشيء نفسه الملوك المعاصرون بتوسيع سلطانهم على اللوردات الإقطاعيين· لقد بدأت السلطة تتمركز أو بتعبير آخر بدأت تتمحور حول مركز·
لكن سرعان ما بدأت الباباوية تنهار ببطء وبالتدريج كلما تقدم العلم وتعمقت الفلسفة مما أفقد الكنيسة - بشكل خطير - تأييد الطبقات المؤثرة في أوربا الغربية، ومما عرضها لتحديات صريحة ليس فقط من الحكام البروتستنت، وإنما أيضا من الحكام الكاثوليك من جوزيف الثاني في النمسا وفرديناند الرابع في نابلي· بل كان تزايد الأقلية المتشككة في الكاثوليكية في ولايات الكنيسة نفسها (الولايات الباباوية) والتي كانت تشكل روابط سرية، إلى إضعاف قبضة الإكليروس clergy ( رجال الدين) على الناس·
لقد كتب جوزيف الثاني في سنة 1768: "إن المحكمة الباباوية Curia كادت تصبح محتقرة، فمن الداخل كان سكان الولايات الباباوية في الغاية من البؤس والانحطاط، وكانت ميزانية هذه الولايات في فوضى كاملة بدرجة لا تصدق",(ملحق/1082)
وكان جوزيف غير مؤمن بالكاثوليكية، لذا فقد نعتبره مبالغا، لكن سفير البندقية كتب في تقرير له في سنة 1783 أن الأمور الداخلية في ولايات الحبر الجليل (البابا) في أقصى درجات الفوضى، إنها في حالة انهيار تدريجي، والحكومة الباباوية تخسر كل يوم قوتها ومصداقيتها ومشروعيتها · ورغم فقر الولايات الباباوية وعدوى الملاريا malarial infection في جو الصيف، فقد جعل أهل روما الحياة مستساغة باهتبال كل المزايا المتمثلة في تسامح الكنيسة مع علاقاتهم الغرامية وبالاستمتاع بالكارنفالات Carnival، بل لقد كان رجال الدين أنفسهم ينعمون باسترخائهم في دفء الشمس في إيطاليا·
وكان الباباوات في هذه الفترة الحرجة على تقوى وشرف بيوس السادس Pius VII ( تولى الباباوية في الفترة من 1775 إلى 1799) - رغم رحلته الشاقة إلى البندقية فشل في إعادة جوزيف الثاني النمساوي للطاعة (المقصودة الطاعة للكاثوليكية والباباوية) ولم تنفعه ثقافته وكياسته من منع فرنسا من ضم أفنيون Avignon إليها، ومات وهو في سجنه في ظل حكومة الإدارة (في فرنسا)، وبيوس السابع (تولى الباباوية في الفترة 1800 - 1823) بذل كل ما في وسعه لإعادة الكاثوليكية لفرنسا، وعانى السجن لفترة طويلة في ظل حكم نابليون وعاش لينتصر بتواضع على الإمبراطور المخلوع (1814) ·
وإلى الجنوب من الولايات الباباوية ازدهر البوربون الأسبان بازدهار كل من جيتا Gaeta وكابوا Capua وكاسرتا Caserta ونابلي وكابري Capri وسورنتو Sorrento· لكن الازدهار الإيطالي توقف هناك (لم يعد له وجود) فمدن مثل بسكارا (بسكره Pescara) وأكويلا Aquila وفوجيا Foggia وباري Bari وبرينديسي Brindisi وتارانتو Taranto وكرتون Crotone تذكرت ميلو Milo وقيصر وفريدريك الثاني (إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة)، بل وحتى فيثاغورث، لكن أهل هذه المدن كانوا عرضة للشمس الحارقة، منهكين بالضرائب وليس من سلوى لهم سوى في عقيدتهم الدينية·(ملحق/1083)
ثم يأتي جامعو الضرائب عابرين من رجيو كالابريا Reggio Calabria إلى مسينا Messina في صقلية، وهناك أيضا توقر المدن فقرها إذا ما تذكرت الفينيقيين، والإغريق، والقرطاجين Carthaginians والرومان والفاندال Vandals والمسلمين والنورمان Normans والأسبان حتى يتوقف جامعو الضرائب في بالرمو ليكونوا في خدمة احتياجات الملوك والملكات والأمراء التجار واللصوص والقديسين · تلك هي المملكة التي ورثها في سنة 1795 فرديناند الرابع ذو الثمانية أعوام· لقد نشأ رياضياً وسيماً يفضل المسرات والألعاب الرياضية على أعباء السلطة فكان غالبا ما يترك أمور الحكم لزوجته ماريا ·
وبتوجيه من رئيس وزرائها (وزيرها الأول) وعشيقها السير جون أكتون John Acton أدارت ماريا سياسة نابلي من مناصرة الحكم الأسباني إلى مناصرة الحكم النمساوي، إلى مناصرة إنجلترا في سنة 1791· وفي هذه الأثناء كان البارونات الإقطاعيون يستقطعون كل عائد من الفلاحين المنهكين، وسادت الرشوة، وساد الفساد في البلاط وفي طبقة الموظفين والقضاة وكانت الضرائب باهظة وكانت تقع في الأساس على كاهل الطبقات الدنيا، وأصبح سكان المدينة يتصرفون كالبرابرة بسبب الفقر، لقد اعتادوا الفوضى والجريمة لا يكبحهم سوى العدد الوافر من رجال الشرطة ورجال الدين الظلاميين obscurantist clergy الماهرين في إظهار المعجزات· (في كنيسة الكاتدرائية، كانت رفات القديس جنيوار يوس Januarius تنزف دما في كل عام) · وجرت العادة أن تتسامح الكنيسة مع خطايا الجسد، فهذه الخطايا هي الرفاهية الوحيدة المسموح بها للفقراء· وفي أيام الكرنفالات Carnival days ينظر الناس للوصية السادسة من الوصايا العشر باعتبارها قيدا لا لزوم له يتنافى مع الطبيعة البشرية·(ملحق/1084)
ومع هذا فقد كانت الملكة تغار من كاترين الثانية الروسية التي كان حولها كثير من الفلاسفة رهن إشارتها، لذا فقد رعت الفنانين والدارسين وأساتذة الحكمة حتى لو لم تكن تعرف شيئا عن الفن والبحث والحكمة· وهو احتمال وارد، لذا فقد كان في نابلي كثير من الرجال النساء الذين يؤمنون بالأفكار العصرية، وربما فاق عددهم ما هو موجود في أية مدينة إيطالية أخرى وقد تابع كثيرون منهم بأمل صامت الأخبار التي أتت من باريس والتي تفيد أن الفرنسيين قد اجتاحوا سجن الباستيل واستولوا عليه·
2 - إيطاليا والثورة الفرنسية
لقد هيأت أفكار الليبراليين ذوات التأثير، الطبقات المتعلمة في إيطاليا لاستيعاب بعض التحولات الأساسية في فرنسا· لقد كان بيكاريا Beccaria وباريني Parini في ميلان، وتانوسي Tanucci وجينوفيسي Genovesi وفيلانجيري Filangieri في نابلي، وكاراكيولي Caraccioli في صقلية قد مارسوا بالفعل كتابة النثر والشعر، وكتبوا بالفعل في مجال التشريع والفلسفة وكانت الأفكار التي طرحوها هي نفسها - إلى حد ما - الأفكار التي تقرها الآن حكومة الجمعية الوطنية (الفرنسية)، أفكار تؤيد العقل وتعتمد عليه وتميل إلى الحداثة· وفي تسكانيا رحب الدوق الكبير ليوبولد نفسه بالثورة الفرنسية باعتبارها إصلاحا عظيما واعداً في كل أنحاء أوربا ·
وعندما اندفع نابليون ابن الثورة وجنرالها في إيطاليا (1796)، وكأنه ريح غربية عاصفة، وأخرج الجيوش السردنية (جيوش سردنيا) والنمساوية من بيدمونت ولومبارديا، رحب به كل الإيطاليين تقريبا باعتباره قائداً إيطاليا يقود جنودا فرنسيين لتحرير إيطاليا· ورغم ما واجهه من عصيان مسلح في بافيا وجنوى وفيرونا فقد كان في مقدوره - لفترة - أن يتصرف في الدول والإمارات الإيطالية كما لو كانت قد استسلمت له بغير شروط، وعلى هذا ففي شهري يوليو وأغسطس سنة 1797 دمج كلا من ميلان ومودينا Modena وريجيو إيميليا Reggio Emilia وبولونيا وجانبا من سويسرا، ليجعل منها كيانا مختلطا هو الجمهورية السيزالبية Cisalpine Republic ( الجمهورية القريبة من جبال الألب والمحيطة بها)، وقدم لها دستورا كدستور فرنسا الثورة·(ملحق/1085)
وقد أبهجت ليبراليته في فترة حكمه الأولى في شمال إيطاليا أحلام السكان المحليين بالحرية· وقد اعترف الزعماء المحليون بعد أن لانت عريكتهم بالوظائف الشرفية، وألقاب الفخامة التي وزعها عليهم نابليون، بأنه في قارة يقتسمها الذئاب لا بد من ذئب أو آخر كحامٍ لإيطاليا، وإن أفضل ذئب يمكن اختياره هو الذي يتحدث الإيطالية بطلاقة، ويخفف أعباء الضرائب، ويضبط الأمن بقوانين متنورة· لكن زيادة التشريعات الثورية ضد الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا صدمت عواطف الإيطاليين، فقد ثبت لهم أن دينهم أغلى بالنسبة إليهم من التحرر السياسي الذي يضطهد في ظله قسسهم، ويتنسم المرء في ثناياه مذابح سبتمبر·
وفي 13 يناير 1792 هاجمت الجماهير في روما ممثلاً دبلوماسياً للحكومة الفرنسية، مات في اليوم التالي من فرط ما أصابه على أيدي هذه الجماهير· وقد خلق هذا أزمة جديدة للبابا بيوس السادس الذي كان يعاني بالفعل من مرسوم التسامح (1781) الذي أصدره جوزيف الثاني في النمسا· لقد وجد البابا نفسه الآن في مواجهة مصادرة الثورة الفرنسية لممتلكات الكنيسة وفي مواجهة الدستور المدني للإكليروس (رجال الدين) الصادر في 12 يوليو سنة 1790· ولأن هذا البابا كان قد نشأ على الاحترام الكامل للتراث الكنسي فقد أعلن إدانته للثورة وأيد الملوك الذين يتصدون لها لمحقها· لكنه أجبر في صلح تولينتينو Peace of Tolentino (19 فبراير 1797) على التخلي لفرنسا عن المقاطعات الباباوية:
أفنيون وفيناسين Venaissin كما أجبر في الصلح نفسه على التخلي عن المدن الدول: فيرارا وبولونيا ورافنا للجمهورية السيزالبية·
وفي ديسمبر سنة 1797 قتلت الجماهير الإيطالية الجنرال الفرنسي ليونارد دوفو Leonard Duphot، وانتهز الجنرال الفرنسي لوي (لويس) بيرثييه Berthier الذي خلف نابليون في قيادة جيش إيطاليا (كان نابليون وقتها في مصر) الفرصة لغزو روما وإقامة جمهورية روما تحت الحماية الفرنسية، واعترض البابا بيوس السادس فتم القبض عليه وتم نقله من مكان إلى آخر حتى مات في فالنسي Valence في 29 أغسطس 1799 في عهد حكومة الإدارة·(ملحق/1086)
وراح المراقبون غير الواعين بالتاريخ يتساءلون عما إذا كان في موته موت للباباوية أو بتعبير آخر هل انتهى الآن عصر الباباوية بغير رجعة؟ وأتاح هذا الموقف لفرديناند الرابع النابلي (نسبة إلى نابلي) فرصاً ثلاث: أن يجرّب الجيش الجديد الذي كان جهزه له السير جون أكتون Acton، وأن يثبت للكنيسة الكاثوليكية أنه ابن مخلص لها، وأن يستولي على جانب من الولايات الباباوية مكافأة تشريفية له· ووافق الأدميرال (أمير البحر) نيلسون الذي كان في هذا الوقت يتلكأ في نابلي لقضاء اكبر وقت ممكن مع إيما هاملتون Emma Hamilton - وافق على تقديم المساعدة بإنزال قوة بحرية في ليجهورن Leghorn، وجعل الملك على رأس جيشه الجنرال النمساوي كارل ماك Karl Mack وركب معه لفتح روما (29 نوفمبر 1798) وقررت الحاميات الفرنسية التي بقيت في روما أنه لا قبل لها بمواجهة كل جيش نابلي فأبدت استعدادها لإخلاء المدينة (روما) ·
وبينما كان الكاردينالات المتفوقون يختارون بابا جديدا في البندقية (فينيسيا) كان جنود فرديناند يختبرون أجراس روما ويستعرضون فنونها، وفي هذه الأثناء هبط الجنرال الفرنسي اللامع جان - إتين شامبيون Jean-Etienne Championnet من الشمال على رأس جيش فرنسي منتعش (لم تنهكه الحروب) فحقق نصرا على جيش ماك Mack غير المنظم في سيفيتا كاستيلانا Civita Castellana (15 ديسمبر 1798) وتعقبه طوال انسحابه إلى نابلي واستولى على المدينة وسط فرحة طبقة المثقفين، وأقام الجمهورية البارثينوبية Parthenopean (23 يناير 1799) وهرب فرديناند والملكة وكذلك السير وليم هاملتون (من Bovary) إلى بالرمو في سفينة القيادة التابعة لنيلسون (كان اسم السفينة هو فانجارد Vanguard ومعناها الطليعة) ·(ملحق/1087)
ولم تستمر هذه الجمهورية الجديدة سوى أقل من خمسة أشهر فقد تم استدعاء شامبيون وكثير من رجاله للاتجاه شمالا لطرد النمساويين، ومات شامبيون في هذه المعركة ضد النمساويين (1800) · وجهز الكاردينال فابريزيو رفو Fabrizzio Ruffo جيشا جديدا لفرديناند، وعاون القائد الإنجليزي إدوارد فوت Foote في إعداد هذا الجيش، فاستعاد فرديناند نابلي بمساعدة الجماهير فيها، فقد كانت الجماهير في نابلي تنظر للحملة الفرنسية على أنها مكونة من مقاتلين ملحدين ملعونين، ولجأ الفرنسيون بمساعدة أدميرال من نابلي هو فرانسيسكو كاراكيولو Caracciolo إلى حصنين من حصون الميناء·
وعرض عليهم الكاردينال رفو والقائد فوت المغادرة إلى فرنسا دون عوائق إن استسلموا لكن قبل تنفيذ الاتفاق وصل نيلسون بأسطوله حاملاً مجموعة ملكية، قادما من بالرمو، فتولى هو (نيلسون) القيادة ووجه مدافعه إلى الحصون رغم اعتراض الكاردينال، فاستسلم الفرنسيون بلا شرط، وقبض على كاراكيولو (الذي ساعد الفرنسيين) بينما كان يحاول الإبحار بعيدا وحوكم محاكمة سريعة أمام محكمة عسكرية عقدت على سفينة نيلسون وشنق في 29 يونيو 1799 على سفينته· (لامينيرفا La Minerva) وتدلى جسده من عارضة شراع هذه السفينة، واستعاد الملك والملكة العرش فسجنوا مئات الليبراليين وأعدموا قادتهم·
3 - إيطاليا تحت حكم نابليون: من 1800 إلى 1812 م
ظل نابليون طوال تسعة أشهر بعد عودته من مصر يعمل على إقناع الأمة الفرنسية بتعريفه للحرية السياسية عن طريق استفتاءات دورية كان يتوقع أن تسفر نتائجها عن كون الحرية السياسية تتفق مع الاستبداد المتنور (حكم المستبد العادل) · لقد كانت فرنسا قد تعبت من الحرية الديمقراطية في الوقت الذي كان فيه الليبراليون الإيطاليون يتوقون إليها بعد أن أثار حفيظتهم عودة الحكم النمساوي· فمتى يعود هذا الإيطالي اللامع الذي أصبح فرنسيا (نابليون) إلى إيطاليا ليخرج هؤلاء النمساويين وليجعل لإيطاليا حاكما إيطاليا؟(ملحق/1088)
واستغرق القنصل البارع (نابليون) وقتا مناسبا للإعداد المتقن - وكان الإتقان أول مبادئ إستراتيجيته· وعندما تبلورت الأمور أمامه أخيرا كانت خطته أكثر كفاءة بكثير من هجوم سنة 1796: تسلق جبال الألب، ومن ثم الهبوط عليها من الجانب الآخر، وشق القوات النمساوية لتصبح في قسمين، وقيادة الجيش الفرنسي الرئيسي لمهاجمة مؤخرة القوات النمساوية وتطويقها وحجزها مع قائدها العجوز حتى يستسلم الذئب النمساوي للثعلب الغالي (الفرنسي) ويترك له كل الممتلكات الإيطالية غرب فينيزيا Venezia (1801) لقد كانت خطته أقرب ما تكون إلى خطة سبق أن وضعها ونفذها في سنة 1797·
وأعطى نابليون للجمهورية السيزالبية المتمحورة حول ميلان والجمهورية الليجورية Ligurian Republic في جنوى استقلالاً نسبيا، وجعل على رأس كليهما حكاما إيطاليين تحت الحماية الفرنسية· وحتى الآن فإن نابليون لم يقدم على عمل يسبب الإزعاج للولايات الباباوية إذ عقد اتفاقات وفاق مع الكنيسة وارتد عن الإسلام (لم يصبح محمديا Mohammedan) ووافق فرديناند الرابع ملك نابلي على إغلاق موانئها في وجه السفن البريطانية ولم يستطيع نيلسون تقديم يد العون لبلاده لأنه كان مشغولا بمهاجمة كوبنهاجن (2 أبريل 1801) وأحس الإيطاليون بيد إيطالية رفيقة كامنة وراء هذا الإنجاز (المقصود يد نابليون) فابتهجوا·(ملحق/1089)
والآن لقد قبضت هذه اليد على زمام السلطة، ففي يناير سنة 1802 تقابل 454 مندوبا مفوضا من الجمهورية السيزالبية في ليون Lyons وأقروا دستورا جديدا وضعه نابليون وقبلوا اقتراح تاليران Talleyrand بانتخاب نابليون رئيسا للجمهورية الإيطالية الجديدة Republica Italiana. · وبعد أن نصب نابليون نفسه إمبراطورا على فرنسا (1804) بدا منصب (رئيس إيطاليا) متواضعا بالنسبة إليه، لذا، ففي 26 مايو سنة 1805 تلقى نابليون في ميلان تاج الملوك اللومبارديين Lombard الموقر والعريق، وكان تاجا من حديد وأصبح بذلك حاكما لشمال إيطاليا وقدم لأهل البلاد المدونة القانونية النابليونية، وساوى بين الجميع في فرص التعليم بأن فرض على الدوائر (المقاطعات) الأكثر ثراء مساعدة الدوائر الأفقر، ووعد بأن يجعل: "شعبي في إيطاليا··· لا يتحمل ضرائب باهظة بل ستكون وطأة الضرائب هنا أخف منها في أي أمة أخرى في أوربا", وعندما غادرهم ترك معهم ابن زوجته الحبيب إلى نفسه يوجين دي بوهارنيه Eugene de Beauharnais نائباً له (نائب ملك) دلالة على اهتمامه بأمرهم·(ملحق/1090)
وطوال الأعوام الثمانية التالية نعمت المملكة الجديدة (خاصة لومبارديا) برخاء عام وحياة سياسية نشيطة ظل الإيطاليون يذكرونهما بخير لفترة طويلة· ولم تتظاهر الحكومة بالديمقراطية، فقد كان نابليون غير مؤمن بقدرة الجماهير في أي مكان على الاختيار الحكيم للقادة أو السياسات، لكنه بدلاً من ذلك نصح يوجين أن يجمع حوله أكثر المديرين خبرة وكفاءة· وبالفعل فإن هؤلاء الأكفاء قد خدموه بحماسة ومهارة، لقد نظموا جهازاً إدارياً يتسم بالكفاءة، ونفذوا كثيرا من الإنشاءات العامة - طرق، وقنوات وحدائق عامة ومشروعات إسكان ومدارس، وأصلحوا وسائل الصرف واتخذوا إجراءات للمحافظة على الصحة العامة وأصلحوا السجون وقانون العقوبات وأقاموا مشاريع محو الأمية ونهضوا بالموسيقى والفنون، وارتفعت عوائد الضرائب من 82 مليون فرنك في سنة 1805 إلى 144 مليون فرنك في سنة 1813، لكن جزءاً من هذه الزيادة كان يعكس التضخم (وفرة العملة اللازمة لتمويل الحرب) كما كان في جانب آخر منها نتيجة إعادة توزيع الثروات المتركزة في أيدي القلّة للقيام بمشروعات للصالح العام·(ملحق/1091)
وفي هذه الأثناء واصل نابليون جهوده لصبغ إيطاليا بالصبغة النابليونية، ففي سبتمبر 1802 ألحق بيدمونت بفرنسا، وفي يونيو سنة 1805 حث حكومة جنوى على طلب إدماج الجمهورية الليجورية في الإمبراطورية الفرنسية· وفي سبتمبر 1805 ضم دوقيات بارما وبياسنزا Piacenza وجواستالا Guastalla· وفي ديسمبر 1805 - بعد محق الجيش النمساوي في معركة أوسترليتز - حث الإمبراطور فرانسيس الثاني على تسليم فينيزيا Venezia ( فينيتسيا) لمملكة يوجين Eugene الجديدة· وكانت البندقية Venice شديدة الامتنان لهذا التعويض الجزئي عن المقايضة غير العادلة التي عقدها نابليون مع البنادقة في سنة 1797، وعبرت عن امتنانها هذا بإقامة مهرجانات الترحيب به (بنابليون) عندما زار مدينتهم في سنة 1807 · وفي مايو سنة 1808 تولى أمر دوقية تسكانيا الكبيرة في وقت كانت الإدارة النمساوية بها في أحسن حالاتها· وحكمت ليزا أخته (أخت نابليون) لوسا Lucca حكما طيبا حتى إن نابليون حولها إلى تسكانيا وبفضل حكمتها وسياسة الاسترضاء التي اتبعتها أصبحت فلورنسا ملاذا للآداب والفنون يعيد إلى الأذهان ذكريات أيام آل ميديتشي·
وفي 30 مارس سنة 1806 أعلن نابليون تعيين أخيه جوزيف ملكا على نابلي وأرسله على رأس جيش فرنسي ليعيد للطاعة فريدريك الرابع غير المنضبط وزوجته الملكة كثيرة المطالب· لقد بدا الإمبراطور (نابليون) قد ادخر أكثر المهام صعوبة لجوزيف الكريم وأنه - أي نابليون - لم يضع في اعتباره كثيرا المخاطر والصعوبات التي تنطوي عليها هذه المهام· لقد كان جوزيف رجل ثقافة يحب صحبة المتعلمين وصحبة النسوة اللائي لم يطغ علمهنّ على جاذبيتهنّ · وقد شعر بونابرت أن هذه الصفات لا تكفي ليحكم المرء مملكة حكما ناجحا· فلم عينه إذن؟ لقد عينه لأنه كانت لديه من الممالك التي فتحها ما يفوق عدد إخوته، ولم يكن نابليون يثق في أحد ثقته في أقاربه المقربين·(ملحق/1092)
لقد كان جوزيف قد قبل بسرور - كملك لنابلي - بتأييد زعماء الطبقة الوسطى الذين لم يكونوا مرتاحين في ظل النظام الإقطاعي، لكن العامة رفضته كمغتصب وكافر، وكان على جوزيف أن يتخذ إجراءات صارمة لقمع مقاومتهم· وكانت الملكة قد أخذت معها إلى صقلية كل الأموال المودعة في بنك الدولة· وكان الأسطول البريطاني يحاصر الميناء ويعوق حركة التجارة، وكان الجنود الفرنسيون قد شرعوا في حركة عصيان خطيرة، فرغم جهودهم الحربية الممتازة كانت رواتبهم قليلة جدا، وطلب جوزيف من أخيه أن يحول إليه بعض الأموال، فوجهه أخوه إلى جمع الأموال من نابلي لقاء قيام الفرنسيين بتحريرها وتفاوض جوزيف مع رجال المال الهولنديين للحصول على قرض، وفرض ضريبة على كل الدخول (جمع دخل)، على النبلاء والعوام ورجال الدين على سواء·
واستدعى من باريس الكونت بيير - لويس روديريه Comte Pierre - Louis Roederer وهو أحد الاقتصاديين الذين يفضلهم نابليون ليتولى أمر خزانة الدولة فسرعان ما ضبطها، وقام إداريون آخرون ذوو خبرة بتأسيس مدارس مجانية في كل كمونات commune المملكة، وكلية في كل مقاطعة وتم إبطال الإقطاع، وتم تأميم أراضي الكنيسة وبيعها للفلاحين ولأفراد الطبقة الوسطى النامية، وتمت مواءمة القوانين مع مدونة نابليون القانونية، وتم تطهير النظام القضائي، وتسهيل الإجراءات القضائية، وتم إصلاح السجون ونظام العقوبات ·
لقد كان جوزيف يقترب من النجاح الكامل وكاد يصبح مقبولا من العامة عندما دعي فجأة ليتبوأ عرشا يتعرض شاغله لخطر أشد، وليقوم بمهام أصعب - لقد دعي ليكون ملكا على أسبانيا (10 يونيو 1808)، وعين نابليون بدلاً منه على عرش نابلي جوشيم مورا Joachim Murat زوج أخته كارولين بونابرت، ولم يلجأ نابليون لهذا (تعيين زوج أخته) إلا لأنه لم يكن لديه أخ آخر يمكن تعيينه على عرش نابلي- وإذا ذُكر مورا ارتبط اسمه بأناقة ملبسه وجرأته في المعارك، كما أنه يفرض علينا تكريم ذكراه لأنه أعاد تشكيل حكومة نابلي· لقد كان رجلا يتحلى بكل فضائل الفلاحين خلا الصبر·(ملحق/1093)
لقد كان أكثر ملائمة للأعمال والمهام الشاقة (الهرقلية) منه للدبلوماسية الماكرة ودور رجل الدولة المتسم ببعد النظر، وكان زوجاً محبا ممزقا بين الخلافات مع أخي زوجته، والإخلاص له، حتى ظنه مجنونا، ونستطيع أن نفهم شكواه (أسباب تبرمه) من حقيقة أن الحصار القاري الذي طلبه نابليون (منع دخول البضائع الإنجليزية إلى دول أوربا) كان يدمر الحياة الاقتصادية في نابلي· ومع هذا فقد نجح هو ومساعدوه - ربما بسبب عدم صبره - إنجاز الكثير في فترة حكمه التي دامت أربع سنوات· لقد أكمل مع مساعديه إصلاح نظام الضرائب ودفع ديون البلاد بكاملها (وكان هذا في معظمه نتيجة بيع الممتلكات الكنسية) وألغى رسوم المرور الداخلية، ومول المشروعات العامة الأساسية·
لقد حولت إدارة جوزيف وإدارة مورا اللتان استمرتا أقل من ثماني سنوات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في نابلي تحولاً أساسيا حتى إنه عندما استعاد فرديناند الرابع عرشه في سنة 1815 قبل تقريبا كل الإصلاحات التي قام بها الفرنسيون· وكان أعز هذه الإنجازات إلى قلب جوشيم هو الجيش ذا الستين ألف مقاتل الذي نظمه ودربه، وكان يأمل أن يستطيع به توحيد إيطاليا ليكون هو أول مليك لإيطاليا الموحدة، لكنه استيقظ من هذا الحلم ونزع من شمس إيطاليا باستدعاء أخي زوجته سنة 1812 لينضم إليه في غزو روسيا·
4 - إمبراطور وبابا
شعر نابليون أنه خطا خطوات أساسية في تحويل إيطاليا من مجرد تعبير جغرافي إلى أمة، وذلك بتنظيمه الجمهورية السيزالبية Cisalpine Republic ( جمهورية جنوب الألب) في الشمال، ومملكة نابلي في الجنوب، لكن النمساويين كانوا قد استطاعوا - في أثناء غياب نابليون في مصر - وضع نهاية لجمهورية روما التي أسسها الفرنسيون قبل ذلك بعام واحد فقط، واستعادت الباباوية عاصمتها التاريخية (روما) ومعظم الولايات الباباوية، وفي 13 مارس 1800 عقد الكرادلة اجتماعا لانتخاب بابا جديد، فوقع الاختيار على بيوس السابع الذي كان كل الكاثوليك تقريبا يتطلعون إليه ليدافع عن ممتلكات الكنيسة وعن السلطة الزمنية للباباوات·(ملحق/1094)
ووجد نابليون أن بيوس السابع معقول بما فيه الكفاية عند التفاوض لعقد اتفاقات (كونكوردات) مع الحكومة الفرنسية سواء جرت هذه المفاوضات في باريس أو روما، كما وجده معقولاً في مباركته للصلاحيات الإمبراطورية، لكن هذه الولايات الباباوية (رغم أنها لم تكن منحة من قسطنطين كما جرى الادعاء في وقت من الأوقات) قد قدمها بيبن القصير Pepin the Short للبابا ستيفن الثاني Stephen في سنة 754م· وقد أكد شارلمان في سنة 774 م منحة بيبن Pepin هذه، وإن كان قد تدخل في شؤون الحكم في الولايات الباباوية واعتبر نفسه رأس العالم المسيحي لا بد أن يصغي البابا إليه حتى في أمور اللاهوت ·
وقد طور نابليون أفكاراً مشابهة لأفكار شارلمان· لقد كان نابليون قد عقد العزم على مواجهة حصار إنجلترا لفرنسا بحصار مضاد (الحصار القاري المضاد) بمنع دخول البضائع البريطانية إلى الأسواق الأوربية لكن المجلس الإداري التابع للبابا أصر على أن تظل الموانئ التابعة للولايات الباباوية مفتوحة للجميع· وأكثر من هذا فقد كانت هذه الولايات الباباوية تقف حاجزا (بحكم موقعها) بين شمال إيطاليا وجنوبها، فما الحل وقد أصبح نابليون تواقاً لتوحيد إيطاليا وضمها لتكون تحت قبعته· لقد قال لأخيه جوزيف إن هذا هو هدف سياستي الذي لا أبغي عنه حولا واتساقا مع هذه السياسة استولى الجيش الفرنسي على أنكونا Ancona (1797) وهي ميناء إستراتيجي في البحر الأدرياتك Adriatic يتحكم في الاتصال بين شمال إيطاليا وجنوبها والآن (13 نوفمبر 1805) كان نابليون يستعد لخوض معركة ضد النمسا وروسيا،(ملحق/1095)
فانتهز البابا بيوس السابع هذه الفرصة واستجاب لتحريض مجلسه الإداري وحثه المتهور، فأرسل إلى نابليون تحديا خطيرا: "لقد أخذنا على عاتقنا أن نطلب من عظمتكم إخلاء أنكونا Ancona، فإن ووجهنا بالرفض فلا ندري كيف نكون على علاقة صداقة مع وزير عظمتكم", وقد أجاب نابليون على هذا التحدي بتحدٍ مضاد: "إن كان قداستكم تحكمون روما، فإنني إمبراطورها", لقد امتعض نابليون كثيرا من إرسال البابا تحديه هذا قبيل معركة أوسترليتز Austerlitz· لقد تحدث نابليون كشارلمان لكنه تقدم كقيصر وهزم النمساويين والروس في معركة أوسترليتز·
وبعد ذلك بعام (12 نوفمبر 1806) وكان قد دمر الجيش البروسي في يينا Jena - أرسل نابليون من برلين للبابا يطلب منه طرد الإنجليز من روما وأن تدخل الولايات الباباوية في الكونفدرالية الإيطالية أي تنضم إليها في وحدة كونفدرالية لأنه - أي نابليون - لا يستطيع أن يتسامح بشأن وجود موانئ وحصون تقع بين مملكة إيطاليا (في الشمال) ومملكة نابلي (في الجنوب) يمكن أن يحتلها الإنجليز زمن الحرب مما يعرض ولاياته وأهلها للخطر ·
وأعطى نابليون للبابا بيوس فرصة حتى فبراير 1807 للانصياع لهذا الأمر، ورفض البابا وسمح للوزير البريطاني بالبقاء في روما، وأعاد نابليون طلبه بطرد المفوضين الإنجليز من روما عند عودته المظفرة من تيلسيت Tilsit ورفض البابا مرة أخرى، وفي 30 أغسطس هدد نابليون بالاستيلاء على الولايات الباباوية، فوافق البابا - خوفاً وهلعاً - على إغلاق موانئه في وجه البريطانيين، وطلب نابليون الآن من البابا الانضمام إليه لمواجهة أعداء فرنسا، فرفض بيوس، وفي العاشر من شهر يناير 1808 أمر نابليون جنراله ميولي Miollis الذي كان وقتها على رأس كتيبة فرنسية في فلورنسا، بالاستيلاء على روما·(ملحق/1096)
ومنذ ذلك اليوم تحركت الأحداث لتشهد صراعا تاريخيا متصاعدا بين الكنيسة والدولة· وفي 2 فبراير استولى جيش ميولي Miollis على سيفيتا فيشيا Civitavecchia ودخل روما في اليوم التالي وطوق الكويرينال Quirinal وهو التل الذي يقع عليه قصر البابا ومقر مجلسه الإداري· ومنذ هذا الوقت حتى مارس سنة 1814 أصبح بيوس السابع سجين فرنسا وفي 2 أبريل 1808 أمر نابليون بضم الولايات الباباوية إلى مملكة إيطاليا· لقد أصبح هناك الآن منطقة مفتوحة بين مملكة نابلي ومملكة إيطاليا أي بين جوزيف ويوجين·
ثم كان عام انشغل فيه نابليون بأسبانيا· وفي 17 مايو 1809 ومن فيينا التي فتحها نابليون للمرة الثانية، أعلن ضم الولايات الباباوية للإمبراطورية الفرنسية، وأعلن بذلك نهاية السلطة الزمنية (غير الدينية) للباباوات، وفي العاشر من يونيو أعلن البابا حرمان نابليون من رحمة الكنيسة، وفي 6 يوليو قاد الجنرال راد Radet بعض الجنود في قاعة الاستقبال الخاصة بالبابا وخيّره بين التنازل (عن حكم الولايات الباباوية) أو النفي، ولم يأخذ بيوس معه سوى كتاب الصلوات اليومية الخاص به وصليبه وتبع آسريه إلى عربة كانت في الانتظار حملته على طول الساحل الإيطالي مارة بجنوى إلى سافونا Savona وهناك ظل سجينا يعامل بلطف إلى أن أمر نابليون بنقله إلى فونتينبلو Fontainebleau ( يناير 1812) بعد نشر تفاصيل مؤامرة مزعومة لخطفه إلى إنجلترا·
وفي 13 فبراير 1813 وقع بيوس اتفاقا جديدا مع نابليون وفي 24 مارس سحب توقيعه، وكان يعيش في سجنه الفخم Palatial عيشة بسيطة لدرجة أنه كان يخيط (أو يرفو) قميصه بنفسه · وظل في سجنه هذا خلال كل أحداث 1812 و1813 حتى واجه نابليون نفسه السجن في 21 يناير سنة 1814، فأعيد إلى سافونا· وفي أبريل أرسل الحلفاء - بعد استيلائهم على باريس - إلى البابا بما يفيد أنه أصبح حرا وفي 24 مايو دخل البابا بيوس السابع روما ثانية، وكان في حالة يرثى لها بدنيا ونفسيا، ورحب به كل السكان تقريبا، وتنافس شباب روما في جر عربته (بدلا من ترك الخيول تجرها) إلى الكورينال Quirinal ( حيث قصره) ·(ملحق/1097)
لقد استطاعت إدارة نابليون الفرنسية للولايات الباباوية في فترة حكمها القصيرة بمساعدة من الليبراليين من أهلها إحداث نقلة مهمة في الحياة الاقتصادية والسياسية، كانت نقلة سريعة ونشيطة، وربما سببت هذه السرعة وهذا النشاط بعض الآلام· لقد أنهت الإدارة الفرنسية الإقطاع ومحاكم التفتيش وأغلقت ما يزيد على مائة كنيسة ودير وسرحت 5,852 راهباً وراهبة· وطردت الموظفين المرتشين الفاسدين، وأخضعت الجهات المختلفة لنظم محاسبية· وأصلحت الطرق وزادت فيها من قوات الشرطة، وكادت تقضي تماما على اللصوصية وقطع الطرق·
وجعلت الشوارع نظيفة مضاءة ليلا، وجففت مستنقعات بونتين Pontine وأتاحتها للراغبين في زراعتها، وأعلنت حرية الاعتقاد (الحرية الدينية)، وسمحت لليهود بالانتقال بحرية من معازلهم their ghetto وانتعشت وحسنت من أوضاع السجون، وبنت المدارس وزودتها بالمعلمين، وتم افتتاح جامعة جديدة في بيروجيا Perugia، واستمرت أعمال الكشف عن الآثار الكلاسيكية وعين كانوفا Canova للإشراف على متحف يضم ما يعثر عليه من آثار، لكن الإدارة الفرنسية كانت تجمع الضرائب بدأب كما كانت تجند المواطنين إلزاميا في الجيش· واشتكي التجار من القيود التي فرضتها الإدارة الفرنسية على التعامل مع إنجلترا· وشعر غالب السكان بالتعاسة لتغيير مؤسساتهم التقليدية، وللمعاملة المخزية التي لاقاها البابا الذي كانت له شعبية، وبدأ الناس - حتى الملحدون - يحبونه وراح الناس يتطلعون إلى الماضي بحسرة، متمنين عودة حكم البابا، ذلك الحكم المتسم بالنعومة والهدوء والتراخي ·(ملحق/1098)
لقد كان إقدام نابليون على سجن البابا بيوس السابع خطأ فاحشا من حاكم عرف بدهائه وحنكته· لقد كانت اتفاقات الوفاق التي عقدها مع الكنيسة الكاثوليكية في روما وكذلك تتويجه إمبراطوراً قد جعلته مؤتلفاً مع الكاثوليك في أنحاء أوربا بل وجعلت كل ملوك أوربا تقريبا يقبلونه من الناحية الرسمية لكن معاملته السيئة للبابا في الفترة الأخيرة جعلت كل الكاثوليك تقريبا وكثيرا من البروتستنت ينفرون منه· لقد كانت الباباوية قد قويت بسبب محاولة نابليون استخدامها كأداة سياسية، فالكنيسة الكاثوليكية الفرنسية التي كانت حتى ذلك الوقت غالية Gallican أي مناهضة لبابا روما، أصبحت الآن توقر الباباوية وتبدي ولاءها لها· والجزويت Jesuits ( طائفة اليسوعيين) الذين سبق أن طردهم بابا خائف مرتعد، عادوا مرة أخرى يمارسون نشاطهم في مختلف أنحاء العالم المسيحي في ظل البابا بيوس السابع المهذب والمصمم في الوقت نفسه، وقد حدث هذا في سنة 1814·
وفي هذا العام نفسه استعادت الباوباوية سلطانها الزمني، بل وازداد سلطانها الروحي بسبب المقاومة الهادئة التي أبداها البابا السجين· وقد اعترف نابليون نفسه بسوء حكمه على البابا بيوس السابع وكان هذا الاعتراف بعد تنازله عن العرش للمرة الأولى: "لقد كنت دائما أعتقد أن البابا شخص ذو شخصية ضعيفة جدا·· لقد عاملته بقسوة· لقد كنت مخطئا· لقد كنت أعمى" · ومن ناحية أخرى فإن البابا بيوس لم يقلل أبدا من شأن نابليون ولم يبخسه أبداً حقه، فقد أبدى إعجابه به كثيرا، بل لقد أظهر تعاطفا معه عندما سجن مع أنه (أي نابليون) كان سجانه· وعندما شكت أم نابليون للبابا من أن الإنجليز يسيئون معاملة ابنها في سانت هيلينا St. Helena، توسل بيوس للكاردينال كونسالفي Consalvi طالبا منه التدخل لصالح عدوه السابق الذي هوى · وعاش البابا بعد موت الإمبراطور بعامين· إذ مات في سنة 3281 وهو يهذي هذيان المحموم سافونا، فونتينبلو Savona , Fontainebleau·(ملحق/1099)
5 - ما وراء المعارك
المعارك هي الألعاب النارية في دراما التاريخ، فخلفها يكمن الحب والكراهية بين الرجال والنساء، والكفاح والمقامرة في مضمار الاقتصاد، والهزائم والانتصارات في مجالات العلوم والآداب والفنون والتطلع اليائس لعقيدة دينية·
وقد يكون الإيطالي عاشقا متعجلا، لكنه يعمل بحيوية على زيادة أفراد الجنس البشري (المعنى أنه كثير الجماع) كما أنه يريد أن يملأ شبه الجزيرة الإيطالية الذهبية بأمثاله، حتى إن المهمة الوحيدة للمعارك والحروب هي تقليص عدد السكان المزدحمين، ولم تكن الكنيسة الكاثوليكية تشجع عدم الإنجاب بل كانت ترفضه أكثر من رفضها للزنا، لذا فلم تكن الكنيسة تعمل على تحديد النسل وما كانت تستطيع وقف تضاعف عدد السكان·
لقد كانت الكنيسة تشجع العلاقات الغرامية مبتسمة لإيروس Eros ( إله العشق عند الإغريق) ولم تفرض المحاذير على الشهوات المنطلقة في الكرنفالات· وكانت البنات غالبا ما يحتفظن بعذريتهن لأنهن كن يتزوجن في سن مبكرة، وكن يخضعن لمراقبة قاسية قبل الزواج، لكن بعد الزواج كان يمكن للمرأة أن يكون لها تابع يقوم بأمرها غير زوجها Cavaliere Servente أو حتى عشيق (لأن الزواج يعني عادة ضم ممتلكات الزوجين) ولا يجد الإيطالي غضاضة في اتخاذ زوجته عشيقا، إذ يظل الزواج رغم هذا محترما في نظره، وإذا اتخذت المرأة عشيقين أو ثلاثة اعتبرت (شبقه على نحو ما Little Wild) · وهذه على أية حال شهادة اللورد بايرون الذي كان يميل إلى "أن كل النساء يمكن الوصول إليهن"· وربما كان حديثه منصرفا إلى نساء البندقية فقط حيث استقرت فيها فينوس (إلهة الحب عند الرومان) على نحو خاص، لكننا وجدنا ستندهال Stendhal يقول الشيء نفسه عن نساء ميلان في مؤلفه Chartreuse de Parme·(ملحق/1100)
ورغم هذا التساهل والتسيب الخلقي، فالحياة في ميلان بدت كئيبة في نظر مدام دي ريموزا de Remusat التي حزنت لغياب الحياة الأسرية، فالأزواج غرباء بالنسبة إلى زوجاتهم إذ يتركونهن ليرعى أمورهن العشاق Servente Cavaliere · ولم تكن مدام دي ستيل de Stael سعيدة لما اعتبرته سطحية تبدو واضحة في مناقشات الرجال في إيطاليا، وكانت مدام دي ستيل متألقة في المناقشات التي أجرتها مع الجنسين· لقد كانت ترى أن "الإيطاليين يرهقهم التفكير" · لقد ذكرها الإيطاليين بأن "الكنيسة لا ترتاح إلى التفكير بصوت مسموع"· لقد كان غالب الإيطاليين متفقين مع البابا في أن الدين مع العقيدة المستقرة والعوائد المالية التي تدرها مناطق ما وراء الألب أكثر فائدة لإيطاليا ومع هذا كان هناك الكثير من الفكر الحر الهادئ بين الأقلية المتعلمة بل وقدر غير قليل من الهرطقة السياسية·
لقد كان باستطاعة ألفيري Alfieri أن يكتب بحماس عن الثورة الفرنسية وصفق مئات الإيطاليين لسقوط الباستيل، وكان في إيطاليا مؤسسات مختلطة (تضم رجالا ونساء) وتقدم تعليما مهذبا مثل أكاديمية أركاديا the Accademia dell' Arcadia التي كانت في وقت من الأوقات تجمعا مشهورا للرجال المتعلمين والنساء المتعلمات، وتم تأسيس أكاديمية كروسكا Crusca في سنة 1812· وفي سنة 1800 كانت هناك امرأة هي كلوتيدا تامبروني Coltida Tambroni تقوم بتدريس اليونانية في جامعة بولونيا في إيطاليا·(ملحق/1101)
وانتعشت دراسة العلوم والطب في جامعات إيطالية أخرى ففي سنة 1791 وضح لويجي جالفاني Luigi Galvani (1737 - 1798) في جامعة بولونيا الايطالية أنه إذا تم توصيل عضلة ساق الضفدعة بقطعة من الحديد، وتم توصيل عصبها (عصب الضفدعة) بقطعة من النحاس، نشأ عن ذلك تيار كهربائي وسيتسبب هذا التيار تقلص العضلة· وفي سنة 1795 اخترع أليساندرو فولتا Alessandro Volta (1745 - 1827) في جامعة بافيا البطارية الجافة Voltaic Pile التي أدهشت أوربا حتى إنه استدعى إلى باريس في سنة 1801 لعرضها في المعهد العلمي الفرنسي، وفي 7 نوفمبر، قرأ ورقة بحثية أمام جمهور ضم نابليون نفسه عن (تطابق الموائع الكهربائية Electric Fluid مع الموائع الجلفانية Galvanic Fluid) وفي سنة 1807 نشر لويجى رولاندو Luigi Rolando أبحاثه التي مازت هذه الفترة عن تشريح المخ·
إن إيطاليا عديمة الفكر كانت تعلم أوربا ثورة أعظم من الثورة الفرنسية·
وضعف المسرح الإيطالي لأن الإيطاليين وجدوا أنه من الطبيعي تماماً أن يحولوا الحديث العادي إلى أغان، والدراما إلى أوبرا، وكانت الجماهير تميل كثيرا إلى المسرحيات البسيطة ذات الطابع الكوميدي، أما الأفراد الأكثر نضجا فكانوا يؤثرون المسرحيات من نوع ما يكتبه فيتوريو ألفيري Vittorio Alfieri (1749 - 1803) التي أعلن فيها كرهه للطغيان وتطلعه لتحرير إيطاليا من الحكم الأجنبي، فكل مسرحياته تقريبا سبقت الثورة الفرنسية لكن مبحثه الانفعالي المفعم حماسا لم ينشر إلا سنة 1787 في بادن Baden مع أنه كتبه في سنة 1777، ولم ينشر في إيطاليا إلا سنة 1800 وأصبح بعد نشره من كلاسيكيات الفلسفة الإيطالية وفن الكتابة بالإيطالية· وأخيرا وجدناه في عمله الذي يحمل عنوان Misogallo (1799) الذي كتبه في أواخر حياته المضطربة - يدعو الشعب الإيطالي للنهوض والإطاحة بالحكم الأجنبي كما دعاه للوحدة· وهنا وجد مازيني Mazzini وغاريبالدي Garibaldi صوتا واضحا يعبر عن أفكارهما·(ملحق/1102)
لقد انعكست طبيعة الإيطاليين الانبساطية (غير الانطوائية) ولغتهم الشجية ونزوعهم الموسيقي إلى الشعر، فقد شهد هذا العصر القصير - حتى بعد استسلام ألفيري للماضي وليوباردي Leopardi للمستقبل - مائة شاعر يتسلقون الشكل الشعري ويركزون عليه أكثر من تركيزهم على محتواه العاطفي (المدرسة البرناسية Parnassus الفرنسية التي طغى اهتمامها بالشكل الشعوري على ما سوى ذلك)، وكان أسعدهم هو فينسينزو مونتي Vincenzo Monti (1754 - 1828) الذي كان لديه كلمات طيبة يقولها في كل موضوع واعد· لقد دافع في عمله La Bassevilliana (1793) عن الدين في وجه الثورة الفرنسية مما جعله مقبولا في البلاط الباباوي، وفي عمله ( Il bardo della Selva Nera) المنشور في سنة 1806 عظم من شأن تحرير نابليون لإيطاليا فعينه الفاتح (نابليون) أستاذا في جامعة بافيا Pavia وبعد سقوط نابليون اكتشف أخطاء الفرنسيين وأعلنها كما اكتشف فضائل النمساويين· وخلال كل هذه التقلبات راح يمتدح بشكل متواصل ( La ballezza dell, Universo) ·
وقد تخطى هذه الشطحات في ترجمته للإلياذة (1810)، ولم يكن يعرف من اللغة اليونانية شيئا، وإنما قام بصياغة شعرية لنص نثري، لذا فقد وصفه فوسكولو بهذه العبارة: gran traduttor dei traduttore d'Omero وكان أجو فوسكولو Ugo Foscolo (1778 - 1827) شاعرا أكبر منه وكان أكثر ميلاً منه للحزن· وهو كشاعر كان ذا حس عاطفي يغلب على التفكير المنظم· لقد أطلق العنان لرغباته وانتقل من قصة شعرية قوامها الحب والفروسية إلى قصة أخرى، ومن بلد إلى بلد ومن بشارة gospel إلى أخرى، وانتهى إلى اشتياقه للأحلام القديمة· لكن خلال كل مراحل تطوره كان حريصا على الالتزام بالشكل الشعري، وحتى عندما استبعد الوزن والقافية راح يسعى للكمال في موسيقى اللغة·(ملحق/1103)
لقد ولد بين عالمين - ولد في جزيرة زانطة Zante بين اليونان وإيطاليا، من أب إيطالي وأم يونانية، وبعد أن قضى في زانطة خمسة عشر عاما انتقل إلى البندقية واقتطف من جمالها السهل ووقع في حب تهتكها وتعلم أن يكره السيطرة النمساوية المجاورة، وفرح عندما أتى نابليون كإعصار من نيس Nice إلى مانتوا Mantua، وهتف لبطل أركول Arcole: بونابرت المحرر، لكن عندما سلم المخلص (نابليون) البندقية للنمسا انقلب عليه معبرا عن سخطه في رواية ( Le Ultime Lettere di Lacopo Ortis) التي نشرها في سنة 1798، وهي رواية يعبر فيها عن أفكاره من خلال الخطابات الأخيرة التي كتبها بندقي ( Werther) لأحد أصدقائه يقص عليه فيها مأساته المزدوجة: فقده حبيبته إذ فاز بها غريمه، وفقده البندقية تلك المدينة الحبيبة إذ وقعت في قبضة الغول التيوتوني Teutonic Ogre·
وعندما انطلق النمساويون لغزو شمال إيطاليا مرة أخرى انضم فوسكولو للجيش الفرنسي، وحارب بشجاعة في بولونيا Bologna ( مدينة إيطالية) وفلورنسا وميلان وخدم قائداً Captain في القوات التي أعدها نابليون لغزو إنجلترا· وعندما تبدد حلم غزو إنجلترا، تخلى فوسكولو عن الحرية وعكف على القلم وعاد لإيطاليا ونشر أجمل أعماله ( I Sepolcri) في سنة 1807·
لقد احتفى في هذه الرواية البالغ عدد صفحاتها ثلاثمائة صفحة مفعمة عاطفة مصقولة على نحو كلاسيكي بالكتابات على القبور باعتبارها تخليدا لذكرى أناس عظماء، وعظم من شأن كنيسة سانتا كروز Santa Croce في فلورنسا لعنايتها الشديدة ببقايا مكيافيللي وميشيل أنجلو وجاليليو، وراح يتساءل كيف يخضع شعب أنجب خلال قرون عديدة هذا العدد الكبير من رواد الفكر والإنجاز لحكام أجانب؟ كيف يخضع مثل هذا الشعب بإنجازاته الهائلة في الفلسفة والشعر والفن لهؤلاء الأجانب؟ وراح يعلي من شأن ما خلفه الرجال العظماء كدليل على الخلود، وكدليل على عظمة أمة وسمو حياتها الروحية·(ملحق/1104)
وعندما أصبح النمساويون مرة أخرى سادة لشمال إيطاليا (1814 - 1815) فرض فوسكولو على نفسه النفي فأقام في سويسرا ومنها اتجه - بعد ذلك - لإنجلترا، وراح ينفق على نفسه من عمله مدرساً وكاتب مقالات ومات في فقر شديد سنة 1827· وفي سنة 1871 نقل رفاته من إنجلترا إلى فلورنسا حيث دفن في سانتا كروز في إيطاليا التي تحررت أخيرا·
قال بايرون (الذي أحب إيطاليا رغم قوله هذا):
"في إيطاليا لا بد أن يكون الرجل في خدمة امرأة Cicisbeo أو مغنياً في ثنائي أو متقناً لفن الأوبرا وإلا فإنه يصبح لا شيء".
فالأوبرا الإيطالية خاصة تلك التي كان يتم إنتاجها في البندقية ونابلي ظلت تسود المسارح الأوربية الهادفة، بعد أن تحداها لفترة وجيزة جلوك Gluck وموزارت Mozart، إذ سرعان (1815) ما سرقت أعمال روسيني Rossini الميلودية melodies وأنغامه العاصفة الأضواء حتى في فيينا Vienna· وقد عاد بتشيني Piccini - بعد أن نافس جلوك Gluck في باريس - إلى نابلي، حيث فرضت عليه الإقامة الجبرية في منزله لتعاطفه مع الثورة الفرنسية·
وبعد أن فتح نابليون إيطاليا دعي مرة أخرى إلى فرنسا (1798) لكنه مات فيها بعد عامين· وقد حقق بيسيلو Paisiello - كمؤلف وقائد فرقة موسيقية - انتصارات فنية في سان بطرسبرج وفي فيينا، وفي باريس، وفي نابلي في ظل حكم فرديناند الرابع، وبعده في ظل حكم جوزيف بونابرت، ثم في ظل حكم Murat· وخلف دومينيكو سيماروزا Domenico Cimarosa خلف أنطونيو ساليري Salieri كقائد أوركسترا في فيينا وأنتج هناك أكثر أعماله الأوبرالية شهرة في سنة 1792 وهي ( IL matrimonio Segreto) وفي سنة 1792 دعاه فرديناند للعودة إلى نابلي كما يسترو maestro di Capella،(ملحق/1105)
وعندما استولى الفرنسيون على نابلي استقبلهم بسرور، وعندما استعاد فرديناند عرشه حكم عليه بالإعدام لكن هناك من حثه على تخفيف الحكم فصدر قرار بنفيه خارج البلاد، فانطلق سيماروزا قاصدا سان بطرسبرج، لكنه مات في الطريق إليها في البندقية (1801)، وفي هذه الأثناء كان موزيو كليمنتي Muzio Clementi يؤلف الموسيقى ويعزف على البيانو في العواصم المختلفة، وكان يعد عمله الذي حقق شهرة في وقت من الأوقات ( Gradus ad Parnassum) في سنة 1817 وهو كتاب تعليمي للشباب لمن يرغب تعلم العزف على البيانو في كل مكان·
وبدأ نيكولو (نيقولا) باجانيني Niccolo Paganini (1782 - 1840) في جنيف في سنة 1797 مهمته التي قضى فيها ردحا طويلا من الزمن إذ راح يحيي الحفلات بالعزف على الفيولين (الكمان) · لقد أحب الكمان بإخلاص وعشقه أكثر من أي امرأة من الكثيرات اللائي تدلهن حبا في موسيقاه· لقد طور إمكانات الكمان بشكل لم يسبق له مثيل عزفاً وتأليفا· لقد ألف أربعة وعشرين لحنا حرا Capricci أدهشت بغرابتها وتطورها كل من سمعها· وقد عينته إليزا بونابرت باكيوش (باكيوكي Bacciocchi) على رأس فرقة موسيقية في بيمبينو Piombino (1805) لكن هذا التعيين لم يمنعه لفترة طويلة من تنقلاته إلى حيث كانت كونشرتاته تجلب له الشهرة والنجاح الأكيدين، والثروة·
وفي سنة 1833 استقر في باريس، ومنح بيرليوز Berlioz عشرين ألف فرنك لينقذه من فقر شديد كان يعانيه، وشجعه لتأليف عمله (هارولد في إيطاليا) · لقد أصبح باجانيني Paganini مرهقا إرهاقا شديدا بسبب انهماكه الشديد في العمل والعزف، فقرر أن يترك الإثارة في العاصمة المفتونة بالعبقرية والتي تعج بالثورة· ومات في نيس Nice سنة 0481 تاركا بالإضافة إلى ألحانه الحرة السابق ذكرها ثمانية كونشرتات concertos والعديد من السونتات sonatas يتحدى بها عازفي الفيولين (الكمان) والذين يؤلفون مقطوعات له (للفيولين) لقرن قادم· إن فن العزف على الفيولين وتأليف مقطوعات للعزف على هذه الآلة لم يعودا بمثل هذه الحيوية إلى الآن وبفضله·
6 - أنطونيو كانوفا: 1757 - 1822 م
ANTONIO CANOVA(ملحق/1106)
كانت إيطاليا في عصر نابليون منشغلة تماما بالحروب والسياسة بائسة تماما في روحها العام ليس بها من الأعمال الخيرية الخاصة إلا القليل وهما الأمران اللازمان لنشر الفنون خاصة فن العمارة الذي أعلى من شأن إيطاليا في الوقت الذي كانت فيه كل أوربا ترسل بنسي Pence القديس بطرس للباباوات، وفي الوقت الذي كانت فيه فلورنسا والبندقية وميلان مثل روما ونابلي - ثرية وتحكم نفسها بنفسها أو بتعبير آخر تتمتع بحكم ذاتي· لقد ارتفعت شامخة بعض الإنشاءات المتميزة:
- Arco della Pace في ميلان (1806 - 1833) التي قام عليها لويجي كاجنولا Luigi Cagnola.
- Teatro La Fenice ( مسرح البندقية) في البندقية (1792) الذي قام عليه أنطونيو سيلفا Antonio Selva.
- Palazzo Braschi ( قصر برازش) في روما (1795) بسلمه الفخم الذي قام عليه كوزيمو موريللى Cosimo Morelli's ولم تشهد إيطاليا رسوما (فن تصوير) خالدةً.
ولكن النحاتين الإيطاليين استلهموا الآثار الهرقلية Herculaneum لينبذوا تأثيرات فن الباروك baroque العربية وضخامة الروكوكو rococo ليعودوا يستلهمون الروعة والهدوء والخطوط البسيطة في فن النحت الكلاسيكي· وقد ترك لنا واحد من هؤلاء النحاتين أعمالا لا تزال تستوقف الرائي، وتغريه بلمسها، وتبقى في ذاكرته إنه أنطونيو كانوفا الذي ولد في بوساجنو Possagno ( بوسانو) عند سفح جبال الألب في البندقية· وكان أبوه - وكذلك جده - نحاتا، وقد تخصص الأب والجد في أعمال النحت المرتبطة بمذابح الكنائس وكذلك في نحت الأيقونات وتماثيل القديسين وغير ذلك من المنحوتات ذات الطابع الديني المسيحي·(ملحق/1107)
وعندما مات الأب (1760) أخذ الجد ابن ابنه أنطونيو إلى بيته ثم بعد ذلك إلى الأستوديو الخاص به· ولفت أنطونيو أنظار شريف أرسولو Arsolo ( الشريف Patrician لقب للأرستقراطي الروماني) جيوفاني فالير Giovanni Falier لدأبه على العمل وتوقه الشديد للتعلم، فقدم له المال اللازم لدراسته في البندقية ورد له الشاب جميله بأن قدم له أول منحوتاته اللافتة للنظر (أورفيوس ويوريديس Orpheus & Eurydice) وفي سنة 1779 انطلق - بموافقة الشريف فالير - إلى روما، فدرس فيها آثار الفنون القديمة،، وراح أكثر فأكثر يستوعب تفسيرات وشروح فنكلمان Winckelmann للنحت الإغريقي باعتباره فناً يهدف إلى تمثّل الجمال المثالي من خلال الشكل الكامل والخط كأفضل وأتم ما يكون· لقد كرّس نفسه تماماً لإحياء الأسلوب الكلاسيكي في النحت·
وحثّ أصدقاؤه في البندقية الحكومة على دفع راتب سنوي له طوال السنوات الثلاث التالية فأصبح يتلقى بناء على هذا ثلاثمائة دوكات ducats في العام· ولم تُلهه هذه الأموال ولم تَعُقه عن مواصلة ما نذر نفسه له فقد راح - بحب - يحاكي النماذج الكلاسيكية وبدا في بعض الأحيان وقد أنتج مثيلا يضارعها تماماً كما في تمثال بيرسيوس Perseus وعمله الذي أطلق عليه The Pugilist، وقد أنجز كلا العملين في سنة 1800، فكانا هما العملين الوحيدين من بين أعمال النحّاتين المعاصرين اللذين استحقا أن يوضعا في بلفيدير Belvedere الفاتيكان جنباً إلى جنب مع الأعمال الفنية الكلاسيكيّة التي حازت إعجاب العالم ·(ملحق/1108)
وعملهُ النحتيّ "ثيزيوس يذبح القنطور" (كائن خرافي نصفه فرس ونصفه بشر) " Theseus Slaying the Centaur" (1805) - وهو نحت من رخام - موجود الآن فيما كان يعرف في وقت من الأوقات بالحدائق الإمبراطورية في فيينا - يمكن ببساطة أن يخطئ المرء فيظنه من الأعمال النحتية الخالدة في العصور القديمة، لولا المبالغة في إظهار القوة والضراوة، وكان كانوفا أفضل ما يكون في الأعمال ذات الطابع الناعم (المقصود غير العنيف) التي تتلاءم مع شخصيته كما في تمثاله هيب Hebe الموجود في المتحف الوطني في برلين، ففي هذا العمل نجد ابنة زيوس Zeus وهيرا Hera وهي ربّة الشباب تحظى بشرف توزيع النبيذ على الأرباب·
وبدأ كانوفا في عام 1805 وهو عامه العامر بالإنتاج أشهر تماثيله: "فينوس Venus Victrix" ( في متحف بورجيز في روما Galleria Borghese) وقد حث بولين بورجيز Pauline Borghese - أخت نابليون - أن تتخذ أمامه هذا الوضع (البوز Pose) لينحت لها تمثالاً يعبّر عن مفاتنها، وكانت وقتها في الخامسة والعشرين في تمام تكوينها الجسدي لكن قيل إن الفنان لم ينقل مباشرة إلاّ ملامح وجهها (لم يستخدم - كموديل - إلاّ وجهها) أما الملابس والأطراف فقد أعمل فيها خياله وأحلامه وذاكرته· وانتهى من هذا التمثال في غضون عامين ثم عرضه ليحكم عليه العامة والنحّاتون المنافسون، فراعهم التمثال بما فيه من جمال عزيز ولمسة حب، وفي هذا التمثال لم يكن الفنان مجرَّد مقلّد لبعض الأعمال القديمة العظيمة الخالدة، وإنما كان تعبيراً عن امرأة حية في زمن حي، كانت في رأي أخيها (نابليون) هي الأجمل· لقد جعل منها كانوفا هدية للأجيال·(ملحق/1109)
وفي سنة 1802 دعا نابليون الفنان كانوفا ليأتي من روما إلى باريس، فنصحه البابا بيوس السابع - وكان قد وقَّع لتوّه اتفاقا (كونكوردات) مع القنصل (نابليون) - بتلبية الدعوة والذهاب لفرنسا لأسباب ليس أقلها أن يكون غازيا إيطاليا آخر يغزو فرنسا (تلميح لأصول نابليون الإيطالية) وأفضل التماثيل النصفية العديدة التي نحتها هذا الفنان لنابليون هو ذلك التمثال الموجود في متحف نابليون في كاب دنتيب Cap d'Antibes إذ يبدو المحارب الشاب في هذا التمثال وكأنه أرسطو في حالة تأمل حقيقي والأكثر شهرة بكثير هو التمثال الكامل (من الرأس إلى القدمين) الذي صنعه كانوفا من الجص ثم نحته بعد ذلك من كتلة واحدة من رخام كارارا Carrara marble عند عودته لروما·
وتم إرسال هذا التمثال إلى باريس في سنة 1811 حيث وُضع في متحف اللوفر، لكن نابليون اعترض على هذا التمثال بحجة أنَّ شارة النصر المجنّحة التي وضعها النحّات في يمينه تبدو للرائي وكأنها تطير مبتعدة عنه، فتم حجب التمثال عن المشاهدين وفي سنة 1816 اشترته الحكومة البريطانية وأهدته إلى ولينجتون Wellington، وهو الآن موجود أدنى سلّم قصر ولينجتون Wellington في لندن (بيت أبسلي Apsley) ويبلغ ارتفاعه أحد عشر قدماً· وقدم كانوفا إلى باريس مرة أخرى في سنة 1810 لنحت تمثال لماري لويز Marie Louise وهي جالسة على مقعد· ولم تكن النتيجة محل إعجاب لكن نابليون قدَّم للفنان عند رحيله الأموال اللازمة لترميم كاتدرائية فلورنسا ومبلغا لتمويل أكاديمية القديس لوك Luke ( للفنون) في روما· وبعد سقوط نابليون أصبح كانوفا رئيساً لهيئة عيَّنها البابا لاستعادة الأعمال الفنية التي كان الجنرالات الفرنسيون قد أرسلوها لباريس، وردّها لأصحابها الأصليين·(ملحق/1110)
لقد تربّع على عرش النحت الإيطالي في عصره، ولم يبزّه في أوربا إلاّ هودون Houdon (1741 - 1828) الذي حظي في هذه الفترة بالتوقير، وكان من رأى بايرون الذي كان أكثر ألفة في إيطاليا منه في فرنسا أن أوروبا والعالم ليس فيها إلاّ كانوفا واحد وأنه - أي كانوفا - يضارع نحّاتي العصور الكلاسيكية القديمة وربما كان أحد أسباب الاحتفاء به هو موجة الكلاسيكيّة الجديدة التي جعلته - كما جعلت ديفيد (ساعد نابليون كليهما) يتبوأ مقعد الريادة في فنّه· لكن أوروبا لم تكن لترضى لفترة طويلة بتقليد (أو نسخ) الأعمال الفنية القديمة أو بتعبير آخر لم تكن لترضى - لفترة طويلة - بتقليد الآثار، لذا فسرعان ما أخضعت الحركة الرومانسية الخط والشكل للون والمشاعر وهكذا زوت شهرة كانوفا·
ولا يبعد عن سياق حديثنا أن نذكر أن كانوفا كان رجلا طيبا معروفا بتواضعه وتقواه وحبه للإحسان كما كان قادراً على تقدير منافسيه وعدم بخسهم حقهم، وكان يعمل بجد، وعانى من جو روما المسبب للملاريا malarial air ومن نحت الأعمال الضخمة، فغادر روما في صيف سنة 1821 طالبا هواء أنقى وحياة أهدأ في مسقط رأسه بوسّاجنو Possagno ( بوسّانو) وفيها مات في 13 أكتوبر 1822 وهو في الرابعة والستين من عمره فبكاه كل المثقفين في إيطاليا·
7 - ستُبعثُ إيطاليا من جديد
ما هي المحصلة الجبرية (نسبة إلى علم الجبر) الكلية لما أحدثته فرنسا من خير وشر في إيطاليا في هذا العصر؟ لقد قدمت فرنسا لأمّة تتمرّغ في الكسل بسبب حكم الأجانب لها، صيحة صاخبة ونموذجاً لأمة حقّقت حريتها بإرادتها وأفعالها وهي تكاد تميَّزُ من الغيظ· لقد قدّمت فرنسا لإيطاليا روحاً جديدة مفعمة بالتحدي فيما يتعلق بعلاقة المواطنين بالدولة· لقد قدّمت فرنسا لإيطاليا مجموعة المدوّنة النابليونية· لقد كانت صارمة لكنها كانت بنّاءة ومحدّدة وواضحة ضبطت الأمور وأشاعت النظام ومهدت الطريق للوحدة والمساواة أمام القانون في شعب طالما قسّمته الطبقية والنفور من الامتثال للقانون·(ملحق/1111)
وعمل نابليون ورجال إدارته النشيطين على تحسين الأداء الحكومي وتطهيره وعلى الإسراع بالتنفيذ ومضاعفة الأشغال العامة (المشروعات العامة) وتزيين الطرق وإنشاء الحدائق والشوارع التي تحفها الأشجار، وتطهير الطرق والمستنقعات والترع والقنوات، وتأسيس المدارس وإلغاء محاكم التفتيش وتشجيع الزراعة والصناعة والعلوم والآداب والفنون· وحمى الحكم الجديد (الفرنسي) دين الناس لكنه لم يعطِ الحكومة حق قمع المنشقين عن الكنيسة· لقد كان نابليون المتشكك (غير المؤمن بالكاثوليكية) هو الذي خصّص الأموال لإكمال كاتدرائية ميلان، وتم الإسراع بالإجراءات القانونية كلها كما أُدْخل عليها الإصلاح، وأصبح التعذيب مخالفاً للقانون ولم يُعد استخدام اللغة اللاتينية في المحاكمة أمراً لازماً، وفي هذه الفترة (1789 - 1813) لم يكن ينقص جوزيف Joseph ومورا Murat في نابلي ويوجين في ميلان إلاّ أن يكونوا إيطاليين ليحظوا بحب الشعب·
أما الجانب الآخر للصورة فيتمثل في التجنيد الإلزامي والضرائب والاختلاس (بمقادير قليلة) · لقد وضع نابليون نهاية للصوصية وقطع الطرق، لكنه استولى على الأعمال الفنية الشهيرة التي كانت إيطاليا متخمة بها، وفيما يتعلق بالتجنيد الإجباري فقد كانت حجج نابليون هي الأكثر معقولية باعتباره - أي التجنيد الإجباري - وسيلة عادلة لحماية الأمة الجديدة من الفوضى الداخلية والحكم الأجنبي، فالإيطاليون كما قال لابد أن يتذكروا أن الجيش هو الدّعم الأساسي للدولة· لقد آن الأوان أن يكف الشباب العاطل في المدن الكبيرة عن الخوف من متاعب الحروب وأخطارها· وربما كان التجنيد الإجباري مقبولاً كشّرٍ لابد منه لو أن المجنّدين الإيطاليين لم يجدوا أنفسهم عُرضة للذهاب إلى أي جبهة لحماية مصالح نابليون أو فرنسا، لقد تحرك ستة آلاف منهم إلى القنال الإنجليزي في سنة 1803 للانضمام للجيش الفرنسي لغزو إنجلترا، ذلك المشروع الذي كان غير مضمون النتائج· وتحرك ثمانون ألفا منهم ليُقذف بهم بعيداً عن شمس إيطاليا ليعانوا في سهول روسيا ويدهمهم جليدها، ويواجهوا جنود القوزاق Cossacks ·(ملحق/1112)
ولم يوافق الإيطاليون على وطنيّة الضرائب Patriotism of Taxation، ففي حالة الضرائب أيضاً لم يكن العامل الإيطالي يدفع لحماية إيطاليا وحدها وحكمها وتحسين ظروفها، وإنما أيضاً لمساعدة نابليون في مواجهة المصاريف المتزايدة المطلوبة لإدارة إمبراطورياته الممتدّة والمتقلقلة (غير المستقرة) · وكان يوجين يتوقع أن يحظى بحب رعاياه بينما هو يسلب ما في جيوبهم، إذ ارتفعت عوائد الضرائب في مملكته الصغيرة من 82 مليون فرنك في سنة 1805 إلى 144 مليون في سنة 1812، وكان من رأي الإيطاليين أن هذه الأعباء الثقيلة كان من الممكن تحملها بشكل أيسر إذا لم يسلب الحصار القاري الذي فرضه الإمبراطور (نابليون) السوق الإنجليزي من الصناعة الإيطالية، بينما كانت جمارك التصدير والاستيراد التي تجعل فرنسا في الوضع الأكثر رعاية قد كبّلت التجارة الإيطالية بالتعامل مع فرنسا وألمانيا·
وعلى هذا فحتى قبل عودة النمساويين، كان الإيطاليون قد تعبوا من حماية نابليون· لقد شعروا أنهم لم يفقدوا أعمالهم الفنية العظيمة فحسب، وإنما كانوا أيضاً عُرضة لاستنزاف ثرواتهم التي كونوها في سبيل مشروع نابليون لغزو إنجلترا وفتح روسيا، ولم يكن هذا هو حُلم شعرائهم· إنهم يعترفون أن المسئولين الذين عينهم البابا كانوا قد سمحوا بدرجة كبيرة من الفساد والرشوة في الولايات الباباوية ومع هذا فقد ساءتهم المعاملة السيئة التي لاقاها البابا بيوس السابع من المسئولين الفرنسيين كما ساءهم أن يأمر نابليون بسجنه، وأخيراً كرهوا حتى يوجين المحبوب فعلى يديه جرى تنفيذ كثير من مراسيم نابليون التي لم تكن تلقى منهم ترحيباً وقد رفضوا دعْم جهود يوجين لإرسال دعم لنابليون عندما كان عُرضة لهزيمة كاملة (1813) بعد ليبسج (ليبزج) Leipzig· لقد فشلت جهود تحرير إيطاليا بواسطة حكم أجنبي وجيش من الغرباء، وكان على التحرير أن ينتظر وحدة وطنية من خلال جيش إيطالي ورجال دولة إيطاليين وأدب إيطالي·
وقد تنبأ نابليون نفسه بهذه الصعوبات، وكانت حساباته صحيحة هذه المرة، رغم أنه أساء الحساب كثيراً فيما يتعلق بإيطاليا، ففي سنة 1805 - عام تتويجه ملكاً على إيطاليا· قال لبوريين Bourrienne:(ملحق/1113)
"لا يمكن أن يكون اتحاد إيطاليا مع فرنسا إلاّ مؤقتاً، لكنه ضروري لتعويد أمم إيطاليا (المقصود دولها) على العيش معاً في ظل قانون عام· فهناك كراهية متبادلة بين الجُنويين Genoese، والبيدمونتيين Piedmontese، والبنادقة Venetians، والميلانيين وأهل تسكانيا وأهل روما وأهل نابلي·· وروما هي العاصمة الطبيعية لإيطاليا بسبب التراث المرتبط بها· وعلى أية حال، فكي تكون روما كذلك (عاصمة طبيعية) من الضروري تقييد سلطة البابا في نطاق الأمور الروحية الخالصة· إنني لا أستطيع الآن التفكير في هذا لكنني سأنظر فيه مستقبلا·· إن هذه الدول الإيطالية الصغيرة ستصبح تلقائياً معتادة على القوانين نفسها، وعندما تخف حدة عداواتها ستصبح هناك إيطاليا واحدة، وسأجعلها مستقلة· لكن هذا قد يستغرق مني عشرين عاما، ومن منا يستطيع أن يتنبأ بالمستقبل؟ "·
إننا لا نستطيع دوما الثقة في بوريين لكن لا كاس Las Cases روى أن نابليون ذكر ما يشبه فحوى هذا الكلام في سانت هيلينا:
"لقد زرعتُ في قلوب الإيطاليين مبادئ لا يمكن انتزاعها أبداً، فعاجلاً أم آجلاً سيتحقق البعث الإيطالي".
وقد حدث هذا بالفعل·(ملحق/1114)
الفصل السابع والعشرون
النمسا
من 1780 إلى 1812 م
1 - أباطرة متنورون: 1780 - 1792
في سنة 1789 كانت النمسا واحدة من دول أوربا الكبرى معتزّة بتاريخها وثقافتها وقوتها وبإمبراطوريتها الأوسع كثيرا من النمسا ذاتها· واسم النمسا (أوستريا Austria) من كلمة (أوستر Auster) التي تعني ريح الجنوب ثم انصرف معناها ليعني شعبا صارما تيوتونيا Teutonically وإن كان - رغم صرامته - حسن الطباع محباً للفكاهة يشارك بسعادة في مباهج الحياة ويشارك الإيطاليين جنونهم بالموسيقى· وكانت النمسا أمة سلتية Celtic عندما غزاها الرومان قبل ظهور المسيح بفترة وجيزة، وظهر أنها احتفظت عبر ألفي سنة بشيء من حيوية السلتيين وثقافتهم وذكائهم، وشيد الرومان في فيندوبونا Vindobona ( التي أصبحت فيينا Vienna ثم فِيِن Wien) قاعدة أمامية لحضارتهم في مواجهة البرابرة المتطفّلين المهاجمين،(ملحق/1115)
وفي هذا الموضع كبح ماركوس أوريليوس Marcus Aurelius الماركوماني Marcomanni في نحو 170م - بين أفكار ذهبية، وفي هذا المكان وضع شارلمان العلامة الشرقية East Mark أو الحدود الشرقية لمملكته، وفي هذا المكان، في سنة 955 م أقام أوتو Otto العظيم مملكته الشرقية his Osterreich في مواجهة الماجيار Magyars، وفي هذا الموضع في سنة 1278 أسس رودلف الهابسبورجي Rudolf of Hapsburg ( من أسرة الهابسبورج) حكم أسرة حاكمة استمر حكمها حتى سنة 1918· وفي الفترة من 1618 إلى 1648 هبت ريح الجنوب كاثوليكية عنيفة فهبت العقيدة القديمة في مواجهة العقيدة الجديدة واستعرت الحرب بينهما ثلاثين عاما، وتدعّمت تلك العقيدة عندما وقفت فيينا في سنة 1683 وللمرة الثانية كحصن للدفاع عن العالم المسيحي بصدها التقدم التركي (العثماني) ·
وفي هذه الأثناء نشرت أسرة الهابسبورج الحاكمة حكم النمسا على الدوقيات المجاورة: ستيريا Styria، وكارنثيا Carinthia وكارنيولا Carniola والتيرول Tirol وعلى بوهيميا Bohemia ( تشيكوسلوفاكيا) وترانسلفانيا Transylvania ( رومانيا) والمجر (هنجاريا) وجاليسيا Galicia البولندية ولومبارديا Lombardy والأراضي المنخفضة الإسبانية (بلجيكا) · وعندما دقّ نابليون بوابات فيينا للمرة الأولى في سنة 1797 كان هذا هو وضع إمبراطورية النمسا ذات الممتلكات المبعثرة على هذا النحو ووصل الهابسبورج أَوْجهم في عهد ماريا تريزا Maria Theresa ( حكمت من 1740 إلى 1780)، هذه الأم العنيدة المدهشة التي نافست كاترين الثانية Catherine II وفريدريك الكبير بين ملوك عصرها·(ملحق/1116)
لقد فقدت سيليزيا Silesia أمام دهاء فريدريك المكيافيللي لكنها - بعد ذلك - حاربته مع شعبها وحلفائها حتى وصل الطرفان إلى طريق مسدود، واستنزفتهما الحرب تماما، وعاشت لتضع خمسة من أبنائها البالغين ستة عشر ابناً على عروش مختلفة: جوزيف في فيينا وليوبولد في تسكانيا Leopold in Tuscany، وماريا أماليا Maria Amalia في بارما Parma وماريا كارولينا في نابلي وماري أنطوانيت في فرنسا· ونقلت مملكتها على كُره منها لابنها الأكبر، لأنها كانت منزعجة لعدم يقينه الديني (كان لا أدرياً) كما كان ميّالاً للإصلاح، وتنبأت أن شعبها الراسخ في حبه لها لن يكون سعيداً إذا حدث ما يُعكر صفو عقائده التقليدية وأساليبه المعتادة في الحياة·
وبدا حكمها صائباً بسبب الاضطرابات التي أربكت جوزيف الذي شاركها العرش من سنة 1765 إلى 1780 ثم تبوّأه عشر سنوات أخرى· لقد صدم الأرستقراطية بتحريره أقنان الأرض Serfs، وصدم السكان الكاثوليك ذوي الشوكة بإعجابه بفولتير وبسماحه للبروتستنت بممارسة طرائقهم في العبادة، وبإزعاجه المستمر للبابا بيوس السادس Pius VI · وكان عليه أن يعترف في أواخر أيامه، وكان جهازه الإداري المحيط به غير مؤيّد له لأن الفلاحين الذين انفصلوا فجأة عن سادتهم الإقطاعيين قد أساءوا استخدام حريتهم، وأنه قد عطّل المسيرة الاقتصادية وأنه قد كان سببا في ثورة الطبقات العليا في المجر والأراضي المنخفضة النمساوية بل لقد هدّد وجود الإمبراطورية النمساوية نفسها، لقد كانت أهدافه خيّرة لكن أساليبه في الحكم كانت قائمة على إصدارة ما لا حصد له من القرارات والمراسيم التي تفرض النتائج ولا تهيّئ الأسباب أو بتعبير آخر لا تضع وسائل التنفيذ في الاعتبار·
لقد قال عنه فريدريك الكبير: "إنه دائماً يتخذ الخطوة الثانية قبل الخطوة الأولى" ومات في 20 فبراير سنة 1790 آسفا على إجراءاته الطائشة المندفعة، حزيناً على النزوع العام للمحافظة ذلك النزوع الذي يُفضِّل كثيراً ما هو مألوف معتاد على إجراء الإصلاح المطلوب·(ملحق/1117)
أما أخوه ليوبولد فقد شاركه أهدافه ولكنه لم يشاركه تعجّله، فرغم أنه كان في الثامنة عشرة من عمره فحسب عندما تولّى منصب دوق تسكانيا الكبير (1765) إلاّ أنه باشر سلطته بحذر وجمع حوله إيطاليين ناضجين (مثل سيزاري بيكاريا Cesare Beccaria) وأدرك طبيعة الشعب وتآلف معها، وعرف احتياجات الدوقية وإمكاناتها، وبذلك قدّم لمملكته التاريخية حكومة كانت موضع حسد أوربا· وعندما أدّى موت أخيه إلى وصوله لمرتبة القيادة الإمبراطورية كان قد أصبح ذا خبرة امتدت خمسة وعشرين عاماً، فخفّف من حدة بعض إصلاحات أخيه (جوزيف) فجعلها أكثر اعتدالاً، وألغى بعضها الآخر، لكنه اعترف تماماً بالتزام الإمبراطور المتنوّر بزيادة فرص التعليم لشعبه، وتوسيع المجالات الاقتصادية أمامه·
لقد سحب الجيش النمساوي الذي كان أخوه قد أعدّه دون تقدير للعواقب لمهاجمة تركيا (الدولة العثمانية) واستخدمه لحث بلجيكا على العودة للتحالف مع النمسا· وهدّأ نبلاء المجر بالاعتراف بالدايت Diet المجري ودستور المجر، وهدّأ البوهيميين Bohemians بأن أعاد إلى براغ تاج ملوك بوهيميا القدماء وقبل التتويج هناك في كاتدرائية القديس فيتس Vitus· لقد علم أن الملك يمكن ألا يكون له مكان إذا تم الحفاظ على الشكل·
وفي هذه الأثناء قاوم محاولات المهاجرين الفرنسيين (الذين تركوا فرنسا إثر أحداث الثورة الفرنسية) وملوك أوربا لجرّه إلى حرب مع فرنسا الثورة· لقد شعر بمأزق أخته الأصغر منه - ماري أنطوانيت، لكنه خشي أن تؤدي حربه مع فرنسا إلى فقدانه بلجيكا التي لازالت الأحوال فيها غير مستقرة· ومع هذا فعندما توقف لويس السادس عشر وماري أنطوانيت في هروبهما عند فارين Varennes وأُعيدا إلى باريس ليعيشا حياة يتعرضان فيها للخطر كل يوم اقترح ليوبولد على الملوك الموالين له أن يتخذوا إجراء موحّداً لضبط الثورة الفرنسية والسيطرة عليها فالتقى فريدريك وليم الثاني البروسي مع ليوبولد في بلنيتز Pillnitz ووقعا معا إعلانا (في 27 أغسطس 1791) هددا فيه بالتدخل في شؤون فرنسا·(ملحق/1118)
وبقبول لويس السادس عشر لدستور الثورة الفرنسية (13 سبتمبر)، بدا هذا الإعلان بلا معنى، لكن الفوضى استمرت وزادت وأصبح الملك الفرنسي والملكة الفرنسية مرة أخرى في خطر، فنظَّم ليوبولد التعبئة العامة في الجيش النمساوي، وطلبت الجمعية الوطنية الفرنسية تفسيراً لهذا غير أن ليوبولد مات (أول مارس 1792) قبل أن تصله رسالة الجمعية الوطنية الفرنسية· ورفض ابنه وخليفته فرانسيس الثاني (24 عاماً) الإنذار، وفي 20 أبريل أعلنت فرنسا الحربَ على النمسا·
2 - فرانسيس الثاني FRANCIS
تلك القصة وصلتنا من وجهة نظر فرنسية فما هي وجهة نظر النمساويين وكيف شعروا بهذا الأمر؟ لقد سمعوا أن أرشدوقتهم Archduchess - التي كان جمالها قد أطلق عنان فصاحة إدموند بورك Edmund Burke - يحتقرها أهل باريس ويُطلقون عليها ساخرين (المرأة النمساوية L'Autrichienne) وأن جماهير باريس جعلوها سجينة قصر التوليري، وأن الجمعية الوطنية الفرنسية خلعتها بعد ذلك وأودعتها السجن· لقد سمعوا عن مذابح سبتمبر وكيف أن رأس الأميرة دي لامبل de Lamballe المتصلب قد يُعرض على رأس رمح على مرأى من الملكة التي كانت تحبها·
لقد سمعوا أن الشيب غزا شعرها، وأنها ركبت عرب السجناء في طريقها لتُعدم بالمقصلة وحولها جمع غفير من الجماهير يسخرون منها· ولم يكن هناك ما هو أكثر من هذا يجعلهم يجأرون لإمبراطورهم الشاب ليقودهم في حرب ضد هؤلاء الفرنسيين القتلة، ولا يهم أنه كان ذا عقل متوسط وأنه كان إمبراطوراً خيّراً لكنه غير متقِن، وأنه اختار جنرالات غير أكفاء وأنه سلَّم النمسا جزءاً بعد جزء وترك عاصمتها تحت رحمة الغازي، فهذه الهزائم جعلت النمساويين يحبون فرانسيس أكثر،(ملحق/1119)
لقد بدا لهم الحاكم الذي عينته العناية الإلهية وكرّسه البابا وتبوأ العرش بشرعية لا تقبل التحدي وأنه كان يدافع عن شعبه بقدر ما يستطيع ضد البرابرة القتلة وهو الآن يدافع عنهم ضد الشيطان الكورسيكي Corsican ( نابليون)، إن رفضه لكل ما هو ليبرالي مما تركه عمه وأبوه، وإعادته للسخرة والرسوم الإقطاعية ورفضه لأي تحوّل من الأوتوقراطية إلى الحكم الدستوري - كل ذلك كان مغفوراً له مُتسامحاً فيه بعد أوسترليتز Austerlitz وبريسبورج Pressburg· لقد دخل عاصمته مرة أخرى مضروباً مهزوماً منهوباً· لقد أخلص له شعبه إخلاصاً لا مزيد عليه · إن الشعب النمساوي لم ير في كل الأحداث المتلاحقة طوال السنوات الثماني الآتية التي انتصر فيها الشر سوى أن حاكمهم الطيب سينتقم لا محالة من أعداء النمسا وسيستعيد كلَّ سلطانه وممتلكاته التي ورثها، وكانوا على يقين من هذا كيقينهم بأن الرب موجود·
3 - ميترنيخ METTERNICH
لقد كان الرجلُ الذي قاد فرانسيس الثاني لهذا الإنجاز قد وُلد في كوبلنتس Coblenz ( كوبلنز) على شاطئ الراين في 15 مايو سنة 1773 وجرى تعميده باسم كليمنس فنزل فون ميترنيخ Klemens Wenzel Von Metternich وكان هو الابن الأكبر للأمير فرانتس (فرانز) جورج كارل فون ميترنيخ Franz Georg Karl von Metternich ممثل النمسا في بلاطات الأمراء الناخبين Electors الأمراء من (الأمراء المؤهلين لاختيار رأس الإمبراطورية) في كل من تريير Trier ومينز Mainz وكولوني Cologne · وتلقى الصبي اسميه الأوليين من أول هؤلاء الحكام الإكليريكيين ولم ينس أبداً ارتباطه الديني وولاءه خلال نزوعه لأفكار فولتير في شبابه ونزوعه لأفكار مكيافيللي عند توليه الوزارة·(ملحق/1120)
وكان من أسمائه أيضاً لُوثَر لتذكير أوربا أن أحد أجداده الذين حملوا هذا الاسم حكم تريير Trier في القرن السابع عشر· وأحياناً كان يضيف إلى اسمه (فينبرج بيلشتين Winneburg Beilstein) ليشير إلى الممتلكات التي كانت الأسرة قد امتلكتها طوال ثمانية قرون وأن الخمسة والسبعين ميلا مربعاً التي امتلكتها أسرته هي مبرر كافٍ للفظ الدّال على النبالة الذي يحمله وهو (فون Von) من الواضح أن الرجل لم يُخلق ليحب الثورات أو يقودها·
تلقى تعليماً مناسباً لوضعه من معلم لقنه أفكار الحركة التنويرية الفرنسية ثم تعلم في جامعة ستراسبورج، وعندما شعر أساتذة هذه الجامعة بشيء من الرجفة لسقوط الباستيل تمّ نقله إلى جامعة مينز حيث درس القانون كعلم لحقوق الملكية وكعلم يستشهد بالسوابق· وفي سنة 1794 حاصر الفرنسيون كوبلنز Coblenz باعتبارها مأوى للمهاجرين الفرنسيين المحرّضين (الذين تركوا فرنسا إثر أحداث الثورة الفرنسية)، وأمم الفرنسيون كل ممتلكات آل ميترنيخ تقريباً، فلجأت الأسرة إلى فيينا، وتودّد كليمنس الطويل الرياضي الأنيق إلى إليونور فون كاونتز Eleonore Von Kaunitz فكسب ودها وهي حفيدة ثرية لرجل الدولة الذي كان قد جمع بين النمسا الهابسبورجية وفرنسا البوربونية· وقد أخذ عن عروسه فنون الدبلوماسية ممثلة في انحناءات الاحترام التي لا معنى لها، وسرعان ما أصبح متمرساً في فن الخداع والمداهنة·
وفي سنة 1802 وكان وقتها في الثامنة والعشرين من عمره، تمّ تعيينه وزيراً في بلاط سكسونيا، وهناك التقى بفريدرتش فون جنتز (جنتس) Friedrich Von Gentz الذي أصبح ناصحه المخلص والناطق باسمه طوال الثلاثين عاماً التالية وسلَّحه بمعظم الحجج التي تؤيد الرجوع إلى الأوضاع السابقة على الثورة الفرنسية· وإخلاصاً منه للنظم التي كانت سائدة قبل الثورة الفرنسية Ancien Regime اتخذ له خليلة هي كاتارينا باجراسيون Katharina Bagration وهي ابنة جنرال روسي سنتحدث عنه مرة أخرى بعد ذلك، وكانت في الثامنة عشرة من عمرها·(ملحق/1121)
وفي سنة 1802 وضعت له طفلة اعترفت زوجته بأبوّته لها · واعترفت فيينا بتقدمه فعينته (1803) سفيراً للنمسا في برلين· وفي أثناء الأعوام الثلاثة التي قضاها في بروسيا التقى بالقصير إسكندر الأول وكوّن معه صداقة استمرت حتى الإطاحة بنابليون· وعلى أية حالة، فإن هذا لم يكن في حساب نابليون عندما طلب من الحكومة النمساوية بعد معركة أوسترليتز أن ترسل واحدا من الكاونتز كسفير لها في فرنسا، فأرسل له وزير خارجية النمسا الكونت فيليب فون شتاديون Stadion - ميترنيخ الذي وصل باريس في 2 أغسطس 1806 وكان وقتها في الثالثة والثلاثين من عمره·
والآن بدأت معركة استمرت تسعة أعوام عامرة بالدهاء والذكاء بين الدبلوماسية والحرب انتصر فيها الدبلوماسي بتعاونه مع الجنرال· وليسترخي ميترنيخ مبتعداً عن عيني نابليون النفاذتين، وعن زوجته (أي زوجة ميترنيخ) المملّة الباردة جنسيا - راح يسلّي نفسه مع مدام لور جونو Laure Junot زوجة حاكم باريس وقتها، لكنه لم ينس أن النمسا كانت تتوقع منه أن يَسْبر أغوار عقل نابليون ويعرف أهدافه ويكتشف كل إمكانيات تحقيق مصالح النمسا· لقد كان كلا الرجلين معجباً بالآخر· لقد كتب ميترنيخ إلى جنتس في سنة 1806 إن: "نابليون هو الرجل الوحيد في أوربا الذي يفعل ما يريد". كما وجد نابليون في ميترنيخ فكراً ثاقباً كفكره وفي هذا الأثناء تعلم النمساويون الكثير بدراستهم لتاليران Talleyrand ·
وقضى ميترنيخ ثلاثة أعوام سفيراً في باريس ورأى برضاً أخفاه الشرَّكَ الذي وقع فيه الجيش الفرنسي العظيم في أسبانيا، وحاول - ولكنه فشل - أن يخفي عن نابليون أن النمسا تتسلَّح من جديد لبذل محاولة أخرى للإطاحة به· وغادر باريس في 25 مايو سنة 1809 ولحق بفرانسيس الثاني على الجبهة وشهد هزيمة النمسا في واجرام (فاجرام Wagram) ، واستقال شتاديون من إدارة دفة السياسة بعد أن أصابه الإحباط لفشل مغامرته العسكرية، فعرض فرانسيس المنصب على ميترنيخ في 8 أكتوبر 1809 فقبله وكان وقتها في السادسة والثلاثين من عمره، وبدأ بذلك مهامه وزيراً للأسرة الإمبراطورية ومسئولاً عن الشؤون الخارجية، واستمر في منصبه هذا تسعاً وثلاثين سنة·(ملحق/1122)
وفي يناير سنة 1810 وجد الجنرال جونو Junot في مكتب زوجته بعض خطابات الحب أرسلها إليها ميترنيخ فحاول خنقها وكاد ينجح وأقسم أن يتحدى الوزير الممتلئ نشاطاً ليبارزه في مينز، وأنهى نابليون النزاع بإرسال الجنرال وزوجته إلى أسبانيا، ومن الظاهر أن هذه الحكاية لم تدمّر سمعة ميترنيخ ولا زواجه ولا وضعه في الحكومة النمساوية، فقد شارك في ترتيب زواج نابليون من الدوقة النمساوية ماري لويز Marie Louise ( ماريا لويس)، وابتهج عندما علم بأن هذا التقارب الفرنسي النمساوي قد أغضب روسيا، وراح يراقب التوتر يزداد بين هذين القطبين الأوربيين المصارعين· لقد كان يأمل ويخطط لإضعاف الإمبراطوريتين الفرنسية والروسية فهذا يمكن النمسا من استعادة الأراضي التي فقدتها واستعادة مكانتها العالية وسط القوى المتصارعة·
4 - فيينا VIENNA
خلف أسوار الحرب عاش أهل فيينا المسالمون الوديعون· إنهم خليط متسامح صبور - بقدر معقول - من الألمان والمجريين والتشيك والسلوفاك Slovaks والكروات والمورافيين Moravians والفرنسيين والإيطاليين والبولنديين والروس 190,000 نفس· وكانت غالبيتهم العظمى من الكاثوليك التابعين لبابا روما (الروم الكاثوليك) وكانوا - إذ سمحت لهم ظروفهم - يتعبدون في ضريح القديس حامي المدينة في كنيسة القديس ستيفن St. Stephen وكانت شوارعها في غالبها ضيِّقة وإن كانت هناك بعض الشوارع الفسيحة التي تكتنفها الأشجار والممهدة تمهيداً جيداً·
وتتحلَّق المباني الملكية الفخمة حول مبنى البلاط الإمبراطوري الذي يشغله الإمبراطور وأسرته وشاغلوا المناصب الأساسية في الحكومة ويمر نهر الدانوب (الأزرق) على طول حافة المدينة حاملاً التجارة والمسرات في فوضى محبّبة، وفي اتجاه النهر يُطلق على المتنزّه اسم المرج Prater حيث يُتاح لكل شاب وشيخ مجال للتنزه بالعربات التي تجرها الخيول أو التنزه سيراً على الأقدام بالنسبة إلى السائرين المحظوظين الذين يحبون الأشجار ورائحة الزهور وأوراق الشجر وشقشقة الطيور وألحانها الشجية، واللقاء بين هذه المناظر الخلابة والألحان الشجية·(ملحق/1123)
وبشكل عام فإن أهل فيينا أناس طيِّعون سهلوا الانقياد حسنوا السلوك، وهم يختلفون اختلافاً تاماً عن أهل باريس الذين يكرهون نبلاءهم ويتشككون في ملوكهم ويشكّون في وجود الرّب· ويوجد في فيينا نبلاء كما في باريس، لكن نبلاء فيينا يرقصون ويعزفون الموسيقى في قصورهم ويحترمون من هم دونهم ولا يتَّسمون بالتفاخر والادعاء ويموتون حبا في التودد للنساء، وكانت كل هذه الصفات بطبيعة الحال غير مجدية في مواجهة جيوش نابليون المحبة للقتال· وكان الوعي الطبقي أكثر حدة لدى الشرائح العليا من الطبقة الوسطى التي كونت ثروات بتوريدها مستلزمات الجيش أو بإقراضها أفراد الطبقة الأرستقراطية الذين تعرضوا للفقر أو بإقراضها الدولة التي كانت تحارب، وتخسر الحرب دائما·
وبدأت الطبقة الأرستقراطية تتشكل فبحلول عام 1810 كان هناك ما يزيد على مئة مصنع في فيينا وبالقرب منها، وكان بهذه المصانع نحو 27,000 عامل وعاملة، وكانت أجورهم تكفي - بشق الأنفس - للعيش والتكاثر · وفي وقت باكر يرجع لسنة 1811 ظهرت الشكاوى من أن مصانع المواد الكيماوية ومصافي البترول تلوِّث الجو · وكانت التجارة تتطوّر، ومما ساعد على تطورها ما أتاحه ميناء تريسته Trieste من تيسيرات لتجارة النمسا في البحر الأدرياتك، وكذلك نهر الدانوب الذي يمر بمئات المدن بالإضافة لبودابست، ويصل - أي النهر - إلى البحر الأسود· وبعد محاولة نابليون في سنة 1806 إقصاء البضائع الأوروبية عن القارة الأوروبية، وكذلك بعد الهيمنة الفرنسية على إيطاليا وَهَنَت أوضاع التجارة والصناعة في النمسا، وأصبحت مئات الأسر تُعاني البطالة والفقر المدقع·(ملحق/1124)
أما أمور المالية، فكانت في غالبها في أيدي اليهود إذ أدَّى حرمانهم من الاستثمار الزراعي والصناعي إلى أن أصبحوا خبراء في التعاملات المالية· وضارع بعض البنكيين اليهود الإسترهازي the Esterhazys في بهاء منشآتهم وعظمتها وأصبح بعضهم أصدقاء أثيرين للأباطرة، وكُرِّم بعضهم باعتبارهم مُنقذين للدولة· ومنح جوزيف الثاني بعض البنكيين اليهود رُتب النبالة تقديراً لوطنيتهم· وكان الإمبراطور يحب عن نحو خاص زيارة ناتان فون أرنشتين Nathan Von Arnstein في بيته حيثُ كان يستطيع مناقشة أمور الأدب والفكر والموسيقى مع الزوجة الجميلة لهذا البنكي اليهودي· إنها فاني إيتسج Fanny Itzig المثقفة المتعدّدة المواهب التي كانت صاحبة أفضل صالونات فيينا ·
وكان النبلاء يُسيِّرون أمور الحكومة بكفاءة متوسطة وبغير كثير من الأمانة، وقد نعى جيرمي بنثام Jeremy Bentham في خطاب مؤرّخ في 7 يوليو 1817:
"الفساد التام الذي يسود دولة النمسا ويَئس لأنه لم يجد فيها شخصاً شريفا ولم يكن لأيٍ من العوام أن يطمح للوصول إلى منصب قيادي في الجيش أو الحكومة"، لهذا "لم يكن أي من البيروقراطيين (الإداريين) أو الجنود ليبذل الجهد متحملاً الآلام أو المخاطرة للترقي"·
فامتلأت صفوف الجيش بالمتطوعين الكسالى أو المجنَّدين إلزامياً أو بالمتسولين المكرهين على الخدمة والمجرمين والراديكاليين، فلا عجب إذن أن كانت الجيوش النمساوية تتعرض لهزيمة منكرة أمام الكتائب الفرنسية التي كان يمكن لأي فرد فيها أن يصل إلى رتبة القيادة بل وينضم إلى جماعة الدوقات المحيطين بنابليون·
أما النظام الاجتماعي فقد كان يضبطه الجيش والبوليس والعقيدة الدينية· ورفض الهابسبورج Hapsburg الحركة الدينية الإصلاحية (حركة لوثر ورفاقه) وأبقوا على الولاء للكنيسة الكاثوليكية واعتمدوا على إكليروسها المدربين جيدا للتدريس في المدارس وإحكام الرقابة على الصحف وتنشئة كل طفل مسيحي على عقيدة تؤكد مبدأ وراثة العرش كحق إلهي، وتجعل الفقر والأحزان شيئاً مريحاً يُكافأ عليهما المرء في الحياة الأخرى كما تَعِدُ بذلك العقيدة الدينية·(ملحق/1125)
وكانت الكنائس الكبرى (مثل سيتفانسكيرش Stefanskirche وكارلزكيرش Karlskirche) تقدم طقوساً وقورة مصحوبة بالأغاني والمباخر التي يتصاعد منها البخور والدعوات (الصلوات) الجماعية التي تمجدها الجماهير، والتي كان البروتستنت مثل باخ Bach والمتشككون مثل بيتهوفن يتوقون لتقديمها· وكانت المواكب الدينية مصحوبة بشكل دوري بالأعمال الدرامية التي تقدمها في الشوارع لتذكير رجل الشارع بحياة القديسين وشهداء العقيدة والاحتفاء بالتواضع والرحمة اللتين تميزان ملكة فيينا، والأم العذراء· وبالإضافة للخوف من جهنم وبعض المشاهد المأسوية لتعذيب القديسين، فقد كانت هذه الأمور تمثل ديناً مُريحاً طالما جرى تقديمه للبشرية·
وتُرِك التعليم في المرحلة الأساسية والمرحلة الثانوية لتتولاّه الكنيسة، وكان الأساتذة في جامعتي فيينا Vienna وأنجولشتادت Ingolstadt وإنسبروك Innsbruck من الجزويت Jesuits ( اليسوعيين)، وتم إيقاف كل الأفكار الفولتيرية عند حدود النمسا بمعنى أنه لم يُسمح لها بالتغلغل كما تم إغلاق أبواب فيينا في وجهها· وكان المفكرون الأحرار يمثلون قلة قليلة، وكان بعض المحافل الماسونية Freemason قد ظل باقياً بعد محاولة ماريا تريزا تدميرها (أي تدمير هذه المؤسسات الماسونية) إذ حافظت بعض هذه المحافل والجمعيات على أفكار معتدلة بضرورة مقاومة تدخل الإكليروس في الحياة العامة، كان من الممكن أن يأخذ بها حتى الكاثوليكي المتمسك بكاثوليكيته، كما أخذت هذه الجمعيات والمحافل ببرنامج للإصلاح الاجتماعي أيّده الإمبراطور·
ولهذا كان موزارت Mozart - وهو كاثوليكي متمسك تمسكاً شديداً بكاثوليكيته - ماسونياً، وانضم جوزيف الثاني للتنظيم السرّي (للماسونية) ووافق على مبادئ الإصلاح بل وحوَّل بعضها إلى قوانين· وبقيت جمعية سرية راديكالية أخرى هي جمعية الإليوميناتي Illuminati، وكان آدم فيشوبت Adam Weishaupt الجزويتي (اليسوعي) الذي نبذه الجزويت (اليسوعيون) قد أسس هذه الجمعية السرّية (الإليوميناتي) في سنة 1776، لكن هذه الجمعية لم تكن منتعشة بالمقارنة بالجمعيات الأخرى· وجدّد ليوبولد الثاني قرار أمّه بمنع كل الجمعيات السرّية·(ملحق/1126)
وقد حققت الكنيسة بشكل طيب مهامها في تعليم الناس الوطنية والإحسان والانضباط الاجتماعي والالتزام بالمحرمات في العلاقات الجنسية· وقد ذكرت مدام دي ستيل de Stael في سنة 1804:
" أنت لا تلتقي أبداً بمتسوّل·· فالمؤسسات الخيرية منظمة بانضباط شديد، ويُقيمها من يشاء دون مانع· إن كل شيء يحمل الطابع الأبوي لحكومة دينية حكيمة "
ويلتزم العامة - بشكل حر - بتجنب المحرمات الجنسية، لكن الطبقات العليا أكثر تسيّباً في هذا الشأن فللرجال في هذه الطبقة خليلات وللنساء عشّاق·
واعترض بيتهوفن - فيما يقول ثاير Thayer: " على ممارسة كانت غير قليلة الانتشار في فيينا على أيامه وهي أن يعيش المرء مع امرأة غير متزوجة"، حياة الأزواج لكن قوّة الروابط داخل الأسرة كانت أمراً معتاداً، وظلت سلطة الأب قائمة، وكانت العادات معتدلة لطيفة ولم تكن المشاعر الثورية لتلقى ترحاباً كبيراً· كتبت بيتهوفن في 2 أغسطس سنة 1794:
" أعتقد أن النمساوي لن يثور طالما كانت لديه جعّته (البيرة) الداكنة وسجقه sausage " ( السجق هو النقانق) ·
وكان رجل فيينا النمطي (التقليدي) يفضّل أن تُولم له (أي تدعوه لوليمة) أو تحتفي به أكثر من تفضيله للإصلاح· لقد كان بالفعل ينفق بنساته القليلة (قطع العملة القليلة القيمة، وكان من هذه العملات السائدة في فيينا الجروشن groschen والكروزر Kreuzers) لمشاهدة نيكلوس روجر Niklos Roger ذلك الحاوي الإسباني الذي يدَّعي أنه محصن ضد النار (لا يحترق) وإن استطاع ابن فيينا تدبير قطعة عملة أخرى لعب البلياردو أو كرة البولنج·(ملحق/1127)
وكانت فيينا وضواحيها تغص بالمقاهي - نسبة إلى مشروب القهوة الذي أصبح الآن ينافس البيرة (الجعّة) كمشروب محبّب· وكانت المقاهي هي نوادي الفقراء، إذ كان أهل فيينا من الطبقات الصاعدة يذهبون إلى البيرهولن Bierhallen التي كانت الحدائق الجميلة تحيط بها، وكان بها قاعات حسنة حيث كان في مقدور الأثرياء أن يفقدوا أموالهم في المقامرة كما كان في مقدورهم الذهاب إلى الحفلات التنكرية حيث يرقص مئات الأزواج والزوجات معاً وفي الوقت نفسه، في صالات مغلقة (ريدوتنستال Redoutensaal) ، وحتى قبل أيام جوهان شتراوس Johann Strauss (1804 - 1849) كان رجال فيينا ونساؤها وكأنهم قد خُلقوا ليرقصوا· وذابت الممنوعات والمحرّمات في ثنايا رقصات الفالس waltz، لقد أصبح في مقدور الرجل الآن أن يسعد بالالتصاق الذي يحقق الرعشة مع من يراقصها، ويدور بها دورانا مجنونا، واحتجت الكنيسة لكنها تسامحت (غفرت) ·
5 - الفنون
انتعش المسرح في فيينا على كل مستوياته ابتداء من الاسكتشات sketches التافهة في المسارح التي تقدم أعمالاً مُرتجلة (غير معدَّة سلفاً) إلى الدراما الكلاسيكية في المسارح الراقية ذوات الديكورات المكلِّفة· وكان أقدم المسارح وأكثرها انتظاماً هو الكيرنتنيرثور Karntnerthor الذي شيدته البلدية في سنة 1708، وفي هذا المسرح وجدنا الكاتب المسرحي جوزيف أنطون سترانيتسكي John Anton Stranitsky ( توفي 1726) يبني على شخصية أرليشينو Arlecchino ( هارلكوين Harlequin) الإيطالية، فيخلق ويطوّر شخصية هانزفيرست Hanswurst أو جون بولوني John Boloney المهرّج الضاحك المهرج الذي هجا الألمان - في الجنوب والشمال - سخافاتهم المحبّبة من خلاله·(ملحق/1128)
وفي سنة 1776 دعم جوزيف الثاني وموَّل البيرجثيتر the Burgtheater الذي وعدت واجهته الكلاسيكية بأفضل المسرحيات الكلاسيكية والحديثة· وكان أكثر المسارح فخامة وترفا هو مسرح آن دير فين Theater-an-der-Wien ( على نهر فين Wien) الذي شيّده في سنة 1793 جوهان (يوهان) إيمانويل شيكاندر Johann Emanuel Schikaneder الذي كتب النّص الأوبرالي libretto للفلوت السحرية magic Flute لموزارت (1791) وقد زوّد مسرحه بكل أساليب الحيل الميكانيكية (المسرحية) المعروفة لتغيير المشاهد في عصره، وقد أدهش روّاد مسرحه بالمشاهد المسرحية التي تفوق الحقيقة فكسب لمسرحه ميزة تقديم العرض الأول لفيدليو Fidelio لبيتهوفن·
ولم يكن في ذلك الوقت فن آخر ينافس الدراما في فيينا سوى فن واحد· إنه ليس فن العمارة لأن النمسا كانت قد أنهت في سنة 1789 عصرها الذهبي الذي تميز بطراز الباروك · إنه ليس الأدب لأن الكنيسة أناخت بكلكلها على فكر العباقرة كما أن عصر جريليبارتسر Grillparzer (1791 - 1872) لم يكن إلا في بدايته· وفي فيينا ذكرت مدام دي سيتل أن الناس لا يقرءون إلا قليلاً فقد كانت الصحف اليومية تكفي لإشباع حاجاتهم الأدبية كما هو الحال في بعض المدن اليوم، وكانت صحيفتا Wiener Zeitung ( صحيفة ابن فيينا)، و Wiener Zeitschrift، صحيفتين ممتازتين·
وكانت الموسيقى بطبيعة الحال هي الفن الأعلى مقاماً في فيينا فقد كانت الموسيقى في النمسا وألمانيا أقرب ما تكون إلى محلّى يفضله العامة كهواية أكثر من كونها عملا يحترفه المحترفون· فقد كان النمساويون والألمان يعتبرون بيوتهم ينبوع الحضارة وحصنها، فقد كان غالب الأسر المتعلمة لدى كل منها آلات موسيقية وكان يمكن لبعضها تقديم مقطوعات موسيقية تشترك في أدائها أربع آلات (أو بتعبير آخر تقديم مقطوعات رباعية)، وبين الحين والآخر كان يجري تنظيم كونشرتات لمشتركين دفعوا - سلفاً - ثمن حضورهم، لكن الكونشرتات العامة (الحفلات الموسيقية العامة) التي يُتاح حضورها للعامة كانت أمراً نادرا· وبذلك كانت فيينا مدينة مزدحمة بالموسيقيين الذين أفقر بعضهم بعضاً بسبب كثرتهم·(ملحق/1129)
فكيف بقي هؤلاء الموسيقيون؟ لقد كان ذلك في غالبه بسبب قبولهم دعوات (أو حتى بدون دعوة تضمن لهم حقوقهم المالية بعد ذلك) النبلاء الأثرياء ورجال الإكليروس ورجال الأعمال أو بتأليف مقطوعات موسيقية وإهدائها إليهم· لقد ظل حب الموسيقى ورعايتها تراثاً وتقليدا توارثه حكام أسرة الهابسبورج طوال قرنين، واستمر ذلك بشكل فعّال في فترة حكم جوزيف الثاني وليوبولد الثاني وابن ليوبولد الأصغر ونعني به الأرشدوق ردولف Rudolf (1788 - 1831) الذي كان تلميذا لبيتهوفن وراعياً له في الوقت نفسه·
وقدمت أسرة الإسترهازي the Esterhazy كثيرين ممن دعموا الموسيقى ورعوها، لقد رأينا الأمير ميكلوس جوزيف إسترهازي Miklos Jozsef Esterhazy (1714 - 1790) يرعى هايدن Hayden طوال ثلاثين عاماً كقائد للأوركسترا في قصر Schloss إسترهازي، الذي يُعد فيرساي المجر Versailles of Hungary· وارتبط حفيده الأمير ميلكوس نيكولاس إسترهازي Milkos Nicolaus Esterhazy (1765 - 1833) مع بيتهوفن لتأليف مقطوعات موسيقية لأوركسترا الأسرة· وكان الأمير كارل ليشنوفسكي Lichnowsky (1753 - 1814) صديقاً حميما - وراعياً - لبيتهوفن وآواه في قصره لفترة من الزمن· وقد شَرُف الأمير جوز فران لوبكوفتس Lobkowitz وهو سليل أسرة بوهيمية عريقة، والأرشيدوق رودلف والكونت كينسكي Kinsky بتقديم العون المالي لبيتهوفن حتى وافته منيته·
ولابد أن نضيف إلى هؤلاء البارون جود فريد فان شفيتن Gottfried Van Swieten (1734 - 1803) الذي ساعد موسيقيين آخرين برعايته وجهوده ومهارته في جمع شملهم مع المتعاقدين معهم، أكثر من رعايته لهم بتقديم أمواله لهم· لقد فتح لندن لهايدن Hayden، وأهداه بيتهوفن أولى سيمفونياته وأسس في فيينا جمعية موسيقية Musikalische Gesellschaft من خمسة وعشرين نبيلاً بهدف العمل على عقد لقاءات واتفاقات بين المؤلفين الموسيقيين وناشري الأعمال الموسيقية وجمهور المستمعين· ويرجع إلى هذه الجمعية - على نحوٍ ما - الفضل في أن أصبح أكثر الموسيقيين في التاريخ عُرضة للنقد وعدم القبول هو سيد الموسيقى بلا منازع في القرن التاسع عشر·(ملحق/1130)
الفصل الثامن والعشرون
بيتهوفن
من 1770 إلى 1827م
وتأثير إنجلترا في مسيرة الأحداث
1 - شاب في بون Bonn: من 1770 إلى 1792 م
وُلد في 16 ديسمبر سنة 1770، وكانت بون هي مقر الناخب الأسقفي لكولوني Cologne التي كانت إحدى إمارات أراضي الراين (قبل أن يقضي نابليون على الحكم ذي الطابع الديني فيها) التي يحكمها رؤساء أساقفة كاثوليك يميلون إلى دعم الفنانين ذوي السلوك الحسن، ورغم أن حكمهم كان ذا طابع ديني إلا أنهم أيضا كانوا ذوي ميول علمانية فاتنة منها دعم الفنانين ذوي السلوك الحسن كما أسلفنا· وكان الجانب الأكبر من سكان بون البالغ عددهم 9,560 نفساً يعتمدون على المؤسسة التي أقامها الناخب الحاكم (أو مؤسسة الإمارة أو مؤسسة الدولة)
وكان جد بيتهوفن مغنيا جهير الصوت عميق, في كورس (جوقة المنشدين) الناخب Elector ( الناخب في هذا السياق هو من له حق انتخاب الإمبراطور والمعنى الأقرب لفهم القارئ العربي هو: الأمير) كما كان أبو بيتهوفن (جوهان فان بيتهوفن Johann van Beethoven) صادحا tenor ( مغن عالي الصوت يفوق صوته كل من يشترك معه في الغناء) في الفرقة نفسها· وترجع الأسرة إلى أصولٍ هولندية إذ كانت قد أتت من قرية بالقرب من لوفان Louvain· والكلمة الهولندية فان Van تشير إلى مكان الأصل ولا تشير كالكلمة الألمانية فون Von أو الفرنسية de إلى لقب نبالة أو حيازة ممتلكات تؤهل للنبالة· وكان جده وأبوه مسرفين في الشراب، وقد ورث عنهما شيئا من ذلك·
وفي سنة 1767 تزوج جوهان فان بيتهوفن من أرملة شابة هي ماريا ماجدالينا كيفيرتش لايم Maria Magdalena Keverich Laym ابنة طباخ في إيرنسبريتشتين Ehrensbreitstein وأصبحت ماريا أما يحبها بشدة ابنها المشهور لبساطتها، وقلبها الحنون· وقد أنجبت لزوجها سبعة أطفال مات أربعة منهم في مرحلة الطفولة، وتبقى لها الإخوة: لودفيج Ludwig وكاسبار كارل Caspar Karl (1774 - 1815) ونيكولاوس جوهان Nikolaus Johann (1776 - 1848) ·(ملحق/1131)
ولم يكن للأب فيما يبدو سوى راتبه مغنياً صادحاً في بلاط الناخب (الأمير) ومقداره ثلاثمائة فلورين florins فعاشت الأسرة في أحد أحياء الفقراء في بون، ولم يكن المحيطون ببيتهوفن والمرتبطون به من النوع الذي يجعل منه رجلا مهذبا (جنتلمان)، لذا فقد ظل متمردا فظا (غير مصقول) وقد حث والد بيتهوفن ابنه - أو أجبره - وهو في الرابعة من عمره على العزف على البيان أو الفيولين عدة ساعات نهارا وأحيانا ليلا، رغبة من الوالد في تحسين دخل الأسرة بتقديم ابنه كعازف معجزة· ومن الظاهر أن الطفل لم يكن لديه من نفسه وازع يحثه على عزف الموسيقى وسماعها · وعلى وفق شهود عيان كثيرين أن الطفل (بيتهوفن) كان يجبر على العزف بطرق قاسية حتى إنه كان يبكي في بعض الأحيان· وأحب الطفل الموسيقى بعد أن تعرض لآلام كثيرة بسببها، وظهر بيتهوفن وهو في الثامنة من عمره مع تلميذ آخر في حفلة موسيقية عامة في 26 مارس سنة 1778 وحصل على عائد مادي لم تذكره المصادر· وحث الأصدقاء الأب على التعاقد مع معلمين لينموا مواهب لودفيج بيتهوفن·
وبالإضافة لهذا تلقى بعض التعليم الرسمي· لقد علمنا أنه التحق بمدرسة حيث تعلم اللاتينية بقدر يكفي لأن يبث في بعض خطاباته بعض الطرائف اللاتينية المضحكة· وتعلم قدرا من الفرنسية (التي كانت هي اللغة العالمية في هذا العصر) بقدر يمكنه من الكتابة بها بشكل مفهوم· ولم يتعلم أبداً كيف يكتب هجاء الكلمات في أي لغة بشكل صحيح وقلما كان يكلف نفسه عناء استخدام علاقات الترقيم، لكنه كان يقرأ بعض الكتب بشكل جيد، وكانت هذه الكتب التي قرأها تتراوح بين روايات سكوت Scott والشعر الفارسي وكان ينقل في دفتر خاص به نتفاً من الحكمة التي يلتقطها من قراءاته· ولم يكن يمارس الرياضة إلا من خلال أصابعه (يقصد عزفه على الآلات الموسيقية) وكان يحب أن يرتجل ولم يكن يضارعه في هذا سوى أبت فوجلر Abt Vogler(ملحق/1132)
وفي 1784 تم تعيين ابن ماريا تريزا الأصغر - ماكسميليان فرانسيس Maximilian Francis - ناخبا لكولوني (على وفق مصطلح العصر في هذه المنطقة، فإن الناخب يعني من له حق المشاركة في اختيار الإمبراطور الجديد، (ولعل كلمة أمير تقرب المعنى للقارئ العربي فهو إذن قد تم تعيينه أميراً لكولوني) فاتخذ بون مقرا لإقامته، وكان رجلا رحيما رفيقا مولعاً بالطعام والموسيقى وأصبح لفرط حبه للطعام أسمن رجل في أوربا لكنه أيضا جمع أوركسترا من إحدى وثلاثين قطعة موسيقية· وعزف بيتهوفن وهو في الرابعة عشرة من عمره الفيولا viola ( الكمان الأوسط) في هذه الأوركسترا· كما كان له جمهور مستمعين أيضا كعازف مساعد على الأرغن في البلاط (بلاط الناخب) والمعنى أنه كان يعزف على الأرغن organist إذا غاب العازف الرئيسي، وكان يتقاضى راتبا على هذه المهمة مقداره 150 جولدن gulden ( نحو 750 دولاراً؟؟) في العام، وكتب المسئولون عنه تقريرا للناخب (الأمير) في سنة 1785 بأنه: "كفء··· هادئ وسلوكه حسن، وفقير" ·
ورغم بعض الشواهد على قيامه بمغامرات جنسية، فإن سلوكه الطيب ونمو كفاءته الموسيقية وتطورها جعلت الناخب (الأمير) يسمح له، برحلة إلى فيينا على نفقته (أي نفقة الناخب) لدراسة التأليف الموسيقي· وسرعان ما استقبله موزارت بمجرد وصوله، وكان موزارت Mozart قد سمع عزفه فامتدحه امتداحا معتدلا بشكل مخيب للآمال ظنا منه أن مقدرة الشاب على العزف متوقفة على هذه القطعة التي عزفها والتي عزفها قبله كثيرون، فلما أحس بيتهوفن منه هذا الشك طلب منه (من موزارت) أن يقدم له مقطوعات مختلفة لعزفها على البيانو، فانبهر موزارت بخصوبة الشاب وتمكنه من العزف، فقال لأصدقائه "راقبوه، فسيقدم في يوم من الأيام للعالم ما يجعله موضع حديث" لكن هذه القصة تبدو بغير أساس، فقد كان موزارت يعطي الفتى بعض الدروس، إلا أن موت والد موزارت - ليوبولد - في 28 مايو 1787، ووصول أخبار بأن أم بيتهوفن تحتضر قطعت هذه العلاقة التي لم تطل، إذ أسرع بيتهوفن عائداً إلى بون ليكون إلى جوار أمه وهي تموت (17 يوليو) ·(ملحق/1133)
وكتب والد بيتهوفن الذي كان صوته الصادح قد تدهور منذ مدة طويلة، كتب للناخب (الأمير) واصفاً فقره المدقع طالباً منه المساعدة· ولم يصل إلينا ما يفيد أنه تلقى ردا لكن مغنياً آخر في الكورس (جوقة العزف في بلاط الناخب) قدم له يد العون، وفي سنة 1788 أضاف لودفيج بيتهوفن نفسه للأسرة دخلاً إضافيا بتدريسه البيان لإليونور فون بروننج Eleonore Von Breuning وأخيها لورنز (لورنتس Lorenz) وقد استقبلته الأم الأرملة الثرية المثقفة كابن من أبنائها، وقد أثرت هذه الصداقة إلى حد ما في تهذيب شخصية بيتهوفن·
ومن الذين قدموا لبيتهوفن يد العون الكونت فرديناند فون فالدشتين Count Ferdinand Von Waldstein (1762 - 1823) الذي كان هو نفسه موسيقياً وصديقا مقربا للناخب (الأمير) إذ إنه عندما علم بفقر بيتهوفن راح يرسل له بين الحين والحين أموالا زاعما أنها من الناخب نفسه (من الأمير) وقد أهدى إليه بيتهوفن في وقت لاحق سوناتا البيانو piano sonata (Opus 53 in C Major) التي حملت اسمه ·· وكان لودفيج بيتهوفن لا يزال في حاجة إلى مساعدة أكثر من تلك التي كان يتلقاها حتى الآن لأن والده المكتئب كان قد استسلم للكحول (أدمن معاقرة الخمر) وتم إنقاذه من الاحتجاز (أو القبض عليه) يشق النفس لما يسببه من إزعاج عام·
وفي سنة 1789 أخذ بيتهوفن على عاتقه - ولم يكن قد تجاوز التاسعة عشرة من عمره - مسئولية إخوته الأصغرين سنا وأصبح هو رأس الأسرة من الناحية الرسمية، وفي 20 نوفمبر صدر مرسوم من الناخب (الأمير) بإنهاء خدمة جوهان (يوهان) فان بيتهوفن (والد لودفيج بيتهوفن) على أن يدفع نصف راتبه السنوي وقدره مائة ريخشالر reichsthalers لابنه لودفيج بيتهوفن ونصفه الآخر لأخيه الأكبر، واستمر بيتهوفن في كسب مبالغ بسيطة كعازف رئيسي للبيان وأرغني ثان (عازف ثان للأرغن) في أوركستر الناخب (الأمير) ·(ملحق/1134)
وفي سنة 1790 توقف فرانز (فرانتس) جوزيف هايدن Franz Joseph Haydn - وهو عائد مكلل بالنصر من لندن - في بون وهو في طريقة إلى فيينا، فقدم له بيتهوفن كنتاته Cantata كان قد ألفها ـ مؤخرا فامتدحها هايدن، وربما علم الناخب (الأمير) بشيء من هذا الثناء، فلبى اقتراحاً بإرسال الشاب إلى فيينا للدراسة مع هايدن وأن يتلقى راتبه في الوقت نفسه كموسيقي عامل في بلاط الناخب (الأمير) وربما كان الكونت فون فالدشتين Waldstein وراء هذه المنحة التي تلقاها صديقه الموسيقي الشاب· لقد كتب في ألبوم لودفيج كلمة وداع كالتالي:
"عزيزي بيتهوفن، أنت راحل إلى فيينا لإنجاز ما طالما تقت كثيراً لإنجازه· إن عبقرية موزارت (الذي كان قد مات في 5 ديسمبر 1791) لا يزال ينعيها الناعون·· فلتعمل بجد ولتتلق روح موزارت من أيدي هايدن· صديقك المخلص فالدشتين "·
وغادر بيتهوفن بون وأباه وأسرته وأصدقاءه في أول نوفمبر سنة 1792 أو في يوم قريبا من هذا التاريخ· وسرعان ما احتلت قوات الثورة الفرنسية بون فهرب ناخبها (أميرها) إلى مينز ولم ير بيتهوفن بون بعد ذلك أبداً·
2 - تقدم ومأساة: من 1792 إلى 1802 م
عندما وصل إلى فيينا وجدها تعج بالموسيقيين المتنافسين على من يرعاهم وعلى جمهور المستمعين والناشرين، والذين ينظرون بازدراء لكل قادم جديد، فلم يجدوا في هذا القادم الجديد من بون جمالا يلطف وقع قدومه فقد كان لودفيج بيتهوفن قصير ا ممتلئ الجسم متجهم الملامح (أطلق عليه أنطون إسترهازي Anton Esterhazy اسم البربري the Moor به آثار الجدري (بقايا بثور الجدري)، صف أسنانه الأمامي الأعلى بارز عن صف أسنانه الأمامي الأسفل، وأنفه عريض ممتلئ، وله عينان غائرتان متحديتان، أما رأسه فمثل كرة الرصاص يغطيه بشعر مستعار وحلية · لم تكن شخصيته مهيأة لتكون ذات بعد جماهيري سواء بين العامة أو بين منافسيه من الموسيقيين ومع ذلك فلم يعدم - إلا نادرا - صديقاً منقذاً (يسعفه وقت اللزوم)(ملحق/1135)
وسرعان ما وصلت الأخبار بوفاة والده (18 ديسمبر 1792) وظهرت بعض المشاكل فيما يتعلق بنصيب بيتهوفن في راتب أبيه السنوي إذ قدّم بيتهوفن التماساً للناخب [الأمير] طالباً استمرار هذا الدخل السنوي، فرد الناخب الأمير بمضاعفة هذا الدخل وأضاف: "لابد من تقديم ثلاثة مكاييل من الحبوب له··· لتعليم أخويه" (كارل وجوهان اللذين كانا قد انتقلا إلى فيينا) · وكان بيتهوفن ممتنا إذ انتهى إلى حلول طيبة· لقد كتب في ألبوم أحد أصدقائه في 22 مايو 1793 مستخدما كلمات شيلر Schiller في مؤلفه دون كارلوس Don Carlos: " إنني لست شريرا - فالدم الحار هو خطئي - إن جريمتي أنني شاب··· فرغم أن الانفعالات والعواطف الجياشة قد تخدع قلبي وتخرجه عن جادة السبيل، إلا أن قلبي طيب"· وقرر أن يفعل كل ما يقدر عليه من الخير، وأن يحب الحرية قبل أي شيء آخر، وألا ينكر الحق حتى أمام العرش ·
وأخضع مصروفاته لتكون في الحد الأدنى خاضعا لأحكام الضرورة: بالنسبة إلى شهر ديسمبر سنة 1792، 14 فلوريناً (نحو 35 دولاراً؟) للإيجار، ستة فلورينات لتأجير بيانو، الأكل، في كل وجبة 12 كروزر Kreuzer ( ستة سنتات) وجبات مع نبيذ 6,5 فلورين florins (16,25 دولار؟؟)، وثمة أوراق أخرى للتذكرة تدرج هايدن (كتبها بيتهوفن Haiden) باعتبار أن تكاليف الدروس التي يتلقاها بيتهوفن على يديه في أوقات مختلفة تبلغ جروشين two groschen ( بنسات قليلة)، ومن الواضح أن هايدن لم يكن يطلب إلا القليل لقاء دروسه· وقد قبل التلميذ (بيتهوفن) لفترة تصويبات أستاذه بتواضع لكن مع استمرار الدروس وجد هايدن أنه من المستحيل أن يقبل ابتعاد بيتهوفن عن قواعد التأليف الموسيقي التقليدية·(ملحق/1136)
وقرب نهاية سنة 1793 هجر بيتهوفن أستاذه العجوز وراح يتردد ثلاث مرات في الأسبوع لدراسة فن مزج الألحان (الكونتربوينت Counterpoint) على يد جوهان جورج البرختشبيرجر Albrechtsberger وهو رجل حقق شهرة معلماً أكثر منه مؤلفاً موسيقياً· وفي الوقت نفسه كان يدرس لثلاثة أيام في الأسبوع آلة الفيولين مع إجناز (إجناتس) شبانتزج Ignaz Schuppanzigh وفي سنة 1795 كان قد أخذ كل ما يحتاجه من ألبرختشبيرجر فتردد على أنطونيو ساليري Salieri الذي كان وقتها مديرا لأوبرا فيينا لدراسة التأليف الموسيقي للأصوات·
ولم يكن ساليري يتلقى شيئا من التلاميذ الفقراء· وقدم بيتهوفن نفسه له كفقير فقبله· وقد وجده كل هؤلاء المدرسين الأربعة تلميذا صعب المراس تندفع منه أفكار خاصة به ويرفض أن يشكل نفسه على وفق النظرية الموسيقية التي يقدمها له معلموه· ويمكننا أن نتخيل الرعدات (الإرتجافات) التي كانت تعتري بابا هايدن Papa Hayden ( الذي عاش حتى سنة 1809) بسبب مؤلفات بيتهوفن بالجهورية ( Sonorities) وعدم الاتساق· ورغم انحراف بيتهوفن عن الطرق المألوفة المطروقة (وربما بسبب ذلك) فقد حققت إنجازات بيتهوفن له بحلول عام 1794 شهرة باعتباره أكثر عازفي البيانو (مؤلفي المقطوعات الموسيقية للبيان) تشويقا في فيينا لقد ربح البيانو الحديث معركته مع البيانو القيثاري (الذي يتخذ شكل قيثارة) ·(ملحق/1137)
وكان جوهان (يوهان) كريستيان باخ Bach قد بدأ في سنة 1768 في إنجلترا عزف الألحان الصولو Solos ( لحن معد ليعزف على آلة واحدة) على البيانو، وأخذ موزارت بهذا الأسلوب تبعهما هايدن في سنة 1780، وكان موزيو كليمنتى Muzio Clementi يؤلف الكونشرتات (الألحان التي تعزف بمصاحبة الأوركسترا) المخصصة للعزف على البيانو، والتي كانت لمرونتها وسطاً بين البيانو والفورت forte ( الشديد أي النغم الذي يعزف بشدة) وبين الستاكاتو Staccato ( مقطع موسيقي متقطع) والسوستنوتو Sostenuto· لقد استخدم نابليون إمكانات البيانو استخداما كاملا، كما صب كل قدراته هو نفسه لإنتاج كل ما يمكن من أعمال موسيقية للبيانو، خاصة في أعماله المرتجلة (غير المعدة سلفا) حيث لا يعوق أسلوبه الموسيقي أية نوت موسيقية مطبوعة·
وقد أعلن - في وقت لاحق - فرديناند ريس Ries تلميذ هايدن وتلميذ بيتهوفن أيضاً أنه: "لا يوجد فنان أبداً فيمن أعرف من الفنانين أو سمعت عنهم يداني بيتهوفن في هذا الفرع من العزف· إن ثروة الأفكار التي تتزاحم فيه (في بيتهوفن)، والترددات والنزوات الفكرية التي يستسلم لها، وتغير المعالجة ومواجهة الصعاب اللحنية تمثل فيه طاقة لا تنفد" ·
لقد رعاه رعاة الموسيقى في المقام الأول كعازف بيان، ففي حفلة موسيقية ليلية في بيت بارون فان سفيتن (شفيتن Baron van Swieten) دعاه صاحب البيت للبقاء بعد انتهاء برنامج الحفل (كما يروي لنا سندلر Schindler كاتب سيرة حياة بيتهوفن) وحثه على أن يضيف قليلا من فجوات fugues باخ Bach ليختم بها السهرة وكان الأمير كارل ليشنو فسكى Karl Lichnowsky الهاوي والموسيقي الكبير في فيينا يحب أيضا بيتهوفن حتى إنه كان ليتعاقد معه بانتظام لإحياء حفلاته الموسيقية التي كان يعقدها كل يوم جمعة واستضافه في بيته فترة لكن بيتهوفن - على أية حال - لم يستطع أن يكيف نفسه مع ساعات تناول الأمير لوجباته، فكان يفضل التردد على فندق قريب·(ملحق/1138)
وكان الأمير لوبكوفتس lobkowit أكثر رعاة الموسيقى - ممن يحملون رتب النبالة - حماسا، وكان هذا الأمير نفسه عازف فيولين ممتاز، أنفق كل دخله تقريبا على الموسيقى والموسيقيين· وظل لسنوات يساعد بيتهوفن رغم ما حدث بينهما من نزاع، وكان هذا الأمير يتعامل بروح سمحة مع بيتهوفن وإصراره على أن يعامل كند مساو لذوي الرتب من ناحية المكانة الاجتماعية· وكانت زوجات هؤلاء النبلاء الذين يقدمون له يد العون يسعدن بكبريائه واستقلاله ويتلقون على يديه دروس الموسيقى ويتحملن توبيخه بل ويسمحن لهذا الفارس الأعزب الفقير بإقامة علاقات حب معهن من خلال الخطابات، وكن - وكذلك اللوردات - يقبلن إهداءاته ويكافئنه عليها بهدوء ·
لقد اقتصرت شهرته على تمكنه من عزف البيان، ووصلت هذه الشهرة إلى براغ Prague وبرلين اللتين زارهما في سنة 1796· لكن في هذه الأثناء راح يؤلف الموسيقى، ففي 21 أكتوبر 1795 نشر مجموعة قطعه الموسيقية الأولى (من تأليفه) Opus ( الثلاثية الكبيرة Three Grand Trios) التي أعلن جوهان كرامر Johann Cramer بعد عزفها إن هذا الرجل (يقصد بيتهوفن) قد عوضنا عن موت موزارت وتأثر بيتهوفن بهذا المديح فكتب في دفتر مذكراته:
"جراءة! فرغم كل ما يعتري جسمي من وهن، فإن روحي هي التي ستحكم مسيرتي· إن هذا العام سيجعل مني رجلا كاملا· سأنجز كل شيء ولن أؤجل عملا"
وفي سنة 1797 دخل نابليون حياة بيتهوفن للمرة الأولى، ولم يكن له فيها وجود قبل ذلك· لقد طرد الجنرال الشاب النمساويين من لومبارديا Lombardy وقاد جيوشه عبر جبال الألب وكان يقترب من فيينا فراحت العاصمة (فيينا) تعد دفاعاتها بشكل مرتجل بقدر ما تستطيع· لقد راحت تعد المدافع وتجهزها، وتؤلف الترانيم الدينية ليحفظ الله النمسا، وكتب هايدن الآن النشيد الوطني للنمسا: "ليحفظ الله فرانتس Gott erhalte Franz den Kaiser, unsern guten Kaiser Franz" وألف بيتهوفن موسيقى لأغنية حرب أخرى تطالب كل الألمان بمساندة النمسا " Ein grosses deutsches Volk sind wir " وفي وقت لاحق اعتبر النمساويون هذه المؤلفات الموسيقية ككتائب كثيرة العدد لكنها لم تحرك مشاعر نابليون الذي أجبرهم على سلام مخزٍ·(ملحق/1139)
وبعد ذلك بعام أتى الجنرال بيرنادوت Bernadotte إلى فيينا ليكون السفير الفرنسي الجديد وصدم المواطنين (أهل فيينا) بأن رفع من شرفته علم الثورة الفرنسية ذا الألوان الثلاثة· وأعلن بيتهوفن صراحة - كان بالفعل معجبا بالأفكار الجمهورية - إعجابه بنابليون، وغالبا ما كان يرى في حفلات الاستقبال التي يعدها السفير الفرنسي الجديد · ويظهر أن بيرنادوت هو الذي اقترح على بيتهوفن فكره تأليف عمل موسيقي لتكريم نابليون وتشريفه ·
وأهدى بيتهوفن في سنة 1799 مجموعة ألحانه رقم 31 Opus والتي جعل لها عنواناً هو Grande Sonate Pathetique للأمير ليشنوفسكي Lichnowsky اعترافاً بأفضاله أو أملا في أفضال تأتيه على يديه· لقد كان بإهدائه هذا يرنو لمصلحة قريبة· وكان رد الأمير (1800) هو أن وضع ستمائة جولدن gulden تحت تصرف بيتهوفن حتى أحصل (أي بيتهوفن) على تعيين مناسب · لقد بدأت هذه السوناتا ببساطة وكأنها مقتبسة بتواضع من أعمال موزارت إلا أنها سرعان ما تشابكت وتعقدت لكنها اعتبرت في وقت لاحق بسيطة إلى جانب سوناتات الهمركلافير the Hammerklavier Sonatas أو الأباشيوناتا Appassionata وكانت السيمفونية الأولى (1800) وسيمفونية ضوء القمر في ( C Sharp minor) سنة 1801 هما الأسهل سواء من ناحية العزف أو من ناحية القدرة على تذوقهما·
ولم يعط بيتهوفن مقطوعته الأخيرة اسمها المشهور لكنه أطلق عليها ( Sonata quasi Fantasia) ويظهر أنه لم يكن ينوي تحويلها إلى أغنية محببة· حقيقة أنه أهداها إلى الكونيتسة جوليا جوشياردي Giulia Guicciardi التي كانت من بين ربات الجمال اللائي لم يمسهن واللائي أوحين له بألحانه الموسيقية الحالمة، لكنها (أي السوناتا) كتبت لمناسبة أخرى مختلفة ·(ملحق/1140)
لقد شهد عام 1802 إحدى أغرب الوثائق في تاريخ الموسيقى التي طالما رجع إليها الباحثون، وهي جديرة بذلك· إنها الوثيقة السرية وثيقة هيليجنشتادت Heiligenstadt Testament التي لم يكشف عنا إلا عندما تم العثور عليها بين أوراق بيتهوفن بعد وفاته· إنها وثيقة لا يمكن فهمها إلا من خلال مواجهة صريحة مع شخصيته· لقد كان يتمتع بكثير من الصفات الطيبة في شبابه، روح مرحة، ميل للفكاهة، إخلاص في الدراسة، استعداد لتقديم العون للمحتاج، وظل كثيرون من أصدقائه في بون - مثل مدرسة كريستيان جوتلوب نيف Christian Gottlob Neefe وتلميذته إليونور فون بروننج Eleonore von Breuning وراعيه الكونت فون فالدشتين Count von Waldstein - أوفياء له رغم أن نظرته للحياة راحت - بشكل متزايد - تتسم بالمرارة· وعلى أية حال فقد راح يفقد صديقا إثر صديق في فيينا حتى كاد يصبح وحيدا لكن أصدقاءه عندما علموا أنه على وشك الموت عادوا إليه وبذلوا كل ما في طاقتهم لتخفيف آلامه·
لقد تركت بيئته الباكرة فيه آثارا دائمة لا تمحى، فهو لم ينس أبدا الفقر المدقع والمقلق (ولم يغفر ذلك لبيئته ولم يكن متسامحاً إزاء هذه الظروف) ولم ينس الهوان لرؤية والده وهو يستسلم للفشل والخمر· بل إنه هو نفسه (بيتهوفن) بعد أن أتعسته الأيام راح يستسلم أكثر فأكثر لمعاقرة النبيذ طلبا للنسيان · ويدعو تمثاله المقام في فيينا (خمس أقدام وخمس بوصات) للتأمل، ولم يكن وجهه ينم عن حظ حسن أو ثراء، وكان شعره كثا مهوشا خشنا· وكانت لحيته تنتشر حتى قرب عينيه الغائرتين، وكان يتركها لتنمو فتصل إلى نصف بوصة قبل أن يحلقها ·(ملحق/1141)
لقد جأر بالشكوى في سنة 1819: "آه يا ربي، يا لها من مصيبة (طاعون) أن يكون لشخص مثل هذا الوجه المهلك كوجهي وربما كانت هذه العيوب الخِلقية حافزاً على الإنجاز". لكنها بعد الأعوام القليلة الأولى في فيينا جعلته يهمل ثيابه وبدنه (صحته) ومسكنه وعاداته· لقد كتب في 22 أبريل سنة 1801: "إنني رفيق مُهمَل، وربما كان الملمح الوحيد لعبقريتي أن أشيائي ليست دائما في ترتيب جيد". وكان يكسب أموالا تتيح له أن يكون له خدم لكنه كان سرعان ما يتعارك معهم وقلما احتفظ بهم لفترة طويلة· لقد كان فظا مع من هم أدنى منه، وكان في بعض الأحيان ذليلا خانعا لمن كانوا نبلاء المحتد، لكنه كان غالبا معتزا بنفسه بل ومتكبرا· وكان يقلل من قيمة منافسيه بشكل لا يرحم فكادوا يجمعون على كراهيته· وكان قاسيا مع تلاميذه لكنه علم يعضهم دون مقابل ·
لقد كان كارها للناس، لكنه كان متسامحا مع ابن أخيه كارل Karl الذي كان يعاني المتاعب، وكان محبا له، كما كان يحب كل تلميذ ماهر· ولقد قدم للطبيعة عاطفة جياشة لم يستطع أن يكنها للبشر وكان مزاجه - تباعا - سوداويا، لكنه أيضا كان تباعا - ينخرط في حالات ابتهاج صاخبة سواء بنبيذ أو بدون نبيذ· (انظر على سبيل المثال الخطابات 14، 22، 25، 30)، وكان كلامه ينطوي على تورية في كل مناسبة وكان أحيانا يخترع كنى عدائية لأصدقائه وكان أكثر استعداداً للقهقهة منه للابتسام·
وحاول خلال السنوات المزعجة أن يلغي الأحزان التي مررت حياته (جعلتها مريرة)، ففي خطاب بتاريخ 29 يونيو 1801 كتبه لأحد أصدقاء شبابه وهو فرانز (فرانتس) فيجلر Franz Wegeler:(ملحق/1142)
طوال السنوات الثلاث الأخيرة أجد سمعي يضعف بالتدريج· وربما يرجع ذلك للآلام التي أعانيها في بطني·· والتي جعلت حياتي بائسة حتى قبل مغادرتي بون، لكنها غدت أسوأ في فيينا حيث كنت مبتلى باستمرار بالإسهال وكنت أعاني من اعتلال غير عادي ·· وظل هذا هو حالي حتى خريف آخر عام وأحيانا كنت أستسلم لليأس· يجب أن أعترف أنني حبيس حياة بائسة· فطوال عامين كدت لا أحضر أية مناسبة اجتماعية لأنني لم أكن قادرا على أن أقول للناس: إنني أصم· لو أن لدي مهنة أخرى لكنت قادرا على التغلب على عجزي (صممي)، لكن صممي هذا مصيبة بالنسبة إلي، وأنا عازف ومؤلف موسيقي· إن الله وحده يعلم ما ستأتي به الأيام بالنسبة لي· إنني بالفعل ألعن خالقي وألعن وجودي· أرجوك لا تذكر أي شيء عن ظروفي لأي أحد ولا حتى للورشين Lorchen [ إليانور فون بروننج] ·
وقضى بيتهوفن شطراً من عام 1802 في قرية هيليجنشتادت Heiligenstadt الصغيرة القريبة من جوتنجن Gottingen آملاً فيما يبدو الاستفادة من حماماتها الكبريتية· وفي أثناء تجوله في الغابات القريبة رأى على مسافة قريبة منه راعيا ينفخ في مزمار، ولكنه لم يسمع شيئا، فتحقق الآن فقط أنه لن يصل إلى سمعه سوى أصوات الأوركسترا العليا· وكان قد بدأ بالفعل قيادة الفرق الموسيقية كما كان قد بدأ التأليف الموسيقي لذا فقد سقط صريع اليأس عندما تحقق أنه لا يسمع موسيقى مزمار الراعي، فذهب إلى غرفته وكتب في 6 أكتوبر 1802 ما عرف باسم وثيقة هيليجنشتادت كوثيقة روحية واعتذارية، ورغم أنه ذكر شيئا عنها لأخوية كارل و- بيتهوفن إلا أنه أخفاها بعناية عن كل العيون، ونحن هنا ننقل سطورها الأساسية:(ملحق/1143)
أنتم أيها الناس الذين ظننتم (وقلتم) أنني حقود أو عنيد أو كاره للبشر، كم أنتم مخطئون في حقي، فأنتم لم تعلموا السر الكامن وراء ظهوري بهذا المظهر· لقد كان قلبي وعقلي منذ طفولتي ميالين للعمل الخيّر وكنت دوما تواقا لإنجاز الأعمال العظيمة لكنني أصبحت الآن منذ ست سنوات فاقد الأمل، وتفاقم هذا بسبب الأطباء الحمقى·· وأخيرا أجبرت على مواجهة ما هو متوقع من استمرار مرضي··· لقد ولدت صاحب مزاج متوهج حي بل وحساس لانحرافات المجتمع، فأجبرت منذ وقت باكر على العزلة وعلى أن أعيش وحيدا،
وعندما حاولت في بعض الأوقات نسيان ذلك كله صدمت صدمة ما أقساها! لقد كانت صدمة مضاعفة إذ فقدت ما بقي من سمعي، وضاعف الحزن أنني لم أكن استطيع أن أقول للناس تحدثوا بصوت أعلى! اصرخوا، فأنا أصم · آه كيف أقر بصممي، ومن المفترض أنني كموسيقي، أكمل ما يكون في حاسة سمعه··· آه لا أستطيع أن أقر بذلك العجز، لذا سامحوني إذ رأيتموني أبتعد عنكم بينما كان المفروض أن أسعد بالاندماج معكم··· آه يا للخزي عندما يجلس بجواري شخص يسمع الفلوت flute على البعد بينما أنا لا أسمع شيئا·
إن مثل هذه الأحداث أسلمتني لحافة اليأس، بل ولما هو أكثر قليلا من ذلك وهو أن أضع حداً لحياتي، ولم ينقذني سوى الفن· آه لقد بدا لي أنه من المحال أن أترك العالم إلا بعد أن أنتج كل ما شعرت أنه يطالب بإخراجه للناس··· آه أنت أيها الواحد القدوس Divine One الذي تعلم ما يخفيه صدري وما تكنه روحي· أنت تعلم أن حب البشر والرغبة في حياة صالحة كامنين في أعماقي· أيها الناس عندما تقرءون في يوم من الأيام كلماتي هذه ستدركون كم كنتم مخطئين في حقي···(ملحق/1144)
وأنتم يا إخوتي كارل و- إذا مت فاسألوا الطبيب شمد Schmid إن كان لا يزال حيا، اسألوه نيابة عني ليصف مرضي وأضيفوا هذه الوثيقة لتاريخي المرضي، فلعل هذا يجعل العالم يتآلف معي بعد موتي ويلتمس لي العذر··· إنني أرغب أن تكون حياتكم أفضل من حياتي، أوصوا أولادكم بالفضيلة فهي وحدها التي تتيح السعادة، هي وليس المال إنني أحدثكم عن خبرة وتجربة· إنها الفضيلة هي التي كانت سندي أيام بؤسي، فالفضيلة - بعد فني - هي منعتني من الانتحار· وداعا ولتتبادلوا الحب ···إنني أسرع إلى الموت سعيداً·
وفي الهامش كتب:
" تقرأ وتوضع موضع التنفيذ بعد موتي "
إن هذه الوثيقة لم تكن وصية منتحر، وإنما تحوى في ثناياها اليأس والأمل (التصميم) · لقد وجد بيتهوفن ضرورة تقبل المشاق والمتاعت التي يمر بهما لينقل لآذان أخرى غير أذنيه الموسيقى القابعة - في صمت - داخل وجدانه· لقد ألف، وكان لا يزال في هيلجنشتادت في نوفمبر 1802 سيمفونيته الثانية ( in D) ، ولم يكن فيها أثر لشكوى أو حزن، وبعد ذلك بعام واحد ألف سيمفونيته الثالثة (البطولة the Eroica) بعد صرخته النابعة من الأعماق، فدخل بهذه السيمفونية الثالثة مرحلته الثانية، وهي المرحلة الخلاقة الأكثر تميزا·
3 - أعوام بطولية أو أعوام سيمفونية البطولة:
THE HEROIC YEARS
1803 - 1809 م
قسم علماء الموسيقى الذين خاضوا هذه الصفحات المحيرة حياة بيتهوفن الفنية في ثلاث حقب: من 1792 إلى 1802، ومن 1803 إلى 1816، ومن 1817 إلى 1824· ففي الحقبة الأولى راح يعمل بشكل تجريبي على وفق أسلوب موزارت وهايدن، ذلك الأسلوب الهادئ الراسخ البسيط· وفي الحقبة الثانية ركز على مراقبة الأداء من حيث التمبو Tempo ( درجة السرعة الواجب اعتمادها في العزف) وعلى البراعة في استخدام الأصابع، وعلى الفورس force ( درجة القوة في العزف) · لقد اكتشف التناقض في المود mood بين الرقة والقوة· لقد أطلق العنان لقدرته على الإبداع في الألحان على نحو يخالف المألوف كما أطلق العنان لنزعته للارتجال، لكنه أخضع هذا لمنطق الدمج والتناسب والتطور (المقصود تطور اللحن) ·(ملحق/1145)
لقد غير (جنس sex) السوناتا والسيمفونية فقد حولهما من الرقة والمشاعر الأنثوية إلى الإرادة الرجولية والحسم، وكما لو أن يبتهوفن أراد إبراز هذا التغير في مسيرته فقد أعاد - الآن - المينيوت minuet في الحركة الثالثة مع شرزو Scherzo ( موسيقى مرحة مازحة) تضحك في وجه القدر· لقد وجد بيتهوفن الآن في الموسيقى ردا على سوء الحظ: لقد أصبح بمقدوره أن يذوب في الإبداع الموسيقي بشكل يجعل موت جسده مجرد حدث عابر في حياة ممتدة (خلود الذكر) · إنه يقول: "عندما أعزف أو أؤلف الموسيقى·· تخف أحزاني إلى أدنى درجة "· إنه لم يعد يسمع ألحانه الآن بأذنيه وإنما راح يسمعها بعينيه - بقدرة الموسيقى الباطنية على تحويل الأنغام التي يتخيلها إلى بقع وخطوط ثم يسمعها - بلا صوت - من الصفحات المكتوبة·
وتكاد كل أعماله الموسيقية في هذه المرحلة تصبح من الكلاسيكيات إذ ظهرت الأجيال المتعاقبة كذخائر (ريبورتوار repertoires) موسيقية أوركسترالية (المقصود أن الفرق المختلفة حفظتها وأتقنتها، وأصبحت على استعداد لأدائها في أي وقت) · لقد ألف سوناتا الكروتسر Kreutzer sonata ( الكروتسر عملة معدنية نمساوية صغيرة) slash مجموعة ألحان 47 في سنة 1803 لعازف الفيولين (الكمان) جورج بردجتور Bridgetower وأهداها إلى رودولف كروتسر Rodolphe Kreutzer مدرس الفيولين (الكمان) في كونسرفتوار باريس، وكان بيتهوفن قد قابله في فيينا في سنة 1798، لكن كروتسر حكم على اللحن بالغرابة عن أسلوبه ومزاحه ولم ير أبداً عزفها على مسامع الجمهور·(ملحق/1146)
واعتبر بيتهوفن أن أفضل سيمفونياته هي سيمفونية الأرويكا (البطولة) the Eroica التي ألفها في عامي 1803 - 1804· ونصف العالم يعرف قصة إهداء هذه السيمفونية - في الأساس - لنابليون· ورغم أن بيتهوفن كان له صداقات بين النبلاء وذوي المكانة، ورغم إهداءاته الحكيمة لأعماله، إلا أنه ظل إلى آخر حياته جمهوريا مصمما وقد هلل لنابليون لقبضه على زمام السلطة في فرنسا وإعادة تنظيم الحكم (1799 - 1800) واعتبر ذلك خطوة نحو الحكم المسئول، لكن بيتهوفن في 1802 - على أيه حال - عبر عن أسفه لتوقيع نابليون وفاقا (كونكوردات Concordat) مع الكنيسة· لقد كتب بيتهوفن: " الآن انتكست الأمور" ويروي لنا شاهد عيان هو فرديناند ريس Ries قصة الإهداء السابق ذكره، فلنتركه يروي لنا:
في هذه السيمفونية كان نابليون (وهو قنصل أول) موجوداً في عقل بيتهوفن الذي كان يقدره تقدير شديدا في هذا الوقت وشبهه بأعظم القناصل الرومان· وقد رأيت مع عديد من أصدقائه الحميمين نسخة من سيمفونية الأرويكا على مكتبه وقد كتب في أعلاها بونابرت وفي أدناها لوجى Luigi فان بيتهوفن ولم نقرأ أي كلمة أخرى··· وكنت أول من حمل له خبر أن نابليون قد أعلن نفسه إمبراطورا، وعندها انفعل ساخطا (أي بيتهوفن) وصاح إنه إذن بشر كالبشر العاديين·إنه سيطأ كل حقوق الإنسان وسينشغل بطموحاته، وسيعلي نفسه فوق الآخرين ويصبح طاغية وتوجه بيتهوفن إلى المنضدة فمزق اسم نابليون من فوق صفحة عنوان سيمفونية وقذفه إلى الأرض، وغير الصفحة الأولى وجعل عنوان السيمفونية إرويكا (البطولة) Sinfonia eroica·
وعندما نشرت السيمفونية (1805) حملت العنوان التالي: Sinfonia eroica per festeggiare il sovvenira d'un gran uomo ومعناها سيمفونية البطولة للاحتفاء بذكرى رجل عظيم ·
وفي 7 أبريل 1805 أدتها فرقة موسيقية للمرة الأولى على مسرح آن دير فين Theater-an-der-Wien بقيادة بيتهوفن رغم اعتلال سمعه· وكان أسلوبه في قيادة الفرقة مع شخصيته:(ملحق/1147)
"مثيرا محكما بارعا، فعند الفقرات الموسيقية الرقيقة جدا (البيانيسيمو Pianissimo) نجده ينحني حتى يكاد المكتب يخفيه، وكلما تصاعد النغم وازداد (كريسندو Crescendo) وجدناه يرفع قامته شيئا فشيئا بالتدريج مع تصاعد النغم، فإذا وصل الصوت للذروة فورتسيمو fortissimo انبثق قافزا في الهواء مادا ذراعيه إلى آخر مدى كما لو كان يريد التحليق فوق السحاب" ·
وتعرضت السيمفونية للنقد بسبب,
"غرابة انتقالها النغمي أي غرابة الانتقال من أسلوب في الأنغام إلى أسلوب آخر (الموديولاشن modulation) ، وعنف المقاطع الإنتقالية وصخبها Violent transitions··· ولما بها من حدّة غير مرغوبة· ولطولها المفرط"·
وقد نصح النقاد بيتهوفن بالعودة لأسلوبه الأول والأكثر بساطة· لكن بيتهوفن أرغى وأزبد وحال إقناعهم بأسلوبه ·
وحاول بيتهوفن دخول مجال الأوبرا لضمان نصر جديد، ففي 20 نوفمبر 1805 قاد العرض الأول لأوبرا ليونور Leonore لكن جيوش نابليون كانت قد احتلت فيينا في 13 نوفمبر، فهرب الإمبراطور فرانسيس ورؤوس النبلاء، فلم يعد الناس ميالين للأوبرا أو بتعبير أوضح لم تعد أمزجتهم رائعة للاستمتاع بالأوبرا· لقد حقق الأداء فشلا مدويا رغم تصفيق الضباط الفرنسيين الموجودين وسط الجمهور قليل العدد· وقيل لبيتهوفن إن أوبراه his opera طويلة جدا وغير متقنة الترتيب، فاختصرها وراجعها وعرضها مرة ثانية في 29 مارس 1806 ففشلت مرة أخرى·
وبعد ذلك بثماني سنوات عندما ازدحمت المدينة بوفود مؤتمر فيينا، تم تغيير اسم الأوبرا ليصبح فيدليو Fidelio وتم عرضها للمرة الثالثة فلم تحقق إلا نجاحا متواضعا· لقد كان اتجاه بيتهوفن في التأليف الموسيقي يعتمد على التناغم بين الآلات أو المزاوجة بين أنغامها فقد كان يجد في ذلك رحابة ومرونة أكثر مما كان يجدها في الصوت البشري، لكن المغنين كانوا - على أية حال - تواقين لكسر حواجز جديدة، ولم يستطيعوا - ببساطة - القيام بالأداء الغنائي لبعض الفقرات المحلقة (المتسمة بالسمو) فتمردوا أخيرا· وهذه الأوبرا تعرض الآن في المناسبات بسبب شهرة مؤلفها (بيتهوفن) وبعد خضوعها لمراجعات كثيرة لا مجال لمزيد عليها·(ملحق/1148)
وبعد هذه التجربة الصعبة راح ينتقل من تأليف عمل عظيم خالد إلى آخر· وفي سنة 1805 قدم كونشرتو البيانو ( Opus 58 G, No 4,) ، واحتفى بعام 1806 بسوناتا ( F. Minor ,Opus 57) التي أطلق عليها في وقت لاحق (أباسيوناتا Appassionata) وأضاف ثلاثة أرباع، ومجموعة ألحان Opus 59 وأهداها إلى كونت أندرياس رازوموفسكى Razumovsky السفير الروسي في فيينا وفي مارس 1807 نظم أصدقاء بيتهوفن حفلاً خيريا له - ربما تعزية لفشل عمله الأوبرالي، وفي هذا الحفل أدار عزف سيمفونياته؟ الأولى والثانية والثالثة (إرويكا سيمفونية البطولة) وسيمفونيته الجديدة (الرابعة) ( in B Flat, Opus 60) ولا ندري كيف تحمل جمهور المستمعين هذا الكم الموسيقي المفرط إلى حد التخمة·
وفي سنة 1806 عهد الأمير ميكلوس نيكولاوس إسترهازي Miklos Nicolaus Esterhazy إلى بيتهوفن تأليف موسيقي قداس لعيد شفيعة زوجته (إحياء لذكرى القديسة التي تحمل الزوجة اسمها)، فذهب بيتهوفن إلى قصر إسترهازي في ايزنشتات Eisenstadt في المجر وقدم هناك قداسه ( C ,Opus 86) في 13 سبتمبر 1807· وبعد العزف سأله الأمير لكن يا عزيزي بيتهوفن، ما هو الذي فعلته مرة أخرى؟ وفسّر بيتهوفن هذا السؤال على أنه دال على عدم الرضا فغادر القصر قبل انتهاء مدة دعوته·
وأتحف عام 1808 بسيمفونيتين لا زالتا معروفتين حتى الآن في العالم كله: السيمفونية الخامسة ( in C Minor) والسيمفونية السادسة (أو الرعوية Pastoral) (in F.) ويبدو أنه ألفهما معا خلال عدة أعوام فقد تراوح المزاج العام فيهما ما بين الاكتئاب في الخامسة والبهجة في السادسة، وقد تم أداؤهما معا على مسمع من الجمهور للمرة الأولى في 22 ديسمبر 1808، وأدى تكرار أدائهما إلى أن فقدا جاذبيتهما حتى عند عشاق الموسيقى·(ملحق/1149)
فلم تعد مشاعرنا تتحرك لقدرٍ يطرق الباب أو طيور تغرد بين الأغصان، لكن ربما كان تلاشى انجذابنا إليهما راجعا لنقص التعليم الموسيقي الذي يمكننا من الاستمتاع بفن مزج الألحان وما فيها من تضاد وتطور واتساق، وتنافس الآلات في الأداء، والحوار بين آلات النفخ والآلات الوترية· وطبيعة كل حركة موسيقية والبناء العام للقطعة الموسيقية وتوجهها· فالعقول التي تتنازع فيها المشاعر والأفكار لابد أن تجد عناء في تتبع هذا تماما كما أن هيجل Hegel يجد صعوبة في فهم بيتهوفن، وكما يجد بيتهوفن - أو أي شخص آخر - صعوبة في فهم هيجل·
وفي عامي 1808 و1809 ألف بيتهوفن كونشرتو البيانو رقم 5 ( in E Flat, Opus 73) المعروف باسم "الإمبراطور Emperor"· ومن بين كل أعماله، يعتبر هذا الكونشرتو هو الأكثر بقاء وجمالا· إنه عمل لا نمل سماعه أبدا· وعلى أية حال فإننا عندما نسمعه تهتز مشاعرنا اهتزازا يفوق اهتزاز مشاعرنا بالكلمات المصاحبة، فهو عمل موسيقي يتسم بالتألق والحيوية· إنه فيض من مشاعر وبهجة لا حد لهما· إنه عمل ينم عن قدرة إبداعية هائلة· ففي هذا الكونشرتو يسمو الإنسان منتصرا متجاوزا النكبات منشدا قصيدة تعج بالفرح، على نحو أكثر إقناعاً مما في الكورس الجهير في السيمفونية التاسعة·(ملحق/1150)
وربما عكس "كونشرتو الإمبراطور Emperor Concerto" و"السيمفونية الرعوية Pastoral Symphony" ما كان يمر به بيتهوفن من رخاء وازدهار· وفي سنة 1804 تعاقد مع الأرشدوق ردولف Archduke Rudolf ابن الإمبراطور فرانسيس الأصغر - ليعلمه العزف على البيانو، وهكذا بدأ في تكوين صداقة، غالبا ما كانت سببا في زيادة كتمان بيتهوفن لميوله الجمهورية· وفي سنة 1808 تلقى عرضا مغريا من جيروم بونابرت Jerome Bonaparte، ملك وستفاليا ليأتي إلى كاسل Cassel ليعمل قائداً لأوركسترا في الفرقة الموسيقية الملكية فوافق بيتهوفن مقابل ستمائة دوكة ذهبية في العام ويبدو أنه كان لا يزال مؤملا في أذنيه اللتين كانتا في مرحلة قريبة من الصمم، عندما شاعت الأخبار أنه يتفاوض مع كاسل اعترض عليه أصدقاؤه ذاكرين له أن في قبوله لهذا العرض نقضا لولائه لفيينا فأجابهم إنه ظل يكدح في فيينا ستة عشر عاما دون أن يؤمن وضعه·
وفي 26 فبراير سنة 1809 تلقى بيتهوفن موافقة رسمية من الأرشيدوق بأنه إذا وافق بيتهوفن على البقاء في فيينا، فسيتلقى 4,000 فلورين سنويا، يدفع منها ردولف 1,500 ويدفع الأمير لوبكوفتس Lobkowitz 700، والكونت كينسكي Kinsky 1,800، بالإضافة ما يكسبه بيتهوفن من أية أعمال يؤديها، ووافق بيتهوفن· وفي سنة 1809 وهو العام الذي قبل فيه هذا العرض، مات الموسيقار هايدن المعروف ببابا هايدن فورث بيتهوفن تاجه·(ملحق/1151)
4 - العاشق
بعد أن حقق بيتهوفن الاستقرار في أحواله الاقتصادية راح يرنو لزوجة، فطالما كان تواقا لذلك· لقد كان رجلاً حارا محبا للجنس، ومن المفترض أنه وجد متنفسات مختلفة لطاقته لكنه شعر منذ فترة طويلة بحاجته إلى شريكة حياة دائمة· لقد كان في بون "في حالة عشق دائمة" على وفق ما ذكره صديقه فيجيلر Wegeler وفي سنة 1801 ذكر لصديقه هذا "فتاة حلوة عزيزة تحبه ويحبها" ويفترض بشكل عام أنه يقصد تلميذته ذات السبعة عشر ربيعا الكونتيسة جوليا جويشياردي Giulia Guicciardi إلا أنها - على أية حال - تزوجت الكونت جلنبرج Gallenberg· وفي سنة 1805 عقد بيتهوفن آماله على الكونتيسة الأرملة جوزيفين فون ديم Josephine Von Deym التي أرسل لها إعلانا عاطفيا كالتالي:
إنني هنا أعدك وعدا مقدسا أنه في غضون وقت قصير سأقف أمامك وأنا جدير بنفسي وبك - آه لو أنك - فقط - راعيت هذا الذي أعنيه، وهو أن أجد سعادتي في أساليب حب لم ترينها·· آه يا جوزيفين الحبيبة إن رغبتي فيك ليست رغبة رجل في امرأة (ليست للجنس) وإنما رغبتي فيك أنت لشخصك، إنها فيك كلل متكامل، بكل صفاتك· إن هذا هو كل ما استحوذ على مشاعري نحوك، وكل ما يسترعي اهتمامي حيالك·· دعيني آمل أن يدق قلبك من أجلي، أما قلبي فلن يتوقف عن الدق حباً لك إلا إذا صمت للأبد ولم يعد يدق أبداً ·
ويظهر أن الليدي the lady كان لها تطلعات أخرى، فبعد ذلك بعامين كان بيتهوفن لا يزال يرنو للقياها والتقدم لها فلم تجبه وفي مارس 1807 أحب بالعمق نفسه مدام ماري بيجوت Marie Bigot، فاعترض زوجها· فأرسل بيتهوفن خطاب اعتذار لها ولزوجها:
عزيزتي ماري، عزيزي بيجوت· إن من مبادئي الأساسية ألا أدخل في أية علاقة - سوى علاقة الصداقة - مع زوجة رجل آخر ·
وفي 14 مارس 1809 كتب إلى بارون فون جليشنشتاين Gleichenstein:
الآن يمكنك مساعدتي بالبحث لي عن زوجة· حقيقة أنه يمكنك أن تجد بعض الفتيات الجميلات في فرايبورج Freiburg ربما يكن قد تنهدن لموسيقاي···إن وجدت واحدة منهن فمن فضلك اعقد رباطا بيني وبينها سلفا (لحين وصولي) - لكن لابد أن تكون جميلة فمن غير الممكن أن أحب أي شيء غير جميل، وإلا لكنت قد أحببت نفسي ·(ملحق/1152)
لكن يحتمل أن يكون هذا الخطاب أحد فكاهات (نكات) بيتهوفن·
وكان أمره مع تيريز مالفاتى Therese Malfatti أكثر جدية، وكانت هي الأخرى إحدى تلميذاته، وكانت ابنة طبيب مشهور· ويشير خطابه لها والمؤرخ في 8 مايو سنة 1810 أن حبه كان مقبولا منها· وفي 2 مايو أرسل بيتهوفن طلبا عاجلا إلى صديقه فيجلر Wegeler - وكان وقتها في كوبلنز Coblenz ( كوبلنتس) - أن يذهب إلى بون ليستخرج له شهادة معمودية (التي يظهر فيها تاريخ الميلاد) لأنهم يقولون إنني أكبر سنا مما أنا عليه ونفذ فيجلر الطلب، لكن بيتهوفن لم يتابع الأمر، وفي شهر يوليو كتب ستيفان فون بروننج Bruning إلى فيجلر:
أعتقد أن مشروع زواجه قد فشل، ولهذا السبب لم يعد يشعر برغبة وحيوية في شكرك على ما بذلته له من متاعب·
لقد ظل بيتهوفن حتى الأربعين من عمره يصر على أنه ولد في سنة 1772، بينما تشير شهادة المعمودية (التي يظهر فيها تاريخ الميلاد) أنه ولد في سنة 1770·
وبعد وفاته عثر على ثلاثة خطابات في درج مغلق، وكانت هذه الخطابات من بين أرق وأحر خطابات الحب التي عرفها التاريخ· لكنه لم يرسلها أبدا، ولم يذكر فيها اسما بعينه ولا عنوانا، فظلت خطابات غامضة·· الخطاب الأول يحمل تاريخ 6 يوليو صباحا، ويحكي عن قيامه (بيتهوفن) برحلة تواقة إلى مكان غير محدد في المجر للقاء امرأة، وفيما يلي بعض عبارات هذا الخطاب:
يا ملاكي، يا كلي، يا نفسي (يا روحي) ···· أيمكن أن يصمد حبنا إلا من خلال التضحيات - إلا بالكف عن طلب كل شيء - أيمكنك أن تغيريه فلا تكوني كلية لي، ولا أكون كلية لكِ - آه يا إلهي طالع جمال الطبيعة، ولتقر عينك بهذا الذي يجب أن يكون - الحب يحتاج لكل شيء - سنلتقي يقيناً في وقت أوشك حينه·· قلبي مليء بالكثير الذي أودّ قوله لك· آه إن هناك لحظات أشعر فيها مع ذلك أن الكلام ليس شيئا (لا قيمة له)، فلتبق حقيقتي، وكنزي الوحيد، وكلي (وكل كياني) تماما كما أنا بالنسبة لكِ فأنا حقيقتك وكنزك الوحيد وكلك (روحك) ···
المخلص لك
لودفيج LUDWIG
والخطاب الثاني مختصر كثيرا وهو مؤرخ في مساء الأحد، 6 يوليو وينتهي كالتالي:(ملحق/1153)
آه يا إلهي، كم أنت قريب وكم أنت متعال! أليس حبنا حقا صرحا سماويا - محكم كالقبة الزرقاء·
أما الخطاب الثالث فنقرأ فيه ما يلي:
صباح الخير - كتب في 7 يوليو
رغم أنني في سريري إلا أن أفكاري تنطلق إليك يا حبي الخالد سعيدة طورا وحزينة طورا، في انتظار أن أعرف هل سيصغي لنا القدر أم لا· إن حياتي لا تكون كاملة إلا بك، فإما حياة أنت فيها بجانبي وإما لا حياة - نعم لقد قررت أن أتجول طويلا بعيدا عنك حتى أستطيع أن أطير إلى ذراعيك، لأقول ساعتها إنني أصبحت حقا في بيتي، وأرسل روحي لتستقر فيك في عالم الأرواح···· آه يا إلهي، لم كان ضروريا أن أفارق من أحب لتصبح حياتي في فيينا بائسة؟ ·
لقد جعلني حبك في وقت من الأوقات أسعد الرجال وأتعسهم - ففي مثل عمري أحتاج حياة ثابتة مستقرة·· كوني هادئة، فبالهدوء وحده يمكن أن نحقق هدفينا بالعيش معا - كوني هادئة - فلتحبيني - اليوم - الأمس - أشتاق إليك حتى البكاء - حياتي - كل كياني - وداعا - آه، واصلي حبك لي – لا تظلمي قلب حبيبك لودفيج وهو أكثر القلوب حبا لك· سأكون لك دوما· ستكونين دوما لي، سيكون كل منا للآخر دوما ·
من هي؟ لا أحد يعرف· لقد انقسم مؤرخو حياته فمنهم من قال إنها الكونتيسة Guicciardi-Gallenberg ومنهم من قال إنها الكونتيسة تيريز فون برونسفيج Therese von Brunswig، ولم يلحق أي كونتيسة منهما ضرر· من الواضح أن الليدي كانت متزوجة، وإن كان الأمر كذلك يكون بيتهوفن بتودده لها قد نسي المبدأ الممتاز الذي اعترف به لآل بيجوت Bigots ( والذي أشرنا إليه آنفا) · وعلى أية حال، فهو لم يرسل هذه الخطابات ولم يحدث ضرر لأي طرف من الأطراف وربما استفادت الموسيقى من هذا الحب·
5 - بيتهوفن وجوته (جيتة): 1809 - 1812 م
BEETHOVEN & GOETHE(ملحق/1154)
وفي سنة 1809 كانت النمسا - مرة أخرى - تخوض حربا مع فرنسا· وفي شهر مايو كانت القذائف الفرنسية تدك فيينا، فهرب النبلاء ورجال البلاط، ولجأ بيتهوفن إلى قبو يحتمي به، واستسلمت فيينا وفرض المنتصرون ضرائب على طبقة العوام بلغت عشر دخولهم السنوية، وفرضت ثلث الدخول كضريبة على الأثرياء، ودفع بيتهوفن لكنه وهو آمن على البعد وجه لكمته للغال Gaul ( الفرنسيين) وكتائبهم وصاح قائلا: "إذا أنا - كجنرال - أعرف عن الإستراتيجية، قدر معرفتي - كمؤلف موسيقي· عن تناسب الأنغام، لاقترحت عليك شيئاً تفعله" ·
ومن ناحية أخرى، شهدت الفترة من 1809 إلى 1815 بيتهوفن وهو في حالة نفسية طيبة نسبياً· ففي هذه الأعوام كان غالباً ما يزور بيت فرانز (فرانتس) برينتانو Franz Brentano التاجر الثري وراعي الفن والموسيقى، والذي كان يساعد بيتهوفن - أحياناً - بتقديم القروض له· وكانت زوجة فرانز أنطوني Franz Antonie - تعكف في غرفتها لمرضها فكان بيتهوفن - أكثر من مرة يتسلل إليها بهدوء ليعزف على البيانو ثم يغادر دون أن ينطق بكلمة واحدة، فقد كان حديثه إليها بلغة الموسيقى ·
وفي إحدى مرّات عزفه لها فوجئ وهو يعزف بيدين على كتفه فلما التفت لتبيّن الأمر وجد امرأة شابة (كانت وقتها في الخامسة والعشرين) جميلة، تتألق عيونها سروراً لعزفه بل ولغنائه، لقد كان يعزف موسيقاه التي وضعها لقصيدة جوته الشهيرة عن إيطاليا ( Kennst du das Land) · لقد كانت هذه المرأة الجميلة هي إليزابيث (بتينا Bettina) برينتانو أخت فرانز وكليمنتس برينتانو Clemens Brentano الذي سنتناوله فيما بعد كمؤلف ألماني شهير، وهي نفسها أصبحت في وقت لاحق· مؤلفة لعددٍ من الكتب الناجحة تُزاوج فيها بين أدب السيرة الذاتية وأدب الرواية على نحو كان في ذلك الوقت سمة سائدة·(ملحق/1155)
إنها - أي هذه المؤلفة - هي مصدرنا الوحيد للقصة التي رويناها لتوّنا، كما أنها هي مصدرنا الوحيد للأحداث اللاحقة التي يظهر فيها أنها سمعت في حفلة في بيت فرانز مناقشات بيتهوفن وفهمتها بعمق بل وروتها بنظام وأناقة كانا يُعوزان أحاديثه بشكل عام، وإن كان هذا النظام وتلك الأناقة يظهران أحياناً في خطاباته· وفي 28 مايو 1810 كتبت - بحماس - عنه (عن بيتهوفن) إلى جوته الذي لم تكن تعرفه من خلال علاقات الجوار مع أسرته في فرنكفورت فحسب وإنما من خلال زيارته في فيمار Weimar، وفيما يلي مقتطفات من خطابها الشهير هذا:
عندما رأيتُ من سأحدثك عنه الآن، نسيتُ العالم كله·· إنه بيتهوفن الذي أود أن أحدثك عنه والذي جعلني أنسى العالم وأنساك·· إنه يسير شامخاً في طليعة الحضارة البشرية·· هل سندركه أو نتخطاه أبداً؟ أشك في ذلك، لكن لنضمن أنه يعيش حتى·· يتطور السر الغامض الكامن في روحه تطوراً تاماً·· ساعتها فإنه بالتأكيد سيضع بين أيدينا مفتاح علمه السماوي (المقدس) ···
لقد قال هو نفسه: عندما أفتح عيني لابد أن أتنهّد، لأن ما أراه يناقض ما في ديني، ولابد أن أحتقر العالم الذي لا يدري أن الموسيقى وحي أرقى من الحكمة والفلسفة· إنها النبيذ الذي يوحي للمرء بعمليات تخليق وتوالد جديدة، وأنا عاصِرُ النبيذ the Bacchus الذي يستخلص هذا النبيذ العظيم للبشر لأجعلهم يثملون محلّقين في عالم الروح··
لا أخشى على موسيقاي، فلن يكون مصيرها شراً، فهؤلاء الذين يفهمونها لابد أن تحررهم من كل البؤس الذي يوقع الآخرين في شباكه···
إن الموسيقى وسط بين الحياة الفكرية والحياة الحسّية· كم أود أن أتحدث إلى جوته Goethe ( جيته) عن هذا - فهل سيفهمني؟ تحدثي إلى جوته عنّي·· قولي له ليسمع سيمفونياتي وسيجدُ أنني مصيب في قولي إن الموسيقى هي المدخل الروحي الوحيد لعالم معرفي أسمى···
ونقلت بتينا Bettina إلى جوته هذه الأقوال المبهجة التي قالها بيتهوفن، وأضافت: أسْعِدْني الآن برد عاجل يُظهر لبيتهوفن أنك تقدّره وأجاب جوته بخطاب مؤرخ في 6 يونيو 1810:(ملحق/1156)
وصلني خطابك يا طفلتي الحبيبة إلى قلبي في وقت سعيد· لقد تكبدت عناء كبيراً لتصوّري لي طبيعة عظيمة وجميلة في إنجازها وكفاحها·· إنني لا أشعر برغبة في تكذيب ما استطعتُ الإلمام به من انفجارك السريع (حماسك الشديد)، بل العكس إنني أفضل في الوقت الحاضر أن أوفّق بين طبيعتي وما أمكن تمييزه في أقوالك المتعددة الأوجه· فالعقل البشري العادي ربما يجد تناقضا فيها، لكن قبل هذا القول الذي قاله شخص ملهم على هذا النحو، فإن الرجل العادي لابد أن يقف احتراماً له·· قدّمي لبيتهوفن أحر التحيات وأخبريه أنني سأضحي بكل شيء للتعرف به··· ويمكنك أن تحثيه للقيام برحلة إلى كارلسباد Karlsbad التي أذهب إليها كل عام تقريبا لأكون في الغاية من السعادة لسماع موسيقاه والتعلم منه·
ولم يستطع بيتهوفن أن يذهب إلى كارلسباد، لكن أكبر فنّانين في ذلك العصر التقيا في تبليتز Teplitz ( منتجع في بوهيميا) في يوليو سنة 1812· وزار جوته الموسيقار بيتهوفن في مقر إقامته هناك وكتب انطباعاته الأولى في خطاب أرسله لزوجته: "إنه أكثر من رأيتُ من الفنانين تحلقا حول نفسه (أكثرهم ذاتية) وحيوية وإخلاصا لفنه· إنني أستطيع أن أفهم جيداً كيف أصبحت نظرته للعالم متفردة· إنها لابد أن تكون كذلك "· وفي 21 و23 يوليو قضى أمسيتين مع بيتهوفن الذي عزف ببهجة، وثمة قصة مألوفة عن مرَّة سارا فيها معا:
هناك أقبل نحوهما كلّ أفراد الحاشية وأميرة النمسا والدوقات، فقال بيتهوفن:
(أمسك ذراعي لابد أن يُتيحوا لنا مكاناً، لا نحن الذين نتيح لهم مكاناً)، وكان لجوته رأي مختلف وأصبح الموقف محرجاً له، فخلع ذراعه من ذراع بيتهوفن، واتخذ له مكاناً جانبياً وقد خلع قبعته (احتراماً) بينما ظل بيتهوفن طاوياً ذراعه وسار يميناً بين الدوقات ولم يخلع قبعته وإنما أمالها قليلاً، بينما تنحى الدوقات جانباً لإفساح الطريق له، وحيّوه جميعاً بسرور، وعند الطرف الآخر توقف منتظراً جوته الذي سمح للدوقات ورجال الحاشية بالمرور به وهو واقف وقد أحنى رأسه، فقال بيتهوفن حسناً لقد انتظرك لأنني أكن لك التقدير والاحترام الجديرين بك، لكنك جعلت هؤلاء الواقفين هناك في مكانة أعلى بكثير·(ملحق/1157)
تلك هي رواية بيتهوفن على وفق ما ذكرته بتينا Bettina التي أضافت قائلة:
"وبعد ذلك أتانا بيتهوفن سعياً وأخبرنا بكل شيء وليس لدينا رواية بشأن هذه الواقعة عن جوته، وربما كان علينا أن نتشكك نحن بدورنا في هذه القصة التي اختلف الراوون وتضاربوا في تفاصيلها، ذلك أن جوته عندما عبَّر عن غيظه لقطع الحوار بينه وبين بيتهوفن بكثرة التحيات، أجابه بيتهوفن قائلاً: لا تدعهم يسببون لسعادتكم إزعاجاً، فربما كانت هذه التحيات موجهة لي"·
قد تكون الرواية مشكوكاً فيها، وقد تكون صحيحة، وفي كلا الروايتين وجدنا من يجعلها متسعة مع بعض التعبيرات التي ذكرها كل من العبقريين في معرض تلخيص مقابلاته، وفي 9 أغسطس كتب بيتهوفن إلى ناشريه في ليبزج Leipzig - برتكروبف Breitkopf وهارتل Hartel: " جوته مغرم غراماً شديد بأجواء البلاط أكثر من غرامه بأنه شاعر"· وفي 2 سبتمبر كتب جوته لكارل زلتر Karl Zelter ( تسلتر):
لقد تعرفت على بيتهوفن في تبليتز Teplitz · إن موهبته أذهلتني· لكنه لسوء الحظ ذو شخصية غير أليفة بالمرّة ليس فقط لنظراته الخاطئة للعالم، فهو يمقت ما حوله وإنما أيضاً لأنه لم يعمل على جعل هذا العالم مبهجاً له أو للآخرين· ومن ناحية أخرى فإنه رجل يمكن أن نسامحه وهو جدير تماماً بذلك فهو يدعو للشفقة فهو يفقد سمعه، وربما يشوّه هذا الجانب الموسيقي في طبيعته أكثر مما يسبب له مشاكل اجتماعية· إنه ذو طبيعة مقتضبة لا يحب الإطناب، وربما ضاعف اعتلال سمعه من ميله للإيجاز (عدم الإفراط في الكلام) ·
6 - الانتصارات الأخيرة: 1811 - 1824 م(ملحق/1158)
أينما ذهب، ألّف الموسيقى، ففي سنة 1811 وضع المجموعة الموسيقية 97 في شكلها الأخير ( in B Flat) (Opus 97) وهي ثلاثية للبيان والفيولين (الكمان) والفيولونشللو Violoncello وأهداها إلى الأرشدوق رودلف، فحملت اسمه· وهي المجموعة الأكثر بهجة ووضوحاً من بين أعماله إذ لا يعتريها الاضطراب إلا في أضيق الحدود، وهي متناسقة فيها تكامل عضوي يُضفي عليها الجمال الكلاسيكيَّ والمهابة· وكان ظهوره لآخر مرّة كمؤدٍ (عازف) على البيان عند تقديمه لهذا العمل الكلاسيكي في أبريل سنة 1814· لقد كان الآن (عند أداء هذا العمل) وقد بلغ به الصمم حدا يجعله يفقد الحكم الصائب على صحة الضرب على مفاتيح البيان، فبعض الأصوات الصارخة (الفورتيسيمي Fortissimi) كانت تخفت منه، وبعض الأصوات الواهنة (البيانيسِّيمي Pianissimi) كانت تتلاشى منه وتصبح غير مسموعة·
وفي مايو سنة 1812 بينما كان نابليون يسوق نصف مليون مقاتل إلى الموت في روسيا، أصدر بيتهوفن سيمفونيته السابعة التي قلما عزفها العازفون، وهي تبدو الآن أفضل من سيمفونيتيه الخامسة والسادسة· هنا (في السيمفونية السابعة) نجد ألحانا حزينة جنائزية مُعتمة لضياع العظمة وتحطم الآمال، وهنا أيضاً حنين، وهنا حزن لضياع الحب الباقي، وهنا تساؤل حول السلام ومحاولة للفهم·· وكما كان مارشه March الجنائزي مقدمة موسيقية عفوية (غير مقصودة) لهزيمة نابليون في موسكو فإن عرضه (أداءه) للمرة الأولى في 8 ديسمبر 1813 كان مُزامنا لانهيار قوات نابليون في ألمانيا وأسبانيا· وقد أسعد الاستقبال الحماسي الذي لقيته هذه السيمفونية المتشائم العجوز (بيتهوفن) الذي استمر في إنتاج أعمال خالدة التي لابد أن نعتبرها بالنسبة إليه كأعمال كيتس Keats في الجرّة الإغريقية Grecian Urn: أغان بسيطة بلا نغم·(ملحق/1159)
ولم يستقبل مستعمو الموسيقى سيمفونيته الثامنة استقبالاً حسناً كسابقتها، وكان قد كتبها في أكتوبر سنة 1812· واسترخى الأستاذ وقرر ألاّ يعكف على الأعمال ثقيلة الوطأة، ولم يتوافق تمام الموافقة مع مزاج أمةٍ ترقب مصيرها (قدرها) يومياً وهو معلَّق على نتائج الحرب، وإنما كان من رأيه أن نبتهج الآن· لقد عكف على بندول الإيقاع (الميترونوم metronome) والسيرزاندو المرح المتبختر Scherzando، لقد كان هذا إبداعاً جديداً عامراً بالمرح والفكاهة·
وكانت أكثر مؤلفات بيتهوفن الموسيقية نجاحاً هي مقطوعة ( Die Schlacht von Vittoria) التي عُزفت في فيينا في 8 ديسمبر 1803 احتفاءً بالمعركة التي استطاع فيها ولينجتون Wellington تدمير القوة الفرنسية في إسبانيا· لقد فرحت فيينا أخيراً بوصول هذه الأخبار إليها فلطالما كانت مُحبطة لما يبدو من أن هذا الكورسيكي (نابليون) لا يُقهر· والآن أصبح بيتهوفن بالفعل شهيراً في المدينة التي تبنّته (فيينا) · لقد كان موضوع هذه المقطوعة وما حققته من نجاح سبباً في جَعْل بيتهوفن معروفاً ومشهوراً لدى أصحاب الجلالة والفخامة والسمّو الذين حضروا مؤتمر فيينا المعروف 1814·
وانتهز بيتهوفن الفرصة لينظم حفلاً موسيقيا لصالحه فقدم له البلاط الإمبراطوري - انتشاء بالنصر - قاعته الواسعة (الريدوتنسال Redoutensaal) ، وأرسل بيتهوفن دعوات شخصية لأصحاب المقام الجليل ممن حضروا المؤتمر، فحضر ستة آلاف شخص، فأصبح نابليون ثرياً قادراً على ادخار مبلغ كبير لتأمين مستقبله ومستقبل ابن أخيه·(ملحق/1160)
وفي 11 نوفمبر سنة 1815 مات أخوه كارل Karl بعد أن ورَّث (بوصيّة) مبلغاً بسيطاً لأخيه لودفيج Ludwig ( بيتهوفن)، كما عينه (أي عيّن أخاه لودفيج بيتهوفن) وأرملته وصييّن على ابنه كارل ذي الثمانية أعوام· وواصل بيتهوفن في الفترة من 1815 إلى 1826 في الأوساط الأدبية وفي المحاكم نضاله الذي راح يذوي شيئاً فشيئاً مع تريزا أرملة أخيه للحصول على رعاية ابن أخيه كارل وتنشئته وتعليمه، وكانت تريزا قد قدّمت لكارل الكبير دوطة Dowry ومنزلاً، لكنها كانت قد غرقت في إثم الزّنا، وكانت قد اعترفت لزوجها بأنها زنت فسامحها، لكن بيتهوفن لم يسامحها أبداً لارتكابها فاحشة الزنا، واعتبرها غير جديرة برعاية ابن أخيه (واسمه أيضاً كارل) ولن نتتبّع تفاصيل هذه القصة بجزئياتها القذرة· وفي سنة 1826 حاول كارل (ابن أخي بيتهوفن) الانتحار بسبب تمزقه بين أمه (الزانية) وعمه (الموسيقار بيتهوفن) لكن أحواله صلحت أخيراً فالتحق بالجيش وراح يرعى أموره بشكل طيب·
ومع سنة 1817 كان بيتهوفن في المرحلة الأخيرة من حياته الإبداعية· لقد ظل بيتهوفن لفترة طويلة ثائرا في سياساته الخاصة، أما الآن فقد أعلن هذه الثورة ضد القواعد الكلاسيكية ورحب بالحركة الرومانسية في الموسيقى، وخفف من وطأة البناء الكلاسيكي في السوناتا والسيمفونية لينطلق بها إلى رحاب العاطفة والتعبير عن الذات·
لقد تأثر بيتهوفن بشيء من الروح المتمردة الحماسية التي كانت في فرنسا من خلال كتابات روسو وأحداث الثورة الفرنسية، والتي كانت في ألمانيا خلال فترة الغليان Sturm und Drang في كتابات جوته (فرتر ليدن Werthers Leiden) والشاب شيلر Schiller ( دي راوبر Die Rauber) ومن ثم في قصائد تيك Tieck ونوفاليس Noivalis، وفي الكتابات النثرية لشليجل Schlegels، وفي الكتابات الفلسفية لفيتشه Fichte وشيلنج Schelling لقد وصل شيء من هذا كله لبيتهوفن فوجد تربة خصبة في نزوعه الفطري للاتجاه العاطفي وتميزه الفردي الفخور·(ملحق/1161)
لقد زوت قيود النظام القديم في الفن، كما زوت في القانون والمعاهدات، مخلية السبيل أمام الحرية الفردية المصممة على شق طريقها ضاربة عرض الحائط بالقواعد والقيود والأشكال القديمة· لقد سخر بيتهوفن من الجمهور كغير مبالين ومن النبلاء كمدعين· لقد هزأ من المعاهدات والاتفاقات باعتبارها بعيدة أو لا صلة لها بالإبداع الفني ورفض أن يكون حبيس القوالب التي لا تليق إلا بالأموات، بل وحتى تلك التي كانت تليق بباخ Bach وهاندل Handel وهايدن Haydn وموزارت وجلوك Gluck· لقد أحدث ثورته الخاصة بل وحتى إرهابه الخاص، وجعل مقطوعة أغنية فرحة Ode to Joy إعلانا للاستقلال حتى في توقعه للموت·
لقد شكلت سونتاته الصارخة (الهمركلافير) جسراً بين مرحلته الفنية الثانية، ومرحلته الثالثة· حتى اسمها كان ثورة· وقد اقترح بعض التيوتون Teutons الذين سئموا هيمنة اللغة الإيطالية في الاقتصاد والموسيقى، استخدام اللغة (المقصود المصطلحات) الألمانية بدلا من الإيطالية في النوت الموسيقية والآلات الموسيقية، وعلى هذا كان من رأيهم ضرورة أن يستبدل الموسيقيون بمصطلح منخفض Low وعال Strong المصطلح الألماني همركلافير مادام النغم ينتج بالطرق الخفيف على الأوتار (بواسطة مفاتيح البيان بطبيعة الحال) وقبل بيتهوفن الفكرة بالفعل وكتب إلى صانع الآلات الموسيقية سيجمون شتينر Sigmund Steiner في 13 يناير 1817 بدلا من مصطلح Pianoforte اكتب همركلافير فهذا سيجعل الأمر مستقراً إلى الأبد وللجميع ·(ملحق/1162)
وكانت السوناتا الثانية ( Opus 106 in B Flat) في مجموعة سونتاته الصارخة (الهمركلافير) هي الأكثر لفتاً للنظر· كتبها في عامي 1818 و1819 باعتبارها السوناتا الكبيرة للهمركلافير Grosse Santa fur das Hammerklavier وأخبر زيرنى (تسيرنى) Czerny أنها ستظل أعظم مقطوعاته الموسيقية التي ألفها للبيان وأكد عازفو البيان في الأجيال المتعاقبة ذلك · وأنها تبدو معبرة عن استسلام بيتهوفن، ومع هذا فإنها تمثل انتصار الفن على اليأس· إنها أكثر من هذا فهي رفض للجزع والكآبة حتى إن بيتهوفن أتم بعدها سيمفونيته التاسعة· لقد بدأ في تأليفها في سنة 1818 في الوقت نفسه الذي يكتب فيه أيضا عمله ( Missa Solemnis) الذي كان يعد ليتم أداؤه بمناسبة تنصيب (ترسيم) الأرشدوق ردولف رئيسا لأساقفة أولموتس Olmutz، وانتهى من موسيقى القداس أولا (قداس Missa Solemnis) وكان ذلك في سنة 1823 وبذلك تأخر عن ميعاد الترسيم (التنصيب) ثلاث سنوات·
ورغبة من بيتهوفن في إضافة القليل (من المال) لما لديه ليكون مفزعاً له في الشيخوخة، وليوصي منه لابن أخيه كارل - فكر في بيع اشتراكات في نسخ من موسيقى قداسه السابق ذكره قبل نشرها، وأرسل دعوى بهذا الصدد لملوك أوربا وحكامها طالبا من كل منهم خمسين دوكات ذهبا · وأتته الموافقة ببطء، لكن في سنة 1825 أتته عشرة ردود: من حكام روسيا وبروسيا وفرنسا وسكسونيا وتسكانيا Tuscany، وأمراء جوليتسين Golitsyn وراد زيفيل Radziwill ومن جمعية في فرانكفورت (هي جمعية Caecilia Association of Frankfort) وموسيقى القداس التي نتحدث عنها ( Missa Solemnis) طال تدبره فيها قبل إخراجها للناس، واتسمت بغرابة بدائل شكلها النهائي، فكانت تلقى القبول بشكل عام·(ملحق/1163)
وليس فيها أثر لهرطقاته التي كانت تظهر في بعض المناسبات والتي شككت في عقيدته الكاثوليكية الموروثة، فكل نبضة في هذه الليتورجية liturgy ( موسيقى القداس) تتفق مع موسيقى الكونكوردات (موسيقى التوافق مع الكنيسة الكاثوليكية) ومن خلال نغماتها كلها يمكن أن نسمع عقيدة يائسة لرجل يموت· لقد كتب في مستهل بيان عقيدته في مخطوطة قطعته الموسيقية: " الله فوق الجميع - الله لم يتخل أبداَ عني " لقد كانت موسيقاه في موسيقى القداس هذه تعبيرا قويا جدا عن التواضع المسيحي لكن التركيز الشديد عل كل جزء وفقرة، وما يساند ذلك كله من جلال وفخامة جعلت هذه المقطوعة الموسيقية ( Missa Solemnis) أضحية أخيرة ومناسبة لروح حائرة لله الذي لا يسبر أغواره أحد incomprehensible
وفي فبراير سنة 1824 أكمل سيمفونيته التاسعة التي ناضل فيها ليعبر عن فلسفته الأخيرة - أن يقبل الإنسان قدره بسعادة - وليكسر كل قيود النظام الكلاسيكي (في التأليف الموسيقي) ومضى الملك المتهور تاركا كبرياءه لتقوده لابتهاج كاسح للتضحية بالنظام الموسيقي القديم حتى الجيد منه للحرية الشابة الجيدة (أيضا) · لقد اختفت عن مسامع السامعين إلا سمعه الباطني (السري) أو بتعبير آخر إلا من دوي النغمات في أعماقه كل المذابح altars المتناثرة التي كان عليه أن يختار منها والتي كان يجب أن تقف شامخة كالأعمدة التي تحمل الصرح·
لقد بدت الفقرات الموسيقية مفرطة في التكرار والإصرار، وفي بعض السياقات كانت تظهر لحظة من الرقة أو الهدوء ومن ثم ينطلق النغم الصارخ (الفورتيسيمو fortissimo) وكأنما ينبه عالما مجنونا غير مستجيب· لكن الدارس العظيم للموسيقى لا يرى الأمر كذلك، وإنما يرى في هذه الوفرة الموسيقية و"هذا الثراء الموسيقي بساطة في الشكل لا حد لها، وإتقاناً للتفاصيل الموسيقية التي قد تبدو لأول وهلة مربكة حتى نتحقق أنها متسقة مع نتائجها المنطقية··· "·(ملحق/1164)
وربما ألغى الأستاذ (بيتهوفن) بشكل غير معلن الجهود الكلاسيكية ليقدم لنا شكلا موسيقيا خالدا (دائما) لمعنى محجوب أو جمال هائل (لا حد له) · لقد اعترف باستسلامه وراح يمرح في ثروته غير النظامية - ثروة خياله ومنابع فنه السخية· وفي النهاية عاد أسير تحديات الشباب، وادخر للموسيقى أغنية شيلر Schiller التي لم تكن - حقيقة - مجرد أغنية مرحة، وإنما كانت حربا مرحة سعيدة ضد الحكم المطلق وضد البعد عن القيم الإنسانية:
- واجهوا الملوك بأرواح ملؤها الرجولة
- حتى لو كلفنا هذا ثرواتنا وأرواحنا
- ففي دمار التيجان حياة لما هو أجدر
- الموت لهم جميعا - إنهم ذوو دماء كاذبة
(أو يسري الكذب فيها)(ملحق/1165)
لقد راح بيتهوفن الآن بعد اكتمال أعماله الكبرى ووصوله لأوج اكتمال فنه الموسيقي يتطلع إلى فرصة لتقديمها للجمهور، لكن روسينى Rossini كان قد فتن النمسا في سنة 1823 بالإضافة إلى أن متذوقى الموسيقى البنادقة Viennese أصبحوا الآن مفتونين بالأنغام الإيطالية فأحجم مديرو الفرق الموسيقية المحليون عن المخاطرة بتقديم عملين موسيقيين يتسمان بالصعوبة مثل موسيقى القداس التي أسماها بيتهوفن ( Missa Solemnis) ، والسيمفونية الكورالية· وعرض منتج من برلين على بيتهوفن تقديمها فأوشك على قبول العرض، إلا أن مجموعة من عشاق الموسيقى على رأسها أسرة ليشنوفسكى Lichnowsky حذرت مؤلف فيينا الموسيقي البارز من اللجوء إلى عاصمة منافسة لفيينا لعزف آخر أعماله وأكثرها بهاء، وتعهدت بعزفها على مسرح كير نتنيرثور Karntnerthor، وبعد مساومات شاقة من كل الأطراف تحدد ميعاد الحفل الموسيقي في 7 مايو 1824 ببرنامج ثم تكييفه على وفق المتاح من الإمكانات: مستهل موسيقي، وأربعة أجزاء من موسيقى القداس Missa Solemnis والسيمفونية التاسعة مع كورس ألماني جهير، ولم يستطع المغنون الوصول إلى المستوى المرتفع للنوتة الموسيقية، فحذفوا ما لم يستطيعوا أداءه، واستقبل الجمهور موسيقى القداس استقبالا وقورا، أما السيمفونية التاسعة فأثارت إعجابا حماسيا· وكان بيتهوفن يقف على المسرح وظهره للجمهور، ولم يكن يستطيع سماع التصفيق، فكان عليه أن يدير وجهه للجمهور ليراه (التصفيق) رأي العين ·
7 - انتهت الملهاة (كوميديا فينيتا): 1824 - 1827 م
COMOEDIA FINITA(ملحق/1166)
لقد تشاجر بيتهوفن مع شيندلر Schindler وأصدقاء آخرين بسبب المبلغ القليل (420 فلورين) الذي تلقاه من عوائد الحفل الموسيقي البالغ 2,200 فلورين· لقد اتهمهم ببخس حقه، فتركوه وحيدا، ولم يكن يتردد عليه إلا ابن أخيه في المناسبات، وقد كانت محاولة ابن الأخ هذا الانتحار في سنة 1826 مما ضاعف أحزان بيتهوفن فطفح به كيل الحزن، وفي هذه الأعوام كتب بيتهوفن آخر خمسة كارتيتات quartets من كارتيتاته البالغة ستة عشر كارتيتاً (الكارتيت قطعة موسيقية تعزفها أربع آلات) وبدأ تأليفه لهذه الكارتيتات في سنة 1823 عندما عرض الأمير نيكولاي جوليتسين Nikolai Golitsyn أن يدفع أي مبلغ مقابل كارتيت واحد أو كارتيتين أو ثلاثة تهدى إليه، ووافق بيتهوفن أن يأخذ لقاء كل كارتيت خمسين دوكات (الكارتيت لحن موسيقي تعزفه أربع آلات) · وهذه الكارتيتات الثلاثة تحمل الأرقام التالية ( opp. 127, 130 & 132) أما العملان اللذان يحملان أرقام ( Opp. 131 & 135) فهما الكارتيتان النهائيان اللذان اتسمت موسيقاهما بالغموض الباطني والغرابة مما ضمن لهما الشهرة·
وتم عزف الكارتيت رقم 130 بشكل خاص في سنة 1826 فجاهر المستمعون باستحسانهم إياه وبهجتهم به إلا أن العازفين وجدوا الحركة الرابعة فيه صعبة الأداء، فأعاد بيتهوفن كتابة هذه الحركة الأخيرة بشكل أبسط· وهذه الحركة التي كان قد تم رفضها يتم عزفها الآن في المجموعة اللحنية Grosse Fugue, "Opus 133" إذ فسرها أحد دارسي بيتهوفن بأنها تعبر عن فلسفته النهائية: الحياة والحقيقة تكونان نقيضين لا ينفصلان - الخير والشر، والفرح والتعاسة، والصحة والمرض، المولد والوفاة، ولابد أن تتكيف الحكمة مع هذا، فهذا هو جوهر الحياة الذي لا مناص منه·(ملحق/1167)
وأعظم هذه الكارتيتات في نظر بيتهوفن، هي رقم 131 ( in C Sharp Minor) وقد انتهى من تأليفها في 7 أغسطس 1826، وقد حظي هذا الكارتيت بثناء المستحقين والنقاد أكثر مما حظيت به الكارتيتات الأخرى· لقد قيل أن في هذا الكارتيت نظرة باطنية (صوفية) معروضة بشكل تام وقال السامعون لها مؤخراً أنها تبدو كعويل غامض، وأنين مرير لحيوان أصيب بجرح مميت· وآخر الكارتيت الخامس ( Opus 135) يطرح سؤالاً في حركته الأخيرة: أكان هذا ضرورياً؟ ( Muss es Sein?) وكانت الإجابة: نعم Es muss Sein·
وفي 2 ديسمبر سنة 1826 أصيب بيتهوفن بسعال حاد فاستدعى طبيباً، فرفض طبيبان من أطبائه الذين سبق أن عالجوه - الحضور إليه وأتى إليه الطبيب الثالث فافروخ Wawruch وشخَّص حالته بأنه مصاب بداء الرّئة (نويمونيا Pneumonia) وعكف بيتهوفن في سريره وأتى أخوه جوهان Johann لرعايته، وغادر ابن أخيه كارل بناءً على استدعاء الجيش له، فباركه بيتهوفن (دعا له أن تصحبة السلامة)، وفي 11 يناير انضم الدكتور (الطبيب) مالفاتي Malfatti إلى الطبيب فافروخ لعلاج بيتهوفن، فوصف تناول المريض شراب البنش المجمّد (البنش punch شراب مسكر به كحول وليمون وأعشاب أخرى) لمساعدته على النوم، فحسّن بيتهوفن من مذاقه بإضافة الكحول المقطر لقد أساء استخدام الوصفة الطبية فتفاقم الاستسقاء Dropsy واليرقان Jaundice، ولم يستطع التبول فتراكم البول في جسمه، وثم سحب البول من جسمه مرتين فقارن نفسه بنبع ماء حار·
ورغم مرضه فقد قرر ألا ينفق من أسهمه البنكية (التي بلغت قيمتها الإجمالية عشرة آلاف فلورين) لأنه ادخرها لابن أخيه كارل، والآن فقد كان مضطراً لكثرة النفقات فكتب إلى السير جورج سمارت Smart في لندن في 6 مارس 1827:
ماذا سيحدث لي؟ هل سأعيش حتى أستعيد قوتي وأستطيع أن أكسب عيشي مرة أخرى عن طريق قلمي؟ ··أتوسل إليك أن تستخدم كل نفوذك لحث جمعية عشاق الموسيقى لتنفيذ قرارها الذي اتخذته في وقت سابق بإقامة حفل موسيقي لصالحي· ولا تساعدني صحتي على أن أقول المزيد ·
وأرسلت له الجمعية مائة جنيه مقدمة لعوائد الحفل الموسيقي المقترح·(ملحق/1168)
وفي 16 مارس اتفق الأطباء على أن بيتهوفن لم يبق بينه وبين الموت وقت طويل، فطلبوا منه - وكذلك طلب أخوه جوهان أن يوافق على استدعاء قس، فوافق· إذ يبدو أنّه نسي الآن ملاحاته للرّب ففي خطاب أرسله في 14 مارس يذكر أنه، "يقبل كل ما تقرّه حكمة الله سبحانه"
وفي 23 مارس تلقى أسرار المسيحية المقدسة Sacrament لآخر مرة، ويظهر أنه قبلها بمزاج مرحّب، وقد ذكر أخوه في وقت لاحق أن الرجل المحتضر (بيتهوفن) قال له:
شكراً على هذه الخدمة الأخيرة،
وقال بيتهوفن لصديقه شيندلر Schindler وهو يحتضر بعد انتهاء الطقوس الدينية (تلقين أسرار المسيحية):
"كوميديا فينيتا أي لقد انتهت الملهاة أو المهزلة",
وهو لا يقصد غالباً الطقوس الدينية وإنما الحياة نفسها، وكانت هذه العبارة (كوميديا فينيتا) تستخدم في المسرح الروماني الكلاسيكي لإعلان نهاية المسرحية·
لقد أسلم بيتهوفن الروح في 26 مارس 1827 بعد ثلاثة أشهر من المعاناة، وقبل لحظات قليلة من إسلامه الروح غمر الغرفة ضوء أضاء الغرفة أعقبها رعد شديد، فرفع بيتهوفن ذراعه اليمنى ووجه قبضته (لكمته) إلى شيء ما، يبدو أنه وجهها للعاصفة، وبعدها مباشرة انتهت آلامه (حياته) ولن نعرف أبداً ما تعنيه هذه الإيماءة الأخيرة (توجيهه لكمة إلى شيء ماء) ·
وأظهر فحص جثته اضطرابات داخلية معقدة هي التي كانت سوّدت حياته ومزاجه· لقد كان كبده متقلّصة سقيمة·
وكانت شرايين أذنيه قد سدتها جزئيات دهنيه كما كان العصب السمعي تالفاً· إن آلام الرأس وعُسر الهضم والمغص واليرقان - تلك الأمراض التي كان يشكوا منها باستمرار، بالإضافة إلي الإحباط العميق الذي يُفسّر ما ورد في كثير من خطاباته - كل هذا كان نتيجة طبيعية لالتهاب الكبد المزمن وعسر الهضم · وربما كان حبه للمشي والهواء الطلق قد خفّفا من آلامه، وأتاحا له ساعات في حياته لا يعاني فيها ألماً·(ملحق/1169)
وحضر جنازته ثلاثون ألفاً، وكان هَميل Hummel عازف البيان، وكروتسر Kreutzer عازف الفيولين من بين حاملي بساط الرحمة في جنازته، وكان شوبرت Schubert وزيرني Czerny وجريلبارتسر Grillparzer من بين حاملي المشاعل فيها (في جنازته)، ولم يُكتَب على شاهد قبره سوى الاسم بيتهوفن، وتاريخ ميلاده وتاريخ وفاته·(ملحق/1170)
الفصل التاسع والعشرون
ألمانيا ونابليون: من 1786 إلى 1811 م
Germany and Napoleon
1 - الإمبراطورية الرومانية المقدسة: عام 1800 م
يرى هينرش فون تريتشكي Heinrich Von Treitschke، وهو بروسي وطني متحمس لبروسيا، ومع ذلك فهو مؤرخ عظيم (لم تُبعده وطنيته عن النظرة الموضوعية اللازمة للمؤرخ) أنه:
"لم يحدث أبداً منذ أيام لوثر Luther أن أصبحت ألمانيا في هذه المكانة المرموقة في أوروبا كما هي عليه الآن (1800) حيث أصبح أعظم أبطال العصر وأعظم شعرائه من أُمّتنا " (ألمانيا) ·
قد نصنّف فريدريك Frederick كمنتصر في درجة أدنى من نابليون، ولكن الذي لا شك فيه أن السَّناء المنبعث من جوته Goethe وشيلر Schiller كان لا يُضارعه سناء في مضمار الشعر والنثر من ادنبره إلى روما· وقد اهتز العقل الأوروبي من لندن إلى سان بطرسبرج بفكر الفلاسفة الألمان من كانط ومروراً بفيتشه Fichte وشيلنج Shelling وهيجل إلى شوبنهاور · لقد كانت ألمانيا تشهد عصر نهضتها الثاني ·
لقد كانت ألمانيا - مثل إيطاليا في القرن السادس عشر - ليست أمة إن كان المقصود بالأمة مجموعة من الناس يعيشون في ظل قوانين واحدة وحكومة واحدة· لقد كانت ألمانيا في سنة 1800 سلسلة غير محكمة (غير متماسكة) من نحو 250 دولة لكل منها قوانينها الخاصة وضرائبها الخاصة، وكثير من هذه الدول كان لكل منها جيشها الخاص، وعملتها الخاصة، ودينها الخاص بل وعاداتها الخاصة ولباسها، وكان بعضها يتحدث لغة (ألمانية) غير مفهومة لنصف العالم الألماني· إلا أن اللغة الألمانية المكتوبة كانت على أية حال لغةً واحدة مما أتاح لكتاب ألمانيا قرَّاءً من ثلث القارة الأوروبية·(ملحق/1171)
ويجب أن ننوِّه في هذا الصَّدد أن الاستقلال النسبي لهذه الدول الفُرادى كان يسمح باختلاف الأشكال والأنماط، ويُثير المنافسة، ويتيح حرية التجريب والتفكير بقدر قد يفوق ما هو موجود في عاصمة مركزية لدولة كبيرة· لقد كان الوضع بالنسبة إلى هذه الدويلات الألمانية في هذه الفترة شبيهاً بما كان في إيطاليا في عصر النهضة (الرينيسانس Renaissance Italy) · ألم تكن مدن ألمانيا القديمة - التي كانت لا تزال متفردة على هذا النحو الجذاب، لتفقد حيويتها وطبيعتها إذا ما تم إلحاقها ببرلين سياسياً وثقافياً، كما حدث بالنسبة لمدن فرنسا عندما أصبحت تابعة لباريس؟ وهل لو كونت كل أجزاء ألمانيا كياناً واحداً مشكِّلةً أمة موحّدة - صارت قلباً لأوروبا غنياً بالسكان والمواد يبزّ كل ما بقي من أوروبا على نحوٍ لا يُقاوم؟
لقد كانت الدول الألمانية بمعنى واحد ناقصة الاستقلال: لقد قبلت هذه الدول أن تكون أعضاء في الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي كانت قد بدأت - أي هذه الإمبراطورية - في سنة 800 م بتتويج البابا لشارلمان الذي يشير إليه الألمان بأنه their own Frankish Karl der Grosse، وفي سنة 1800 م الإمبراطورية شملت العديد من الولايات الألمانية الباهرة والمتنوعة، وكان أهم هذه الدول الألمانية المكوّنة للإمبراطورية الرومانية المقدسة هي تسعة دول ناخبة electoral أي دول تنتخب الإمبراطور: النمسا، وبروسيا، وبافاريا Bavaria، وسكسونيا، وبرونسفيك - لوينبورج Brunswick-Luneburg، وكولوني Cologne ومينز Mainz وهانوفر وتريير Trier ( تريفز Treves) ،(ملحق/1172)
ويأتي في المقام الثاني سبعة وعشرون كياناً ذو طابع روحي أو ديني يحكم كل منها أسقف (مطران) كاثوليكي على نحو يذكِّر بالحكم الأسقفي للمدن في الإمبراطورية الرومانية الغربية التي انتهت منذ ألف عام، وهذه الكيانات الروحية (ذوات الصبغة الدينية) هي: أرشبيشوبية سالزبورج archbishopric of Salzburg ( لفظ الأرشبيشوب يعني كبير الأساقفة - والأرشبيشوبيَّة هي مقر كبير الأساقفة) وفي سالزبورج هذه عاش موزارت· أما الأسقفيات (حيث في كل منها أسقف بيشوب) فهي: مونستر Munster ولييج Liege وفيرتسبورج Wurzburg وبامبرج Bamberg وأوسنابروك Osnabruck وبادربورن Paderborn وأوجسبورج Augsburg وهايلدشيم Hildesheim وفولدا Fulda وسبير Speyer وريجنسبرج Regensburg ( راتيسبون Ratisbon) وكونستانس Constance وفورمز Worms ولوبك Lubeck···
وكان هناك أمراء علمانيون (غير إكليريكيين) يحكمون سبعاً وثلاثين دولة، بما فيها هسي - كاسل Hesse-Cassel, وهسي دارمشتات Hesse-Darmstadt, وهولشتين Holstein وفيرتمبرج Wurttemberg ( مع شتوتجارت Stuttgart) , وساشن (زاخن) Sachsen ( ساكس - Saxe) فيمار Weimar ( وكان بها جوته) , وساشن جوتا Sachsen-Gotha ( وكان فيها الدوق إرنست الثاني - المستبد المتنوّر) , وبراونشفيج فولفنبوتل Braunschweig Wolfenbuttel ( براونشفيج تُكتب أيضاً برونسفيك Brunswick) , وبادن ( Baden- (With Baden-Baden Karlsruhe..... وكانت هناك خمسون مدينة حُرّة (رايخشتادت Reichstadte) كانت كذلك زمن الإمبراطورية: هامبورج وكولوني، وفرانكفورت - آم - مين Frankfurt-am-Main وبريمن Bremen وفورمز (فورمس Worms) وسبير Speyer ونورمبرج Nuremberg ( تكتب أيضاً Nurnberg نورنبرج) وأولم Ulm···(ملحق/1173)
ومن كل تلك الكيانات الألمانية وغيرها كان يأتي الناخبون electors ( أو الفرسان الإمبراطوريون) وغيرهم من الممثلين إلى الرايخستاج Reichstag أو الدايت الإمبراطوري Imperial Diet الذي يجتمع في ريجينسبورج Regensburg بدعوة من إمبراطورهم (إمبراطور كل هذه الكيانات أي إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة) · وفي سنة 1792 اختار الناخبون Electors ( الناخب بالمفهوم الذي شرحناه) فرانسيس الثاني النمساوي إمبراطوراً للإمبراطورية الرومانية المقدسة وتوَّجوه في حفل تتويج فخم اتسم بالإسراف الشديد، فدعت النبلاء وذوي المكانة من مختلف أنحاء ألمانيا لفرانكفورت - آم - مين لمباركته (مبايعته) · وكان فرانسيس الثاني هو الأخير في سلسلة طويلة من أباطرة هذه الإمبراطورية الرومانية المقدسة·
وبحلول عام 1800 فقدت هذه المؤسسة (الإمبراطورية) - التي كانت يوماً ما مؤثرة ومفيدة بشكل عام - فقدت تقريبا كل فعاليتها وفائدتها· لقد أصبحت أثراً من آثار النظام الإقطاعي· لقد كانت كل قطعة segment ( لنقل قرية أو عزبة) يحكمها سيد (لورد) إداري manorial lord ( لنقل عمدة فهو أقرب للمفهوم العربي) تابع لسلطة مركزية في المدينة)، إلا أن هذه السلطة المركزية اعتراها الضعف بسبب ازدياد عدد سكان هذه الوحدات وزيادة ثرواتها وقوتها العسكرية، وانتحائها نحواً علمانيا أما الوحدة الدينية في هذه الإمبراطورية المقدسة فكانت قد انتهت بظهور حركة الإصلاح الديني (الحركة البروتستنتية) وحرب الثلاثين عاما، وحرب السنوات السبع 1756 - 1763·(ملحق/1174)
فكان شمال ألمانيا في سنة 1800 على المذهب البروتستنتي بينما كان جنوب ألمانيا على الكاثوليكية أما غرب ألمانيا فتخلى عن شيء من تدينه نتيجة حركة التنوير الفرنسية، التنوير Aufklarung الذي انتشر على يد الكاتب المسرحي الألماني ليسنج Lessing· وكلما مالت شمس الدين للأفول، ازدهرت الروح الوطنية على نحو قل أم كثر، فإن عقيدة ما (سياسية أو اجتماعية) كان لابد من وجودها لتمسك أجزاء المجتمع وتضمها معا وتوثق عراها في مواجهة الاندفاع بعيداً عن المركز أو بتعبير آخر في مواجهة الرغبة في مزيد من التفكك· وقد أدى استقطاب ألمانيا بين الشمال البروتستنتي بقيادة بروسيا، والجنوب الكاثوليكي بقيادة النمسا إلى نتائج رهيبة ممثلة في فشل القطبين (الشمال البروتستنتي والجنوب الكاثوليكي) في توحيد جهودهما ضد نابليون في معركة أوسترليتز Austerlitz في سنة 1805 ومعركة جينا (يينا) في سنة 1806·
وقبل هاتين الصفعتين بفترة طويلة كانت النمسا نفسها قد بدأت تتجاهل الدايت الإمبراطوري (المجلس التشريعي الإمبراطوري) وتبعتها في ذلك دول ألمانية كثيرة (دول بالمعنى الوارد في صدر هذا الفصل)، وفي سنة 1788 لم يستجيب للدعوة لحضور هذا الدايت سوى 14 أميراً من بين مائة لهم حق انتخاب (الإمبراطور) وثمانية من بين خمسين من رؤساء المدن (عمد المدن) فكان محالا أن يستطيع الدايت إصدار قرارات· وفي معاهدة كومبوفورميو Compoformio (1797) ولونيفيل Luneville (1801)(ملحق/1175)
أجبر نابليون النمسا على الاعتراف بالحكم الفرنسي على المناطق الواقعة غرب الراين، وهكذا أصبح الجزء الثري من الإمبراطورية الرومانية المقدسة - بما في ذلك مدن: سبير Speyer ومانهايم Mannheim وفورمز Worms ومينز (مينتس Mainz) وبنجن Bingen وتريير Trier وكوبلنز (كوبلنتس Coblenz) ، وآخن Aachen وبون Bonn وكولوني Cologne - تحت الحكم الفرنسي· وبحلول عام 1801 كان هناك قبول عام بأن الإمبراطورية الرومانية المقدسة أصبحت - كما قال فولتير - لا هي مقدسة، ولا هي رومانية ولا هي إمبراطورية، فلم تكن هناك دولة ألمانية مهمة تعترف بسلطانها أو سلطان البابا فكان لا بد من ظهور شكل جديد من التعاون والنظام - وسط هذه الفوضى - يلقى القبول، وقد أخذ نابليون على عاتقه مواجهة هذا التحدي·
2 - كونفدرالية الراين: عام 1806 م
THE CONFEDERATION OF THE RHINE
كان نهر الراين العظيم كمتحف للمناظر الخلابة الرائعة، والذكريات التاريخية التي خلدتها - في بعض الأحيان - الأعمال المعمارية· وكان بالإضافة إلى ذلك ذا فضل حيوي على الاقتصاد؛ يروي التربة الصالحة للزراعة، ويربط كل مدينة يمر بها بالكثير من المدن الأخرى التي تضارعها ثقافة وتجارة، وفقد النظام الإقطاعي أنيابه وأساليبه مع توطن التجارة والصناعة على جانب النهر· لكن هذا الازدهار المنساب كانت تفسده أربع قضايا: كسل الحكام وانغماسهم في الملذات، شيوع الرشوة بين الجهاز الإداري، تركز الثروة بشكل حاد، تمزق أو تفتّت عسكري يحرض الغزاة على الغزو·(ملحق/1176)
وقد فتح الطريق إلى التنظيم الجديد لدول الراين بوعد قدمته كل من فرنسا والنمسا لتعويض ذوي الحيثية الألمان الذين فقدوا ممتلكاتهم بسبب اعتراف النمسا بالسيادة الفرنسية على غرب الراين - تعويضهم بممتلكات جديدة، وأدى تذمر الذين نزعت ملكيتهم واعتراضهم على ما عُوضوا به إلى انعقاد مؤتمر رشتات Rastatt بين فرنسا والنمسا (16 ديسمبر 1797)، واقترح بعض الأمراء من غير أولي المصلحة ضرورة تحويل الولايات (الإمارات) الإكليريكية ecclesiastic إلى ولايات (أو إمارات) علمانية، وبتعبير أوضح تحويلها من حكم الأساقفة إلى حكم سواد الناس (غير الإكليريك)، ولم يكن المؤتمر قادرا على الموافقة على هذا الاقتراح فأحال الأمر للدايت Diet التالي للإمبراطورية الرومانية المقدسة·
وظل الأمر معطلاً معلقاً حتى عاد نابليون من مصر وأحكم القبضة على السلطة في فرنسا وهزم النمسا في معركة مارينجو Marengo، وعقد اتفاقاً معها (النمسا) وبروسيا وروسيا أصدر بمقتضاه الدايت الإمبراطوري في 25 فبراير 1803 مرسوما شاملا يحدد خريطة غرب ألمانيا ونظم الحكم فيها وهو المرسوم الذي يطلق عليه بالألمانية Reichsdeputationshauptschluss وبناء عليه تم عزل كل الأساقفة تقريبا (من حكم وحداتهم) ووافقت بروسيا باعتدال على تقليص الحكم الأسقفي، وكانت النمسا بلا حول ولا قوة فلم يجدها سخطها فتيلا·(ملحق/1177)
وتحقق الحكام الجدد أن النمسا قد تكون غير راغبة في تقديم حماية عسكرية لهم - بل إنها غير قادرة· كما لم يكونوا يتوقعون - وهم كاثوليك في غالبهم - حماية بروسيا البروتستنتية لهم· فلجأت الدول التي أعيد تشكيلها - المرة تلو المرة - إلى نابليون فهو الأقوى عسكريا، كما أنه من الناحية الرسمية - كاثوليكي· ففي ميونخ Munich (30 ديسمبر 1805) قابل كارل تيودور فون دالبرج Karl Theodor Von Dalberg ناخب مينز الإكليريكي (رئيس الأساقفة) - قابل نابليون العائد منتعشا لانتصاره في معركة أوسترليتز Austerlitz، ودعاه لقبول قيادة الولايات (الإمارات) التي أعيد تنظيمها· وظل الإمبراطور (نابليون) المشغول يفكر في الأمر مدة نصف عام، فوجد أن فرض الأمة الفرنسية لحمايتها على ألمانيا (جعلها محمية فرنسية) سيؤدي إلى عداء بقية الألمان، كما سيزيد عداء كل من إنجلترا وروسيا حدة·
وفي 12 يوليو 1806 دخلت بافاريا، وفيرتمبرج Wurttemberg وبادن وهسي - دارمشتات Darmstadt - Hesse ونساو Nassau وبيرج Berg ودول ألمانية أخرى كثيرة - في اتحاد كونفدرالي هو كونفدرالية الراين Rheinbund، وفي أول أغسطس وافق نابليون أن يأخذ على عاتقه حماية هذا الاتحاد الكونفدرالي وافق أن يجعله محمية فرنسية، واحتفظ الكيان باستقلاله في الأمور الداخلية لكن المتحدين وافقوا على أن يرسم لهم السياسة الخارجية ووافقوا على أن يضعوا قوة عسكرية كبيرة تحت أمره يطلبها متى شاء· وأرسلوا إلى فرانسيس الثاني والدايت الإمبراطورية بما يفيد أن دول الكونفدرالية لم تعد أعضاء في الرايخ·(ملحق/1178)
وفي 6 أغسطس أعلن فرانسيس رسميا حل الإمبراطورية الرومانية المقدسة وتخلى عن لقبه الإمبراطوري المرتبط بها (كإمبراطور للإمبراطورية الرومانية المقدسة) واحتفظ بمنصبه ولقبه كإمبراطور للنمسا· لقد زوت عظمة الهابسبورج وأصبح شارلمان الجديد (المقصود نابليون) يحكم من فرنسا ماداً سلطانه على غرب ألمانيا· وحققت كونفدرالية الراين فوائد حيوية، كما عانت من كوارث لا مفر منها· لقد أدخلت مدونة نابليون القانونية (بما فيها من إلغاء العوائد أو الرسوم الإقطاعية والأعشار الكنسية) وأخذت بحرية العبادة الدينية والمساواة أمام القانون والنظام الفرنسي في الإدارة (تولى محافظ أو مدير أو وال لمنطقة بعينها) وهو نظام مركزي ولكنه يتسم بالكفاءة، بالإضافة لتعيين قضاة مدربين أكثر استعصاء على الرشوة·
وكان الخلل الأساسي في هذا البناء هو قيامه على أكتاف قوى أجنبية (فرنسية) ولا يمكنه الاستمرار إلا إذا وازنت الحماية الأجنبية تكاليفه الداخلية· وعندما أخذ نابليون آلافاً من أبناء الألمان ليحاربوا النمسا في سنة 1809 بدت محمية الراين متوترة، وعندما أخذ آلافا من أبناء الألمان لمحاربة بروسيا في سنة 1812 وطلب دعما ماليا ثقيل الوطأة لتمويل معركته، بدت المحمية وكأنها حمل كبير ينزع منه نابليون ويستنزفه شيئا فشيئا، وعندما جند ألمان كونفدرالية الراين ليحارب بهم ألمان بروسيا في سنة 1813 راح ألمان الكونفدراليه ينتظرون تراجع الفرنسيين لينقضوا البناء كله على رأس الكورسيكي الذي أنهكته الحروب (نابليون) ·
وفي هذه الأثناء كان نصراً لنابليون أنه كان قد رتب حدودا جديدة آمنة لفرنسا ذات ميزة أمنية مزدوجة· لقد كان قد أدمج أراضي غرب الراين في فرنسا، وأصبحت المناطق الغنية على الشاطئ الشرقي التي تصل حتى الألب متحالفة مع فرنسا ومعتمدة عليها· ورغم أن كونفدرالية الراين قد تفككت عقب هزيمة نابليون في ليبزج (ليبسيج Leipzig) في سنة 1813، فقد كان هذا التوحيد حيا في ذاكرة بسمارك بعد ذلك كما أن توحيدنابليون لإيطاليا كان بعد ذلك إلهاماً ألهم مازيني Mazzini وغاريبالدي Garibaldi وكافور Cavour·(ملحق/1179)
3 - مقاطعات نابليون الألمانية
NAPOLEON'S GERMAN PROVINCES
كانت هناك إلى الشمال من كولوني Cologne منطقتان كانتا رغم عضويتهما في كونفدرالية الراين (الراينبوند Rheinbund) تابعتين كلية لنابليون لاستيلائه عليهما عنوة عن طريق الحرب، وقد حكمهما هو نفسه أو بواسطة أقربائه: دوقيه بيرج Berg الكبيرة التي حكمها قريبه جواشيم مورا Joachim Murat ومملكة وستفاليا Westphalia التي حكمها أخوه جيروم Jerome· وعندما رقى نابليون أخاه جيروم فكلفه بحكم نابلي (1808) راح نابليون يحكم دوقية بيرج Berg عن طريق مفوضين يرسلهم إليها، وراح عاما بعد عام يدخل فيهما الأساليب الفرنسية في الإدارة والضرائب والقانون· وكان النظام الإقطاعي فيهما قد غدا أثراً بعد عين إذ تطورت التجارة والصناعة حتى أصبحت الدوقية مركزا مزدهرا لاستخراج المعادن وصناعتها·
أما وستفاليا فكانت أكثر تنوعا واتساعا، فطرفها الغربي هو دوقية كليفز Cleves ( التي ترجع إليها أصول الزوجة الرابعة لهنري الثامن) ومن ثم تتخذ اتجاها شرقيا عبر مونستر Munster وهايلدشيم Hildesheim وبرونسفيك Brunswick وفولفن بوتل Wolfenbuttel إلى ماجدبورج Magdeburg، وعبر بادربورن Paderborn إلى كاسل Cassel ( العاصمة) وعبر أنهار الرور (الروهر Ruhr) وإمز Ems وليبي Lippe إلى السال Saale والإلب Elbe· وعندما أصبح جيروم بونابرت ملكا عليها في سنة 1807 كان في الثالثة والعشرين من عمره وكان أكثر اهتماماً بالمسرات منه بالسلطة·(ملحق/1180)
وراح نابليون - آملا أن تحوله المسئولية إلى شخص ناضج مستقر - يرسل له خطابات غاصة بالنصائح والتوجيهات الممتازة، بل وكانت ذات لمسة إنسانية حقا، لكنها كانت مصحوبة بمطالب مالية كبيرة، ووجد جيروم أنه من الصعب إشباع مطالب أخيه مقارنة بالموارد المالية المتاحة، بالإضافة إلى ميله (أي جيروم) للحاشية المسرفة وحياة الترف· وقد تعاون بشكل فعال تماما في إدخال الإصلاحات المبدعة الخلاقة التي عادة ما كان نابليون يجلبها معه في فترة فتوحاته وكان من مبادئ نابليون الأساسية أن الناس لا قدرة لهم على تحديد مستقبلهم، فالمؤسسات وحدها هي التي تحدد قدر الأمم لذا فقد قدم لوستفاليا Westphalia مجموعة قوانين (مدونة قانونية) وإدارة تتسم بالكفاءة، كما كانت تتسم بالأمانة النسبية، وحرية دينية ونظاما قضائيا كفؤا وأدخل نظام المحلفين، والمساواة أمام القانون، وتوحيد الضرائب، ونظام المراجعة المحاسبية الدورية لكل الأنشطة الحكومية·
وكانت جمعية وستفاليا الوطنية يتم انتخابها من خلال حق اقتراح محدود: 15 من بين 100 مندوب (نائب أو مفوض) يتم اختيارهم من التجار ورجال الصناعة، و15 من بين العلماء وغيرهم من ذوي المكانة· ولم يكن لهذه الجمعية الوطنية حق المبادرة بإصدار التشريعات، لكن كان من حقها انتقاد الإجراءات التي يقدمها مجلس الدولة، وغالبا ما كان يؤخذ بنصائحها·
وكانت الإصلاحات الاقتصادية أساسية· لقد انتهى النظام الإقطاعي الآن، فالاقتصاد الحر لا بد أن يفتح كل المجالات أمام كل الطموحين· وكان لا بد من صيانة المجاري المائية والطرق وتحسينها، وتم إلغاء تعريفة الانتقال في نطاق وستفاليا وتم توحيد الموازين والمقاييس في كل أنحاء المملكة (وستفاليا) · وصدر مرسوم في 24 مارس 1809 يحمل كل كُمْون commune مسئولية الفقراء في نطاقه سواء بتوظيفهم أو تقديم مساعدات الإعاشة لهم · واشتكى دافعو الضرائب·(ملحق/1181)
ومن الناحية الثقافية كانت وستفاليا أكثر الدول الألمانية تطورا لقد احتضنت بين جنباتها حياة فكرية منذ غذت مكتبة فودا Fuda الديرية عصر النهضة (الريتيسانس) بالمخطوطات الكلاسيكية، بل وقبل ذلك· لقد كان في هايلدشيم Hildesheim الفيلسوف والرياضي ليبنز (ليبنتز Leibniz) وكان في فولفنبوتل Wolfenbuttel الناقد والكاتب المسرحي ليسنج Lessing، والآن فإن لدى الملك جيروم أمين مكتبة ماهر هو جاكوب جريم Jacob Grimm سنتناوله بعد ذلك كمؤسس لعلم فيلولوجيا (علم فقه اللغة التاريخي والمقارن) اللغات التيوتونية Teutonic philology ·
وفي سنة 1807 - بناء على دعوة نابليون - ترك جوهان فون ملر Muller كبير مؤرخي عصره - منصبه في برلين كمؤرخ ملكي (مؤرخ رسمي) ليأتي إلى وستفاليا وزيراً وليتولى (1808 - 1809) أمر التعليم العام· وكان في وستفاليا آنئذ خمس جامعات، كان معترفا بثلاث منها في ظل حكم جيروم: جوتنجن Gottingen وهاله Halle وماربوج Marburg، وحققت جامعتان منها شهرة عبر أوربا· لقد رأينا الشاعر كولردج Coleridge يتجه مباشرة من نذر ستوي Nether Stowey إلى جوتنجن، ويعود لإنجلترا بعد عام وقد اعترته الدهشة والإعجاب بسبب الأفكار الألمانية·
وفي مقابل هذه الأمور الطيبة كان هناك شرّان شديدا الوطأة: الضرائب والتجنيد الإلزامي· لقد كان نابليون يطلب من كل الكيانات التابعة له مساهمة مالية فعالة لحكمه، ولبلاطه الذي راح إسرافه يزداد يوما بعد يوم، ولنفقات جيوشه· وكانت حجته بسيطة: إذا حدث أن استطاعت النمسا أو أي قوى معادية أن تلحق به الهزيمة أو تطيح به، فإن الأمور الطيبة التي جلبها معه ستنزع من رعاياه· ولهذا السبب نفسه لا بد للدول الواقعة تحت حمايته من مشاركة فرنسا التزاماتها بتقديم أبنائها القادرين للخدمة العسكرية ليضحوا عند الضرورة بحياتهم·(ملحق/1182)
وحتى سنة 1813 كان رعايا جيروم يتحملون برجولة هذا الاستنزاف· والأهم أن الجلد لم يكن معروفا في جيوش نابليون، كما كانت الترقية بالجدارة والاستحقاق، فكان يمكن لأي جندي أن يصبح ضابطا، بل ومارشالاً، لكن بحلول عام 1813 كان على وستفاليا أن ترسل 8,000 من شبابها للاشتراك في حرب نابليون في أسبانيا، و16,000 للمشاركة في حربه في روسيا، ولم يعد منهم من إسبانيا سوى 800، أما من عادوا من روسيا فلم يزيدوا على 2,000·
وكانت ناخبية (إمارة) هانوفر تقع في شمال شرق وستفاليا· وفي سنة 1714 كان ناخبها قد أصبح هو ملك إنجلترا جورج الأول، فأصبحت هانوفر تابعة لإنجلترا· أما الناخب الذي تولى أمرها تباعا فهو جورج الثالث الذي جعل منها منطقة موالية لبريطانيا وعمل على عدم ابتعادها عنها (عن بريطانيا) ولهذا الغرض ترك ملاك الأراضي الكبار فيها (في هانوفر) يحكمون الإمارة (المقاطعة) لصالح الأرستقراطية الألمانية - وهي من أكثر الأرستقراطيات تمسكا وانغلاقا بمعنى أن من الصعب أن ينضم إليها غيرهم· لقد كانت كل المناصب المهمة يحتكرها النبلاء الذين كانوا حريصين ألا يقع على كاهلهم شيء من عبء الضرائب· وعلى أن يتحمل غالبها الفلاحون وأهل المدينة· وظل النظام الإقطاعي قائما وإن خفف من وطأته العلاقات الأسرية وكانت الحكومة المحلية أمينة أمانة فوق التصور ·
وفي سنة 1803 - عند بداية الحرب مع إنجلترا - أمر نابليون قواته وجهازه الإداري بالسيطرة على هانوفر لضمان عدم نزول قوات برية بريطانية فيها ولمنع أي بضائع إنجليزية، ولم يلق الفرنسيون سوى مقاومة بسيطة، وفي سنة 1807 - وكان نابليون مشغولاً باهتمامات أكبر - أمر بإلحاق (ضم) هانوفر إلى وستفاليا وأتاحها (أي هانوفر) لجهاز جمع الضرائب التابع للملك جيروم· وراح أهل هانوفر يندبون حظهم متضرعين إلى الرب ليعودوا تابعين لإنجلترا كما كانوا·(ملحق/1183)
وعلى النقيض من هانوفر، كانت المدن الهانسيتية Hanseatic cities - هامبورج، وبريمن Bremen ولوبك Lubeck - موطناً للازدهار والرخاء والكبرياء (الاعتزاز بالانتماء) · لكن العُصبة (التحالف المكوَّن من هذه المدن) كانت قد انحلّت منذ مدة طويلة، غير أن انهيار أنتورب Antwerp وأمستردام تحت الإدارة الفرنسية أدّى إلى تحويل كثير من تجارتهما إلى هامبورج وبدت المدينة الواقعة على مصب نهر إلب Elbe والتي كان سكانها في سنة 1800: 115,000 نفس، وكأنما صُمِّمَت لخدمة التجارة البحرية ولإعادة شحن السفن بشكل ناشط· لقد كان يحكمها التجار الكبار والماليون، وكان احتكارهم محتملاً نظراً لمهارتهم ووضعهم كل الأمور في الاعتبار·
وتلهّف نابليون لضم هذه المدن التجارية لحكمه ليضمها للحظر الذي فرضه على الواردات البريطانية وليستفيد بأموالها والقروض التي يحصلها منها على حروبه فأرسل بوريين Borrienne وآخرين لوقف تدفق البضائع البريطانية إلى هامبورج، وقد أصبح هذا الوزير السابق (بورين) ثرياً بفضل تغاضيه (إغلاقه عينيه الاثنتين) وأخيراً ضم نابليون المدينة الكبيرة إلى حكمه (1810) فانزعج أهلها انزعاجاً شديداً حتى إنهم شكَّلوا جمعيات سرية لاغتياله (اغتيال نابليون) وراحوا يتآمرون كل يوم لإسقاطه·
4 - سكسونيا SAXONY
إلى الشرق من وستفاليا وإلى الجنوب من بروسيا وُجِدت دولة ألمانية عرفها أهلها باسم Sachsen وعرفها الفرنسيون باسم ساكس Saxe كانت ذات يوم تمتد من بوهيميا Bohemia إلى البلطيق، وقد تركت هذه الدولة آثارها في الأسماء المختلفة في بريطانيا التي تنتهي بالمقطع ( Sexes) هذه الدولة قد لحقها الخراب في وقت لاحق بسبب حروب الأعوام السبعة لكنها الآن (من هذه الفترة) تنعم بناخبية (إمارة: بالمعنى السابق شرحه) مزدهرة تمتد على جانبي نهر الإلب Elbe من فيتنبرج Wittenberg ( التي شهدت شطراً من حياة لوثر) حتى دريسدن Dresden ( باريس ألمانيا) ·(ملحق/1184)
وفي ظل حكم فريدريك أوغسطس الثالث Frederick Augustus كناخب ( elector له حق المشاركة في اختيار إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة) (في الفترة من 1768 - 1806) وكملك (فريدريك أوغسطس الأول) في الفترة من 1806 إلى 1827 سرعان ما استعادت سكسونيا ازدهارها خاصة وهي تنعم بنهر الإلب الذي يرويها وكأنه أم رءوم· ونعمت دريسدن Dresden مرة أخرى بعمائرها المشيدة على وفق طراز الروكوكو rococo وشوارعها الفسيحة وجسورها الجميلة، وتماثيل العذراء، وفخارها المنقوش· وأدار الحاكم الشاب - رغم عدم تفوقه كرجل دولة - مملكته بشكل حكيم وأنفق موارده بعناية وسدد الدَّيْن الوطني وطوّر مدرسة مشهورة للتعدين في فريبرج Freiberg·
وواصلت ليبزج ( Leipzig) تنظيم معرض الكتاب الذي يُعقد فيها سنوياً الذي كان ناشرو أوروبا يعرضون فيه آخر إصداراتهم فنافست بذلك دريسدن وأدى انتعاش الأدب الألماني إلى التفوق الفكري·
وانضم فريدريك أغسطس العادل أو المستقيم إلى بروسيا والنمسا في محاولة تهذيب الثورة الفرنسية وأسهم في معركة فالمي في سنة 1792، وكانت قواته مع الجيش البروسي المنسحب· لقد انزعج كثيراً لإعدام ابن عمه لويس السادس عشر لكنه انضم راغباً إلى جهود السلام مع فرنسا في سنة 1795·
وعندما وصل نابليون إلى السلطة حافظ فريدريك على علاقات طيبة معه، وكان نابليون يحترمه كمستبد عادل (متنوّر) يحب شعبه· وعلى أية حال، فعندما كانت جيوش نابليون تقترب في سنة 1806 من جينا (يينا) وقع فريدريك بين المطرقة والسندان: حذَّره نابليون ألا يترك الجيش البروسي يمر في أراضي سكسونيا، لكن بروسيا أصرَّت على مرور جيشها وغزت سكسونيا، فاستسلم الناخب وترك جيشه الصغير ينضم للجيش البروسي·(ملحق/1185)
وعامل المنتصرُ (نابليون) فريدريك أغسطس بتساهل نسبي فعرض عليه أن يدفع لفرنسا تعويضاً مقداره 25 مليون فرنك وأمره أن يغير لقبه ليُصبح (ملك سكسونيا) وجعله على رأس دوقية وارسو (فرسافا) Warsaw الكبيرة وأجبر بروسيا على التنازل لسكسونيا عن مناطق Circle of Cottbus على الشاطئ الغربي لنهر سبري Spree· وهكذا أصبحت بروسيا محصورة بين بولندا من الشمال والشرق، ووستفاليا من الغرب وسكسونيا من الجنوب - وكلها مُعاهِدَة لنابليون· لقد بدا وكأن المسألة مسألة وقت لتتبع بروسيا بقية ألمانيا في خضوعها لفرنسا النابليونية (فرنسا في ظل حكم نابليون) ·
5 - بروسيا: تراث فريدريك من 1786 إلى 1787 م
عند موت فريدريك الثاني كانت مملكة بروسيا الكبيرة تتكوّن من ناخبية electorate ( إمارة بالمعنى السابق) براندنبورج Brandenburg، ودوقيتي سيليزيا Silesia وبوميرانيا القصوى Farther Pomerania، وولايات (مقاطعات) بروسيا الشرقية - بما فيها كونيجسبرج Konigsberg وفريدلاند Friedland وممل Memel - وبروسيا الغربية التي تم الاستيلاء عليها من بولندا في سنة 1772 ومقاطعات مختلفة من قلب غرب ألمانيا تشمل فريدلاند الشرقية ومونستر Munster وإسّن Essen وبعد موت فريدريك أضافت بروسيا إليها منطقة ثورن Thorn ودانزج (دانتسِج Danzig) في التقسيم الثاني لبولندا (1792) ووارسو (فرسافا) وقلب بولندا في التقسيم الثالث (لبولندا) في سنة 1795 وأنسباخ Ansbach وبايروث Bayreuth ومانسفيلد Mansfeld في سنة 1791 ونيوشاتل Neuchatel في سويسرا في سنة 1797· لقد بدت بروسيا وكأنها قررت ابتلاع شمال ألمانيا عندما تقدم نابليون ليعفيها من هذه المهمة·(ملحق/1186)
لقد كان والد فريدريك العظيم هو الذي جعل هذا التوسّع البروسي ممكناً، ذلك أن فريدريك الأول كان قد علَّم ابنه وشعبه تحمّل المشاق بصمت، بالإضافة إلى أنه ترك له أفضل جيش في العالم المسيحي، وترك له شعباً منظّماً بإحكام يخضع لنظام تعليمي واحد ونظام ضرائبي واحد، ونظام خدمة عسكرية يسري على الجميع· لقد كانت بروسيا قد أصبحت لقمة سائغة لملك ذي ميول عسكرية، وارتعدت أوروبا كلها وألمانيا كلها وبروسيا كلها لرؤية هذا الرجل وهو يلتهم المُلك (العرش) بضباطه الأرستقراطيين (اليونكر Junker) المستبدّين ورماة القنابل ذوي الأقدام الثمانية· لقد حذّرت الأم ابنها قائلة:
لا تأخذ كثيراً, وإما المُجندون سيأخذونك
Do not get tall, or the recruiters will get you
وقد أضاف فريدريك العظيم (حكم من 1740 إلى 1786) لهذا الجيش وهذه الدولة عبقريته الخاصة التي شحنها بقراءة فولتير، وتكيفاً مع الواقع (رواقية عميقة) من مورِّثاته (جيناته)، لقد رفع من شأن بروسيا من مملكة صغيرة تضارعها سكسونيا وبافاريا إلى قوّة تُضاهي النمسا في العالم الألماني تقف كحاجز قوي في وجه الضغط الدائم للسلاف الذين يتكاثر عددهم بسرعة، ليصل بها (بروسيا) مرة أخرى إلى حدودها القديمة على نهر الإلب ·
وفي الداخل أسس نظاماً قضائياً مشهوراً بتكامله وجهازاً من الإداريين حل بالتدريج محل النبلاء لتسيير أمور الدولة· وأرسى دعائم حرية الحديث والصحافة والعبادة وتحت حمايته أصبح نظام المدارس في ألمانيا هو البديل للتعليم الكنسي الذي جعل البروسي في سُبات روحي عميق · لقد كان هو الرجل الوحيد في عصره الذي يستطيع أن يفوق فولتير ويعلّم نابليون· قال نابليون في سنة 1797:
"إن فريدريك العظيم بطل أحب أن أناقشه في كل شيء؛ في الحرب وفي الإدارة· لقد درستُ مبادئه في الميدان، وخطاباته المألوفة كانت بالنسبة لي دروساً فلسفية "·(ملحق/1187)
وكان هناك نقص في إنجازه، فهو لم يجد الوقت الكافي بسبب المعارك التي خاضها - لتهذيب النظام الإقطاعي البروسي فيعطيه طابعاً أكثر إنسانية كما هو الحال في دول الراين Rhineland States، وأدت حروبه إلى فقر أصاب شعبه، فكانت هذه الحروب إلى حد ما مسئولة عن انحدار بروسيا بعد وفاته·
أما فريدريك وليم الثاني (حكم من 1786 إلى 1797) فكان كعمه الذي لم ينعم بطفولته مولعاً بالنساء والفنون أكثر من ولعه بالحكم والحرب، فقد ألحق بزوجته الأولى خليلة أنجبت له خمسة أبناء، وطلق زوجته في سنة 1769 وتزوّج من فريدريكه لويز Friedrike Louise ( من هسي دارمشتات Hesse - Darmstadt) التي أنجبت له سبعة أبناء، وفي أثناء زواجه الأخير هذا حث رجال الدين في بلاطه على السماح له بارتباط مورجانتي morganatic unions ( أي السماح له بالزواج ممن هي أدنى منه منزلة ودرجة على أن يظل كل طرف من الطرفين في درجته نفسها وطبقته نفسها، وليس للأولاد المولودين من هذا الزواج حق الإرث أو حق وراثة ألقاب النبالة) مع جولي فون فوس Julie von Voss (1787) التي ماتت بعد الزواج بعامين، ومن ثم تزوّج الكونتيسة صوفي دونهوف Sophie Donhoff (1790) التي أنجبت له ولداً· وكان لديه من الوقت ما يسمح له بعزف الفيولونشللو Violoncello وباستقبال موزارت وبيتهوفن، وبتأسيس أكاديمية للموسيقي ومسرح للدولة· وموّل (وأعلن) في سنة 1794 مدوّنه قانونية جديدة تحوي كثيراً من العناصر الليبرالية·
وسمح لجوهان (يوهان) فون فولنر Johann Von Wollner وهو إصلاحي أخذ بالمذهب العقلي، وكان أثيراً لديه - سمح له في سنة 1788 بإصدار قانون إيمان ديني Religionsedikt أنهى التسامح الديني وأحكم الرقابة حتى إن كثيراً من الكتاب هجروا برلين بسببه·(ملحق/1188)
وقامت سياسته الخارجية على الدفاع، فقد رفض الموقف الهجومي لسلفه، وهزأ بقرن سبق من الأحداث، فخطب ود النمسا، باعتبار ذلك خطوة كبرى نحو وحدة ألمانيا وأمنها· ولم يكن يحب الثورة الفرنسية، فبقي راضياً عن النظام الملكي (وكذلك كان شعبه راضياً عن الملكية) وأرسل بعض القوّات للمشاركة في معركة فالمي Valmy (1792) ولكنه كان سعيداً بعودة من بقي من جنوده لمساعدته في التقسيم الثاني لبولندا، وفي سنة 1795 وقّع اتفاق سلام بازل (بَاسِل Basel) مع فرنسا التي سمحت له بالاستيلاء على وارسو في التقسيم الثالث لبولندا·
ورغم ما حصل عليه وضمه لبلاده فقد سمح بتدهور أحوالها مالياً وعسكرياً· ومنذ وقت باكر يرجع إلى سنة 1789 كتب ميرابو Mirabeau بعد إقامة طويلة في برلين - وكأنه يتنبّأ:
"العرش البروسي أصبح في وضع لا يتمكن فيه من التغلب على أية كارثة · لقد أصبح الجيش في حالة استرخاء وفقد حماسه، وأصبح الجهاز الإداري هشاً يشيع فيه الغش والخداع والرشوة· وأصبحت ميزانية الدولة مضطربة وقريبة من الإفلاس · ولم تكن سوى الحرب هي التي تستطيع بشكل حاسم أن تُوضِّح لهذا الجيل الأعمى ما وصلت إليه بلادهم من تدهور·· ذلك التدهور الذي أصاب بالشلل كل النشاطات بعد أن ركن الناس لسحر شهرة بلادهم في الماضي" ·(ملحق/1189)
6 - انهيار بروسيا: من 1797 إلى 1897 م
وهكذا مات الملك الطيّب ووقع عبء العناية بالدولة المريضة على عاتق ابنه فريدريك وليم الثالث في فترة شهدت فيها أوروبا توسعات نابليون، وجهود ميترنيخ Metternich النمساوي، وظل فريدريك الثالث يحمل هذا العبء حتى سنة 1804· ويدهش الجميع لاستمراره في الحكم طوال هذه المدّة مع أنه كان ضعيف الإرادة رقيق المشاعر· لقد كان يتحلَّى بكل الفضائل التي يمكن أن تمكن المواطن الصالح من التطوير والعمل: تعاون، عدالة، رقة، تواضع، إخلاص لزوجته وحب للسلام· لقد حرر الأقنان serfs ( عبيد الأرض) في الأراضي التي تمتلكها الأسرة المالكة· تزوّج في سنة 1793 لويزا المكلنبورج ستريليز Louise (Luise) of Mecklenburg وهي في السابعة عشر من عمرها، جميلة وعاطفية ومخلصة ووطنية، وسرعان ما أصبحت محبوبة الشعب· وظلت المصدر الأساسي للسعادة التي غرق فيها متناسياً كل النكبات والكوارث·
لقد راح القرن الجديد يجلب له الأزمة تلو الأزمة· ففي سنة 1803 استولى الفرنسيون على هانوفر التي كانت بروسيا قد ضمنت حيادها، فطالب الضباط الشبان في الجيش البروسي بقطع العلاقات - على الأقل - مع فرنسا، إن لم يكن الحرب· لكن فريدريك وليم عقد معها سلاماً· وأحكمت القوات الفرنسية قبضتها على مصب نهر الإلب Elbe ونهر فستر (وستر Wester) فأضرت - بفعلها هذا - بالتجارة البروسية، فتذرّع فريدريك بالصبر·
ودعت الملكة لويزا للحرب، وارتدت الزى العسكري الخاص بالفوْج العسكري الذي يحمل اسمها، وظهرت في عرض عسكري وهي تمتطي صهوة جواد، وراحت تبثُّ الحماس في الجيش الذي لا يُقهر· أما الأمير لويس فرديناند - ابن عم الملك - فكان يتطلع إلى فرصة لإظهار همته ونشاطه، أما دوق برونسفك (برونسويك Brunswick) العجوز فعرض أن يقود هو بنفسه الجيش البروسي·
أما الجنرال بلوشر (بلوخر) Blucher - الذي أصبح بعد ذلك بطلاً من واترلو - فقد أيده (أي أيد دوق برونسفيك) · ومع هذا فقد راح فريدريك وليم يقاوم رغبات كل هؤلاء بهدوء· وفي سنة 1805 حثَّت النمسا - التي قررت أن تتحدّى نابليون - بروسيا على تقديم المساعدة لها، لكن الملك البروسي لم يستجب·(ملحق/1190)
غير أن صبر فريدريك وليم نفد عندما توغلت القوات الفرنسية - وهي في طريقها إلى أوسترليتز Austerlitz في منطقة بايروث Bayreuth البروسية، فدعا الملكُ إلى مؤتمر في بوتسدام Potsdam يحضره ملك روسيا إسكندر، وأقسم الملكان عند قبر فريدريك الكبير أن يقفا معاً في مواجهة نابليون وأن يهبّا معاً لنجدة النمسا· وسارت قوات إسكندر الروسية جنوباً فلاقت الهزيمة وفي الوقت نفسه تشتت الجيش البروسي في الوقت الذي ولّى فيه إسكندر هارباً إلى بلاده روسيا·
وأعطى نابليون سلاماً سهلاً - لكنه مشروط - لفريدريك وليم (15 ديسمبر 1805، 15 فبراير 1806): تتنازل بروسيا لفرنسا عن نيوشاتل Neuchatel وكليفز Cleves وأنسباخ (أنسباش Ansbach) لفرنسا، في مقابل أن تأخذ (أي بروسيا) هانوفر، ووافق فريدريك وليم على إغلاق الموانئ البروسية في وجه البضائع البريطانية بعد أن حصل على هانوفر وضمها لملكه - تلك الجائزة الثمينة التي طالما اشتهاها - ووقع مع فرنسا معاهدة تحالف دفاعية هجومية، فأعلنت إنجلترا الحرب على بروسيا·
وتوجه نابليون لتكوين فدرالية الراين التي كانت تحيط ببعض المقاطعات البروسية في غرب ألمانيا، وعندما سمع فريدريك وليم أن نابليون يعرض هانوفر على انجلترا سرا - دخل في تحالف سري مع روسيا (يوليو 1806)، وفي أول أغسطس استولى نابليون على كل غرب ألمانيا وجعلها تحت حمايته، وفي 9 أغسطس عبأ فريدريك وليم جانباً من جيشه، وفي الرابع من سبتمبر أعاد فتح الموانئ الروسية أمام البضائع الإنجليزية، وفي 13 سبتمبر أمر قواته بدخول سكسونيا Saxony وانضمت قواته إلى القوات السكسونية، فأصبح جنرالاته وعلى رأسهم دوق برونسفيك Brunswick ( برونسويك) يقودون 20,000 مقاتل·
وغضب نابليون غضبا شديدا لما اعتبره انتهاكا لاتفاقيتين وتحالف، فأمر جيوشه التي كانت متمركزة بالفعل في ألمانيا أن تنقض على مقدمة وجناح جيوش الحلفاء، وأسرع هو نفسه إلى الجبهة وأشرف على هزيمة البروس والسكسون هزيمة منكرة في جينا Jena ( يينا) وأورشتدت (أورشتاد Auerstedt) في اليوم نفسه - 14 أكتوبر 1806·(ملحق/1191)
ما ذكرناه آنفا هو وجهة النظر الفرنسية· أما على الجانب البروسي فقد كان ما حدث واحدا من أظلم المآسي وأقساها في تاريخها· لقد هرب فريدريك وليم بحكومته وأسرته إلى شرق بروسيا وحاول أن يباشر مهامه من ممل Memel، وأصدر نابليون - من مقر البلاط الملكي في برلين - أوامر لقارة (بأكملها) بفرض الحصار القاري (على البضائع البريطانية) وأخرجت القوات الفرنسية الجيوش البروسية من بولندا، وهزم نابليون الروس في فريدلاند Friedland وصحبته قواته إلى تيلسيت Tilsit حيث عقد سلاما مع إسكندر·
وهنا علم فريدريك وليم الشروط الأخيرة (النهائية) التي بمقتضاها يمكن أن تظل بروسيا كيانا موجودا على الخريطة· لابد أن تتنازل بروسيا لفرنسا عن كل الأراضي البروسية الواقعة غرب نهر الإلب وأن تعيد إلى بولندا كل أراضيها التي استولت عليها في التقسيمات الثلاثة· ولا بد أن تقبل دفع تعويض حرب بدفع رواتب الجنود الفرنسيين الذين احتلوا بروسيا حتى يصل إجمالي ما تدفعه إلى 160 مليون فرنك·
وبهذه المعاهدة التي وقعتها بروسيا في 9 يوليو 1807 فقدت 49% من الأراضي التي كانت تحكمها وصار عدد سكانها 5,250,000 بعد أن كان 97,500,000 (المقصود أنها بفقدها المناطق التي تنازلت عنها نتيجة الهزيمة فقدت حكم سكانها، وليس المقصود أن كل هذا النقص ضحايا حرب) وفي الفترة بين 1806 و1808 كانت تكاليف القوات الفرنسية والتعويضات تستنفد كل دخل بروسيا · ومع هذا فقد كان هناك بعض الألمان يظنون - وهم يرون الدمار الذي حاق ببروسيا - أنها لن تقوم لها قائمة بعد ذلك ولن تلعب دوراً مهما في التاريخ الألماني·
7 - بروسيا تنهض من جديد: 1807 إلى 1812 م(ملحق/1192)
هناك نواة صلبة في الطبيعة الألمانية - أكدتها قرون من الحياة الشاقة بين شعوب محاربة وأجنبية - وهي أن الألمان شعب يمكنه تحمل الهزيمة مرفوع الرأس وينتظر الوقت المناسب للرد· وكان هناك آنئذ (الفترة التي نتحدث عنها) رجال على شاكلة شتاين Stein وهاردنبرج Hardenberg وشارنهورست Scharnhorst وجنيشيناو Gneisenau، ولم يتركوا يوما واحدا يمرّ دون أن يكون شغلهم الشاغل هو كيف يتم خلاص بروسيا أو بتعبير آخر كيف تبعث من جديد· فهؤلاء الملايين من الأقنان (عبيد الأرض) الذين لا أمل لهم في ظل عبوديتهم القديمة - كم هي الطاقة التي سيصبونها في الاقتصاد البروسي وكم هي الحيوية التي سينعشونه بها لو أنهم تحرروا من أعبائهم المهنية وراحوا - وسط الترحاب - يعملون في مشروعات حرة في الريف أو المدن؟
وهذه المدن التي هي الآن كسولة فاترة الهمة في ظل حكم النبلاء الذين يحتقرون التجارة، ويمارسون مهامهم في حكم الأمة من عاصمة مركزية بعيدة - ما هي المبادرات النشيطة التي قد يطورونها في مجالات الصناعة وإدارة الأعمال، والمالية، في ظل حافز الحرية والتجريب؟ إن فرنسا في عهد الثورة الفرنسية قد حررت أقنان الأرض وانتعشت، بل إنها أبقت المدن تحت نفوذ باريس، فلم لا نحرر المدن والأقنان (عبيد الأرض) في آن، قاطعين الطريق على الغازي؟
على هذا النحو فكر فرايهر هنريش· فريدريش كارل فوم أوند تسوم شتاين Freiherr Heinrich Friedrich Karl Vom und zum Stein والمقطع الأخير من اسمه Vom und zum stein يعني أبو صخر عند الصخرة of and at Rock نسبة إلى مدينة أسلاف أسرته على نهر لاهن Lahn الذي يلتقي بنهر الراين فوق كوبلنز (كوبلنتس Coblenz) ، ولم يكن الرجل بارونا وإنما فرايهر Freiherr - والكلمة تعني رجلا حرا - من الفرسان الإمبراطوريين (الرايخسترترشافت Reichsrittershaft) ، وقد دعا للدفاع عن الأراضي التابعة له، وعن المملكة·(ملحق/1193)
لقد ولد (26 أكتوبر 1757) ليس في مدينة Vom Und zum Stein ( مدينة أبو صخر عند الصخرة) وإنما بالقرب القريب من مدينة نساو Nassau، وكان أبوه حاجباً لناخب (أمير) مينز (منتس Mainz) ، والتحق الابن عند بلوغه السادسة عشرة من عمره بمدرسة القانون والسياسة في جامعة جوتنجن Gottingen· وهناك قرأ منتسكيو Montesquieu وأخذ عنه إعجابه بالدستور الإنجليزي، وقرر أن يكون عظيما (أي بتعبير آخر قرر أن يلعب أدوارا مهمة) ومارس مهنته القانونية في محاكم الإمبراطورية الرومانية المقدسة في فتسلر Wetzler وفي الدايت الإمبراطوري في ريجنسبورج Regensburg·
وفي سنة 1780 دخل الخدمة المدنية في بروسيا فعمل في الإدارة الوستفالية للصناعة والتعدين· وفي سنة 1796 تولى منصبا قياديا في الإدارة الاقتصادية لكل المقاطعات البروسية على طول الراين، واستدعى إلى برلين في سنة 1804 ليشغل منصب وزير الدولة للتجارة بسبب نشاطه البالغ ونجاح مقترحاته· وفي غضون شهر من توليه منصب وزير الدولة للتجارة عهد إليه بتقديم العون لوزارة المالية· وعندما وصلت أخبار للعاصمة مفادها تشتيت نابليون للجيش البروسي في يينا (جينا Jena) نجح شتاين Stein في نقل محتويات الخزانة البروسية إلى ممل Memel وبأموالها استطاع فريدريك وليم الثالث تمويل حكمه في المنفى (المقصود بعيدا عن العاصمة)، وربما أدت كوارث الحرب وما صاحبها من توتر إلى توتر أعصاب الملك والوزراء،
ففي 3 يناير 1807 طرد فريدريك وليم الثالث وزيره شتاين Stein لأنه: "عنيد متغطرس لا علاج له وغير مطيع، وهو - لإعجابه بعبقريته ومواهبه··· يعمل انطلاقا من عواطفه وكراهيته الشخصية وعلى وفق ما تمليه عليه ضغائنه "· وعاد شتاين إلى بيته في نساو Nassau، وبعد ذلك بستة أشهر دعاه الملك - بعد أن علم أن نابليون طلبه كمدير - ليتولى وزارة الداخلية·(ملحق/1194)
وكان منصب وزير الداخلية هو بالضبط الموقع المناسب الذي يمكن شتاين (ذلك فرايهر Freiherr أي السيد المتحرر الغضوب) من تقديم أفضل الإصلاحات لإطلاق طاقات الشعب البروسي· وفي 4 أكتوبر 1807 تولى مهام منصبه الجديد بالفعل، وفي 9 أكتوبر كان يعد للملك إعلانا طالما تطلع إليه ملايين الفلاحين ومئات الليبراليين، وكانت المادة الأولى في مشروعه هذا معتدلة إذ تعلن: "حق كل ساكن من سكان ولاياتنا أن يشتري أرضا ويتملكها", وكان هذا الحق - حتى الآن - غير متاح للفلاحين· والمادة الثانية تسمح: "لأي بروسي أن يعمل في أي استثمار مشروع"، وعلى هذا فستفتح كل المجالات أمام المواهب - كما هو الحال في ظل حكم نابليون - بصرف النظر عن الانتماء لأسرة أو طبقة، وستصبح الحواجز الطبقية لا مكان لها في المجال الاقتصادي، والمادة العاشرة تمنع أي قنانة (عبودية للأرض) أما المادة 12 فتعلن ابتداء من 11 نوفمبر (المارتنماس Martinmas أي عيد القديس مارتن): "لا يصبح في كل ولاياتنا فلاح نصف حر·· سنكون جميعاً أحرارا", وقاوم نبلاء كثيرون هذا المرسوم، ولم يصبح ساريا بكل بنوده حتى سنة 1811·
وعمل شتاين Stein والليبراليون المؤيدون له خلال عام 1808 على تحرير المدن البروسية من حكم البارونات الإقطاعيين أو ضباط الجيش المتقاعدين أو متعهدي الضرائب الذين كانت سلطتهم - في الغالب - بلا حدود· وفي 19 نوفمبر سنة 1808 أصدر الملك - الذي أصبح مرة أخرى راغباً في الإصلاح - القانون المحلي للبلديات، يحكم المدن بمقتضاه مجلس محلي (جمعية محلية) تختار موظفيها بنفسها، باستثناء المدن الكبيرة فالملك هو الذي يعين عمدة burgomaster كل منها من بين ثلاثة رجال يختارهم المجلس المحلي· وهكذا بدأت الحياة السياسية الصحيحة على المستوى المحلي وتطورت إلى نظام إداري بلدي ألماني ممتاز·(ملحق/1195)
ولم يكن شتاين Stein وحده في رعاية أمور بروسيا· فقد عمل جير هارد (جيراد) فون شارنهورست Gerhard Von Scharnhorst (1755 - 1813) والكونت أوجست نيتهاردت فون جنيسناو Count August Neithardt Von Gneisenau (1760 - 1831) والأمير كارل فون هاردنبرج Karl Von Hardenberg (1750 - 1822) عملوا معا على إعادة بناء الجيش البروسي مستخدمين مختلف الحيل لتحاشي القيود التي فرضها نابليون· وكان تطور هذه العملية (إعادة بناء الجيش البروسي) من التقدم بمكان كما يتضح من خطاب أرسله شتاين في 15 أغسطس سنة 1808 إلى أحد الضباط البروس، ووقع في أيدي الفرنسيين الذين نشروه في جريدة المونيتير Moniteur في 8 سبتمبر وفيما يلي جانب من هذا الخطاب:
"السخط يزداد كل يوم في ألمانيا· لا بد أن نطعم الناس ونعمل من أجلهم· إنني شديد الرغبة في إقامة روابط بين هسي Hesse ووستفاليا ومن الضروري أن نعد أنفسنا لأحداث معينة تتطلب منا مواصلة الاتصال بالرجال ذوي الطاقة والقدرة على العمل وذوي النوايا الحسنة· لابد أن نجعل هؤلاء الرجال يلتقون (لتدارس الأمر) ··· لقد تركت أحداث إسبانيا أثرا حيوياً، لقد أثبتت ما كنّا نتوقعه ومن المفيد أن ننشر هذه الأنباء بحذر· إننا نظن أن الحرب بين فرنسا والنمسا أمر لامناص منه· وهذا الصراع سيقرر مصير أوربا "·
وكان نابليون على وشك الاتجاه إلى إسبانيا لخوض معركة كبرى، فأمر فريدريك وليم بطرد شتاين Stein من منصبه فتوانى الملك في الإذعان إلى أن حذر من أن الجيش الفرنسي سيبقى في الأراضي البروسية إلى أن يذعن لأمر لنابليون· وفي 24 نوفمبر سنة 1808 طرد شتاين مرة أخرى من منصبه، وفي 16 ديسمبر أصدر نابليون من مدريد مرسوما يجعله بعيدا عن حماية القانون (مرسوما بإهدار دمه) ومصادرة كل ممتلكاته والقبض عليه في أي مكان يوجد فيه داخل المناطق التي تسيطر عليها فرنسا·(ملحق/1196)
وهرب شتاين في بوهيميا· وسدت بروسيا النقص بتعيين هاردنبرج Hardenberg (1810) مستشارا للدولة - وهو منصب يعني في الواقع (رياسة الوزراء) وكان هاردنبرج عضوا في الحكومة السابقة، وكان قد أعاد تنظيم وزارة المالية وتفاوض في اتفاق السلام في سنة 1795، وتحمل جانبا من المسئولية في كارثة 1806 وطرد من الحكومة بإصرار من نابليون (1807)، والآن فقد بلغ الرجل الستين من عمره، وبينما كان نابليون غارقا في حب إمبراطورته الجديدة، راح هاردنبرج يحرك الملك نحو النظام الملكي الدستوري بحثه دعوة أول جمعية للنبلاء (1811) تم دعوة جمعية لممثلي الأمة (1812) ذات مهام استشارية، ولأن هاردنبرج كان معجبا بالمفكرين الفرنسيين فقد جعل ممتلكات الكنيسة علمانية وأصر على أن ينعم اليهود بالمساواة (11 مارس 1812) وفرض ضريبة ممتلكات على النبلاء وضريبة كسب على رجال الأعمال· وأنهى احتكار الطوائف (نقابات الصناع والتجار ذات الطابع الوسيط - أي العائد للقصور الوسطى) ذلك النظام المعوق ورسخ مبدأ حرية الاستثمار والتجارة·
لقد كانت حركة إعادة بناء بروسيا فيما بين عام 1807 وعام 1812 موحية بالقوة المختزنة في طيات الشخصية الألمانية· فتحت العيون الفرنسية المعادية، وفي ظل حكم واحد من أضعف الملوك في بروسيا استطاع رجال مثل شتاين Stein وهاردنبرج - ولم يكن أي منهما نبيلا - أن يأخذوا على عاتقهم إعادة بناء أمة مهزومة ومحتلة ومفلسة، واستطاعوا في غضون ستة أعوام أن يسموا بها إلى سنام السلطة والفخر مما جعلها في سنة 1813 القائد الطبيعي في حرب التحرير (المقصود حرب التخلص من السيادة الفرنسية) وأسهمت كل الطبقات في هذا الجهد، فقاد النبلاء الجيش وقبل الفلاحون التجنيد الإجباري وتنازل التجار عن كثير من أرباحهم للدولة وناضل الرجال والنساء من أهل الأدب والفكر في طول ألمانيا وعرضها من أجل حرية الصحافة والفكر والعبادة،(ملحق/1197)
وفي سنة 1807، وفي برلين المحشودة بالقوات الفرنسية ألقى فيشته Fichte خطاباته الشهيرة التي وجهها للأمة الألمانية دعا فيها إلى أقليه منظمة لتقود الشعب البروسي إلى طهارة خلقية (معنوية) وبعث وطني جديد وفي كونيجسبرج Konigsberg في سنة 1808 نظم بعض أساتذة الجامعات اتحاد الأخلاق والعلوم عرف فيما بعد باسم عصبة الفضيلة (توجنبوند Tugenbund) وكان هدفه تحرير بروسيا·
وفي هذه الأثناء كان شتاين حائرا خارج بلاده يعاني النفي والفقر، والخوف الدائم من أن يقبض عليه أو تطلق عليه النار، وفي مايو سنة 1812 دعاه إسكندر للانضمام لبلاطه في سان بطرسبرج، وظل هناك مع مضيفه (إسكندر) في انتظار قدوم نابليون·(ملحق/1198)
الفصل الثلاثون
الشَّعْبُ الأَلْمَاني: من1789 إلى 1812 م
1 - الاقتصاد
كان الألمان في سنة 1800 شعباً ذا وعي طبقي، قَبِل التقسيم الطبقي كنسق للنظام الاجتماعي والتنظيم الاقتصادي، وقلما يحصل الشخص على لقب من ألقاب النبالة إلا بالميراث (أي يكتسبه عند ميلاده) · لقد لاحظت مدام دي ستيل de Stael أنه في ألمانيا يحافظ كل شخص على رتبته (طبقته) ومكانه في المجتمع وكأنما هما (الطبقة والمكانة) أمراً راسخا (غير قابل للتغيير)، وكان هذا الوضع أقل وضوحا على طول الراين وبين خريجي الجامعات، لكن - بشكل عام - كان الألمان أكثر صبرا من الفرنسيين، فلم يصل الألمان إلى وضع الفرنسيين في سنة 1789 إلا في سنة 1848·(ملحق/1199)
لقد كان تأثير الثورة الفرنسية في الأدب مثيرا، وكان تأثيرها في الصناعة الألمانية سطحيا· لقد كان في ألمانيا موارد طبيعية ثرية، لكن استمرار النظام الإقطاعي وسلطة البارونات الإقطاعيين في الدول الألمانية الوسطى والشرقية أبطأ من نهوض طبقة رجال الأعمال والمستثمرين الصناعيين التي كان يمكن أن تزدهر في ظل الحوافز المتاحة في الاقتصاد الحر وغير الطبقي، مما يتيح للصناعة الاستفادة من الفحم والمعادن المتوفرة بكثرة في الأرض الألمانية· أما التجارة فقد ساعد على ازدهارها مجموعة من الأنهار الرائعة: الراين، والفسر Weser والإلب Elbe والسال Saale والمين Main والسبري Spree والأودر Oder لكن تمزق الكيانات الألمانية (أو بتعبير آخر عدم اتحاد ألمانيا، وبقاؤها في كيانات سياسية منفصلة) جعل الطرق قصيرة قليلة غير معتنى بها، وفرض على المرور بها ضريبة مرور، وقطعها اللصوص وقطاع الطرق· ومما عوق التجارة القيود التي فرضتها الروابط (التكتلات) التجارية والصناعية، والضرائب الباهظة واختلاف المقاييس والمكاييل والموازين والعملة والقوانين من منطقة إلى أخرى·
وكان على الصناعة الألمانية أن تواجه حتى سنة 1807 منافسة البضائع الإنجليزية التي أنتجتها أحدث الآلات· لقد نعمت إنجلترا بجيل الريادة في الثورة الصناعية ومنعت تصدير تكنولوجيتها الجديدة كما منعت فنييها المهرة من العمل في الدول الأخرى · لقد عمل إله الحرب ذو الوجهين على ازدهار الصناعات لإطعام الناس وكسوتهم وقتلهم، فانتعش الاقتصاد الوطني، وبعد سنة 1806 أدى الحصار القاري الذي فرضه نابليون إلى منع البضائع البريطانية من دخول القارة على نحو قل أم كثر، مما ساعد الصناعات داخل القارة على النمو (لمواجهة نقص البضائع الواردة) · لقد تطورت صناعة استخراج المعادن وتصنيعها في غرب ألمانيا خاصة في دوسلدورف Dusseldorf وإسن Essen وما حولهما· ففي سنة 1810 بدأ فريدريش كروب Friedrich Krupp (1787 - 1826) في إسن Essen مجمع صناعات معدنية ظلت تسلح ألمانيا لقرن·(ملحق/1200)
ورغم هذا الجهد الذي كان يبذله رجال الصناعة فقد كان النبلاء والملك ينظرون إليهم نظرة دونية باعتبارهم مستغلين طلاب ربح، ولم يكن مسموحا لتاجر أو مستثمر صناعي أن يتزوج من طبقة النبلاء أو أن يشتري أرضا يمكنه أن يفرض عليها رسوما إقطاعية· وكان مسموحا للماليين - من الهوجونوت Huguenot ( طائفة من البروتستنت) أو اليهود أو غيرهم - أن يقرضوا النبلاء والملوك، لكن عندما اقترحوا في سنة 1810 أن تحذو بروسيا حذو إنجلترا وفرنسا بتأسيس بنك وطني يصدر سندات مالية بفوائد منخفضة، وبذا يساعد الدين العام في تمويل الدولة، كان من رأي الملك والنبلاء أن مثل هذا الإجراء سيجعل المملكة تحت رحمة رجال البنوك (الماليين) · ورفضت بروسيا أن يتحكم في الأمة مديرو العاصمة، وإنما كانت أكثر ميلا إلى أن يقودها العسكريون والأرستقراطية (اليونكر Junker) ·
2 - المؤمنون بالمسيحية (والمتشككون فيها)
BELIEVERS AND DOUBTERS(ملحق/1201)
مازال الألمان في فترتنا هذه منقسمين دينيا كما كان عليه الحال خلال حرب الثلاثين عاما· وبطرق كثيرة كانت حروب فريدريك الكبير مع النمسا وفرنسا استجابة لهذه المأساة التي طال أمدها· وإذا كان فريدريك قد خسر، فإن البروتستنتية قد تختفي من بروسيا كما كانت قد اختفت من هسي Husse في بوهيميا Bohemia بعد سنة 1620· ولما كان رجال الدين البروتستنت قد انتقلت إليهم الممتلكات الكنسية للأساقفة الكاثوليك في الشمال البروتستنتي، فقد أصبحوا - أي رجال الدين البروتستنت - معتمدين على الحماية العسكرية للأمراء البروتستنت واعترفوا بهم كرأس للكنيسة البروتستنتية في ممالكهم (أي ممالك هؤلاء الأمراء)، وعلى هذا كان فريدريك هو رأس الكنيسة البروسية Prussian Church مع أنه هو نفسه كان لا أدريا (أي متشككا في اللاهوت المسيحي - في هذا السياق) · وفي الدول الألمانية الكاثوليكية - النمسا، وبوهيميا، وكل كيانات كونفدرالية الراين تقريبا - كان الأساقفة - إن لم يكونوا هم أنفسهم حكاما - يحتاجون للحماية نفسها، وأصبحوا تابعين للسلطة المدنية (غير الدينية أو بمعنى أدق سلطة غير الإكليروس) وراح كثيرون منهم لا يهتمون كثيرا بالبيانات التي يصدرها البابا، لكن معظمهم كان يقرأ بانتظام من فوق منابر الوعظ قرارات السلطات المدنية التي تحميهم·
وعلى هذا كان الأساقفة في الكيانات الألمانية التابعة لنابليون - سواء منهم البروتستنت أو الكاثوليك - يقرءون من فوق منابر كنائسهم أوامر نابليون الإدارية ونشراته العسكرية وكان لتبعية الكنيسة على هذا النحو آثار مختلفة (غالبا ما كانت هذه التبعية تأخذ أشكالا متناقضة): اتجاهات تقوية Pietism ( وهو اتجاه ديني متشدد يؤكد على دراسة الكتاب المسيحي المقدس والخبرة الدينية الشخصية) واتجاهات عقلية (اتجاه يعتبر العقل هو الحكم في قضايا المعتقدات) · لقد كانت هناك أسر ألمانية كثيرة لها تراثها التقوي (بالمعنى السابق) الذي يفوق انتماءها السياسي وهو في الوقت نفسه أعمق من تمسكها بالطقوس الدينية (الاتجاه الطقسي) ·(ملحق/1202)
وهذه الأسر كانت تجد إلهامها الديني أكثر ما يكون في الصلوات داخل المنزل (في نطاق الأسرة) وليس في اللاهوت الرسمي أو عظات رجال الدين من فوق منابر كنائسهم، فراحوا شيئا فشيئا يهملون الكنائس وعوضاً عن ذلك راحوا يتعبدون في جماعات خفية esoteric ( المقصود جماعات لها أساليبها الخاصة في العبادة لا يعرفها غيرها)، وكانت جماعات المتصوفة (الباطنية) الذين يوقرون تراث المتنبئين مثل جاكوب (يعقوب) بوهم Jakob Bohme هم الأكثر حماسة واعتزازا بأساليبهم في العبادة إذ كانوا يزعمون رؤية الرب ومقابلته وجهاً لوجه أو أنهم يسعون لذلك، كما كانوا يزعمون أنهم عاينوا التنوير وجربوه، ذلك التنوير (المعنى هنا أقرب إلى الذوبان في القوى القدسية العليا) الذي ينهي أقسى مشاكل الحياة وأكثرها مرارة·
وكانت أخوية المورافيين Moravian Brotherhood ( الأخوية تعني الجماعة الدينية التي يرتبط أفرادها ارتباطا شديدا أساسه الإيمان بمعتقدات واحدة) هي على نحو خاص الأكثر تأثيراً، فقد عانى أفرادها ببطولة صامتة قرونا من الاضطهاد، فقد طردتهم بوهيميا الكاثوليكية وانتشروا في المناطق الألمانية البروتستنتية وأثروا - بعمق - في حياتها الدينية· وقابلت مدام دي ستيل بعضهم وتأثرت بتقواهم وإسهامهم في الأعمال الخيرية وكان ينقش على قبر الواحد منهم إذا مات ولد في يوم كذا وعاد إلى وطنه في يوم كذا وقد آمنت البارونة جولي (باربارا جوليانه) فون كرودنر (1764 - 1824) Julie (Barbara Juliane) Von Krudener الأثيرة لدي مدام دي ستيل آمنت بمعتقدهم وكانت تدعو إليه بطريقة جذابة حتى إن الملكة لويز Louise البروسية تأثرت بهذه الدعوة، وكذلك تأثر بها لفترة القيصر الروسي إسكندر، لكنهما وإن كانا قد تأثرا بالمعتقد فإنهما لم يستجيبا للمشاركة في الأعمال الخيرية·(ملحق/1203)
وكان الشكاكون Skeptics ( المفهوم أنهم شكاكون في المعتقد المسيحي) الذين استنشقوا هواء التنوير الفرنسي هم الطرف الآخر المقابل للباطنيين المسيحيين mystics ( المتصوفة المسيحيين) لقد فتح ليسنج Lessing على استحياء عصر التنوير الألماني Aufklarung بالبحث عن أمور أهملها التاريخ وراح ينشر جزءا منها ( Fragmente eines ungenannten) في الفترة من 1774 إلى 1778 وقد عبر هيرمان ريماروس Hermann Reimarus في هذا العمل عن شكوكه في صحة الأناجيل (شكه في أصلها التاريخي)، وبطبيعة الحال كان هناك شكاكون (المفهوم أنهم شكاكون في المعتقد المسيحي) في كل جيل، لكن غالبهم كان يرى الصمت من ذهب، وكان تأثيرهم يتم قمعه إما بالبوليس أو بالتخويف من عذاب الجحيم·
أما الآن فلم تعد أفكار هؤلاء الشكاكين مكتومة فقد وجدت طريقها في محافل البنائين الأحرار (الماسونيين Freemason) ومحافل الروزيكريشيين Rosicrucian ( تشكيلات سرية اشتهرت في القرنين 17 و18 وزعمت أنها تملك معرفة سرية للطبيعة والدين) وفي الجامعات بل وحتى في الأديرة·
وفي سنة 1781 أدى كتاب كانط Kant ( نقد العقل الخالص) إلى حدوث بلبلة بين المتعلمين في ألمانيا بشرحه لصعوبات اللاهوت العقلي (صعوبات إخضاع اللاهوت للعقل)، وظلت الفلسفة الألمانية طوال جيل بعده تعمل على دحض شكوكه أو إلغائها، وحقق بعض الباحثين بدأب لدحض أفكاره شهرة عالمية مثل فريدريش شلايرماشر Schleiermacher، على وفق ما ذكره ميرابو Mirabeau ( الذي زار ألمانيا ثلاث مرات بين عامي 1786 و1788) كان معظم رجال الدين البروتستنت البروسي في هذا الوقت قد تركوا - بشكل سري - إيمانهم السفلي وباتوا يفكرون في المسيح كرجل صوفي محبوب أعلن قرب نهاية الدنيا·
وفي سنة 1800 سجل مراقب متعجل أن الدين (المسيحي) قد مات في ألمانيا وأنه من غير الملائم وصفها بأنها مسيحية وتنبأ جورج ليشتنبرج Lichtenberg (1742 1799) أنه سيأتي يوم يكون فيه اعتقاد الجميع في الرب (المقصود يسوع) God كاعتقاد أطفال الحضانة في الأشباح·(ملحق/1204)
لقد كانت هذه التقارير مبالغاً فيها، فقد أثرت الشكوك في الدين في عدد قليل من الأساتذة وذوي الثقافة الضحلة لكن هذه الشكوك لم تكن تصل إلا قليلا إلى الجماهير· واستمرت العقيدة المسيحية تدعو إلى معنى اعتماد الإنسان على قوى علوية فوق الحسّ، وتوضح ميل الإنسان - حتى المتعلم - لطلب العون من قوى علوية (فوق طبيعية)، وراحت التجمعات البروتستنتية تدفئ قلوب أعضائها بالترانيم الرائعة، واستمرت الكنيسة الكاثوليكية في تقديم معجزات القديسين والمثولوجيا، والتأملات الباطنية والموسيقى والفن لتكون ملاذا أخير لأرواح أرهقتها أعوام من الملاحة العقلية وسط عواصف الفلسفة والجنس ومخاطرهما· وعلى هذا فإن علماء واسعي المعرفة مثل فريدريش فون شليجل Friedrich Von Schlegel وبنات موسى مندلسون Moses Mendelssohn اليهوديات المتألقات راحوا يبحثون أخيرا عن الدفء وحنان الأمومة في حضن الكنيسة الأم· لقد ظل الإيمان دوماً، وبقي الشك أيضا·(ملحق/1205)
3 - اليهود الألمان
لا بد وأن يكون الإيمان المسيحي قد ضعف مع ازدياد التسامح الديني، فكلما زادت المعرفة وجدناها تتخطى الحواجز التي وضعتها العقائد· لقد أصبح من المستحيل بالنسبة إلى المسيحيين المتعلمين أن يكرهوا اليهودي المعاصر بسبب صلب المسيح السياسي (صلب تم لأسباب سياسية) مضى عليه ثمانية عشر قرنا، وربما قرأ المسيحي المتعلم في إنجيل متى (21/ 8) كيف أن جموعاً من اليهود قد انتشروا وجريد النخيل في أيديهم للترحيب بداعيهم المحبوب (المقصود المسيح عليه السلام) وهو يدخل القدس قبل موته بأيام قليلة· وعلى أية حال فقد كان اليهود في النمسا قد جرى تحريرهم على يد جوزيف الثاني، وفي بلاد الراين على يد الثورة الفرنسية أو نابليون، وفي بروسيا على يد هاردنبرج Hardenberg فخرجوا سعداء من معازلهم ghettos وتكيفوا مع محيطهم وزمانهم لباساً ولغة وعادات، وأصبحوا عمالاً قادرين ومواطنين موالين للبلاد التي يقيمون فيها وعلماء مبدعين ودارسين مخلصين· لكن ظلت معاداة السامية سائدة بين غير المتعلمين أما بين المتعلمين فقد فقدت بعدها الديني وإنما كان لها (أي معاداة السامية) أساس يغذيها في المنافسة الاقتصادية والفكرية وفي أساليب الحياة في (الجيتو) التي ظلت باقية إذ حافظ عليها اليهود الفقراء·
لقد شهدت فرانكفورت أيام جوته عداء شديدا بين المسحيين واليهود، واستمر هذا العداء طويلا، لأن البورجوازية الحاكمة هناك أحست بالمنافسة اليهودية الشرسة في مجال التجارة والصرافة والأمور المالية· وكان مير أمشل روتشلد Meyer Amschel Rothschild اليهودي (1743 - 1812) يعيش بينهم في هدوء وأسس أعظم البيوت المالية في التاريخ بإقراض الأمراء المفلسين مثل الكونتات الألمان (اللاندجريف landgraves) في هسي - كاسل Hesse-Cassel، أو بعمل اليهود كوكلاء لإنجلترا لتقديم الأموال للذين يواجهون نابليون· ومع هذا فقد كان نابليون هو الذي أصرّ في سنة 1810 على منح يهود فرانكفورت حريتهم كاملة بضمان تشريعاته المعروفة بالمدونة النابليونية ·(ملحق/1206)
أما ماركوس هيرز (هيرتس) Marcus Herz (1747 - 1803) فقد عمل على استخدام الازدهار - المالي لليهود في رعاية العلوم والفنون· ولد ماركوس في برلين وهاجر في سنة 1762 إلى كونيجسبرج Konigsberg حيث كان كانط وغيرهم من الليبراليين قد أقنعوا الجامعة بقبول اليهود، وسجل هيرتس في الجامعة كطالب طب لكنه كان يحضر محاضرات كانط ويواظب عليها غالبا مع حضوره محاضرات الطب وجعله حبه للفلسفة واهتمامه بها تلميذا أثيرا لكانط ·
وعندما حصل على درجته العلمية في الطب عاد إلى برلين وسرعان ما حقق شهرة ليس فقط كطبيب وإنما أيضا كمحاضر في الفلسفة وجذبت محاضراته في الفيزياء مستمعين ذوي حيثية كان منهم فريدريك وليم الذي أصبح بعد ذلك هو الملك فريدريك وليم الثالث وكان زواجه من هنريتا دي ليموس Henrietta de Lemos - إحدى أجمل نساء عصرها - سببا لبهجة وتعاسة معا· لقد جعلت بيته صالونا يضارع أفضل صالونات باريس· وامتد كرمها ليشمل الجميلات اليهوديات الأخريات بمن فيهن برندل Brendel ابنة موسى مندلسون (أصبح اسمها بعد ذلك دورثيا Dorothea) وراشيل ليفن Rachel Levin التي تزوجت بعد ذلك الدبلوماسي والمؤلف فارنهاجن فون إنس Varnhagen Von Ense وتحلّق ذوو الحيثية من مسيحيين ويهود حو ل ربات الفتنة والجمال الثلاث، وابتهج المسيحيون إذ وجدنهن جميلات جسدا وعقلا وكن مغامرات فاتنات·
وحضر ميرابو Mirabeau هذه الاجتماعات ليناقش الأمور السياسية مع ماركوس كما كان يتناول موضوعات تتسم بالظرف والذكاء مع هنريتا، وكانت أحاديثه معها أكثر من أحاديثه مع زوجها ماركوس وكانت تستمتع بإعجاب ذوي الحيثية من المسيحيين بها، ودخلت في علاقات غامضة مع فيلهلم فون همبولدت Wilhelm Von Humboldt المعلم، ومع فريدريش شلايرماخر Friedrich Schleiermacher الذي كان داعية فلسفيا· وفي هذه الأثناء شجعت دوروثا Dorothea - التي كانت قد تزوجت سيمون فايت Simon Veit وأنجبت له طفلين - على ترك زوجها وبيتها لتعيش مع فريدريش فون شليجل كخليلة له، غير أنها أصبحت بعد ذلك زوجته·(ملحق/1207)
وكان لهذا الاختلاط الحرّ بين المسيحيين واليهود أثر مضعف على الجانبين: لقد أضعف العقيدة المسيحية (السائدة) عندما وجد المسيحيون أن المسيح ورسله Apostles ( الكلمة في المصطلح المسيحي تعني الدعاة له وسفر أعمال الرسل يعني سفر الدعاة أو المبشرين بالمسيحية) الاثني عشر لم يكن هدفهم سوى الوصول إلى يهودية جديدة إصلاحية، أو بتعبير آخر لم يكن هدفهم سوى إصلاح اليهودية لتكون مطابقة لشرائع موسى والهيكل· وكذلك أدى هذا الاختلاط إلى إضعاف عقيدة اليهود الذين رأوا أن إخلاصهم لليهودية يشكل معوقا قاسيا يحول بينهم وبين المكانة الاجتماعية والتواؤم مع من يعيشون معهم· وعلى كلا الجانبين (المسيحي واليهودي) أدى تدهور المعتقد الديني إلى تساهل في المعايير الأخلاقية·
4 - الأخلاق
كانت قواعد السلوك والأخلاق قائمة على الاعتقاد في إله رحيم منتقم، يشجع كل تواضع ويراقب كل عمل ويعلم ما تخفي الصدور، لا ينسى شيئا، وهو صاحب الحق ومالك القوة، ليصدر الحكم ويعاقب أو يعفو· إنه إله الحب والانتقام إنه السيد المهيمن مالك الجنة والنار (وهي صورة الإله في العصور الوسطى) · هذه العقيدة الكئيبة والتي ربما كان لابد منها ظلت موجودة بين الجماهير وساعدت رجال الدين والأرستقراطيين Junkers والجنرالات والبطارقة على التحكم في جماهيرهم (قطيعهم) والفلاحين والجنود والبيوت· لقد تطلبت الحروب الدورية والمنافسة التجارية والحاجة للانضباط الأسري، تأصيل وصياغة عادات الطاعة والتنفيذ لدى الشباب وعادات التواضع المبهج والعمل داخل المنزل لدى البنات، والصبر والإخلاص لدى الزوجات، والقدرة الصارمة على القيادة لدى الزوج والأب·(ملحق/1208)
وكان الرجل الألماني العادي يجد من الحكمة أن يكون وقورا أمام زوجته وأبنائه ومنافسيه وموظفيه، رغم أنه- بعيدا عنهم - يكون مرحا محبا للفكاهة - على الأقل عندما يكون في الحانة· وهو - أي الألماني العادي - يعمل بجد، ويتوقع الشيء نفسه ممن يعملون تحت إدارته، وهو يحترم التقاليد والتراث باعتبارهما نبع الحكمة وعمود المصداقية· والعادات القديمة تمكنه من مواجهة مهامه اليومية وارتباطاته بفكر منظم مريح· وهو متمسك بدينه كتراث مقدس وهو شاكر له لأنه يعينه على تدريب أبنائه على المودة والنظام والانضباط· وهو يتبرأ من الثورة التي أشاعت الفوضى في فرنسا ويكره استعجال الشباب الألماني وهياجهم متمثلة في تحللهم الطائش من العلاقات الراسخة، اللازمة بشكل حيوي لضبط المنزل والدولة· وهو - أي الرجل الألماني العادي - يجعل زوجته وأبناءه تابعين له، لكنه يستطيع أن يكون إنسانيا ومحبوبا في منزله في الوقت نفسه وهو يعمل بلا ملل ولا كلل لمواجهة احتياجات أسرته البدنية والعقلية والنفسية·
وقد قبلت الزوجة وضعها دون كبير مقاومة لأنها مقتنعة أن الأسرة الكبيرة في بلد غير آمن يحيطه الأعداء، في حاجة إلى يد ثابتة صارمة· وهي في المنزل - كتابعة لزوجها وملتزمة بالقانون (الشريعة) - تصبح مقبولة كسلطة موجهة، وغالبا ما كانت دوما تحظى بحب أولادها طوال الحياة· وكانت راضية بدورها كأم للأطفال مبرأة من الإثم تحافظ على بقاء الجنس البشري·
لكن كانت هناك أصوات أخرى· ففي سنة 1774 كان تيودور فون هبل Theodore Von Hippel قد سبق ماري فولستونكرافت Wollstonecraft بثمانية عشر عاما، إذ نشر كتابه (عن الزواج) فكان صوتا رجوليا للدفاع عن تحرير المرأة· لقد اعترض على قسم الزوجة على طاعة زوجها إذ كان من رأيه أن الزواج مشاركة وليس تبعية الزوجة لزوجها، فهي شريكة له· وطالب بتحرير المرأة تحريرا كاملا ليس فقط بإعفائها من قسم الطاعة بل لأهليتها للمناصب بل لأعلى المناصب، وذكر بعض النسوة الحاكمات في عصره - كريستينا في السويد وكاترين في روسيا، وماريا تريزا في النمسا·(ملحق/1209)
وإذا لم ينص القانون على التحرر الكامل للمرأة، فإن من الأمانة أن نحول مصطلح حقوق الإنسان إلى مصطلح حقوق الرجال ولم تصغ إليه ألمانيا لكن - بتأثير الثورة الفرنسية وانتشار الفكر الراديكالي في ألمانيا - شهدت نهاية القرن 18 وبداية القرن 19 هبة لنساء متحررات كن كثيرات العدد في الفترة التي نتحدث عنها، لكن كانت حركة تحرير النساء في فرنسا في القرن الثامن عشر هي الأكثر ألمعية، ولم تتسم الحركة في كلا الكيانين بالطيش والتهور· ولم تنظر الحركة الرومانسية - التي كانت صدى للتروبادوريين troubadours في العصور الوسطى - للمرأة كأم ديمتر Demeter ولا كعذراء كمريم وإنما كباقة ورد تجعل المرء ثملاً معجبا بحيويتها (أي المرأة) الجسدية والعقلية ولا بأس من شيء من الغيبة والقيل والقال بل والفضائح لإكمال الإغراء (لإثارة الفتنة) · لقد لاحظنا أن هنريتا هيرز Henrietta Herz، ودوروثا مندلسون Dorothea Mendelssohn - بالإضافة إلى كارولين ميشيل Caroline Michaelis ( ابنة جوتنجن أورينتالست Gottingen Orientalist) التي كانت - وهي أرملة ثورية - قد تزوجت أوجست فون شليجل وطلقته وتزوجت من الفيلسوف شيلنج·
وهناك تيريزا فورستر التي ضارعت زوجها في اتجاهها الجمهوري، وتركته (أي تركت زوجها) لتعيش مع دبلوماسي من سكسونيا، وكتبت رواية سياسية ( the Seldorf family) أحدثت ضجة في بلاد الراين· لقد كتب فيلهلم فون همبولدت أنها بتفوقها الفكري كانت واحدة من أكثر النساء جدارة بلفت النظر إليها في عصرها وهناك راشيل ليفن فارنهاجن فون إنس Ense التي كان يتردد على صالونها دبلوماسيو برلين ومفكروها، وهناك بتينافون أرنيم Bettina Von Arnim التي رأيناها تحوم حول بيتهوفن وجوته ورأينا نسوة مثقفات - لسن ثوريات تماما يفقن جوته بريقا في فيمار: إنهن الدوقة لويزا Luise وشارلوت فون كالب Kalb وشارلوت فون شتاين Steins وكان من الطبيعي أن تؤدي حركة تحرير المرأة في المدن الألمانية الكبيرة إلى تخفيف الكوابح الأخلاقية، فقد اتخذ فريدريك وليم الثاني خليلات،(ملحق/1210)
وضارعه بعد ذلك في هذا الأمير لويس فرديناند، وازداد بدرجة كبيرة الزواج عن حب لأن الشباب الأصغر سنا تخلى عن البحث عن زوجة ذات مال إلى زوجة يعشقونها ذات جمال (أي راحوا يبحثون عن النشوة الرومانسية)، وراح جوته المسن ينظر بازدراء من فيمار لحياة الترف التي يعيشها أفراد الطبقات العليا وذوو المكانة في برلين لكنه تبنى الأخلاق الجديدة عندما ذهب إلى منتجعات كارلسباد Karlsbad حيث رأى النسوة يعرض أنفسهن بخيلاء في ملابسهن المتمشية مع (المودة) الجديدة على نحو ما كانت تفعل مدام تاليا Tallien ونساء آل بوهارنيه Beauharnais في باريس في سنة 1795·
وضارع الفساد السياسي هذا الانحلال الجنسي، فكانت الرشوة أداة أثيرة يستخدمها الدبلوماسيون، وكانت الرشوة سائدة في الجهاز الإداري في الدول الألمانية الكاثوليكية والبروتستنتية على سواء· وبدا رجال الأعمال أكثر أمانة من رجال السياسة وكان البورجوازي حتى إذا تزوج من امرأة متساهلة relaxed فإنه يجعلها بمعزل عن حفلات السمر على طول نهر السبري Spree وعلى أية حال ففي هذه الأثناء كانت الجامعات تصب في الحياة الألمانية وفي قيم الأخلاق فيها شبابا لم يحظ بالقدر الكافي من التعليم فكان كعملية هدم في خلايا المجتمع الحية تسبب له إزعاجا·
5 - التعليم
لقد أصبح التعليم الآن هو الشاغل الأول لألمانيا وهو الإنجاز الأول أيضا، وارتبط هذا بالحرب فقد كان لابد من حفز العقول والأنفس والأبدان لمواجهة نابليون· لقد وجدنا فيشته Fichte في كتابه خطابات إلى الأمة الألمانية (1807) يعبر عن قناعات العصر رغم أن قلة هم الذين تنبهوا لقوله: إن إصلاح التعليم في كل مراحله، هو وحده الذي يعلي من شأن ألمانيا لمواجهة احتياجات الدولة في هذه الأعوام التي تحطمت فيها الروح الألمانية بسبب الاستسلام السريع والإذلال الذي تعرض له الوطن·(ملحق/1211)
وفي سنة 1809 تم تعيين فيلهلم فون همبولدت (1797 - 1835) وزيرا للتعليم في بروسيا، وأعطى لنفسه صلاحيات تجعل إصلاحاته نافذة المفعول، فجدد النظام التعليمي الألماني الذي سرعان ما أصبح بفضله أفضل نظام تعليمي في أوربا· فأتى الطلاب من بلاد لا حصر لها للدراسة في جامعات جوتنجن Gottingen وهايدلبرج Heidelberg ويينا Jena وبرلين· وانتشر التعليم ليشمل كل الطبقات واتسعت موضوعاته وأعراضه، ورغم التركيز على دراسة الدين كدعامة أساسية للشخصية، فقد كان المعلمون الرسميون يركزون على الوطنية كدين جديد في مدارس ألمانيا - تماما كما فعل نابليون في مدارس فرنسا، إذ جعل الوطنية هي اللاهوت الجديد·
لقد كانت الجامعات الألمانية في حاجة إلى دعم قوي، وقد تلقته بالفعل، ذلك أن كثيرا منها كان يعاني من الإهمال الذي كان يعود لفترة طويلة مضت، لقد كانت جامعة هايدلبرج Heidelberg قد أسست في سنة 1386، وأسست جامعة كولوني Cologne في سنة 1388، وجامعة إيرفورت Erfurt في سنة 1379، وجامعة ليبزج (ليتسج Leipzig) في سنة 1409، وجامعة روستوك Rostok في سنة 1419 وجامعة مينز (مينتس Mainz) في سنة 1476، وجامعة توبنجن Tubingen في سنة 1477 وجامعة فيتنبرج Wittenberg في سنة 1502 والآن أصبحت كل هذه الجامعات في عُسر وحاجة· وكانت جامعة كونيجسبرج Konigsberg التي بدأت في سنة 1544 قد انتعشت بوجود إمانويل كانط Immanuel Kant بها·
أما جامعة يينا Jena التي أسست سنة 1558 فقد صارت العاصمة الثقافية لألمانيا بوجود شيلر وفيشته Fichte وشيلنج Schelling وهيجل Hegel والأخوين شليجل Schlegel والشاعر هولدرلين Holderlin، وفي هذه الجامعة كانت هيئة التدريس غالبا ما تضارع الطلاب في ترحيبهم بالثورة الفرنسية· وكانت جامعة هاله Halle (1604) أول جامعة عصريه بثلاثة معان: لقد نذرت نفسها لحرية الفكر والتدريس، ولم تكن تطلب من أساتذتها تعهدا بالالتزام بالعقيدة الدينية السلفية - الأرثوذكسية orthodoxy ( المقصود الصحيحة من وجهة نظر رجال الدين الكاثوليك أو البروتستنت) وقد خصصت في برامجها التعليمية مكانا للعلوم والفلسفة، وأصبحت مركزا للبحث العلمي بدراساته النظرية والمعملية ·(ملحق/1212)
أما جامعة جوتنجن التي أسست في وقت متأخر يرجع لسنة 1736، فقد أصبحت في سنة 1800 أعظم مدرسة في أوربا لا تضارعها إلا جامعة لايدن Leiden في هولندا· قالت مدام دي ستيل Stael التي كانت تجول هناك في سنة 1804 إن كل شمال ألمانيا غاص بأفضل الجامعات في أوربا لقد كان فيلهلم فون همبولدت كفرانسيس بيكون في هذه الحركة الإحيائية التعليمية، وكان واحدا من بين العقول المتحررة العظيمة في عصره· ورغم أنه نبيل الأصل (من طبقة النبلاء) إلا أنه وصف طبقة النبلاء بأن وجودها كان ضروريا في وقت من الأوقات أما الآن فقد أصبح وجودها شراً لا داعي له وقد خلص من دراسته للتاريخ أن كل المؤسسات تقريبا مهما أصبحت ناقصة معوقة معيبة، إلا أنها في وقت من الأوقات كانت مفيدة·
فما الذي جعل الحرية على قيد الحياة في العصور الوسطى؟ إنه نظام الإقطاع fiefs· ما الذي حافظ على العلوم في عصور البربرية؟ إنه النظام الديري· لقد كتب هذا وهو في الرابعة والعشرين من عمره، وبعد ذلك بعام (1792) حكم بحكم - وكأنه يتنبأ - على الدستور الفرنسي الجديد الذي أصدرته فرنسا في سنة 1791 بأنه "يحوي - في رأيه - كثيرا من المبادئ المثيرة للإعجاب، لكن الشعب الفرنسي - وهو شعب عاطفي مستثار - لن يكون قادرا على التعايش معه بحكمة وقد يحولون بلادهم إلى فوضى ويغرقونها في الاضطراب"· وبعد ذلك بجيل كان يتجول مع صديق له فيلولوجي philologist ( عالم بفقه اللغة) في ميدان معركة ليبزج حيث واجه نابليون كارثة في سنة 1813، فقال: "إن الممالك والإمبراطوريات - كما نرى هنا - تموت، لكن قصيدة رقيقة تبقى للأبد" وربما كان يفكر في الشاعر بندار Pindar الذي كان هو قد ترجم أشعاره من لغتها الإغريقية الصعبة بشكل غير عادي·(ملحق/1213)
لقد فشل كدبلوماسي لأنه كان شديد الافتتان بالثورة الفكرية بدرجة تجعله غير قادر على معالجة أمور السياسة المتغيرة ولما كان غير مرتاح على المسرح العام (غير مرتاح للتعامل مع الأمور العامة) فقد عكف على حياة العزلة وراح يدرس، وكان مفتونا بعلم فقه اللغة (الفيلولوجيا philology) وتتبع الألفاظ عند انتقالها من مكان إلى مكان (المفهوم لمعرفة ما يلحقها من تحريف أو تبديل) · ولم يكن يؤمن بقدرة الحكومة على حل المشكلة الاجتماعية لأن أفضل القوانين يمكن أن تفشل أمام طبيعة الإنسان التي لا تتغير· وخلص إلى أن الأمل الوحيد للإنسان يكمن في تطور أقلية قد يكون في إخلاصها منارة تهدي الشباب فيقتدون بها حتى في جيل أصابه القنوط·
وعلى هذا فقد خرج وهو في الثانية والأربعين من خصوصيته (انكفائه على نفسه) وخدم بلاده وزيراً للتعلم، وفي سنة 1810 عهدت إليه الحكومة بتنظيم جامعة برلين، فأحدث فيها تغييرات ظلت مؤثرة في الجامعات الأوربية والأمريكية حتى اليوم: لقد كان محك اختيار الأساتذة ليس قدرتهم على التدريس فحسب وإنما لشهرتهم أو رغبتهم في البحث العلمي الأصيل· وتم دمج أكاديمية برلين للعلوم (أسست في سنة 1711) والمرصد الوطني وحديقة النباتات والمتحف والمكتبة في الجامعة الجديدة· والتحق بهذه الجامعة فيشته الفيلسوف، وشلايرماخر Schleiermacher اللاهوتي، وسافيجنى Savigny القانوني وفريديش أوجست فلف Friedrich August Wolf (1759 - 1824) العالم الكلاسيكي (المقصود المتخصص في الكلاسيكيات أي الدراسات اليونانية واللاتينية) الذي فاجأ الهيلينستيين Hellenists ( المقصود هو المتخصصون في الدراسات الهيلينستية أي التراث اليوناني المتفاعل مع تراث الشرق عامة، وقد يكون المقصود أهل هذه المناطق) ببحوثه المتسمة بالتنور والتي خلص منها إلى أن هوميروس Homer ليس شاعرا واحدا وإنما سلسلة من المغنين هم الذين ألفوا - بشكل جماعي - الإلياذة والأوديسة،(ملحق/1214)
وقد صدرت دراسته هذه ( Prolegomena Homerum) في سنة 1795، وفي جامعة برلين كان بارتولد جورج نيبور (نيبوهر) Berlin Barthold Georg Niebuhr (1776 - 1831) يلقي الحاضرات التي مهدت لظهور كتابه تاريخ روما Romische Geschichte (1811 - 1832) وأدهش الباحثين برفضه الفصول الأولى من كتاب ليفى Livy باعتبارها أساطير وليست تاريخا· ومن الآن فصاعدا أصبحت ألمانيا هي رائدة العالم في الدراسات الكلاسيكية والفيلولوجيا (فقه اللغة) وتاريخ التاريخ (الهستور يوجرافي historiography) وكذلك الفلسفة· أما تفوقها وسيادتها في مجال العلوم فسيأتيان فيما بعد·
6 - العلوم
لقد تأخر العلم في ألمانيا بسبب ارتباطه غالبا بالفلسفة، ارتباطا شديدا وكأنه والفلسفة توأمان ملتصقان (سياميان Siamese) فخلال معظم هذه الفترة كان يعتبر جزءا من الفلسفة، وكان مندمجاً فيها مع الدراسات التاريخية والثقافية تحت مسمى دراسة المعرفة أو حسب المصطلح الألماني فسنشافتلير Wissenschaftslehre لقد دمر هذا الارتباط العلم لأن الفلسفة الألمانية كانت في ذلك الوقت تنظر إلى المنطق النظري باعتباره أرقى بكثير من الإثبات بالبحث أو التحقق بالتجربة·(ملحق/1215)
غير أن رجلين كانا هما على نحو خاص اللذين فرضا احترام العلم في ألمانيا في هذا العصر - كارل فريديش جاوس Karl Friedrich Gauss (1777 - 1855) وإسكندر فون همبولدت Alexander von Humboldt (1769 - 1859) · ولد جاوس في بيت ريفي في برونسفيك Brunswick لأب يعمل بستانيا وبناء بالآجر ومطهر قنوات ولم يكن هذا الأب موافقا على التعليم باعتباره جواز مرور إلى الجحيم· وكانت أم كارل - على أية حال - قد لاحظت ابتهاجه بالأرقام ومهارته في التعامل معها، وراحت الأم تقتصد وتوفر لتدبير المال اللازم لإرساله إلى المدرسة الابتدائية ثم المدرسة الثانوية Gymnasium وهناك أحرز تفوقا سريعا في الرياضيات حتى إن معلمه دبر له لقاء مع الدوق تشارلز وليم فرديناند البرونسفيكي Charles William Ferdinand of Brunswick وتأثر الدوق فدفع للصبي المصاريف الدراسية طوال ثلاث سنوات في كلية كارولينيم Collegium Carolinum في برونسفيك، وبعد اجتيازه اختباراتها التحق بجامعة جوتنجن (1795) وبعد أن قضى فيها عاما لم تكن أمه قادرة على فهم دراسة ابنها للأرقام والدياجرامات diagrams ( رسومه البيانية) فسألت معلمه عما إذا كان هناك أمل في أن يحقق ابنها درجة الامتياز، فكان رده: سيكون ابنك أعظم علماء الرياضيات في أوربا وربما تكون الأم قد سمعت قبل موتها ما قاله لابلاس Laplace من أن جاوس قد حقق بالفعل نبوءة معلمه· إنه الآن في نفس درجة أرشميدس ونيوتن·(ملحق/1216)
إننا لن نتظاهر بفهم اكتشافاته، ولن نخوض في الشرح إلا في أقل القليل - اكتشافاته في نظرية الأرقام، والأرقام التخيلية وحساب التفاضل والتكامل والحساب اللانهائي - وبهذا نقل جاوس علم الرياضة من الحال التي كان عليها في أيام نيوتن إلى علم يكاد يكون جديدا، فأصبح بذلك (أي علم الرياضيات) أداة لما حققه العلم من معجزات في عصرنا· بل إنه هو نفسه راح يطبق نتائج الرياضيات في ستة حقول من حقول المعرفة· وأدى رصده لمدار أكبر السييرات Ceres ( أكبر الكواكب السيارة الصغيرة بين المريخ والمشتري) ومراقبته إلى صياغة منهج جديد وسريع لتحديد مدارات الكواكب كان أول هذه السييرات (الكويكبات) قد تم اكتشافه في أول يناير سنة 1801· وأجرى أبحاثا أقامت نظرية المغناطيسية والكهربية على أسس رياضية· لقد كان بركة لكل العلماء كما حملهم عبئاً ذلك أنه آمن بأن العلم لا يعتبر علما إلا إذا صيغ في شكل رياضي وبمصطلحات رياضية·
وكان هو نفسه شائقا كعلمه، فبينما هو يعيد بناء العلوم، ظل نموذجاً للتواضع، فلم يكن عجولا لنشر مكتشفاته ومن هنا لم يحظ بالإطراء لهذه المكتشفات إلا بعد وفاته، وأحضر أمه العجوز لتعيش مع أسرته ومعه، وراح يخدمها بنفسه ويمرضها دون أن يسمح لأي أحد آخر غيره بالقيام بهذا حتى في أعوامها الأربعة الأخيرة عندما أصبحت عمياء تماما، وقد بلغت أمه من العمر سبعة وتسعين عاما·(ملحق/1217)
وكان أخو فيلهلم فون همبولدت الأصغر واسمه إسكندر هو البطل الآخر في مضمار العلم الألماني في هذا العصر، فبعد تخرجه في جامعة جوتنجن التحق بأكاديمية المعادن والتعدين في فرايبرج Freiberg حيث عرف بدراساته عن الحياة الحضرية تحت الأرض، واكتشف عندما كان مديرا للمناجم في بايروث Bayreuth تأثير المغناطيسية الأرضية في الرواسب الصخرية فأسس بذلك مدرسة في علم المناجم وحسن ظروف العمل· ودرس تكوينات الجبال مع هـ · ب · دي سوسور H. B.de Saussure في سويسرا، كما درس الظاهرة الكهربية مع أليساندرو فولتا Alessandro Volta في بافيا Pavia· وفي سنة 1796 بدأ - مصادفة - رحلة طويلة بهدف الكشف العلمي وأدت اكتشافاته إلى أن أصبح على وفق ملاحظة معاصرة تنطوي على الطرافة أشهر رجل في أوربا بعد نابليون· لقد ضارعت اكتشافاته اكتشافات دارون·
وبدأ مع صديقه عالم النبات أمي بونبلاند Aime Bonpland من مرسيليا رحلة آملاً أن يلحق بنابليون في مصر لكن الظروف انحرفت بهم إلى مدريد حيث قدم لهم رئيس وزرائها رعاية لم يكونا يتوقعانها، مما شجعهما على اكتشاف أمريكا الإسبانية (المناطق التي احتلتها إسبانيا في العالم الجديد)، فأبحرا في سنة 1799 وتوقفا لمدة ستة أيام في تينيريف Tenerife أكبر جزر الكناري، وهناك تسلقوا ذروة القمة الجبلية الداخلة في البحر (12,192 قدما) وشاهدوا البرد الجوي meteoric Shower مما دفع همبولدت إلى دراسة تتابع هذه الظاهرة· وفي سنة 1800 بدأ من كركاس Caracas في فنزويلا قضي أربع أشهر لاكتشاف الحياة النباتية والحيوانية في مناطق السفانا (الأعشاب الطوال في المناطق الحارة) ومناطق الغابات الممطرة على طول نهر أو رينوكو Orinoco حتى وصلا إلى المنابع المشتركة لهذا النهر ونهر الأمازون· واستغرقت رحلتهما هذه ستة أشهر·(ملحق/1218)
وفي سنة 1801 شقا طريقهما عبر جبال الأنديز Andes من كارتاجنا Cartagena ( ميناء كولومبيا) إلى بوجوتا Bogota وكيتو Quito وتسلقا جبل سيمبورازو Chimborazo (18,893 قدما) وقدما للعالم تقريرا ظل مأخوذاً به طوال الست الثلاثين سنة التالية· ورحلا على طول ساحل المحيط الهادي (الباسفيكي) إلى ليما Lima فقاس همبولدت حرارة تيارات المحيط ويحمل هذا القياس اسمه حتى الآن· وراقب عبور كوكب عطارد وقام بدراسة كيميائية على الجوانو guano ( سماد طبيعي من إفرازات الطيور البحرية) وأظهر إمكانية استخدامه كسماد وأرسل عينات منه إلى أوربا لإجراء مزيد من التحليلات عليه، وبذا كان سببا في أن أصبح هذا السماد الطبيعي واحدا من أهم صادرات أمريكا الجنوبية· وكان الباحثان اللذان لا يكلان قد وصلا تقريبا إلى شيلي فعادا أدراجهما شمالا وقضيا عامين في المكسيك ووقتا قصير ا في الولايات المتحدة ووصلا أوربا في سنة 1804 - لقد كانت رحلتهما واحدة من أكثر الرحلات العلمية فائدة في التاريخ·
ومكث همبولدت ثلاث سنوات تقريبا في برلين يدرس فيها ما جمعه من معلومات وكتب كتابه (ملاحظات عن الطبيعة Ansichten der Natur) (1807) وبعد ذلك بعام ذهب إلى باريس ليكون قريباً من المراجع العلمية والوسائل المعينة على البحث، وظل في باريس 19 عاما حيث نعم بصداقة علماء فرنسا الرواد وحياة الصالونات، وكان واحداً ممن اعتبرهم نيتشه رجال أوربا الصالحين، وقد شهد بهدوء الجيولوجي الاضطرابات الظاهرية (السطحية) - قيام الدول وسقوطها· وصحب فريدريك وليم الثالث في زيارة مع الملوك المنتصرين للندن في سنة 1814، لكنه كان - في الأساس - منشغلا في تطوير العلوم القديمة أو استحداث علوم أخرى جديدة·(ملحق/1219)
واكتشف في سنة 1804 أن القوى المغناطيسية للأرض تقل كلما اتجهنا من أحد القطبين إلى خط الاستواء· وأثرى علم الجغرافيا بدراسته للأصل الناري (البركاني) لبعض الصخور، ودراسته لتكوين الجبال والتوزيع الجغرافي للبراكين· وقدم المبادئ الأولى للقوانين التي تحكم الاضطرابات المناخية وألقى الضوء - بالتالي - على أصل العواصف المدارية واتجاهاتها، وقام بدراسات كلاسيكية للهواء والتيارات البحرية في المحيطات· وكان هو أول من قدم للجغرافيا (1817) تفسيراً لتساوي درجة الحرارة السنوية في بعض الأماكن رغم اختلاف درجات العرض· لقد اندهش الخرائطيون عندما رأوا في الخريطة التي وضعها همبولدت أن لندن متوسط درجة حرارتها تساوي متوسط درجة حرارة سينسيناتي Cincinnati مع أن لندن تقع إلى الشمال مثل لابرادور Labrador، بينما سينسيناتي إلى الجنوب على خط العرض الذي تقع عليه لشبونة· وبدأ بمقاله عن جغرافية النباتات علما جديداً هو علم الجغرافيا البيولوجية (الحيوية)، ذلك العلم الذي يدرس توزيع النباتات على وفق الظروف الطبيعية (التضاريس) هذا بالإضافة إلى مئات الإسهامات الأخرى ثم نشرها في 30 مجلدا من سنة 1805 إلى 1843·
لقد كانت إسهاماته هذه تبدو متواضعة في الظاهر لكنها كانت ذات تأثير واسع ودائم· والمؤلف ذو الثلاثين جزءا والذي أشرنا إليه لتونا يحمل عنوان: رحلات همبولدت وبونبلاند Voyages de Humboldt et Bonpland aux regions equinoxiales du nouveau Continent· وأخيرا بعد أن نفدت ثروته لكثرة ما أنفقه على أبحاثه قبل وظيفة يتقاضى منها راتبا فعمل حاجبا في البلاط البروسي (1827)، وبعد استقراره في هذه الوظيفة سرعان ما عاد لإلقاء المحاضرات العامة في برلين، تلك المحاضرات التي شكلت فيما بعد أساس مؤلفه ذي المجلدات العديدة والذي يحمل عنوان: الكون Kosmos (1845 - 1862) الذي كان من بين أكثر الكتب شهرة على مدى أفق الرؤية لدى الأوربيين· وتحدثنا مقدمة الكتاب بتواضع عقل ناضج:(ملحق/1220)
"في الليلة الأخيرة من حياة حافلة، أقدم للشعب الألماني عملاً كانت صورته غير المحددة تتراءى لعقلي لنحو نصف قرن· وكنت مرارا أرنو إلى إكماله لكنني كنت أعتبر هذه الرغبة غير عملية، بل غالبا ما كنت أميل إلى التخلي عنه، إلا أنني عدت مرة أخرى إلى مواصلة العمل فيه، وربما كان هذا طيشاً مني··· وكان الدافع الأساسي الذي وجهني هو السعي المتلهف لفهم ظواهر الأمور الفيزيقية في إطار ارتباطاتها العامة بعناصرها وبما هو خارج عنها، وفهم الطبيعة في إطارها العام ككل متكامل عظيم، يتحرك ويحيا ويتفاعل بفعل قوى داخلية"·
وترجم الكتاب إلى الإنجليزية في سنة 1849، فبلغت صفحاته ألفي صفحة تقريبا، كانت تتناول الفلك والجيولوجيا والأرصاد الجوية والجغرافيا، مظهراً العالم المادي (الفيزيقي) حيا مثيرا للدهشة ورغم هذه الحيوية فإن القوانين الرياضية، وقواعد الكيمياء والفيزياء تحكمه· لقد قدم لنا صورة عامة كأوسع ما يكون، صورة عامة لم تنشأ كميكانيكية جامدة (كتركيب جامد لا حياة فيه) وإنما مفعمة بحيوية لا حد لها، وامتداد لا نهاية له، وإبداع ملازم للحياة·
لقد كانت طاقة همبولدت وحيويته مثيرة، فما كاد يستقر في برلين حتى قبل دعوة من القيصر نيكولاس الأول Czar Nicholas I ليرأس بعثة كشفية علمية في آسيا الوسطى (1829) فقضى نصف عام يجمع بيانات عن الأرصاد الجوية ويدرس تكوين الجبال وفي الطريق اكتشف مناجم ألماس في الأورال Urals، وعندما عاد إلى برلين استفاد من منصبه في البلاط ليحسن النظام التعليمي ولتقديم العون للعلماء والفنانين· وبينما كان يكتب المجلد الخامس من كتابه عن (الكون Kosmos) أتاه الموت وهو في التسعين من عمره، فشيعته بروسيا في جنازة رسمية·(ملحق/1221)
7 - الفن
لم يكن هذا العصر في ألمانيا مواتياً لعلم أو فن، فالحرب إما دائرة بالفعل وإما على وشك، فاستنزفت ثروات البلاد وحماسها، وكان قيام أفراد (من النبلاء أو الأثرياء) برعاية الفنون، أمراً نادرا، وإن حدث، فإنه يكون غير ثابت· وكانت متاحف ليبزج وشتوتجارت وفرانكفورت، ودريسدن وبرلين تعرض الأعمال الفنية الخالدة (والمدينتان الأخيرتان على نحو خاص) لكن نابليون نقلها إلى اللوفر Louvre·
ومع هذا فقد أنتج الفن الألماني بعض الأعمال الجديرة بالذكر وسط هذا الاضطراب العظيم، وبينما كانت باريس ترقص مع حالة عدم تكوّن (حالة لم تتضح فيها الأمور تماما) رفعت برلين بنيان بوابة براندنبورج Brandenburg شامخة· لقد صممها كارل جوتهارد لانجهانز Karl Gotthard Langhans (1732 - 1808) على الطراز الدوري الإغريقي بأعمدة ذوات قنوات (جمع قناة أي نحت في العمود من أعلى إلى أسفل يبدو وكأنه قنوات) وأقام على هذه البوابة قوصرة (مثلث في أعلاها) كما لو كان يعلن بهذه القوصرة موت طراز الباروك والروكوكو، لكن هذا البنيان بشكله الراسخ كان يعلن بشكل أساسي قوة آل هوهنتسولرن Hohenzollerns وتصميمهم على ألا يدخل برلين عدو· لكن نابليون دخلها في سنة 1806 ودخلها الروس في سنة 1945·
وحقق فن النحت تقدماً ملموسا· إنه في الأساس فن كلاسيكي يعتمد على الخط ويتحاشى (منذ القدم) اللون، كما أن عدم الاتساق في الطراز الباروكي، والمرح في طراز الروكوكو لا يتفقان مع روحه· لقد نحت جوهان فون دانكر Johann Von Dannecker بإزميله لمتحف شتوتجارت تمثاليْه ( Sappho) و (فتاة كاتو لس مع الطائر Catullus' Girl with the Bird) وتمثاله (أريادن Ariadne) لمتحف بثمان Bethmann في فرانكفورت، والتمثال النصفي الشهير لشيلر لمكتبة فيمار · أما يوهان (جوهان) جوتفريد شادو Johann Gottfried Schadow (1764 - 1850) فبعد أن درس على يد كانوفا Canova في روما عاد إلى بلده برلين،(ملحق/1222)
وفي سنة 1793 لفت انتباه العاصمة (برلين) بأن وضع عند قمة بوابة براندنبورج كارديجا Qradriga ( مركبة بعجلتين) تجرها أربعة خيول يرشدها (يقودها) النسر المجنح الذي كان موجودا في المركبات الرومانية· ونحت لشتتن Stettin تمثالا من رخام لفريدريك الكبير واقفاً في ثياب عسكرية يحرق أعداءه بناظريه، لكن يوجد عند قدميه مجلدان كبيران ليشهدا أنه مؤلف أيضا، ونسي النحات فلوته (الفلوت آله نفخ موسيقية)، والتمثال الأكثر رقة هو تمثال يمثل عملا نحتيا واحدا للملكة لويز والملك فريدريك (1797) وقد تغطى نصف كل منهما بالجوخ ووضع كل منهما ذراعه في ذراع الآخر، وهما يتحركان بهدوء رمزا للعلو والسمو والأسى· لقد ألهمت الملكة الفنانين بجمالها وعاطفتها الوطنية وموتها· وقد خصص هينريش (هينريخ) جنتس Heinrich Gentz (1766 - 1811) ضريحا ضخما مهيبا في شارلوتنبورج Charlottenburg ونحت كريستيان راوخ Rauch (1777 - 1857) قبرا جديرا بجسدها وروحها·
وكان الرسم الألماني لا يزال يعاني من فقر الكلاسيكية الجديدة يحاول أن يعيش على رماد البومبية Pompeii ( نسبة إلى مدينة بومبى الأثرية الرومانية - في إيطاليا) ومواطن الآثار الهرقلية، ومباحث ليسنج وفنكلمان، ووجوه مينجز Mengs وديفيد الشاحبة والخيالات الرومانية لأنجليكا كاوفمان Angelica Kaufman وما لا حصر له من الرسامين· لكن هذا التنصل (هذا الأسلوب في إزالة الألوان Decoloration) لم يكن له جذور حية في التاريخ الألماني والشخصية الألمانية، فالرسامون الألمان في هذا العصر كانوا لا يبالون بالكلاسيكية الجديدة،(ملحق/1223)
فعادوا للخلف يستلهمون المسيحية، وما وراء حركة الإصلاح الديني وعدائها للفن ولا مبالاتها به، وإلى ما قبل الرافييلية في إنجلترا Pre-Raphaelites، وراحوا يصغون لأصوات مثل أصوات فيلهيلم فاكنرودر Wilhelm Wackenroder وفريدريش شليجل تدعوهم للعودة للأصول إلى ما قبل رافاييل، العودة إلى الفن الوسيط (الفن في العصور الوسطى) الذي قدم لنا رسوما ومنحوتات تتسم بالبساطة وتمرح في سعادة في حضن إيمان غير مهتز· ومن هنا ظهرت مدرسة في الرسم عرفت باسم أهل الناصرة Nazarenes ( إشارة إلى استلهامهم التراث المسيحي الأول، ولا يعني هذا أنهم من الناصرة) ·
وكان زعيم هذه المدرسة هو جوهان فريدريش أو فربك Overbeck (1789 - 1869) الذي ولد في لوبك Lubeck وحمل معه خلال ثمانين عاما الجدية الصارمة للأسر التجارية العريقة والضباب المنتشر الذي يصل لوبك من بحر البلطيق· ذهب إلى فيينا لدراسة الفن فلم يجد في الكلاسيكية الجديدة غذاء يطعمه هناك وفي سنة 1809 أسس هو وصديقه فرانتس بفر Franz Pforr أخوية القديس لوقا Lucan Brotherhood التي تهدف إلى إعادة إحياء الفن وإنعاشه بتكريسه لإيمان أعيد تجديده كما كان موجودا أيام البرخت (البريشت) دورر Albrecht Durer (1471 - 1528) · وفي سنة 1819 هاجرا إلى روما لدراسة بيروجينو Perugino وغيره من رسامي القرن الخامس عشر، وألحقا في سنة 1811 ببيترفون كورنيليوس Von Cornelius (1783 - 1867) وبعد ذلك بفيليب فيت Veit وفيلهلم فون شادو - جودنهاوس Schadow-Godenhaus وجوليوس (يوليوس) شنور فون كارلسفلد Julius Schnorr Von Carolsfeld·
لقد عاشا على النباتات كقديسين في دير منعزل على جبل بنشيو Monte Pincio هو دير سان إيزيدورو Isidoro وقد راح أوفربك Overbeck بعد ذلك يستعيد ذكرياته فقال:
"لقد عشنا حياة ديرية حقيقة، ففي الصباح كنا نعمل معا وفي منتصف النهار نطبخ غداءنا الذي لم يكن يتكون إلا من الحساء والسجق أو بعض الخضروات السائغة وكان كل منهما يعتني بالآخر"·(ملحق/1224)
لقد تجاوزا كنيسة القديس بطرس لأن فيها كثيرا من الفن الوثني) واتجها أكثر إلى الكنائس القديمة والأديرة مثل دير القديس جون لاتيران Lateran ودير القديس بولس خارج أسوار روما· وارتحلا إلى أورفيتو Orvieto لدراسة سيجنوريللي Signorelli وإلى فلورنسا وفيزول Fiesole لدراسة فرا أنجليكو Fra Angelico· لقد قررا ألا يقوما برسم الصور الشخصية أو أية رسوم للزينة، وإنما كان قرارهما أن يعودا بالرسم إلى عصر ما قبل رافاييل وتكريسه لتشجيع الإيمان المسيحي والوطنية المرتبطة بالعقيدة المسيحية·
وواتتهم الفرصة في سنة 1816 عندما عهد إليهما القنصل البروسي في روما - بارثولدي J. S. Bartholdy - بتزيين فيلته برسوم جصية عن قصة يوسف وإخوته· وتفجع أهل الناصرة Nazarenes ( المقصود قام هذان الفنانان) لإحلال رسوم بالزيت على (الكانافاه canvas) محل الرسوم الجصية frescoes · والآن لقد درسا الكيمياء ليتمكنا من إعداد سطوح تجعل الألوان ثابتة، ونجحا إلى الحد الذي تم نقل رسومهما الجصية من روما لتوضع في المتحف الوطني ببرلين، وهي من بين المقتنيات التي تفخر بها العاصمة البروسية، لكن جوته العجوز عندما سمع بهذا الاتجاه الصوفي (ذي الانجذاب العاطفي الديني) أدانهما باعتبارهما يقلدان أسلوب القرن الرابع عشر في إيطاليا تماما كما تقلد الكلاسيكية الجديدة الفن الوثني· وتجاهل أهل الناصرة (المقصود أصحاب هذه المدرسة) هذا النقد، لكنهما غادرا المسرح بهدوء لأن العلم والبحث والفلسفة راحت - ببطء - تنحت في العقيدة القديمة (المقصود تشكك فيها وتعدلها) ·(ملحق/1225)
8 - الموسيقى
كانت الموسيقى هي كبرياء ألمانيا في رخائها وازدهارها، وسلواها في أساها ونكباتها· فعندما وصلت مدام دي ستيل إلى فيمار في سنة 1803 وجدت أن الموسيقى تكاد تكون جزءا أساسيا في حياة الأسرة المتعلمة، وكان في كثير من المدن فرق أوبرية ومنذ أيام جلوك Gluck راحت ألمانيا تقلل شيئا فشيئا من اعتمادها على الأعمال والألحان الإيطالية· وكان في مانهايم Mannheim وليبزج أوركسترات حققت شهرة في مختلف أنحاء أوربا· ودخلت موسيقى الآلات في منافسة عامة مع الأوبرا· وكان في ألمانيا عازفو فيولين عظماء مثل لويس سبوهر Louis Spohr (1784 - 1859) وعازفو بيان مشاهير مثل جوهان همل Hummel (1778 - 1837) وكان الملك فريدريك وليم الثاني يعزف على الفيولونشللو Violoncello كما كان له دور في تأليف الكارتيات quartets واحدهما: (كارتيته وهي مقطوعة موسيقية تعزفها أربع آلات) وأحيانا الأوركسترات، وكان الأمير لويس فرديناند بارعا في العزف على البيانو ولم يمنعه من منافسة بتهوفن وهمل Hummel سوى أصله الملكي ·
وكان في ألمانيا أيضا أستاذ موسيقى وقائد فرقة حقق شهرة في مختلف أنحاء أوربا كمعلم ومؤلف وذواقة لمعظم الآلات الموسيقية: إنه أبت Abt) Abbot) جورج جوزيف فوجلر Vogler (1749 - 1814) · لقد حقق في بداية حياته شهرة كعازف على الأرغن والبيان، وقد تعلم الفيولين دون أستاذ وطور نظاما جديدا للعزف بالأصابع لتتمشى بشكل جيد مع أصابعه الطويلة· ذهب إلى إيطاليا لدراسة التأليف الموسيقي على يد بدر مارتيني Padre Martini وتمرد على أستاذ إثر أستاذ وارتمى في أحضان الدين، وكان الجمهور يصفق له في روما· ولما عاد إلى ألمانيا أسس مدرسة موسيقية في مانهايم Mannheim ثم في دارمشتات Darmstadt وأخيرا في ستوكهولم·(ملحق/1226)
ورفض الأساليب الموسيقية الصعبة في التأليف الموسيقي، تلك الأساليب التي يعلمها المعلمون الإيطاليون، وظنه موزارت Mozart وآخرون دجالا لكنهم بعد ذلك منحوه مكانا حفيا ليس كمؤلف موسيقي وإنما كمعلم، وكإنسان وكمصمم أرغن، وجاب أوربا كعازف أرغن فجذب إليه جمهورا عريضا وحقق مكاسب كبيرة، وطور الأرغن· وغير أسلوب العزف على الأرغن، وأجاد الارتجال كبيتهوفن Beethoven، وكان أستاذا جليلا وقره عدد كبير من تلاميذه بمن فيهم فيبر وميربير Meyerbeer وعندما مات بكوه وحزنوا عليه كما لو كانوا قد فقدوا أباهم· وفي 13 مايو 1814 كتب فيبر: "في اليوم السادس من الشهر انتزع الموت منا فجأة فولجر أستاذنا المحبوب··لكنه سيعيش دوماً في قلوبنا" ·
وكان كارل ماريا فون فيبر Carl Maria Von Weber (1786 - 1826) واحدا من أبناء كثيرين أنجبهم فرانتس أنطون فون فيبر من زوجتيه (تزوجهما تباعا) · وقد تناولنا بالذكر في هذه المجلدات اثنين من بناته أو قريباته (أبناء أو بنات الأخ أو الأخت): ألويزيا Aloysia التي كانت حب موزارت الأول كما كانت مغنية مشهورة، وكونستانزا Constanze التي أصبحت زوجة لموزارت· ودرس ابناه فريس Fritz وإدموند مع جوزيف هايدن Joseph Haydn، أما الابن كارل فلم يكن فتى واعدا في مجال الموسيقى حتى إن فرانتس قال له: "اسمع يا كارل كن كما شئت لكنك لن تكون موسيقيا فاتجه إلى الرسم"،
لكن في أثناء تجوال فرانتس أنطون كمدير لفرقة تمثيلية وموسيقية، كان غالبا ما يؤلف لأبنائه، - واصل كارل تعليمه الموسيقي على يد معلم مخلص هو جوزيف هيسكل Heuschkel، فأظهر الفتى موهبة وحقق تقدما سريعا بدرجة أدهشت والده وأسعدته· وبحلول عام 1800 كان كارل قد بلغ الرابعة عشرة من عمره واستطاع في هذه السن أن يؤلف الموسيقى ويعزفها أمام الجمهور·(ملحق/1227)
وعلى أية حال، ففي هذه الأثناء كان التسرع المحموم في الانتقال من مدينة إلى مدينة (مع الفرقة) قد ترك بعض الأثر على شخصية كارل فغدا عصبيا غير مستقر سريع التغير· وأصبح مفتونا بالطباعة على الجحر، تلك الطريقة التي اخترعها صديقة ألويز سنفلدر Aloys Senefelder حتى أنه أهمل لفترة التأليف الموسيقي وذهب مع أبيه إلى فرايبرج Freiberg في سكسونيا ليمارس الطباعة على الحجر كعمل تجاري·
وفي بواكير سنة 1803 قابل أبت فوجلر Abt Vogler فرب فيه الحماس من جديد وأصبح تلميذا لفوجلر وقبل نظامه الصارم في التدريب والتطبيق، ودفعته ثقة فوجلر لمزيد من الإتقان· لقد راح الآن يتطور تطوراً سريعاً حتى أنّه دُعي بناء على توصية فوجلر ليكون قائد أوركسترا Kapellmeister في برسيلاو Breslau (1804) ، ومع أنه لم يكن قد تجاوز السابعة عشر من عمره إلاّ أنه قُبِل فأخذ معه والده المريض وهذب إلى العاصمة السيليزية Silesia Capital·
ولم يكن الشاب مناسباً لوظيفة تتطلب مهارة في التعامل مع الرجال والنساء مختلفي المشارب والأهواء، وليس فقط تحقيق انجاز موسيقي، فأصبح له أصدقاء مخلصين وأعداء مفرطين في العداوة، وراح ينفق بسفه ويشرب الخمر بطيش، وخلط بين زجاجة حمض النيتريك وزجاجة النبيذ، فشرب قدراً من حمض النيتريك قبل أن يُدرك أنه يبتلع ناراً، فأُضير ضرراً دائماً في حنجرته وحباله الصوتية ولم يعد يستطيع الغناء، بل أصبح لا يستطيع الكلام إلا بصعوبة، وفقد وظيفته بعد ذلك بعام، وراح يعول نفسه وأباه وعمته من المبالغ التي يحصلها من الدروس، وأصبح وضعه خطرا، واقترب من اليأس إلى أن عرض الدوق يوجن Eugen ( من فيرتمبرج Wurttemberg) على ثلاثتهم مكانا للإقامة في مقر إقامته Schloss Karlsruhe في سيليزيا (1806)(ملحق/1228)
لكن تمزيق نابليون لبروسيا وإلحاقه الخراب بميزانيتها أثرا على الدوق فلحق به الخراب بدوره، واضطر فيبر Weber ليطعم نفسه وأباه وعمته لهجر الموسيقي لفترة وعمل كسكرتير للدوق لودفيج Ludwig ( من فيرتمبرج) في شتوتجارت وكان هذا اللورد عربيدا مسرفا فاسقا غير أمين، فترك تأثيرا سيئا على كارل الذي ارتبط عاطفيا بالمغنية مارجريت لانج Margarethe Lang لكنه فقدها، ففقد بفقدها مدخراته وصحته لكن أسرة يهودية في برلين أنقذته من الفسوق - إنهم آل بير Beers تلك الأسرة التي أنجبت ميربير Meyerbeer، وأعاده الزواج إلى حالة الاتزان لكنه لم يستعد صحته·
لقد حقق شهرة أثناء حرب التحرير لأنه وضع الموسيقى للأناشيد الحربية التي كتبها كارل تيودور كورنر Korner وبعد الحرب، دخل معركة من نوع آخر - ضد الأوبرا الإيطالية فقد ألف عمله التحرير Der Freischutz (1821) كإعلان استقلال، وتم أداؤه للمرة الأولى في 18 يونيو 1821 في الذكرى السنوية لمعركة واترلو، لقد طارت على جناحي الوطنية ولم تحقق أوبرا ألمانية ما حققته من نجاح· لقد كان موضوعها مستوحى من حكايات الأشباح والكائنات النورانية Gespensterbuch وغمرتها روح المرح بما فيها من جنيات يحمين الحر الذي يذلق النار (على العدو) · لقد كانت ألمانيا في هذه الأيام القاسية تتلقى مساعدات كبيرة من الجن، وفي سنة 1826 وجدنا مندلسون Mendelssohn يقدم لنا حلم ليلة منتصف الصيف Midsummer Nights Dream·
لقد كانت أوبرا فيبر علاقة على انتصار الرومانسية Romanticism في الموسيقى الألمانية· وكان يأمل أن يواصل نجاحاته بعمله ( Euryanthe) الذي عرض للمرة الأولى في فيينا سنة 1823، لكن روسينى Rossini كان لتوه قد غزا فيينا ولم تعد موسيقى فيبر الأكثر رقة وذكاء تجذب الناس· أدى هذا الفشل - بالإضافة إلى تدهور صحته - إلى إصابته بالإحباط فتوقف - أو كاد - عن التأليف الموسيقي طوال عامين·(ملحق/1229)
ثم عرض عليه تشارلز كمبل Kemble مدير مسرح حديقة كوفنت Covent Garden Theatre ألف جنيه لكتابة أوبرا لدار أوبرا فيلاند Wieland وأن يأتي إلى لندن للتعاقد معه· فعمل فيبر Weber بحماس شديد لكتابة هذه الأوبرا ودرس الإنجليزية بجدية ومثابرة حتى إنه عندما وصل إلى لندن لم يكن يستطيع كتابة الإنجليزية فقط وإنما التحدث بها أيضا وبشكل جيد· وفي العرض الأول (28 مايو 1825) حقق نجاحا هائلا حتى إن المؤلف السعيد وصف هذه الليلة لزوجته في اليوم نفسه:
"لقد حققت هذا المساء أعظم نجاح في حياتي·· عندما بدأت الأوركسترا كان المسرح غاصاً حتى السقف وصفق الحاضرون بحماس شديد عندما دخلت، وطوحوا بالقبعات والمناديل في الهواء وبعد نهاية العرض دعيت إلى خشبة المسرح···· فاتجهوا إلي جميعا، وكان كل من أحاطوا بى سعداء"·
لكن أعماله التي عرضت بعد ذلك لم تلق مثل هذا الاستحسان، وفي 26 مايو 1826 فشل - بشكل محزن - حفل موسيقي لصالحه (لتقديم العون المالي له) وبعد ذلك بأيام قلائل لزم المؤلف المحبَط (بفتح الباء) والمرهق سريره إذ تفاقم عليه داء السل (ذات الرئة) فمات في 5 يونيو بعيدا عن وطنه وأسرته·
9 - المسرح
كان في كل مدينة ألمانية - تقريبا - مسرح لأن الناس الذين أرهقتهم الحقائق نهارا يرتاحون إلى الخيال مساء· وكان في بعض المدن فرق مسرحية دائمة كما هو الحال في هامبورج، ومينز وفرانكفورت وفيمار وبون وليبزج وبرلين· وكانت هناك مدن أخرى تعوّل على الفرق الجوالة وتقيم مسرحا مؤقتا عند وصول إحدى هذه الفرق· وحقق مسرح مانهيتن أفضل شهرة لجودة عروضه وبراعة ممثليه، كما كان مسرح برلين هو الأكثر إيرادا وكان أفراد فرقته التمثيلية يتقاضون أعلى الأجور (بالنسبة إلى المسارح الأخرى) أما مسرح فيمار فاشتهر بعروضه الكلاسيكية·(ملحق/1230)
وكان سكان فيمار في سنة 1789: 6,200 نفس ارتبط كثيرون منهم بالوظائف الحكومية والحاشية الأرستقراطية، ولفترة من الزمن أخذ سكان المدن على عواتقهم دعم فرقة من الممثلين فكانت النتيجة أن انتهت هذه الفرقة في سنة 1790 لسوء التمثيل، فأخذ تشارلز أوجستس Charles Augustus هذا المشروع على كاهله فجعل المسرح جزءاً من بلاطه وحث المستشار جوته على إدارته، وكان يمكن لأي فرد من أفراد الحاشية أن يقوم بدور خلا أدوار البطولة (الأدوار الرئيسة) فهذه الأدوار مقتصرة على النجوم من الرجال أو النساء الذين يأتون إلى المسرح، وعلى هذا أتى إفلاند Iffland العظيم إلى فيمار، وأتت أيضا كورونا شروتر Schroter (1751 - 1802) التي كادت تنتزع بصوتها وقوامها وعينيها المتألقين - جوته من شارلوت فون شتاين· ولم يكن جوته (الشاعر ورجل الدولة والفيلسوف) بالقليل الشأن في التمثيل، فقدم قام بدور أورستس Orestes التراجيدي أمام مدام شروتر التي قامت بدور إفيجينيا Iphigenia، ونجح أيضا - ويا للدهشة - ككوميدي بل وحتى في الأدوار – الهزلية · ودرب الممثلين على الأسلوب الغالي (الفرنسي) في الحدث الذي يكاد يكون خطابة، وكان هذا الأسلوب يتسم بالرتابة، وإن كان يتسم بالوضوح، والرتابة خطأ والوضوح فضيلة وشجع الدوق بشدة هذه السياسة، وهدد بعقوبة التوبيخ عند وقوع أي خطأ في التفاصيل·
لقد أخذ مسرح فيمار على عاتقه أداء مجموعة من الذخائر المسرحية الطموحة من سوفكليس Sophocles وتيرينس Terence إلى شكسبير وكالديرون Calderon وراسين وفولتير بل وحتى المسرحيات المعاصرة لفريدريش، وأوجست فيلهيلم فون شليجل وصولا إلى النصر الداعي للفخر مع عمل شيلر: فالنشتين Wallenstein (1789) ·(ملحق/1231)
لقد أتى شيلر Schiller من يينا (جينا Jena) ليعيش في فيينا، وبتشجيع من جوته أصبح عضوا في مجلس إدارة الفرقة· والآن (1800) جعل هذا المسرح الصغير من فيمار قبلة ينجه إليها آلاف الألمان من محبي الدراما· وبعد موت شيلر (1805) فقد جوته اهتمامه بالمسرح، وعندما أصر الدوق - بتحريض من خليلاته اللائي كن يترددن عليه - على تقديم فاصل درامي يظهر فيه كلب كنجم مسرحي، استقال جوته من منصبه الإداري واختفى مسرح فيمار من التاريخ·
وهيمن ممثلان على الساحة المسرحية في ألمانيا في هذا العصر· أوغسطس فيلهيلم إفلاند (1759 - 1814) الذي كان يضارع تالما Talma، ولودفيج ديفرينت (1784 - 1832) الذي كرر اهتمامات إدموند كين Edmund Kean ومأساته· ولد في هانوفر يوم كان إفلاند في الثامنة عشرة من عمره، وترك بيته ليلتحق بفرقة مسرحية في جوتا Gotha رغم اعتراض والديه· وبعد ذلك بعامين فقط تألق في مانهايم بأدائه ( Die Rauber) لشيلر·
وفي هذه الفترة الراديكالية من حياته نعم بالرخاء وتعاطف مع الذين تركوا فرنسا إثر أحداث الثورة الفرنسية، وسرعان ما غدا معبودا للمحافظين (المناهضين للثورة الفرنسية) وبعد أن قام بأدوار كثيرة في معظم أنحاء ألمانيا قبل دعوة جوته لزيارة فيمار (1796) وأسعد مشاهديه بكوميديات الطبقة الوسطى، لكنه لم يكن بارعاً في الأدوار التراجيدية براعة فالنشتين Wallenstein أو لير Lear· وألف عددا من المسرحيات التي أثارت إعجاب الناس بما فيها من فكاهة، وفي سنة 1798 أصبح مديرا لمسرح برلين الوطني وبذلك حقق ما كان يصبو إليه·(ملحق/1232)
وقبل موته بفترة وجيزة تعاقد مع ممثل هو لودفيج ديفرينت Devrient ( ديفريا) جلب للمسرح الألماني كل مشاعر ومآسي tragedy الفترة الرومانسية· وكان لقبه الفرنسي ديفرينت (ديفريا - وهو النطق الفرنسي) جزءاً من تراثه الهيجونوتي Huguenot ( الهيجونوت هم البروتستنت الفرنسيون) وتزوج أبوه امرأتين على التوالي وأنجب ثلاثة أبناء كان هو آخرهم وكان أبوه تاجر أجواخ وألبسة في برلين، وماتت أمه في طفولته وتركته بائساً في بيت مزدحم، فانكفأ على نفسه وعاش في عزلة ووحدة ولم يكن يواسيه في حياته سوى أنه كان وسيما أسود الشعر، وهرب من البيت والمدرسة لكن أباه أعاده مرة أخرى وبذل كل جهده ليجعل منه تاجر أجواخ وأقمشة لكن جهوده فشلت فقد كان الفتى غير كفء بدرجة تدعو للسخط، فتركه أبوه على هواه·
وفي سنة 1804 التقى وهو في العشرين من عمره بفرقة مسرحية في ليبزج فعهدت إليه بدور صغير، انطلق منه فجأة إلى دور كبير بسبب مرض (الممثل الأول (النجم) · لقد كان الدور دور متسول سراق سكير، فوجده يتلاءم مع ذوقه فأداه بإتقان حتى كان يشار إليه على سبيل الإدانة أنه ممثل متجول سكير على المسرح وعندما يكون بعيدا عن المسرح (سكير تمثيلا وواقعا) وأخيراً - في بريسلاو Breslau في سنة 1809 - وجد نفسه يمثل لا (فلستف Falstaff) وإنما في مسرحية راديكالية لشيلر (كارل مور Karl Moor) ، وفي هذا الدور صبَّ كل ما تعلّمه من كراهية وعدوانية وشر·
لقد استولت عليه شخصية زعيم السرّاق فعبّر عنها بكل خلجةٍ من خلجاته وببريق عينيه الغاضب المخيف، ولم تكن بريسلاو Breslau قد شهدت من قبل مثل هذه الحيوية والقوّة في التمثيل، ولم يكن يمكن أن يصل لهذه الذروة والعمق المسرحيين في هذا العصر العامر بالممثلين العظام سوى إدموند كين، لقد أصبحت كل الأدوار التراجيدية تُسند إليه الآن دون منازع· لقد مثل لير Lear وذاب في دوره (تقصمه تماما) واستسلم لهذا الخط الرفيع بين الحكمة والجنون حتى أنه ذات ليلة انهار وسط المسرحية وكان لابد من حمله للبيت أو لحانته المفضّلة·(ملحق/1233)
وفي سنة 1814 أتى إفلاند - وكان في الخامسة والخمسين - إلى بريسلاو ومثل مع ديفرينت (دوفريا) وأحس بطاقته ومهارته فطلب منه الانضمام للمسرح الوطني قائلا له المكان الوحيد الجدير بك هو برلين، فأنا أحسّ تماما أن هذا المنصب في المسرح الوطني سيغدو شاغرا عما قريب· إنه محجوز لك وفي سبتمبر مات إفلاند وفي الربيع التالي شغل ديفرينت مكانه· وهناك ظل يمثل إلى آخر حياته فعاش على الشهرة والنبيذ وقضى ساعات ممتعة يتبادل الحكايات مع إ· ت· أ· هوفمان فقبل تحديا بأن يمثل في فيينا فعاد منها إلى برلين محطم الأعصاب، ومات في 30 ديسمبر 1832 في الثامنة والأربعين من عمره، وظل أبناء أخيه الثلاثة الموهوبون - وكلهم يحمل اسمه - يتوارثون فنه حتى آخر القرن·
10 - كتاب المسرح
بعد أن قام فيلهلم فون شليجل بترجمته الممتازة لأعمال شكسبير (1798 وما بعدها) قدم المسرح الألماني مكانا جديداً لمسرحيات العصر الإليزابيثي، وكان كتاب المسرح الألمان - بين ليسنج وكلايست Kleist يهدفون عادة إلى إرضاء الطبقة الوسطى بشكل عام، وكانوا قد فقدوا ما حققوه من نجاحات جماهيرية بسبب عدم الاستقرار الذي شهده عصرهم· لقد وضع زكارياس فيرنر Zacharias Werner اتجاهه الصوفي (الباطني) على المسرح بشكل عابر، أما أوجست فون كوتسبو Von Kotzebue (1761 - 1819) فأسعد بمسرحياته جيلا واحدا لكنه الآن ذكرى باهته لا يكاد يذكر إلا بسبب اغتياله·
لكن الألمان يذكرون هينريش (هينريخ) فيلهلم فون كلايست Kleist شفقة عليه ولاحترامه لقلمه· ولد (1777) في فرانكفورت - آن - دير - أودر Frankfort-an-der-Oder وكان قريبا في طبعه (مزاجه) للسلاف كما كان قريبا لهم من الناحية الجغرافية وقضى سبع سنوات في الجيش كأي مواطن ألماني صالح، لكنه تحسر بعد ذلك على ضياع هذه الأعوام· درس العلوم والأدب والفلسفة في الجامعة المحلية وفقد إيمانه بالدين والعلم على سواء· وارتجف لفكرة الزواج عندما رشح ليكون زوجا لابنة جنرال، وهرب إلى باريس ومنها إلى سويسرا حيث لعب خياله به بشراء مزرعة وليترك توالي الفصول يهدئ من عقله المزدحم بالأفكار،(ملحق/1234)
لكنه عاد مرة أخرى للأدب فكتب تراجيدية تاريخية (لم يكملها) هي: روبرت جسكارد Guiskard وفي سنة 1808 عرض فوق خشبة المسرح في فيمار مسرحية كوميدية هي مسرحية الإبريق المكسور Der Zerbrochene Krug التي صنفها الجيل التالي باعتبارها عملاً كلاسيكيا باقيا· ومكث في فيمار فترة (1802 - 1803) ونعم بصداقة - وتشجيع - كريستوف فيلاند Wieland وهو لا أدري عجوز قال له بعد أن سمع مقتطفات من تراجيديته جوسكارد: "أنت تحمل في داخلك أرواح أسخيلوس Aeschylus وسوفكليس وشكسبير" وقال له أيضا "إن عبقرية كلايست Kleist خلقت لتسد كل الفراغ في تطور الدراما الألمانية فحتى شيلر وجوته لم يملآه" وكان هذا كافيا لتدمير هذا الكاتب المسرحي الشاب أو بتعبير آخر تدمير سوفكليس الجديد الذي لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره·
لقد اتجه إلى باريس ليعيش فيها فشعر بفورانها فراح يتفكر في النزعة إلى الشك المتوارثة في الفلسفة المثالية الألمانية: إذا كنا لا نعرف إلا أقل القليل عن الكون كما ندركه بوعينا، فلن نعرف الحقيقة أبدا· شيء واحد مؤكد فالكل مصيره للتراب: فلاسفة وعلماء وشعراء وقديسون ومتسولون ومجانين· لقد فقد كلايست الشجاعة لمواجهة واقع غير قائم على أساس وطيد، لقد رفض مواجهته وقبوله والاستمتاع به وانتهى إلى أن عبقريته وهم وكتبه ومخطوطاته عبث، وفي لحظة يأس حرق كل ما كان معه منها وحاول الانضمام إلى جيش نابليون المتأهب لعبور القنال الإنجليزي، وفي 26 أكتوبر سنة 1803 كتب إلى أخته التي أحبها حبا يفوق الوصف:(ملحق/1235)
"ما سأذكره لك قد يكلفك حياتك، لكن لا بد، لا بد من قوله لك· لقد درست وأمعنت مرة أخرى في عملي (مؤلفي) فرفضته وأحرقته· والآن حلت النهاية· السماء تنكر عليّ الشهرة - وهي أعظم ما يمكن أن يناله المرء في الدنيا، لكنني كطفل متقلب سأقذف بكل ما بقي أمامها (السماء) · لا أستطيع أن أرى نفسي جديرا بصداقتك، وبدون صداقة لا أستطيع العيش· إنني أختار الموت· كوني هادئة، فسأموت ميتة جميلة· سأموت سامياً في معركة· لقد غادرت عاصمة البلاد واتجهت إلى سواحلها الشمالية وسألتحق بالخدمة العسكرية الفرنسية وسرعان ما سيركب كل الجنود السفن في الطريق إلى إنجلترا، ودمارنا جميعا رهن بالبحر· إنني مبتهج لهذا القبر الفخم· وستكونين يا حبيبتي آخر ما أفكر فيه"·
لكن خطته أن يكون جنديا ألمانيا في الجيش الفرنسي أثارت الشكوك حوله، فطرد من فرنسا بإصرار من السفير البروسي، وبعد ذلك بوقت وجيز أعلنت فرنسا الحرب على بروسيا، وفي سنة 1806 دمر نابليون الجيش البروسي بل ودمر تقريبا بروسيا نفسها، وبحث كلايست عن ملجأ له في دريسدن لكن العسكر الفرنسيين قبضوا عليه ظانين أنه جاسوس فقضى في السجن ستة أشهر وعندما عاد إلى دريسدن انضم إلى مجموعة وطنية من الكتاب والفنانين وتعاون مع آدم ميلر Muller في تحرير دورية أسهم فيها بكتابة بعض من أجمل مقالاته·
وفي سنة 1808 نشر مسرحية تراجيدية ( Penthesilea) كانت بطلتها أميرة أمازونية Amazonian انضمت إلى تروجان المتهور ضد الإغريق في طروادة (وذلك بعد موت هيكتور Hector) · لقد انطلقت لتقبل أخيل Achilles إلا أنه تغلب عليها فوقعت في حبه، وعلى وفق قانون النسوة الأمازونيات كان عليها أن تثبت جدارتها بالانتصار على عشيقها في معركة، فوخزت أخيل بسهم وأطلقت كلابها عليه، وانضمت لهذه الكلاب في تمزيقه إربا وشربت من دمه ثم سقطت ميتة· والمسرحية صدى للجنون أو العربدة السعار المؤقت الذي تناوله يوربيدز Euripides - وهو جانب من الميثولوجيا mythology الإغريقية لم يركز عليه الدارسون للأدب الهيليني Hellenists قبل نيتشه·(ملحق/1236)
والذي لاشك فيه أن الغضب قد تصاعد بسبب تمزيق نابليون لأوصال بروسيا بطيش وبلا روية، مما أخرج الشاعر من أحزانه الخاصة وأصبح من بين أصوات أخرى تدعو ألمانيا لشن حرب تحرير· وفي نحو نهاية سنة 1808 أصدر مسرحية Die Hermannsschlacht استعاد فيها ذكريات أرمينيوس Arminius على الجيوش الرومانية·
في السنة السادسة للميلاد، ليبعث بذلك الشجاعة ويحثهم على التصدّي لنابليون في حرب بدت يائسة· هنا نجد - مرة أخرى - نجد وطنية كلايست Kleist ترتفع لذروة العصبية: فزوجة هيرمان (ثوزنلدا Thusnelda) تغري الجنرال الألماني فينتيديوس ( Ventidius) لتلتقي به لقاء غرام، ومن ثم قادته ليلقى حتفه إذ يلتهمه دب متوحش·
وكان العامان 1809 - 1810 يمثلان ذروة عبقرية كلايست·
لقد عرضت مسرحيته الشعرية ( Das Kathchen von Heilbronn) وحققت نجاحا في هامبورغ وفيينا وجراز Graz ( جراتس) كما أن مجموعة قصصه القصيرة التي صدرت في مجلدين في سنة 1810 ميزته وربما جعلته من بين أصحاب أجمل الأساليب الأدبية في عصر جوته· وبعد ذلك أصيب بالإحباط ربما لتدهور صحته، ووقع أخيرا في حب رومانسي مع امرأة مصابة بمرض عضال هي هنريت فوجل Henriette Vogel، وربما كان هذا الحب ناتجا عن المعاناة المشتركة بينهما·
وتعكس خطاباته لها عقل رجل على حافة الجنون: " يا جت Jette العزيزة، يا كلي، يا حصني، يا أرضي الخضراء، يا خلاصة حياتي، يا عرسي، يا عماد أطفالي، يا مأساتي، يا قدري، يا ملاكي الحارس، يا ملاكي الجميل، يا سيرافي Seraph " ( الكلمة تعنى ملكاً مجندا لحراسة الله - أستغفر الله- في التوراة)! وقد أجابته بأنه إن كان يحبها فلا بد أن يقتلها، وفي 12 نوفمبر 1811 وعلى شاطئ الفانسي Wansee بالقرب من بوتسدام أطلق عليها النار فأرداها ثم قتل نفسه·
لقد استسلمت الرومانسية فيه إلى المشاعر كأشد ما يكون الاستسلام مع قوة خيال وبراعة أسلوب· وبدا في مرات عديدة فرنسياً أكثر منه ألمانياً، مناقضا لجوته، أخا لبودلير Baudelaire وأكثر قرباً لريمبو Rimbaud· ويكاد يكون (بحياته هذه) قد أكد مقولة جوته غير المتعاطفة (الكلاسيكية صحة، والرومانسية مرض) · دعنا نر·(ملحق/1237)
الفصل الواحد والثلاثون
الأدب الألماني: من 1789 إلى 1815 م
1 - ثورة واستجابة
تأثر الأدب الألماني في عصر نابليون بتمرد الشباب الطبيعي وبالرغبة في كسر الروابط الأسرية والخروج على المألوف، وأصداء الشعر الرومانسي الإنجليزي وروايات ريتشاردسون Richardson، والتراث الكلاسيكي لليسنج Lessing وبعد ذلك جوته والثورات الناجحة في المستعمرات الأمريكية والهرطقات التي صاحبت حركة التنوير الفرنسية، والأهم من كل هذا التأثير اليومي للثورة الفرنسية، وأخير بدراما صعود نابليون وسقوطه· لقد كان كثيرون من المتعلمين الألمان قد قرءوا أعمال فولتير وديدرو Diderot وروسو، بل إن بعضهم قرأها في لغتها الفرنسية الأصلية، وكان عدد أقل من الألمان قد أحس بلسعات هلفيتيوس Helvetius ودهولباخ d'Holbach ولامتري La Mettrie·
وكان للمفكرين والمثقفين الفرنسيين دور في صياغة (تكوين أو تشكيل) حكام على شاكلة فريدريك الكبير، وجوزيف الثاني النمساوي، والدوق تشارلز وليم فرديناند البرونسفيكي of Brunswick، والدوق تشارلز أو جستس (في ساكس- فيمار) ولو لم يكن للكتاب والمفكرين الفرنسيين سوى هذا (أي سوى تأثيرهم في هؤلاء الحكام وصياغة فكرهم) لكفى بهذا دليلا على تأثيرهم في الحضارة الألمانية· لقد بدت الثورة الفرنسية في البداية تطورا منطقيا لفلسفة التنوير Enlightenment Philosophy: النهاية - التي أسعدت الناس - للإقطاع والامتيازات الطبقية والأسرية والإعلان الذي طال انتظاره لحقوق الإنسان، والدعوة النشيطة لحرية الكلام والصحافة والتصرف والعبادة والفكر· هذه الأفكار (وكان كثير منها قد تطور داخل ألمانيا ذاتها) عبرت الراين على جناحي أخبار الثورة الفرنسية أو مصاحبة لجيوشها المندفعة لقلب أوربا واصلة حتى إلى كونيجسبرج Konigsberg البعيدة·(ملحق/1238)
وعلى هذا فإن مشكلي العقل الألماني وصانعي أدبه رحبوا بالثورة الفرنسية في أعوامها الثلاثة الأولى· لقد رحب بها البناءون الأحرار Freemasons والروزيكروشيون Rosicrucians أصحاب الاتجاه الباطني ودعاة التنوير المعتزون بفكرهم Illuminati، واعتبروها فجر عصر ذهبي طال انتظارهم له وشوقهم إليه· لقد أيد الفلاحون الثوار ضد السادة الإقطاعيين (الفرسان الإمبراطوريين) والحكام الأسقفيين في تريير Trier وسبير Speyer· وبورجوازيو هامبورج هللوا للثورة باعتبارها إعلاء لشأن رجال الأعمال ضد الأرستقراطيين المتغطرسين، وراح الشاعر العجوز كلوبشتوك Klopstock الذي يقيم في هامبورج، يقرأ قصائده في مهرجان الحرية ويصيح بفرح وهو يترنم بأبيات قصائده،
وراح العلماء والصحفيون والشعراء والفلاسفة يترنمون مادحين in a cappella hymns ( والكابلا قاموسياً هي العَيّوق)، وراح جوهان (يوهان) فوص Voss مترحم أعمال هوميروس، ويوهان فون ميلر Muller المؤرخ، فريدريش فون جنتس Genz الدبلوماسي (خارج الخدمة) والفلاسفة من كانط إلى هيجل - راحوا جميعا يتغنون باسم الثورة ويدعون لها بالنجاح· كتب جورج فوستر Foster ( الذي كان يصحب كوك Cook في رحلة حول العالم): "إنه لشيء عظيم أن يرى المرء الفلسفة قد نضجت في العقول وأصبحت واقعاً" في الدولة لقد ظلت ألمانيا منتشية لفترة بأخبار الثورة الفرنسية ففي كل مكان فيها (حتى في الأوساط الملكية كما في حالة الأمير هنري أخو فريدريك الكبير الباقي على قيد الحياة) كان الناس يرفعون أيديهم بالدعاء لفرنسا الثورة·
في ظل هذه النشوة أضاف الأدب الألماني الثورة إلى انتصارات فريدريك، وارتفع (أي الأدب) في غضون ثلاثين عام (1770 - 1800) ليكون أدبا ناشطاً فعالا متنوعا متألقا يضارع الأدب الناضج في كل من إنجلترا وفرنسا - لقد أصبح هذا هو حال الأدب في ألمانيا بعد أن ظل في حالة سبات طويل منذ فترة النزاع الديني، وهذا الأدب نفسه (المتأثر بالثورة الفرنسية) هو الذي أدهش الناس بتقدمه، فراح يلعب دوره في النهوض بألمانيا لإزاحة النير الفرنسي لتدخل (أي ألمانيا) في أزهى قرونها من النواحي السياسية والصناعية والعلمية والفلسفية·(ملحق/1239)
وبطبيعة الحال لم يدم هذا المزاج السعيد، فقد أتت الأخبار بالهجوم على التوليري Tuileries، ومذابح سبتمبر وعهد الإرهاب وسجن الملك (الفرنسي) والملكة ثم إعدامهما ثم أتى الاحتلال الفرنسي لدول ألمانيا، والضرائب الباهظة والتجنيد الإجباري لشباب ألمانيا لدفع ثمن الحماية الإمبريالية والتكاليف الحربية لنشر الحرية· وعاما بعد عام راح حماس الألمان للثورة الفرنسية يخبو ويهمد وراح الذين دافعوا عن الثورة الفرنسية بالأمس ينسلون واحدا إثر واحد من مواقفهم السابقة (عدا كانط) وخاب أملهم فيها وتشككوا في أهداف فرنسا، بل وتحول بعضهم إلى معادين لها غاضبين عليها·
2 - فيمار WEIMAR
كان الرجال الذين شكلوا كوكبة من العباقرة في بلاط فيمار كالملجأ الفكري للمفكرين الألمان خلال فترة التأثير غير المستقر للثورة الفرنسية ونابليون· لقد كان الدوق تشارلز أوغسطس Charles Augustus هو نفسه متقلب المزاج متعدد المواهب·
لقد ورث الدوقية وهو ابن عام واحد وأصبح حاكمها الفعلي وهو في الثامنة عشرة من عمره (1775) واستمد تعليمه العام من أستاذ خاص، واكتسب مزيدا من المعارف والخبرات من خلال مسئولياته في الإدارة، ومن خلال نزوات خليلة ومن خلال أخطار الحرب والصيد، ولم يكن صالون أمه أقل شأناً فقد تعلم منه الكثير، ففي هذا الصالون كان يلتقي الشعراء والجنرالات والعلماء والفلاسفة ورجال الدين والمهتمون بالأمور العامة مع بعض نسوة ألمانيا الأكثر ثقافة واستواء فطرة يتبلون أحاديثهم المفعمة بالحكمة المتوارثة باللباقة والذكاء ولا يحسبون من أعمارهم يوما يمر دون أن يشهد الواحد منهم علاقة غرامية مكتومة (لا يعرف بها أحد) · لقد ذكر جان بول ريشته Jean Paul Richter: " آه هنا لدينا نساء! ·· كل شيء هنا يتم بجرأة ثورية"،(ملحق/1240)
حتى إن المرأة المتزوجة لا تعني شيئا وفي سنة 1772 دعت الدوقة (التي كانت هي نفسها نموذجا للفضيلة البهيجة) العالم والشاعر والروائي كريستوف فيلاند Christoph Wieland ليأتي كي يشرف على تعليم ابنيها تشارلز أوغسطس وكونستنتين (قسطنطين Konstantin) فأدى مهمته بتواضع وكفاءة وظل في فيمار حتى مات· وكان في السادسة والخمسين من عمره عندما قامت الثورة الفرنسية فرحب بها، لكنه طلب من الجمعية الوطنية في فرنسا أن تأخذ حذرها من حكم الغوغاء: وكان هذا في خطاب عالمي وجهه في أكتوبر 1789:
الأمة تعاني من حمى الحرية التي جعلت أهل باريس - وهم الأكثر أدباً وتهذيبا في العالم - ظمأى لدماء الأرستقراطية··· عندما يعود الشعب لنفسه - عاجلا أم آجلا - ألن يدرك أنه أصبح يقاد رغم أنفه من 1200 طاغية صغير، بعد أن كان يحكمه ملك؟ ··· ولا يمكن أن تكونوا أكثر اقتناعا - وبعمق - مني بأن أمتكم كانت مخطئة لتحمل مثل هذا الحكم السيئ لفترة على هذا القدر من الطول، ذلك أن أفضل شكل من أشكال الحكومات هو الذي يفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية ويوازن بينها، بحيث، بحيث يكون لكل شيء حق لازب لا يمكن إلغاؤه، حق في الحرية بحيث لا تتعارض مع النظام، وأن الضرائب لا بد أن تكون متناسبة مع الدخل، وأن يدفع الجميع الضرائب على وفق المبدأ السابق دون استثناء·
وفي سنة 1791 كتب أنه لم يكن يتوقع أبدا أن يتحقق حلمه بالعدالة السياسية هكذا سريعا بإعدام لويس السادس عشر لقد حول إعدام الملك في يناير 1792 من مشاعره المؤيدة للثورة إلى مشاعر عداء لها· لقد عادى الثورة، وساءه كثيرا عهد الإرهاب، ونشر بعد ذلك في العام نفسه (كلمات في أوانها) وصل فيها إلى بعض النتائج المعتدلة:
"لا بد أن يواصل المرء دعوته حتى يستمع الناس ويقنعوا بأن البشر يمكن أن يصبحوا أسعد حالا إذا أصبحوا أكثر تحكيما للعقل وأكثر مراعاة للأخلاق·· بهذا فقط يمكن أن يتقدموا·· فالإصلاح لا يجب أن يبدأ بالدساتير وإنما بالأفراد· إن كل الظروف اللازمة للسعادة موجودة فعلا في بلادنا" (ألمانيا) ·(ملحق/1241)
وكان جوهان جوتفرايد فون هيردر Gottfried Von Herder هو آخر من استقر من الأربعة في فيمار وأول من مات منهم، وقد أدان الثورة الفرنسية بعد أن كان يطريها عندما قام الثوار بإعدام الملكة بالمقصلة· لقد أدان الثورة عندها باعتبارها - أي الثورة - انتهاكا وحشيا للمثل الإنسانية· وفي آخر سني عمره عاد إليه الأمل فرغم أن الثورة الفرنسية قد أصابها الجنون المبكر، فإنها قد أحرزت تقدما في أوربا هو التقدم الثاني بعد ذلك الذي أحرزته حركة الإصلاح الديني (حركة لوثر ورفاقه) ·
لقد أنهت الثورة الفرنسية تحكم الإقطاعيين في الناس، كما أنهت حركة الإصلاح الديني هيمنة الباباوية على عقول الخلق، فأصبح الناس الآن أقل خضوعا للظروف التي أملاها عليهم مولدهم وانتماؤهم الطبقي، وتحررت الموهبة ففتحت لها الأبواب للتطور والإبداع بصرف النظر عن ظروف الميلاد، وإلا أن التقدم على أية حال يمكن أن يكلف أوربا غاليا، وكان هيردر سعيدا لأن هذه التجربة جرت في فرنسا وليس في ألمانيا الحبيبة إلى قلبه حيث لا يسارع الناس إلى التدمير والإحراق، وإنما هم عمال هادئون يعملون بدأب وعلماء صبورون يمكنهم أن يقودوا الشباب النامي باعتدال وحكمة وثبات، وينشرون بينهم الضياء (التنوير) ·
وكان فريدريش شيلر Friedrich Schiller - الروح الرومانسي الذي حرسه بشغف الثلاثة الكلاسيكيون - قد أتى إلى فيمار (1795) بعد مغامرات شائقة في الدراما والشعر والتاريخ والفلسفة· وكان خياليا رومانسيا وحسّاساً بدرجة شديدة فلم يجد إلا القليل يحبه في مرتع شبابه فيرتمبرج Wurttemberg· وقد رد على الظلم والاضطهاد بتوقيره روسو إلى حد العبادة، وبكتابة مسرحية ثورية· لقد أدان كارل مور Karl Moor بطل مسرحيته اللص Die Rauber (1781) استغلال الإنسان للإنسان فلم يترك شيئا لكارل ماركس غير أن هذا الأخير صاغ الأفكار نفسها بشكل ذي طابع أكاديمي·(ملحق/1242)
وتظل مسرحية شيلر الثالثة (كابال والحب Kabale und Liebe (1784) هي الأكثر ثورية، فقد امتدح فيها استقامة البورجوازية الألمانية وصبر ها وحياتها المنتجة وكشف الغش والخداع والرشوة والغلو (التبذير) والمزايا التي يحصل عليها من لا ينتجون· وفي أفضل مسرحياته التي كتبها شيلر قبل الثورة وهي مسرحية دون كارلوس (1787) وكان وقتها في الثامنة والعشرين من عمره، نجده أكثر حرصا على عدم إغضاب نبلاء السلطة منه على عدم إغضاب الفقراء· لقد وضع على لسان الماركيز بوزا Posa عبارة مفادها أن "فيليب الثاني هو أبو الشعب" الذي "يترك السعادة تنساب من مجدك" و"لتدع العقول تنضج (وتثمر) في أرجاء مملكتك الواسعة، لتكون أنت بين آلاف الملوك، ملكاً حقا "·
وعندما انتقل شيلر من مرحلة الشباب إلى مرحلة منتصف العمر انتقل بشكل طبيعي من الراديكالية إلى الليبرالية· لقد اكتشف بلاد الإغريق القديمة وتعمق بدراسة مسرحييها (مؤلفي المسرح فيها) · وقرأ كانط وأشاع الغموض في شعره بمزجه بالفلسفة· وفي سنة 1787 زار فيمار وفتن بنسائها فبث فيه فيلاند وهيردر الهدوء· (كان جوته في هذا الوقت في إيطاليا) ·
وفي سنة 1788 نشر كتابه (تاريخ ثورة الأرضي المنخفضة المتحدة Geschichte des Abfalls der Vereinigten Niederlande) وتخلى عن فلسفته إلى التاريخ· وفي سنة 1789 تم تعيين شيلر أستاذاً للتاريخ في يينا Jena بناء على توصية قدمها جوته لدوق ساكس- فيمار وفي أكتوبر من العام نفسه كتب إلى أحد أصدقائه:
"إنه لهدف صغير أن أكتب لأمة واحدة، فبالنسبة إلى فيلسوف يعتبر هذا الحد سجنا لا يطاق·· فالمؤرخ لا يمكن أن يشعل أمة ويثير فيها حماسا إلا إذا جعلها (أو نظر إليها) كعنصر في مسيرة الحضارة وتقدمها"·(ملحق/1243)
وعندما وصلت أخبار الثورة الفرنسية إلى يينا كان شيلر في منتصف العمر ينعم بدخل جيد وقبول عام وفهم مقبول· وساعدت مراسلاته مع جوته عبر مسافة بلغت اثني عشر ميلا (وكان الفارق العمري بينهما عشر سنوات) الشاعر الكامن في جوته على أن تظل واقعية العمل الإداري حية عنده، وكذلك محاذير الرخاء، كما ساعدت شيلر على التحقق من أن الطبيعة البشرية لم تتغير إلا قليلا عبر التاريخ تغيرا لا يجعل الثورات السياسية مفيدة للفقراء·
وتعاطف مع الملك الفرنسي وزوجته عندما قبض عليهما الثوار في فرساي في سنة 1789، وفي فارين Varennes في سنة 1791 وعند إخراجهما من القصر (الذي كان سجناً لهما) في سنة 1792 وبعد ذلك بوقت قصير أضفت حكومة المؤتمر الثورية على السيد المغفل Le Sieur Gilles لقب المواطن الفرنسي وبعد ذلك بأسبوع دلت مذابح سبتمبر على سلطة العوام المسلحين، وفي ديسمبر حوكم لويس السادس عشر، وبدأ شيلر في كتابة نشرة للدفاع عنه لكن المقصلة هوت على رقبة الملك الفرنسي قبل أن يكملها (يكمل نشرته) وابتسم جوته لتقلب اتجاهات صديقه السياسية، لكنه هو أيضا كان قد ابتعد كثيرا عن المسلمات التي آمن بها في شبابه·
لقد كان لديه علاقات جنسية عابرة كثيرة بنسوة جميلات فاسدات قبل أن يدعى في سنة 1775 وهو في السادسة والعشرين من عمره لمغادرة فرانكفورت ليعيش في فيمار كشاعر للدوق تشارلز أوغسطس في وظيفة ثابتة وكرفيق له يمارسان معا الرذيلة بوجهيها (اللذة الجنسية بوجهيها أو بنوعيها in both forms ّ)، وخلال الإثني عشر عاما التالية استوعب الحقائق الاقتصادية والسياسية وأحرز تقدما سريعا· لقد اختفى المؤلف الرومانسي الذي ألف في سنة 1774 Die Leiden des Jungen Werthers وغاص في عمله الجديد كمستشار فرأى في انتصار فرنسا في معركة فالمي Valmy في سنة 1792 عصراً جديدا يتشكل في التاريخ الأوربي·(ملحق/1244)
إلا أن التدهور والفوضى اللذين عما الثورة الفرنسية في هذا العام نفسه (1792) جعله يخلص إلى أن الإصلاحات البطيئة في ظل مستبدين متنورين هذبتهم الفلسفة، وفي ظل حكام محليين متعلمين وحسني النوايا مثل دوق فيمار الذي يعمل معه - قد تكلف الشعب معاناة أقل من المعاناة التي يسببها التغيير السريع المفاجئ الذي قد يسبب انهيار القاعدة الأساسية للنظام الاجتماعي خلال عقد من الانفعال والعنف· وقد عبر في إحدى قصائد المنطوية على الحكمة Venetian Epigrams عن هذا الخوف في وقت مبكر يرجع إلى سنة 1790:
- ليحذر حكامنا قبل قوات الأوان مما أصاب فرنسا،
- لكن أيها الناس يا من أنتم في الدرك الأسفل، فلتحذروا أنتم أيضا·
- إذا ذهب الرجال العظماء بغير عودة فمن يحمي الشعب
- عندها سيصبح الغوغاء القساة طغاة يحكموننا جميعا·
لقد هلل سعيدا عندما أنهى نابليون فوضى الثورة بقبضه على زمام السلطة واعتماده دستورا يسمح للناس بإدلاء أصواتهم في استفتاء في بعض المناسبات دون تدخل كثير في أمور حكومة حاسمة متسمة بالكفاءة· ولا يقلل من تقديره للكورسيكي Corsican ( نابليون) استقبال نابليون له بشكل مجامل في فرانكفورت في سنة 1807 وما قيل من أن هذا اللقاء أسهم كثيرا في شهرة هذا الشاعر المستشار شهرة عالمية·
وتغلغلت بعض اللمسات الرومانسية خلال تطوره الكلاسيكي الراسخ، حكماً وذوقا، فالجزء الأول من فاوست Faust (1808) عبارة عن قصة حب كما أنها تركز على أخلاق العصور الوسطى، كما أن عمله الذي أصدره سنة 1809 ( Elective affinities) يبدو مؤيداً لصيحة الجيل الجديد، تلك الصيحة الصارخة المطالبة بأن يكون الانجذاب المتبادل هو أساس الارتباط لا أن يكون الأساس هو الارتباط الشرعي أو الدعم المالي للآباء· واستمر المستشار الذي أصبح فيلسوفا يرفرف حول النسوة الشابات حتى بعد أن بلغ من العمر عتيا، لكن دراسته للفن القديم في إيطاليا وتطور اهتمامه بالعلوم وقراءته للفيلسوف سبينوزا Spinoza وتدهور نشاطه البدني - كل ذلك جعله واسع الأفق غير عجول في الحكم على الأمور·(ملحق/1245)
وقد أعلن عن هذا التغير في سيرته الذاتية (1811) التي تعرض فيها لحياته بشكل موضوعي· وكانت ألمانيا الرومانسية - التي أثرت فيها عواطف فاكنرودر Wackenroder ونوفاليز Novalis، والحب المتحرر الذي دعا إليه الكاتبان شليجل Schlegels، وخبل هولدرلين Holderlin وقتل الرحمة (انتحار كلايست Kleist) - قد امتعضت لنقده الثورة الفرنسية، نقداً عالي النبرة، ولم تلحظ إلا بالكاد أنه كان أيضا يسخر من الطبقة الحاكمة· والحقيقة أنه حتى في أثناء حرب التحرير الألمانية كان يجد صعوبة في كراهية نابليون والفرنسيين وقد شرح لإكرمان Eckermann قائلاً:
كيف أستطيع أن أكره أمة من بين أكثر أمم الأرض ثقافة؟ كيف أستطيع أن أكرهها وأنا مدين لها بقدر كبير جدا مما لدي؟ أتستوي عندي الثقافة والبربرية!؟ هناك مرحلة يختفي فيها العداء بين الأمم تماما حيث يقف المرء وقد تسامى فوق الأممية ليشعر أن آلام شعب مجاور وسعادته هي نفسها آلامه هو وسعادته·
ولم يسامحه أبناء جيله أبداً وقلما كانوا يقرءونه واعتبروا شيلر أفضل منه وقلما كانت مسرحياته تعرض في فيمار، واشتكى الناشرون من قلة مبيعات (أعماله الكاملة المجمعة) ومع هذا فإن رجلا إنجليزيا هو اللورد بايرون أهدى إليه في سنة 1820 في صدر مؤلفه ( Marino Faliero) كتابه لأنه إلى حد بعيد أول شخصية أدبية في أوربا منذ وفاة فولتير ولم يكن يطيق قراءة كانط، لكنه كان أحكم رجال عصره·(ملحق/1246)
3 - الساحة الأدبية
لقد كانت ألمانيا مشغولة انشغالاً لم تعهده أبداً من قبل كانت مشغولة بالكتابة وبالرسم ونشر الصحف والدوريات والكتب· ففي سنة 1796 توصل ألويز سينفلدر Aloys Senefelder في ميونخ لما عرف فيما بعد بالطباعة الحجرية (الطباعة على الحجر) ذلك أنه حك (فرك) حلي أمه المثبتة في ملابسها المغسولة بحجر، فترك هذا الحك أثراً فتراءى له أن الكلمات والصور والألوان المختلفة يمكن بالحفر الغائر أو الحفر البارز على حجر ناعم أو لوح معدني، طباعتها والحصول على ما لا يحصى من النسخ منها (على أن يتم النقش بطريقة عكسية لتكون الكلمات المطبوعة في وضعها الصحيح - أي كتابتها معكوسة لتبدو سوية كما في حالة المرآة) ومن هنا ظهر طوفان من الصور والرسوم المطبوعة بدءا من جويا Goya وهيروشيج Hiroshige إلى كورييه Currier وإيفز Ives وبيكاسو Picasso·
وكانت الصحف كثيرة وصغيرة الحجم وموالية وخاضعة للرقابة· فصحيفة أليماني تسايتونج Allgemeine Zeitung ( الوقائع الألمانية) أسست في توبنجن Tubingen في سنة 1798 ثم انتقلت إلى شتوتجارت ثم إلى أولم Ulm ثم إلى أوجسبورج Augsburg ثم إلى ميونخ لتتحاشى البوليس المحلي· وصحيفة كولنيش تسايتونج Kolnische Zeitung تم تأسيسها في سنة 1804 وكانت مقالاتها وأخبارها أكثر هدوءا، وكانت وطنية كاثوليكية ثم أصبحت نابليونية· وكان في كل من فيينا وبرلين وليبزج وفرانكفورت ونورمبرج صحف ظهرت في وقت سابق على قيام الثورة الفرنسية وظلت تؤدي عملها حتى الفترة التي نتحدث عنها·
أما الدوريات والمجلات فكانت كثيرة، من أجملها دورية الموسيقى الألمانية Allgemeine Musikalische Zeitung ( أليماني موزيكاليشي) التي نشرتها في ليدن شركة برايتكوبف وهارتل Breitkopf & Hartel، وظلت تصدر من 1795 إلى 1849 أي من ثورة إلى أخرى· أما أكثرها تألقا فهي دورية أثيناوم Athenaum التي أسسها الأخوان شليجل في سنة 1798· وكان الناشرون كثيرين· كما كان المعرض الدولي للكتاب في ليبزج حدثا أدبيا سنويا·(ملحق/1247)
وكان لطائفة خاصة من الكتاب - تم تصنيفهم تصنيفا مرنا باعتبارهم (الخبراء في الشؤون العامة) - تأثير واسع لانحيازهم الشديد لقضاياهم وإن كانوا رغم انحيازهم يمتلكون ناصية المعلومات لمناقشة قضايا العصر الأساسية· لقد هلل فريدريش فون جينتس Von Gentz (1764 - 1832) لسقوط الباستيل، لكنه قلل من حماسه عندما التقى بفيلهيلم فون همبولدت Wilhelm Von Humboldt ذي العقلية المتشككة، وقد قرأ كتاب بورك Burke عن الثورة الفرنسية ( Reflections on the French Revolution) وترجمه·
وبعد أن ترقى في الخدمة المدنية البروسية إلى درجة مستشار في وزارة الصناعة قاد معركة أدبية ضد أفكار مثل حقوق الإنسان والحرية والمساواة وسيادة الشعب وحرية الصحافة· ولم يرض عن الثورة الفرنسية حتى بعد أن خفف نابليون من غلوائها· وهاجم نابليون كعسكري أدت غزواته إلى الإخلال بتوازن القوى الذي كان يقوم عليه سلام أوربا ونظامها وسلامتها - وكان هذا هو رأي معظم الدبلوماسيين·
وأصبح أفصح الأصوات وأكثرها بلاغة حاثّاً فريدريك وليم الثالث على شن حرب لا هوادة فيها (النص صليبية Crusade) ضد نابليون، فلما تردد الملك البروسي، ترك جينتس خدمته وراح يقدم خدماته للنمسا (1802) · وعندما اجتاح نابليون النمساويين في معركة أوسترليتز Austerlitz لجأ جنتس إلى بوهيميا لكنه عاد إلى فيينا في سنة 1809 وراح يدعو لشن حرب جديدة ضد نابليون· وكان سكرتيرا ومساعداً لميترنيخ في مؤتمر فيينا وأيده في سياسة ما بعد الحرب التي تبناها ميترنيخ بإبعاد كل تأثير ليبرالي ومنعه من التطور· وكان وقت ثورة 1830 عجوزا مريضا ومات وهو مقتنع أنه خدم مصالح البشرية بشكل جيد·(ملحق/1248)
أما جوزيف فون جورز Gorres فكان ذا روح أكثر حساسية، وكان نصف إيطالي، ومفعماً بالعواطف ولا يكاد يصلح للصراع الحاد وخوض المعارك الأدبية الشرسة· ولد كاثوليكيا، فترك مهمة دعم الثورة للكنيسة (!) وعاون الفرنسيين في فتح مناطق غرب الراين وهلل تحويل نابليون الإمبراطورية الرومانية المقدسة إلى رابطة الراين (الراينبوند Rheinbund) وهلل لفتح الفرنسيين لروما تحت شعار روما حرة، لكن تكبر عسكر الجيش الفرنسي وابتزاز الإداريين الفرنسيين أثار سخط الشاب الثوري· وفي سنة 1798 أسس صحيفة ضعيفة هي (صحيفة الورقة الحمراء Das rothes Blatt) كصوت جمهوري يحب الثورة الفرنسية لكنه لا يثق في الفرنسيين·
ورأى في استيلاء نابليون على السلطة في فرنسا نهاية للثورة الفرنسية، كما رأى في نابليون نفسه شخصا تواقا للسلطة بشكل خطر، وعندما هبت ألمانيا لتحارب من أجل التحرير انضم جورز للمعركة بإصدار صحيفة راينيشي ميركور Rheinische Merkur، لكن عندما فرض المنتصرون - بعد إزاحة نابليون - ردة سياسية (حركة رجعية سياسية) في كل المجالات التي استطاعوا فرض إراداتهم فيها، هاجمهم جورز بحده شديدة وضراوة حتى إنهم اضطروه للجوء إلى سويسرا حيث عاش في فقر مدقع· ولم يعد محط النظر فعاد نادما حزينا لحض الكنيسة الكاثوليكية (1824) وانتشله لودفيج الأول البافاري من الفقر والعوز بتعيينه أستاذاً للتاريخ في ميونيخ· هناك كتب كتابه ذا المجلدات الأربعة: أسرار المسيحية Christliche Mystik (1836 - 1842) وراح يسلي أيامه بالخيالات، ويسود لياليه بالرؤى الشيطانية· وبعد موته بأربعة وثلاثين عاما تم تأسيس جمعية أحباء جورز Gorres Gesellschaft (1876) لمواصلة أبحاثه في تاريخ الكنيسة·(ملحق/1249)
وساد الرومانسيون النثر، لكن كاتباً واحدا ظل متفردا وتملص منهم، إنه جين بول ريختر Jean Paul Richter الذي بدأ حياته في بايروث Bayreuth في سنة 1763· ويرجع اسمه المسيحي إلى جده جوهان بول كوهن وحتى سنة 1793 كان يطلق عليه ببساطة هانز Hans· وكان أبوه معلما في مدرسة وعازف أرغن وأصبح قسا في كنيسة في جوديتس Joditz على نهر سال Saale، وهناك قضى هانز أعوامه الثلاثة عشر الأولى في سعادة وشكل هذا المحيط الريفي البسيط مزاجه خلال المتاعب الاقتصادية والعواصف اللاهوتية·
وعندما انتقلت الأسرة إلى شفارتسنباخ Schwarzenbach الواقعة على هذا النهر الهادئ نفسه (سال Saale) نعم بمكتبة رجل دين من الجيران، واعترف رجل الدين هذا بإمكانيات هذا الصبي ولكنه لم يعترف بما يراود الفتى من شكوك· ومات والد ريختر (ريشتر) في هذا المكان (1779) تاركا ذرية ضعافا قليلة الموارد)، وعندما بلغ هانز العشرين من عمره دخل مدرسة اللاهوت في ليبزج لكن قراءاته أضعفت عقيدته، فسرعان ما انسحب من الدراسة وراهن على أن يعيش من قلمه، واستطاع أن ينشر في سنة 1783 وهو في العشرين من عمره، ولكنه لم يستطيع ذلك مرة أخرى إلا في سنة 1789 وفي كلتا الحالتين تعرضت كتاباته لهجاء ساخر مما جعل المثقفين الساخرين يشفقون عليه·
وفي سنة 1793 أصدر (الكوخ الخفي Die unsichtbare Loge) باسم مستعار هو جين (جان) بول، وقد اختار الاسم (جان) حباً منه في جان روسو، وحظي الكتاب بعدد قليل من القراء زادوا بعد ذلك بالنسبة لروايته الوجدانية التالية: هيسبيروس Hesperus (1795) ، فدعت شارلوت فون كالب Kalb صديقة شيلر المؤلفَ الصاعد إلى فيمار وسعدت به حتى إنها أصبحت خليلته· وبدأ في فيمار تأليف روايته ذات الأربعة مجلدات تيتان Titan (1800 - 1803) ، وكان البطل الحقيقي لهذه الرواية هو الثورة الفرنسية·(ملحق/1250)
ودافع المؤلف بعاطفة جياشة عن الثورة الفرنسية في سن تكوينها لكنه أدان مارا Marat لإفسادها بحكم الغوغاء، وامتدح شارلوت كورداي Corday باعتبارها جان دارك Jeanne d'Arc الثانية· ورحب باستيلاء نابليون على السلطة كأمر ضروري لاستعادة النظام، وبعد ذلك بثمانية أعوام كان ريختر راغباً تماماً في أن يرى أوروبا كلها وقد توحّدت على يد هذا الرجل (نابليون) الذي يستطيع أن يمسك بها بعقله ويده وقوانينه التي تسري من فرنسا إلى برلين وموسكو· لكن جين (جان) بول كان في قرارة نفسه جمهورياً يرى في كل انتصار عسكري مقدمة لحرب أخرى· وأشفق على الشباب الذين جندهم نابليون، وعلى الأسر الحزينة لفقد أبنائها·
وساق الأدلّة على: "أن الشعب وحده هو الذي يجب أن يتخذ قرار الحرب، لأنه هو وحده الذي يعاني ويلاتها ونتائجها", وأطلق من جرابه أقسى رماحه على الحكام الذين يبيعون جيوشهم للحكام (أو الملوك) الأجانب· وطالب بإلغاء الرقابة حتى تستطيع بعض القوى خارج الحكومة أن تكون حرّة في كشف أخطاء الحكومة وعَرْض إمكانات التقدم·
وفي سنة 1804 تزوج جين (جان) بول Jean Paul وهو في الثامنة والثلاثين وفي سنة 1804 استقر في بايروث Bayreuth، وبعد أن خاض تجارب حية كتب كتاباً عن التعليم ( Levana) وهو واحد من كلاسيكيات البيداجوجا pedagogy الليبرالية (علم أصول التدريس الليبرالي، وتوسع علم التربية الليبرالي) وأصدر عدداً كبيراً من الروايات والمقالات، ترجم بعضها كارليل Carlyle لإعجابه بها· وكان مزجه بين النقد الواقعي والمشاعر الرومانسية قد جعل قراءة أكثر من قراء جوته أو شيلر·(ملحق/1251)
ومات في سنة 1825 تاركاً مقالاً لم يكتمل عن خلود الروح· لقد شهد عصره بداية اكتشاف المادة، وظلت شهرته كأحد المؤلفين الألمان الروّاد تطبق آفاق أوروبا حتى منتصف القرن التاسع عشر، وبعد أن خمدت شهرته في أوروبا انتقلت محلِّقة في أمريكا حيث كان لونجفلو Longfellow واحداً من المتحمسين له· ولا نكاد نجد أحداً يقرأه الآن في ألمانيا لكن المؤكد أنَّ كلَّ ألماني يتذكر قوله المنطوي على الحكمة، والذي كان يقصد به توجيه طعنة إلى الفلسفة الألمانية، وتلخيص عصر نابليون على نحو يفوق كتابنا هذا: "إن الله قد أعطى الإنجليز إمبراطورية البحر، وأعطى الفرنسيين إمبراطورية البر، وأعطى الألمان إمبراطورية الهواء" ·
وهناك كاتبان آخران من كتّاب القصة كان لها جمهور عريض كان إرنست تيودور فيلهلم هوفمان Wilhelm Hoffmann (1776 - 1822) واحداً من أكثر الألمان تعدداً للمواهب والاهتمامات بشكل غير عادي، وقد غيَّر الاسم فيلهلم إلى أماديوس Amadeus في سنة 1813: لقد كان رساما ومؤلفاً للموسيقى وعازفاً لها ومخرجاً للأوبرا وممارساً قانونياً وكتب قصصاً بوليسية ورواية ألهمت جاك أوفنباج Offenbach في مؤلفه (حكايات هوفمان) (1881) · أما أدلبرت فون كاميسو Adelbert Von Chamisso (1781 - 1838) فكان متفردا في حياته وأدبه·(ملحق/1252)
لقد كان بحكم الميلاد نبيلاً فرنسياً، ترك فرنسا إثر أحداث الثورة الفرنسية وتلقى معظم تعليمه في مدارس ألمانيا وتم تجنيده في كتيبة عسكرية بروسيّة وحارب فرنسا في معركة يينا وفي سنة 1813 كتب قصة رمزية هي Peter Schlemihls wundersame Geschichte يبث فيها فيها تَمزُّق ولائه وحنينه لبلاد آبائه وأجداده· لقد كانت حكاية غريبة عن رجل باع ظلّه للشيطان· وكان عالم نبات راسخاً ذا شهرة، فصحب أوتو فون كوتسبو Otto Von Kotzebue في رحلته العلمية حول العالم (1815 - 1818) وسجل اكتشافاته في مؤلّف حقّق شهرة في وقت من الأوقات يحمل عنوان (رحلة حول العالم Reise um die Welt) وقسّم ما بقي من عمره بين عمله كمسئول عن حديقة برلين للنباتات، وكتابة الشعر الرومانسي، وقد امتدح هينريش (هينرخ) هاين Heinrich Heine قصائده ووضع روبرت شومان Schumann موسيقى لسلسلة أشعاره عن الحب والنساء·
وكان عدد الشعراء كبيراً ولا يزال كثير منهم في ذاكرة الشعب الألماني، لكن من الصعب نقل أشعارهم إلى لغة أخرى أو بلاد أخرى أو زمن آخر غير الزمن الذي قيلت فيه هذه الأشعار، لارتباط كلماتها بالموسيقى وبمشاعر خاصة· وكان فريدريش (فريدريخ) هولندرلين Holderlin (1770 - 1843) هو الأكثر مدعاة للشفقة منهم، فقد ثبت أن حاسيته الشعرية كانت حادة جداً بالنسبة إلى صحته النفسية والعقلية، ذهب إلى توبنجن Tubingen للدراسة ليصبح واحداً من رجال الدين فكون علاقة صداقة حافزة مع جورج هيجل Hegel الذي كان وقتها قد وضع المسيحية موضع الشك، وراح الفتى يحلم بسعادة البشرية عندما وصلته أخبار الثورة الفرنسية· لقد قرأ روسّو وألف ترانيم الحرية وفي سنة 1792 وكان في آخر قرن يحتضر (القرن 18) راح يظن أنه رأى فجراً رائعاً لعصر من العدالة والنبالة· وعندما اندلعت الحرب كتب لأخته صَلِّ من أجل الفرنسيين، نَصِيري حقوق الإنسان وعندما غرقت الثورة الفرنسية في الدم تعلّق بحلمه يائساً:(ملحق/1253)
حُبِّي هو الجنس البشري - ولست أقصر بطبيعة الحال هذا الجنس الفاسد المرتشي الذليل التافه الذي غالباً ما نلتقي بأفراده· إنني أحب العظمة والكفاءة حتى لو وُجدت بين شعوب فاسدة· إنني أحب الجنس الذي لم أره بعد، أحب جنس البشر الآتي من القرون القادمة·· إننا نعيش في زمان يتجه فيه كل شيء إلى التحسّن· إنها بذور التنوير حيث تلك الرغبة الصامتة والنضال لتعليم الجنس البشري··
إن هذا سيكون له ثمار عظيمة· هذا هو الهدف المقدس لرغباتي ونشاطي (عملي) - هو أن أزرع البذور التي ستثمر شجرتها ثماراً ناضجة من جيل آخر غير جيلي·(ملحق/1254)
حتى الماضي كان يسمح له بالحلم، فقد وقع في حب أبطال وإلهة اليونان الكلاسيكية (القديمة) مثله في ذلك مثل معاصره كيتس Keats، فبدأ ملحمة نثرية عن الثوار الإغريق هي ملحمة (هيبريون Hyperion) · وأخذ طريقه إلى يينا Jena فدرس على يد فيشه Fichte وتعلم كيف يحترم كانط وقابل أرباب فيمار عندما كانوا هم أيضاً معجبين بالثقافة الهيلينية· ودبّر له شيلر وظيفة معلّم ومرشد لأحد أبناء شارلوت فون كالب Kalb، وفي سنة 1796 وجد في بيت المالي banker جوتهارد J.F. Gotthard في فرانكفورت - آم - مين وظيفة ذات عائد مالي أعلى، وكانت وظيفة مرتبطة أيضاً بتعلم الأبناء ووقع في حب زوجة هذا المالي Banker وقد قدّرت الزوجة أشعاره كثيراً، وأدى هذا إلى طرده من الوظيفة وإجباره على مغادرة المدينة· وأدَّى به الشوق والنفي إلى شيء من الهوس، ومع هذا ففي هذا الوقت (1799) كتب قصيدة ( Der Tod des Empedokles) التي تعد من بين روائع الشعر الألماني· وظل لعدة سنوات يجول المدن بحثاً عن مورد رزق وإلهامات لأشعاره· وطلب من شيلر أن يوصي به ليكون محاضراً في الأدب اليوناني لكن شيلر وجده لا يصلح لكرس الأستاذية فلم يوص به وبينما هو يعمل معلما خصوصيا في بوردو Bordeaux تلقى (هولدرلين) خبر وفاة مدام جوتهارد Gotthard فترك وظيفته وعاد سيرا على الأقدام عبر فرنسا إلى ألمانيا حيث اعتنى به أصدقاؤه (1802) عندما وجدوه وقد اختل عقله بدرجة كبيرة، وعاش حتى سنة 1843 وظلت قصائده مهملة منسية لفترة طويلة، حتى هو نفسه كان قد نسيها لكن رينر ماريا ريلكه Rainer Maria Rilke وستيفان جورج امتدحاه، وتضعه المجامع الأدبية الآن في مرتبة بعد جوته وشيلر مباشرة·(ملحق/1255)
وهناك شعراء آخرون كثيرون، منهم كارل تيودور كورنر Korner (1791 - 1813) وهو ابن كريستيان جوتفريد كورنر الذي كان قد عاون شيلر كثيرا، وقد خاض بسيفه وبقلمه (أي كارل تيودور كورنر) حرب التحرير ضد نابليون وأنهض همم الألمان بدعوتهم للسلاح ومات في المعركة (26 أغسطس 1813) · أما إرنست موريس أرندت Ernst Moritz Arndt (1769 - 1860) فشهد خلال عمره البالغ واحداً وتسعين عاما ثلاث ثورات· لقد عمل على إلغاء النظام الإقطاعي في بوميرانيا بوصفه - بشكل واقعي في مبحثه: مقالات نحو التاريخ Versuche einer Geschichte (1803) وفي مبحثه Die Geist der Zeit (1806) وأطلق صرخة مدوية ضد نابليون حتى إنه اضطر إلى اللجوء إلى السويد بعد انتصار نابليون في يينا ·
وفي سنة 1812 دعاه شتاين Stein إلى سان بطرسبرج ليساعد في تحريض الشعب الروسي على طرد الغزاة الفرنسيين· وبعد سنة 1815 كافح في بروسيا لمقاومة الإجراءات المحافظة فسجن· وفي سنة 1848 تم انتخابه عضوا في الجمعية الوطنية في فرانكفورت وعندما اضطربت هذه الثورة أيضا (ثورة 1848) وجه قريحته الشعرية بشكل نهائي إلى التقوى (المقصود الدين) · وكتب جوزيف فون أيشندورف Eichendorff (1788 - 1857) النبيل الكاثوليكي قصائد بسيطة لازالت تحرك مشاعرنا، ومنها قصيدة (عند موت طفلي Auf meines Kindes Tod) ، فهنا يمكن حتى للغريب المتشكك أن يشعر بالموسيقى الشعرية ويشارك في المشاعر ويحسد الأمل:
الساعات تدق من بعيد؛
سنصبح حالاً في جوف الليل؛
ضوء المصباح المتسخ صار خافتا؛
لقد تم إعداد مخدعك الصغير؛
الرياح وحدها هي التي لا تزال تتحرك
تنتحب حول البيت
الذي نجلس فيه ولا أنيس
وغالبا ما نصغي لما يجري خارجه
آه، كما لو أنك تحاول برفق
أن تطرق الباب
آه، كما لو أنك ضللت طريقك مع أنك تعرفه
فعدت راجعا حزيناً
إننا بؤساء· إننا مغفلون بؤساء
نعم فنحن نجول في الظلمة المخيفة
حتى اليأس
لقد كنت تجد بيتك (لا تضل عنه) في الأيام الخوالي·(ملحق/1256)
4 - الوجد الرومانسي
كان أكثر الكتاب تألقا في هذا الأوج الألماني هم أولئك الذين روعوا عصرهم بصيحات الغرائز وانفلاتها من قيود العقل، وانفلات المشاعر من أحكام الفكر وانفلات الشباب من حكم كبار السن وانفلات الفرد من ضوابط الأسرة والدولة· إن القليلين منّا هم الذين يقرءونهم هذه الأيام لكنهم كانوا في جيلهم ألسنة لهب تشعل النار في المفكرين والمثقفين الذين كانوا مهيئين لها، وفي الروابط الاجتماعية التي تحبس النفس - المحلقة بطبعها - داخل قيود العادات والمحرمات taboo والأوامر والقانون·
وكان مصدر هذه الثورة هو الاستياء الطبيعي الذي ينظر من خلاله أي مراهق للقيود التي يفرضها الوالدان والإخوة والأخوات والمعلمون والدعاة ورجال الشرطة والنحاة والمنطقين وعلماء الأخلاق· ألم يثبت الفيلسوف الذائع فيشته Fichte أن الحقيقة الأساسية لكل منا هي وعيه الفردي بنفسه؟ وإن كان الأمر كذلك، فإن الكون لا يعني لأي منا شيئا سوى ما يتعلق بتأثيره في الشخص نفسه، وقد يحق لأي منا أن يتوقف أمام التراث والتقاليد والمحاذير والقوانين والعقائد ليطلب السبب الذي يجعل طاعتها لازمة أو بتعبير آخر من حق الفرد أن يتساءل لم يجب عليه احترام التقاليد والموروثات والمحاذير والقوانين والعقائد·
إن المرء قد يرضخ لوصايا الله خوفاً منه، أو لوصايا أحد رجال الله الذين اكتسوا بالقداسة، لكن كيف يكون الأمر وقد تحول الله عند ديدرو Diderot ودالامبير d'Alembert وهيلفيتيوس دهولباخ ولامتري إلى مجرد قوانين موضوعية تسيّر الكون؟(ملحق/1257)
وقد أضيفت الآن الثورة إلى حركة التنوير الفخورة المتحررة لقد ذابت التقسيمات الطبقية، فأولئك اللوردات الذين كانوا ذات يوم يصدرون القوانين وينتزعون الطاعة أصبحوا الآن يسارعون إلى الهرب· فلم يعد هناك حاجز بين الطبقات، ولم يعد هناك غول من الموروثات والتقاليد يساند القوانين· الآن أصبح في استطاعة أي فرد أن يكمل طريقه ليصل إلى أي وضع وأي سلطة، وله أن يختار الطريق إلى المقصلة· لقد فتح الطريق أمام أصحاب المواهب وأصحاب المخالب· لم يحدث أبدا في تاريخ الحضارة المعروف أن كان الإنسان على هذا القدر من الحرية - حرية أن يختار عمله ومشروعه ورفيقه وزوجه (أو زوجته) ودينه وحكومته ونظامه الأخلاقي·
وإذا خلت الساحة إلا من كيانات الأفراد فماذا بقي للدولة (ككيان) والكنيسة والجيش والجامعة؟ لن يبقى إذن سوى مؤامرات أفراد يتمتعون بمزايا خاصة للإرهاب والهمجية، ولتشكيل الأمور وفسخها، ولفرض الضرائب وتسيير أمور الحكم، وليسوقوا الباقين إلى المذابح؟ وقلما تستطيع عبقرية أن تحقق إنجازاً في ظل هذه القيود، ثم أليست عبقرية واحدة عدل عدد كبير من المعلمين والجنرالات والباباوات والملوك أو مئات التيجان؟(ملحق/1258)
وعلى أية حال فقد كان هناك إلى جانب هذا الاتجاه الجديد الداعي إلى التحرر من كل شيء، كثير من الأرواح الحساسة التي شعرت أن العقل قد انتزع الكثير في طريقه إلى التحرر· فالعقل هو الذي هاجم الدين القديم بما فيه من حكايات القديسين وطقوس عطرة، وموسيقى محركة للمشاعر، ومريم العذراء الشفيعة والمسيح المخلص (بتشديد اللام وكسرها) · وكان العقل هو الذي أحل محلّ هذه الرؤى السامية عمليات مادية كئيبة تتحرك بلا هدف نحو الدمار، وكان العقل هو الذي أحل محل صورة امرأة ورجل يعيشان في تواصل يومي مع المعبود، صورة رجل وامرأة مجسدين يقتربان كل يوم أكثر فأكثر بشكل تلقائي (أوتوماتيكي) على نحو مؤلم منحط، حتى يأتي موت لا قيامة بعده (موت أبدي) · إن للخيال حقه حتى ولو لم يكن متسقا مع القياس المنطقي، وإننا لأكثر استعداداً للتفكير في أنفسنا كأرواح تتحكم في المادة أكثر من استعدادنا للتفكير في أنفسنا كآلات تتحكم في الأرواح· وللمشاعر حقها، وهي تترك آثارا أعمق من الفكر والعقل· فالمتجول البائس وجان جاك المندهش قد يشعر بالحكمة ويحس بها أكثر من العفريت المؤذي (الولد الشقي) في فكر فرني Ferney thought.·
لقد كانت ألمانيا قد عرفت روسو وفولتير وسمعت عنهما لكنها اختارت روسو· لقد قرأت - وأحست - بكتابيه أميل Emile وهلويز Heloise، وفضلتهما على (القاموس الفلسفي Philosophical Dictionary) و (كانديد Candide) وقد تبعت ألمانيا ليسنج في تفضيله رومانسيات شكسبير على كلاسيكيات راسين Racine· لقد كانت ألمانيا أكثر استعداداً لتقبل (كلاريسا هارلو Clarissa Harlowe) و (تريسترام شاندى Tristram Shandy) وشخصية (أوسيان Ossian) في كتابات مكفرسون Macpherson عن مفكري باريس وأصحاب صالوناتها· لقد رفضت (ألمانيا) القواعد التي وضعها بوالو Boileau كقوانين للأسلوب الكلاسيكي· لقد امتعضت (ألمانيا) من التركيز على الوضوح والاعتدال، فهما لا يتسقان مع الحماسة والوصول إلى الخلود، ومطلع النور·(ملحق/1259)
لقد كانت الرومانسية الألمانية تحترم الحقيقة إن كان لها وجود، لكنها (أي الرومانسية الألمانية) كانت تشك في الحقيقة العلمية التي جعلت وجه الحياة كئيبا· لقد ظلت ألمانيا تحتفظ - بحب - في ذاكرتها بالحكايات الخيالية وحكايات الجنيات التي قام كليمنز برينتانو Clemens Brentano (1778 - 1842) وأشيم فون أرنيم Achim Von Arnim (1781 - 1831) بجمعها في مؤلف بعنوان Des Knaben Wunderhorn (1805 - 1808) ، وقام أيضا الأخوان جريم Grim ( جاكوب، 1785 - 1863، وفيلهلم، 1786 - 1859) بتجميع آخر بعنوان Kinder - und Hausmarchen (1812) ·
لقد كانت هذه الحكايات هي صدى لطفولة الأمة وطفولة الأفراد، وكانت جزءاً من روح الألماني الطيب وربما كانت انعكاساً لما وراء الوعي عنده· وإذا كان لا بد لهذا التراث الخيالي الذي يعود إلى ما قبل الثورة؛ إلى كاثوليكية العصور الوسطى وإلى روح القصة الشعرية أن يعود فإنه يقود ألمانيا إلى الكاتدرائيات القديمة التي كستها الطحالب لفرط قدمها وإلى العقيدة الراسخة التي لا تحتمل الشك والحرفيين المهرة الذين يغمرهم النشاط والمرح، ولا بد أن يقود ألمانيا إلى الصلوات والدعوات والترانيم الدينية وأجراس والكنائس مما يجعل الرب حاضرا في الحياة اليومية للناس، ويمزج الأفراد المرهقين بمجموعة القديسين والصالحين الذين كانت حياتهم ملحمة مقدسة في التاريخ المسيحي·
وبالأم العذراء Virgin Mother التي نذرت بتولتها وعذريتها للأسرة المقدسة والأمة والجنس البشري· وكان كل هذا بطبيعة الحال بقايا ذوات طابع حماسي من العقائد الوسيطة (العقائد التي سادت في العصور الوسطى) وما صاحبها من مخاوف، وهراطقة لابد من تجريمهم وأرواح حائرة، ومع هذا فقد بلغت بكثيرين من الرومانسيين الألمان ذروة التوهج والحماس وراح بعضهم - ندماً وتوبة - يلقون بأنفسهم على أعتاب المذابح الكنسية في أحضان الكنيسة الأم·(ملحق/1260)
5 - أصوات المشاعر
لقد كادت الرومانسية الألمانية تؤثر في كل مناحي حياة الأمة: لقد أثرت في موسيقي بيتهوفن وفيبر Weber وفيلكس مندلسون Felix Mendelssohn، وفي روايات هوفمان وتيك Tieck وفي فلسفة فيشته وشيلنج Schelling، كما كان لها تأثيرها في الدين كما وجدنا عند شلايرماخر Schleiermacher ومئات من المتحولين للمسيحية مثل فريدريش شليجل، ودوروثيا مندلسون Dorothea Mendelssohn· لقد قاد خمسة رجال - على نحو خاص - هذه الحركة في الأدب الألماني، ولا بد أن نذكر من بينهم امرأة رومانسية شاركتهم الحب المنطلق أو المقيد كما شاركتهم الاهتمامات الفكرية مما صدم العقيلات المحتشمات من فرانكفورت إلى الأودر Oder ·
وكان بالقرب من منابع الحركة طائر يحرك جناحيه ونعني به فيلهلم هينريش فاكنرودر Wackenroder (1773 - 1798) وهو كاتب خجول سهل الانقياد غير مرتاح للحقيقة (الواقع) والعقل، إنما كان يجد راحته في الدين، وكان يجد سعادته في الفن· لقد رأى في قدرة الفنان على التصور والتنفيذ شبها قريبا بعملية الخلق· وقد صاغ دينه الجديد هذا في مقالات ذات طابع ديني تعبدي تناول فيها ليوناردو، ورافاييل، ومايكل أنجلو، ودورير Durer ··· ووجد دعما لاتجاهه هذا في جامعتي جوتنجن وإرلانجن Erlangen، إذ أيده لودفيج تيك Tieck وتحمس له واقترح لكتابات صديقه عنواناً طريفاً هو: (فيوضات قلبية لأخ مسيحي عاشق للفن Herzensergiessungen eines kunstliebenden Klosterbruders) ولأن هذه المقالات أخذت طابعا مسيحيا فقد وجدت لها ناشرا في سنة 1797·
لقد سخر فاكنرودر من المذهب العقلي الذي أخذ به ليسنج ومن المذهب الكلاسيكي الذي أخذ به فنكلمان، وكانت سخريته هذه تكاد تكون بالحدة نفسها التي تجنح إليها البورجوازية الألمانية لإعلاء الفن والسموّ به، وراح فاكنردور يعمل في عصره على إعادة أخويات الفنانين والعمال التي كانت سائدة في العصور الوسطى· وأصيب فاكنردور بالتيفود فمات وهو في الرابعة والعشرين من عمره·(ملحق/1261)
وظل صديقه تيك Tieck (1773 - 1853) طوال ثمانين عاما يلعب مباراة خطرة (فيها مخاطرة) إذ راح يؤيد المشاعر في مواجهة العقل، ويؤيد الخيال في مواجهة الواقع · لقد كان هو وفاكنرودر قد درسا الدراما في العصر الإليزابيثي والفن في العصور الوسطى، وابتهجا لسقوط الباستيل· إلا أن تيك كان يختلف عن فاكنرودر في عدة أمور منها أنه كان يتمتع بروح الفكاهة ونزعة للعب· لقد شعر أن الحياة مباراة يلعبها الأرباب مع الملوك والملكات والأساقفة والفرسان والحصون والكاتدرائيات، والرهانات متواضعة (بسيطة)، أو بتعبير آخر جائزة الفائز في المباراة بسيطة·
وعندما عاد لمسقط رأسه برلين بعد أن قضى أيام الجامعة نشر في الفترة من 1795 إلى 1796 رواية في ثلاثة مجلدات ( Die Geschichte des Herrn William Lovell) كتبها على نمط أسلوب ريتشاردسون، ووصف فيها بتفاصيل حساسة العلاقات الجنسية والانتقالات بين ربوع الفكر لشاب تخلى عن الأخلاق المسيحية واللاهوت المسيحي وانتهى إلى أنه ما دامت النفس - على وفق نظرية المعرفة عند فيشته - هي الحقيقة الوحيدة التي يمكننا معرفتها بشكل مباشر، فلتكن إذن هذه النفس (الذات) هي معيار الأخلاق وواضع القوانين:
لا توجد كل الأشياء إلا لأنني أفكر فيها، ولا وجود للفضيلة إلا لأنني أظن وجودها (أفكر فيها) ···· الحق أقول لكم إن الرغبة الجنسية هي السر الكبير لوجودنا· فالشعر والفن، بل وحتى الدين، هي مجرد شهوة جنسية مقنّعة· وأعمال النحاتين وشخوص الشعراء ورسوم الفنانين التي نركع أمامها ليست سوى مقدمة للمباهج الحسية··
إنني أشفق على الأغبياء الذين يثرثرون ثرثرة المعتوهين عن الإثم والفسوق اللذين ترتكبهما حواسنا· وإنهم بائسون مصابون بالعمى· إنهم يقدمون الأضاحي لرب عنين (عاجز جنسيا) لا يمكن أن تسعد عطاياه قلب الإنسان··· لا، إنني وهبت نفسي لخدمة إله أعلى تنحني أمامه كل الخلائق، إله يوحّد في طياته كل مشاعر الطرب والنشوة والحب وكل شيء··· ففي أحضان لويزا فقط عرفت ما هو الحب، وذكرى أميليا Amelia تبدو لي الآن على البعد باهتة قليلا يغلفها الضباب.(ملحق/1262)
هنا وقبل "الإخوة كرامازوف The brothers Karamazov" (1880) بخمسة وثمانين عاما نجد نبوءة إيفان كرامازوف بأن قرنا من التسيب الأخلاقي سيأتي بعده: "إذا لم يكن الله موجودا فكل شيء مباح" وعلى أية حال فإن لوفيل Lovell ( بطل رواية تيك السابق ذكرها) عاد للدين قبل أن يموت· لقد قال "إن أكثر المفكرين الأحرار طيشا ولا مبالاة أصبح أخيرا متعبدا" وكان هذا الاعتراف مناسبا تماما وفي وقته ذلك أنه قتل بعد ذلك بفترة وجيزة في مبارزة·
وكان الكتاب مفخرة لشاب تحرر قبل أن يصل لسن (العقل) · وفي سنة 1797 نشر قصة قصيرة (إكهرت الشقراء Der blonde Eckhert) حازت إعجاب الأخوين شليجل· وذهب إلى يينا Jena بناء على دعوتهما، كانت يينا وقتها معقلاً للرومانسية· وعلى أية حال فإن تيك Tick غادرها في سنة 1801 ليعيش في عزبة أحد أصدقائه في فرانكفورت - آن- دير- أودر· Frankfort-an-der-Oder، وتفرغ لفترة لترجمة مسرحيات العصر الإليزابيثي، ثم لتحرير أعمال معاصريه نوفاليز Novalis وكلايست Kleist وكتب عنها كتابات نقدية متألقة·
وسار على خطى ليسنج فشغل طوال سبعة عشر عاما (1825 - 1842) منصب الدراماتورج Dramaturg ( المدير والناقد الدرامي) في مسرح دريسدن Dresden وجلبت له مقالاته الصريحة بعض الأعداء لكنها أيضا حققت له الشهرة على مستوى الأمة كناقد أدبي لا يسبقه في هذا المضمار (النقد الأدبي) سوى جوته، وأوجست فون شليجل· وفي سنة 1842 دعاه إلى برلين الملك فريدريك وليم الرابع (الذي لم يكن قد سمع مطلقا بروايته (لفل Lovell) وقبل تلك الدعوة (وكان قد تجاوز لفل منذ زمن) وعاش أعوامه الباقية كأحد عمد الأدب في العاصمة البروسية·(ملحق/1263)
أما نوفاليز Novalis (1772 - 1801) فلم يعش طويلا ليتمكن من التخلص من أفكار شبابه· وقد تمتع بمزايا غير مؤكدة - كأديب - لنبالة مولده، فقد كان أبوه مديرا لإنتاج الملح في سكسونيا، وكان - أي أبوه - ابن عم الأمير كارل فون هارنبرج الوزير البروسي· وكان الاسم الحقيقي لشاعرنا هو فرايهر فريدريش فيليب فون هاردنبرج، لكنه استخدم الاسم نوفاليز كاسم مستعار، لكنه (أي هذا الاسم) كان هو الاسم الفعلي لأحد أجداده في القرن 19· وكانت أسرته تنتمي إلى جماعة هيرنهت Herrnhut التقوية (جماعة دينية بروتستنتية) وكان كأسرته ذا ميول دينية قوية لكنه عمل أخيرا على التوفيق بين الكاثوليكية والبروتستنتية كخطوة نحو توحيد أوربا·
والتحق وهو في التاسعة عشرة من عمره بجامعة يينا Jena وكون علاقات صداقة حميمة مع تيك Tick وشيلر وفريدريش فون شليجل وربما حضر بعض محاضرات فيشته التي كان لها تأثيرها في يينا وفيمار· وبعد أن قضى عاما في جامعة فيتمبرج تبع أباه إلى أرنشتادت Arnstadt في ثورينجيا Thuringia· وبالقرب من جروننجن Gruningen التقى بصوفي فون كوهن Sophie Von Kuhn فاهتز لقوامها الجميل وشخصيتها الفاتنة لدرجة أنه طلب يدها من والديها· وفي سنة 1795 كان هو وصوفي قد خطبا رسميا رغم أنها لم تكن قد تجاوزت الرابعة عشرة من عمرها· وسرعان ما سقطت مريضة بداء الكبد، فأجريت لها عمليتان أنهكتاها فماتت في سنة 1797، ولم يفق نوفاليز أبدا من هول موت حبيبة قلبه فكانت أشهر قصائده هي ستة ترنيمات (1800) Hymnen an die Nacht كذكرى حزينة لحبيبته صوفي·(ملحق/1264)
وفي سنة 1798 خطب جولي فون كاربنتير لكن الخطبة فشلت فلم ترس السفينة على شاطئ الزواج· وشارك السل (ذات الرئة) الحزن في إنهاك الشاعر فمات في 25 مارس 1801 وهو الثامنة والعشرين· وترك لنا رواية هي (هنريش فون أوفتردنجن Heinrich Von Ofterdingen (1798 - 1800) تقدم لقرائها تعبيرا مكثفا عن التطلع للسلام الديني (التوق الشديد إ ليه، والمقصود التطلع لنهاية الخلاف بين الكاثوليكية والبروتستنتية) · وكان قد امتدح في وقت من الأوقات (فيلهلم ميستر Wilhelm Meister) التي ألفها جوته كعمل واقعي يقدم وصفا مفيدا لتطور الإنسان، لكنه عاد الآن يدينها باعتبارها تضفي المثالية على الأعمال الدنيوية·
وكان البطل في روايته كشخصية تاريخية، فهو المؤلف الحقيقي لرواية ( Nibelungenlied) ، فجالاهاد Galahad كرس نفسه لتتبع وردة زرقاء رمزا لتحول الموت إلى فهم لا حد له (خالد) ولا نهاية· يقول هنريش: "إنها الوردة الزرقاء التي طالما تقت لرؤيتها، إنها دوماً في عقلي ولا أستطيع أن أتخيل سواها "· إننا نجد هنا، كما نجد في مقاله الذي حقق شهرة في وقت من الأوقات (الدولة المسيحية في أوربا) دفاعا عن العصور الوسطى كعصر مثالي (بل إنه دافع عن محاكم التفتيش) شهدت فيها أوربا وحدة سياسية ووحدة في عقيدتها الدينية، وكان من رأيه أن الكنيسة على حق في مقاومتها للعلم المادي والفلسفة العلمانية (غير الدينية) · ومن هذا المنظور يمكننا القول إن التنوير كان يتراجع حزينا· ولما كان الموت يدعوه إليه راح نوفاليزي يرفض كل الأهداف الدنيوية والمباهج الأرضية وراح يحكم بحياة أخرى (في العالم الآخر) لا مرض فيها ولا نصب ولا حزن، بل لا نهاية له·
6 - الأخوان شليجل
THE BROTHERS SCHLEGEL(ملحق/1265)
كان الأخوان أوجست (أوغسطس) فيلهلم فون شليجل (1767 - 1845)، وفريدريش فون شليجل (1772 - 1829)، أخوين جديرين بالتأمل: إنهما مختلفان في الطباع والعشق والدراسات والعقائد، لكن يجمعهما في النهاية السنسكريتية والفيلولوجيا philology ( فقه اللغة) · ولدا في هانوفر لقس بروتستنتي، وأصبحا لاهوتيين عندما بلغا الحلم ومهرطقين (شاكين في المسيحية) عندما بلغ الواحد منهم العشرين· واستمتع أوجست فيلهلم في جوتينجن Gottingen بدراسة انتقال الكلمات من خلال محاضرات كريستيان هين Heyne ذي الشخصية الجذابة الذي ترجم أعمال فرجيل Virgil كما استمتع بدراسة التراث الفكري في العصر الإليزابيثي من خلال المحاضرات التي كان يلقيها جوتفرايد بيرجر Gottfried Burger مترجم أعمال شكسبير ومؤلف أغنية لينور Lenore· واستقبلت الجامعة نفسها فريدريش فون شليجل بعد استقبالها لأخيه بخمس سنوات، وبدأ كدارس للقانون كما راح يتنقل بين دراسة الأدب والفن والفلسفة، ونضج سريعا فلحق بأخيه في يينا Jena في سنة 1796 وشاركه تأسيس الأثيناوم Athenaum التي أصبحت طوال عامين (1798 - 1800) متحدثا باسم الحركة الرومانسية الألمانية ومرشدا لها· وساهم نوفاليز وشلايرماخر Schleiermacher بالكتابة فيها، وأتى تيك Tieck وأضاف فيشته وشيلنج فلسفتيهما، وكان يأتلف إلى هذه الدائرة الحية بعض النسوة الموهوبات، والمتحررات على نحو رومانسي·
وكان فريدريش فون شليجل هو ضابط السرعة الفكرية - إن صح هذا التعبير - لهذه المجموعة، ويكفي لهذا أنه كان أسرعهم في اعتناق الأفكار وأسرعهم أيضا في التخلي عنها·(ملحق/1266)
وفي سنة 1799 أصدر رواية (لوسينده Lucinde) وهي التي أصبحت علماً أحمر يقود الهجوم ضد المعتقدات القديمة والمحرمات taboos المزعجة· وكان هذا الهجوم نظرياً دفاعا عن حق الشعر كمفسر للحياة ومرشد لها· "فالصناعة والاتجاه النفعي هما ملائكة الموت، فلم هذا الاندفاع المستمر والعمل الدائب بلا راحة ولا استرخاء؟ " ويعلن بطل الرواية أيضا: "إن إنجيلنا هو إنجيل المرح والحب" وهو يعني مرح الحب وبهجته دون زواج· وعندما حاول فريدريش زيارة أخيه الذي كان في ذلك الوقت معلما في جوتنجن (1800) أرسلت السلطات في هانوفر أمرا حاسما لرئيس الجامعة: "إذا أتى فريدريش شليجل وهو أخو أستاذ عندكم، إلى جوتنجن بغرض الإقامة لأي فترة فلن يسمح له بذلك، وسيكون أمراً طيبا إذا طلبتم منه مغادرة المدينة، ذلك لأن كتاباته تنحو نحواً غير أخلاقي".
والمرأة التي ألهمت شليجل في روايته (لوسينده) هي كارولين ميشاليز (ميكاليز Michaelis) ولدت كارولين في سنة 1763 وتزوجت أستاذا جامعيا (1784) ولم تكن سعيدة معه، فتحررت عندما مات، وراحت لعدة سنوات تمرح مستمتعة بمباهج الحياة كأرملة جميلة ومفكرة· وقد أحبها أوجست فون شليجل عندما كان طالبا في جوتنجن، واقترح عليها الزواج فرفضت لأنه أصغر منها بأربع سنوات·
وعندما غادر ليدرس في أمستردام (1791) راحت تدخل في سلسلة من المغامرات الجنسية ففوجئت بأنها حامل وانضمت إلى مجموعة ثورية في مينز وقبض عليها، وعمل والداها على إطلاق سراحها فذهبت إلى ليبزج لتضع حملها، وهنا ظهر أوجست فون شليجل وعرض عليها الزواج مجددا فقبلت فتزوجها (1791) وتبنى طفلها، واتجهوا جميعا (الزواج والزوجة وابنها) إلى يينا Jena·
ويينا أصبحت المضيفة الأثيرة لليبراليين لتعلمها وحيويتها ومناقشاتها الذكية وقال عنها فيلهلم فون همبولدت Von Humboldt إنها أكثر من عرف من النساء مهارة ونشاطا· وأتى جوته وهيردر Herder من فيمار ليجلسوا إلى مائدتها ويسعدوا بصحبتها· ووقع فريدريش فون شليجل الذي كان يقيم مع أخيه في هذا الوقت - وقع هو الآخر في حبها، فجعل منها (لوسينده) في روايته وراح ينشد لها أناشيد الحب ويرفع من شأنها حتى ضاقت الكلمات عن عاطفته·(ملحق/1267)
وفي هذه الأثناء ذهب أوجست شليجل الذي كانت عاطفته إزاءها قد بردت - ليحاضر في برلين (1801) حيث كون علاقة مع صوفي برنهاردي Sophie Bernhardi التي طلقت زوجها لتعيش مع حبيبها الجديد· وعندما عاد أوجست شليجل إلى يينا وجد كارولين مفتونة بشيلنج (1804) وعاشت معه حتى ماتت (1809)، ورغم أن شيلنج تزوج بعد موتها إلا أنه ظل يذكرها لأعوام عديدة حتى لو لم تكن لي ما كانت (زوجة) فلابد أن أنعى الجنس البشري لفقدها فقد كانت أنموذجا للكمال العقلي لم يعد موجودا· إنها امرأة نادرة ذات روح قوي وعقل حاد اجتمعا معا في جسد أنثى فاتنة تضم قلبا عاشقا·
وكانت دوروثيا فون شليجل (1763 - 1839) مثل سابقتها ذات أهمية وتأثير في حياة هذه المجموعة· كان اسمها قبل الزواج برندل مندلسون (مندلسهوهن) · ورغبة منها في إسعاد والدها المشهور تزوجت في ستة 1783 من البنكي (المالي) سيمون فايت Veit وأنجبت له ابنا (فيليب فايت) الذي أصبح رساما شهيرا في الجيل التالي· وكان مالها وفيرا فزهدت فيه لكثرته وراحت تغامر في مجال الفلسفة، ذلك المجال الذي كان لا يزال غير أكيد (كانت المباراة فيه غير مضمونة النتائج) وأصبحت نجما بارزا في مجال الفكر في صالون راشيل فارنهاجن Rachel Varnhagen في برلين،
وهناك التقى بها فريدريش فون شليجل ووقع في حبها مباشرة أما هي فكانت مفتونة بأفكاره ووجدته يسبح فيها (بأفكاره) ففتنت به، وكان وقتها في الخامسة والعشرين من عمره، وكانت هي في الثانية والثلاثين، لكن المؤلف كان مفتونا بأمور جذابة كثيرة في هذه الأنثى ذات الثلاثين ربيعا femme de trente ans· لم يكن جمالها صارخا لكنها قدرت مواهبه العقلية وكانت تستطيع أن تصاحبه , متفهمة اكتشافاته الفلسفية والفيلولوجية (في علم فقه اللغة)، وأحس زوجها أنه فقدها فطلقها (1798) وصحبته (فريدريش) إلى باريس وقبلت المعمودية (أي تحولت للمسيحية وتركت ديانتها اليهودية) وتسمت باسم دورثيا، وأصبحت زوجة رسمية لفريدريش في سنة 1804·(ملحق/1268)
نعود إلى أوجست شليجل، فقد أصبح في هذا الوقت أشهر محاضر في أوربا، وأدت ترجمته لأعمال شكسبير إلى إحرازه مكانة عالية وأصبح شكسبير (هذا الإليزابيثي العظيم) يكاد يكون ذا شعبية في ألمانيا كشعبية في إنجلترا· ورغم أن أوجست شليجل يُدعى "مؤسس المدرسة الرومانسية في ألمانيا" إلا أنه كانت فيه كثير من صفات العقل الكلاسيكي: النظام والوضوح والتناسب والاعتدال، والتقدم الثابت الوئيد للوصول إلى هدف محدد· وقد تجلت هذه الصفات بشكل أقوى في محاضراته عن الأدب الدرامي التي ألقاها في مدن مختلفة وأعوام مختلفة، وكذلك محاضراته عن شكسبير العامرة بالتعليقات والملاحظات التنويرية، والتي كان ينقذ فيها بشجاعة في بعض الأحيان - شاعره المحبوب (شكسبير) · لقد كتب وليم وهازلت W. Hazlitt في سنة 1817:
"لقد قدم إلى حد بعيد أحسن عرض ظهر لمسرحيات شكسبير ···· إننا نعترف - مع قليل من الغيرة - ·· أننا يجب أن نذكر لناقد غير إنجليزي تقديمه للمبررات التي تؤكد نظرتنا نحن الإنجليز إلى شكسبير" ·
وعندما كانت مدام دي ستيل تطوف ألمانيا بحثا عن مادة لكتابها حثت أوجست شليجل (1804) على أن يذهب معها إلى كوبت Coppet ليدرِّس لأبنائها وليعاونها في إعداد موسوعتها مقابل 12000 فرنك في السنة، فسافر معها أخيرا إلى إيطاليا وفرنسا والنمسا وعاد معها إلى كوبت وظل معها هناك حتى سنة 1811 عندما رضخت السلطات السويسرية لأوامر نابليون فأمرته بمغادرة سويسرا، فذهب إلى فيينا واعترته الدهشة إذ وجد أخاه يحاضر فيها مدافعا عن العصور الوسطى باعتبارها العصر الذهبي الذي شهد وحدة أوربا سياسة وعقيدة·
لقد كانت فيينا هي العاصمة الكاثوليكية لألمانيا وكان فريدريش ودوروثيا قد تحولا للكاثوليكية في سنة 1808· وكانت دوروثيا قد قالت منذ أعوام خلت: "إن صور القديسين والموسيقى الكاثوليكية تهز مشاعري فقررت أنني لو تحولت للمسيحية فسأصبح كاثوليكية" أما فريدريش فون شليجل فعزا تحوله إلى الكاثوليكية إلى ميله للفن a predilection d'artiste وعلى أية حال، فإن الكاثوليكية من نواح كثيرة - باعتبارها مثيرة للخيال والمشاعر والجمال - تبدو ملائمة للمشاعر الرومانسية·(ملحق/1269)
لقد ضجر الرجل العقلاني من العقل بعد أن تأثر بالأسرار الدينية (الكاثوليكية)، وأحس بهوان الإنسان أمام الموت· لقد لجأ هذا الفَرْدِي individualist - بعد أن وجد نفسه وحيدا غير آمن مع نفسه - إلى الكنيسة يرتمي في أحضانها لتكون له بيتا مريحا· لقد تخلى فريدريش شليجل أمهر أنصار الاتجاه العقلي وأكثر الشباب تحمسا للفردية (الاتجاه الفردي) ودعوة إليه، وأكثر الثوار تطرفا - تخلى الآن عن كل هذا موليا ظهره لفولتير، وموليا ظهره للوثر وكالفن ليرتمي في أحضان أوربا في العصور الوسطى يأخذ عنها ويستلهم منها ويتحرق شوقا لكنيستها القابضة على زمام كل الأمور· لقد حزن للتخلي عن الميثولوجيا الملهمة (الحكايات الأسطورية) وإحلال العلم البائس محلها وأعلن أوضح عجز وأكبر نقص تعانيه كل الفنون الحديثة تتمثل في الحقيقة التي مؤداها أن الفنانين لم يعد أمامهم ميثولوجبا يستلهمون منها·
وربما كانت أبحاثه في آداب الهند القديمة وميثولوجيتها قد عمقت احترامه للميثولوجيا· وكان قد بدأ في باريس سنة 1802 هذه الدراسات التي بلغت ذروتها، ووضعت أساسا لتطور هذا النوع من الدراسات فيما بعد تجلت في كتابه (لغة الهند وحكمتها Uber die Sprache und Weisheit der Inder) الذي ساهم في تأسيس علم فقه اللغة المقارن في نطاق اللغات الهندو أوربية· وناقش فريدريش هذا الجانب من حياته مع أخيه الذي انضم إليه لفترة في فيينا في سنة 1811، واستحضر أوجست في ذهنه عمله مع كريستيان هاين Heyne في مجال فقه اللغة (الفيلولوجيا)، فواصل عمله في هذا المجال وانضم إلى أخيه في دراسة اللغة السنسكريتية، فأثمر هذا الاشتراك أفضل النتائج التي تمخضت عنه حياتهما، وأرسخها وأكثرها دواما·
لقد حقق فريدريش لنفسه مكانة في الحياة الثقافية والسياسية في فيينا، ووصل إلى منصب أمانة السر في الحكومة النمساوية، وساعد في كتابة هجوم عنيف على نابليون أصدره الأرشدوق كارل لودفيج كجزء من معركة سنة 1809، وفي سنة 1810 وسنة 1812 ألقى في فيينا محاضرات شهيرة متميزة في التاريخ الأوربي والأدب في أوربا، وفي هذه المحاضرات عرض نظرياته في النقد الأدبي وقدم تحليلا كلاسيكيا للرومانسية·(ملحق/1270)
وفي سنة 1820 أصبح محرراً لصحيفة الجناح اليميني الكاثوليكية وهي صحيفة كونكورديا Concordia وراح في هذه الصحيفة يهاجم الأفكار والمعتقدات التي طالما كان قد دافع عنها بحماس في أثناء الأيام التي قضاها في يينا Jena مما أدى إلى فرقة بلا عودة بينه وبين أخيه· وكانت آخر محاضراته في دريسدن في سنة 1828 ومات في العام التالي، واحتفظت دوروثيا بذكراه واحتفت بها وظلت مخلصة لأفكاره وأعماله حتى ماتت في سنة 1839·
وعاش أوجست فون شليجل بعدها· وفي سنة 1812 انضم إلى مدام دي ستيل مرة أخرى، وأرشدها خلال ترحالها في النمسا وروسيا إلى سان بطرسبرج، وذهب معها إلى ستوكهولم، حيث تم تعيينه - بوساطة من مدام دي ستيل - سكرتيرا لبيرنادوت Bernadotte ولي عهد السويد، وصحبه في معركة 1813 ضد نابليون·
ومنحته الحكومة السويدية رتبة النبالة لخدماته· وفي سنة 1814 انضم مرة أخرى إلى مدام دي ستيل في كوبت Coppet وظل معها حتى ماتت· وعند هذا الحد يكون قد أنجز ما وعدها به، فقبل منصب أستاذ الأدب في جامعة بون (1818) فواصل دراساته للسنسكريتية وأنشأ مطبعة سنسكريتية ونشر - وحرر - نص الباجافاد جينتا Bhagavad-Gita والرامايانا Ramayana، وظل طوال عشر سنوات يعمل في مكتبة الأدب الهندي Indische Bibliothek، ومات في سنة 1845 وهو في الثامنة والأربعين بعد أن ترك لنا كنوزا: نقل التراث الشكسبيري إلى ألمانيا، وقد بذل في هذا العمل جهدا مضنيا، وقدم لنا - من خلال محاضراته - حصاد ذكريات كولردج وأفكاره ليلتقط منها للفلسفة الألمانية· لقد كانت حياته (أوجست فون شليجل) حياة مثمرة·(ملحق/1271)
الفصل الثاني والثلاثون
الفلسفة الألمانية: من 1789 إلى 1815 م
تَنَاوُلنا للفلسفة المثالية التي قال بها كانط Kant ومن أتى بعده من تلاميذه، يعوقه أن كلمة مثالي ideal في التفكير الدارج أصبحت تعني التميز الخلقي، كما يعوقه أيضا أننا اعتدنا - في عصر العلم والصناعة - أن نفكر في الأشياء التي ندركها وقلما نفكر في عملية الإدراك نفسها· وهناك اتجاهان متنافسان في الفلسفة اليونانية حيث وجدنا ديموقريطس Democritus يبدأ بالجزء أو الذرة (أو الفرد المكون للكل أو العنصر المكون لما هو شامل) بينما بدأ أفلاطون بالأفكار· وفي الفلسفة الحديثة ركز بيكون Bacon على معرفة الكون، وبدأ ديكارت بالتفكير نفسه·
ووجدنا هوبز Hobbes يلخص كل شيء في المادة، أما بيركيلي Berkeley فكل شيء عنده عقل أو نفس· وقد أعطى كانط الفلسفة الألمانية خصوصيتها بتدليله على أن مهمة الفلسفة الأساسية هي دراسة العمليات التي نكون بها الأفكار·
لقد أقر بوجود الحقيقة الخارجية (الكائنة خارج العقل أو النفس) لكنه أصر على أننا لا نستطيع أبداً أن نعرفها بشكل موضوعي ما دمنا لا نستطيع معرفتها إلا كمتغيرات بواسطة أعضاء وعمليات الإدراك الموجودة في أفكارنا· وعلى هذا فالمثالية idealism الفلسفية هي النظرية القائلة بأننا لا نعرف شيئا سوى الأفكار، وعلى هذا فالمادة matter هي شكل من أشكال العقل is a form of mind ·
1 - فيشته FICHTE: من 1762 - 1814م
1/ 1 - الراديكالي The Radical
نجد هنا - كما وجدنا غالباً عند تناولنا للتاريخ الأدبي - أن دراسة الرجل (المؤلف أو المفكر) أكثر تشويقا من دراسة مؤلفاته· فدراسة المؤلفات تجعلنا نحس بالتآكل الذي يسببه فيضان أنماط مختلفة في الأفكار والصيغ لكن دراسة نفس تشق طريقها خلال متاهات الحياة تعد درساً حيا في الفلسفة، وصورة متحركة نابضة بالخبرات التي تصوغ الشخصية وتحول الأفكار·(ملحق/1272)
لقد عاش يوهان جوتليب فيشته Johann Gottlieb Fichte اثنين وخمسين عاما كانت غاصة بتجارب مختلفة· لقد كانت أمه تدعو الله أن يكون ابنها قسا (راعي أبرشية) فوافق وبعد أن قضى فترة في بعض المدارس المحلية، تم إرساله إلى يينا لدراسة اللاهوت (أصول العقيدة)، لكنه كان كلما تعمق في دراسة اللاهوت المسيحي زاد عجبا وشكا· وأعطاه واعظ القرية تفنيدا لأخطاء سبينوزا Refutation of the errors of Spinoza لكن فيشته أعجب بأخطاء سبينوزا وغض الطرف عن تفنيدها واتخذ قرارا وهو أنه لن يصلح أن يكون قسا· ومع هذا فقد تخرج في كلية اللاهوت· وكان مفلساً معظم الوقت، فسار على قدميه من يينا Jena إلى زيورخ ليبحث عن عمل له كمعلم خصوصي، وهناك أحب جوهانا (يوهانا) ماريا راهن Rahn وتقدم لخطبتها رسميا، لكنهما اتفقا على تأجيل الزواج حتى يستقر ماليا·
وانتقل إلى ليبزج وقام بالتدريس لبعض الطلبة، وقرأ كتاب كانط (نقد العقل الخالص) وافتتن به· وأخذ طريقة إلى كونيجسبرج Konigsberg وقدم لكانط كتابه: "مقال نحو نقد كل وحي" vesush einer kritik aller Offenbarung (1792) ، وطلب قرضاً من كانط فلم يعطه لكنه ساعده في الوصول إلى ناشر لنشر عمله· وأهمل الناشر ذكر اسم المؤلف على الكتاب وعندما ذكر النقاد أن الكتاب من تأليف كانط، صرح كانط باسم المؤلف وامتدح الكتاب وهكذا أصبح فيشته عضوا في جماعة المفكرين الجليلة ولم يستقبله أللاهوتيون بحفاوة كما استقبله المفكرون لأن الحجج التي ساقها في مبحثه السابق ذكره مؤداها أنه رغم أن الوحي لا يقدم دليلاً على وجود الله،(ملحق/1273)
فلابد أن نعزو نظامنا الأخلاقي لله، إن أردنا أن يكون هذا النظام مقبولا ومطاعا من الجنس البشري وبناء على توصية كانط وجد فيشته وظيفة كمعلم ومرشد في دانزج، وكانت وظيفة ذات عائد مجز، ووافقت خطيبته الآن على أن تضم مدخراتها لما يأتيه من دخل، وتزوجا في سنة 1793، ونشر في العام نفسه أيضا مقالين قويين دون أن يقرنهما باسمه· وفي مقال (ملوك أوربا وأمراؤها يعيدون حرية الفكر) بدأه بامتداح بعض الحكام المتنورين وتوجيه اللوم للملوك والأمراء الذين يعوقون تقدم العقل البشري، وحزن لموجة القمع التي أعقبت وفاة فريدريك الكبير· إن الإصلاح reform أفضل من الثورة revolution لأن الثورة قد تقذف بالإنسان إلى الخلف وترده إلى البربرية، ومع هذا فالثورة الناجحة قد تحقق تقدما للبشرية في نصف قرن ما يحققه الإصلاح في ألف عام· ثم خاطب فيشته قراءه في زمن كان الإقطاع فيه لا يزال راسخا في معظم أنحاء ألمانيا:
"لا تكرهوا حكامكم بل اكرهوا أنفسكم· إن أحد مصادر بؤسكم هو تقديركم المفرط لهؤلاء الأشخاص (الحكام) الذين ضلت عقولهم لنقص التعليم والانغماس في اللذات والخرافة··· هؤلاء هم الذين يبذلون كل جهدهم لقمع حرية الفكر··· اصرخوا في وجوههم قائلين لهم إنكم لن تسمحوا لأحد أن يسلبكم حرية فكركم···
لقد انتهت عصور الظلمة·· عندما يقولون لكم باسم الرب إنكم قطيع من المواشي خلق ليستغل وليخدم حفنة من الأشخاص الفانين (أي أنهم بشر مثلكم) بوئوا مكاناً عليا ليمتلكوكم وتصبحوا ملكاً لهم·· لا·· إنكم لستم ملكاً لهم، ولا حتى أنتم ملك للرب، إنكم ملك أنفسكم·· ستسألون الآن الأمير (أو الملك) الذي يريد أن يحكمكم· بأي حق ستحكمنا؟ فإن قال بحق الوراثة، فلتسألوه: وكيف حصل جدك الأول (مؤسس الأسرة الحاكمة) على هذا الحق؟ ·· إن الحاكم يستمد كل سلطانه من الشعب".(ملحق/1274)
أما مقاله الثاني فهو عن تصحيح الأحكام العامة عن الثورة الفرنسية فهو الأكثر راديكالية· فالمزايا الإقطاعية لا يجب أن تكون متوارثة، وإنما هي وجدت برضا الدولة ولابد من إلغائها بما يتفق مع مصلحة الدولة· والأمر نفسه بالنسبة إلى الممتلكات الكنسية· لقد تم إقرارهم بموافقة الدولة وتحت حمايتها، ويمكن تأميمها على وفق حاجة الأمة وإرادتها· وهذا ما فعلته الجمعية الوطنية الفرنسية، وهي على حق·
لقد نشر هذان المقالان غفلاً من الاسم، ولو كان معروفا أن فيشته هو مؤلفهما ما دعي في ديسمبر 1793 ليشغل كرسي الفلسفة في يينا Jena· وكان الدوق تشارلز أوغسطس Charles Augustus لا يزال هو لورد فيمار ويينا · الهادئ، وكان جوته الذي يشرف على هيئة التدريس في الجامعة لم يقرر بعد أن الثورة الفرنسية كانت سقما (مرضا) رومانسيا ·
وعلى هذا فقد بدأ فيشته محاضراته في يينا Jana في الفصل الدراسي الذي يبدأ بعد عيد الفصح في سنة 1794· لقد كان مدرسا مقنعا وخطيبا مفوها يمكنه أن يمزج المشاعر بالفلسفة ويمكنه أن يجعل الميتافيزيقا فوق كل شيء لكن اندفاعه كان مؤثرا في مهنته كأستاذ، وكان ينذر بتمرد واضطراب وتم نشر خمس من محاضراته الأولى في سنة 1794 بعنوان (بعض المحاضرات عن مهمة العالم) طرح فيها فكرة أن الدولة ستختفي في وقت مناسب في المستقبل، لتترك الناس أحراراً حقا، وكانت هذه الفكرة تكاد تكون دعوة للفوضوية anarchistic ( اللاحكومة) وتشابه ما دعا إليه جودوين Godwin في كتابه الذي نشره قبل ذلك بعام (بحث في العدالة السياسية Enquiry Concerning Political Justice) :
" المجتمع السياسي ليس جزءا من الأهداف الخالصة للحياة البشرية وإنما هو - فقط - الوسائل الممكنة لتكوين مجتمع كامل· والدولة تميل بشكل مستمر إلى إلغاء دورها، إذا كان الهدف النهائي لكل حكم أن يجعل من نفسه زيادة غير ضرورية· قد يكون علينا أن ننتظر دهورا طويلة لكن سيأتي يوم تصبح فيه كل التشكيلات السياسية غير ضرورية "·(ملحق/1275)
وأضاف فيشته لهذه النظرة العامة التي جعلها سائغة للملوك والحكام بتوقعه ألا تحدث إلا بعد فترة طويلة، فكرة أخرى Pisgah View: " إن الهدف النهائي للمجتمع هو المساواة الكاملة بين كل أفراده"، وكان في قوله هذا صدىً لأفكار جان جاك روسو، ولم ينكر فيشته ذلك: "ليحل السلام على رفات روسو ولتتبارك ذكراه لأنه أيقظ أرواحنا" · ورحب الثوار الرومانسيون الذين كان عليهم أن يجتمعوا في يينا في سنة 1796 بهذه الأفكار الداعية إلى يوتوبيا (مدينة مثالية)، فكتب فريدريش فون شليجل إلى أخيه:
إن أعظم المتيافيزيقيين موجود الآن على قيد الحياة· إنه كاتب ذو شعبية· يمكنك أن تراه في كتابه الشهير عن الثورة··· إن كل لمحة من لمحات حياة فيشته العامة تبدو وكأنها تقول: هذا رجل.
1/ 2 - الفيلسوف
ترى ما هي هذه الميتافيزيقا التي جذبت الرومانسي كل هذا الجذب؟ لقد كان محورها هو أن الفرد والأنا الواعية بذاتها - تلك الأنا التي جوهرها الإرادة الحرة - هي ذروة كل حقيقة reality · ولا شيء يبهج الرومانسي أكثر من هذا لكن الأمر لم يكن (لوسينده Lucinde) كما عرضها فريدريش فون شليجل، بل إن فيشته نفسه بعد أن نشر كتابه (تأسيس علم شامل للمعرفة، 1794) وجد من الضروري أن يوضح أفكاره، فأصدر في سنة 1797 (مقدمة ثانية) وبتقديم جديد، وقد أضاف كلا العملين سخافات جديدة (أمورا منافية للعقل) · لقد كانت الكلمة الشارحة أو الكلمة المفتاح في حد ذاتها تحتاج إلى شرح· لقد استخدم كلمة Wissenschaftslehre التي تعنى عمود المعرفة Shaft أو عصبها أو جزءها المركزي Trunk، أو لنستخدم كلمة مانعة جامعة - نظرية المعرفة·(ملحق/1276)
وبدأ فيشته بتقسيم الفلاسفة إلى قسمين: "الدوجماتيين" dogmatists ( أصحاب النظريات الذين يؤكدون نظرياتهم أو أفكارهم ويرفضون بحسم كل نظرية غيرها) أو القائلون بالوجود الحقيقي للمادة خارج العقل realists ( إنهم مقتنعون بأن الأشياء موجودة بشكل مستقل خارج العقل (أو النفس)، و"المثاليون" idealists الذين يعتقدون أن كل التجارب وكل الحقائق facts هي مفاهيم عقلية، وعلى هذا فهي كل الحقيقة فكل ما يمكننا معرفته جزء من العقل المدرك· لقد اعترض فيشته على القائلين بالوجود المنفصل للمادة (الوجود المستقل لها) realists على أساس أن مقالتهم تفضي منطقيا إلى أن الجبرية التلقائية التي تجعل (الوعي) أمراً زائدا أو غير ضروري مما يقوض دعائم المسئولية (البشرية) والأخلاق، بينما حرية الإرادة (حرية الاختيار) من بين أكثر الأمور التي نتمسك بها· لقد رفض فيشته ما هو أكثر إذ ذهب إلى أن أي فلسفة تبدأ بالمادة لا يمكنها أن تشرح الوعي الذي هو غير مادي· لكن قضايا الفلسفة الأساسية تهتم بهذه الحقيقة الغامضة التي نسميها الوعي· وهكذا بدأ فيشته بالوعي نفسه - الأنا ( The Ego أو Ich أو I) · لقد تعرف العالم الخارج عن الأنا، لكن كان تعرفه من خلال ما نعرفه (نحن) عنه عن طريق إدراكنا الحسي·
هذا - من خلال عمليات إعداد عقلية - يحول الأشياء إلى جزء من العقل (إنه تفسير الحواس من خلال الذاكرة أو الغرض (أو الهوى أو الهدف Purpose)
" وعلى هذا فالكلمة بمعناها الصحيح (الموضوعي) تختلف تماما عن الكلمة كما تفسرها الخبرة والسياق والغرض· وعلى هذا فالعاصفة (مثلا) التي هي من الناحية الحسية مجرد فوضى لا معنى لها تراها (وتحس بها) حواس مختلفة تصبح في الإدراك - من خلال الذاكرة والظروف والرغبة - مثيرة لفعل عامر بالمعاني"
وانتهى فيشته إلى أننا يجب أن نفترض أن (الأشياء خارج الذات) أو (اللا أنا non - Ego) هي سبب لإحساسنا بما هو خارج الذات، لكن هذه الأشياء الواقعة خارج الذات لا تفسرها إلا الحواس والذاكرة والإرادة، وبالتالي فهي من مكونات العقل·(ملحق/1277)
وانطلاقا من وجهة النظر هذه فإن (الموضوع) والمادة Object هي جزء من الأنا، ولا يمكن أن نعرف أي شيء خارج الأنا Ego· تلك هي فلسفة فيشته إلا جانبا واحدا· فوراء النفس المدركة هناك النفس الراغبة (ذات الرغبة) والمريدة (ذات الإرادة) فالأنا (الإيجو Ego) هي نظام للدوافع أو البواعث أو المثيرات فكل النظام الذي تتشكل منه أفكارنا يعتمد على دوافعنا وإرادتنا (هنا نجد فيشته يتفق مع سبينوزا Spinoza في قوله إن الرغبة هي الجوهر الصميم للإنسان) كما أن أفكاره هذه تفضي إلى فكرة شوبنهاور Schopenhauer عن (الكون كإرادة will وفكرة idea) ·
والإرادة الطائشة ليست جزءا من الكون (العالم) الموضوعي الذي يبدو خاضعا (أو عبدا) لجبرية تلقائية· من هنا فالإرادة حرة· فالحرية هي جوهر الإنسان لأنها تجعله كائنا مسئولا أخلاقيا، قادرا على الالتزام - بشكل حر - بالقانون الأخلاقي· وكلما مضت الأيام بفيشته طوّر إعجاب كانط بالنظام الفلكي والأخلاقي في لاهوت جديد يفترض قانونا أخلاقيا يحكم الكون ويدعمه كما يحكم شخصية الإنسان ومجتمعاته ويحميهما·
وأخيرا فقد جعل النظام الأخلاقي للكون (بالمعنى السابق) بمعنى قيام كل جزء فيه بخدمة الكل من خلال أدائه لما هو منوط به - جعله هو نفسه الله· فهدف الإنسان الحر وواجبه هو أن يعيش في تناسق harmony ( هارمونية) مع هذا النظام الأخلاقي المقدس· وعلى هذا فالنظام الأخلاقي الكوني ليس مجرد (شخص) وإنما هو (عملية) ويظهر أي هذا النظام بشكل أساس في التطور الأخلاقي للبشرية· فمهمة الإنسان هي أن يعيش متناسقا (في هارمونية) مع النظام المقدس (بالمعنى السابق) · كل هذا يذكرنا مرة أخرى باسبينوزا لكننا نجد فيشته أيضا في سياق آخر متأثرا بهيجل:
"فالنفس الفردية أو الروح الفردية فانية ومع هذا فهي تسهم في خلود هذا (الكل) من النفوس الواعية التي هي الأنا Ego الخالصة أو الفكرة أو الروح"·(ملحق/1278)
إننا عند تناولنا لفلسفة فيشته نحس بقلق إنسان يتلمس طريقه بعد أن فقد إيمانه الديني المتوارث لكنه يناضل كي يجد لنفسه وقرائه أو تلاميذه طريقا وسطاً بين الإيمان والشك· وفي سنة 1798 واجه المشكلة (القضية) مرة أخرى في مبحثه (على أساس معتقدنا في الحكم المقدس للكون العالم) · لقد أعاد مفهومه لله سبحانه رافضا أن يكون الله شخصا (مشخصا) وإنما هو النظام الأخلاقي غير المشخص للكون، لكنه (أي فيشته) سمح بأن يعزى إلى هذا النظام شيء من (الشخصية) أو (التشخيص) (أي جعله مشخصا على نحو قليل) لإضفاء الحيوية·
وعلى أية حال فقد أضاف أننا لو تصورنا الله كطاغية اعتمادا على ما سيقدمه لنا من مسرات ومباهج في المستقبل، فمعنى هذا أننا نعبد وثنا، والذين يعبدون إلها على هذا النحو حري بنا أن نسميهم وثنيين·
وظهر مقال لم يذكر اسم مؤلفه يصف مبحث فيشته السابق بأنه مناهض للدين (المفهوم طبعا المسيحية بمعناها التقليدي) وشارك آخرون في الهجوم، فصادرت حكومة سكسونيا Saxony كل النسخ المتاحة من مبحث (مقال) فيشته، وقبلت شكوى مؤداها أن حكومة فيمار تسمح للإلحاد (المقصود هنا الخروج عن العقيدة المسيحية التقليدية) بأن يصبح موضعا للدرس في مناطقها· وحاولت اللجنة التعليمية في فيمار تهدئة الأمر برد مهذب على السكسونيين، لكن فيشته لم يكن مسالما فأصدر نشرتين (كتيبين) للدفاع عن كتابه (1799) أمام العامة، كانت نشرة منهما تحوي ردا مباشرا (نداء للجماهير)، فاعتبرتها لجنة فيمار التعليمية تحديا لطريقتها في معالجة الأمر ووصلته شائعة مفادها أن اللجنة ستطلب من مجلس الجامعة توجيه اللوم له علنا·
وساق فيشته الأدلة على أن هذا الإجراء سيسيء للحرية الأكاديمية وكتب إلى عضو المجلس الملكي في فيمار مهددا بالاستقالة إذا أصدرت الجامعة هذا اللوم وأضاف أن أساتذة آخرين وافقوا على تقديم استقالتهم تضامنا معه فأصدرت اللجنة التعليمة في فيمار (بموافقة جوته وشيلر) بلاغاً لمجلس الجامعة يرغبها في توجيه اللوم له وقبلت الجامعة تهديد فيشته وتحديه ففصلته، وقدم الطلبة ملتمسين لإعادة أستاذهم، فتجاهلتهما الجامعة·(ملحق/1279)
وفي يوليو 1799 انتقل فيشته وزوجته إلى برلين حيث تلقاه بحرارة فريدريش فون شليجل، وشلايرماخر Schleiermacher وآخرون من جماعة الرومانسيين الذين أحسوا المذاق الرومانسي في خيال فيشته وقوة الأنا البطولية heroic Ego-ism في فلسفته· وكي يوفر فيشته أجرة الإقامة في منزل مستقل قبل رغم معارضة زوجته دعوة شليجل Schlegel العيش معه ومع برندل مندلسون فايت Brendel Mendelssohn Veit· لقد كان الفيلسوف المرح (فيشته) يحب العيش مع الناس واقترح أن يكثر من عدد المجموعة· لقد كتب يقول لو نجحت خطتي فإن آل شليجل وآل شيلنج Schelling ونحن سنكون أسرة واحدة كبيرة لنقطن في بيت أوسع وليكون عندنا طباخ واحد لكن الخطة لم توضع موضع التنفيذ لأن كارولين فون شليجل لم تنسجم مع برندل· إن الفردية هي الحية التي تتربص بفردوس العيش المشترك·
وعلى أية حال فقد ظل فيشته حتى النهاية وفيه مسحة اشتراكية، فقد نشر في سنة 1800 مقالاً بعنوان (دولة التجارة المقفلة) ذكر فيه أن التجارة الخارجية وتداول النقد يمكنان الأمم الأغنى من استنزاف للأمم الأفقر، وعلى هذا فلابد أن تسيطر الحكومة على التجارة الخارجية كلها وأن تمتلك كل سبيكة صالحة للتداول· فالدولة إن تسلحت بهذه السلطة أمكنها أن تضمن لكل فرد أجراً يكفي معيشته ونصيبا مساويا في دخل البلاد، وفي مقابل هذا حق على كل فرد أن يسلم بحق الدولة في تحديد الأسعار وحقها في تحديد مكان عمله وطبيعته·
ومن الغريب أن يتزامن مع دعوته هذه إصداره لمبحث ديني هو (مهمة الإنسان، 1800) الذي يصف فيه الله باعتباره نظاما أخلاقيا للكون، ويلجأ إليه (إلى الله بهذا المعنى) بنشوة وحب وتعبد:
عقيدتنا··· عقيدتنا في الواجب هي - فحسب - إيماننا به (بالله in Him) وبحكمته His reason وبحقيقته His truth··· فالإرادة الأبدية الخالدة هي خالقة الكون على نحو أكيد·· ونحن أيضا خالدون لأنه (الله He) هو الخالد·
الإرادة السامية الحية معروفة بغير اسم، لا يحيط بها فكر·· إن الأطفال يعرفونها كأفضل ما يكون وتعرفها النفوس البسيطة المؤمنة···(ملحق/1280)
إنني أخفي وجهي أمامك Thee ( يا ألله) وأضع يدي على فمي (لا أجرؤ على الكلام) ·· كيف أنت Thou وكيف تنظر لوجودي·· لا أستطيع أن أعرف أبدا··
أنت يا ألله ( Thou) علمتني واجبي ومهمتي في عالم الموجودات العاقلة· كيف لا أعرف وكيف لا أحتاج للمعرفة··· في ظل علاقاتك هذه بي·· أأستطيع الاطمئنان إلى نعمتك أو بتعبير آخر أأستطيع أن أرتاح في ظل نعمتك المريحة·؟
يظهر أن فيشته - وقد أصبح معتمداً في تدبير أمور معيشته على محاضراته العامة التي ينشرها بعد ذلك - راح يتجه أكثر فأكثر نحو الإيمان المسيحي، والوطنية الألمانية· وفي سنة 1805 دعي ليشغل منصب أستاذ الفلسفة في جامعة إرلانجن Erlangen فحقق لنفسه فيها شهرة جديدة عندما اضطر بعد دخول جيوش نابليون ألمانيا (1806) إلى البحث عن منصب أكثر أمناً، فعبر إلى شرق بروسيا وراح يدرس لفترة في كونيجسبرج Konigsberg وأدى اقتراب جيوش نابليون بعد ذلك بفترة وجيزة من فريلاند Frieland إلى انتقاله هذه المرة إلى كوبنهاجن· وفي أغسطس سنة 1807 عاد إلى برلين مرة أخرى بعد أن تعب من العيش بلا وطن، وهناك ترك الفلسفة جانبا، وأعطى كل جهده لاستعادة كرامة شعب ممزق طعن في كبريائه·
1/ 3 - الوطني
راح فيشته كل يوم أحد من 13 ديسمبر 1807 إلى 20 مارس 1808 يلقي في مدرج مسرح أكاديمية برلين سلسلة محاضرات تم نشرها بعد ذلك بعنوان خطابات إلى الأمة الألمانية Reden an die deutsche Nation· لقد كانت دعوة عاطفية مفعمة حماسا لشعبه كي يستعيد احترامه لذاته وشجاعته وأن يتخذ الإجراءات للخروج من العزلة التي فرضها عليهم وهم حاملو السيوف من الطبقة العسكرية البروسية، والخروج من اتفاقية سلام تلسيت Tilsit غير الإنسانية، والخروج من التمزق وتقطيع أوصال البلاد (المملكة البروسية) الذي فرضه الكورسيكي Corsican ( نابليون) المنتصر·(ملحق/1281)
وفي هذه الأثناء كان العسكر الفرنسيون يقومون بدور البوليس في المدينة المغتصبة، وكان الجواسيس الفرنسيون يرصدون كل حديث· وتعتبر (خطابات إلى الأمة الألمانية) هي الأكثر حيوية في كل ما تركه فيشته، ولا زالت دافئة بمشاعر الفيلسوف الذي تحول إلى الاهتمام بأمور الوطن· لقد نحى جانبا الجوانب الفكرية للمنطق النظري وواجه الحقائق الأكثر مرارة في أسود أعوام بروسيا· ولم يوجه حديثه لبروسيا وحدها وإنما لكل الألمان الذين كانوا يحتاجون لهذا المثير نفسه ويتحدثون اللغة نفسها رغم انقسامهم في ظل إمارات متناثرة·
لقد عمل على تقريبهم في شكل من أشكال الوحدة بتذكيرهم بتاريخ ألمانيا وانتصاراتها المشهورة وإنجازاتها في مجالات الحكم والدين والأدب والفن وبرفضه المادية materialism التي تدفع لفقدان الأمل والتي وجدها - كما زعم - في الحياة الإنجليزية والنظريات الإنجليزية، وبرفضه التخلي عن الدين تماما كما في حركة التنوير الفرنسية وفي الثورة الفرنسية ذاتها·
لقد راح يتحدث مفتخرا ذاكرا الأدلة من المدن التجارية في ألمانيا الأقدم - نورمبرج Nuremberg ومنها البريخت (البريشت دورر Albrecht Durer، وأوجسبورج Augsburg ومنها الفوجر Fuggers ومواطنو العصبة الهانستية Hanseatic League الذين جابوا الكرة الأرضية· فالقصور الحالي - كما يخاطب فيشته طبقته وبلاده - يجب النظر إليه من منظور الماضي المتألق، ولا يمكن أن يستمر حبس أمة بواسطة أمة أخرى، فالأمة الألمانية لديها من الأنفس والعقول والإرادة ما يمكنها من الخروج من تدنيها الحالي·
كيف؟ أجاب فيشته:(ملحق/1282)
"بإصلاح التعليم إصلاحاً كاملا، ومده ليشمل كل طفل ألماني، وجعله إلزاميا، وإعادة صياغته ليركز على الجوانب المعنوية الأخلاقية لا أن يكون الغرض منه تحقيق النجاح التجاري· ليس هناك حديث أكثر من ذلك عن ثورة، فليس هناك إلا ثورة واحدة وهي تنوير العقول وتطهير الطباع· لابد من تطوير قدرات الطفل على وفق منهج بيستالوزي Pestalozzi ( السويسري) ولابد من توجيههم لتحقيق أغراض الأمة وأهدافها كما تحددها الدولة· ولابد أن يقود الدولة متعلمون مخلصون ولا يجب أن تكون خاضعة لإرادة الجيش وإنما توجهها إرادة الأمة، وأجهزتها· ولابد أن يكون كل مواطن خادما للدولة، وأن تكون الدولة خادمة للجميع· وحتى الآن فإن الجزء الأكبر - إلى حد بعيد - من دخل الدولة··· يتم إنفاقه لإقامة جيش دائم أما تعليم الأطفال فترك لرجال الدين الذين يستغلون الله كوسيلة للبحث عن الذات في عوالم أخرى بعد موت الجسد··· مثل هذا الدين سيدفن حقا ليكون مع الماضي".
لابد أن يحل محله دين الوعي الأخلاقي القائم على حسّ ملم بالمسئولية الجماعية· واعتقد فيشته أن الوصول لهذا النوع من الرجال، يستلزم:
"فصل الطلاب عن مجتمع البالغين ليكونوا مجتمعا منفصلا ومكتفيا ذاتيا···· تدريبات بدنية·· زراعة وتجارة بمختلف أنواعها بالإضافة إلى تنمية العقل بالتعليم·· إن الطلبة بعد أن نعزلهم على هذا النحو مبتعدين بهم عن مفاسد الماضي، فإنهم بالعمل والدراسة سيكونون متحفزين ولابد لخلق صورة لنظام البشرية الاجتماعي كما ينبغي أن يكون أي - ببساطة - كما يتمشى (أي هذا النظام) مع العقل· إن الطالب في هذه الحال يملأ بحب شديد لمثل هذا النظام (نظام الأشياء كما يجب أن يكون) بدرجة يصعب معها تماما ألا يأنس إليه ويرغبه، وبدرجة يصعب معها تماما ألا يعمل بكل قوته لتحسينه عندما يتحرر من توجيه المعلم"·(ملحق/1283)
إنه حلم رائع يذكرنا بجمهورية أفلاطون ويسبق دعاة Prophets الاشتراكية الذين انعقدت عليهم الآمال في القرون المتعاقبة· ولم يكن لهذه الأفكار سوى تأثير قليل في عصر فتشته كما لم تسهم إلا بالقليل (رغم أن هذا القليل قد جرى تضخيمه) في إلهاب الحماس ضد نابليون· لكن فيشته كان يفكر في أمر هو أعظم من طرد الفرنسيين من بروسيا· لقد كان يحاول أن يجد طريقا لتحسين الطبيعة البشرية التي فعلت الكثير في التاريخ بجوانبها الخيرة والشريرة· وعلى أية حال فقد كان حلمه هذا حلما نبيلا شديد الثقة - ربما - في سلطان التعليم وقدرته على تغيير الصفات الوراثية والموروثات، كما أنه يفتح الباب - وهذا يدعو للحزن - لإساءة فهمه وإساءة استخدامه من قبل النظم الحكومية السلطوية، لكن فيشته قال: "لن أفقد الأمل ما حييت في أن أقنع بعض الألمان···· بأن التعليم وحده هو السبيل الوحيد لإنقاذنا"·
لقد ضعفت صحة فيشته لهروبه المصحوب بالمخاطر من إرلانجن Erlangen إلى كونيجسبرج Konigsberg إلى كوبنهاجن إلى برلين، فبعد إكماله (خطابات إلى الأمة بوقت قصير) انهارت صحته، فذهب إلى تبليتز Teplitz وفيها استعاد صحته نسبيا وفي 1810 عين رئيسا لجامعة برلين الجديدة، وعندما بدأت بروسيا حرب التحرير حث فيشته طلبته بحماس بالغ على طرد المحتل حتى إن كلهم تقريبا دخلوا الجندية· وتطوعت زوجة فيشته للعمل كممرضة وأصيبت بالحمى فراح يعتني بها نهارا ويلقي محاضراته في الجامعة مساء وانتقلت إليه العدوى منها، فعاشت هي، ومات في 27 يناير 1814· وبعد ذلك بخمس سنوات ماتت فدفنت إلى جواره على وفق العادة الطيبة القديمة في الدفن التي تسمح للعاشقين والزوجين أن يدفنا متجاورين رمزا لأنهما أصبحا بعد الموت كيانا واحدا (حتى لو لم يجتمع منهما سوى الشعر والعظام)
2 - شيلنج SCHELLING: من 1775 إلى 1854 م(ملحق/1284)
رغم أن فيشته اعترف بوجود عالم خارجي (عالم خارج الأنا) إلا أن فلسفته كانت غالبا ما تتحاشى ذكره (أي ذكر هذا الوجود خارج الذات) إلا من خلال مروره (وتنقيته) من خلال الإدراك (البشري) · أما فريدريش فيلهلم جوزيف فون شيلنج فرغم حرف الجر ( Von) الدال على أرستقراطيته، فقد كان - بالفعل - قد قبل الطبيعة nature ووحدها مع العقل في كيان مشترك يكون الله أو بتعبير آخر كان الله عنده هو الطبيعة والعقل مندمجين في كل واحد·
لقد كان شيلنج ابنا لقس بروتستانتي (من أتباع لوثر) في فيرتمبرج Wurttemberg، وكان أبوه من ذوي الممتلكات، وراح يعد ابنه ليشغل منصبا كهنوتياً (ليكون أحد رجال الدين)، فألحقه بكلية اللاهوت في توبنجن Tubingen، وهناك أصبح شيلنج وهولدرلين Holderlin وهيجل يشكلون مجموعة نشيطة من الدارسين الراديكاليين الذين احتفوا بالثورة الفرنسية وأعادوا تعريف الإله (أي تحديد معنى جديد له) وأقاموا فلسفة جديدة قائمة على المزج بين أفكار سبينوزا وكانط وفيشته· وأضاف شيلنج قصيدة بعنوان عقيدة إبيقوري The Creed of an Epicurean ويمكن أن يتنبأ المرءُ مطمئناً أن هؤلاء الشباب اليافعين سيكون اتجاههم محافظاً يحترم القديم·
واشتغل لبضع سنين مدرساً، مثل فيشته وهيجل ونشر وهو في العشرين مقالاً عن أسس الفلسفة (1795) لفت أنظار فيشته وضمن لشيلنج دعوة لتدريس الفلسفة في يينا، وكان وقتها في الثالثة والعشرين· وكان راضياً - لفترة - بوصف نفسه بأنه أحد أتباع فيشته· وأنه يقبل العقل كحقيقة وحيدة، لكن في يينا Jena، وبعد ذلك في برلين انضم للرومانسيين وأتاح لنفسه نشوة عابرة:(ملحق/1285)
لن أطيق هذا طويلاً، لابد أن أمارس الحياةَ بشكل أعمق، لا بد أن أترك حواسي حرّة - فهذه الحواس هي - تقريباً - أساسي الذي خرجت منه (اشتُقِقتُ منه) على وفق ما تقول به النظريات الكبرى التي تتناول ما وراء الخبرة البشرية transcendental theories ولكنني أيضاً سأعترف الآن كيف أن قلبي يثب والدماء الحارة تندفع في عروقي·· ليس لي دين إلا هذا، وهو أنني أحب الرُّكب الجميلة التكوين والصدور الناهدة والخصور النحيلة والورود التي تفوح عطراً، والإرضاء الكامل لرغباتي، وتلبية كل حب أطلبه، وإذا كان لا بد أن يكون لي دين (رغم أنني أستطيع أن أعيش بدونه بسعادة أكثر) فلا بد أن يكون هذا الدين هو الكاثوليكية في شكلها القديم حيث كان القسس والمصلون من غير رجال الدين يعيشون معاً·· ويمارسون يومياً في بيت الرب House of God المرحَ الصاخب ويعربدون·
ومن المعقول أن يكون هذا العاشق المتحمس للحقيقة المادية الملموسة مروِّعاً للهالة المثالية المحيطة بفيشته في يينا Jena، والتي ظلت - أي هذه الهالة - وراءه حتى بعد أن غادر يينا إلى برلين، لقد عرَّف شيلنج قضية الفلسفة الأساسية بأنها المأزق الواضح بين المادة والعقل، إذ كان من المستحيل (من وجهة نظره) "أن نفكر في أن أحدهما ينتج عنه الآخر"، وانتهى (وهو في هذا يعود مرة أخرى إلى فكر سبينوزا) إلى:
"أنَّه أفضل مخرج من هذا المأزق هو أن نفكر في المادة والعقل كوجهين لحقيقة واحدة معقدة ولكنها متحدة فكل فلسفة تقوم على العقل الخالص وحده هي فلسفة سبينوزية"
(نسبة إلى سبينوزا Spinoza) أو ستصبح كذلك، لكن هذه الفلسفة في رأي شيلنج منطقية على نحو صارم لكن بشكل يُفقدها الحيوية
"إن الإدراك الدينامي للطبيعة لابد أن يُحدث تغييراً أساسياً واحداً في فكر سبينوزا ·· فالإسبينوزية صارمة صرامة شديدة كتمثال بيجماليون Pygmalion تحتاج إلى أن يكون فيها روح"
تلك هي أفكار شيلنج كما عرضها في مقاليه: صورة مبدئية لنظام الفلسفة الطبيعية (1799) ومقال آخر عن المثالية (1800) ·(ملحق/1286)
واقترح شيلنج ليعرف هذه التحديات الفلسفية المنطوية على الثنائية dualistic monism أكثر وضوحاً - أن نفكر في القوة force أو الطاقة energy كجوهر داخلي (باطني) للمادة والعقل· وفي أي من الحالتين لا نعرف إلى أي منهما (المادة أو العقل) ترجع هذه القوّة، لكن ما دمنا نرى هذه (القوة) أو (الطاقة) تظهر في الطبيعة بأشكال تتطور دائماً لتكون أكثر دقّة وحذقا - تنافر الجزئيات، إحساس النبات أو تحرك زوائد الأميبيا (الكائن وحيد الخلية) لتتلمس طريقها أو تتعلّق بها، وحركة الشمبانزي السريعة الذكية، والعقل الواعي للإنسان - فإنه يمكننا استنتاج أن الله المهيمن على كل شيء ليس هو المادة فقط وليس هو العقل فحسب وإنما هو وِحْدة بينهما في بانوراما باهرة من الأشكال والقوى· لقد كان شيلنج هنا يكتب شعراً وفلسفة في آن واحد، وقد وجد وردزورث Wordsworth وكولردج Coleridge فيه روحاً مماثلة لهما تسعى لبناء عقيدة جديدة لأرواح سيطر عليها العلم لكنها تتطلَّع بشوق إلى إله·
وفي سنة 1803 غادر يينا Jena ليدِّرس في جامعة فيرتسبورج Wurzburg المفتتحة حديثاً فواصل كتابة مباحثه الفلسفية التي كان ينقصها قوة فلسفته الطبيعية وفعاليتها· وفي سنة 1809 ماتت زوجته مُلهمة حياته كارولين، فكأنها أخذت معها نصف حيويته، وتزوج مرة أخرى (1812) وراح يكتب بشكل متقطع ولكنه لم ينشر شيئاً بعد سنة 1809 فقد أصبح هيجل Hegel في هذه الفترة هو سيد الفلسفة بغير منازع أو بتعبير آخر أصبح هيجل هو نابليون الفلسفة الذي لا يجرؤ أحد على تحدّيه·(ملحق/1287)
وفي سِنِي انحداره راح شيلنج يجد سلواه في الاتجاه الباطني (الصوفية mysticism) وفي شروح وتفسيرات واقعة وراء نطاق الخبرة البشرية للتناقص الظاهري بين إله محبوب (ومُحِب) وطبيعة حمراء الأسنان والمخلب وبين جَبْرية العلم من ناحية وحرية الإرادة (الاختيار) اللازمة للمسؤولية الأخلاقية· وأخذ عن جاكوب بوهم Jakob Bohme (1575 - 1642) فكرة أنَّ الله نفسه يتنازعه الخير والشر أو بتعبير آخر هو نفسه ساحة معركة بين الخير والشر وعلى هذا فالطبيعة (بدوْرها) تتذبذب بين موقف الكفاح لفرص النظام من ناحية والاستسلام للفوضى (الهيولى chaos) من ناحية أخرى، وفي الإنسان نفسه شيء أساسي غير مقبول عقلياً· لكن في النهاية كما يعد شيلنج قراءهُ سينتهي كل شر وستنجح الحكمة الإلهية لتحويل جرائم البشرية وسخافاتها إلى الخير ·
لكن شيلنج لم يعد مرتاحاً لفترة طويلة وهو يرى هيجل يجمع فوق رأسه كل تيجان الفلسفة، ورغم أن شيلنج عاش بعد موت هيجل ثلاثة وعشرين عاماً، إلا أن تلاميذ هيجل ظلوا بعد موته يقسمون بينهم تراث أستاذهم (الديالكتيكية dialectical) بين الشيوعية ورد الفعل· وفي سنة 1841 وجّه الملك فريدريك وليم الرابع الدعوة لشيلنج لشغل كرسي الفلسفة في جامعة برلين، وكان الملك يأمل أن يستطيع شيلنج المحافظ وقف الاتجاه الراديكالي·
لكن شيلنج لم يستطع جذب تلاميذه واندفعت الأحداث في طريقها للثورة، فكان لابد من التخلّي عن الفلسفة·
ومع هذا فقد كان وردزورث بالفعل قد صاغ أفكار شيلنج الحيّة عن وحدة الوجود في أشعار فخمة، وعزا إليه كولردج - مع استثناءات معينة أهم انتصارات الثورة الكانطية في الفلسفة وبعد موت شيلنج بنصف قرن قال هنري برجسون - باعث المذهب الحيوي من جديد - "إن شيلنج واحد من أعظم الفلاسفة في كل العصور" ولو كان هيجل قد سمع هذا الكلام لاعترض عليه·
3 - هيجل HEGEL: من 1770 إلى 1831 م(ملحق/1288)
عندما قرأ الفيلسوف شُوبِنْهَاوَر كتابات كانط، كتب في سنة 1816 كان الناسُ مضطرين للنظر فيما هو غامض على أنَّه ليس دائماً - بلا معنى· لقد كان يظن (أي شوبنهاور) أنَّ فيشته وشيلنج هما الميزة الكبيرة لنجاح كانط مع الغموض، لكن شوبنهاور واصل كلامه قائلاً:
إنَّ ذروة السخف في أن يكرس المرء هدفه لخدمة اللا معنى وأن يجمع معاً بين ما لا معنى له وحشدٍ من الكلمات المتسمة بالإسراف والمبالغة، ولم نكن نعرف كل هذا قبل أن يستخدمه هيجل إلا في مستشفى المجانين، لكنه وصل إلى هيجل أخيراً وأصبح أداةً لأكثر أنواع الغموض والتعمية جمالاً مما لم نسمع به من قبل، والنتيجة ستظهر بشكل لا يُصدق للأجيال القادمة، وستبقى دليلاً قائماً على الغباء الألماني·
3/ 1 - تقدّم هيجل الشّاك
كان جورج فيلهيلم فريدريش هيجل حيا ومزدهراً عندما نُشر هذا اللحن الحزين (1818) وعاش بعد ذلك ثلاثة عشر عاماً· وهو ابن أسرة من الطبقة الوسطى من شتوتجارت متدينة تديناً شديداً، ورهنت الأسرة أملاكها لترسل ابنها جورج (هيجل) لدراسة اللاهوت في معهد توبنجن Tubingen اللاهوتي (1788 - 1793) وكان هناك الشاعر هولدرلين Holderlin، ووصل إليها شيلنج في سنة 1790، وقد استاء كلاهما من جهل مدرسيهم ورحبوا بانتصارات فرنسا الثورية، وطوّر هيجل اهتماماً خاصاً بالدراما الإغريقية، وكان امتداحه للوطنية الإغريقية مقدمة لفلسفته السياسية في شكلها الأخير:
"بالنسبة للإغريقي كانت فكرة أرض آبائه (الدولة) هي الحقيقة الأسمى غير المنظورة التي يعمل من أجلها·· وكانت ذاتيته (أوفرديته individuality) لا شيء بالمقارنة بهذه الفكرة (فكرة أرض آبائه)، فأرض الآباء تعني دوامه وبقاءه واستمراره حياته·· فالإغريقي لم يكن يرغب أو يدعو لنفسه بحياة الخلود كفرد، فهذا لم يخطر له على بال"·(ملحق/1289)
وبعد أنّ تخَرّج حاصلاً على درجة علمية في اللاهوت، أزعج والديه برفضه الدخول في سلك الكهنوت· وراح يعولُ نفسه بتقديم دروس خصوصيّة في بيرن Bern في منزل أحد الأرستقراطيين، وكان في هذا المنزل مكتبة عامرة، فراح يقرأ في هذه المكتبة (وبعد ذلك في إحدى مكتبات فرانكفورت) كتابات ثيوسيديد Thucydides ومكيافيللي Machiavelli وهوبز وسبينوزا وليبنز ( Leibniz) ومونتسكيو ولوك وفولتير وهيوم Hume وكانط، وفيشته، فكيف كان يمكن لإيمانه المسيحي اُلْمصَّل أَنْ يَصْمد أمام فيض أفكار هذه الثُّلّة من المتشكِّلَين؟ إن التمرَّد الطبيعي لشاب متحمس نشط وجد ساحة للعربدة في مهرجان وثنى (المقصود في أفكار غير متفقٍة مع المسيحية التقليدية) ·
وفي سنة 1796 ألَّف كتابه (حياة يسوع Das Leben Jesu) الذي ظلَّ غير منشور حتى سنة 5091· لقد كان كتابه هذا على نحوٍ من الأنحاء إرهاصاً بكتاب آخر يحمل الاسم نفسه (حياة يسوع) (1835) الذي بدأ به ديفيد شتراوس David Strauss - أحد أتباع هيجل - هجوما ضاريا على قصّة يسوع (المسيح) كما وردت في الإنجيل· لقد وصف هيجل يسوع بأنه ابن يُوسف ومريم، ورفض المعجزات المنسوبة للمسيح، كما رفض تفسيرها تفسيرا طبيعيا· لقد صوَّر المسيح (كمصلح) يُدافع عن الوعي الفردي ضد القواعد الكهنوتية، وخلُص إلى أَنّ المتمرِّد المصلوب (يقصد المسيح عليه السلام) قد تمَّ دفنه، ولم يُحدِّثْنا عن قيامته· وقدم لنا وصفا للإله الذي يجب الإيمان به حتى النهاية: "العقل الخالص الذي لا تحدّه حدود هو الله Deity نفسه"·(ملحق/1290)
وفي سنة 1799 مات والد هيجل تاركاً له 3154 فلورين· لقد كتب إلى شيلنج يطلب مشورته عن مدينة ذات مكتبة عامرة و ein gutes Bier فاقترح عليه شيلنج مدينة يينا Jena وعرض عليه الإقامَة في مقر إقامته، وأتى هيجل في سنة 1801 وسُمح له بإلقاء محاضرات في الجامعة على ألاّ تدفع الجامعة له راتبا، وإنما يتلقَّى أجره من طلبته الذي يجب ألاَّ يزيدوا عن أحد عشر طالبا (ويُعرف المحاضر الذي يعمل على وفق هذا النظام في الجامعات الألمانية باسم Privatdozent) وبعد ثلاث سنوات من هذه المهمة الشّاقة تمَّ تعيينه (أستاذا في مهمّة خاصة) أو بتعبير آخر أستاذاً مكلّفاً Professor extraordinarius، وبعد عام أصبح له لأول مرة دخل ثابت (مائة تالر Thalers) وكان هذا بناء على تدخّل جوته · ولم يكن أبداً مدرساً ذا شعبية، لكنه في يينا (وبعد ذلك في برلين) أثَّر في عدد من الطلبة فارتبطوا به ارتباطا خاصا مكَّنهم من التوغّل إلى ما وراء القشرة الظاهرية الصعبة للغته للوصول إلى أسرار فكره المُفعم نشاطاً وحيوية·
وفي سنة 1801 بدأ في كتابة مقال مهم عن دستور ألمانيا Kritik der Verfassung Deutschlands لكنه لم يُكمل كتابته (أي تركه منقوصا) ولم ينشر هذا العمل إلاّ في سنة 1893· لقد راح وهو يتأمل أحوال ألمانيا يتذكر الكيانات الصغيرة التي كانت تتكوَّن منها إيطاليا في عصر النهضة مما أدّى إلى وقوعها لُقمة سائغة في أفواه الغزاة الأجانب، كما راح يتذكر نصائح مكيافيللي لأمير قوى كي يهوى بمطرقته على تلك الكيانات الإيطالية المتفرقة ليجعل منها أمّة (واحدة) · ولم يكن هيجل يُعِّول على الإمبراطورية الرومانية المقدّسة وتنبأ بانهيارها الباكر:
إنّ ألمانيا لم تعد دولة··· فمجموعة من البشر لا يمكنها أن تسمّى نفسها دولة إلاَّ إذا ترابط أفرادها معا للدفاع المشترك عن كل ما يخص هذه المجموعة البشرية· لقد دعا إلى توحيد ألمانيا لكنه أضاف قائلاً: ولن يكون هذا أبداً نتيجة فكر أو حماسة، أنَّه لا يكون إلاَّ بالقوّة··· إن جماهير الشعب الألماني لابد أن تتجّمع لتصير كُتلة واحدة لمواجهة أحد الغزاة·(ملحق/1291)
ومن المفترض أنه لم يكن يفكر في نابليون آنئذ، لكن عندما احتاج نابليون (1805) النمساويين والروس في أوسترليتز Austerlitz ربما يكون هيجل - ساعتها - قد تساءل عمّا إذا كان هذا الرجل (نابليون) هو الذي عينَّه القدر لتوحيد أوربا كلها وليس ألمانيا وحدها· وفي العام التالي، عندما كان الجيش الفرنسي يقترب من يينا Jena وبدا مستقبل أوربا مُزَعْزَعاً غير واضح المعالم، ورأى هيجل نابليون يمتطى صهوة جواده في شوارع يينا (13 أكتوبر 1806) كتب لصديقه نيتهامر Niethammer:
" لقد رأيتُ الإمبراطور راكباً يتفقّد المدينة· لقد بدا كأنّه روح العالم· ياله من إحساس رائع حقا أن يرى المرءُ مثل هذا الفرد (الإمبراطور) متمركزا هنا في بُقعة بعينها ممتطيا حصانا بعينه، ومع هذا فهوُ منتشر ممتد عبر العالم، ومن هذه البقعة يحكمه (يحكم العالم) ··· أن يحدث هذا التقدم من يوم الخميس إلى يوم الأحد، فهذا محال إلاّ إذا كان على رأس المتقدّين رجل فذ غير عادي، إننَّا لا نملك غير الإعجاب به··· إن الجميع الآن يتمنون للجيش الفرنسي حظّا طيبا"·
وفي اليوم التالي ساد الجيش الفرنسي، وبدأ بعض الجنود الفرنسّيين ينهبون المدينة بعيدا عن عيني روح العالم (الإمبراطور) ودخلت إحدى مجموعات الجنود غرفة هيجل المستأجرة· وعبّر الفيلسوف عن أمله أن رجلا مميّزا على هذا النحو (إشارة إلى قائد المجموعة الذي يحمل فوق سترته العسكرية شارة التميز العسكري المعروفة باسم Cross of the Legion Honor) سيعامل باحثا ألمانيا بسيط معاملة كريمة· وتحلّق الغزاة (الجنود السابق ذكرهم) حول زجاجة نبيذ لكن انتشار السلب، أرعب هيجل فلاذ بمكتب نائب رئيس الجامعة·(ملحق/1292)
وفي 5 فبراير 1807 أنجبت كريستينا بوركهاردت Christina Burkhardt زوجة صاحب الفندق الذي يقيم به اعترف به الأستاذ وهو غائب العقل (في حالة غيبوبة) أنه واحد من أعماله غير المنسوبة إليه (التي لم يكتب اسمه عليها) · ولأن دوق ساكس فيمار Saxe-Weimar كان يجد صعوبة في تمويل كلية يينا (هيئة التدريس بها)، فقد وجد هيجل أن الوقت أصبح مناسبا ليجرّب مدينة أخرى وامرأة أخرى وعملاً آخر، فغادر يينا في 20 فبراير ليصبح محررا لصحيفة Bamberger Zeitung· وفي خضم الاضطرابات نشر (في سنة 1807) كتابه Phanomenologie des Geistes، فلم يبدُ أن أحداً تشكك في أن هذا العمل سيصبح في وقت لاحق هو أهم أعماله، وهو الإسهام الفلسفي الأكثر صعوبة، والأكثر إسهاما في تكوين منطلقات فكرية فيما بين كانط وشوبنهَاوَر·
وغدر هيجل بامبرج Bamberg (1808) لما سبّبته له الرقابة الحكومية من إزعاج، ليكون ناظر مدرسة في نورمبرج Nuremberg، وراح يعمل في هذا المجال الجديد بإخلاص وضمير حي، يدرّس ويوجّه لكنه كان دوماً توّاق للعمل في جامعة مميزة تتيح له منصبا علميا آمنا يركن إليه· وفي 16 سبتمبر 1811 - وكان قد بلغ الواحدة والأربعين - تزوّج ماري فون توشر (توخر) Marie von Tucher ابنة سيناتور نورمبرج ذات العشرين ربيعا· وبعد الزواج بفترة يسيرة فاجأت كريستينا بوركهاردت العروسين بزيارة قدمت لهما فيها لودفيج Ludwig ابن هيجل ذي السنوات الأربع· وتقبَّلت زوجة هيجل الوضع بشجاعة وتبنت الطفل وجعلته بين أفراد أسرتها·
ولأن هيجل كان يحلم بمنصب في برلين فقد قبل في سنة 1816 دعوة من جامعة هايدلبرج Heidelberg ليكون أستاذ الفلسفة الأول بها· وبداً يدرّس لخمسة طلاب، سرعان ما زادوا ليصبحوا عشرين قبل انتهاء الفصل الدراسي·(ملحق/1293)
ونشر وهو في المنصب موسوعة العلوم الفلسفية (1817)، وكان هذا العمل أكثر مدعاة لإطراء المثقفين وحكومة برلين من عمله السابق ( Logik) الذي كان قد سبق نشره في سنة 1812· وسرعان ما دعاه وزير التعليم البروسي ليشغل كرسي الفلسفة الذي ظل شاغراً منذ موت فيشته (1814) · لقد كان هيجل قد بلغ الآن السابعة والأربعين من عمره، فراح يساوم حتى حصل أخيرا على المكافأة التي طال انتظاره لها والتي عوّضته عّما فات·
لقد طلب بالإضافة إلى الراتب السنوي البالغ ألغى تالر Thaler مبلغاً آخر يعوّض غلاء الأسعار والإيجارات في برلين، ومبلغا للأثاث الذي اشتراه والذي عليه أن يبيعه الآن بثمن أقل من الثمن الذي اشتراه به (أي يبيعه بالخسارة) ومبلغاً كمصاريف انتقال (بدل سفر) إلى برلين مع زوجته وأطفاله، وأكثر من هذا فقد كان عليه أن يحب وفرة بعينها في الإنتاج وكان كل هذا مضموناً ففي 22 أكتوبر 1818 بدأ هيجل في جامعة برلين تولِّي منصب الأستاذية حتى وفاته· وفي هذه السنوات الثلاث عشرة عُرِفت محاضراته بالغموض لكنها أخيراً أصبحت ذات معان عميقة فكَثُر مستمعوه شيئاً فشيئاً حتى سعى إليه الطلبةُ من مختلف أنحاء أوروبا بل ومن خارج أوروبا· إنه الآن يقدم لنا أكثر النظم الفكرية اكتمالاً وتأثيراً في التاريخ الأوروبي بعد كانط·
3/ 2 - المنطق كميتا فيزيقا Logic as Metaphysics
لقد بدأ هيجل بالمنطق - ليس بمعناه الذي نعرفه اليوم كقواعد للاستنتاج، وإنما بمعناه القديم والكلاسيكي كنسبة ratio أو عرض للأسباب والمبادئ أو المعنى الأساسي لأي شيء وما ينطوي عليه من عمليات، وذلك على نحو ما نستخدم مصطلحات مثل الجيولوجيا لنعني بهما معنى الأرض وما تنطوي عليه من عمليات أو مصطلح البيولوجيا biology لنعني به معنى الحياة وما تنطوي عليه من عمليات أو مصطلح السيكولوجيا psychology لنعني به معنى العقل أو النفس وما تنطوي عليه من عمليات· وعلى هذا فقد كان المنطق بالنسبة إلى هيجل يدرس معنى أيِّ شيء وما ينطوي عليه من عمليات·(ملحق/1294)
وبشكل عام فإنه يترك العمليات للعلم، كما أن العلم يترك المعنى للفلسفة· إنه يقترح أن يحلّل لا الكلمات بطريقة عقلية (للخلوص منها باستنتاجات) وإنما السبب أو العقل أو المنطق في الحقائق realities وسيعطي لمصدر هذه الأسباب اسم الرب أو الله God وهو في هذا يشبه إلى حد كبير الصوفيين (ذوي الاتجاه الباطني) القدامى الذين يجعلون الرب the deity واللوجوس Logos ( المبدأ العقلاني) شيئاً واحداً - منطق العالم وحكمته·
فالعقل المدرِك (الواعي) يُضفي معنى للأشياء بدراسة أبعادها في المكان والزمان وعلاقاتها بالأشياء الأخرى المُدركة أو المُتذكَّرة· وكان كانط قد أطلق على مثل هذه العلائق اسم المقولات Categories، وعدَّد منها اثنتي عشرة مقولة رئيسية: الوحدة والتعددّية والكلية وأيضاً الحقيقة والنقيض والقَصْر، والسبب والنتيجة والوجود والعدم، والاحتمال والحتم·
وأضاف هيجل مقولات أخرى كثيرة: الموجود المطلق، والانجذاب والتنافر، والتشابه والاختلاف·· فكل شيء في نطاق خبرتنا هو نسيج معقَّد من مثل هذه العلاقات، فهذه المنضدة - على سبيل المثال - لها مكان خاص، وعمر خاص وشكل خاص وتحمُّل خاص ولون خاص ووزن خاص ورائحة خاصة وجمال خاص، وبدون هذه العلاقات الخاصة تصبح المنضدة مجرد فوضى غامضة تُعطى مشاعر متنافرة منفصلة، أمّا إن وجدت هذه العلاقات استطاعت الحواس إدراكها كموجود (مُدْرَك) موحَّد· وهذا الإدراك في ضوء ما تعيه الذاكرة، وفي ضوء فهم الغرض تُصبح هناك فكرة· ومن هنا فإن العالم - بالنسبة إلى كل منا - هو أحاسيسنا (الداخلية والخارجية) حولتها المقولات (بالمعنى السابق) التي مزجتها إلى أفكار ومُدركات مختلطة بالذكريات ومتأثرة بإرادتنا·
والمقولات ليست أشياء، وإنما هي طرائق وأدوات للفهم تقدم الشكل والمعنى لأحاسيسنا· إنها المقولات تكون النسق العقلي والمنطق والتكوين والسبب لكل شعور أو فكرة أو شيء· إنها جميعاً تكوِّن المنطق والعقل والأسباب ولوجوس الكون Logos ( المبدأ العقلاني)، على وفق فهم هيجل·(ملحق/1295)
والوجود الخالص Pure Being هو أبسط أنواع المقولات وأكثرها كونية فعن طريق الوجود الخالص نحاول فهم خبرتنا - أعني الوجود كما ينطبق على كل الأشياء أو الأفكار دون تخصيص· وكونية Universality هذه المقولة الأساسية هي أنها مقدّرة ومحتومة its fatality: فبافتقادها أي شكل أو سمة لا تستطيع أن تمثل أي شيء موجود، ومن هنا فإن فكرة الوجود الخالص أو الكينونة الخالصة Pure Being هي من حيث نتائجها أو من حيث مفعوليتها مساوية للمقولة المناقضة لها - ونعني بها العدم أو عدم الوجود أو عدم الكينونة أو اللاشيء Nichts، ومن هنا فهما بالفعل (الوجود والعدم) ممتزجان، فما كان غير موجود (غير كائن) يُضاف للوجود (لما هو كائن) Being ويجرّده من لا حتميته أو يجرده من كونه محضاً خالصاً، فالوجود والعدم Being or nonbeing يصبحان على أية حال أمراً سالباً على نحو ما أو تحتوي الفكرة على شيء من السَّلب· أما مقولة الصَيرورة Becoming الغامضة ( Werden) فهي المقولة الثالثة، وهي أكثر المقولات فائدة، فبدونها لا يمكن إدراك أي شيء وهو يحدث أو يتخذ شكلاً· وتتبع كل المقولات اللاحقة النسق نفسه أي أنها تظهر من المزاوجة بين الفكرة ونقيضها·
من هذا التلفيق الهيجلي Hegelian Prestidigitation نشأ الكون (مثل آدم وحواء) من اتحاد أو اقتران (بين فكرتين) مما يعيد للذاكرة فكرة العصور الوسطى القائلة بأن الله خلق الكون من اللاشيء (من العدم) · لكن هيجل حاجّ بأن مقولاته هذه ليست أشياء، وإنما هي طرائق لإدراك الأشياء، ولجعل سلوكها أو تحركها مُدْركاً أو مفهوماً، ويمكن التنبؤ به غالباً، بل ويمكن أحياناً السيطرة عليه·(ملحق/1296)
لقد طلب منا بعض التقييد (التكييف) في معنى الفكرة ونقيضها (تلك الفكرة المقدسة في المنطق القديم) وهو أن A لا يمكن أن تكون إلا A · حسناً جداً لكن A قد لا تصبح A, فالماء قد يصبح ثلجاً أو بخاراً· فكل حقيقة - كما أدركها هيجل - هي في عملية متطورة من المواءمة أو الملائمة· إنها - أي الحقيقة reality ليست في حالة وجود استاتيكي (ثابت) a static Parmenidean world of Being وإنما هي في حالة سيّالة متحوّلة· فكل شيء ينساب· ففي رأي هيجل أن كل حقيقة وكل فكر وكل شيء وكل تاريخ ودين وفلسفة هي جميعاً في حالة تطور مستمر ليس من قبيل الانتخاب الطبيعي، وإنما من خلال تطور التناقض الداخلي (الفكرة ونقيضها) وما يتمخض عنه من نتائج، ومن ثم التقدم نحو مرحلة أو حالة أكثر تعقيداً·
هذا هو الديالكتيك dialectic الهيجلي الشهير (وهو دياليكتيك فيشته سابقاً، وديالكتيك تعني حرفياً الحوار) · إنه ديالكتيك الفكرة thesis ونقيضها antithesis والترابط (الجمع بينهما - الجمعية) Synthesis ( أي ما يتمخض عن الفكرة ونقيضها من فكرة جديدة): فالفكرة أو الموقف ينطوي في باطنه على نقيضه ويطوّره ويناهضه ثم يتحد معه ليتخذ وَإيَّاه شكلاً جديداً· والمناقشة المنطقية لابد أن تأخذ شكل البناء الديالكتيكي من عرض ومعارضة وتوفيق· والتداول أو التشاور الحسّاس لابد أن يكون على هذا النحو - وزن الأفكار والرغبات بميزان التجربة· والمقاطعة أو التداخلات في أثناء المناقشة هي كما أصرّت مدام دي ستيل هي حياة الحوار، لكنها تصبح موتاً له (للحوار) إذا لم نجد للتناقض حلا توفيقيا، أو كانت الفكرة النقيضه غير وثيقة بالموضوع، فالترابط - الجمعية Synthesis ( أي الفكرة الناتجة عن الفكرة ونقيضها) يرفض الإثبات والنفي، وتتيح مكاناً لعناصر من الموقفين (الفكرتين) المثبتة والنافية·(ملحق/1297)
وكارل ماركس - تلميذ هيجل - كان يرى أنَّ الرأسمالية تحوي في طياتها بذور الاشتراكية، بمعنى أن الشكلين الاقتصاديين المتنافسين لا بد أن يتصارعا حتى الموت، وأن الاشتراكية لابد أن تسود، وتنبأ الهيجليون الأكثر تمسكاً بفكر هيجل أن الرأسمالية والاشتراكية سيتحدان معاً كما نرى في أوروبا الغربية الآن· وكان هيجل أكثر الهيجليين تطرفاً· لقد راح يتتبع المقولات - ليُظهر كيف أن كلا منها - بالضرورة - ناتج عن فكرة ونقيضها· ونظم حججه وبراهينه، وحاول أن يقسم كل عمل من أعماله في شكل ثلاثي (الفكرة ونقيضها والترابط بينهما) وطبق ديالكتيكه على الحقائق realities كما طبقه على الأفكار· فأظهر أن التناقض والصراع والترابط Synthesis تظهر في السياسة والاقتصاد والفلسفة والتاريخ·
لقد كان محققا أو واقعيا realist بالمعنى الوسيط (المعنى الذي كان سائدا في العصور الوسطى): فالكون أكثر حقيقة من أي من أجزائه (ذراته) التي ينطوي عليها: فالإنسان يشمل كان البشر من كان منهم حيا أو من أغرق في الموت، والدولة أكثر حقيقة أو أعمق وجودا realer، وأكثر أهمية وأطول عمرا من أي مواطن من مواطنيها وللجمال قوة خالدة يبقي حتى ما مات، فتظل بولين بونابرت Pauline Bonaparte ويبقى الجمال حتى لو أن أفروديت Aphrodite لم تكن قد وجدت في يوم من الأيام· وأخيرا وجدنا الفيلسوف الملزم (بكسر الزاي) يحمل كوكبة مقولاته على المقولة الأقوى والأشمل والأبقى· إنها الفكرة المجردة التي تتمثل فيها كونية كل شيء أو فكر أو عقل أو تكوين أو قانون، إنها الفكرة التي تمسك بالكون، إنها اللوجوس Logos أو الكلمة التي تجلل الجميع وتحكمه·
3/ 3 - العقل Mind(ملحق/1298)
كتب هيجل كتابه The Phanomenologie des Geistes في يينا بينما كان جيش نابليون الأساسي يقترب من المدينة (يينا) · ونشر الكتاب في سنة 1807 عندما كان أبناء الثورة الفرنسية يدمرون بروسيا بلا رحمة وبدوا وكأنهم يثبتون أن العقل البشري قد ضل طريقه إلى الحرية في تلمسه التاريخي هذا لطريقه من الملكية إلى الإرهاب إلى الملكية مرة أخرى· وقرر هيجل أن يدرس عقل الإنسان في ظواهره المختلفة كإحساس وإدراك ومشاعر ووعي وذاكرة وخيال ورغبة وإرادة ووعي ذاتي وتفكير، فربما يستطيع في نهاية هذا الطريق أن يكتشف سر الحرية· ولم يتهيب من هذا البرنامج فقرر أن يدرس أيضا العقل الإنساني من خلال دراسته للمجتمعات والدولة، وفي الفن والدين والفلسفة· وكانت نتيجة بحثه هي تحفته الخالدة العامرة بالبلاغة والغموض، وكان لها تأثير في ماركس Marx وكيركجارد Kierkegaard وهيدجر Heidegger وسارتر Sartre بشكل أو آخر·
لقد بدأت الصعوبة مع كلمة Geist التي نشرت سحابا من الغموض واللبس على الروح والعقل والنفس ( Ghost and Mind & Spirit & soul) وسوف نترجمها عادة بمقابل إنجليزي واحد هو mind ( عقل أو نفس) لكن في بعض السياقات سنجد من الأفضل استخدام كلمة روح spirit كما في عبارة روح العصر Zeitgeist· والجايست Geist ( العقل أو النفس) ليس جوهراً منفصلا أو وجودا (أو كينونة) كامنا خلف النشاطات النفسية (السيكولوجية)، بل إنه هو هذه النشاطات نفسها· فليس هناك ملكات عقلية أو نفسية faculties منفصلة وإنما هناك فقط العمليات الفعلية التي تحول بها التجربة إلى فعل action أو فكر·(ملحق/1299)
وقد جعل هيجل الجايست (العقل أو النفس) في واحد من تعريفاته الكثيرة مساويا للوعي· والوعي بطبيعة الحال هو سر الأسرار لأنه - أي الوعي - يشبه العضو الذي يفسر التجربة ولكنه لا يستطيع أن يفسر نفسه· ومع هذا فإنه - أي الوعي - أكثر الحقائق جدارة بالملاحظة والإدراك بالنسبة إلينا· والمادة Matter التي قد تكون خارج العقل تبدو أقل غموضا رغم أن معرفتنا بها أقل مباشرة· وهيجل يتفق مع فيشته في أننا نعرف الأشياء فقط بقدر ما هي جزء منا كموضوعات مدركة (كموضوعات يمكن إدراكها)، لكنه - أي هيجل - لم يشكك أبدا في الكون الخارجي (الموجود خارج النفس أو العقل)، فعندما يكون المدرك (بضم الميم وفتح الراء) كائناً آخر بتفاعله مع العقل، يصبح الوعي واعيا بذاته عن طريق التضاد (نقيض الفكرة) عندئذ تولد الأنا (الإيجو Ego) بشكل واع وتصبح مدركة (بشكل غير مريح) · إن الصراع (أو التنافس) هو سنة الحياة· ثم يقول فيلسوفنا الصارم إن كل إنسان يهدف إلى تدمير الآخر وموته ويظل الصراع حتى يقبل أحد الطرفين التبعية أو يكون مصيره الموت· وفي هذه الأثناء تتغذى الأنا Ego بالتجربة كما لو أنها مدركة أنها يجب أن تتسلح وتتقوى لخوض تجارب الحياة ومحنها·
كل هذه العملية المعقدة التي تحول بها المحسوسات إلى مدركات (بضم الميم وفتح الراء) تخزن ذلك في الذاكرة وتحولها إلى أفكار يتم استخدامها في تنوير الرغبات وتلوينها وخدمتها، تلك الرغبات التي تشكل الإرادة· فالأنا Ego هي بؤرة الرغبات وتعاقباتها ومكوناتها، فالمدركات الحسية والأفكار والذكريات والتفكير المتروي مثل الأذرع والسيقان هي أدوات للنفس أو الأنا Ego تبحث عن البقاء والمسرة والقوة· وإذا كانت الرغبة عنيفة مفعمة عاطفةً، فإنها تتعزز سواء كانت رغبة صالحة أم شريرة· ولا يجب أن ندين ما هو مفعم عاطفة وحماسا، فلا شيء عظيما في العالم يمكن تحقيقه دون عاطفة إنها قد تؤدي للألم لكن هذا الألم لا يساوي شيئا إن أسهم في الوصول إلى النتيجة المرغوبة· فالحياة لم توجد للسعادة وإنما لتحقيق الإنجاز·(ملحق/1300)
هل الإرادة (أي رغباتنا) حرة؟ نعم لكن ليس بمعنى عدم الخضوع للسببية أو مبدأ العلية أو القانون· إنها حرة بقدر ما تتفق مع قوانين الواقع ومنطقه، فالإرادة الحرة هي التي ينورها الفهم ويرشدها العقل· فلا يكون التحرر الحقيقي - بالنسبة إلى الأمة أو الفرد - إلا من خلال تطور الفكر، والفكر معرفة منظمة ومستخدمة· فالحرية في ذروتها هي في المعرفة بالمقولات (بالمفهوم الهيجلي السابق ذكره) وعملياتها في مسار الطبيعة وفي اتحادها مع الفكرة المجردة (بالمفهوم الهيجلي) Absolute idea التي هي الله، وتناسقها معه· وهناك ثلاثة مناهج يمكن للإنسان من خلالها أن يقترب من هذه الذروة من الفهم والحرية: عن طريق الفن والدين والفلسفة· وباختصار ففي كتابه علم وصف الظواهر Phanomenologie وفي كتابه الآخر الذي نشر بعد وفاته عن علم الجمال Vorlesungen uber Aesthetik) ( حاول هيجل أن يخضع الطبيعة وتاريخ الفن لفكرته ثلاثية الأبعاد (الفكرة ونقيضها والجمعية)، وكان عرضه في كتابه الثاني Vorlesungen أكثر تفصيلا· واتفق أن استوحى معلومات مدهشة عن العمارة والنحت والرسم والموسيقى، ومعلومات مفصلة عن مجموعة الأعمال الفنية في برلين ودريسدن وفيينا وباريس والأراضي المنخفضة· لقد شعر أن الفن هو محاولة عقلية (نفسية) - بالبديهة أو الحدس intuition أكثر منها بالمنطق والحجج العقلية (ومعنى قولنا بالحدس أو البديهة ينطوي على خبرة مباشرة وموسعة وإدراك حسّي مستمر)، والفن كمحاولة عقلية (نفسية) يقدم لنا معنى روحيا (معنويا) من خلال وسائط متعلقة بالحواس· لقد تعرف ثلاثة عهود للفن:
(1) الشرقي Oriental حيث وجدنا العمارة تعمل على تدعيم الحياة الروحية والرؤى الباطنية (الصوفية) من خلال المعابد الضخمة كما في مصر والهند·
(2) الكلاسيكيات الإغريقية الرومانية التي تحول المثل المنطقية والعقلية ممثلة في التوازن والهارمونية من خلال أشكال نحتية كاملة (متسمة بالكمال) ·(ملحق/1301)
(3) الرومانسية المسيحية التي راحت من خلال الرسم والموسيقى والشعر تعبر عن العواطف وتتوق إلى الروح الحديثة· وفي هذه المرحلة الثالثة (الرومانسية المسيحية) وجد هيجل بعض بذور التحلل والفناء وافترض أن أعظم مراحل الفن قد وصلت إلى نهايتها·
لقد أزعجه الدين وأربكه في أواخر أيامه لأنه (أي هيجل) اعترف بالدور التاريخي للدين في تعديل طبيعة الإنسان وفي دعم النظام الاجتماعي، لكنه (أي هيجل) كان شغوفا جدا بالعقل شغفاً يحول بينه وبين السعي للاهوت وفهم معاناة القديسين وعبادة رب متجسد Personal God والخوف منه· وناضل للتوفيق بين العقيدة المسيحية وديالكتيكه (الديالكتيك الهيجلي السابق: الفكرة، نقيض الفكرة، الجمعية) لكن قلبه لم يكن مطمئنا لهذا التوفيق، وقد فسر أكثر أتباعه تأثيرا أن رب هيجل هو عقل العالم (الكون) أو القانون غير المشخص (المتجسد) والخلود متمثلا في آثار كل لحظة بشرية على الأرض (وربما كان هذا الخلود بلا نهاية) وفي أواخر كتابه عن وصف الظواهر Phanomenologie استوحى حبه الحقيقي - إنه الفلسفة·
لم يكن مثله الأعلى هو القديس بل الحكمة sage· وفي غمار حماسه لم يعترف بأي حد للفهم الإنساني مستقبلا· إن طبيعة الكون ليس لها سلطان يمكنها من المقاومة الدائمة للجهود الشجاعة للذكاء البشري· فلابد أن تفتح آفاقها في النهاية لهذا الذكاء ولابد أن تفضي له بكل أعماقها وثرواتها لكن لابد قبل الوصول إلى هذه الذروة الفلسفية أن ندرك أن الكون الحقيقي ليس هو الذي نلمسه أو نراه وإنما هو العلاقات والقواعد التي تضفي عليه النظام والنبالة· إنه القوانين غير المكتوبة التي تحرك الشمس والنجوم وتكون العقل غير المشخص (غير المتجسد) للكون· إلى هذه الفكرة المجردة أو عقل الكون يقدم الفيلسوف ولاءه· إنه (عقل الكون) هو إلهه الذي يتعبد له، ويجد عنده حريته ورضاءه التام·
3/ 4 - الأخلاق والقانون والدولة(ملحق/1302)
في سنة 1821 قد لنا هيجل عملاً كبيراً آخر هو حول فلسفة الحق Grundlinien der Philosophie des Rechts والحق rechts كلمة جليلة مهيبة في ألمانيا· إنها كلمة تغطي الأخلاق والقانون كعنصرين لازمين بينهما صلة قربى لدعم الأسرة والدولة والحضارة· وقد تناول هيجل كل ذلك في مجلد فخم ترك تأثيرا دائما في شعبه الألماني·
كان الفيلسوف عند تأليفه هذا الكتاب قد دخل عقده السادس· لقد أصبح معتادا على الاستقرار مشبعاً بالرضا· وكان يتطلع لشغل منصب حكومي· وكان قد أصبح بالفعل محافظا وهو الاتجاه المناسب لهذه الحقبة من العمر· وأكثر من هذا فقد كان الموقف السياسي قد تغيرا كبيرا منذ أن احتفى (أي هيجل) بفرنسا وأعلن إعجابه بنابليون: كانت بروسيا قد هبت حاملة السلاح ضد نابليون وحاربت بقيادة بلوشر Blucher وأطاحت بالمغتصب، وأصبحت بروسيا الآن تعيد ترسيخ نفسها على أسس فريدريكية Frederican أساسها جيش منتصر وملكية إقطاعية كدعامتين للاستقرار بين شعب أصابه فقر مدقع بسبب تكاليف الحرب التي انتصر فيها، وعمته الفرضي وراوده الأمل في الثورة وكبحه الخوف منها·
وفي سنة 1816 نشر جاكوب فريز Jadob Fries الذي كان وقتها يشغل منصب أستاذ الفلسفة في جامعة يينا Jena بحثا عن الكونفدراليه الألمانية والدستور السياسي لألمانيا Von Deutschem Bund & Deutscher Staatsverfassung عرض فيه الخطوط العريضة لبرنامج إصلاح أرعب الحكومات الألمانية فأصدرت مراسم عنيفة في كونجرس كارلسباد (1819) وطرد فريز من منصبه كأستاذ للفلسفة وأعلن مسئولو الشرطة أنه خارج حماية القانون (مهدر الدم) ·(ملحق/1303)
لقد خصص هيجل نصف مقدمة كتابه (عن فلسفة الحق) لمهاجمة فريز Fries باعتباره مغفلاً خطرا واتهمه بأن مثال لضحالة التفكير· لقد كان فريز يرى "أن شعبا يحكمه حاكم شعبي أصيل لابد أن يتلقى كل ما يتعلق بالأمور العامة (التي تخص الشعب) من الشعب نفسه" وقد اعترض هيجل ذاكراً "أن هذا الرأي يعنى أن عالم الأخلاق سيترك للتقييم الذاتي (غير الموضوعي) وللأهواء· فبالعلاج الأسري البسيط الممثل في أن نعزو للشعور عمل العقل والفكر يمكن بطبيعة الحال أن نتخلص من كل الاضطرابات في البصيرة والمعرفة التي يوجهها التفكير المحفوف بالمخاطر" وصب الأستاذ الغاضب (فريز) جام غضبه واحتقاره على فلاسفة الحواري (يقصد هيجل من بينهم) الذي يقيمون دولاً متسمة بالكمال بسبب الأحلام الوردية غير الناضجة· وأعلن فريز موقفه ضد هذا التفكير المرغوب فيه، باعتباره أساسا واقعيا لفلسفته (فلسفة هيجل) سواء السياسية أو الميتافيزيفية - وهو مبدأ ما هو عقلي فهو عملي واقعي، وما هو واقعي عملي فهو عقلي· (إن ما يفرضه منطق الأحداث، هو ما يجب أن يكون في ظل الظروف نفسها) وهاجم الليبراليون الألمان المؤلف (هيجل) باعتباره طالب دنيا يبحث عن منصب ويخدم الوضع القائم وباعتباره الفيلسوف المكلل بالغار لحكومة رجعية·
إن الحضارة تحتاج للأخلاق والقانون معا مادامت تعني أن نعيش كمدنيين (مواطنين civis) في مجتمع، ولا يمكن أن يظل المجتمع قائما إلا في ظل تقييد الحرية لضمان الحماية (للآخرين) · لابد أن تكون الأخلاق ميثاقا عاما لا مجرد نزعة فردية· فالحرية في ظل القانون بناءة، والحرية بعيدا عن الالتزام بالقانون مستحيلة في الطبيعة ومدمرة في المجتمع تماما كما حدث في فرنسا في بعض مراحل الثورة·(ملحق/1304)
فالقيود التي تفرضها الأخلاق المعتادة على الحرية الفردية هي الأقدم والأشمل والأكثر دواما (الأحكام الأخلاقية تتطور مع تطور المجتمع) · وما دامت مثل هذه القواعد الأخلاقية تنتقل أساسا من خلال الأسرة والمدرسة والكنيسة، فهذه المؤسسات أساسية للمجتمع وتشكل أعضاءه الحيوية· وعلى هذا فمن الحمق أن نترك الأسرة تقوم على أساس زواج الحب، فالرغبة الجنسية لها حكمتها البيولوجية في استمرار النوع واستمرار المجتمع، ولكنها أي الرغبة الجنسية لا تنطوي على حكمة اجتماعية تعين على حياة مشتركة طوال العمر لرعاية الممتلكات والأطفال· ولابد أن يكتفي الرجل بزوجة واحدة، كما لابد أن توضع العراقيل أمام الطلاق ولابد أن تكون ممتلكات الأسرة مشاعا لها لكن إدارتها لابد أن تقع على كاهل الزوج· "وللمرأة دورها المهم في الأسرة من حيث إخلاصها لها وبالتزامها الأخلاقي"·
ولا يجب أن يقيم التعليم أصناما للحرية واللعب (كما هو الحال في فكر بيستالوزي Pestalozzi وفيشته)، فالنظام هو عصب الشخصية، ومعاقبة الأطفال المقصود منها هو منعهم من ممارسة الحرية فهذا المنع موجود في الطبيعة، لتكون القضايا الكلية في وعيهم وإرادتهم·
ولا يجب أن نقيم وثنا للمساواة، فنحن سواء فقط من حيث أن لكل منا روحا، ولا يجب أن نكون أداة لشخص آخر، لكن الواقع يقول إننا لسنا سواء، سواء من الناحية الجسمية أو من ناحية قدراتنا العقلية· وأفضل النظم الاقتصادية هي التي يتاح فيها لذوي القدرات الأعلى تطوير أنفسهم مع إتاحة حرية نسبية لتحويل الأفكار الجديدة إلى حقائق إنتاجية· ولابد أن تكون الملكية خاصة وبدون هذا لن يكون هناك حافز لذوي القدرات الأعلى لإجهاد أنفسهم· ولابد لتحقيق أهداف الحضارة من الإبقاء على الدين كأداة مثلى لأنه يربط الفرد بالكل·
ما دام الدين عاملا متكاملا مع الدولة، يزرع معنى الوحدة في أعماق نفوس الناس، فلابد - حتى - أن تطلب الدولة من كل مواطنيها أن يكونوا أعضاء في الكنيسة· فالدولة لا يمكنها أن تتداخل مع الكنيسة لأن إيمان الفرد قائم على أفكاره الخاصة·(ملحق/1305)
ولابد أن تكون الكنائس منفصلة عن الدولة لكن لابد على الكنائس أن تنظر للدولة كأمر متمم للعبادة يكون فيه هدف الدين توحيد الفرد مع الكل بقدر ما تسمح الإمكانات في هذه الدنيا· فالدولة إذن هي أسمى إنجاز بشري·إنها عضو organ المجتمع المنوط به حماية الشعب وتطويره، إذ يقع على كاهلها والتوفيق بين النظام الاجتماعي من ناحية والنزوع الطبيعي للفردية، والصراع والغيرة بين المجموعات الداخلية (في داخل المجتمع) من ناحية أخرى· والقانون هو حرية الإنسان المتحضر لأنه يحرره من الظلم ويحميه من الخطر في مقابل موافقته على ألا يُلحق بالمواطنين الآخرين ظلما أو يعرضهم للخطر·
فالدولة هي بالفعل الحرية الرصينة وكي تتحول الفوضى إلى حرية منضبطة لابد أن يكون لدى الدولة الصلاحية بل وحق استخدام القوة في بعض الأحيان، فالشرطة أمر ضروري وفي الأزمات مع القوى الخارجية يكون التجنيد الإلزامي ضروريا أيضا· لكن إذا كانت الدولة جيدة التنظيم حسنة الإدارة لأمكنها أن تدعى أنها تنظيم عقلي· وبهذا المعنى يمكننا أن نقول عن الدولة ما قلناه عن الكون ما هو عقلي هو حقيقي واقع، وما هو حقيقي واقع هو عقلي· هذه ليست يوتوبيا - المدينة الفاضلة ( utopia) ، فاليوتوبيا غير حقيقية· أكان هذا تقنينا مثاليا لبروسيا في سنة 1820؟ ليس تماما· فعلى النقيض من هذا النظام، أخذت على عاتقها النجاح الكامل لإصلاحات شتاين وهاردنبرج Stein & Hardenberg· لقد دعت إلى مَلكية (بفتح الميم) مقيدة وحكومة دستورية، وحرية العبادة وإعطاء حقوق المواطنة لليهود· لقد أدانت الحكم المطلق الذي عرفته بأنه حيث يختفي القانون، وعندما تتحكم إرادة بعينها سواء كانت إرادة العرش أو إرادة العوام (حكومة الدهماء Ochlocracy) وتصبح هذه الإرادة قانوناً أو تحل محل القانون، بينما تقتضي الدقة أن توجد الحكومة الشرعية والدستورية في وضع مثالي ورفض هيجل الديمقراطية برمتها:(ملحق/1306)
فالمواطن العادي غير مهيأ لاختيار الحاكم الكفء، وغير مهيأ لرسم سياسة البلاد· وقبل الفيلسوف (هيجل) دستور الثورة الفرنسية الصادر في سنة 1791 ذلك الدستور الذي دعا لملكية دستورية يصوت فيه الشعب لاختيار أعضاء جمعية وطنية، وليس لاختيار الحاكم· والملكية الانتخابية هي أسوأ المؤسسات لذا فقد أوصى هيجل بحكومة ذات مجلسين تشريعيين ينتخبها المواطنون ذوو الممتلكات، ومجلس وزراء تنفيذي وإداري، ومَلكية وراثية hereditary monarch في يدها القرار النهائي· إن تطوير الدولة إلى ملكية دستورية هو إنجاز العالم المعاصر·
ومن غير العدل أن نصف هذه الفلسفة بالرجعية فهي متمشية تماما مع الاتجاه العقلي المحافظ لكل من مونتيني Montaigne وفولتير، وبورك Burke وماكولي Macaulay، وبها نصح بنيامين كونستانت Benjamin Constant ابن الثورة نابليون، وكذلك انتهى توكفيل Tocqueville بعد دراسة الحكومتين الفرنسية والأمريكية· ويترك هذا النظام مساحة لحرية الفكر الفردية والتسامح الديني· ولابد أن ننظر لهذا النظام في سياق الزمان والمكان: ولابد - كي نفهم هذا النظام - أن نتصور أنفسنا في خضم الاضطراب الهائل الذي ساد أوربا بعد فترة نابليون بما اعتراها من إفلاس وإحباط، حيث كانت حكوماتها الرجعية تحاول إعادة نظم الحكم القديمة (السابقة على الثورة الفرنسية) - لابد أن نتصور أنفسنا في فترة هذه صفاتها لنفهم رد فعل مفكرٍ كان هو أيضاً قد تقدم به العمر كثيراً بدرجة تمنعه من أن يكون مغامراً فكريا وكانت أقدامه قد رسخت رسوخاً شديداً بدرجة تمنعه من التشوق للثورة، أو المخاطرة بإحلال نظريات لم تُحككها التجربة محل حكومات قديمة أو استبدالها بحكم العامة· لقد كانت كتاباته في هذه المقدمة متعجلة غير منظمة بعناية ولم تكن جديرة باسم فيلسوف· لقد خاف الرجل العجوز من بلاغة فريز Fries وفصاحته وما يلقاه من استقبال حافل فاستدعى الشرطة ولم يكن آسفاً لقد التفتت الحكومات أخيراً لهذا النوع من الفلسفة لقد كانت الفترة فترة محافظة لا مغامرة·
3/ 5 - التاريخ(ملحق/1307)
لابد أن تلاميذ هيجل كانوا يحبونه، فقد عكفوا بعد موته على ملاحظاته notes وأضافوا ما كتبوه في أثناء إلقائه لمحاضراته، ونظموا نتائجه في نسق منطقي، ونشروها باسمه· ومن هنا فقد ظهر لهيجل أربعة كتب بعد موته: علم الجمال Aesthetics وفلسفة الدين وفلسفة التاريخ، وتاريخ الفلسفة· وكانت هذه الأعمال هي أكثر أعماله وضوحاً ففيها أقل قدر من تعقيد الفكر والأسلوب·
فالفكرة الوحيدة التي أدخلتها الفلسفة لدراسة التاريخ وتأمله هي فكرة العقل (التعليل) البسيطة: فالعقل (التعليل) أي منطق الأحداث وقوانينها هي مَلِك العالم Sovereign of the World، وعلى هذا فتاريخ العالم يُقدم لنا عملية عقلية وهنا أيضاً نجد ما هو واقع (ما هو موجود أو ما هو فعلي) هو أيضاً عقلي - إنه النتيجة الوحيدة المنطقية والحتمية لأحداث سبقت antecedents وغالباً ما يتحدث هيجل عن العقل الحاكم Sovereign Reason بمصطلحات دينية لكنه يعرّفه بالمزاوجة بين سبينوزا ونيوتن Newton: العقل هو جوهر الكون، أعني أنه به (أي بالعقل) وفيه (أي في العقل) توجد كل الحقيقة وتعيش ومن ناحية أخرى فهو (العقل) الطاقة المطلقة وغير المحدودة للكون أي أن مقولات المنطق ( Logik بالمفهوم الهيجلي السابق) هي الوسائل الأساسية لفهم العلاقات الفاعلة التي تكوّن التركيب النهائي للأشياء، وجوهرها Essence وحقيقتها·
وإذا كانت عمليات التاريخ تعبيراً عن العقل Reason - أي عن القوانين الملازمة لطبيعة الأشياء - فلابد أن هناك منهجاً لمسيرة الأحداث التي تبدو في الظاهر غريبة· ويرى هيجل منهجاً ( method) يحكم الأحداث أو مسيرة الأحداث ونتائجها· إن فعل العقل في التاريخ - كما هو في الفكر - هو فعل ديالكتيكي: كل مرحلة أو حالة هي فكرة ( thesis) تحوي نقيضها ( antithesis) وتتصارعان معاً (الفكرة والنقيض) لتظهر منهما الجمعية ( Synthesis) وعلى هذا فالحكم المطلق يحاول قمع الرغبة الإنسانية في الحرية، فيقوم الراغبون في الحرية بثورة، فتكون النتيجة (الجمعية Synthesis) ملكية دستورية·(ملحق/1308)
أهناك إذن خطة عامة أو كلية وراء مسيرة التاريخ؟ لا، إن كان هذا يعني قوة عليا واعية تقود كل الأسباب والجهود للوصول إلى هدف محدد، ونعم إذا كان المقصود أن المجرى العريض للأحداث كالتقدم في مضمار الحضارة إنما يحركه عقل كلي total of Geist or mind لتقريب الإنسان شيئاَ فشيئاً لهدفه الذي استغرقه (تشربه أو كمن فيه) ألا وهو الحرية من خلال العقل Reason· لا حرية من from القانون وإنما حرية من خلال through القانون (رغم أن الحرية من القانون قد تأتي إن وصل الذكاء البشري إلى منتهاه أي إلى ذروة تطوره)، وعلى هذا فتطور الدولة يمكن أن تكون هبة للحرية· وهذا التقدم نحو الحرية ليس مستمراً لأنه في ديالكتيك التاريخ (الديالكتيك بالمعنى الهيجلي السابق) هناك تناقضات يتعين حلها، ومعارضات يتعين تحويلها لتندمج مع غيرها وتباينات مندفعة بعيدة عن المركز يتعين جذبها إلى مركز واحد بحكم طبيعة العصر أو جهود بشر غير عاديين·
هاتان القوتان (الزمن والعبقرية) هما مهندسا التاريخ وعندما يعملان معاً تكون لهما قوة لا تُقاوم· واعتقد هيجل - مستوحياً أفكار كارليل Carlyle - في الأبطال وفي عبادة الأبطال· والعباقرة ليسوا بالضرورة طاهرين أخلاقياً، رغم أن من الخطأ أن نتصورهم أنانيين، فنابليون لم يكن مجرد غاز يغزو لمجرد الغزو، فقد كان - سواء كان واعياً بذلك أم لا - ممثلاً لأوربا في توقعها للوحدة وحاجتها لقوانين متماسكة لها طابع الدوام· لكن العبقرية تصبح بلا مُعين لها إذا لم تتمثل روح العصر ومتطلباته (سواء كان العبقري واعياً بذلك أم لا) "فالعباقرة لهم بصيرة نافذة بمتطلبات العصر - أو بتعبير آخر أنهم يدركون ما الذي نضج ووصل لمرحلة القابلية للتطوير"·(ملحق/1309)
هذا هو الأكثر فائدة لعصرهم وعالمهم، أن يدركوا ما هو الذي تشكل فعلاً في رَحِم الزمن إذا اعتلى العبقري هذه الموجة (مثل جاليليو وفرانكلين وجيمس وات) سيصبح قوة دافعة للتطور حتى ولو سبب بؤساً لجيل كامل، فليس معنى العبقرية تسويق السعادة وتاريخ العالم ليس مسرحاً للسعادة، ففترات السعادة فيه صفحات عقيمة لأنها فترات الهارمونية (التناسق) عندما تكون الفكرة المضادة antithesis في حالة معطلة (أو بتعبير آخر في لا فاعلية مؤقتة in abeyance) هنا ينام التاريخ·
والعقبة الرئيسية في تفسير التاريخ كحركة تقدم مستمر هي الحقيقة التي مؤداها أن الحضارة يمكن أن تموت أو تختفي تماما· لكن هيجل لم يكن هو الرجل الذي يترك هذه العوارض لتفسد ديالكتيكه· لقد قسّم ماضي البشرية (كما قلنا آنفاً) إلى ثلاث فترات: الشرقية، والإغريقية - الرومانية، والمسيحية ورأى في تعاقبها بعض التقدم· الشرقية أعطت الحرية لرجل واحد وهو الحاكم المطلق، والحضارة الكلاسيكية أعطت الحرية لطبقة تستخدم الرقيق، والعالم المسيحي أعطى لكل شخص روحا تسعى لتحرير الكل· لقد لاقت مقاومة في تجارة الرقيق لكن الثورة الفرنسية أنهت هذا الصراع· وعند هذه النقطة (نحو سنة 1822) نجد هيجل يفجر أنشودة شكر مدهشة لهذه الثورة أو لما حدث في أثنائها في السنتين الأوليين:
الأوضاع السياسية في فرنسا لم تكن تقدم شيئاً إلا امتيازات كثيرة غير منظمة، كانت جميعا تُنافي الفكر والعقل وعمت المفاسد الأخلاقية وتدنت أرواح الناس· لقد كان ولابد أن يكون - التغيير عنيفاً لأن الحكومة لم تأخذ على عاتقها مهمة إعادة التحويل أو إعادة تشكيل أوضاع جديدة (فقد كان البلاط والنبلاء ورجال الدين يعارضون ذلك) ·· وأثبتت فكرة الحق سلطانها، ولم يستطع النظام القديم القائم على الظلم أن يُقاوم· إنه فجر عقلي ونفسي باهر، فكل الموجودات المفكرة تشارك في التهليل والترحيب (بالثورة الفرنسية) · إن الحماس الروحي ملأ العالم·(ملحق/1310)
وسوّد الغوغاء صفحة هذا الفجر لكن بعد أن ضُمِّدت الجراح ظل التقدّم الجوهري، وكان هيجل لا يزال عالمي النظرة حتى إنه اعترف بفضل الثورة الفرنسية الكثير على ألمانيا - لقد أدخلت إليها القوانين النابليونية (المدوّنة القانونية) وألغت الامتيازات الإقطاعية ووسعت قاعدة الحرية ووسعت دائرة الملاك·· وباختصار فإن تحليل هيجل للثورة الفرنسية في الصفحات الأخيرة من كتابه (فلسفة التاريخ) يثبت أن هذا المحافظ العجوز لم ينبذ تماماً أفكار شبابه·
واعتبر هيجل أن الخطأ الرئيسي للثورة الفرنسية هو معاداتها للدين· فالدين هو ذروة العقل وسنام العمل· ومن السخف أن نعتقد أن القسس قد ابتدعوا الدين ليخدعوهم به ويحققوا لصالحهم المكاسب من ورائه وعلى هذا فمن الغباء أن نظن أننا قادرون على إنشاء دساتير سياسية بمعزل عن الدين· فالدين هو الجو العام الذي تعطي الأمة نفسها من خلاله معياراً لما هو صحيح True،··· وعلى هذا ففكرة الله God تكوِّن الأساس العام لطبيعة (شخصية) أي شعب·
وعلى العكس من ذلك فالشكل الذي يتمثل فيه التجسيد الكامل للروح Spirit هو الدولة فالدولة كاملة التطور تصبح هي أساس كل عناصر حياة الشعب الأساسية، ومحورها - فناً وتشريعاً وأخلاقاً وديناً وعلوماً وبتأييد الدين ودعمه تصبح الدولة مقدَّسة·
لقد راح هيجل يطبق ديالكتيكه في مجال بعد آخر متطلعاً إلى تأسيس نظام فلسفي موحّد يتم شرحه بصيغة فلسفية واحدة· وقد أضاف تلاميذه إلى فلسفته للتاريخ مؤلفاً آخر نشر بعد وفاته وهو تاريخ الفلسفة· فالنظم (الفلسفية) القديمة المشهورة في تحليل الكون - في هذه النظرة - تتبع نسقاً مرتبطاً بشكل أساسي بتطور المقولات (بالمفهوم الهيجلي) في المنطق Logik ( بالمفهوم الهيجلي أيضاً) · لقد ركز بارمينيدز Parmenides على الوجود Being والاستقرار أو الثبات Stability، وركز هيراكليوتس Heracleitus على الصيرورة والتطور والتغير· ورأى ديموقرايطس Democritus ( مادة) موضوعية أما أفلاطون فرأى فكرة ذاتية (غير موضوعية) وكان أرسطو هو الذي قدم الجمعية Synthesis ( بالمفهوم الهيجلي) ·(ملحق/1311)
وكل نظام (فلسفي)، ككل مقولة وكل جيل يطوّق النظم السابقة عليه ويضيف إليها، لذا ففهم آخر النظم الفلسفية فهما كاملا يتطلب فهمها جميعا· فكل ما يحرزه جيل من تقدم في المعرفة والإبداع يرثه الجيل الذي يليه· ويشكل هذا الميراث روحه وجوهره الروحي ولما كانت فلسفة هيجل هي الأخيرة في سلسلة الفلسفات العظيمة، فهي (أي فلسفة هيجل) تضم (من وجهة نظر هيجل) كل الأفكار والقيم الأساسية لكل ما سبقها من نظم (فلسفية) فهي (أي فلسفة هيجل) تمثل الأوج التاريخي والنظري لها جميعاً·
3/ 6 - موت وعودة
كاد عصره - لفترة - يقدّره كتقديره لنفسه· لقد زاد عدد التلاميذ في فصوله رغم طباعه الصارمة وأسلوبه المبهم· لقد أتى رجال بارزون قاطعين مسافات طويلة لرؤية هيجل وهو يوازن الكون بمقولاته· لقد أتاه كوزي Cousin وميشيل Michelet من فرنسا وهايبرج Heiberg من الدنمرك· وتم تكريمه في باريس في سنة 1827 وكرّمه جوته العجوز· وفي سنة 1830 اهتزت مسلّماته بانتشار الحركات الراديكالية والهياج الثوري، فهاجمها جميعاً وفي سنة 1831 أصدر من وراء القنال الإنجليزي دعوة لمناهضة وثيقة الإصلاح Reform Bill التي تعد علامة على قيام الديمقراطية في إنجلترا·
وأعاد صياغة فلسفته لتصبح أكثر فأكثر مقبولة من رجال الدين البروتستنت، ومات في برلين في 14 نوفمبر 1831 إثر إصابته بالكوليرا وكان في الواحد والستين من عمره، وكان لا يزال وافر النشاط· وتم دفنه على وفق رغبته إلى جوار قبر فيشته، وانقسم تلاميذه إلى جماعتين متناقضتين - كما لو كان هذا تأكيداً لغموضه الحذر: الهيجليين اليمينيين وعلى رأسهم جوهان إردمان Erdmann وكونو فيشر Kuno Fischer وكارل روزنكرانتس Rosenkranz، والهيجليين اليساريين ومنهم لودفيج فويرباخ Feuerbach وديفيد شتراوس Strauss وبرونو باور Bauer وكارل ماركس· وقد برع اليمينيون (الهيجليون) في الدراسة وإن انحدروا بازدهار (موجة نقد الكتاب المقدس)، أما اليساريون (الهيجليون) فزاد هجومهم على السلفية الدينية والسياسية·(ملحق/1312)
وفسر اليساريون الهيجليون تعريف هيجل لله God والعقل Reason على اعتبار أنه يعني بهما أن الطبيعة والإنسان والتاريخ خاضعة لقوانين مجردة غير قابلة للتغيير· واقتبس فويرباخ Feuerbach من أقوال هيجل ما فسره بأن الإنسان لا يعرف عن الله، إلا بقدر ما يعرف الله عن نفسه من خلال الإنسان وعلى هذا فإن عقل الكون لا يكون واعياً إلا في الإنسان، فالإنسان وحده هو القادر على التفكير في قوانين الكون· وكارل ماركس الذي عرف هيجل في الأساس من خلال كتاباته، حوّل الحركة الدياليكتيكية للمقولات الهيجلية إلى تفسير اقتصادي للتاريخ جعل فيه صراع الطبقات (النص حرب الطبقات) محل الأبطال، باعتبار هذا الصراع هو أداة التقدم الرئيسية· وأصبحت الاشتراكية هي الجمعية Synthesis الماركسية للرأسمالية وتناقضاتها الداخلية·
وتضاءلت شهرة هيجل لفترة حين اجتاحت آلام شوبنهاور التهكمية المسرح الفلسفي· وتاه فلاسفة التاريخ مع تقدم الدراسات التاريخية· وبدت الهيجلية تموت في ألمانيا لكنها بُعثت من جديد في بريطانيا العظمى مع جون John وإدوارد كيرد Edward Caird وت· هـ· جرين T. H. Green وج· م· إ· مكتجارت J. M. E. McTaggart وبيرنارد بوسانكت Bernard Bosanquet· وعندما ماتت (الهيجلية) في إنجلترا بُعثت من جديد في الولايات المتحدة· وربما ساعدت عبادة هيجل للدولة (أي توقيره الشديد لها) على تمهيد الطريق لبسمارك Bismarck وهتلر Hitler · وفي هذه الأثناء وجد كل من سورن كيركجارد Soren Kierkegaard وكارل جاسبرز Jaspers ومارتن هايدجر Heidegger وجان - بول سارتر في أفكار هيجل ملاحظات وإشارات حاسمة عن التنافس البشرى في عالم بعيد عن التوجيه الإلهي، فأصبح هيجل أباً روحياً للوجودية·(ملحق/1313)
وباختصار فإن عصر جوته وبيتهوفن وهيجل كان إحدى الذرى في تاريخ ألمانيا· لقد وصلت ألمانيا أو كادت إلى ذُرى لا تقل عن ذرى سبقت في عصر النهضة الأوربية (الرينيسانس Renaissance) وعصر الإصلاح الديني الأوربي Reformation، لكن حرب الثلاثين عاما حطمت الحياة الاقتصادية والفكرية للشعب وجعلت روح ألمانيا قاتمة وكادت تطرح اليأس على الروح الألمانية طوال قرن· وشيئاً فشيئاً وببطء أدى النشاط والحيوية الكامنان في روح هذا الشعب، والصبر الرواقي stoic patience ( الراضي بالواقع) الذي تتحلى به الألمانيات، وعمق الموسيقى الألمانية وقوتها ومهارة الحرفيين في ألمانيا ونشاط التجار - إلى إعداد ألمانيا لتلقي التأثيرات الأجنبية وهضمها وتحويلها ليتفق مع الذوق الألماني والشخصية الألمانية، ومن أمثلة هذا هضم الألمان لشكسبير وأشعار إنجلترا الرومانسية، وهضمهم لحركة التنوير Enlightenment والثورة الفرنسية· لقد طوّرت وعدّلت فولتير إلى جوته وفيلاند Wieland، وطوّرت وعدّلت روسّو إلى شيلر وريختر Richter، وردت على نابليون بحرب التحرير وأفسحت الطريق لإنجازات الشعب الألماني المتعددة في القرن التاسع عشر·
إن الحضارة مجال تعاون كما أنها مجال منافسة، وعلى هذا فإنه لأمر طيب أن يكون لكل أمة ثقافتها وحكومتها واقتصادها وأزياؤها وأغانيها· إنها - أي الحضارة - قد أخذت أشكالاً مختلفة من النظم والتعبيرات لتصنع الروح الأوروبية على هذا القدر من الذكاء والمهارة والتباين، ولتصنع من أوربا اليوم فتنة جميلة لا ينتهي جمالها، وتراثاً لا ينضب·(ملحق/1314)
الفصل الثالث والثلاثون
حول القلب من 1789 إلى 1812 م
1 - سويسرا
شعرت هذه الأرض المباركة بنبض الثورة الفرنسية بكل مودة الجار· لقد رحب الليبراليون السويسريون بالثورة الفرنسية كدعوة للحرية، وأعلن جوهان (يوهان) فون ميلر Johannes von Muller (1752 - 1809) أشهر المؤرخين المعاصرين في 14 يوليو 1789 أن يوم قيام الثورة الفرنسية هو أفضل يوم في تاريخ أوربا منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية، وعندما تولى اليعاقبة Jacobins زمام الأمر، كتب لأحد أصدقائه:
"الذي لا شك فيه أنك تشاركني أسفي أنه في الجمعية الوطنية (الفرنسية) نجد الفصاحة والبلاغة تطغى على الفهم الصحيح، وربما تفهم أنه نظراً لرغبتهم في أن يكونوا أحرارا إلى أقصى درجة فلن يكونوا أحرارا أبداً· ومع هذا لابد أن تتمخض الأيام عن شيء لأن هذه الأفكار تسكن في كل قلب"·
فريدريك - سيزار دي لاهارب Frederic-Cesar de La Harpe - الذي كان قد عاد في سنة 1796 إلى موطنه سويسرا - بعد أن أشرب عقل زارفتش إسكندر Czarevich Alexander بالليبرالية - انضم مع بيتر (بطرس) أوكس Peter Ochs وغيره من الثوار السويسريين ليكونوا النادي السويسري ( Helvetic) الذي عمل على الإطاحة بحكم الأوليجاركيات Oligarchies ( الأوليجاركية نظام يقوم على حكم الأقلية) التي تحكم الكانتونات cantons ( الولايات) السويسرية·
وعندما كان نابليون يمر عبر سويسرا بعد غزوته الأولى لإيطاليا، لاحظ هذه الومضات فلفت نظر حكومة الإدارة في فرنسا أنها ستجد أعوانا كثيرين إذا اختارت مواجهة النشاطات المعادية للثورة الفرنسية التي يقوم بها المهاجرون الفرنسيون emigres الذين تركوا فرنسا إثر أحداث الثورة فيها، والذين - أي هؤلاء المهاجرون - يجدون ملجأ عند الأرستقراطية السويسرية التي لهم العون· وأدركت حكومة الإدارة في فرنسا القيمة الإستراتيجية لسويسرا في الصراع بين فرنسا والأمراء الألمان، فأرسلت جيشا إلى الكانتونات (الولايات السويسرية) وضمت جنيف وقضت على حكم الأوليجاركات، وأقامت - بعون متحمس من الثوريين السويسريين - الجمهورية السويسرية (الهلفتية Helvetic) تحت الحماية الفرنسية (1798) ·(ملحق/1315)
وانقسمت الحكومة السويسرية الجديدة إلى يعاقبة (وطنيين) ومعتدلين، وفيدراليين· وقد تعاركوا وحبك كل منهم انقلابا، ولما خشوا مغبة الفوضى والحرب الداخلية طلبوا من نابليون (كان في منصب القنصل الأول في هذا الحين) أن يعطيهم دستورا جديدا· وفي سنة 1801 أرسل لهم دستورا Constitution of Malmaison كان رغم ما به من قصور أفضل دستور كانت تأمل فيه سويسرا رغم أنه - أي هذا الدستور - احتفظ بسويسرا تحت الوصاية الفرنسية· وبعد مزيد من المعارك الداخلية أطاح الفيدراليون بالحكومة الجمهورية ونظموا جيشا جديدا واقترحوا تجديد حكم الأوليجاركية (حكم الأقلية) فتدخل نابليون وأرسل جيشا من ثلاثين ألف مقاتل لإعادة السيطرة الفرنسية على سويسرا·
وطلبت الفرق المتنازعة من نابليون مرة أخرى أن يتوسط بينها· فصاغ مرسوم الوساطة الذي قبلته كل الفرق الكبيرة المتنازعة· لقد أنهى هذا المرسوم الجمهورية السويسرية (الهيلفتية) وأقام الفيدرالية السويسرية التي تشبه في خطوطها الأساسية ما عليه سويسرا الآن فيما عدا التزام سويسرا بالاستمرار في تقديم عدد من بنيها كل سنة للجيش الفرنسي· ورغم هذا العبء فقد كان مرسوم الوساطة هذا دستورا جيدا وأطلقت الكانتونات السويسرية على نابليون (معيد الحرية) ·(ملحق/1316)
وعلى أية حال فقد كانت سويسرا رغم بهاء مناظرها تعتبر مجالاً ضيقا ليس به إلا مرح صغير وعدد قليل من القراء والمستمعين مما لا يرضي طموح المؤلفين والفنانين والعلماء الذين راحوا يبحثون عن بلاد أوسع ذوات ميدان أرحب وفرص أكبر· فذهب جوهان فوسلى Fussli إلى إنجلترا ليرسم، وذهب أوجستين دي كاندول de Candolle (1778 - 1814) إلى فرنسا وقدم هناك وصفا للنباتات وتصنيفا لها· أما جوهان بستالوزى Pestalozzi (1746 - 1827) فبقي في سويسرا ولفت انتباه أوربا بتجاربه في حقل التعليم· وفي سنة 1805 أسس في فيردون Yverdun مدرسة داخلية أدارها على وفق مبدأ أنه - على الأقل بالنسبة إلى الناشئة - لا يكون للأفكار معنى إلا إذا ارتبطت بأشياء حسية، وأن تعليم الأطفال يكون أفضل أي ذا ثمار أحسن إن كان من خلال أنشطة جماعية· وقد جذبت المدرسة انتباه المدرسين فقدموا إليها من اثنتي عشرة دولة وأثرت في التعليم في المرحلة الابتدائية في أوربا والولايات المتحدة· ووضعها فيشته في خطته لإعادة تربية الشباب وتعليمهم·
وقضى جوهان فون ميلر اثنين وعشرين عاما (1786 - 1808) في تأليف كتابه متعدد الأجزاء (تاريخ الاتحاد الكونفدرالي السويسري Geschichten Schweitzerischer Eidgenossenschaft ولم يتابع السرد التاريخي إلا إلى سنة 1489 ولكنه ظل كلاسيكيا في جوهره وأسلوبه· ولأنه كتاب ممتاز فقد أضفى على مؤلفه لقب تاسيتوس السويسري Swiss Tacitus وقد كان لوصفه الكانتونات السويسرية في العصور الوسطى بشكل يجعلها مثالية، بالإضافة إلى الانتصارات العسكرية أثر كبير في رفع الروح المعنوية للسويسريين· وقد استوحى شيلر Schiller من قصته ذات الطابع الأسطوري (وليم تل) الخطوط العريضة لمسرحيته الشهيرة·(ملحق/1317)
وفي سنة 1810 وكان قد بلغ الثامنة والخمسين بدأ ميلر كتابة تاريخ عام ( Vier und Zwanzig Bucher allgemeiner Geschichten) · وانجذب إلى ألمانيا بسبب قرائه فعمل في خدمة الناخب (الأمير) الكاثوليكي في مينز ( Mainz) وانتقل إلى العمل في خدمة المستشار الإمبراطوري في النمسا وانتهى به الأمر مديراً للتعليم في وستفاليا التي كان يحكمها وقتئذ جيروم بونابرت· وعندما مات كتبت مدام دي ستيل de Stael عنه: لا نستطيع أن ندرك كيف يمكن لرأس رجل واحد أن يحوي مثل هذا الكم الهائل من الحقائق والتواريخ dates·· إننا إذ نفتقده نبدو وكأننا افتقدنا أكثر من واحد·
ولا يليه في فن كتابة التاريخ سوى جان - تشارلز - ليونارد دي سيسموندي de Sismondi (1773 - 1842) الذي كان أحد مرافقي (وعشاق) المدام· ولد في جنيف وهرب إلى إنجلترا تخلصا من العنف الثوري ومنها إلى إيطاليا، ثم عاد إلى جنيف بعد استتباب الأمر فيها، وقابل جرمين Germaine في سنة 1803 وصحبها إلى إيطاليا وراح في وقت لاحق يتردد على صالونها بالقرب من كوبت Coppet· وفي هذه الأثناء راح يكتب بشكل مدهش ومتواصل وأسهمت مجلدات كتابه تاريخ الجمهوريات الإيطالية في العصور الوسطى Histoire des republiques italiennes au Moyen age (1809 - 1818) البالغة ستة عشر مجلدا في إلهام مانزوني Manzoni ومازيني Mazzini وكافور Cavour وغيرهم من زعماء توحيد إيطاليا· وظل طوال ثلاث وعشرين سنة (1821 - 1844) يعمل في تأليف كتابه ذي الواحد والثلاثين مجلدا (تاريخ الفرنسيين الذي ظل لفترة ينافس كتابات ميشيل Michelet فيما ناله من تقريظ·(ملحق/1318)
وزار إنجلترا مرة أخرى في سنة 1818 وتأثر كثيراً بقوة اقتصادها حتى إنه كتب ونشر في سنة 1819 كتابا جديرا بالملاحظة ذا طابع تنبئي (مبادئ جديدة للاقتصادي السياسي Nouveaux Principes d'economie politique) · لقد ساق الأدلة على أن القضية الأساسية في الكساد الاقتصادي في إنجلترا كانت في فتور القوى الشرائية العامة مع زيادة الإنتاج زيادة سريعة نتيجة المخترعات (الحديثة)، ودلل على أن هذا الفتور في القوى الشرائية يرجع في الأساس إلى نقص الأجور، وقد تتكرر أزمات مشابهة بسبب قلة الاستهلاك طالما بقي النظام الاقتصادي دون تغيير·
وكانت اقتراحات سيسموندي راديكالية بشكل يثير المخاوف· فرفاهية السكان لابد أن تكون هي الهدف الرئيسي للحكومة· ولابد من إلغاء القوانين المناهضة لاتحادات العمال· ولابد من تأمين العمال ضد البطالة، وحمايتهم من الاستغلال· ولا يجب التضحية بمصالح الأمة أو الإنسان لصالح الجشع··· إذ يجب حماية الأثرياء من جشعهم ورغم هذه الماركسية التي سبقت الماركسية، فقد رفض سيسموندي الاشتراكية (التي كانت تسمي وقتئذ بالشيوعية) لأنها قد تضع السلطة السياسية الهيمنة الاقتصادية في منال الأيدي نفسها، وقد تضحي بالحرية الفردية لصالح هيمنة الدولة فيصبح سلطانها مطلقا·
2 - السويد
كان من الممكن أن ترحب السويد بالثورة الفرنسية على الأقل في مراحلها الأولى، لأنه خلال حركة التنوير السويدية في القرن الثامن عشر كان الفكر السويدي منسجماً مع الفكر الفرنسي، وكان الملك السويدي نفسه - جوستافوس الثالث Gustavus ( حكم من 1771 إلى 1792) أحد أبناء التنوير الفرنسي وكان معجبا بفولتير· لكن الملك جوستافوس لم يكن يحترم الديمقراطية وإنما كان يرى في الملكية القوية الطريق الوحيد لحكم قوي تقبض على زمامه أرستقراطية ملاك الأراضي الحريصة حرصا شديدا على امتيازاتها التقليدية·(ملحق/1319)