وقد نبه إلى هذا بعض من كتب عن الفلسفة الفرنسية، وهاك قبسٌ ممن نبهوا على ذلك:
ينبغي أن يقال في مبدأ الأمر أنه لا الفلسفة تنفصل عن ضروب النشاط الإنساني الأخرى، ولا فرنسا تنفصل عن غيرها من الأمم· والواقع أن القرن الثامن عشر الفرنسي حين أطلق اسم الفلاسفة على رجال كانوا في حقيقة الأمر أدباء أكثر منهم فلاسفة، فإنه جعلنا نشعرـ عن حق تماما ـ بأن الفلسفة ليست مجالا مقصورا على أشخاص محترفين· وعلى هذا ينبغي أن يحسب أي تاريخ للفلسفة الفرنسية حسابا لأدباء عظام من أمثال مونتيني وروسو·
وتاريخ الفلسفة الفرنسية لا ينفصل ـ بخاصة ـ عن تاريخ العلم، فديكارت ـ مثلا ـ لا يمكن أن يفهم دون الرجوع إلى العلم في عصره، وإلى جاليليو، كما لا يمكن أن يفهم فولتير دون نيوتن، أو بوترو Boutroux دون هنرى بوانكاريه Henri Poincare ·
7 - نبذة عن المؤلفين
ومن الطبيعي أن نخصص عدة فقرات في هذه المقدمة للحديث عن المؤلفين: إنهما ول ديورانت Will Durant وزوجته أريل Ariel Durant · ولد ول في نورث آدمز North Adams في ولاية ماساشوستس Massachusetts بالولايات المتحدة الأمريكية في 5 نوفمبر سنة 1885 وتلقى تعليمه في المدارس الأبرشية الكاثوليكية هناك، ثم في كيرني Kearny فنيويورك، ثم التحق بكلية القديس بطرس بيتر ( Peter) وهي كلية جزويتية (ومعناها أنصار يسوع أو اليسوعيون) في مدينة جيرسي Jersey بولاية نيوجيرسي ثم التحق بجامعة كولومبيا· وكان يعمل في أثناء الصيف مراسلاً مبتدئا لصحيفة نيويورك New York Journal لكن هذا العمل لم يكن متمشيا مع طبيعته فالتحق بكلية سيتون هول Seton Hall في سوث أورنج South Orange في ولاية نيوجيرسي مدرساً للاتينية والفرنسية والإنجليزية والهندسة المستوية في الفترة من 1907 إلى 1911 ·(ملحق/26)
وفي سنة 1909 التحق بالمعهد اللاهوتي في سيتون هول لكنه انسحب منه في سنة 1911 · وفي الفترة من 1911 إلى 1913 عمل مدرسا في إحدى مدارس الفرير الحديثة· وفي سنة 1912 قام بجولة في أنحاء أوروبا على نفقة صديقه ألدن فريمان Alden Freeman فلما عاد إلى مدرسة الفرير الآنف ذكرها أحب إحدى تلميذاته فتزوجها في سنة 1913، وهي من مواليد روسيا في 10 مايو سنة 1898 ·
درس ول أيضا علم الأحياء (البيولوجيا) في جامعة كولومبيا كما درس الفلسفة وفي سنة 1917 حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة وعين في جامعة كولومبيا فدرّس فيها الفلسفة لمدة عام واحد· وفي سنة 1914 كان قد بدأ في إلقاء سلسلة من المحاضرات في التاريخ والأدب والفلسفة مرتين في الأسبوع طوال ثلاثة عشر عاما، وذلك في الكنيسة البروتستانتية المسيحية في نيويورك· وقد شكلت هذه المحاضرات نواة كتبه الأخيرة ومنها كتابنا هذا·
وفي سنة 1926 صدر كتابه "قصة الفلسفة" فلاقى نجاحا لم يكن يتوقعه، فخصص هو وزوجته أريل ما بين ثماني ساعات وأربع عشرة ساعة يوميا لتأليف كتاب "قصة الحضارة" وهو الكتاب الذي يمثل الحادي عشر الذي بين أيدينا· ولم يكتف المؤلفان بالاعتماد على المراجع والكتب وإنما هيأ نفسيهما بزيارة أوربا والتجول فيها سنة 1927، وقاما بجولة حول العالم في سنة 1930 لدراسة مصر والشرق الأدنى والهند والصين واليابان، وقاما بجولة أخرى حول العالم في سنة 1932 زارا خلالها اليابان ومنشوريا وسيبيريا وروسيا وبولندا، وكانت هذه الزيارات العلمية بالإضافة إلى المصادر المكتوبة هي أساس كتاب (تراثنا الشرقي Our Oriental heritage) الصادر سنة 1935 كمجلد أول لكتاب قصة الحضارة الذي بين أيدينا·
وقاما بزيارات أخرى لأوروبا تمهيداً لإصدار (حياة اليونانيين The Life of Greece) في سنة 1939، وقيصر والمسيح Caesar & Christ في سنة 1944 · وفي سنة 1948 قضيا ستة أشهر في تركيا والعراق وإيران ومصر وأوربا لتجهيز مادة حية لكتاب عصر الإيمان The Age of Faith الذي صدر سنة 1950 ثم زارا إيطاليا تمهيدا لإصدار كتاب عصر النهضة The Renaissance في سنة 1953، ثم كتاب عصر الإصلاح الديني The Reformation في سنة 1957 ·(ملحق/27)
وعند تأليف كتاب عصر العقل The Age of Reason وجد وِلْ أنه من العدل أن يكتب اسم زوجته معه على صفحة العنوان، وهكذا استمر اسمها إلى جوار اسمه في كتاب عصر لويس الرابع عشر The Age of Louis XN الصادر في سنة 1963 وعصر فولتير The Age of Voltaire الصادر في سنة 1965 وكتاب روسو والثورة Rousseau & revolution و (عصر نابليون) وهو الكتاب الذي بين أيدينا، والذي صدر في سنة 1975 · وماتت أريل في 25 أكتوبر سنة 1981 وهي في الثالثة والثمانين من عمرها ولم يعش بعدها ول كثيرا فقد مات بعد موتها بثلاثة عشر يوما في 7 نوفمبر وقد بلغ من العمر ستا وتسعين عاما· وكانا قد نشرا كتابا عن قصة حياتهما في 1977 ·
بقى القول إنني استعنت بطائفة من القواميس للتحقق من بعض المصطلحات من اللغات الأوروبية الأخرى غير الانجليزية، فرجعت إلى معجم: Hamlyn Italian dictionary إيطالي - إنجليزي، وإنجليزي - إيطالي، للتحقق من كلمة أو كلمتين ومعجم يوسف رضا "الكامل الوسيط" فرنسي عربي لمطابقة المصطلح الفرنسي الذي دخل الإنجليزية رغم وروده في المعاجم الإنجليزية، وإلى بعض كتب القانون للتحقق من المفهوم القانوني لبعض المصطلحات التي لم ترد في القواميس، وقد نقلت عن هذه الكتب ما يراه القارئ مدرجا في الحواشي، وأفادني معجم الفاروقي كثيرا في مجال المصطلح القانوني والسياسي، أما ما ورد من مصطلحات علمية قليلة فقد اعتمدت فيها المقابل العربي كما ورد في معجم الخطيب للمصطلحات العلمية·
وأخيرا فإنني أشكر المجمع الثقافي (بأبوظبي) وأمينه العام الأستاذ محمد السويدي، لحسن اختيارهم هذا المرجع الناضج المهم، لإكمال هذه الموسوعة التي سبقني إلى ترجمة أجزائها السابقة إخوة أفاضل.
والله من وراء القصد·
د· عبد الرحمن عبد الله الشيخ(ملحق/28)
THE AGE OF NAPOLEON ... 1975
إلى ابنتنا إِثِل TO ETHEL
توطئة
ورد في الموسوعة البريطانية Encyclopaedia Britannica (16/10 أ) أن: "ما كتب عن نابليون حتى منتصف القرن العشرين زاد على مائة ألف مجلد" فلم إذن نضيف إلى هذا الكم الهائل كتابا آخر؟ ولا نجد سببا نقدمه خيراً من القول بأن الموت reaper قد تحاشانا، فصرنا بعد سنة 1968 نعيش حياة سلبية، ونقرأ قراءات غير موجهة فاعترانا القلق من هذا الفراغ التافه الذي لم نعتد عليه· ولكي نجعل لأيامنا هدفا ونخضعها لبرنامج قررنا أن نعكف على عصر نابليون (1789 - 1815) بمنهجنا الأثير الذي ندرس به التاريخ بشكل متكامل - فرحْنا ننسج في سياق واحد الجوانب المهمة كلها في الحضارة الأوروبية في هذه السنوات السبع والعشرين: الحكم والحرب والاقتصاد والأخلاق والعادات والدين والعلم والطب والفلسفة والأدب والدراما والموسيقي والفن، لتظهر جميعا كعناصر في صورة واحدة حية، وكأجزاء متفاعلة في كل واحد متكامل متحد·
سنرى رئيس الوزراء وليم بت William Pitt يأمر بالقبض على المؤلف توم بين Tom paine وسنعرف عن الكيميائي لافوازيه Lavoisier وعن شارلوت كورادى Charlotte Corday وهي تعتلي المقصلة، وعن الأدميرال نيلسون Nelson وهو يتخذ لادي هاملتون Lady Hamilton خليلةً له، وسنعلم كيف تنبأ جوته Goethe بأحداث قرن بعد معركة فالمي Valmy، وحماس وردزورث Wordsworth للثورة الفرنسية، وحماس بايرون Byron لليونانيين، وسنرى كيف راح شيلى Shelly يعلم التعاليم المخالفة للكاثوليكية (النص: الإلحاد) لأساقفة أكسفورد· ومدرسي الكليات الإكليريكية، وسنطالع عن نابليون وهو يحارب الملوك ويسجن البابا، ويضايق الأطباء والفلاسفة ويصحب خمسين عالما وباحثا ليغزو مصر أو يستكشفها ويستلهمها فاقداً إهداء بيتهوفن للإيرويكا Eroica من أجل الإمبراطورية· لقد راح يتحدث في الدراما مع تالما Talma وفي الرسم مع ديفيد David وفي النحت مع كانوفا Canova وفي التاريخ مع فيلاند Wieland وفي الأدب والفكر مع جوته وخاض الحروب طوال خمسة عشر عاما مع مدام ستيل Stael تلك المرأة التي يمكن الوصول إليها بسهوله لكنها لا تقهر ·(ملحق/29)
لقد أيقظتنا هذه الرؤية من الكسل والخمول اللذين اعتريانا وقد تجاوزت السبعين لنعود بتهور إلى دراساتنا التي نتخذها هواية ولنصور هذا العصر المثير الحافل بالأحداث ونتناوله ككل حي· أسوف نعترف بذلك؟ - لقد تعلمنا منذ مرحلة المراهقة رأيا حكيما بعيد النظر وهو أن نابليون ليس مجرّد مثير حرب طاغية لكنه أيضا فيلسوف قلما يخدعه التظاهر، وسيكولوجي لم يتوقف عن دراسة الطبيعة البشرية، سواء طبيعة الأفراد أم طبيعة الجموع· وكان أحدنا من الجسارة بمكان بحيث ألقى عشر محاضرات عن نابليون في سنة 1921، وطوال ستين عاما رحنا نجمع ما كتب عنه حتى إن بعض مراجعنا كانت في وقت من الأوقات مفيدة، وأصبحت الآن في حكم الميتة·
والآن فهذا جهد خمس سنوات عددا لكنه جهد كفيل بملء عمر بأكمله· إنه كتاب طويل جدا في مجمله، لكن كل جزء من أجزائه مختصر وغير كاف· فلم يجعلنا نعلن عن هذا الكتاب سوى الخوف أن يدهمنا الموت المتربص (النص: الحصادة المتربصة أو آلة الحصد المتربصة) · ونحن لا نوجه هذا الكتاب للمتخصصين الذين لن يجدوا فيه جديدا لكن لأصدقائنا أينما كان مكانهم والذين صبروا معنا أعواما كثيرة، قد يجدون فيه بعض اللحظات التنويرية أو الفانتازيا المبهجة·
ول ديورانت وأريل ديورانت(ملحق/30)
شكر وعرفان بفضل
نوجه الشكر أولاً لابنتنا إيثل ديورانت كي Ethel Durant Kay التي لم تكتف بطباعة المخطوط على الآلة الكاتبة بدقة، وإنما غالبا ما كانت تحسنه بتصويباتها واقتراحاتها· لقد كانت صبورة وشريكا مساعدا لنا في كل مرحلة من مراحل مشروعنا·
وإلى صديقينا العزيزين آرثر يونج Arthur Yong وجالا كورليف Gala Kourlaeff اللذين أعارانا كتبا قيمة من مجموعتيهما الخاصة·
وإلى مكتبة لوس أنجلوس العامة خاصة فرع هوليود Holly wood والعاملات في غرفة المراجع ونخص منهم السيدة إديث كروكشانك والسيدة إليزابيث فنتون·
وإلى ج كريستوفر هيرولد، فإن كتبه عن نابليون ومدام دي ستيل Stael كانت بالنسبة لنا كنزا أنار لنا الطريق ولي ليزلي أ· ماشاند؛ فمجلداته الثلاثة عن بايرون Byron قد خففت بما حوته من ثروة معلوماتية من الإدمان البايروني Byronic الذي كان بالفعل مستعراً في سنة 1905 عندما دعا ول ديورانت ربه أن يطلق سراح الشاعر الأعرج ويخرجه من الجحيم·
وإلى فيرا شنيدر التي استفاد كتابنا كثيرا من جهدها، لأنها طوال شهور طوال استغرقتها عملية التحرير استحضرت دقتها الدراسية ومجالات اختصاصها كلها·
وإلى صديقنا العزيز فيرناند كونت دى سان سيمون الذي أعطانا كثيراً جداً من وقته لإرشادنا في باريس في زياراتنا لنابوليونايا وفرساي ومالميزو Malmaison.
وفي الأحوال كلها فقد وجدنا في الحياة وفي التاريخ كثيرا من الرجال الطيبين والنساء الطيبات حتى إننا طرحنا جانبا أي قول عن مكر البشر·
ملحوظة
في النصوص المقتبسة الحروف المائلة التي يقصد بها التأكيد ليست من عندنا ما لم ينص على ذلك· الفقرات الفاترة غير الأساسية في مسار الكتاب كتبت بحروف صغيرة·
مقارنة قيمة العملات
من غير الممكن إيجاد صيغة متماسكة: العملات التي تحمل الأسماء نفسها الموجودة الآن، والتي كانت موجودة منذ مائتي عام كان لها قيمة شرائية أكثر كثيرا من قيمتها الحالية، لكن في بعض الأحيان كانت قيمتها أقل· التاريخ تضخمي (من التضخم أي كثرة النقود على قلة قيمتها) على الأقل من ناحية تخفيض قيمة العملة بشكل متكرر كطريقة قديمة لسداد ديون الحكومة، لكن فكرة أن البضائع (المنتجات) كانت تكلفتها في الماضي أقل من تكلفتها الآن ربما تقرب المسافة (تسحر المسافة على وفق النص ( the enchantment of distance) . وبلغة العمل من المطلوب تحصيل (أو كسب) المال (النقود) لنشترى بها ما هو أغلى منها (ما يكلف أكثر من قيمتها) · وعلى العموم، فمع كثير من الاستثناءات والاختلافات بين الدول، سنقدم ما يوازي قيمة بعض العملات الأوروبية في سنة 1789من عملة الولايات المتحدة في سنة 1970، كالتالي:
الكراون 6.25 دولار،
الدوكات 12.50 دولار،
الفلورين 2.50 دولار،
الفرنك 1.25 دولار،
الجروشن groschen 1/4 سنت،(ملحق/31)
الجلدر guilder 5.25 دولار،
الجينيا guinea 26.25 دولار،
الجولدن 5 gulden دولار·
الكروزر kreuzer 1/2 سنت،
الليرا Lira 125 دولار،
الليفر (جنية) Livre 1.25 دولار،
لويس دور Louis d`or 1.25 دولار·
المارك 1.25 دولار،
البوند pound 25 دولار،
الشلن 1.25 دولار،
السو Sou 5 سنتات،
التالر (ثالر) thaler 5.25 دولار·(ملحق/32)
الفصل الأول
الثورة الفرنسية
خلفية الثورة: من 1789 إلى 1799م
The Background of Revolution
أو
أحوال فرنسا قبيل الثورة
1 - الشعب الفرنسي
كانت فرنسا هي أكثر أمم أوروبا سكاناً وأشدها ازدهاراً، فقد كان عدد سكان روسيا في سنة 1780 هو 24 مليون نفس، وإيطاليا 17 مليونا، وأسبانيا 10 ملايين وبريطانيا العظمى 9 ملايين، وبروسيا 8,6 ملايين، والنمسا 7,9 ملايين، وأيرلندا 4 ملايين، وبلجيكا، 2,2 مليون، والبرتغال 2,1مليون، والسويد 2مليون، وهولندا 1,9 مليون، وسويسرا 1,4 مليون، والدنمرك 800,000، والنرويج 700,000 بينما كان عدد سكان فرنسا 25 مليوناً · وكانت باريس هي أكبر مدن أوروبا إذ بلغ عدد سكانها حوالي 650,000 نفساً، كانوا هم الأفضل تعليما في أوروبا كلها، كما كانوا أكثر أهل أوروبا قابلية للهياج والثورة·
وكان الشعب الفرنسي مقسما إلى ثلاث طبقات: طبقة الإكليروس clergy أو رجال الدين وكان عددهم يبلغ نحو 130,000 نفساً، وطبقة النبلاء وكان عددهم يبلغ نحو 400,000، وطبقة العامة وهي الطبقة التي لا ينتمي أفرادها لواحدة من الطبقتين السابق ذكرهما· وكانت الثورة الفرنسية هي المحاولة التي بذلتها هذه الطبقة الثالثة (العوام) التي كانت مهضومة الحقوق السياسية رغم ازدهارها الاقتصادي، بغية الوصول إلى ما يتلاءم مع ثروتها النامية من سلطان سياسي وقبول اجتماعي· وكانت كل طبقة من هذه الطبقات السابق ذكرها منقسمة بدورها إلى طبقات أو شرائح يعلو بعضها الآخر حتى إن كل فردٍ تقريبا كان يمكنه أن ينعم بالنظر إلى من هم دونه، أو بتعبير آخر كان في مكنة كل شخص تقريبا أن ينظر من عَلِ إلى أشخاص هم دونه·(ملحق/33)
وكانت طبقة الهيئة الكهنوتية الكنسية - من كاردينالات ورؤساء أساقفة وأساقفة ورؤساء أديرة - هي أغنى الطبقات جميعاً، بينما كان القسس ومساعدوهم Pastors & Curates في الريف الفرنسي من بين أفقر خلق الله· ومن هنا وجدنا أنه في أثناء الثورة انضم الإكليروس من الرتب الأدنى درجة (كالقسس والرعاة السابق ذكرهم) إلى عامة الشعب ضد سادتهم، وبذا طغى العامل الاقتصادي على العامل الديني · وكانت الحياة في الأديرة (حياة الرهبنة) قد فقدت بريقها، فطائفة الرهبان البنيدكتيين Benedictines الذين بلغوا في فرنسا في سنة 1770م، 6434 راهبا قد تقلص عددهم في سنة 1790 ليصبح 4300، وفي سنة 1780 كانت تسع [أخويات] دينية (روابط أو تجمعات قائمة على أسس دينية) قد حلّت، وفي سنة 1773 كان جماعة الجزويت Jesuits ( جماعة يسوع) قد تفككت وتدهورت أحوال الدين بشكل عام في المدن الفرنسية، فكانت الكنائس في كثير من المدن نصف خاوية،
وفي الريف زاحمت العادات الوثنية والخرافات القديمة عقائد الكنيسة وطقوسها، مزاحمةً فعالة· وعلى أية حال فقد كانت الراهبات لا يزلن يكرسن أنفسهن لتعليم الدين والتمريض بحماس، وكن يحظين بتقدير الأغنياء والفقراء على سواء· وحتى في هذا العصر المتسم بالنزوع للشك والاتجاهات العملية كان هناك الآلاف من النسوة والأطفال والرجال الذين استعانوا على قسوة الحياة بالتقوى فراحوا يعزون أنفسهم بحكايات القديسين وراحوا يخففون من حدة أيامهم الرتيبة المرهقة بممارسة الشعائر في الأعياد الدينية، وفي الاسترخاء، ووجدوا في الآمال الدينية ملاذاً يلوذون به ضد ما اعتراهم من ارتباك وقنوط·(ملحق/34)
وكانت الدولة تدعم الكنيسة لأن رجال الحكم بشكل عام كانوا متفقين على أن رجال الدين (الإكليروس) إنما يقدمون لهم عوناً لا غنىً عنه لحفظ النظام الاجتماعي· فقد كان رجال الدين (الإكليروس) يرون أن الاختلاف الخلْقي Natural بين الناس فيما يتمتعون به من مواهب، يجعل مما لا مناص منه أن تختلف حظوظهم من حيث الثراء، فقد بدا مهما لطبقة الملاك أن يستمر رجال الدين في تقديم نصائحهم للفقراء، تلك النصائح التي تحثهم على الإذعان المسالم لقاء دخول الفردوس تعويضا لهم عما يلاقون· وكان مما يعني كثيرا لفرنسا أن نظام الأسرة - وهو النظام الذي يدعمه الدين ويكثف أهميته - ظل كمرتكز للاستقرار الوطني في أثناء التقلبات كلها التي شهدتها الدولة·
وأكثر من هذا فقد جرى الحث على الطاعة باستخدام عقيدة الحق الإلهي للملوك - سواء في تعيينهم ملوكا أم في مباشرتهم لسلطاتهم· وكان رجال الدين يغرسون هذه العقيدة في نفوس الناس، وشعر الملوك أن هذه الخرافة (الحق الإلهي للملوك) كانت عوناً ذا قيمة غالية لهم لضمان سلامتهم الشخصية ولاستقرار حكمهم· لذا فقد تركوا لرجال الدين الكاثوليك معظم مؤسسات التعليم العامة، وعندما هدد ازدهار البروتستانتية في فرنسا، بإضعاف سلطان الكنيسة الكاثوليكية وما يتمخض عنه من فوائد، جرى طرد الهوجونوت Huguenots ( البروتستانت الفرنسيين) بلا رحمة·
وعرفاناً من الدولة بأهمية هذه الخدمات التي تقدمها الكنيسة، سمحت لها بجمع العشور وسمحت لها بدخول مالية أخرى تجبيها من أبناء كل أبرشية وسمحت لها بتقديم الوعود بتحقيق الأماني التي يرنو إليها العصاة الغافلون بتشجيعهم على شراء نعيم الآخرة لقاء تنازلهم عن ممتلكاتهم في الدنيا لصالح الكنيسة·(ملحق/35)
وأعفت الحكومة رجال الدين من الضرائب واكتفت بالحصول من الكنيسة بين الحين والآخر على منحةٍ كبيرة بلا مقابل· ونظراً لهذه المزايا المختلفة فقد جمعت الكنيسة مقاطعات شاسعة قدرها البعض بأنها تبلغ خمس الأراضي الزراعية في فرنسا · وكانت الكنيسة تدير هذه الأراضي باعتبارها ممتلكات إقطاعية وراحت تجمع منها العوائد الإقطاعية· لقد حولت الكنيسة إيمان المؤمنين إلى حليٍ من ذهب وفضة - كجواهر التاج الملكي - أصبحت كحاجز أو كمنطقة محرمة ذات مناعة، وقداسة وتخصيص لمواجهة أي ادعاء أو تطاول فبدت هذه المكاسب الكنسية راسخة عبر التاريخ عميقة الجذور·
وتلاعب كثير من الكهنة والقسس في عوائد العشور واحتالوا ليحصلوا منها على شيء، وعاشوا في فقر تغلفه التقوى بينما كان كثيرون من الأساقفة يعيشون عيشة مترفة فخمة وكان رؤساء الأساقفة يعيشون بعيدا عن مقارهم الأسقفية وراحوا يحومون حول البلاط الملكي· وفي وقت كانت الحكومة على حافة الإفلاس وجدنا الكنيسة الفرنسية على وفق تقديرات تاليران Talleyrand تنعم بدخل سنوي مقداره 150 مليون ليفر (فرنك)، وكانت طبقة العوام التي أنهكت الضرائب كاهلها في حالة عجب لعدم إرغام الكنيسة على إشراك الدولة معها في ثروتها· وعندما انتشرت كتابات غير المؤمنين (غير المتمسكين بتعاليم الكنيسة) تخلى الآلاف من أفراد الطبقة الوسطى والمئات من أفراد الطبقة الأرستقراطية - عن العقيدة المسيحية، وكانوا مستعدين لأن ينظروا بهدوء فلسفي إلى غارات الثورة على الموروثات المقدسة والمصونة·(ملحق/36)
وكان النبلاء على وعي يشوبه غموض أن النبالة قد فقدت كثيراً من أسباب وجودها أو بتعبير آخر قد ظلت باقية رغم أن المهام المنوطة بها والتي كانت سبب وجودها قد انتهت· فعنصر الفخر في هذه النبالة (أو الشرف) متمثلا في القيام بدور الحماية العسكرية للمجتمعات الزراعية، أو التوجيه الاقتصادي لها أو الرياسة القضائية، لم يعد قائما كما كان، فكثير من هذه الخدمات قد حلت محلها السلطة المركزية والإدارية القوية في ظل ريشليو Richelieu ولويس الرابع عشر· لقد أصبح كثيرون من السادة الإقطاعيين الآن يعيشون في البلاط الملكي وأهملوا إقطاعياتهم، وفي سنة 1789 بدا أن أثوابهم الفخمة ورقتهم في التعامل ولطفهم لم تعد أمورا كافية لتبرير امتلاكهم لربع الأرض الزراعية وابتزازهم للعوائد الإقطاعية ·
وادعت الأسر الأقدم من بين أسر النبلاء أنها من جنس أكثر نبالة (نبالة الجنس La Noblesse de race أو أصالة العرق) إذ أرجعت هذه الأسر أصولها إلى الفرنجة الجرمان (الفرنك الجرمانيين) الغزاة الذين تسموا في القرن الخامس باسم غال Gaul لكن كاميل ديمولان Camille Desmoulins أحال فخرهم إلى منقصة في سنة 1789 باعتبارهم غزاة أجانب، عندما دعا إلى الثورة باعتبارها ثأرا تأخر كثيراً من أعراق وافدة· ومن الناحية الفعلية كان نحو 95% من طبقة النبلاء الفرنسية قد أصبحوا بشكل متزايد بورجوازيين وسلتيين Celtic قد تركوا أفراد الطبقة الوسطى - ذوي العقول الذكية والثروة التي حازوها مؤخرا - يشاركونهم أراضيهم وألقابهم ·
وكان ثمة قسم من الأرستقراطية - عرفوا بنبلاء (الروب) أو النبلاء بحكم المنصب Noblesse de robe وكانوا يكونون نحو أربعة آلاف أسرة شغل أربابها مناصب قضائية أو إدارية رفعت شاغليها - تلقائيا - إلى مرتبة النبالة·(ملحق/37)
ولأن معظم مثل هذه المناصب كان يمكن الحصول عليها بشرائها من الملك أو وزرائه الذين كانوا يبيعونها لزيادة دخل الدولة، فقد شعر كثيرون من المشترين لهذه المناصب بأحقيتهم في استرداد ما دفعوه فأصبحوا أكثر ميلاً إلى قبول الرشوة · لذا فقد انتشر الفساد (عدم طهارة اليد) بين شاغلي المناصب في فرنسا بشكل غير عادي وكان هذا واحدة من مئات الشكاوى والأسباب الداعية إلى التذمر من نظام حكم يموت· وكانت بعض هذه المناصب والرتب وراثية، ولأن شاغليها والحائزين عليها قد تضاعف عددهم خاصة في البرلمانات أو المحاكم القانونية في مختلف المديريات districts ( أو المحافظات أو الدوائر) فقد تنافى شعورهم بالقوة والفخر حتى إن برلمان باريس في سنة 1787 ادعى لنفسه الحق في الاعتراض على المراسيم الملكية (التي لها قوة القانون) · لقد بدأت الثورة قرب القمة·
وفي نشرة بعنوان "ما هي طبقة العوام أو الطبقة الثالثة؟ Qu'est-ce que le Tiers etat?" صدرت في شهر يناير سنة 1789 طرح الراهب الفرنسي إمانويل جوزيف سييز Emmanuel Joseph Sieyés ثلاثة أسئلة وأجاب عنها: ما هي الطبقة الثالثة أو طبقة العوام؟ إنها كل شيء· ما حالها حتى الآن؟ لاشيء· ماذا تود هذه الطبقة أن تكون؟ تريد أن تكون شيئاً ما - أو على وفق لتصحيح تشامفورت Chamfort - كل شيء· لقد كانت تقريبا كل شيء فقد ضمت البرجوازية أو الطبقة الوسطى التي تتكون من 100,000 أسرة وطبقاتها (شرائحها ( layers العديدة - رجال البنوك والسماسرة والوسطاء والصناع والتجار والمديرون والمحامون والأطباء والعلماء والمدرسون والحرفيون والصحفيون (تشكل الصحافة السلطة الرابعة) وطبقة عامة الشعب Menu peuple والعبارة تعني قليلي الأهمية (وأحيانا يطلق عليهم لفظ عام هو الشعب) ويقصد بهم البروليتاريا proletariat وحرفيي المدن وعمال النقل البري والبحري والفلاحين ·(ملحق/38)
وكانت الطبقة الوسطى العليا تقبض على زمام السلطة الصاعدة متسعة المدى وتديرها: كان لها السلطان على عملية انتقال الأموال وحركتها ورؤوس الأموال، وكانت تمارس هذه العملية بشدة وجرأة تتسم بالمغامرة، وكانت - في ذلك - تدخل في منافسة واسعة المدى مع الذين يمتلكون السلطان على الاقتصاد الزراعي الإستاتيكي المتسم بالسكون Static ومع العقيدة الآفلة· لقد دخلوا في مضاربات تجارية في أسواق الأوراق المالية في باريس ولندن وأمستردام، فتحكموا - على وفق لتقديرات نيكر Necker - في نصف أموال أوروبا ·
وكانوا يمدون الحكومة الفرنسية بالقروض ذوات الفوائد وكانوا يهددون بإسقاطها في حالة عدم سداد هذه الديون وعدم سداد ما اشترته الحكومة بالديون· وكانوا يمتلكون - أو يديرون - صناعة استخراج المعادن وتعدينها في شمال فرنسا، وصناعة النسيج في ليون Lyons وتروي Troyes وأبيفيل Abbeville وليل Lille ورون Rouen، وأعمال استخراج الحديد والملح في اللورين Lorraine ومصانع الصابون في مرسيليا Marseilles ومدابغ الجلود في باريس·
لقد أداروا الصناعة الرأسمالية التي حلت محل دكاكين الحرف والنقابات الحرفية التي كانت سائدة في الماضي، وكانوا من أنصار المذهب الفزيوقراطي Physiocrats المنادي بأن المشروع الحر (غير المرتبط بالدولة) أكثر إنتاجية ولدى القائمين عليه حوافز أقوى ودوافع أشد من المشروع التقليدي المرتبط بالتنظيمات والقواعد التقليدية التي تفرضها الدولة؛ سواء كان مشروعاً صناعيا أم تجاريا· لقد مولوا ونظموا الصناعات التحويلية (تحويل المواد الخام إلى بضائع) وراحوا ينقلون هذه البضائع من المنتج إلى المستهلك ليحققوا من كليهما ربحا· لقد استفادوا من ثلاثين ألف ميل من أفضل الطرق في أوربا لكنهم اعترضوا على الرسوم المعوقة التي كانت تفرض على استخدام طرق فرنسا وقنواتها، كما اعترضوا على اختلاف الموازين والمقاييس نتيجة تمسك بعض الولايات المقاطعات Provinces بها بسبب عوامل الغيرة·(ملحق/39)
لقد تحكموا في التجارة التي كانت سبب ثراء بوردو Bordeaux ومرسيليا ونانت Nantes، وكونوا شركات مساهمة كشركتي: Compagnie des Eaux , Compagnie des Indes ووسعوا مجال سوقهم ومدوه· فلم يعد قاصرا على المدينة وإنما شمل العالم، وعن طريق مثل هذه التجارة جعلوا لفرنسا إمبراطورية فيما وراء البحار لا يبزها في المضمار سوى إنجلترا· لقد شعر أفراد هذه الطبقة أنهم - وليس طبقة الأشراف - هم صانعو الثروة الفرنسية النامية، ومن ثم صمموا على مشاركة النبلاء ورجال الدين في المزايا التي تُسْبغها الحكومة عليهم وفي التعيينات وصمموا على أن يكون لهم الوضعية نفسها التي للنبلاء أمام القانون وفي البلاط الملكي وأن يستمتعوا بالمزايا كلها ويتسنموا مراتب الشرف كلها في المجتمع الفرنسي،
فعندما دعيت مانون رولاند Manon Roland وهي سيدة رقيقة كيسة - لكنها بورجوازية - لزيارة سيدة من النبيلات، وطلب منها أن تأكل مع الخدم وألا تجلس إلى المائدة مع الضيوف النبلاء صاحت محتجة وتغلغلت صيحتها في قلوب أفراد الطبقة الوسطى لقد كان هذا الامتعاض وذلك الطموح منغرساً في أفكار هذه الطبقة عندما رفعوا مع الثورة الفرنسية شعارها "حرية ومساواة وإخاء"، إنهم لم يكونوا يعنون بهذا "دونية" أو "رفعة" لكن هذا الشعار خدم أغراض هذه الطبقة حتى يجري تصحيح الأمور· وفي هذه الأثناء أصبحت الطبقة البورجوازية هي أقوى القوى التي تعمل على قيام الثورة·(ملحق/40)
لقد كان أفراد الطبقة الوسطى هم الذين يملئون المسارح وهم الذي يصفقون لقصائد بومارشيه Beaumarchais التي يهجو فيها الأرستقراطيين· لقد كان أفراد الطبقة الوسطى هم الذين التحقوا - أكثر من أفراد طبقة النبلاء - بالمحافل الماسونية Freemason lodges ليعملوا على تحقيق الحرية في الحياة والفكر، لقد كانوا هم الذين يقرءون فولتير Voltaire ويستطيبون سخريته اللاذعة، ويتفقون مع جيبون Gibbon فيما ذهب إليه من أن الأديان كلها - بالنسبة للفيلسوف - زائفة، وهي - أي الأديان بالنسبة للحكومات (رجال الدولة) مفيدة· وكانوا في السر يبدون إعجابا بالمذهب المادي الذي قال به دهولباخ وهيلفيتيوس d'Holbach and Helvetius وقد لا يكون هذا المذهب صحيحا تماما أمام أسرار الحياة والنفس البشرية، لكنه كان سلاحا جاهزا يمكن شهره في وجه الكنيسة التي تتحكم في عقول ونفوس معظم الفرنسيين وفي نصف ثروة فرنسا· وكانوا متفقين مع ديدرو Diderot، ولم يكونوا مولعين بروسو Rousseau الذي يشتم منه طعم الاشتراكية ويفوح منه معنى اليقين لكنهم هم - أكثر من أي شريحة أخرى في المجتمع الفرنسي - الذين شعروا بتأثير الآداب والفلسفة وعملوا على نشرهما·
وكان الفلاسفة بشكل عام معتدلين في سياساتهم· لقد قبلوا الملكية ولم يرفضوا عطايا الملك، وولوا وجوههم شطر الحكام المتنورين مثل فريدريك الثاني Frederick II في بروسيا، وجوزيف الثاني Joseph II في النمسا بل وحتى كاترين الثانية Catherine II في روسيا، أكثر مما ولوا وجوههم شطر الجماهير الأمية العاطفية، واعتبر الفلاسفةُ (المفكرون) هؤلاء الحكامَ المتنورين هم مهندسى الإصلاح· ووضع الفلاسفة ثقتهم في العقل رغم إدراكهم قصوره· لقد كسر هؤلاء الفلاسفة (المفكرون عامة) وصاية الكنيسة والدولة ورقابتهما على الفكر وفتحوا ملايين العقول ووسعوا من آفاقها، لقد مهدوا لانتصارات العلم في القرن التاسع عشر، رغم أن لافوازيه Lavoisier ولابلاس Laplace ولامارك Lamarck شهدوا الهياج في أثناء الثورة وما صاحبها من حروب·(ملحق/41)
أما روسو Rousseau فقد فك ارتباطه بالفلاسفة· لقد كان يحترم العقل، ولكنه احتفى بالمشاعر وبالعقيدة (الإيمان) المريح· وقد طرح كتابه Savoyard Vicar`s Profession of Faith الموقف الديني لروبيسبير Robespierre، وأدى إصراره على توحيد العقيدة الوطنية إلى أن اعتبرت لجنة الأمن العام الهرطقة السياسية جريمة عقوبتها الإعدام - خاصة في زمن الحرب· وقد قبل يَعاقِبةُ الثورةِ مبادئ العقد الاجتماعي التي مؤداها أن الإنسان خير بطبعه وما جعله شريرا سوى تبعيته لمؤسسات فاسدة منحرفة وقوانين جائرة، وأن الناس قد خلقوا أحرارا ولم يستعبدهم سوى الحضارة الزائفة· وعندما كان القادة الثوريون في السلطة تبنوا أفكار روسو Rousseau التي مؤداها أن المواطن بتلقيه حماية الدولة يصبح مطيعا لها ضمنا· وقد كتب مالي دى بان Mallet du Pan: " لقد سمعت مارا Marat في سنة 1788 يقرأ العقد الاجتماعي ويعلق عليه في الطرقات العامة وسط تصفيق المستمعين المتحمسين"· لقد تحولت سيادة الشعب العليا التي نادى بها روسو إلى سيادة لجنة الأمن العام التي لا معقب عليها بعد الثورة، ثم أصبحت سيادة عليا لرجل واحد·
وكان"الشعب" في مصطلح الثورة يعني الفلاحين وعمال المدن، فحتى موظفي المصانع في المدن كانوا أقلية سكانية· لقد كانت الصورة هناك بعيدة عن صورة المنشآت أو المؤسسات الصناعية، إذ كان مصطلح الشعب أقرب ما يكون إلى معنى الخليط غير المتناسق الذي يضم الجزارين والخبازين وصانعي الجعة (البيرة) والبقالين والطباخين والبائعين الجوالين والحلاقين وأصحاب المحلات والعاملين في الفنادق وتجار الخمور وصانعيها والنجارين والبنائين والذين يطلون البيوت والعاملين في مجال الزجاج وصانعي الجص وصانعي الآجر وصانعي الأحذية والخياطين والصباغين وعمال النظافة وصانعي الثياب والحدادين والخدم وصانعي الأثاث وصانعي السروج وصانعي العجلات والعربات والصاغة وصانعي السكاكين والنساجين والدباغين والعاملين في مجال الطباعة وبائعي الكتب والعاهرات (المومسات) واللصوص·(ملحق/42)
وكان هؤلاء العمال يلبسون سراويل طويلة تصل إلى كعوب أقدامهم أكثر مما يرتدون السراويل القصيرة التي تصل إلى الركبة والمعروفة باسم الكلوتات Culottes والجوارب كما يفعل أبناء الطبقات العليا لذا فقد أطلق على هؤلاء العمال اسم "الطبقة التي لا ترتدي كلوتات Sans Culottes" وقد لعبت هذه الطبقة دورا فعالا (دراماتيا) في الثورة الفرنسية· وقد أدى تدفق الذهب والفضة من العالم الجديد وإصدار النقود الورقية بشكل متكرر إلى ارتفاع الأسعار في أنحاء أوروبا كلها، ففي فرنسا ارتفعت الأسعار فيما بين عامي 1741 و1789 بمقدار 65% بينما لم ترتفع الأجور سوى 22%، وفي ليون Lyons كان هناك 30,000 شخص معفون من الخدمة في سنة 1787، وكان في باريس 100,000 أسرة مدرجة باعتبارها في حالة عوز في سنة 1791 · وكان من الممنوع إنشاء اتحادات عمال ذوات أهداف اقتصادية ومن هنا تتالت الإضرابات· وكلما اقترب ميعاد الثورة كان مزاج العمال وحالتهم النفسية يزدادان توترا واكتئابا وميلاً إلى الثورة والتمرد، ولم يكن ينقصهم سوى بندقية وزعيم ليستولوا على الباستيل ويغزوا قصر التوليري Tuileries ويعزلوا الملك·
ومن المسلم به أن الفلاحين في فرنسا في سنة 1789 كانت حالهم أفضل مما كانت عليه قبل قرن من الزمان عندما بالغ لابرويير La Bruyére قائلاً: إنه لا يكاد يميز بينهم وبين البهائم ·(ملحق/43)
وكان حال الفلاحين الفرنسيين في سنة 1789 أفضل من حال الفلاحين في سائر أنحاء أوروبا، ربما باستثناء فلاحي شمال إيطاليا· وكان نحو ثلث الأراضي الزراعية مملوكا للفلاحين، وكان ثلث آخر تتم زراعته بتأجير الأرض من النبلاء والإكليروس (رجال الدين) وأفراد الطبقة البورجوازية، أو بنظام المزارعة (المشاركة في المحصول، هذا لقاء ملكيته للأرض وذاك لقاء عمله فيها) أما ثلث الأرض الزراعية الباقي فكان يقوم على زراعته أجراء تحت إشراف الملاك أو من ينوب عنهم· وشيئا فشيئا أصبح عدد الملاك محصوراً فلم يكن أمامهم سوى الزراعة أو الرعي، بينما تكاليفهما غدت مرهقة، وأصبحت المنافسة حادة بينهم خاصة مع وجود الأرض العامة (المشاع) Common Land التي كان من حق الفلاحين - سابقا - أن يرعوا فيها وأن يجمعوا منها الحطب ·
وكان حائزو الأرض من الفلاحين كلهم ملزمين بدفع رسوم إقطاعية فيما عدا قلة قليلة كانوا يمتلكون أراضي معفاة من أي التزام أو واجب أمام السيد الإقطاعي، إذ كان الفلاحون - خلا هذه القلة الآنف ذكرها - ملزمين بناء على عقد بينهم وبين صاحب العزبة بأن يعملوا لديه عدة أيام كل عام بدون أجر (بنظام السخرة ( Corvee) لمساعدته في زراعة أرضه وإصلاح الطرق في عزبته، ومع هذا فقد كانوا يدفعون له رسوم مرور عند استخدامهم هذه الطرق· وكانوا يدفعون له بدلية (رسما في مقابل الإعفاء من أداء خدمات معينة) وكانت قيمة هذه البدلية معتدلة وكانوا يدفعونها كل سنة نقدا أو عينا، وإذا باع الواحد منهم ممتلكاته طالبه السيد الإقطاعي بمبلغ يساوي 10% أو 15% من الثمن الذي تقاضاه · وكانوا يدفعون له لقاء صيدهم الأسماك من المياه التابعة له، وإذا رعوا أنعامهم في حقله، وكانوا يدفعون له رسما في كل مرة يستخدمون فيه طاحونته أو مخبزه أو معصرته التي تستخدم في استخراج الزيت أو إعداد عصير العنب ليصير نبيذا·
ولأن هذه الرسوم كانت محددة على وفق القانون، فقد أصبحت قيمتها متدنية بسبب التضخم فشعر المالك أن لديه مسوغا في استنزاف هؤلاء الفلاحين بقسوة كلما ارتفعت الأسعار ·(ملحق/44)
وكان على الفلاح أن يدعم الكنيسة التي تبارك محصوله وتهيئ أطفاله للطاعة والإيمان وتشرف حياته بالطقوس والأسرار المقدسة، بأن يدفع لها سنويا العشور ( tenth وإن كانت عادة ما تكون أقل من العشر) من محصوله وما ينتجه· وكانت الضرائب التي تفرضها الدولة عليه أشد وطأة من العشور والمستحقات الإقطاعية، فقد فرضت الدولة ضريبة الرأس كما فرضت عليه نصف العشر Vingtieme عن دخله السنوي، وفرضت عليه ضريبة المبيعات عن كل ما يشتريه من مشغولات ذهبية وفضية أو منتجات معدنية أو كحول أو ورق أو نشا····· وفرضت عليه مصلحة الملح أن يشترى كل عام كمية محددة من الملح من الحكومة بالسعر الذي تحدده (أي تحدده الحكومة) · وعلى هذا فقد كان العبء الأساسي لدعم الدولة والكنيسة - زمن الحرب وزمن السلم - يقع على كاهل الفلاحين، أما النبلاء والإكليروس فقد كانوا يجدون طرائق قانونية أو غير قانونية للتخلص من كثير من هذه الضرائب وكان الشباب الأثرياء يمكنهم زمن الحرب أن يدفعوا "البدلية" (مبلغ لقاء عدم التحاقهم بالقوات المقاتلة) ·
وكان من الممكن تحمل هذه الضرائب والعشور والمستحقات الإقطاعية طالما كان المحصول طيباً، لكن حالهم يصبح بائساً في أثناء الخراب الذي تسببه الحروب أو تقلبات المناخ فيصبح المحصول غير مجز ويضيع شقاء العام هباء، ساعتها يبيع الفلاحون الملاك أراضيهم أو عملهم أو كليهما للمغامرين المحظوظين المغرمين بشراء الأراضي الزراعية·
واتسم عام 1788 بكثرة مصائبه التي انهالت عليهم بلا رحمة، فقد أدى الجفاف الشديد إلى نقص شديد في المحصول ودمرت العواصف المصحوبة بالبَرَد 180 ميلا من الأراضي الزراعية الخصبة عادة من نورمنديا Normandy إلى شمبانيا Champagne، وكان شتاء 1788/ 1789 هو أقسى شتاء مر بالبلاد منذ ثمانين عاما، ففنيت آلاف من أشجار الفاكهة، وشهد ربيع سنة 1789 فيضانات مدمرة، أما الصيف فكان مصحوبا بمجاعة في المقاطعات تقريبا كلها·(ملحق/45)
وبسبب الأعمال الخيرية التي قدمتها الدولة والكنيسة والأفراد حصل الجوعى على الطعام فلم يمت من الجوع إلا عدد قليل، لكن الملايين أنفقوا في هذه المجاعة كل ما يملكون، وشهدت كان Caen ورون Rouen وأورليان Orleans ونانسي Nancy وليون Lyons جماعات تتقاتل كالحيوانات للحصول على القمح، وشهدت مرسيليا 8,000 جائع عند بواباتها يهددون بغزو المدينة وسلبها· وفي باريس شهد حي سان (القديس) أنطوان St.-Antoine - حي الطبقة العاملة 30,000 معوز في حاجة إلى إعانة ·
وفي هذه الأثناء أدت اتفاقية تيسير التجارة مع بريطانيا العظمى (1786) إلى إغراق فرنسا بالمنتجات الصناعية البريطانية الأرخص سعرا من المنتجات الفرنسية فأدى هذا إلى تعطل آلاف العمال الفرنسيين عن العمل - لقد فقد 25,000 عامل فرنسي عملهم في ليون، و46,000 في أمين Amiens و80,000 في باريس · وفي مارس سنة 1789 رفض الفلاحون دفع الضرائب بالإضافة إلى المخاوف من إفلاس الدولة ·
وقد قابل آرثر يونج Arthur Young الذي كان يقوم برحلة في مقاطعات فرنسا في يوليو سنة 1789 - فلاحة فرنسية كانت تشكو من الضرائب والمستحقات الإقطاعية اللتين تجعلانها دوما على حافة الإملاق، لكنها أضافت قائلة إنها تعلم "أنه لا بد أن يقوم عدد كبير من الناس بعمل شيء من أجل هؤلاء البؤساء ··· لأن الضرائب والرسوم تسحقنا" لقد سمعوا أن الملك لويس السادس عشر Louis كان رجلاً طيبا راغبا في إصلاح الفساد وحماية الفقراء· لقد كانوا يتطلعون بأمل إلى فرساي Versailles ويدعون بطول العمر للملك·(ملحق/46)
2 - الحكومة
كان لويس السادس عشر رجلاً طيبا، لكنه يصعب - إلا قليلاً - اعتباره ملكا صالحا، فلم يكن الرجل يتوقع أن يصبح حاكما (ملكا)، فقد كان هو الابن البكر لأبيه الذي مات مبكراً 1795، وقد جعله موت جده لويس الخامس عشر 1774 سيدا لفرنسا وهو على حافة العشرين· ولم يكن لديه رغبة في حكم الرجال فقد كان بارعا في استخدام الأدوات والآلات وكان صانعا للأقفال ويجيد إصلاحها بشكل ممتاز، وكان يفضل الصيد على الحكم، فلم يكن يعتبر اليوم الذي لا يصطاد فيه أيّلا إلا يوما ضائعا غير محسوب من عمره ففي الفترة من سنة 1774 إلى سنة 1789 طارد 1.247 أيلا، وقتل 189.251 طريدة، ومع هذا فقد كان لا يحب إصدار أوامر بإعدام البشر،
وربما يكون قد فقد عرشه لأنه منع حرسه السويسري من إطلاق النار في 10 أغسطس سنة 1792 وكان بعد أن يعود من رحلات الصيد يأكل بشراهة حتى يملأ معدته عن آخرها، وكانت طاقة معدته لتحمل مزيد من الطعام في ازدياد مستمر، وأصبح نتيجة لذلك بدينا لكنه كان قويا، وقد أصابت ماري أنطوانيت Marie Antoinette في حكمها على زوجها عندما قالت:
"الملك ليس جبانا، بل يتحلى بقدر كبير جدا من الشجاعة الكامنة لكن الخجل يربكه وتعوزه الثقة بالنفس ·· وهو يخاف من القيادة ·· لقد عاش كالطفل وفي حالة قلق دائم وهو تحت رعاية لويس الخامس عشر، وظلت هذه حاله حتى بلغ الواحدة والعشرين· لقد عمقت هذه القيود المفروضة عليه جبنه" ·
وكان حبه لمليكته جزءاً من الأسباب التي ألحقت الدمار به لقد كانت جميلة فخمة تزين بلاطه بجاذبيتها ومرحها، وغفرت له تباطؤه في عقد قرانه بها· لقد كان الملك ذا عضو تناسلي محكم الإغلاق بمعنى أن قلفته أو غرلته كانت ملتصقةً التصاقا شديدا بعضوه وكان هذا يسبب له ألماً لا يحتمل إذا ما أنعظ· وقد حاول مرات عدة طوال سبع سنوات، وكان يتحاشى العملية الجراحية البسيطة التي يمكن أن تحل مشكلته إلى أن حثه في سنة 1777 أخو الملكة جوزيف الثاني Joseph النمساوي على إسلام ذكره للسكين وما أن فعل حتى صارت أمور ذكره على ما يرام·(ملحق/47)
وربما كان الشعور بالذنب الذي يعتريه عنيفا حينا، وهوناً حيناً هو الذي جعله متسامحا جداً مع زوجته؛ متسامحاً إزاء مقامرتها ومغامرتها في لعب الورق (الكوتشينة)، متسامحا إزاء مبالغتها في اقتناء الثياب، متسامحا إزاء رحلاتها المتكررة إلى باريس لحضور الأوبرا، وتحمل صداقتها الأفلاطونية بالكونت فون فيرسن Count Von Fersen وصداقتها للأميرة دى لامبل de Lamballe وممارستها السِّحاق معها في ظل هذه الصداقة· لقد كان الملك بتكريسه نفسه لزوجته بشكل واضح يسلي حاشيته ويسعدها لكن هذا كان مدعاة لخجل أجداده·
وكان الملك يقدم لها الجواهر الغالية، لكنها - وكذلك فرنسا- كانت أكثر حاجة إلى طفل· وعندما أتى الأطفال أثبتت أنها أم صالحة وانشغلت بمتاعبهم وقللت من غلوائها، واعتدلت في أمورها كلها خلا كبريائها، وتدخلها المتكرر في أمور الدولة (شئون الحكم)، وفي هذه كان لها بعض العذر لأن لويس كان قلما يحسم الأمور أو يحدد المسار أو يختار بين البدائل بل كان غالباً ينتظر الملكة لتنظم له تفكيره، وكان بعض أفراد الحاشية يتمنون لو كان له قدرتها على تقدير الأمور بسرعة واستعدادها للقيادة·
لقد فعل الملك كل ما استطاع لمواجهة المصائب والأزمات التي سببها له سوء الأحوال الجوية والمجاعة والشغب بسبب عدم توفر الخبز، والثورات ضد الضرائب، ومطالب النبلاء والبرلمان، ونفقات البلاط والإدارة وزيادة العجز في الخزانة·وظل طوال عامين (1774 - 1776) يسمح لتورجو Turgot بتطبيق نظرية الفيزيوقراطين (الطبيعيين) والتي مؤداها أن إطلاق الحرية للمشروعات الخاصة والمنافسة وعدم إعاقة قوانين السوق المتحكمة - قانون العرض والطلب - سينعش الاقتصاد الفرنسي ويضيف عوائد جديدة للدولة، وأنه من الضروري تطبيق هذه النظرية على أجور العمال وأسعار البضائع· لكن أهل باريس قد اعتادوا التفكير في أن الحكومة هي الملاذ الوحيد الذي يحميهم من جشع المضاربين في السوق، لذا فقد عارضوا إجراءات تورجو Turgot وقاموا بأعمال شغب، واعترتهم البهجة عند سقوطه (أي سقوط حكومة تورجو) ·(ملحق/48)
وبعد أن لبث الملك عدة شهور مترددا مشوش الفكر استدعى جاك نيكر Jacques Necker وهو خبير مال سويسري يدين بالمذهب البروتستانتي ومقيم في باريس ليكون مشرفا على أمور الخزانة (1777 - 1781) ·
وفي ظل هذا الغريب غير الكاثوليكي نفذ الملك لويس برنامجا شجاعا لإصلاحات صغرى؛ فقد سمح بتشكل مجالس (جمعيات) منتخبة على المستوى المحلي ومستوى المقاطعات لتعبر عن أهالي هذه المناطق لتكون كجسر يسد الفجوة بين الشعب والحكومة· وأعلن الملك رفضه لنظام السخرة Corveé، وكان إعلانه هذا صدمة لطبقة النبلاء، بل لقد أعلن في بيان أمام الجمهور (1780)
"أن الضرائب المفروضة على القطاعات الأشد فقرا من رعايانا قد زادت زيادة كبيرة أكثر بكثير مما زادت فيه الضرائب على القطاعات الأخرى جميعا" وعبر عن "أمله في أن يفكر الأغنياء في تحمل الأعباء التي كان يجب أن يشاركوا الآخرين في حملها منذ مدة طويلة"
وقام الملك بتحرير الأقنان (عبيد الأرض) في ممتلكاته ولكنه قاوم ما حثه نيكر عليه بتطبيق ذلك على الأقنان في أراضي النبلاء والإكليروس· وأسس الملك مراكز للرهن (مراهن) لتقرض الأموال للفقراء (بعد إيداع رهن) بنسبة ربح 3%، ومنع استخدام أساليب التعذيب مع الشهود ومرتكبي الجرائم· ووعد بإلغاء الزنزانات في فينسين Vincennes وأن يدمر الباستيل Bastille ضمن برنامج لإصلاح السجون·
ورغم أن الملك كان تقيا متمسكا بكاثوليكيته إلا أنه سمح بقدر كبير من الحرية الدينية للبروتستانت واليهود · ورفض أن ينزل العقاب بأصحاب الأفكار الحرة، بل لقد سمح لمؤلفي الكتيبات (مصدري النشرات) الغلاظ الذي لا يرحمون أن يصفوه بأنه ديوث، ويصفوا زوجته بأنها بغي ويصفوا أولاده بأنهم أولاد زنا· ومنع حكومته من التجسس على مراسلات المواطنين الخاصة·(ملحق/49)
وأرسل لويس مساعدات مالية ومادية بلغ إجمالي قيمتها 240,000 دولار للمستعمرات الأمريكية دعماً لها في نضالها من أجل الاستقلال، وقد أيده في هذا بحماس بومارشيه Beaumarchais والفلاسفة Philosophes، بينما كان نيكر معارضا (بحجة أن ذلك سيعجل بإفلاس فرنسا إفلاسا كاملا) · لقد كان الأسطول الفرنسي وكتائب لافاييت Lafayette وروشامبو Rochambeau هي التي ساعدت واشنطن Washington على حصار كورنويلز Cornwallis في يوركتاون York town وإرغامه على التسليم ومن ثم كانت القوات الفرنسية سببا في إنهاء الحرب· لكن الأفكار الديمقراطية عبرت المحيط الأطلنطي إلى فرنسا، وبينما كانت خزانتها تئن من وطأة الديون الجديدة، جرى طرد نيكر من الحكومة عام 1781 وراح حاملو السندات من الطبقة البورجوازية يصرخون متذمرين مطالبين بضبط مالية الحكومة·
وفي هذه الأثناء راح برلمان باريس يضغط على دعواه بحقه في الاعتراض على المراسيم الملكية· وغالبا ما كان لويس- فيليب - جوزيف Louis - Philippe - Joseph دوق أورليان Orleans - ابن عمه فهو منحدر مباشرة من الأخ الأصغر للويس الرابع عشر - يخطط علنا للاستيلاء على العرش· وراح لويس - فيليب - جوزيف يوزع عن طريق كوديرلو دى لاكلو Choderlos de Laclos وغيره من الوكلاء عنه النقود والوعود على السياسيين وكتاب النشرات (الكتيبات) والخطباء والعاهرات (المومسات) ·
لقد أباح لأتباعه التسهيلات والبلاط وحدائق قصره الملكي والمقاهي والحانات ومخازن الكتب ونوادي القمار لتكون في خدمة الجماهير التي تجمعت هناك نهارا وليلا ووصلت الأخبار من فرساي Versailles بسرعة· حملها بعض أفراد الحاشية· فظهرت النشرات (الكتيبات) هناك في كل ساعة ودوى الخطباء بخطبهم من فوق المنصات والمناضد والكراسي، وحبكت المؤامرات لعزل الملك·(ملحق/50)
وانزعج الملك من فكرة عزله فاستدعى نيكر وولاه وزارة المالية (1788)، وأصدر بناء على حث نيكر له دعوة للفرنسيين بأن ينتخبوا ممثليهم من النبلاء ورجال الدين والعوام ويرسلوهم إلى فرساي ليشكلوا مجلس طبقات الأمة (لم ينعقد مجلس طبقات الأمة منذ سنة 1614) ليقدم له المشورة والدعم لمواجهة مشاكل المملكة· وكانت دعوة الملك لعقد مجلس طبقات الأمة هي الملاذ الأخير والخطير الذي اضطر للجوء إليه والذي قد يؤدي إلى إنقاذ عرشه أو الإطاحة به· وقد أصدر الملك دعوته هذه في 8 أغسطس سنة 1788·
وثمة بعض الملامح الجديرة بالملاحظة حول هذه الدعوة التاريخية التي وجهتها الحكومة لأنها طوال نحو قرنين من الزمان لم تكن تفكر في طبقة العوام إلا باعتبارهم مجرد دافعي ضرائب وموردي طعام، و- دوريا- وقود حرب· وقد أعلن الملك في البداية بناء على حث نيكر له أن طبقة العوام لا بد أن يكون لها ممثلون (نواب) بقدر عدد نواب الطبقتين الأخريين (طبقة النبلاء وطبقة الأكليروس)، في هذا الاجتماع القادم· وكانت طبقة النبلاء معترضة على هذا الإعلان الملكي· أما الأمر الثاني: أن تكون الانتخابات في فرنسا أقرب ما تكون إلى نظم الانتخابات العالمية بالنسبة للبالغين؛ فأي رجل يبلغ السابعة والعشرين من عمره أو أكثر، يكون قد دفع في العام الماضي أي ضرائب للحكومة مهما قلت قيمتها، له حق التصويت في المجالس المحلية Local assemblies التي ستنتخب ممثليها لتمثيل المنطقة في باريس· والأمر الثالث أن الملك أضاف إلى دعوته طلبا من المجالس المنتخبة كلها أن تقدم له تقارير ... Cahier لتحديد المشكلات وطلبات كل طبقة في كل مقاطعة أو إقليم district مع اقتراحات وتوصيات لعلاج هذه المشكلات ورسم سبل للإصلاح· ولم يحدث أبداً قبل ذلك - فيما تعي ذاكرة الفرنسيين - أن طلب أي من ملوكهم مشورة شعبه·(ملحق/51)
ومن بين 615 تقريراً حملها النواب للملك، بقي منها 545 · وكلها تقريبا تعبر عن ولائها للملك بل وتعاطفها معه باعتباره رجلاً حسن النوايا بشكل ظاهر، لكن هذه التقارير كلها أو العرائض تقريبا قد اقترحت عليه أن يشرك معه في مشاكله وسلطاته مجلسا منتخبا ليكون معه ملكية دستورية· ولم يرد في تقرير واحد من هذه التقارير أي ذكر لحق الملوك الإلهي في الحكم· وطالبت التقارير جميعا بنظام قضائي قائم على المحاكمة أمام هيئة محلفين، وطالبت بخصوصية الرسائل (عدم جواز اطلاع السلطات عليها) وتخفيف الضرائب وإصلاح القانون·
أما التقارير التي كتبها النبلاء فقد اشترطت أن يجلس أفراد كل طبقة بمعزل عن الطبقتين الأخريين في مجلس طبقات الأمة القادم، وأن تصوت كل طبقة على حدة، وألا يصبح أي إجراء قانونيا إلا بعد موافقة الطبقات الثلاث· أما تقارير (عرائض) الإكليروس فدعت إلى نبذ التسامح الديني وأن تشرف الكنيسة - وبمفردها - على التعليم· وعكست تقارير الطبقة الثالثة (طبقة العوام) - مع اختلاف في درجة التركيز على عنصر أو آخر - مطالب الفلاحين في تخفيض الضرائب، وإلغاء القنانة (عبودية الأرض) والعوائد الإقطاعية وتعميم التعليم الحر وحماية المزارع من الدمار الذي تلحقه أنعام السادة وممارستهم الصيد فيها، وطالب أفراد الطبقة الوسطى بإتاحة الفرص للموهوبين بصرف النظر عن الأصل وبإلغاء رسوم الانتقال، وبامتداد نظام الضرائب ليشمل النبلاء والإكليروس، واقترح بعضهم أنه يجب على الملك أن ينهي العجز المالي بمصادرة الأملاك الكنسية وبيعها· لقد ظهرت الخطوط العريضة للمراحل الأولى للثورة الفرنسية - بالفعل- في هذه التقارير (العرائض Cahiers) ·(ملحق/52)
وقد ظهر في هذه الدعوة المتواضعة التي وجهها الملك لمواطنيه بعد ملحوظ عن التجرد والحياد، فبينما كان من حق كل مواطن خارج باريس أن يدلى بصوته ما دام قد دفع ضرائب، فلم يكن من حق الباريسي أن يدلي بصوته إلا إذا كان قد دفع ضريبة رأس قيمتها ست ليفرات Livres أو يزيد· ربما تردد الملك ومستشاروه في أن يتركوا للخمسمائة ألف عامل "الطبقة التي لا يرتدى أفرادها كلوتات قصيرة وإنما سراويل (بناطيل) " تصل إلى كواحل الأقدام Sans Culottes ( انتخاب رجال يمثلون في مجلس طبقات الأمة أفضل مصدر للمعلومات للعاصمة (يكونون كاستخبارات داخل المجلس) ·
فمشكلة الديمقراطية المتمثلة في أن الكيف إنما هو ضد الكم والمتمثلة في الحصول على الكفاءات العقول الذكية ( brains) بالتَّشَمُّم المحسوب (باستخدام الجواسيس) قد ظهرت هنا في الفترة التي سبقت الثورة مباشرة، قبل إعلان الديمقراطية في سنة 1793م· وعلى هذا فقد ترك أولئك الذين لا يرتدون كلوتات (العمال) خارج الحركة الشرعية للأحداث، وأدى هذا إلى أن تشعر هذه الطبقة أنه بالعنف وحده - ذلك العنف الذي يستطيعونه بسبب عددهم الكبير - يمكنهم أن يكونوا قاسماً مشتركا في كل ما ترغب الإرادة العامة للشعب التعبير عنه· كانوا هم الذين استولوا على الباستيل في سنة 1789، وهم الذين أطاحوا بالملك في سنة 1792، وهم الذين شكلوا حكومة فرنسا سنة 1793 ·(ملحق/53)
الفصل الثاني
الجمعية الوطنية: من 4 مايو 1789 - 30 سبتمبر 1791
The National Assembly
1 - مجلس طبقات الأمة
THE STATES-GENERAL
في 4 مايو سنة 1789 اتجه ممثلو الطبقة الثالثة (طبقة العوام) وعددهم 621 وكيلا، وكانوا يلبسون الملابس البورجوازية السوداء، يتبعهم 285 من النبلاء وقد وضع الواحد منهم قبعته المزدانة بالريش فوق رأسه وارتدى ثيابا محلاة بالأشرطة والذهب، ثم 308 من رجال الدين، وقد امتاز الأساقفة عنهم بعباءات من قطيفة، ثم وزراء الملك وأفراد عائلته، ثم لويس السادس عشر وزوجته مارى أنطوانيت Marie Antoinette، وكان الجند يحيطون بالركب كله وراحت الأعلام ترفرف وكذلك الشارات، واتجهوا جميعا إلى المكان المخصص لاجتماعهم وهو صالة المسرات البريئة Hotel des Menus Plaisirs التي لا تبعد إلا قليلا عن القصر الملكي في فرساي·
وحفت الجماهير الفخورة والسعيدة بالموكب، وراح بعضهم يبكي فرحا وأملا وهو يرى في هذا المنظر الذي ينم عن وحدة الطبقات المتنافسة، وعداً بالتماسك والتضامن والعدل في ظل ملك خير·
وخطب لويس في الوفود المجتمعة معا معترفاً بأن الخزانة على شفا الإفلاس، وعزا ذلك إلى: "الحرب المكلفة والمشرفة في آن" وطلب منهم أن يفكروا في وسائل جديدة لزيادة دخل الدولة وأن يصدقوا على المراسيم التي تصدر بهذا الشأن· ثم جاء نيكر Necker فاستمر ثلاث ساعات يقرأ إحصاءات جعلت حتى الثورة نفسها، كئيبة ينقصها الحماس· وفي اليوم التالي خبا تألق الوحدة بين الطبقات الثلاث، فوجدنا الإكليروس clergy ( طبقة رجال الدين) يتقابلون في صالة ملحقة أصغر من الصالة التي ضمت الطبقات الثلاث، وراح النبلاء يتقابلون ويجتمعون في صالة أخرى ملحقة وشعر أفراد الطبقتين (النبلاء والإكليروس) أنه يجب عليهم أن يتدارسوا الأمر في نطاق طبقتهم كما يجب عليهم أن يصوتوا بمعزلٍ عن الطبقتين الأخريين كما حدث في آخر مجلس طبقات أمة انعقد منذ 175 عاما مضت، وكان من رأي أفراد الطبقتين أنه لا يجوز إقرار أي اقتراح واعتباره قانونا إلا إذا وافقت عليه الطبقات الثلاث والملك، أما ترك الأمور للانتخابات الفردية أي أن يحسب صوت كل فرد بصرف النظر عن طبقته بين هؤلاء المندوبين المجتمعين فإن هذا يعني تسليم كل شيء لطبقة العوام·(ملحق/54)
وقد حدث بالفعل أن انضم رجال الدين الأشد فقرا من سواهم إلى جانب طبقة العوام
"بل إن بعض النبلاء مثل لافاييت Lafayette وفيليب دأورليان Philippe d'Orleans ودوق دلاروشفوكو La Rochefoucauld، وليانكو Liancourt أضمروا مشاعر ليبرالية خطرة"·
وبسبب هذا بدأت حرب أعصاب لفترة طويلة، وكان يمكن لطبقة العوام أن تنتظر لأن إقرار ضرائب جديدة يستلزم موافقتهم العلنية بينما كان الملك ينتظر إقرار هذه الضرائب الجديدة بصبر فارغ· وكانت طبقة العامة تتحلى بالشباب والحيوية والفصاحة والتصميم· لقد كان هناك أونوري Honore- جابرييل Gabriel - فيكتور ريكيتي Victor Riqueti الذي قدم لهم الكونت دى ميرابو Conte de Mirabeau خبرته وشجاعته وقوة فكرة وصوته الجهوري، وقدم بيير - صامويل دى بو دى نيمور Pierre - Samuel du Pont de Nemours لهم معلومات عن طبيعة اقتصاد الفيزيو قراطيين Physiocrat ( الطبيعيين) وعن الإستراتيجية، أما جان بيلي Jean Bailly فقد حقق بالفعل شهرة في مجال الفلك، وقد هدأ من حدة الانفعال ليصلوا إلى حكم هادىء بعد دراسة الأمور وتقليبها· أما ماكسميليان دى روبيسبير Maximilien de Robespierre فظل يتحدث بانفعال وباستمرار كرجل عقد عزمه ألا يسكت حتى يجد طريقه·
لم يبق من عمر روبيسبير الذي ولد في أراس Arras في سنة 1758 سوى خمسة أعوام، لكنه كان في غالب هذه الفترة هو محور الأحداث أو يتحرك بالقرب من قلبها· وكان روبيسبير قد فقد أمه وهو في السابعة من عمره، أما أبوه فقد اختفى في ألمانيا· وقام الأقرباء بتربية الأيتام الأربعة وفاز ماكسميليان الطالب الدءوب بمنحة دراسية في كلية لويس لي جراند Louis - le - Grand في باريس، ونال درجة جامعية في القانون ومارس المحاماة في أراس Arras وحقق شهرة كمدافع عن الإصلاح حتى إنه كان من بين الذين تم إرسالهم من إقليم أرتوا Artois لحضور مجلس طبقات الأمة State - General.(ملحق/55)
ولم يكن مظهر روبيسبير يدعم دورة كخطيب فقد كان طوله لا يزيد على خمسة أقدام وثلاث بوصات، وكان وجهه عريضاً ومسطحاً شوهه الجدري، وكانت عيناه ضعيفتين محاطتين بدائرتين، وكان لونهما أزرق مخضراً حتى إن كارليل Carlyle أطلق عليه اسم "روبسبير البحر الأخضر" وله بعض العذر في ذلك· وكان روبيسبير يدعو إلى الديمقراطية ويدافع عن حق الذكور البالغين في الانتخاب رغم أن ذلك قد يجعل من أدنى الطبقات شركاء في الحكم بل ويجعل رايتهم ترتفع فوق الجميع· لقد عاش عيشة بسيطة كعيشة أحد أفراد طبقة العمال لكن لم يقلد ذوى السراويل (البنطلونات) الطويلة المعروفين باسم السانس كلوت (أي الذين لايرتدون الشورتات "الكلوتات" القصيرة) لقد كان يلبس سترة خطافية (فراك) زرقاء غامقة نظيفة، وسروالاً (بنطلوناً) قصيرا يصل إلى الركبة وجورباً حريرياً، وقلما كان يغادر بيته قبل أن ينثر المساحيق على شعره·
وكان يسكن مع نجار اسمه موريس دبلي Maurice Duplay في شارع سانت أونري Rue St-Honore وكان يتغذى على مائدة الأسرة وكان يدفع لقاء ذلك ثمانية عشر فرنكا في اليوم· وكان ينطلق من هذا المستوى المتدني (مستوى الحضيض) ليتحرك في معظم أنحاء باريس، وبعد ذلك في معظم أنحاء فرنسا· لقد كان يتحدث بشكل متتابع تتابعا ملحوظا عن الفضيلة، وكان يطبقها بقسوة وصرامة وعناد أمام الجماهير، أما في علاقاته الخاصة فقد كان "كريما عطوفا بل وكان مستعدا لتقديم الخدمات" على حد قول فيليبو بوناروتي Filippo Bunoarrotti الذي كان يعرفه جيدا ·(ملحق/56)
لقد كان يبدو محصنا تماما ضد مفاتن النساء، فقد صرف طاقة الحب التي لدية لأخيه الأصغر أوغسطين Augustin وسان ـ جوست Saint - just ولم يتهمه أحدٌ أبداً بأي انحراف جنسي، ولم يكن من الممكن إغواؤه برشوة مهما بلغ قدرها، وعندما عرض أحد الفنانين صورة شخصية لروبيسبير في سنة 1791 لم يكتب إزاءها سوى فقرة واحدة "غير قابل للرشوة The incorruptible " ولم يبد أن هناك من تجرأ على الاعتراض على ذلك· وكان روبيسبير يؤمن بأفكار مونتسكيو Montesquieu باعتبارها أساساً لازما لجمهورية ناجحة، فمن غير ناخبين لا يمكن شراء أصواتهم الانتخابية ومن غير موظفين لا يمكن رشوتهم تصبح الديمقراطية كذبا ورياء· وقد آمن روبيسبير كما آمن روسو بأن الإنسان خير بالطبيعة أو بتعبير آخر خلقه الله خيرا، بحيث يجب أن تكون "الإرادة العامة" هي قانون الدولة وأن أي معارض مصر على مواجهة الإرادة العامة يستحق بلا ريب الإدانة التي تفضي به إلى ساحة الإعدام· وكان روبيسبير متفقاً مع روسو في أن بعض أشكال المعتقدات الدينية لا بد منها لضمان السلام النفسي والانضباط الاجتماعي ولأمان الدولة وبقائها·
ولم يبد أنه بدأ يشك في اتفاقه التام مع الإرادة العامة "الإرادة الجماهيرية" إلا قرب نهاية حياته· لقد كانت نفسه أضعف من إرادته، وكانت معظم أفكاره مستقاة من قراءاته أو من الشعارات التي ملأت الجو الثوري المحيط· لقد مات في عمر باكر جدا مما لم يتح له فرصة سبر أغوار الحياة بعمق أو تحصيل قدر كبير من المعرفة التاريخية يتيح له أن يقارن بين أفكاره المجردة أو العامة وواقع الأمر من خلال تأمل محايد· لقد عانى بشدة مما حاق بنا من فشل عام، ولم يكن يستطيع أن ينأى بذاته بعيداً عن عينيه· لقد كان مقتنعاً بما يتفوه به مشوبا بالحماس والعاطفة· لقد كان على يقين خطر، وكان يصرخ عبثا بشكل يدعو للسخرية، قال عنه ميرابو Mirabeau: " هذا الرجل سيشتط كثيرا وسيذهب بعيدا· إنه مؤمن بكل كلمة يقولها" وكانت نهايته إلى المقصلة·(ملحق/57)
وقد ألقى روبيسبير على مدار عامين ونصف العام في الجمعية الوطنية نحو خمسمائة خطبة عادة ما كانت الخطبة منها طويلة طولا يبعدها عن تحقيق الإقناع، وعادة ما كانت جدلية خلافية مما يجعلها غير بليغة، ومع هذا فإن جماهير باريس فهمت مغزاها وتعلمت منها وأحبته من أجلها· لقد عارض روبيسبير التفرقة القائمة على أسس عرقية أو دينية واقترح تحرير السود وظل حتى شهور حياته الأخيرة مدافعا عن الشعب· لقد قبل مبدأ الملكية الخاصة، لكنه رغب في تعميم الملكية الصغيرة لتكون هي الأساس الاقتصادي لديمقراطية قوية· وقد اعتبر التفاوت في الثروة "شراً لا بد منه" راجع إلى التفاوت الطبيعي بين قدرات البشر· وفي هذه الفترة وجدناه يؤيد الإبقاء على الملكية فقد كان يرى أن الإطاحة بلويس السادس عشر قد تؤدي إلى فوضى وسفك دماء تفضيان في النهاية إلى دكتاتورية أكثر من طغيان الملكية ·
واستمع كل عضو من أعضاء الجمعية الوطنية - تقريبا - لخطب هذا الخطيب الشاب بحياد فيما عدا ميرابو Mirabeau الذي احترم حجج روبيسبير التي أعدها إعدادا متقنا وبسط شرحها بوضوح· ومن ناحية أخرى لاحظنا ميرابو الذي نشأ في ظل والد عبقري رغم دقته الشديدة الصارمة راح يتشرب بتوق شديد كل تأثير متاح في الحياة مما تهيؤه فرص الرحلة والمغامرة والخطيئة، وراح يطالع مظاهر الضعف البشري والظلم والفقر والمعاناة في اثنتي عشرة مدينة، وسجنه الملك بناء على طلب والده وشهر بأعدائه في نشرات هجائية واتهامات غاضبة،
وأخيرا انتخبته طبقة العوام في كل من مرسيليا Marseilles وإكس- أن- بروفانس Aix-en- Provence لمجلس طبقات الأمة فحقق انتصارا مزدوجا فعالا، وأتى إلى باريس وقد أصبح بالفعل أحد المشاهير اللامعين الذين تحوم حولهم الشكوك في بلد كانت الأزمة تدفع بالنابغين والعباقرة إلى الصدارة في ظروف قلما شهد لها التاريخ مثيلا· لقد رحب به متعلمو باريس كلهم، وأطلت الرؤوس من النوافذ لمشاهدة عربته وهي تمر، وكانت النسوة مشتاقات لمعرفة حقيقة الإشاعات المثارة حول غرامياته كما كن مفتونات بما في وجهه من ندوب وتشوه، فتنة لا يعادلها سوى الاشمئزاز من قبح هذه الندوب وهذا التشوه·(ملحق/58)
لقد استمع الأعضاء باستسلام لخطابه رغم أنهم كانوا شاكين في طبقته وأخلاقه ونواياه، فقد سبق أن سمعوا أنه كان يعيش عيشة تفوق إمكاناته، وأنه كان يشرب حتى يفقد عقله، وأنه لم يكن يتورع عن استخدام بلاغته وفصاحته للتخفيف من وطأة ديونه، لكنهم علموا أنه لام أفراد طبقته دفاعاً عن العوام الذين قدروا فيه شجاعته لأنهم تشككوا في أن يجدوا لهذا البركان من الطاقة المعتمل في نفسه مثيلا آخر·
لقد انتشرت الخطابة في هذه الأيام المحمومة وازدادت المناورات السياسية أكثر بكثير مما شهده قصر (صالة) المسرات البريئة مينو بلازير Hotel des Menus Plaisirs وطغت بها الصحف والنشرات والإعلانات المعلقة على الجدران والنوادي؛ فبعض المندوبين القادمين من بريتاني Brittany كونوا نادي البريتون Club Breton الذي سرعان ما فتح باب عضويته للأعضاء الآخرين وللخطباء والكتاب، وجعل منه كل من سييس Sieyes وروبيسبير، وميرابو منصة يعرضون عليها أفكارهم ويجربون وقع مشاريعهم على المستمعين، وشهد هذا النادي التشكيل الأول للتنظيم القوي الذي عرف بعد ذلك باسم اليعاقبة Jacobins · وكانت المحافل الماسونية Freemason lodges نشيطة أيضا، وكانت عادة مؤيدة للملكية الدستورية، لكن ليس لدينا دليل عن مؤامرة ماسونية سرية ·
وربما كان نادي البريتون هو الذي شهد خطة سييس Sieyes وآخرين القاضية بأن يتحرك النبلاء والإكليروس في خطوة واحدة مع طبقة العوام· وقد ذكّر سييس طبقة العوام بأنّ عددهم 24 مليونا من بين 25 مليون هم سكان فرنسا، فلم طال ترددهم في الحديث باسم فرنسا؟ · وفي 16 يونيو اقترح على المندوبين في المينو بلازير (صالة المسرات البريئة) Menu Plaisirs ضرورة أن يرسلوا دعوة أخيرة للطبقتين الأخريين للانضمام إليهم فإن كانت الإجابة بالرفض فما على مندوبي الطبقة الثالثة إلا أن يعلنوا أنهم هم ممثلو الأمة الفرنسية وأن يشرعوا في سن القوانين·(ملحق/59)
واعترض ميرابو في بادئ الأمر بأن الملك على رأس مجلس طبقات الأمة وبالتالي فهو - من الناحية القانونية - تابع له، ومن ثم يمكن فض المجلس بناء على رغبة الملك· وبعد أن قضى المجتمعون ليلة في النقاش وسوق الحجج والتشابك بالأيدي تمّ طرح القضية للتصويت: أسوف يعلن المجتمعون أنفسهم جمعية وطنية؟ وتمت الموافقة على ذلك بأربعمائة وتسعين صوتا مقابل تسعين كانوا هم المعترضين فقط· وتعهد النواب بالالتزام بحكم دستوري· ومن الناحية السياسية تكون الثورة قد بدأت في 17 يونيو سنة 1789·
وبعد ذلك بيومين اجتمع ممثلو الإكليروس بشكل منفصل وصوتوا لصالح الانضمام لطبقة العوام (الطبقة الثالثة)، وكان عدد الأصوات الموافقة 149، مقابل 137 اعترضوا وألقى الإكليروس الأدنى درجة بثقلهم لصالح طبقة العوام وفزع ذوو الرتب الكنسية العليا من الإكليروس من هذا الانشقاق فانضموا للنبلاء ولجئوا إلى الملك لمنع اتحاد الطبقات معا حتى لو اقتضى الأمر حل مجلس طبقات الأمة وصرفه، فأمر الملك في مساء يوم 19 يونيو بإغلاق صالة المسرات البريئة (مينو بلازير Hotel des Menus Plaisirs) لإعدادها لجلوس ممثلي الطبقات الثلاث في الدورة الملكية التي ستعقد في 22 يونيو·
وعندما ظهر نواب الطبقة الثالثة في اليوم العشرين وجدوا الأبواب موصدة فاعتقدوا أن الملك يريد صرفهم فتجمعوا في ملعب تنس مجاور Salle du Jeu de Paume واقترح مونييه Mounier على النواب وعددهم 577 المتجمعين أن يقسم كل واحد منهم ألا ينفصل عن المجموع وأن يواجه الظروف مهما كانت حتى يتم وضع الدستور بشكل نهائي "وبالفعل أقسموا جميعا ما عدا واحدا"، وقد سجل الفنان جاك لويس ديفيد Jacques - Louis David هذا المشهد التاريخي في واحدة من أهم اللوحات الفنية الكبرى في هذا العصر· ومنذ ذلك الوقت أصبحت الجمعية الوطنية هي أيضا الجمعية التأسيسية التي تتولى صياغة الدستور·(ملحق/60)
وتم افتتاح الدورة الملكية في 23 يونيو أي بعد الميعاد المقرر لها بيوم، وتلي خطاب للملك في حضوره، وكان الخطاب يعكس اقتناعه أنه بغير حماية النبلاء والكنسية ستتضاءل أهميته السياسية، ورفض في خطابه هذا دعوى الطبقة الثالثة بأنها هي الأمة، باعتبار ذلك أمراً غير قانوني· ووافق الملك في خطابه هذا على إلغاء السخرة، وإبطال إصدار المراسيم الملكية القاضية بالسجن من غير محاكمة وإلغاء رسوم الانتقال داخل فرنسا وكل ما يترتب على نظام القنانة serfdom ( عبودية الأرض) لكنه أكد على اعتراضه عل كل ما يفسد "الحقوق الدستورية القديمة،·· فيما يتعلق بالملكية أو المزايا الشرفية لطبقتي النبلاء والإكليروس" ووعد بالمساواة في الضرائب في حالة موافقة هاتين الطبقتين· كما قال إن كل ما يتعلق بالدين أو الكنسية لا بد أن يتم بموافقة الإكليروس، وأنهى خطابه بإعادة تأكيده على النظام الملكي المطلق:
"وإذا شاءت الأقدار أن تخليتم عني في هذا المشروع العظيم، فإنني وحدي سأعمل على رفاهية شعبي، وأنا وحدي الذي يجب أن ينظر في أمر ممثليه الحقيقيين·· اعتبروا أيها السادة ولتعلموا أن أيا من مشروعاتكم وخططكم لن يكون له قوة القانون بغير موافقتي·· إنني آمركم أيها السادة أن تنفضوا فورا، وأن تجتمعوا غدا كل واحد منكم في الصالة المخصصة لطبقته" ·
وغادر الملك ومعظم النبلاء وعدد قليل من الإكليروس صالة الاجتماع، وأعلن المركيز دي بريزى de Breze عن رغبة الملك في إخلاء الصالة· وأجاب باييه Bailly - رئيس الجمعية - بأن الأمة المجتمعة لا يمكنها أن تقبل مثل هذا الترتيب، ودوى صوت ميرابو كالرعد معلنا لدى بريزى de Breze: " اذهب وقل لمن أرسلوك إننا هنا بإرادة الشعب ولن نغادر إلا إذا أجبرتمونا على ذلك بالقوة المسلحة" · ولم يكن ما قاله صحيحا فقد أتوا إلى هنا بناء على دعوة الملك ومع هذا فقد عبر المجتمعون عن هذا المعنى نفسه بالصياح قائلين: "تلك إرادة الجمعية" وعندما حاول الحرس الملكي دخول القاعة سدت مجموعة من النبلاء الليبراليين - وكان من بينهم - لافاييت Lafayette - المداخل بسيوفهم المشهرة، وعندما سئل الملك عما يجب عمله أجاب بضجر "دعوهم يبقون"·(ملحق/61)
وفي 25 يناير انضم دوق أورليان Duc d'Orleans مع سبعة وأربعين نبيلا للجمعية الوطنية فاستقبلهم أعضاؤها بعاصفة من الفرح وتردد صدى صياحهم المتحمس في أرجاء القصر الملكي Palais - Royal وحوله، وتآخى الحرس الفرنسي مع الحشود الثائرة، وفي اليوم نفسه شهدت العاصمة ثورتها السلمية فقد التقى الرجال الذين كان قد تم اختيارهم (وكان عددهم 407) من أقسام باريس لاختيار مندوبي باريس في دار البلدية Hotel de Ville وقاموا بتعيين مجلس بلدي جديد، ولما رأى المجلس الذي عينه الملك أنه لا يجد دعما عسكريا يؤازره ,تخلى - سلمياً - عن دار البلدية·
وفي 27 يونيو استسلم الملك لحكم الظروف وتوجهات نيكر Necker وأمر طبقتي النبلاء والإكليروس بالانضمام إلى الجمعية الوطنية الظافرة، وبالفعل ذهب النبلاء إليها لكنهم رفضوا المشاركة في التصويت ومن ثم عاد كثيرون منهم إلى ضياعهم·
وفي أول يوليو استدعى لويس عشرة أفواج - معظمهم من الألمان والسويسريين - لمساعدته، وفي العاشر من يوليو احتلت قوات قوامها ستة آلاف جندي بقيادة المارشال دى بروجلي Marechal de Broglie فرساي، واتخذ عشرة آلاف جندي بقيادة البارون دى بيسينفال Baron de Besenval مواقع حول باريس· وفي أجواء ملأها الهياج والرعب شرعت الجمعية في اعتبار التقرير الذي سبق تقديمه في 9 يوليو بمثابة دستور جديد· وتوسل ميرابو إلى الأعضاء أن يحتفظوا بالملك كدرع ضد الفوضى الاجتماعية وحكم الغوغاء، ووصف لويس السادس عشر بأنه رجل طيب القلب ذو نوايا حسنه لكن مستشاريه قصيري النظر يضللونه وقال لهم وكأنه يتنبأ:
"أَدَرَسَ هؤلاء الناس في تاريخ أي شعب كيف تبدأ الثورات، وكيف يجري تنفيذها؟ ألم يلاحظوا كيف أن سلسلة من الظروف التي يفرضها القدر تبعد أحكم الرجال عن حدود الاعتدال، وكيف أن الشعب الساخط تدفعه الأحداث المرعبة لتورده موارد الإسفاف؟ " ·(ملحق/62)
وانصاع أعضاء الجمعية لنصيحته لأنهم شعروا أيضا بتطور الأحداث السريع في شوارع باريس· لكن الملك لويس بدلا من أن يكافئ الطبقة الثالثة بتنازلات جوهرية لتهدئتها، فإنه أثار غضب الراديكاليين والليبراليين بطرده نيكر Necker للمرة الثانية (في 11 يوليو) ليضع في منصبه صديق الملكة العنيد المتشدد البارون دي برتييه ( Baron de Breteuil) وفي 12 يوليو جعل المقاتل دي بروجلي de Broglie وزيرا للحرب، وتأزمت الأمور وحان وقت الجد·
2 - الباستيل THE BASTILLE
في 12 يوليو اعتلى كاميل ديمولان Camille Desmoulins الجزويتي Jesuit ( اليسوعي) المتخرج، منضدة خارج مقهى دي فوي Café de Foy بالقرب من القصر الملكي وأعلن خبر طرد نيكر واستدعاء القوات الأجنبية وراح يصرخ: "إن الألمان سيدخلون باريس هذه الليلة ليذبحوا سكانها" وراح يحث مستمعيه على تسليح أنفسهم وقد نفذوا ما أشار به لأن المجلس البلدي الجديد لم يبد إلا مقاومة واهية عندما كسروا الأبواب وصادروا الأسلحة المخزونة في دار البلدية·
لقد أصبح الثوار المسلحون يستعرضون الآن قوتهم في الشوارع رافعين تماثيل نصفية لنيكر ودوق أورليان مزينين قبعاتهم بأشرطة ذوات عقد خضراء· وعندما أصبح معروفا أن هذا اللون هو أيضا لون ملابس خدم الكونت المكروه (كونت درتوا d'Artois) الأخ الأصغر للملك وكذلك حرسه، فإنهم سرعان ما غيروا ألوان عقد أشرطة قبعاتهم ليجعلوها حمراء وبيضاء وزرقاء - الألوان التي تمثل العلم الوطني·(ملحق/63)
وأغلق رجال البنوك البورصة وكونت الطبقة الوسطى ميليشيا خاصة بها أصبحت هي نواة الحرس الوطني بقيادة لافاييت Lafayette؛ كل ذلك خوفاً من عنف طائش لا يميز وتدمير للممتلكات وذعر مالي· ومع هذا فإن بعض الوكلاء البورجوازيين - رغبة منهم في حماية الطبقة الوسطى التي أصبحت آمنة الآن - أسهموا في تمويل المقاومة الشعبية للملكية المطلقة وجذب الحرس الفرنسي من أحضان الملكية صوب المشاعر الديمقراطية · وفي 13 يوليو أعيد تشكيل الجماهير فانضم إليهم عدد كبير من أحياء الفقراء وأتاهم مدد جديد من الجنود الجدد من كل حدب وصوب، وغزت هذه الجماهير المتزايد عددها مخزن السلاح في مستشفى المحاربين القدماء Hotel des Invalides واستولت على 28,000 بندقية (مسكت) وبعض المدافع، وخشي بيسينفال Besenval أن تطلق هذه الكتائب الشعبية النار على الشعب فاحتفظ بهم في الأحياء الجانبية، وعلى أية حال فقد أصبحت الجماهير المسلحة تسيطر الآن على العاصمة·
كيف يتم تصريف طاقات هذه القوى؟ لقد اقترح كثيرون توجيهها في محاولة للاستيلاء على الباستيل، ذلك الحصن القديم الواقع في الجانب الشرقي من باريس والذي شرع في بنائه منذ سنة 1370 وجرت توسعته شيئا فشيئاً في السنوات اللاحقة بقصد احتجاز وسجن من يحيق بهم غضب الملك أو النبلاء، وعادة ما كان ذلك يتم من خلال أوامر سجن تصدر بشكل سري من الملك Letters de Cachet، وفي سنة 1784 طلب من المهندس المعماري وضع خطط لتدمير الزنزانات الكئيبة من غير أن يعلم الناس بهذه الأوامر فقد كانوا يظنون أن الباستيل يضم زنزانات يقبع بها ضحايا الحكم الاستبدادي·(ملحق/64)
بل إنه لم يكن لدى الثوار نوايا - كما هو ظاهر - بتحطيم حصن الباستيل لكنهم بعد أن قضوا ليلة استراحوا فيها تقاربت آراؤهم حول فكرة التدمير في 14 يوليو، ذلك اليوم الذي سيصبح عيدا وطنيا لفرنسا· لقد كان هدفهم هو أن يطلبوا من محافظ السجن أن يسمح لهم بالدخول ويتناولوا البارود والأسلحة النارية التي ذكرت التقارير أنها موجودة خلف جدرانه، ولم يجدوا حتى الآن إلا القليل من البارود ولم تكن بنادقهم الكثيرة ومدافعهم القليلة - بلا مزيد من البارود - قادرة على منعهم إذا وجه بيسينفال كتائبه إليهم· وعلى أية حال فإن هذه الجدران ذوات السماكة البالغة ثلاثين قدما والارتفاع البالغ مائة قدم التي تحميها أبراج مزودة بالمدافع، والمحاطة بخندق يبلغ عرضه ثمانين قدما - كانت كتحذير كاف· وانضم أعضاء المجلس البلدي الجديد للجماهير وعرضوا التدخل لدى محافظ الباستيل لعقد ترتيبات سلام·
وكان محافظ الباستيل هو برنارد - رينيه جوردان Bernard - Rene` Jordan, Marquis de Lavnay رجلاً من المؤكد أنه مثقف ولطيف المعشر، فقد استقبل المفوضين من الجماهير بترحاب، وعرض المفوضون أن يضمنوا أن يتصرف الثوار بشكل سلمي إذا هو أزاح المدافع من مواقع الإطلاق· وإذا أمر جنوده وكان عددهم 114 جنديا بعدم إطلاق النار، ووافق المحافظ واستضاف الزوار لتناول الغداء·
وتلقت لجنة أخرى ضمانا مشابها، ولكن المحاصرون راحوا يصيحون قائلين إنهم يريدون ذخيرة لا وعودا وكلمات·
وبينما الطرفان يتفاوضان تسلق بعض العمال النشيطين إلى مراكز التحكم ودلوا الجسرين المتحركين فاندفع المهاجمون عبر هذين الجسرين إلى ساحة الباستيل، فأمرهم دي لوني de Launay المحافظ الآنف ذكره بالتراجع لكنهم رفضوا، فأطلق عسكره النار عليهم، وتغلب الثائرون المقتحمون عندما قام الحرس الفرنسي بإحضار خمسة مدافع وبدأ في تدمير أسوار الحصن، فتحت هذا الغطاء من النيران اندفع جمهور الثائرين إلى داخل السجن واشتبكوا في معركة مع جنود الحرس، وتلاحم الطرفان فسقط من المهاجمين ثمانية وتسعون·(ملحق/65)
كما قتل واحد من المدافعين، وازداد المهاجمون عدداً وشراسة وعرض دى لوني محافظ السجن أن يسلم إذا سمح الثوار لرجاله بالخروج سالمين بأسلحتهم، لكن قادة الجماهير الثائرة رفضوا ذلك، فاستسلم فقتل المنتصرون ستة عساكر آخرين وحرروا سبعة سجناء واستولوا على الذخائر والأسلحة وأسروا محافظ السجن دى لوني واتجهوا مظفرين إلى دار البلدية· وفي الطريق كان جانب من الجماهير مغيظا محنقاً بسبب ما مر بهم من كوارث فضربوا رجلا أرستقراطيا اعتراه الارتباك والذهول وأجهزوا عليه وقطعوا رأسه ورفعوه على رمح، وقطع رأس جاك دى فليسيل Jacques de Flesselles شهبندر التجار والذي كان قد ضلل الناخبين عن موضع الأسلحة، وأضيف رأسه المقطوع إلى موكب الثوار، وكان قد جرى قطعه في بلاس دى جريف Place de Greve ( ميدان الرمال) ·
وفي 15 يوليو جعل ناخبو الجمعيات المحلية من باييه Bailly محافظا لباريس (رئيساً لبلديتها Mayor) واختاروا لافاييت رئيسا للحرس الوطني الجديد، وبدأ العوام السعداء (السانس كولوت أي الذين لا يرتدون سراويل (بناطيل) قصيرة) في تدمير أحجار الباستيل حجراً حجراً، أما الملك الذي اعترته الصدمة وأصابه الرعب فقد ذهب إلى الجمعية الوطنية وأعلن أنه طرد الكتائب العسكرية التي سبق أن جلبها إلى فرساي وباريس·
وفي 16يوليو نصحه مؤتمر من النبلاء بمغادرة البلاد تحت حماية الكتائب المغادرة وأن يجد لنفسه ملاذا في إحدى عواصم المقاطعات أو في بلاط أجنبي، وأيدت مارى أنطوانيت بحرارة هذا الاقتراح وجمعت جواهرها وما غلا ثمنه وسهل حمله استعداداً للرحلة أما لويس فقد استدعى نيكر في 17 يوليو، وابتهج لذلك رجال المال والعامة،
وفي 18 من الشهر نفسه اتجه إلى باريس وزار دار البلدية ووقع بقبوله المجلس البلدي الجديد وثبت على قبعته الشريط ذا الألوان: الأحمر والأبيض والأزرق، وهي التي ترمز للثورة، وعاد إلى فرساي وعانق زوجته وأخته وأطفاله وقال لهم: "يسعدني ألا يسفك مزيد من الدماء، وإنني أقسم ألا تسفك قطرة دماء فرنسية بأمري" أما أخوه الأصغر كونت درتوا d'Artois فقد أخذ معه زوجته ورئيسة الخدم وقاد أول مجموعة من اللاجئين السياسيين emigres خارج فرنسا·(ملحق/66)
3 - دخول مارا Marat عام 1789 م
لم يكن الاستيلاء على الباستيل مجرد عمل رمزي ومجرد سهم ضد الحكم الاستبدادي، وإنما كان عملاً أنقذ الجمعية الوطنية من الخضوع لجيش الملك في فرساي كما أنقذ حكومة باريس الجديدة من أن تحكم الكتائب العسكرية التي تطوق باريس سيطرتها عليها· لقد حافظت هذه العملية - بشكل غير مقصود تماما - على الثورة البورجوازية، لكنها أتاحت لأهل باريس السلاح والذخيرة، وسمحت بذلك لتطورات أبعد مدى للقوى البرولتيارية·
لقد أدى سقوط الباستيل إلى إعطاء دفعة جديدة، للصحف التي زاد ولع الباريسيين بها فزاد عدد قرائها· وكانت صحيفة فرنسا Gazette de France ( جازيت دي فرانس) , ومؤشر فرنسا Mercure de France ( مركير دي فرانس) ,وجريدة باريس Journal de Paris ( جرنال باريس) , من الصحف القديمة التي ظلت محافظة على مستواها بعد أحداث الثورة، أما الآن فقد أصدر لوستالو Loustalot صحيفة ثورات باريس Les Revolutions de Pris
في 17 يوليو 1789 وأصدر بريسو Brissot الوطني الفرنسي (لوباتريوت فرانسيه) ( Le Patriote francais) في 28 يوليو، وأصدر مارا Marat صديق الشعب لامى دي بيبل L'Ami du peuple في 12 سبتمبر، وأصدر دى موليه Desmoulins صحيفة ثورات فرنسا Revolutions de France في 28 نوفمبر····· وبالإضافة لهذه الصحف كانت اثنتا عشرة نشرة تظهر كل يوم تصفق لحرية الصحافة، وترفع صورا جديدة· وقيما جديدة، وتحطم ما جرى العرف على توقيره·
ويمكننا أن نتخيل محتوى هذه النشرات بملاحظة أصل الكلمة Libel والذي يعنى "يطعن أو يقذف أو يشهر" فمن هذه الكلمة كان المسمى الفرنسي لهذه النشرات وهو ليبل Libelles أي الكتب الصغيرة المخصصة للسب والهجاء·(ملحق/67)
وكان جان - بول مارا Jean - Paul Marat هو أكثر هؤلاء الصحفيين الجدد راديكالية وتهورا وقسوة وكان هو أقواهم وأكثرهم تأثيرا· ولد في نوشاتل Neuchatel في سويسرا في 24 مايو سنة 1743 من أم ملكية وأب سرديني Sardinian ( من سردنيا) ولم يكف أبداً عن تبجيل روسو وهو وطني آخر اغترب عن بلده· درس مارا الطب في بوردو Bordeaux وباريس، ومارسه في لندن (1765 - 1777) وحقق قدراً معقولاً من النجاح في هذه المهنة· أما القصص التي رويت بعد ذلك عن الجرائم والسخافات التي ارتكبها فربما كانت من تدبير أعدائه في جو الحرية الصحفية التي أسيئ استخدامها في ذلك الوقت · ومنحته جامعة سانت أندرو St. Andrews درجة فخرية (شرفية)، وعلى أية حال فهي درجة كما قيمها جونسون كانت أهميتها تزداد على وفق الدرجات العلمية السابقة عليها ·
وقد كتب مارا بالإنجليزية ونشر في لندن (1774) كتابه قيود العبودية The Chains of Slavery وهو شجب عنيف للحكومات الأوروبية باعتبارها مجموعة من المتآمرين من الملوك واللوردات والإكليروس لخداع الشعوب والاحتفاظ بولائها وتبعيتها· وعاد مارا إلى فرنسا في سنة 1777 وعمل طبيباً بيطرياً في إسطبلات كونت درتوا Comte d'Artois ثم رقي طبيباً لحرس مخافر الكونت· وحقق بعض الشهرة في علاج الرئة وفي طب العيون· ونشر بحوثاً في الكهرباء والضوء والبصريات والنار، وترجمت بعض بحوثه إلى الألمانية· وظن مارا أنه جرى تعيينه لعضوية أكاديمية العلوم Academic des Sciences ولكن هجومه على نيوتن Newton جعله موضع شك الأكاديميين·(ملحق/68)
وكان مارا Marat رجلا شديد الكبرياء، وكانت العلل الجسدية تتناوب عليه فتعوقه وتجعله نزقا سريع الغضب إلى حد الهياج الشديد· وكان مصابا بالتهابات جلدية جعلته يجد راحة لبعض الوقت في الجلوس في الماء الساخن، وكان يكتب وهو بالفعل جالس في هذا الماء الساخن وكان ذا رأس ضخم جداً إذا قورن بطوله الذي لا يزيد عن خمسة أقدام، وكانت إحدى عينيه أعلى من العين الأخرى· من المفهوم إذن لم كان يفضل العزلة· وكان الأطباء يعالجونه بفصد دمه بين الحين والحين لتخفيف آلامه· وكان يعمل بجد شديد وكان يقول عن نفسه: "إنني لا أقضي في النوم سوى ساعتين·· إنني لم أستمتع بخمس عشرة دقيقة من اللعب طوال أكثر من ثلاث سنين "·
وفي سنة 1793 أصيب بداء الرئة وشعر أنه لن يعيش طويلا، وربما كانت إصابته هذه بسبب طوال مكوثه في البيت· وكانت هذه الحقائق غير معروفة لشارلوت كورداى Charlotte Corday·
لقد تأثرت شخصيته بعلله الجسدية، فعوض نقصه بالخيلاء والغرور وعمل تقلب مزاجه وادعاؤه العظمة وشجبه الضاري لكل من نيكر ولافاييت Lafayette ولافوازيه ودعوته المجنونة للعنف الجماهيري·· كل أولئك زاد من وطأته قدر من الشجاعة والحرفية والتكريس·
ولا يرجع نجاح جريدته لمجرد المبالغات المثيرة التي يتسم بها أسلوبه فحسب وإنما يرجع في الأساس إلى تأييده المتواصل والمتحمس للبرولتياريا الذين لا أصوات لهم، ذلك التأييد الذي كان لا ينطوي على أي نوع من الرشوة·
ومع هذا فهو لم يكن يبالغ في تقدير ذكاء الشعب· لقد كان يرى الفوضى ضاربة أطنابها، وأضاف إليها فوضى جديدة من عنده لكنه على الأقل في ذلك الوقت لم يكن يدعو إلى الديمقراطية وإنما إلى الديكتاتورية والثورة والاغتيال تماما كما كان يحدث في أيام روما الجمهورية، بل إنه قد اقترح أن يكون نفسه هو هذا الديكتاتور المطلوب· وفي بعض الأوقات كان يرى أن الحكومة يجب أن تكون في قبضة الملاك (أصحاب الثروة) طالما أن لديهم العصا الطولى التي تستخدم لصالح الجمهور· وكان يعتبر تركز الثروة أمر ا طبيعيا لكنه اقترح موازنة ذلك بالدعوة إلى أن الرفاهية أمر ينطوي على الفسق، وإلى الحق المقدس للجائع والمحتاج·(ملحق/69)
"لا شيء فائض عن الحاجة يمكن أن يكون من وجهة نظرنا شرعيا طالما أن الآخرين يعانون من نقص الضروريات··· فمعظم الثروات الكنسية يجب أن يتم توزيعها على الفقراء، ولا بد من إنشاء المدارس المجانية في كل مكان, إن المجتمع يضم أولئك الذين لا يملكون شيئا والذين قلما يكفي حصاد عملهم لإعاشتهم، والمجتمع ملزم بالنسبة لهؤلاء أن يدبر لهم مورد رزق لتمكينهم من إطعام أنفسهم والسكنى واللباس بشكل مناسب، وعلى المجتمع أن يدبر الوسائل لعلاج المرضى منهم ورعاية كبار السن وتدبير وسائل تنشئة أطفالهم· وهؤلاء الذين يتمرغون في الثروة والنعيم لا بد لهم من إمداد المعوزين بضروريات الحياة"
وإن لم يفعلوا يصبح من حق الفقراء أن يحصلوا بالقوة على ما يحتاجونه·
وقد ارتاب معظم أعضاء الجمعيات المتتابعة في مارا وخافوا من أفكاره، لكن السانس كولوت Sans culottes ( الذين لا يرتدون سراويل قصيرة) من بينهم كانوا يتسامحون مع أخطائه بسبب فلسفته، بل وكانوا يخاطرون بإخفائه إذا ما جدت الشرطة في البحث عنه· ولا بد أن مارا Mara كان يتحلى ببعض الصفات المحبوبة لأن رفيقته (زوجته التي تزوجها عرفيا أي بمجرد اتفاق الطرفين دون طقوس كنسية) ظلت مخلصة له إلى النهاية·
4 - تخلي النبلاء عن امتيازاتهم RENUNCIATION
في 4 و5 أغسطس 1789 م(ملحق/70)
في 31 يوليو سنة 1789 كتب الحاكم موريس Gouverneur Morris من فرنسا: "إن هذه البلاد أقرب ما تكون في الوقت ا لحاضر إلى فوضوية لا ضابط لها" فالتجار يتحكمون في السوق وتسببوا في نقص الحبوب لصالحهم ورفعوا الأسعار، والعربات التي تنقل الطعام إلى المدن تتعرض للنهب في أثناء الطريق، وعمت الفوضى واختل الأمن وتهدد النقل· وضجت باريس من كثرة المجرمين· وكان الريف الفرنسي أيضا مرتعاً للصوص الطوافين حتى إن الفلاحين في كثير من المقاطعات سلحوا أنفسهم في ذلك الجو من الرعب الهائل الذي سببته هذه الجموع التي لا يحكمها قانون، ففي غضون ستة أشهر اقتنى المواطنون 400,000 بندقية، وعندما انتهت فترة الرعب الهائل Great Fear هذه قرر الفلاحون استخدام أسلحتهم ضد جامعي الضرائب والاحتكاريين والسادة الإقطاعيين، فهاجموا قصور الإقطاعيين بالبنادق (المسكت) والمذاري والمناجل (المحشات) وراحوا يطالبون بإظهار الوثائق والمستندات التي تثبت حقوق السادة، ومدى تفو يضهم في جمع الرسوم الإقطاعية، فإذا ما أطلعهم عليها السادة، قاموا بحرقها، وإذا رفضوا إطلاعهم وقاوموهم، أحرق الفلاحون قصر السيد الإقطاعي وحدث في عدة حالات أن قتلوا المالك (السيد الإقطاعي) واستمر الحال على هذا المنوال منذ بداية شهر يوليو سنة 1789 وانتشر حتى عمّ أنحاء فرنسا كلها·(ملحق/71)
وفي بعض الأماكن حمل المتمردون إعلانات يزعمون بمقتضاها أن الملك قد خولهم كل الصلاحيات في مقاطعاتهم· وغالبا ما كان التدمير يجري بغير ضابط وبعنف شديد حتى إن الفلاحين التابعين لأراضي دير مورباش Murbach أحرقوا مكتبة الدير، وحملوا معهم الطبق الذي يدار به على المتعبدين لجمع التبرعات واستولوا على ستائر الكتان وفتحوا براميل النبيذ وشربوا كل ما استطاعوا شربه وأراقوا الباقي· وفي ثمانية كومونات Communes ( بلديات) اجتاح السكان الأديرة واستولوا على الحجج القانونية ومستندات الملكية بها وأعلنوا للرهبان أن رجال الدين (الإكليروس) أصبحوا الآن تابعين للشعب، وورد في تقرير مقدم للجمعية الوطنية أنه في كونتيّه فرانش Franche-Comte تم إحراق أو نهب نحو أربعين قصراً إقطاعيا، وفي لانجر Langers جرى نهب وإحراق ثلاثة قصور من خمسة، وفي دوفينه Dauphine جرى إحراق وتدمير سبعة وعشرين قصرا وفي فينوا Viennois تم نهب الأديرة كلها· وتم اغتيال من لا حصر لهم من السادة الإقطاعيين والبورجوازيين الأثرياء" ·
أما المسئولون الرسميون في المدن الذين حاولوا إيقاف ثورة الفلاحين (ثورة الجاكيين Jacqueries) فقد جرى عزلهم، بل لقد جرى إعدام بعضهم· وهجر الأرستقراطيون بيوتهم وراحوا يبحثون عن الأمان في أماكن أخرى لكنهم كانوا يواجهون هذه الفوضوية التلقائية التي لا ضابط لها أينما ذهبوا، ثم بدأت موجة الهجرة الثانية (النزوح عن فرنسا) ·(ملحق/72)
وفي ليلة 4 أغسطس سنة 1789 ذكر مندوب للجمعية الوطنية في فرساي في تقرير له أن: "الخطابات الواردة من المقاطعات كلها تشير إلى أن مختلف الممتلكات عرضة للنهب بعنف إجرامي لا حد له، ففي أنحاء البلاد كلها جرى إحراق القصور الإقطاعية وتدمير الأديرة وتركت المزارع للناهبين"· وتم إلغاء الرسوم الإقطاعية، وأصبح القانون بلا قوة تحميه وأصبح المسئولون بلا سلطة ولا صلاحيات · لقد أدرك من تبقى من النبلاء أن الثورة التي كانوا يأملون أن تكون قصراً على باريس وأن تهدأ ببعض التنازلات الصغرى التي تقدمها الحكومة قد أصبحت الآن على مستوى فرنسا كلها وأنه لم يعد من الممكن الاستمرار في تحصيل الرسوم الإقطاعية، فاقترح الفيكونت دى نوال de Noailles:
" أنه لم يعد من الممكن فرض الرسوم الإقطاعية····· إذ يجب إلغاء القنانة (عبودية الأرض) وغيرها من أشكال العبودية الشخصية بلا تعويض، وأنه لا بد من أن تكون المبالغ المدفوعة مقننة على أسس عادلة"
وأنهى حديثه معلنا نهاية التمايز الطبقي "لا بد أن يدفع كل فرد في المملكة ضرائب بما يتناسب مع دخله"·
لقد كان الفيكونت دي نوال فقيرا وبالتالي كان يمكنه تحمل هذه الإجراءات تماما، لكن دوق ديجلون d'Aiguillon كان من بين أغنى البارونات ثنى على الاقتراح وأعلن قبوله ذا الوقع الشديد قائلاً:
"إن الناس قد حاولوا أخيراً أن ينفضوا عن كاهلهم نير العبودية الجاثم عليهم طوال قرون طويلة مضت، ويجب أن نعترف- رغم ضرورة شجب هذا العصيان المسلح- أن من الضروري أن نلتمس للثائرين عذراً فقد كانوا ضحايا بشكل مثير "(ملحق/73)
وقد دفع هذا الاعتراف النبلاء الليبراليين إلى تأييده بحماس، فتزاحموا واحدا إثر الآخر لإعلان تخليهم عن امتيازاتهم التي كانوا يطالبون بها، وبعد ساعات من التخلي ذي الطابع الحماسي أعلنت الجمعية الوطنية في الساعة الثانية من صباح 5 أغسطس تحرير الفلاحين، وجرى إضافة بعض التحفظات بعد ذلك تطالب الفلاحين بدفع مبالغ على أقساط دورية لاسترداد رسوم معينة، لكن مقاومة هذه الفكرة جعلت تحصيلها غير عملي، وبذلك كان في هذا القرار إنهاء حقيقي للنظام الإقطاعي· وكان توقيع الملك على تخلي النبلاء عن امتيازاتهم مدعاة إلى اعتباره كما سجل في المادة 16 "معيد الحرية الفرنسية" ·
واستمرت موجة المشاعر الإنسانية مدة طويلة تكفي لإبراز وثيقة تاريخية أخرى هي "إعلان حقوق الإنسان" والمواطن (27 أغسطس 1789) وقد اقترح هذه الوثيقة لافاييت الذي كان لا يزال متحمساً لتأثره بإعلان الاستقلال ووثائق الحقوق التي أعلنتها عدة ولايات أمريكية، وأيد النبلاء الأصغر سناً في الجمعية مبدأ المساواة لأنهم كانوا قد عانوا من المزايا الوراثية التي كان يتمتع بها أكبر الأبناء، وبعضهم مثل ميرابو Mirabeau كان قد عانى من السجن التعسفي·
وشجب المندوبون ا لبورجوازيون تفرد الأرستقراطيين بالوضعية الاجتماعية واحتكار النبلاء المناصب العليا في المجالين المدني والعسكري· وكان معظم الأعضاء قد قرءوا ما كتبه روسو عن الإرادة العامة وقبلوا ما اعتقده هذا الفيلسوف من أن لكل إنسان حقوقا أساسية بمقتضى القانون الطبيعي· لكل هذا لم تكن هناك سوى معارضة قليلة لأن يتصدر الدستور الجديد إعلانا بدا مكملاً للثورة· وكانت بعض المواد تتضمن تكراراً:
مادة 1: ولد الناس أحرارا ويظلون أحراراً ومتساويين في الحقوق ·····
مادة 2: هدف التنظيمات السياسية كلها هو ضمان الحقوق الطبيعية التي لا يمكن انتزاعها بحكم القانون أو العادة للإنسان (الحقوق الأساسية) وهذه الحقوق هي الحرية والملكية والأمن ومقاومة الجور·(ملحق/74)
مادة 4: الحرية هي أن يمارس الفرد كل ما يحلو له شريطة ألا يكون في ذلك ضرر للآخرين، ومن هنا فإن ممارسة كل إنسان لحقوقه الطبيعية لا حد لها إذا عاقت أفراد المجتمع الآخرين عن التمتع بالحقوق نفسها· ومن ثم فهذه الحدود لا يرسمها إلا القانون·····
مادة 6: القانون هو تعبير عن الإرادة العامة، ولكل مواطن الحق في المشاركة شخصياً أو من خلال ممثل له في صياغته أي القانون··· والمواطنين كلهم سواء في نظر القانون، ولهم حقوق متساوية في شغل المناصب والوظائف العامة على وفق قدراتهم·····
مادة 7: لا يجوز اتهام أي شخص أو القبض عليه أو سجنه إلا على وفق الطرائق التي يحددها القانون ····
مادة 9: الأفراد كلهم أبرياء إلى أن تثبت إدانتهم، وإذا حتمت الضرورة القبض على أي شخص فإن القانون يمنع بشدة استخدام العنف مع السجين أو المعتقل·
مادة 10: لا يضار أحد بسبب آرائه بما في ذلك معتقداته الدينية طالما أن إظهار هذه الآراء والمعتقدات لا يخل بالنظام العام كما يحدده القانون·
مادة 11: حرية تداول الأفكار والآراء مكفولة وهي من أهم حقوق الإنسان، فكل مواطن له حق الكلام والكتابة وله أن ينشر ما يريد بحرية لكنه سيكون مسئولاً إذا أساء استخدام هذه الحرية مسئولية سيحددها القانون·
مادة 17: ما دامت الملكية حقاً مقدساً لا يجب انتهاكه فلن يسلب أحد ممتلكاته أو يجرد منها إلا على وفق ما تمليه المصلحة العامة وهو الأمر الذي يحدده القانون بوضوح، وفي حالة نزعها - أي الملكية - لا بد من تقديم تعويض عادل ومنصف للمنزوع ملكيته ·
ومع تأكيد هذه المثاليات الديمقراطية ظل هناك بعض القصور فقد ظل الرق مستمراً ومسموحاً به في مستعمرات فرنسا في الكاريبي حتى أبطلها ميثاق إبطال الرق في سنة 1793، وقصر الدستور الجديد حق الاقتراع وشغل المناصب العامة على دافعي الحد الأدنى من الضرائب· وظلت الحقوق المدنية غير كاملة بالنسبة للممثلين actors والبروتستانت واليهود· وامتنع لويس السادس عشر عن الموافقة على الإعلان على أساس أنه سيؤدي إلى مزيد من الفوضى وعدم الاستقرار· ولم يبق أمام الباريسيين سوى إجباره على القبول·(ملحق/75)
5 - إلى فرساي: في 5 أكتوبر 1789 م
TO VERSAILLES
ظل الشغب في باريس طوال شهري أغسطس وسبتمبر، وتزايد نقص الخبز وراحت ربات البيوت يناضلن للحصول عليه من المخابز، وفي إحدى نوبات الشغب هذه أعدم العامة خبازاً وأحد مسئولي البلدية· ودعا مارا Marat إلى مسيرة للجمعية الوطنية والقصر الملكي في فرساي:
"عندما يكون الأمن العام في خطر لا بد للشعب أن يستولي على السلطة من أيدي أولئك الذين يقبضون عليها···· ضعوا هذه المرأة النمساوية (الملكة) وأخي زوجها (أرتوا Artois) في السجن··· اقبضوا على الوزراء ومساعديهم وكبلوهم بالحديد·· تأكدوا من وجود المحافظ (رئيس البلدية) [ذلك البائس الدمث المستغرق في أحلام اليقظة] والقادة التابعين له، لا تدعوا الجنرال [لافاييت] يبتعد عن نواظركم واقبضوا على مساعديه··· فلا حق لوريث العرش في الغداء طالما أنكم لا تجدون الخبز· نظموا صفوفكم المسلحة·· هيا إلى الجمعية الوطنية لنطالب معا وجميعاً بالطعام··· طالبوهم أن يكون لفقراء الأمة مستقبل آمن من خلال تضامنها· إنكم إن رفضتم الالتحاق بالتشكيلات المسلحة فليس أمامكم إلا الاستيلاء على الأراضي والذهب الذي يمتلكه الأوغاد الذين يريدون إجباركم على شروطهم في ظل الجوع، اقتسموا فيما بينكم ذهبهم وممتلكاتهم· هيا احملوا رؤوس الوزراء وتابعيهم التافهين· هيا إنه الوقت المناسب! " ·(ملحق/76)
وركن لويس إلى نصائح وزرائه القاضية بضرورة استدعاء جنود لم يتأثروا بالأفكار الثورية لحمايته وحماية أسرته وبلاطه، وذلك خوفا من تحريض الصحافة الباريسية وخوفا من الفوضى الضاربة أطنابها في باريس ومظاهرات الجماهير في فرساي· فأرسل في أواخر شهر سبتمبر إلى دواي Douai مستدعيا أفواج الفلاندرز العسكرية Flanders Regiment، فلما وصلت رحب بها حرس الملك الذي أقام لأفرادها مأدبة في دار الأوبرا بالقصر، وعندما ظهر لويس ومارى أنطوانيت علا تصفيق الجنود بشدة، فقد كانوا نصف سكارى لفرط ما شربوا من النبيذ، كما أن جلال المشهد الملكي زادهم حماساً، لذا سرعان ما أزاحوا الشارات الوطنية مثلثة الألوان من على بزاتهم العسكرية ووضعوا الشارات الملكية (الأبيض والأسود) على قبعاتهم، وورد في التقارير أن الألوان التي ترمز للثورة قد طرحت أرضاً لتدوسها أقدام الراقصين (وقد أنكرت مدام كامبا Mme Campan الوصيفة الأولى للملكة والتي كانت شاهدة عيان حدوث هذا) ·
وتضخمت القصة عند وصولها إلى باريس، وتأكدت بسبب تقرير مؤداه أن جيشا يتجمع بالقرب من متز Metz بنية التوجه إلى فرساي لفض الجمعية الوطنية· واستنكر ميرابو Mirabeau والمندوبون الآخرون هذا التهديد العسكري الجديد· وطالب مارا ولوزتالو Loustalot وصحفيون آخرون بضرورة أن يرغم الشعب كلا من أفراد الأسرة المالكة والجمعية الوطنية على الانتقال إلى باريس حتى يكونوا تحت مراقبة الجماهير· وفي 5 أكتوبر أخذ النسوة في سوق المدينة ممن يعلمن بنقص الطعام على عاتقهن تكوين فرقة للتوجه إلى فرساي على بعد عشرة أميال من باريس· وكان ينضم إليهن في مسيرتهن رجال ونساء وكثيرون بلغوا الآلاف· ولم يكن الموكب تراجيديا أو كئيباً، فقد لطفت منه حيوية الفرنسيين، فقد راح جميعهم يصيح:
"سنحضر معنا الخباز وزوجته",و "سنستمتع بالاستماع إلى ميرابو" ·(ملحق/77)
ووصل الموكب إلى فرساي بينما المطر ينهمر بكثافة، وتجمعوا في صفوف كيفما اتفق أمام بوابات القصر الملكي العالية وأسواره وطالبوا بمقابلة الملك، وتوجه وفد إلى الجمعية الوطنية وأصر على ضرورة أن يدبر المندوبون في الجمعية الخبز للحشود المتجمعة· واتجه مونييه Mounier - القائم بالحراسة في ذلك الوقت مع إحدى المندوبات وهي سيدة لطيفة اسمها لويسون شابري Louison Chabry لمقابلة لويس· فلما رأته تأثرت كثيرا حتى إنها لم تستطع أن تنطق سوى بكلمة واحدة (خبز) ومن ثم سقطت مغشيا عليها· فلما أفاقت وعدها لويس بتدبير خبز للجموع الجائعة التي بللها المطر· وعندما همت بالمغادرة أرادت أن تقبل يده لكنه عانقها عناقا أبويا·
وفي هذه الأثناء اختلطت كثيرات من الباريسيات الجذابات بجنود الفلمنكية (كتائب الفلاندرز الآنف ذكرها) وأقنعنهم بعدم إطلاق النار على النسوة العزل· فتعاطف معهن الجنود واصطحب كثيرون من الجنود هؤلاء الجميلات الجائعات إلى ثكناتهم وقدموا لهن الطعام والدفء· وفي الساعة الحادية عشرة من هذه الليلة وصل لافاييت Lafayette على رأس خمسة عشر ألف من الحرس الوطني، فاستقبله الملك، وتعهد له لافاييت بحمايته، لكنه أي لافاييت - انضم إلى نكر Necker بتوجيه النصح للملك بقبول مطالب الشعب بالتوجه مع الملكة ليعيش في باريس· وكان لافاييت مرهقا فاتجه إلى هوتيل دي نوال Hotel de Noailles ·
وفي الصباح الباكر في يوم السادس من أكتوبر اندفعت الجماهير الغاضبة المرهقة إلى ساحة القصر الملكي من خلال بوابة تصادف فتحها وشق بعض الرجال المسلحين طريقهم إلى السلم ومنه إلى غرفة نوم الملكة التي هربت بلباس نومها وابنها على ذراعيها إلى غرفة الملك· وقاوم حرس القصر هذا الاقتحام ولاقى ثلاثة منهم حتوفهم، وهب لافاييت متباطئا لكنه كان راغبا في تقديم العون- لتهدئة هذا الشغب، مؤكدا الموافقة على مطالب الثائرين· واتجه الملك إلى الشرفة ووعد الجموع بالانتقال إلى باريس، فصاحت: "عاش الملك"!(ملحق/78)
لكن هذه الجموع عادت فطلبت ظهور الملكة أمامهم، فظهرت الملكة وانتصبت واقفة وفي هذه الأثناء صوب واحد من الجماهير المحتشدة بندقيته (من نوع المسكت) إليها، لكن القريبين منه كسروا بندقيته وفي هذه الأثناء تقدم لافاييت ليقبل يد الملكة في إشارة منه للولاء فهدأت الجماهير التي هتفت بحبها للملكة إن هي أتت لتعيش في باريس·
وكلما اقترب وقت الظهيرة تجمع موكب لا نظير له في التاريخ أمام الحرس الوطني وكتائب الحرس الملكي، ثم أتت العربة الملكية التي تحمل الملك وأخته مدام إليزابيث والملكة وطفليها، وتلا ذلك صف طويل من العربات التي تجرها خيول حاملة أكياس الدقيق ثم الباريسيون المنتصرون وجثمت بعض النسوة فوق مدفع، ورفع بعض الرجال عاليا رؤوس من جرى إعدامهم من حرس الملك على أسنة الرماح، وفي سيفر Sevres توقفوا لنثر المساحيق فوق هذه الرؤوس وعقص شعورها · وكانت الملكة تشك في إمكان أن تصل إلى باريس وهي على قيد الحياة، لكنها في هذه الليلة نامت وكذلك أفراد الأسرة المالكة على أسرة أعدت على عجل في قصر التوليري Tuileries حيث سبق للملوك الفرنسيين أن ناموا قبل أن يجعل عصيان المقاليع (الفروند Fronde) من باريس مكانا كريهاً بالنسبة للويس الرابع عشر· Louis XIV· وبعد ذلك بأيام قلائل تبعتهم الجمعية الوطنية حيث أقاموا في مسرح القصر نفسه·
ومرة أخرى فرض الباريسيون رأيهم بليّ ذراع الملك والآن انصاع الملك لرعاياه وقبل إعلان حقوق الإنسان كأمر واقع· وهكذا بدأت الهجرة الثالثة (هجر فرنسا) ·
6 - الدستور الثوري: عام 1790 م
THE REVOLUTIONARY CONSTITUTION
وشرعت الجمعية الوطنية في كتابة الدستور الذي يحدد ويقنن منجزات الثورة، وكانت في عملها هذا متحررة من الضغوط الملكية، لكنها كانت واعية بشكل قلق للمدينة (باريس) التي تراقب أفعالها·(ملحق/79)
بادئ ذي بدء: أيجب الإبقاء على الملكية؟ لقد أبقت الجمعية عليها وسمحت أن تكون وراثية، لأنها أي الجمعية خشيت من انتقال الولاء ومشاعر الانتماء من العرش للأمة، فالهالة المحيطة بالملكية كانت أمراً ضروريا للانضباط الاجتماعي، ويمكن أن يكون حق انتقال الملك ضمانا يمنع نشوب حروب الوراثة ومثل هذه المشروعات المتعلقة بضبط وراثة العرش كانت بالفعل تختمر في ذلك الوقت في القصر الملكي· لكن سلطات الملك لا بد من تحديدها بصرامة، فستقدم له الجمعية الوطنية في كل سنة قائمة "بالمخصصات الملكية" لإنفاقه، وسيحتاج أي إنفاق يزيد عن هذه "المخصصات" إلى إصدار تشريع جديد·
وإذا غادر الملك المملكة الفرنسية بلا إذن الجمعية الوطنية أمكن عزله عن العرش· ومن حق الملك أن يختار وزراءه وعزلهم لكن على كل وزير أن يقدم تقريرا شهريا عن تصرفاته المالية في نطاق الميزانية المنوطة به ويمكن استجوابه في أي وقت أمام المحكمة العليا· والملك هو الرئيس الأعلى للجيش والبحرية لكنه لا يستطيع إعلان الحرب أو توقيع معاهدة بلا موافقة مسبقة من المجلس التشريعي، ومن حقه أن يعترض على أي تشريع يقدم له لكن إذا أقرت ثلاثة مجالس تشريعية متوالية هذا التشريع الذي اعترض عليه اعتبر هذا التشريع قانونا (بصرف النظر عن اعتراضه) ·
والمسألة الثانية: أيحب أن يكون المجلس التشريعي مكونا من هيئتين كما هو الحال في إنجلترا وأمريكا؟ ويمكن للهيئة العليا أن تبتَّ في الأمور المستعجلة، لكنها يجب ألاّ تكون مكونة من أفراد الطبقة الأرستقراطية أو كبار السن· وقد رفضت الجمعية الوطنية ذلك فباعتبارها حارسا على منجزات الثورة أعلنت إبطال المزايا والألقاب الوراثية كلها فيما عدا تلك الخاصة بالملك·(ملحق/80)
ويقوم "المواطنون الفعالون" ويقصد بهم فقط أولئك الذكور البالغون ذوو الممتلكات الذين يدفع الواحد منهم ضريبة مباشرة تبلغ ما يساوي قيمة عمل ثلاثة أيام، وهذا التعريف يشمل الفلاحين الأثرياء لكنه لا يشمل الأجراء والبرولتياريا، إذ جرى اعتبار هؤلاء "مواطنين سلبيين" لأنه يسهل على سادتهم وعلى الصحفيين التأثير فيهم ليصبحوا أداة للفوضى والعنف والتراجع· وعلى وفق هذا الترتيب تمتع 4,298,360 رجلا (من بين 25 مليون نفس) بحق الانتخاب في فرنسا في سنة 1791، وأصبح ثلاثة ملايين بالغ لا حق لهم في التصويت· لقد أقرت الجمعية الوطنية البورجوازية ثورة البورجوازيين خوفاً من جماهير المدينة (باريس) ·
وقسم الدستور فرنسا على وفق أغراض انتخابية وإدارية إلى ثلاث وثمانين دائرة (محافظة أو قسم إداري كبير) تنقسم كل دائرة منها إلى بلديات (كومونات Communes) بلغت 43,360 كومون (بلدية) · لقد أصبحت فرنسا للمرة الأولى أمة موحدة بلا أقاليم أو مناطق ذوات امتيازات وبلا رسوم انتقال داخلي، وأصبحت مناطق فرنسا جميعا تستخدم نظاما واحدا للمقاييس والمكاييل وتخضع للقوانين نفسها· والعقوبات حددها القانون ولم تعد على وفق تقدير القاضي، وتم إبطال التعذيب والتشهير والكي بالنار، ومع هذا فقد تم الإبقاء على عقوبة الإعدام، وكان هذا مثار سخط روبيسبير Robespierre، وأصبح المتهمون بارتكاب جرائم يمكنهم أن يختاروا المحاكمة أمام هيئة محلفين من "المواطنين الفعالين" تختارهم الهيئة القضائية، ويكفي أن يؤيد ثلاثة من اثني عشر عضوا في هذه الهيئة تبرئة المتهم، لاعتماد براءته· ويقضي القضاة في القضايا المدنية·
أما البرلمانات القديمة التي كانت سببا في ظهور أرستقراطية ثانية فقد حلت محلها نظم قضائية جديدة تقوم جمعيات منتخبة بتعيين أفرادها· أما المحكمة العليا فيتم اختيارها من ممثلي العدالة في المحاكم الجنائية الأدنى درجة، بحيث يكون في هذه المحكمة العليا عضوان من كل محافظة (دائرة) ·(ملحق/81)
بقيت مسألتان مهمتان مرتبطتان معا هما: كيف يتم تجنب إفلاس المملكة؟ وكيف يتم تنظيم العلاقة بين الكنيسة والدولة؟ لقد فشلت الضرائب في تمويل الحكومة بينما الكنيسة تقبض بيديها على ثروة تحسد عليها ولا تدفع عنها ضرائب·
وقد أخذت الجمعية برأي تشارلز موريس دى تاليران بيريجور Charles Maurice de Talleyrand-Perigord أسقف أوتون Autun الذي اقترح في 11 أكتوبر سنة 1789 الاستفادة من ممتلكات الكنيسة لدفع الدين الوطني·
وتاليران هذا واحد من الشخصيات التي ثارت حولها الشكوك في التاريخ إذ يرجع أصله إلى أسرة عريقة معروفة بخدماتها العسكرية وربما كان من الممكن أن ينهج نهج أسرته لو لم تنخلع قدمه إثر سقطة وهو في الرابعة من عمره وكان عليه أن يشق حياته بقدم عرجاء لكنه كان مصمما على اجتياز كل عقبة تواجهه، وقد عهد به والده إلى الكنيسة، وقد قرأ في مرحلة الدراسة فولتير ومونتسكيو وكان يحتفظ دائما بخليلة، ومن الواضح أنه طرد من المدرسة اللاهوتية التي كان بها في سنة 1775 لكن في تلك السنة وكان في الواحدة والعشرين من عمره عينه لويس السادس عشر مسئولا عن دير القديس (سان) دينيس St- Denis في رايم Reims
وقد جرى ترسيمه قسيسا في سنة 1779 وفي اليوم التالي أصبح هو النائب الأسقفي العام لعمة رئيس أساقفة رايم Reims، وظل مع هذا ينعم بصحبة السيدات ذوات الأصول الراقية وأنجب من إحداهن غلاما أصبح ضابطا تحت قيادة نابليون· وفي سنة 1788 تم تعيينه أسقفا لأوتو رغم معارضة أمه التقية التي كانت تعلم أنه رجل قليل الإيمان (رقيق العقيدة) · ومع هذا فقد رتب أمر تقديم برنامج إصلاحي لمجلس طبقات الأمة مما دفع رجال الدين (الإكليروس) التابعين له لجعله مندوبا عنهم ·(ملحق/82)
وقد وافقت الجمعية الوطنية في 2 نوفمبر سنة 1789 بأغلبية 508 ضد 346 على تأميم الممتلكات الكنسية التي كانت تصل قيمتها وقتئذ إلى ثلاثة بلايين فرنك رغم المعارضة اليائسة لممثلي الإكليروس بها· وقد عهدت الجمعية للحكومة "بتقديم مصاريف إقامة العبادات العامة وتقديم الإعانات لرجال الدين وما يفرج عن الفقراء، وذلك بالطريقة المناسبة" وفي 19 ديسمبر خولت صندوق الأمور غير العادية Caisse de l'Extraordinaire ببيع 400 مليون فرنك مقابل أسينات assignats وهي أوراق نقدية تعطى لحائزها الحق في مبلغ مقرر (معلوم) من الممتلكات الكنسية بفائدة قدرها 5% عند إتمام البيع ودفعت الحكومة من هذه الأسينات assignates الديون العاجلة وبذا ضمنت دعم الجماعات المالية لنظام الحكم الجديد·
لكن الذين اشتروا هذه الأسينات وجدوا صعوبة في القيام بعمليات شراء على نحو مرض، فاستخدموها أي الأسينات كعملة، ولأن الدولة كانت قد أصدرت كثيراً من هذه الأسينات فقد استمر التضخم المالي، وفقدت الأسينات قيمتها إلا في دفع الضرائب حيث كانت الخزانة مرغمة على قبولها بقيمتها المدونة عليها، وبالتالي وجدت الخزانة نفسها مرة أخرى تعاني عجزاً ماليا يتزايد عاما بعد عام·
وبعد أن اتخذت الجمعية الوطنية هذه القرارات الخطيرة التي لا رجعة فيها، في 13 فبراير سنة 1790 كانت كأنها قد اجتازت نهر الربيكون Rubicon أوقفت الأديرة، وسمحت بصرف معاشات تقاعد للرهبان المطرودين أما الراهبات فقد تركن وشأنهن نظراً لقيامهن بخدمات قيمة في مجالي التعليم والإحسان· وفي 12 يوليو تم إعلان "الدستور المدني للإكليروس" الذي اعتبر القسس موظفين في الدولة يتقاضون منها رواتب، والذي اعتبر الكاثوليكية هي الدين الرسمي للدولة، أما بالنسبة للبروتستانت واليهود فلهم أن يتعبدوا بحرية على وفق عقائدهم في أماكن عبادتهم الخاصة لكن لا تقدم لهم الحكومة دعما·(ملحق/83)
وتقوم الجمعيات المنتخبة في الدوائر (المحافظات) باختيار الأساقفة الكاثوليك، على أن يعفى من التصويت في هذه الحالة غير الكاثوليك أي البروتستانت واليهود واللاأدريين agnostic · وكان على كل القسس أن يتعهدوا بالامتثال الكامل للدستور الجديد كشرط لتسلّمهم رواتبهم·وقد رفض 130 أسقفا في فرنسا من بين 134 أن يقسموا يمين الولاء كما رفض 46,000 قس من بين 70,000 من قسس الأبرشيات أداء هذا القسم أيضا واتخذت الغالبية العظمى من السكان جانب أولئك الإكليروس الرافضين تقديم قسم الولاء للدستور الجديد وقاطعوا الطقوس الدينية التي يقوم عليها رجال الدين الذين أدوا القسم· لقد أصبح هذا الصراع المتنامي بين الكنيسة المحافظة التي يؤيدها الشعب والجمعيات اللاأدرية السائدة التي تؤيدها الشرائح العليا من الطبقة الوسطى- عاملا جوهريا في إضعاف الثورة· وبسبب عدم شعبية هذا الإجراء ظل الملك الفرنسي طويلا يرفض توقيع الدستور الجديد·
وكان لآخرين أسبابهم أيضا لرفضه، فقد قاد روبيسبير أقلية قوية للاعتراض على قصر حق الانتخاب على الملاك باعتبار أن ذلك انتهاك لإعلان حقوق الإنسان، وباعتباره أيضا إهانة مثيرة لبرولتياريا باريس التي سبق لها أن أنقذت الجمعية الوطنية مرارا من القوات المسلحة الملكية·
واتفق الفلاحون وأهل المدن في استيائهم من التخلي عن الإجراءات والقوانين الحكومية التي كانت على نحو ما تحمي المنتجين والمستهلكين من (ضراوة) السوق الحرة التي يتلاعب فيها الموزعون·
ومع هذا فقد شعرت الجمعية وكان لها بعض الحق في هذا· أن الدستور كان وثيقة مهمة تعطي للثورة المنتصرة شكلا قانونيا محددا· واعتبر مندوبو الطبقة الوسطى الذين لهم السيادة الآن أن العوام - وكانت غالبيتهم أميين ليسوا مؤهلين للمشاركة بنسبة أعدادهم في قرارات الحكومة ومداولاتها· وبالإضافة لهذا- وقد هرب النبلاء الآن - ألم يحن الآن دور البورجوازية في توجيه الدولة معتمدة بشكل متزايد على كبار السن الحكماء المجربين، وعلى اقتصاد متقدم فعال؟ لذا فإن الجمعية أعلنت فرنسا ملكية دستورية بلا اعتبار لتردد الملك،(ملحق/84)
وفي 5 يونيه سنة 1790 دعت المحافظات (الدوائر) الثلاث والثمانين لأن ترسل كل محافظة (دائرة) حرسها الوطني الفدرالي لينضم لشعب باريس وحكومة فرنسا في ساحة دي مارس (شامب دي - مارس Champ de Mars) للاحتفال بإنجاز الثورة بمناسبة مرور عام على استيلاء الثوار على الباستيل· وفي أثناء انتشار نبأ هذه الدعوة وما صاحبها من حماس دخل ثلاثون أجنبيا على رأسهم الهولندي الثري المعروف في التاريخ "بِأنا شارزيس كلوتس Anacharsis Cloots " الجمعية في 19 يونيو وطلبوا أن يحوزوا شرف المواطنة الفرنسية وطلبوا حق التقدم "لعيد" الفدرالية باعتبارهم "سفارة" تمثل الجنس البشري"· وصدرت الأوامر بتنفيذ طلبهم·
لكن ساحة مارس التَّلِّية hilly Field of Mars الآنف ذكرها كانت في حاجة إلى تسوية لتكون صالحة لهذه المناسبة إذ كان يجب تسوية مساحة تبلغ 3000 - 1000 قدم وإعداد شرفات بها لتستوعب 300,000 رجل وامرأة وطفل، وكان لا بد من الارتفاع بالرابية الوسطى ليكون مذبحاً يعتليه الملك والأمراء والأساقفة وأعضاء الجمعية وأصحاب الحق في الوقوف هذا الموقف لأداء يمين الولاء للأمة التي تولد ميلادا شرعيا جديدا الآن· وخصص لإعداد الساحة على هذا النحو خمسة عشر يوما فقط·
من الآن يستطيع أن ينافس الصفحات الأربع عشرة التي بين فيها كارليل Carlyle كيف أن أهل باريس رجالا ونساء، شيبا وشبانا قد أقبلوا جميعا حاملين معاولهم ومجارفهم ودافعين أمامهم عربات الواحدة منها ذات عجلة واحدة لنقل الركام، وراحوا يغنون "ستسير الأمور على ما يرام" وسووا الأرض الواسعة وشيدوا الشرفات ومذبح قسم الولاء للوطن Autel de la Patrie من منا اليوم يجسر اليوم أن يكتب بمثل هذه الجرأة نافخا في أبواق البلاغة معلنا هذا الانجذاب وذلك الفرح ذي الطابع التنبئي خاصة إذا علمنا أن نصف مخطوطاتنا قد أحرقتها خادمة متعجلة، وكان علينا أن نجمع ما تبعثر من جواهرنا مرة أخرى لنعيد ترتيبها وصقلها؟ أي نار كان يجب كبتها في هذا الاسكتلندي القاسي لإحياء مثل هذه المحرقة (الهولوكوست)! ·(ملحق/85)
وعلى هذا فإنه طوال الأسبوع السابق على هذا العيد الديني Holyday راح جنود من مختلف أنحاء فرنسا يتجهون إلى باريس وراح الحرس الوطني الباريسي في بعض الأحيان يقطع من باريس أميالاً كثيرة للقائهم ومرافقتهم· وفي 14 يوليو سنة 1790 دخلوا ساحة دي مارس الآنف ذكرها في موكب مهيب؛ خمسون ألفا من الأقوياء أعلامهم ترفرف وفرقهم الموسيقية تعزف وحناجرهم تدوي بالأغاني القوية، وثلاثمائة ألف من الباريسيين المثيرين للخيال يصاحبونهم·
ورتل الأسقف تاليران بيريجور Talleyrand-Perigord ولم يكن قد طرد من رحمة الكنيسة بعد القداس، واعتلى مئتان من الأساقفة والقسس المذبح وأقسموا اليمين، وتعهد الملك بطاعة القوانين الجديدة بكل ما وسعه من جهد وصاحت الجموع "عاش الملك" وعندما أطلق المدفع طلقات التحية رفع آلاف الباريسيين ممن لم يتمكنوا من الحضور- أيديهم في اتجاه ساحة دي مارس Champ de Mars وأقسموا يمين الولاء· وجرت في كل مدينة فرنسية تقريبا مهرجانات مشابهة وشارك الجميع في تناول النبيذ والطعام وتعانق القسس الكاثوليك والبروتستانت كما لو كانوا مسيحيين على مذهب واحد· كيف يمكن لأي فرنسي أن يتشكك في أن عصرا جديداً مجيدا قد بزغ فجره؟
7 - ميرابو يدفع ديونه Mirabeau: في 2 أبريل 1791 م(ملحق/86)
كان رجل واحد وامرأة واحدة يمكنهما التشكك في بزوغ هذا الفجر الجديد· فبالنسبة للويس وزوجته الملكة بدا التوليري The Tuileries منزلاً زجاجياً ترصد من خلاله الجماهير كل حركة يأتيان بها بموافقة صامتة أو إدانة طال أمدها· وفي 31 أغسطس سنة 1790 تمرد فوج سويسري كان في خدمة الملك في نانسي Nancy بسبب تأخر الرواتب والمعاملة المتسمة بالاستبداد· وأطلق الحرس الوطني النار على بعض المتمردين وتم إرسال بعضهم إلى السفن، كما جرى شنق بعضهم· وتجمع أربعون ألف باريسي عند سماعهم بذلك وهددوا القصر الملكي واتهموا لافاييت ولاموا الملك بسبب ما أسموه "مذبحة نانسي" وطالبوه بإقالة وزرائه· وبهدوء غادر نكر Necker في 18 سبتمبر سنة 1790 ليعيش مع أسرته في كوبيت Coppet على ضفاف بحيرة جنيف، ونصح لافاييت الملك بتهدئة باريس بقبوله للدستور · وعلى أية حال فقد كانت الملكة مرتابة في مبدأ التخطيط لجعلها سلطة محركة للعرش، لذا فقد عبرت بوضوح عن بغضها بأن يترك البلاط ويترك لميرابو Mirabeau مهمة إنقاذ الملكية ·
ورحب ميرابو· وكان في حاجة إلى المال ليكفي أسلوب حياته المتسم بالإسراف· وشعر أن التضامن أو الائتلاف بين الملك والجمعية هو الخيار الوحيد لحكم يقوم عليه زعماء جماهيريون، ولم يكن يرى تناقضا في متابعة هذه السياسة وسد النقص (العجز) ثانية في موارده المالية· وكان قد كتب في 28 سبتمبر 1789 لصديقة لامارك La Marck:
" لقد ضاع كل شيء فسيتم إبعاد الملك والملكة وسترى الجماهير المنتصرة ترقص فوق جثتيهما" وكتب لصديقه هذا نفسه في 7 أكتوبر: "إن كان لك أي تأثير في الملك والملكة فلتحثهما على ترك باريس لأنهما إن لم يفعلا ضاعا وضاعت فرنسا· إنني مشغول بخطة لإبعادهما وقد رفض لويس هذه الخطة لكنه وافق على تمويل خطة ميرابو للدفاع عن الملكية"·
وفي أوائل شهر مايو سنة 1790 وافق على أن يدفع ديون المغامر الكبير بالسماح له بمبلغ ألف دولار في الشهر بالإضافة إلى مكافأة مقدارها 192,000 دولار إن هو نجح في إزالة الخلافات بين الملك والجمعية · وفي أغسطس منحته الملكة شرف اللقاء بها لقاء خاصا في حدائقها في سان كلود St. Cloud ·(ملحق/87)
وكان تأثير الملكة هائلا حتى أن تنين الثورة الصارم اهتز لفرط إخلاصه لها عندما قبل يدها· وتحدث ميرابو لأصدقائه المقربين عن جاذبيتها وسحرها "أنتم لا تعرفون الملكة·· إن لعقلها قوة مدهشة، وهي رجل إذا كان مقياس الرجولة هو الشجاعة"·
وكان ميرابو يعتبر نفسه "شخصا يقبض أو يتسلم أموالاً لكنه لا يشتر" فعلى وفق ما ذكره لامارك فإنه يقبل أموالاً تدفع له للاحتفاظ بآرائه أو للتمسك بآرائه · ولم تكن لديه نية للدفاع عن الحكم المطلق (الاستبدادي) بل على العكس فقد كانت الأفكار التي تقدم بها لوزراء الملك في 23 ديسمبر 1790 تشكل برنامجا للتوفيق بين الحرية العامة (حرية الجماهير) والسلطات الملكية:
"إننا نخطئ الهدف إذا هاجمنا الثورة فهي حركة أعطت لشعب عظيم قوانين أفضل تستحق أن ندعمها··· وإنما يجب قبول روح الثورة وكثير من العناصر في دستورها·· إنني أقدر نتائج الثورة كلها··· باعتبارها فتوحات لا يمكن الانسحاب منها فلا مجال لتدمير هذه النتائج تحت أي ظروف" ·
لقد راح ميرابو يعمل على إنقاذ ما تبقى من السلطات الملكية، يدفعه لذلك إيمانه وإخلاصه من ناحية، وما تلقاه من رشاوى من ناحية أخرى· وقد تشككت الجمعية في أمر ذمته لكنها احترمت عبقريته، ففي 4 يناير سنة 1791 اختارته رئيساً لها لدورة عادية مدتها أسبوعان، فأدهش الجميع بانضباطه الإداري وحياد قراراته· وكان يعمل طول النهار ويظل يأكل ويشرب طول المساء، وكان يرافق النساء· وفي 25 مارس استضاف راقصتين من الأوبرا، وفي صباح اليوم التالي أصيب بتقلص معوي حاد، وحضر اجتماع الجمعية في 27 من الشهر نفسه لكنه سرعان ما عاد إلى مقر إقامته منهكا يرتجف·
وانتشر خبر مرضه في باريس فتم إغلاق المسارح احتراما له وحاصر الناس منزله يسألون عن أحواله وتقدم شاب عارضا نقل دمه إليه وقال تاليران Talleyrand له (لميرابو): "إنه من الصعب الوصول إليك فنصف أهل باريس يقيمون بشكل دائم خارج باب منزلك". وفي 2 أبريل 1791 مات ميرابو بعد أن عانى في مرضه كثيراً·(ملحق/88)
في 3 أبريل طلبت وفود من ناخبي باريس من الجمعية تحويل كنيسة القديس جنيفيف St. Genevieve إلى ضريح ومقبرة لأبطال فرنسا، وهذا البانثيون Pantheon كما أطلق عليه لا بد أن ينقش على مدخله "إلى عظماء الأمة، فبلاد أجدادهم ممتنة لهم"، وتم تنفيذ ذلك وتم دفن ميرابو في هذا المثوى في 4 أبريل وحضر جنازته فيما يقول ميشيل Michelet عدد غفير فكانت أكبر الجنازات التي شهدها العالم وأكثرها شعبية وقدر المؤرخون عدد من حضرها ما بين 300,000 و400,000 ملئوا الشوارع وتسلقوا الأشجار وأطلوا من النوافذ ومن فوق أسطح المنازل وحضرها كل أعضاء الجمعية الوطنية كلهم ما عدا بيتيو Petion ( الذي كان لديه دليل سري على أن ميرابو تلقى أموالاً من الملك) وحضرها كل أعضاء نادى اليعاقبة كلهم وعشرون ألفا من الحرس الوطني، لكأنما ينقلون رفات فولتير أو رفات واحد من أولئك الذين لا يموتون أبداً · وفي 10 أغسطس ظهرت أدلة من بين أوراق الملك تشير إلى دفعه مبالغ لميرابو، وفي 22 سبتمبر سنة 1794 صدرت الأوامر في اجتماع للجمعية بنقل رفات البطل الملوث من البانثيون (مقبرة الخالدين) ·
8 - إلى فارين Varennes: 20 يونيو 1791
لقد قاوم الملك إلحاح النبلاء والملكة بضرورة الهرب من باريس وربما من فرنسا كلها ليعود مزودا بجيش قوي فرنسي أو أجنبي يمكنه من إعادة ترسيخ وضعه على العرش، ومع أن الملك كان غير راض عن تجريد النبلاء والإكليروس والملكية من صلاحياتهم القديمة ومع أنه كان مقتنعا أن شعْبا كالشعب الفرنسي يتسم بالعنف والطيش والفردية سينصاع لغياب الحكم ولن يسمح بفرض القيود وصدور المراسيم التي تتأصل بمرور الوقت، فإنه - أي الملك - راح يعلق الآمال على السلطات والصلاحيات غير المؤثرة التي لا تزال في حوزته،(ملحق/89)
ووقع في 21 يناير سنة 1791 الدستور المدني للإكليروس (رجال الدين) لكنه شعر أنه يخون العقيدة التي كانت ملاذه الأثير ضد ما حاق به في الحياة من خيبة أمل· لقد صدم بعمق بسبب قرار الجمعية الصادر في 30 مايو سنة 1791 بنقل رفات فولتير إلى مقبرة الخالدين (البانثيون Pantheon) لقد بدا له أمراً لا يحتمل أن تحمل رفاة كبير كفرة القرن في موكب نصر لتودع بشرف وتكريم في مقبرة كانت حتى الأمس فقط كنيسة للتكريس (موقوفة لغرض ديني نبيل) ووافق الملك أخيراً وبعد طول تردد على رأي الملكة وطلب منها أن تستعد للهرب خارج الحدود فجهز صديقها المخلص كونت أكسيل فون فيرسن Axel Von Fersen الأموال اللازمة للهرب ودبر تفاصيل الخطة، وكان الملك بالتأكيد رجلا مهذبا gentleman وربما لم يكن ديوثا (قوادا) لذا فقد شكره بحرارة ·
والعالم كله يعرف القصة التالية: كيف تنكر الملك والملكة في زى رجل وزوجته· وغادر كورف Korff مع أطفالهم وخدمهم ومرافقيهم قصرَ التولير ي Tuileries خلسة في منتصف ليلة 20/ 21 يونيو سنة 1791 وظل راكبا طوال اليوم التالي بفرح مشوب بالخوف وقطع 150 ميلا إلى فارين Varennes بالقرب من حدود ما يعرف اليوم باسم بلجيكا (كانت وقتها الأراضي المنخفضة النمساوية أي التابعة للنمسا) ومعروف كيف أوقفهم فلاحون مسلحون بالمذاري والهراوات، وكيف قادهم جان بابتست دروت Jean- Baptiste Drouet مدير محطة البريد في ستي مينيهولد Ste Menehould، وأرسل أي مدير المحطة للجمعية طالبا التعليمات وسرعان ما وافاه بارنيف Barnave وبيتيو Petion بالإجابة: " أحضر أسراك ولا تمسهم بسوء إلى باريس"·
والآن لقد مضت ثلاثة أيام لا عمل فيها قضاها ستون ألفا من الحرس الوطني في مرافقة الأسرى الملكيين· وفي الطريق جلس بارنيف Barnave في العربة الملكية قبالة الملكة، وكان قد سبق تدريبه وفقا لنظام الفروسية الذي تم إحياؤه في عهد الحكم البائد· وقد تأثر بفتنة الجمال الملكي وراح يتأسى متحسراً، وراح يعجب متسائلاً في سريرته عما يكون مصيرها ومصير أطفالها· وعندما وصل الركب إلى باريس كان قد أصبح عبداً Slave لها (أسيراً لها) ·(ملحق/90)
وبسبب جهوده بالإضافة إلى محاذير أخرى رفضت الجمعية طلب الذين لا يرتدون كلوتات (الشريحة الدنيا من طبقة العوام/السانس كولوت) عزل الملك فورا· فلا أحد يستطيع أن يخبر بنوع الفوضوية التي ستنشأ عن ذلك· أتكون الجمعية البورجوازية والممتلكات كلها تحت رحمة الجماهير الباريسية الذين ليس لهم حق دستوري في الانتخاب؟ لذا فقد سرى القول بأن الملك كان قد خطف أو أبعد قسراً عن مقر إقامته، لذا فلا بد من السماح له بالاحتفاظ برأسه (عدم إعدامه) على الأقل لفترة،
واعترض الزعماء الراديكاليون ودعت النوادي والصحف الشعب للتجمع في ساحة دي مارس في 17 يوليو سنة 1791 فاجتمع خمسون ألفا ووقع ستة آلاف طلباً بتنازل الملك عن العرش وأصدرت الجمعية أوامرها للافاييت والحرس الوطني لتفريق المشاغبين الذي رفضوا التفرق بل وحصب بعضهم أفراد الحرس وقتل الجنود الغاضبون خمسين رجلاً وامرأة، كان قتل بعضهم حرقا، وبذا انتهت الأخوة العامة التي تعاهدوا عليها هناك منذ عام مضى· وطارد البوليس مارا الذي كان يعيش في قبو رطب وراح يدعو لثورة جديدة، أما لافاييت فقد انتهت شعبيته وعاد إلى الجبهة وراح ينتظر بصبر فارغ الفرصة المناسبة ليهرب من الفوضى التي بلغت ذروتها في فرنسا·
وكلما اقترب الشهر من نهايته كثفت الجمعية جهودها لإنهاء أعمالها، وربما كان أعضاء الجمعية قد اعتراهم التعب وشعروا أنهم أنجزوا ما يكفي إنجازه على مدى حياة الواحد منهم·
وحقيقة كانوا قد أنجزوا الكثير من وجهة نظرهم، فقد أشرفوا على القضاء على النظام الإقطاعي، وأبطلوا الامتيازات الوراثية وحرروا الناس من الاستبداد الملكي والأرستقراطية المتعجرفة التي لا عمل لأفرادها، ووضعوا أسس المساواة أمام القانون(ملحق/91)
وأنهوا مبدأ السجن بلا محاكمة وأعادوا تنظيم البلاد إداريا سواء على المستوى المحلي أم على مستوى الدوائر (المديريات أو المحافظات) وهذبوا الكنيسة التي كانت ذات يوم مستقلة لها القدرة على توجيه النقد القاسي، بمصادرة ثرواتها، وإعلان مبدأ حرية العبادة وحرية الفكر، وثأروا لجان كالاس Jean Calas وفولتير وشهدوا بسرور هجرة النبلاء الرجعيين، وجعلوا من الشرائح العليا للطبقة الوسطى حكاما للبلاد· وأنهم ضمنوا هذه التغييرات كلها في دستور استطاعوا الحصول على موافقة الملك عليه، وكذلك موافقة الغالبية العظمى من السكان باعتباره - أي هذا الدستور - أملاً في وحدة وسلام وطنيين·
وأكملت الجمعية الوطنية والتأسيسية (المنوط بها صوغ الدستور) أعمالها بالترتيب لانتخابات جمعية تشريعية لتضع قوانين محددة على هدى الدستور، ولتواجه بالدراسة المتأنية قضايا المستقبل· وحث روبيسبير Robespierre أعضاء الجمعية الوطنية على ألا يرشح أحد منهم نفسه لانتخابات الجمعية التشريعية، آملاً في أن يؤدي الاقتراع الجديد إلى دفع مزيد من الممثلين الشعبيين إلى السلطة· وفي 30 سبتمبر سنة 1791 أعلنت الجمعية الوطنية أشهر الجمعيات السياسية جميعاً حل نفسها ·(ملحق/92)
الفصل الثالث
الجمعية التشريعية: أول أكتوبر 1791 إلى 20 سبتمبر 1792
The Legislative Assembly
1 - شخصيات الأحداث
كانت انتخابات المؤسسة الثورية الثانية يراقبها الصحفيون بحماس وتشرف عليها الأندية بقوة فعالة· لقد أصبح للصحفيين تأثير جديد في السياسة العامة منذ كادت الرقابة على المطبوعات تختفي، فقد كان لكل من بريسو Brissot ولوزتالو Loustalot ومارا وديمولين Desmoulins وفريرو Fréron ولاكلو Laclos، دورية (صحيفة) كمنبر له يعبر من خلالها عن آرائه في الدفاع عن حقوق الشعب·
وفي سنة 1790 كان في باريس وحدها 133 صحيفة بالإضافة إلى مئات الصحف في الدوائر (المحافظات أو المديريات)، وكانت هذه الصحف كلها تقريبا تؤيد الخط الراديكالي· وكان ميرابو قد نصح الملك بضرورة شراء بعض الصحفيين ذوي الشعبية إن أراد الاحتفاظ بعرشه أو برأسه· ومما قاله نابليون إنه:(ملحق/93)
"كان من الممكن أن يبقى نظام النبالة القديم لو عرف النبلاء بقدر كاف أن يسيطروا على المطبوعات··· لقد أدى ظهور المدافع إلى قتل النظام الإقطاعي، أما الحبر فسيقتل النظام الحديث "·
وكادت النوادي أن يكون لها تأثير الصحف نفسه، فنادي البريتون The Breton Club الذي تبع الملك والجمعية إلى باريس أعاد تسمية نفسه بجمعية أصدقاء الدستور Society of Friends the Constitution وأجرت حجرة في الدير اليعقوبي السابق بالقرب من التوليري Tuileries ليعقد الأعضاء فيها اجتماعاتهم، وفيما بعد توسعوا في المكان فضموا المكتبة بل وحتى المصلى · وكان اليعاقبة Jacobins كما أطلق عليهم التاريخ في البداية يمثلون كل أعضاء هذا النادي أو الجمعية لكنهم سرعان ما أثروا جماعاتهم بضم أشخاص مبرزين في العلوم والآداب والسياسة أو إدارة الأعمال· وهنا وجد الأعضاء السابقون (في الجمعية الوطنية) مثل روبيسبير الذي نحى نفسه عن عضوية الجمعية التشريعية منطلقاً جديداً يمارسون منه السلطة· وكانت الديون مرتفعة فحتى سنة 1793 كان معظم الأعضاء من أفراد الطبقة الوسطى ·
وتضاعف تأثير اليعقوبيين بفعل منظمة النوادي المنتسبة إليهم في كثير من كومونات فرنسا (الكومون هنا تنظيم إداري أصغر من الدائرة أو المحافظة) والتي اتفقت جميعا على الاعتراف بالنادي الأم وبقيادته في مجالي الفكر والإستراتيجية· وفي سنة 1794 كان هناك نحو 6,800 ناد يعقوبي تضم جميعا نصف مليون عضو · وكان اليعاقبة يشكلون أقلية منظمة وسط جماهير (أغلبية) غير منظمة· وعندما أيدت الصحف سياساتهم أصبح تأثيرهم في المحل الثاني لا يسبقه سوى تأثير الكومونات (البلديات) التي تتحكم في التشكيلات المحلية للحرس ا لوطني من خلال مجالسها البلدية وأقسامها التأسيسية·(ملحق/94)
وعندما كانت هذه القوى كلها تعمل بتناسق، كان على الجمعية أن تعمل حسابها أو تحسب أمر مواجهة جماهير غير مدركة لا يضبطها ضابط أو حتى مواجهة عصيان مسلح· لقد كتب رجل إنجليزي كان في باريس في سنة 1791 "إن النوادي متوفرة في كل شارع" · لقد كانت هناك جمعيات أدبية ورياضية ومحافل ماسونية Freemason lodges وتجمعات عمالية· ولما وجد بعض الزعماء الراديكاليين أن اليعاقبة بورجوازيون غلاة أسسوا في سنة 1790 "جمعية أصدقاء الإنسان والمواطن" التي سرعان ما أطلق عليها أهل باريس نادى الرهبان الفرانسيسْكان (نادي الكوردليير Cordeliers Club) لأن أعضاءه كانوا يجتمعون في مبنى كان فيما سبق ديراً للفرانْسِيسْكان، وقد أتاح هذا النادى لكل من مارا وهربير Herbert وديمولين Desmoulins ودانتون Danton عرض أفكارهم فيه·
وقد أسس كل من لافاييت وباييه Bailly وتاليران ولافوازيه وأندريه ومارى جوزيف دى شينيه de Chenier ودو بونت دى نيمور Du Pont de Nemours جمعية عرفت "بجمعية 1789" كان هدفها هو دعم الملكية المترنحة، وقد بدأت هذه الجمعية اجتماعاتها بشكل منتظم في القصر الملكي في سنة 1790، وكان تأسيسها بهدف الحد من غلواء اليعاقبة، إذ رأى مؤسسو هذه الجمعية (جمعية 1789) أن اليعاقبة راديكاليون مغالون (مفرطون في راديكاليتهم)، وظهرت جماعات أخرى ملكية (ذات توجه ملكي) بقيادة أنتوني بارنييف Antoine Barnave واسكندر دى لاميت Alexandre de Lameth اللذين كونا ناديا عرف في التاريخ باسمه المختصر الفويان Feuillants لأنهم كانوا يعقدون اجتماعاتهم في دير بنيدكتي عرف بهذا الاسم·
إن هذا كله علامة على علمنة الحياة الباريسية بسرعة فقد أصبح كثير من الأديرة السابقة الآن مراكز للإثارة السياسية·(ملحق/95)
وقد ظهرت التيارات (الاتجاهات) المختلفة للأندية في أثناء الانتخابات التي استوعبت ببطء أوراق الاقتراع السري على الجمعية الجديدة (التشريعية) إذ تم الاقتراع في شهري يونيه وسبتمبر سنة 1791، فالموالون Loyalists الذين هذبهم التسامح والتعليم عولوا على حث الناخبين وعلى تقديم الرشاوى لجمع الأصوات لصالحهم، أما اليعاقبة وأعضاء النادي الفرانسيسكاني (الكوردلير) الذين عركتهم الأسواق والشوارع فقد زاوجوا في دعايتهم الانتخابية بين الرشوة واستخدام القوة (الإرغام) لقد فسروا القانون تفسيرا مفصلا إلى أبعد مدى ومنعوا أي شخص رفض أن يقسم يمين الولاء للدستور الجديد من الإدلاء بصوته، ومن هنا فإن غالب الكاثوليك المتدينين قد جرى استبعادهم تلقائيا· وتم تنظيم الجموع للإغارة على الاجتماعات التي يعقدها الموالون loyalists وتشتيت المجتمعين فيها، كما حدث في جرينوبل Grenoble، وفي بعض المدن مثل بوردو Bordeaux منعت السلطات البلدية كل اجتماعات النوادي ما عدا نادى اليعاقبة وحدث في مدينة واحدة أن أحرق اليعاقبة وأنصارهم صندوق اقتراع كانوا يشكون أنه يضم أصواتا غالبها محافظ ·
ورغم هذه المظاهر الديمقراطية فلم تؤد الانتخابات إلى وصول أقلية أساسية تسعى للحفاظ على الملكية إلى الجمعية التشريعية· وشغل الفويلان Feuillants وعددهم 264 عضوا القسم الأيمن من القاعة، لذا فقد أعطوا اسمهم (المحافظون) في كل مكان لكل من اتخذ مجلسه إلى اليمين· وجلس اليعاقبة والكوردليير (جماعة أصدقاء الإنسان والمواطن) إلى اليسار في القسم المرتفع الذي أطلق عليه اسم الجبل وبالتالي فقد عرفوا باسم الجبليين Montagnards وفي الوسط جلس 355 عضوا رفضوا تصنيف أنفسهم ومن ثم فقد أطلق عليهم اسم أهل السهل Plain · ومن بين 755 عضواً كان هناك 400 قانوني كانوا ملائمين لطبيعة الجمعية التشريعية· والآن فقد خلف القانونيون رجال الدين في السيطرة على البلاد· وكان أعضاء الجمعية التشريعية كلهم تقريبا من الطبقة الوسطى، فلا زالت الثورة إذن عيدا للبرجوازية·(ملحق/96)
وحتى 20 يونيو سنة 1792 كان أكثر الجماعات نشاطا في الجمعية التشريعية هم أولئك المنتمون إلى دائرة (محافظة) جيروند Gironde · إنهم لم يكونوا حزبا منظما ولم يكونوا من الجبليين ولكنهم كانوا جميعا تقريبا من مناطق ذوات نشاط صناعي وتجاري - كان Caen ونانت وليون Lyons وليموج Limoges ومرسيليا وبوردو Bordeaux، فسكان هذه المراكز النشيطة كانوا قد تعودوا على الحكم الذاتي Self-rule وكانوا يتحكمون في كثير من أموال المملكة وتجارتها الداخلية والخارجية، وكانت بوردو Bordeaux عاصمة الجيروند تتذكر بفخر أنها هي التي نشّأت مونتيني Montaigne ومونتسكيو، وكان زعماء الجيرونديين Girondins كلهم تقريبا أعضاء في نادي اليعاقبة وكانوا متفقين مع معظم اليعاقبة الآخرين في معارضة الملكية والكنيسة لكنهم كانوا ممتعضين من أن تحكم باريس وجماهيرها بلاد فرنسا، واقترحوا بدلا من ذلك أن تكون فرنسا جمهورية فدرالية تتمتع دوائرها (محافظاتها) بقدر كبير من الحكم الذاتي·
وكان منظرّهم هو كوندورسيه Condorcet وكان فيلسوفا ومتخصصا في التربية والمالية واليوتوبيا Utopia ( المدينة الفاضلة أو المثالية) · لقد مضى وقت طويل قبل أن ندفع له ما علينا من دين· وكان خطيبهم المفوه هو بيير فيرجنيو Pierre Vergniaud الذي ولد في ليموج من رجل أعمال وقد ترك بيير المعهد اللاهوتي ودرس القانون ومارس المحاماة في بوردو وتم انتخابه فيها للجمعية التشريعية التي جعلته رئيسا لها أكثر من مرة· وكان جاك بيير بريسو Jacques-Pierre Brissot لا يزال من أكثر أعضاء الجمعية التشريعية تأثيرا وهو من مواطني تشارترز Chartres وكان أقرب إلى المغامر، شغل عدة وظائف، وخبر مجموعات القوانين في أوروبا وأمريكا وعاش في مناخات مختلفة، وباختصار فقد تم سجنه في الباستيل في سنة 1784، وأسس في سنة 1788 جمعية الأصدقاء السود Societe des Noirs Amis وعمل بجد على تحرير العبيد·(ملحق/97)
وكان واحداً من مندوبي باريس في الجمعية التشريعية وأخذ على عاتقه مهمة السياسة الخارجية، وقد قاد الاتجاه المنادي بالحرب· وقدمه كوندورسيه Condorcet مع فيرجينيو Vergniaud إلى مدام دى ستيل de Stael فأصبحا من المداومين بإخلاص على الحضور إلى صالونها وساعدا عشيقها الكونت دى ناربون لارا - de Narbonne Lara كي يعينه لويس السادس عشر وزيرا للحرب · وظل الجيرونديون لفترة طويلة يطلق عليهم اسم البريسوتيين Brissotins نسبة إليه·
ويذكر التاريخ جيدا جان ماري رولاند دي لا بلاتيير Jean- Marie Roland de La Platiere لسبب رئيسي وهو أنه تزوج لامعة ألهمته الأفكار والأسلوب وخدعته واحتفت بذكراه، ومجد صعودها إلى المقصلة على وفق رواية شهيرة وقد تكون خرافية· وعندما كانت جين مانون فيليبو Jeanne Manon Phlipon في الخامسة والعشرين من عمرها تقابلت مع جان ماري الآنف ذكره في روان Rouen في سنة 1779، وكان وقتها في الخامسة والأربعين من عمره، برأسه بداية صلع وكانت الاهتمامات التجارية والتأملات الفلسفية قد أرهقته، وكان ذا ابتسامة أبوية جميلة، وكان يدعو لرواقية نبيلة فتنت مانون التي كانت بالفعل متآلفة مع الكلاسيكيات القديمة وأبطالها فقد قرأت بلوتارخ Plutarch وهي في الثامنة من عمرها، وكانت أحيانا تفضله على كتاب الصلوات عندما تكون في الكنيسة ومن أقوالها "إن بلوتارخ قد مهد الطريق لأكون جمهورية"·(ملحق/98)
وكانت ذات روح عالية وهي طفلة، فمن أقوالها: "في مناسبتين أو ثلاث عندما ضربني أبي عضضت فخذه الذي كان يجلسني عليه" ولم تفقد عضتها أبدا، لكنها قرأت أيضا حيوات القديسين، وتطلعت - وكأنها تتنبأ - إلى الاستشهاد (الموت في سبيل المبدأ) وشعرت بالجمال وأحست بجلال الطقوس الكاثوليكية واحتفظت باحترامها للدين وبعض الكتابات التي تناولت العقيدة المسيحية حتى بعد استمتاعها بكتابات فولتير وديدرو ودهولباخ ودلامبير ولم تهتم كثيرا بروسو وكانت صارمة جداً إزاء مشاعره، وبدلاً من ذلك فقد أضاعت قلبها لبروتس Brutus ( شخص آخر) ومن كليهما أصبحت هي والجيرونديون يؤمنون بالمثل السياسية نفسها، وقد قرأت أيضا خطابات مدام سيفنيه Sevigne لأنها كانت تتطلع إلى كتابة نثر كامل الأوصاف·
وكان هناك من طلب يدها للزواج لكنها كانت واعية بمآثرها فلم تكن لتقبل أي عشيق عادي، وربما وجدت أنه من الأفضل أن تجد حلا وسطا، وكان هذا عندما بلغت الخامسة والعشرين من عمرها فوجدت في رولان Roland الآنف ذكره: "عقلا قويا وأمانة واستقامة ومعلومات وكياسة···· فقد جعلني وقاره أنظر إليه بتقدير كما هو بدون أي اعتبار للجنس" · وبعد زواجهما في سنة 1780 عاشا في ليون التي وصفتها بأنها: "مدينة جرى تشييدها بفخامة بالإضافة إلى موقعها المهم، انتعشت فيها التجارة والصناعة··· مشهورة بأثريائها الذين يحسدهم على ثرائهم حتى الإمبراطور جوزيف " وفي فبراير سنة 1791 تم إرسال رولان إلى باريس ليدافع عن مصالح تجارة ليون وأشغالها أمام لجان الجمعية التأسيسية، وحضر اجتماعات نادي اليعاقبة وكون صداقة قوية مع بريسو، وفي سنة 1791 أقنع زوجته بالانتقال معه إلى باريس·(ملحق/99)
وفي باريس لم تعد سكرتيرته وإنما تحولت إلى مستشارة له· إنها لم تكن ترتب تقاريره بأناقة وإنما بدت توجه سياسته· وفي 10 مارس سنة 1792 عين وزيراً لداخلية الملك بوساطة بريسو · وفي هذه الأثناء أصبح لمانو Manon صالونا كان يلتقى فيه بانتظام بريسو وبيتيو Petion وكوندرسيه وبوزو Buzot وغيرهم من الجيرونديين، ليضعوا خططهم · وكانت تقدم لهم الطعام والمشورة، كما كانت تقدم لبوزو حبها بشكل سرى (كانت على علاقة عشق به)، وقد تبعتهم أو سبقتهم بشجاعة إلى الموت·
2 - حرب عام: 1792 م
لقد كانت فترة عصيبة للثورة، فالمهاجرون (الذين تركوا فرنسا بسبب الثورة) كانوا قد جمعوا بحلول عام 1791 عشرين ألف فرقة في كوبلنز Coblenz وراحوا يتقدمون مع منجديهم لتقديم العون· واستجاب فريدريك وليم الثاني في بروسيا لأنه وجد إمكانية انتهاز الفرصة لتوسيع مملكته على طول الراين، وجوزيف الثاني إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة قد يكون السبب الوجيه بالنسبة له لخوض حرب ضد فرنسا هو مساعدة أخته لكن شعبه أيضا كان في حالة ثورة، وما لبث أن مات ولم يكن أخوه ليوبولد الثاني Leopold الذي خلفه على عرش الإمبراطورية في سنة 1790 ميالاً للحرب، ومع هذا فقد أصدر هو وملك بروسيا "إعلان بيلنتس Pillnitz " التحذيري في 27 أغسطس سنة 1791 دعيا فيه حكام أوروبا الآخرين للانضمام إليهما في جهودهما ليعيدوا إلى فرنسا
"الشكل الملكي لحكومتها لتكون مرة أخرى متمشية مع ما للملوك من حقوق ولتحسين أوضاع الأمة الفرنسية وازدهارها"·
ومن الغريب أن نقول إن كلا من أنصار الملكية وأنصار الجمهورية كانوا يفضلون الحرب، فملكة فرنسا طالما حثت إخوتها على القدوم لإنقاذها، وكان الملك قد طلب صراحة من حكام بروسيا وروسيا وإسبانيا والسويد والإمبراطورية الثنائية (النمسا المجر) جمع قوات مسلحة لإعادة السلطان الملكي إلى ملك فرنسا · وفي 7 فبراير سنة 1792 وقعت النمسا وبروسيا حلفا عسكريا ضد فرنسا، فقد كانت النمسا في توق شديد للاستيلاء على الفلاندرز Flanders، وكانت بروسيا لا تقل عنها توقا للاستيلاء على الألزاس Alsace ·(ملحق/100)
وفي أول مارس توفي ليوبولد الثاني وخلفه ابنه فرنسيس الثاني الذي كان متلهفاً لخوض الحرب بسبب تفويضه بخوضها، ولرغبته في تحقيق مجد شخصي· أما في فرنسا فقد كان لافاييت يحبذ الحرب على أمل أن يكون هو القائد العام للقوات المسلحة الفرنسية وبذا يكون في وضع يمكنه من السيطرة على الجمعية والملك معا· أما الجنرال دومورييه Dumouriez وزير الشئون الخارجية فكان أيضا يفضل الحرب على أمل أن ترحب الأراضي المنخفضة (نذرلاند Netherlands) به باعتباره محررا لها من النمسا وقد تكافئه بتاج صغير، ولم يكن هناك حديث عن التجنيد الإلزامي لكن الفلاحين والبروليتاريا قبلوا الحرب باعتبارها شرا لا بد منه فإن عاد المهاجرون بلا عوائق فإن هذا قد يؤدي إلى عودة الظلم الذي كان سائداً في ظل الحكم القديم Old Regime وربما كانت عودتهم مصحوبة بالرغبة في الانتقام·
وكان الجيرونديون يفضلون الحرب لأنهم توقعوا أن تهاجم النمسا وبروسيا معا فرنسا وبالتالي فإن الهجوم المضاد من قبل فرنسا هو خير طريق للدفاع· وعارض روبيسبير الحرب خوفا من إراقة دم البروليتاريا الذي لن يحصد ثمنه سوى الطبقة الوسطى، ورد عليه بريسو قائلا: "لقد أتى الوقت المناسب لحرب جديدة حرب لتحقيق الحرية للعالم "·
وفي 20 أبريل سنة 1792 أعلنت الجمعية التشريعية (ولم يعترض سوى سبعة) الحرب على النمسا وحدها أملاً في فك حلف الدولتين المتحالفتين ضد فرنسا· وهكذا بدأت الحرب الثورية والنابليونية التي استمرت ثلاثة وعشرين عاما· وفي 26 أبريل ألف روج دي ليس Rouget de Lisle في ستراسبورج Strasbourg النشيد الوطني الفرنسي (المارسييز The Marseillaise) ·(ملحق/101)
لكن الجيرونديين لم يكونوا قد حسبوا حساب أوضاع الجيش الفرنسي، فقد كان عدد أفراده في الجبهة الشرقية 100,000 رجل يواجهون 45000 مقاتل نمساوي، لكن كان على رأس هذه القوات الفرنسية رجال تمرغوا في نعيم الحكم القديم (العهد البائد)، فعندما أمر الجنرال دومورييه هؤلاء الضباط بقيادة جنودهم لخوض الحرب أجابوا بأن هؤلاء المتطوعين الغفل (غير المدربين) ليسوا مستعدين لخوض القتال ضد قوات مدربه، فأسلحتهم وتنظيمهم لا يؤهلانهم لذلك· ومع هذا فعندما تكرر صدور الأمر بالتقدم تخلى عدد من الضباط عن مناصبهم، واتخذت ثلاثة أفواج من الخيالة طريقها إلى العدو (لتكون في جانبه) ·
وأرسل لافاييت للحاكم النمساوي في بروكسل Brussels عرضا بأن يقود حرسه الوطني إلى باريس ويعيد الصلاحيات للملك الفرنسي، إذا وافقت النمسا على عدم دخول الأراضي الفرنسية ولم ينتج عن اقتراح لافاييت هذا شيء سوى ما حدث بعد ذلك من اتهامه - أي لافاييت - بالخيانة (في 20 أغسطس 1792) وهروبه إلى العدو·
ووصلت الأمور إلى حد الأزمة عندما أرسلت الجمعية التشريعية لوزارة الجيرونديين المسيطرة طالبة توقيع الملك للموافقة على إنشاء معسكرات دفاعية مسلحة حول باريس ووقف الرواتب الحكومية للقسس والراهبات الذين لم يؤدوا اليمين للدستور· وفي قرار عجول غاضب لم يرفض الملك التوقيع فحسب بل وطرد الوزراء كلهم فيما عدا دومورييه الذي سرعان ما تخلى عن قيادة قوات الثورة على الجبهة البلجيكية· وعندما تناقل الناس في باريس أخبار هذا الاعتراض الملكي فسروا الأمر على أنه علامة على أن لويس كان يتوقع وصول جيش من الفرنسيين أو الأجانب إلى باريس في وقت قريب لوضع نهاية للثورة· فجرى وضع خطط غير متأنية لإخلاء العاصمة وتكوين جيش ثوري جديد في الجانب الأبعد للوار Loire، ونشر الجيرونديون في أنحاء باريس الدعوة إلى مظاهرات جماهيرية حاشدة أمام قصر التوليري Tuileries ·(ملحق/102)
وعلى هذا ففي 20 يونيو سنة 1792 تجمعت الجموع المستثارة رجالا ونساء وطنيين منفعلين وغوغاء ومغامرين من الأتباع المتحمسين لروبيسبير، وبريسو، ومارا، وشقت هذه الجموع طريقها عنوة إلى ساحة قصر التوليري وهي تصيح ساخرة مصرة على رؤية " السيد فيتو ومدام فيتو Monsieur et Madame Veto " أي رؤية الملك والملكة اللذين اعترضا ( Veto) · وأمر الملك حرسه بإدخال عدد منهم، فتم إدخال خمسين شخصا وهم يلوحون بأسلحتهم المختلفة، وجلس لويس إزاء المنضدة وسمع التماسهم بسحب اعتراضاته، فأجاب أنه لا هذا المكان ولا هذه الظروف تسمح بالبت في هذه الأمور المعقدة، وظل طوال ساعات ثلاث يصغي إلى حجج وطلبات وتهديدات، وصاح واحد من الثوار قائلاً: "إنني أطالب بالتصديق على مرسوم ضد القسس·· إما أن تصدق وإما ستموت! "
ووجه آخر سيفه تجاه لويس الذي ظل ثابتا بشكل واضح ولم يتحرك، وقدم له بعضهم غطاء رأس أحمر red cap فوضعه الملك بسرور فوق رأسه، فصاح هؤلاء "الغزاة": "تحيا الأمة! تحيا الحرية! وأخيراً "يحيا الملك"· وغادر الملتمسون وذكروا أنهم أعطوا الملك درساً مفزعاً، وانسلت الجموع عائدة إلى المدينة مرهقة لكنها غير راضية، وتم فرض مرسوم على الإكليروس (رجال الدين) الذين لم يقسموا يمين الولاء للدستور الجديد رغم الاعتراضات، لكن الجمعية التشريعية رغبة منها في ألا تبدو متعاطفة مع التمرد الجماهيري الآنف ذكره استقبلت الملك استقبالاً حماسيا عندما أتى بناء على دعوتها لتلقي عهدها باستمرار الولاء ·
ولم يستطب الراديكاليون هذا التوافق الرسمي بين البرجوازية والملكية، فقد كانوا يشكون في إخلاص الملك وامتعضوا لاستعداد الجمعية التشريعية إيقاف الثورة الآن لأن الطبقة الوسطى قد ضمنت مكاسبها الاقتصادية والسياسية·(ملحق/103)
وتحول روبيسبير ومارا تدريجيا إلى نادي اليعاقبة تاركين مشاعرهم البورجوازية متعاطفين مع الجماهير العريضة· وتحركت البروليتاريا في المدن الصناعية لتتعاون مع عمال باريس· وعندما طلبت الجمعية التشريعية من كل دائرة (محافظة) من الدوائر إرسال فصيل من حرسها الوطني، ليشارك في الاحتفال بالذكرى السنوية الثالثة لسقوط الباستيل، تم اختيار هؤلاء الممثلين الفدراليين Federes في غالبهم من قبل بلديات المدن (الكومونات) ممن يفضلون السياسات الراديكالية· وكان هناك فوج ثوري على نحو خاص مكون من 516 جندياً، وهو ذلك الفوج الذي خرج من مرسيليا في 5 يوليو، وكان يطالب بعزل الملك، وراح هذا الفوج في أثناء مسيرته عبر فرنسا ينشد النشيد الجديد الذي وضعه روج دى ليسل Rouget de Lisle وقد أخذ هذا النشيد اسمه نسبة إلى أهل مرسيليا وهو أمر لم يكن مقصوداً عند تأليف النشيد الذي أصبح اسمه المارسييز The Marseillese ·
ووصل فوج مرسيليا وعدد آخر من أفواج الممثلين الفدراليين إلى باريس بعد 14 يوليو لكن كومون باريس طلب منهم تأخير عودتهم إلى ديارهم فقد تتطلب مجريات الأمور وجودهم· وكان يسيطر على كومون باريس - وهو المكتب المركزي الذي يضم ممثلين من ثمانية وأربعين حياً Sections هي أحياء المدينة - زعماء راديكاليون - وكان يوما بعد يوم يحول الموظفين في دار البلدية إلى تشكيل حكومي لحكم المدينة، فجعل من دار البلدية تشكيلا حكوميا·
وفي 28 يوليو ارتعدت المدينة خوفا وغضبا عندما علمت بالبيان الرسمي الذي أصدره من كوبلينز Coblenz دوق برونسفيك Brunswick عهد إليّ صاحبي الجلالة الإمبراطور وملك بروسيا بقيادة قواتهما المسلحة الموحدة التي جرى حشدها على حدود فرنسا· إنني راغب في أن أعلن لسكان هذه المملكة (فرنسا) الدوافع الكامنة وراء تصميم هذين العاهلين والأغراض التي يضعانها نصب عيونهما·(ملحق/104)
بعد الافتئات الصارخ على حقوق الأمراء الألمان في الألزاس لورين Alsace Loraine والإطاحة بنظام طيب وحكومة شرعية في داخل المملكة (فرنسا) ···· فإن أولئك الذين اغتصبوا صلاحيات الحكومة قد وصل بهم الأمر في النهاية إلى إعلان حرب غير عادلة على جلالة الإمبراطور وهاجموا محافظاته (مديرياته أو دوائره) في الأراضي المنخفضة ····
وبالإضافة إلى هذه المصالح المهمة لا بد أن نضيف أمراً آخر مهما يسبب القلق··· وأعني به ضرورة وضع نهاية لهذا الحكم الفوضوي في داخل فرنسا لوقف الاعتداء على العرش والمذبح Altar ( المقصود الكنيسة) ··· ولنعيد···· للملك أمنه وحريته اللذين سُلِبَهما ولجعله يمارس مرة أخرى سلطته الشرعية·
واقتناعا منا بأن العقلاء في الأمة ا لفرنسية يمقتون الزمرة النزاعة للشقاق التي تسيطر عليها وأن أغلب الفرنسيين يتطلع بصبر نافد إلى الوقت الذي يستطيعون فيه أن يعلنوا صراحة أنهم ضد المشروعات البغيضة التي يخطط لها أعداؤهم، فإن صاحب الجلالة الإمبراطور وصاحب الجلالة ملك بروسيا يدعوانهم إلى العودة بدون توانٍ إلى طريق العقل والعدل والسلام· وبناءً عليه فإنني أنا···· أعلن:
1 - أن····· العاهلين المتحالفين ليس من هدفٍ لهما سوى ازدهار فرنسا، وهما - العاهلان المتحالفان - لا يبغيان الإثراء من وراء فتح البلاد الأخرى ····
7 - كل من يجسر من سكان المدن والقرى على الدفاع ضد قوا ت صاحب الجلالة الإمبراطور وصاحب الجلالة الملك أو يطلق النار عليها···· سيعاقب على الفور وفقاً لأشد قوانين الحرب صرامة وسيتم تدمير بيته······
8 - سيكون مطلوبا من مدينة باريس ـ وكل سكانها ـ أن تذعن فوراً وبلا إبطاء للملك···· والعاهلان المتحالفان يعلنان··· أنه إذا تم اقتحام قصر التوليري أو مهاجمته أو جرى تعريض الملك والملكة والأسرة المالكة لأي إزعاج، وإذا لم يتم ضمان أمنهم على الفور، فسيتعرض أهل باريس لانتقام لا ينسى على مدى الدهر إذ سيتم إعدام أهلها على وفق القانون العسكري وسيتم تدميرها تماما·····(ملحق/105)
لكل هذه الأسباب فإنني أدعو وأحض بإلحاح سكان المملكة كلهم ألا يواجهوا تحركات القوات التي أقودها ولا عملياتها بل الأدعى أن يتيحوا لها مرورا آمنا وأن يساعدوها··· بالنوايا الصادقة كلها·
كتب في مركز القيادة في كوبلنز Coblenz في 25 يوليو سنة 1792·
تشارلز وليم فرديناند
Charles William Ferdinand
دوق برونسفيك - لونبرج
Duke of Brunswick - Luneburg
وكانت الفقرة الثامنة الكئيبة (ربما قدمها للدوق المعروف بدماثته أحد المهاجرين الحاقدين - التاركين فرنسا بسبب أحداث الثورة) مثار تحد للجمعية التشريعية والكومون (حكومة باريس) ولأهل باريس، فإما أن يبطلوا الثورة أو يقاوموا الغزاة بالوسائل كلها ومهما كانت التكاليف·
وفي 29 يوليو خطب ر وبيسبير في نادي اليعاقبة مطالبا - تحدّياً لدوق برونسفيك - بسرعة الإطاحة بالملكية وتأسيس الجمهورية بإتاحة حق التصويت لجميع الرجال· وفي 30 يوليو انضم الممثلون الفدراليون القادمون من مرسيليا إلى وفود من دوائر (محافظات) أخرى لتقديم العون لعزل الملك· وفي 4 أغسطس وما تلاه أرسلت أحياء باريس، الحي إثر الحي Section مذكرات للجمعية التشريعية تفيد أنهم لم يعودوا يعترفون بالملك،
وفي 6 أغسطس تم تقديم ملتمس لأعضاء الجمعية بضرورة عزل لويس عن العرش، لكن الجمعية التشريعية لم تتخذ إجراء ما، وفي 9 أغسطس نشر مارا مناشدة للشعب يطالبه باجتياح قصر التوليري والقبض على الملك وأسرته والموظفين الملكيين الكبار كلهم باعتبارهم "خونة لا بد أن تضحي بهم الأمة أولا لتحقيق رفاهية الجماهير" وفي تلك الليلة قام الكومون (المجلس البلدي أو حكومة باريس) وكذلك مسئولو الأحياء بدق ناقوس الخطر لدعوة الجماهير إلى التجمع حول قصر التوليري في صباح اليوم التالي·(ملحق/106)
وحضر بعض الجماهير مبكرا جدا في الساعة الثالثة صباحا، وقبل الساعة السابعة كان خمسة وعشرون حيا (قسما) قد أرسلت العدد الذي سبق تحديده لها من الرجال المسلحين بالبنادق (المسكت muskets) والرماح والسيوف، وأتى بعضهم بمدافع وانضم إليهم 800 من الممثلين الفدراليين Federes وسرعان ما وصل عدد المحتشدين إلى تسعة آلاف، وكان يدافع عن القصر تسعمائة سويسري ومائتين من الحراس الآخرين، ورغبة من لويس في تهدئة الهياج فإنه قاد أسرته من الغرف الملكية إلى مسرح القصر حيث كانت الجمعية التشريعية في دورة انعقاد مضطربة، وقال الملك: "لقد أتيت إلى هنا لأمنع جريمة كبرى" ·
وسمح للمتمردين بدخول ساحة القصر، وعند بداية الدرج المؤدي إلى غرف النوم الملكية منع الحرس السويسري المتمردين من التقدم إلا أن الجماهير الحاشدة ضغطت، فأطلق السويسريون النار فقتلوا أكثر من مائة رجل وامرأة، فأرسل الملك أوامره إلى الحرس السويسري بوقف إطلاق النار والانسحاب، فنفذوا الأوامر لكن المحتشدين وعلى رأسهم الممثلون الفدراليون لمرسيليا اجتاحوهم وتم ذبح معظم أفراد هذا الحرس السويسري كما جرى القبض على كثيرين منهم تم اقتيادهم إلى دار البلدية Hotel de Ville حيث أعدموا ·
وجرى ذبح الخدم - بمن فيهم العاملون في المطبخ - في مهرجان دموي مجنون· وأنشد أهل مرسيليا نشيد المرسييز The Marseillese"The Marseillaise" بمصاحبة عزف على البيانو القيثاري (الهاربسكورد harpsichord) الخاص بالملكة، واستراحت العاهرات اللائي اعتراهن التعب فوق سرير الملكة، وأحرق المتمردون الأثاث وأراقوا النبيذ، وبالقرب من ساحة الفروسية أشعل الجمهور السعيد النار في تسعمائة مبنى وأطلقوا النار على رجال الإطفاء الذين أتوا لإخماد النيران · واستعرض بعض المنتصرين بأعلامهم التي صنعوها من السترات الحمراء لأفراد الحرس السويسري المقتول - وبذلك كانت هذه أول حالة معروفة لاستخدام العلم الأحمر رمزاً للثورة ·(ملحق/107)
وحاولت الجمعية التشريعية إنقاذ الأسرة المالكة، لكن مقتل عدد من أعضائها على أيدي الجماهير الغازية، أقنع الباقين بتسليم اللاجئين إليها من الأسرة المالكة لكومون باريس ليكونوا تحت تصرفه، فجرى التحفظ عليهم بعناية تحت حراسة صارمة في المعبد the Temple - وهو دير قديم حصين لجماعة الفرسان الداويين (رهبان وجنود في الوقت نفسه) واستسلم لويس بلا مقاومة حزينا على زوجته التي وخط الشيب - الآن - مفرقها، وعلى ابنه المريض، وراح ينتظر النهاية بصبر·
3 - دانتون DANTON
خلال هذه الأسابيع المتشنجة امتنع غالب أعضاء الجمعية التشريعية ممثلو الحقوق Rights عن الحضور إلى مقر الجمعية فبعد العاشر من أغسطس لم يعد يحضر إلا 285 عضوا من مجموع الأعضاء البالغ عددهم 745· وصوت هذا المجلس التشريعي المبتور (الناقص) على أن يجعل الأمور في يد مجلس تنفيذي به ممثلون للدوائر (المحافظات) المختلفة ليحل محل الملك ومستشاريه، واختارت الأغلبية جورج دانتون Georges Danton ليرأس هذا المجلس وزيراً للعدل، وأن يكون رولان Roland وزيرا للداخلية وجوزيف سيرفان Servan وزيرا للحرب· وكان اختيار دانتون في جانب منه محاولة لتهدئة أهل باريس إذ كان له شعبية بينهم بالإضافة إلى أنه كان في ذلك الوقت أقوى شخصيات الحركة الثورية وأكثرهم قدرة·(ملحق/108)
وكان في الثالثة والثلاثين من عمره وسيموت في سن الخامسة والثلاثين، فالثورة امتياز للشباب· ولد دانتون في أرسي - سير - أوب Arcis-Sur-Aube في شمبانيا Champagne وحذا حذو أبيه في الاشتغال بالقانون، وازدهرت أحواله محامياً في باريس لكنه فضل أن يعيش في المبنى نفسه مع صديقه كاميل ديمولان Camille Desmoulins في حي الطبقة العاملة المنتمية لتنظيم الكوردليير Cordeliers Club ( نادي الرهبان الفرانسيسكان أو نادى جمعية أصدقاء الإنسان والمواطن) وسرعان ما أصبح هو وصديقه أعضاء بارزين في هذا النادي الآنف ذكره (الكوردليير) · وكانت شفتاه وأنفه مشوهة بسبب حادثة وقعت له في مرحلة الطفولة، وكان بجلده آثار الجدري لكن قليلين كانوا يدركون ذلك نظراً لطوله الفارع ورأسه الكبير ولشعورهم بقوة أفكاره الحاسمة الحادة المتبصرة خاصة عند سماعهم خطبه العاصفة وهو يهدر كالرعد في الاجتماعات الثورية لنادي اليعاقبة أو الحشود البرولتيارية، وغالبا ما كان يتعرض في خطبه تلك لما يمس المقدسات·
ولم تكن شخصيته قاسية وحشية أو مستبدة كوجهه أو صوته· وكان قادراً على التجرد من مشاعره ليكون فظا غليظ القلب في أحكامه كما تدل على ذلك مذابح سبتمبر ومع هذا فقد كانت به بعض الرقة الكامنة ولم يكن حقودا كامن الحقد، فقد كان سريع العطاء سريع الصفح، وكان معاونوه يدهشون عندما يجدونه يتراجع عن أوامره الظالمة أو يحمي ضحايا تعليماته القاسية، وسرعان ما فقد حياته لأنه جسر على القول بأن الإرهاب قد أمعن وتطرف كثيرا وأنه قد حان وقت الرحمة·(ملحق/109)
وكان على عكس روبيسبير الرزين، فقد كان يستطيب الفكاهات Rabelaisian humor ويحب المباهج الدنيوية، كان مقامراً عاشقا للنسوة الحسان وقد كون ثروة وأقرض واشترى منزلا جميلا في أرسي Arcis كما اشترى جزءاً كبيرا من ممتلكات الكنيسة، وقد تعجب أناس كثيرون كيف حصل مبالغ تفوق حاجاته الضرورية وشكوا في أنه تقاضى مبالغ مالية كرشوة لحماية الملك· وكانت البراهين التي تؤكد ذلك هي السائدة ولم تكن في غير صالحه · ومع هذا فقد كان ثوريا من الطراز الأول وبدا كأنه لم يخن أبداً أيا من مصالح الثورة الحيوية، لقد أخذ أموال الملك ومع هذا فقد عمل لصالح البرولتياريا، ومع هذا فقد كان يعلم أن دكتاتورية البرولتياريا أمر ينطوي على التناقض ولا يمكن أن يكون إلا للحظة في التاريخ السياسي (غير مستمر) ·
وقد تلقى تعليما كثيرا جعلته يوتوبيا (أي من أنصار المدن أو الحكومات المثالية)، وكانت مكتبته (التي كان يأمل أن يعود إليها بسرعة بعد خلاصه من مهامه السياسية) تضم 571 مجلدا باللغة الفرنسية و72 بالإنجليزية و52 بالإيطالية إذ كان يستطيع قراءة الإنجليزية والإيطالية بلا عناء، وكان لديه من مؤلفات فولتير 91 مجلدا و16 لروسو، كما كان لديه موسوعة ديدرو كاملة Diderot's Encyclopedie وكان ملحدا لكنه كان متعاطفا على نحو ما مع فكرة أن الدين إنما هو للفقراء· فلنقرأه وهو يقول في سنة 1790 ما قاله موسى Musset بعد ذلك بجيل:
"من ناحيتي، أعترف أنني لا أعرف إلا إلهاً واحدا - إلهاً لكل الكون والعدالة··· لكن الرجل في الحقول يضيف إلى هذا أوهاما··· لأنه في شبابه ومرحلة رجولته ومرحلة كهولته مدين للكاهن (القسيس) بلحظات السعادة القليلة التي تمر به·· لندعه لهذا الوهم· علمه أيها القس إن شئت··· لكن لا تجعل الفقير يخشى فقدان الشيء الوحيد الذي يربطه بالحياة" ·(ملحق/110)
وهو - دانتون - كزعيم ضحى بكل شىء حتى النهاية لحماية الثورة من الهجوم الأجنبي ومن الفوضى الداخلية· ولهذه الأغراض كان مستعداً للتعاون مع أي شخص - مع روبيسبير، ومارا والملك، والجيرونديين، لكن روبيسبير كان يحقد عليه، وكان مارا يتهمه، وكان الملك لا يثق به وكان الجيرونديون Girondins حذرين منه بسبب وجهه وصوته وكانوا يرتجفون من تعبيراته المنطوية على الازدراء· ومع هذا فلم يكن أي من هؤلاء بقادر على أن يتجاهل وجوده فقد نظم أمور الحرب وتفاوض من أجل السلم وكان يزأر كالأسد وهو يتحدث عن الرحمة وحارب من أجل الثورة وساعد بعض الملكيين على الهرب خارج فرنسا ·
وكوزير للعدل عمل على توحيد كل الفصائل الثورية كلها لرد الغزاة، وتحمل مسئولية إثارة الجماهير في 10 أغسطس فالحرب في حاجة لدعم هذه الأرواح المثمرة فمنهم يمكن تجنيد جنود متوقدين حماسة، لكنه لم يشجع المحاولات غير الناضجة لدعم الثورات على الملوك الأجانب (الملوك خارج فرنسا) فهذا قد يؤدي إلى اتحاد الملكيات في عدائها ضد فرنسا· وقاوم اقتراح الجيرونديين بانسحاب الحكومة والجمعية إلى ما وراء اللوار Loire فمثل هذا التراجع لا بد أن يحطم معنويات الشعب·
لقد انقضى وقت المناقشات وحان وقت العمل لبناء قوات مسلحة جديدة وتحصين أفرادها بالروح العالية والثقة، وفي 2 سبتمبر سنة 1792 ألقى خطابا مشحونا بالعواطف والانفعالات وردت فيه فقرة حركت المشاعر في فرنسا ودوت في هذا القرن العامر بالاضطرابات· ودخلت القوات البروسية النمساوية فرنسا وحققت نصرا تلو نصر، واضطربت باريس وترددت بين الاستجابة العازمة المصممة والخوف المربك· وتحدث دانتون للمجلس التنفيذي وذهب إلى الجمعية لبث الحماس في أعضائها وفي الأمة كلها كي يتشجعوا ويتحركوا:
"إنه لأمر مرض لوزير في دولة حرة أن يعلن لهم أن بلادهم قد نجت فالكل مستثار والكل متحمس، والكل تواق للنضال··· فجانب من شعبنا سيحرس حدودنا وجانب آخر سيقيم الحصون ويسلحها، وجانب سيدافع عن داخل مدننا بالرماح··· إنني أطالبكم بإعدام أي شخص يرفض تقديم ما يقدر عليه سواء خدماته الشخصية أم تزويد القوات المسلحة بما يحتاجه····(ملحق/111)
إن ناقوس الإنذار الذي سنسمعه ليس إشارة إلى الخطر وإنما هو يأمر بالهجوم على أعداء فرنسا· لا بد أن نكون قادرين على التصدي للهجوم··· لا بد أن نجسر على ذلك، لا بد دائما أن نجسر على ذلك - عندها يكون قد تم إنقاذ فرنسا"·
لقد كان خطابا قويا وتاريخيا لكن في اليوم نفسه بدأت أكثر الأحداث مأسوية في فرنسا بشكل غير متوقع·
4 - المذبحة: من 2 إلى 6 سبتمبر 1792
THE MASSACRE
يعود الهياج العاطفي الذي بلغ ذروته في 2 سبتمبر في بعض أصوله البعيدة التي أعطته حرارته إلى الصراع المتزايد بين الدين والدولة والجهود التي بذلت لإحلال عبادة الدولة بديلاً للدين أو بتعبير آخر إزاحة الدين لتكون عبادة الدولة عوضاً عنه·
وكانت الجمعية التشريعية قد قبلت الكاثوليكية ديناً رسمياً، وتعهدت بدفع رواتب للقسس كموظفي الدولة، لكن الراديكاليين الذين كانت لهم السيادة في كمون باريس لم يجدوا سببا لتمويل الحكومة أفكاراً يعتبرونها من خرافات الشرق (يقصدون المسيحية) طالما تحالفت مع الإقطاع والملكية· ووجدت وجهات نظر هؤلاء الراديكاليين قبولاً في النوادي كما وجدت قبولاً آخر الأمر في الجمعية التشريعية· وكان نتيجة ذلك سلسلة من الإجراءات جعلت العداوة بين الكنيسة والدولة تمثل تهديدا متكررا للثورة·
فبعد ساعات قليلة من عزل الملك عن عرشه أرسل كمون باريس إلى الأحياء المختلفة فيها Sections قائمة بالقسس المشكوك في أهدافهم والمشكوك في أن لديهم مشاعر معادية للثورة، وكان عدد كبير منهم - كما يفهم - قد أرسلوا إلى السجون المختلفة لذا فقد كانوا ضحية أساسية في أثناء المذبحة·(ملحق/112)
وفي 11 أغسطس أنهت الجمعية التشريعية أي إشراف للكنيسة على التعليم، وفي 12 أغسطس منع الكومون ارتداء الثياب الكنسية علناً، وفي 18 أغسطس جددت الجمعية التشريعية هذا الأمر بإصدار مرسوم لمنع ارتداء هذه الملابس الدينية على مستوى فرنسا كلها، وحلت التنظيمات الدينية الباقية كلها، وفي 28 أغسطس دعت لترحيل كل القسس الذين لم يقسموا يمين الولاء للدستور المدني للإكليروس على أن يمنحوا مهلة أسبوعين لمغادرة فرنسا، وبالفعل فقد هرب 25,000 قسيس إلى بلاد أخرى وراحوا يساندون هناك دعايات المهاجرين (الذين تركوا فرنسا بسبب وقائع الثورة)، ولأن الإكليروس كانوا حتى الآن يحتفظون بسجلات المواليد وحالات الزواج والوفيات في الدوائر المختلفة، فقد كان على الجمعية أن تنقل هذه المهمة إلى سلطات علمانية (غير إكليريكية) ·
ولأن معظم السكان كان يؤمن بارتباط حالات الولادة والزواج والوفيات بطقوس دينية، فإن محاولة استبعاد هذه الطقوس القديمة قد وسعت الخرق (الثغرة) بين إيمان الناس من ناحية، وعلمانية الدولة من ناحية أخرى · وقد اتفق الكومون واليعاقبة والجيرونديون والجبليون بالمعنى السياسي السابق الإشارة إليه) على أنهم يأملون أن يكون الإخلاص للجمهورية الشابة سيصبح هو دين الشعب، فستحل مبادئ: الحرية والمساواة والإخاء محل الآب والابن والروح القدس وأن تعزيز هذا الثالوث الجديد يمكن أن يكون هو الهدف المهيمن للنظام الاجتماعي والمعيار النهائي للأخلاق·
وأجل الافتتاح الرسمي للجمهورية الجديدة إلى 22 سبتمبر أول يوم من العام الجديد· وفي هذه الأثناء التمس بعض المستقبليين المتطلعين من الجمعية أن تمنح الجمعية لقب "مواطن فرنسي" لكل الفلاسفة غير الفرنسيين الذين أيدوا بشجاعة قضية الحرية فاستحقوا عن جدارة "رضا البشرية" وذلك كإيماءة إلى أحلامهم في تحقيق الديمقراطية العالمية·(ملحق/113)
وفي 26 أغسطس استجابت الجمعية فأعطت المواطنة الفرنسية لكل من جوزيف بريستلي Joseph Priestley وجيرمي بنثام Jeremy Bentham، ووليم ويلبرفورس William Wilberforce وأنا كارسيس كلوتس Anachasis Cloots وجوهان بيستالوزي Johann Pestalozzi وثاديوس كوسكيوسكو Thaddeus Kosciusko وفريدريش شيلر Friedrich Schiller وجورج واشنطن George Washington، وتوماس بين Thomas Paine وجيمس ماديسون James Madison وألكسندر هاملتون Alexander Hamilton.
وقدم الكسندر فون همبولدت Alexander Von Humboldt إلى فرنسا، وكان من بين ما قاله: "لقد أتيت إلى فرنسا لأتنسّم نسيم الحرية ولأعاون في طعن الحكم المطلق الاستبدادي وبدا أن الدين الجديد ينشر فروعه بمجرد وضع جذوره"·
وفي 2 سبتمبر ارتدت فرنسا أبهى حللها وكأنها في يوم أحد Sunday Clothes وعبرت عن ولائها (للدين الجديد) بطرق مختلفة، فقد تجمع الشباب ومن هم في منتصف العمر في نقاط التجنيد ليتطوعوا للخدمة في الجيش، وراحت النسوة يخطن لهم عباءات تدفئهم، ويعددن الضمادات لمن قد يصاب بجروح منهم في المعارك، وأقبل الرجال والنساء والأطفال إلى مراكز أحيائهم لتقديم الأسلحة والجواهر والنقود لإنفاقها لأغراض الحرب· وتبنت الأمهات الأطفال الذين يعولهم جنود أو ممرضات سيغادرون إلى جبهة القتال، وذهب بعض الرجال إلى السجون لقتل القسس وغيرهم من أعداء العقيدة الجديدة·(ملحق/114)
ومنذ إعلان الدوق برونسفيك Brunswick (25 يوليو سنة 1792) كان القادة الثوريون يعملون كرجال يميلون إلى العمل عندما تكون حياتهم مهددة· ففي 11 أغسطس أرسل أعضاء اللجنة العامة في دار البلدية ملاحظة غريبة إلى أنطوني سانتير Antoine Santerre الذي كان وقتئذ هو القائد العسكري لقوات أحياء باريس: "لقد علمنا أن خطة توضع للمرور على سجون باريس لنقل السجناء كلهم لتنفيذ حكم العدالة فورا فيهم· إننا نرجوك أن يشمل إشرافك الحصون الصغيرة والبوابات وقوات الشرطة " - والمقصود مراكز الحجز الثلاثة الرئيسية في باريس · ولا ندري كيف فسر سانتير هذه الرسالة، ففي 14 أغسطس عينت الجمعية أعضاء "محكمة استثنائية " لمحاكمة أعداء الثورة كلهم لكن ما ورد في المرسوم كان أقل بكثير من أن يرضي مارا، ففي جريدته "صديق الشعب" في عددها الصادر في 19 أغسطس قال لقرائه:
"إن أفضل طريق ننهجه وأحكمه هو أن نذهب مسلحين إلى الأباى Abbaye ( الكلمة تعني الدير، وقد استخدم كسجن فالمقصود إذن هو التوجه لهذا السجن) لنجرجر الخونة خاصة الضباط السويسريين [من أفراد الحرس الملكي] وشركاءهم ونعمل السيف في رقابهم فما أغبى أن نحاكمهم! ".
وانجرافا مع هذا الحماس جعل الكومون من مارا المحرر الرسمي لنشراته وجعل له مكانا في غرفة اجتماعاته وضمه إلى لجنة الرقابة التابعة له (للكومون) · وإذا أصغت الجماهير السمع إلى مارا وأطاعته بكل طاقاتها فما ذلك إلا لأنها كانت بدورها مرتجفة مرعوبة ممتلئة كرها وخوفا· وفي 19 أغسطس عبر البروس الحدود بقيادة الملك فريدريك وليم الثاني ودوق برونسفيك بصحبة قوات صغيرة من المهاجرين (الفرنسيين الذين تركوا فرنسا بسبب أحداث الثورة) الذين يطالبون بالانتقام من الثوار·(ملحق/115)
وفي 23 أغسطس استولى الغزاة على حصن لونجواى Longwy، وكان هناك ادعاء أن ذلك ما كان ليحدث لولا ضلوع ضباط الحصن الأرستقراطيين في هذا الأمر· وفي 2 سبتمبر وصلوا إلى فيردو Verdun ووصل إلى باريس خبر مبتسر (قبل الأوان) بسقوط هذا الحصن المنيع في الصباح لكنه في الحقيقة لم يسقط إلا بعد الظهر، والآن لقد أصبح الطريق إلى باريس مفتوحا للعدو فلم يكن هناك أي جيش فرنسي في هذا الطريق لإيقافه، وبدت العاصمة تحت رحمة الغزاة وتوقع الدوق برنسفيك أن يتناول عشاءه بعد قليل في باريس ·
وفي هذه الأثناء اندلعت ثورة مضادة (ثورة على الثورة) في المناطق النائية في فرنسا مثل الفيندى Vendee والدوفينى، وكانت باريس نفسها تضم آلاف البشر المتعاطفين مع الملك المخلوع؛ ومنذ أول سبتمبر كانت توزع نشرة تحذر من مؤامرة لإطلاق سراح السجناء وقتلهم على يد الثوريين · ودعت الجمعية والكومون كل الرجال القادرين للالتحاق بالجيش لملاقاة قوات العدو المتقدمة، لكن كيف يستطيع هؤلاء الرجال أن يخرجوا للقتال تاركين نساءهم وأطفالهم تحت رحمة الملكيين والقسس ومعتادي الإجرام ممن هم في سجون باريس، فقد يتمكنون من الخروج بأعداد كبيرة؟ فصوتت بعض أحياء باريس على حل مؤداة ضرورة قتل كل القسس والأشخاص المشكوك في ولائهم للثورة قبل خروج المتطوعين لقتال العدو ·
وفي الساعة الثانية بعد ظهر يوم الأحد الموافق 2 سبتمبر اقتربت ست عربات حاملة القسس الذين لم يؤدوا يمين الولاء للدستور الجديد من سجن أباى Abbaye jail ( الكلمة تعنى دير، ذلك أن هذا السجن كان في أصله ديرا)، فصاحت بهم الجموع مستهزئة وقفز رجل من الجموع إلى سلم العربة فضربه قس بعصا فسبت الجموع القس وتزاحمت وتضاعف عددها وراحت تهاجم السجناء عند توقف العربات عند البوابة بل وانضم حراس السجناء إلى المهاجمين، فتم قتل ثلاثين سجينا، واندفعت الحشود - منتشية بمنظر الدماء ونشوة القتل غير المنسوب إلى أحد بعينه - إلى مبنى دير الكرمل Carmelite Convent وقتلوا القسس المحتجزين هناك، وفي المساء، بعد قضاء فترة راحة،(ملحق/116)
كانت الحشود قد تزايد عددها الآن فانضم إليها كثير من المجرمين وغلاظ الأكباد وجنود الأفواج الفدرالية القادمة من مرسيليا وأفنيون Avignon وبريتاني Brittany وعادوا إلى أباى (الكلمة تعني ديرا لكن المقصود سجن يحمل هذا الاسم لأنه كان في الأصل ديرا) وأجبروا السجناء كلهم على الخروج والجلوس لسماع الحكم عليهم، وأسلموا الغالبية العظمى منهم، - أي سويسري أو قس أو ملكي أو أي شخص كان في خدمة الملك أو الملكة - إلى رجال متعطشين لقتلهم، فقتلوهم بالسيوف والسكاكين والرماح والهراوات·
وفي البداية كان القتلة مثاليين فكانوا يكتفون بالقتل ولا يسرقون المقتولين فقد كانوا يجردون الضحايا من مقتنياتهم القيمة لنقلها إلى السلطات الثورية في الكمون لكن في آخر الأمر راح هؤلاء القتلة الذين اعتراهم التعب يحتفظون من قتلاهم بتذكارات، وكان كل قاتل يتلقى ستة فرنكات في اليوم لقاء عمله بالإضافة إلى ثلاث وجبات وكل ما يريده من النبيذ، وأظهر بعضهم شيئا من الرحمة فهنئوا أولئك الذين تمت تبرئتهم واستضافوا المميزين منهم في بيوتهم، وكان بعضهم متوحشا قاسيا فأطالوا من معاناة المتهمين بتعريضهم للسخرية أمام المشاهدين، وقام واحد من المتحمسين بعد أن نزع السيف من صدر الجنرال لالو General Laleu بدس يده في الجرح وانتزع القلب ووضعه في فمه كما لو كان يريد أن يأكله - وهي عادة كانت شائعة وفي وقت من الأوقات في أيام الهمجية - وكان كل قاتل، عندما يعتريه التعب يأخذ قسطا من الراحة ويتجرع خمرا ثم يواصل عمله حتى تم القضاء في أمر سجناء الأباى كلهم إما إلى الموت وإما إلى الأمان·
وفي 3 سبتمبر انتقل الجلادون (منفذو القتل) والقضاة إلى سجون أخرى - سجن ثكنات الشرطة La Force وسجن البوابة Conciergerie. حيث استمرت المذبحة في ضحايا جدد وبجلادين جدد·(ملحق/117)
وهنا كانت توجد سيدة مشهورة، إنها الأميرة دى لامبل de Lamballe التي كانت ذات يوم ثرية ورائعة الجمال وكانت محبوبة لمارى أنطوانيت وأثيرة لديها، وكانت قد اشتركت في مؤامرة لإنقاذ الأسرة الملكية· إنها الآن في الثالثة والأربعين من عمرها عندما قطعت رأسها وبترت أطرافها ونزع قلبها من جسدها وأكله الجمهوريون المتحمسون، ورفعوا رأسها على رمح ولوحوا به عارضين إياه من نافذة زنزانة الملكة في سجن تمبل (المعبد The Temple) ·
وفي 4 سبتمبر تحرك القتلة إلى سجون تور سانت بيرنار Tour St.- Bernard، وسانت فيرمي St.- Firmin والحصن الصغير the Chalelet سجن مخزن ملح البارود the Salpetriere وهناك كانت النسوة الشابات يخيرن بين إتيانهن أو قتلهن، فكن يؤتين· وكان من بين نزلاء سجن بيستر Bicetre ملجأ للمجانين والمختلين عقلياً تتراوح أعمارهم بين سبعة عشر عاما وتسعة عشر عاما، وعددهم ثلاثة وأربعون شابا أنزلهم - في غالبهم - آباؤهم في هذا المكان لتلقى العلاج، وقد قتلهم الثوار جميعاً ·
واستمرت المذبحة يومين آخرين في باريس حتى وصل عدد الضحايا بين 1247 و1368، وانقسم الناس في الحكم على الأحداث: فالكاثوليك والملكيون اعتراهم رعب شديد لكن الثوريين حاجّوا بأنه كان لا بد من هذه الاستجابة العنيفة بسبب تهديدات برونسفيك ولضرورات الحرب، واستقبل بيتيو رئيس بلدية باريس الجديد الجلادين كوطنيين بذلوا جهدا كبيرا وأنعشهم بتقديم النبيذ لهم · وأرسلت الجمعية التشريعية بعض الأعضاء إلى سجن الإباى (سجن الدير) ليوصوا بالتزام القانون وعادوا ليقرروا أن المذبحة لا يمكن إيقافها، وأخيرا وافق زعماء الجمعية - من الجيرونديين والجبليين ـ أن هذا الاتجاه الأكثر أمنا واحتياطا (المذبحة) أصبح محل موافقة ·(ملحق/118)
وأرسل كمون باريس ممثلين عنه للمشاركة في منح الحصانة للقضاة، وكان بيلو - فارين - Billaud Varenne المحامي المندوب عن الكومون ممن شهدوا ما حدث في سجن أباى وقد هنأ القتلة: إنكم مواطنون زملاء، إنكم تدمرون أعداءكم، إنكم تؤدون واجبكم وبارك مارا بفخر العملية برمتها· وعند محاكمة شارلوت كورداى Charlotte Corday بعد ذلك بعام، سئلت: "لماذا قتلت مارا؟ " فأجابت: "لأنه كان هو السبب في مذبحة سبتمبر" ولما طالبوها بالدليل أجابت: "ليس لدي دليل، انه رأي فرنسا كلها" ·
وعندما طلب من دانتون أن يوقف المذبحة هز كتفية: "سيكون هذا مستحيلاً", ثم أردف معللا: "ثم لماذا نوقفها؟ هل أزعج نفسي بسبب هؤلاء الملكيين والقسس الذين كانوا لا ينتظرون سوى اقتراب الأجانب الغزاة لذبحنا؟ ··· لا بد أن نرعب أعداءنا·" ومع هذا فقد سحب دانتون سراً أكثر من واحد من أصدقائه وأخرجهم من السجون، بل إنه أخرج حتى بعض أعدائه الشخصيين · وعندما اعترض عضو من زملاء دانتون في المجلس التنفيذي على عمليات القتل، قال له دانتون: "إجلس، فهذا أمر ضروري" · وعندما سأله شاب:
"كيف تستطيع أن تساعد ما يسمى إرهابا؟ " أجابه: "إنك أصغر من أن تفهم هذه الامور··· انه لا بد أن يفيض نهر الدم بين أهل باريس والمهاجرين (الذين تركوا فرنسا بسبب أحداث الثورة) " ·
فقد كان يعتبر أن أهل باريس قد أصبحوا الآن عاهدوا الثورة، وأن المتطوعين للحرب الذين كانوا يغادرون لملاقاة الغزاة يعرفون الآن أنهم لن يرحمهم العدو إن هم استسلموا، إنهم سيحاربون دفاعا عن حياتهم بكل ما في الكلمة من معنى·
وكان يوم 2 سبتمبر أيضا هو اليوم الذي صوتت الجمعية التشريعية للدعوة إلى انتخاب عام لمؤتمر وطني Convention لتضع دستورا جديدا يتلاءم مع ظروف فرنسا الجديدة ومع متطلبات الحرب، ذلك لأن الجمعية أحست أن مسيرة الأحداث قد أحدثت دمارا في الدستور الحالي الذي جرى اختيار أعضائها لتنفيذه، ولأنه منذ دعي الفلاحون والبرولتياريا والبورجوازية - على سواء - للدفاع عن وطنهم فقد بدا من غير المقبول أن أيا مهما كان سواء أَكان دافع ضرائب أم لا يحق منعه من حق الانتخاب (إبعاده عن صناديق الاقتراع) ·(ملحق/119)
وهكذا حقق روبيسبير أول انتصار كبير له، فالمؤتمر الوطني الذي سيلعب فيه دورا كبيرا جرى انتخابه من الراشدين الرجال كلهم أي أنه كان انتخابا عاماً·
وفي 20 سبتمبر أنهت الجمعية التشريعية دورتها الأخيرة ولم يكن أعضاؤها يعلمون أنه في اليوم نفسه التقى الجيش الفرنسي بقيادة دومورييه وفرنسوا - كريستوف كيلرمان Francois-Christophe Kellermann بالجيوش المحترفة البروسية والنمساوية بقيادة دوق برونسفيك، عند قرية يقال لها فالمي Valmy بين فردو Verdun وباريس، وأن الجيش الفرنسي أرغم أعداءه على الانسحاب - لقد كان نصرا مؤثرا حتى إن ملك بروسيا أمر قواته المهاجمة بعد المعركة بالتراجع وتخلى عن فردو Verdun ولونجواي وترك الحدود الفرنسية· أما فريدريك وليم الثاني فلم يكن يتحمل الإزعاج الذي تسببه له فرنسا البعيدة الآن فقد كان يتنافس مع جارتيه؛ روسيا والنمسا للاستيلاء على أكبر جزء عند تقسيم بولندا، وأكثر من هذا فقد كان جنوده يعانون من الإسهال الذي أصابهم نتيجة تناولهم أعناب شمبانيا Champagne.
وكان حاضرا في هذه المعركة جوته ضمن العاملين مع دوق ساكس - فيمار Saxe-Weimar فقال (كما أخبرت) ملاحظة شهيرة:
"منذ الآن ومن هذا المكان تبدأ مرحلة جديدة في تاريخ العالم" ·(ملحق/120)
الفصل الرّابع
المؤتمر الوطني من 21 سبتمبر 1792 إلى 26 أكتوبر 1795
The Convention
1 - الجمهورية الجديدة
أدار اليعاقبة Jacobins بحذق ومهارة انتخابات هذه الجمعية الثالثة (المؤتمر الوطني) التي تعتبر ذروة المد الثوري وانحداره في الوقت نفسه، وكانت مهارتهم في هذه الانتخابات تفوق حتى مهارتهم في انتخابات سنة 1791· لقد وجهوا الأمور بعناية بشكل غير مباشر: فالمصوتون يختارون الناخبين الذين يلتقون في جمعية انتخابية تختار بدورها النواب أو الوكلاء الذين يمثلون دوائرهم الانتخابية في المؤتمر الوطني، وكان الانتخاب في المرحلتين علنا وبالتعبير الصوتي عن الرأي، وكان الناخب - في كل مرحلة - يتعرض للأذى إن هو أغضب الزعماء المحليين ·(ملحق/121)
وفي المدن رفض المحافظون التصويت "فقد كان عدد الممتنعين كبيرا" فمن بين سبعة ملايين شخص مؤهلين للتصويت امتنع 6,3 · وفي باريس بدأ التصويت في 2 سبتمبر واستمر لعدة أيام، بينما كانت المذبحة عند بوابات السجون ترسل الإشارات وتعطى التلميحات للناس: كيف تصوتون وكيف تبقون على قيد الحياة· وفي كثير من المناطق أحجم الكاثوليك الأتقياء عن التصويت وانتخبت منطقة فيندي Vendee المعروفة بانتمائها الملكي القوي تسعة نوّاب سيصوّت ستة منهم بالموافقة على إعدام الملك · وفي باريس اجتمعت الجمعية الانتخابية في نادي اليعاقبة وانتهوا إلى أن الأربعة والعشرين نائباً المختارين لتمثيل العاصمة لا بد أن يكونوا مقتنعين بالجمهورية وأن يكونوا مؤيدين للكومون:
دانتون Danton، وروبيسبير Robespierre ومارا وديمولين Desmoulins وبلو- فارن Billaud- Varenne وكولو دربوا Collot d'Herbois وفريرون Freron وديفيد David الرسام ··· وفي المحافظات قام الجيروند Girondins ببعض الاستعدادات الخاصة بهم، ومن ثم فإن بريسو Brissot ورولان Roland وكوندورسيه Condorcet وبيتيو· Pétion وجود Goudet وباربارو Barbaroux وبوزو Buzot ربحوا حق الخدمة والموت· ومن بين الأجانب الذين جرى انتخابهم بريستلي Priestley وكلوتز Cloots وبين Paine، وتم اختيار دوق أورليان Duc d'Orleans الذي أعاد تسمية نفسه باسم المواطن فيليب المحب للمساواة Citizen Philippe Egalite لتمثيل الحي (القسم) الراديكالي في باريس·(ملحق/122)
وكانوا جميعا - فيما عدا عضوين - من الطبقة الوسطى وعندما اجتمع المؤتمر الوطني في التوليرى Tuileries في 21 سبتمبر سنة 1792 كان يضم 750 عضواً، وكان هذان العضوان من العمّال، وكان الأعضاء كلهم تقريبا من المحامين، وكان الجيرونديون Girondins وعددهم 180 عضواً منظمين ومتعلمين وفصحاء وبلغاء هم الذين تولوا القيادة في مجال التشريع· وكان هناك استرخاء في إصدار القوانين ضد المشكوك في ولائهم والمهاجرين (الذين تركوا فرنسا إثر أحداث الثورة) والقسس كما كان هناك تحرر من السيطرة على الاقتصاد، على أساس أنه لم يعد هناك خوف الآن من الغزو الأجنبي، لكن سرعان ما ظهرت الشكايات من الاستغلال والتلاعب بالأسعار·(ملحق/123)
ولإسكات حركة ظهرت بين الراديكاليين بمصادرة الملكيات الكبيرة وتوزيعها على الشعب، أعلن الجيرونديون في اليوم الأول للمؤتمر احترام الملكية الخاصة· وهكذا هدأت الأمور فاتفق الجيرونديون مع أعضاء الجبل (اليسار) وأعضاء السهل (المعتدلون) على إعلان الجمهورية الفرنسية الأولى في 22سبتمبر سنة 1792 وفي اليوم نفسه أصدر المؤتمر الوطني مرسوما، بعد عام من الدراسة والضبط والتعديل بإبطال التقويم المسيحي (الميلادي) في فرنسا وممتلكاتها ليحل محلة تقويم ثوري تبدأ فيه السنة الأولى (من 22 سبتمبر 1792 إلى 21 سبتمبر 1793) ثم السنة الثانية فالثالثة وهكذا وأن تسمى الشهور على وفق الحالة المناخية المعتادة (النمطية) شهر قطف العنب (فينرمينير Vendémiaire) وشهر الضباب (برومير Brumaire) وشهر الصقيع (فريمير Frimaire) بالنسبة للخريف، وشهر تساقط الثلج (نيفوز Nivose) ، شهر المطر (بلوفيوز Pluviose) ، شهر الرياح (فينتوز Ventose) بالنسبة للشتاء، وشهر التبرعم (جيرمينال Germinal) وشهر الإزهار (فلوريال Floréal) وشهر المروج الخضر (بريريال Prairial) بالنسبة للربيع، وشهر الحصاد (مسيدور Messidor) وشهر الدفء (ثيرميدور Thermidor) وشهر الفواكه (فركيتدور Fructidor) بالنسبة للصيف، وقد تم تقسيم الشهر إلى ثلاثة أقسام decades كل قسم عشرة أيام وينتهي كل قسم بيوم يقال له ديكادي decadi هو يوم الراحة بدلا من يوم الأحد الذي كان يوم راحة في التقويم الميلادي، وخمسة الأيام الباقيات في السنة تسمى (السانس كولوتيد Sans - Culottides) يكون فيها مهرجان وطني، وكان المؤتمر الوطني يأمل أن يذكر هذا التقويم الفرنسيين بالأرض والعمل الذي يجعلها مثمرة لا بالقديسين religious saints والمواسم· فستحل الطبيعة محل الرّب God وتم استخدام هذا التقويم الجديد في 24 نوفمبر سنة 1793 وانتهى استخدامه في نهاية سنة 1805 للميلاد·(ملحق/124)
لقد وافق الجيرونديون وأعضاء الجبل (اليسار) على إقرار الملكية الخاصة وعلى الجمهورية وعلى الحرب على المسيحية، لكنهم اختلفوا اختلافا شديدا جدا في قضايا أخرى مختلفة، فالجيرونديون شجبوا بشدة النفوذ الجغرافي لباريس، باعتباره غير متوازن مع بقية المحافظات، فأهل باريس بنوابهم وجماهيرهم يؤثرون بإجراءاتهم التي يتخذونها في كل فرنسا، وامتعض
الجبليون من تأثير التجار وأصحاب الملايين في تكديس الجيرونديين لأصوات الناخبين· واستقال دانتون Danton ( الذي حصل في دائرته الانتخابية على 638 صوتا من مجموع أصوات الناخبين وعددهم 700) من منصبه كوزير للعدل ليقوم بمهمة التوحيد بين الجيرونديين وأهل الجبل (اليسار) في سياسة العمل على إقرار السلام مع بروسيا والنمسا لكن الجيرونديين لم يكونوا يثقون به باعتباره معبود باريس الراديكالية وطالبوا ببيان بمصروفاته كوزير ولم يقدم لهم تفسيرا يقنعهم بالمبالغ التي أنفقها (كان دانتون من المؤمنين الكبار بجدوى الرشاوى) ولم يقدم لهم أيضا تفسيرا يقنعهم بكيفية حصوله على الأموال التي مكنته من شراء ثلاث منازل في باريس وضواحيها والعقارات الكبيرة في محافظة أوب Aube، فالذي لا ينكر أنه كان يعيش حياة مترفة، واتهم مستجوبيه بالعقوق ووجه جهده للتوفيق والمصالحة في الداخل والخارج وضم جهوده إلى جهود روبيسبير·(ملحق/125)
ورغم أن روبيسبير كان هو الشخصية الثانية بعد دانتون من حيث الشعبية في أحياء (أقسام) باريس إلا أنه كان لا يزال حتى الآن شخصية ثانوية بين نواب المؤتمر الوطني، فعند التصويت على رياسة المؤتمر لم يحز إلا على ستة أصوات، بينما حصل رولان على 235 · وكان معظم النواب يعتبرونه متغطرسا غارقا في العموميات والتفاهات الافتراضية نهازاً للفرص يتحين الوقت المناسب بصبر ليستحوذ على سلطات إضافية، لكن ما تنطوي عليه اقتراحاته من وضوح واستقامة قد جعلت نفوذه يزداد - ببطء - شيئا فشيئاً، فقد نأى بنفسه عن التورط المباشر في الهجوم على التوليري وفي أحداث مذبحة سبتمبر، ومنذ البداية كان يدافع عن حق الانتخاب العام للذكور الراشدين كلهم رغم أنه من الناحية العملية، تغاضى عن مسألة إبعاد الملكيين والكاثوليك عن المشاركة في الاقتراع والإدلاء بأصواتهم ودافع عن الملكية الخاصة ولم يشجع دعوى مصادرة الممتلكات وتوزيعها، وعلى أية حال فقد اقترح ضريبة على المواريث وضرائب أخرى بالإضافة إلى إجراءات أخرى مهذبة لكنها فعالة لمعالجة التفاوت الشديد في الثروات ·
وفي هذه الأثناء راح ينتظر الفرصة المناسبة وسمح لمنافسيه بإرهاق أنفسهم حماسة وتطرفا، وبدا مقتنعا أنه سيحكم يوما وتنبأ أنه سيقتل ذات يوم · "لقد كان يعرف - كما يعرف هؤلاء الرجال كلهم أنه يكاد يحمل ساعة بعد ساعة روحه في كفه" ·(ملحق/126)
لقد كان مارا - وليس دانتون ولا روبيسبير - هو الذي ناصر البروليتاريا وناضل من أجلها، وقد غير مارا عنوان جريدته ليصبح "جريدة الجمهورية الفرنسية Journal de la République Francaise "· لقد بلغ الآن التاسعة والأربعين من عمره (كان عمره روبيسبير في الرابعة والثلاثين، وكان دانتون في الثالثة والثلاثين) ولم يبق له لينهي حياته سوى أقل من عام لكنه ملأ هذه الفترة بانشغاله بمعركة عنيدة وصلبة ضد الجيرونديين باعتبارهم أعداء للشعب وباعتبارهم ممثلين للبورجوازية التجارية الصاعدة التي ظهر أنها تعمل على استخدام الثورة سلاحاً سياسياً لصالح "المشروعات والنشاطات الاقتصادية الحرة" التي يتسم بها الاقتصاد الحر، وكان نقده الساخر وخطبه اللاذعة تتردد في باريس ومنها وتثير الأحياء (الأقسام) وتحرضها على التمرد وتشيع في المؤتمر الوطني روح العداوة العامة، وقد شجب الجيرونديون ما أسموه "بحكومة الثلاثة" ويقصدون دانتون وروبيسبير ومارا، لكن دانتون تبرأ منه وتنكر له، وتحاشاه روبيسبير فجلس مارا مع الجبليين (اليسار) لكنه كان عادة منفرداً وحيداً بلا أصدقاء·
وفي 25 سبتمبر سنة 1792 قرأ فيرجنيو Vergniaud وآخرون في المؤتمر الوطني وثيقة تفيد أن مارا Marat كان قد دعا إلى دكتاتورية وأنه كان قد تسبب في الإثارة التي أدت إلى المذبحة، وعندما هب مارا (نصير الشعب) للدفاع عن نفسه، هوجم بغير هواده بصيحات: "اجلس! " فقال: "يبدو أن هناك أعداء كثيرين لي في هذا المؤتمر", فصرخ الجيرونديون: "كلنا أعداؤك"· وعمل مارا على تكرار طلبه بقيام دكتاتورية على النمط الروماني المحدود واعترف بتحريضه على العنف لكنه برأ دانتون وروبيسبير من أي مشاركة في خططه، واقترح واحد من النواب القبض عليه ومحاكمته بتهمة الخيانة لكن هذه الحركة لم تنجح، وأخذ مارا مسدسه من جيبه وصوبه إلى رأسه وأعلن: "إذا صدر مرسوم باتهامي فسأنثر مخي عند أقدام الشعب" ·
وكان موقف الجيرونديين الذين قادوا فرنسا في الحرب على الأعداء - قويا في هذه الشهور بسبب انتصارات جيش فرنسا وانتشار القوات الفرنسية والأفكار الثورية·(ملحق/127)
ففي 21 سبتمبر سنة 1792 قاد الجنرال أني - بيير دي مونتسكيو - فيز نزاك Anne - Pierre - Montesquiou - Fezensac قواته محققا فتحا سهلا لسافوى (كانت وقتها جزءاً من سردنيا) وذكر في تقرير له إلى المؤتمر الوطني أن: "تقدم جيشي إنما هو نصر، فقد كان الناس في الريف والمدينة يخرجون لاستقبالنا وكان الناس في الأنحاء كلها يضعون الشارة الثلاثية ألوانها" وفي 27 سبتمبر دخل قسم آخر من الجيش الفرنسي نيس Nice بلا مقاومة، وفي 29 سبتمبر فيلفرانش Villefranche وفي 27 نوفمبر تم إدماج سافوي Savoy في فرنسا بناء على طلب زعمائها السياسيين المحليين·
أما فتح بلاد الراين فكان أمراً أكثر صعوبة· ففي 25 سبتمبر قاد الجنرال آدم - فيليب دى كوستين de Custine المتطوعين التابعين له للاستيلاء على سبير Speyer وأخذ ثلاثة آلاف أسير وفي 5 أكتوبر دخل فورمز Worms وفي 19 أكتوبر مينز Mainz وفي 21 أكتوبر فرانكفورت - آم - مين Frankfurt - am - Main. ولكسب بلجيكا (التابعة للنمسا) إلى صف الثورة حارب ديمورييه Dumouriez في جيمابز Jemappes (6 نوفمبر) إحدى أكبر المعارك في الحرب، فقد تراجع النمساويون بعد مقاومة طويلة مخلفين وراءهم أربعة آلاف قتيل في ساحة المعركة،
وسقطت بروكسل في 14 نوفمبر ولييج Liege في 24 نوفمبر وأنتورب Antwerp في الثلاثين من الشهر نفسه، وفي هذه المدن كلها استقبل السكان الفرنسيين كمحررين· وقد تأخر ديمورييه في بلجيكا، وأثرى نفسه بالتعامل مع المضاربين في تمويل الجيش بالمؤن، بدلا من إطاعة أوامر المؤتمر الوطني بالتحرك جنوبا وضم قواته إلى قوات كوستين، وعندما أُنب على ذلك هدد بالاستقالة تمَّ إرسال دانتون لاسترضائه فنجح في مهمته، لكن عندما تراجع ديمورييه أمام العدو في 5 أبريل سنة 1793 عانى دانتون من الشعور بالذنب·(ملحق/128)
وقد تبنى المؤتمر الوطني اتجاهين سياسيين يكمل أحدهما الآخر بعد أن أنتشى أعضاؤه بسبب هذه الانتصارات: الاتجاه الأول هو مد فرنسا إلى "حدودها الطبيعية" الراين والألب والبرنيس (البرانس) Pyrenees والبحار - والثاني هو مساعدة سكان الحدود بتقديم مساعدات عسكرية لهم ليتمكنوا من تحقيق الحرية الاقتصادية والسياسية· ومن هنا كان هذا المرسوم الجسور الصادر في 15 ديسمبر سنة 1792 ·
"من هذه اللحظة تعلن الأمة الفرنسية سيادة الشعب [في المناطق المتعاونة كلها]، وقمع كل السلطات العسكرية والمدنية التي حكمتكم حتى الآن كلها، وإبطال كل الضرائب التي ينوء بها كاهلكم، وإلغاء العشور التي تتقاضاها الكنيسة وكذلك الرسوم الإقطاعية ··· وإلغاء القنانة serfdom ( رق الأرض) ·· وتعلن الأمة الفرنسية أيضا إبطال المؤسسات (التشكيلات) التي تضم النبلاء والإكليروس كلها، وإبطال الامتيازات كلها لتعارضها مع مبدأ المساواة"·
"إنكم الآن منذ هذه اللحظة إخوة وأصدقاء، فالكل مواطنون متساوون في الحقوق ويمكن لأي منكم أن يتولى أمور الحكم وأن يقدم الخدمات وأن يدافع عن بلاده" ·
وأدى هذا المرسوم "مرسوم الأخوة" إلى عدد من المشاكل للجمهورية الشابة· فعندما فرضت الضرائب على المناطق المفتوحة "أو المحررة بتعبير رجال الثورة" لدعم الاحتلال الفرنسي جأر الناس بالشكوى قائلين إن سيدا حل محل سيد آخر وإن ضريبة حلت محل أخرى· وعندما رأت الهيئة الكنسية في كل من بلجيكا ولييج Liege وبلاد الراين التي ألفت أن تسيطر على السلطات الحاكمة أو تشاركها - أنها مهددة في سلطانها وعقيدتها، مدت أيديها إلى ما وراء الحدود لمقاومة الثورة الفرنسية وتحطيمها إذا أمكن· وفي 16 نوفمبر 1792 أصدر المؤتمر الوطني مرسوما بفتح نهر شيلدت Scheldt للملاحة كلها·(ملحق/129)
وكان الهدف من هذا القرار هو جذب تجار أنتورب إلى قضية الثورة الفرنسية - طالما أن صلح وستفاليا Peace of Westphalia (1648) كان قد منع الملاحة في هذا النهر إلا للهولنديين، (لأنها سحبت منها هذا الامتياز) وفسر ملوك أوروبا إعلان المؤتمر الوطني (السابق إيراد مقتطفات منه) بأنه إعلان للحرب عليهم جميعا وعلى السادة الإقطاعيين، فبدأ تشكيل أو تحالف ضد فرنسا·
وقرر المؤتمر الوطني قراره (حتى لا يكون أمامه سبيل للتراجع) بمحاكمة لويس السادس عشر بتهمة الخيانة· فمنذ 10 أغسطس راح المسئولون في التمبل يقدمون لمعظم أفراد الأسرة المالكة معاملة نصف إنسانية: للملك وكان في الثامنة والثلاثين من عمره، والملكة كانت في السابعة والثلاثين من عمرها، وأخت الملك "مدام إليزابيث Madame Elisabeth" وكانت في الثامنة والعشرين، وابنة الملك مارى تريز Marie-Therese " مدام روال Madame Royale" وكانت في الرابعة عشرة، وابن الملك ولي العهد لويس- تشارلز Dauphin Louis-Charles وكان في السابعة من عمره·
وبذل الجيرونديون كل ما في وسعهم لتأجيل المحاكمة لأنهم كانوا يعلمون أن الأدلة ستؤدي بالضرورة إلى الإدانة وتنفيذ حكم الإعدام وهذا سيؤدي إلى تكثيف القوى الخارجية جهودها للهجوم على فرنسا، واتفق معهم دانتون في هذا الرأي لكن ظهر شخص آخر في المؤتمر الوطني، إنه لويس - أنطوان سان - جوست Louis - Antoine -Saint - Just، وكان في الخامسة والعشرين من عمره، وقد لفت نظر المؤتمر الوطني بدعوته لقتل الملك:
"لويس قتل الشعب وحاقت به الهزيمة ··· انه همجي (بربري) سجين حرب أجنبي· لقد رأيتم خططه وتصميماته الغادرة ·· إنه هو القاتل في الباستيل وفي نانسي Nancy وساحة دي مارس Champ-de - Mars.. في التوليري فأي عدو وأي أجنبي قد ألحق بكم الضرر أكثر منه؟ "(ملحق/130)
وكان من الممكن أن يتوقف هذا الهجوم بسبب الحكمة والتدبر، لكن حدث في 20 نوفمبر أن تم اكتشاف صندوق حديدي في جدار الغرف الملكية في قصر التوليري فأحضره رولان إلى المؤتمر الوطني، وكان به دليل يؤكد بقوة تهمة الخيانة، لقد كان الصندوق يضم 625 وثيقة سرية تفضح تعاملات الملك مع لافاييت وميرابو وتاليران، وبرنيف Barnave وعدد من المهاجرين (الذين تركوا فرنسا إثر قيام الثورة) والصحفيين المحافظين· كان من الواضح أن لويس رغم تأكيده ولاءه للدستور، يتآمر للقضاء على الثورة· وأصدر المؤتمر الوطني أوامره بكشف النقاب عن ميرابو، وحطم اليعاقبة تمثالا في ناديهم كانوا قد أقاموه إحياء لذكراه، وتم القبض على بارنيف في جرينوبل Grenoble وهرب لافاييت إلى جيشه، أما تاليران فهرب كما يفعل دائماً·
وفي 2 ديسمبر ظهر بعض الوفود من أحياء (أقسام) باريس أمام المؤتمر الوطني وطالبوا بالتعجيل بمحاكمة الملك، وسرعان ما أرسل كومون باريس توصيات شديدة للغرض نفسه، وفي 3 ديسمبر انضم روبيسبير للمطالبين بهذا الأمر· وحمل مارا لواء المطالبة بأن يكون التصويت على المحاكمة علنا حتى يضع الجيرونديين المترددين تحت رحمة السانس كولوت (الذين لا يرتدون سراويل قصيرة) في الممرات والشوارع·
وبدأت محاكمة الملك في 11 ديسمبر سنة 1792 أمام أعضاء المؤتمر الوطني جميعا· على وفق ما ذكره سيباستين ميرسييه Sebastien Mercier أحد النواب في المؤتمر الوطني فإن:
"خلفية الصالة تحولت إلى مقصورات وكأنها مسرح، حيث كانت النسوة يرتدين أكثر ملابسهن أناقة ورحن يلعقن المثلجات ويأكلن البرتقال ويشربن المسكرات المعطرة والمحلاة ···· ويمكن للمرء أن يرى السعاة والحجاب ··· يرافقون خليلة دوق أورليان"(ملحق/131)
وتم إطلاع الملك على الوثائق التي وجدت في الصندوق فأنكر توقيعه وأنكر أي علم له بالصندوق· وواجه الأسئلة بالتعلل بعدم التذكر ليعين لنفسه محامين، فعرض شريتين دى ماليشيرب Chretien de Malesherbes الذي دافع عن الفلاسفة والموسوعيين في عهد لويس الخامس - الدفاع عن الملك، فوافق لويس السادس عشر وهو حزين وقال له: "إن تضحيتك عظيمة لأنك تعرض حياتك للخطر ومع هذا فلن يمكنك إنقاذ حياتي" · (وبالفعل فقد أعدم ماليشيرب بالمقصلة في أبريل سنة 1794) وفي هذه الأثناء اقترح ممثلو القوى الأجنبية شراء بعض الأصوات لصالح الملك ووافق دانتون أن يكون وكيلا للمشترين لكن المبلغ المطلوب كان أكثر مما يريد أصحاب الجلالة استثماره ·
وفي 26 ديسمبر قدم رومين سيز Romain de Seze القضية للدفاع، وساق رومين الحجة بأن الدستور لم يعط لأعضاء المؤتمر الوطني الحق في محاكمة الملك، وأن للملك الحقوق الإنسانية للدفاع عن حياته، فقد كان واحدا من أكثر الرجال إنسانية وأرقهم حاشية ومن أكثر الحكام ليبرالية ممن تبوءوا عرش فرنسا· هل نسي نواب المؤتمر الوطني إصلاحاته العديدة؟ ألم يكن هو الذي بدأ الثورة بدعوته مجلس طبقات الأمة للانعقاد ودعوته الفرنسيين كلهم ليقولوا له عن الأخطاء الحادثة وعن رغباتهم؟
وأجاب المدعي العام بأن الملك قد تفاوض مع القوى الأجنبية للقضاء على الثورة، فلم نستثني وارث العرش إذا كان خائنا من إيقاع القصاص عليه؟ فطالما ظل على قيد الحياة ستحاك المؤامرات لإعادته إلى سلطانه كما كان قبل الثورة· فليكن عبرة للملوك كلهم حتى يرعووا ويتفكروا قبل أن يخونوا آمال شعوبهم·(ملحق/132)
وبدأ التصويت على جرم (إدانة) الملك في 15 يناير سنة 1793 · فصوت 683 - بمن فيهم ابن عم الملك فيليب دأورليان Philippe d'Orleans من بين 749 نائبا على إدانة الملك · وقد عارض روبيسبير ومارا وسان ـ جوست Saint-Just حركة طرح هذا القرار (الحكم) للتصديق أو دعوة الشعب الفرنسي للاقتراع عليه من خلال جمعيات القاعدة Primary assemblies، ولم يحظ هذا الاقتراح بالقبول فقد عارضه 424 ولم يوافق عليه سوى 287، لأن دعوة الشعب إلى مثل هذا الاقتراع تعني استفتاءهم على عودة الملكية، كما قال سان جوست· أما روبيسبير الذي طالما دافع عن الديمقراطية وحق الذكور جميعهم في الانتخاب فقد تردد الآن وقال إن: "الفضيلة (وتعني الحماسة الجمهورية) كانت دائما في الأقلية على هذه الأرض" وعندما وضع السؤال التالي في صياغته الأخيرة في 16 يناير:
"ما هو الحكم الذي سيتعرض له ملك فرنسا؟ "
فإن الفريقين دخلا في نزاع شهدته الشوارع حيث صاحت الجموع مطالبة بحكم الإعدام وهددوا حياة كل من يصوت لحكم أقل من الإعدام، حتى إن النواب الذين كانوا حتى الأمس يطالبون بعدم إعدامه أصبحوا خوفا على حيواتهم يصوتون لصالح الحكم عليه بالإعدام، وأذعن دانتون، وثبت بين Paine على موقفه، أما فيليب دأورليان الذي كان مستعدا للحاق بابن عمه فقد صوت لإقصائه (لإعدامه) أما مارا فقد صوت لإعدامه في ظرف أربع وعشرين ساعة أما روبيسبير الذي كان دائما يعارض العقوبات الغليظة (الإعدام) فقد أصبح الآن يقدم الحجج ليبرهن على أن بقاء الملك حيا سيكون خطراً على الجمهورية، أما كوندورسيه فطالب بإبطال العقوبات الغليظة (الإعدام) الآن وإلى الأبد، وحذر بريسو من أن الحكم بالإعدام سيؤدي إلى دخول ملوك أوروبا كلهم الحرب ضد فرنسا·(ملحق/133)
وبعض النواب في المؤتمر الوطني أضافوا إلى تصويتهم شروحا (تعليقات) فقد قال باجانل Paganel: " الموت! - إن الملك لا يصلح إلا له، أو لا فائدة منه إلا له" ,وقال ميلو Millaud: " اليوم إذا لم يكن الموت موجودا لوجب اختراعه"· هكذا اقترح فولتير على الرب أما دوشاتل Duchatel - وكان قد مات - فكم كان يود أن ترد إليه الحياة ليصوت ضد قتل الملك أمام المحكمة ثم يموت مرة أخرى · وكانت النتيجة النهائية هي موافقة 361 على موت الملك عاجلا، وصوت 334 لتأجيل هذا الأمر·
وفي 20 يناير قتل العضو السابق في فيلق حراسة الملك، لويس - ميشيل ليبليتيه دي سان فارجو\ Louis-Michel Lepeletier de Saint-Fargeau الذي كان قد صوت لصالح قتل الملك·
وفي 21 يناير حملت عربة يحيط بها حرس مسلح، سارت على طول الشوارع التي حددها الحرس الوطني، لويس السادس عشر إلى ميدان الثورة (الآن ميدان الكونكورد Concorde أي ميدان الوفاق والوئام) · وقبل أن تهوي عليه المقصلة حاول أن يتحدث إلى الجموع:
"أيها الفرنسيون، إنني أموت بريئا ·· إنني أقول ذلك وأنا على سقالة المقصلة وسأمثل قريبا أمام الرب· إنني أعذر أعدائي، وآمل أن فرنسا - "
لكن عند هذه الكلمة أشار سانتير Santerre رئيس حرس باريس الوطني وقال: "فلتدق الطبول Tambours" فدقت الطبول، وراحت الجماهير تنظر في صمت كئيب والنصل الثقيل يسقط، وراحوا يبكون حتى النخاع، وفي وقت لاحق قال واحد ممن حضروا هذا المشهد:
"في ذلك اليوم راح كل واحد يسير ببطء ولم يكن الواحد منا يجسر على النظر إلى الآخر" ·
2 - الثورة الثانية: عام 1793 م(ملحق/134)
لقد كان إعدام الملك نصراً بالنسبة للجبليين Mountain ( اليسار) والكومون Commune وسياسة الحرب، كما أنه وحد المشتركين في قتل الملك والمتسببين فيه فارتبطوا ارتباطاً مصيرياً بالثورة فقد يقع عليهم الاختيار للتضحية بهم عند إعادة عرش البوربون Bourbon · وقد أدى هذا الحدث إلى انقسام الجيرونديين Girondins وعزلتهم، فقد انشقوا عند التصويت وهم الآن يتحركون في باريس وهم في حالة خوف على حيواتهم وتطلعوا إلى المحافظات حيث السلام والنظام موجودان بشكل نسبي، واستقال رولان - مريضا محبطا - من المجلس التنفيذي بعد يوم من إعدام الملك، والسلام الذي كان ممكنا بانشغال النمسا وبروسيا بتقسيم بولندا، غدا مستحيلا الآن بسبب غضب ملوك أوروبا لقطع رأس واحد من إخوانهم·
وفي انجلترا وجد وليم بت William Pitt رئيس الوزراء الذي كان يفكر في شن الحرب على فرنسا، أنه لم يعد هناك كبير أثر لأي معارضة برلمانية لسياسته، وصدم جماهير الإنجليز لأخبار إعدام الملك الفرنسي كما لو أن الملكية نفسها هي التي وضعت تحت المقصلة، كما لو أنهم هم أنفسهم (الإنجليز) ليسوا سلالة من نفذ الإعدام في تشارلز الأول، وكان هدف بت Pitt الحقيقي - بطبيعة الحال - هو أن سيطرة فرنسا على أنتورب Antwerp ستعطي لها - وهي عدوة بريطانيا القديمة - مفتاح الراين - وهو الطريق الرئيسي لتجارة بريطانيا مع وسط أوروبا· وأصبح هذا الخطر أكثر حدة عندما أعلن المؤتمر الوطني في 15 ديسمبر سنة 1792 ضم بلجيكا إلى فرنسا· والآن لقد فتح الطريق للسيطرة الفرنسية على هولندا وبلاد الراين، فكل وادي الراين الخصب والمعمور بالسكان يمكن أن يغلق في وجه بريطانيا التي تعيش على تصدير منتجات صناعتها المنتشرة·
وفي 24 يناير سنة 1793 طرد بت Pitt السفير الفرنسي وفي أول فبراير أعلن المؤتمر الوطني الحرب على كل من إنجلترا وهولندا· وفي 7 مارس انضمت إليهما أسبانيا وبدأ التحالف الأوربي الأول (المكون من بروسيا والنمسا وسردنيا وإنجلترا وهولندا وإسبانيا) المرحلة الثانية في العمل على كبح الثورة الفرنسية·(ملحق/135)
لقد توالت الكوارث بسرعة جعلت المؤتمر الوطني غير قادر على ملاحقتها، فالجيوش الثورية قد خملت بعد انتصاراتها المبدئية وترك آلاف المتطوعين الخدمة بعد انقضاء الفترة المحددة وتناقص عدد الجنود في الجبهة الشرقية من 40,000 إلى 225,000، وحتى هؤلاء كانوا ذوي ثياب رثة طعامهم الكفاف بسبب عدم كفاءة الممولين (المتعاقدين لتمويل الجيش) وفسادهم وارتشائهم، هؤلاء الممولين الذين كان يحميهم دومورييه Dumouriez ويستغلهم·
وفي 24 فبراير لجأ المؤتمر الوطني إلى التجنيد الإلزامي لإنشاء جيوش جديدة لكنه حابى الأثرياء بالسماح لهم بدفع المقابل لمن يقاتل عنهم (النص: شراء من يقوم مقامهم)، وانفجر التمرد على التجنيد الإلزامي في محافظات مختلفة، ففي الفنيدي Vendee كان السخط على التجنيد الإلزامي وارتفاع تكاليف المعيشة وندرة الطعام، بالإضافة للسخط على التشريع المضاد للكاثوليكية، كل أولئك تضافر معا ليسبب تمردا حقيقيا اتسع مداه حتى استلزم الأمر استدعاء جيش من الجبهة للسيطرة على الأمور·
وفي 16 فبراير قاد دومورييه 20,000 جندي لغزو هولندا، فهاجمت قوة نمساوية بقيادة الأمير ساكس - كوبرج Saxe - Coburg الحامية التي تركها دومورييه في بلجيكا، وكان هجومه مفاجئا مما تسبب في إبادة الحامية الفرنسية، أما دومورييه نفسه فقد هزم في نيرفندن Neerwinden (18 مارس)، وفي 5 أبريل انضم إلى النمساويين ومعه ألف رجل (تخلى عن الثورة لصالح أعدائها) · وفي ذلك الشهر التقى مندوبون· من إنجلترا وبروسيا والنمسا لوضع الخطط لإخضاع فرنسا·
لقد هددت المصاعب الداخلية والنكسات الخارجية بانهيار الحكومة الفرنسية، فرغم مصادرة أملاك الكنسية وممتلكات المهاجرين (الذين تركوا فرنسا بسبب أحداث الثورة) فإن الأسينات assignats ( العملة التي أصدرتها حكومة الثورة) كادت تفقد قيمتها فجأة، إذ أصبحت لا تساوي سوى 47% من قيمتها الاسمية في أبريل سنة 1793 وفي غضون ثلاثة أشهر بعد ذلك تدنت قيمتها إلى 33% (أي أصبحت لا تساوى سوى 33% من القيمة المكتوبة عليها) واتسع مدى المقاومة للضرائب الجديدة حتى أصبحت تكاليف جمعها تكاد تساوي قيمتها·(ملحق/136)
وأدت القروض الجبرية (اقتراض الحكومة بتوجيه الأوامر لمن تقترض منهم) - كما في حدث في الفترة من 20 - 25 مايو 1793 - إلى سلب البورجوازية الصاعدة، وعندما حاولت هذه الطبقة استخدام الجيرونديين لحماية مصالحهم في الحكومة، أدى هذا إلى تعميق الصراع بين الجيرونديين والجبليين (اليسار) في المؤتمر الوطني· واستطاع دانتون Danton وروبيسبير Robespierre ومارا Marat نزع نادي اليعاقبة من سياساته البورجوازية الأصلية ليجعلوه أقرب إلى الأفكار الراديكالية· أما الكومون الذي يقوده الآن بيير شومت Pierre Chaumette وجاك هيبير Jacques Hebert فقد استخدم الجريدة الضارية (العنيفة) التي يمتلكها هذا الأخير (جاك) والتي تحمل اسم Pére Duchesne لإثارة المدينة (باريس) ومحاصرة المؤتمر الوطني بوابل من المطالب والإلحاح على مصادرة الثروات، وراح مارا يوما بعد يوم يشن الحرب ضد الجيرونديين باعتبارهم حماة للأثرياء·
وفي فبراير سنة 1793 قاد جاك رو Jacques Roux وجان فارلت Jean Varlet مجموعة من البرولتياريا (الذئاب المسعورة Enrages) لمهاجمة ارتفاع أسعار الخبز والإصرار على أن يقوم المؤتمر الوطني بتحديد أسعار كل ما هو ضروري للحياة· ولأن المؤتمر الوطني قد أزعجته عاصفة المشاكل فقد عهد بأعماله المنوطة به في عام 1793 إلى لجان تتم الموافقة على قراراتها بأقل قدر من النقاش·
وتم تعيين معظم اللجان لتكون مخصصة لمجال معين من مجالات النشاط والإدارة: الزراعة، الصناعة، التجارة، المحاسبة، المالية، التعليم، الخدمة الاجتماعية، شئون المستعمرات·
وعادة ما كانت كل لجنة تضم اختصاصيين في مجالها، وقد أدت هذه اللجان أعمالاً طيبة جداً، بل إنها وسط الأزمات التي بلغت ذروتها، أعدت دستورا جديدا وتركت تراثا تشريعيا بناء راق لنابليون فكون على هديه "المدونة القانونية النابليونية Code Napoleon" ·(ملحق/137)
ولحماية الثورة من الوكالات الأجنبية (غير الفرنسية) والتخريب الداخلي والإزعاج السياسي عين المؤتمر الوطني في 10 مارس 1793 لجنة الرقابة العامة كوزارة وطنية للبوليس ذات صلاحيات عملية مطلقة للقيام بزيارات مفاجئة للأماكن كلها بما فيها البيوت دون تحذير للقبض على أي شخص يشك في عدم ولائه أو في ارتكابه جريمة وقد تم إنشاء لجان أخرى للمراقبة في الكومون وأحياء (أقسام) المدن ·
وأنشأ المجلس الوطني أيضا في 10 مارس محكمة ثورية لمحاكمة من يرسل إليها من المشكوك فيهم الذين سمح لهم بمحامين للدفاع عنهم لكن الحكم الذي يصدره المحلفون jurors لا يمكن استئنافه أو إعادة النظر فيه· وفي 15 أبريل عين المؤتمر الوطني أنطوان - كوينتن فوكير - تينفيل Antoine -Quentin Fouquier - Tinville مدعياً عاماً رئيسياً أمام هذه المحكمة الثورية الآنف ذكرها وهو محام حقق شهرة بسبب إتقانه التحقيق ولعدم رحمته لكنه كفء، وإن كان لا يخلو من المشاعر الإنسانية بين الحين والآخر، وعلى أية حال فإننا عرفناه من خلال رسم محفور يظهره بوجه كالصقر وأنف كالسيف· وبدأت هذه المحكمة الثورية جلساتها في 6 أبريل في قصر العدل، وكلما سارت الحرب قدما، وزاد عدد المتهمين المقدمين للمحكمة زيادة يصعب على المحكمة السيطرة عليها، اختزلت إجراءاتها القانونية وراحت تصدر الحكم بالإدانة في القضايا كلها تقريبا التي أحالتها لجنة الأمن العام ( Committee of Public Safety) ·
وهذه اللجنة الأخيرة لجنة الأمن العام ( Comite de Salut Public) أنشئت في 6 أبريل سنة 1793 لتحل محل المجلس التنفيذي Executive Council وأصبحت هي ذراع الدولة الفعال (الرئيسي) · لقد كانت مجلس حرب· إنه لا يجب النظر إليها كحكومة مدنية تعترف بالقيود الدستورية (المقصود تمتنع عما يمنعه الدستور) وإنما كجهاز مخول تشريعيا بقيادة أمه تحارب من أجل وجودها، وبالتالي توجيه الأوامر لها· ولم تكن لسلطاته حدود إلا بمسئولياته أمام المؤتمر الوطني، ولا بد من تقديم قراراته لهذا المؤتمر الوطني الذي أحالها كلها تقريبا إلى مراسيم ملزمة·(ملحق/138)
لقد كانت هذه اللجنة تدير السياسة الخارجية وتتحكم في الجيوش وجنرالاتها وفي الموظفين المدنيين ولجان الفنون والدين، والخدمات السرية للدولة، وكان يمكنها أن توجه الرسائل الخاصة (للأفراد والهيئات) والعامة (للجماهير)، وكانت ذات ميزانيات سرية ومن خلال "ممثليها المبعوثين" أو المرسلين في مهام كانت تتحكم في الموت والحياة في المحافظات وكانت تجتمع في حدائق (قسم النباتات) في التوليري بافيلون دي فلور ( Pavillon de Flore) بين القصر (التوليري Tuileries) والسين Seine وكان أعضاؤها يجتمعون حول منضدة اجتماعات مغطاة بقماش أخضر، أصبحت - أي هذه المنضدة - لمدة عام مجلساً للحكومة الفرنسية·
وكان يجلس في صدر اللجنة حتى 10 يوليو دانتون الذي تم اختياره للمرة الثانية ليقود الأمة وهي في حالة خطر، وبدأ دانتون على الفور بحث زملائه في اللجنة - وبالتالي المجلس الوطني - على ضرورة أن تتراجع الحكومة علناً عن عزمها التدخل في الشئون الداخلية لأي أمة أخرى · وأرسل المؤتمر الوطني بسبب حث دانتون ورغم اعتراضات روبيسبير مبعوثها لجس النبض طلبا للسلام لكل دولة من الدول التي شكلت تحالفا ضدها· وحث دوق بونسفيك لإيقاف تقدمه، ونجح في ترتيب حلف مع السويد · وحاول مرة أخرى التوفيق بين الجبليين (اليسار) والجيرونديين لكن الخلافات بينهما كانت عميقة جداً·(ملحق/139)
وكثف مارا هجومه على الجيرويدنيين حتى إنهم في ثورة غضبهم استصدروا في 14 أبريل سنة 1793 مرسوما من المؤتمر الوطني بإحالته إلى المحكمة الثورية لدفاعه عن القتل ودعوته إلى الدكتاتورية· وعند محاكمته تجمع عدد كبير من السانس كولوت (الذين لا يرتدون سراويل قصيرة أي الشريحة الدنيا من الطبقة الثالثة) في قصر العدل والشوارع المفضية إليه يطالبون: "بالانتقام من أي حماقة ترتكب ضد حاميهم الأثير لديهم"، وعندما خاف المحلفون أطلقوا سراحه فحمله أتباعه في موكب نصر على أكتافهم إلى المؤتمر الوطني وهناك هدد بالانتقام من متهميه، ومن هناك حملته الجماهير المبتهجة إلى نادي اليعاقبة وهناك جعلوه على مقعد الرياسة · وواصل مارا معركته مطالب بطرد الجيرونديين من المجلس الوطني باعتبارهم خونة الثورة البورجوازيين bourgeois betrayers of the revolution ·
وحقق مارا مكسبا خطيرا عندما أصدر المؤتمر الوطني - رغم اعتراض الجيرونديين وتحذيرهم - مرسوما بوضع حد أقصى لأسعار الحبوب في كل مرحلة من مراحل انتقالها من المنتج إلى المستهلك وأمر الجهات الحكومية بأن يصادروا من الزراع الإنتاج كله اللازم لمواجهة الاحتياجات ·
وفي 29 سبتمبر امتدت هذه الإجراءات لتحديد أسعار البضائع الأساسية كلها، فدخلت تحت سياسة "تحديد سقف أعلى للأسعار" لقد برزت الآن الحرب الداخلية بين المنتج والمستهلك، فثار الفلاحون على مصادرة محاصيلهم وقل الإنتاج للشعور بأن القوانين الجديدة عاقت الدوافع للربح واتسعت السوق السوداء، عارضة بأسعار عالية البضائع للقادر على الدفع، والأسواق التي نفذت قوانين تحديد الأسعار خلت من الحبوب والخبز، ومرة أخرى سارت مظاهرات الجياع خلال شوارع المدينة·(ملحق/140)
وفزع الجيرنديون إلى ناخبيهم من الطبقة الوسطى في المحافظات لإنقاذهم من استبداد الجماهير، بعد أن امتعضوا بشدة ومراره من الضغط الذي تمارسه الطبقات الدنيا في باريس على المجلس الوطني· وكتب فرجنيو Vergniaud إلى ناخبيه في بوردو في 4 مايو سنة 1793: "إنني أدعوكم إلى منبر الدفاع عن حقوق الشعب لتدافعوا عنا إن كان هناك وقت باق للثأر للحرية، بإبادة الطغاة" وكتب باربارو Barbaroux على النحو نفسه إلى مؤيديه في مرسيليا، وفيها - أي في مرسيليا- كما في ليون تحالفت الأقلية البورجوازية مع النبلاء السابقين لطرد رئيسي البلدية الراديكاليين في كلتيها·
وفي 18 مايو حث النواب الجيرونديون المؤتمر الوطني لتعيين لجنة للتفتيش على علميات كومون باريس وأحيائه (أقسام باريس) لكشف المخالفات القانونية· وكان أعضاء هذه اللجنة كلهم من الجيرونديين· وفي 24 مايو أمر المؤتمر الوطني بالقبض على هيبير Hebert وفارلت Varlet باعتبارهما محرضين (مثيرين للفتنة)، وطالب الكومون والستة عشر قسما التابعة له - في الوقت نفسه - بالإفراج عنهما، لكن المؤتمر الوطني رفض· وحرض روبيسبير في نادي اليعاقبة في 26 مايو المواطنين على الثورة:
"عندما تظلم الجماهير، وعندما لا يكون لها ملجأ إلا إلى نفسها، فمن الجبن حقا ألا ندعوها إلى الثورة· فعندما تنتهك القوانين كلها وعندما يبلغ الاستبداد ذروته، وعندما تداس العقيدة الطيبة واللياقة فلا بد أن يقوم الشعب بحركة مقاومة شعبية· لقد آن الأوان لذلك"
وفي 27 مايو طالب مارا في المؤتمر الوطني بقمع اللجنة (لجنة الجيرونديين الآنف ذكرها) "لانها معادية للحرية ولأنها تميل إلى الحث على معارضة الشعب ومقاومته، وهذا التهديد مصلت فوق الرأس قريب الحدوث بسبب الإهمال الذي وقعتم فيه بالسماح بارتفاع أسعار البضائع ارتفاعا فظيعاً"· وفي تلك الليلة مهد الجبليون (اليسار) الطريق لاتخاذ إجراء بإلغاء اللجنة (لجنة الجيرونديين الآنف ذكرها) وجرى التصويت الذي كانت نتيجته هذا الإلغاء، بأغلبية 279 ضد 238 · وفي 30 مايو انضم دانتون إلى روبيسبير ومارا للدعوة إلى "نشاط ثوري أو هبة ثورية revolutionary Vigor"·(ملحق/141)
وفي 31 مايو قرعت الأحياء أجراس التنبيه للخطر ليهب المواطنون - عند سماعها، وتجمعت الجماهير عند دار البلدية وكونوا مجلس مقاومة، وضمنوا دعم حرس باريس الوطني بقيادة قائده الراديكالي هانريوت Hanriot، ودخل هذا المجلس الجديد - يحميه هانريوت بحرسه والجماهير المتزايدة العدد - إلى صالة المؤتمر الوطني وطالب بمثول الجيرونديين ليحاكموا أمام محكمة الثورة، وتحديد سعر الخبز عند ثلاثة جنيهات في أنحاء فرنسا كلها، وأي عجز ينتج عن ذلك يعالج بفرض ضريبة على الأثرياء، وأن يكون حق الانتخاب مقتصرا مؤقتا على السانس كولوت (الذين لا يرتدون سراويل قصيرة - الطبقة الثالثة)، وأقر المؤتمر الوطني الاعتراض الثاني فقط لهذه اللجنة البغيضة، وتراجعت الفصائل المسلحة لحلول الليل·
وعاد مجلس المقاومة الآنف ذكره إلى المؤتمر الوطني في أول يوليو مطالبا بالقبض على رولان الذي اتهمه السانس كولوت sansculottes ( الطبقة الدنيا) بارتباط مصالحه بالمصالح البورجوازية· وفر رولان هاربا إلى الجنوب حيث لاقى ترحيباً· أما زوجته مدام رولان فقد تأخرت ولم تلحق به لأنها خططت للدفاع عنه أمام المؤتمر الوطني لكن قبض عليها وأودعت في سجن أباى Abbaye jail ( الكلمة تعني، الدير لأن هذا السجن كان في أصله ديرا) ولم يتح لها أن ترى زوجها بعد ذلك أبدا، وفي 2 يونيه احتشد ثمانون ألف رجل وامرأة - كان كثيرون منهم مسلحين - حول مقر المؤتمر الوطني، ووجه الحرس مدفعه للمبنى، وأخبر مجلس المقاومة الآنف ذكره نواب المؤتمر الوطني أن أحداً منهم لن يسمح له بالخروج حتى تتم الاستجابة لطلبات المجلس (مجلس المقاومة) كلها·(ملحق/142)
وذكر مارا بصوت عال أسماء الجيرونديين الذين يوصي بالقبض عليهم، وكان مارا قد سيطر على المنصة (المنبر) التي يتحدث متحدثو المؤتمر من فوقها ودبر بعض نواب المؤتمر أمر تملصهم من الحرس والجماهير وهربوا إلى المحافظات، وجرى القبض على اثنين وعشرين وفرضت عليهم الإقامة الجبرية في منازلهم بباريس· ومنذ هذا اليوم وحتى 26 يوليو أصبح المؤتمر الوطني خادماً مطيعا للجبليين (اليسار) ولجنة الأمن العام وجماهير باريس· لقد هزمت الثورة الثانية البورجوازية وأسست مؤقتا دكتاتورية البرولتياريا·
وأعطى المنتصرون للنظام الجديد شكلا بتكليف كل من هيرول دى سيشل Herault de Sechelles وسان - جوس Saint - Jus بصياغة الدستور الجديد الذي كان قد صدر في11 أكتوبر 1792 · وقد أعاد حق الانتخاب للذكور البالغين كلهم وأضاف حق كل مواطن في مورد رزق، والتعليم والمقاومة، وقصر حقوق الملكية بحيث لا تتعارض مع المصلحة العامة، وأعلن حرية العبادة واعترف بكرم ولطف بوجود الله (سبحانه) a Supreme being كموجود أسمى وأعلن الأخلاق كأمرٍ لازم للمجتمع، وقد أطلق كارليل Carlyle الذي لم يكن يستطيع أن يهضم (يستسيغ) الديمقراطية هذا بأنه " أكثر الدساتير- التي حبرت على الورق - ديمقراطية وقبله المؤتمر الوطني (في 4 يونيو سنة 1793) وأقره ربع الناخبين 1,801,918 واعترض عليه 11,610. وظل دستور 1793 على الورق فقط لأنه في 10 يوليو جدد المؤتمر الوطني للجنة الأمن العام Committee of Public Safety صلاحياتها كسلطة حاكمة فوق الدستور حتى يعود السلام·
3 - مصرع مارا: في 13 يوليو 1793 م
EXIT MARAT
ولجأ ثلاثة من الجيرونديين هم بتيو Petion وباربارو Barbaroux وبوزو Buzot- إلى كان Caen حيث وجدوا الحماية، وكانت هي الحصن الشمالي "للفدراليين Federalist " الذين يعارضون هيمنة أهل باريس على الحكومة الوطنية· وراحوا يلقون الخطب ليشجبوا السانس كولوت (ذوي السراويل الطوال) والمتحدثين باسمهم خاصة مارا Marat ونظموا مظاهرات عسكرية للاعتراض ونظموا جيشا للتقدم صوب العاصمة·(ملحق/143)
وكانت شارلوت كورداي Charlotte Corday من بين أكثر المستمعين إليهم حماسة وتعاطفا، وهي تنحدر من سلالة المسرحي بيير كورنيل Pierre Corneille سليلة أسرة مؤيدة للنظام الملكي بشدة، وكانت أسرتها قد أصابها الفقر فتعلمت شارلوت في دير للراهبات وخدمت مدة عامين كراهبة وأتاحت لها الظروف قراءة بلوتارخ Plutarch وروسو بل وحتى فولتير، وقد تركت إيمانها (تشككت في المسيحية) وفتنت بأبطال روما القديمة· وقد صدمت عندما سمعت بقتل الملك الفرنسي (لويس السادس عشر) وكانت ممتعضة بسبب ما أثاره مارا من سخط على الجيرونديين· وفي 20 يونيو سنة 1793 زارت باربارو وكان وقتها في السادسة والعشرين وكان وسيما جدا حتى أن مدام رولان شبهته بأنطونيوس محبوب الإمبراطور هادريان
وكانت شارلوت تقترب من الخامسة والعشرين، وكان عقلها مشغولا بأمور أخرى بالإضافة إلى الحب، وكل ما طلبته هو خطاب تعريف لنائب في المؤتمر الوطني ليرتب لها لقاء مع المؤتمر، فكتب لها باربارو خطاب تقديم إلى لوز دوبرى Lauze Duperret، وفي 9 يوليو استقلت مركبة عمومية إلى باريس فوصلتها في 11 يوليو واشترت سكين مطبخ يبلغ طول نصلها ست بوصات، ودبرت أن تدخل قاعة اجتماع المؤتمر الوطني وتقتل مارا على مقعده لكنها علمت أن مارا مريض ومقيم في منزله، فحصلت على عنوانه وذهبت إليه لكن لم يسمح لها بالدخول إذ قيل لها "السيد في الحمام" فعادت إلى محل إقامتها·(ملحق/144)
لقد كان الحمام الآن هو "المكتب الأثير" لدى مارا، فقد تفاقم مرضه الذي يظهر أنه كان نوعا من الدرن "الاسكروفولا Scrofula" وكان يجد راحة من آلامه بالجلوس مغمورا في الماء الدافئ حتى وسطه، وكانوا يضيفون له في هذا الماء المواد المعدنية والأدوية، وكان يضع قطعة قماش للتجفيف (منديلاً) فوق كتفيه، ويلف حول رأسه منديلا كبيرا مبللاً بالخل، وكان يحتفظ بالأوراق والقلم والمحبرة فوق متسع على حافة الحوض، وكان يكتب يوما بعد يوم المادة المطلوبة لصحيفته على هذه الحافة وهو في هذا الحوض · وكانت أخته ألبرتين Albertine تتولى العناية به، ومنذ سنة 1790 أصبح موضع رعاية من خادمته سيمون إيفارد Simonne Evrard التي تزوجها زواجا غير موثق كنسيا (لم يعقد أمام الإكليروس) وإنما: "أمام الله Supreme being أو الموجود الاسمي، ···· في معبد الطبيعة الواسع" ·
وأرسلت شارلوت Charlotte من مقر إقامتها طلباً لمقابلته: "لقد قدمت من كان Caen، إن حبك لأمتك يجب أن يجعلك متنبها للمؤامرات التي تحاك هناك· إنني في انتظار إجابتك" · ولم تطق شارلوت صبرا حتى تتلقى الإجابة، ففي مساء 13 يوليو طرقت باب داره مرة أخرى، فلم يسمح لها بالدخول ولكن مارا سمع صوتها فطلب السماح لها بالدخول واستقبلها بترحيب وأمر لها بمقعد فجلست فقربت مقعدها منه، فسألها: "ماذا يجرى في كان Caen؟ " ( أو هكذا روت شارلوت فيما بعد هذا الحوار الغريب) فأجابت: "ثمانية عشر نائبا من المجلس الوطني يحكمون هناك بالتآمر مع مسئولي المحافظة" فسألها: "ما أسماؤهم"، "فذكرتها له، فكتبها، , وأصدر حكمه التالي: ستجز المقصلة رقابهم" وعندئذ سحبت شارلوت سكينها وطعنته في صدره بكل قوتها حتى أن نصل السكين اخترق الأورطي aorta وتفجر الدم أثر الطعنة، فصرخ مناديا سيمون: " أسرعي إلى ·· أسرعي إلى يا صديقتي العزيزة" فأقبلت سيمون فمات بين ذراعيها، واندفعت شارلوت خارجة من الحجرة فاعترضها رجل وكف مقاومتها مستخدما كرسيا، وتم استدعاء البوليس فقبض عليها، فقالت: "لقد أديت واجبي فلندعهم - أي رجال الشرطة - يؤدون واجبهم" ·(ملحق/145)
ولا بد أن مارا كان يتمتع ببعض الصفات الطيبة فقد اجتمعت على حبه امرأتان تنافستا في ذلك ونذرت أخته نفسها فيما تبقى من عمرها لتوقير ذكراه·
وكان مارا في وقت من الأوقات طبيبا ناجحا، ولم يترك عند مماته شيئا سوى بعض المخطوطات العلمية وخمسة وعشرين سو Sous وكان مارا متعصبا لكنه أخلص للجماهير الذين نسيتهم الطبيعة والتاريخ، واحتفظ نادي الكوردليير (نسبة إلى مقرهم في دير فرانسيسكاني) بقلبه كأثر مقدس (ذي طابع ديني كرفات القديسين)، وأقبل الآلاف لإلقاء نظرة عليه "بتوقير صامت وقد كتموا أنفاسهم" وفي 16 يوليو تبع جثمانه أعضاء المجلس الوطني المتبقون كلهم وخلق كثير من رجال ونساء أتوا من الأحياء (الأقسام) الثورية، إلى مثواه في بساتين الكوردليير (نسبة إلى دير فرانسيسكاني جعلوه مقراً لهم) ونصب تمثاله الذي نحته دافيد في قاعة المؤتمر الوطني وفي 21 سبتمبر سنة 1794 نقل رفاته إلى البانثيون Pantheon ( مدفن العظماء) ·
وكانت محاكمة شارلوت قصيرة فقد اعترفت بفعلتها لكنها لم تعترف بأنها مذنبة، فقد قالت إنها لم تفعل سوى الانتقام لضحايا مذبحة سبتمبر، وقالت لقد قتلت: "رجلا لأنقذ مائة ألف رجل" وكتبت في خطاب إلى باربارو بصراحة قائلة: "إن الغاية تبرر الوسيلة" وبعد ساعات قليلة من اعترافها تم إعدامها في ميدان الثورة، وواجهت بزهو لعنات الجماهير التي حضرت تنفيذ الحكم فيها ورفضت عرض أحد القسس تلقينها العبارات التي يقولها الكاثوليكي عند الموت ورفضت قيامه بطقوس دينية قبل إعدامها ·
لقد ماتت شارلوت قبل أن تتحقق من أن فعلتها (قتل مارا) فيها هلاك الجيرونديين الذين كانت تظن أنها تخدمهم بفعلتها هذه· وقال فيرنيو للجيرونديين مسامحاً إياها ومدركاً لأبعاد فعلتها:
"لقد قتلتنا، لكنها علمتنا كيف نموت" ·(ملحق/146)
4 - اللجنة الكبرى: عام 1793 م
THE "GREAT COMMITTEE"
احتفظ المؤتمر الوطني لنفسه بحق المراجعة الشهرية لعضوية لجنة الأمن العام، وفي 10 يوليو كانت سياسة السلام التي تبنتها اللجنة وكذلك سياستها الخارجية والداخلية قد فشلت، فأزاح المؤتمر دانتون، وفي 25 يوليو انتخبه المؤتمر رئيساً له لدورة عادية لمدة أسبوعين (وربما كان هذا كي يظهر المؤتمر استمرار تقديره له)، وماتت زوجة دانتون في فبراير وتركت له طفلين، وفي 17 يونيو تزوج من فتاة في السادسة عشرة، وفي 10 يوليو استقر في بيته كزوج مرة أخرى·
وفي 27 يوليو تم تعيين روبيسبير في لجنة الأمن العام ولم يهتم دانتون به وقال: "هذا الرجل ليس لديه من الدهاء ما يكفي لسلق بيضة" ومع هذا ففي أول أغسطس حث المؤتمر الوطني على تخويل لجنة الأمن العام صلاحيات وسلطات كاملة· وربما اعتذاراً منه عن هذه المشورة، ذكر لديمولان Desmoulins وهما يراقبان غروب الشمس على نهر السين، وكانت أشعة الشمس الغاربة قد جعلت مياهه حمراء قانية: "إن النهر يجرى دما"· وفي سبتمبر اقترح المؤتمر الوطني عليه العودة إلى لجنة الأمن العام لكنه رفض وغادر باريس في 12 أكتوبر مرهقا مريضا ونشد الراحة في البيت الذي كان قد اشتراه في موطنه الأصلي أرسي - سير أوب Arcis-Sur-Aube في وادي ميرن Marne، وعندما عاد إلى باريس في 21 نوفمبر كان السين يجرى دما بالفعل·
وخلال الصيف أخذت "اللجنة الكبرى" كما أصبحت تسمى شكلها التاريخي· إنها الآن تتكون من اثنى عشر رجلاً كلهم من الطبقة الوسطى وكلهم نالوا قسطا طيبا من التعليم، وكلهم ذوو دخول جيدة وكلهم يعرفون الفلاسفة وروسو، لقد كان ثمانية منهم محامين واثنان مهندسين، ولم يكن منهم من اشتغل بيديه سوى كولوت دربوا Collot d'Herbois إن دكتاتورية البرولتياريا إذن ليست على الإطلاق برولتيارية، ولنراجع السجلات:(ملحق/147)
1 - برتران بارير Bertrand Barere، في الثامنة والثلاثين، أوكل إليه بالإضافة إلى واجباته المختلفة مهمة الحضور أمام المؤتمر الوطني والدفاع عن القرارات التي تصل إليها اللجنة (لجنة الأمن العام) والعمل على صدور مراسيم بشأنها· كان ودودا مقنعا، فقد كان يصوغ الإحصاءات شعرا ويزف أحكام الموت ببلاغة ولم يكن له أعداء كثيرون على قيد الحياة وكان يتلون بلون السياسة القائمة وعاش حتى سن السادسة والثمانين، وهي فترة طويلة ليتعلم منها أن الحكومات تموت وكذلك الأفكار·
2 - جان - نيكولاس - بيلو - فارين Jean -Nicolas Billaud Varenne، في السابعة والثلاثين قدم البراهين على أن الكنسية الكاثوليكية هي أخطر أعداء الثورة على الإطلاق ولا بد من تدميرها· وقد احتفظ بصلاته مع أحياء باريس والكومون في تناغم تام، واتبع سياسات تتسم بالعناد والإلحاح مما جعل رفاقه في اللجنة (لجنة الأمن العام) يخافونه، وحمل مسئولية مراسلة المحافظات ورأس الجهاز الإداري الجديد، وكان في وقت من الأوقات "أقوى أعضاء اللجنة"·
3 - لازار كارنو Lazare Carnot، في الأربعين من عمره كان معروفا كعالم رياضيات ومهندس عسكري، أخذ على عاتقه الجيوش الفرنسية ورسم خرائط المعارك، وعلم الجنرالات ودربهم وكسب احتراما عاما لمقدرته واستقامته وهو الوحيد من بين أعضاء هذه اللجنة الذي لا يزال اسمه يحظى بالتكريم والتشريف في فرنسا كلها حتى اليوم·
4 - جان - مارى كولو دربوا Jean- Marie Collot d'Herbois، في الثالثة والأربعين، كان ممثلاً سابقا، وقد عانى من موقف الثورة التي كانت تعتبر المهن المسرحية لا تعطيه الأهلية الشرعية للترقي في مدارجها· ولم ينس أبدا أن البورجوازيين كانوا يغلقون أبوابهم في وجهه وأن الكنيسة قد أصدرت قرار الحرمان ضده بسبب مهنته، وكان أقسى أعضاء اللجنة الاثني عشر في التعامل مع أرستقراطية التجار aristocracy of merchants واقترح ذات مرة - كإجراء اقتصادي - نسف سجون باريس - المزدحمة بالمشكوك فيهم والمحتكرين والمتربحين - بالألغام (بمن فيها) ·(ملحق/148)
5 - جورج كوتو George Couthon، في الثامنة والثلاثين، أقعده الالتهاب السحائي فكان لا بد من حمله على مقعد أينما ذهب، وكان قد أفرط في الممارسات الجنسية في شبابه فأدى هذا إلى إصابته بالعلل لكن زوجته كانت تحبه، وكان طيب القلب حديدي الإرادة عرف عنه إدارته الإنسانية للمحافظات المحورية في أثناء عهد الإرهاب·
6 - مارى - جان هيرول دى سيشل Jean Hérault de Séchelles، في الرابعة والثلاثين وكان يبدو في غير موضعه ودرجته بين هؤلاء الاثني عشر (لجنة الاثني عشر أي لجنة الأمن العام التي نحن بصددها الآن) فقد كان أحد نبلاء الأرواب (نبيل بحكم المنصب الذي شغله) ومحامياً ثرياً، كان مرموقا لأناقته وسلوكه المهذب وعقله ذي النزعة الفولتيرية (كان متأثرا بفكر فولتير) · وعندما شعر بالمد الثوري يزداد انضم مع الذين هاجموا الباستيل وكتب معظم دستور سنة 1793 وعمل منفذاً لسياسات اللجنة في الألزاس Alsace فنفذها بصرامة، وعاش حياة مريحة مع خليلة نبيلة حتى قصت المقصلة رقبته في 5 أبريل سنة 1794 ·
7 - روبرت لند Robert Lindet، في السابعة والأربعين تولى أمر إنتاج الطعام وتوزيعه في ظل سياسة التوجيه الاقتصادي المتزايدة، وحاز إعجابا لجهوده في إطعام الجيوش الفرنسية وتقديم الكساء لها·
8 - كلود - أنطوان برييز - دوفيرنوا Claude Antoine Prieur - Duvernois، كان يسمى بريير ساحل الذهب the Cote d'Or، عمره ثلاثون سنة بذل جهودا مميزة - مثل روبرت لند - في تزويد الجيوش بالأغذية وغيرها من المواد اللازمة·
9 - بيير - لويس Pierre - Louis المعروف ببيير المارن The Marne ( الكلمة في المعاجم الفرنسية العربية تعني المَرِن أو السجيل أي خليط من جملة مواد)، كان في السابعة والعشرين من عمره، بذل كل جهده في محاولة كسب الكاثوليك والملكيين في محافظة بريتاني Brittany إلى جانب الثورة·(ملحق/149)
10 - أندريه جانبون سان أندريه Andre-Jeanbon Saint-Andre. في الرابعة والأربعين· من ذرية بروتستانتية ولكنه تلقى تعليما يسوعيا (جزويتيا) · أصبح قائدا (قبطانا) لسفينة تجارية ثم كاهنا بروتستانتيا وتولى مسئولية الأسطول الفرنسي في بريست Brest وخاض به معركة مع الأسطول البريطاني·
11 - لويس - أنطوان سان - جوست - Louis - Antoine Saint - Just، في السادسة والعشرين· وكان أكثر أعضاء اللجنة الإثنى عشر شبابا وغرابة، فهو الابن الإرهابي لعصر الإرهاب، إذ كان شديد الإيمان بالثورة إيمانا ثوريا انفعاليا غلابا لا يقهر· ربته في بيكاردي Picardy أم مطلقة فكان مدللا مطلقاً العنان لرغباته فرفض أي حكم أو ضوابط وهرب إلى باريس وأخذ معه فضة أمه وأنفقها على العاهرات وقبض عليه وأودع السجن ودرس القانون وكتب قصيدة جنسية من عشرين قسما (مكونة من عشرين مقطوعة) وكان مولعاً باغتصاب النساء خاصة الراهبات منهن، وكان يمجد اللهو واللذة باعتبارهما حقا مقدسا· وقد وجد في الثورة، في البداية تبريرا شرعيا ظاهرا لمذهبه في المتعة واللذة لكن مثلها العليا وغاياتها جعلته يسمو بفرديته ليتمسك بالفضائل الرومانية بطريقة جعلته على استعداد للتضحية بكل شيء لجعل هذه المثل العليا على أرض الواقع·(ملحق/150)
لقد تحول من الإبيقورية epicurean ( مذهب اللذة) إلى الرواقية stoic ( مذهب مجاراة الضرورة) لكنه ظل رومانسيا حتى النهاية· لقد كتب: "عندما يأتي اليوم الذي لا أستطيع فيه أن أهدي الشعب الفرنسي إلى طرق مناسبة وقوية وعقلية لا تنثني أمام الطغيان والظلم ·· ساعة تبين عجزي عن هذا سأطعن نفسي" وفي "المؤسسات الجمهورية Republican Institutions" (1791) قدم البراهين على أن تركز الثروة إنما هو سخرية من مَبْدَئي المساواة والحرية من الناحية السياسية والقانونية، فلا بد من تحديد الثروات وتوزيعها، ولا بد أن تقوم الحكومة على ملاك فلاحين وحرفيين مستقلين، ولا بد أن تمول الحكومة التعليم للجميع وتقدم إعانات للفقراء· ولا بد أن تكون القوانين قليلة ومختصرة ومفهومة "فالقوانين الطويلة مثل كوارث ومصائب عامة"، ولا بد أن تتولى الدولة تربية الأطفال كلهم بعد سن الخامسة ببساطة إسبرطية (لتعليمهم البساطة والجلد) ولتطعمهم الخضراوات ولتدربهم على القتال· والديمقراطية أمر طيب لكن الدكتاتورية أمر لازم وقت الحرب · وعندما تم انتخابه للجنة الأمن العام في 10 مايو سنة 1793 نذر نفسه للعمل الجاد المضني ورد على الشائعات التي ترددت باتخاذه عشيقة مع الزعم "بأنه مشغول جداً ولا وقت لديه لمثل هذه الرفاهية"·
وأصبح الشاب العنيد سريع الهياج متجهما صارما منضبطا ومنظما قديرا وجنرالا لا يهاب ومحققا للنصر· وعندما عاد منتصرا إلى باريس تم اختياره رئيساً للمؤتمر الوطني (19 فبراير 1794) ومع أنه كان فخورا معتزا بنفسه واثقا بها متسيداً على الآخرين إلا أنه قبل بتواضع قيادة روبيسبير ودافع عنه في هزيمته وصحبه إلى الموت وهو - أي سان جوست - في سن السادسة والعشرين وأحد عشر شهرا·(ملحق/151)
12 - روبيسبير لم يحل محل دانتون تماما كعقل حاكم مدبر وكشخص فارض إرادته على لجنة الأمن العام - الإثنا عشر ( The Twelve) فقد كان كل من كارنو وبيلو وكولو لديهم من الصرامة والشدة مما يعسر معه حكمهم، فلم يصبح روبيسبير أبدا دكتاتوراً· لقد كان يعمل من خلال دراسة متأنية صبورة وإستراتيجية مراوغة لا من خلال أوامر مباشرة (زعامة واضحة) وحافظ على شعبيته بين أفراد الطبقة الثالثة (السانس كولوت) فقد عاش عيشة بسيطة وراح يمدح الجماهير ويمجدها ويدافع عن مصالحها،
وفي 4 أبريل 1793 قدم للمؤتمر الوطني "الإعلان المقترح لحقوق الإنسان والمواطن":
"المجتمع ملزم بتقديم ما يقيم أود كل فرد فيه، سواء بإتاحة فرص العمل لهم أم بضمان وسائل العيش لغير القادرين على العمل···· فمن كان عنده فضل مال فليعد به على من لا مال له··· إنه لدين على القادرين أن يساعدوا من تنقصهم الضروريات· إن التخلص النهائي من الاستبداد يكون بمقاومة الظلم الذي يلبس لبوساً قانونيا (يأخذ شكلاً شرعيا) ··· والهيئات والمؤسسات التي لا تؤمن بأن الناس كلهم صالحون طيبون وأن الحكام والقضاة مرتشون فاسدون، هي هيئات أو مؤسسات كلها باطلة···فالناس في كل البلاد سواسية (إخوة) " ·
بالتأكيد لم يكن أعضاء لجنة الأمن العام الاثنا عشر كلهم مجرد قتلة أوغاد كما توحي بذلك النظرة السطحية· حقيقة أنهم اتبعوا باستعداد تام تراث الإرهاب وحذوا حذو ذلك التراث الذي كان قد وصل إليهم من الحروب الدينية ومذبحة 1572 فترة القديس بارثولوميو Bartholomew وكان معظمهم قد تعلم أن يعدم أعداءه من غير أن يتحرك ضميره بل وفي بعض الأحيان بلا وازع من فضيلة لكنهم كانوا يتذرعون بضرورات الحرب وأعرافها· وكانوا هم أنفسهم عرضة لهذا الحظ العاثر، فقد كان كل واحد منهم مهددا بالعزل وجز رقبته بالمقصلة، وبالفعل فقد حدث لعدد منهم هذا·(ملحق/152)
وكانوا في كل لحظة عرضه لسخط جماهير باريس أو الحرس الأهلي (الوطني) أو جنرال طموح، وكانت أي هزيمة كبرى على الحدود أو في المحافظات (الدوائر) المتمردة كفيلة بالإطاحة بهم· وفي الوقت نفسه فإنهم كانوا يعملون ليل نهار لإنجاز المهام الموكلة إليهم، فكان الواحد منهم يواظب من الثامنة صباحا حتى الظهر في مكتبه أو لجنته الفرعية (المنبثقة من اللجنة الأم- لجنة الأمن العام) ومن الساعة الواحدة حتى الرابعة يحضر جلسات المؤتمر الوطني، ومن الساعة الثامنة حتى وقت متأخر يدخل في مناقشات ومشاورات حول المنضدة الخضراء في غرفة اجتماعاتهم·
وعندما تولوا أمر فرنسا كانت البلاد تمزقها الحروب الأهلية بسبب الرأسمالية الطارئة في ليون وبسبب اضطرابات الجيرونديين في الجنوب وحروب الكاثوليك والملكيين في الغرب، وكانت الجيوش الأجنبية تهددها من الشمال الشرقي والشرق والجنوب الغربي، وكانت تعاني الهزيمة برا وبحرا وكانت موانئها كلها محاصرة، وعندما سقطت هذه اللجنة العظمى (الكبرى) كانت فرنسا قد أصبحت وحدة سياسية تحت مطارق الدكتاتورية والإرهاب وظهر جيل جديد من الجنرالات الشبان مدربين قادوا المعارك أحيانا فقد أحرز كارنو Carnot وسان جوست Saint - Just انتصارات حاسمة أجبرت الأعداء على التراجع، ووقفت فرنسا وحدها ضد أوروبا كلها تقريبا وظهرت منتصرة على كل شيء لكنها لم تنتصر على نفسها·
5 - عهد الإرهاب: من 17 سبتمبر 1793 إلى 28 يوليو 1794 م
THE REIGN OF TERROR
5/1 - الأرباب عِطاش. The Gods Are Athirst
كان الإرهاب هو السمة العامة المتكررة (منذ ظهور الثورة الفرنسية) وارتبط أيضا بفترة زمنية بعينها· وعهد الإرهاب يطلق اصطلاحا على الفترة الممتدة من صدور قانون المشتبه فيهم في 17 سبتمبر 1793 حتى إعدام روبيسبير في 28 يوليو 1794 لكن كان هناك قبل ذلك إرهاب سبتمبر 1792 وكان هناك ما يمكن تسميته "الإرهاب الأبيض White Terror " في مايو سنة 1795 وثمة إرهاب آخر سنجده بعد سقوط نابليون·(ملحق/153)
وكانت أسباب عهد الإرهاب الشهير (الفترة التي نتحدث عنها متمثلة في الأخطار الخارجية والفوضى الداخلية، مما أدى إلى خوف عام وشغب فظهرت الأحكام العرفية (قانون الطوارئ) فالتحالف الأوربي الأول كان قد أدى إلى إعادة الاستيلاء على مينز Mainz (23 يوليو) وغزو الألزاس، ودخول فالينسين Valenciennes على بعد مائة ميل من باريس، واستولت القوات الاسبانية على بيربينان Perpignan وبايون Bayonne وكانت القوات الفرنسية في حالة فوضى وكان جنرالاتها يجهلون أوامر حكومتهم· وفي 29 أغسطس سلم الملكيون للبريطانيين الأسطول الفرنسي وكذلك سلموهم القاعدة البحرية المهمة والترسانة في طولون Toulon، وحكمت بريطانيا الأمواج (تحكمت في البحار) واستولت بلا جهد على المستعمرات الفرنسية في قارات ثلاث، وتداول الحلفاء المنتصرون في: "تقطيع أوصال فرنسا وأعادوا الحقوق الإقطاعية للمناطق التي تقدموا فيها"·
وعلى الصعيد الداخلي بدت الثورة وقد انفرط عقدها فأهل فاندي Vendée كانوا يعملون بحماسة منقطعة النظير إلى جانب المناهضين للثورة، وهزم المتمردون الكاثوليك قوات الدولة في فيير Vihiers (18 يوليو) وراح الأرستقراطيون في الداخل والأرستقراطيون المهاجرون يخططون بثقة لإعادة الوضع كما كان قبل الثورة· وأيدت ليون وبورج Bourges ونيم ومرسيليا وبوردو ونانت وبريست Brest الجيرونديين الثوار (ضد الثورة)، وكانت الحرب الطبقية مُسْتَعِرة بين الأغنياء والفقراء·(ملحق/154)
وكان الاقتصاد نفسه ساحة حرب· فالنظام الذي تم وضعه لضبط الأسعار في 4 مايو و29 سبتمبر فشل بسبب براعة الجشعين، وفقراء المدن كانوا من أنصار التطرف الشديد (الاستيلاء على أموال الآخرين) وعارضهم الفلاحون والتجار، وشيئا فشيئا رفضوا - بشكل متزايد - إنتاج البضائع التي حددت أسعارها أو توزيعها، فراح ما يرد لمخازن المدن من الأسواق أو الحقول يتضاءل شيئا فشيئا ولم يعد يكفي سوى الأقلية التي تقف صفوفاً يوميا أمام أبواب هذه المخازن· واجتاح الخوف من المجاعة باريس والمدن الفرنسية الأخرى· ففي باريس وسينلي Senlis وأمين Amiens وروان Rouen كادت الجماهير تطيح بالسلطات الحاكمة اعتراضا منها على نقص الغذاء· وفي 25 يونيو قاد جاك رو Jacques Roux جماعته من الهائجين Enrages ( والترجمة الحرفية للكلمة هي الكلاب المسعورة) إلى المؤتمر الوطني وطالبوا بالقبض على المستغلين كلهم - الذين ذكر جاك رو من بينهم بعض أعضاء المؤتمر الوطني - وإجبارهم على التخلي عن ثرواتهم الجديدة (التي جمعوها باستغلال الموقف الاقتصادي في فرنسا) ·
"هذه الديمقراطية التي تدعونها ليست ديمقراطية لأنكم تسمحون بتكوين الثروات، فلم يجن سوى الأثرياء - خلال السنوات الأربع الأخيرة - ثمار الثورة· إنها الارستقراطية التجارية التي هي أكثر ظلماً لنا من النبلاء· إننا لا نرى حدا لاستغلالهم، فأسعار البضائع تزداد بشكل يثير الذعر·
لقد آن الأوان لمعركة حتى الموت بين المستغلين والعمال···· هل ممتلكات الأوغاد (السفلة) أكثر قداسة من حياة الإنسان؟ لا بد من إتاحة ضرورات الحياة وتوزيعها من قبل أجهزة إدارية تحت إشرافكم، تماما كما أن القوات المسلحة تحت إشرافكم، فلن يكون كافيا تحصيل ضريبة من الأثرياء طالما أن النظام لم يتغير، لأن الرأسماليين والتجار سيرفعون في اليوم التالي الأسعار ليستردوا المبلغ الذي دفعوه كضريبة من السانس كولوت (الشريحة الدنيا من الطبقة الثالثة) ··· إذا لم يتم تدمير الاحتكاريين وقوى الاستغلال فلا حل "·(ملحق/155)
وأدان جاك هيبير Jacques Hebert البورجوازيين باعتبارهم المخططين للثورة - بعبارات أقل جنوحا نحو الشيوعية - وحث العمال على الاستيلاء على السلطة من الحكومة المهملة أو المتسمة بالجبن· وفي 30 أغسطس نطق واحد من النواب بالعبارة السحرية: "فليكن الإرهاب هو نظام هذه الأيام" · وفي 5 سبتمبر أتت جماهير من الأحياء تهتف: "الحرب على الطغاة وخازني البضائع (لمنعها عن الناس) والأرستقراطيين" واتجهت إلى مقر الكومون في دار البلدية، فصحب رئيس البلدية - جان جولوم بيش Jean - Guillaume Pache - ووكيل المدينة - بيير شومت Pierre Chaumette - مفوّضين عن الجماهير المتظاهرة واتجهوا جميعا إلى المؤتمر الوطني وطالبوا بجيش ثوري يطوف فرنسا ومعه مقصلة للقبض على الجيرونديين وإجبار كل فلاح لتسليم منتجاته المخزونة وإلا جرى إعدامه في المكان نفسه ·
وفي هذا الجو الذي يخيم فيه شبح الغزو الأجنبي، وشبح الثورة داخل الثورة - كونت لجنة الأمن العام الجيوش الفرنسية وقادتها للنصر، وكانت هي آلة الإرهاب (جهاز الرعب) التي كوت بنارها أمة شديدة الاضطراب فوحدتها·
وفي 23 أغسطس، وبناء على خطط جسورة وضعها كارنو Carnot وبارير Barere - أمر المؤتمر الوطني بتجنيد جيش شعبي بطريقة عفوية ينضم إليه الفرنسيون Levy en masse، لا نظير له في تاريخ فرنسا:
"من الآن وحتى يتم طرد أعداء الجمهورية الفرنسية من أراضيها، الفرنسيون كلهم مطلوبون بشكل دائم للخدمة في قواتها المسلحة، فالشباب سيذهبون للقتال والمتزوجون سوف يعدون السلاح وينقلون الطعام والنسوة سيعددن الخيام والملابس ويخدمن في المستشفيات، وكبار السن سينتقلون إلى أماكن التجمع لبث الشجاعة في المقاتلين ويدعون لكراهية الملوك ويحثون على وحدة الأمة"·
كل غير المتزوجين من سن الثامنة عشرة إلى الخامسة والعشرين تم تنظيمهم في كتائب ترفرف عليها أعلام كتب عليها: "الشعب الفرنسي يتصدى للطغاة"·(ملحق/156)
وسرعان ما تحولت باريس إلى مؤسسة نابضة لصناعة السلاح، وامتلأت حدائق قصر التوليري ولكسمبرج Luxembourg بالمحلات التي تنتج نحو 650 بندقية في اليوم بالإضافة إلى مواد أخرى· وانتهت البطالة وصودرت الأسلحة الشخصية والمعادن والملابس الزائدة عن الحاجة، ووضعت آلاف المطاحن تحت إشراف الدولة· لقد صودرت رؤوس الأموال والعمل، واقترضت الحكومة - بالضغط من الموسرين بليون جنيه (ليفر - Livres) ، وحددت الحكومة الأسعار وحددت للمتعاقدين معها ما ينتجون· وهكذا أصبحت فرنسا بين عشية وضحاها دولة شمولية totalitarian state·
وكان لا بد من الحصول من تربة فرنسا المحاصرة من كل ناحية وفي كل ميناء - على النحاس والحديد والملح الصخري (نترات البوتاسيوم والصوديوم) والبوتاس والصودا والكبريت، وكان الاعتماد جزئيا فيما سبق على الاستيراد للحصول على بعض هذه المواد· ومن حسن الحظ أن قام الكيميائي لافوازيه (الذي سرعان ما قصت المقصلة رقبته) في سنة 1775 بتحسين نوعية البارود وزيادة إنتاجه، فكان لدى الجيوش الفرنسية بارود من نوعية أفضل مما لدى أعدائهم وتم استدعاء علماء مثل مونج Monge وبيرثولية Berthollet وفوركروي Fourcroy لتدبير إمدادات من المواد التي دعت الحاجة إليها أو اختراع بدائل لها، وكان هؤلاء العلماء هم الأعلام في مجال دراساتهم في ذلك الوقت وقد أدوا خدمات جيدة لبلادهم·
وفي نهاية سبتمبر كان لدى فرنسا 500,000 مجند كانت معداتهم غير كافية، وكان تنظيمهم بائسا وكانت روحهم يعتريها التردد فلا أحد يتحمس وهو مقبل على الموت سوى القديسين· والآن ولأول مرة أصبحت الدعاية (البروباجندا propaganda) صناعة حكومية (صناعة من صناعات الدولة) تكاد تكون حكراً عليها، فدفع وزير الحرب جان - بابتست بورشوت Jean - Baptiste Bourchotte أموالاً للصحف لتقدم موضوعات عن حالة الأمة وأوصى القائمين عليها بتوزيع نسخ من هذه الصحف في معسكرات الجيش، فلم يكن هناك - إلا القليل - من يقرأها في أي مكان آخر (غير معسكرات الجيش) وذهب أعضاء من اللجنة أو ممثلون عنهم إلى جبهة القتال لإلقاء الخطب الرنانة في الجنود ولمراقبة الجنرالات·(ملحق/157)
وفي أول اشتباك مهم في المعركة الجديدة - في هوندشوت Hondschoote في 6 - 8 سبتمبر - مع قوات بريطانية ونمساوية كان ديبرل Debrel مبعوث اللجنة هو الذي حول الهزيمة إلى نصر بعد أن كان الجنرال هوشار (أوشار Houchard) قد اقترح انسحاب القوات الفرنسية· ولهذا، ولأخطاء أخرى جرى إرسال هذا المقاتل العجوز لتجز المقصلة رقبته في 14 نوفمبر سنة 1793 · وسجن اثنان وعشرون جنرالا - كلهم تقريبا من بقايا النظام القديم - لأخطاء وقعوا فيها أو لعدم مبالاتهم أو لإهمالهم تعليمات اللجنة· أما الشباب الذين نشأتهم الثورة فقد تبوءوا مكانتهم - رجال مثل هوش Hoche وبيشجرو Pichegru وجوردا Jourdan ومورو Moreau الذي كان أهم من نفذ سياسة كارنو القاضية بالهجوم المتواصل، ففي واتجنز Wattignies في 16 أكتوبر عندما واجه 50,000 مجند فرنسي جديد 65,000 نمساوي حمل كارنو ذو الأربعين عاما بندقيته على كتفه وخاض هو ورجال جوردا المعركة· حقيقة إن النصر الذي حقَّقوه لم يكن حاسما لكنه رفع من معنويات جيوش الثورة ودعم من سلطة اللجنة (لجنة الأمن العام) ·
وفي 17 سبتمبر أقر المؤتمر الوطني المطيع (المقصود المذعن للجنة الأمن العام) قانون الاشتباه مخولاً اللجنة أو من ينوب عنها القبض على أي مهاجر عائد إلى فرنسا (المهاجرون هم الذين تركوا فرنسا إثر أحداث الثورة) وأي قريب لهذا المهاجر وأي موظف عام موضع شك ولا يعاد إلى وظيفته مرة أخرى، وأي شخص تبدر منه أية إشارة تفيد مقاومة الثورة أو معارضة الحق، ويحق للجنة أو من تنيبه عنها أن يقبض على أي من المذكورين آنفا دون سابق إنذار أو تحذير· لقد كان هذا (قانون الاشتباه) قانونا قاسيا فقد فرض على الجميع - باستثناء الثوريين المعروفين - أن يعيشوا في خوف دائم من القبض عليهم أو حتى من قتلهم، وكان من بين هؤلاء الذين أصابهم الرعب الكاثوليك كلهم تقريبا والبورجوازيون كلهم·(ملحق/158)
ووافق بعض المهاجرين (الذين كانوا قد تركوا فرنسا عقب أحداث الثورة) لجنة الأمن العام "الإثني عشر the Twelve" على أن استخدام الرعب والخوف من الأمور الشرعية المباحة التي يحق لنظام الحكم استخدامها في الظروف الحرجة· وفي سنة 1792 كتب الكونت مونتمورين Montmorin وزير الخارجية السابق في ظل حكم لويس السادس عشر: "أعتقد أنه من الضروري معاقبة أهل باريس بالإرهاب" وقدم الكونت فلاشلاندر Flachslander الأدلة على أن المقاومة الفرنسية للحلفاء "ستستمر حتى يتم ذبح المؤتمر الوطني" وعلق واحد من سكرتارية ملك بروسيا على موقف المهاجرين: "إن لغتهم مرعبة· فإذا كنا مستعدين للتخلية بينهم وبين مواطنيهم ليثأروا منهم، فسرعان ما ستصبح فرنسا مقبرة رهيبة لا أكثر"·
لقد واجه المؤتمر الوطني خيارا بين الإرهاب والرحمة في قضية ملكة فرنسا· لقد نحى جانبا تبذيرها وإسرافها في المرحلة الأولى، وتدخلها في شئون الدولة وعدم استساغتها لجمهور باريس وكان هذا معروفاً عنها (وهي إهانة تستحق عليها الإعدام بجدارة)، فبصرف النظر عن ذلك كله فقد كان من المؤكد أنها اتصلت بالمهاجرين والحكومات الأجنبية لإيقاف الثورة وإعادة السلطات التقليدية إلى العرش الفرنسي، وكان رأيها أنها بفعلها هذا إنما هي تمارس حقا إنسانيا في الدفاع عن النفس، أما متهموها فاعتبروا أنها بفعلها هذا انتهكت القوانين التي أقرها نواب الأمة المنتخبون، وبذا فهي قد اقترفت خيانة· وكان من الواضح أنها أفشت لأعداء فرنسا بالمشاورات التي جرت في المجلس الملكي بل وأفشت لهم الخطط الحربية لجيوش فرنسا·
وقد أنجبت من لويس السادس عشر أربعة أطفال مارى تريز(ملحق/159)
وهي الآن في الخامسة عشرة من عمرها، وابن مات في مرحلة الطفولة، وابن ثان مات في سنة 1789، وطفل ثالث هو لويس - تشارلز هو الآن في الثامنة من عمره واعتبر هو لويس السابع عشر، وكانت ابنة الملكة وأخت زوجها (إليزابيث) تعاوناها في العناية بالطفل الذي راحت تنظر إليه بقلق ومن ثم بيأس لتدهور صحته وحالته المعنوية، بسبب طول فترة احتجازه· وفي مارس سنة 1793 عرضت عليها خطة للهروب لكنها رفضت لأن الخطة تتطلب ترك أطفالها · وعندما علمت الحكومة بهذه الخطة التي لم تنفذ نقلت ابن الملكة ونزعته منها رغم مقاومتها وأبعدته عن أقربائه، وفي أغسطس سنة 1793 - بعد عام من السجن في سجن التمبل Temple تم نقل الملكة وابنتها وأخت زوجها إلى غرفة في مسكن البواب (الكونسيرجيري Conciergerie) ذلك القسم من قصر العدل الذين كان يشغله قبل ذلك مشرف المبنى· وهناك راحوا يعاملون هذه الأرملة Widow Capet - كما كانوا يسمونها - برقة أفضل من ذي قبل بل إنهم أرسلوا لها قسا ليرتل القداس في زنزانتها· وفي آخر هذا الشهر وافقت على محاولة أخرى لتهريبها، وفشلت المحاولة فنقلوها إلى غرفة أخرى ووضعوها تحت مراقبة وحراسة مشددتين·
وفي 2 سبتمبر اجتمعت اللجنة لتقرير مصيرها، وكان بعض الأعضاء إلى جانب الاحتفاظ بحياتها للمساومة عليها مع النمسا مقابل سلام مقبول، أما بارير Barere وسان أندرية Saint-Andre فدعوا إلى إعدامها لأن هذا وسيلة لتوحيد الموقعين على الحكم وربطهم بميثاق الدم· أما هيبير Hebert عضو الكومون، فقال للجنة "الإثني عشر": "إنني باسمكم وعدت العامة (السانس كولوت) برأس مارى أنطوانيت، وهم (العامة) غاضبون ساخطون يطالبون بها، وأنتم لا تستطيعون الاحتفاظ بمقاعدكم بل ووجودكم دون دعم منهم·· إنني سأذهب وأقطع رأسها بنفسي إذا كان علي أن انتظر كثيرا لتسلّم هذا الرأس" ·(ملحق/160)
وفي 12 أكتوبر جرى تحقيق مبدئي مطول مع الملكة، وفي 14 و15 أكتوبر حوكمت أمام المحكمة الثورية، وكان المدعي العام هو فوكييه - تينفيل Fouquier-Tinville، وظلت الأسئلة توجه لها من الساعة الثامنة صباحا حتى الرابعة، ومن الساعة الخامسة حتى الحادية عشر مساء، وذلك في اليوم الأول للمحاكمة ومن الساعة التاسعة صباحا إلى الثالثة، في اليوم الثاني من المحاكمة· لقد أتهمت بتحويل ملايين الفرنكات من الخزانة الفرنسية لأخيها جوزيف الثاني إمبراطور النمسا ودعوة القوات الأجنبية لغزو فرنسا، وكان هناك افتراض - أكد إلى بعيد - أنها حاولت أن تفسد "ابنها جنسيا"· وكان هذا الاتهام الأخير هو الاتهام الوحيد الذي لم يثرها فقد أجابت: "إن الطبيعة ذاتها ترفض أن ترد على مثل هذه التهمة (تعيرها اهتماما) الموجهة إلى أم، إنني أستغيث بكل الأمهات الموجودات هنا"·
لقد تأثر الجمهور الحاضر بمنظر هذه المرأة التي كان جمالها وشبابها ومرحها في وقت من الأوقات حديث أوروبا، أما الآن فقد اشتعل رأسها شيبا وهي في الثامنة والثلاثين من عمرها مرتدية ملابس الحداد بعد إعدام زوجها، وراحت تناضل دفاعاً عن حياتها أمام رجال كانوا قد انتهوا - كما هو واضح - إلى قرار بتحطيم روحها وتعذيبها بإطالة فترة المحاكمة بلا رحمة لتذهب نفسها حسرات قبل تدمير جسدها· وعندما انتهت المحاكمة أصابها العمى لفرط الإرهاق وكان لا بد من مساعدتها لتتخذ طريقها إلى زنزانتها، وهناك علمت أن قرار المحلفين هو الحكم عليها بالموت·
والآن فإنها كتبت في محبسها الانفرادي خطاب وداع لمدام إليزابيث طالبة منها أن تنقل لابنها وابنتها التوجيهات التي تركها أبوهما الملك· لقد كتبت: "إن ابني يجب ألا ينسى كلمات أبيه الأخيرة والتي طالما كررتها على مسامعه وهي قوله: لا تعمل أبداً على الثأر لمقتلي" ·
ولم يسلم الخطاب إلى مدام إليزابيث فقد سلمه - بعد أن استولى عليه - فوكييه - تينفيل إلى روبيسبير، وتم العثور عليه ضمن أوراقه السرية بعد موته·(ملحق/161)
وفي صباح 16 أكتوبر 1793 أقبل المنفذ (الجلاد) هنرى سانسون Henry Sanson إلى زنزانتها وعقد يديها خلف ظهرها وفض شعرها الذي يغطى رقبتها وحملها في عربة مرت على طول شارع يحفه الجنود والجموع التي كانت قبل ذلك معادية لها هازئة بها إلى أن وصلت إلى ميدان الثورة· وعند الظهر عرض سانسون على الجموع رأسها العنيد·
إن المحكمة الثورية الآن قد أنست إلى عملها، راحت تصدر أحكام الموت بمعدل سبعة أحكام في اليوم، لقد تم القبض على الأرستقراطيين الذين تيسر القبض عليهم وتم إعدام كثيرين منهم، وفي 24 أكتوبر أحيل الواحد والعشرون جيرونديا الذين كانوا تحت الحراسة منذ 2 يونيو، إلى المحاكمة، فلم تغن عنهم بلاغة فيرنيو وبيسو Vergniaud &Brissot شيئاً، وطعن واحد منهم نفسه بينما هو يغادر المحكمة فوضعت جثته بين المتهمين وحملت في عربة إلى سقالة المقصلة حيث هوى النصل المحايد (الذي لا يميز بين حي وميت) على رقبته (رقبة الجثة) · إن الثورة - فيما قال فيرنيو Vergniaud " مثل ساتورن Saturn تفترس أبناءها" ·
لنضع في اعتبارنا هذا الحنق وذلك الرعب اللذين سببتهما هذه الأحداث والتي لا بد أنها قد تغلغت في أعماق مانون رولا Manon Roland التي تنتظر مصيرها في غرفة البواب (الكونسيرجيري) التي أصبحت هي المنطلق أو العتبة الأخيرة إلى المقصلة· وقد كانت تلاقي في سجنها بعض المتع والكياسة فقد كان أصدقاؤها يحضرون لها الكتب والزهور، فجمعت في زنزانتها مكتبة تدور في غالبها حول بلوتارخ وتاسيتوس Tacitus ( الخطيب والمؤرخ الروماني)، ولأن موقفها كان أقوى فقد راحت تشغل نفسها بكتابة مذكراتها التي أطلقت عليها "دعوة لأجيال غير منحازة" كما لو أن الأجيال أيضا لا يمكن تقسيمها، وبينما كانت تكتب ذكريات شبابها في أيام السعادة tempi felici تعمق لديها الشعور بمرارة حاضرها · لقد كتبت في 28 أغسطس سنة 1793:(ملحق/162)
"أشعر أنني فقدت الرغبة في متابعة هذه المذكرات · فالبؤس الذي يعانيه وطني يعذبني، إن كآبة تتغلغل في روحي رغم إرادتي فتشل خيالي، فقد أصبحت فرنسا جلجوثا Golgotha واسعة (ساحة إعدام) ·· لقد أصبحت ميدانا للإرهاب وأصبح أطفالها يبكون ويدمر بعضهم بعضا ··· لا يستطيع التاريخ أن يصور هذه الأيام المرعبة، ولا الغيلان التي تملأها ومن معها (مع الغيلان) من برابرة ··· أكانت باريس يوما مثل روما أو بابل؟ "·
وتنبأت أن دورها سيحين حالا فقد كتبت في مذكراتها المخطوطة كلمة وداع لزوجها وعشيقها اللذين هربا من الشرك الذي أعدّ لهما:
"آه يا صديقي، ربما قادكما قدركما الملائم السمح إلى الولايات المتحدة الملاذ الوحيد للحرية ·· وأنت يا زوجي وصديقي قد اعتراك الضعف فقد صرت عجوزا قبل الأوان وتملصت من القتلة بصعوبة، أيسمح لي أن أراك مرة أخرى؟ ··· إلى متى يجب أن أبقى شاهدة على خراب بلادي وانحطاط مواطني؟ " ·
ولم يطل الانتظار ففي 8 نوفمبر سنة 1793 مثلت أمام المحكمة الثورية ووجهت إليها تهمة الاشتراك مع رولان في إساءة استخدام الميزانية العامة وإرسالها خطابات من زنزانتها لتشجيع باربارو Barbaroux وبوزو Buzot اللذين كانا في ذلك الوقت يثيران التمرد على سيطرة اليعاقبة على المؤتمر الوطني، وعندما تحدثت مدافعة عن نفسها اتهمها الحضور (المشاهدون) الذين تم اختيارهم بعناية بأنها خائنة· وصدر الحكم بأنها مذنبة وتم إعدامها بالمقصلة في اليوم نفسه في ميدان الثورة · وثمة رواية غير مؤكده تفيد أنها نظرت إلى تمثال الحرية الذي أقامه ديفيد في الميدان المهيب، وصاحت: " آه أيتها الحرية كم من الجرائم ترتكب باسمك! " ·(ملحق/163)
وتبعها إلى المقصلة موكب من الثوريين، ففي 10 نوفمبر أتى دور باييه Bailly رئيس البلدية والفلكي الذي كان قد قدم شارة الثورة الحمراء للملك وكان قد أمر الحرس الوطني بإطلاق النار على مقدمي الالتماسات في غير الوقت المحدد في معسكر دي مارس. وفي 12 نوفمبر هوت المقصلة على فيليب مساواه Philippe Egalite، ولم يفهم لم رغب الجبليون (اليسار) في إرسال مثل هذا الحليف المخلص إلى المقصلة! إن السبب هو أن الدماء الملكية تجرى في عروقه وأنه كان يتلهف للوصول للعرش · من الذي يستطيع أن يقول إن هذه الرغبة الملحة يمكن أن تعتريه مرة أخرى؟، وفي 29 نوفمبر أتى دور أنطوان بارنيف Antoine Barnave الذي سبق له أن حاول حماية الملكة ثم أتى دور الجنرالات كوستين Custine وهوشار أو شار Houchard وبيرو Biron ... الخ ·
وبعد أن شكر رولان Roland أصدقاءه الذين خاطروا بحياتهم لحمايته تابع مسيرته وحيدا، وفي 16 نوفمبر جلس إزاء شجرة وكتب كلمة وداع: "ليس الخوف هو الذي دفعني للتراجع وإنما هي السخط والنقمة، فعندما علمت بقتل زوجتي لم أعد أرغب في البقاء أكثر من ذلك على أرض لوثتها الجرائم" · ثم طعن نفسه بسيفه، أما كوندورسيه Condorcet فبعد أن كتب أنشودة الشكر أو التسبيح (دعاء ديني) ليواصل طريقه تناول السم (28 مارس سنة 1794) أما باربارو Barbaroux فأطلق النار على نفسه فلم يفلح في قتل نفسه فقامت المقصلة بما عجز عنه في 15 يونيو · أما بتيو Pétion وبوزو Buzot فقد جد ممثلو الحكومة في إثرهما، فانتحرا في حقل بالقرب من بوردو Bordeaux، وتم العثور على جثتيهما في 18 يونيو، وقد نهشتهما الذئاب فلم يبق من كل جثة إلا نصفها ·
5/ 2 - الإرهاب في الدوائر (المحافظات)(ملحق/164)
كان هناك جيرونديون Girondins آخرون لا يزال كل واحد منهم يحمل رأسه، وحققوا في بعض المدن مثل بوردو Bordeaux وليون Lyons مكانة عالية وأصبح لهم اليد الطولي، فشعر اليعاقبة Jacobin بضرورة استئصالهم لتكون فرنسا موحده ويعقوبية وهذا يتطلب مد حركتهم إلى الدوائر (المحافظات) المكتفية ذاتيا · ولهذا الغرض وأغراض أخرى، أرسلت لجنة ا لأمن العام ممثلين مبعوثين عنها وتكاد تكون قد خولتهم بكل الصلاحيات والسلطات المطلقة المخولة إليها في كل المناطق المحددة لهم، فلهم الحق في عزل المسئولين المنتخبين وتعيين آخرين محلهم، والقبض على المشتبه فيهم، وإعداد الرجال للالتحاق بالجيش وفرض الضرائب وضبط الأسعار وتحديد مبلغ القروض المطلوبة ومصادرة المؤن والملابس وغيرهما من المواد وتشكيل لجان محلية للأمن العام أو إقرارها لتكون كوكيل للجنة الكبرى (لجنة الأمن العام المركزية في باريس) وحقق ممثلو اللجنة هؤلاء معجزة التنظيم الثوري والعسكري، في وسط شبه معاد أو لا مبال· لقد قمع هؤلاء الممثلون المعارضة بلا رحمة بل بإفراط في الحماس في بعض الأحيان·
وكان أكثر هؤلاء الممثلين نجاحا هو سان جوست Saint - Just، ففي 17 أكتوبر سنة 1793 تم إرساله مع جوزيف ليباس Joseph Lebas ( الذي ترك له القيادة عن رضى) لإنقاذ الألزاس Alsace من الغزو النمساوي الذي اجتاح بسرعة منطقة ذات طبيعة ألمانية إذا تسود فيها اللغة الألمانية والآداب الألمانية ونمط الحياة الألماني، وأجبر الجيش الفرنسي المعروف بجيش الراين على التراجع إلى ستراسبورج وسادت فيه روح الهزيمة والتمرد ·(ملحق/165)
وعلم سان - جوست Saint - Just أن القوات الفرنسية كانت تعامل معاملة سيئة متسمة بروح الاستبداد وأن قيادتها كانت سيئة وربما ضللها ضباط غير متحمسين للثورة بما فيه الكفاية، فأمر بإعدام سبعة من هؤلاء الضباط أمام القوات العسكرية المتجمعة، واستمع إلى المظالم باهتمام وأزال أسبابها بحسم مميز، وصادر من الطبقات الموسرة كل ما هو فائض عن حاجتها من الأحذية والسترات والمعاطف والقبعات ومن 193 ثري من أثرياء المدينة جبي تسعة ملايين جنيه Livres وطرد من الخدمة الموظفين غير الأكفاء أو اللامبالين، وأمر بإطلاق النار على المستغلين الذين ثبت استغلالهم · وعندما التقى الجيش الفرنسي بالنمساويين مرة أخرى تم طرد الغزاة (النمساويين) من الألزاس Alsace الذي أعيد إلى السيطرة الفرنسية · وعاد سان - جوست إلى باريس راغبا في أداء أعمال أخرى والقيام بمهام جديدة وكاد ينسى أنه كان قد ارتبط بأخت ليباس Labas ·
أما جوزيف لوبون Joseph Le bon فلم يسلك السلوك الذي يتطلبه عمله كمندوب ممثل للجنة الأمن العام، فحذره موظفوه ليحذر من: "الطبيعة البشرية الزائفة والمعرضة للخطأ"، وظن الرجل ذو العينين الزرقاوين أنه يسعدهم بتقليص عدد 150 كمبري Cambrai مرموق في غضون ستة أسابيع، و392 في آراس Arras، وكتبت السكرتارية التابعة له تقريرا ذكرت فيه أن لوبون قتلهم بطريقة محمومة وعندما وصل إلى منزله راح يقلد تقلصات الوجه التي كانت تبدر من الموتى ليسلي زوجته · وسرعان ما قصت المقصلة رقبته بعد ذلك بقليل في سنة 1795 ·
وفي يوليو سنة 1793 انتدب جان - بابتست كارييه Jean-Baptiste Carrier لقمع التمرد الكاثوليكي في الفندي the Vendée وليؤمن نانت حتى لا يحدث فيها مزيد من التمرد وشرح له عضو اللجنة الكبرى (لجنة الأمن العام) هيرول دى سيشل Hérault de Séchelles مهمته قائلا: "يمكننا أن نكون إنسانيين عندما نتأكد من النصر" فكان هذا القول ملهما لهيرول · ففي لحظة حماس فرضتها ظروف فرنسا البيئية، أعلن أن فرنسا لا تستطيع أن تطعم سكانها الذين يتزايد عددهم بسرعة لذا فمن المطلوب تقليص هذه الزيادة بقطع رقاب النبلاء والقسس والتجار والحكام magistrates كلهم·(ملحق/166)
وفي نانت Nantes اعترض على المحاكمات باعتبارها من قبيل تضييع الوقت فأمر القاضي "بضرورة إعدام المشتبه فيهم كلهم في ظرف ساعتين وإلا أمرت بإطلاق الرصاص عليك وعلى زملائك" · ولأن السجون في نانت Nantes كانت في غالبها مزدحمة إلى حد الاختناق بالمقبوض عليهم والمدانين وكان هناك نقص في الطعام فقد أمر مساعديه بملء البوارج (السفن الكبيرة) والطوافات (نوع من السفن) وغيرها من السفن بخمسمائة رجل وامرأة وطفل - معطيا الأولوية للقسس - وإغراقهم في نهر اللوار Loire·
وبهذه الوسيلة وغيرها قرر مصير أربعة آلاف من غير المرغوب فيهم في غضون أربعة أشهر· وأقنع نفسه بأن هذا ضروري على وفق قوانين الحرب· وكان الفينديين (أهل الفيندى) the vendéans في حالة تمرد مصممين على معاداة الثورة حتى الموت، فقال: "سنجعل من فرنسا مقبرة إذا لم نستمر في طريقنا" وكان على اللجنة الكبرى (لجنة الأمن العام في باريس) أن تكبح جماحه فهددته بالقبض عليه لكنه لم يخف وقال: "على أية حال فإننا جميعا ستذبحنا المقصلة واحدا إثر الآخر"·
وفي نوفمبر سنة 1794 قدم للمحكمة الثورية، وفي 16 ديسمبر تحققت نبوءته فجزت المقصلة رقبته·
وصبغ ستانسلاس فريرو Stanislas Fréron ( ابن عدو فولتير المفضّل) وغيره من ممثلي اللجنة نهرى الرون والفار Var بدماء غير الموالين للثورة· 120 في مرسيليا، 282 في طولون و332 في أورنج Orange. وعلى النقيض من ذلك كان جورج كوثو Georges Cothon قد تجلت صفة الرحمة في بعثته لجمع متطوعين للجيش في دائرة (محافظة) بيى - دي - دوم Puy-de-Dome · وفي كليرمونت - فران Clermont-Ferrand أعاد تنظيم الصناعات من خلال التركيز على إنتاج المواد للأفواج الجديدة· وعندما رأى المواطنون أنه يمارس سلطاته بعدل وإنسانية أحبوه حتى أنهم راحوا - بالتناوب - يحملونه وهو فوق كرسيه · وفي أثناء بعثته لم يعدم أحد على وفق "العدالة الثورية" ·(ملحق/167)
أما جوزيف فوشي Joseph Fouche الذي كان في وقت من الاوقات أستاذا للغة اللاتينية والفيزياء، فهو يبلغ الآن الرابعة والثلاثين من عمره، ولم يكن حتى الآن: "أمهر الرجال الذين قابلتهم أبداً" على حد تعبير بلزاك Balzac · لقد بدا كرجل خلق للتآمر والخداع: "هزيل بارز العظام مذموم الشفتين حاد العينين، مدبب الأنف كتوم صامت رزين صارم" · وكان عليه أن ينافس تاليران Talleyrand في سرعة التحول والمراوغة من أجل البقاء· ومن خلال الملاحظات الظاهرية، فهو رب أسرة ملتزم معتدل في عاداته ومسلكه كما كان في الوقت نفسه جسورا في أفكاره ·
وفي سنة 1792 تم انتخابه للمؤتمر الوطني عن نانت Nantes · وفي البداية جلس مع الجيرونديين وصوت معهم، ثم انتقل إلى الجبليين (اليساريين) بعد أن تنبأ في نفسه بسقوط الجيرونديين وسيادة باريس وأصدر نشرة يدعو فيها الثورة للانتقال من مرحلة البورجوازية إلى المرحلة البروليتارية· ولتطوير الحرب والسير بها قدما قدم البراهين على ضرورة أن تقوم الحكومة "بالاستيلاء على كل شيء يزيد عن حاجة المواطنين، لأن ما هو زائد عن الضرورة (الفَضْل) إن هو إلا انتهاك واضح غير مسوغ لحقوق الشعب" فلا بد من مصادرة كل الذهب والفضة حتى تنتهي الحرب · "إننا سنكون مزعجين قاصرين في ملء السلطة المخولة لنا· فلا وقت لأنصاف الحلول ···· ساعدونا لتوجيه لكمات قوية" ·
وباعتباره ممثلا للجنة الأمن العام في محافظة لوار Loire الأدنى خاصة في نيفير Nevers ومولين Moulins وفوشي - فتح النار على الملكية الخاصة، فاستطاع بمصادرة الأموال والمعادن النفيسة والأسلحة والملابس والطعام أن يجهز عشرة آلاف متطوع كان قد أدرجهم في قوائم المجندين الجدد· لقد نهب الكنائس وجردها مما بها من أوعية القربان المقدس المصنوعة من الذهب والفضة ومن الشمعدانات والأواني وأرسلها إلى المؤتمر الوطني ووجدت اللجنة (لجنة الأمن العام) أنه من غير المفيد معارضة حماسته واعتبرته الرجل المناسب لمساعدة كولو دربوا Collot d'Herbois في إعادة ليون Lyons إلى حظيرة العقيدة الثورية·(ملحق/168)
لقد كانت ليون تكاد تكون عاصمة الرأسمالية الفرنسية فمن بين سكانها البالغ عددهم 13,000 كان هناك ماليون ذوو صلات بأنحاء فرنسا كلها وتجار يتعاملون مع أسواق أوربا كلها وأصحاب صناعات يتحكمون في مئات المصانع، وعدد كبير من البرولتياريا، كانوا يحسدون برولتيارية باريس التي كادت تستولي على الحكم· وفي بداية سنة 1793 وتحت قيادة القس السابق (المطرود من رحمة الكنيسة) ماري جوزيف كالييه Marie - Joseph Chalier حققوا نصرا مشابها، لكن الدين أثبت أنه أقوى من الطبقة (الانتماء للدين أقوى من الانتماء للطبقة) فقد ظل نصف العمال على الأقل كاثوليكيا واعترضوا بامتعاض على سياسة اليعاقبة المناهضة للمسيحية وعندما عبأت البورجوازية قواها المختلفة ضد دكتاتورية البرولتياريا انقسم العمال وطرد تحالف رجال الأعمال والملكيين والجيرونديين الحكومة الراديكالية وتم إعدام كالييه ومائتين من أتباعه (في 6 يوليو سنة 1793) وغادر آلاف العاملين المدينة واستقروا في الضواحي والمناطق المحيطة بها وراحوا ينتظرون التحول الثوري التالي·
وأرسلت لجنة الأمن العام جيشا للإطاحة بالرأسماليين المنتصرين وأقبل كوثو Couthon مقطوع الساق من كليرمونت لقيادة هذا الجيش · وفي 9 أكتوبر شق طريقه إليها وأعاد تأسيس الحكم اليعقوبي بها· وظن كوثو أن سياسة الرحمة مطلوبة في مدينة يعتمد سكانها إلى حد كبير على التشغيل المستمر للمصانع والمحلات لكن لجنة الأمن العام في باريس كان لها رأى مخالف، فطرح الأمر في المؤتمر الوطني في 21 أكتوبر وتم إرسال توجيه إلى كوثو · توجيه صاغه روبيسبير مطالبا بالثأر لمقتل كالييه والمائتين من الراديكاليين الذين جرى قتلهم· نقرأ في جزء من هذا التوجيه:
"ستدمر مدنية ليون. لا بد من تدمير سكانها الأثرياء كلهم··· وسيمحى اسم ليون من قائمة المدن الجمهورية ···· وما سيبقى من منازلها سيطلق عليها اسم المدينة المحررة Ville Affranchisèe، وسيقام بين أطلال ليون عمود ليذكر الأجيال القادمة بالجرائم التي ارتكبت بالعقاب الذي حاق بالملكيين "·(ملحق/169)
ولم يستسغ كوثو المهمة التي أوكلت إليه لقد أدان تدمير المباني التي تكلف بناؤها الكثير، فنقل لممارسة أنشطة أكثر ملائمة له في كليمونت فران وحل محله في ليون في 4 نوفمبر كولوا دربوا الذي سرعان ما لحق به فوشي وبدأا معا حفلاً شعائرياً دينيا هازلا في ذكرى كالييه باعتباره "ربا مخلّصا مات ليخلص الشعب" وقاد الموكب حمار ألبسوه زى الأسقف ووضعوا فوق رأس التاج الكنسي (تاج الأسقف) وربطوا في ذيله صليباً ونسخة من الكتاب المقدس، وفي ميدان عام تم تشريف "الشهيد Martyr" بمدائح لتأبينه وأعدت المشاعل من الإنجيل والكتب الدينية (كتب القداس) وخبز العشاء الرباني وتماثيل القديسين المختلفة المصنوعة من الخشب وأنشأ كولو وفوشي Fouche لجنة مؤقتة من عشرين عضوا ومحكمة من سبعة أعضاء لتحقيق الطهارة الثورية في ليون، بالتحقيق مع المشتبه فيهم وأصدرت هذه اللجنة المؤقتة إعلانا بالمبادئ التي أطلق عليها "المانيفستو الشيوعي الأول" في التاريخ الحديث ·
واقترح المانيفستو manifesto ( البيان) أن تعتمد الثورة على "الغالبية الفقيرة" وانتقد النبلاء والبورجوازية وخاطب المانيفستو العمال: "إنكم ظلمتم ولا بد أن تقمعوا من ظلمكم " فكل ما تنتجه أرض فرنسا ملك لفرنسا والثروات الخاصة كلها لا بد أن تكون في خدمة الجمهورية، وكخطوة أولى نحو العدالة الاجتماعية لا بد من تحصيل ضريبة مقدارها ثلاثون ألف جنيه من كل من لديه دخل يصل إلى عشرة آلاف جنيه في السنة· وتم تحصيل مزيد من المبالغ من السجناء من النبلاء والقسس وغيرهم وبمصادرة ممتلكاتهم·(ملحق/170)
ولم يستقبل أهل ليون هذا الإعلان الشيوعي استقبالا حسنا فقد كانت قلة لها وزنها منهم قد ارتفعت إلى مستوى الطبقة الوسطى· وفي 10 نوفمبر قدم طلب موقع من عشرة آلاف امرأة يطالبن فيه بالرحمة لآلاف الرجال والنساء الذين تزدحم بهم السجون، فأجاب مبعوثو لجنة الأمن العام بصرامة: "قرن في بيوتكن وانشغلن بأعمالكن المنزلية ··· وكفى دموعاً فهذا لا يليق بكن" · وفي 4 ديسمبر - ربما لجعل الأمور واضحة - أدانت المحكمة الجديدة ستين سجينا فتم إخراجهم من السجن إلى ساحة مكشوفة عبر الرون ووضعوا بين خندقين وأطلقت عليهم المترليوزات زخات الرصاص، وفي اليوم التالي، وفي البقعة نفسها تم ربط سجناء عددهم 209 معا (بحبل واحد) وتم حصدهم بالمترليوز mitraillade ( المدفع) نفسه·
وفي 7 ديسمبر تم إعدام مائتين بالطريقة نفسها وبعد ذلك وجد أن الذبح بالمقصلة أكثر متعة كما أن الجثث التي امتلأ بها الخندق كانت قد بدأت تسمم هواء المدينة · وبحلول شهر مارس 1794 بلغ عدد المعدمين في ليون 1667 ثلثاهم من الطبقتين الوسطى والعليا وتم تدمير مئات البيوت الغالية تدميرا شديدا ·
وفي 20 ديسمبر 1793 ظهر وفد من مواطني ليون أمام المؤتمر الوطني يطالبون بإنهاء عمليات الانتقام، لكن كولو ردهم إلى باريس ودافع عن سياسته بنجاح، وترك فوشي ليرعى أمور ليون فواصل سياسة الإرهاب · ولما علم بأن طولون قد تم الاستيلاء عليها مجددا كتب إلى كولو: "ليس أمامنا للاحتفال بالنصر سوى طريق واحد · لقد أرسلنا هذا المساء 213 متمردا تحت نار السهام النارية المشتعلة وفي 3 أبريل 1794 تم استدعاء فوشي ليقدم تقريرا عن نفسه أمام المؤتمر الوطني"· لقد أفلت من العقاب لكن لم يسامح أبداً روبيسبير لاتهامه له بالبربرية · وسيأخذ منه ثأره يوما·(ملحق/171)
واعترفت لجنة الأمن العام شيئا فشيئا أن الإرهاب في المحافظات قد زاد زيادة مفرطة · وفي هذا الصدد كان روبيسبير ذا تأثير ملطف (مهدئ) فأخذ على عاتقه دعوة كارييه Carrier وفريرو Fréron وتاييه Tallien وطلب تقارير عن أعمالهم · لقد انتهى الإرهاب في المحافظات (الدوائر) في مايو سنة 1794 بينما كان يزداد في باريس · وفي ذلك الوقت أصبح روبيسبير نفسه ضحية له (27 - 28 يوليو 1794)، لقد بلغ ضحايا الإرهاب 2,700 في باريس و18,000 في سائر أنحاء فرنسا الأخرى · وهناك من يرفع إجمالي الرقم إلى 40,000 وبلغ عدد المسجونين المشتبه فيهم حوالي 300,000 · وكان الإرهاب مربحا للدولة إذا نظرنا إلى أموال وممتلكات من جرى إعدامهم والتي عادت إلى لدولة ·
5/ 3 - الحرب ضد الدين
والآن، فقد كان هناك انقسام حاد بين أولئك الذين يعتبرون العقيدة الدينية هي سندهم النهائي في الدنيا التي - بغيره - تغدو بلا غاية ولا معنى ومأسوية، وأولئك الذين يعتبرون الدين - على وفق تفكيرهم، خرافات مكلفة ومحبوكة لسد الطريق أمام العقل والحرية، وهذا الخلاف كان حادا في الفندي Vendee وهي منطقة ساحلية بين اللوار Loire ولاروشيل La Rochelle حيث المناخ القاسي والأرض الصخرية المجدبة، وحيث الولادات والوفيات تجري بشكل روتيني مكرر، مما جعل السكان في غالبهم محصنين ضد أفكار فولتير ورياح التنوير·
حقيقة إن أهل المدن والفلاحين قبلوا الثورة لكن عندما أعلنت الجمعية التأسيسية الدستور المدني للإكليروس - مصادرة ممتلكات الكنيسة محوِّلة القسس كلهم إلى موظفين في الدولة - أيد الفلاحون قسسهم في رفضهم الموافقة على هذا الدستور، فتحولت دعوة شبابهم للتطوع في الجيش أو التجنيد الإلزامي فيه، إلى دعوة لإشعال النار في الثورة · فلم يقدم أولادهم حياتهم لحماية حكومة كافرة؟، فالأولى هو أن يدافعوا عن قسسهم ومذابح كنائسهم ومعبودات أسرهم ·(ملحق/172)
وعلى هذا ففي 4 مارس 1793 انفجر التمرد في الفندي وبعد ذلك بتسعة أيام انتشرت في الإقليم، وبحلول أول مايو أصبح هناك 30,000 متمرد مسلح، وشارك عدد من الموالين للملكية الزعماء القرويين في تنظيم هؤلاء المتطوعين في كتائب منظمة، وقبل أن يتحقق المؤتمر الوطني من قوتهم كانوا قد استولوا على توار Thouars وفونتني Fontenay وسومور Saumur وأنجر Angers وفي أغسطس أرسلت لجنة الأمن العام إلى الفندي جيشا بقيادة الجنرال كليبر (كليبه) مزودا بتعليمات بتدمير قوات الفلاحين وتدمير المناطق التي تؤيدهم كلها· وهزم كليبر Kleber جيش الكاثوليك في شولت Cholet في 17 أكتوبر ولاحقه حتى سافيني Savenay في 23 ديسمبر، وجرى تعيين مندوبين عسكريين من لجنة الأمن العام في أنجر Angers ونانت ورين Rennes وتور Tours وزودتهم بأوامر بإعدام أي واحد من أهل فندي يحمل السلاح · وفي غضون عشرين يوما تم إعدام 463 في أنجر أو بالقرب منها · وقبل إخضاع الفنديين على يد المارشال هوش Hoche ( في يوليو 1796) كان نصف مليون شخص قد فقدوا حياتهم في هذه الحرب الدينية الجديدة ·
وفي باريس كان عدد كبير من السكان غير مبالين بأمر الدين ولهذا سهل الاتفاق بين الجبليين اليسار والجيرونديين، فقد تعاونا معا في تقليص قوة الإكليروس وعملا معا على إنشاء تقويم وثني Pagan Calendar، وشجعت الثورة زواج القسس بل وصدر مرسوم بإبعاد (نفي) كل أسقف امتنع عن الزواج · وفي حماية الثورة تم تزويج ألفي قس وخمسمائة راهبة · وكان ممثلو لجنة الأمن العام يعمدون إلى بعض الإجراءات المناهضة للمسيحية في عملهم، وقد أمر أحدهم بسجن قس وألا يفرج عنه حتى يتزوج ·(ملحق/173)
وفي نيفر Nevers أصدر فوشي أحكاما صارمة فيما يتعلق بالقسس: لا بد أن يتزوجوا، ولا بد أن يعيشوا ببساطة حياة غير مترفة · لتكن حياتهم كحياة الرسل ( Apostles) ولا بد أن يمتنعوا عن ارتداء ثياب الكهنوت وأن يمتنعوا عن ممارسة الطقوس الدينية خارج الكنائس، وتم إبطال الطقوس الكنسية في أثناء الجنائز ولا بد أن تنقش على المقابر عبارة "الموت نوم أبدي" وأمر (فوشي) رئيس الأساقفة وثلاثين قسا أن يطرحوا قلنسواتهم الدالة على هويتهم الدينية ليضعوا فوق رؤوسهم غطاء الرأس الثوري الأحمر · وفي مولين Moulin ركب (فوشي) على رأس موكب ليحطم في طريقه الصلبان المجردة كلها , والصلبان التي تمثل المسيح مصلوبا والصور والتماثيل الدينية كلها ·
وفي كليرمونت - فران أعلن كوثو أن دين المسيح قد تحول إلى دجل مالي (خداع للحصول على المال)، واستأجر طبيبا لإجراء تجارب أمام الجماهير ليثبت أن ظهور "دم المسيح" بشكل إعجازي في الزجاجة التي تقدمها الكنيسة ليس سوى زيت التربنتينة مصبوغاً باللون الأحمر ( Colored Turpentine) . وألغى المرتبات التي تدفعها الحكومة للقسس وصادر ما في الكنائس من آنية ذهبية وفضية، وأعلن أن الكنائس التي لا يمكن أن تتحول إلى مدارس يمكن - بموافقته - أن تهدم ليبنى مكانها مساكن للفقراء، وأعلن لاهوتا جديدا (نظرية دينية جديدة) تحل فيها الطبيعة محل الرب God، وتصبح السماء (المقصود الآخرة أو ما بعد الموت) مكانا لجمهورية مثالية (دولة مثالية - يوتوبيا) يصبح بها الناس كلهم صالحين ·
وكان زعماء المعركة ضد الدين هم هيبير Hebert في مجلس مدينة باريس وشوميت Chaumette في كومون باريس · وبسبب الحماس الذي أثارته خطب شوميت وصحافة هيبير اقتحمت جموع من الطبقة الثالثة الدنيا (السانس كولوت) دير القديس دينيس (سان ديني) Abbey of St. Denis في 16 أكتوبر سنة 1793 وأفرغوا توابيت أفراد الأسرة المالكة المدفونين فيها، وصهروا معادن هذه التوابيت لاستخدامها في صنع أسلحة للحرب، وفي 6 نوفمبر وافق المؤتمر الوطني رسميا على إعطاء كومونات فرنسا الحق في نقد الكنسية المسيحية،(ملحق/174)
وفي 10 نوفمبر راح رجال ونساء قادمون من أحياء الطبقة العاملة ومن النوادي (المراكز الأيديولوجية) في باريس يلوحون في الشوارع بطريقة هزلية بالملابس التي يرتديها رجال الدين الكاثوليك ويسخرون من طقوسهم، ودخلت جموعهم المؤتمر الوطني وفرضوا على أعضائه الحضور في المهرجان المسائي في كاتدرائية نوتر - دام Notre-Dam التي أصبح اسمها "معبد العقل the Temple of Reason" وهناك تم تنظيم طقوس جديدة حيث ارتدت الآنسة كاندل Mlle Candeille ممثلة الأوبرا علم الثورة الثلاثي الألوان ووضعت فوق رأسها الكاب الأحمر، ووقفت باعتبارها ربة الحرية وراحت نسوة مقنعات يحطن بها ويغنين "نشيد الحرية Hymn to Liberty" الذي ألفه لهذه المناسبة ماري جوزيف دى شينيه Marie-Joseph de Chenier. ورقص المتعبدون وغنوا في صحن الكنيسة، بينما راح المستفيدون من الحرية يحتفلون بممارسة الحب (الجنس) في المصلات الجانبية في الكنيسة، كما ذكر كتاب التقارير المعادون للثورة ·
وفي 17 نوفمبر تم إحضار جان - بابتست جوبل Jean-Baptiste Gobel أسقف باريس، بناء على طلب الجماهير، ليمثل أمام المؤتمر الوطني ليشجب منصبه ويتنكر له ويسلم لرئيس المؤتمر صولجانه صولجان الأسقف ذا الدلالة الدينية ( Crozier وجرسه ring) وأن يضع فوق رأسه الكاب الأحمر red cap الدال على الحرية · وفي 23 نوفمبر أمر الكومون بإغلاق الكنائس كلها في باريس ·(ملحق/175)
ومن ناحية أخرى كان المؤتمر الوطني يرى أنه لا يجب المغالاة في تأكيد دوره في العمل ضد المسيحية · وكان أعضاء المؤتمر جميعا - تقريبا - من اللاأدريين agnostics والمؤمنين بوحدة الوجود أو من الملحدين (المقصود كما سبق القول غير المؤمنين بالثالوث والطقوس المسيحية) ومع هذا فإن كثيرين منهم تشككوا في مدى حكمة إثارة الكاثوليك المخلصين الذين كانوا يشكلون الأغلبية، وكان كثيرون منهم مستعدين لحمل السلاح ضد الثورة · وكان بعض الأعضاء مثل روبيسبير وكارنو Carnot قد شعروا أن الدين هو القوة الوحيدة التي يمكن أن تمنع تكرار حدوث التمرد الاجتماعي ضد عدم المساواة المبدأ عميق الجذور جدا في الطبيعة لدرجة يصعب معها إزالته بالتشريعات · واعتقد روبيسبير أن الكاثوليكية كانت استثمارا منظما للخرافة لكنه رفض الإلحاد باعتباره افتراضاً مغروراً وقحاً باستحالة المعرفة، وفي 8 مايو سنة 1793 كان قد أدان الفلاسفة باعتبارهم منافقين احتقروا العامة وراحوا يلتمسون المنح من لدن الملوك · وفي 21 نوفمبر قال أمام المؤتمر الوطني وكانت مهرجانات معاداة المسيحية قد بلغت ذروتها في هذا الوقت ·
"كل فيلسوف وكل شخص يمكنه أن يعتقد من أفكار الإلحاد ما يحلو له · وأي شخص يرغب في أن يجعل هذا الفكر جريمة متهم، لكن الرجل العام (صاحب المسئولية) أو المشرع إذا ما تبنى هذه الأفكار الإلحادية فإنه غبي بل إن غباءه يتضاعف مائة مرة عن غيره ····
فالإلحاد أرستقراطي؛ ففكرة الموجود الأعظم (الله) الذي يرى ويعلم كل شيء والمطلع على كل ما يناقض الطهارة، ويعاقب على الجرائم الكبرى هي فكرة الشعب في الأساس (فكرة شعبية) إن هذه الفكرة هي التي تمثل شعور أوربا بل والعالم · إنها فكرة الشعب الفرنسي التي تمثل مشاعره وإحساسه · إن هذه الفكرة (وجود موجود أعظم) لا علاقة لها بالقسس ولا بالخرافة ولا بالطقوس · إنها فقط مرتبطة بقوة لا يدركها أحد (مبهمة لا يمكن سبر أغوارها) ·· إنها فكرة مرهبة للآثمين وراحة واستقرار للمتمسكين بالفضيلة" ·(ملحق/176)
وهنا كان دانتون Danton متفقا مع روبيسبير: "إننا لا ننوي هدم صروح الخرافة لنقيم حكم الإلحاد ·· إنني أطالب بإنهاء هذه الحفلة التنكرية ضد الدين في هذا المؤتمر الوطني" ·
وفي 6 ديسمبر سنة 1793 أعاد المؤتمر الوطني تأكيده على حرية العبادة وضمن حماية الطقوس الدينية التي يقوم عليها قسس موالون، واعترض هيبير ذاكرا أنه هو أيضا يشجب الإلحاد لكنه انضم للقوى التي تهدف إلى تقليص شعبية روبيسبير · لقد أصبح روبيسبير الآن يعتبره عدوا لدودا وراح ينتهز الفرص لتدميره·
5/ 4 - الثورة تأكل أبناءها The Revolution Eats Its Children
كانت قوة هيبير Hebert تعتمد على شريحة العوام من السانس - كولوت التي يمكن تنظيمها وحشدها عن طريق إدارات الأحياء في باريس وعن طريق الصحافة الراديكالية لاجتياح المؤتمر الوطني واستعادة حكم باريس على سائر الجمهورية الفرنسية أما قوة روبيسبير التي كانت تعتمد سابقا على جماهير باريس فقد أصبحت الآن تعتمد على لجنة الأمن العام التي سيطرت على المؤتمر الوطني من خلال تسهيلات كبرى في المعلومات والقرارات والإنجاز ·
وفي نوفمبر سنة 1793 كانت لجنة الأمن العام في ذروة شهرتها ومجدها، وكان هذا يعود في جانب منه إلى نجاحها في حشد الجماهير وتجنيدهم، لكن السبب الأساسي لهذه الشهرة والمجد كان يرجع على نحو خاص للانتصارات العسكرية على مختلف الجبهات، فالجنرالات الجدد - جوردان Jourdan وكلرمان Kellermann وكليبر وهوش Hoche وبيشرجو Pichergu - كانوا أبناء للثورة غير مقيدين بالنظم والتكتيكات القديمة، ولم تكن ولاءاتهم قد تناقصت بمرور الوقت، وكانوا يقودون مائة مقاتل كانوا - رغم كونهم ناقصي السلاح والتدريب - مفعمين حماسا وشجاعة فماذا يمكن أن يحدث لهم ولأسرهم إن اخترق العدو خطوط القتال الفرنسية؟ حقيقة لقد جرى صدهم عند كيزرسكوتيرن Kaiserslautern لكنهم استعادوا تقدمهم واستولوا على لاندو Landau وسبير Speyer · وقد أجبروا الأسبان على التراجع عبر جبال البرانس وأعادوا الاستيلاء على طولون بمساعدة الشاب نابليون ·(ملحق/177)
ومنذ 26 أغسطس استولت على طولون ذلك الميناء المهم ذو الموقع الاستراتيجي على ساحل البحر المتوسط قوات متعددة إنجليزية وإسبانية ونابلي (قادمة من نابلي في إيطاليا) يحميها أسطول إنجليزي إسباني مشترك ويؤازرها المحافظون المحليون (غير المؤازرين للثورة)، وظل جيش الثوار يحاصرها ثلاثة أشهر بلا جدوى، وكان هناك رأس هو كشريط محدد للطرفين (رأس أوجوليت Cap l'Aiguillette) والكلمة في القواميس الفرنسية تعنى الرأس أو الشريط أو القنة الداخلة في البحر) يقسم الميناء ويشرف (من علٍ) على الترسانة، والقوات التي تستولي على هذا الموقع تتحكم في الميناء لكن البريطانيين كانوا قد أغلقوا الطريق إلى هذا الرأس من ناحية البر بحصن جيد التسليح ومتين جدا حتى إنهم أطلقوا عليه جبل طارق الصغير ·
وكان من رأي بونابرت وكان عمره 24 سنة أنه إذا أمكن إجبار الأسطول المعادي على مغادرة الميناء، فإن الحامية التي تحتل المدينة ستفقد المؤن والمدد اللذين يأتيانها من البحر، مما يجبرها على التخلي عن المدينة · ووجد نابليون - بعد عملية استطلاع تنطوي على المخاطرة والتصميم - داخل دغل موقعا يمكنه منه - بشيء من الأمن - أن يطلق مدافعه على الحصن الذي يتحصن به الأعداء، وعندما دمرت قذائف المدافع جدرانه شنت القوات الفرنسية هجوما عاصفا على الحصن، فقتلت المدافعين عنه واستولت على ما به من بنادق وحولت القوات الفرنسية المهاجمة جهودها لضرب أسطول العدو، فأمر اللورد هود Hood الحامية بمغادرة المدينة وأمر سفنه بمغادرة الميناء ·
وفي 19 ديسمبر سنة 1793 استرد الجيش الفرنسي مدينة طولون · وكتب أوغسطين روبيسبير المبعوث المفوض المحلي من لجنة الأمن العام إلى أخيه مادحاً جهود نابليون مبينا "الجدارة التي تفوق الحد" لقائد المدفعية الشاب · وبدأت ملحمة جديدة ·(ملحق/178)
هذه الانتصارات الآنف ذكرها وانتصارات كليبر في الفندي أطلقت يد لجنة الأمن العام في التعامل مع المشاكل الداخلية · لقد كان هناك زعم بوجود "مؤامرة أجنبية" لاغتيال قادة الثورة وإن لم يوجد دليل على ذلك · وانتشر الفساد (خراب الذمم) في مجال إنتاج المؤن للجيش وتسليمها له "ففي جيش الجنوب فقد 30000 زوج من السراويل (البناطيل) - فكانت أكثر الفضائح خزيا" وساعدت المضاربات على عمليات التلاعب في السوق مما أدى إلى ارتفاع الأسعار بشدة · ولم تعد الأسعار التي حددتها الحكومة (حددت لها سقفا Maximum) تسري إلا على المنتجات المهمة، ولكن المنتجين اشتكوا من أنهم لا يستطيعون الاحتفاظ بهذا السقف (الحد الأقصى للأسعار كما حددته الحكومة) إذا لم يتم ضبط أجور العمال أيضا ·
وجرت مواجهة التضخم لفترة، ولكن الفلاحين والصناع والتجار خفضوا الإنتاج وزادت البطالة بينما الأسعار ترتفع وراحت المؤن تقل وراحت ربات البيوت يقفن في الصفوف للحصول على الخبز والحليب واللحم والزبد والزيت والصابون والشموع وخشب التدفئة · وراحت الصفوف تبدأ منذ منتصف الليل ليكون لمن فيها السبق في الحصول على المواد المطلوبة، فراح الرجال والنساء ينطرحون عند مداخل المحلات على الممرات انتظارا لفتح المحلات لأبوابها، وتحرك الصفوف للحصول على المؤن · وهنا وهناك راحت المومسات الجائعات يعرضن بضاعتهن على الواقفين في الطابور· وفي حالات كثيرة كانت جماعات قوية مسلحة تقتحم المخازن لتحمل معها ما تريد من بضائع وتدنت الخدمات البلدية وانتشرت الجرائم وكان عدد أفراد البوليس قليلا، وامتلأت الشوارع بالقمامة، وأفسدت جو المدن، واعترت ظروف مشابهة روان وليون ومرسيليا وبوردو ·(ملحق/179)
ونقل عوام باريس (السانس كولوت) ولاءهم من روبيسبير إلى هيبير Hebert وشومت Chaumette لأنهم اعتبروا أن لجنة الأمن العام قد أساءت إدارة الاقتصاد وأن المستغلين والمتربحين قد حاصروا "سفينة" الدولة وراح عوام باريس يصغون بشغف ورغبة إلى اقتراحات بتأميم الثروات والممتلكات كلها أو - على الأقل - الأراضي · واقترح أحد زعماء الأحياء (أقسام باريس) معالجة المحنة الاقتصادية بقتل الأثرياء كلهم · وبحلول عام 1794 كانت هناك شكوى عامة بين العمال من أن البورجوازية قد سرقت الثورة (جعلتها لصالحها) ·
وفي نهاية 1793 ظهرت تحديات جديدة للجنة الأمن العام سببها زعيم ثوري قوي وصحفي لامع · فرغم الشراسة الظاهرة التي يبديها دانتون Danton فقد كان به لمسة محببة لدرجة أنه جفل عند إعدام الملكة وبسبب العنف الشديد في فترة الإرهاب، فعند عودته من أرسيز Arcis حكم بأن طرد الغزاة من فرنسا وإعدام معظم أعداء الثورة النشيطين لم يعد يترك مسوغا معقولاً للحرب أو الإرهاب وعندما عرضت بريطانيا السلام أوصى بقبوله، أما روبيسبير فقد رفض وكثف من الإرهاب على أساس أن الحكومة ما تزال تواجه العقبات التي يضعها غير الموالين والمتآمرين والمفسدين ·
أما كاميل ديمولان Camille Desmoulins الذي كان في وقت من الأوقات سكرتيرا لدانتون وصديقه المعجب به وقد كان مثله ينعم بزواج سعيد، فقد أسس جريدة هي "الكوردليري العجوز Le Vieux Cordelier" ( الكلمة كوردليير تعنى الراهب الفرانسيسكاني لكن هذا ليس هو المعنى المقصود فقد تم إنشاء ناد ثوري كما ذكرنا في سياقات سابقة في مقر دير للرهبان الفرانسيسكان بعد طرد الرهبان منه، فعرف بنادي الكوردليير) جعلها المتحدث الناطق باسم المتسامحين أو دعاة السلام، ودعا من خلالها إلى إنهاء حكم الإرهاب:
"الحرية ليست إحدى عذراوات الأساطير اللائي يشاهدن في الأوبرا، وليست غطاء رأس (كاب) أحمر وليست قميصا قذرا أو أسمالا · إنما الحرية هي السعادة والعقل والمساواة والعدالة، وإعلان حقوق الإنسان الذي هو دستوركم الأعلى الذي لا يزال يدعو إلى التحرر ·(ملحق/180)
أتريدونني أن أعترف بهذه الحرية (بمعناها الثاني الذي أقره) وأخر عند قدميها وأسفك دمي من أجلها؟ إذن أفتح السجون وأخرج منها من بلغ عددهم 200,000 ممن تسمونهم المشتبه فيهم ··· لا تظنوا أن في هذا الإجراء نهاية للجمهورية · إن العكس هو الصحيح· إنه إجراء أكثر ثورية مما تظنون · أتريدون إبادة أعدائكم كلهم بقطع رقابهم بالمقصلة؟ أهناك جنون أكثر من هذا؟ أيمكنكم أن تنهوا حياة شخص من غير أن توجدوا لأنفسكم عدوين من بين أسرته وأصدقائه؟
إنني مختلف تماما مع أولئك القائلين بضرورة الإبقاء على الإرهاب كنظام لهذه الفترة، إنني على ثقة من أن الحرية ستتأكد وأن فرنسا ستفتح أوربا حالما تصبح لجنتكم لجنة للرحمة والاعتدال Committee of Clemency "·
وانزعج روبيسبير - الذي كان حتى الآن صديقا لديمولان - من دعوته لفتح السجون، فهؤلاء الارستقراطيون والقسس والمضاربون والبورجوازيون المنتفخون، ألن يواصلوا - إذا ما أطلق سراحهم - بغير تردد مشروعاتهم لاستغلال الجمهورية وتدميرها؟ لقد كان روبيسبير مقتنعا أن خوفهم من القبض عليهم وإدانتهم إدانة سريعة، وشبح الموت المتراقص أمامهم، هي وحدها القوة التي تبعدهم (أعداء الجمهورية) عن حبك المؤامرات ضدها والعمل على إسقاطها ·
لقد شك روبيسبير في أن تحول دانتون المفاجئ إلى سياسة الرحمة إنما هو خدعة لينقذ من نصل المقصلة بعض الذين قبض عليهم مؤخرا لقيامهم بأعمال محظورة ممن لهم علاقة به، ولحماية نفسه (دانتون) إذا افتضحت علاقته (أي دانتون) بهم · وكان بعضهم - فابر دجلانتين Fabre d'Eglantine وفرنسوا شابو Francois Chabot - قد حوكما في 17 يناير سنة 1794 واتضح أنهما مذنبان · وانتهى روبيسبير إلى أن دانتون وديمولان يميلان إلى التخلي عن مقعديهما وإنهاء أعمال لجنة الأمن العام · وخلص روبيسبير إلى أنه لن يكون آمناً أبدا طالما ظل صديقاه القديمان هذان على قيد الحياة ·(ملحق/181)
وعمل (روبيسبير) على ألا يتحد أعداؤه وعمل على تحويل معارضتهما له إلى معارضة كل واحد منهم للآخر فقد شجع هجوم دانتون وديمولان على هيبير (إيبير) ورحب بمساعدتهما في شجب الحرب على الدين، وعول هيبير Hebert على شغب أهل المدن بسبب غلاء أسعار الطعام وندرته · ووجه النقد لكل من الحكومة وجناح المتساهلين المطالبين بالتسامح وإنهاء الإرهاب Indulgents، وفي 4 مارس 1794 أدان روبيسبير وذكره بالاسم، وفي 11 مارس هدد أتباعه في نادى الكوردليير (لأن هذا النادي أصبح أعضاؤه يجتمعون في مقر دير سابق للرهبان الفرانسيسكان - الكوردليير) صراحة بعصيان مسلح ·
واتفقت غالبية لجنة الأمن العام مع روبيسبير على أن الوقت قد حان لاتخاذ إجراء، فتم القبض على هيبير وكلوت Cloots وعدد آخر غيرهما وحوكموا بتهمة ارتكاب أعمال محظورة عند توزيع المؤن على الناس، وكانت تهمة ماكرة لأنها جعلت العوام من السانس كولوت يتشككون في قادتهم الجدد، وقبل أن يستطيع هؤلاء المتهمون إثارة الناس، جرى اتهامهم واقتيادهم بسرعة إلى المقصلة (في 24 مارس)، وانهار هيبير وبكى، أما كلوت، فبقى باردا هادئا - بطريقة تيوتونية منتظرا دوره ليموت، وخاطب الجماهير قائلا: "يا أصدقائي لا تخلطوا بيني وبين هؤلاء الأنذال" ·
ولا بد أن دانتون قد تحقق أنه كان قد استخدم كأداة ضد هيبير وأنه أصبح الآن قليل القيمة بالنسبة للجنة (لجنة الأمن العام)، ومع هذا فقد استمر في محاولاته في تحويل اتجاه اللجنة إلى الرحمة والسلام · وهي سياسة تتطلب من الأعضاء نبذ الإرهاب الذي حافظوا من خلاله على مقاعدهم، ونبذ الحرب التي بررت دكتاتوريتهم ·
وحث دانتون على إنهاء عمليات القتل فقال: "دعونا نترك شيئا لذبح الآراء (بدلا من البشر) " وظل يخطط لمشروعات تعليمية وإصلاحات قضائية · وظل جريئاً متحديا إذ قال له أحدهم إن روبيسبير يخطط للقبض عليه، فأجابه: "إذا ظننت أن مجرد فكرة كهذه في رأسه فسأجعل قلبه يذوب حسرات" فحكم الإرهاب قد حول فرنسا في غالبها إلى دولة من دول الطبيعة ( State Nature) فغدا معظم الناس يشعرون أنه يجب عليهم أن: "يأكلوا قبل أن يؤكلوا"·(ملحق/182)
وحثه أصدقاؤه أن يأخذ المبادرة ويهاجم لجنة الأمن العام أمام المؤتمر الوطني، لكنه كان مرهقا جدا معتل الإرادة فلم يشأ أن يعقب اجتماعاته التاريخية بحماقة · لقد استنفدت مقاومة أمواج الثورة طوال أربع سنوات طاقته وقد ترك الآن الأمواج التحتية (غير الظاهرة) تحمله بعيدا دون مقاومة · لقد قال: "لأن تقطع المقصلة رقبتي أفضل عندي من أن أقطع رقاب الآخرين" (لم يكن أمره كذلك دائما) "بالإضافة إلى أنني سئمت البشر" ·
وكان من الواضح أن بيلو - فارين - Billaud Varenne هو الذي أخذ المبادرة بالتوصية بالقضاء على حياة دانتون، واتفق معه كثيرون من أعضاء لجنة الأمن العام لأن معنى السماح باستمرار سياسة المتسامحين Indulgents هو تسليم الثورة لأعدائها في الداخل والخارج ·
وكان روبيسبير لفترة يعارض فكرة "اختصار" حياة دانتون، لكنه شارك أعضاء اللجنة الآخرين الاعتقاد بأنه - أي دانتون - سمح لجزء من أموال الدولة بالتسرب بين أصابعه، لكنه أدى خدمات للثورة، وكان روبيسبير يخشى أن يؤدي الحكم بالإعدام على واحد من أكبر زعماء الثورة إلى عصيان مسلح في أحياء باريس وفي الحرس الوطني·
وخلال فترة تردد وربيسبير هذه كان دانتون يزوره لمرتين أو ثلاثة لا ليدافع عن ذمته المالية فحسب، وإنما ليحول هذا الوطني العنيد (روبيسبير) إلى سياسة السلام وإنهاء حكم الإرهاب، لكن روبيسبير ظل غير مقتنع بذلك بل وزادت شراسته، فساعد سان - جوست (الذي كان دانتون كثيرا ما يسخر منه) في إعداد التهمة ضد منافسه الكبير (دانتون) · وفي 30 مارس جمع لجنة الأمن العام ولجنة الضمان العام لاتخاذ قرار مشترك (واحد) ليضمن إصدار المحكمة الثورية حكما بالإعدام على دانتون وديمولان واثني عشر شخصا أدينوا مؤخراً بالاختلاس · ونقل واحد من أصدقاء هذا الجبار (التيتان Titan) الأخبار إليه وحثه على مغادرة باريس والاختباء في إحدى المحافظات، لكن "الجبار" (المقصود دانتون) رفض العرض· وفي صباح اليوم التالي قبض عليه البوليس الذي قبض أيضا على ديمولان Desmoulins الذي يعيش في طابق فوق الطابق الذي يسكن فيه دانتون في البناية نفسها ·(ملحق/183)
وسجن دانتون ومن معه في الكونسير جيري Conciergerie ( غرفة البواب في قصر التوليري) فأبدى ملاحظة: "ذات يوم مثل يومنا هذا نظمتُ المحكمة الثورية ···· إنني أسأل الله والبشرية أن يسامحاني على هذا ··· في الثورات يظل قابضا على السلطة من هو أكثر نذالة "·
وفي أول أبريل اقترح لويس ليجندر Louis Legendre على النواب أن يسمح لدانتون بالدفاع عن نفسه أمام المؤتمر الوطني فقد أرسل يطلب ذلك من سجنه وأنه - لويس ليجندر الذي كان معيناً حديثا مبعوثاً مفوّضاً للجنة الأمن العام - قد وافق، لكن روبيسبير أوقفه عن مواصلة حديثه بحملقة مشئومة منذرة بسوء وصاح قائلا: "دانتون غير مميز ··· سوف نرى هذا اليوم ما إذا كان المؤتمر الوطني قادراً على تدمير وثن (إله زائف) ···" عندئذ قرأ سان - جوست قائمة الاتهامات التي كان قد أعدها سلفا فأمر النواب - وكان كل واحد منهم متنبهاً لسلامته الشخصية - بتحويل دانتون Danton وديمولان للمحاكمة فورا ·
وفي 2 أبريل قيد دانتون وديمولان ليمثلا أمام المحكمة · وربما لخلط الأمور، كانا ضمن دفعة من المتهمين بمن فيهم فابر ديجلانتين Fabre d'Eglantine ومتآمرون أو مختلسون آخرين، وهيرول دى سيشل Herault de Sechelles ( وقد أدى هذا إلى دهشة عامة ودهشة دانتون) وكان هيرول هذا عضوا مهذبا دمثا في لجنة الأمن العام لكنه متهم الآن بالتعاون مع أتباع هيبير وبالتورط في مؤامرة خارجية ودافع دانتون عن نفسه بقوة وأمعن في السب وتوجيه التهم مما أثر في اللجنة والحاضرين لمشاهدة المحاكمة وسماعها · ل(ملحق/184)
درجة أن فوكييه تينفيل Fouquier-Tinville أرسل يطلب من لجنة الأمن العام قرارا بإسكات الدفاع واضطرت اللجنة لأن ترسل للمؤتمر الوطني تتهم أتباع دانتون وديمولان Desmoulins - وفقا على ما وصلها من معلومات - بأنهم يتآمرون لإطلاق سراحهما بالقوة، وعلى هذا الأساس أعلن المؤتمر الوطني أن كلا الرجلين لم يعودا تحت حماية القانون وهذا يعني أنه يمكن إعدامهما دون إجراءات قانونية · وعندما تلقى أعضاء المحكمة هذا القرار أعلنوا أنه قد أصبح لديهم أدلة كافية وأنهم مستعدون لإصدار الحكم · وأعيد المسجونان إلى سجنهما وتم صرف من حضروا لمتابعة المحاكمة ·
وفي 5 أبريل صدر حكم بإجماع أعضاء المحكمة بإعدام المتهمين كلهم، وعندما سمع دانتون بالحكم تنبأ قائلا: "قبل أن تنقضي هذه الشهور سيمزق الشعب أعدائي إربا " · وقال: "حقير أنت يا روبيسبير! إن المقصلة تناديك أنت أيضا· إنك ستتبعني" · وكتب ديمولان من سجنه إلى زوجته: "حبيبتي لوسيل! Lucile. لقد ولدت لأقرض القصائد وأدافع عن سيئي الحظ··· يا عزيزتي اهتمي بصغيرك · عيشي لحبيبي هوراس Horace، وحدثيه عني··· يداي المقيدتان تعانقانك" ·
وبعد ظهر الخامس من أبريل حمل المتهمان في عربة إلى ميدان الثورة، وفي أثناء الطريق تنبأ دانتون مرة أخرى قائلا: "إنني أترك الأمور مشوشة متخبطة · ليس من رجل فيهم لديه فكرة عن الحكم، إن روبيسبير سيتبعني إلى المقصلة · لقد جروه إلى المقصلة وجعلوني أسبقه" · وعلى سقالة المقصلة كان ديمولان هو الثالث في طابور من ينفذ فيهم حكم الإعدام وكانت أعصابه تكاد تتحطم، وكان دانتون في آخر الطابور وفكر دانتون أيضا في زوجته الشابة وراح يتمتم ببعض الكلمات ذكرها فيها ثم أمسك وقال لنفسه: "أقبل دانتون، لا تضعف" وبينما كان يقترب من نصل المقصلة، قال لجلاده (منفذ الحكم): "اعرض رأسي على الشعب· إنه جدير به" · لقد كان وقت إعدامه في الرابعة والثلاثين من عمره وكذلك ديمولان، لكنهما عاشا أعماراً كثيرة منذ ذلك اليوم في شهر يوليو الذي دعا فيه كاميل Camille أهل باريس للاستيلاء على الباستيل· وبعد موتهما بثمانية أيام تم إعدام لوسيل ديمولان مع أرملة هيبير وشومت.(ملحق/185)
لقد بدت الساحة ممهدة فكل الجماعات التي كانت قد تحدت لجنة الأمن العام قد تم التخلص منها أو قمعها، فالجيرونديون إما ماتوا أو تفرقوا، والعامة من السانس كولوت إما قسموا أو أرغموا على الصمت، وتم إغلاق النوادي ما عدا نادي اليعاقبة وأخضعت الصحافة والمسارح لرقابة صارمة، وتخلى المؤتمر الوطني خوفا منه وجبنا عن القرارات الكبرى كلها للجنة الأمن العام · وأقر المؤتمر الوطني - بتوصية من لجانه الأخرى - قوانين ضد المضاربين والمحتكرين (خازني البضائع Hoarders) وقوانين لمجانية التعليم الابتدائي وإتاحته للجميع، وإنهاء القنانة (عبودية الأرض) في المستعمرات الفرنسية وتأسيس دولة الرفاهية مع الأمن الاجتماعي (الضمان الاجتماعي) وقوانين تنص على تقديم إعانة لغير العاملين (إعانة بطالة) ومساعدات طبية للفقراء ومساعدات لكبار السن · وقد أدت الحرب والفوضى الداخلية إلى حد كبير بالإسراع في هذه القرارات لكنها بقيت كأفكار تلهم الأجيال ا لمتتالية ·
أما روبيسبير الذي كانت يداه مخضبتين بالدم لكنهما طليقتان - فإنه الآن يعمل على إرجاع "الله" إلى فرنسا، فمحاولة إحلال "المذهب العقلي rationalism" محل المسيحية أثارت الفرنسيين ضد الثورة، ففي باريس كان الكاثوليك ثائرون لإغلاق الكنائس وإزعاج القسس بالغارات المستمرة عليهم، وشيئا فشيئا بدأت تزداد أعداد أفراد طبقة العوام والطبقة الوسطى التي تذهب لحضور قداس الأحد · وقدم روبيسبير البراهين في إحدى خطبه البليغة (7 مايو 1794) على أن الوقت قد حان لعقد وفاق بين الثورة وجدها الأعلى روسو الذي نقلت رفاته إلى البانثيون - (مدفن العظماء) في 14 أبريل فلا بد للدولة أن تدعم الدين النقي البسيط - خاصة ذلك الذي اعتنقه Savoyard Vicar في كتاب إميل Emile - القائم على الإيمان بالله واليوم الآخر، والدعوة إلى الفضائل المدنية والاجتماعية كأساس لقيام الجمهورية · ووافق المؤتمر الوطني على ذلك على أمل إرضاء الأتقياء والتخفيف من حدة الإرهاب، وفي 4 يونيو انتخب روبيسبير رئيساً له ·(ملحق/186)
وترأس روبيسبير في 8 يونيو 1794 في سياق هذا التوجه ا لرسمي مهرجانا للاحتفاء "بالموجود الأسمى Fast of the Supreme Being " حضره مائة ألف رجل وامرأة وطفل في ساحة دي مار Champ-de-Mars وعلى رأس موكب كبير (يضم النواب المتشككين) امتد مسافة طويلة كان هذا المستقيم غير القابل للفساد أو الرشوة (المقصود روبيسبير) وقد حمل في يده الورود وسنابل القمح · وكانت هناك عربة محملة بحزم القمح يجرها ثور أبيض بلون الحليب، وخلفها سار الرعاة من رجال ونساء يمثلون الطبيعة (في فطرتها الأولى) باعتبارها - أي الطبيعة - هي تركيبة واحدة وهي صوت الله Voice of God، وفي حوض يزين ساحة دي مار، أقام ديفيد David الفنان الفرنسي الرائد في هذا العصر تمثالاً من خشب يمثل الإلحاد وقد قام على الرذيلة وتوج بالجنون، وإلى الأعلى في مواجهة هذا التمثال جعل الحكمة المنتصرة ترفع إصبعها في مواجهة الإلحاد والرذيلة والجنون · ووضع روبيسبير - الذي هو تجسيد للفضيلة - المشعل ناحية الإلحاد (ليحرقه) لكن ريحا تعسه حولت اللهب إلى "الحكمة"· ووضع نقش يشير إلى المبادئ الجديدة ويتسم معناه بالسماحة: "إن الشعب الفرنسي يؤمن بالموجود الأسمى وخلود الروح" وجرى إقامة احتفالات مشابهة في مختلف أنحاء فرنسا ·
وكان روبيسبير سعيداً لكن بيلو فارين - Billaud - Varenne قال له: "لقد بدأت تضجرني مع موجودك الأسمى"·(ملحق/187)
وبعد ذلك بيومين حث روبيسبير المؤتمر الوطني على إصدار مرسوم يدعم - بشكل مثير للدهشة - حكم الإرهاب، لقد بدا روبيسبير وكأنه يجيب دانتون ويتحداه (رغم أن دانتون كان قد أعدم بالمقصلة) عندما أقام مهرجانا لتكريم "الموجود الأسمى" كما بدا وكأنه يوبخ هيبير، فالقانون الصادر في 10 يونيو 1794 (22 بريريال Prairial بالتقويم الجمهوري) نص بهدف شجب الملكية والدفاع عن الجمهورية والرقي بها - على إعدام كل من يسيء للأخلاق أو يروج أخبارا كاذبة أو يسرق المال العام أو يتربح ويستغل أو يختلس أو يعوق نقل الطعام أو يعوق بأي شكل مسار الحرب، وأكثر من هذا فإن هذا القانون خول المحاكم أن تقرر ما إذا كان المتهم في حاجة إلى محام أو مستشار أو شهود، إذا ظهر برهان إدانته · وقال واحد من المحلفين: "بالنسبة لي شخصيا، فإنني مقتنع بذلك دائما ففي ظل الثورة، يعد كل من يمثل أمام هذه المحكمة Tribunal مدانا"·
وكان ثمة تبريرات لهذا الإرهاب المكثف · ففي 22 مايو جرت محاولة للاعتداء على حياة كولو دربوا Collot d'Herbois، وفي 23 مايو جرى وقف شاب حاول - بشكل واضح - اغتيال روبيسبير · وأدى الاعتقاد في وجود مؤامرة أجنبية إلى أن أصدر المؤتمر الوطني مرسوما بالتعامل بغير رحمة مع أسرى الحرب البريطانيين والهانوفريين Hanoverian. وكان في سجون باريس نحو ثمانية آلاف من المشكوك في ولائهم، وكان لا بد من إرهابهم حتى لا يفكروا في إثارة الاضطرابات أو الهروب·(ملحق/188)
لهذا ظهر على نحو خاص ما يسمى "الإرهاب الأعظم Great Terror " واستمر من 10 يونيو إلى 27 يوليو سنة 1794، ففي أقل من سبعة أسابيع قطعت المقصلة رقاب 1376 رجل وامرأة، هذا بالإضافة إلى 155 كان قد جرى إعدامهم خلال الواحد والستين أسبوعا، بين مارس 1793 و10 يونيو 1794 · ولاحظ فوكييه تينفيل أن الرؤوس تتدلى من السقف كألواح الاردواز · ولم يعد الناس يذهبون لمشاهدة تنفيذ أحكام الإعدام فقد أصبح المشهد معادا مكررا، وإنما راحوا يعكفون في منازلهم يتحسسون أي كلمة ينطقون بها· وتوقفت الحياة الاجتماعية تقريبا، وكادت المواخير وبيوت الدعارة والحانات تكون خاوية على عروشها· بل وتقلص عدد الحضور في المؤتمر الوطني نفسه، فمن بين 750 عضوا لم يعد يحضر - الآن - سوى 117، وحتى هؤلاء امتنع كثيرون منهم عن التصويت حتى لا يورطوا أنفسهم، وحتى أعضاء اللجنة عاشوا في رعب من أن يقعوا تحت نصل هؤلاء الثلاثة (المتحكمين الجدد) روبيسبير، وكوثو وسان جوست.
وربما كانت الحرب هي التي أدت إلى أن يتبوأ الصدارة أفراد أقوياء عمدوا إلى تركيز السلطة في أيديهم بشكل مثير· وفي أبريل سنة 1794 كان الأمير ساكس كوبرج Saxe-Coburg قد قاد جيشا آخر داخل فرنسا، وكانت أي هزيمة تلحق بالدفاعات الفرنسية كفيلة بإثارة الفوضى والخوف في باريس، وحاول البريطانيون من خلال فرض الحصار البحري منع الإمدادات الأمريكية عن فرنسا ولولا نجاح الدفاعات الفرنسية في إلحاق الهزيمة بالأسطول البريطاني في أول يونيو ما وصلت الحمولات الغالية الثمن إلى بريست Brest واستطاع الجيش الفرنسي أن يصد الغزاة بالقرب من شارلروي Charleroi (25 يونيو) وبعد ذلك بيوم قاد سان جوست قوة فرنسية لإحراز نصر حاسم في فلورس Fleurus. وانسحب كوبرج Coburg من فرنسا، وفي 27 يوليو عبر جوردا Jourdan وبيشجرو Pichegru الحدود لإقامة الحكم الفرنسي في أنتورب ولييج وقد يكون الانتصار الذي تحقق بصد الغزوة الكبيرة، مما ساهم في تدمير روبيسبير، فأعداؤه الكثيرون كانوا يشعرون أن الدولة والجيش قد يعملان على تفجير صراع مكشوف في قلب الحكومة، صراع لا هوادة فيه·(ملحق/189)
فلجنة الأمن العام كانت على خلاف مع لجنة الضمان العام Committee of public Safety بسبب التنازع على السلطة السياسية· وفي هذه اللجنة الأخيرة كان بيو فارين Billaud-varenne وكولو دربوا Collot d'Herbois وكارنو Carnot في حالة ثورة متزايده ضد روبيسبير وسان - جوست· فلما شعر روبيسبير بعداوتهم الشديدة له تحاشى حضور اجتماعات اللجنة في الفترة من أول يوليو إلى 23 من الشهر نفسه لعل هذا يؤدي إلى تخفيف حساسيتهم من زعامته، لكن غيابه هذا أعطاهم الفرصة ليخططوا لإسقاطه· وأكثر من هذا فإن إستراتيجيته راحت تضطرب وتترنح: ففي 23 يوليو أحال المؤيدين له إلى أعداء بتسليمه لنواب السهل (المعتدلين) من رجال الأعمال بتوقيعه مرسوما بتحديد سقف الأجور (الحد الأقصى للأجور)، ومن الناحية الفعلية، وبسبب انخفاض قيمة العملة، خفض المرسوم بعض الأجور إلى النصف ·
وكان هناك الإرهابيون الذين عادوا من الدوائر أو المحافظات – فوشي وفريرو Freron وتاييه وكاريه Carrier - الذين وجدوا أن حياتهم متوقفة على إقصاء روبيسبير، فقد كان هو الذي استدعاهم إلى باريس طالباً منهم تقارير عن مهامهم لقد قال متسائلاً: "تعال يا فوشي وأخبرنا من الذي فوضك لتقول للناس إن الله غير موجود؟ " وفي نادي اليعاقبة اقترح روبيسبير التحقيق مع فوشي فيما يتعلق بعملياته في طولون وليون أو سحب العضوية منه، ورفض فوشى أن يجيب عن مثل هذا الاستجواب، وانتقم لنفسه بإشاعة قائمةً بأسماء أشخاص زعم أن روبيسبير اعتزم إعدامهم بالمقصلة · أما بالنسبة لتاييه Tallien فلم يكن في حاجة إلى من يحرضه ضد روبيسبير فقد كان هذا الأخير قد أمر بالقبض على خليلته الجذابة في 22 مايو · وتقول الإشاعات أنها أرسلت إلى تاييه خنجرا، فأقسم أن يحررها (يخرجها من المعتقل) مهما كلفه ذلك·
وفي 26 يوليو ألقى روبيسبير آخر خطاب له أمام المؤتمر الوطني الذي كان نوابه معادين له لأن كثيرين منهم كانوا معارضين للتسرع في إعدام دانتون ولام كثيرون منهم روبيسبير لتقليله من شأن المؤتمر الوطني · وحاول روبيسبير أن يدفع هذه التهم عن نفسه:(ملحق/190)
"أيها المواطنون··· أريد أن أفتح قلبي، وأنتم في حاجة إلى سماع الحقيقة··· لقد أتيت إلى هنا لأصحح أخطاء فظيعة · لقد أتيت لأبطل الأيمان المغلظة التي أقسمها بعض الرجال بقصد العصيان والتي راحوا يملئون بها معبد الحرية هذا ··· أي أساس لما هو موجود من نظام إرهابي بغيض؟ وأي أساس لهذا القذف والتشهير بالسمعة؟ ألكم أنتم نبدي أنفسنا مرعبين؟ إنهم الطغاة والأنذال هم الذين يخشون بأسنا لا الوطنيون وذوو النوايا الطيبة · ألم نضرب الإرهاب في المؤتمر الوطني؟ لكن من نكون نحن بغير المؤتمر الوطني؟ إننا نحن الذين دافعنا عن المؤتمر الوطني مخاطرين بحياتنا · نحن الذين وقفنا أنفسنا للحفاظ عليه، بينما يعمل فرقاء بغيضون على التآمر لتدميره كما ترون جميعا؟ ··· إلى من توجه سهام التآمر في المقام الأول؟ إننا نحن المقصودون· إننا نحن الذين يطلقون علينا سوط فرنسا أو سبب نكبها ·· منذ فترة أعلنوا الحرب على بعض أعضاء لجنة الضمان العام (تسميها بعض المراجع العربية أيضا لجنة السلامة العامة) ·
وأخيرا بدوا يعملون على تحطيم رجل واحد ··· إنهم يسمونني طاغية، إنهم يودون على نحو خاص أن يثبتوا أن محكمة الثورة إنما هي محكمة دم أنشأتها أنا وحدي وأسيطر عليها وحدي سيطرة مطلقة لقتل ذوي النوايا الطيبة كلهم····
إنني لا أجسر على تسمية هؤلاء المتهمين هنا والآن · إنني لا أستطيع وحدي أن أزيح بشكل كامل الحجاب الذي يغطى الألغاز العميقة لهذه الجرائم · لكنني أؤكد بشكل جازم أن من بين حابكي هذه المؤامرات ممثلين لجهاز فاسد مرتشٍ يدفعه الأجانب لتدمير الجمهورية ··· إن الخونة موجودون هنا مختبئون تحت مظهرهم الكاذب الزائف· إنهم سيتهمون من يوجه لهم الاتهامات وسيضاعفون خداعهم ·· ليضربوا وجه الحقيقة · إن هذا جزء من مؤامرة ·
وأريد أن أنهي حديثي هنا بأن الطغيان يحكم بيننا، لكن ليس لهذا يجب أن أصمت· كيف يمكن لأي شخص أن يلوم رجلاً الحق بجانبه، ويعرف كيف يموت في سبيل وطنه "·(ملحق/191)
وثمة بعض الاضطراب في هذا الخطاب التاريخي فقد كان روبيسبير حتى لحظة إلقاء خطابة يشق طريقة بحذر بين أشراك السياسة، والسلطة تفقد العقل أكثر مما تسبب الفساد، والاحتفاظ بالسلطة يتطلب العمل السريع (اتخاذ إجراءات سريعة أكثر مما يتطلب تأملا) · إن لهجة الخطاب التي لا تكتفي بالدلالة على البراءة وسلامة الطوية فقط، وإنما تشير إلى أنه "رجل يقف الحق بجانبه"···· مثل هذا الكلام لا يصلح إلا أن يكون على لسان سقراط بعد أن قطع نصف الطريق فعلا إلى الموت ·
إنه لمن الصعب أن ندخل في باب الحكمة ما قام به من حث لأعدائه على معاداته، وإثارة غيظهم وحنقهم بتهديدهم بفضح أخطائهم وكشفها - وهذا يعني الحكم عليهم بالإعدام· لقد كان من غير الحكمة أن يؤكد أن المؤتمر الوطني متحرر من الخوف والإرهاب، عندما يكون معروفاً أن هذا غير صحيح · والأسوأ من كل هذا رفضه أن يسمي الأشخاص الذين سيتهمهم (يقدمهم للمحاكمة) مما ضاعف من أعداء الأعضاء الذين قد يعتبرون أنفسهم ضحايا في المستقبل لغضبه · لقد تلقى المؤتمر الوطني اتهامه ببرود وأحبط حركة نادت بطبع خطابه وكرر روبيسبير خطابه هذا المساء في نادي اليعاقبة فقوبل بتصفيق حاد، وفي النادي أضاف لخطابه الآنف ذكره هجوما واضحا على بيلو- فارين Billaud-Varenne وكولو دربوا, اللذين كانا حاضرين فخرجا من النادي إلى حجرات لجنة الأمن العام حيث وجدا سان - جوست يكتب ما ذكره لهما بجسارة وهو قرار توجيه الاتهام لهما ·
وفي صباح اليوم التالي 27 يوليو (التاسع من شهر ثيرميدور حسب التقويم الجمهوري) هب سان - جوست ليقدم هذا الاتهام المكتوب إلى المؤتمر الوطني الذي أعمت العدوانية بصائر أعضائه وأرعبهم الخوف · وكان روبيسبير يجلس أمام منصة الخطابة مباشرة · وكان دبلي Dupaly وضيفه المخلص قد حذره من توقع اضطرابات، لكن روبيسبير أعاد من جديد تأكيده لمن تنبأ بذلك (دبلي) بأن: "المؤتمر الوطني سائر على خط الأمانة والإخلاص، والجماهير مخلصة كلها" ·(ملحق/192)
ولسوء الحظ كان الضابط الرئيسي (رئيس الضباط) في هذا اليوم من أعدائه (أي أعداء روبيسبير) الذين أقسموا أن يتخلصوا منه - إنه كولو دربوا Collot d'Herbois · وعندما بدأ سان جوست يقرأ قائمة الاتهامات، توقع تاييه أن يكون من بينهم، فاندفع إلى المنصة وأزاح الخطيب الشاب جانبا، وصاح قائلا: "إنني أطالب بإزاحة الستارة" يقصد كشف حقيقة الأمور· وحاول جوزيف ليباس Joseph Lebas الموالي لسان - جوست أن يأتي لنجدته لكن كلماته ضاعت إذ أسكتته مئات الأصوات، وطلب روبيسبير الفرصة ليسمعوه، فرفع تاييه Tallien السلاح الذي أرسل إليه عاليا وأعلن: "لقد سلحت نفسي بخنجر سيتغلغل في جسده إذا لم يكن لدى المؤتمر الوطني الشجاعة الكافية لإصدار قرار باتهامه "·
وسلم كولو المقعد لثريو Thuriot الذي كان من أنصار دانتون، واقترب روبيسبير من المنصة صائحا، لكن جرس ثريو بعثر معظم كلمات روبيسبير، واعتلى أحدهم موجة الفتنة وقال: "لآخر مرة يا زعيم الحشاشين Assassins سيكون كلامي بالإذن منك" وارتفعت أصوات أعضاء المجلس الوطني معبرة عن عدم رضائها عن هذه الطريقة في الخطاب، ونطق أحد الأعضاء بكلمات كأنها قدر نزل: "إنني أطالب بالقبض على روبيسبير" فقام أوغسطين روبيسبير يتحدث كرجل روماني: "إذا كان أخي مذنبا فإنني مذنب معه، إنني أشترك معه في فضائله، فليكن اسمي مدرجا في قراركم بالقبض عليه" وطلب ليباس Lebas الطلب نفسه، وبالفعل فقد ناله· وجرى التصويت على القرار فقبض البوليس على الروبيسبيرين (روبيسبير وأخيه) وسان - جوست، وليباس Lebas وكوثون Couthon وأسرع بهم إلى سجن لكسمبرج.
وأمر محافظ باريس (رئيس بلديتها) فلوريو - ليكو Fleuriot Lescot بنقل السجناء إلى دار البلدية فتلقاهم كضيوف مكرمين وبسط عليهم حمايته، وأمر رؤوس الكومون (أولو الأمر فيه) هانريو Hanriot رئيس الحرس الوطني في العاصمة - أن يأخذ جنودا وأسلحة من التوليري Tuileries وأن يحاصر أعضاء المؤتمر الوطني حتى يسحبوا قرارهم بالقبض على روبيسبير والآخرين الذين قبض عليهم معه لكن هانريو كان ثملا لإفراطه في الشراب فلم ينفذ هذه المهمة·(ملحق/193)
وعين نواب المؤتمر الوطني بول بارا Paul Barras ليكون على رأس قوة من قوات الدرك (الجندرمة gendarmes) والتوجه إلى دار البلدية ليعيد القبض على السجناء، ودعا رئيس المجلس البلدي هانريو مرة ثانية فوجده قد جمع بشكل ارتجالي مجموعة من عوام السانس كولوت، بدلا من رجال الحرس الوطني (الأهلي) الذين لم يستطع جمعهم، وكان أفراد الطبقة الدنيا قد أصبحوا الآن لا يحبون كثيرا الرجل (روبيسبير) الذي خفض أجورهم وقتل هيبير وشومت ودانتون وديمولان، وثمة سبب آخر وهو أن الأمطار كانت قد بدأت تسقط فانصرفوا إلى منازلهم وأعمالهم، واستطاع بارا - وجنود الدرك الذين معه - أن يحاصر دار البلدية بسهولة ·
وحاول روبيسبير الانتحار عندما رآهم، لكن الطلقة التي أطلقها بيده غير الثابتة اخترقت وجنته ولم تحطم غير فكه · أما ليباس فقد كانت يده أكثر ثباتا فقد أطلق النار على رأسه فشقها وخرج مخه، أما أوغسطين روبيسبير فقفز من النافذة في محاولة لم تنجح للهروب فكسرت ساقه أما كوثون المشلول (الذي لا يحس بساقيه) فقد دفع تحت السلالم وظل هناك لا أحد يقدم له مساعدة حتى حمله الجنود إلى السجن فأودعوه إياه مع روبيسبير وأخيه وسان - جوست ·
وبعد ظهيرة اليوم التالي (28 يوليو 1794) نقلت أربع عربات هؤلاء السجناء الأربعة بصحبة فلوريو Fleuriot وهانريو Hanriot ( وكان لا يزال ثملا) وستة عشر آخرين إلى المقصلة التي نصبت فيما يعرف الآن - ويا للعجب - بميدان الوئام Place de La Concorde، وفي الطريق سَمعوا مِنْ المشاهدين الشتى النداءاتَ، من بينهم "يسقط الحَدّ الأعلى! " وَجدوا الجمهور عصري الذي يَنتظرُهم: النوافذ التي تُشرفُ على المربعِ كَانتْ قَدْ إستأجرتْ في الأسعار الخيالية؛ جاءتْ السيداتُ مُتأنقات كما يكون بالنسبة للمهرجان. عندما رئيس الـ Robespierre زجر إلى الحشدِ ارتفعت صيحات الرضاء. "موت واحد أكثر قَدْ يَعْني قليلاً"، لكن هذا، في مشاعر باريس، عَنى بأنّ الإرهابَ جاءَ إلى نهايةِ.
6 - الثيرميدوريون (نسبة إلى شهر الدفء) أو الثيرميدور في التقويم الجمهوري الفرنسي
من 29 يوليو 1794 إلى 26 أكتوبر 1795 م(ملحق/194)
في 29 يوليو أرسل الذين انتصروا في التاسع من ثيرميدور Thermidor ( شهر الدفء في التقويم الجمهوري) سبعين من أعضاء كومون باريس إلى المقصلة وبعدها أصبح الكومون تابعا للمؤتمر الوطني، وتم إلغاء قانون يوم 22 من شهر المروج الخضر وهو الشهر التاسع من التقويم الجمهوري (تم الإلغاء في أول أغسطس)، وتم إطلاق سراح من سجنهم روبيسبير وتم سجن بعض أعوانه · وتم إصلاح المحكمة الثورية لضمان محاكمات عادلة· وتم استدعاء فوكييه- تينفيل Fouquier-Tinville للدفاع عن أعماله فاستطاع بسبب براعته الاحتفاظ برأسه حتى 7 مايو سنة 1795 وظلت لجنة الأمن العام ولجنة المراقبة العامة (لجنة الضمان العام) لكن مخالبهما كان قد قصت، وازدهرت الدوريات المحافظة وماتت الصحف الراديكالية لافتقارها للدعم الجماهيري·
ووجد تاييه وفوشيه وفريرون أنه يمكنهم أن يشاركوا في القيادة الجديدة بالتأثير في المؤتمر الوطني لتجاهل أدوارهم في فترة حكم الإرهاب، وتم إغلاق نوادي اليعاقبة في أنحاء فرنسا كلها (12 نوفمبر)، وانتقل نواب المؤتمر الوطني ممن كانوا في السهل (نواب الوسط) الذين طالما عانوا من التخويف والإرهاب إلى اليمين، أما الجبليون فقد أزيحوا عن السلطة، وفي 8 ديسمبر استعاد ثلاثة وسبعون عضوا من الجيرونديين ممن ظلوا على قيد الحياة مقاعدهم· وهكذا أعادت البورجوازية قبضتها على "الثورة"·
وسمح استرخاء الحكومة بإعادة إحياء الدين· لقد كان معظم الرجال الفرنسيين، والنساء الفرنسيات كلهن تقريبا يفضلون الاحتفال بالقديسين والطقوس الدينية على وفق التقويم الكاثوليكي على مهرجانات الاحتفاء بالموجود الأسمى Supreme being ولم يكن على خلاف هذا الاتجاه الشعبي سوى قلة صغيرة ممن تلقوا تعليما عاليا وأفراد الشريحة العليا من الطبقة الوسطى التي تأثرت بحركة التنوير· وفي 15 فبراير سنة 1795 تم توقيع معاهدة سلام مع متمردي الفندي يضمن لهم حرية العبادة، وبعد أسبوع واحد امتد هذا الحق ليشمل فرنسا كلها؛ وتعهدت الحكومة بالفصل بين الكنيسة والدولة·(ملحق/195)
أما المشكلة الأكثر صعوبة واستعصاءً على الحل الدائم المرضي فهي مشكلة العلاقة بين المنتج والمستهلك، فالمنتجون يطالبون ويلحون في المطالبة بإلغاء سقف الأسعار (الحد الأقصى الذي حددته الحكومة لأسعار السلع) والمستهلكون يطالبون بإلغاء الحد الأعلى للأجور، وقد استمع المؤتمر الوطني إلى طلبات الطرفين وألغى الحد الأقصى في الحالتين (في 24 ديسمبر سنة 1794) فقد كان يسيطر على المؤتمر في ذلك الوقت أعضاء متحمسون يؤمنون بالاقتصاد الحر والمنافسة وحرية التجارة، فأصبح العمال الآن أحرارا في البحث عن الأجور العليا، وأصبح الفلاحون والتجار أحرارا في التصرف على وفق الحركة التجارية·
وارتفعت الأسعار على الجانبين (أسعار البضائع وأسعار العمالة) وأصدرت ا لحكومة أسينات جديدة كعملة ورقية لكن قيمتها تدنت أكثر من ذي قبل: فبشل bushel الدقيق الذي كان يكلف أهل باريس أسينين اثنين في سنة 1790 أصبح يكلفهم 225 أسيناً في سنة 1795 وارتفع سعر الحذاء من خمسة أسينات إلى مائتين، وارتفع سعر الاثنتي عشرة بيضة من 67 إلى 2,500 ·
وفي أول أبريل سنة 1795 انفجرت في أحياء مختلفة في باريس مرة أخرى اضطرابات بسبب أسعار الخبز واقتحمت جماهير غير مسلحة مقر المؤتمر الوطني مطالبة بالغذاء وإنهاء اضطهاد الراديكاليين، وقد أيدهم عدد من الأعضاء ممن أصبحوا الآن ضمن الجبليين ووعد المؤتمر الوطني بإيجاد حل عاجل لكنه في الوقت نفسه دعا الحرس الوطني لتفريق المشاغبين· وفي تلك الليلة أصدر المؤتمر الوطني قرارا بترحيل (نفي) الزعماء الراديكاليين بيلو فارين Billaud-Varenne · وكولو دربوا وبارير Barere وفادييه Vadier إلى غيانا Guiana، وتملص بارير وفادييه من القبض أما كولو وبيلو Billaud فقد نفيا إلى مستعمرة أمريكا الجنوبية حيث الحياة القاسية، وهناك مرض هذان المعاديان للإكليروس فاعتنت الراهبات بهما ومرضنهما· واستسلم كولو للموت أما بيلو Billaud فعاش وتزوج من جارية مخلطة وأصبح فلاحا قانعا، ومات في هيتي Haiti في سنة 1819 ·(ملحق/196)
وأصبحت المعارضة العامة شرسة فقد ظهر بلاكار Placards داعيا للعصيان المسلح، وفي 20 مايو غزا حشد من النساء والرجال المسلحين المؤتمر الوطني مطالبين بالخبز ومطالبين بإطلاق سراح الراديكاليين المقبوض عليهم وبحل abdication الحكومة، وقتل أحد النواب بطلقة مسدس ورفع قاتلوه رأسه اليابس (إشارة لعناده) على رمح أمام رئيس المؤتمر بوينسي دنجلا Boissy d'Anglas الذي أدى له (للرأس) التحية الرسمية، وأجبرت القوات الحكومية والمطر الهاطل المتمردين على العودة لبيوتهم·
وفي 22 مايو حاصرت قوة بقيادة بيشجرو Pichegru عمال فابورج سان أنطوان Fabourg St. Antoine وأجبرت المتمردين المسلحين الآخرين على الاستسلام وقبض على اثني عشر نائبا من النواب الجبليين (أي اليساريين) بتهمة المشاركة في الاضطرابات وقد هرب منهم اثنان وانتحر أربعة وكان خمسة على وشك الموت من جراء جروح أحدثوها بأنفسهم فأسرعوا بهم إلى المقصلة حيث جزت رقابهم· وطالب عضو محافظ بالقبض على كارنو Carnot فاعترض صوت: "لقد خطط لانتصاراتنا ونظم أمرها" وهكذا احتفظ كارنو برأسه·
والآن (مايو ويونيه 1795) استعر الإرهاب الأبيض White Terror الذي كان ضحاياه هم اليعاقبة وقضاته هم البورجوازية (المعتدلون Moderates) المتحالفة مع الروابط الدينية: "جماعة يسوع Companies of Jesus " و"جماعة يهوه Companies of Jehu" و"جماعة الشمس Companies of Sun"·
وفي ليون (5 مايو) جرى ذبح 97 إرهابيا سابقا في السجن وفي إكس- أن- بروفانس Aix- en Provence (17 مايو) جرى ذبح ثلاثين آخرين "للتخلص من البربرية" وحدث أمر كهذا في أرل Arles أفنيون ومرسيليا· وفي تاراسون Tarascon (25 مايو) حاصر مائتا رجل ملثم الحصن المليء بالمسجونين وقذفوا بهم إلى الرون Rhon · وفي طولون ثار العمال على الإرهاب الجديد، فقام إسنار Isnard أحد الجيرونديين الذين عادوا إلى وضعهم السابق بقيادة كتيبة جند وقضى على هذا الاضطراب العمالي (31 مايو) · إن الإرهاب إذن لم ينته، وإنما غير يديه "حل إرهابيون جدد محل إرهابيين قدامى"·(ملحق/197)
لم يعد البورجوازيون المنتصرون في حاجة لحلفاء من البروليتاريا لأنهم - البورجوازيين - قد كسبوا دعم الجنرالات وأولئك الذين أحرزوا الانتصارات التي رفعت من مركز البورجوازيين حتى بين طبقة العوام (السانس كولوت) ففي 19 يناير سنة 1795 استولى بيشجرو Pichegrn على أمستردام وهرب ستادثولدر وليم الرابع Stadtholder William IV إلى إنجلترا وأصبحت هولندا طوال عقد من الزمن هي جمهورية "باتا فيا Batavian Republic" تحت الوصاية tutelage الفرنسية·
وقامت جيوش فرنسية أخرى بإعادة الاستيلاء على الشاطئ الأيسر لنهر الراين واحتفظت بمواقعها فيه· أما المتحالفون ضد فرنسا Allies فإنهم بعد أن هزموا واختلفوا تركوا فرنسا واتجهوا إلى فريسة أسهل في بولندا، فبروسيا رغبة منها في منع روسيا من الاستيلاء على أي شيء في التقسيم الثالث (1795) أرسلت مبعوثيها إلى باريس ومن ثم إلى بازل Basel للتفاوض لعقد سلام منفصل (أي بغير مشاركة حلفائها) مع فرنسا· وما كان المؤتمر الوطني ليستطيع تحمل هذا الطلب لأنه نظر بذعر إلى سلام يمكن أن يعيد إلى باريس أو أي مكان آخر في فرنسا آلاف الجنود نصف المتوحشين يعيشون الآن من موارد البلاد التي فتحوها، ولو عادوا لكانوا إضافة جديدة للمجرمين والمرضى والمشاغبين في المدن الفرنسية التي يصرخ ساكنوها الآن طالبين فرص عمل وخبزا·
كما أن الجنرالات الذين لم يستريحوا من متاعب الحروب والذين أثملتهم الانتصارات - بيشجرو وجوردا وهوش ومورو - ربما لا يقاومون الإغراء بالقيام بانقلاب عسكري ضد الحكومة إن هم عادوا من جبهات القتال· لكل هذا أرسل المؤتمر الو طني إلى بازل، مارك فرنسوا دى بارثليمي Marquis Francois de Barthelemy مزودا بتعليمات بالتمسك بالممتلكات الفرنسية على الشاطئ الأيسر للراين، ورغم اعتراض بروسيا إلا أنها استسلمت للواقع، ولحقت سكسوني Saxony وهانوفر وهسي كاسل Hesse-Cassel بالمناطق الأخرى، وفي 22 يونيو تخلت إسبانيا لفرنسا عن الجزء الشرقي سانتو دومنجو Santo Domingo من جزيرة هسبانيولا Hispanola · واستمرت الحرب مع النمسا وإنجلترا لسبب بدا كافيا وهو إبقاء الجنود الفرنسيين على جبهات القتال·(ملحق/198)
وفي 27 يونيه جلبت السفن البريطانية 3,600 مهاجرا (من الذين كانوا قد تركوا فرنسا إثر أحداث الثورة) من بورتسموث Portsmouth وأنزلتهم عند قنة كيبورن Quiberon ( قنة الجبل الداخلة في البحر) من بريتاني Brittany لينضموا إلى كتائب شوا Chouan الملكية لإحياء تمرد أهالي فندي، وقد هزمهم تاييه في معركة عبقرية (21 يوليو) وفي حركة قادها تاييه قبض المؤتمر الوطني على 748 وأمر بقتلهم·
وفي 8 يونيو سنة 1795 مات ابن لويس السادس عشر (ولي العهد) البالغ من العمر عشر سنوات· مات في السجن وليس من دليل على أن ذلك كان لسوء المعاملة، وربما كان موته بسبب درن العقد اللمفاوية العنقية ( Scrofula) والاكتئاب despondency · ومن ثم اعترف الملكيون بالأكبر من أخوي لويس السادس عشر ملكا وهو المهاجر كومت (كونت) دى بروفانس Comte de Provence باعتباره لويس الثامن عشر وأقسموا أن يجعلوه ملكا لفرنسا، وأعلن هذا البوربوني غير الإصلاحي (في أول يوليو 1795) أنه إن عاد للعرش أعاد نظام الحكم القديم على حاله كما كان بلا تغيير بما في ذلك الحق المطلق للملك والحقوق الإقطاعية، ومن هنا كان الدعم المشترك الذي قدمه البورجوازيون والفلاحون والعامة من السانس كولوت لنابليون خلال اثنتي عشرة معركة·
لقد أرهقت الثورة فرنسا فبدأ التسامح مع المشاعر الملكية التي تظهر في بعض الصحف والصالونات والأسر الثرية· فلا يستطيع سوى ملك شرعي يتولى الملك بالوراثة وعلى وفق التقاليد المتبعة أن يعيد النظام والأمن لشعب خائف وتعس بعد سنوات من التمزق السياسي والاقتصادي والانقسام الديني والحرب والمستمرة، وعدم ضمان فرصة عمل أو طعام أو حتى حياة· وكان نصف سكان جنوب فرنسا أو أكثر نافرين بعمق من باريس وسياسيّيها·(ملحق/199)
وفي باريس وجدنا اجتماعات الأحياء التي كان يسيطر عليها العامة (السانس كولوت) في وقت من الأوقات أصبحت الآن بشكل متزايد يسودها رجال الأعمال، بل وقبض على زمام الأمور فيها الملكيون وكانت صالات المسارح تضج بالتصفيق استحسانا عندما يرد في سياق المسرحية حديث عن "أيام زمان الطيبة" قبل سنة 1789 وأصبح الشباب الذين كانوا في حالة ثورة دائمة يشاغبون أو يتمردون على الثورة فنظموا أنفسهم في روابط كرابطة الشباب الأنيق (الترجمة الحرفية: الشباب المموه بالذهب) Jeunesse Doree ورابطة الهوى Merveilleux ( أو العجيب كما تفيد الكلمة في القواميس الفرنسية) ورابطة الشباب الغندو أو الأنيق Muscadins ( أو شباب الثمار أو الفاكهة على وفق المقابل الإنجليزي الذي - وضعه المؤلف لها Fruits) وراحوا يتباهون بملابسهم الغالية الغريبة وشعورهم الطويلة المعقوصة يجوبون الشوارع حاملين الهراوات الخطرة معبرين بجسارة عن مشاعرهم الملكية· لقد أصبح من غير الملائم (مما لا يتمشى مع المودة) أن يؤيدوا الحكومة الثورية بدليل أنه عندما سرى خبر مبتسر عن حل المؤتمر الوطني قوبل ذلك بالفرح حتى إن بعض الباريسيين رقصوا في الشوارع·
لكن المؤتمر الوطني استمات للاستفادة مما بقي له من وقت، ففي يونيو سنة 1795 بدأ في وضع دستور جديد مختلف كثيرا عن الدستور الديمقراطي غير العملي الصادر في سنة 1793 والآن فقد تبنى المؤتمر الوطني نظاما توجد بمقتضاه هيئتان تشريعيتان إحداهما عليا مكونة من النواب الأكبرين سنا والأكثرين خبرة، وموافقة هذه الهيئة العليا Upper Chamber يعد ضروريا لإقرار أي إجراء تتبناه الهيئة الأخرى (الأدنى درجة Lower chamber) الأكثر انفتاحا واتصالا مباشرا بالحركات الشعبية والأفكار الجديدة· فالشعب كما قال بويسى دنجلا Boissy d'Anglas ليس على الدرجة الكافية من الحكمة والتوازن ليقرر سياسة الدولة ·(ملحق/200)
وعلى هذا كان دستور السنة الثالثة Constitution of the year III ( تبدأ السنة الثالثة من 22 سبتمبر سنة 1794) كمراجعة لإعلان حقوق الإنسان (1789) لحذف ما به من تضليل وخداع فيما يتعلق بالفضائل والسلطة· لقد جرى حذف الافتراض القائل إن: "الناس يولدون أحرارا، ويظلون أحرارا متساوين في الحقوق" وعرف المساواة بأنها لا تعني أكثر من أن: "القانون ينطبق على الجميع" وجعل الانتخابات غير مباشرة بمعنى أن يقوم المصوتون Voters ( من كان لهم حق الانتخاب وأدلوا بأصواتهم) بانتخاب مندوبين (أو مفوضين delegates) ليكونوا أعضاء في هيئة المنتخبين (بكسر الخاء) electoral College في كل دائرة (محافظة) ويقوم هؤلاء الناخبون بدورهم باختيار أعضاء الهيئة التشريعية الوطنية (على مستوى فرنسا) وأفراد السلطة القضائية Judiciary والهيئات الإدارية· واقتصرت عضوية هيئة المنتخبين على أصحاب الملكيات وبذا يكون اختيار الحكومة الوطنية منوطا بثلاثين ألف فرنسي·
وقدم واحد من الأعضاء اقتراحا للمؤتمر الوطني بإتاحة حق الانتخاب للنساء لكن عضواً آخر أقنعه بسؤال وجهه: "أين هي الزوجة الصالحة التي تجسر على القول بأن رغبة زوجها غير رغبتها؟ " ورفض مبدأ سيطرة الدولة على الاقتصاد باعتباره غير عملي لأنه يعوق الإبداع والمشروعات ويبطئ من نمو ثروة البلاد·
وضم هذا الدستور بعض الأفكار الليبرالية: لقد أكد على الحرية الدينية، وكذلك حرية الصحافة " لكن في حدود آمنة" (وكانت الصحف في ذلك الوقت في غالبها تديرها الطبقة الوسطى) وأكثر من هذا فإن التصديق على الدستور ترك للناخبين الذكور الراشدين، مع إضافة شرط يدعو للدهشة: أن يكون ثلثا النواب في الهيئات الجديدة أعضاء في المؤتمر وإذا لم ينجح عضو المؤتمر في الانتخابات ملأ الأعضاء (من المؤتمر الوطني) الذين أعيد انتخابهم الفراغ (في الثلثين) باختيار زملاء لهم ممن هم أعضاء في المؤتمر الحالي، وكان تعليل ذلك هو ضرورته لاستمرار السياسات والخبرات·(ملحق/201)
وكان المصوتون طيعِّين (متجاوبين) فمن بين 958,226 أدلوا بأصواتهم في صناديق الاقتراع وافق على الدستور 941,853، ومن بين 26,3131 صوت كانت مطلوبة للثلثين (الشرط الآنف ذكره) وافق 167757 · وفي 23 سبتمبر سنة 1795 جعل المؤتمر الوطني الدستور الجديد هو قانون فرنسا وجهز لانسحابه (أي المؤتمر) بنظام·
لقد كان من الممكن أن يزعم بقيامه ببعض الإنجازات رغم شهوره التي قضاها في التشوش والإرهاب والخضوع للجان التابعة له وخوف أعضائه من الطرد (من المؤتمر الوطني) بناء على طلب السانس كولوت (عوام الطبقة الثالثة) · لقد حافظ المؤتمر على شيء من القانون في المدينة في وقت فقد فيه القانون هالته وجذوره· كما أن المؤتمر دعم تفويض السلطة للبورجوازيين لكنه حاول السيطرة على جشع التجار بدرجة تكفي لمنع حدوث مجاعة تسبب شغب العامة وكان قد نظم الجيوش الفرنسية ودربها، ورفع من شأن الجنرالات الأكفاء المخلصين، وصد التحالف القوي ضد فرنسا وحقق السلام بأن جعل فرنسا تحميها حدود طبيعية (الراين وجبال الألب وجبال البرانس) ومياه المحيط، وبالإضافة إلى هذه الجهود كلها المكلفة أسس النظام المتري، وأسس أو أعاد تأسيس متحف التاريخ الطبيعي ومدرسة البوليتقنية Ecole Polytechnique ( البوليتكنك) ومدرسة الطب· وافتتح معهد فرنسا Institute of France، لقد بات المؤتمر الوطني الآن بعد ثلاثة أعوام ظل فيها باقيا بما يشبه المعجزة يستحق موتاً هادئا على أن يبعث ثلثا أعضاؤه (بانضمامهم للهيئات الجديدة) ·(ملحق/202)
لكن ما حدث هو أن موته لم يكن بسلام وإنما ملطخاً بالدم كما هو المألوف في ذلك الوقت فالبلوتوقراط (ذوو النفوذ الناشئ عن ثرواتهم plutocrats) والملكيون الذين كانوا قد استولوا على قسم (حي) الليبليتيير Lepeletiere في باريس حول البورصة، قاموا بحركة تمرد على التشريعات التي ولدت من جديد، وانضمت إليهم أحياء أخرى لأسباب مختلفة تخصها، وكونوا جميعا قوة قوامها 25,000 رجل وتقدموا إلى عدة مواقع فتحكموا في التوليري ومن ثم في المؤتمر الوطني (5 أكتوبر، 1795/ 13 فيندميير Vendemiaire بالتقويم الجمهوري) فعين نواب المؤتمر المرعوبون بارا لتولى أمور الدفاع كيفما اتفق فعين بدوره بونابرت وكان في السادسة والعشرين من عمره، وكان وقتها عاطلا في باريس (أي بلا عمل) ليجمع الرجال والمؤن والأهم من ذلك المدفعية·
وكان بطل طولون Toulon يعرف مكان المدافع فأرسل مورا Murat مع قوة لتأمينها فأحضروها ووضعوها في مراكز تشرف على المتمردين المتقدمين، وصدرت النداءات للمتمردين بالتفرق، فاحتقروها، فأمر نابليون بإطلاق المدافع فسقط ما بين مائتي قتيل وثلاثمائة جريح وفر الباقون، وأحيا المؤتمر الوطني بذلك آخر محاكماته المصحوبة بالتعذيب ودخل نابليون الحاسم القاسي لتكون أعماله وسيرته من أكثر المشاهد دراماتيه في التاريخ الحديث·
وفي 26 أكتوبر حل المؤتمر الوطني نفسه وفي الثاني من نوفمبر سنة 1795 بدأ الطور الأخير للثورة الفرنسية·
وفي هذه الأثناء قاد نابليون رجاله ليخوض بهم اثنتي عشرة معركة للفوز بدرة لومبارديا مدينة ميلان الغنية المتحضرة· وعند لودي Lodi على الشاطئ الغربي للأدا Adda لحقت قواته الرئيسية بالقوة الرئيسية في الجيش النمساوي بقيادة بوليو Beaulieu، فتراجع بوليو وعبر النهر فوق جسر خشبي طوله 200 متر تم نصب مدافعه في مواقع تسمح له بمنع الفرنسيين من القيام بعبور مماثل، فأمر نابليون فرسانه بالاتجاه شمالا حتى يجدوا مخاضة يعبرون المجرى منها، ومن ثم يتجهون جنوبا لمهاجمة مؤخرة الجيش النمساوي· واحتفظ نابليون بمشاته خلف أسوار المدينة ومنازلها، وشارك بفعالية في توجيه نيران مدافعه إلى المدافع النمساوية التي تحمي الجسر·(ملحق/203)
وعندما وصل فرسانه فجأة إلى الشاطئ الشرقي للنهر وهاجموا القوات النمساوية، أمر نابليون الرماة (رماة القنابل اليدوية) أن يشقوا الطريق عبر الجسر فحاولوا لكن المدافع النمساوية أوقفت تقدمهم، فاندفع نابليون متقدما وانضم إلى كل من لان Lannes وبيرثييه Berthier في قيادة المجموعة فهزم النمساويون وأسر منهم ألفان، فانسحب بوليو Beaulieu إلى مانتوا Mantua واستراح الجيش الفرنسي مدة يوم ثم دخل ميلان وبسبب هذه الواقعة وهي اندفاع القوات الفرنسية بقيادة بونابرت بشكل انتحاري وبروح عالية في الوقت نفسه معرضا نفسه لنيران العدو أطلق عليه تدليل محبب وهو "العريف الصغير Le petit Caporal "·
وبعد هذا الانتصار بفترة وجيزة تلقى نابليون من حكومة الإدارة اقتراحاً مهينا له حتى إنه نص في رده لهم عن تخليه عن مهامه مضحيا بما وصل إليه من مجد· فهؤلاء الرجال الخمسة (حكومة الإدارة) الذين كانوا ينعمون بالمهرجانات الاحتفالية عندما تصل أخبار انتصارات نابليون إلى باريس، أخبروه (7 مايو) بضرورة أن ينقسم جيشه الآن إلى قسمين؛ قسم يقوده الجنرال فرانسوا إيتين كيلرمان Francois-Etienne Kellermann ( ابن محقق نصر فالمي) ليعهد إليه حماية الفرنسيين في شمال إيطاليا من هجمات النمساويين، وقسم بقيادة بونابرت ليتجه به جنوبا ليضم الولايات الباباوية Papal States ومملكة نابلي إلى الحكم الفرنسي·
ولم ير نابليون في هذا الاقتراح حيفا أو ظلما لشخصه فحسب وإنما رأى فيه خطأ إستراتيجيا أساسيا، فالهجوم على الباباوية لن يثير فحسب كاثوليك أوربا كلهم بمن فيهم كاثوليك فرنسا على الثورة الفرنسية، وإنما سيكون كاثوليك النمسا مستعدين بالفعل لإرسال جيش قوي بقيادة الفيلد مارشال كونت داجوبيرت فون فيرمسر Field Marshal Count Dagobert von Wurmser ( فورمسر) لطرده (أي طرد نابليون) إلى فرنسا· لذا فقد أجاب نابليون بأن الجيش الفرنسي في إيطاليا في حاجة لأن يكون موحدا مزودا بما يلزمه ليحافظ على مكاسبه ولا يمكن أن تتم قيادته بنجاح إلا بقيادة واحدة، لذا فهو - أي نابليون - سيترك موقعه القيادي للجنرال كيلرمان وسيقدم استقالته·(ملحق/204)
وتلقت حكومة الإدارة رسالة نابليون في الوقت الذي تلقت فيه تقارير عن نجاحاته الأخيرة في المجالين الحربي والدبلوماسي· ذلك أن الجنرال الشاب (نابليون) كان قد أعطى لنفسه الحق في عقد معاهدات السلام تماما كحقه في شن الحرب، كما أعطى لنفسه الحق في أن يقدر الثمن الذي يجب أن تدفعه كل مدينة أو دولة إيطالية لتنعم بالحماية الفرنسية بدلاً من أن يتركها نهباً لطمع عساكره، ولم يعط نابليون لنفسه هذه الحقوق إلا اعتزازا منه بما حققه من نصر ولشعوره بأن هؤلاء السياسيين القابعين بعيدا في باريس (حكومة الإدارة) ليسوا في موقف يمكنهم من التفاوض لعقد المعاهدات بما يتناسب مع موارد العدو وظروف الجيش الفرنسي·
وإنما وجد نفسه هو الأقدر بحكم قربه من الحقائق الموجودة على أرض الواقع· لكل هذا فإنه بعد دخوله ميلان Milan منتصرا (15 مايو 1796) رتب هدنة مع دوق بارما Parma ودوق مودينا Modena وملك نابلي Naples، ضمن - من ناحيته - لهم السلام مع فرنسا وحمايتهم من النمسا، وحدد لكل منهم قيمة ما يدفعه لقاء هذا التفاهم، فدفعوا مبالغ طائلة وتحملوا - عاجزين عن فعل أي شيء - سرقة الأعمال الفنية الخالدة من متاحفهم وقصورهم وميادينهم العامة·
لقد رحبت به ميلان، فطوال ما يقرب من قرن كانت تتطلع للتحرر من حكم النمسا، وكان هذا القائد الحربي الشاب - على غير العادة - كريما - إذا قيس بالفاتحين الآخرين، وكان متآلفا مع أسلوب الحياة الإيطالي ومع اللغة الإيطالية مقدرا للنساء الإيطاليات، حفيا بموسيقي الإيطاليين وفنهم· ولم يكن ذلك غريبا على الإيطاليين فلم يكن إدراكهم لشغفه بالفن الإيطالي مفاجئا· وعلى أية حال فهو لم يكن إيطاليا إلا لشهر أو نحو ذلك (المقصود أنه لم يظل ودوداً بهذا الشكل إلا لفترة شهر أو نحو ذلك) · لقد جمع حوله فناني إيطاليا وشعراءها ومؤرخيها وفلاسفتها وعلماءها وراح يتحدث معهم بألفة· لقد بدا له لفترة وكأن لودوفيكو سفورزا Lodovico Sforza وليوناردو دا فنتشي بعثا معا من جديد وصارا كيانا واحدا· أي شيء يمكن أن يكون أكثر جاذبية وتشويقا من خطابه إلى عالم الفلك بارنابا أورياني Barnaba Oriani؟(ملحق/205)
"المثقفون والعلماء في ميلان لم يعتادوا أن ينعموا بما يستحقونه من تقدير· فهم مختبئون في معاملهم يظنون أنه إذا لم ينلهم من الملوك والقسس أذى، إنهم إذن لفي نعيم· إن الأمر ليس كذلك الآن· لقد أصبح الفكر في إيطاليا حرا· لا مكان لمحاكم التفتيش بعد الآن· لا مكان للتعصب وعدم التسامح· لا مكان للظلم والطغيان· إنني أدعو المثقفين والعلماء كلهم أن يجتمعوا معا وأن يدلوني على ما يجب عمله أو الاحتياجات المطلوبة حتى نبث حياة جديدة في العلوم والفنون الجميلة··· أرجوك أبلغ هذه المشاعر عني للرجال المميزين من قاطني ميلان المثقفين والعلماء" ·
قد أدمج نابليون مدينة ميلان ومدناً أخرى في جمهورية لومبارديا التي كان على سكانها أن يشاركوا الفرنسيين في "الحرية " و"المساواة" و"الإخاء" و"الضرائب"·
وفي إعلان للمواطنين الجدد (صدر في 19 مايو 1796) وضح أنه ما دام الجيش المحرر قد دفع ثمنا باهظا لتحرير لومبارديا، فإن على المحررين أن يشاركوا بدفع نحو عشرين مليون فرنك لإنفاقها على جنوده (جنود نابليون)، وهذا - بالتأكيد - مجرد إسهام صغير بالنسبة لبلاد بمثل هذا الخصب، وأكثر من هذا فإن الضرائب ستفرض على: "الأثرياء ··· وعلى المؤسسات الكنسية حتى يتم إعفاء الفقراء "· ولم يحظ النظام الذي فرض في الأيام الآنف ذكرها بكثير من الشعبية، ذلك النظام القاضي بأن يصحب مندوب إيطالي الجيش الفرنسي ليدله على الأعمال الفنية والمستلزمات العلمية وما إلى ذلك الموجودة في المدن المفتوحة لتحويلها إلى الجمهورية · ولم يستطع الإيطاليون الثأر لأنفسهم وإنما عللوا أنفسهم ببعض التوريات اللفظية كقولهم: "ليس الفرنسيون كلهم لصوصا وإنما منهم عدد كبير من الصالحين"·(ملحق/206)
وعلى أية حال فقد كان نابليون يتبع في هذا النظم التي وضعها المؤتمر الوطني وحكومة الإدارة، وكان سلب الأعمال الفنية في المدن المفتوحة عملاً ليس له سوابق إلا فيما ندر، أثار السخط في كل مكان ما عدا فرنسا، وكان نموذجا احتذاه المحاربون بعد ذلك· وتم إرسال كل ما سلب إلى حكومة الإدارة فتلقتها بسرور ووجدت هذه المسلوبات طريقها إلى اللوفر Louvre حيث توجهت لوحة الموناليزا Mona Lisa التي لم تفقد ابتسامتها رغم ما تعرضت له من اغتصاب (المقصود أن نقل اللوحة من إيطاليا إلى فرنسا نوع من الاغتصاب) واحتفظ نابليون لنفسه بقليل من العوائد الإيطالية استثمر بعضها في تقديم الرشاوى بحكمة وتدبير، واستخدم كثيرا منها في الدفع لجنوده ليخفف من حماسهم للسرقة·
وبعد أن جهز نابليون عشا لعروسه أرسل يلح على جوزيفين (18 مايو) لتأتي إليه:
"ميلان··· لابد أن تعجبك فهي جميلة جداً·· سأطير من الفرح··· أكاد أموت شوقاً لأراك وأنت تحملين طفلك ··· Addio,mio dolce amor.... تعالي بسرعة لتسمعي الموسيقي اللطيفة ولترى إيطاليا الجميلة" ·(ملحق/207)
وبينما كان خطابه في الطريق إليها عاد لينهمك في طرد النمساويين من إيطاليا· وفي 20 مايو كان مرة أخرى مع جنوده ولأنه كان يعلم أنهم سيواجهون بعد فترة وجيزة كثيرا من المصاعب وقوات العدو، فقد خاطبهم في بلاغ آخر من بلاغاته البليغة:
أيها الجنود
لقد اندفعتم كالسيل من جبال أبينين Apennines وهزمتم كل قوة اعترضت مسيرتكم وشتتم شملها ··· فبو Po وتيسينو Ticino وأدا Adda لا يمكنها أن توقف تقدمكم ·· نعم، أيها الجنود، لقد قمتم بالكثير لكن أحقا ما عاد مطلوبا منكم شيئا آخر؟ لا! إنني أراكم بالفعل وقد طرتم لتقبضوا على أسلحتكم ··· فأنتم لا تحبون الاستجابة الكسلي·· فكل يوم يمر دون أن تحققوا أمراً جليلا، إنما هو يوم ضائع لا يحسب من أعماركم·· وهو ضائع أيضا لأنكم لم تحققوا فيه سعادتكم · دعونا نتحرك بسرعة، فما زال أمامنا مسيرة شاقة، ومازال أمامنا عدو يتحتم علينا الانتصار عليه، ولا زالت أمامنا أكاليل الغار نحوزها، ومن الخطأ أن تحركنا روح الانتقام··· لا تفزعوا الشعوب التي نمر بها، فنحن أصدقاء للشعوب كلها··· ستحوزون العظمة الخالدة لتغييركم وجه الحياة في أجمل بقاع أوربا ·· فالأمة الفرنسية الحرة ··· ستقدم لأوربا سلاما مجيدا ··· عندها ستعودون إلى بيوتكم ومواطنيكم الذين سيميزونكم عن سواكم ··· سيقول قائلهم عن الواحد منكم " إنه كان مع الجيش الفرنسي المقاتل في إيطاليا " ·
وفي 27 مايو واصلت القوات الفرنسية تقدمها في لومبارديا واحتل نابليون بريسكيا Brescia - متجاهلاً أنها تابعة للبندقية - وجعلها المركز الأول للمعركة القادمة، وعندما أرسلت البندقية مبعوثيها إليه للاحتجاج، تظاهر بالغضب وأثار الرعب فيهم بقوله لهم إن البندقية - بالفعل - تسمح للقوات النمساوية باستخدام طرقها ومدنها، فاعتذر البنادقة له ووافقوا على أن يكون له الحق نفسه في استخدام أراضي البندقية ·(ملحق/208)
وأدى جد القوات الفرنسية في المسير إلى وصولها إلى بيشيرا Peschiera، فهربت الحامية النمساوية التي تركها النمساويون فيها، وتملك نابليون الحصن الاستراتيجي ودعمه ليحمي طرق مواصلاته، واندفع إلى مانتوا Mantua حيث كانت بقايا جيوش بوليو الثلاثة قد اتخذت لنفسها مواقع دفاعية حصينة· وترك نابليون جزءاً من قواته لمحاصرة الحصن، وأرسل جزءاً آخر إلى الجنوب لطرد البريطانيين من ليجهورن Leghorn، وتم ذلك فعلا، وسرعان ما قامت ثورة شعبية أرغمتهم على مغادرة كورسيكا· ووجد مورا أن طرد المبعوث (السفير) النمساوي من جنوا مسألة بسيطة، وعمل على ضم هذا الجزء النَّاتئ في البحر المتوسط في الجمهورية الليجورية Republic of Liguria تحت الحكم الفرنسي· ولا تكاد تكون إيطاليا قد شهدت مثل هذه التغييرات في القوى في فترة قصيرة كما شهدتها في هذه الفترة·
وعاد نابليون إلى ميلان وانتظر جوزيفين التي وصلت في 13 يوليو، فعانق القائد المنتصر (نابليون) هازمه (جوزيفين) · وفي اليوم التالي حيتها المدينة بإقامة عروض خاصة في لاسكالا La Scala أعقبها حفل راقص قدم لها فيه الشخصيات المحلية البارزة كلهم - وبعد ثلاثة أيام من النشوة كان على الجنرال (نابليون) أن يعود إلى جنوده في مارميلورو Marmiloro، ومن هناك بثها أنشودة حب وإعجاب وفتنة لا تصدر إلا عن شاب:
"منذ فارقتك وأنا حزين الفؤاد· عندما أكون معك لا أستطيع ادخار شيء من السعادة··· فمفاتن جوزيفينتي (حبيبتي جوزيفين) التي لا مثيل لها تشعل النار التي تحرق قلبي باستمرار وتلهب مشاعري· وعندما أتخلص من مشاغلي ومسئولياتي، وأكون حرا في قضاء وقتي كله معك، فلن أفعل شيئا سوى أن أحبك·
منذ أيام قليلة مضت ظننت أنني أحبك، لكن الآن وقد رأيتك مرة ثانية فإنني أحبك أكثر من ذي قبل آلاف المرات····
آه! إنني أتوسل إليك، دعيني أرى أن فيك عيوبا· كوني أقل جمالا، أقل لطفا، أقل رقة، أقل طراوة· وفوق كل هذا لا تكوني غيوراً· لا تبكِي، فدموعك تفقدني عقلي، تجعل دمائي تغلي ·· تعالي بسرعة إليّ، على الأقل لنستطيع القول قبل الممات: لقد قضينا ساعات كثيرة طيبة معاً···"·(ملحق/209)
وأطاعت جوزيفين رغم خطر شرك العدو في الطريق فلحقت به في بريسكيا وصحبته إلى فيرونا Verona وهناك حمل له جواسيسه أخبارا مفادها أن جيشا نمساويا جديدا كان قد دخل إيطاليا بقيادة الكونت فون فيرمسر كان قد طرد مؤخرا الفرنسيين من مانهايم Mannheim وقدر أن عدد أفراد هذا الجيش المعادي يفوق عدد قوات نابليون بنسبة 3 إلى 1·
وتحسبا لكارثة محتملة أعاد جوزيفين إلى بيشيرا ودبر أمر نقلها من هناك إلى فلورنسا· وفي هذه الأثناء أصدر أوامره للفصائل الفرنسية بضرورة أن تغادر إلى مانتوا لفك الحصار عنها، وأن تأتي من طرق ملتوية (غير مباشرة) لتنضم إلى قوات جيشه الرئيسية· ووصلت القوات الفرنسية في وقت مكنها من المشاركة في معركة كاستيجليون Castiglione (5 أغسطس 1796) · ولم يكن فيرمسر Wurmser يتوقع هذا الهجوم الفرنسي المبكر، فقد كان يقود كتائبه صوب الجنوب في صفوف طويلة ليس لها عرض كثيف، فانقض نابليون على القوات النمساوية غير المستعدة وشتتها وأسر خمسة عشر ألف أسير، وتراجع فيرسمر إلى روفيريتو Rovereto فتبعته القوات الفرنسية وألحقت به الهزيمة هناك، كما ألحقت به هزيمة أخرى في باسانو، وهرب القائد العجوز الحزين مع من تبقى من جيشه ليجد له ملجأ خلف أسوار مانتوا، فترك نابليون بعض فصائل قواته للتعامل معه هناك·
لكن - الآن - وصلت قوات نمساوية إضافية عددها 60,000 مقاتل بقيادة بارون ألفنتزي Alvinczy عبر جبال الألب لتخوض حربا مع 45,000 مقاتل فرنسي هم من بقى الآن مع نابليون· والتقى الجيشان في أركول Arcole، لكن هذه القوات النمساوية كانت على الجانب الآخر من نهر أديجي Adige ولم يكن يمكنها العبور إلا على جسر في ظل وابل من النيران· ومرة أخرى - كما حدث في لودي Lodi في الأدا Adda كان نابليون من بين أول العابرين· وقد حكي نابليون بعد ذلك: "عندما كنت في معمعة المعركة، ألقى مساعدي الكولونيل مويرو Muiron بنفسه ناحيتي وغطاني بجسده وتلقى عني قذيفة كانت موجهة لي، وغرق عند قدمي" ·(ملحق/210)
وفي معركة الأيام الثلاثة التي تلت ذلك (15 - 17 نوفمبر 1796) تراجع النمساويون - بعد قتال شرس - تراجعا منظما· وأعاد ألفنتزي ترتيب قواته في ريفولي Rivoli لكنه لاقى هناك هزيمة أخرى، فقاد ألفنتزي ما تبقى من قواته - بعد أن فقد 30,000 مقاتل، وعاد متراجعا إلى النمسا· أما فيرسمر فبعد أن فقد الأمل في استرجاع شيء وبعد أن عانت قواته من الجوع بشكل يدعو للشفقة - استسلم في 2 فبراير سنة 1797، وبذلك يكون قد تم استيلاء الفرنسيين على لومبارديا·
وبعد ذلك استدار نابليون - النهم - بقواته إلى الجنوب في اتجاه الولايات الباباوية، وطلب - بأدب - من البابا بيوس السادس Pius VI أن يتنازل عن بولونيا وفيرارا Ferrara ورافنا وأنكونا Ancona والأراضي التابعة لهذه المدن جميعا· وبالفعل سلم البابا هذه المدن إلى نابليون على وفق معاهدة تولينتينو Tolentino (19 فبراير 1797)، ودفع البابا مبلغ خمسة عشر مليون فرنك "تعويضاً " عما لحق الجيش الفرنسي من خسائر· لقد أصبح نابليون الآن هو سيد الشمال الإيطالي كله فيما عدا بيدمونت والبندقية (فينيسا)، فأعاد تنظيم قواته وأضاف إليها بعض الكتائب كونها في إيطاليا بالإضافة إلى دفعة جديدة وصلته من فرنسا بقيادة الجنرال برنادوت Bernadotte فبلغ عدد أفراد القوات تحت إمرته 75,000 مقاتل قادهم عبر الألب في طرق ارتفع فيها الجليد ثلاثة أقدام، ليهاجم فيينا نفسها، المركز الإمبراطوري للهجوم على الثورة الفرنسية·(ملحق/211)
وأرسل الإمبراطور فرانسيس الثاني جيشا قوامه 40,000 مقاتل لمواجهته بقيادة الأرشيدوق كارل لودفيج Karl Ludwig الذي عاد لتوه ثملاً بما حققه من انتصارات على جبهة الراين لكنه عندما علم بأعداد القوات الفرنسية المتقدمة، وهالته شهرة نابليون المقرونة بالاحترام اتخذ إستراتيجية تراجعية (خططاً للانسحاب)، فتعقبه نابليون حتى أصبح على مسافة ستين ميلا من العاصمة النمساوية، وكان يمكنه حتى بلا جيش أن يستولي على المدينة فيحلو له عند ذلك أن يترنم مع هايدن Haydn العجوز وبيتهوفن الشاب· لكن لو أن ذلك حدث لتراجعت حكومة فيينا إلى المجر وساعتها قد تطول مدة الحرب وتتسع رقعتها، وفي وسط الشتاء، وسيكون الجيش الفرنسي في وسط معادٍ عرضة في كل لحظة للهجوم على جناحيه· وفي لحظة نادرة من لحظات الاعتدال وبالحذر الذي استفاد منه كثيرا في سنواته اللاحقة - أرسل نابليون إلى الأرشيدوق دعوة للتفاوض لعقد هدنة، لكن الأرشيدوق رفض العرض، فألحق به نابليون هزائم منكرة في نو ماركت Neumarkt وفي أومتسماركت Umzmarkt فوافق كارل على التباحث، وفي 18 ابريل 1797 في لوبن Leoben عقد القائدان الشابان معاهدة سلام مبدئية يتوقف إقرارها على موافقة حكومتيهما·
وكان الطريق إلى التصديق على المعاهدة مغلقا يعترضه رفض النمسا التسليم من ناحية، وإصرار نابليون على الاحتفاظ بفتوحاته في لومبارديا من ناحية أخرى· لكن حدثاً بدا قليل الشأن أعطى لنابليون فرصة - كفرصة لاعب القمار - ليتخلص من هذا المأزق· لقد كان نابليون قد احتل عدة مدن تابعة للبندقية (فينيسيا)، وقد سرى عصيان مسلح في بعض هذه المدن ضد الحاميات الفرنسية· ولأن مجلس الشيوخ (السينات Senate) في البندقية كان متورطا في إثارة هذا العصيان، فقد عزله نابليون وأحل محله سلطات بلدية (جهاز إداري على نمط المجالس البلدية) تابعة للسيطرة الفرنسية وجردها (أي البندقية) من الأراضي التابعة لها في البر الإيطالي·(ملحق/212)
وعندما حان الوقت لتحويل الاتفاق المبدئي في لوبن ليصبح معاهدة كامبوفورميو Campoformio (17 أكتوبر 1797) عرض نابليون على النمسا أن تكون حرة في ضم البندقية إلى إمبراطوريتها مقابل تنازلها عن لومبارديا وبلجيكا واعترافها بالحقوق الفرنسية على الشاطئ الأيسر لنهر الراين. لقد اعترى أوربا كلها تقريبا رعب شديد بسبب دبلوماسية التبرع بأراضي الآخرين هذه (إعطاء من لا يملك لمن لا يستحق)، ونسيت آلاف المعاهدات·
وعلى أية حال فإن مكيافيللي الجديد أصر على الاحتفاظ لفرنسا بالجزر التابعة للبندقية في البحر الأدرياتك وهي كورفو Corfu وظانطه Zante وسيفالونيا Cephalonia. فقد كتب نابليون إلى حكومة الإدارة في 16 أغسطس 1797:
"إن هذه الجزر بالنسبة لنا أكثر فائدة لنا من إيطاليا كلها مجتمعة· إنها حيوية لإنعاش تجارتنا وازدهارها وإذا كان علينا أن ندمر إنجلترا بفاعلية فلا بد لنا من الاستيلاء على مصر· فالإمبراطورية العثمانية تذوي يوما بعد يوم، وهذا يرغمنا على استباق الأحداث وأن نتخذ خطوات مبكرة للحفاظ على تجارتنا في الشرق"·
لم يكن لدى الشيوخ إلا القليل ليعلموه لهذا الشاب ابن الثامنة والعشرين (نابليون) ·
وأعاد نابليون تنظيم المناطق التي فتحها فخول لنفسه صلاحيات سياسية واضحة، فجعل من ميلان مركزا لجمهورية سيزالبينية Cisalpine وجعل من جنوا مركزا لجمهورية ليجورية، يحكم كل منهما حكومة ديمقراطية محلية تحت الحماية الفرنسية وأيضا تحت السيادة الفرنسية· والآن وقد انتقم من الفتح القيصري الروماني لبلاد غال، عاد العريف الصغير Little Corporal ( عبارة تدليل أطلقها عليه جنوده) مكللا بغار المجد محملاً بالأسلاب - إلى باريس لاعتماد معاهداته التي أبرمها من حكومة إدارة انتقالية كان هو - بانتصاراته - قد ساعد أعضاءها على البقاء في مناصبهم·(ملحق/213)
حكومة الإدارة
1 - الحكومة الجديدة
كونت هذه الحكومة من خمسة أجهزة (هيئات Council) أولها مجلس الخمسمائة Les Cinq Cents وخوّل لها اقتراح الإجراءات ومناقشتها لكنها غير مخولة بتحويلها إلى قوانين· وثانيها مجلس الشيوخ Ancients وهو مكون من 250 عضوا لا بد أن يكون الواحد منهم متزوجا وفي الأربعين من عمره على الأقل وهم ليسوا مخولين بوضع التشريعات أو اقتراحها وإنما الاعتراض عليها أو إقرارها (التصديق عليها) وتأتيهم (الاقتراحات resolution) من المجلس (الجهاز) السابق (مجلس الخمسمائة) · ويكوّن هذان المجلسان آنفا الذكر الهيئة التشريعية ( Corps Legislatif) Legislature ويغير ثلثا أعضائهما سنويا على وفق تصويت هيئات المنتخِبين (بكسر الخاء) الآنف ذكرها·
ويمثل مجلس الإدارة أو حكومة المديرين Directoire السلطة التنفيذية في الحكومة ويتكون من خمسة أعضاء لا يقل عمر الواحد منهم عن أربعين عاما ويتم اختيارهم لمدة خمس سنوات ويقوم على اختيارهم مجلس الشيوخ Ancients من بين خمسين اسماً يقدمهم إليه مجلس الخمسمائة· وفي كل عام يتم اختيار عضو جديد ليحل محل واحد من الأعضاء الخمسة· وتقوم هيئات المنتخِبين (بكسر الخاء) في الدوائر (المحافظات) باختيار السلطات القضائية ومسئولي الخزانة وهما سلطتان مستقلتان عن الهيئات (المجالس) الثلاث الآنف ذكرها "مجلس الخمسمائة ومجلس الشيوخ وحكومة (مجلس) الإدارة"· إنها حكومة مراجعات وموازنات صمم نظامها لحماية البورجوازية المنتصرة من العوام غير المنضبطين·
واتخذ مجلس الإدارة (حكومة الإدارة أو الخمسة) مقراً له قصر لوكسمبورج وسرعان ما أصبح فرعا دائماً للحكومة سيطر على الجيش والأسطول ورسم السياسة الخارجية وأشرف على وزراء الداخلية والخارجية والبحرية والمستعمرات والحرب والمالية· وأصبح مجلس الإدارة (حكومة الإدارة) تقريباً مستقلا عن الهيئات الأخرى كما كان الحال بالنسبة للجنة الأمن العام، وذلك بفعل الجاذبية الطبيعية التي تنساب بها السلطة إلى القيادة أو بتعبير آخر بفعل الميل للمركزية·(ملحق/214)
وكان أول مجلس إدارة تم اختياره مكونا من الخمسة الآتية أسماؤهم: بول بارا Paul Barras ولويس مارى دى لاريفيليير ليبو Louis Mari de Larevelliere-Lepaux وجان فرانسوا ريبل Jean Francois Rewbell وتشارلز ليتورنيه Charles Letourneur ولازار كارنو Lazare Carnot · وكانوا جميعا ممن اشتركوا في قتل الملك (بمعنى وافقوا عليه وعملوا له) وكان أربعة منهم يعاقبة Jacobins وواحد منهم وهو بارا Barras فيكونت (الفيكونت viscount دون الكونت وفوق البارون)، وهم الآن قد كيفوا أنفسهم مع الحكم البورجوازي·
وكان جميعهم رجالا ذوي كفاءة لكنهم باستثناء كارنو لم يكونوا معروفين بالاستقامة الشديدة (لم يكونوا فوق الشبهات) · وإذا كان الاستمرار في الساحة السياسية أو البقاء فيها مقياسا للجدارة فإن بارا هو أكثرهم مهارة وقدرة، فقد خدم لويس السادس عشر ثم روبيسبير Robespierre وساعد كليهما حتى آخر دقيقة في حياة كل منهما وناور من أجل سلامته بنجاح فاجتاز الأزمة إثر الأزمة من خلال علاقته بالنساء، فقد اتخذ خليلة إثر خليلة، وجمع الثروة وحقق النفوذ في كل فترة وأعطى نابليون جيشا وزوجه وقد عاش بعدهما وعمر حتى مات بهدوء في باريس في وقت عادت فيه لحكم البوربون وقد بلغ من العمر أربعا وسبعين سنة (1829) · لقد عاش تسع حيوات باعها جميعا·
والصعوبات التي واجهتها حكومة الإدارة في سنة 1795 ربما كانت بسبب تعدد المشاكل وكثرتها وتنوعها، مما يعطي حكومة الإدارة عذرا في بعض الأمور التي عجزت عن حلها· فجماهير باريس كانت تواجه دائما المجاعة، والحصار البريطاني قوى من حدة الصراع الاقتصادي لإعاقة حركة نقل الطعام والبضائع وخفض التضخم من قيمة العملة فقد أصبح مطلوبا دفع خمسة آلاف من الأسينات assignats في سنة 1795 لشراء ما كان ثمنه مائة من الأسينات في سنة 1790 وكانت الخزانة تدفع فائدة (أرباحا) على سنداتها بالأسينات على وفق قيمتها الاسمية، مما أدى إلى انضمام أصحاب الدخول الذين كانوا يستثمرون أموالهم في "سندات الحكومة وأسهمها Securities " إلى الفقراء الثائرين ·(ملحق/215)
واشترى آلاف الفرنسيين بضائع ومواد غذائية بكميات كبيرة، وبسباق محموم، ليستفيدوا من التضخم بالغش والخداع، فعندما ترتفع الأسعار وتبلغ ذروتها يطرح المضاربون بضائعهم في السوق، وجرى سباق محموم لبيع مخزون البضائع الرخيصة (التي انهارت أسعارها)، ووجد الأبرياء (غير المضاربين) أن مدخراتهم قد حصدتها قلة نشيطة· لقد واجهت الخزانة الإفلاس مرارا وأعلنته في سنة 1795 مما أفقدها الثقة العامة، وأدى القرض الذي أخذته الحكومة من الأثرياء إلى قيام التجار برفع الأسعار وإلى دمار تجارة الكماليات، وارتفعت نسبة البطالة، واستمرت الحرب ومعها استمر التضخم·
ووسط هذا الفقر وهذا التشوش استمر الحلم الشيوعي الذي كان قد داعب خيال مابلي Mably في سنة 1748 وموريللي Morelly في سنة 1755 ولنج في سنة 1777، استمر في قلوب الفقراء اليائسين، ووجد هذا الحلم الشيوعي من يعبر عنه في جاك رو Jacques Roux في سنة 1793، وفي 11 أبريل 1796 وجدت أحياء الطبقة العاملة في باريس ملصقات تقدم "تحليلا لعقيدة بابيف Babeuf " نقرأ بعض موادها كالتالي":
1 - لقد جعلت الطبيعة لكل الناس حقوقا متساوية في الاستمتاع بالسلع كلها·····
3 - فرضت الطبيعة على الإنسان العمل، فلا يمكن منع أى إنسان (لم يرتكب جريمة) عن العمل·
7 - في المجتمع الحر لا يجب أن يكون هناك غني وفقير·
8 - الثري الذي لا يساهم بما لديه من فائض لمساعدة الفقراء هو عدو للشعب·····
10 - هدف الثورة هو القضاء على التفاوت (عدم المساواة) وتحقيق السعادة العامة·
11 - الثورة لم تنتهِ لأن الأثرياء يمتصون السلع كلها من كل نوع ويسيطرون وحدهم [على السوق] لا يشاركهم أحد، بينما العمال الفقراء كعبيد حقيقيين·· ولا تعتبرهم الدولة شيئا مذكورا·
12 - دستور 1793 هو قانون فرنسا الحقيقي··· وقد أطلق المؤتمر الوطني النار على الشعب الذي طالب بالإبقاء على هذا الدستور وأيدوه··(ملحق/216)
فدستور 1793 أقر الحق الثابت لكل مواطن لممارسة حقوقه السياسية وحقه في الاجتماع والمطالبة بما يعتقد أنه مفيد، وحقه في تعليم نفسه وحقه في ألا يموت من الجوع، وهي جميعا حقوق عارضها بشكل كامل وبصراحة دستور 1795 الذي يمثل الثورة المضادة أو بتعبير آخر المناهض للثورة Counterrevolutionary ·
وقد ولد صاحب هذا المنشور وهو فرنسوا إميل بابيف Francois-Emile " Gracchus" Babeuf في سنة 1760 وذكر التاريخ اسمه للمرة الأولى في سنة 1785 كمندوب عينه ملاك الأراضي لدعم حقوقهم الإقطاعية على الفلاحين· وفي سنة 1789 غير اتجاهاته فوزع نشرة, يطالب بإلغاء العوائد الإقطاعية· وفي سنة 1794 استقر في باريس فدافع عن الثيرميدوريين Thermidoreans ( نسبة لشهر ثيرميدور أي شهر الدفء في التقويم الجمهوري) ثم ما لبث أن هاجمهم، فقبض عليه وظهر في سنة 1795 كشيوعي متحمس، ونظم بسرعة "رابطة المساواة Sociéte des Egaux" أو رابطة الأنداد " وقد أتبع تحليله Analysis" الذي أوردنا فقرات منه آنفا بإعلان جعل عنوانا له: "قرار العصيان المسلح" موقع باسم لجنة العصيان المسلح للأمن العام· ومن مواده القليلة:
10 - المجلس (المقصود مجلس الخمسمائة ومجلس الشيوخ) وحكومة الإدارة اغتصبا السلطة، وسوف يتم حلهما، وسيحاكم الشعب أعضاءهما فورا·
18 - وضع الممتلكات العامة والخاصة تحت رعاية الشعب·
19 - سيكون من مهام الجمعية الوطنية National assembly المكونة من ديمقراطي عن كل دائرة (محافظة) معين من قبل المتمردين (الخارجين عن السياسة والتنظيمات الحالية) والتي تحمل اسم لجنة العصيان المسلح واجب إنهاء الثورة وفرض الحرية والمساواة ودستور 1793 على الجمهورية· وسيكون هذا الحق قصرا عليها (على لجنة العصيان المسلح) · وستبقى هذه اللجنة بشكل دائم حتى يتم إنجاز العصيان المسلح بشكل شامل·
لقد كانت هذه الدعوة المشئومة كدعوة لدكتاتورية جديدة· إنها مجرد تغيير روبيسبير بروبيسبير آخر، وبالغ بابيف في حلمة هذا، فكتب في صحيفته التي تحمل عنوان "منصة (أو منبر) الشعب Tribune du peuple "·(ملحق/217)
" لا بد أن يكون ما يملكه الفرد متناسبا مع دوره في [إنتاج] سلع المجتمع، وأي ممتلكات تزيد عن هذا الدور، تم تحصيلها بالسرقة والاغتصاب، فمن العدالة إذن سلبهم هذه الممتلكات (أو الثروات) · والشخص الذي يبرهن أنه يستطيع بقوته (بطاقته) الشخصية أن يكسب أو يعمل ما يكسبه أو يعمله أربعة أشخاص إنما هو برغم ذلك يتآمر على المجتمع لأنه يدمر مبدأ المساواة الغالي···· لا بد للتمرد الاجتماعي المسلح أن يستمر حتى يزيح أي شخص لديه أمل أن يكون أغنى من الآخرين أو أقوى منهم أو أكثر تميزا منهم بحكم تنوره ومواهبه· إن الخلاف والتنافر أفضل من الوئام البشع الذي يموت المرء في ظلاله جوعا· دعونا نعود إلى الفوضى والاضطراب، ومن خلاله دعوا خلقاً جديدا يظهر للوجود "·
وأخبر أحد العملاء المحرضين حكومة الإدارة أن أعدادا متزايدة من أهل باريس يقرءون ملصقات بابيف وصحفه وأنه يجري الإعداد لثورة مسلحة في 11 مايو 1796 وفي 10 مايو صدر أمر بالقبض على بابيف والزمرة ذات الموقع القيادي المرتبطة به: فيليبو بوناروتي Filippo Buonarrotti وأ· دارثي A. Darthe وم· ج· فادييه M. G. Vadier وج·- ب· درو J.- B. Drouet · وتمت محاكمتهم في فيندوم Vendome في 27 مايو سنة 1797 بعد سجن دام عاما فشلت فيه مساعي إطلاق سراحهم· وصدر الحكم بسجن بوناروتي وهرب درو Drouet أما بابيف ودارثى فحكم عليهما بالإعدام فحاولا الانتحار لكن الجلادين أسرعوا بهما إلى المقصلة قبل أن تفيض روحاهما· وبطبيعة الحال كانت خطتهما غير عملية تبسط طبيعة الإنسان تبسيطا شديدا لدرجة أنه حتى برولتياريا باريس لم يأخذوا أفكاره على محمل الجد، بالإضافة إلى أن فرنسا بأغنيائها وفقرائها وجدوا في سنة 1797 بطلاً جديدا· إنه أكثر الحالمين سحرا وأكثر المنفذين مدعاة للإبهار في التاريخ السياسي للبشرية·
2 - نابليون الشاب من 1769 إلى 1795 م(ملحق/218)
قال اللورد أكتون Acton: " لا يمكن أن تكون هناك تدريبات عقلية يمكن أن تكون أكثر فعالية ونشاطا من ملاحظة كيف يعمل عقل نابليون المعروف تماما بأنه أقدر رجل في تاريخ البشرية لكن من الآن يمكن أن يشعر أنه عرف بصدق وبشكل كامل رجلا قدمه لنا مئات المؤرخين المثقفين كبطل ناضل لتوحيد أوربا وسيادة القانون بها، ومئات المؤرخين المثقفين قدموه أيضا كغول استنزف دماء فرنسا وخرب أوربا ونهبها ليشبع نهمه للسلطة والحرب؟ "
من منا يستطيع الزعم بالإحاطة بكل أبعاد نابليون في ظل هذا السؤال الآنف ذكره رغم أن 200,000 كتاب ونشرة قد صدرت عنه· "فالثورة الفرنسية" كما يقول نيتشه: " جعلت نابليون ممكنا بمعنى أنها جعلت من الممكن ظهور نابليون فهو تسويغ أو تبرير لها"··
وقد استغرق نابليون في التأمل وهو واقف أمام قبر روسو وتمتم قائلا: "ربما كانت الأمور على نحو أفضل لو لم يولد كلانا أبداً" ·
ولد نابليون في أجاسيو Ajaccio في 15 أغسطس سنة 1769، قبل أن تبيع جنوا Genoa كورسيكا لفرنسا بخمسة عشر شهرا، وقبل أن تؤكد فرنسا تبعيتها (كورسيكا) لها بإخماد ثورة باولي Paoli · ولمثل هذه الأمور التافهة يلتفت التاريخ· ولقد كتب نابليون بعد بعشرين عاما لباولى قائلا: " لقد ولدت عندما كان وطني يموت· ثلاثون ألف فرنسي يتقيئون على شواطئنا، يغرقون تاج الحرية في بحر من الدم· لقد كان هذا منظراً كريها أزعج عيني في مرحلة الطفولة" ·(ملحق/219)
وذكر ليفي Livy أن: "كورسيكا جزيرة وعرة جبلية معظمها غير مأهول بالسكان· وأهلها يشبهون طبيعة بلادهم فهم متمردون كالوحوش لا يحكمون" لكن احتكاكها بإيطاليا قد هذب نوعاً ما من هذه الوحشية، ولكن جدب الأرض والحياة القاسية، البدائية غالبا والعداوات الأسرية الشديدة والدفاع الضاري ضد الغزاة، كل ذلك جعل أهل كورسيكا على أيام باولي صالحين لحرب العصابات أكثر من صلاحيتهم للتنازلات التي يتحتم على ذوي الطباع العنيفة أن يقوموا بها للخضوع للنظام وهو أمر مطلوب لتشكيل الحضارة· لقد كانت الحياة المدنية تتطور في عاصمة كورسيكا، لكن خلال معظم الفترة التي كانت فيها ليتيزيا رامولينو بونابرت Letizia Ramolino Buonaparte ( أم نابليون) تحمل بونابرت، كانت تتبع زوجها من معسكر إلى معسكر مع باولي، وعاشت في خيام أو أكواخ في الجبال وتنفست هواء المعركة· ويبدو أن طفلها (نابليون) يتذكر كل ذلك ويسري فيه مسرى الدم فلم يكن لديه بعد ذلك مقدار من السعادة كتلك التي يحس بها وهو يخوض غمار الحروب· لقد ظل إلى النهاية كورسيكا Corsica · وفي كل شيء كان إيطاليا فيما عدا الفترة الزمنية والتعليم -، إيطالياً سلَّمه عصر النهضة لكورسيكا، فعندما استولى على إيطاليا وضمها لفرنسا استقبله الفرنسيون بترحيب باعتباره إيطاليا غزا فرنسا·(ملحق/220)
وكان أبوه كارلو بونابرت Carlo Buonaparte يمكنه أن يرجع سلالة نسبه إلى أفراد كان لهم وجود في التاريخ الإيطالي: من سلالة نشيطة كانت تعيش في غالبها في تسكانيا Tuscany ثم انتقلت إلى جنوى Genoa ثم هاجرت في القرن السادس عشر إلى كورسيكا، واحتفظت الأسرة بسلالة نسب نبيلة اعترفت بها الحكومة الفرنسية، وعلى أية حال، فعندما أصبحت النبالة في عهد الثورة الفرنسية تمثل خطوة نحو المقصلة طرح نابليون ذكر هذا النسب (غير وضع النرد) · وكان كارلو (والد نابليون) ذا موهبة في القدرة على التكيف، فقد حارب في جانب باولي من أجل تحرير كورسيكا فلما فشلت المحاولة سالم الفرنسيين وعمل في الإدارة الفرنسية الكورسيكية وأمن دخول اثنين من أبنائه في الأكاديميات الفرنسية وكان من بين النواب الذين أرسلهم نواب كورسيكا إلى مجلس طبقات الأمة (الذي دعا إليه الملك لويس السادس عشر) "وقد أخذ نابليون عن أبيه عينيه الرماديتين وربما أخذ عنه أيضا سرطان المعدة المميت" ·
وقد أخذ عن أمه ما هو أكثر: "إنني مدين بنجاحاتي وبكل عمل طيب قمت به لأمي ومبادئها الممتازة· إنني لا أتردد في التأكيد على أن مستقبل الطفل يعتمد على أمه" ·
وقد كان نابليون يشبه أمه في طاقتها ونشاطها وشجاعتها وثباتها الشديد (المجنون) وحتى في إخلاصها لآل بونابرت كثيري الذرية· ولدت أم نابليون ليتيزيا رامولينو سنة 1750 وتزوجت وهي في الرابعة عشرة من عمرها وأصبحت أرملة وهي في الخامسة والثلاثين وأنجبت ثلاثة عشر مولودا في الفترة من 1764 إلى 1784 وشهدت موت خمسة من أولادها وهم في سن الطفولة ورفعت الباقين بعزم صارم وسعدت بنجاحهم وعانت بسقوطهم·(ملحق/221)
وكان نابليون هو ابنها الرابع، والثاني بالنسبة لمن بقوا على قيد الحياة من أبنائها· أما الابن الأكبر فهو جوزيف بونابرت (1768 - 1844) فكان لطيف المعشر مغرقا في الشهوات (إبيقوريا epicurean) ونصب ملكا على نابلي ثم على إسبانيا، وكان يأمل أن يكون هو الإمبراطور الثاني لفرنسا، وبعد نابليون في ترتيب أفراد أسرته يأتي لوسيا Lucien (1775 - 1840) الذي ساعده في القبض على زمام الحكومة الفرنسية في سنة 1799، وأصبح عدوه اللدود، لكنه وقف بجانبه في المائة يوم المتسمة بالعبث البطولي، ثم تأتي ماريا أنا إليزا التي أصبحت دوقة لتسكانيا وكانت معتزة بنفسها ومقتدرة وعارضت أخاها في سنة 1813 وسبقته إلى الموت، ثم يأتي من أفراد أسرته لويس (1778 - 1846) الذي تزوج الرقيقة هورتنس دى بوهارنيه Hortense de Beauharnais فقد أصبح ملكا على هولندا وقد أنجب نابليون الثالث·
وأخته الأخرى هي بولين Pauline (1780 - 1825) الجميلة الخليعة التي تزوجت الأمير كاميلو بورجيز Camillo Borghese وقد حكي نابليون قائلا: "إنني وبولين كنا الأثيرين عند أمي هي لأنها كانت ألطف أخواتي وأظرفهن، وأنا لأن إحساسها الفطري جعلها تعتقد أنني سأكون مؤسس عظمة الأسرة "· أما أخته ماريا كارولينا (1782 - 1839) فتزوجت، جوشيم مورا Joachim Murat وأصبحت أميرة نابلي، وأخيرا Jerome (1784 - 1860) الذي أسس الأسرة البونابارتية في بلتيمور Baltimore وأصبح ملكا لوستفاليا Westphalia ·(ملحق/222)
وفي سنة 1779 حصل كارلو (والد نابليون) من الحكومة الفرنسية على امتياز إرسال ابنه نابليون إلى الأكاديمية (المدرسة) العسكرية في برين Brienne التي تبعد نحو تسعين ميلا جنوب شرق باريس· وكان هذا حدثا أساسيا في حياة الفتى، لأنه ربط مصيره بالمجال العسكري، كما جعله حتى نهاية حياته تقريبا يفكر في الحياة والقضاء والقدر بمفاهيم الحرب ومصطلحاتها· لقد أصبحت برين بالنسبة لابن العاشرة محنة أثرت في تكوينه فقد ابتعد عن داره بعيدا وعاش في بيئة غريبة وصارمة· ولم يستطع الطلبة الآخرون أن يغفروا له كبرياءه وحدة مزاجه اللذين يبدوان غير متجانسين مع نبالته nobility الغامضة (غير الواضحة بالنسبة لهم) · وقد عبر نابليون عن ذلك قائلا: "لقد عانيت كثيرا جدا من سخرية زملاء الدراسة الذين كانوا يعتبرونني غريبا"·
وانسحب الفتى الذي لم يأتلف مع أقرانه وتقوقع على نفسه واستغرق في الدراسة والكتب والأحلام· وكان ميله للعزلة عميقا، فقد كان قليل الكلام لا يثق في أحد وجعل نفسه بعيدا عن عالم بدا قد صمم لتعذيبه· ومع هذا فقد كان هناك استثناء واحد ذلك أنه صادق لويس أنطوان فيفيليت دى بورين Louis-Antoine Fauvelet de Bourrienne الذي ولد أيضا في سنة 1769 وقد تحمس كل منهما للآخر ودافع عنه، وحارب كل منهما الآخر وبعد انفصال طال بينهما أصبح سكرتيرا له في 1797 وظل قريبا منه حتى سنة 1805·
ومكنت العزلة هذا الشاب الكورسيكي Corsican من التفوق في دراسته التي أشبعت عطشه للسمو والتفوق· لقد نفر من دراسة اللاتينية ومن كل الدراسات الميتة فلم يكن ثمة فائدة له من دراسة فضائل فرجيل Virgilian graces ومحكماته الصامتة· وتلقى دراسات قليلة في الأدب أو الفن لأن المعلمين (في هذه المدرسة الحربية) غير ملمين كثيرا بهذه الأمور· لكنه كان شغوفا منذ البداية بالرياضيات ففيها وجد ما يصبو إليه من دقة ووضوح بعيدا عن الأحكام المسبقة والجدال بالإضافة إلى ضرورتها الدائمة لمهندس عسكري·(ملحق/223)
وفي هذا المجال تفوق نابليون على كل طلبة فصله، كما أنه كان يستسيغ الجغرافيا فهذه الأراضي المختلفة لا بد من دراستها، ودراسة الشعوب التي تعيش عليها، وفي الأرض الطعام وهو لازم للأحلام وكان التاريخ فيما يرى (وهو كذلك رأي كارليل Carlyle) هو عبادة الأبطال خاصة الذين يقودون الأمم ويشكلون الإمبراطوريات وأحب بلوتارخ Plutarch حتى أكثر من حبه لإقليدس Euclid · لقد تنفس التعاطف مع هؤلاء الوطنيين القدماء وشرب من دم هذه المعارك التاريخية، فقد قال له باولي ذات يوم: "ليس من شيء جديد فيك فأنت تنتمي إلى بلوتارخ تماما" · ولا بد أنه كان يفهم هاين Heine الذي قال إنه عندما قرأ بلوتارخ تطلع إلى ركوب حصان والانطلاق لفتح باريس· وقد حقق نابليون هذا الهدف من خلال غزوه لإيطاليا ومصر، لكن نقطة قوته (مجال تميزه) كانت تبدو واضحة في هجماته الجانبية (هجماته على جناحي الجيش المعادي) ·
وبعد أن قضى خمس سنوات في برين وقد أصبحت سنه الآن خمس عشرة سنة، أصبح من بين الطلبة الذين تم اختيارهم من اثنتي عشرة مدرسة عسكرية في فرنسا ليحضروا برامج دراسية متقدمة في مدرسة باريس العسكرية (إيكول ميليتير Ecole Militaire) · وفي أكتوبر سنة 1785 تم تعيينه قائم مقاماً ثانياً (ليفيتنانت ثانى Second Lieutenant) للمدفعية في فوج لافير La Fere Regiment المتمركز في فالنس Valence على الرون Rhone · وكان إجمالي راتبه هناك 1,120 جنيه في السنة ·
ومن هذا المبلغ كان فيما يظهر يرسل جانبا لمساعدة أمه في تربية أخيه الأصغر، ولأن أباه قد مات في فبراير ولم يكن جوزيف (الابن الأكبر) يملك بعد موارد للمعيشة فقد أصبح نابليون هو رأس الأسرة الفعال· وفي أثناء إجازاته كان يقوم بعدة زيارات إلى كورسيكا وحيدا حتى يشم ترابها "·· حبا في جروفها وجبالها العاليات ووديانها العميقة" وذلك على حد تعبيره·(ملحق/224)
وفي فالنس وكذلك في أوكسن Auxonne سنة (1788) كسب احترام زملائه الضباط بتقدمه السريع في الفنون العسكرية وبسرعة استيعابه وما لديه من خصوبة فكرية تتمثل في اقتراحاته العملية واستعداده للمشاركة في الأعمال التي تتطلب جهدا بدنياً للتحكم في المدافع· وقد درس بعناية كتابا في التكتيك الحربي هو Essai de tactique generale (1772) بالإضافة إلى كتابات عسكرية أخرى ألفها جاك أنطوان هيبوليت دى جوبير Jacques Antoine Hippolyte de Guibert الرجل الذي أهملته عشيقته جولي دى ليسبيناس ولم يعد نابليون منبوذاً الآن فقد كون صداقات وارتاد المسارح وسمع الكونشرتات وتلقى دروساً في الرقص واكتشف مباهج النساء·
وفي إجازة له قضاها في باريس (22 يناير سنة 1787) راح يحدث نفسه مجهدا عن مغامرة جنسية مع إحدى البغايا· لقد أكد لنا ذلك قائلا: "هذه الليلة باشرت امرأة للمرة الأولى في حياتي" ومع ذلك ظل بعض الاكتئاب يراوده، فكان أحيانا عندما يكون في غرفته البسيطة منفردا يتساءل بمنطق صرف لم ينبغي أن تستمر حياته؟ "أليس من المحتم أن أموت في وقت ما؟، فربما كان من الأفضل أن أقتل نفسي" ·
لكنه لم يكن يستطيع أن يفكر في طريقة يتم فيها ذلك بسرور لقد وجد لنفسه وقتا متاحاً في ساعات الفراغ ليوسع مجال تعليمه الذاتي بدراسة الأدب والتاريخ، وقد ظنته مدام دى ريموزا de Remusat آخر وصيفة لجوزيفين Josephine أنه: "جاهل لا يقرأ إلا قليلا، ومتسرع" · والحقيقة أننا وجدنا أنه حتى في فالنس وأوكسون Valence & Auxonne كان يقرأ الأعمال الدرامية التي ألفها كورنيل Corneille وموليير Moliere وراسين Racine وفولتير Voltaire، وكان يتلو من الذاكرة فقرات مما قرأ·
وأعاد قراءة ترجمة أميوت Amyot لبلوتارخ ودرس كتاب "الأمير Prince" لمكيافيللي، و"روح القوانين Esprit des lois" لمونتسكيو وكتاب رينال Raynal وعنوانه: " Histoire Philosophique des deux Indes" وكتاب ماريني Marigny عن تاريخ العرب " Histoire des arabes" وكتاب هوسي Houssaye عن تاريخ حكومة البندقية " Histoire du gouvernement de venise" وكتاب بارو Barrow الموسوم باسم: " Histoire d'Angleterre" وغيرها كثير·(ملحق/225)
وكان يكتب مذكرات أو تعليقات في أثناء القراءة ويقوم بتلخيص الكتب المهمة ولا زالت توجد 863 صفحة من مذكراته وتعليقاته هذه منذ أيام شبابه · وكانت شخصيته متأثرة بالنهضة الإيطالية كما كانت عقليته متأثرة بالتنوير الفرنسي· ولكن شعاعا من الرومانسية تغلغل فيه استجابة لنثر روسو العاطفي والقصائد المنسوبة إلى "أوسيان Ossian" التي كان يستطيبها: "للسبب نفسه الذي جعلني ابتهج لتلاطم الموج وهفهفة الريح" ·
وعندما قامت الثورة الفرنسية رحب بها وقضى إجازة أخرى في سنة 1790 يعمل بتواؤم كامل مع حكم الثورة· وفي سنة 1791 قدم نابليون لأكاديمية ليون مقالاً دخل بها مسابقة لنيل جائزة قدمها رانيال حول "ما هي الفضائل أو المشاعر التي يجب أن يتحلى بها الشخص ليحقق مزيداً من السعادة؟ " وربما كان مقال نابليون بهذا الشأن متأثرا بما كتبه روسو "هلويز الجديدة Julie, ou La Nouvelle Heloise" · يقول نابليون إجابة عن هذا السؤال:
"علّمهم أن أفضل حياة هي أبسطها· ليفلح الآباء والأبناء التربة وينعموا بثمارها بعيدا عن ضوضاء المدينة وفسادها· فكل ما يحتاجه الإنسان ليكون سعيدا هو الطعام واللباس وكوخ وزوجة· دعه يعمل ويأكل وينجب وينام وسيكون أسعد من أمير· فحياة أهل إسبرطة وفلسفتهم هما الفضليان" و"الفضيلة شجاعة وقوة··· والطاقة حياة الروح··· والرجل القوي صالح والرجل الضعيف هو وحده السيئ" ·
هنا كان الشاب نابليون صدى لبترا سيماكوس Thrasymachus ومقدمة لنيتشه الذي رد المديح بأن جعل نابليون بطلا للإرادة والقوة · ومن بين آرائه التي ساق لها الأدلة إدانته للملكية والامتيازات الطبقية وتفاهة الإكليروس· وقد رفضت أكاديمية ليون مقالة نابليون تلك باعتبارها فجة·(ملحق/226)
وفي سبتمبر سنة 1791 زار نابليون مرة أخرى بلده الأصلي [كورسيكا] وابتهج بقرار الجمعية التأسيسية الفرنسية بجعل كورسيكا دائرة (محافظة) تابعة لفرنسا، وحدث شعبها عن مزايا المواطنة الفرنسية كلها· لقد سحب رغبته في الانتقام من الأمة التي جعلته فرنسيا رغم أنفه ذلك أنه شعر أن الثورة كانت تخلق وطنا فرنسيا جديدا ألمعيا، وفي حوار متخيل بعنوان ( Le Souper de Beaucaire) نشره على نفقته الخاصة في خريف سنة 1793 دافع عن الثورة باعتبارها: "نضالاً حتى الموت بين الوطنيين والحكام المستبدين في أوربا" ·
وحث المعارضين كلهم لينضموا للنضال من أجل حقوق الإنسان وعلى أية حال فقد شعر بطله القديم باولي أن انضمام كورسيكا للأمة الفرنسية لن يكون مقبولا منه إلا إذا خولته الثورة سيادة كاملة على الجزيرة، وتقديم دعم مالي له وإلا تم طرد القوات الفرنسية من كورسيكا وكان من رأي نابليون أن هذا اقتراح متطرف واختلف مع مثله الأعلى السابق (باولي Paoli) وعارض طلباته في انتخابات المجلس البلدي في أجاكسيو Ajaccio في أول ابريل سنة 1792، وفاز باولي وعاد نابليون إلى فرنسا·
وشاهد في باريس في 20 يونيو اجتياح الجماهير لقصر التوليري Tuileries وعجب لأن الملك لم يفرق هؤلاء "الوحوش cannibals" بوابل من طلقات حرسه السويسري· وفي 10 أغسطس رأى العوام (السانس كولوت sansculottes) والاتحاديين يسوقون الأسرة الملكية من القصر، فوصف المتجمهرين بأنهم: "حثالة"·· إنهم لا ينتمون للطبقة العاملة أبدا"· واستمر في دعم الثورة مع اتخاذه الحذر والاحتياط بشكل متزايد، وأصبح الآن ضابطا في جيشها· وفي ديسمبر سنة 1793 كما ذكرنا في مناسبة سابقة وجد نفسه في عملية الاستيلاء على طولون ونتيجة التوصيات التي أرسلت إلى روبيسبير بشأنه تم تعيينه عميدا (بريجاديير جنرال brigadier general) وهو في الرابعة والعشرين من عمره·(ملحق/227)
لكن هذا أدى إلى القبض عليه بعد سقوط روبيسبير، فسجن في أنتيب Antibes ووضع اسمه في قائمة المحالين للمحاكمة وكان من الممكن أن يعدم إلا أنه تم إطلاق سراحه بعد أسبوعين، وأعيد لخدمة في مواقع غير فعالة براتب مخفض· وفي ربيع سنة 1795 (كما أخبرنا) كان يتجول على طول نهر السين تراوده فكرة الانتحار عندما التقى به صديق وجعل الحياة تسري في عروقه إذ منحه ثلاثين ألف فرنك وأعاد نابليون المبلغ في وقت لاحق مضاعفا· وفي شهر يونيو وصفه بويسي دنجلا Boissy d'Anglas بأنه: "إيطالي صغير شاحب ونحيل وسقيم لكن وجهات نظره جريئة بشكل لا نظير له" · وقد فكر في وقت من الأوقات في الذهاب إلى تركيا لإعادة تنظيم جيش السلطان (العثماني) وليخلص لنفسه بمملكة شرقية على نحو ما· وعندما كان في حالة مزاجية أكثر انتحاء نحو ما هو عملي قدم لوزارة الحرب خطة معركة لطرد النمساويين من إيطاليا·
وفي واحدة من نزوات التاريخ حيث تفتح الأبواب التي لا مناص من فتحها تم تعيين بارا لتنظيم الدفاع عن المؤتمر الوطني عندما حاصره الملكيون وغيرهم في 5 أكتوبر سنة 1795، فقرر بارا أن طلقات المدافع قد تحقق الغرض لكن لم تكن هذه المدافع تحت يده، وكان قد تذكر ما فعله نابليون في طولون فأرسل إليه وأوكل له مهمة تدبير المدافع وإطلاقها، فأدى المهمة وأصبح نابليون فجأة مشهوراً وسيء السمعة· وعندما احتاجت وزارة الحرب قائدا جسورا مجربا لقيادة الجيش الفرنسي المتوجه إلى إيطاليا زكى كارنو Carnot ( أو بارا Barras) تعيين بونابرت (2 مارس 1896) وبعد ذلك بسبعة أيام تزوج الجنرال السعيد من جوزيفين التي كانت لا تزال جميلة·
3 - جوزيفين دى بوهارنيه
JOSEPHINE DE BEAUHARNAIS(ملحق/228)
كانت جوزيفين كروليّةً Creole ( وهي كلمة تطلق على من كان من سلالة فرنسية أو أسبانية ولكنه ولد في المستعمرات الاستوائية وترعرع فيها) · وقد كانت جزيرة مارتينيك Martinique الواقعة في البحر الكاريبي فرنسية طوال 128 عاما عندما ولدت مارى جوزيف روز تاسكر دى لا باجيرى, هناك في سنة 1763 من أسرة أورليان Orleans العريقة· وكان عمها البارون دى تاسكر de Tascher حاكما للميناء، وكان أبوها وصيفاً في مقر أم لويس السادس عشر ماري جوزيف Marie Josephe·
وتلقت جوزيفين تعليمها في دير سيدات العناية الإلهية في فورت رويال Fort Royal ( الآن فورت دى فرانس Fort de France) عاصمة الحكومة الاستعمارية· وكان المنهج الدراسي في ذلك الوقت يتكون من تعليم مبادئ العقيدة الدينية بطريقة السؤال والجواب وتعليم السلوك (الاتيكيت) وفن الخط والرسم والتطريز والرقص والموسيقي إذ كانت الراهبات المعلمات يعتقدن أن هذا أجدى نفعا للمرأة من تعليمهن اللاتينية واليونانية والتاريخ والفلسفة· وقد أثبتت جوزيفين أنهن كن على صواب· فقد أصبحت - أي جوزيفين - فيما تقول مدام دى بومبادر de Pompadour " كطبق شهي مقدم لملك a morsel for a king"·
وفي السادسة عشرة من عمرها جيء بها إلى فرنسا وزوجت من الفيكونت (دون الكونت وفوق البارون) الكسندر دى بوهارنيه وهي في التاسعة عشرة من عمرها ومع صغر سنها فإنها كانت بالفعل قد خبرت فن الغزل وطرائقه في المجتمع الأرستقراطي الفرنسي· لكن سرعان ما كشف غياب زوجها الطويل والمتكرر انخراطه في ممارسة الرذيلة مما جعل جوزيفين الحساسة تقتنع أن القائد السادس لم يخلق ليكون من الطبقات العليا، فوقفت حياتها بإخلاص لطفليها: يوجين Eugene (1781 - 1824) وهورتنس Hortense (1783 - 1837) وقد ظلا وفيين لها طول حياتهما·
وعندما قامت الثورة مال الفيكونت إليها وكيف سياساته معها وظل محتفظا برأسه طوال خمس سنوات، لكن كلما تقدم الإرهاب أصبح أي لقب من ألقاب النبالة يعرض حاملة للقبض عليه، وبالفعل ففي سنة 1794 تم القبض على الكسندر وجوزيفين وأودع كل منهما في سجن منفصل وفي 24 يوليو قصت المقصلة رقبة زوجها·(ملحق/229)
وبينما هي تنتظر المصير نفسه عرض عليها الجنرال لازار هوش Lazare Hoche حبه, فلبت بهيت لك، فكانت من بين النبلاء كثيري العدد الذين تم الإفراج عنهم بعد سقوط روبيسبير·
ولما أصبحت تقريباً معدمة لمصادرة ثروة زوجها وكانت في الوقت نفسه حريصة على تعليم أبنائها، استغلت عينيها الزرقاوين المغريتين وجمالها الهادئ الجاذب لعقد صداقة مع تاييه وأصبحت عشيقة لبارا الصاعد نجمه، وبذا عاد إليها كثير من أموال بوهارنيه المصادرة بما فيها عربة أنيقة ومجموعة خيول سوداء · وأصبحت الآن في المرتبة الثانية بعد مدام تاييه Tallien مباشرة تأثيرا في مجتمع حكومة الإدارة وقد وصف نابليون صالونها بأنه "أكثر صالونات باريس تميزا" ·
وكان نابليون يحضر بعض الأمسيات في صالونها، وكان مفتونا بمفاتنها الناضجة ودلالها السهل وتصرفاتها الحلوة بشكل يفوق الوصف: "على وفق وصف أبيها المتسامح" · "ولم تكن جوزيفين معجبة ببونابرت الذي بدا لها شاباً نهما ذا نظرة جائعة تنادي" بالإضافة إلى أن دخله غير قابل للزيادة· وأرسلت ابنها وكان في ذلك الوقت في الرابعة عشرة من عمره ليلتمس مساعدته لاستعادة سيف زوجها المصادر·
وكان يوجين (ابن جوزيفين) فتى وسيما بسيطا حتى أن نابليون وافق مباشرة على التدخل في الأمر، وأعاد لها السيف بالفعل، فدعته جوزيفين لتشكره ودعته لتناول الغداء عندها في 29 أكتوبر، فأتى إليها وأصبح راغبا فيها أو بتعبير آخر لقد غزته وفي أوائل شهر ديسمبر سنة 1795 لم تكتف بالخضوع بالقول لهذا الذي أصاب قلبه مرض العشق، وإنما خضعت بالفعل فقدمته لسريرها، لكنهما عزفا عن الزواج·
وفيما راح نابليون يستغرق في سرد ذكرياته في جزيرة سانت هيلينا St. Helena فقال: "إن بارا أسدى إليّ خدمة عندما نصحني بالزواج من جوزيفين لقد أكد لي أنها تنتمي إلى المجتمعين؛ القديم والجديد معا، وأن هذه الحقيقة ستكون مزيداً من الدعم لي، فقد كان منزلها هو أفضل منازل باريس، وستخلصني من اسمي الكورسيكي، وأخيرا فبالزواج منها يمكنني أن أصبح فرنسيا تماما" ·(ملحق/230)
وقام بارا أيضا بتوجيه النصح لجوزيفين لتحقيق الغرض نفسه (زواجها من نابليون) لأسباب لا تزال موضع خلاف · إذ قال لها إنه رجل تشير الدلائل كلها أنه سيحقق لنفسه مركزا عاليا في العالم· ولم يهتم نابليون بأمر عشقها السابق لآخرين ولم يكن ذلك عائقا أمامه للزواج منها إذ كتب لها: "كل شيء فيك يعجبني·· حتى عندما أتذكر ما ارتكبته من أخطاء···· فالفضيلة بالنسبة لي هي ما قمت به" ·
وقد تزوجا في 9 مارس سنة 1796 على وفق إجراءات مدنية (وليس كنسية)، وشهد على وثيقة الزواج كل من تاييه وبارا ولم يحضر أحد من أقارب العروسين· وليخففا من حدة فارق العمر بينهما إذ كان نابليون في السابعة والعشرين من عمره، بينما هي في الثالثة والثلاثين، سجل نابليون أن سنه ثمانية وعشرون عاما، وسجلت جوزيفين أن سنها تسعة وعشرون عاما · وقضى العروسان ليلة الزواج الأولى في منزل العروس، لكن جوزيفين أبدت مقاومة حاسمة لا تراجع فيها فيما يتعلق بكلبها المدلل المسمى بالمحظوظ، إذ قال لها نابليون (كما روى لنا):
"هذا السيد (يقصد الكلب) أسيظل شاغلاً سرير المدام··· إنني أريد منه أن يغادر السرير· لكن لم تكن هناك جدوى من مطالباتي فقد قيل لي إما أن أشارك الكلب في النوم فوق السرير، أو أن أنام في أي مكان آخر· لقد كان عليّ أن أقبل هذا الأمر لكن هذا الكلب المدلل كان أقل مجاملة مني"·
ففي أسوأ لحظة ممكنة عقر ساقي عقره شديدة خلفت ندبة ظلت فترة طويلة ·
وفي 11 مارس كان نابليون ممزقا بين هذه البهجة الجديدة، وعاطفته الطاغية للسلطة والعظمة، فترك البهجة الجديدة ليقود جيشا لغزو إيطاليا في إحدى أكثر المعارك عبقرية في التاريخ·
4 - الزوبعة الإيطالية: 27 مارس 1796 - 5 ديسمبر 1797 م(ملحق/231)
لقد بُسِّط الموقف العسكري بعقد معاهدات مع كل من بروسيا وإسبانيا، أما النمسا فقد رفضت السلام طالما فرنسا متمسكة بفتوحها في الأراضي المنخفضة ( Netherlands) وعلى طول نهر الراين· وواصلت انجلترا حروبها في البحر وقدمت للنمسا إعانة مالية قيمتها 600,000 جنيه إسترليني لتمويل حروبها البرية على فرنسا· وكانت النمسا تحكم لومبارديا Lombardy منذ سنة 1713، وهي الآن متحالفة مع تشارلز إمانويل الرابع Charles Emmanuel IV ملك سردنيا وبيدمونت Piedmont الذي كان يأمل في استعادة سافوي Savoy ونيس Nice اللتين استولى عليهما الفرنسيون في سنة 1792·
وكانت حكومة الإدارة قد تركت أمر التخطيط لعملياتها العسكرية في سنة 1796 لكارنو Carnot، فخططها بحيث تشن فرنسا ثلاث هجمات إختراقية على النمسا· فكان على جيش يقوده جوردا Jourdan أن يهاجم النمساويين عند الحدود الشمالية الشرقية على طول سامبر Sambre والميز Meuse وعلى جيش آخر بقيادة مورو Moreau أن يتقدم ضد النمساويين على طول الموسيل Moselle والراين وعلى جيش ثالث بقيادة نابليون أن يحاول طرد النمساويين والسردينيين من إيطاليا· أما جوردا فبعد أن حقق بعض الانتصارات، واجه القوات المتفوقة للأرشيدوق كارل لودفيج Karl Ludwig فعانى من الهزائم في أمبرج Amberg وفيرتسبورج Wurzburg وتراجع إلى الشاطئ الغربي للراين· أما مورو فتقدم بجيشه في بافاريا وكاد يصل إلى ميونخ ثم علم أن الأرشيدوق المنتصر يمكن أن يقطع خطوط مواصلاته أو أن يهاجمه عند مؤخرة جيشه فانسحب إلى الألزاس· وكأمل أخير لجأت حكومة الإدارة إلى نابليون·(ملحق/232)
وعندما وصل إلى نيس في 27 مارس وجد أن "الجيش المعد لغزو إيطاليا" ليس على حال يسمح له بمواجهة القوات النمساوية والسردينية التي تسد المدخل الضيق في إيطاليا بين البحر المتوسط وجبال الألب الشاهقة·وكانت قواته مكونه من 43,000 مقاتل شجاع اعتادوا على الحروب في الجبال لكن ملابسهم بائسة ونعالهم بائسة، وطعامهم الكفاف حتى إنهم كانوا يضطرون للسرقة ليظلوا على قيد الحياة، ويكاد لا يصلح منهم لخوض معارك شاقة سوى 30,000، خيولهم قليلة جداً، ويكادون يكونون بلا مدافع· كما أن الجنرالات الذين وضع على رأسهم نابليون ابن السبع والعشرين سنة كانوا مستاءين لتعيينه قائدا لهم وأرادوا أن يشعروه بأنهم أعلى خبرة (هؤلاء الجنرالات هم أوجيرو Augereau وماسينا Massena ولاهارب Laharpe سيسورييه Sèsurier) لكن عند أول اجتماع عقده لهم نابليون راعهم شرحه لخططه بوضوح واثق، وإصداره أوامره جلية فسرعان ما أصبحوا له طوعا·
لقد استطاع نابليون أن يفرض نفسه على جنرالاته لكنه لم يستطع أن يحرر نفسه من سحر جوزيفين، فبعد أربعة أيام من وصوله إلى نيس نحى خرائطه ومعاونيه وكتب لها خطابا حارا فيه عاطفة مشبوبة لشاب قد اكتشف لتوه عمق عواطفه الكامنة تحت أحلامه بالسلطة:
نيس في 31 مارس 1796
لا يمر يوم دون أن أتدله في حبك، ولا تمر ليلة إلا وأنا أضمك بذراعي· أنا لا أستطيع أن أشرب كوباً من الشاي دون أن ألعن الطموح المادي (الدنيوي) الذي أبعدني عن روح حياتي· لكن مهما كنت مشغولا بالأعمال أو قيادة جنودي أو التفتيش على المعسكرات، فإن جوزيفين حبيبتي تملأ جوانحي····
إن روحي حزينة وقلبي في الأغلال، وإني أ تخيل أشياء ترعبني، فأنت لا تحبينني كما أحبك، فأنت ستسلين نفسك في مكان آخر······(ملحق/233)
إلى اللقاء يا زوجتي يا معذبتي يا سعادتي···· فأنت أنت التي أحبها، وأنت التي أخشاها، إنك مصدر المشاعر التي تجعلني مهذبا كالطبيعة نفسها، ومصدر الدفع الذي يجعلني مفجعاً كالصاعقة···· إنني لا أطلب منك أن تحبينني للأبد أو أن تكوني مخلصة لي، لكنني أطلب منك ببساطة···· أن تقولي لي الصدق···· لقد وهبتني الطبيعة روحا مصممة قوية، بينما روحك رقيقة كونت من شرائط زينة وشاش····· عقلي منشغل بالخطط الواسعة، بينما قلبي مستغرق فيك منشغل بك تماما····
إلى اللقاء! آه لو أنك تحبينني أقل مما يجب، ذلك أنك لم تحبينني أبداً، لذا فقد كنت أهلاً للشفقة·
بونابارت
وكتب لها مرة أخرى مرتين في يومي 3 و7 أبريل، وسط معمعة الحرب· وقد درس المعلومات كلها التي أمكنه الحصول عليها عن قوات العدو التي يتحتم عليه هزيمته: جيش نمساوي بقيادة بوليو Beaulieu في فولتري Voltri بالقرب من جنوا، وجيش آخر بقيادة أرجنتاو Argentau في مونتنوت Montenotte إلى الغرب من الجيش الآنف ذكره (جيش بوليو) وجيش سرديني بقيادة كولي Colli عند سيفا Ceva أبعد إلى بالجنوب·
وقد افترض بوليو Beaulieu أن خطوط مواصلاته هي التي ستملي عليه أي جيش من جيوشه سيكون في حاجة لنجدة طارئة· وعلى هذا الأساس كان يتوقع بناء على أسباب معقولة أن يصد الهجوم الفرنسي نظراً لقواته المشتركة (المتحدة) التي تفوق القوات الفرنسية عددا بنسبة 2 إلى 1 أي أن قواته ضعف القوات الفرنسية، أما إستراتيجية نابليون فهي أن يتحرك بأكبر عدد من جنوده بأقصى سرعة ممكنة وبسرية ليواجه واحداً من الجيوش المدافعة ويسحقه قبل أن ينجده أي جيش من الجيشين الآخرين· لقد كانت خطة نابليون تنطوي على الإسراع بالقوات الفرنسية في طرق جبلية وعره، وكان هذا يتطلب مقاتلين شديدي البأس ذوي عزم· وعمد نابليون إلى إثارة حماسهم ورفع روحهم المعنوية بأول بيان من بياناته المشهورة التي كانت إحدى عُدَدِه - غير قليلة الشأن - في معاركه:(ملحق/234)
"أيها الجنود· إنكم جائعون عراه· إن الجمهورية مدينة لكم بالكثير، لكنها تفتقد الوسائل لرد ديونها لكم· لقد أتيت لأقودكم إلى أخصب سهول طلعت عليها الشمس· فالمديريات الغنية والمدن الوافر ثراؤها·· كلها ستكون تحت أمركم· أيها الجنود، أيكون هذا الرخاء أمامكم ثم تعوزكم الشجاعة والثبات؟ ·
لقد كان ذلك دعوة واضحة للسلب والنهب· وكان هذا ضرورياً وإلا بأية وسيلة كان يستطيع هؤلاء الرجال الذين لم يتقاضوا مرتباتهم تحمّل المسيرة الطويلة ثم مواجهة الموت؟ فما كان نابليون مثل معظم الحكام والثوريين ليسمح للاعتبارات الأخلاقية أن تعوق النصر، وكان واثقا أن نجاحه سيمحو خطاياه· ألا يجب أن تساهم إيطاليا في تكاليف تحريرها؟
لقد كان الهدف الأول لإستراتيجيته هو أن يحطم الجيش السرديني ويدفع ملك سردنيا للتراجع إلى تورين Turin عاصمة بيدمونت التابعة له ودخل نابليون في سلسلة مواجهات عسكرية حسمها لصالحه بنجاح: في مونتنوت (11 أبريل) وميليسيمو Millesimo (13 أبريل) وديجو (15 أبريل) وموندوفي Mondovi (22 أبريل) وأدى هذا إلى بعثرة القوات السردينية وتدميرها مما أرغم تشارلز إمانوئيل على توقيع هدنة في شيراسكو Cherasco (28 أبريل) تنازل بمقتضاها عن سافوي ونيس لفرنسا، ومن ثم ا نسحب من الحرب·
وفي هذه المعارك أثر القائد الشاب في المحاربين التابعين له بأوامره الواضحة الحاسمة، وتكتيكاته المنطقية الناجحة التي تكمل حكمة إستراتيجيته التي كانت مبنية في غالبها على مهاجمة جناحي العدو ومؤخرته· وتعلم الجنرالات الأقدمون أن يطيعوه ثقةً منهم في رؤيته وحكمه، أما الضباط الأصغر سنا (مثل جونو Junot ولان Lannes ومورا Murat ومارمون Marmont وبيرتييه Berthier) فكانوا مخلصين له حتى أنهم واجهوا الموت مرارا بسببه· وعندما وصل الجنود الباقون على قيد الحياة بعد هذه الانتصارات إلى مرتفعات مونت زيموتو Monte Zemoto التي يمكن أن يروا منها سهول لومبارديا Lombardy المشمسة انخرط كثيرون منهم في تحية تلقائية للقائد الشاب الذي قادهم بعبقرية·(ملحق/235)
والآن لم يعد يتحتم عليهم أن يسلبوا وينهبوا كي يعيشوا، فحيثما أقام نابليون الحكم الفرنسي فرض على الأثرياء والإكليروس الضرائب وحث المدن (أو أمرها) على الإسهام في ضبط سلوك جنوده· وفي 26 أبريل، في شيراسكو Cherasco خاطب جيشه مادحاً إياه ومحذرا من قيام الجنود بعمليات سلب أو نهب:
أيها الجنود
لقد حققتم في أسبوعين ستة انتصارات، واستوليتم على واحد وعشرين علما، وخمسة وخمسين مدفعا، وفتحتم أغلى جزء في بيدمونت··· كل ذلك بدون أية موارد تزودكم بما هو ضروري· لقد حققتم النصر بلا مدفع، وعبرتم الأنهار بلا جسور، وسرتم سيرا حثيثا بلا نعال، وعسكرتم بلا براندي بل وغالبا بلا خبز····· إن وطنكم المقدر للجميل والمعترف به سيكون مدينا برخائه لكم····
لكن أيها الجنود، إن كل ما فعلتموه لا يساوى شيئا إذا قيس بما ستعملونه· لا تورين Turin ولا ميلان Milan صارت لكم··· أثمة واحد فيكم تنقصه الشجاعة؟ أهناك من سيفضل العودة عبر قمم جبال أبنين والألب ليتحمل بصبر نذالة جندي حقير؟ لا ليس من شخص كهذا بين فاتحي مونتنوت وفاتحي ديجو Dego، وفاتحي موندوفي Mondovi · فكلكم تحترقون لزيادة عظمة الشعب الفرنسي····
أيها الأصدقاء إنني أعدكم بهذا الفتح شريطة أن تقسموا (وتنفذوا ما أقسمتم عليه) أن تحترموا الشعوب التي تحررونها، وأن تكفوا عن السلب الذي يقترفه بعض الأوغاد بتحريض من أعدائنا· وإذا لم تكفوا عن هذا السلب فما أنتم محررون للشعوب بل أنتم إذن جلادوها لو استمر النهب لضاعت ثمار انتصاراتكم وشجاعتكم ونجاحاتكم ودم إخوانكم الذين ماتوا في المعركة، بل وضاع أيضا شرفكم وعظمتكم· ذلك أنه بالنسبة لي وللجنرالات الذين حازوا ثقتكم لا بد أن نستحي من قيادة جيش بلا نظام وضوابط···· إن أي شخص سيقوم بعملية نهب أو سلب سيتم إعدامه رمياً بالرصاص بلا رحمة·
أيها الشعب الإيطالي إن الجيش الفرنسي أتى ليحطم أغلالكم، فالشعب الفرنسي صديق لكل الشعوب، فلتستقبلوا الجيش الفرنسي بثقة، فممتلكاتكم ودينكم وعاداتكم كلها موضع احترام، فلسنا نحقد على أحد سوى على الطغاة الذين يظلمونكم"·
بونابرت(ملحق/236)
لقد شهدت المعركة الأولى عمليات سلب كثيرة، وظل شيء منها رغم هذا الطلب وذاك التهديد، وقد أمر نابليون بإطلاق النار على بعض السلابين وعفا عن آخرين منهم قائلاً:
"هؤلاء البؤساء لا بد من التماس الأعذار لهم، لقد ظلوا طوال ثلاث سنوات يتطلعون للأرض الموعودة··· والآن وقد دخلوها فإنهم يريدون الاستمتاع بها" · وقد هدأهم بأن جعلهم يشاركون في المؤن والأموال التي تم جمعها من المدن " المحررة"·
ووسط هذا الهياج العظيم كله بسبب طول المسيرة، والمعارك ورغم انشغاله بالأمور الدبلوماسية، فقد كان نابليون في كل ساعة تقريبا يفكر في الزوجة التي كان قد تركها بسرعة بعد ليلة العرس· والآن وقد أصبح يمكنها أن تمر بأمان في السيفن Cevennes فقد أرسل لها خطاباً في 17 أبريل يتوسل إليها فيه أن تحضر إليه· وكتب لها في خطاب آخر في 24 أبريل سنة 1796 قائلاً:
"تعالي بسرعة· إنني أحذرك فإن زاد تأخرك، فستجدينني مريضا· فهذه المتاعب التي أواجهها الآن، أيضاف إليها غيابك عني؟! لا أطيق هذا··· فليكن لك جناحان، ولتطيري إليّ·· قبلة مني على قلبك·· وقبلة أخرى تحت قلبك بقليل·· وقبلة ثالثة تحت القبلة السابقة··· وأخرى تحت··· تحت···· أبعد تحت؟! " ·
أكانت جوزيفين مخلصة؟ أكان يمكنها، وهي التي تعودت على المسرات أن تكتفي طوال عدة شهور برسائل التملق التي كان يرسلها إليها؟ وفي الشهر نفسه الآنف ذكره (أبريل) وجد ضابط وسيم في الرابعة والعشرين من عمره هو هيبوليت تشارل Hippolyte Charle طريقه إليها· وفي شهر مايو دعت تاليران Tallyerand للقائه·
"ستكونين عاصفةً معه، فمدام ريكامييه Récamier ومدام تاييه Tallien ومدام هاميلا Hamelin كلهن يتقن إليه أو بتعبير آخر فقدن اتزانهن من أجله" ·
وشغفت به جوزيفين حبا، حتى إنه عندما أتى مورا قادما من طرف نابليون محملاً بالأموال ومعه تعليمات لها بأن تلحق به في إيطاليا، فإنها تلكأت مُتعلِّلة بالمرض وقالت لمورا أن يبلغ نابليون (رئيسه) أنه قد ظهرت عليها دلائل الحمل· وكتب لها نابليون في 13 مايو:(ملحق/237)
"أحقا ما قاله مورا Murat من أنك حامل! ··· إن مورا يقول إنك متوعكة وهذا ما جعله يعتقد أنه ليس من التدبير السليم أن تتحملي مشاق هذه الرحلة الطويلة· وعلى هذا فإن عليّ أن أظل فترة أطول دون أن أسعد بضمك بين ذراعي! أمن الممكن أن أحرم من رؤية بطنك وقد ارتفع قليلا من جراء الحمل؟ "
لكن فرحته لم تدم فلم تكن جوزيفين أبداً لتلد له طفلا·
5 - انقلاب: 18 فروكتيدور - 4 سبتمبر 1797
لم تكن باريس التي وصلها هي باريس نفسها التي ألفها في أيام عامي 1792 و1793 حيث حكم الجماهير والحشود· بل إنه حتى منذ سقوط روبيسبير سنة 1794 كانت العاصمة (باريس) تتبع خطى أهل الريف فزادت معارضتها للثورة؛ معارضة ذات بعد ديني وبعد سياسي أيضا· فالكاثوليكية - بقيادة القسس الذين لم يقسموا يمين الولاء للدستور المدني - استعادوا نفوذهم على شعب كان قد فقد تصديقه للبديل الدنيوي عوضا عن الآمال المعقودة على حياة أخرى فيها العزاء وزاد حنينه إلى الطقوس الدينية والمناسبات المرتبطة بالقديسين، فزاد إهماله للنظام العشري لتقسيم الأيام الذي ابتدعته الثورة The décadi واعتبار اليوم العاشر هو يوم الراحة، وعادوا للاحتفاء بيوم الأحد من كل أسبوع وتوقيره· إن فرنسا تصوت الآن لصالح الرب.(ملحق/238)
أما بالنسبة للملك، ففي البيوت والصالونات والشوارع بل وفي تنظيمات الأحياء التي كان العوام (السانس كولوت) يسيطرون عليها - راح الرجال والنساء يتحسرون على أيام الرجل الطيب لويس السادس عشر وراحوا يلتمسون الأعذار لما وقع فيه البوربون Bourbon من أخطاء وراحوا يتساءلون أيمكن لأي حكومة أخرى غير الملكية الشرعية أن تعيد النظام والأمان والرخاء والسلام وتخرج فرنسا من حالة الفوضى والجريمة التي دمرت فرنسا؟ والمهاجرون العائدون (الذين كانوا قد تركوا فرنسا إثر قيام الثورة) كثر عددهم حتى إن الظرفاء منهم أطلقوا على مقار إقامتهم في باريس اسم "كوبلنز الصغيرة Le petit Coblenz" ( إشارة إلى مكان إقامتهم في ألمانيا بعد مغادرتهم فرنسا)، وفي مقارهم في باريس بعد عودتهم كان يمكن للمرء أن يسمع الفلسفات الملكية التي كان يدعوهم إليها خارج فرنسا بونال Bonald وميستر Maistre.
والجمعيات المنتخبة التي كان يسودها البورجوازيون كانت ترسل إلى مجلس الشيوخ ومجلس الخمسمائة مزيدا من النواب المستعدين لمغازلة النظام الملكي شريطة ضمان الممتلكات· وبحلول سنة 1797 كان أنصار النظام الملكي في المجلسين من القوة بمكان حتى إنهم انتخبوا لحكومة الإدارة الماركيز دى بارثيليمي de Barthelemy ووجدنا لازار كارنو عضو حكومة الإدارة منذ سنة 1795 يعود مرة أخرى إلى اليمين ويتخذ موقفا معارضا من دعايات بابيف وراح ينظر بعين الرضا إلى الدين باعتباره طعما (تطعيم) ضد الشيوعية·
وشعر الجمهوريون الراسخون من أعضاء حكومة الإدارة - بارا ولاريفيليير - ليبو - Larevelliere-Lepaux وروبل Rewbell، بالخطر على مناصبهم وحياتهم بسبب الحركة الملكية، فقرروا المخاطرة بكل شيء والقيام بانقلاب يمكن أن يخلصهم من الزعماء الملكيين في كلا المجلسين وفي حكومة الإدارة·(ملحق/239)
وراحوا يطلبون الدعم الجماهيري من اليعاقبة الراديكاليين الذين اختفوا عن الساحة والمرارة في حلوقهم في أثناء حركة المحافظين (المطالبين بالعودة إلى الماضي الملكي)، كما طلبوا الدعم العسكري من نابليون ليرسل لهم من إيطاليا جنرالا ذا كفاءة لتنظيم جنود باريس للدفاع عن الجمهورية· وكان نابليون راغبا في مساعدتهم، فإحياء مطالبات أسرة البوربون بالعرش قد تحبط خططه، إذ كان راغبا في ترك الطريق مفتوحا لوصوله هو للسلطة السياسية، فالوقت لم يصبح مناسبا بعد لهذه المغامرة· فأرسل إليهم قائدا حازما هو بيير أوجرو وهو رجل محنك عركته المعارك·
فقام أوجرو بضم بعض جنود هوش للعمل معه، وبهؤلاء الجنود اقتحم في 18 فروكتيدور Fructidor ( شهر الفواكه) المجلسين التشريعيين وقبض على 53 نائبا وكثير من الوكلاء الملكيين كما قبض على عضوي حكومة الإدارة: بارثيليمي وكارنو، وهرب كارنو إلى سويسرا وتم ترحيل معظم الباقين إلى جويانا (غيانه) Guiana في أمريكا الجنوبية حيث الكدح والعمل وحيث لا يعرف بهم أحد· وفي انتخابات سنة 1797 سيطر الراديكاليون على المجلسين وضموا كلا من ميرلي Merlin الدووى of Douai وجان بابتست تريها ر Jean-Baptiste Treilhard إلى الثلاثة الآخرين في حكومة الإدارة التي تم تعديلها على هذا النحو، وخولوها سلطة تكاد تكون مطلقة ·(ملحق/240)
وعندما وصل نابليون إلى باريس في 5 ديسمبر 1797 وجد إرهابا جديدا موجها إلى المحافظين كلهم، وكل ما كان يفرق بين هذا الإرهاب الجديد والإرهاب القديم، أن الإرهاب الجديد استخدم نفي المعارضين إلى جويانا (غيانه) Guiana بدلا من قطع رقابهم بالمقصلة· ومع هذا فقد بدت الطبقات كلها متفقة على كفاءة هذا الشاب (نابليون) الذي أضاف نصف إيطاليا إلى فرنسا· وقد نحى نابليون جانبا الآن تطلعه إلى القيادة الصارمة، وراح يظهر بمظهر التواضع والاعتدال، وراح يعمل على إرضاء الجميع بطرق مختلفة؛ إرضاء المحافظين بتمجيد النظام، وإرضاء اليعاقبة بإظهار دوره في نقل إيطاليا من مرحلة العبودية الإقطاعية إلى مرحلة الحرية، وإرضاء المثقفين بكتابته "إن الفتوح الحقيقية تتمثل في القضاء على الجهل، ولا عذر لنا في التواني في القضاء عليه" · وفي 10 ديسمبر قام أصحاب المقام الرفيع في الحكومة الوطنية بتكريمه بشكل رسمي· وكانت مدام دى ستيل Mme. de Stael حاضرة، وقد حفظت لنا مذكراتها هذا المشهد:
"استقبلت حكومة الإدارة الجنرال بونابرت استقبالا مهيبا كان في بعض جوانبه علامة مميزة في تاريخ الثورة وقد اختاروا قصر لكسمبرج لإقامة هذه المراسم، فلم تكن هناك قاعة من السعة بحيث تتسع لمثل هذا الحشد؛ وتجمع الناس لمشاهدته فوق كل سطح· وقد وقف أعضاء حكومة الإدارة الخمسة - وقد ارتدوا ملابس رومانية - على منصة، وبالقرب منهم كان نواب مجلس الشيوخ ومجلس الخمسمائة وأعضاء المعهد العلمي··
ووصل نابليون وهو يلبس ملابس بسيطة جدا ويتبعه مساعدوه، وكانوا جميعا أطول منه لكنهم كانوا يحترمونه جدا وينحنون له، وشملت النخبة - المتجمعة هناك - الجنرال المنتصر بالتحية والتصفيق· لقد كان نابليون هو أمل الجميع من جمهوريين وملكيين، فالجميع رأوا الحاضر والمستقبل في قبضته" ·
وفي هذه المناسبة سلم أعضاء حكومة الإدارة معاهدة كامبوفورميو Campoformio، فتم اعتمادها رسميا وأصبح نابليون قادرا على قضاء فترة راحة من المشاغل الدبلوماسية ومن الحرب·(ملحق/241)
وبعد أن حضر نابليون هذا الاحتفال الفخم الذي أقامه تاليران على شرفه (تاليران كان في ذلك الوقت هو وزير الخارجية أو عضو حكومة الإدارة للشئون الخارجية) انسحب نابليون إلى بيته في شارع شانترين Chantereine وقبع فيه يستجم مع جوزيفين وأبنائها وكان يسمح لنفسه بالظهور أمام الجمهور فامتدح المعجبون به تواضعه، وراح المقللون من شأنه يبدون سعادتهم بانتهاء دوره، وعلى أية حال فقد دأب على زيارة المعهد العلمي، وراح يتحدث في الرياضيات مع لاجرانج Lagrange وفي الفلك مع لابلاس Laplace وفي نظم الحكم مع سييس Sieyes وفي الأدب مع مارى - جوزيف دى شنييه Marie-Joseph Chenier وفي الفن مع ديفيد وربما كان بنشاطه هذا يعد بالفعل للحملة على مصر، ويفكر في أن يصحب معه مجموعة من الدارسين والعلماء·
ورأت حكومة الإدارة في مسلكه المتواضع هذا شيئا غير واضح المعالم يدعو إلى الريبة، فهذا الشاب الذي كان في إيطاليا والنمسا يتصرف وكأنه هو الحكومة، كيف يتخذ قرارا بالتصرف على النحو (المتواضع) في باريس؟ فأرادوا أن يشغلوه ويبعدوه فعرضوا عليه أن يقود خمسين ألف جندي وبحار جمعوهم في بريست Brest لغزو إنجلترا· ودرس نابليون المشروع ورفضه وحذر حكومة الإدارة في خطاب بتاريخ 23 فبراير 1798:
"لا بد أن تتخلوا عن محاولة حقيقية لغزو إنجلترا وأن تقنعوا أنفسكم بالاكتفاء بالظهور أمامها (بمظهر القوة) فالأولى هو أن نركز انتباهنا لمواردنا ناحية الراين ... ويجب ألا نبعد الجيش الكبير عن ألمانيا ··· أو يمكننا إرسال حملة إلى الشرق ونهدد تجارة (إنجلترا) مع الهند" ·(ملحق/242)
فهناك في الشرق كان حلمه، فحتى عندما كان وسط معامع المعارك في إيطاليا كان يفكر في إمكانيات القيام بغزوة في الشرق: ففي ظل الانهيار التدريجي للدولة العثمانية، فإنه بروح جسور ورجال شجعان جوعي يمكن تشكيل الأمور، وتكوين إمبراطورية· إن إنجلترا تحكم المحيطات ولكن قبضتها على البحر المتوسط يمكن خلخلتها بالاستيلاء على مالطة، وقبضتها على الهند يمكن إضعافها بالاستيلاء على مصر، ففي مصر حيث العمالة رخيصة يمكن بالفرنكات والتفكير السليم بناء أسطول، ويمكن بالشجاعة والخيال الخصب دفع هذا الأسطول عبر البحر والمحيط ليصل إلى الهند والاستيلاء من النظام الاستعماري البريطاني على أغلى ممتلكاته· وقد اعترف نابليون في سنة 1803 لمدام دى ريموسا de Remusat:
" لا أدري ما كان يحدث لي لو لم تواتني الفكرة السعيدة بالذهاب إلى مصر· فعندما غادرت السفن إلى شواطئها لم أكن أعرف سوى أنني قد ودعت فرنسا إلى الأبد، وإن اعتراني قليل من الشك أن فرنسا ستستدعيني· إن سحر فتح بلاد الشرق قد أبعد أفكاري عن أوربا أكثر مما كنت أتصور" ·
ووافقت حكومة الإدارة على اقتراحاته، وكان أحد أسباب موافقتها هو اعتقادها أنه سيكون أكثر أمانا (لها) أن يكون هو بعيدا عن فرنسا، ووافق أيضا تاليران لأسباب لا تزال محل خلاف، فمشرفة بيته مدام جراند Grand تفسر ذلك بأنه اتخذ هذا الموقف " لمصلحة أصدقائه الإنجليز" بتحويل مسار الجيش الذي يهدد بغزو إنجلترا إلى مصر · وأخرت حكومة الإدارة موافقتها لأن الحملة مكلفة وتتطلب من الرجال والعتاد ما تحتاجه فرنسا لحماية أراضيها من إنجلترا والنمسا وربما أيضا من تركيا التي قد تنظم في حلف جديد ضد فرنسا (وكانت السلطة التركية - العثمانية - على مصر متراخية) لكن التقدم السريع للقوات الفرنسية في إيطاليا - ضم الولايات الباباوية ومملكة نابلي - أدى إلى وصول أسلاب متتالية إلى حكومة الإدارة، وفي أبريل سنة 1798 غزا جيش فرنسي آخر - بموافقة نابليون - سويسرا وأقام فيها الجمهورية الهيلفيتية Helvetic وتم جمع "التعويضات" منها، وتم إرسالها إلى باريس· والآن أصبح يمكن الإنفاق على تحقيق حلم الاستيلاء على مصر·(ملحق/243)
وبدأ نابليون فورا في إصدار أوامر مفصلة لإعداد أسطول فرنسي جديد (استخدم المؤلف عبارة new armada أي أسطول قوي على نمط الأساطيل الإسبانية والبرتغالية في عصورها الزاهرة)، فكان لا بد من تجميع القوات والمواد التالية في طولون Toulon وجنوى وأجاكسيو Ajaccio أو سيفيتا فيشيا: Civitavecchia 13 سفينة حربية وسبع فرقاطات و35 سفينة قتال أخرى و130 سفينة نقل، 16,000 بحار و38,000 جندي (كثيرون منهم كان مع الجيش الفرنسي الذي حارب في إيطاليا) بالإضافة إلى المواد والعتاد الضروري، ومكتبة مكونة من 287 مجلداً· وكان العلماء والباحثون والفنانون سعداء بقبول الدعوة للانضمام إلى ما وصف بأنه اتحاد مثير وتاريخي بين المغامرة (العسكرية) والبحث· وكان من بين هؤلاء العلماء: مونج Monge الرياضي وفورييه Fourier الفيزيائي، وبيرثولي Bertholet الكيميائي· وجيوفرى سان هيلار Geoffroy Saint-Hilaire البيولوجي (عالم الأحياء) · وقام تاييه Tallien بالتنازل عن زوجته لبارا واتخذ سبيله بين العلماء·
وقد لاحظ العلماء وقد اعتراهم الفخر أن نابليون أصبح الآن يوقع خطاباته مشفوعة بعبارة "بونابرت عضو المجمع العلمي الفرنسي والقائد العام" · وبوريين Bourrienne الذي كان قد رافق نابليون كسكرتير له في كامبوفورميو Campoformio في سنة 1797، صحبه أيضا في هذه الرحلة (إلى مصر) وقدم لنا رواية مفصلة عن مصيرها· وأرادت جوزيفين أيضا أن تواصل الرحلة، فسمح نابليون لها بمرافقته حتى طولون لكنه منعها من ركوب السفن، وعلى أية حال فقد أخذ معه ابنها يوجين بوهارنيه الذي كان نابليون قد أحبه لتواضعه وكفاءته وولائه وقوة إخلاصه، وقد حزنت جوزيفين حزنا مضاعفا لهذا الفراق؟ أيمكنها أن ترى ابنها أو زوجها مرة أخرى بعد هذا الفراق؟ ومن طولون اتجهت جوزيفين إلى بلومبيير Plombiéres لتتناول "مياه الخصوبة" لأنها أصبحت الآن - وكذلك نابليون - تريد طفلا·
وفي 19 مايو سنة 1798 أبحر الأسطول الأساسي من طولون ليكرر في التاريخ الحديث إحدى روايات تاريخ العصور الوسطى·
6 - الفانتازيا الشرقية (الحملة الفرنسية على مصر)
ORIENTAL FANTASY
من 19 مايو 1798 إلى 8 أكتوبر 1799(ملحق/244)
لقد تمت التعمية على الجهة التي يقصدها الأسطول حتى إن الرجال كلهم - تقريبا - والبالغ عددهم 54,000 لم يكونوا يعلمون وجهة الأسطول، وفي بيان له سمات خاصة وجهه نابليون "لجيش الشرق" الجديد أشار إليه بأنه مجرد "جناح" للجيش الفرنسي المعد لغزو انجلترا، وطلب من البحارة والجنود أن يثقوا به رغم أنه لا يستطيع حتى الآن أن يحدد المهام الموكلة إليهم· وقد حققت هذه السرية بعض الأغراض: فالحكومة البريطانية كانت مضطربة الفكر بشكل ظاهر بناء على معلومات وصلتها عن أسطول فرنسي صغير يجري إعداده ليشق طريقه عابرا مضيق جبل طارق ليشارك في غزو إنجلترا· وكانت سفن نلسون Nelson غير دقيقة في مراقبة البحر المتوسط، وكانت السفن التجارية وسفن النقل تروغ منها في البحر المتوسط·
وفي 9 يونيو ظهر الأسطول الفرنسي إزاء سواحل مالطة، وكانت حكومة الإدارة قد قدمت رشوة لرئيس جماعة فرسان مالطة Malta وذوي الشأن فيهم لتكون مقاومتهم شكلية، ونتيجة لهذا استولى الفرنسيون على الحصن المنيع الممول جيدا في هذه الجزيرة بسهولة ولم يفقدوا في سبيله سوى ثلاثة رجال· وتأخر نابليون في الجزيرة أسبوعا ليعيد تنظيم إدارة الجزيرة على نمط الإدارة الفرنسية Gaulward وكان ألفريد دي فيني Alfred de Vigny - الذي سيصبح شاعرا فيما بعد - يومئذ في الثانية من عمره، وقد قدموه لنابليون، فرفعه وقبله، وقال ألفريد - فيما بعد - "عندما أنزلني بعناية إلى سطح السفينة، كان قد كسب إلى جانبه، عبداً آخر يضاف إلى عبيده" · وعلى أيه حال فإن نابليون ذلك الرجل الشبيه بالإله عانى دوار البحر طوال فترة الإبحار إلى الإسكندرية تقريبا، وفي هذه الأثناء درس القرآن·(ملحق/245)
ووصل الأسطول إلى الإسكندرية في أول يونيو سنة 1798 وكان في الميناء حامية، ومعنى هذا أن رسوه بالأسطول قد يكلفه كثيرا، ومع هذا فقد كانت عملية إنزال القوات مسألة لا بد منها حتى لو لم يكن الأسطول الفرنسي موضع مراقبة من أسطول نلسون، وكانت الأمواج تتكسر على الساحل بعنف ومع هذا فإن نابليون شخصيا قاد مجموعة من خمسة آلاف مقاتل ونزل بهم على جزء من الساحل غير محمي (ليس به قوات مدافعة)، وتقدم بقواته ليلاً بلا فرسان ولا مدفعية وانقض على الحامية وهزمها ولم يكلفه ذلك سوى مائتين من رجاله بين قتيل وجريح، واستولى على المدينة (الإسكندرية) وقدم الحماية لبقية سفن الأسطول الفرنسي فتم إنزال بقية الجنود وأسلحتهم على أرض مصر·
وحث نابليون القادة المحليين في المدينة على الاجتماع به، وكان عماده في هذه الدعوة هو ما حققه من انتصار بإنزال جنود على البر المصري، وكلمات قليلة أتقنها باللغة العربية· وراح نابليون يسليهم - ومن ثم يؤثر فيهم - بمعلوماته عن القرآن (الكريم) واستخدامه الماهر لآياته وأفكاره، وتعهد لهم نيابة عن نفسه وباسم جيشه أن يحترم دينهم وقوانينهم وممتلكاتهم، ووعدهم - إن هم ساعدوه بالعمال والعتاد - أن يعيد لهم البلاد (مصر) التي استولى عليها المرتزقة المماليك الذين جعلوا من أنفسهم حكاما لمصر في ظل أسر حاكمة متراخية· ووافق العرب نصف موافقة (كانت موافقتهم غير حاسمة)، وفي 7 يوليو أمر نابليون جيشه الذي تملكه العجب بالتقدم معه لقطع 150 ميلاً في الصحراء للوصول إلى القاهرة·
لم يسبق للعسكر الفرنسيين أن خبروا مثل هذه الحرارة وهذا العطش، وتلك الرمال التي تعمي البصر، والحشرات التي لا تعرف التعب أو هذه الدوسنتاريا (الزحار والإسهال) المنهك· وراح بونابرت يخفف من حدة شكاويهم بمشاركتهم المتاعب في صمت· وفي 10 يوليو وصلوا إلى نهر النيل، فشربوا حتى الامتلاء وأنعشوا أجسادهم· وبعد مسيرة أخرى استمرت خمسة أيام، شاهدت طليعة الجيش بالقرب من قرية شبراخيت جيشا قوامه ثلاثة آلاف مملوك "تشكيل عسكري مبهر من الفرسان" على حد تعبير نابليون الذي قال أيضا:(ملحق/246)
"كلهم يومضون بفعل بريق الذهب والفضة ومسلحون بأفضل البنادق اللندنية القصار Carbines & Pistols وبأفضل سيوف الشرق، وكانوا يركبون - ربما - أفضل خيول في القارة"
وانقض الفرسان المماليك سراعا على الجيش الفرنسي من الأمام ومن ناحية الجناحين فلم يكن لهجومهم نتيجة سوى أنهم سقطوا بقذائف مدافع الفرنسيين وبنادقهم، ففروا هاربين وقد جرحوا في أبدانهم وكرامتهم·
وفي 20 يوليو وكان لا زال باقيا على القاهرة مسافة ثمانية عشر ميلا شاهد المنتصرون الهرم· وفي مساء هذا اليوم علم نابليون أن جيشا من ستة آلاف مملوك بقيادة ثلاثة وعشرين بك من البكوات حكام الأقاليم - قد تجمع في إمبابه، وأن هذا الجيش قد اتخذ أهبته لمواجهة الغزاة الكفار· وبعد ظهيرة اليوم التالي انقضوا بكل قواتهم على الفرنسيين في معركة حاسمة عرفت بمعركة الأهرام· وهناك قال لجنوده (إن كان لنا أن نثق في ذاكرة نابليون):
"إن أربعين قرنا تتطلع إليكم" ومرة أخرى واجه الفرنسيون هذا الهجوم بطلقات المدافع والبنادق والحراب المثبته فقتل سبعون فرنسيا وألفٌ وخمسمائة مملوك، وغرق كثيرون منهم في النيل في أثناء هروبهم الطائش· وفي 22 يوليو أرسلت السلطات التركية (العثمانية) في القاهرة مفاتيح المدينة إلى نابليون مما يعني الاستسلام· وفي 23 يوليو دخل نابليون المدينة البهية من غير أن يواجه مقاومة·
ومن القاهرة أصدر أوامره بأن تدار أمور مصر عن طريق دواوين عربية (لجان) تابعة لسيطرته· ومنع جنوده من السلب والنهب وحمى حقوق الملكية الموجودة لكنه استمر في تحصيل الضرائب التي فرضها المماليك الغزاة على أهل البلاد لتمويل جيشه، وجلس مع الزعماء المحليين واعترف باحترامه للشعائر الإسلامية وإعجابه بالفن الإسلامي، وشهد ألا إله إلا الله، وطلب مساعدة المسلمين له ليعم الرخاء والازدهار مصر· وعقد اجتماعا مع علماء الحملة لوضع الخطط للقضاء على الطاعون وإدخال صناعات جديدة وتطوير نظم التعليم المصري وتحسين القوانين المعمول بها، وإنشاء خدمات بريدية ونظام مواصلات، وإصلاح الترع وضبط الري وربط النيل بالبحر الأحمر·(ملحق/247)
وفي يوليو سنة 1799 نظم المعهد العلمي المصري من علماء مصر وعلماء الحملة، وكان العلماء هم الذين أعدوا الأربعة والعشرين مجلداً الضخام التي مولتها ونشرتها الحكومة الفرنسية بعنوان وصف مصر (1809 - 1828) Description de l'Egypte وأحد هؤلاء العلماء لا نعرف إلا أن اسمه بوشار Bouchard وجد في سنة 1799 في مدينة تبعد عن الإسكندرية ثلاثين ميلا حجر رشيد Rosetta Stone عليه نقوش بلغتين وثلاثة خطوط (الهيروغليفية والديموطيقية واليونانية hieroglyphic, demotic, Greek) وقد مكنت هذه الكتابات توما يونج Thomas Young (1814) وجان - فرنسوا شامبليون Champollion (1821) من وضع أسس منهج ترجمة النصوص الهيروغليفية ففتحوا بذلك أمام أوربا "الحديثة" أبواب حضارة مصر القديمة المركبة والناضجة بشكل يدعو إلى الدهشة· وكان هذا هو النتيجة الرئيسية لحملة نابليون على مصر، أو النتيجة الوحيدة المهمة·
لكن فتح مصر كان - لفترة - مدعاة لفخره، كذلك كان مدعاة لمباهاته إدخال نظم الإدارة فيها· لقد قال لمدام دى ريموسا في وقت لاحق وهو يستدعي ذكرياته:
"لقد كانت الفترة التي قضيتها في مصر هي أكثر الفترات بهجة في حياتي ··· لقد وجدت نفسي في مصر متحررا من قيود الحضارة وإزعاجها· لقد رحت أحلم بأمور كثيرة ورأيت كيف أن كل ما حلمت به يمكن أن يتحقق·
لقد خلقت دينا (المقصود ابتدعت دينا) وتصورت نفسي في الطريق إلى آسيا راكبا فيلا وعلى رأسي عمامة وفي يدي قرآن جديد كان علي أن أصيغه على وفق أفكاري···· وكان عليّ أن أهاجم القوات الإنجليزية في الهند وتجديد علاقاتي بأوربا القديمة بفتحها··· لكن القدر كان ضد أحلامي" ·
وكان أول سهام القدر ضده هو معلومات نقلها إليه أندوش جونو Andoche Junot الضابط المعاون مؤداها أن جوزيفين اتخذت لها في باريس عشيقا· لكن الحالم الكبير (نابليون) بكل تألقه العقلي أهمل أن يضع في اعتباره أنه من الصعب على نبات استوائي كجوزيفين أن تظل لشهور عديدة دون أن تمتع مفاتنها بشكل حسي· لقد ظل نابليون لعدة أيام حزينا ساخطا، وكتب في 26 يوليو سنة 1798 خطابا يظهر فيه الاكتئاب والقنوط إلى أخيه جوزيف:(ملحق/248)
"في غضون شهرين سأكون في فرنسا مرة أخرى··· فهناك أمور كثيرة تزعجني في بلادي ··· إن صداقتك تعني لي الكثير، أكنت لأفقدها أو أظنك تخدعني · إنه لا بد لي أن أكون صالحا تماما مبغضا للشر ····
إنني أريدك أن تهيئ لي مكانا في الريف أستقر فيه عندما أعود، إما في برغنديا Burgundy أو بالقرب من باريس· إنني أفكر في قضاء الشتاء فيه بحيث لا أرى أحدا· لقد سئمت المجتمع· إنني أحتاج أن أنفرد بنفسي· مشاعري متبلدة· لقد سئمت الشهرة· إنني متعب من تحقيقي هذا المجد وأنا في سن التاسعة والعشرين· لقد فقد ذلك جاذبيته بالنسبة لي، فلم يعد لي سوى الأنانية الكاملة····
إلى اللقاء يا صديقي الوحيد الذي لا صديق لي سواه ···· حبى لزوجتك ولجيروم Jerome"·
ووجد بعض العزاء عندما جعل من امرأة فرنسية شابة قيمة لمسكنه، وكانت هذه المرأة الشابة قد تبعت زوجها الضابط إلى مصر· إنها بولين فورى Pauline Foures التي لم تستطع مقاومة اهتمام نابليون بجمالها المرح فبادلته الابتسام ولم تبد مقاومة جادة عندما أرسل زوجها السيد فوري في مهمة في باريس، ليوسع لنفسه الطريق· وعندما علم زوجها سبب مكرمة نابليون وتمييزه بإرساله إلى باريس عاد إلى القاهرة وطلق بولين. وفكر نابليون أيضا في الطلاق وشغلته فكرة الزواج من بولين وإنجاب وريث لكنه وضع في اعتباره دموع جوزيفين وعمل لها حسابا· وقد سعدت بولين بهدية حقيقية، وعاشت بعد ما نالته من حظ عاثر تسعا وستين سنة·
وبعد أسبوع من أخبار جوزيفين المحبطة التي أتى بها جونو حدثت كارثة كبرى قوضت نصر جيش الشرق· فإن نابليون عندما ترك أسطوله في الإسكندرية متجها إلى القاهرة كان قد أمر (على وفق رواية نابليون) نائب الأدميرال (اللواء البحري) فرنسوا - بول بروي Brueys أن يفرغ كل حمولته من المواد اللازمة للجنود ومن ثم يبحر بأقصى سرعة ممكنة إلى كورفير Corfu التي كان الفرنسيون قد استولوا عليها· كما أمره بضرورة اتخاذ الإجراءات كلها لتجنب تدخل البريطانيين، لكن سوء الأحوال الجوية أخر إبحار بروي، وفي أثناء فترة التأخير هذه رسا بأسطوله في خليج أبي قير القريب، وهناك في 31 يوليو سنة 1798 رآه نيلسون وهاجمه بسرعة·(ملحق/249)
وبدت القوتان البحريتان المتواجهتان متكافئتين: فالقوات البحرية الإنجليزية قوامها 14 سفينة حربية وسفينة بصاريين، والقوات البحرية الفرنسية قوامها 30 سفينة حربية وأربع فرقاطات· لكن البحارة الفرنسيين كان الحنين إلى العودة إلى بلادهم قد ازداد ولم يكونوا متدربين بما فيه الكفاية، أما البحارة البريطانيون فقد كان البحر هو وطنهم الثاني ألفهم وألفوه، والآن فإن تنظيمهم (البريطانيين) الأكثر تفوقا وبراعتهم البحرية وشجاعتهم سادت طوال النهار والليل لأن المعركة الدامية استمرت حتى فجر الأول من أغسطس·
ففي الساعة العاشرة من يوم 13 يوليو انفجرت، سفينة القيادة (التي بها بروي) التي بها 120 بندقية، وقتل كل من كان على متنها تقريبا بمن فيهم اللواء بحري نفسه، وكان يبلغ من العمر خمسة وأربعين عاما· ولم تستطع الهروب سوى سفينتين فرنسيتين، وبلغت خسائر الفرنسيين ما يزيد على 1750 قتيلاً و1500 جريح، أما خسائر البريطانيين فكانت 218 قتيلاً و672 جريحاً (بمن فيهم نيلسون) · وهذه المعركة (أبوقير) بالإضافة إلى معركة الطرف الأغر Trafalgar (1805) هما آخر محاولتين قامت بهما فرنسا النابليونية لتحدي السيادة الإنجليزية على البحار·
وعندما وصلت أخبار هذه النكسة الكاسحة إلى نابليون في القاهرة أيقن أن فتحه لمصر غدا بلا معنى· فالمغامرون المرافقون له قد أحيط بهم الآن برا وبحرا وما من سبيل لوصول العون الفرنسي إليهم، وأنهم سرعان ما سيصبحون تحت رحمة أهل البلاد المعادين، والبيئة غير المواتية ومن الأمور التي تذكر لهذا القائد الشاب، أنه وجد الوقت في ظروفه العصيبة هذه ليعزي أرملة اللواء البحري المتوفى في مصابها:
"القاهرة، 19 أغسطس 1796
لقد قتل زوجك بطلقة مدفع بينما كان يحارب على سطح سفينته، لقد مات بشرف كما يتمنى أن يموت كل جندي· (ولم يعانِ زوجك حال وفاته) ·(ملحق/250)
إن أساكِ يؤثر في كثيرا· إنها لحظة قاسية عندما نفارق من نحب··· وإذا لم يكن من سبب للحياة فقد يكون من الأفضل أن نموت، لكن هناك جانب آخر للأمور عندما تضمين أطفالك لقلبك فستحيي الدموع والعطف رغبتك في الحياة، لتعيشي من أجل أولادك· نعم يا مدام ستبكين معهم وستنشئينهم وسترعين طفولتهم وستعلمينهم في شبابهم وستحدثينهم عن أبيهم وما حدث له، وعن حبهم وجمهوريتهم· وعندما تربطين روحك بهذا العالم ثانية من خلال التفاعل المتبادل مع أطفالك، أريدك أن تجعلي لصداقتي بعض القيمة ولتضعي في اعتبارك اهتمامي الصادق الذي سأوليه دوما لزوجة صديقي· كوني متأكدة أن هناك رجالا ··· يمكنهم أن يحولوا الأسى إلى أمل لأنهم يشعرون بشكل واضح تماما بعذابات القلب" ·
وتضاعفت المحن، فلا يكاد يمر يوم بلا هجمات يشنها العرب أو الترك أو المماليك غير المؤتلفين مع سادتهم الجدد - على القوات الفرنسية· وفي 16 أكتوبر قامت جماهير القاهرة بثورة على الفرنسيين الذين قمعوا الثائرين، وتخلى نابليون لفترة عن دور الفاتح المتسامح وأمر بقطع أعناق كل ثائر مسلح ·
وعندما سمع نابليون أن الأتراك (العثمانيين) يعدون جيشا لاستعادة مصر صمم على مواجهة التحدي فأعدّ ثلاثة عشر ألفا من رجاله إلى سوريا، وانطلق في 10 فبراير سنة 1799 واستولى على العريش وأتم عبور صحراء سيناء· ويبين لنا خطاب كتبه نابليون في 27 فبراير بعض جوانب هذه المحنة: حرارة وعطش "وماء غير عذب تعتريه ملوحة، وأحيانا لا ماء أبداً لقد أكلنا الكلاب والحمير والجمال" ووجدوا في غزة - ويا لسعادتهم - بعد معركة قاسية - خضراوات طازجة وبساتين ذوات فواكه لا مثيل لها·(ملحق/251)
وفي يافا (3 مارس) توقفوا أمام مدينة ذات أسوار وسكان معادين وحصن يدافع عنه 2700 مقاتل تركي من ذوي البأس، فأرسل نابليون يعرض عليهم شروطا، لكنهم رفضوها، وفي 7 مارس أحدث المهندسون العسكريون الفرنسيون في أسوار المدينة ثغرة اندفع الجنود خلالها فقتلوا من قاومهم من السكان وسلبوا المدينة، وأرسل نابليون، يوجين دي بوهارنيه لإعادة النظام في المدينة فعرض حق الخروج الآمن لكل من يستسلم، وسلم جنود الحصن أسلحتهم حتى لا يلحق الفرنسيون مزيدا من الدمار في المدينة، وسيقوا أسرى إلى نابليون، فرفع يديه فزعا وتساءل: "ماذا يمكنني أن أعمل معهم؟ " فلم يكن نابليون يستطيع أن يأخذ 2,700 أسير معه في مسيرته تلك فالرجال الفرنسيون بذلوا قصارى جهدهم ليجدوا الطعام والشراب لأنفسهم، ولا يمكنه تدبير عدد كاف من الحراس لاصطحاب هؤلاء الأسرى ليسجنوا في القاهرة، وإذا هو أطلق سراحهم فما الذي يمنعهم من حرب الفرنسيين ثانية فعقد نابليون اجتماعا عسكريا وسألهم عن رأيهم في هذه المشكلة، فكان رأيهم أن أفضل حل هو قتل هؤلاء الأسرى، فتم الصفح عن نحو ثلاثمائة منهم، وقتل 2,441 طعنا بالحراب لتوفير الذخيرة ·
وواصل الغزاة مسيرتهم، وفي 18 مارس وصلوا إلى مدينة عكا شديدة التحصين، وكان يقود المقاومة الجزار باشا يساعده أنطوان دي فيليبو Phélippeaux - الذي كان زميلا لنابليون في الدراسة في بريين Brienne، وحاصر الفرنسيون المدينة دون مدافع حصار ذلك أن مدافع الحصار التي كان قد تمَّ إرسالها من الإسكندرية بحرا استولى عليها أسطول إنجليزي بقيادة سير وليم سدني Sir William Sidney وسلمها إلى حصن المدينة (عكا) وراح يزود حاميتها بالطعام والمواد اللازمة في أثناء الحصار·
وفي 20 مايو بعد أن قضى الفرنسيون شهرين أمام أسوار المدينة وتكبدوا خسائر فادحة أمر نابليون بالعودة إلى مصر، وقد ذكر نابليون بعد ذلك متفجعا:
"إن فيليبو جعلني أتراجع عن عكا، فلولاه لأصبحت سيد مفتاح الشرق ولأمكنني الذهاب إلى القسطنطينية واستعادة الإمبراطورية الشرقية" ·(ملحق/252)
وفي سنة 1803 (غير متوقع أحداث سنة 1812) ذكر لمدام دى ريموسا de Remusat: " لقد مات خيالي عند عكا· لن أسمح لها أبدا بالتداخل معي مرة أخرى" ·
كانت العودة على طول الساحل في أيام نحسات متوالية، لقد كان الجيش أحيانا يقطع مسيرة تصل إلى إحدى عشرة ساعة يوميا بين آبار لا يشرب ماؤها في معظم الحالات يسمم البدن ولا يكاد يطفئ عطشا· وطلب نابليون من أطباء الحملة تدبير جرعات مميتة من الأفيون للقضاء على المصابين بأمراض لا شفاء لها، لكن الأطباء رفضوا وسحب نابليون اقتراحه، وأمر بالتخلي عن ركوب الخيل وتركها للمرضى وجعل من نفسه قدوة لضباطه بسيره على قدميه تاركا حصانه المريض · وفي 14 يونيو دخل الجيش الفرنسي المنهك مدينة القاهرة دخول المنتصر وعرض سبعة عشر علما من أعلام الأعداء وستة عشر أسيرا تركيا، كدليل أن الحملة قد حققت نصرا يدعو للفخر· وكان دخولهم القاهرة بعد رحلة شاقة قطعوا فيها 300 ميل في ستة وعشرين يوما·
وفي 11 يوليو أنزلت مائة سفينة على ساحل خليج أبي قير جيشا تركيا لطرد الفرنسيين من مصر فخرج نابليون من القاهرة متجها شمالا على رأس أفضل جنوده وانقض على الجيش التركي فألحق به هزيمة منكرة (في 25 يوليو) حتى إن كثيرين من الترك فضلوا الاندفاع إلى البحر ليموتوا غرقى بدلا من مواجهة الفرسان الفرنسيين المندفعين بعنف·
ومن الصحف الإنجليزية التي أرسلها سيدني سميث Sidney Smith إلى نابليون علم - ويالدهشته - أن التحالف الأوربي الثاني قد طرد الفرنسيين من ألمانيا، وأعاد الاستيلاء على إيطاليا كلها (تقريبا) من الألب إلى كالابريا Calabria. إن صروح انتصاراته كلها قد انهارت عبر سلسلة من الكوارث من الراين وبو Po إلى أبي قير وعكا، والآن من خلال هزائم مخزية وجد نفسه وجيشه الذي هلك جانب كبير منه وقد حوصروا في ممر يحيط به الأعداء، حيث يمكنهم محق الفرنسيين في غضون وقت قليل·(ملحق/253)
وفي نحو منتصف شهر يوليو تلقى من حكومة الإدارة أمرا كان قد أرسل له في 26 مايو، مؤداه أن يعود إلى باريس فورا · فصمم على العودة إلى فرنسا بطريقة ما رغم الحصار البريطاني، ليشق طريقه إلى السلطة، وليعزل القادة المخطئين الذين سمحوا بضياع مكاسبه كلها في إيطاليا بهذه السرعة السريعة· ونظم نابليون الأمور العسكرية والإدارية في القاهرة وعين كليبر Kleber المعارض ليكون على رأس ما تبقى من حلم فرنسا ضم مصر إليها·
وكانت الخزانة خاوية بالإضافة إلى كونها مدينة بستة ملايين فرنك، فقد كانت هناك متأخرات للجنود وصلت قيمتها إلى أربعة ملايين فرنك، وكان عدد الجنود الفرنسيين يتناقص يوما بعد يوم وكذلك معنوياتهم، بينما أهل البلاد المقاومون يزدادون قوة ويتحينون الفرصة للقيام بثورة أخرى· وكان من الممكن في أي وقت أن ترسل تركيا وبريطانيا العظمى قوات عسكرية إلى مصر يمكنها - بمساعدة أهل البلاد - عاجلا أم آجلا إجبار الفرنسيين على التسليم· وكان نابليون يعلم ذلك كله ولم يكن يستطيع تبرير مغادرته مصر إلا بالقول إنه مطلوب في باريس ولديه أمر بالعودة· وعندما كان يودع جنوده رفع صوته قائلا: "إذا حالفني الحظ ووصلت إلى فرنسا فلا بد أن ينتهي حكم هؤلاء الثرثارين الحمقى" ·
ولا بد من إرسال الدعم لهؤلاء الفاتحين المحاصرين· ولم يصل هذا الدعم أبداً (ومما يذكر أن نابليون كان قد وعد - في وقت سابق - أن يقدم لكل جندي من جنوده ستة هكتارات من الأرض بعد أن يعودوا ظافرين إلى بلادهم) ·(ملحق/254)
وكانت الفرقاطتان مويرو Muiron وكارير Carrere قد أفلتتا من الإبادة التي ألحقها الأسطول البريطاني بالأسطول الفرنسي في أبي قير، فأرسل نابليون أمراً بتجهيزهما في محاولة منه للوصول إلى فرنسا· وفي 23 أغسطس سنة 1799 ركب السفينة مويرو ومعه كل من بورين Bourrienne وبيرثولي Berthollet ومونج Monge، وتبعهم الجنرالات لان Lannes ومورا ودينو Denon وغيرهم السفينة كارير وبسبب الضباب وحسن الحظ أفلتت السفينتان من مراقبة جواسيس نلسون وأسطوله· ولم يستطع نابليون ومن معه التوقف في مالطا لأن البريطانيين المنتصرين كانوا قد استولوا على هذا الموقع الحصين في 9 فبراير· وفي 9 أكتوبر رست السفن إزاء فريجو وجدف نابليون ومساعدوه حتى الشاطئ عند سان رافاييل والآن إما أن يكون:
" القيصر أو لا أحد " " aut Caesar aut nullus"·
7 - انهيار حكومة الإدارة: من 4 سبتمبر 1797 إلى 9 نوفمبر 1799
أدت نجاحات الجيوش الفرنسية - والتي بلغت ذروتها في إخضاع بروسيا في بازل Basel في سنة 1795، والنمسا في كامبوفورميو في سنة 1797، ونابلي وسويسرا في سنة 1798 - إلى تراخي الحكومة الفرنسية التي تكاد تكون قد أصيبت بالكسل الشرقي (الكسل والتراخي السائدين في بلاد الشرق) فقد خضع المجلسان التشريعيان لحكومة الإدارة (حكومة المديرين) واعترف هؤلاء (أعضاء حكومة الإدارة) بدورهم بزعامة كل من بارا Barras وروبل Rewbell ولاريفيليير Larevelliere. ويبدو أن هؤلاء الثلاثة قد اتخذوا من الشعار الذي تنسبه الروايات إلى البابا ليو العاشر، ذلك الشعار القائل: إنه "ما دام الرب قد أعطانا هذا المنصب فدعونا نستمتع به"·(ملحق/255)
لقد كانوا سعداء فيما يبدو بفترة السلام النسبي التي أتاحت لفرنسا أمنا من الناحية الظاهرية، وكانوا قد تعلموا بالخبرة أن المناصب الحكومية غير مضمونة خاصة في أثناء الثورات، فراحوا يستعدون للإطاحة بهم بفرش أعشاشهم (المقصود راحوا يجمعون الأموال ليؤمنوا حياتهم إذا ما تركوا الحكم)، فعندما عرضت إنجلترا المعزولة عليهم السلام في يوليو سنة 1797 قيل لها إن ذلك أمر يمكن ترتيبه إذا دفعت مبلغ 500,000 جنية إسترليني لكل من بارا وروبل واستطاع هؤلاء الأشخاص الآنف ذكرهم الحصول على رشوة - فيما يظهر - من البرتغال، كان مقدارها 400,000 جنية إسترليني، لقاء السلام الذي حصلت عليه من فرنسا في أغسطس من العام نفسه ·
وكان روبل جشعا وكان بارا يحتاج إلى دخل متحرك (غير ثابت كالمرتبات الحكومية) ليحتفظ بالمدام تاييه Mme. Tallien وأما المرتبطون به فكانوا ذوي نزوات ومتسمين بالمرح، وكانوا في حاجة إلى الأموال للاحتفاظ بمساكنهم الفاخرة في قصر لكسمبرج أما تاليران وزير الشئون الخارجية فقلما كان يفلت فرصة ليجعل الثورة تمول ما يشبع ذوقه الأرستقراطي، وقد أحصى بارا العمولات التي يحصل عليها، فوجدها - غالبا - تزيد عن 100,000 جنية في السنة · وفي أكتوبر سنة 1797 حضر إلى باريس ثلاثة مندوبين أمريكيين لفض نزاع حول سفن أمريكية استولى عليها قراصنة فرنسيون مفوضون من الحكومة، على وفقا ما ذكره الرئيس جون آدمز John Adams فقد قيل لهم أنه يمكنهم الوصول إلى اتفاق بتقديم قرض قيمته 32 مليون فلورين لحكومة الإدارة و"حلاوه douceur" ( المقصود رشوة) قيمتها 50,000 جنية إسترليني لتاليران ·(ملحق/256)
لقد واجه هؤلاء الثلاثة (أعضاء حكومة الإدارة الآنف ذكرهم) كثيرا من المشاكل فقد يجوز لنا التسماح مهم في معظم أخطائهم - على الأقل فيما يتعلق بإنعاش أنفسهم مساء بابتسامات الغيد الحسان· لقد تجنبوا انهيارا ماليا آخر بجمع الضرائب التقليدية بجدية أكثر من ذي قبل، واستردوا الضرائب التي كانت في حكم الميتة كضريبة الانتقال، وفرضوا ضرائب جديدة - كتلك التي فرضوها على الرخص، والأختام والدمغات وطوابع البريد، وعلى النوافذ والأبواب · لقد ترأسوا أمة ممزقة الجسد والروح، ممزقة في الدوائر (المحافظات) وممزقة حتى على مستوى الطبقة الواحدة، ممزقة لتصارع أغراضها:
النبلاء والبلوتوقراط plutocrats ( الذين حازوا النفوذ بسبب ثرواتهم)، أهالي فيندي Vendean الكاثوليك واليعاقبة غير المؤمنين بالكاثوليكية (النص: الملاحدة atheists) · الاشتراكيون أتباع بابيف Babeuvian Socialists والتجار المطالبون بالحرية، والعوام الحالمون بالمساواة والذين يعيشون على حافة المجاعة· ولحسن الحظ فقد أدت وفرة المحاصيل في عامي 1796 و1798 إلى تقليل أعداد الواقفين في الصفوف للحصول على الخبز·
لقد كان انتصار الليبراليين على أعضاء حكومة الإدارة ذوي الاتجاه الملكي في سنة 1797، من إنجاز الراديكاليين الذين قدموا دعما ضد ذوي الاتجاهات الملكية في ذلك الوقت· وعن طريق الدفع إلى حد ما (تقديم الرشاوى) استطاع هؤلاء الثلاثة - على أية حال - فرض الرقابة على الصحافة ذات الميول البورجوازية والمسارح والانتخابات غير النزيهة والقبض على المعارضين بلا سابق إنذار، وجددوا معركة هيبير Hébertist Campaign ضد الدين·
وتم إبعاد الراهبات عن مهمة تعليم النشء، وعهد به إلى معلمين صدرت إليهم الأوامر بنزع الأفكار الغيبية كلها من المقررات التي يدرسونها · وفي غضون اثني عشر شهرا في عامي 1797 و1798 ,جملة الكهنة المرحلين من فرنسا 1448 و8235 من بلجيكا من 193 إكليريكياً ecclesiastics تم ترحيلهم على السفينة ديكاد Décade لم يبق منهم على قيد الحياة بعد ترحيلهم بعامين سوى تسع وثلاثين ·(ملحق/257)
وبينما كان الصراع الداخلي يشتد كان الخطر الخارجي يزداد، ففي هولندا وبلاد الراين أدى جشع حكومة الإدارة إلى خلق أعداء لفرنسا بدلا من الأصدقاء، فقد كانت الضرائب باهظة، وعارض الشباب التجنيد الإلزامي، وزاد الحنق بسبب القروض الإجبارية (الاقتراض بدون رغبة المقرض - بكسر الراء)، والاستيلاء على الذهب والفضة والقطع الفنية من الكنائس ورجال الدين المبعدين، والناس العاديين على سواء· وفي غضون ثلاث سنوات جمعت حكومة الإدارة من بلجيكا ومناطق الراين وإيطاليا بليونين من الجنيهات.
وبعد مغادرة بونابرت مصر "واصلت حكومة الإدارة سياسة الفتح أو بمعنى أوضح سياسة السلب"، فاحتلت مناطق جديدة بقصد تحصيل الأموال وسلبت السكان وفرضت "التعويضات" على الحكومات المحلية (التعويض هو مبلغ تقدمه الحكومة المحلية لقاء قيام الثورة بتحريرها) · "كل ذلك جعل فرنسا ملعونة مكروهة" فقد قال مالي دي با Mallet du Pa وهو موالٍ للنظام الملكي:
" إن فرنسا تأكل أوربا ورقة ورقة وكأنها - أي أوربا - رأس خرشوفة· إنها - أي فرنسا تحرض الشعوب على الثورة حتى تسلبها، وهي تسلبها حتى تتمكن هي من الاستمرار"
لقد أصبحت الحرب مربعة أما السلام فقد يكون مدمرا لها· وقد وجد تاليران أن سفينة الدولة غير ثابتة وتبحر في جو عاصف فقدم استقالته من منصبه الوزاري (20 يوليو 1798) وانسحب ليستمتع بما سلبه·(ملحق/258)
وكان نابليون قد قدم مثالا حفز غيره على تقليده، بجعل الحرب وسيلة لجمع الأموال، كما أن عملياته الطائشة كانت إلى حد ما مسئولة عن ويلات الحرب التي أوقعت فرنسا في براثن حكومة الإدارة المنهارة· لقد تسرع نابليون كثيرا - وبشكل سطحي - بإخضاع إيطاليا للحماية الفرنسية وترك المناطق التي فتحها في أيدي أتباع ينقصهم ما كان يتصف به هو من حدة ذهن ومهارة دبلوماسية· وكان نابليون قد عول - بشكل متفائل جدا - على رغبة الجمهوريات الإيطالية الجديدة في دفع مبالغ لفرنسا لقاء تحريرها من النمسا، وأساء تقدير موقف إنجلترا العنيف من احتلاله لمالطة ومصر، فما كان يظن أن موقف انجلترا إزاء هذا الاحتلال سيكون بمثل هذه الشدة، وإلى أي مدى ستقاوم تركيا الخاملة دعوة عدوّتيْها القديمتين: روسيا والنمسا إلى الانضمام إليهما لتأديب هؤلاء الثوار محدثي النعمة وإلى أي مدى سيؤدي اهتمام روسيا وبروسيا والنمسا بتقسيم بولندا في شرق أوربا إلى انشغالهم عن إعادة الحق الإلهي إلى الملوك في غرب أوربا·
لقد كانت عروش أوربا كلها تقريبا تتحين الفرصة للانقضاض على فرنسا مرة أخرى· وقد أدرك الملوك أن هذه الفرصة قد سنحت عندما أخذ نابليون معه 35,000 من خيرة جنود فرنسا ورجالها إلى مصر، فحاصروا فرنسا بمجرد انتصار نلسون في معركة أبي قير البحرية، وما نتج عن ذلك من عدم قدرة الجيش الفرنسي في مصر على العودة سريعا إلى فرنسا· وقبل القيصر بول الأول نتيجة انتخاب ليكون الرئيس الأعلى لفرسان مالطة وأخذ على عاتقه طرد الفرنسيين من هذه الجزيرة بالغة الأهمية وعرض مساعدته على فرديناند الرابع لاستعادة نابلي، وكان يحلم بأن تكون لروسيا مواني صديقة في نابلي ومالطا والإسكندرية، وبالتالي بجعل روسيا قوة من قوى البحر المتوسط· وفي 29 ديسمبر سنة 1798 عقد حلفا مع إنجلترا، وعندما سمح الإمبراطور فرانسيس الثاني بالمرور الآمن في الأراضي النمساوية للجيش الروسي ليمر إلى الراين، أعلنت فرنسا الحرب على النمسا (12 مارس 1799)، فانضمت النمسا - إثر هذا - إلى كل من روسيا وتركيا ونابلي والبرتغال وانجلترا في الحلف الثاني ضد فرنسا·(ملحق/259)
وتجلى ضعف حكومة الإدارة في هذا الصراع الذي كانت هي السبب في إثارته، وعجزت عن التنبؤ به· لقد كانت بطيئة كسلي فلم تستعد له بما فيه الكفاية، وكانت غير ناجحة في إعداد ميزانية الحرب، وكانت خرقاء في تطبيق سياسة التجنيد الإجباري· لقد جندت 200,000 رجل لم يكن صالحا منهم للخدمة سوى 143,000 وقد مثل من هؤلاء للأوامر 97,000 وفر منهم آلاف في أثناء المسيرة فلم يصل منهم إلى وحداتهم العسكرية المحددة لهم سوى 74,000، وفي معسكراتهم وجدوا الفوضى ضاربة أطنابها ووجدوا نقصا في الملابس والمعدات والأسلحة· وكانت روح الحماسة التي كانت في وقت من الأوقات تغمر الجيش الجمهوري شجاعة ورغبة في القتال، قد اختفت من هؤلاء الرجال الذين عاشوا سنين محبطين حيث الفوضى وخيبة الأمل· لم يكن هناك في ظل حكومة الإدارة الآن (1798) ذلك العزم والنظام الذي ساد في حرب 1793 في ظل لجنة الأمن العام·
لقد كانت هناك بعض النجاحات الأولية والمضللة فقد فتح الفرنسيون بيدمونت وتسكانيا وجمعوا منهما الضرائب· وانتصار الملك فرديناند Ferdinand IV الرابع بطرد الفرنسيين من روما، سرعان ما محقه الفرنسيون باستعادة روما بقيادة جان - اتين شامبيون Jean-Etienne Championnet الذي دخل المدينة (روما) في 15 ديسمبر، وتراجع فرديناند بحاشيته مع لادي هاملتون Lady Hamilton وعشرين مليون دوكات إلى باليرمو في ظل حماية أسطول نلسون·
واستولى شامبيون على نابلي وأقام فيها الجمهورية البارثينوبية Parthenopean تحت حماية فرنسا· وكلما تقدمت الحرب كانت تنضم فرق عسكرية جديدة للقوات الروسية النمساوية الإنجليزية فوجد الفرنسيون أنفسهم أمام قوات تفوق قواتهم عددا (170,000 مقاتل فرنسي مقابل 320,000 من قوات الحلفاء) · وكان الجنرالات الفرنسيون - رغم براعة عمليات ماسينا Massena في سويسرا - تنقصهم قدرة بونابرت على هزيمة قوات أكثر عددا باستخدام استراتيجيات أكثر براعة وتكتيكات ونظم متقدمة·(ملحق/260)
لقد هزم جوردا Jourdan في ستوكاش Stockach (25 مارس 1799) وتراجع إلى ستراسبورج وتخلى عن منصب القائد· وهزم شيريه Scherer في ماجنانو Magnano (5 أبريل) وانسحب بقواته بغير نظام ففقد قواته كلها تقريبا وتخلى عن منصبه تاركا إياه لمورو، عندئذ أقبل "شيطان الإنس" حقا الإكسندر سوفوروف Aleksandr Suvorov على رأس ثمانية عشر ألف روسي وقادهم مع بعض الفصائل النمساوية في معركة شرسة فاستعاد من الفرنسيين المناطق التي كان نابليون قد فتحها في عامي 1796 و1797، منطقة إثر منطقة، ودخل ميلان منتصرا في 27 أبريل فتراجع مورو Moreau إلى جنوا، وانتهت جمهورية سيزالبين Cisalpine النابليونية نهاية مبكرة· ولما وجد ماسينا نفسه وحيدا بجيش صغير في سويسرا تخلى عن فتوحاته هناك وانسحب إلى الراين·
ولما وجد سوفورف مدى سهولة استرجاع لومبارديا إلى حوزة النمسا انطلق من ميلان لمقابلة القوات الفرنسية القادمة من نابلي وروما وألحق بها الهزيمة في تريبيا Trebbia (17 - 19 يونيو 1799) فلم يبق منها إلا بقايا وصلت جنوا· وبذا انتهت الجمهورية البارثينوبية نهاية مبكرة· واستعاد فرديناند عرشه وأقام حكم إرهاب, حكم في ظلاله بالإعدام على مئات الديمقراطيين·
وقاد جوبير Joubert الذي تولى منصبه مؤخراً بقايا القوات الفرنسية في إيطاليا ضد سوفوروف في نوفى Novi (15 أغسطس) وتصرف بتهور شديد فلاقى حتفه في مستهل المعركة· لقد حارب الفرنسيون بشجاعة لكن من غير أن يحققوا نتائج طيبة· لقد سقط منهم في ساحة المعركة 12,000، وعندما علمت الحكومة الفرنسية بهذه النكبة التي بلغت ذروتها تحققت أن فتوحاتها التي حصلت عليها بصعوبة شديدة قد ضاعت، وأنه قد يصبح الروس بقيادة سوفوروف حالاً على الأرض الفرنسية· وكان خيال العامة في الألزاس وبروفانس Provence يصور هذا القائد الروسي ورجاله وكأنهم "برابرة عماليق" كموجات عاتية من السلاف المتوحشين تجوس خلال مدن فرنسا وقراها·(ملحق/261)
إن فرنسا التي كانت إلى عهد قريب فخورة بقوتها وانتصاراتها أصبحت الآن في حالة فوضى وفزع لا تقل عن حالة الفوضى والفزع التي سادتها سنة 1792 والتي أدت إلى مذابح سبتمبر · لقد ثار أهل إقليم فيندي مرة أخرى وتمردت بلجيكا على حكامها الفرنسيين، وأصبح خمس وأربعون دائرة (محافظة) من ست وثمانين محافظة - تقريباً بلا حكومة ولا ضوابط، لقد قاتل الشبابُ الضباطَ الذين أتوا لتجنيدهم إجباريا، وجرى قتل موظفي البلديات وجامعي الضرائب وأثار مئات اللصوص وقطاع الطرق الذعر في قلوب التجار والمسافرين سواء في شوارع المدن أم على الطرق الزراعية (المارة بالريف) وفاقت قوة المجرمين رجال الشرطة، ففتحوا السجون وأطلقوا سراح المسجونين وضموهم في تنظيمات شكلوها، وتعرضت المساكن ودور العبادة كلها للنهب· لقد عاد "الرعب الكبير" الذي ساد في سنة 1794 مرة أخرى·
وتطلعت الأمة بأمل طالبة الحماية من نوابها الذين أرسلتهم إلى باريس لكن المجلسين كانا قد استسلما لحكومة الإدارة، وحكومة الإدارة بدورها لم تبد سوى أنها أوليجاركية oligarchy مغتصبة (حكومة أقلية مغتصبة) تحكم بالرشوة والمغالطة والقهر·
وفي مايو سنة 1799 وجدنا سييس Sieyes - الذي كان راهبا في وقت من الأوقات، والذي راح طوال عشر سنوات مضت يغازل الثورة بتوجيه هذا السؤال: ما هي الطبقة الثالثة؟ وكان يجيب عن السؤال الذي طرحه بقوله إنها الأمة ويجب أن يسمي أبناؤها أنفسهم بذلك (الأمة) سييس هذا خرج من ثوب الغموض الذي كان يتدثر به، فتم انتخابه عضوا في حكومة الإدارة وذلك لأنه كصانع دساتير أصبح متفاعلاً مع القانون والنظام ووافق سييس على الخدمة شريطة استقالة روبل Rewbell، فاستقال روبل بعد أن حصل على ترضية باهظة: 100,000 فرنك) ·(ملحق/262)
وفي 18 يونيو أرغمت أقلية قوية من ا ليعاقبة في المجلسين حكومة الإدارة على إبعاد لاريفيليير وتريهار Treihard ومرلي Merlin على أن يحل محلهم لويس جيروم جوهييه Gohier وجان فرنسوا مولي Jean-Francois Moulin وروجر دوكو · وأصبح فوشي وزيرا للشرطة وروبرت ليند رئيسا للخزانة، وكان كلاهما في لجنة الأمن العام المنحلة وأعيد فتح نادي اليعاقبة في باريس، وراح الناس يسمعون ثناء على روبيسبير وبابيف ·
وفي 28 يونيو فرضت الهيئة التشريعية بتأثير اليعاقبة تحصيل قرض مقداره مئة مليون جنيه على شكل ضريبة تتراوح بين 30% و55% على الدخول العالية، فاستأجر المواطنون الأثرياء محامين لإيجاد ثغرات في القانون لتحاشي هذا القرض الإجباري وراحوا يصيخون السمع برغبة لحبك مؤامرات للإطاحة بالحكومة· وفي 12 يوليو مهد اليعاقبة لإصدار "قانون الرهائن" والذي بمقتضاه صدرت الأوامر إلى كل كومون commune في فرنسا أن يعد قوائم المواطنين من النبلاء الذين لا يحميهم القانون في دائرته والتحفظ عليهم وإخضاعهم للمراقبة فإذا حدثت سرقة اتهم فيها واحد منهم تحتم إرغامه على إعادة المسروقات وإن قتل واحد من الوطنيين (المقصود هم الموالون للحكم القائم) تم نفي أربعة من هؤلاء الرهائن· وقد قوبل هذا القرار بصيحات الفزع من الطبقات العليا ولم يرحب به العامة ترحيبا كافياً ·(ملحق/263)
وبعد عقد من الهياج والنزاع بين الطبقات والحروب الخارجية والقلاقل السياسية والمحاكمات غير القانونية والسلب والنهب والإعدامات والمذابح أصبح أهل فرنسا كلها من ضحايا الثورة فراحوا يتحسرون على الأيام الطيبة التي خلت، أيام لويس السادس عشر وشعروا أنه لا يستطيع أحد أن يعيد إلى فرنسا النظام والسلامة سوى ملك· وأولئك الذين ظلوا على كاثوليكيتهم راحوا يصلون مبتهلين طالبين أن يحل اليوم الذي يتخلصون فيه من حكم الملحدين، بل إن بعض المتشككين الذين تخلوا عن المعتقدات الغيبية كلها راحوا الآن يتشككون الآن في إمكانية أن يستطيع نظام أخلاقي لا يدعمه دين مقاومة العواطف والانفعالات غير المنضبطة والدوافع غير الاجتماعية التي ترسخت في قرون انعدم فيها الأمان وسادت فيها الوحشية والقنص، وراح كثيرون من الآباء غير المتمسكين بعقيدة يرسلون أبناءهم إلى الكنائس لأداء الصلوات، وتأدية طقس الاعتراف وتناول العشاء الرباني حتى يعين ذلك كله على تحليهم بالتواضع ولتقوية عرى الروابط الأسرية وتحقيق السلام مع النفس·
والفلاحون والبورجوازيون الذين يدينون للثورة بأراضيهم ويريدون الاحتفاظ بهذه الأراضي قد بغضوا الحكومة رغم هذا، فهي ترسل لهم غالبا من يفرض الضرائب على محاصيلهم أو يجند أبناءهم قسراً· وكان عمال المدن صاخبين في مطالبتهم بالخبز بدرجة أ كثر يأساً عن ذي قبل حتى عن فترة ما قبل سقوط الباستيل، لقد رأوا التجار والصناع والسياسيين وأعضاء حكومة الإدارة يعيشون في رغد من العيش فراحوا ينظرون إلى الثورة باعتبارها أحلت البورجوازيين سادةً ومستغلين للدولة بدلا من النبلاء،(ملحق/264)
ومع هذا فقد كان سادتهم البرجوازيين ساخطين بدورهم فالطرق غير الآمنة والتي اعتراها الإهمال جعلت التجارة عملية مرهقة ومنطوية على المخاطرة، وأحبطت القروض القسرية (على غير رغبة المقرض بكسر الراء) والضرائب المرتفعة الراغبين في الاستثمار وإقامة المشروعات، ففي ليون أغلق ثلاثة عشر محلا تجارياً أبوابها من بين خمسة عشر ألفا، باعتبارها غير مربحة، وكان هناك الألوف من العاطلين رجالا ونساء، وكان لي هافر Le Havre وبوردو ومرسيليا قد اعتراها الخراب بسبب الحرب وبسبب الحصار البحري البريطاني·
ولم تكن الأقلية التي يزيد تناقصها تستطيع إلا بجهد شاق أن تعقد رباطا بين الثورة والحرية، فقد حطمت الثورة كثيرا من الحريات وأجازت كثيرا من القوانين الإرهابية وأرسلت خلقاً كثيرا رجالا ونساء- إلى السجن أو المقصلة· وراحت النسوة خلا الزوجات ومشرفات البيوت وبنات الأثرياء الجدد وكبار السن ينتقلن من صف إلى صف باضطراب أمام المحلات مخافة أن ينفد المعروض من البضائع ورحن يتساءلن متى يعود أبناؤهن وإخوانهن وأزواجهن من الحرب؟ أما لهذه الحرب من نهاية؟
وكان الجنود الذين اعتادوا على العنف والسرقة لا يعانون فقط من الهزيمة وإنما أيضا من نقص المؤن ورداءة الطعام، وكان مما يثير غضبهم ما يصل إلى علمهم مرارا بشأن فساد الرجال الذين يقودونهم وأولئك الذين يقدمون لهم الغذاء واللباس، وعندما كان هؤلاء الجنود يعودون إلى باريس أو إلى مدنهم كانوا يجدون أيضا عدم الأمانة سائدة في المجتمع وفي التجارة والصناعة والمالية والحكومة· لقد كان سراب إيجاد عالم بهيج جديد يتراجع ويتلاشى كلما زادت أيام الثورة ·(ملحق/265)
وارتفعت الروح المعنوية شيئا ما ولفترة قصيرة عندما وصلت أنباء بأن الحلفاء قد تنازعوا وانقسموا على أنفسهم، وأنهم قد هزموا وتراجعوا في سويسرا والأراضي المنخفضة، ذلك لأن ماسينا استعاد المبادرة وقسم الجيش الروسي إلى قسمين في زيوريخ (26 أغسطس 1799) ذلك أن هؤلاء السلاف المرعبين كانوا في حالة تراجع لأن روسيا كانت قد خرجت من التحالف ضد فرنسا وبدأ الفرنسيون يأملون في أن يعود بعض الجنرالات الأكفاء مثل ماسينا أو مورو Moreau، وحبّذا بونابرت الذي عاد من مصر سالما ويقود جماعة منظمة في باريس ويطيح بالسياسيين ويمنح فرنسا الانضباط والأمان حتى لو كان هذا على حساب الحرية· لقد انتهى الفرنسيون إلى نتيجة مؤداها أنه لا يقدر على إنهاء فوضى الثورة، وفرض النظام في فرنسا وإحلال الأمن بها مما هو ضروري لحياة متحضرة سوى حكومة مركزية يقودها زعيم واحد متمتع بالصلاحيات اللازمة ·
8 - نابليون يتولى المسئولية في: 18 برومير BRUMAIRE (9 نوفمبر) 1799
ووافق سييس، لكنه عندما درس زملاءه في حكومة الإدارة رأى أنه لا أحد منهم (ولا حتى بارا البارع) يشاركه الفكر والرؤية اللازمتين لفرنسا موحدة سوية وكان الرجل متشربا بفكرة الدستور لكن يحتاج إلى جنرال ليكون عوناً على إصدار الدستور وليكون ذراعاً له (أي لسييس) · وفكر في جوبير Joubert لكن جوبير كان قد مات، فأرسل في طلب مورو وراح يحثه أن يكون "فارس الحلبة" لكنهما عندما علما بعودة نابليون من مصر، قال مورو: "جاء رجلك إنه يستطيع أن يقوم بالانقلاب الذي تفكر فيه أفضل مما أستطيع أنا" وتفكر سييس ملياً، فنابليون يمكن أن يكون هو الرجل المطلوب، لكن أيقبل أن يوجهه سييس والدستور الجديد؟(ملحق/266)
وفي 13 أكتوبر أحاطت حكومة الإدارة المجلسين علما بأن بونابرت قد رسا بالقرب من فريجو Frejus فهب النواب وقوفاً وهللوا· وظل أهل باريس طوال ثلاثة أيام يحتفلون ليلا ونهارا بهذه الأخبار بالشرب في الحانات والغناء في الطرقات· وفي كل مدينة تقع على الطريق من الساحل إلى العاصمة (باريس) هبت الجموع شعبا وقادة لتحية الرجل الذي بدا لهم رمزا للنصر وتأكيدا له· حتى إنهم لم يسمعوا بالنكبة التي حدثت للفرنسيين في مصر، ففي المراكز والتجمعات المختلفة ذكر المراقبون أن: "الجموع المتجمعة كثيرة جدا مما عطل حركة المرور فلا يستطيع أحد أن يتقدم إلا بصعوبة" وفي ليون جرى عرض مسرحية تكريما له، ووجه الخطيب الحديث إليه قائلاً: "اذهب وحارب العدو واهزمه وسننصبك ملكا" لكن الجنرال الصغير (نابليون) كان صامتا مكتئبا، لقد كان يفكر في كيفية التصرف مع جوزيفين
وعندما وصل باريس (16 أكتوبر) اتجه مباشرة إلى المنزل الذي كان قد اشتراه في الشارع الذي كان اسمه قد تغير تكريما له ليصبح اسمه "شارع النصر Rue de la victoire" ·
لقد كان يأمل أن يجد زوجته المنحرفة هناك ليطردها من حياته، لكنها لم تكن هناك لسببين، أولهما أنه في 21 من أبريل سنة 1799، بينما كان يحاصر عكا، اشترت هي 300 أكر على نهر السين على نحو عشرة أميال من باريس وشيدت في هذه المساحة بيتاً Malmaison ( بيت الضرار أو بيت السوء) قدم لها بارا Barras 50,000 فرنك كدفعة أولى من تكلفته البالغة 300,000 فرنك، وكان الكابتن هيبوليت تشارلز Hippolyte Charles هو أول ضيوفها في هذا القصر الرحب ·
والسبب الثاني أنها هي وابنتها كانتا قد غادرتا باريس قبل أربعة أيام لتتجها إلى ليون على أمل مقابلة بونابرت في الطريق، وعندما اكتشفت جوزيفين وهورتنس Hortense أن نابليون كان قد اختار طريقا مغايرا عادا وقد اعتراهما التعب وشملهما المرض حقا بسبب الرحلة وقطعا مائتي ميل إلى العاصمة، وفي هذه الفترة أتاه والد زوجها الراحل، الرجل الهرم الماركيز دى بوهارنيه de Beauharnais وراح يبرر له ويحثه على مسامحتها:(ملحق/267)
"مهما تكن أخطاؤها فلتنسها، لا تلوث لحيتي التي اشتعلت شيبا ولا تلوث الأسرة التي منحتك التشريف" · أما إخوة بونابرت فقد حثوه على طلاقها وقد كانت أسرته مستاءة من سلطانها عليه، لكن بارا حذره من أن الفضيحة العامة تضر بمركزه السياسي·
وعندما وصلت الأم المنهكة (جوزيفين) وابنتها إلى 3 شارع النصر (18 أكتوبر) قابلهما يوجين عند نزولهما من العربة وحذرهما من عاصفة متوقعة، فتركت جوزيفين، يوجين يحتفي بأخته، وأسرعت بصعود السلم قفزا وطرقت باب غرفة نابليون الذي أجابها بأنه قرر ألا يراها ثانية، فخرت على السلم وراحت تنشج بالبكاء حتى أتى يوجين وهورتنس فساعداها على النهوض، وعادا معها ليتوسلا إلى نابليون معا، وفي وقت لاحق قال نابليون:
"لقد تأثرت بشدة فلم أكن أستطيع أن أتحمل بكاء ابنها وبنتها، وسألت نفسي: أيجب أن يكونا ضحية سقوط أمهما؟ فبسطت يدي وأمسكت بذراع يوجين وأردفته خلفي· عندئذ أتت هورتنس ومعها أمها··· ماذا يمكن أن يقال؟! إن المرء لا يكون إنسانا دون أن يرث الضعف البشري" ·
في هذه الأيام التي نزع فيها إلى السكون والتأمل تجنب فيها أن يظهر أمام العامة، فقد كان يعرف أن الرجل العام (موضع اهتمام العامة) لا يجب أن يكون عاما جدا· وفي البيت وعندما يخرج، كان لباسه مدنيا حتى يحبط الشائعات القائلة بأن الجيش كان يخطط للاستيلاء على الحكم· وقام بزيارتين: زيارة ليقدم احترامه لمدام هيلفيتيوس Helvetius البالغة من العمر ثلاثة وثمانين عاما، وذلك في أوتيل Auteuil،
والزيارة الثانية للمعهد العلمي حيث تحدث عن الحملة الفرنسية على مصر باعتبارها في جانب كبير منها ذات أبعاد علمية (لصالح العلم) وقد أيده في هذا بيرثولي Berthollet ومونج وراح لابلاس ولاجرانج وكابانيه Cabanis وكثيرون غيرهم يستمعون إليه كعالم وفيلسوف · وفي هذا الاجتماع قابل سييس وكسبه إلى جانبه بملاحظة واحدة: " ليس لدينا حكومة لأنه ليس لدينا دستور أو على الأقل ليس لدينا الدستور الذي نحتاج لا بد أن تقدم لنا بعبقريتك هذا الدستور المطلوب" ·(ملحق/268)
وسرعان ما أصبح بيته مركزا لمفاوضات سرية· لقد استقبل زوارا من "اليسار" ومن "اليمين" (يساريين ويمينيين)، ووعد اليعاقبة بالمحافظة على الجمهورية ودافع عن مصالح الجمهور، لكنه أعلن أخيرا وبصراحة أنه قابل ممثلي "البوربون" Bourbons وعلى أية حال فقد جعل نفسه بعيدا عن أي فريق، خاصة الجيش·
ونصحه الجنرال بيرنادوت Bernadotte الذي كان يأمل أن يتولى الحكومة بنفسه ألا يقحم نفسه في السياسة ويكتفي بمنصب قيادي عسكري· واستمع نابليون بمزيد من الرضا لمدنيين مثل سييس الذي نصحه بتولي أمر الحكومة وتدشين دستور جديد· وكان هذا يتطلب تعديل أو خرق قانون أو قانونين، ولكن مجلس الشيوخ خوفاً من إحياء حركة اليعاقبة قد يتغاضى عن شيء من التجاوز للقانون (يتغاضى عن خروج قليل عن القانون)، أما مجلس الخمسمائة فرغم أن به أقلية يعقوبية قوية، فإنه قد انتخب مؤخراً لوسين بونابرت Lucien Bonaparte رئيساً له· ومن بين أعضاء حكومة الإدارة الخمسة كان سييس ودوكو Ducos إلى جانب نابليون، وكان تاليران يحث بارا على الانسحاب بما حققه من مجد ومكاسب (غنائم) أما جوهييه Gohier رئيس حكومة الإدارة فكان على علاقة نصف غرامية بجوزيفين ويمكن شل حركته بابتسامة منها · وقد يكون بعض المصرفيين قد أرسلوا فرنكات لتأكيد صداقتهم ·(ملحق/269)
وفي الأسبوع الأول من شهر نوفمبر سرت إشاعة في باريس مؤداها أن اليعاقبة كانوا يجهزون لقيام الجماهير بتمرد، واعتبرت مدام دى ستيل de Stael هذه الأخبار صحيحة فجهزت نفسها للخروج السريع من باريس إذا انفجرت الاضطرابات · وفي 9 نوفمبر (اليوم الثامن عشر من شهر برومير (شهر الضباب) الذي سيصبح يوما شهيرا من الآن فصاعدا) أمر مجلس الشيوخ مستخدما حقوقا كفلها له الدستور بنقل اجتماعاته وكذلك اجتماعات مجلس الخمسمائة إلى القصر الملكي في ضاحية سان كلود St. Cloud اعتبارا من اليوم التالي، وتوسع في استخدام حقه الدستوري فقام بتعيين بونابرت قائداً لحامية باريس وأمره بالقدوم فورا إلى مقر مجلس الشيوخ في التوليري Tuileries لأداء القسم، فأتى نابليون يرافقه ستون ضابطا والتزم بشروط فضفاضة بما فيه الكفاية ليسمح لنفسه بشيء من حرية العمل والاختيار فيما بعد، واستخدم عبارات عامة تتيح له تفسيرها فيما بعد: "إننا نريد جمهورية قائمة على الحرية والمساواة والمبادئ المقدسة لتمثيل الأمة، وسنصل إلى هذه الجمهورية، إنني أقسم" ·
وعندما خرج من القاعة قال للجنود المتجمعين: "الجيش متحد معي ثانية، وأنا أتحدث ثانية مع المجلسين"· وفي هذه الأثناء أحضر بوتو Bottot سكرتير بارا إلى نابليون رسالة من بارا عضو حكومة الإدارة الذي كان قويا ونافذا في وقت من الأوقات، يطلب فيها ضمانا بالخروج الآمن من باريس لأنه ينوي الخروج منها· فهب نابليون صارخاً في بوتو - البائس الذي لا ذنب له إلا أنه حامل رسالة - وراح يقول له بصوت عال يريد أن يسمعه الجند والمدنيون، كلمات كانت كحكم بالإعدام على حكومة الإدارة، لقد قال له بطريقة إياك أعني واسمعي يا جارة:
"ماذا فعلتم بفرنسا التي تركتها لكم مزدهرة؟ لقد تركتكم تنعمون بالسلام، فوجدتكم - عندما عدت - في حرب، لقد تركت لكم انتصارات فوجدتها هزائم! لقد تركت لكم الملايين من إيطاليا فوجدت السلب والبؤس· ماذا فعلتم بمئات الآلاف من الفرنسيين الذين أعرف أنهم زملائي وشركائي في النصر والعظمة؟ لقد ماتوا·"(ملحق/270)
ولم يكن المستمعون إليه يعلمون أنه استعار بعضا من هذه السطور من جرينوبل اليعقوبي Grenoble Jacobin فأحسوا بقوتهم إذ كان قد جرى اختزانهم في الذاكرة فترة طويلة كمبرر للانقلاب الذي سيحدث· ومخافة أن تثير كلماته هذه سخط بارا فقد انتحى جانبا ببوتو وأكد له أن مشاعره الشخصية عن عضو حكومة الإدارة (بارا) لم تتغير · ثم ركب حصانه واستعرض جنوده وعاد إلى جوزيفين سعيدا بنجاحه كخطيب·
وفي 10 نوفمبر قاد الجنرال ليفيبفر Lefebvre خمسمائة من حامية باريس إلى سان كلو وعسكر بالقرب من القصر الملكي، وتبعهم نابليون وعدد من ضباطه المقربين، ثم لحق بهم سييس، ودوكو Ducos، وتاليران، وبوريين Bourrienne · وراحوا يراقبون اجتماع مجلس الشيوخ في بهو مارس Mars واجتماع مجلس الخمسمائة في حديقة البرتقال المجاورة للبهو (الأورنجيري Orangerie) وحالما دعا لوسين بونابرت الخمسمائة للجلوس والنظام حتى تعالت الاحتجاجات على وجود العساكر حول القصر· لقد تعالت الصيحات: "لا للدكتاتورية·· فليسقط كل دكتاتور! إننا أحرار ولن تخيفنا الحراب" وكان هناك اقتراح مؤداه أن على كل نائب أن يتقدم إلى المنصة وأن يجدد بصوت مسموع قسمه بحماية الدستور، وجرى تنفيذ ذلك بهدوء حتى الساعة الرابعة بعد الظهر·
وتباطأ مجلس الشيوخ أيضا على أساس أنه من الضروري انتظار ما يتقدم به الخمسمائة من اقتراحات، وكان نابليون في غرفة جانبية مغيظا حانقا مخافة أن يضيع هدفه إذا لم يتم اتخاذ عمل حاسم حالا· وشق نابليون طريقة بين بيرتييه Berthier وبوريين واتجه إلى منصة مجلس الشيوخ وحاول أن يثير هؤلاء الرجال كبار السن ليتحركوا للقيام بعمل ما، لكنه رغم ما كان معروفا عنه من بلاغة في بياناته وحسم في مناقشاته كان في هذه المرة يكظم غيظه ويكتم أفكاره مما جعله غير قادر على ارتجال خطبة منسقة أمام هذا المجلس التشريعي· لقد تحدث بحدة وعنف وطريقة مشوشة:(ملحق/271)
" إنكم فوق بركان! ···· اسمحوا لي أن أتحدث بحرية كجندي (كمقاتل) ·· لقد كنت أعيش في سلام في باريس عندما استدعيتموني لتنفيذ أوامركم···· إنني أجمع رفاق السلاح··· لقد هببنا لنجدتكم···· بينما الناس يغمرونني بافتراءاتهم·· لقد قالوا إنني مثل قيصر، كرومويل Cromwell وتحدثوا عن حكومة عسكرية··· إن الوقت يمضي بسرعة· إنه من الضروري أن تتخذوا إجراءات حاسمة فورية···· إن الجمهورية بلا حكومة، فلم يبق إلا مجلس الشيوخ، فليتخذ المجلس إجراءات، فلينطق، وسأكون أداة التنفيذ· دعونا ننقذ الحرية! دعونا ننقذ المساواة! " ·
وقاطعة أحد الأعضاء: "وننقذ الدستور أيضا! "
فأجاب نابليون بانفعال غاضب:
"دستور!؟ إنكم أنفسكم قد دمرتموه· أنتم انتهكتموه في 18 فروكتيدور Fructidor! أنتم انتهكتموه في 22 فلوريل Floreal · أنتم انتهكتموه في 13 بريريال Prairial · إنه لم يعد جديرا باحترام من أي إنسان"·
وعندما طالبوه بأن يسمى الذي وقفوا وراء مؤامرة اليعاقبة، ذكر اسم بارا ومولا، فلما طلبوا منه دليلا تلعثم ولم يجد ما هو أكثر إقناعا من توجيه حديثه للجنود الواقفين عند المدخل:
"أنتم، يا رفاقي الشجعان الذي تصطحبونني، يا رماة القنابل الشجعان·· إذا تجاسر أي خطيب من هؤلاء، مدفوعا من أحد الأجانب وأعلن إباحة دمى (أنني لست تحت حماية القانون Hors La Loi) ، فدعوا بريق الحرب يمحقه فورا"
وغمرت الأسئلة والاعتراضات المتحدث (نابليون) فأصبحت كلماته أكثر اضطرابا وتشوشا، فهب مساعدوه لإنقاذه من هذه الورطة ورافقوه إلى خارج الغرفة · لقد بدا أنه دمر مشروعه·
لكنه قرر أن يحاول مرة أخرى، لكنه في هذه المرة سيواجه عدوه مباشرة، أولئك الخمسمائة الذين تلونوا بلون اليعاقبة، فاتخذ سبيله إلى حديقة البرتقال المجاورة (الأورنجيرى) يرافقه أربعة من رماة البنادق· وكان النواب مستائين من العرض العسكري فضجت القاعة بالصياح:(ملحق/272)
"يسقط الدكتاتور·· يسقط الطغيان! دمه حلال··· إنه ليس تحت حماية القانون Hors La Loi "· لقد كانت هذه العبارة الأخيرة هي التي تسببت فيما سبق في إسقاط روبيسبير وموته· لقد طرحت فكرة "إهدار دم نابليون" بالفعل فرفض لوسين بونابرت رئيس المجلس طرح الفكرة للتصويت وترك مقعد الرياسة ليعتلي المنصة ويدافع عن نابليون (أخيه) · وأحاط النواب المُستقرون بنابليون: "إنه من أجل هذا حققت انتصاراتك؟! " هكذا سأل أحدهم، وتكالب آخرون عليه وتزاحموا حوله حتى كاد يغمى عليه، فأفسح له العسكريون المصاحبون له الطريق وخرجوا به خارج القاعة، فأنعشه الهواء الطلق، فركب حصانه ولجأ الجنود الذين وقفوا مندهشين لرؤية ثيابه ممزقة وشعره مهوشاً، فخاطبهم: "أيها الجنود· أيمكنني أن أعتمد عليكم؟ " فرد كثيرون منهم بنعم وتردد آخرون· لقد كان نابليون مرة أخرى في الغاية من التشوش، فخطته الكبرى تبدو قد تعثرت·
لقد أنقذه أخوه الذي أسرع خارج القاعة الكائنة في حديقة البرتقال (الأورنجيري) وامتطى أقرب حصان وجعل حصانه إلى جانب حصان نابليون وخاطب الحرس غير المنظم بحسم وبلاغة ولوي الحقائق بشدة:
"إنني كرئيس لمجلس الخمسمائة أعلن لكم أن الغالبية العظمى في المجلس في هذه اللحظة قد اعتراهم الرعب بسبب الخناجر التي يحملها بعض النواب والذين حاصروا المنصة وهددوا زملاءهم بالموت··· إنني أعلن أن هؤلاء المجرمين الوقحين لا شك قد تلقوا أموالا من إنجلترا وأنهم ضد إرادة مجلس الشيوخ وأنهم تجرءوا على اقتراح إهدار دم الجنرال الذي أخذ على عاتقه تنفيذ قرار مجلس الشيوخ·· إنني أعهد إلى المقاتلين بمسئولية تحرير الأغلبية من ممثليهم· أيها الجنرالات والجنود والمواطنون أنتم يجب ألا تعترفوا بمشرعين لفرنسا إلا بالنسبة لهؤلاء الذين يتبعونني أما الذين سيظلون في قاعة حديقة البرتقال (ألأورنجيري) فليتم طردهم بالقوة "·
وشهر لوسين سيفه ووجهه لصدر نابليون وأقسم أنه إذا تصدى أخوه (نابليون) لحرية الشعب الفرنسي فسيقتله بسيفه هذا·(ملحق/273)
وعندئذ أمر نابليون بقرع الطبول وأمر الجنود باجتياح الأورنجيرى (قاعة اجتماع مجلس الخمسمائة في حديقة البرتقال) وتفريق النواب غير الممتثلين للأوامر، فشق مورا Murat وليفيبفر Lefebvre ليكونا في المقدمة وتبعهما رماة القنابل وهم يصيحون:
"برافو Bravo ( حسناً) يسقط اليعاقبة! يسقط من كان لهم من دور في سنة 1793··· هذا هو القرار الحاسم··· إننا الآن نعبر الروبيكون Rubicon "·
وعندما رأى النواب الحراب مشرعة هرب معظمهم وقفز بعضهم من النوافذ وتجمعت أقلية حول لوسين · وتقدم هذا المنتصر الذي حبك هذه الأفاعيل إلى مجلس الشيوخ وشرح لأعضائه أن مجلس الخمسمائة قد تخلص من أعضائه غير المرغوب فيهم، عندئذ وافق مجلس الشيوخ الذي سعد أعضاؤه بعدم إبعادهم على مرسوم يقضي بأن يحل ثلاثة قناصل بشكل مؤقت محل حكومة الإدارة، وهؤلاء القناصل الثلاثة هم: بونابرت وسييس ودوكو · وتم تنظيم نحو مائة من بين الخمسمائة في مجلس ثان (بدلا من مجلس الخمسمائة)، وتم إرجاء اجتماعات المجلسين حتى 20 فبراير سنة 1800 وتفرد القناصل الثلاثة لكتابة الدستور الجديد وحكم فرنسا· وقال نابليون لبوريين:
"غداً سننام في لكسمبورج"·(ملحق/274)
الفصل السادس
الحَياة في ظلّ الثورة: من 1798م إلى 1799م
1 - الطبقات الجديدة
هنا نوقف الزمن (نتوقف عن سرد الوقائع التاريخية المتتابعة سراعاً) لننظر إلى شعب يعاني من كثافة التجارب التاريخية التي مرت به· فالست والعشرون سنة الكائنة بين سقوط الباستيل، حتى تنازل نابليون نهائيا (1789 - 1815) كانت حافلة بالأحداث التي لا تنسى، مثلها في ذلك مثل العشرين سنة الكائنة بين عبور قيصر للربيكون Rubicon ووصول أوغسطس للسلطة (49 - 29 ق·م) · لقد كانت هذه الفترة التي مر بها الشعب الفرنسي حافلة بالأحداث الخصبة فإنها أحداث تكفي لتشغل قرونا قد تشتمل على وقائع أقل تشنجا وتحولا·(ملحق/275)
ومع ذلك فقد واصلت الحضارة مسيرتها رغم العقبات، ففي ظل حكومات مرتعشة غير ثابتة الأيدي ظلت المؤسسات وزاد عددها ومجدت العبقرية وتواصلت عناصر الحضارة وفضائلها: إنتاج الطعام والبضائع وتوزيعهما، والعمل على الوصول إلى المعرفة ونقلها، ورعاية المواهب والشخصية، وتبادل التأثير والتأثر، وتلطيف حدة الكدح من أجل الحياة، والنضال من أجل الارتقاء بالفنون والآداب والأعمال الخيرية والألعاب الرياضية والأغاني، وإحداث تحولات في الخيال والعقائد والآمال· حقيقة ألم يكن ذلك هو جوهر التاريخ واستمراره، إذا قورن بهياج الحكومات السطحي وفوران الأبطال؟! فهذه الظواهر الأخيرة إن هي إلاّ عرضية سريعة الزوال، لا تمثل جوهر الحلم ·
1/ 1 - الفلاحون The peasantry
كان كثيرون منهم في سنة 1789 لا يزالون إما عمال يومية (عمال اليومية يتلقى الواحد منهم أجرا عن عمل أداه في أثناء اليوم) أو يعملون في الأرض لقاء المشاركة في المحصول (نظام المزارعة)، وكانوا يعملون في أراضٍ يمتلكها الآخرون، لكن ما أن حل عام 1793 إلا وكان الفلاحون يمتلكون نصف الأراضي الزراعية في فرنسا، إذ كان معظمهم قد اشترى أكراتهم (فدادينهم Acres) بأسعار خفضت للمساومة من ممتلكات الكنيسة التي صادرتها الثورة·
وتحرر معظم الفلاحين إلا قليلا منهم من الرسوم الإقطاعية· فدوافع الملكية حولت العمل من كونه جهدا شاقا وكدحاً مرهقا إلى نوع من العبادة أو الحب الشديد، إذ أدى ذلك كل يوم إلى زيادة الفائض الذي يتحول إلى بناء المنازل وأماكن الاستجمام والكنائس والمدارس، وهذا يحدث فقط إذا تم التحايل على جامع الضرائب أو تضليله أو استرضائه· وكان يمكن دفع الضرائب بالأسينات assignats ( العملة النقدية الورقية الحكومية) على وفق قيمتها الاسمية (المكتوبة عليها) بينما كانت المنتجات تباع بأسينات مضاعفة مائة مرة حتى يضمن البائع أن المبلغ الذي باع به أصبح يساوي قيمة ما باعه·(ملحق/276)
ولم يحدث أبدا أن كانت زراعة الأرض الفرنسية تتم في أي وقت مضى بمثل هذا الحماس وهذه الطريقة المثمرة، وكان تحرير أكبر الطبقات في مجتمع أصبح الآن بلا طبقات هو أهم نتائج الثورة وأكثر ديمومة وأشدها وضوحا· فهؤلاء الممولون الأشداء أصبحوا أقوى المدافعين عن الثورة لأنها أعطتهم الأرض التي سيأخذها منهم البوربون Bourbon إن هم عادوا ملوكا لفرنسا· وللسبب نفسه أيد الفلاحون نابليون وقدموا طوال خمسة عشر عاماً نصف أبنائهم· وباعتبارهم (أي الفلاحين) ملاكا - وكان هذا مدعاة لفخرهم - فقد صنفوا أنفسهم سياسيا مع البورجوازية، وعملوا خلال القرن التاسع عشر كثقل محافظ يحفظ توازن الدولة التي كانت تعتريها نوبات تغيير مفاجئ ·
وليضمن المؤتمر الوطني (1793) المساواة في الحقوق، منع نظام البكورة في الميراث (حق الابن الأكبر في أن يرث الميراث كله) وأصدر أوامره بأن يوصى للأبناء بأسهم متساوية بمن في ذلك الأبناء غير الشرعيين (المولودين خارج نطاق الزوجية) إذا اعترف الأب ببنوتهم له· وكان لهذا التشريع نتائج مهمة على المستويين الأخلاقي (المعنوي) والاقتصادي: وقد عارضه معارضون لأن هذا النظام الجديد يفضي بالورثة إلى الفقر نتيجة تقسيم الميراث على التوالي بين أبناء كثيرين، لذا فقد رسخ الفرنسيون وسائل تحديد النسل القديمة· لقد ظل الفلاحون مزدهري الأحوال لكن عدد سكان فرنسا راح ينمو ببطء خلال القرن التاسع عشر إذ ارتفع من 28 مليون نفس سنة 1800 إلى 39 مليون نفس في سنة 1914، بينما ارتفع سكان ألمانيا في الفترة نفسها من 21 مليوناً إلى 67 مليوناً · ونظراً لخصوبة الأرض ووفرة ثمرها تباطأ الفلاحون الفرنسيون في الانتقال والحركة إلى المدن والمصانع، لذا بقيت فرنسا دولة زراعية في الأساس، بينما تطورت إنجلترا وألمانيا صناعيا وتكنولوجيا، فأدى هذا لتفوقها في الحرب وسادت أوربا ·
1/ 2 - البروليتاريا The proletariat(ملحق/277)
ظل الفقر شديد الوطأة بين الفلاحين الذين لا يمتلكون أراضي، والمشتغلين في المناجم والعمال والحرفيين في المدن· لقد راح الرجال يحفرون الأرض لاستخراج المعادن اللازمة للصناعة والحرب، فقد كان الملح الصخري (نترات البوتاسيوم أو الصوديوم) لازما لصناعة البارود، وزاد استخدام الفحم ليحل محل الأخشاب كمولد للطاقة المحركة· وكانت المدن متألقة مفعمة بالحيوية نهارا مظلمة هامدة بالليل حتى سنة 1793 عندما أخذت الكومونات communes على عاتقها إضاءة شوارع باريس، وواصل الحرفيون العمل ليلا في محلاتهم المضاءة بالشموع وراح البائعون الجوالون ينادون على بضائعهم ليلا في مركز السوق المفتوح، وكان في الضواحي مصنع أو مصنعان ·
وفي سنة 1791 ألغيت روابط الطوائف المهنية Guilds وأعلنت الجمعية الوطنية أنه "من الآن فصاعدا لكل فرد الحق في ممارسة العمل الذي يختاره والمهنة التي يرتضيها والفن أو التجارة التي يبتغيها" · ومنع قانون منع التكتلات Law of le Chapel ( الصادر في سنة 1791) العمال من الانضمام إلى تكتلات اقتصادية، وظل هذا المنع ساريا حتى سنة 1884، وكانت الإضرابات ممنوعة لكنها حدثت لفترات متواصلة أحيانا، وبشكل متقطع أحيانا أخرى· وناضل العمال حتى لا يأكل التضخم أجورهم، وعلى كل حال، وبشكل عام، استطاعوا الحفاظ على أجور لا يقلل ارتفاع الأسعار من جدواها · وبعد سقوط روبيسبير Robespierre أحكم أصحاب الأعمال قبضتهم وساءت أحوال البروليتاريا· وبحلول عام 1795 أصبح العوام من السانس كولوت sansculottes طبقة فقيرة ومطحونة كما كان حالها قبل الثورة· وبحلول عام 1799 فقدت هذه الطبقة إيمانها بالثورة، وفي سنة 1800 رحبوا بدكتاتورية نابليون عاقدين عليها الآمال ·
1/ 3 - البورجوازية The bourgeoisie(ملحق/278)
حققت البورجوازية نصراً من خلال الثورة لأنها كانت أغنى بالأموال والعقول من الأرستقراطية أو العوام Plebs · لقد اشتروا من الدولة من خلال صفقات معظمها رابح ممتلكات الكنيسة المصادرة، ولم تكن ثروة البورجوازية مرتبطة بالأرض التي لا يمكن نقلها (الممتلكات الثابتة) وإنما كان يمكنهم نقل ثرواتهم من مكان إلى مكان، وتشغيلها في أي مجال ولأي غرض، كما كان يمكنهم تداولها والانتقال بها من ظل قانون (تشريع) إلى ظل قوانين أخرى· وكان يمكن للبورجوازية أن يدفعوا للجنود والحكومات وللجماعات المشاركة في أي عصيان مسلح·
وحصلت هذه الطبقة خبرة في إدارة الدولة فكان أفرادها يعلمون كيف يجمعون الضرائب وأثروا في خزانة الدولة من خلال ما أقرضوه لها، وكان أفراد البورجوازية أكثر تحصيلا للتعليم ذي المردود العملي، من النبلاء ورجال الدين، وكانوا أكثر كفاءة في حكم مجتمع، المال هو دورته الدموية، وكانوا يعتبرون الفقر عقاباً للأغبياء، وأن ثراءهم ما هو إلا مكافأة عادلة لعملهم وذكائهم، ولم يشاركوا في حكومة العامة من السانس كولوت، واعتبروا تدخل البروليتاريا في أمور الحكم شيئا لا يطاق ويؤدي إلى اضطراب الحكومة· وانتهوا إلى نتيجة مؤداها أنه عندما يهمد صوت الثورة وعنفها، سيصبح البورجوازية هم سادة الدولة·
وكانت البورجوازية في فرنسا بورجوازية تجارية أكثر منها صناعية، ولم تشهد فرنسا تحول بعض مزارعها إلى مراع كما كان يحدث وقتها في إنجلترا، مما أدى إلى نزوح الفلاحين الإنجليز من حقولهم إلى المدن مكونين طاقة عاملة رخيصة في المصانع، كما أن الحصار الذي فرضته بريطانيا على فرنسا منعها من تصدير منتجاتها، ذلك التصدير الذي يؤازر التوسع الصناعي· ومن هنا فإن نظم الصناعة كانت تتطور في فرنسا بشكل أبطأ مما عليه الحال في إنجلترا·(ملحق/279)
لقد كان هناك بعض التنظيمات الرأسمالية الكبيرة في باريس وليون وليل Lille وتولوز Toulouse ······، لكن الصناعة الفرنسية في معظمها كانت لا تزال في المرحلة "الحرفية" وكانت لا تزال في محلات (دكاكين)، بل إن الرأسماليين (الفرنسيين) قد أوكلوا كثيرا من الأعمال اليدوية على أسر تعمل في مساكنها الريفية أو غيرها· وباستثناء الفورات الفاشستية زمن الحرب، وتعاطف اليعاقبة Jacobin شيئا ما مع الاشتراكية، فإن الحكومة الثورية قد قبلت النظرية الفيزيوقراطية Physiocratic في الاقتصاد الحر باعتبار ذلك نظاما اقتصاديا يحفز على العمل ويزيد الإنتاج· وخففت معاهدات السلام مع بروسيا في سنة 1795 ومع النمسا في سنة 1797، من العوائق الاقتصادية، ودخلت الرأسمالية الفرنسية كالرأسمالية الإنجليزية والأمريكية، القرن التاسع عشر بمباركة الحكومة التي تمارس عليها حدا أدنى من الحكم·
1/ 4 - الأرستقراطية The aristocracy
فقدت الارستقراطية سلطانها كله في توجيه الاقتصاد والحكم· فقد كان معظم الأرستقراطيين ما زالوا خارج فرنسا (مهاجرين منها) يعيشون عيشة مذلة، فقد صودرت أملاكهم في فرنسا وتوقف دخلهم· وكان منهم النبلاء الذين بقي بعضهم في فرنسا، وعاد بعضهم الآخر من مهجره، وقد قصت المقصلة رقاب كثيرين منهم وانضم بعضهم للثورة، وظل الباقون حتى سنة 1794 مختبئين بشكل غامض وكانت السلطات تزعجهم بتكرار الإغارة على عقاراتهم· وفي ظل حكومة الإدارة قلت المعوقات فعاد كثيرون من هؤلاء المهاجرين واستعاد بعضهم جزءاً من ممتلكاته، وفي سنة 1797 راحت أصوات كثيرة تهمس بأن الملكية وحدها تدعمها (أو تراجعها) أرستقراطية نشيطة هي وحدها التي يمكن أن تعيد النظام والأمان للحياة الفرنسية، واتفق نابليون معهم لكن على وفق طريقته وتمشيا مع مقتضيات زمنه ·
1/ 5 - الدين Religion in France(ملحق/280)
عرف الدين في فرنسا كيف يشق طريقه دون عونٍ من الدولة، بعد أن اقتربت الثورة من التخلص منه· وتحرر البروتستانت الذين كانوا يشكلون 5% من السكان من المعوقات التي اعترضت سبيل عقيدتهم، فحقهم في العبادة الذي أقرهم على قليل منه لويس السادس عشر في سنة 1787 أصبح الآن حقا كاملا على وفق دستور سنة 1791، وامتدت الحقوق المدنية إلى يهود فرنسا ليصبحوا ذوي حقوق قانونية مساوية للمواطنين الآخرين، على وفق مرسوم 28 سبتمبر سنة 1791 ·
أما الإكليروس الكاثوليك The Catholic clergy الذين كانوا فيما مضى من الطبقة الأولى فقد أصبحوا الآن يعانون من عنف حكومة فولتيرية Voltairean مناهضة للإكليروس· وفقدت الطبقات العليا معتقداتها (إيمانها) بالكنيسة، وحصلت الطبقة الوسطى على معظم أراضي الكنيسة وفي سنة 1793 بيعت ممتلكات الكنيسة لأعدائها، تلك الممتلكات التي قدرت قيمتها بمليونين ونصف مليون ليفر, وفي إيطاليا جردت الباباوية Papacy من ولاياتها وعوائدها، وأصبح بيوس السادس أسيرا، وفر آلاف الفرنسيين إلى البلاد الأخرى، وعاش كثيرون منهم على إحسان البروتستانت وأغلقت مئات الكنائس أو صودرت أموالها وتحفها، وصمتت أجراس الكنائس أو راحت تدق على استحياء· لقد كسب فولتير وديدرو، وهليفيتيوس Helvetius ودهولباخ d'Holbach معركتهم مع الكنيسة فيما يظهر ·(ملحق/281)
لكن هذا النصر لم يكن واضحا· حقيقة لقد فقدت الكنيسة ثرواتها وسلطانها السياسي لكن جذورها الحية ظلت متمثلة في الولاء للإكليروس وفي حاجات الناس وآما لهم، فكثيرون من الرجال في المدن الكبيرة ممن كانوا قد شردوا بعيدا عن معتقداتهم أصبحوا جميعا تقريبا من رواد الكنائس في عيدي الكريسماس والفصح، وفي ذروة أحداث الثورة (مايو 1793) كان أهل باريس (على وفق رؤية شاهد عيان) رجالا ونساء وأطفالا يخرون على ركبهم توقيراً واحتراما عندما يمر القس حاملا خبز القربان المقدس في شوارع باريس بل وحتى المتشككون لا بد أنهم شعروا بالتأثير "المغناطيسي" للشعائر الدينية، وما توحيه من جمال لا يذوي، ولابد أنهم تأملوا ما كتبه بسكال Pascal في "الرهان Wager" من أنه من الحكمة أن يكون المرء مؤمناً، ففي خاتمة المطاف لن يفقد المؤمن شيئا، بينما يفقد غير المؤمن كل شيء إن ثبت خطؤه (أو بتعبير آخر: المصدق لن يفقد شيئا والمكذب سيفقد كل شيء إن ثبت خطؤه) ·
وفي ظل حكومة الإدارة انقسمت الأمة الفرنسية إلى قسمين: شعب عاد ببطء إلى العقيدة التقليدية، وحكومة عمدت إلى تأسيس مجتمع علماني خالص اعتمادا على القانون والتعليم، ففي 8 أكتوبر 1798 أرسلت حكومة الإدارة الجديدة (بعد طرد الأعضاء غير المرغوب فيهم منها) لكل المعلمين في مدارس الدوائر (المحافظات) التعليمات التالية:
"يجب أن تحذفوا من مقرراتكم الدراسية كل ما يتعلق بعقائد أي دين وشعائره (أو طقوسه) من أي مذهب كان· إن الدستور يكفل حرية العبادة، لكن تدريسها ليس جزءاً من المقررات الدراسية العامة (الحكومية) ولا يمكن أن تكون أبدا مجالاً للتدريس· لقد قام الدستور على قاعدة الأخلاق العامة (غير المرتبطة بدين) وهي أخلاق (مبادئ أخلاقية) صالحة لكل زمان وكل مكان وكل الأديان فهذا القانون (الأخلاقي) محفور في ألواح الأسرة البشرية - إنها - أي هذه الأخلاق الصالحة لكل زمان ومكان ودين - هي ما يجب أن تكون روح دروسكم وهدف وصاياكم والرابط بين مجالات الموضوعات التي تدرسونها كما أنها الرباط الذي يربط بين أفراد المجتمع"·(ملحق/282)
وهنا نجد هذا المبدأ الذي جرى النص عليه بوضوح كان واحدا من أكثر مشروعات الثورة صعوبة، فتلك قضية من أصعب قضايا عصرنا: أن تبني نظاما اجتماعيا اعتمادا على نظام أخلاقي قائم على عقيدة دينية· وقد اعتبر نابليون ذلك اقتراحا غير عملي، وكان على أمريكا أن تلتصق به حتى عصرنا هذا·
1/ 6 - التعليم Education
تولت الدولة الإشراف على التعليم بدلاً من الكنيسة، وعمدت الدولة إلى أن تجعل من هذه المدارس مراكز تربوية لتنمية الذكاء وتعميق الأخلاق، وترسيخ الوطنية· وفي 21 أبريل سنة 1792 قدم كوندورسيه Condorcet مسئول التعليم العام للجمعية التشريعية تقريرا تاريخيا داعيا إلى إعادة تنظيم التعليم حتى يحدث:
"التقدّم الدائم المستمر في مجال التنوير مما قد يفتح موارد لا نهاية لها لسد احتياجاتنا ومداواة عللنا ولتحقيق السعادة للفرد والرخاء للجميع" ·
وقد عوّقت الحرب تحقيق هذا التصور المثالي، لكن في 4 مايو سنة 1793 جدد كوندورسيه عرضه لكن على أساس أضيق مما سبق· لقد قال:
"البلاد (فرنسا) لها حق تربية أبنائها وتنشئتهم، ولا يمكن أن نعهد بهذه المهمة إلى طموح الأسرة، ولا إلى أفراد مفسدين··· فالتعليم لا بد أن يكون مباحاً للفرنسيين كلهم وعلى قدم المساواة····· إننا نعول عليه كثيرا ليكون متمشيا مع طبيعة حكومتنا ومبادئ جمهوريتنا الراقية"
وهذه الصياغة كما هو واضح تحل عقيدة محل أخرى - الوطني بدلاً من الكاثوليكي -، وتبشر "بالوطنية" كدين رسمي· وفي 28 أكتوبر سنة 1793 أصدر المؤتمر الوطني مرسوما بمنع تعيين أي إكليريكي مدرساً في مدارس الحكومة، وفي 19 ديسمبر صدر بيان بجعل التعليم الابتدائي مجانيا وإلزاميا للأولاد كلهم· أما البنات فكان من المتوقع أن تعلمهن أمهاتهن أو يتلقون التعليم في الأديرة أو على يد معلمين خصوصيين·(ملحق/283)
وكان من الضروري إرجاء تنظيم المدارس الثانوية إلى ما بعد الحرب، وعلى هذا ففي 22 فبراير سنة 1794 بدأ المؤتمر الوطني في تأسيس "المدارس المركزية Ecoles Centrales" التي أصبحت هي مدارس المحافظات أو الدوائر Lycees الثانوية· وتم افتتاح مدارس خصوصية Special للتعدين والأشغال العامة والفلك والموسيقي والفنون والحرف، وفي 28 سبتمبر سنة 1794 بدأت مدرسة البوليتقنية Ecole Polytechnique التدريس في مجالها المميز· وتم إغلاق الأكاديمية الفرنسية في 8 أغسطس سنة 1793 باعتبارها مركزا للمعارضين القدماء، لكن في 25 أكتوبر سنة 1795 دشن المؤتمر الوطني أكاديمية أخرى هي المعهد القومي الفرنسي الذي ضم أكاديميين مختلفين لتشجيع كل العلوم والفنون، وتجمع في هذا المعهد العلماء والباحثون الذين أخذوا على عاتقهم إنجاز التراث الفكري التنويري، وهم الذين أعطوا حملة نابليون على مصر أهمية دائمة (بفضل إنجازاتهم العلمية) ·
1/ 7 - السلطة الرابعة The "Fourth Estate"
الصحفيون والصحافة: قد يكون لها أهمية تفوق المدارس من حيث تأثيرها في تشكيل عقل فرنسا وحالتها النفسية في هذه السنوات المفعمة هياجاً· فأهل باريس وعلى نحو أقل أهل فرنسا عامة كانوا يلتهمون ورق الصحف التهاما بشغف شديد (المقصود يقرءونه برغبة عارمة) كل يوم· لقد ازدهرت صحف الشباب (صحف الهجاء أو الفضائح) التي راحت تجرح السياسيين والعلماء وتقلل من أقدارهم أمام العامة· وقد التزمت الثورة في (إعلان حقوق الإنسان) بالمحافظة على حرية الصحافة، وقد جرى تنفيذ ذلك خلال فترة حكم الجمعية الوطنية فالتأسيسية (1789 - 1791) لكن نتيجة اشتداد حدة النزاع بين الفرقاء عمد كل جانب إلى التقليل من عدد منشورات أعدائه، لكن الواقع أن حرية الصحافة قد ماتت بإعدام الملك (21 يناير 1793)،
وفي 18 مارس أصدر المؤتمر الوطني قرارا بإعدام كل: "من يقترح قوانين بتقسيم الأراضي وتوزيعها أو أية قوانين تؤدي إلى تدمير الملكية الخاصة أو التجارية أو الصناعية"(ملحق/284)
وفي 29 مارس حث قتلة الملك والمؤيدون لقتله المؤتمر الوطني على إصدار قرار بإعدام كل من: "يدان بطبع أو كتابة ما يحث على··· إعادة الملكية أو إعادة أي سلطات أخرى في عودتها ضرر بسيادة الشعب" ·
ودافع روبيسبير طويلا عن حرية الصحافة، لكنه بعد أن أرسل إلى المقصلة كلا من هيبير Hebert ودانتون وديمولين Desmoulins وضع بإعدامهم حدا لظهور الصحف التي كانوا يدعمونها· وخلال فترة حكم الإرهاب اختفت حرية التعبير حتى في المؤتمر الوطني، وأعادت حكومة الإدارة حرية الصحافة في سنة 1796 لكنها ألغتها بعد ذلك بعام واحد بعد انقلاب 18 فروكتيدور ونفت محرري 42 جريدة · ولم يدمر نابليون حرية التعبير وحرية الصحافة لأنه عندما وصل إلى السلطة كانت مدمرة بالفعل ·
2 - الأخلاق الجديدة
2/ 1 - الأخلاق والقانون Morality and Law
أما وقد تم استبعاد الدين أساساً للأخلاق (أي حب الرب المراقب العليم المكافئ المعاقب والخوف منه، وطاعة شريعته والتزام أوامره واجتناب نواهيه)، فإن الأرواح المتحررة في فرنسا وجدت نفسها بلا دفاع (إلا من خلال الأصداء الأخلاقية للعقائد التي هجرتها) ضد غرائزها الأقدم والأقوى والأشد فردية التي غرست وتأصلت بفعل قرون بدائية ساد فيها الجوع والجشع والصراع وانعدم فيها الأمان· لقد راح الفرنسيون يبحثون عن فكرة جديدة لتكون مرساة في بحر هائج، أفراده متمردون، لا يخشون إلا القوة (لا يذعنون إلا إذا كان هناك ما يخيفهم)، أما الأخلاق المسيحية فتركوها لزوجاتهم وبناتهم· لقد انعقدت آمالهم على أن تكون هذه الفكرة الجديدة (التي هي عوض عن القيم الدينية) في حقوق المواطنة وواجباتها ( civisme citizenship) بمعنى قبول الواجبات التي تفرضها هذه المواطنة، وتحصيل المزايا الناتجة عن الانتماء إلى مجتمع منظم يحظى بالحماية، وفي مقابل هذه الحماية وكثير من الخدمات العامة (التي تقدم للجميع) لا بد أن يراعى الفرد في كل اختيار معنوي (أخلاقي) يقدم عليه مصالح المجتمع باعتبارها القانون الأعلى Salus Populi Suprema Lex ·(ملحق/285)
لقد كان ترسيخ " أخلاق طبيعية natural ethic" محاولة نبيلة وقد اكتشف النواب الفلاسفة ميرابو Mirabeau وكوندورسيه وفيرجنيو Vergniaud ورولان وسان جوست وروبيسبير من خلال مراجعاتهم للقرون المسيحية الماضية أن التاريخ الكلاسيكي أو المرويات التاريخية للنماذج التي يبحثون عنها: فليونيداس Leonidas وإيبا مينونداس Epaminondas وأرستيدس Aristides والبروتسيون Brutuses وكاتوس Catos وسبيوس Scipios كل أولئك كانت "الوطنية" بالنسبة لهم إلزاما حاكما حتى إن الرجل قد يقتل استقامة منه وتمسكا بالخلق أبناءه أو والديه إذا اعتقد أن هذا ضروري لصالح الدولة ·
لقد أصابت المجموعة الأولى من الثوار نجاحا معقولا مع هذه الأخلاقيات الجديدة· والمرحلة الثانية بدأت من 10 أغسطس سنة 1792: جمهور باريس الذي خلع لويس السادس عشر وزعم أن السلطة التي قد قامت بذلك مغفور لها (لها عذرها) · وفي ظل الحكم القديم كانت بعض فضائل الأرستقراطية وبعض لمسات الإنسانيين التي بشر بها الفلاسفة والقديسون قد لطفت من ميل الناس الطبيعي للنهب والسلب وهجوم بعضهم على بعضهم الآخر، لكن - الآن - وجدنا أنه قد تبع هذا في موكب الموت، مذابح سبتمبر واعدم الملك والملكة وانتشار حكم الإرهاب والمقصلة مما وصفته مدام رولان (التي كانت إحدى ضحايا الإرهاب): "ساحة إعدام موسعة مليئة بالأشلاء مثل الجلجوثا Golgotha " وأصبح زعماء الثورة متربحين مستغلين ظروف الحرب وفرضوا على المناطق "المحررة" أن يدفعوا ثمنا لحقوق الإنسان، وقيل للجيوش الفرنسية أن تعيش في المناطق المفتوحة، وأصبحت كنوز الفن في المناطق المحررة أو المهزومة ملكا لفرنسا، وفي هذه الأثناء تآمر أعضاء المجلسين وضباط الجيش مع الموردين لخداع الحكومة والجنود·(ملحق/286)
وفي ظل الاقتصاد الحر عمد المنتجون والموزعون والمستهلكون إلى الخداع وراح كل طرف يخدع ا لطرف الآخر أو يعمد إلى التهرب من سقف الأسعار المسموح به (الحد الأقصى لسعر البضاعة المطروحة) أو الأجور، أو ممارسة الأعمال الأخرى المشابهة والتي تتسم بعدم الانضباط، وكل هذا بطبيعة الحال كان موجودا لآلاف السنين قبل الثورة، لكن في محاولة لضبط كل هذا بدت القيم الأخلاقية الجديدة- أخلاق المواطنة· أنها ليست بقوة تأثير الخوف من الآلهة· أو بتعبير آخر بدت فكرة التركيز على واجبات المواطن وحقوقه أنها ليست بنفس قوة "الخوف من الآلهة"·
لقد زادت الثورة من عدم الأمان في الحياة، ومن عدم الاستقرار في القوانين، فكان أن عبر الناس عن توترهم الشديد بارتكاب الجرائم، كما راحوا يبحثون عن وسيلة يلهون بها أنفسهم فوجدوا طريق القمار، واستمرت المبارزات لكنها قلت عما كانت عليه قبل الثورة· وقد منع القمار بمراسيم صدرت سنة 1791 و1792 ومع هذا فقد تضاعفت بيوت القمار السرية, ففي سنة 1794 كان هناك ثلاثة آلاف محل قمار في باريس · وخلال فترة بحبوحة الطبقة العليا في سنوات حكومة الإدارة راح الرجال يراهنون بمبالغ ضخمة فخربت بيوت أسر كثيرة مع دوران العجلة (عجلة القمار) لكن في سنة 1796 دخلت حكومة الإدارة مجال القمار بإعادة "اللوترية الوطنية Loterie Nationale" أو "اليانصيب الوطني أي على مستوى الدولة"· وفي التماس طالب حي (قسم) التوليري Tuileries التابع لكومون باريس المؤتمر الوطني بإصدار قانون بمنع كل بيوت القمار والمواخير كلها (بيوت الدعارة) وساقت لذلك برهانا هو أنه: "بلا أخلاق لا يمكن أن يكون هناك قانون أو نظام، وبدون أمان شخصي لن تكون حرية" ·(ملحق/287)
لقد أقامت الحكومات الثورية نظاما قانونيا جديدا لشعب مستثار ومضطرب، وتركت له الحبل على الغارب، فانفلت من القيم الأخلاقية والضوابط القانونية كلها بعد انهيار المعتقد الديني وموت الملك· وكان فولتير في وقت سابق قد دعا إلى إعادة النظر في القوانين الفرنسية بشكل عام وجمع قوانين الولايات الفرنسية كلها، وعددها _ أي القوانين 360 مجموعة وضمها معا في خلاصة واحدة محكمة لتطبيقها على فرنسا كلها· ولم يستجب أحد لهذه الدعوة فقد كانت الثورة على أشدها، وكان لا بد لهذه الدعوة أن تنتظر نابليون لتحقيقها· وفي سنة 1780 قدمت أكاديمية شالون سير مارن Chalons-sur-Marne جائزة لأحسن مقال عن: "أحسن طريقة لتخفيف حدة قانون العقوبات الفرنسي دون الإضرار بالأمن العام" ·
واستجاب لويس السادس عشر بمنع التعذيب (1780) و1788 أعلن عن عزمه بمراجعة القوانين الجنائية الفرنسية كلها وصياغتها في مدونة قانونية مقومة، وأكثر من هذا: "سوف نبحث الوسائل كلها للتخفيف من حدة العقاب دون الإخلال بالنظام" وعارض القانونيّون المحافظون الذين كانوا وقتها يسيطرون على "برلمانات Parlements" باريس ومتيز Metz وبيسانسون Besancon الخطة، واضطر الملك للتخلي عنها اضطرارا ·
وعرضت المذكرات والعرائض التي تم تقديمها لمجلس طبقات الأمة في سنة 1789 عدة إصلاحات قانونية: المحاكمة لا بد أن تكون علنية· ضرورة أن يكون للمتهم محام أو مجموعة تقدم له المشورة القانونية· إلغاء المراسيم الملكية بالسجن دون محاكمة Lettres de Cachet · لابدّ من ترسيخ قواعد المحاكمة أمام محلفين· وفي يونيو أعلن الملك إبطال المراسيم الملكية بالسجن بلا محاكمة، وسرعان ما تبنت الجمعية التأسيسية هذه المطالب الإصلاحية وصاغتها قوانين، وأعيد نظام المحاكمة أمام محلفين الذي عرفته فرنسا في العصور الوسطى مرة أخرى·
لقد أصبح المشرعون الآن محصنين ضد التأثيرات الإكليريكية (المسيحية) بما فيه الكفاية، وواعين لاحتياجات الأعمال (التجارية) ليعلنوا في 3 أكتوبر سنة 1789 (بعد قرون من وجود هذا الأمر على أرض الواقع) -
أن تحصيل فائدة ليس جريمة! Charging of interest was not a crime!(ملحق/288)
وصدر قانونان في سنة 1792 - 1794 لتحرير العبيد في فرنسا ومستعمراتها، وإعطاء الزنوج حقوق المواطنين الفرنسيين· وعلى أساس أن: "الدولة الحرَّة بمعنى الكلمة لا يمكن أن تسمح بأي نتوءات مفتعلة في صدرها" ومنعت قوانين مختلفة كل - الأخويات (المقصود الجمعيات أو التكتلات المكونة من جماعة ذات اتجاهات معينة تربط أعضاءها) والجمعيات العلمية والأدبية والتنظيمات الدينية وروابط الأشغال (الجمعيات الحرفية أو المهنية) · وكان أمراً مستغرباً تماما أن نوادي اليعاقبة تم استثناؤها من هذا الحظر بينما حُظرت اتحادات العمال· والواقع أن الثورة سرعان ما أحلت "الدولة كلية السلطة أو الدولة الشمولية Omnipotent State" محل الملكية·
والحقيقة أن تباين التشريعات القديمة، وإقرار قوانين جديدة وازدياد تعقد علاقات الأعمال كل هذا أدى إلى زيادة أعداد القانونيين زيادة كبيرة، فهم - الآن قد حلوا محل الإكليروس كطبقة أولى· ومنذ حل "البرلمانات " لم يكونوا تابعين لتنظيم رسمي، لكن معرفتهم بكل ثغرات القانون، وبالإجراءات القانونية بكل حيلها، ووسائل التسويف فيها، قد أعطتهم قوة وجدت الدولة نفسها صعوبة في السيطرة عليها (مع أن الحكومة نفسها كانت تضم مجموعة من القانونيين) وبدأ المواطنون يحتجون على التسويف في ظل القانون (التسويف القانوني) وعلى حيل المحامين، وتكاليف التقاضي المرتفعة مما جعل - ويا للسخط - المواطنين حقيقة غير متساوين أمام المحاكم ·
وحاولت الجمعيات المتتالية خلال اختزال إجراءات التقاضي، والتقليل من حدة سلطان المحامين، وفي إجراء عنيف صدرت مراسيم بإبطال وظيفة الموثق العام (كاتب العدل) في 23 سبتمبر سنة 1793· وتم إلغاء مدارس القانون (15 سبتمبر 1793) وصدر مرسوم في 24 أكتوبر 1793 بإلغاء وظيفة الوكيل القانوني attorney at Law وإنما يقوم المتقاضون (المتخاصمون) بتفويض مندوبين عنهم ليمثلوهم أمام المحاكم بلا مقابل وهذه الإجراءات غالباً ما كان يتم الالتفاف حولها وظلت مجرد قوانين في الكتب حتى أعاد نابليون نظام المحامين أو الوكلاء القانونيين attorneys في 18 مارس سنة 1800·(ملحق/289)
وقد أحرزت الثورة تقدما في إصلاح القوانين الجنائية فأصبحت الإجراءات أقرب إلى فهم العامة، فقد انتهت لفترة سرية الاستجوابات، والأخذ بشهادة أشخاص لا تذكر أسماؤهم، ولم يعد السجن وسيلة للتعذيب، فقد سمح لكثيرين من المساجين بإحضار الكتب والأثاث، وأن يدفعوا لشراء وجبات لهم من خارج السجن، وسمح للمساجين الذين سجنوا للاشتباه فيهم ولم يدانوا بعد بالتزاور معا وممارسة الألعاب الرياضية أو على الأقل ممارسة العشق، وقد سمعنا عن بعض الأمور الدافئة كالتي حدثت بين السجينة جوزيفين بوهارنيه والسجين الجنرال هوش Hoche والمؤتمر الوطني الذي نفذ في عهده مئات من أحكام الإعدام، أعلن في دورته الأخيرة (26 أكتوبر سنة 1795) أن "أحكام الإعدام ستمنع في أنحاء الجمهورية كلها بمجرد إعلان السلام"·
وفي هذه الأثناء استطاعت الثورة أن تزعم أنها قد حسنت طريقة الإعدام وفي سنة 1789 اقترح الدكتور جوزيف إيجناس جليوتين Dr. Joseph Ignace Guillotin عضو مجلس طبقات الأمة إحلال المشنقة وحامل البلطة (منفذ حكم الإعدام باستخدام البلطه) بحيث تكون بلطته حادة النصل بحيث تفصل رأس المحكوم عليه بالإعدام عن جسده بسرعة فلا يتألم كثيراً قبل الموت· ولم تكن هذه الفكرة جديدة، فقد سبق استخدامها في إيطاليا وألمانيا منذ القرن الثالث عشر ·
وبعد بعض التجارب التي أجراها الطبيب بسكينته (مشرطه) على جثث الموتى، تم نصب المقصلة (25 ابريل 1792) في ميدان الرملة Place de Greve ( الآن ميدان دار البلدية) ثم توالى نصبها في كل مكان، وتوالى تنفيذ أحكام الإعدام بها· وظلت مشاهدة المقصلة وهي تهوي على رقاب الضحايا تجذب اهتمام الجماهير، وكان بعضهم يبدو سعيدا بمن فيهم النساء والأطفال، ولما تكرر المشهد كثيرا أصبح أمرا عاديا مألوفا لا يجذب الجماهير، فقد ذكر الناس المعاصرون لهذه الأحداث أن:
"عربات نقل السجناء المحكوم عليهم بالإعدام بالمقصلة، كانت تمر وهم يعملون في محلاتهم، فلا تؤثر فيهم ولا يكلفون أنفسهم حتى رفع رؤوسهم لمشاهدتها"
فالرؤوس المطأطِئة تبقى أكثر من الرؤوس المرفوعة·
2/ 2 - الأخلاق الجنسية(ملحق/290)
بين عربات نقل المسجونين إلى المقصلة، وبين الخراب لم يتوقف العشق ولا توقفت الممارسات الجنسية· وكانت الثورة قد أهملت المستشفيات، لكن هناك وفي ميادين المعارك، وأحياء الفقراء كان الإحسان يخفف الألم والحزن، والصلاح يواجه الشر، والمشاعر الأبوية تفوق نزوع الأبناء إلى الاستقلال· وراح أبناء كثيرون يعجبون من عدم استطاعة آبائهم فهم طابعهم الثوري وطرائقهم الجديدة، وتخلى بعضهم بشدة عن الكوابح الأخلاقية القديمة وأصبحوا إبيقوريين epicureans غير مبالين (أي ميالين إلى المتع والملذات) فانتعش الاتصال الجنسي غير الشرعي وانتشرت الأمراض التناسلية، وتضاعف عدد اللقطاء، واستمر الانحراف·
والكونت دوناتين ألفونس فرانسوا دى ساد Donatien-Alphonse-Francois de Sade (1740 - 1814) سليل أسرة عريقة بروفنسية، وارتقى فأصبح حاكما عاما لمحافظتي (دائرتي) بريس Bresse وبوجي Bugey وبدا قاصداً للعيش كمدير من مديري المحافظات (الأقاليم غير العاصمة) لكنه كان مولعا مهتاجا بالخيالات والرغبات الجنسية وراح يبحث عن فلسفة ليبرر بها هذا الولع· وبعد علاقة جنسية غير شرعية مع أربع فتيات حكم عليه بالموت في إكس- أن- بروفانس Aix en Provence (1772) لجرائم "دس السم وممارسة اللواط" · لكنه هرب، وأعيد القبض عليه، فهرب مرة أخرى، وارتكب مزيدا من الأمور الشنيعة القبيحة، وفر إلى إيطاليا ثم عاد إلى فرنسا، وقبض عليه في باريس وسجن في فينسن Vincennes (1778 - 1784) وفي الباستيل وفي شارينتون Charenton (1789) ، وأطلق سراحه سنة 1790 وأيد الثورة، وفي سنة 1792 أصبح سكرتيرا لحي (قسم) دي بك des Piques ·(ملحق/291)
وخلال فترة حكم الإرهاب قبض عليه بناء على افتراض زائف وهو أنه أحد المهاجرين (المعادين للثورة) العائدين، وتم إطلاق سراحه بعد عام، لكن في سنة 1801 في ظل حكم نابليون تعرض للسجن بسبب نشره لقصة بعنوان جوستين Justin (1791) وجوليت Juliette (1792) ، فقد تعرضت هاتان الروايتان لتجربة جنسية سوية وشاذة، وكان المؤلف يفضل الشاذة واستغل مهارته الأدبية في الدفاع عن هذا الشذوذ (العلاقات الجنسية غير الطبيعية أو السوية)، ودلل على أن كل الرغبات الجنسية طبيعية لا شذوذ فيها ولا بد من ممارستها والضمير مرتاح حتى لو تم تحصيل اللذة الجنسية بإحداث الألم، وبهذا المعنى الأخير حقق شهرته فأصبح خالدا بكل معنى الكلمة، وقد قضى سنوات حياته الأخيرة في سجون مختلفة وكتب مسرحيات جيدة ومات في مصحة للأمراض العقلية في شارينتون وفي أثناء الثورة رحنا نسمع عن الشذوذ الجنسي بين طلبة المدارس،
وربما كان لنا أن نسلم بانتشاره في السجون، فالمومسات والعاهرات كان عددهن كبيراً خاصة بالقرب من القصر الملكي وحدائق التوليري وفي شارع سان هيلير St. Hilaire وشارع الساحات الصغيرة (بيتيت شامب Petits Champs) ، ويمكن أن يوجدوا أيضا في المسارح ودار الأوبرا بل وحتى في طرقات المجلس التشريعي والمؤتمر الوطني· وكانت النشرات توزع حاوية عناوين بيوت الدعارة والرسوم المطلوبة وكذلك أسماء النسوة وعناوينهن· وفي 24 أبريل 1793 أصدر حي (قسم) المعبد Temple أمرا:
"الجمعية العامة··· رغبة منها في إيقاف ما لا يحصى من كوارث (سوء حظ) سببها تدهور الأخلاق العامة، وانزلاق النسوة للفسق وقلة احتشامهن،··· بموجب هذا قامت بتعيين مأمورين أو مندوبين··· الخ" ·
وراحت أحياء (أقسام) أخرى تشن الحرب (على الفساد) فجرى تشكيل فرق من الخفر أو العسس، وتم القبض على بعض المستهترين· وأيد روبيسبير هذه الجهود، لكن بعد موته تراخت قبضة هؤلاء المراقبين، فظهرت فتيات المتعة Filles مرة أخرى وازدهر حالهن في ظل حكومة الإدارة حتى أن النسوة ذوات الخبرات الجنسية الواسعة أصبحن زعيمات (سيدات مجتمع) ورائدات "المودة" (أي تقلدهن النسوة في لباسهن) ·(ملحق/292)
وكان من الممكن مواجهة هذا الشر بتيسير الزواج المبكر، فلم يعد وجود قس مسألة ضرورية لإتمام الزواج بعد 20 سبتمبر 1792، فالزواج المدني كان كافيا من الناحية القانونية، وهذا لا يتطلب سوى موافقة الطرفين وأن يوقع الطرفان أمام السلطات المدنية· وبين أفراد الطبقة الدنيا، كانت هناك حالات كثيرة لنساء ورجال يعيش كل رجل وأليفته معا دون عقد زواج وبلا إزعاج· وكثر عدد أبناء الزنا، ففي سنة 1796 دلت الإحصاءات الرسمية على وجود 44,000 لقيط · وبين عامي 1789 و1839 كان 24% من إجمالي عدد النسوة (العرائس) في مدينة نمطية هي مولان Meulan حبالى (حوامل) عندما أتوا إلى مذبح الكنيسة · وكما كان الحال في عهد الحكم السابق على الثورة كان الزنا بين المتزوجين مغفور، وكان الرجال متوسطي الحال يفضلون اتخاذ مدبرة لشئون المنزل (لا زوجة شرعية) وفي ظل حكومة الإدارة كانت مدبرات المنازل هؤلاء يظهرن في المجتمع كزوجات· وأبيح الطلاق بمرسوم صدر في 20 سبتمبر سنة 1792، ومنذ صدور هذا المرسوم أصبح يمكن الحصول على الطلاق بموافقة الطرفين أمام مسئول المجلس البلدي ·
وتضاءلت السلطة الأبوية مع التطور الهادئ في حقوق المرأة القانونية، وتفاقم الأمر بزيادة ثقة الشباب (الأبناء) في أنفسهم، والنظر إلى أنفسهم باعتبارهم قد تحرروا من سلطة الوالدين· وقد عرضت لنا آن بلمبتر Anne Plumptre التي تجولت في فرنسا سنة 1802 ما ذكره بستاني:
"خلال فترة الثورة لم نكن نجسر على توبيخ أبنائنا إذا ارتكبوا خطأ، فقد كان أولئك الذين يسمون أنفسهم بالوطنيين يعتبرون قيامنا بتصحيح سلوك أبنائنا، مما يتناقض مع مبادئ الحرية، وقد اعتبر الأبناء مسألة تقويمهم مما يتناقض مع القانون، فغالبا ما كان الواحد من هؤلاء الأبناء يقول لأبيه إذا ما وبخه" التفت لعملك· فأنا وأنت والناس كلهم أحرار ومتساوون· إن الثورة هي أبي، ولا أب لي سواها ثم يستطرد البستاني قائلا: "سيستغرق الأمر سنوات طويلة حتى نعيد هؤلاء الأبناء إلى صوابهم" ·(ملحق/293)
وانتشر الأدب الإباحي Pornographic literature ( وفقا لما ذكرته الصحف المعاصرة) وكان هو الأثير المفضل لدى الشباب · وراح بعض الآباء الذين كانوا راديكاليين في وقت سابق يرسلون أبناءهم في سنة 1795 (كما حدث سنة 1871 بعد ذلك) إلى مدارس يديرها قسس، بغية إنقاذهم من التفسخ الخلقي والتسيب الذي ساد المجتمع · وظلت هناك لفترة فكرة مؤداها أن نظام الأسرة لا بد أن يكون كارثة على الثورة الفرنسية، لكن استعادة النظام في ظل حكم نابليون أرجأ التفسخ الأسري حتى أتت الثورة الصناعية ·
والنساء اللائي كن قد حققن مكانة رفيعة في ظل حكم ما قبل الثورة إنما كان ذلك بفضل تأثير سلوكهن الراقي المهذب وترقية تفكيرهن وتثقيف أنفسهن، لكن هذا في غالبه كان قصرا على الطبقة الأرستقراطية والشرائح العليا من الطبقة المتوسطة· وعلى أية حال فقبيل عام 1789 انخرطت نسوة طبقة العوام بشكل واضح في الأمور السياسية· لقد كدن يكن هن صانعات الثورة بمسيرتهن إلى فرساي، وإحضارهن الملك والملكة إلى باريس ليكونا أسيرين تحت إشراف الكومون، فاكتشفن - أي نساء العوام - مدى قوتهن، فازدادت ثورتهن شراسة·
وفي يوليو سنة 1790 نشر كوندورسيه Condorcet مقالا بعنوان "إعطاء الدولة الحقوق للنساء"، وفي شهر ديسمبر قامت مدام إيلدر Aelders بمحاولة لتأسيس ناد مخصص لحركة تحرير المرأة · وكان صوت النساء مسموعا في ممرات الجمعيات المختلفة (الوطنية، فالتأسيسية، فالمؤتمر الوطني···) لكن محاولا ت تنظيم أنفسهن للحصول على حقوقهن السياسية ضاعت بسبب الانشغال بالحرب وعنف الإرهاب، ورد فعل المحافظين بعد شهر ثيرميدور Thermidor · ومع هذا فقد حققت النساء بعض المكاسب: أصبح للزوجة مثل الزوج حق طلب الطلاق، وأصبح رضى الأم تماما كموافقة الأب - مطلوبا لزواج الأبناء الذين لم يبلغوا الرشد · وفي ظل حكومة الإدارة، أصبح النساء رغم أنه لا حق لهن في التصويت، نفوذ سياسي واضح، يرقين الوزراء والجنرالات ويمارسن بفخر حريتهن الجديدة في السلوك والأخلاق والثياب، وقد وصفهن نابليون البالغ من العمر ستة وعشرين عاما في 1795:(ملحق/294)
"النساء في كل مكان؛ في المسرحيات، وفي الطرقات العامة، وفي المكتبات· وأنت ترى نساء لطيفات جدا في غرفة دراسة الدارس· هنا فقط (في باريس) من بين بلاد المعمورة كلها تستحق النساء هذا النفوذ كله (التأثير)، وحقيقة فإن الرجال مجنونين بهن، لا يفكرون إلا فيهن، ولا يعيشون إلا عن طريقهن ومن أجلهن· وعلى المرأة كي تعرف ما لها من سلطان أن تعيش في باريس ستة أشهر" ·
3 - أساليب الحياة
عادات الشعوب وأساليب حياتها تكاد تكون مثل أي شيء آخر تتأثر بحركة البندول جيئة وذهابا، تمرد وعودة عن التمرد· لقد أخذت الأرستقراطية معها وهي تفر قبل العاصفة التي ساوت الجميع - ألقابها الفخمة، وملابس البلاط، ولغتها المعطرة، وتوقيعاتها الزهرية، وتحررها الواثق، ونعمتها وترويها· وسرعان ما أصبح لطف الصالونات واللياقة في الرقص، وأسلوب المتعلمين من نقائص النبلاء التي قد تؤدي إلى احتجازهم باعتبارهم عناصر مشكوك فيها متمسكة بالتقاليد البالية، وكأنهم مخلوقات عاشت في عصر ما قبل الطوفان ونجت منه ·
وفي نهاية سنة 1792 أصبح الفرنسيون كلهم في فرنسا "مواطنين citoyens" وأصبحت الفرنسيات كلهن "مواطنات citoyennes"· الكل على قدم المساواة فلا أحد "سيد Monsieur " ولا "سيدة Madame "، وأصبح الخطاب بأنتَ وأنتِ بدلا من "أنتم" أو "سيادتكم" سوا ء في المنزل أم في الشارع· وعلى أية حال فمع بواكير عام 1795 انتهى هذا الأسلوب في التخاطب (التخاطب بصيغة الفرد) وعاد التخاطب بأسلوب التوقير أو الجمع Vous وحل "السيد" و"السيدة" محل المواطن" و"المواطنة" · وفي ظل حكومة نابليون عادت الألقاب ثانية بل وزاد استخدام الألقاب بحلول سنة 1810 عن ذي قبل·(ملحق/295)
وتغيرت طرز الثياب ببطء أكثر من تغير الظاهرة السابقة، فالرجال الأثرياء رفضوا أن يتخلوا عما اعتادوا عليه منذ مدة طويلة من ملابس النبلاء؛ القبعة المرتفعة ذات الزوايا الثلاث في أعلاها، والقميص الحريري، والرباط المنساب، والصدرية الملونة المشغولة (المطرزة)، والمعطف الكامل الذي يصل إلى الركبة، والسروال القصير الذي ينتهي أدنى الركبة بدرجات متفاوتة، والجورب الحريري والحذاء ذو الأبزيم مربع المقدمة· وفي سنة 1793 حاولت لجنة الأمن العام "تلطيف الزى الوطني الحالي لتجعله متمشيا مع العادات الجمهورية وروح الثورة" لكن لم يلتزم سوى الطبقات الوسطى بسروال "بنطلون" العمال والحرفيين الطويل· واستمر روبيسبير نفسه يلبس كاللوردات، ولم يكن هناك ما يفوق بهاء الثياب الرسمية التي كان يرتديها أعضاء حكومة الإدارة التي كان بارا Barras يمشى بها متبخترا · ولم يكسب السروال (الطويل pantaloons) معركته ضد السروال الذي يصل إلى الركبة (الكلوت culottes أو السروال القصير) إلا منذ سنة·1830 وكان العوام فقط (السانس كولوت sansculottes) هم الذين يرتدون قلنسوات الثورة ذات اللون الأحمر والكارمانول Carmagnole ·
وتأثرت ملابس النساء بالثورة التي كان رجالها يرون أنهم يسيرون في نهجهم كروما الجمهورية، وكبلاد الإغريق البركليزية Periclean Greece ( نسبة إلي بركليز PERICLES) · وقد اتخذ جاك لويس ديفيد Jacques Louis David الذي ساد الفن الفرنسي من 1789 إلى 1815 من الأبطال الكلاسيكيين موضوعات لأعماله الفنية الأولى وجعل لباسهم على النمط الكلاسيكي· وعلى هذا فإن النسوة الباريسيات الأنيقات (الحريصات على ارتداء الأزياء الحديثة أو المتمشية مع -الموضة-)، قد تحلين بعد سقط البيوريتاني puritan ( المتطهر) روبيسبير عن -التنورة- Petticoat والبلوزة chemises ( القميص)، وأصبح لباس الواحدة منهن في الأساس عباءة فضفاضة بسيطة شفافة (تشف وتصف) بلغ من شفافيتها أنها توحي بالخطوط الداخلية الناعمة (توحي بالأجزاء المنبعجة والمنقعرة في الجسم Contours) حتى أنها لتثير الرجل الذي لم يستثر في حياته·(ملحق/296)
فخط الخصر في هذا الزى مرتفع ارتفاعا غير معتاد ليدعم الثديين، وخط الرقبة في هذا الزى منخفض بما فيه الكفاية ليقدم للرائي مساحة واسعة مكشوفة، والكمان قصيران قصرا يكفى لإظهار الذراعين الجذابين· واستبدل (الكاب Caps) بعصابة الجبين bandeaux، واستبدل الحذاء ذو الكعب العالي، بصندل بلا كعب (شبشب أو خف) وكتب الأطباء عن الوفيات بين النساء اللائي يرتدين هذه الملابس البهيجة ويذهبن بها إلى المسارح والمتنزهات، بسبب الهبوط الحاد في درجة الحرارة في باريس مساء · وفي هذه الأثناء، عمل الرجال، والنساء الغندورات المثيرات للإعجاب على جذب انتباه الطرف الآخر بالملابس اللافتة للنظر بشكل مبالغ فيه· وفي سنة 1792 ظهرت مجموعة من النساء بزي الرجال أمام اجتماع كومونات باريس، فوجه إليهن شوميت Chaumette تأنيباً مهذبا:
"أنتن أيتها النسوة الطائشات اللائي تردن أن تكن رجالا· ألستن قانعات بنصيبكن كما هو؟ ماذا تردن أكثر من هذا؟ إنكن تسيطرن على مشاعرنا، المشرع والرئيس تحت أقدامكن · فسحركن هو وحده الذي لا نستطيع مقاومته، لأنه سحر الحب، وبالتالي فهو عمل الطبيعة، فباسم الطبيعة، كن كما أرادت الطبيعة لتحققن الهدف الذي قصدته الطبيعة بوجودكن" ·
وعلى أية حال فقد كانت النسوة متأكدات أنهن قادرات على إدخال تحسينات على الطبيعة· ففي إعلان في المونيتير Moniteur في 15 أغسطس سنة 1792 أعلنت مدام بروكين Broquin أنها: " لم تستنفد مسحوقها الشهير، ذلك المسحوق الذي يصبغ الشعر الأحمر أو الأبيض ليجعله كستنائياً (بنيا مشوبا بحمرة) أو أسود، وهي تعرضه لمن يطلبه" وعند الضرورة كان الشعر الذي لا يرضى عنه صاحبه يغطى بالباروكات wig ( الشعر المستعار) والذي كان في حالات كثيرة مقطوعا من ضفائر النسوة الشابات اللاتي قصت المقصلة رقابهن · وفي سنة 1796 اعتاد الرجال من الطبقتين الوسطى والعليا أن يضفر الواحد منهم شعره الطويل في ضفيرة ·(ملحق/297)
وخلال العامين الأوليين من الثورة راح الثمانمائة ألف (سكان باريس) يمارسون أعمالهم المفيدة، ولا يلتفتون إلا بين الحين والحين لما يجري في الجمعية الوطنية والسجون· لقد كانت الحياة مبهجة بما فيه الكفاية في ذلك الوقت بالنسبة للطبقات العليا؛ فقد استمرت الأسر في تبادل الزيارات والدعوة إلى الولائم، واستمر حضور الحفلات الراقصة، وغير الراقصة، والمسرحيات والذهاب لسماع الكونشرتات حتى خلال فترات العنف بين مذابح سبتمبر سنة 1792 وسقوط روبيسبير في يوليو سنة 1794 عندما جرى في هذه الفترة إعدام 2,800، كانت الحياة التي يحياها - تقريبا - كل من بقوا على قيد ا لحياة تسير سيرها المعتاد في العمل واللهو، والممارسات الجنسية والحب الأبوي·
لقد كتب سيباستيان ميرسييه Sébastian Mercier في سنة 1794:
"الأجانب الذين يقرءون صحفنا يتصورون أننا جميعا قد غرقنا في الدم وغطتنا الأسمال البالية، ونعيش حياة ملؤها البؤس· لكنهم سيدهشون عندما يعرفون أن الطريق الرائع الذي تحفه الأشجار في الشامب إليزيه Champs Elysees ( ميادين الإليزيه) حيث توجد في الجانب المقابل منه المركبات الخفيفة الأنيقة التي تجرها الجياد (الحناطير) والنسوة الجذابات الجميلات·· هذه الحدائق الباهرة، أصبحت الآن أكثر بهاء وأجمل من ذي قبل" ·
وكانت هناك مباريات رياضية في الكرة والتنس والركوب، وسباق الخيل، وألعاب القوى··· وكان هناك متنزهات شائقة مثل حدائق التيفولي Tivoli حيث يمكنك التمتع، وشراء الكماليات من (البوتيكات) ومشاهدة الألعاب النارية والبهلوانات وهم يمشون على الحبال، أو إطلاق البالونات، وسماع (الكونشرتات) أو أن تضع صغيرك في الحلقة الدوارة (الأرجوحة الدوارة)، وستجد معك في هذه المتع اثني عشر ألفا آخرين في أيام المرح· ويمكن أن تجلس في مقهى أقيم في الهواء الطلق أو تحت سرادق مقهى دي فوي Cafe de Foy أو في إحدى مقاهي الطبقة الراقية مثل مقهى تورتوني Tortoni أو مقهى فراسكاتي Frascati أو تتبع السائحين إلى النوادي الليلية مثل السافو Caveau ( القبو) والسوفاج (الوحشي Sauvage) ومقهى العميان Les Aveugles حيث يلتقي الموسيقيون العميان·(ملحق/298)
ويمكن أن تذهب إلى ناد لتقرأ أو تتحدث أو تستمع إلى المناقشات السياسية· ويمكنك أن تحضر إحدى المهرجانات المرحلة المتنوعة التي نظمتها الدولة والتي نسقها فنانون مشاهير مثل ديفيد، وإذا أردت أن تجرب رقصة جديدة كرقصة الوالتس waltz التي وصلت من ألمانيا لتوها يمكنك أن تجد شريكة تراقصك في إحدى قاعات الرقص التي بلغ عددها في باريس في عهد حكومة الإدارة ثلاثمائة قاعة ·
والآن (1795) في السنوات التي خمدت فيها حدة الثورة، سمح لبعض المهاجرين (الذين كانوا قد فروا من فرنسا بسبب أحداث الثورة) بالعودة إلى فرنسا، وبرز النبلاء المختبئون من مخابئهم التي كانوا يتوارون فيها، وأظهر البورجوازيون ثرواتهم فشيدوا البيوت الغالية وأثثوها بالأثاث الفاخر وحلوا نساءهم بالجواهر الثمينة وأقاموا الحفلات المسرفة· وظهر أهل باريس من شققهم ومنازلهم للتمتع بقسط من الشمس نهارا أو ليستمتعوا بالنسيم ليلا في حدائق التوليري أو لكسمبورج أو على طول شوارع الإليزيه التي تحفها الأشجار، وخرجت النسوة متفتحات كالزهور في أثوابهن الجذابة الطائشة (العربيدة) ورحن يحركن مراوحهن بطريقة معبرة تعجز عنها الكلمات· وأحذيتهن الأنيقة التي تظهر ما خفي من القدمين بشكل فاتن· لقد بعثت الحياة في المجتمع من جديد·
لكن مئات الأسر (أو نحو ذلك) التي تكوّن الآن المجتمع لم تكن من الأسر عريقة النسب والفلاسفة الذين حققوا شهرة عالمية والذين كانوا متألقين في الصالونات في ليالي ما قبل الثورة، وإنما كانت هذه الأسر في الغالب من محدثي النعمة (الأثرياء الجدد) الذين كدسوا الليفرات livres من (شراء) العقارات الكنسية، أو من التعاقدات مع الجيش أو الاحتكارات التجارية أو البراعة المالية أو الصداقات السياسية·(ملحق/299)
وراح بعض من عاشوا أيام البوربون Bourbon وظلوا على قيد الحياة يترددون على منازل مدام دى جينلى Genlis أو أرملتى كوندورسيه وهلفيتيوس، لكن معظم الصالونات التي فتحت بعد موت روبيسبير (باستثناء حلقة مدام دى ستيل de Stael) لم تكن عامرة بالمناقشات الذكية وكان ينقصها جو الراحة والطمأنينة، ذلك الجو الذي كان يسودها في الماضي (قبل الثورة) نتيجة الأمن الذي طال أمره والثراء الراسخ· وصالون القمة الآن هو ذلك الذي يعقد في الغرفات المريحة في قصر بارا عضو مجلس الإدارة في لكسمبرج أو في قصر جروسبوا Chateau Grosbois الذي يمتلكه أيضا· ولم تكن جاذبية صالون بارا هذا ناتجة عن معارف الفلاسفة (المثقفين) الذين يرتادونه وإنما كانت جاذبيته تكمن في ابتسامات مدام تاييه Tallien وجوزيفين دى بوهارنيه Josephine de Beauharnais ·
ولم تكن جوزيفين قد تزوجت نابليون بعد، كما أن مدام تاييه لم تعد بعد (في ذلك الوقت) زوجة له (لتاييه)، لقد تم تزويج هذه المدام الأخيرة منه في 26 ديسمبر 1794، ونودي بها فترة سيدة ثيرميدور Notre Dam de Thermidor لكنها هجرت هذا الإرهابي الذي أفل نجمه بعد فترة وجيزة من زواجها منه وأصبحت خليلة (راعية شئون منزله) لبارا Barras، وغمزها بعض الصحفيين في أخلاقها ومع هذا فقد بادلوها جميعا الابتسام لأنه لم يكن في جمالها شيء من الكبر أو التغطرس، وكانت معروفة برقتها الشديدة مع النساء والرجال على السواء· وقد وصفتها في وقت لاحق الدوقة دبرانت D'Abrantés بأنها: "فينوس الكابيتول وأنها أجمل من العمل الفني الذي أنجزه فيدياس Pheidias، لأنك تدرك فيها اكتمال الملامح كما في عمل فيدياس، وتدرك فيها التناسق نفسه في الذراعين واليدين والقدمين، كل هذا تعبير كريم حي" · وكان من فضائل بارا Barras أنه كان كريما معها ومع جوزيفين، وقدر جمالهما تقديرا يفوق مجرد الإعجاب الجنسي، ذلك التقدير الذي اشترك معه فيه مئات المنافسين الذين كانوا من الممكن أن يفوزوا بهما، لكنه بارك فوز نابليون بجوزيفين·(ملحق/300)
4 - الموسيقي والدراما
انتعشت أنواع الموسيقي كلها، وكان يمكنك أن تجعل أحد المغنين في الشوارع يعيد لك أغنية مقابل قطعة عملة أو يمكنك أن تنظم لمجموعة مغنين لتخيف البورجوازيين بأغنية الكارمانول Carmagnole or Ca ira)) أو أن تهز الحدود بنشيد "المارسيليز The Marseillaise " الذي كان روج دى ليزل Rouget de Lisle قد ألف معظمه· وفي كونشرتو فيدو Concert Feydeau يمكنك أن تعجب مع دومينيك جارا Dominique Garat الذي يعتبر كاروز عصره الذي يحرك صوته مشاعر القلوب، بل ويحرك حتى الألواح وكان مشهورا في أنحاء أوربا كلها لطبقة صوته·
ووسط الرعب الذي ساد في سنة 1793 افتتح المؤتمر الوطني المعهد الوطني للموسيقي وبعد ذلك بعامين أصبح اسمه الكونسرفتوار، ومنح المؤتمر الوطني المعهد مبلغ 240,000 جنية كل عام للتدريس لستمائة طالب بدون أن يدفعوا رسوما دراسية· وفي الليلة التي أطلق فيها الرصاص على روبيسبير، كان الباريسيون يستطيعون سماع "أرميد Armide" في الأوبرا أو بول وفرجيني Paul et Virginie في الأوبرا كوميك Opera-Comique ( الأوبرا التي يتم فيها الغناء والحوار غير الملحن وليس من الضروري أن تكون هزلية) ·
وانتعشت الأوبرا في عهد الثورة· ففيما عدا وضع بيرناردين دى سان بيير Bernardin de Saint Pierre للألحان الرعوية (مقطوعات موسيقية ذات طابع رعوي أو رومانسي) في سنة 1794، فإن جان فرانسوا لوزير Jean Francois Leuseur (1760 - 1837) قد حقق نجاحا آخر في هذا المجال في العام نفسه فمقطوعاته الموسيقية بالإضافة إلى مقطوعة "تيليماك " Telemaque التي وضعها فينيلون Fenelon كانت تنهج النهج الموسيقي نفسه· لقد أثار فرنسا كلها وحرك مشاعر الإرهاب فيها بمقطوعته لا كافيرن (الكهف La Caverne) التي عرضت سبعمائة مرة، وقد استمر في الإنتاج خلال فترة صعود نابليون، وعاش عمراً مديدا فدرس على يديه بيرليو Berlioz وجونو Gounod ·(ملحق/301)
وقد كتب إيتين ميهول Etienne Mehul (1763 - 1817) في عمره القصير جدا مقارنة بعمر لوزير أكثر من أربعين أوبرا من نوع الأوبرا كوميك (المصطلح لا يعني بالضرورة الأوبرا الهزلية كما ذكرنا في تعليق سابق) بينما كانت كورالاته chorales الغزيرة: أنشودة إلى العقل Hymne a La raison (1793) ، ونشيد الرحيل Chant du depart (1794) هي السبب في جعله رب الموسيقي في عهد الثورة ·
وكان ماريا لويجي كارلو سالفاتور شيروبيني Maria Luigi Carlo Salvatore Cherubini هو أعظم مؤلف موسيقى في فرنسا الثورة· ولد في فلورنسا في سنة 1760 يقول: "لقد بدأت في تعلم الموسيقي وأنا في السادسة من عمري، وألفت مقطوعات موسيقية وأنا في التاسعة" · وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره كان قد ألف ثلاثة أعمال كبيرة؛ رائعته " Te Deum" وهي موشحة دينية oratorio وثلاث كنتاتات cantatas ( الكنتاتة قصة تنشدها المجموعة على أنغام الموسيقي بلا تمثيل) · وفي سنة 1777 وجدنا ليوبولد دوق تسكاني الكبير الخير يمنحه منحةً للدراسة مع جيوسيب سارتي Giuseppe Sarti في بولونيا Bologna فأصبح شيروبيني في غضون أربعة أعوام سيدا يشار إليه بالبنان في مجال التأليف الطباقي الموسيقى Contrapuntal composition
وفي سنة 1784 دعي إلى لندن لكن سوقه لم يرج فيها، وفي سنة 1786 انتقل إلى باريس التي ظلت موطنه الدائم لم يغادرها إلا لفترات قصيرة حتى مات في سنة 1842، وفي أولى أعماله الأوبرالية في باريس (ديموفون Démophon) التي وضعها في سنة 1788 تحاشى روح الجزالة والخلو من اجترار الهموم تلك الروح السائدة في الإنتاج النابولي Neapolitan بإخضاع القصة والأوركسترا للألحان، وإنما حذا حذو جلوك Gluck في الأوبرا العظيمة " grand opera" والتي كانت الأنغام (الألحان) تحتل فيها المرتبة الثانية من حيث الأهمية· وكانت أهم الأعمال التي حققت له نجاحا في باريس في عهد الثورة هي: "لودويسكا Lodoiska " (1791) و"ميدي Medee " (1797) · ومع العمل الذي لا زال مشهورا: "يومان Les deux Journees " (1800) بدأ مرحلة مضطربة في حياته في ظل حكومة نابليون ويمكننا تشبيهه بشهاب·(ملحق/302)
لقد كان في باريس في أثناء الثورة أكثر من ثلاثين مسرحا، وكانت جميعها مزدحمة ليلة بعد ليلة حتى أيام حكم الإرهاب، وتحرر الممثلون في ظل الثورة من العراقيل التي كانت تضعها الكنسية أمامهم، وكان يمكنهم الابتسام عند صدور قرار الحرمان الكنسي (ضدهم) أو قرار بعدم دفن جثثهم (بعد الوفاة) في مقابر المسيحيين، لكن الحكومة أخضعتهم (1790 - 1795) لرقابة أشد صرامة، وكان عليهم على وفق توجيهات المؤتمر الوطني ألا يجعلوا في كوميدياتهم أي "بطل" أرستقراطي، أو أية مشاعر أرستقراطية وأصبحت المسارح أداة للدعاية الحكومية، وأسفت الكوميديا وهبطت إلى مستوى منحط، واتبعت التراجيديات الخط الثوري (من حيث المضمون) والوحدات الكلاسيكية (من حيث الشكل) ·
وجرت العادة أن يكون الممثلون الكبار أكثر شهرة من رجال الدولة، بل إن بعضهم مثل فرانسوا جوزيف تالما Francois-Joseph Talma كان محبوبا من الناس أكثر من رجال الدولة بكثير· وكان أبوه مستخدما في فندق ثم أصبح طبيب أسنان، وذهب إلى لندن وانتعشت حالته فيها فأرسل ابنه إلى فرنسا ليتلقى تعليمه فيها، وبعد التخرج عاد فرانسوا ليعمل مساعداً لأبيه، فتعلم الإنجليزية، وقرأ شكسبير ورأى أن تمثيل مسرحياته أمر شائق، وانضم إلى فرقة من الممثلين الفرنسيين كانت تقدم عروضها في إنجلترا، ولما عاد إلى فرنسا قُدم للكوميدي فرانسيز Comédie Francaise وظهر على المسرح لأول مرة سنة 1787 في شخصية سعيد Seide في مسرحية فولتير (محمد Mahomet) وساعده على التقدم في مجال التمثيل المسرحي شكله المتناسق وملامحه الكلاسيكية الواضحة وكأنما نحتت بإزميل، وشعره الكثيف وعيناه المتألقتان لكن تأييده للثورة ودعمه لها صرف عنه معظم أفراد الفرقة الذين كانوا يدينون بوجودهم لعطف الملك·(ملحق/303)
وفي سنة 1785 شاهد تالما الصورة التي رسمها ديفيد والتي جعل لها عنوانا هو "قسم الهوراتي the Oath of Horatii" وتأثر كثيرا لا بما في الصورة من قوة دراماتية وإنما أيضا بالتزامها الشديد المتقن بالزى القديم· فقرر أن يظهر على المسرح بهذا الزى نفسه، وأدهش زملاءه عندما ظهر بهذا التنك (الرداء الروماني ذو الحزام المشدود حول الخصر) والصندل بذراعين وساقين مكشوفين، ليلعب دور بروكولوس proculus في مسرحية فولتير التي تحمل عنوان بروتس Brutus·
وأصبح صديقا لديفيد الذي نضح عليه من ثوريته· وعندما قام بدور ماري جوزيف دي شينيير Marie-Joseph de Chenier في مسرحية "شارل التاسع" (4 نوفمبر 1789) أدى د وره بشحنة عاطفية بثها في مشاهديه في الفقرات المعارضة للملكية تلك الفقرات التي تصور الملك الشاب كآمر بمذابح ليلة القديس بارثولوميو St. Bartholomew's Eve، وقد صدم هذا مشاعر معظم مشاهديه وكثيرين من زملائه الذين كانوا لا يزالون يشعرون بالولاء للملك لويس السادس عشر·
وكلما تطورت أحداث الثورة زاد الصراع حدة بين "الحمر Reds" و"السود Blacks" في الفرقة وبين المشاهدين حتى إن تالما ومدام فيسترى Vestris ( التراجيديانه الرئيسية) وغيرهما من الممثلين انشقوا عن فرقة الكوميدي فرانسيز ذات الامتيازات الملكية وأقاموا فرقة أخرى خاصة بهم في مسرح الجمهورية الفرنسية بالقرب من القصر الملكي· وهناك طور تالما فنه بدراسته للتاريخ والشخصية ولباس كل شخصية على وفق الفترة الزمنية التي كانت فيها، وذلك في المسرحيات والأدوار كلها التي أدتها الفرقة ومارس تحكما في ملامحه لتتمشى مع كل تغيير في المشاعر أو الأفكار (في أثناء التمثيل)، وقلل من نبرته الخطابية، والمبالغة الانفعالية فوق المسرح، حتى أصبح متمكنا تماما من فنه·(ملحق/304)
وفي سنة 1793 غيرت الفرقة القديمة اسمها ليصبح مسرح الأمة Theatre de la Nation الذي أنتج مسرحية "أحباء القانون L'Ami des Lois" وهي المسرحية التي تضمنت هجاء وسخرية من زعماء الثورة· وفي ليلة 3 و4 سبتمبر تم القبض على أعضاء الفرقة كلهم· وقبلت فرقة تالما فرض الرقابة الصارمة عليها، فأصبحت مسرحيات راسين Racine محرمة وتعرضت مسرحيات موليير للتغيير وحذف أجزاء منها، وحذفت الألقاب الأرستقراطية من المسرحيات المسموح بها (مثل سيد "مسيو" وسيدة "مدام")، وفرض هذا في مسارح فرنسا كلها · وبعد سقوط روبيسبير تم الافراج عن الممثلين الذين كان قد قبض عليهم، وفي 31 مايو 1799 وكلما اقتربت الثورة من نهايتها وجدنا الفرقة القديمة والأخرى الجديدة تتحدان معا لتصبحا فرقة واحدة هي "الكوميدي فرانسيز" وجعلت مقرها في المسرح الفرنسي في القصر الملكي حيث هي موجودة ومزدهرة اليوم·
5 - الفنانون
تأثر الفن في فرنسا الثورة بثلاثة أحداث خارجية: خلع الأرستقراطية وهجرتها (عقب أحداث الثورة) والحفائر الأثرية التي كشف عن آثار قديمة في هيركولانيوم وبومبي Herculaneum & Pompeii (1738 وما بعدها)، واستيلاء نابليون على ذخائر الفن الإيطالي، وقد أدت هجرة الأرستقراطية بعد الثورة إلى أن نزح عن فرنسا أكثر الطبقات امتلاكا للثروة وتمتعاً بالذوق مما يمكنهم من شراء الأعمال الفنية، وفي بعض الأحيان هاجر الفنانون مع هؤلاء المهاجرين، ومن أمثلة هؤلاء الفنانين المهاجرين مدام فيجيه - ليبرون Vigee-Lebrun، أما الفنان فراجونار Fragonard فرغم أنه كان قبل الثورة يعتمد في حياته كلية على أموال الطبقات الموسرة (التي لا عمل لها) إلا أنه أيد الثورة وعاش حياة بائسة على حافة المجاعة· وهناك فنانون آخرون أيدوا الثورة لأنهم تذكروا أن النبلاء كانوا يعاملونهم كعبيد ومأجورين مرتزقة، وكيف أن أكاديمية الفنون الجميلة لم تسمح إلا لأعضائها لعرض أعمالهم في صالوناتها·(ملحق/305)
وفي سنة 1791 أتاحت الجمعية التشريعية الأكاديمية للفنانين الأكفاء كلهم سواء كانوا فرنسيين أم أجانب لخلق مجال للتنافس· وقد ألغى المؤتمر الوطني الأكاديمية باعتبارها مؤسسة أرستقراطية في الأساس· وفي سنة 1795 أعادتها حكومة الإدارة باسم أكاديمية الفنون الجميلة وجعلت مقرها اللوفر Louvre الذي كان منذ سنة 1792 قد أصبح متحفا عاما، وسمح للفنانين الفرنسيين بدراسة ونسخ أعمال رافاييل Raphael وجيورجيون Giorgione وكوريجيو Correggio وليوناردو Leonardo، وفيرونيزي Veronese ··· بل وحتى خيول القديس مرقس St. Mark، ولم تحدث سرقات، وتمت الاستفادة من هذه الأعمال بشكل يدعو إلى الثناء· وفي سنة 1793 جدد المؤتمر الوطني دعمه للأكاديمية الفرنسية في روما وكذلك للمؤسسة المعروفة باسم Prix de Rome · وشيئا فشيئا حلت الطبقة الوسطى الصاعدة محل النبلاء كمشترين للأعمال الفنية· وازدحم صالون سنة 1795 بالمشاهدين، وقد عمر هذا الصالون بخمسمائة وخمس وثلاثين لوحة· لقد ارتفعت أسعار الأعمال الفنية·(ملحق/306)
من المستغرب أن نقول إن الثورة لم تحدث أية حركة راديكالية في مجال الفن· بل العكس، فالإلهام الذي قدمه للكلاسيكية الجديدة هو النبش والتنقيب عن التماثيل والعمائر القديمة في نابلي، وكتابات فنكلمان Winckelmann (1755 وما بعدها) وليسنج Lessing (1766) قد عملت على إحياء الأسلوب الكلاسيكي بكل ما فيه من مضامين أرستقراطية· وردة الفعل هذه ثبت أنها من القوة بحيث تتصدى للتأثيرات الرومانسية، والديمقراطية المنبعثة من الثورة· لقد قبل الفنّانون في هذه الفترة المتزنة (باستثناء برودون Prud'hon) نظريةً وتطبيقا الصيغ الكلاسيكية والنبيلة كلها التي تشير للنظام والشكل والاتساق والفكر والعقل باعتبارها حارسا يحول بين التعبير الفني، واعتماده على الانفعال والعاطفة والحماسة والفوضى· وقد راعى الفن في ظل لويس الرابع عشر هذه القواعد القديمة التي توخاها كونتيليان Quintilian وفيتروفيوس Vitruvius وتوخاها كورنيل Corneille وبوالو Boileau، لكن في ظل لويس الخامس عشر ولويس السادس عشر وجد الفنانون راحتهم في الباروك وأنسوا إلى الركوكو rococo ومع مشاعر روسو المتحفظة ومشاعر ديدرو المؤيدة بدا أن عصر الرومانسية أصبح قريب التناول· لقد كان هذا في المجالين السياسي والأدبي، لكنه لم يكن في مجال الفن·
وفي سنة 1774 اتجه جوزيف مارى فين Joseph Marie Vien إلى إيطاليا بعد أن زاد شوقه للاطلاع على حفائر هيركولانيوم وبومبي بعد أن وصلته تقارير عنها، وقد اصطحب جوزيف معه تلميذه جاك لويس ديفيد لكن الشاب (ديفيد) وقد وقف نفسه لفكر الثورة عزم على ألا يجعل الفن المحافظ والأرستقراطي الذي يتجلى في الآثار الكلاسيكية، يضله أو يبعده عن هدفه · لكن شيئا ما في داخله كان يتحكم فيه جعله يستجيب لعظمة التكوين ومنطق البناء وقوة الخط ووضوحه، كما تتجلى في الفن الإغريقي والروماني·(ملحق/307)
لقد قاوم لفترة رسالتها الموحية بالرجولة والقوة، لكنه استسلم لها بالتدريج، وحمل هذا التأثير معه عند عودته إلى باريس، وجعله يتناسق مع مناهضة الثورة للمسيحية وتمثلها بالجمهورية الرومانية ولكاتوس Catos وسبيوس Scipios بل إن هذا الاتجاه كان متفقاً مع عباءة مدام تاييه الإغريقية· والآن لقد حان الوقت المناسب لطرح استلهام الفن القوطي ذي النزعات العلوية (السماوية) وما يوحيه الباروك baroque من يفاعه مدهشة، وما يتجلى في الروكوكو من زخارف بهيجة، والصور الزيتية العارية والمتفائلة التي أنتجها بوشيه ولوحة الفتيات وهن يقفزن، التي أنتجها فراجونار Fragonard · الآن يجب أن يكون الخط الكلاسيكي والمنطق الكلاسيكي، والمنطق المجرد Cold reason والقيد الأرستقراطي والشكل الرواقي هو هدف الفن وعليه تقوم دعائمه في فرنسا الثورة الرومانسية، الديمقراطية، العاطفية، الزاخرة بالمشاعر·
وقد ولد ديفيد الذي كان عليه أن يتبوأ الصدارة في الفن في فرنسا الثورة وإمبراطوريتها، في باريس في سنة 1748 من أسرة بورجوازية ثرية كانت تقيه العوز دوما· وقد التحق وهو في سن السادسة عشرة بأكاديمية الفنون الجميلة Academie des Beaux Arts ودرس على يد فين Vien وحاول مرتين من أجل الحصول على الجائزة المعروفة بجائزة روما Prix de Rome وفشل في المرتين، فحبس نفسه وحاول أن يموت جوعا لكن جاره الشاعر افتقده فبحث عنه فوجده وراح يتوسل إليه حتى تناول طعامه، ودخل ديفيد المسابقة مرة أخرى في سنة 1774 وفاز برسم من نوع الروكوكو جعل له عنوانا هو ( Antiochus Dying for the love of Stratonic أنتيوشس تموت حبا في ستراتيونيس)
وفي روما أصبح مفتونا برافاييل ثم تخلى عن افتتانه به لرقة خطوطه رقة شديدة ووجد في أعمال ليوناردو ما هو أقوى، ووجد في بوسين Possin انضباطاً أشد في الفكرة والتكوين، وانتقل من صور العذراء في عصر النهضة إلى الأعلام القدامى في عالم الفلسفة والأساطير والحرب، وفي عاصمة المسيحية تخلى عن عقيدته المسيحية·(ملحق/308)
وعاد إلى باريس في سنة 1780 وتزوج من ثرية وعرض في صالونات الأكاديمية سلسلة متتابعة من أعماله الكلاسيكية (بليزا ريوس Belisarius وأندروماك Andromache) وبعض البورتريهات (رسوم لأشخاص) · وفي سنة 1784 ذهب إلى روما ليرسم صورة بتكليف من لويس السادس عشر فخرج فيها عما ألفه الرسامون في روما· إنها اللوحة التي جعل لها عنوانا ( The Oath of the Horatii) · وعندما عرضت اللوحة في روما، قال له الفنان الإيطالي العجوز بومبيو باتوني Pompeo Batoni:
" أنت وأنا وحدنا رسامان، أما الباقون فلا يستطيعون القفز في النهر" ·
" Tu ed io soli, siamo pittori; pel rimanente si puo gettarlo nel fiume"
ولما عاد إلى باريس قدم عمله الموسوم باسم (قسم الهوراسيين Serment des Horaces) في صالون سنة 1785 · وهنا في تاريخ ليفي الأسطوري وجد ديفيد في "الوطنية " الدين الحقيقي لروما القديمة: ثلاثة إخوة من أسرة هوراتية Horatii Family يقسمون أن يشعلوا الحرب بين روما وألبالونجا Alba Longa ( القرن السابع قبل الميلاد) وأن يقتتلوا حتى الموت مع ثلاثة إخوة من عشيرة كورياتي Curiatii لقد صور ديفيد الهوراتيين وهم يقسمون ويتسلمون السيوف من أبيهم بينما أخواتهم يندبن، وكان واحدٌ منهم خطيبا لفتاة كورياتية · وكان الفرنسيون يعلمون القصة من كتاب كورنيل هوراس Corneille's Horace وفسروا فحوى اللوحة على أن "الوطنية" تجعل الأمة فوق الفرد، بل وحتى فوق الأسرة·
لقد كان الملك (لويس السادس عشر) راغبا وبإخلاص في القيام بإصلاحات، وكانت المدينة (باريس) معبأة بالفعل للثورة، وكان أهلها متفقين على استحسان إنجازات الفنانين، وكان منافسو ديفيد يعلمون مهارته في إحياء الشجاعة البطولية والتضحية الأبوية وأحزان النساء، لقد كان النجاح الذي حققته لوحته (قسم الهوارتيين) إحدى العلامات البارزة في حوليات الفنون، لأنها كانت تعني نجاح الأسلوب الكلاسيكي·(ملحق/309)
ولاقى ديفيد تشجيعا لأسلوبه الفني ولاختياره لموضوعاته فعاد إلى التراث الإغريقي وقدم في سنة 1787 عمله "موت سقراط " ولما رأى السير جوشوا رينولد Joshua Reynolds هذه اللوحة في باريس وصفها بأنها: "أعظم إنجاز فني منذ مايكل (ميشيل) أنجلو ورافاييل"· إنها يمكن أن تكون امتيازا لأثينا في عصر بركليز · وبعد ذلك بعامين عاد ديفيد إلى التراث الروماني بلوحته (الليكتور The Lictors) " أي الموكلون بإفساح الطريق للحاكم الروماني يعيدون إلى بروتس في بيته جثث أبنائه" وكانت هذه اللوحة تصور حكاية أوردها ليفي عن القنصل الروماني (509 ق·م) ذلك القنصل الذي حكم على اثنين من أبنائه بالموت من أجل تآمرهما لعودة الملكية· وقد كانت هذه اللوحة قبل سقوط الباستيل ولم يكن لدى الرسام فيما يظهر أية فكرة عن الثورة المرتقبة، وقد منع وزير الفنون عرضها لكن الجلبة التي سببتها الجماهير ضمنت له عرضها في صالون سنة 1789، واعتبرتها الجماهير التي أتت لرؤيتها جزءاً من الثورة، وهكذا وجد ديفيد نفسه الناطق الفني باسم عصره·
وعلى هذا فقد قدم ديفيد نفسه للثورة في زواج نادر بين السياسة والفن· لقد قبل ديفيد مبادئها ووضح أحداثها ونظم مهرجاناتها وزينها وأحيا ذكرى "شهدائها"، وعندما قتل واحد من الملكيين النائب الراديكالي ليبيلتييه دى سان فارجو Lepeletier de Saint Fargeau ( في 20 يناير 1793) نذر ديفيد نفسه لإحياء ذكرى هذا المشهد، ففي غضون شهرين قدم صورة المشهد للمؤتمر الوطني الذي علقها على جدران مقره· وعندما قتل مارا (13يوليو 1793) دخلت جموع الحزانى إلى ممرات المؤتمر الوطني، وانطلق صوت من بينهم:
"أين أنت يا ديفيد؟ لا بد أن تنقل للأجيال القادمة ما حدث كما فعلت بالنسبة لليبيلتييه، فهو ومارا قد ماتا من أجل الوطن· إن عليك أن ترسم لوحة أخرى"·(ملحق/310)
فوقف ديفيد وقال: "سأرسمها" وبالفعل قدم لوحة مكتملة للمؤتمر الوطني في 11 أكتوبر· وقد أظهرت هذه اللوحة مارا وقد غطت مياه حوض الاستحمام الخاص به نصفه وقد تدلى رأسه إلى الخلف فاقداً الحياة وإحدى يديه تقبض على مخطوط وذراعه متدلية إلى الأرض، وقطعة الخشب إلى جانب الحوض موضوع عليها مخطوطة تدعو للفخر "إلى مارا ديفيد"· لقد كانت اللوحة نقلة ترك فيها ديفيد أسلوبه الفني المميز· فقد حلت الحماسة المتوهجة محل الكلاسيكية الجديدة مع الواقعية· وأكثر من هذا فهذه اللوحة بالإضافة إلى اللوحة التي رسمها لليبيليتييه قد كسرتا المنحى الكلاسيكي باتخاذهما الأحداث الجارية موضوعا لهما· لقد جعلت هاتان اللوحتان الفن مشاركا في الثورة·
وبحلول عام 1794 كان ديفيد مشهورا سياسيا حتى إنه قد تم انتخابه عضواً في لجنة الأمن العام· وقد كان من أتباع روبيسبير، ونظم ديفيد موكب مهرجان الموجود الأعظم Supreme being وقدم فيه ديكوراته وروحه الفنية· وبعد سقوط روبيسبير قبض عليه باعتباره واحداً من أتباعه وقضى في السجن ثلاثة أشهر قبل أن يفرج عنه بسبب ضجيج تلاميذه· وفي 1795 عكف في مرسمه لكنه عاد إلى الظهور في سنة 1799 فقدم "البانوراما الكبيرة The Rape of the Sabine"· وفي العاشر من نوفمبر استولى نابليون على السلطة، فبدأ ديفيد الذي بلغ الواحدة والخمسين من عمره مرحلة فنية جديدة منتصرة·
6 - العلم والفلسفة
الثورات لا تتعاطف مع العلوم البحتة، وإنما هي تحفز العلوم التطبيقية على مواجهة احتياجات مجتمع يناضل من أجل حريته· لقد ساعد لافوازيه الكيميائي المالي الثورتين الأمريكية والفرنسية بتحسين نوعية البارود، وزيادة كمية إنتاجه· وبيرتوليه Berthollet وكيميائيون آخرون حفزهم الحصار البريطاني على إيجاد بدائل للسكر المستورد وكذلك بدائل لما يستورد من صودا ونيله (صبغة زرقاء)، وقد تم إعدام لافوازيه بتهمة أنه مستغل متربح (1794) لكن بعد إعدامه بعام شجبت الحكومة الثورية هذا الإعدام· وحمى المؤتمر الوطني العلماء في لجانه وقبل خططهم فيما يتعلق بالنظام المتري Metric System ·(ملحق/311)
وبوأت حكومة الإدارة العلماء مكانا حفيا في المعهد الفرنسي الجديد· ولا زالت أسماء لاجرانج ولابلاس وأدريان ماري ليجيندر Adrien Marie Legendre وديلامبر Delambre وبيرتوليه ولامارك Lamarck وكوفييه Cuvier، شهبا تلمع في تاريخ العلم، وكانوا جميعا من بين أعضائها الأول· لقد أصبح العلم لفترة هو عماد التعليم الفرنسي حالاً محل الدين، وعرقلت عودة البوربون هذه الحركة لكن سقوطهم (1830) كان مصحوبا برفع شأن العلم متمثلا في الفلسفة الإيجابية التي نادى بها أوجست كونت Auguste Comte ·
وترك لاجرانج Lagrange وليجيندر علاماتهما الأخيرة على الرياضيات، فصاغ لاجرانج حساب التغاير والذي لا تزال معادلاته جزءا من علم الميكانيكا· وظل ليجيندر يدرس التكامل الإهليجي elliptic ( ناقص المقطع) من سنة 1786 إلى سنة 1827 عندما نشر نتائج بحوثه في إحدى الدوريات المتخصصة Traité des fonctions أما جاسبار مونج Gaspard Monge وهو ابن بائع جوال فقد ابتدع الهندسة الوصفية وهي طريقة أو منهج لتقديم أبعاد ثلاثة للأشياء على مستوى ذي بعدين، وقد نظم أمور استخلاص النحاس والقصدير على مستوى الدولة، وكتب نصا شهيرا عن الفن الدقيق لصناعة المدافع وخدم الحكومة الثورية ونابليون فترة طويلة في مجال اختصاصه رياضياً وإدارياً·
وأثار لابلاس Laplace أهل الفكر في أوربا بمبحثه "عرض لنظام الكون Exposition du Systeme du Monde" (1796) صاغ من خلال النظرية السديمية nebular hypothesis ( كون النظام الشمسي نشأ من سديم غازي) وحاول أن يشرح الكون من خلال ميكانزم خالص (مجرَّد) وعندما سأله نابليون: "من الذي فعل كل هذا النظام" ( mechanism) ؟ أجاب لابلاس: "إنني لست في حاجة إلى هذه الفرضية"· أما لافوازيه Lavoisier مؤسس الكيمياء الحديثة فقد ترأس اللجنة التي صاغت النظام المتري (1790) وطور بيرثوليه Berthollet كلا من الكيمياء النظرية والعملية وساعد لافوازيه في وضع مصطلحات ورموز كيميائية جديدة·(ملحق/312)
وساعد وطنه الذي كان يخوض الحرب بطريقته في تحويل خام الحديد إلى حديد، وتحويل الحديد إلى صلب· وكان زافييه بيشا Xavier Bichat رائدا في مجال علم الأنسجة (الهيستولوجيا) بدراساته الميكروسكوبية للأنسجة· وفي سنة 1797 بدأ سلسلة محاضراته الشهيرة في علم الفيسيولوجيا والجراحة ولخص نتائج بحوثه في دورية علمية هي Anatomie generale (1801) · وفي سنة 1799 وكان سنه وقتها ثمانية وعشرين عاماً عين طبيبا في مصح الرّب Hotel-Dieu وعكف على دراسة التغيرات العضوية الناتجة عن المرض في مرحلة الاحتضار (1802) وكان عمره وقتها واحداً وثلاثين عاما·
وربما يمثل بيير كاباني Pierre Cabanis مرحلة انتقال في مجال الفلسفة رغم أنه كان معروفا في عصره كطبيب في الأساس، إلا أن الأجيال التالية اعتبرته فيلسوفا· وفي سنة 1791 كان يرعى ميرابو Mirabeau في مرضه الأخير· وحاضر في مدرسة الطب عن الصحة والطب الشرعي وتاريخ الطب، وكان لفترة رئيسا لكل مستشفيات باريس· وكان واحدا من كثيرين من الرجال المشهورين الذين أحبوا حبا عاقلا مكتوما أرملة المثقف (الفيلسوف) هلفيتيوس Helvétius التي كانت دائما جديرة بأن تحب· وقد قابل في صالونها كلاً من:
ديدرو Diderot ودلامبير d`Alembert ودهولباخ d`holbach وكوندورسيه Condorcet وكوندياك Condillac وفرانكلين Franklin وجيفرسون Jefferson، وباعتباره دارسا للطب فقد كان على نحو خاص منجذباً إلى كوندياك الذي كان معروفا تماما في المجال الفلسفي في فرنسا باعتقاده أن كل المعارف أساسها الحس (أو الإحساس Sensation) · وقد راقت هذه الفلسفة الحسية (التي مؤداها أن الحس هو أساس المعرفة) لكاباني Cabanis، فاتفقا اتفاقا تاما على ما وجده من علاقة ارتباط بين العمليات الجسدية والنفسية· ولقد صدم حتى المفكرين الذي بلغوا مرتبة كبيرة في عصره بقوله:
" لتكون فكرة صحيحة عن العمليات التي ينتج عنها الفكر، من الضروري أن تنظر للمخ كعضو خاص مهمته المحددة هي إنتاج الفكر، تماما كما للمعدة والأمعاء وظيفة هي هضم الطعام، وكما أن للكبد وظيفة هي ترشيح الصفراء،······الخ" ·(ملحق/313)
ومع هذا فإن كاباني عدل من تحليلات كوندياك (كما فعل كانط Kant مؤخراً في كتابه نقد العقل الخالص) فقال بأن الحس يدخل التكوين العضوي (الكائن العضوي) الذي يكون قد تكوّن على نحو ما (نصف تكوّن) عند الميلاد، لكنه يعدل بعد ذلك من خلال كل تجربة يخوضها، ويحمل معه ماضيه في خلاياه وذاكرته ليشكل جزءا من الشخصية المتغيرة بما في ذلك الأحاسيس الداخلية والأفعال الانعكاسية والغرائز والمشاعر والرغبات· فالكلية السيكولوجية تنتج كذلك نماذج لكل بنية (تكوين) وتجعل لكل حس (محسوس) تستقبله غرضا· وبهذا المعنى يكون كاباني قد اتفق مع كانط على أن العقل (أو النفس) ليست غفلاً قبل التعليم (أو ليست كصفحة بيضاء خالية) بحيث يطبع عليها الحس ما يشاء· إنها "منظمة" لتحويل الأحاسيس إلى أفكار وأعمال· وعلى كل حال فقد أصر كاباني على أن "العقل" الذي يرجع إليه كانط ليس منفصلاً انفصالا تاما عن الأنسجة والأعصاب·
هذا النظام (أو النسق) المادي ظهر للمرة الأولى (1796) في المذكرات الاثنتي عشرة التي نشرها كاباني معا في سنة 1802 بعنوان:
"حصاد دراسة فيزيقية الإنسان وأخلاقه"
" Rapports du Physique et du moral de l'homme"
وهذه المذكرات تجعل العقل (أو المخ) القوي فعالا وبشكل نشيط على منطقة واسعة من حب الاستطلاع والتأمل· والمقالة الأولى تكاد تكون مسحا للسيكولوجيا الفيسيولوجية physiological psychology وتدرس الأعصاب ذات الصلة بالحالة النفسية· والمقالة الثالثة تحلل "اللاشعور unconscious": فذكرياتنا المتجمعة (أو العلامات التي تحدثها الأعصاب) قد تتداخل مع المثيرات الحسية الداخلية والخارجية لتنتج أحلاما، وربما على نحو لا شعوري تؤثر في أفكارنا حتى ونحن في حالة يقظة وانتباه· والمقال الرابع بارتباط العقل بالعمر فأفكار الشخص نفسه وشخصيته قد تختلف تماما في سن السبعين عنها في سن العشرين· أما المقال الرابع فيتناول كيف أن إفرازات الغدد خاصة الجنسية قد تؤثر في مشاعرنا وأفكارنا· والمقال العاشر يؤكد أن الإنسان عرضة لتغير يتم مصادفة أو تبدل، ثم إن هذه الصفات المتغيرة تورث·(ملحق/314)
وفي كتاب نسب إلى كاباني بعنوان "خطابات في العلل الأولى Lettres sur les causes premieres" (1824) نشر بعد موته بستة عشر عاما يظهر أنه تراجع عن مذهبه المادي وأرجع العلة الأولى للذكاء والإرادة · والمادي قد يذكرنا بأن الجراح الكبير قد حذرنا من تأثير الجسم الهرم (الذي اعترته الشيخوخة) على عقله المرتبط به (أي المرتبط بهذا الجسم) · وربما افترض الشكوكي skeptic ( النزاع إلى الشك خاصة في مبادئ الدين) أن غموض الوعي (الشعور) هو الذي دفع كاباني إلى الشك في قدرة المذهب المادي على تبسيط الحقيقة المعقدة جدا والمباشرة· وعلى أية حال فإنه لأمر طيب أن يذكر فيلسوف نفسه بين الحين والحين أنه مجرد ذرة يتحدث إلينا عن اللامتناهي infinity ·
وثمة رجلان عاصرا عهد الفلاسفة (المفكرون philosopher) عاشا حتى يلتقيا بالثورة التي كانت حلما مرغوباً فيه· فعندما رأى الأب الراهب رينال Raynal الذي أصبح اسمه لامعا في سنة 1770 بإصداره كتابا عن التاريخ الفلسفي Histoire philsophique ... des deux Indes - نور الحركة التنويرية يخبو بسبب إسفاف الجماهير (العوام)، أرسل إلى الجمعية التأسيسية خطابا في 31 مايو سنة 1791، يعترض فيه ويتنبأ: "لقد كانت لدي الجسارة مدة طويلة لأذكر الملوك بواجباتهم، فدعوني اليوم أن أقول للشعب أخطاءه"· لقد حذر هذا الأب الراهب من أن طغيان العامة يمكن أن يكون ظالما وطاغيا كالحكم المطلق للملوك· لقد دافع عن حق الإكليروس في الدعوة للدين، ما دام المناوئون للدين أو رجاله يتمتعون بحرية الكلام· وأدان كذلك التمويل المالي الحكومي لأي دين (كانت الدولة في ذلك الوقت تدفع رواتب القسس) كما أدان هجوم الغوغاء المعادين للدين على رجال الدين· وحث روبيسبير أعضاء الجمعية الغاضبين على التسامح مع هذا الفيلسوف (المثقف) الهرم البالغ من العمر ثماني وسبعين سنة، وبذا نجا من القبض عليه، ومع هذا فقد صودرت ممتلكاته ومات فقيرا محبطا في سنة 1796·(ملحق/315)
وعاش كونستانتين شاسبيف دي فولني Constantin Chassebeuf de Volney في معمعة أحداث الثورة وعرف الشخصيات البارزة كلها في باريس من دهولباخ إلى نابليون· وبعد أعوام من الترحال في مصر والشام تم انتخابه لمجلس طبقات الأمة كما كان عضوا في الجمعية التأسيسية (الوطنية قبل ذلك) حتى حلها سنة 1791· وفي هذا العام نشر الأصداء الفلسفية لرحلاته وجولاته في كتابه:
Les Ruines, ou Meditations sur les revolutions des empires ·
ما سبب انهيار هذه الحضارات القديمة الكثيرة؟ وقد أجاب فولني على هذا السؤال بقوله إنها انهارت بسبب الجهل المبثوث في شعوب هذه الحضارات بفعل الأديان الغيبية التي تدعمها حكومات استبدادية، وبسبب صعوبة نقل المعرفة من جيل إلى جيل· والآن وقد فقدت هذه العقائد الخرافية أساسها، ويسرت الطباعة حفظ المعرفة وانتقال العناصر الحضارية، فإن على البشر أن يأملوا في بناء ثقافات (حضارات) دائمة قائمة على نظم أخلاقية تفضي إلى امتداد سيطرة الإنسان على نزعاته غير الاجتماعية وتساعده على التعاون والوحدة خاصة وأن المعرفة قادرة الآن على التطور والانتشار وقد قبض عليه في سنة 1793 باعتباره جيرونديا Girondin وقضى في السجن تسعة أشهر، فلما أطلق سراحه أبحر إلى أمريكا ورحب به جورج واشنطن، لكن الرئيس آدمز (1798) اتهمه بأنه جاسوس فرنسي فكرّ عائداً إلى فرنسا· وعمل كسيناتور في ظل حكم نابليون وعارض الانتقال من "القنصلية Consulate" إلى الإمبراطورية وعكف على الدراسة منعزلا حتى عهد لويس الثامن عشر الذي جعله شريفا (نبيلا) في سنة 1814 ومات في سنة 1820، وقد شارك في تنحية البوربون عن العرش كما شارك في إعادتهم للعرش·
7 - الكتب والمؤلفون
رغم المقصلة ظل الناشرون ينشرون، وظل الشعراء يقرضون، وظل الخطباء يخطبون وظل المسرحيون يستوحون التاريخ والعشق، وراجع المؤرخون أحداث الماضي، وهذب الفلاسفة الحاضر، ونافست امرأتان الرجال في مجال التأليف من حيث عمق المشاعر والشجاعة السياسية وعمق الفكرة· وإحدى هاتين المرأتين هي مدام رولان Roland التي سجنت وجزت المقصلة رقبتها·(ملحق/316)
واستمرت أسرة ديدو Didot أكثر الأسر شهرة في مجال النشر، في تحسين صب الحروف وإتقان تجليد الكتب وكان فرنسوا ديدو قد أسس الشركة - للطباعة وبيع الكتب - في باريس في سنة 1713 وأجرى ابناه فرنسوا أمبروز Ambroise وبيير فرنسوا تجارب في مجال فن الطباعة، وأصدرا مجموعة من الأعمال الكلاسيكية الفرنسية برعاية لويس السادس عشر· ونشر بيير - ابن فرنسوا - أمبروز طبعات فرجيل (1798) وهوراس (1799) وراسين (1801)، وكانت هذه الطبعات فاتنة ولائقة حتى إن الأثرياء كان يمكنهم شراءها للاستمتاع باقتنائها من قراءاتها·
وحقق فيرمين ديدو Firmin (1764 - 1836) شهرة بابتداعه حروفا طباعية جديدة، كما حاز قصب السبق في اختراع الاستريوتيب stereotyping ( الصفحة الطباعية التي تصنع بصب المعدن في قالب من الجص أو الورق المعجن مأخوذ عن حروف منضدة) وقد نشرت شركة فيرمين ديدو في سنة 1884 الطبعة الفاخرة لكتاب بول لاكروا Paul Lacroix بعنوان "حكومة الإدارة والقنصلية والإمبراطورية" " Directoire, Consulat et Empire" وهو الكتاب الذي رجعنا إليه في هذا الموضع عدة مرات، فمنه على سبيل المثال علمنا أنه على طول فترة الحقبة الثورية كانت مبيعات كتب فولتير وروسو بمئات الألوف من النسخ· وقد أصدر المؤتمر الوطني مرسوما (19 يوليو 1793) لضمان الملكية الفكرية للمؤلف في مطبوعاته حتى بعد وفاته بعشر سنوات ·(ملحق/317)
وأشهر شاعرين في العقد الثوري بدأا متفردين في طريقة التعبير والأسلوب، وانتهت حياتهما بنصل المقصلة نفسها· لقد ألف فيليب فرانسوا فابر Philippe-Francois Fabre d'Eglantine أشعارا جميلة ومسر حيات ناجحة، وأصبح رئيسا لنادي الكوردليير Cordeliers Club ( تجمع سياسي يساري سبقت الإشارة إليه) وسكرتيرا لدانتون Danton وعضوا في المؤتمر الوطني وفيه صوت لصالح طرد الجيرونديين وإعدام الملك وعين في اللجنة المنوط بها وضع تقويم جديد (التقويم الجمهوري بدلا من التقويم الميلادي) · وابتدع كثيرا من أسماء شهوره الفصلية، تلك الأسماء المتسمة بجمال التعبير وحسن التصوير، وفي 12 يناير سنة 1794 قبض عليه بتهمة الفساد والتزوير والتعامل مع الوكلاء الأجانب والتربح والاستغلال، وفي أثناء محاكمته غنى قصيدته القصصية الجذابة:
"الدنيا تمطر Il pleut
الدنيا تمطر Il pleut
هيا أيها الراعي bergere
اجمع غنمك البيضاء rentre tes blancs moutons "
لكن القضاة لم تكن لهم آذان لسماع هذه الأغنية الرعوية (المعنى: لم تجده قصائده شيئا) وفي طريقة إلى المقصلة (5 أبريل 1794) راح يوزع نسخاً من أشعاره على الناس·
أما أندريه ماري دى شينييه Chenier فكان أفضل شعرا وأفضل أخلاقا، لكنه لم يكن أفضل مصيرا· ولد في القسطنطينية سنة 1762 من أب فرنسي وأم يونانية وقد قسم حبه الأدبي بين الشعر الإغريقي والفلسفة الفرنسية· تلقى تعليمه في نافار Navarre وأتى إلى باريس في سنة 1784، وعقد صداقات مع ديفيد ولافوازيه وقبل الثورة بتحفظ· وعارض الدستور المدني للإكليروس الذي ربط الكنيسة الكاثوليكية بالدولة، وأوصى في الجمعية الوطنية بالفصل الكامل بين الكنيسة والدولة،(ملحق/318)
وبإطلاق حرية العبادة لكل الأديان والمذاهب وأدان مذابح سبتمبر وامتدح شارلوت كورداي Charlotte Corday لقتلها مارا وكتب خطابا من أجل لويس السادس عشر إلى المؤتمر الوطني طالبا استئناف حكم الإعدام أمام الشعب، وأدى هذا إلى أن أصبح موضع شك من اليعاقبة الحاكمين، فتم سجنه باعتباره جيرونديا، وقد أحب سجينة جميلة هي الآنسة دى كواني de Coigny التي وجه إليها "الفتاة الأسيرة La Jeune- Captive" التي أكد لامارتين Lamartine أنها: "أكثر التنهدات التي خرجت من زنزانات السجون شجنا" وعندما مثل للمحاكمة رفض الدفاع عن نفسه وذهب في طريقه إلى الموت تخلصا من عصر تسوده البربرية والطغيان· ولم ينشر سوى قصيدتين طوال حياته لكن أصدقاءه أصدروا بعد إعدامه بخمسة وعشرين عاما طبعة جمعوا فيها أشعاره جعلته مثل كيتس Keats بالنسبة للأدب الفرنسي· ولا بد أن يكون تفجعه لمأساته ومأساتها هو ما عبر عنه في المقطع الشعري الأخير من قصيدته "الفتاة الأسيرة The Young Captive"·
" آه أيها الموت لست في حاجة للعجلة!
انصرف! انصرف!
اذهب لتواسي قلوبا عرفت العار والخوف
حيث النواح والعويل بلا أمل
بالنسبة لي فإن بالز Pales إلهة القطعان سيظل أمامها طرقها المعشوشبة
إن للحب قبلاته، وللربة موزيه Muse راعية الشعر والفنون والعلوم أناشيدها
وأنا أيضا لا أرغب الموت·"
وكان أخو أندريه الأصغر جوزيف دى شينييه (1764 - 1811) مسرحيا ناجحا، وأعاد للأذهان الهياج الذي سببه تمثيل تالما Talma لمسرحية تشارلز التاسع · وكتب كلمات الأنشودة العسكرية "نشيد الرحيل Chant du depart" و"أغنية للحرية Hymne a la liberte" وقد غنيتا في "مهرجان العقل Fast of reason" وقدم لفرنسا ترجمة بارعة لكتاب جراى Gray:(ملحق/319)
Elegy Written in a Country Churchyard وتم انتخابه للمؤتمر الوطني، وأصبح بمعنى الكلمة هو الشاعر الرسمي للثورة· وفي آخر ع مره كلفه المعهد الفرنسي بإعداد حصر تاريخي بحالة الفكر الفرنسي وتطوره منذ سنة 1789، لكنه مات قبل أن يتمه، ومع هذا فهو سجل واسع للكتاب الذين حققوا شهرة في هذه الفترة والذين نسي الناس معظمهم حتى المتعلمون الفرنسيون· وقد مات أعضاء الأكاديمية الفرنسية الملقبين بالخالدين بعد موته بفترات بسيرة·
وكان الأدب الفرنسي قد استعاد عافيته في ظل حكومة الإدارة بعد أن تحكمت فيه السياسة في عهد المؤتمر الوطني· لقد تكونت مئات من الجمعيات الأدبية وكثرت نوادي القراءة، وانتشرت عادة القراءة وازدهرت· وكانت معظم القراءات في مجال الروايات والقصص الرومانسي والشعر، فهذه القراءات بدأت تحل محل الولع بقراءة الأعمال التراجيدية· وترجم كتاب ماكفرسون Ossian إلى الفرنسية وأقبل عليه القراء على اختلاف ميولهم من خادمات غرف النوم إلى نابليون·
8 - مدام دى ستيل والثورة
MME. DE STAEL AND THE REVOLUTION
كان ثمة امرأة تقف بمعزل عن صائغي الكلمات التي يفرضونها بقوة الصوت أو بقوة شخصياتهم، لقد قبلت هذه المرأة الثورة في الوقت الذي كانت فيه معشوقة من عشاق كثيرين أتى الواحد منهم إثر الآخر، لكنها شجبت الغوغاء وحكم الإرهاب وتصدت لنابليون في كل خطوة وظلت حية حتى النصر، بينما كان هو يذوي حيا كالميت· لقد تمتعت جيرمين نيكر Germaine Necker بمزايا هيأت لها الشهرة والحظ الحسن: فأبوها الذي سرعان ما أصبح مليونيرا أصبح وزيرا لمالية فرنسا، وأمها التي كان إدوارد جيبون Edward Gibbon يلاحقها في وقت من الأوقات، جمعت في صالونها عبا قرة باريس المشهورين، ليؤدي ذلك إلى تعليم ابنتها، سواء كانت هذه النتيجة مقصودة مدبرة أم أتت بغير قصد ولا تدبير·(ملحق/320)
ولدت في باريس في 22 أبريل سنة 1766· وقد ملأتها مدام نيكر Mme.Necker - باعتبارها مرشدها الرئيسي - بمزيج متفجر من التاريخ والأدب والفلسفة، وكتابات راسين Racine وريتشاردسون Richardson وكالفن Calvin وروسو· ولقد تجاوبت في رقة الشعور مع كلاريسا هارلو Clarissa Harlow وفي حماس الشباب مع دعوة روسو إلى الحرية لكنها أثبتت حساسيتها بشكل مؤلم مع الكالفنية وقاومت النظام واللاهوت اللذين كانا هما طعامها اليومي·
وشيئا فشيئا نفرت بسرعة مما يزعجها - سيطرة أمها - وأحبت أباها الفاضل المعين رغم تسامحه· تلك هي العلاقة الوحيدة التي حافظت عليها وتمسكت بها بإخلاص كامل، أما علاقاتها الأخرى فكانت عرضية لا تتسم بالاستمرار· لقد كتبت: "قدرانا كانا سيكونان قدرا واحدا يوحدنا للأبد لو كان القدر قد شاء أن يجعلنا في الفترة الزمنية نفسها" · وفي هذه الأثناء سمح لها من سن البلوغ فصاعدا أن تحضر اجتماعات أمها الدورية مع المفكرين، وكان الهدف من السماح لها بذلك هو مزج عواطفها بالفكر، وفي صالون أمها أسعدت العلماء بسرعة فهمها وحضور بديهتها· وبمرور الوقت أصبحت وهي في السابعة عشرة نجمة الصالون·
والآن حان وقت البحث لها عن زوج موافق لعقليتها ومناسب لمكانة أسرتها الثرية· ورشح لها والداها وليم بت النجم الصاعد في سماء السياسة الإنجليزية لكن جيرمين Germaine رفضت الفكرة للسبب نفسه الذي جعل أمها ترفض جيبون وهو أن الشمس لا تكون مشرقة فترة كافية في إنجلترا كما أن الإنجليزيات جميلات لكنهن مقموعات (لا يسمعهن أحد) · وتقدم لها البارون إريك ماجنوس ستيل فون هولشتين Eric Magnus Stael Von Holstein الذي كان قد أصبح مفلسا، وأرجأ آل نيكر طلبه حتى أصبح هو السفير السويدي لدى فرنسا· فما أن حدث هذا حتى وافقت جيرمين على الزواج منه لأنها توقعت أن تكون وهي زوجة أكثر استقلالا منها وهي ابنة· وفي 14 يناير في سنة 1786 أصبحت هي البارونة دى ستيل هولشتين Baronne de Stael-Holstein وكانت في العشرين من عمرها، بينما كان البارون (زوجها) في السابعة والثلاثين من عمره·(ملحق/321)
وكان هناك تأكيد أنها: "لم تكن تعرف شيئا عن الاتصال الجنسي حتى زواجها" لكنها كانت سريعة التعلم في مختلف المجالات· وقد وصفتها الكونتيسة دي بوفلر de Boufflers التي كانت في مقدمة الحاضرين في حفل العرس بأنها: "معجبة بعقلها وذكائها بشكل زائد حتى إنه من الصعب أن يجعلها ذلك تتحقق من عيوبها· إنها متغطرسة وذات إرادة قوية بشكل يفوق الوصف، وواثقة من نفسها حتى إنني لم أر لها في هذا نظيراً ممن هم في مثل عمرها" لم تكن جميلة فبنيانها رجولي كعقلها لكن عينيها تتلألآن بالحيوية أما عند النقاش فليس لها كفء·
وقد ذهبت لتعيش في السفارة السويدية في شارع دوباك Rue du Bac وسرعان ما أسست لها صالونا هناك، لكن أيضا - تخلصاً من إزعاج أمها - اتخذت لصالونها مقرا في شقة فوق بنك أبيها· وطرد نيكر من وزارة المالية في سنة 1781 ولكنه استدعى مرة أخرى ليشغل المنصب نفسه في سنة 1788 لتحاشي تهديد الثورة· إنه الآن رغم ملايينه المثل الأعلى في باريس، وكانت جيرمين تؤيده بشدة بلسانها وقلمها، وكان لديها بعض الأسباب التي تجعلها فخورة به، وأصبحت السياسة والحب غير المشروع هما طعامها وشرابها (لا هم لها سواهما) ·
وبناء على نصيحة نيكر دعا لويس السادس عشر مجلس طبقات الأمة للانعقاد، وأمر الملك متجاوزا اعتراض نيكر أن تجتمع كل طبقة في مكان منفصل محافظا بذلك على الفصل بين الطبقات· وفي 12 يوليو سنة 1789 طرد الملك نيكر للمرة الثانية وأمره بمغادرة فرنسا فورا· فأسرع نيكر وزوجته بالتوجه إلى بروكسل وتبعتهما جيرمين وقد ملأها الغضب فنسي ستيل Stael مهام منصبه وصحبها وربط مصيره بمصيرها· وفي 14 يوليو اجتاح الباريسيون سجن الباستيل وهددوا العرش· فأرسل الملك الذي تملكه الرعب لاستدعاء نيكر إلى باريس ليشغل منصبه فعاد نيكر وصفق له الشعب، واندفعت جيرمين عائدة إلى باريس وراحت تحس كل يوم برياح الثورة الساخنة حتى مذابح سبتمبر·(ملحق/322)
وأيدت مجلس طبقات الأمة لكنها دافعت عن فكرة وجود مجلسين تشريعيين في ظل ملكية دستورية مؤكدة أفكار الحكومة النيابية والحريات المدنية وحماية الملكية· وكلما تقدمت الثورة في مسارها كانت هي تبذل قصارى جهدها للتخفيف من أفكار اليعاقبة Jacobins · وكانت تشجع الجيرونديين·
وعلى أية حال فقد بزّت اليعاقبة في فلسفتها الأخلاقية وكل من قابلتهم من الرجال تقريبا كان الواحد منهم يرى أنه من المعقول أن يكون زواجه قائما على اتحاد الثروات (ثروته وثروة زوجته) لا على اتحاد القلوب، إذ يمكن لمحظية أو محظيتين أن تتيح له الإثارة والرومانسية، لكن الواحد من هؤلاء الرجال لم يكن يظن أن هذا الامتياز يمكن أن يمتد ليشمل الزوجة لأن عدم إخلاصها قد يؤدي إلى إنجاب أولاد ليسوا من صلبه وبالتالي تضيع الثروة (تذهب لغير أبنائه أي تفسد عملية التوريث) ولم تكن جيرمين تشعر بهذه الحجة لأنها وهي الابنة الوحيدة يكاد يكون الميراث كله لها، لذا فقد انتهت إلى نتيجة مؤداها أن عليها أن تبحث عن الرومانسية متحررة من القيود كلها حتى في اختيار أسرّة أخرى (التعامل في غير مخدع الزوجية) ·
وكانت قد فقدت احترامها لزوجها سريعا، فقد كان مطيعا جدا بطريقة لا تجعله مثيرا، وكان غير كفء بطريقة تجعله غير قادر على تسديد ديونه، ولم تكن معترضة على اتخاذه من الآنسة كليرون Clairon محظية، لكنه كان ينفق دخله الحكومي على ممثلة مسرحية عمرها إحدى وسبعون سنة وكان يهمل واجباته كسفير وكان يقامر ويخسر وتراكمت عليه الديون مرارا، فكان يدفعها عنه زوجته وأبوها مكرهين، ومن هنا فقد شقت طريقها بين موكب العشاق لأنه كما قالت في "دلفين Delphine " " بين الله والحب لا أعترف بوسيط سوى ضميري" والضمير يمكن التحكم فيه وكان من بين أول من تعاون معها تاليران أسقف أوتون Autun المطرود الذي اتفق معها في مسألة مرونة النذر أو القسم ( Flexibility of vows) تم أتى بعده الكونت جاك أنطوان دى جوبير Jacques Antoine de Guibert الذي أصبح فيما بعد "المثل الأعلى الجميل" لجولي دى ليسبيناس Julie de Lespinasse لكنه على أية حال مات في سنة 1790 وهو في السابعة والأربعين·(ملحق/323)
وقبل موته بعام كون علاقة أعمق وأكثر استمرارا مع لويس دي ناربون لارا Louis de Narbonne Lara، وكان ابنا غير شرعي، وكان لديه هو نفسه عندما بلغ الثالثة والثلاثين من عمره عددا من الأبناء غير الشرعيين (أولاد الزنا) لكنه كان وسيما بشكل ملحوظ، ويتحلى بدماثة وفضائل قلما يتحلى بها شاب وضيع الأصل (ليس له شجرة نسب) · وكان بحكم ميراثه الاجتماعي يقف إلى جانب الأرستقراطية ضد البورجوازية (محدثي النعمة) لكن جيرمين جذبته إلى أفكارها وجعلته من أنصار الملكية الدستورية التي يمكن في ظلالها للطبقة التي تمتلك أن تشارك النبلاء والملك في الحكم·وإذا كان لنا أن نصدقها فإن ناربون:
"غير قدره من أجلي، وتخلى عن ارتباطاته ووقف حياته لي· باختصار··· لقد أقنعني أنه سيعتبر نفسه سعيدا بامتلاكه قلبي، وأنه إذا لم يجد لذلك سبيلا فقد لا يستطيع البقاء على قيد الحياة" ·
وفي 4 سبتمبر سنة 1790 استقال نيكر، لعدم رضا النبلاء المحيطين بالملك عن سياسته، واتجه هو وزوجته ليعيشا حياة هادئة في قصره في كوبت Coppet، ولحقت بهما جيرمين في أكتوبر لكنها سرعان ما سئمت الهدوء في سويسرا، وأسرعت عائدة لما أسمته - بالمقارنة - باسم شارع دو باك du Bac اللذيذ, فهناك كان صالونها تتردد فيه أصوات لافاييت وكوندورسيه وبريسو Brissot وبارنيف Barnave وتاليران وناربون، وصوتها· ولم تكن راضية عن اكتفائها بالمناقشات الألمعية، فقد كانت تتطلع للقيام بدور سياسي· وأطلقت العنان لأحلامها بتحويل فرنسا من الكاثوليكية إلى البروتستانتية وكانت تأمل من خلال عش النبلاء الذي بنته أن تنهي الثورة بملكية دستورية تحقق فرنسا في ظلها السلام· وبمساعدة لافاييت Lafayette وبارنيف ضمنت تعيين ناربون وزيرا للحرب (6 ديسمبر 1791) · وقد أيدت ماري أنطوانيت هذا التعيين مكرهة، فقد علقت قائلة:
"يا للمجد الذي حازته مدام دي ستيل" يا لسعادتها أن يكون الجيش كله تحت تصرفها!! " ·(ملحق/324)
لقد اشتط ناربون Narbonne كثيرا، ففي 24 فبرا ير قدم للويس السادس عشر مذكرة يشير عليه فيها أن يولي ظهره للأرستقراطية، وأن يعطي ثقته ودعمه لبورجوازية الملاك التي تأخذ على عاتقها المحافظة على القانون والنظام والملكية المقيدة، وقد اعترض بقية الوزراء غاضبين، ورضَخَ لويس لمعارضتهم وطرد ناربون، فسقط بيت جيرمين غير الراسخ أو غير القائم على أساس، وقامت مدام رولان بوضع الملح على جروح منافستها بأن عملت من خلال بريسو على تعيين زوجها (زوج مدام رولان) وزيرا للداخلية·
لقد عاشت جيرمين في باريس خلال معظم عام 1792، هذا العام المتسم بالاضطراب، وفي 20 يونيو سنة 1792 شاهدت اجتياح الجموع لقصر التوليري، ورغم أنها رأت المشهد عبر نهر السين إلا أن طريقة الجماهير غير المتحضرة سببت لها الرعب·
"لقد كانت صيحاتهم المرعبة وتهديداتهم المصحوبة بالقسم وإيماءاتهم وأسلحتهم الغدارة القاتلة، كل ذلك كان يشكل مشهدا مرعبا يمكن أن يدمر وإلى الأبد الاحترام الذي يجب أن يتطلع إليه الجنس البشري" ·
لكن هؤلاء الجورنى journee ( كما اعتاد الفرنسيون تسميتهم بعد ذلك) أصبحوا هادئين بعد أن استرضاهم الملك بوضع (كاب) الثورة الأحمر فوق رأسه· وعلى أية حال ففي 10 أغسطس شاهدت من مكمنها الآمن استيلاء الغوغاء على التوليري وإراقة الدماء في أثناء عملية الاستيلاء وكيف أن الغوغاء لم يهدءوا حتى فر الملك والملكة ليكونا تحت حماية الجمعية التشريعية· وبدأ الثوار في القبض على كل أرستقراطي وقعت عيونهم عليه، واستغلت جرمين وضعها الآمن في حماية أصدقائها من الأرستقراطيين، فخبأت ناربون في موضع منعزل في السفارة السويدية، وصمدت بعناد وأخيرا اتفقت مع جماعة من خفر السواحل، وفي 20 أغسطس كان ناربون آمنا في إنجلترا·(ملحق/325)
وكان بعد ذلك ما هو أسوأ، ذلك أنه في 2 سبتمبر قاد لابسو السراويل "البناطيل" الطويلة (الذين لا يرتدون سراويل قصيرة أو السانس كولوت) النبلاء ومؤيديهم وقتلوهم ولم تنج مدام دى ستيل من هذا المصير إلا بشق الأنفس· فبعد أن ساعدت كثيرين من أصدقائها على الخروج من باريس بل ومن فرنسا كلها بدأت هي نفسها في يوم 2 سبتمبر الساطع هذا رحلتها في عربة من عربات الدولة تجرها ستة خيول ومعها خدم ذوو ثياب مميزة واتجهت إلى بوابات المدينة، ووضعت بتروٍ شارة السفراء وعلاماتهم على أمل أن يستقبلها موفدون دبلوماسيون، وما كادت العربة تنطلق حتى أوقفها "سرب من النسوة العجائز، وكأنهن خرجن من الجحيم" وأمرت جماعة من العمال الحوذيين بالتوجه إلى مركز الحي (القسم) وهناك أمر الحراس المجموعة بتوجيههم العربة ومن فيها إلى دار البلدية·
"وهناك خرجت من العربة وأحاط بي غوغاء مسلحون وشققت طريقي بين أسنة الرماح، وبينما كنت أصعد السلم الذي كان أيضا غاصا بحاملي الرماح وجه أحدهم رمحا إلى قلبي· لكن رجل الشرطة المصاحب لي أبعده عني بسيفه· لو أن قدمي زلت في هذه اللحظة لكان في ذلك نهايتي" ·
وفي مقر الكومون وجدت صديقا عمل على إطلاق سراحها ورافقها إلى السفارة وسلمها جواز سفر مكنها في صباح اليوم التالي من مغادرة باريس بأمان إلى كوبت · لقد كان هذا هو اليوم الذي رفع فيه رأس الأميرة ديلامبل de Lamballe على سن رمح وطيف به لتراه الملكة السجينة·
ووصلت جيرمين إلى أحضان والديها في 7 سبتمبر وعندما سمعوا بثورة في جنيف اتجهوا شرقا إلى رول Rolle بالقرب من لوزان Lausanne · وفي 20 نوفمبر سنة 1792 أنجبت جيرمين ابنها ألبرت وكان سنها وقتئذ ستة وعشرين عاما والذي كانت تحمله معها خلال مغامراتها مع الموت· وربما تكون قد أنجبته من خلال علاقتها مع ناربون لكن زوجها (دي ستيل) أقنع بأنه أبوه، فاقتنع أو تظاهر بالاقتناع· وفي رول وبعد ذلك في كوبت آوت إليها عددا من الرجال والنساء المشاهير وغير المشاهير الهاربين من فرنسا قبل حكم الإرهاب في طريقهم إلى بلاد أخرى· "ولم تعبأ هي ولا أبوها بأن هذا قد يسبب المتاعب لهما" ·(ملحق/326)
وعندما علمت أن ناربون عرض أن يغادر ملجأه في إنجلترا ويعود ليدافع عن لويس السادس عشر، لم تستطع تحمل فكرة أن يعرض نفسه للخطر، فوجدت أنه يجب عليها التوجه إلى إنجلترا لإثنائه عن عزمه، فاتخذت طريقها عبر فرنسا وعبرت القناة والتقت بناربون في صالة جونيبر Juniper Hall في ميكلهام Mickelham بالقرب من لندن، وفي 21 يناير سنة 1793 أي اليوم نفسه الذي قدم فيه الملك لويس السادس عشر للمقصلة· وكان عشيقها السابق مستثارا جدا بالأخبار التي وصلته، فلم يرحب بها الترحيب الكافي· لقد غلب عليه أصله الأرستقراطي، وضاع حبه لخليلته وسط أحزانه لمقتل الملك، وراح تاليران المقيم بالقرب من لندن يزورهما تباعا للتخفيف عنهما بفكاهاته·
وانضمت إليهما فاني بيرني Fanny Burney وذكرت في تقريرها أنها: "لم تكن قد سمعت أبداً مثل هذه المناقشة قبل ذلك· لقد تجمعت أمور كثيرة لتفتنها: بلاغة تتسم بالحيوية وملاحظات حادة كأشد ما تكون الحدة، وعقل متألق كأشد ما يكون التألق، ولطف وكياسة وعاطفة جياشة، كأشد ما يكون ذلك كله"·
ورفضت فاني أن تصدق الإشاعات القائلة بأن ناربون وجيرمين يعيشان في الحرام (يمارسان الزنا معا) · لقد كتبت إلى أبيها المؤرخ الموسيقى الشهير:
"لقد كانت هذه المشاركة الحميمة··· جديدة تماما لي، وإنني أعتقد اعتقادا راسخا أن ما يقال عنها محض افتراء· إنها تحبه حبا حنونا، لكن بشكل واضح جدا وبسيط جدا·· خال تماما من كل غنج أو عبث· إنها متسامحة جدا، وسهلة جدا، وهو وسيم جدا، ولا بد أن موهبتها العقلية هي مصدر جاذبيتها له، ولا شيء آخر··· أظن أنك لا تستطيع أن تقضي يوما معهما من غير أن تدرك أن تجاوبهما الفكري من النوع الخالص رغم سموه وهو أي هذا التجاوب عماد صداقتهما" ·(ملحق/327)
لكن عندما تأكدت فاني أنهما يمارسان الرذيلة تخلت آسفة عن زيارتهما في صالة جونيبر· بل إن المهاجرين (الذين تركوا فرنسا بسبب أحداث الثورة) قد ابتعدوا عن هذه المجموعة الصغيرة باعتبار أنهم دافعوا عن الثورة مدة طويلة· وفي 25 مايو سنة 1793 عبرت جيرمين إلى أوستند Ostend واتخذت طريقها بأمن إلى بيرن Bern باعتبارها لا تزال زوجة للسفير السويدي، وفي بيرن التقت بزوجها الموسمي (الذي لا يلقاها إلا بين الحين والحين أو بتعبير آخر زوج المناسبات) وذهبت معه إلى كوبت · وهناك نشرت كتابها: "تأملات في محاكمة الملكة بقلم امرأة" دعت فيه بحرارة للنظر إلى ماري أنطوانيت بعين الرحمة، لكن المقصلة سرعان ما قطعت رقبة الملكة في 16 أكتوبر سنة 1793·
وماتت مدام نيكر في 15 مايو سنة 1794 وحزن عليها زوجها حزنا عميقا لا ينتج إلا عن طول العشرة, أما جيرمين فلم تتأثر كثيرا، وانتقلت إلى قصر ميزيرى Mezerey لتكون صالونا جديدا ولتنسى كل شيء آخر في أحضان كونت ريبنج Ribbing، ووصل ناربون متأخرا فوجد أحضانها مشغولة بغيره فعاد إلى خليلته السابقة، وأحيانا في أثناء سقوط سنة 1794 كان بنيامين كونستانت (قسطنطين) Benjamin Constant يلتقى بها في نيون Nyon، ليندمجا معا في علاقة طويلة قوامها الفكر والعشق، وكان بنيامين هذا سويديا في نحو السابعة والعشرين من عمره، طويلا بوجهه نمش وكان أحمر الشعر·
وفي هذه الأثناء سقط روبيسبير ووصل المعتدلون إلى السلطة فآن لها أن تعود إلى باريس فعادت في مايو سنة 1795 وتصالحت مع زوجها وأحيت صالونها في السفارة النمساوية ودعت إليه الزعماء الجدد للمؤتمر الوطني المحتضر: بارا، وتالييه Tallien وبويسى دنجلا Boissy d'Anglas وأسود الأدب مثل ماري جوزيف شينييه Marie Joseph de Chenier · واقتحمت مجال السياسة بشوق شديد حتى إن أحد أعضاء المؤتمر الوطني اتهمها بأنها تدبر مؤامرة ملكية واتهم زوجها بأنه ديوث (يقبل الزنا في أهله) ·(ملحق/328)
وأصدرت لجنة الأمن العام الجديدة قرارا بإبعادها عن فرنسا، وفي أول يناير سنة 1796 عادت مرة أخرى إلى كوبت، وهناك بين قسطنطين وكتبها كتبت دراسة كئيبة بعنوان: " De l'influence des Passions" أي "أثر الهوى" استوحت فيه روسو وشعورها، وكانت فيه صدى لكتاب The Sorrows of Werther وقد امتدحت في كتابها هذا الانتحار، ورتب أصدقاؤها في باريس طلبات مفعمة حماسا وعاطفة لإعادة النظر في أمرها، فأعلمتها حكومة الإدارة أنه في مقدورها أن تعود إلى فرنسا على أن تكون في مكان يبعد عن العاصمة عشرين ميلا على الأقل، فعادت مع قسطنطين لتستقر في دير سابق في هيريفو Herivaux،
وفي ربيع سنة 1797 سمح لها بالانضمام لزوجها في باريس، وفي 8 يونيو أنجبت ابنتها ألبرتين Albertine لا يعرف أبوها على وجه اليقين· وخلال هذه التعقيدات استطاعت عن طريق باراـ Barras أن تتوسط لاستدعاء تاليران من منفاه وتعيينه (في 18 يوليو 1797) وزيرا للخارجية· وفي سنة 1798 فقد البارون دي ستيل منصبه كسفير، فمنح جيرمين انفصالا وديا (اتفق معها على الانفصال بشكل ودي) مقابل حصة ماليه، وعاد إلى منزله الذي يعرف الآن باسم قصر الكونكورد Concorde وظل به حتى وجدناه ميتا في سنة 1802·
وفي 6 ديسمبر سنة 1796 قابلت نابليون لأول مرة في استقبال أعده تاليران لاستقبال فاتح إيطاليا عند عودته لفرنسا· وتحدث إليها نابليون مادحا والدها في عبارات موجزة· ولأول مرة في حياتها لم تكن جاهزة للرد (للتجاوب في الحديث) · لقد قالت بعد ذلك: "لقد اعتراني الاضطراب إعجابا به ورهبة منه" وقد سألته سؤالا غبيا: "من هي أعظم امرأة بين الأحياء والأموات؟ " فأجابها إجابة ملتوية شيطانية: "إنها المرأة التي أنجبت أكبر عدد من الأبناء"(ملحق/329)
وبعد ذلك بأربعة أيام رأته مرة أخرى وأعضاء حكومة الإدارة يستقبلونه مصفقين في قصر لكسمبورج· لقد كانت مرتبكة إزاء شخصية نابليون التي جمع فيها مزاج من الكبرياء والتواضع، وهنا شعرت أن نابليون هو الرجل الذي يحمل معه قدر فرنسا· وظلت طويلاً تواقة لكسب ثقته والاشتراك معه في مشروعات كبيرة، ربما ليكون ذلك نصرا لها يضاف إلى انتصاراتها السابقة، وقد سعدت كثيرا كعاشقة تكتم عشقها في 10 نوفمبر سنة 1799 عندما أخبرها لوسين بونابرت Lucien Bonaparte أن نابليون خرج منتصرا في سان كلود St.- Cloud وحمل لقب القنصل الأول وهذا يعني عمليا أنه حاكم فرنسا· لقد شعرت عندئذ أن عصر الفوضى والتشوش والمثاليات الكاذبة قد أنتهي وأن عصرا جديدا للأبطال والعظمة قد بدأ·
9 - النتائج، وتأملات في الأحداث
أما وقد قصصنا قصة الثورة الفرنسية بحياد بقدر ما سمح بعدها عن زماننا· لقد بقي أن نواجه الأسئلة التي أثارها الفلاسفة: أكان للثورة مبرراتها المعقولة في أسباب قيامها وما تمخضت عنه؟ هل حققت مكاسب مهمة للشعب الفرنسي أو البشرية؟ أكان من الممكن الوصول إلى هذه لمكاسب بغير ما جرى من فوضى ومعاناه؟ أيمكن أن نخلص من أحداثها بنتائج يمكن تعميمها على الثورات عامة؟ أتلقي أضواء على طبيعة الإنسان؟ إننا نتحدث هنا - فقط عن الثورات السياسية أي التغيرات السريعة والعنيفة لتغيير الحكومات سواء تغيير الحكام أم تغيير السياسة أما التطور بلا عنف فسنطلق عليه "التحول" أو النمو والتقدم evolution، أما التغير السريع والعنيف أو التغيير غير الشرعي الذي يشمل الأشخاص بلا إحداث تغيير في شكل الحكومة فسنسميه انقلاباً Coup d'eltat، أما أي مقاومة علنية للسلطة القائمة فسنسميها عصيانا rebellion ·
إن أسباب الثورة الفرنسية باختصار هي:
(1) عصيان برلمانات الدوائر (المحافظات) مما أدى إلى إضعاف سلطة الملك وإضعاف الولاء لنبلاء (الأرواب) of the robe ·
(2) طموح فيليب دأورليان Philippe d'Orleans للوصول إلى العرش ليحل محل لويس السادس عشر·(ملحق/330)
(3) عصيان ا لبورجوازية وتمردها على تخلي الدولة عن مسئوليتها المالية وتدخل الدولة في الاقتصاد، وعدم مشاركة الكنيسة بثرواتها لمواجهة الإفلاس المالي للدولة، واعتراض البورجوازية أيضا على امتيازات الأرستقراطية في أموال الدولة، وفي الحياة الاجتماعية·
(4) عصيان الفلاحين وتمر دهم بسبب العوائد والمراسيم الإقطاعية والضرائب والعشور الكنسية church tithes ·
(5) عصيان جماهير باريس ضد الظلم الطبقي والمعوقات القانونية والعجز الاقتصادي والأسعار المرتفعة والتهديد العسكري· وقد مول البورجوازيون وفيليب دأورليان الدعاية التي بثتها الصحف وأججها الخطباء، وتوجيه الجماهير، وإعادة تنظيم الطبقة الثالثة في جمعية وطنية تمكنت من فرض دستور ثوري· وأدت شجاعة العوام وصلابتهم وعنفهم وما بذلوه من دماء إلى إرهاب الملك وإرغامه على قبول الجمعية والدستور كما أرغموا الأرستقراطية على التخلي عن عوائدها الإقطاعية وأرغموا الكنيسة على التخلي عن العشور، وربما وجب أن نضيف كعامل ثانوي إنسانية الملك ورغبته في تحاشي إراقة الدماء·
أما نتائج الثورة الفرنسية فعديدة ومعقدة ومتنوعة ودائمة تماما حتى إنها تجعل من المحتم تناولها عند كتابة تاريخ القرن التاسع عشر·
9/ 1 - النتائج السياسية(ملحق/331)
وهي نتائج واضحة: انتهاء النظام الإقطاعي، ليصبح الفلاحون أحراراً، ويصبح جانب منهم ملاكا· وحلت المحاكم المدنية محل المحاكم الإقطاعية وحلت ديمقراطية الملاك محدودي الملكية محل الملكية المطلقة، وحل بورجوازيو الأعمال , محل الأرستقراطية كطبقة ذات سيادة تتولى أمور الإدارة· ومع الديمقراطية أتت المساواة أمام القانون وإتاحة الفرص للجميع على سواء وحرية إبداء الرأي وحرية العبادة وحرية الصحافة (على الأقل تم الإعلان عن هذا كأمل) لكن سرعان ما قلت مقادير الحرية المتاحة بسبب التباين الطبيعي بين الناس في القدرات، والتباين بين بيئاتهم في البيوت والمدارس والثروات· ويلاحظ أن هذا التحرر السياسي والاقتصادي والتشريعي قد امتد إلى شمال إيطاليا وبلاد الراين وبلجيكا وهولندا بفضل جيوش الثورة، ففي هذه المناطق أيضا أزيح النظام الإقطاعي ولم يعد حتى بعد سقوط نابليون· ومن هنا كان الفاتحون محررين وإن لوثوا عطاياهم بما مارسوه من ابتزاز في أثناء حكم هذه المناطق·
وأكملت الثورة توحيد ولايات (محافظات) فرنسا نصف الموحدة وجعلوا منها دولة فرنسية ذات حكومة مركزية وجيش وطني وقانون يسري في جميع الولايات جميعها· وكانت وحدة هذه المحافظات في كيان واحد ناقصة قبل الثورة بسبب البارونات الإقطاعيين وضرائب الانتقال من محافظة إلى أخرى واختلاف أصول (أعراق) سكانها واختلاف تقاليدها وعملتها وقوانينها· لكن هذا التغيير فيما يشير توكفيل Tocqueville كان يسير سيرا حثيثا في ظل البوربون، فكان من المحتمل انجاز وحدة فرنسا بغير الثورة لأن التجارة على مستوى فرنسا كلها كانت بشكل متزايد تتجاهل الحدود بين المحافظات، تماما كما فرض الاقتصاد الوطني في الولايات المتحدة تقليص حقوق (الولايات) بإيجاد حكومة فدرالية كان لا بد أن تكون قوية·(ملحق/332)
وعلى النحو نفسه فإن تحرير الفلاح وصعود البورجوازية للسلطة السياسية والهيمنة الاقتصادية، كان من الممكن أن يحدث بغير الثورة، وإن كان حدوثه في هذه الحال سيكون بشكل أبطأ· وكانت الثورة في ظل الجمعية الوطنية (1789 - 1791) معقولة ولها ما يبرر تصرفاتها فيما وصلت إليه من نتائج دائمة، لكن الثورة في ظل حكومات الفترة من 1792 إلى 1795 كانت تمثل فترة بربرية تمثل فيها القتل والإرهاب والانهيار الخلقي بطريقة لا يمكن تبريرها بشكل كاف بوجود مؤامرات خارجية وهجوم خارجي· وفي سنة 1830 عندما أنهت ثورة أخرى الأمور بتأسيس ملكية دستورية، كانت النتيجة هي تقريبا مثل النتيجة التي تم التوصل إليها في سنة 1791·
وما حققته الثورة من مكسب بتوحيد فرنسا جرت موازنته بتطور "الوطنية nationalism" لتصبح مصدرا جديدا للعداوة بين الجماعات، فالقرن الثامن عشر كان ينحو عند الطبقات المتعلمة إلى التحرر من الأحقاد الوطنية بإضعاف الفروق بين الأوطان في الثقافة واللباس واللغة، لقد كانت الجيوش نفسها في غالبها تنحو نحو العالمية جنوداً وقادة· وقد غيرت الثورة هذا الاتجاه باتخاذها التجنيد الإلزامي نظاما، وأصبح الولاء للأمة بدلا من الولاء للأسرات المالكة هو الأساس وهو دافع الحرب وينبوعه· ونجح التآخي (الرفقة) بين الجنرالات في أن يحل محل ا لتكتل الأرستقراطي بين الضباط، وطغت وطنية الجنود المفعمة حماسا على برود موظفي الحكم القديم وممارستهم أعمالهم بلا روح· وعندما طور الجيش الفرنسي نظامه وازداد كبرياؤه أصبح القوة الوحيدة المنظمة في دولة مشوشة، وأصبح الملجأ الوحيد من بلبلة حكومات لا تتسم بالكفاءة وجماهير متمردة·(ملحق/333)
لا شك أن الثورة قد أتاحت الحريات بشكل أفضل في فرنسا وما وراءها، ومدتها لفترة إلى المستعمرات الفرنسية، بل وحررت عبيد هذه المستعمرات· لكن الحرية الفردية كانت تنطوي على مثالب· لقد ظلت هذه الحرية الفردية تزداد حتى تجاوزت الحدود الضرورية لنظام اجتماعي والضرورية لبقاء المجتمع على قيد الحياة، فالحرية التي لا حدود لها هي الفوضى كاملة، وأكثر من هذا فإن القدرات المطلوبة لإشعال ثورة تختلف تماما عن القدرات المطلوبة لبناء نظام جديد، فإشعال ثورة يتطلب - ليتم بسرعة - سخطا وعاطفة وانفعالا وشجاعة ولامبالاة بالقانون، وبناء نظام جديد يتطلب صبرا وعقلا وتقديرا للأمور بشكل عملي واحتراما للقانون· وما دامت القوانين الجديدة لا يدعمها تراث وعادات، فإنها عادة ما تفرض بالقوة· وأصبح دعاة الحرية هم القابضين على السلطة أو الذين أفسحوا المجال للقابضين على السلطة ولم يعودوا هم زعماء الغوغاء المدمرين وإنما قادة البناء المنظمين في ظل دولة عسكرية تحميهم وتشرف عليهم· ولحسن الحظ، فإن الثورة استطاعت أن تتخلص من الدكتاتورية أو تقصر أمدها، فحافظت على مكاسبها من الحرية للأجيال التالية·
9/ 2 - النتائج الاقتصادية
وتتمثل في ملكية الفلاحين وفي الرأسمالية وقد نتج عن كل منهما آثار لا نهاية لها، فبعد أن أصبح الفلاحون ملاكا صاروا قوة محافظة شديدة، أبطلوا الاتجاه الاشتراكي للبرولتياريا الذين لا يملكون، وعملوا - أي الفلاحون - كمرساة أمان لاستقرار الدولة التي كانت تعاني من صدمات ما بعد الثورة، وظل دورهم هذا قائما عبر قرن من الزمان· وعلى هذا فقد تطورت الرأسمالية التي تلقى الحماية في الريف كما تطورت في المدن، وحلت النقود السائلة (السيولة النقدية) محل الثروة العقارية كقوة اقتصادية وسياسية، وتخلص الاستثمار الحر من السيطرة الحكومية·(ملحق/334)
وحقق الفيزيوقراطيين Physiocrats نصرا في معركتهم، أي أن يتركوا لحركة السوق تحديد الأسعار والأجور والإنتاج، فيكون "النجاح" أو "الفشل" محكوما بالمنافسة في "السوق" فيجب ألا تعوق القوانين حركة السوق· وتحركت البضائع من محافظة إلى محافظة بلا إزعاج أو تعويق بعد إلغاء ضرائب الانتقال الداخلية (من محافظة إلى أخرى) ونمت الثروة الصناعية وزاد تركزها عند القمة·
وعملت الثورة أو تشريعات الثورة بشكل متكرر على إعادة توزيع الثروة التي تركزت في جانب دون الجوانب الأخرى وأدى تفاوت القدرات أو الامتيازات إلى تركزها مرة أخرى (في جانب أو طبقة) · لقد حتم تفاوت قدرات الأفراد حصول كل منهم على ما يكافئ جهده، فكان من الضروري أن تتفاوت حظوظهم في الحياة· فكل تفوق "طبيعي" يؤدي إلى مزايا في البيئة أو في الفرص· وحاولت الثورة أن تقلل من هذا التفاوت ا لمتكلف (المصطنع)، لكنه سرعان ما عاد مرة أخرى وبشكل أسرع في ظل الحرية، فالحرية والمساواة لا يجتمعان
(الحرية والمساواة عدوان لا يلتقيان Liberty and equality are enemies)
فالناس تسعد بمزيد من الحرية لا لشيء إلا ليحصدوا نتائج تفوقهم"الطبيعي" و"البيئي" ومن هنا فإن التفاوت (عدم المساواة) يزداد كثيرا في ظل الحكومات التي تؤيد الاقتصاد الحر وتدعم حقوق الملكية·
فالمساواة مبدأ مزعزع غير مستقر (توازنه غير ثابت) أي أن المساواة (بفرض وجودها) سرعان ما تنتهي إن حدث تغير في المواريث أو الصحة أو الذكاء أو الشخصية· وقد وجدت معظم الثورات أنه لا سبيل لمواجهة التفاوت "عدم المساواة" إلا بالحد من الحرية، كما في نظم الحكم الشمولية· وفي فرنسا الديمقراطية كان التفاوت (عدم المساواة) مطلق السراح ليزداد، أما المساواة فقد ذبحتها الجيلوتين guillotine ( المقصلة) وفي الوقت المحدد أصبحت اتفاقا على ارتداء السراويل (يقصد المساواة من الناحية الشكلية كون الناس جميعا في فرنسا يرتدون زيا واحدا - السراويل - أو أن من حقهم ذلك) ·
9/ 3 - النتائج الثقافية(ملحق/335)
لا تزال النتائج الثقافية للثورة الفرنسية تؤثر في حياتنا· لقد أعلنت الثورة حرية الحديث والصحافة والاجتماع، حقيقة لقد جرى تقليص هذه الحريات بشدة، بل وانتهت على يد نابليون تحت ضغط الحرب، لكن المبادئ نفسها ظلت باقية وخاضت معارك متتالية لإثبات وجودها خلال القرن التاسع عشر لتصبح قابلة للتطبيق (أو إدعاء تطبيقها) في ديمقراطيات القرن العشرين· وخططت الثورة لقيام نظام وطني للمدارس ونفذت ذلك بالفعل·
وشجعت العلم ليكون بديلا للاهوت على مستوى العالم كله· وفي سنة 1791 عينت الحكومة الثورية لجنة جعلت على رأسها لاجرانج Lagrange لتضع لفرنسا الجديدة الموحدة نظاما جديدا للموازين والمقاييس فتم اعتماد النظام المتري الذي أوصت به رسميا في سنة 1792، وصدر به قانون في سنة 1799· وكان على هذا النظام المتري أن يناضل ليشق طريقه في المحافظات الفرنسية إذ لم يكن قد حقق النصر الكامل حتى سنة 1840 وقد ألغي في بريطانيا العظمى الآن ليحل محله النظام الاثني عشري duodecimal system ·
وبدأت الثورة بفصل الكنيسة عن الدولة لكن هذا ثبت أنه أمر صعب في دولة كفرنسا تهيمن عليها الكاثوليكية وتعتمد تقليديا على الكنيسة في تهذيب شعبها· ولم يكن هذا الفصل كاملا حتى سنة 1905 وعاد ليضعف مرة أخرى هذه الأيام تحت ضغط أسطورة مؤازرة الحياة a life-sustaining myth · وفي محاولتها إحداث طلاق بين الدولة والكنيسة ناضلت الثورة لنشر "الأخلاق الطبيعية"· ووجدنا أن هذه المحاولة لم تنجح· فمن ناحية نجد أن تاريخ فرنسا في القرن التاسع عشر كان يمثل محاولات متشنجة دورية طال أمدها للخروج من كهف الانهيار الأخلاقي الذي سببته الثورة· وها هو القرن العشرون على مشارف النهاية من غير أن تجد البشرية حتى الآن بديلا طبيعيا للدين في حث هذا الحيوان الناطق (الإنسان) على الالتزام بمبادئ الأخلاق·(ملحق/336)
وتركت لنا الثورة بعض الدروس في الفلسفة السياسية لقد بدأت بالأقلية التي راح عددها يزداد إلى التحقق من أن الإنسان هو الإنسان بصرف النظر عن طبقته، فهؤلاء الثوار الذين وصلوا إلى السلطة راحوا يتصرفون كما تصرف من سبقوهم بل وفي بعض الحالات راحوا يتصرفون بشكل أشد فظاعة· قارن تصرفات روبيسبير بتصرفات لويس السادس عشر· لقد أصبح الناس نزاعين للشك في دعاوى الثورة فما عادوا يتوقعون شرطة لا يعتريها الفساد وسيناتورات يراعون الفضائل، وعلموا أن الثورة لا يمكن أن تحقق أكثر مما يمكن أن يحققه التحول والتطور التدريجي، وتسمح به الطبيعة البشرية، وما كانت هذه الفكرة لترسخ في الأذهان لولا ما عاينه الناس في نفوسهم من جذور البربرية الراسخة التي تمتد لتعمل خلاف ضوابط الحضارة·
ورغم نواقص الثورة وعيوبها - وربما بسبب بتجاوزاتها وإسفافها - فقد تركت تأثيرا قويا في آداب فرنسا وفنونها وتطلعاتها وانفعالاتها وذاكرتها· بل وتركت التأثيرات نفسها في أمم أخرى من روسيا إلى البرازيل· فحتى سنة 1848 كان كبار السن يحكون لأبنائهم عن أبطال هذه الفترة المثيرة، وما سادها من إرهاب اتسم بالطيش والقسوة بشكل يناقض القيم المتوارثة كلها· أكان عجباً أن يتحرك الخيال وتجيش العواطف على نحو قلما كان يحدث قبل قيام هذه الثورة؟ أكان عجباً أن يدفع التفكير في قيام دول يعيش فيها الناس على نحو أسعد، الرجال والنساء لتكرار محاولات تحقيق الأحلام النبيلة لهذه الحقبة التاريخية؟ إن قصص الوحشية والفظاعة التي سادت في أثناء الثورة الفرنسية دفعت الأرواح إلى التشاؤم والتخلي عن كل عقيدة·(ملحق/337)
لقد ظهر شوبنهاورين Schopenhauers وليوباردز Leopardis وبايرونين Byrons وموسيت (موسى) Mussets، وشوبرت a Schubert وكيتس a Keats في الجيل الثاني· لكن كانت هناك أيضا أرواح يملؤها الأمل والانتعاش: هوجو، وبلزاك، وجوتير Gautier وديلاكروا Delacroix وبيرليوز Berlioz وبلاك Blake وشيلي Shelley وشيلر Schiller وبيتهوفن الذين سيشاركون بشكل مكثف في الصحوة الرومانسية للمشاعر والخيال والرغبة في التخلص من التقاليد والمحظورات والعوائق· وكان على فرنسا طوال ستة وعشرين عاما أن تظل مندهشة حائرة - تحت تأثير الثورة ونابليون - أعظم قصة على الإطلاق! إنها الأكثر رومانسية من بين الرومانسيات كلها، ومنذ حدوثها أصبح نصف العالم مستثاراً خوفاً أو تطلعا وانبهاراً بهذا القرن العامر بالأحداث الذي لمست فيه أمة عانت الكثير مثل هذه الذرى وتلك الأغوار بطريقة قلما عرفها التاريخ قبل ذلك، ولم يعرف لها مثيلا منذ حدوثها (حتى الآن) ·(ملحق/338)
الكتاب الثاني
تاريخ الحضارة الأوروبية
صعود نجم نابليون: من 1799 إلى 1811 م
NAPOLEON ASCENDANT
مقدمة الترجمة العربية
في هذا الكتاب الثاني من المجلد الحادي عشر لموسوعة قصّة الحضارة يُواصل المؤلفان حديثهما عن التطوّرات التي حدثت في أعقاب الثورة الفرنسيّة، وكان بعض هذه التطورات استمراراً لأفكار الثورة، وكان بعضُها الآخر تصحيحاً لها· وهذا الكتاب كما هو واضح من عنوانه يتناول السياسة والاقتصاد والدين والفن والأدب والعلم ومختلف مظاهر الحياة في سياق واحد يُفَسّر بعضُه بعضَه الآخر فتأتي النظرةُ شاملةً عميقة، بالإضافة إلى أنّ هذا المنهج يُوضح تزاوج الحضارات ولقاء الأفكار·
نفهم من هذا الكتاب أنّ التقسيم النظري للمذاهب السياسية والاقتصادية والاجتماعية لا وُجود له بشكل واضح على أرض الواقع فثمة تقسيم نظري (وهذا مجرد مثال) تبين فصول الكتاب أنه مجرّد تقسيم لا يخرج عن رؤوس من سمّاهم نابليون بالأيديولوجيين أي المنظّرين، وكانت الكلمة - حين استخدمها - تنطوي على شيء من السخرية، ونعني به تقسيم النُّظم إلى علمانية ودينية، فليس هناك نظام واحد يستطيع حتّى لوْ أراد أن يُغفِل عقائد الشعب حتّى لو كانت عقائد خرافيّة·
من المؤكَّد أنّ الكنيسة الكاثوليكية في روما لم تكن تعتبر نابليون مسيحياً أو على الأقل لم تكن تعتبره كذلك من وجهة نظرها، ولم يحضر الرجل للصلاة في كنيسة، ولم يحضر تسبيحه شكر وفقاً للطقس المسيحي، ولم يؤمن في يوم من الأيام بفكرة التثليث في المسيحية، وتزوّج ماري لويز النمساوية في الوقت الذي لم يكن البابا قد أقرّ طلاقة من جوريفين (أى أنه جمع بين زوجتين) ولم يؤمن يوماً بعصمة البابا (وهو مُعتقد في صلب العقيدة الكاثوليكية) بل لقد أهانه بعد ذلك كما نقرأ في فصول هذا الكتاب وسَجَنه وجرّده من ممتلكاته··· نابليون إذن من وجهة نظر معاصريه الأوروبيين كافر أو مُلحد أو عَلْماني بل إن السلطات الكنسيّة لم تكن مُقتنعة أن اعتناقه للإسلام في مصر كان مجرّد خدعة فوصفته بالمرتد عن المسيحية·(ملحق/339)
ومع كل هذه العلمانيّة إن صحّ التعبير، وجدنا نابليون نفسه عندما أراد أن يضبط ما انْفلت في فرنسا: ضياع، وتمرّد وتفسّخ في الأسرة وفي الحياة العامة، وافتقاد لجو الرخاء الاقتصادي والاستثمار لم يجد إلاّ الدين وسيلة لذلك، وعندما أراد أنْ يُتوج نفسه ملكاً كان لابُد أن يتعزَّز بالدين أمام غالبية شعبه، رغم أنّ هذا أثار سخرية أهل باريس السّاخرين بطبعهم من الكنيسة، فاسترضى البابا ونَفَحَةُ جُعْلا ليتوّجه ويُباركه (أى يمسحه بالزيت)، ومع هذا كانت هناك إشارات تَتُمُّ عن حقيقة ما بداخله ففي حفل تتوجيه وَضَع هو نفسُه التاج على رأسه بعد أن تناوله من فوق منضدة مُعدَّة لذلك ولم يسمح للبابا بأن يضع التاج فوق رأسه (رأس نابليون)، والمعنى واضح، وشجع نابليون نشر كتاب عن (عبقرية المسيحية)، ومؤلفُ الكتاب نفسه اعترف في آخر حياته أنه لم يقصد إلاّ إيجاد وسيلة (هي هنا المسيحية) لإسكات الفقراء ومنع الثورات· ليست هناك إذن علمانيّة خالصة ولا يمكن أن تكون·
فإذا ما انتقلنا إلى النّظم الدينية وجدنا البابا يناور ويتحالف ويطالب بممتلكات دنيوية (الولايات البابوية) ووجدنا الأساقفة يطالبون بممتلكات الكنيسة، بل ووجدنا مثالاً طريفاً قد يكون من المفيد ذكره في هذا السياق، فعندما وصل نابليون إلى بولندا المقسّمة وقتها بين روسيا وبروسيا والنمسا راقت له امرأة جميلة من نسائها النبيلات، فاستقْصت عليه ورفضت ما أراد، فترجّاها نبلاءُ بولندا بمن فيهم رجال الدين المسيحي أن تُضحّي بنفسها وترضَخَ له وتُرضيه حتى يُخلِّص بولندا من أعدائها الذين اقتسموها وقسّموها وليعيد بولندا موحّدة كما كانت، فتكون (أي هذه المرأة) بذلك قدِّيسة مثل أستير وساقوا لها آيات من الكتاب المقدس (العهد القديم - سفر أستير)(ملحق/340)
فمن هي أستير هذه؟ إنها فتاة يهودية جميلة تراءت للإمبراطور أَحَشويروش الذي ملكَ من الهند إلى كوش فتزوّجها بعد أن أوصاها قريبها مردخاي ألاّ تذكُر للإمبراطور عن شعبها اليهودي، وسلبت أستير لُب الملك واستطاعت أن تُثير حفيظته ضد وزيره هامان إِذْ دبّرت إجلاس الوزير على سريرها فهاج الإمبراطور وقال أيكبسُ في بيتي وأعدمه، وكان هامان عدوا لليهود·· المهم أن أستير استطاعت بفضل حب الإمبراطور لها حماية شعبها اليهودي ومكّنته من قتل مئات من أهل البلاد·
نعود إلى حكاية نابليون، لنجد أنّ هذه المرأة البولندية بعد أن اقتنعت بهذا الشاهد الديني أتاحت نفسها لنابليون فَذَاق عَسِيلتها وآَمْعن، لكنه والحقّ يُقال كان أذكى كثيراً من الإمبراطور أَحَشويرش فلا هو وحّد بولندا لأن هذا كان سيكلفه الكثير، ولا أخرج منها روسيا لأن هذا كان سيُفقده حليفاً محتملاً وهذا ما تحقق لكن إلى حين·
ولعلّ الفصل الرابع عشر (عن العلم والفلسفة في عصر نابليون) يكون من أمتع فصول الكتاب، فهو يقدم لنا في عَرْض بسيط وواضح جهود العلماء الفرنسيين في الرياضيات والفيزياء والبيولوجيا (علم الأحياء) وما تمخّض عنها من آراء فلسفية تبنَّى منها كل حزب سياسي ما يُدعّم اتجاهه السياسي، وهذا أمر طريف، كما استثمر السياسيون النظريات العلمية الخالصة لدعمْ أفكارٍ سياسية، وهذا بطبيعة الحال لا ينفي فضل العلماء وإن كان يعيب إنحراف السياسيين·(ملحق/341)
ولم يدع نابليون - على سبيل أمثال - مبادئ الثورة الفرنسية وحرية الأديان وما إلى ذلك تعوقُه عن النظر للأمور من خلال المنظور العملي الذي يؤكّده الواقع وتدعمه الإحصاءات· لقد أقر حرية الدين للجميع بمن فيهم اليهود لكنه أرسل ليسأل حاخاماتهم عن موقف الشريعة اليهودية من الربا فأجابوه أن هذه الشريعة كما جاء بها موسى تحرّم الربا، وسألهم عن موقفهم من غير اليهود فقالوا قولاً حسناً، فأتاح لهم حرية العبادة أُسوة بغيرهم لكنه أمرهم بعدم التمركز في منطقة بعينها وأن ينتشروا في أنحاء فرنسا، وأمرهم ألاّ يقتصروا على مهنة الصرافة والعمل في المعادن النفيسة وإنما عليهم توجيه أبنائهم للعمل في مختلف المهن، والأهم من هذا أنه أسقط الفوائد الربوية التي فرضها اليهود على رعاياه، وهدّأ نابليون من ثائرة فلاّحي الالزاس الذين كانوا على وشك الهجوم على البنوك التي يمتلكها يهود ألمان بأن أمر ألاّ تُحصِّل هذه البنوك المبالغ التي أقرضتها (بالربا) للفلاحين قبل عام (راجع تفاصيل هذا في الفصل الحادي عشر) ·
والفصول؛ السابع والثامن والتاسع تحوي صفحات شائقة في التاريخ العسكري وفن إدارة المعارك: معركة مارنجو، وأوسترليتز، وأولم وغيرها،··· لقد تناول المؤلف بالتفصيل معارك فرنسا في عهد القنصلية (عندما كان نابليون هو القنصل الأول) وفي عهد الإمبراطورية (بعد تتويجه إمبراطوراً)، ولم يكن عرضُه جافا وإنما تخلّله جانب من أقوال نابليون وتوجيهاته بل ونصوص نشراته التي كان يوزّعها على جنوده مما أعطى العرض حيوية فائقة·(ملحق/342)
وفيما يتعلّق بالأعلام الواردة في الكتاب بذلت كل الجهد لتقديم الاسم كما ينطقه أهله إلاّ في حالات قليلة، بالإضافة لإثبات الاسم كما هو متداول في الكتابات العربية نقلاً عن الصيغة الانجليزية التي غلبت في بلادنا العربية لظروف تاريخية، وعلى هذا فقد كتبتُ قُبالة الاسم وارسو Warsaw الصيغة (فرسافا) فهكذا ينطقون وارسو في شرق أوروبا، أما معركة وارنر فكتبتها أيضاً بنطقها الألماني فارنر، ومدينة ويمار وضّحت أيضاً أنها فيمار، وجعلت حرف الواو لها في الأعلام الألمانية (ف 7) في أسماء المدن والأشخاص ليكون الاسم كما ينطقه أهله مع عدم إغفال الإشارة للاسم كما هو متداول في الكتب العربية·
وفي حالتين أو ثلاث أغفلتُ ذلك لاستقرار الاسم في الاستعمال العربي استقراراً راسخاً، وعلى هذا فقد كتبتُ باريس Paris وليس باري كما ينطقها الفرنسيون، واستقر الاستعمال عندنا على الاسم لويس وليس لِوِي كما ينطقه الفرنسيون، والكتب العربية تذكر الجنرال كليبر بإثبات الراء فلم أجد مبرراً لكتابته (كِلِيبه) · وهناك بعض الأسماء الأوروبية مألوفة لنا بصيغ عربية، فأثبت الصيغة العربية أيضاً مدّاً للجسور بين الحضارات، كالاسم جوزيف الذي هو يوسف وكونستانت الذي ينطقه الفرنسيون كونستان وأوردته الكتب التراثية العربية قستنطين، أما الفيلسوف الألماني جوته أو جيته والصيغتان واردتان في الكتب العربية - فقد اعتمدتُ الصيغتين وأشرتُ لهما معاً، فالألمان ينطقون ما بعد الجيم واواً يُميلونها حتى تكاد تكون ياء، أو واواً يميلونها حتى تكون ياء على نحو ما نُميل الياء المتطرّفة في بعض القراءات فنقول (والضُّحى) مع إمالة الياء لتكون عَواناً بين الألف والياء·
وقد راجعتُ المواضِعَ والأماكن التي وردت في الكتاب على الأطالس التاريخية وضبطتها وأذلت بعض اللّبس الذي وقع فيه سهواً آخرون، فمنطة نهر إِلْب Elbe تُطل على بحر الشمال ولا علاقة لها بمنطقة جبال الألب أو الجمهورية السيزالبية (جمهورية الألب الشمالية) ·
ومن المصطلحات التي قمتُ بتصويبها في هذه الترجمة ما ورد في مجال التعليم عن نشر كلَّبات المعلمين أو كليات التربية، والمصطلح المستخدم هو Ecole Normalle الذي يعني كلية المعلمين أو مدرسة المعلمين العليا، ولا يعني أبداً المدارس العاديّة وأخيراً فالكمال لِلّه وحده سبحانه وتعالى، ندعوه أن يُلهمنا الصواب ويُقيلنا من العثرات، وأكرر شكري للأستاذ محمد السويدي الأمين العام لاختياره - للترجمة - هذه الأعمال الكبيرة، فالمجمع الثقافي في (أبوظبي) أصبح بذلك صَرْحاً ثقافياً موجّهاً للضمير العربي.
وعلى اللَه قصد السبيل·
د· عبد الرحمن عبد الله الشيخ(ملحق/343)
الفصل السابع
القنصليّة: من 11 نوفمبر 1799 إلى 18 مايو 1804 م
The Consulate
1 - الدستور الجديد
THE NEW CONSTITUTION
1/1 - القناصل (الحكّام القناصل) The Consuls
في 21 نوفمبر سنة 1799 اجتمع القناصل المؤقتين في قصر لكسمبرج لإعادة بناء فرنسا من جديد· وكان هؤلاء القناصل المؤقتون هم نابليون وسييس Sieyes وروجر (روجيه Roger) دوكو Ducos، وساعدهم في مهمتهم لجنتان تضمان أفراداً من المجالس والجمعيات القديمة، وكان كل من سييس ودوكو لديهما بالفعل مقر إقامة في لكسمبورج باعتبارهما كانا عضوين في حكومة الإدارة السابقة، وقد انتقل نابليون وجوزيفين Josephine ويوجين Eugene وهورتنس Hortense والعاملون معهم إلى لكسمبورج في 11 نوفمبر 1799·
وقد واجه المنتصرون في هذا الانقلاب أمّة نهشت الفوضى في بِنْيتها الاقتصادية والسياسية والدينية والأخلاقية· وكان الفلاحون يخشون إذا ما عادت أسرة البوربون Bourbon المالكة أن تُلْغَى سندات الملكية التي بحوزتهم· وكان التجار والحرفيون يرون أن رفاهيتهم مهدَّدة بسبب الموانئ المحاصرة، والطرق التي اعتراها الإهمال وأعمال اللّصوصية وتردّد أصحاب الأموال في استثمار أموالهم بضمان الحكومة التي سبق أن اجتاحتها الانقلابات عدَّة مرَّات· والآن وقد أصبحت الحاجة ملحّة لقوّة القانون وتنفيذ المشروعات العامة، وتقديم الغوْث للفقراء، لم يكن تحت تصرف الخزانة إلاَّ 1200 فرنك·(ملحق/344)
وكان رجال الدين في حالة معارضة دائمة: فمن بين ثمانية آلاف قس كاثوليكي في فرنسا، رفض ستة آلاف منهم التوقيع على الدستور المدني لرجال الدين (الإكليروس Clergy) وراحوا يعملون ضد الدولة في عداء سافر أو مقنَّع، أما التعليم العام فقد تدهور حاله - بعد إبعاد الكنيسة عن تولِّي أمره - رغم البيانات الرسميّة الفخمة ورغم الخطط الحكومية الطموحة· أما الأسرة الدعامة الأساسية للنظام الاجتماعي فكانت قد اهتزّت بسبب حرية الطلاق مما أدّى لانتشاره، وبسبب كثرة الزواج الاعتباطي (غير المدروس) وبسبب تمرّد الأبناء·
أما الروح العامة للشعب فقد كانت تحتضر خوفاً من الثورة والحرب وبسبب الشك في كل زعيم وبسبب التشاؤم لعدم تحقّق الآمال، بينما كانت هذه الروح في سنة 1789 قد بلغت ذُرى الوطنية والشجاعة· لقد كان مثل هذا الموقف يتطلب فنّ إدارة شؤون الدولة، لا دهاءً سياسياً، ويتطلب حسماً دكتاتورياً (كما تنبّأ مارا وحثّ من قبل) لا مناقشات ديمقراطية تَتَّسم بالترف في جمعيات فارغة - لقد كان المطلوب مزاوجة بين الرؤية الرحّبة والفكر الهادف والعمل المضني والبراعة مع البصيرة وإرادة آمرة· وقد انطبق كل هذا على نابليون·
وفي أوّل اجتماع لهؤلاء القناصل المؤقتين اقترح سييس أن يكون نابليون - ذلك الجنرال ذو الثلاثين عاماً - هو الرئيس (القنصل الأوّل) لكن نابليون استرضى سييس بترتيب الأمر بحيث يتولّى الرياسة كل واحد منهم على التعاقب، واقترح - أي نابليون - أن يكون سييس هو المسئول الأوّل عن صياغة الدستور الجديد· وعكف هذا المنظِّر القديم على دراسته وترك نابليون (مع دوكو اللطيف المسالم) لإصدار المراسيم لضمان حُسن سيرْ الإدارة، وتحسين أداء الخزانة بتطوير قدرتها على الوفاء بديونها، وتهدئة النزاعات واكتساب ثقة الشعب الذي أزعجه اغتصاب السلطة بالقوة·(ملحق/345)
وكان أوّل ما قام به القنصل الأول أنه ارتدى زيَّاً مدنياً مُتواضعاً مُحتشماً وطرح لباسه العسكري· لقد كان عليه أن يكون هو الفتى الأول فوق خشبة مسرح الأحداث· لقد أعلن عن نواياه بمجرد تأسيس الحكومة الجديدة مقترحاً شروط السلام مع إنجلترا والنمسا· وكان طموحه في بواكير فترة حكمه هذه هو طمأنة فرنسا وتقويتها لا إجبار إنجلترا على التسليم· لقد كان نابليون في هذا الوقت هو من أسماه بِت Pitt ابن الثورة ومضمّد جراح فرنسا الناتجة عن النزاعات الداخلية، ومخطط رخائها الساعي لاستتباب السلام· ابن الثورة الذي هو إفراز من إفرازاتها، وحاميها، والعامل على الاحتفاظ بما حققته من مكاسب اقتصادية، لكنه أيضاً كان واضحاً في إبداء رغبته في إنهاء الثورة·
لقد أسعد البورجوازية عندما أصدر في 17 نوفمبر سنة 1799 قراراً بنفي ثمانية وثلاثين شخصاً كانوا مصدر خطر على الأمن العام (وكان نابليون لا يستغني عن الدعم الاقتصادي الذي تقدّمه البورجوازية له، فقد كان هذا أمراً ضرورياً لسلطته) وقد كان قراره هذا يمثل الدكتاتورية المفرطة إذ جلب من السّخط أكثر مما جلب من الاستحسان، لذا فإنه سرعان ما عدّل القرار ليجعله نفياً إلى المحافظات (المديريات الفرنسية) بدلاً من النفي خارج فرنسا·وألغى ضريبة المصادرة التي تتراوح قيمتها من 20% إلى 30% والتي كانت حكومة الإدارة قد فرضتها على كل الدخول التي تزيد على المستوى العادي·(ملحق/346)
والغي القانون الذي كانت الحكومة تعمل بمقتضاه على احتجاز المواطنين البارزين كرهائن يتم تغريمهم أو نفيهم إذا ارتكب مواطنوهم أية جرائم ضد الحكومة· وهدّأ الكاثوليك في إقليم الفندي Vendee بدعوة زعمائهم إلى مؤتمر وأكّد لهم نواياه الحسنة ووقّع معهم في 24 ديسمبر هدنة أنهت الحروب الدينية في فرنسا لفترة· وأمر أن تعاود كل الكنائس الكاثوليكية - التي سبق أن كُرّست قبل سنة 1793 - ممارسة العبادات الكاثوليكية في كل الأيام ما عدا يوم الديكادي decadi ( اليوم العاشر) وفي 26 ديسمبر أو بعد ذلك بقليل أعاد من المنفى ضحايا أجنحة الثورة التي حققت انتصارات على الأجنحة الثورية الأخرى في وقت من الأوقات: الليبراليون السابقون في الجمعية الوطنية National Assembly بمن فيهم لافاييت Lafayette، ولطَّف من حدَّة أعضاء لجنة الأمن العام Committee of Public Safety، مثل بارير Barere ولازار كارنو Lazare Carnot الذي عاد إلى ممارسة مهامه في وزارة الحرب·
وأعاد بونابرت الحقوق المدنية للنبلاء غير المشاغبين، وللمسالمين من أقارب الذين تركوا فرنسا بسبب أحداث الثورة emigres · وأبطل المهرجانات التي كان وقودها الحقد والكراهية، كمهرجان الاحتفال بذكرى مقتل الملك لويس السادس عشر، ونفى الجيرونديين Girondins وذكرى سقوط روبيسبير· وأعلن نابليون أنه لن يحكم فرنسا لصالح أية فئة من الفئات المتصارعة - اليعاقبة أو البورجوازية أو الملكيين - وإنما سيحكمها كممثّل للأمّة كلها· لقد أعلن أنه إن حكم لصالح أي فريق فمعنى هذا أنه سيعتمد عليه (دون سواه) عاجلاً أم آجلاً· ولن يسمح لي الفرقاء الآخرون بذلك أبدا· إنني وطني فرنسي ·(ملحق/347)
وعلى النحو نفسه نظر الشعب الفرنسي له - حقاً لقد نظر إليه الفرنسيون جميعاً باعتباره وطنياً فرنسيا فيما عدا بعض الجنرالات الحاقدين، واليعاقبة Jacobins الجامدين· لقد تحوّل الرأي العام الفرنسي منذ 13 نوفمبر بشكل حاسم لصالحه· لقد كتب السفير البروسي لحكومته في ذلك اليوم قائلاً: كل ثورة سابقة اعتراها كثير من الخوف والريبة، أما هذه الثورة الفرنسية، فعلى العكس، فقد أبهجت أرواح الجميع وأيقظت أكثر الآمال حيوية، كما شهدتُ ذلك بنفسي · وفي 17 نوفمبر بلغ الهبوط في البورصة أحد عشر فرنك، وفي 20 من الشهر نفسه ارتفع إلى 14، وفي 12 من الشهر نفسه، ارتفع إلى 20 ·
وعندما قدَّم سييس للقنصليْن الآخرين خطته فيما يتعلق بدستور السنة الثامنة (1799) فإنهما سرعان ما أدركا أنَّ المولِّد السابق الذي وُلدت الثورة على يديه قد فقد كثيراً من ذلك الإعجاب الذي كان يُكنه للطبقة الثالثة أي طبقة العوام، ذلك الإعجاب الذي كان يُزكى أوار لهيب نشراته أو دفاتره الدعائية المتَّسمة بروح التحدي خلال العقد الماضي· لقد أصبح الآن متأكداً تماماً أنه ليس في مقدور أي دستور أن يحفظ الدولة لفترة طويلة إذا امتدت جذوره - وجذور الدولة معه - في إرادة غير ثابتة الاتجاه تحركها عواطف الجماهير غير المُدركة لأبعاد الأمور·
لقد كادت فرنسا في هذه الفترة تكون خالية من المدارس الثانوية، وكانت صحافتها مُمثِّلة للتحزّب والتشيّع لفئة أو أخرى مما جعلها مصدر تَعْمِية على العقل العام أكثر منها مصدر إِخْبار صحيح· وقد قصد الدستور الجديد لحماية الدولة من الجهل المنتشر من ناحية ومن الحكم الاستبدادي من ناحية أخرى· وقد تحقَّق نصف نجاح في هذا السبيل·(ملحق/348)
وقام نابليون بمراجعة سييس في بعض أفكاره التي أوردها في الدستور الجديد، لكنه بشكل عام قبل معظمها لأنه - أي نابليون - كان بدوره غير ميّال للديمقراطية· ولم يغير رأيه الذي مؤدّاه أنّ الشعب (الفرنسي) غير مؤهَّل لاتخاذ قرارات حكيمة بشأن انتخاب ممثليهم أو بشأن الأمور السياسية؛ فهم أناس تأسرهم الجاذبية الشخصية، وتخدعهم البلاغة الخطابية والكتابات الصحفية، ويُؤثِّر فيهم القُسس الذين ترفرف قلوبهم حول روما· واعتقد نابليون أن الشعب الفرنسي نفسه لابد أنه معترف بعدم مقدرته (أي مقدرة الشعب) على مواجهة مشاكل الحكومة· وسيكون الشعب راضياً إذا خوّل لهم الدستور الجديد حق الموافقة أو الاعتراض على قضايا تطرح عليهم في استفتاء عام· لقد أعاد سييس الآن تشكيل فلسفته السياسية وفقاً للمبدأ الأساسي التالي: لابد أن تأتي السلطة من أعلى، وأن تأتي الثقة من أدنى وبتعبير آخر فلتحكم الحكومة وليثق الشعب·
لقد بدأ بإنحناءه احترام موجزة للديمقراطية· فقد كان على كل فرنسي بلغ العشرين أو أكثر أَنْ يصوّت لاختيار عُشر هذه الفئة العمرية ليُصبح المنتخَبون (بفتح الخاء) وجهاء محليون (في الكومونات) Communal notables ويقوم هؤلاء المنتخبون (بضم الميم وفتح الخاء) بدورهم بانتخاب عُشر عددهم ليكونوا وجهاء على مستوى المحافظات (الأقسام أو الدوائر) departmental notables وهؤلاء بدورهم ينتخبون عُشر عددهم ليكونوا وجهاء على مستوى فرنسا National notables· وهنا تمخضّت العملية الديمقراطية عن: موظفين محلِّيين كان لا بد أن يعينهم (لا ينتخبهم) الوجهاء الكومونيون (المنتخبون على مستوى الكومونات)، وموظفين محليين على مستوى الدوائر أو المحافظات يتم تعيينهم من قِبَل المنتخبين على المستوى نفسه، وموظفين كبار على مستوى الدولة الفرنسية يتم تعيينهم من قِبَل المنتخبين (بضم الميم وفتح التاء) على هذا المستوى الثالث (الوطني) · وكان لا بد أن تتم كل التعيينات من قِبل الحكومة المركزية·
وأسفرت هذه الانتخابات عن تأسيس:
(1) مجلس الدولة الذي كان عادة ما يضم خمسة وعشرين عضواً يعينهم رأس الدولة The chief of state مخوَّلين باقتراح القوانين الجديدة·(ملحق/349)
(2) مجلس التريبيون Tribunat أو مجلس المدافعين عن حقوق الشعب (وهو ما تعنيه الكلمة) ويتكون من مائة عضو Tribunes ( والمعنى المباشر للكلمة هو: حامي حمى الشعب) مخوَّلين بمناقشة الإجراءات المقترحة ولهم الحق في تقديم توصياتهم إلى الهيئة التشريعية·
(3) الهيئة التشريعية A corps Legislatif وهي مكونة من ثلاثمائة عضو من حقهم رفض الإجراءات المقدَّمة أو تكييفها مع القانون (وليس مناقشتها) ·
(4) السينات Senat أو مجلس الشيوخ وعادة ما يضم ثمانين عضواً من ذوي العقول الناضجة مخوَّلين بإلغاء القوانين التي يحكمون بأنها غير دستورية، وهم مخوّلون أيضاً بتعيين أعضاء مجلس التريبيون (مجلس المدافعين عن حقوق الشعب) وأعضاء الهيئة التشريعية، كما أنهم مخوّلون بإضافة أعضاء جدد إلى مجلسهم (مجلس الشيوخ أو السينات) من بين وجهاء الأمة National notables كما أن عليهم قبول الأعضاء الجدد الذين يعينهم الناخب العظيم grand elector·
(5) الناخب العظيم: ومصطلح الناخب العظيم هو المصطلح الذي أطلقه سييس على رأس الدولة لكن نابليون رفض المصطلح وتوصيفه، لأنه رأى في هذا المنصب (كما يدل عليه المصطلح الذي وصَّفه سييس) مجرد وكيل تنفيذي لقوانين تمت إجازتها دون مشاركته أو موافقته، وتجعله مجرَّد رئيس شكلي (صُوري) ليس له من الأمر شيء سوى استقبال الوفود والدبلوماسيين، وتصدّر الحفلات الرسمية·
وشعر نابليون أنّ هذه الأمور لا تحتاج إلى موهبة، وكان على عكس ذلك يتطلع إلى أن يصل بأقصى سرعة ممكنة - عن طريق القوانين - إلى تحقيق أمل أمة تصرخ مطالبة بالنظام والتوجيه، ومصرّة على البقاء (الاستمرار)، لذا فقد قال لسييس إن ناخبكم العظيم هذا مجرّد ملك عاطل وقد ولّى الآن زمن هؤلاء الملوك الكسالى· إنَّ أيّ رجل ذي قلب وعقل لا يمكنه أن يقبل هذه الحياة البليدة مقابل ستة ملايين فرنك ومسكن في التوليري Tuileries؟ ما هذا؟ أيكمن جالساً يُعيِّن من يعملون بينما يظل هو بلا عمل! هذا غير مقبول · لقد طلب الحق في أن يبادر بالتشريع، وإصدار المراسيم وأن يعين في مناصب الحكومة المركزية من يراه كُفؤاً حتى ولو لم يكن من بين الوجهاء المنتَخَبين (بفتح الخاء) ·(ملحق/350)
لقد كان برنامجه لإعادة البناء في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية يتطلب استحواذاً مضموناً على السلطة طوال سنوات عشر· لذا فإن نابليون لم يرغب في أن يكون الناخب العظيم - ذلك اللقب ذو المذاق البروسي - وإنما أراد أن يكون القنصل الأول ذلك اللقب الذي يحمل عبق روما القديمة· وهكذا رأى سييس دستوره يسقط ليصبح ملكيا إلاّ أنه ملكي معدَّل نظراً للمهمة الإشرافية لمجلس الشيوخ (السينات) وتم تعيين سييس ودوكو قنصلين وفي 12 ديسمبر 1799 أحلّ نابليون محلّهما كلاً من: جان - جاك كامباسير Jean - Jacques Cambaceres كقنصل ثان، وتشارلز فرانسوا ليبرون Charles Francois Lebrun كقنصل ثالث·
ومن الخطأ تصنيف هذين القنصلينْ باعتبارهما مجرد موظَّفيْن مُطيعيْن· فقد كان لكل منهما خبراته وتجاربه· لقد أصبح كامباسير الآن هو المستشار القانوني لنابليون، وكان كامباسير قد شغل سابقاً في حكومة الإدارة منصب وزير العدل· وكان يترأس مجلس الشيوخ، كما كان في حالة غياب القنصل الأول - يترأس مجلس الدولة ( Council of State) وقام بدور قيادي في تشكيل مدوَّنة نابليون القانونية Code Napoleon · وقد كان شخصاً هادئاً وكان معتزاً بالولائم الفخمة التي يُقيمها، لكن هدوءه هذا وكذلك ميله للتأمل مكَّناه - غالباً - من إنقاذ القنصل الأول (نابليون) من أخطاء طائشة· لقد قام بتحذير نابليون من معاداة أسبانيا وحذَّره من التورّط مع روسيا، أما تشارلز - فرانسوا ليبرون فقد كان فيما مضى أمين سر لريني دي موبو Rene de Maupeou في مهمته الساعية لإنقاذ فرنسا البوربوتيّة من الإفلاس (أي أنه قام بهذه المهمة يوم كانت فرنسا تحت حكم أسرة البوربون الحاكمة) وسبق له أن شارك في إعداد التشريعات المالية التي أصْدرتها الجمعية الوطنية National Assembly وحكومة الإدارة، والآن فقد بدأ مهمته في حكومة القناصل مع نابليون بخزانة خاوية فعمل على تنظيم مالية الحكومة الجديدة· لقد قرَّر نابليون كفاءة هذين الرجلين فعندما أصبح إمبراطوراً جعل من ليبرون Lebrun مسئولاً أول عن الخزانة، كما جعل من كامباسير مستشاره الأول، وقد ظلا وفيَّيْن له حتى النهاية·(ملحق/351)
ورغم إيمان نابليون الراسخ بأنّ ظروف فرنسا تتطلَّب قرارات عاجلة وتنفيذ سياسات سريعة إلاَّ أنَّه قدَّم مقترحاته· في عامه الأوَّل في الحاكم - إلى مجلس الدولة وسمع أعضاءه وهم يُهاجمون ويدافعون واشترك هو نفسه في المناقشات الدائرة بشكل إيجابي· وكان هذا دوراً جديدا له، فقد اعتاد أن يقود أكثر من اعتياده الاشتراك في المناقشات، وقد أصبحت أفكاره الآن تتجاوز كلماته (تسبق كلماته): لكنه تعلَّم بسرعة وعمل بكل جهده داخل مجلس الدولة وخارجه وبذل كل ما يستطيع لتحليل المشكلات وإيجاد الحلول· لقد كان حتّى الآن مجرَّد مواطن قنصل Citoyen-Consul وسمح لآخرين بفرض آرائهم عليه وكان أعضاء مجلس الدولة من أمثال بورتالي Portalis وروديريه Roederer وثيباودو Thibaudeau من ذوي الكفاءة العالية، ولم يكونوا من النوع المنساق، ومع هذا فإنَّ مذكراتهم تَغُصّ بالثناء على رغبة نابليون الشديدة في الإصلاح وبذله قُصارى جهده في العمل· لنستمع إلى روديريه وهو يقول:
"أنه دقيق في كلِّ موقف، يُطيل الجلسة لخمس ساعات أو ست··· ودائماً يعودُ إلى هذا السؤال: أهذا عدل؟ أهذا مفيد؟ ··· وهو دائماً يربط كل مشكلة بظروفها التي يعمد إلى تحليلها تحليلاً دقيقاً والحصول على معلومات بشأن فلسفة التشريعات السابقة الصادرة في أيام الملك لويس الرابع عشر وفردريك العظيم Frederick the Great··· ولم يحدث أبداً أن تم تأجيل المجلس دون أن يكون أعضاؤه أكثر علماً بالأمور من ذي قبل - إذا لم يكن ذلك من خلال المعلومات التي يحصلون عليها منه، فمن خلال البحوث التي يُجبرهم على القيام بها·· وما كان يُميزه عنهم جميعاً هو قوة ملاحظته ومرونته ودأبه إنني لم أره أبداً وقد اعتراه التعب· ولم أجده أبداً وقد فقد عقله تألّقه حتّى ولو كان بدنه متعباً··· أنه لا يوجد أبداً من يُكرّس نفسه كُلِّية للعمل الذي هو عاكف عليه مثله، ولم أَرَ أفضل منه في استثمار وقته وتخصيصه لإنجازِ ما يتحتَّم عليه عمله "·
في تلك الأيام كان في مقدور المرء أَنْ يُحب نابليون·
1/ 2 - الوزراء The Ministers(ملحق/352)
وبالإضافة إلى تنظيم أمور التشريعات اللازمة لحكم فرنسا، فقد انخرط في العمل الأصعب ونعني به إدارة البلاد، لقد قسّم هذه المهام الإدارية بين ثماني وزارات جعل على رأس كل منها أكفأ من وجد من الرجال بصرف النظر عن انتماءاتهم الحزبية وماضيهم· لقد كان بعضهم يعاقبه وبعضهم من الجيرونديين Girondins وبعضهم الآخر من الملكيين وفي حالة أو حالتين سمح نابليون لميوله الشخصية بتجاوز الحد فتطغى على الاعتبارات العملية، ومن ذلك أنه عيَّن لابلاس Laplace وزيراً للداخلية، لكنه سرعان ما وجد الفلكي والرياضي الكبير وقد نقل روح التفاصيل الرياضية الدقيقة إلى الإدارة فنقله إلى السينات (مجلس الشيوخ) وأوكل وزارة الداخلية لأخيه لوسين (لوسيان) بونابرت Lucien·
لقد كان العمل الأساسي، والذي يكاد يكون متعذراً، لوزارة الداخلية هو إعادة الحيوية للكمونات communes أو المجالس البلدية، وتطويرها لإعادة قدرتها على الوفاء بديونها، باعتبارها - أي هذه الكمونات أو المجالس البلدية - هي الخلايا المكونة للجهاز السياسي· وقد عبر نابليون بنفسه عن هذه الحال في خطاب وجهه إلى لوسين (لوسيان) في 25 ديسمبر سنة 1799·
منذ سنة 1790 وهذه الكيانات المحلية (الكمونات أو المجالس البلدية) البالغ عددها 36,000 تشبه البنات اليتيمات· لقد كانت هذه الكيانات هي وارثة الحقوق الإقطاعية القديمة، وقد أهملها وسلبها إرادتها الأمناء المفوضون الذين كانت حكومة المؤتمر الوطني وحكومة الإدارة ترسلهم· إن مناصب: رئيس البلدية والخبير التابع له· والمستشار البلدي، أصبحت بالتدريج لا تعني بشكل عام سوى أنها نوع جديد من اللصوصية· فشاغلي هذه المناصب يقطعون الطريق ويسرقون المشاة ويستولون على الأخشاب وينهبون الكنائس ويختلسون ممتلكات الكمونات·· وإذا كان لابد أن يستمر هذا النظام عشر سنوات أخرى فماذا سيحدث لمؤسسات الإدارة المحلية هذه؟ إن هذه المؤسسات لم ترث شيئاً سوى الانخراط في المناقشات، وسوى الإفلاس حتى أنها ستطلب الإحسان من السكان ·(ملحق/353)
هكذا كان نابليون في نوبات غضبه، لقد كان مبالغاً بمرارة· وإن كان ما قاله صحيحا لجاز الاقتراح بأن يُسمح (بضم الياء) للكويونات باختيار موظفيها، كما هو الحال في كومون باريس· لكن نابليون لم يكن راغباً لوصول الأمور فيها إلى ما وصلت إليه في باريس· فالثورة الفرنسية - فيما يرى مؤرخ أتى بعد انقضاء أحداثها، لم تكتشف في الكومونات الأصغر (من كمومون باريس) سوى عدد قليل من الفلاحين كانوا متعلمين بدرجة كافية وكانوا مثقفين لدرجة تمكنهم من الإحساس بمعنى التكامل والصالح العام · وغالباً ما كان هؤلاء الحكام الذين تم اختيارهم محلياً - مثلهم مثل الحكام الذين بعثت بهم باريس - إما أنهم غير أكفاء، وإما فاسدون، وإما غير أكفاء وفاسدون معاً· لذا فقد أصم نابليون أذنيه عن المطالبات بالحكم الذاتي المحلي communal self-rule·
لقد فضّل - بعد أن رجع للنظام الروماني القنصلي أو لنظام المحافظين intendants في أواخر حكم أسرة البوربون - أن يُعيِّن (أو يجعل وزارة الداخلية تعين) لكل دائرة أو محافظة أو مديرية أو قسم مأموراً prefect ( منوطاً به تنفيذ القوانين)، ونائب مأمور (أو مأموراً مساعداً) في الوحدات الإدارية الفرعية، وأن يعين لكل كمون مديراً أو محافظاً أو رئيساً mayor ويكون كل معيَّن (بتشديد الياء وفتحها) مسئولاً أمام من هو أعلى منه وأخيراً أمام الحكومة المركزية· وعلى هذا فقد كان كل المأمورين المعيَّنين من الرجال ذوي الخبرة الواسعة، وكان معظمهم من الأكفاء جداً · وفي كل الأحوال وجدناهم يمكنون نابليون من القبض على زمام السلطة إلى حد كبير·(ملحق/354)
وكانت الخدمة المدنية (الجهاز الإداري كَكُل) في فرنسا في عهد نابليون هي الأكثر كفاءة والأقل ديمقراطية من بين كل ما عرفه التاريخ، ربما فيما عدا روما القديمة· وقاوم الشعب هذا النظام، الذي أثبت مع ذلك أنه ترياق يمكن تبرير استخدامه لعلاج نزعتهم الفردية المنطوية على تحقيق مكاسب، وقد احتفظ البوربون عندما عادوا للسلطة بهذا النظام كما احتفظت به الجمهوريات الفرنسية المتعاقبة· لقد أعطى هذا النظام لفرنسا استقراراً واستمرارية طوال قرن اجتاحته الاضطرابات السياسية والثقافية فقد كتب فاندال Vandal سنة 1903 إن فرنسا تعيش اليوم في ظل التشكيل الإداري والقوانين المدنية التي أورثها لها نابليون·
وكانت المشكلة الأكثر إلحاحاً هي إعادة ملء الخزانة· لقد عرض نابليون وزارة المالية على مارتن - ميشيل جودين Martin-Michel Gaudin بناء على توصية من القنصل ليبرون Lebrun وكان جودين قد رفض في وقت سابق هذا المنصب في ظل حكومة الإدارة، وكان مشهوراً بالكفاءة والأمانة· وكان توليه لهذا المنصب في ظل حكومة القناصل ضماناَ لتأييد الماليين وثقتهم في هذه الحكومة الجديدة· فوصلت للخزانة قروض لإنقاذ الدولة وقدم أحد الماليين (البنكيين) للخزانة قرضا مقداره 500,000 فرنك ذهبا ولم يطلب فوائد·(ملحق/355)
وسرعان ما أصبح في الخزانة 12 مليون فرنك تُغطى بها نفقاتها الجارية وتقدم منها للجيش طعامه كساءه، فقد عانى أفراد الجيش طويلا من الملابس الرثة كما أنَّ رواتبهم لم تكن قد دفعت منذ فترة طويلة· (وكان نابليون يضع دائما الجيش في المحل الأول من اعتباره) وسرعان ما نقل جودين سلطة تقدير الضرائب وجمعها من المسئولين المحليين إلى الحكومة المركزية، نظرا للسمعة السيئة للسلطات المحلية في هذا الشأن· وفي 13 فبراير سنة 1800 وحد جودين الوكلات المالية المختلفة في بنك واحد هو بنك فرنسا Bank of France وطُرحت أسهمه للبيع وأصبح له حق إصدار العملة الورقية· وسرعان ما استطاعت الإدارة الدقيقة للبنك أن تُصدر أوراقاً نقدية محل ثقة انتشر استخدامها بين الناس· وكان هذا في حد ذاته ثورة· ولم يكن البنك مؤسسة حكومية وإنما بقي قطاعاً خاصا ( in private hands) لكن الحكومة دعمته، وأشرفت عليه جزئياً عن طريق العوائد الحكومية المودعة به، وأصبح على وزير الخزانة باربي ماربوا Barbe-Marbois بالإضافة إلى وزير المالية إدارة ميزانية الدولة والحفاظ عليها في البنك·
وكانت أكثر الأمور في هذا النظام الإداري مدعاة للسخط هي: الحظر، وأعمال البوليس السري والعقاب على الجرائم، وإجراءات حماية المسئولين الحكوميين من الاغتيال· وكان جوزيف فوشي (فوشيه) هو رجل هذه المهام· لقد سبق أن تمرس بكثير من أشكال الخداع والتنكر، وباعتباره كان من المشتركين في قتل الملك، فقد كان الملكيون يضعونه نصب أعينهم كهدف للانتقام، لذا فقد كان يمكن لنابليون أن يعتمد عليه كحاجز منيع يحول بين البوربون والاستيلاء على العرش· فبينما دلل جودين الماليين ورجال البنوك وروّضهم، وجدنا فوشيه يُشرك اليعاقبه في آمال القنصل الأول باعتباره ابناً مخلصا للثورة - يحمي العامة من الارستقراطية والإكليروس (رجال الدين) ويحمي فرنسا من القوى الرجعية·(ملحق/356)
وكان نابليون يخشى فوشيه Fouche ولا يثق به، وظل محتفظا بطاقم منفصل من المخبرين السريين من بين مهامهم مراقبة وزير البوليس، ولكنه لم يبعده عن منصبة إلا في سنة 1802 وكان هذا بحذر شديد، وأعاده سنة 1804 وظل محتفظاً به إلى سنة 1810· لقد كان نابليون يقدر في فوشيه اعتداله في طلب الدعم المالي، وأوحى لهذا الوزير اللمَّاح بأن يموِّل قواته - جزئياً - بمصادرة أموال نوادي القمار بالإضافة إلى الحصول على أموال من المباغي brothels والمواخير ·
وكُلِّفت قوات درك خاصة (جندرمة gendarmerie) لمراقبة الشوارع والمخازن والمكاتب والمنازل التي من المفترض أنها تشارك في دخل الأحياء أو الدوائر (داخل المدن) ·
أما دفاع الفرد حتى لو كان مجرماً عن نفسه أمام البوليس والقانون والدولة فلم يحظ بالعناية الكافية في فرنسا على النحو الذي حظي به في انجلترا في تلك الأيام، لكن شيئا من ذلك قد كفله قضاة أكفاء· وعند إسناد هذا الفرع من فروع الإدارة للفقيه القانوني أنديه - جوزيف أبريمال André-Joseph Abrimal قال له نابليون: أيها المواطن· إنني لا أعرفك، لكن هناك من أخبرني أنك أكثر الرجال أمانة عندما تتولى أمراً من أمور الحكم، وهذا هو السبب الذي جعلني أعينك وزيراً للعدالة وسرعان ما امتلأت فرنسا بالمحاكم المختلفة التي غصت بهيئات المحلفين Juries التي تضم الكبار والشباب وقضاة الصلح Justices of Peace والمحضرين bailiffs والمدعين العموم (المفرد: مدّعي عام Prosecutor) والمدعين (مقدمي الدعاوى Plaintiffs) وكتاب العدل (محرري العقود notaries) والمحامين···(ملحق/357)
أما حماية الدولة الفرنسية من الدول الأخرى فتلك هي مهمة وزارة الحرب التي تولاها الجنرال لويس - اسكندر بيرثييه Louis - Alexander Berthier ووزارة البحرية التي تولاها دينيس ديكر Denis Decres ووزارة الخارجية التي تولاها تاليران المستعصي على الفساد· وكان قد بلغ من العمر عند توليه هذا المنصب خمسة وأربعين عاماً، وقد حقق شهرة عريضة كشخص مهذب رقيق الحاشية عميق الفكر فاسد الأخلاق (عاهر) لقد رأيناه أخيراً (في 14 يوليو سنة 1790) يقيم قداساً مقدساً في مهرجان معسكر دي مار Champ-de-Mars، وبعد ذلك بفترة قصيرة كتب لآخر محظية من محظياته آديليد دي فيلول Adelaide de Filleul، كونتيسة فلاهوت:
"إنني آمل أن تكوني قد أحسست لأي إلهٍ وجهت صلواتي بالأمس، ولمن أقسمت قسم الولاء والإخلاص في هذه الصلوات· لقد كان ذلك موجهاً لك· فأنتِ الموجود الأسمى Supreme being الذي أعبده وسأظل أعبده دوماً وقد أنجب من الكونتيسه ابناً لكنه حضر عرسها بهدوء كواهب خفي للعروس وكان ضعفه أمام جمال النساء مصحوباً بطبيعة الحال بشغفه بالفرنكات فبها يعيش الجمال (المقصود أن النساء الجميلات في حاجة إلى المال الوفير) "·
ومنذ رفض الأخلاق المسيحية واللاهوت الكاثوليكي وجدناه يوظف بلاغته وفصاحه لسانه لتحقيق المكاسب، وتلقى باقة ورد - لهذا - من كارنو Carnot الذي قال عنه: "لقد حمل تاليران معه كل رذائل الحكم القديم دون أن يكون قادراً على اكتساب فضائل الحكم الجديد· إنه شخص بلا مبادئ ثابتة· إنه يغير مبادئه كما يغير ملابسه، ويغير اتجاهه وفقا للريح، فهو فيلسوف إن كانت الفلسفة هي الصرعة السائدة، وهو جمهوري الآن لأن ذلك ضروري ليكون أي شيء، وسيعلن غداً أنه ملكي تماماً إن كان سيحصل من جراء هذا الإعلان على أي شيء· إنني لا أشتريه بشروى نقير أو بتعبير آخر أنا لا أريده بأي ثمن مهما كان بخساً"· ووافق ميرابو Mirabeau على أن: "تاليران سيبيع روحه من أجل المال، وسيكون على حق لأنه في هذه الحال إنما يبيع القذارة بالذهب" ·(ملحق/358)
وعلى أية حال فقد كانت هناك حدود لدوران تاليران وعبثه، فعندما طردت الجماهير الملك والملكة من قصر التوليري وأقامت دكتاتورية البروليتاريا، فإنّه لم يَنْحَنِ للسادة الجدد وإنما استقل قارباً واتجه إلى إنجلترا في 17 سبتمبر سنة 1792، وهناك قُوبل بمشاعر مختلفة ومتباينة، فقد استقبله بحرارة كل من جوزيف يرستلي Joseph Priestley وجيرمي بنثام Jeremy Bentham وجورج كاننج George Canning وتشارلز جيمس فوكس Fox، أما من استقبلوه ببرود فهم الارستقراطية الإنجليزية الذين لم ينسوا دوره في الثورة الفرنسية·
وفي مارس سنة 1794 انتهى التسامح الانجليزي معه وصدرت الأوامر له بمغادرة انجلترا في غضون أربع وعشرين ساعة، فأبحر إلى الولايات المتحدة وعاش هناك بارتياح من عوائد ممتلكاته واستثماراته، وعاد إلى فرنسا (أغسطس 1796) · وأصبح وزيراً للخارجية (يوليو 1797) في ظل حكومة الإدارة· وبمثل هذه الطاقة والقدرة استطاع أن يضيف لثروته الكثير بأساليب شتى حتى أنه كان قادراً على إيداع مبلغ ثلاثة ملايين فرنك في البنوك الإنجليزية والألمانية· وعندما علم أن حكومة الإدارة ستسقط استقال منها في 20 يوليو سنة 1799 وراح ينتظر مطمئناً مترقباً وصول نابليون للحكم ليستدعيه لشغل منصبه من جديد، ولم يطل انتظاره فقد استدعاه القنصل (نابليون) في 22 نوفمبر سنة 1799 ليصبح - من جديد - وزيراً للخارجية·(ملحق/359)
لقد اعتبره نابليون شخصاً ذا قيمة باعتباره حلقة وسطى بين الحاكم (المقصود متولي المنصب) المُحْدَث (أي الذي لم يتول شؤون الحكم من قبل) والملوك المنحلين· لقد ظل تاليران - خلال كل ثوراته وتقلباته - محافظاً على ملابس الارستقراطية القديمة وعاداتها وطريقتها في التفكير وأسلوبها في الحديث: "فقد كان حسن المنظر مقبولاً (رغم قدمه المعوجة) كما كان هادئاً رابط الجأش حاد الذهن لماحاً حتى أنه إذا لزم الأمر استطاع أن يقتل بعبارة ساخرة· وكان دائب العمل ودبلوماسياً داهية قادراً على إعادة صياغة تصريحات سيده (نابليون) الطائشة الفظة ليغلفها بغلاف ودي أنيق· وكان مبدأه لا تتعجل في اتخاذ القرار - وهو شعار طيب يتناسب مع رجل أعرج، وفي حالات مختلفة أدى تأخره في إرسال بريد الدولة إلى تراجع نابليون عن قرارات غير صائبة"·
لقد أراد - مهما كان العلم الذي يرفرف فوقه - أن يعيش مبذراً في بحبوحة دائمة، مغتنماً فرص المسرات بتروٍ، جامعاً ثمار أي شجرة يلقاها· وعندما سأله القنصل (نابليون): "كيف تمكن من جمع هذه الثروة الضخمة؟ " أجابه مبتسماً ودون مواربة: "لقد اشتريت بضائع في السّابع عشر من شهر برومير Brumaire ( الجمهوري) وبعتها بعد ذلك بثلاثة أيام "· ولم يكن ما قاله لنابليون سوى البداية، ففي غضون أربعة عشر شهراً من استعادته لمنصبه كوزير للخارجية أضاف لحساباته البنكية خمسة عشر مليون فرنك أخرى· لقد كان يلعب في السوق بناء على معلومات يحصل عليها من داخل الحكومة، كما أنه تلقى عمولات tidbits من القوى الأجنبية التي بالغت في تقدير تأثيره على سياسات نابليون· وفي نهاية فترة القنصلية قُدرت ثروته بأربعين مليون فرنك · وكان رأي نابليون فيه: "أنه شخص مقزز وليس هناك من يحل محله (لا يمكن الاستغناء عنه) "· لقد وصفه مستوحياً ذكرى ميرابو: "بأنه الأعرج, أنه بُراز (غائط) في جورب حريري". مستخدماً عبارات أقل إيحاء في الفرنسية من نظيراتها لدى الإنجلوسكسون Anglo-Saxon · وكان نابليون نفسه الذي استحوذ على الخزانة الفرنسية وفرنسا كلها - فوق مستوى الرشوة·
1/ 3 - كيف استقبل الفرنسيون الدستور الجديد؟(ملحق/360)
واجه الدستور الجديد عند نشره في 15 ديسمبر 1799 كثيراً من النقد رغم ما ورد به من دعوى أنه إنما قام على المبادئ الحقة لحكومة تمثيل نيابي، وعلى احترام حقوق الملكية والمساواة والحرية· وأن السلطات التي رسخها ستكون قوية راسخة كما ينبغي أن تكون لضمان حقوق المواطنين ومصالح الدولة· أيها المواطنون لقد قطعت الثورة شوطاً بعيد المدى في سبيل تحقيق المبادئ التي انطلقت منها· لقد انتهت الآن هذه الثورة · لقد كانت هذه كلمات مطاطة لكن نابليون اعتبرها كافية لأن الدستور سمح لكل الذكور البالغين بالإدلاء بأصواتهم في المراحل الأولى للانتخابات· وأنه - أي الدستور - نص على ألاّ يكون هناك تعيين جديد إلاَّ من بين الممثلين notables الذين انتخبهم الشعب بطريق مباشر أو غير مباشر، وأنّه - أي الدستور - أقر ملكية الفلاحين والبورجوازية التي استحوذوا عليها بالشراء نتيجة قيام الثورة، وأقر إلغاء الرسوم الإقطاعية وإلغاء العشور التي كانت تجمعها السلطات الكنسية·
ومن الناحية النظرية أكد مساواة كل المواطنين أمام القانون وأهليتهم لشغل أي موقع في المجال السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي، ورسخ - أي الدستور - حكومة مركزية قوية للقضاء على الجريمة والفوضى السياسية والفساد والتسيب الإداري، وللدفاع عن فرنسا ضد القوى الأجنبية، وأنه - أي الدستور - قد أنهى الثورة بأن جعلها أمراً واقعا (أي حقق ما كانت تعمل على تحقيقه) إذ حقق غرضها في نطاق حدود طبيعية وشكَّل شكلاً جديداً من التنظيم الاجتماعي يمتد بجذوره في حكومة ثابتة الأركان، وإدارة ذات كفاءة وحرية على مستوى الأمة كلها، وقانون دائم·(ملحق/361)
ومع هذا كان هناك متذمرون، فقد شعر اليعاقبة أن دستور السنة الثامنة قد تجاهلهم ذلك أن الحكومة النيابية (حكومة التمثيل الوطني representative government) التي أخذ بها الدستور إنما هي حكومة تُسلِّم الثورة·· بشكل متملق للبورجوازية· وكان العديد من الجنرالات في حالة دهشة فَلِمَ لم يختر القدر واحداً منهم ليتسنم الذروة السياسية بدلاً من هذا الكورسيكي Corsican التافه (نابليون) ومن أقوال نابليون أنه ليس من جنرال من هؤلاء الجنرالات إلا وتآمر ضدي وحزن الكاثوليك لأن الدستور أقر مصادرة الثورة لممتلكات الكنيسة، وعم الاضطراب مرة أخرى منطقة الفندي Vendee (1800) · والملكيّون تملكهم الغيظ لأن نابليون قد رسخ وضعه بدلاً من أن يدعو لويس الثامن عشر ليعتلي عرش البوربون Bourbon ·
وبدأ الملكيّون في شن حملات صحفية رافضين الحكم الجديد وساعدهم على ذلك أنهم كانوا يسيطرون على معظم الصحف · وقد رد نابليون على هذه الحملات (17 يناير سنة 1800) بوقف ستين صحيفة من ثلاث وسبعين صحيفة كانت تصدر في فرنسا في ذلك الوقت بحجة أنها تتلقى أموالاً من دول أجنبية· وتم تقليص الصحافة الراديكالية أيضا وأصبحت جريدة المونيتور (المرشد أو المعلم Moniteur) هي الجريدة الرسمية الناطقة باسم الحكومة· وأدان الصحفيون والكتاب والفلاسفة هذا التعدي على حرية الصحافة، والآن تحقق أمل مدام دي ستيل لتلعب دور إيجيريا Egeria ( الناصحة) فبدأت هجوماً ضارياً استمر طوال حياتها ضد نابليون واصفة إياه بأنه دكتاتور وَأَدَ الحرية في فرنسا·
وكانت صحيفة المونيتور هي اللسان الناطق بالدفاع عن نابليون· لقد قالت أنه لم يدمر الحرية، وإنما كان هذا أمراً قائماً بالفعل بسبب الحاجة إلى حكومة مركزية لأغراض الحرب، وبسبب تلاعب اليعاقبة بالانتخابات، ودكتاتورية الجماهير المشاغبة، وتوالي الانقلابات في الأعوام التي تولت فيها حكومة المديرين الحكم، وما كان قد تبقى منها (الحرية) تمرغ في أوحال الرشوة السياسية والفساد الأخلاقي·(ملحق/362)
إن الحرية التي وَأَدَها (صَلَبها) نابليون كانت هي حرية الجماهير بعدم الالتزام بالقانون، حريتهم في ارتكاب الجرائم والسرقة والقتل، حرية الدعاية الغوغائية في الكذب وحرية القضاة في تقاضي الرشاوى وحرية رجال المال في الاختلاس، وحرية رجال الأعمال في الاحتكار· ألم يدافع مارا Marat عن الدكتاتورية باعتبارها العلاج الوحيد لفوضى المجتمع التي ضربت أطنابها فجأة بسبب وصاية الدين والهيمنة الطبقية والأوتوقراطية الملكية، وأوصى بترك الأمور تحت رحمة إلحاح الغرائر وطغيان العامة؟ ألم تمارس لجنة الأمن العام هذه الدكتاتورية ممارسة فعلية؟ لقد آن الأوان لفرض شيء من النظام لإعادة ضبط الأمور، فهذا أمر لازم لتقوم الحرية على أساس ·
أما الفلاحون فلم يكونوا بحاجة لمثل هذه الحجج ليؤيدوا الدستور الجديد، فهم يمتلكون الأراضي وقد أيدوا سراً كل حكومة تقمع اليعاقبة· وهنا وجدنا البروليتاريا في المدن يتفقون مع الفلاحين - رغم المصالح الاقتصادية المتعارضة· أما ساكنو الشقق - عمال المصانع والكتبة في المحلات والبائعون الجوالون - الذين هم مثل السانس كولت (الذين يرتدون البناطيل الطويلة أي الذين ليسوا نبلاء ولا إكليروس) وكانوا يكافحون طلباً للخبز والسلطة، فقد وجدناهم يفقدون إيمانهم بالثورة التي حلقت بهم في عنان السماء ثم هوت بهم من حالق، تاركة إياهم وقد تمزقت آمالهم، ولم يبق هناك سحر يثيرهم سوى بطل الحرب وهازم إيطاليا فهو في رأيهم لن يكون أسوأ من السياسيين في حكومة الإدارة· أما البورجوازيون - رجال البنوك والتجار ورجال الأعمال - فكيف يرفضون رجلا احترم المِلكية (بكسر الميم) احتراما كاملا وأقر مبدأ الحرية الاقتصادية؟ إنهم به (أي بنابليون) ربحوا الثورة وورثوا فرنسا· لقد كان هو رجلهم حتى سنة 1810·
وعندما أصبح نابليون واثقاً من تأييد الغالبية العظمى له طرح الدستور الجديد للاستفتاء العام في 24 ديسمبر سنة 1799 ولا ندري إن كان هذا الاستفتاء قد جرى التلاعب فيه مثل كثير من الاستفتاءات المشابهة قبل ذلك وبعده أم لا، لك الإحصاء الرسمي للأصوات يشير إلى موافقة 3,011,107 على الدستور الجديد، واعتراض 1562 ·(ملحق/363)
ولما أدرك نابليون كثرة المؤيدين له، انتقل مع أسرته ومعاونيه من لكسمبرج المزدحمة إلى قصر التوليري الرحب وكان ذلك في 19 فبراير سنة 1800· وكان انتقاله مصحوباً بموكب فخم يضم ثلاثة آلاف تشكيل من الجنود، وجنرالات يركبون خيولاً، والوزراء في العربات وأعضاء مجلس الدولة في مركبات كبيرة، أما القنصل الأول (نابليون) فكان في مركبة فخمة تجرها ستة خيول بيض· لقد كان هذا الموكب أول نموذج للعروض التي كان نابليون يأمل عن طريقها في التأثير في جماهير باريس· وقد شرح ذلك لسكرتيره:
بوريين سنبيت أخيراً هذه الليلة في قصر التوليري· إنك في حال أفضل مني: "فأنت لست مضطرا لإظهار نفسك، لكنك قد تأخذ طريقك إلى هناك· وعلى أية حال فلابد أن أذهب إلى التوليري في موكب، وهذا يُزعجني لكنه ضروري للحديث إلى عيون الناس··· في الجيش تتجلى البساطة لكن في مدينة كبيرة وفي القصر لابد أن يجذب رئيس الحكومة الانتباه بكل طريقة ممكنة مع الحذر" ·
واكتملت طقوس النصر بملاحظة مزعجة: على أحد مراكز الحراسة في ساحة قصر التوليري Roederer قرأ نابليون: "العاشر من أغسطس 1792 - تم إلغاء الملكية في فرنسا ولن تعود مرة أخرى أبدا" وأثناء تجواله في غرف القصر التي سبق أن شهدت يوما ما ثراء البوربون، أبدى مستشار مجلس الدولية - روديريه - الملاحظة التالية: "أيها الجنرال هذا محزن" فأجاب نابليون: "نعم، محزن مثل العظمة" واختار نابليون غرفة واسعة لا يزينها سوى الكتب ليعمل بها مع سكرتيره بوريين Bourrienne وعندما أطلعه مساعدوه على السرير الملكي وغرفة النوم الملكية رفض استخدامها مفضلاً النوم بشكل معتاد مع جوزيفين إلا أنه على أية حال قال لزوجته بطريقة لا تخلو من فخر تعالي يا صغيرتي كرول Creole ونامي في سرير سادتك ·(ملحق/364)
2 - معارك الحكومة القنصلية
لقد أسس نابليون نظاماً داخليا وهيأ ظروفا تؤدي إلى ازدهار اقتصادي لكن بقي أن فرنسا كانت محاطة بالأعداء بسبب الحروب التي بدأتها (أي فرنسا) في 20 أبريل سنة 1792· لقد كان الشعب الفرنسي يتطلع للسلام لكنه كان يرفض التخلي عن المناطق التي سبق أن ألحقتها الثورة بفرنسا: أفنيون وبلجيكا والشاطئ الشمالي للراين وبازل Basel، وجنيف وسافوي Savoy ونيس Nice · وكانت كل هذه المناطق تقريباً داخلة فيما أطلقت فرنسا عليه اسم حدودها الطبيعية وقد تعهد نابليون في قَسَمِه عند تولي السلطة بحماية هذه الحدود - الراين والألب والبيرينيز Pyrenees والحدود البحرية - باعتبارها مناطق كانت تابعة لبلاد غال Gaul القديمة وبالتالي فهي فرنسية· وأكثر من هذا فقد كانت فرنسا قد استولت على هولندا وإيطاليا ومالطة ومصر· أكانت فرنسا راغبة في التنازل عن هذه البلاد التي فتحتها مقابل السلام أم أنها سرعان ما سترفض أي زعيم يتفاوض للتخلي عن هذه المكاسب المربحة؟ إن شخصية فرنسا قد التحمت مع شخصية نابليون في سياسة فخورة ملؤها الوطنية والرغبة في الحرب·
وقد تلقى نابليون في 20 فبراير سنة 1800 خطابا يضم اقتراحا هو بمثابة مَخْرج من هذا القدر المحتوم· إنه خطاب من لويس الثامن عشر الذي يعترف به - تقريباً - كل الذين تركوا فرنسا مهاجرين بسبب أحداث الثورة، وكل أنصار النظام الملكي· يقول فيه:
سيدي
إن الرجال من أمثالك، مهما كان مسلكهم الظاهر لابد أنهم لا يرومون الأذى· لقد حققت مكانة عظيمة، وإنني أشكرك لهذا· إنك تعلم أكثر من أي شخص آخر مدى القوة والسلطة المطلوبتين لضمان السعادة لأمة عظيمة· أنقذ فرنسا من العنف فإن فعلت حققت أهم ما يصبو إليه قلبي· أعد لفرنسا ملكها، وستحيي الأجيال القادمة ذكراك وتباركها· وستكون دائما ضرورياً جداً للدولة فبشغلك للمناصب المهمة سأكون قادراً على رد أفضالك على أسرتي وعليَّ شخصيا·
لويس LOUIS(ملحق/365)
وترك نابليون هذا الطلب بلا إجابة· فكيف يستطيع أن يعيد إلى العرش رجلاً وعد رجاله المخلصين أن يعيد الحال في فرنسا إلى ما كان عليه قبل الثورة بمجرد عودته للعرش؟ وماذا يمكن أن يحدث للفلاحين المحررين الذين أصبح لهم حق الاقتراع؟ وماذا سيحدث لمن اشتروا ممتلكات الكنيسة؟ بل وماذا سيحدث لنابليون؟ فالملكيون الذين كانوا يتآمرون عليه يوميا، كانوا يعلنون ما يجب أن يفعلوه مع هذا الدَّعِيْ (نابليون) الذي تجرأ على تسنم منصب الملك دون أن يكون له مسوّغ أو أصل نبيل ·
وفي يوم عيد الميلاد Christmas Day ( الكريسماس) في سنة 1799 (وهو اليوم التالي لاعتماد نتيجة الاستفتاء الذي أقر حكمه لفرنسا) كتب نابليون إلى ملك إنجلترا جورج الثالث George III:
"··· أظن أنه من الملائم أن أخبر جلالتكم بالحقيقة وأكتبها لكم بخط يدي، وفقاً لما تمليه عليَّ مسئولياتي، بعد أن دعيت وفقاً لإرادة الشعب الفرنسي لشغل أعلى منصب في الجمهورية·
أليست هناك نهاية للحرب التي أشاعت الاضطراب في مختلف أنحاء المعمورة طوال السنوات الثماني الماضية؟ أليست هناك وسائل نصل بها إلى تفاهم؟ كيف لأمتين هما الأكثر تنوراً في أوروبا، وهما الأكثر قوة حتى أن قوة أي منهما تفوق ما يتطلبه أمنها واستقلالهما - كيف لهما أن يقنعا بالتضحية بنجاحاتهما التجارية ورخائهما الداخليين وسعادة شعبيهما من أجل أحلام العظمة الخيالية؟ كيف لا تدرك أمتانا أن السلام محقق لعظمة كل منهما بالإضافة لكونهما في أمسّ الحاجة إليه؟
إن مثل هذه المشاعر لا يمكن أن تكون بعيدة عن قلب جلالتكم لأنكم تحكمون أمة حرة ولا هدف لكم إلا أن تكون أمة سعيدة·
إنني أتوسل من جلالتكم أن تصدقوا أنه عند تناولكم هذا الموضوع، فإنني سأكون مخلصا وراغبا في المشاركة العملية لتحقيق هذا الأمر··· أي العمل من أجل تحقيق سلام كريم·· إن قدر كل أمة متحضرة يقوم على إنهاء الحرب التي أزعجت العالم كله "·(ملحق/366)
ووجد جورج الثالث أنه لا يليق بملك أن يجيب فردا من العامة (يقصد نابليون) فعهد إلى اللورد جرنفيل Grenville بهذه المهمة، فأرسل جرنفيل إلى تاليران (في 3 يناير سنة 1800) ملاحظات حادة تشير إلى اعتداءات فرنسا وأن إنجلترا لا تستطيع التفاوض مع فرنسا إلا إذا عادت أسرة البوربون إلى المُلك فعودتها شرط لإحلال السلام· وتلقى نابليون الرد نفسه من المستشار النمساوي بارون فرانتس فون توجوت Baron Franz von Thugut على خطاب أرسله إلى الإمبراطور فرانسيس الثاني· وربما لم يضع نابليون في اعتباره أن تكون الردود على هذا النحو· إنها على عكس ما كان يتوقع· فلم يُخبر أحد نابليون أن رجال الدولة يزنون كلماتهم وفقاً لعدد ما لديهم من بنادق ومدافع فقد ظلت الحقيقة الواقعة تتمثل في أن الجيش النمساوي قد استعاد شمال إيطاليا ووصل إلى نيس Nice وأن الجيش الفرنسي حبيس في مصر يحاصره البريطانيون والأتراك (العثمانيون) وقد اقترب وقت استسلامه أو تدميره·
لقد كان الجنرال كليبر Kleber ( كليبه) قائداً شجاعاً وذكياً، لكنه كان دبلوماسياً غير ناجح، ذلك أنه عندما لم يتوقع وصول نجدة شارك رجاله القنوط والجزع، إذ أصدر أوامره للجنرال ديزييه Desaix بتوقيع اتفاق في العريش (24 يناير سنة 1800) مع الترك (العثمانيين) والقائد الإنجليزي المحلي يقضي بمغادرة القوات الفرنسية أراضي مصر بسلام بأسلحتهم وأمتعتهم محتفظين بشرفهم العسكري على سفن تركية تنقلهم لفرنسا، في هذه الأثناء كان الفرنسيون (في مصر) يسلمون للترك (العثمانيين) الحصون التي كان يحتمي بها الأوروبيون (المقصود هنا: الفرنسيون) من هجمات المصريين، وعندما تم التسليم وصلت تعليمات من الحكومة البريطانية برفض شروط الإخلاء (وفقاً لاتفاق العريش الآنف ذكره) مصرَّة على أن يُلقي الفرنسيون (في مصر) أسلحتهم ويسلموا أنفسهم كأسرى حرب·(ملحق/367)
ورفض كليبر ذلك وطالب بإعادة الحصون التي كان قد سلمها، وما كان الترك (العثمانيون) ليقبلوا ذلك وتقدموا نحو القاهرة، فقاد كليبر رجاله البالغ عددهم عشرة آلاف ليواجه القوات التركية البالغ عددها عشرين ألف مقاتل قوي في سهول هليوبولس (عين شمس) ورفع من الروح المعنوية لرجاله بخطاب بسيط إنكم لا تملكون من مصر سوى الأرض التي تحت أقدامكم، فإن لم تتراجعوا سوى خطوة واحدة لضاع كل شيء وبعد معركة استمرت يومين (20/ 21 مارس 1800) استسلمت الشجاعة التركية (العثمانية) أمام التكتيكات الفرنسية المنظمة وعاد من بقي من المنتصرين إلى القاهرة لينتظروا مرة أخرى المدد من فرنسا·
ولم يستطع نابليون أن يُرسل لهم غوثاً لأن بريطانيا كانت تتحكم في البحر المتوسط· لكنه كان يستطيع أن يفعل شيئاً ما إزاء التقدم الناجح الذي أحرزه الجنرال النمساوي الذي نيَّف على السبعين بعام (بارون فون ميلاس von Melas) على رأس مائة ألف من خيرة الجنود النمساويين عبر شمال إيطاليا إلى ميلان· لقد أرسل نابليون القائد ماسينا Massena لوقف تقدمه لكنه هُزم ولجأ بقواته إلى حصن جنوى Genoa فترك ميلاس قوة لمحاصرته وعيَّن فصائل إضافية لحراسة ممرات الألب تحسبا لهجوم قادم من فرنسا وتقدم على طول الريفيرا Riviera الإيطالية حتى وصلت طلائع قواته إلى نيس Nice في أبريل سنة 1800· لقد قُلِبت (بضم القاف) الموائد على رأس نابليون أو بتعبير آخر صار موقفه حرجاً: فالمدينة التي كان قد بدأ منها هجومه لفتح سهل لومبارديا Lombardy في سنة 1769 أصبحت الآن في أيدي أمة كانت قد ذاقت الهزيمة على يديه - في الوقت الذي كان فيه أفضل جزء من جيشه المشهور الذي عُرف بالجيش الفرنسي فاتح إيطاليا مقسَّماً ضائعاً في مكان ناء بلا أمل هناك في مصر· لقد كان هذا أكبر تحد واجهه نابليون حتى الآن·
لقد ترك نابليون أمور إدارة فرنسا وطرحها جانباً، وعاد مرة أخرى قائداً عاماً يجمع المال ويحشد الجنود والعتاد ويرفع المعنويات وينظم الإمدادات ويدرس الخرائط ويرسل التوجيهات لجنرالاته· وعَهِد إلى مورو Moreau وهو الأكثر صراحة في إظهار عدائه لأعداء نابليون بجيش الراين وزوده بتعليمات حاسمة لا رحمة فيها:(ملحق/368)
"اعبر الراين وشق طريقك عبر الأقسام النمساوية تحت قيادة المارشال كروج Krug ثم أرسل 25,000 من رجالك عبر ممر القديس جوتهارد St. Gotthard في إيطاليا لدعم جيش الصمود Army of Reserve ".
الذي وعده نابليون بانتظاره قرب ميلان· وقد نفذ مورو معظم هذه الأعمال البطولية، ولكنه شعر - وربما كان على حق - أنه في موقفه هذا المنطوي على المخاطرة لن يعود لقائده (نابليون) إلاّ بخمسة عشر ألف رجل·
ومن بين كل معارك التاريخ العظمى، كانت معركة سنة 1800 هذه أحكمها تخطيطاً وأكثرها دهاءً وفي الوقت نفسه أسوأها تنفيذاً· لقد كان تحت قيادته المباشرة أربعة آلاف مقاتل فقط معظمهم من المجندين إلزامياً الذين لم يألفوا مشاق الحرب· تمركزت القوات بالقرب من ديجون Dijon وكان من الممكن أن تتحرك فوق الألب بالقرب من البحر إلى نيس لتنقض في هجوم مواجه (أمامي) على قوات ميلاس، لكن عدد القوات كان قليلاً جداً، بالإضافة إلى أن الجنود لم يكونوا متمرسين بالحرب جيداً، وحتى لو أنهم انقضوا عليه (ميلاس) وهزموه في مثل هذه المواجهة فقد كان يمكنه الانسحاب بأمان عبر شمال إيطاليا إلى مانتوا Mantua الحصينة·
وبدلاً من ذلك اقترح نابليون أن يقود قواته عبر ممر القديس برنار St. Bernard في لومبارديا ليتَّحِد مع الرجال المتوقع وصولهم مع مورو ويقطع خطوط مواصلات ميلاس ويجتاح الفصائل العسكرية النمساوية التي تحرس هذه الخطوط لينقض على جيش هذا البطل الهرم (العجوز) أثناء تراجعه السريع من الريفيرا Rivera الإيطالية وجنوى في اتجاه ميلان· ومن ثم يواجهه فإما هزمه وإما انهزم أمامه، وفي أفضل الحالات فإنه (أي نابليون) سيحاصره ويمنعه من التراجع ويجبر جنراله على تسليم كل الشمال الإيطالي·
وذات يوم (17 مارس سنة 1800) أمر نابليون سكرتيره بوريين أن يبسط خريطة كبيرة لإيطاليا فوق الأرض· يقول بورين ثم انبطح أرضاً ليطالعها، ورغب إليَّ أن أفعل الشيء نفسه وفوق نقاط معينة على الخريطة ثبَّت دبابيس ذوات رؤوس حُمر، وفوق نقاط أخرى ثبّت دبابيس لونها أسود· وبعد تحريك الدبابيس حول مواقع مختلفة على الخريطة سأل سكرتيره:(ملحق/369)
"أين سأضرب ميلاس فيما تظن؟ ··· هنا في سهول نهر سكريفيا the River Scrivia" ,
وأشار إلى سان جيليانو San Giuliano· لقد كان يعلم أنه يخاطر بكل شيء من أجل معركة واحدة· يخاطر بكل انتصاراته العسكرية والسياسية التي سبق أن أحرزها، لكن كبرياءه كان معه يسانده ويشد أزره· لقد ذكّر سكرتيره بورين قائلاً:
"منذ أربع سنوات مضت ألم أَسُق أمامي بجيشي الضعيف قطعان السردنيين (جيوش سردنيا) والنمساويين وطفت بجيشي على وجه إيطاليا؟ إننا سنفعل الشيء نفسه مرة أخرى، فالشمس التي تشرق فوقنا الآن هي الشمس ذاتها التي كانت تشرق في أركول Arcole ولودي Lodi· إنني أعوّل على القائد ماسينا · إنني آمل أن يصمد في جنوى، لكن إن أجبرته المجاعة على الاستسلام فأستيعد جنوى مرة أخرى وكذلك سهول السكريفيا · ساعتها سأعود مسروراً إلى عزيزتي فرنسا، ويا له من سرور! "·
لقد أضاف استعدادات لكل ما هو متوقع ببصيرة نافذة ولم يهمل التفاصيل البسيطة· لقد خطط للطريق الذي ستسلكه القوات ولوسائل النقل:
"من ديجون Dijon إلى جنيف، وبالقوارب عبر البحيرة إلي فيلينيف Villeneuve وبالخيول والبغال والمركبات أو سيراً على الأقدام إلى مارتيني Martigny، ومن هناك إلى سان بيير عند قاعدة الممر ومن ثم فوق الجبال مسافة ثلاثين ميلاً في طريق لا يتجاوز عرضه في بعض الأحيان ثلاثة أقدام عرضاً، غالباً ما يكون على طول جُروف (جمع جرف - بضم الجيم) عادة ما تغطيها الثلوج ومعرضة في أي لحظة لانهيار جليدي أو صخري أو أرضي، ومن ثم إلى التوغل في وادي دوستا (فال دوستا Valle d'Aosta) "·(ملحق/370)
ورتَّب نابليون في كل مرحلة من مراحل هذا الطريق أمر الطعام واللباس والنقل ليكون في انتظار الرجال، وفي مراكز عديدة دبر أمر النجارين وصانعي السروج وغيرهم من العمال لإصلاح ما أفسدته المسيرة، كما دبَّر أن يجري التفتيش على كل جندي مرتين أثناء الطريق للتأكد من سلامة معداته· وأرسل للرهبان الذين يعيشون في صوامع على قمم الجبال أموالاً لشراء الخبز والجبن والنبيذ لإنعاش الجنود المارين بهم· ورغم كل هذه الاستعدادات فقد ظهر كثير من أوجه القصور، لكن هؤلاء الجنود الشبان المجندين إلزامياً بدوا وكأنهم على استعداد لتحمل هذه المشاق بصبر بسبب التشجيع الصامت الذي أبداه لهم المحاربون المخضرمون·
وغادر نابليون مدينة باريس في السادس من مايو سنة 1800· وما كان يغادر حتى شرع الملكيون واليعاقبة وآل بونابرت في التدبير لشغل مكانه إذا لم يعد منتصراً وناقش سييس وآخرون مدى أحقية أي من كارنو ولافاييت ومورو لشغل منصب القنصل الأول الجديد (الذي سيحل محل نابليون) وعرض أخوا نابليون: "جوزيف ولوسيان كورثة للعرش"· وعاد جورج كادودال Cadoudal من انجلترا في الثالث من يوليو ليحرض الثوار الملكيين Chouans· لقد بدأت المواجهة الفعلية مع ممر سان بيرنار في 14 مايو· لقد تذكر السكرتير بورين قائلاً:
"لقد تقدمنا جميعاً على طول ممرات الماعز رجلاً في إثر رجل وحصانا في إثر حصان· وتم إنزال المدفعية والبنادق وتم وضعفها في جذوع أشجار جرى حفرها، وتم سحبها بالحبال·· وعندما وصلنا للقمة·· مركزنا أنفسنا في الجليد وانزلقنا فوق السفوح · وترجّل الخيالة حتى لا يؤدي انزلاق الخيول غير المدربة إلى هلاكها وهلاك راكبيها· وفي كل يوم كان قسم آخر من القوات يُكمل العبور، وبحلول اليوم العشرين من شهر مايو اكتمل العبور وأصبح جيش الاحتياط (الإنقاذ) آمناً في إيطاليا"·(ملحق/371)
وبقي نابليون في مارتيني، وهو موقع جميل في منتصف الطريق بين بحيرة جنيف والممر - حتى رأى بنفسه آخر شحنة إمدادات· وبعدها ركب إلى القمة وهناك توقف ليشكر الرهبان لتقديمهم ما أنعش جنوده، ثم انزلق فوق المنحدر في معطفه وانضم لجيش في أوستا Aosta في 21 مايو· وكان لانز Lannes قد اجتاح بالفعل الفصائل النمساوية التي واجهته في الطريق· وفي اليوم الثاني من شهر مايو دخل نابليون مدينة ميلان منتصراً - للمرة الثانية - على الحامية النمساوية· ورحب به السكان الإيطاليون كما فعلوا في المرة السابقة· لقد استعاد نابليون الجمهورية السيزالبية (جمهورية الألب الشمالية Cisalpine Republic) وسط مظاهر الفرحة الغامرة· وكان نابليون قد ارتد عن دين محمد (الذي سبق أن اعتنقه في مصر) فدعا إلى اجتماع عقده هيئة أساقفة ميلان وأكد لهم إخلاصه للكنيسة وأخبرهم أنه عند عودته لباريس سيجري صلحاً بين فرنسا والكنيسة· أما وقد أمّن ظهره على هذا النحو فقد أصبح حراً في رسم إستراتيجية معركته بالتفصيل·
لقد انتهك القائدان مبدءاً استراتيجياً أساسياً - لا تقسِّم القوات المتاحة تقسيما لا يُمكِّنها من إعادة لمّ شملها بسرعة· فالبارون فون ميلاس تمركز بالجزء الأساسي من جيشه في اليساندريا Alessandria ( بين ميلان وجنوى) وترك حاميات في كل من جنوي وسافونا Savona وجافي Gavi وأكوي Acqui وتورين Turin وتورتونا Tortona وغيرها من النقاط التي قد تكون عُرضة لهجوم فرنسي· وتعرضت مؤخرة قواته التي كانت تزحف عائدة من نيس Nice لتنضم إليه لهجوم 20,000 جندي فرنسي بقيادة شوش Suchet وماسينا - الذي قد تمكن من الهرب من جنوى·
ولم يعد متبقياً من 70,000 نمساوي كانوا قد عبرو الأبينين من لومبارديا إلى ليجوريا Liguria ( جنوى) سوى 40,000، كان على ميلاس أن يواجه بهم نابليون وقواته· لقد أرسل جزءاً من هذه القوات المتبقية (الأربعين ألف مقاتل) لإعادة الاستيلاء على الياسنزا Piacenza باعتبارها طريقاً لا بديل له للهروب إلى مانتوا إذا حاقت بقوات جيشه الرئيسي الهزيمة· أما نابليون فقسَّم جيشه بطريقة محفوفة بالمخاطر:(ملحق/372)
"لقد ترك 32,000 مقاتل في ستراديلا Stradella لحراسة بياسنزا Piacenza و9,000 في تيسينو Tessino و3,000 في ميلان، و10,000 على طول مجرى البو Po والأدّا Adda"·
لقد ضحّى ببقاء جيشه موحدا رغبة منه في سد كل طرق الهرب في وجه رجال ميلاس ·
وتعاون جنرالاته في إنقاذ سياسة الطريق المسدود هذه بعدم ترك نابليون يدخل المعركة الرئيسة بلا استعداد· ففي 9 يوليو قاد لانز 8,000 مقاتل من ستراديلا ليواجه بهم 18,000 مقاتل نمساوي كانوا في طريقهم الى بيسانزا، وتراجع الفرنسيون في مواجهة كلفتهم الكثير عند كاستيجيو Casteggio رغم صمود لانز الذي ظل يقاتل وهو متسربل بالدماء في طليعة قواته، لكن مدداً من ستة آلاف مقاتل فرنسي وصل في الوقت المناسب ليحوِّل الهزيمة إلى نصر بالقرب من مونتبلو Montebello·
وبعد ذلك بيومين سعد نابليون بوصول واحد من أقرب جنرالاته إلى نفسه قادماً من مصر· إنه لويس ديزييه Louis Desaix الذي ربما كان يعادل مورو Moreau وماسينا Massena وكليبر ولانز في مواهبه العسكرية، وإن كان يفوقهم جميعاً في رزانته الشخصية رزانة تصل إلى حد الكمال، وفي 13 يونيو أرسله نابليون إلى جنوب نوفي Novi على رأس 5000 رجل ليتأكد من الإشاعة التي مؤدّاها أن ميلاس ورجاله يهربون إلى جنوى حيث يمكن للأسطول البريطاني مساعدتهم على إتمام الهروب أو يقدم لهم دعماً من الغذاء والسلاح· وعلى هذا فقد ظل التشكيل الرئيسي لجيش نابليون يتناقص حتى حلول المعركة الفاصلة في 14 يونيو·
لقد كان ميلاس هو الذي اختار موقع المعركة الفاصلة، بالقرب من مارينجو وهي قرية على طريق أليساندريا - بياسنزا حيث لاحظ سهلاً فسيحاً يمكنه فيه حشد قواته البالغ عددها 35,000 مقاتل الذين لا يزالون متاحين له مع مائتي قطعة مدفعية· وعلى أية حال، فعندما وصل نابليون إلى هذا السهل في 13 يونيو لم يجد دليلاً يشير إلى أن ميلاس كان يخطط للمغامرة بالخروج من أليساندريا فترك عند مارينجو فصيلين عسكريين بقيادة الجنرال فيكتور، وفصيلاً آخر بقيادة لانز مع خيالة بقيادة مورو وأربعة وعشرين مدفعا فقط·(ملحق/373)
وعاد هو نفسه (نابليون) بحارسة القنصلي في اتجاه فوجيرا Voghera حيث رتب للقاء مع ضباط من جيوشه المتناثرة· وعندما وصل لنهر السكريفيا Scrivia وجد مياهه وقد فاضت بدرجة كبيرة بسبب مياه الربيع، حتى أنه أجّل عبور النهر وبات ليلته في تور دي جارو فولو Torre di Garofolo· وكان هذا التأخير من حُسن حظه فلو أنه واصل طريقه الى فوجيرا لكان من المحتمل ألا يصل إلى مارينجو في الوقت المناسب لإصدار الأمر الذي يوفِّر يوما·
وفي وقت باكر من يوم 14 يونيو أمر ميلاس جيشه بالتقدم في سهل مارينجو وأن يشق طريقه إلى بياسنزا ففاجأت قوات نمساوية قوامها 30,000 مقاتل القوات الفرنسية بقيادة فيكتور ولانز ومورو البالغ عددها 20,000 مقاتل، وتراجع الفرنسيون رغم بطولتهم المعتادة أمام وابل قذائف المدفعية التي أهلكت منهم عدداً كبيراً، واستيقظ نابليون في جاروفولو Garofolo على صوت المدافع التي وصلت إلى أسماعه من مكانها البعيد فأرسل مبعوثاً لاستدعاء ديزييه من نوفي Novi واندفع هو نفسه إلى مارينجو وهناك خاضت قواته المكونة من 800 مقاتل من حرسه معركة شرسة لكنها لم تستطع وقف النمساويين، وواصل الفرنسيون تراجعهم إلى سان جوليانو · وكان ميلاس متعجلاً لطمأنة الإمبراطور فأرسل رسالة إلى فيينا يعلن فيها أنه حقق النصر، وانتشر التقرير نفسه في باريس مما سبب ذعراً للعامة وفرحاً لأنصار الملكية·(ملحق/374)
لقد جرى ما جرى بدون ديزييه الذي لم يعمل النمساويون له حساباً، وسمع ديزييه أيضاً وهو في الطرق إلى نوفي Novi دمدمة المدافع فعاد فجأة على رأس قواته البالغ عددها 5,000 مقاتل في اتجاه أصوات الدمدمة ووصل إلى سان جوليانو في الثالثة بعد الظهر فوجد إخوانه الجنرالات ينصحون نابليون بالتراجع أكثر فأكثر فاحتج فقالوا له لقد خسرنا المعركة فقال هذا صحيح، لكن الساعة الآن الثالثة بعد الظهر فقط وهناك وقت لكسب معركة أخرى فوافقوه ونظم نابليون خط هجوم جديد وركب حصانه بين الجنود لرفع روحهم المعنوية وقاد ديزييه العملية فتعرض لطلقة من نيران العدو وخرّ من فوق حصانه وأوصى وهو يموت من يليه في القيادة اخف خبر مماتي، حتى لا يؤثر في معنويات الجنود ومع أن الجنود قد علموا بموته إلاّ أن ذلك لم يؤثر فيهم سلباً بل جعلهم يندفعون صائحين أنهم سيثأرون لمقتل قائدهم·
ومع هذا فقد واجهوا مقاومة لا تكاد تلين· فلما رأى نابليون ذلك أرسل إلى كيلرمان Kellermann تعليمات بالتوجه بكل قوة الخيالة التي معه لإنقاذ الرجال، فانقض بقواته بشراسة على جناح الجيش النمساوي فشقه قسمين واستسلم 2000 منهم وتم أسر الجنرال فون تساخ Von Zach الذي كان يقود الجيش بدلاً من ميلاس الغائب، وسلّم تساخ سيفه إلى نابليون، واستُدعي ميلاس من أليساندريا ليأتي متأخراً بحيث لا يستطيع تغيير نتيجة المعركة فعاد منكسر القلب حزيناً إلى مقره·
ولم يكن نابليون ليستطيع أن يسعد تماماً بهذا النصر لقد خسر خسارة شخصية أثّرت فيه تأثيراً عميقاً بموت ديزييه المخلص بالإضافة إلى كثيرين من الضباط الآخرين الذين لاقوا حتفهم مع ستة آلاف فرنسي في سهل مارينجو Marengo ولم يشف غليله موت ثمانية آلاف نمساوي هناك في اليوم نفسه، فنسبة القتلى النمساويين إلى إجمالي عدد القوات النمساوية كانت أقل من نسبة القتلى الفرنسيين إلى إجمالي عدد القوات الفرنسية·(ملحق/375)
وفي 15 يونيو طلب البارون فون ميلاس من نابليون عقد هدنة بعد أن أدرك أن ما تبقى من قواته في حالة لا تسمح له بخوض معركة جديدة· وكانت شروط الهدنة قاسية إذ كان على النمساويين إخلاء كل ليجوريا Liguria وبيدمونت، وكل لومبارديا إلى الغرب من منشيو Mincio ومانتوا وأن يعيدوا للفرنسيين كل الحصون في المناطق المسلحة· ويُسمح في مقابل ذلك بمغادرة القوات النمساوية محتفظة بشرفها العسكري كله، ووافق ميلاس على هذه الشروط التي ألغت حصاد كل فتوحاته في يوم واحد وأرسل إلى إمبراطور النمسا ملتمساً منه إبرام هذا الاتفاق· وفي 16 يونيو أرسل نابليون رسالة إلى فرانسيس الثاني يطلب منه السلام على كل الجبهات· وبعض فقرات ذلك الخطاب لا يمكن أن تأتي إلاَّ من داعية للسلام:
"·· لقد كانت هناك حرب بيننا· آلاف من النمساويين والفرنسيين قضوا نحبهم·· آلاف من الأسر المحرومة تدعو أن يعود الآباء والأزواج والأبناء! ·· الشر لا علاج له، لكن عساه - على الأقل - يُعلمنا أن نتجنب كل ما قد يُطيل فترة العداء· لقد أثرت هذه المشاهد في قلبي لدرجة جعلتني أرفض قبول ما أحرزته من تقدم في السابق لآخذ على عاتقي الكتابة إلى جلالتكم مرة أخرى متوسلاً إليك أن تضع نهاية لمآسي أوروبا·
في ميدان معركة مارينجو Marengo حيث يحيط بي الذين عانوا ويلات المعركة، وأنا في وسط 15,000 جثة، أتوسل إلى جلالتكم أن تسمع نداء الإنسانية وألا تسمح لأبناء أمتين قويتين يتسمون بالشجاعة، أن يذبح بعضهم الآخر من أجل مكاسب أنتم تعلمون أنها لا تعني شيئا···
إن المعركة الحالية هي خير برهان على أن فرنسا ليست هي التي تهدد ميزان القوى· فكل يوم يؤكد أن إنجلترا هي التي تهدد ميزان القوى· إنجلترا التي احتكرت تجارة العالم وإمبراطورية البحار التي تستطيع منفردة التصدي لأساطيل روسيا والسويد والدنمرك وفرنسا وأسبانيا وهولندا متحدة·
إن اقتراحاتي التي أظن من الصواب توجيها لجلالتكم هي:
1 - أن تمتد الهدنة لتشمل كل الجيوش·(ملحق/376)
2 - أن يتم إرسال مفاوضين من الطرفين إما للتفاوض سراء أم علناً، وفقاً لما تفضلونه، وأن تكون المفاوضات في مكان ما بين منيشو والشيز Chiese للموافقة على وسائل ضمان الاحتفاظ بأقل عدد من القوات ولتوضيح مواد معاهدة كامبو فورميو Campoformio التي أظهرت التجربة أنها مواد غامضة··· ·
ولم يبد أن الإمبراطور قد تأثر، فمن الواضح أن الفاتح الشاب كان راغباً في ضمان مكاسبه التي حققها ولم يكن هناك ما يشير إلى أنه راعي الحياة الإنسانية عند خوضه معاركه· وربما لم يتوقف كل من الإمبراطور والقنصل الأول (نابليون) عن التساؤل عن كيفية تصرف النمساويين والفرنسيين في إيطاليا· ووضع البارون فون توجوت von Thugut حداً واضحا لهذا الأمر بتوقيعه في 20 يونيو سنة 1800 معاهدة مع إنجلترا تضمن هذه الأخيرة تقديم عون مالي جديد للنمسا مقابل تعهدها بعدم التوقيع على معاهدة صلح منفرد مع فرنسا ·
وفي هذه الأثناء كان نابليون يلعب بكل أوراقه فحضر قداساً مهيباً (قداس تسبيحة الشكر) عبَّر فيه رجال الدين في ميلان عن شكرهم الله لخروج النمساويين من بلادهم· واحتفلت الجماهير بإقامة الاستعراضات على شرف محقق النصر (نابليون) وسأل نابليون سكرتيره بورين:
"هل سمعت يا بورين التهليل والبهجة؟ إن أصداءها لا تزال تدوي· إن هذه الأصوات عندي في مثل حلاوة صوت جوزيفين كم أنا سعيد وفخور أن يحبني مثل هؤلاء الناس! "·
لقد كان لا يزال في إيطاليا عاشقاً للغتها مفتوناً بالجمال والعاطفة والبساتين المزدانة والدين المرن المتساهل والطقوس الشجية والألحان الغامضة· لكن ما حرّك مشاعره أيضاً هو تصفيق الجماهير التي تجمعت أمام قصر التوليري في 3 يوليو في الصباح الذي أعقب عودته ليلاً إلى باريس، فقد بدأ الشعب الفرنسي يعتقد أن الله يختصه، فشربوا بشغف حتى الثمالة من كأس العظمة·(ملحق/377)
أما لويس الثامن عشر الذي ورث قروناً من العداء بين بوربون فرنسا، وهابسبورج النمسا، فلم يستطع أن يكون محايداً - إلاّ بالكاد - إزاء هذا النصر الجديد الذي حققه نابليون على أعداء البوربون القدماء، وربما أيضاً رغبة منه في أن يكون نابليون هو صانع الملك، لا الملك نفسه، لذا فقد كتب (لويس الثامن عشر) مرة أخرى إلى نابليون في يوم غير معروف من صيف سنة 1800:
"لابد أنّك مقتنع أيها الجنرال منذ فترة طويلة أنني أكن لك تقديراً كبيراً· وإن شككت في تقديري لفضلك وعرفاني بجميلك، فحدد جائزتك التي تريدها وحدّد نصيب أصدقائك· فأنا فرنسي بمبادئي، رحيم بحكم شخصيتي، وبحكم ما يمليه العقل أيضاً·
لا، فمحقق النصر في لودي Lodie وكاستليون وأركول وفاتح إيطاليا ومصر، لا يمكن أن يفضل الشهرة الزائفة على المجد الحقيقي· لكنك تضيّع وقتاً ثميناً· إنه يمكننا أن نؤكد عظمة فرنسا، وأنا أتحدث بضمير جمع المتكلِّمين وأقول يمكننا لأنني في حاجة إلى عون بونابرت، وبونابرت لا يستطيع أن يفعل شيئاً بدوني·
أيها الجنرال إن أوروبا تنظر إليك والعظمة في انتظارك وإنني في شوق شديد لإعادة السلام لشعبي".
لويس
وقد أجاب نابليون على هذا الخطاب بعد فترة طويلة في 7 سبتمبر:
سيدي
"لقد تلقيتُ خطابك· وأشكرك على ملاحظاتك الرقيقة فيما يختص بشخصي· يجب أن تتخلى عن أي أمل في عودتك لفرنسا· فأنت إن عدت فسيكون ذلك على جثث مئات الألوف· ضَحِّ إذن بمصالحك الشخصية من أجل سعادة فرنسا وتحقيق السلام لها·· إن التاريخ لن ينسى· ولا أقول أنني لم أتأثر بمحنة أسرتك·· وسيسعدني أن أفعل ما أستطيع لأجعل حياتك في معتزلك (مكان تقاعدك) سعيدة ليس بها ما ينغِّص "·(ملحق/378)
وكان لويس الثامن عشر قد أرسل خطابه من ملجئه المؤقت في روسيا، وربما كان هناك عندما تلقى القيصر بولس الأول في يوليو سنة 1800 من نابليون هدية تكاد تكون قد غيّرت مسيرة التاريخ· ففي خلال حرب سنة 1799 وقع حوالي ستة آلاف عسكري روسي في قبضة الفرنسيين فعرض نابليون على إنجلترا والنمسا (حلفاء روسيا) أن يُبادل بهم الأسرى الفرنسيين، فرفضتا · ولم تكن فرنسا بقادرة على الاستفادة منهم بطريقة شرعية، كما أن احتفاظها بهم سيكلفها الكثير من النفقات، فأمر نابليون بإلباسهم ملابس جديدة وتسليحهم وإرسالهم إلى القيصر دون أن يطلب أي مقابل لفعله هذا · فأجاب القيصر بول بعقد أواصر الصداقة مع فرنسا، وشكّل في 18 ديسمبر سنة 1800 ضد إنجلترا العصبة الثانية للحياد المسلَّح · وفي 23 مارس سنة 1801 تم اغتيال القيصر بول فعادت الأمور سيرتها الأولى أي كما كانت قبل الهدية·
وفي هذه الأثناء رفض الإمبراطور النمساوي هدنة أليساندريا وأرسل ثمانية آلاف مسلح بقيادة الجنرال فون بيليجارد Bellegarde ليُحكم قبضته على طول مينشيو، فأجاب الفرنسيون بطرد النمساويين من تسكانيا ومهاجمتهم في بافاريا · في 3 ديسمبر سنة 1800 هزمت القوات الفرنسية بقيادة مورو والبالغ عددها 60,000 مقاتل القوات النمساوية البالغ عددها 65,000 في هوهنليندن Hohenlinden بالقرب من ميونخ، هزيمة منكرة وأسرت 25,000 نمساوي حتى أن الحكومة النمساوية وقد أدركت أن عاصمتها فيينا باتت تحت رحمة مورو، اضطرت لتوقيع هدنة شاملة في 25 ديسمبر سنة 1800 ووافقت على الدخول في مفاوضات مع الحكومة الفرنسية للوصول إلى سلام مُنفصل (منفرد) بعيداً عن القوى الأوروبية الأخرى المناوئة لفرنسا· وعند عودة مورو إلى باريس لاقى استقبالا حافلاً وهتافات مدوية بدرجة ربما أثارت بعض المشاعر المضادة لدى نابليون، لأن مورو كان أثيراً لدى الملكيين واليعاقبة على سواء وكانوا يفضلون أن يكون رأساً للدولة·(ملحق/379)
واستمرت المؤامرات ضد حياة نابليون لا تنتهي، ففي بواكير سنة 1800، تم العثور على صندوق نشوق يُشبه صندوق النشوق الذي اعتاد القنصل الأول على استخدامه، في درج مكتبه في مالميزون Malmaison، وكان هذا الصندوق يحوي سماً مخلوطاً بالنشوق · وفي 14 سبتمبر و10 أكتوبر تم القبض على عدد من اليعاقبة المشتركين في مؤامرة لقتل نابليون· وفي 24 ديسمبر قاد ثلاثة من الثوار الملكيين - أرسلهم جورج كادودال Cadoudal من بريطانيا - آلة مفخخة محملة بالمتفجرات واقتحموا بها الجموع التي كانت تحمل نابليون وأسرته إلى دار الأوبرا، فقتلوا اثنين وعشرين شخصا وجرحوا ستة وخمسين ولم يُصب نابليون ولا أحد من حاشيته، وواصل نابليون طريقه إلى الأوبرا بهدوء ظاهر لكنه أمر عند عودته لقصر التوليري بإجراء تحريات دقيقة وبإعدام اليعاقبة المسجونين بالإضافة إلى نفي أو اعتقال 130 آخرين، كانوا موضع شك، أما فوشيه الذي كان يعتقد أن الملكيين - وليس اليعاقبة - هم المجرمون فقد اعتقال مائة منهم وأرسل للمقصلة اثنين في أول أبريل سنة 1801· لقد تجاوز نابليون القانون وتخطاه، لكنه كان يشعر أنه يخوض حربا وأن عليه أن يبث شيئا من الرعب في قلوب رجال كانوا هم أنفسهم يحتقرون القانون· لقد زاد عداؤه تدريجياً لليعاقبة وأصبح شيئاً فشيئاً متساهلاً مع الملكيين·
وفي 20 أكتوبر سنة 1800 أوعز إلى مساعديه بأن يشطبوا من قائمة المهاجرين إثر أحداث الثورة الفرنسية أسماء المسموح لهم بالعودة إلى فرنسا وأن يستردوا ما صادرته الدولة منهم إذا لم تكن الحكومة قد باعته أو خصصته للاستعمال الحكومي· لقد كان هناك الآن حوالي 100,000 مهاجر كان كثيرون منهم قد طلبوا الإذن بالعودة إلى فرنسا· ورغم احتجاج المعارضين الذين سبق لهم أن اشتروا الممتلكات المصادرة سمح نابليون لعدد بلغ 49,000 من هؤلاء المهاجرين بالعودة· وأكثر من هذا فقد كان يجري شطب أسماء أخرى من قائمة الممنوعين من العودة بين الحين والآخر أملاً في تقليص العداء الخارجي ضد فرنسا، وأملاً في إحلال السلام العام في أوروبا· وابتهج الملكيون لذلك، أما اليعاقبة فازدادوا كمداً·(ملحق/380)
وكانت الخطوة الأولى في برنامج السلام هذا هو اجتماع المفاوضين الفرنسيين والنمساويين في لونيفيل Luneville ( بالقرب من نانسي Nancy) · وأرسل نابليون أخاه جوزيف لعرض حُجج فرنسا هناك، ولم يُرسل تاليران، وقد قام جوزيف بمهمته خير قيام· وكان نابليون يؤيده في كل خطوة تأييداً راسخاً ينطوي على التصميم، فكانت طلباته من الجانب النمساوي تزداد إذا لمس منه أي تأخير· وأخيراً استسلم النمساويون ووقعوا على ما أسموه - بسوء فهم - سلام لونيفيل المرعب في 9 فبراير سنة 1801 بعد أن رأوا جيوش فرنسا تبتلع كل إيطاليا تقريباً ورأوها تدق أبواب فينا·
واعترفت النمسا بتبعية بلجيكا ولوكسمبورج والأراضي الواقعة على طول الضفة الغربية للراين من بحر الشمال إلى بازل لفرنسا· وأقرت ما سبق أن ورد في معاهدة كامبو فورميو Campoformio واعترفت بسيادة فرنسا على إيطاليا فيما بين جبال الألب ونابلي وما بين الأديج Adige ونيس كما اعترفت بالحماية الفرنسية على جمهورية باتافيا (هولندا) وجمهورية هيلفيتيا Helvetic Republic ( سويسرا) · لقد كتب الوزير البروسي هوجفثز Haugwitz: لقد اتفقت النمسا الآن اتفاقاً منفرداً مع فرنسا لإقرار السلام في أوروبا وارتفعت بورصة باريس عشرين نقطة في يوم واحد وراح عمال باريس يفضلون الانتصارات أكثر من تفضيلهم للتصويت في الانتخابات، يهتفون لإنجازات نابليون على الصعيدين السياسي والحربي، عاش نابليون· وعلى أية حال فربما كانت لونيفيل معركة حربية أكثر منها انتصارات دبلوماسية· لقد كانت لونيفيل انتصارا للكبرياء على التدبر والتعقل ففيها كمنت بذور حروب كثيرة انتهت بواترلو Waterloo ·(ملحق/381)
وثمَّة مفاوضات أخرى جلبت لفرنسا مزيداً من القوة فبناء على الاتفاق مع أسبانيا في أول أكتوبر سنة 1800 أصبحت لويزيانا Louisiana تابعة لفرنسا· وأدت معاهدة فلورنسا (18 مارس سنة 1800) مع ملك نابلي إلى أن أصبحت جزيرة إلبا Elba وممتلكات نابلي في وسط إيطاليا تابعة لفرنسا، وأدَّت المعاهدة نفسها إلى إغلاق موانئ نابلي في وجه التجارة البريطانية والتركية· وأدّى الإدعاء الفرنسي القديم في سان دومينجو St. Domingue - القسم الغربي من هسبانيولا Hispaniola - إلى دخول نابليون في صراع مع رجل يكاد لا يقل عنه في قوة الشخصية· إنه فرانسوا - دومينيك توسين Francois Dominique Toussaint الذي وُلد كعبد زنجي في سنة 1743 وقاد عبيد سان دومنيجو وهو في سن الثامنة والأربعين - وهي سن يفترض أن بالغها يتسم بالحذر - في ثورة ناجحة، واستولى على الجانب الفرنسي من الجزيرة ثم على الجانب الاسباني منها·
وحكم الجزيرة باقتدار لكنه وجد صعوبة في ضبط النظام المؤدي لكثرة الإنتاج بين العبيد المحررين الذين كانوا يفضلون حياة البطالة ويبدو أن ذلك بسبب الحرارة· وسمح توسين Toussaint لكثير من الملاك السابقين بالعودة إلى مزارعهم وأسس نظام عمل يكاد يكون قائما على العبودية· وقد اعترف من الناحية النظرية بالسيادة الفرنسية على سان دومينجو أما من الناحية العملية فإنه - على أية حال - احتفظ بلقب الحاكم العام طوال حياته كما احتفظ بحقه في توليه من يخلفه، تماما - إلى حد كبير - كما سيفعل نابليون بعد فترة وجيزة في فرنسا· وفي سنة 1801 أرسل القنصل الأول (نابليون) عشرين ألف عسكري بقيادة الجنرال تشارلز لكلير Leclere لإعادة بسط السيادة الفرنسية في سان دومينجو، لكن توسين واجه هذه القوات بشراسة ومع هذا فقد لاقى الهزيمة ومات في جيل Jail في فرنسا (سنة 1803) · وفي سنة 1803 وقعت الجزيرة كلها في يد بريطانيا·(ملحق/382)
وقد ظل الأسطول البريطاني - يدعمه التفوق البريطاني في مجالي التجارة والصناعة - هو العقبة الكأداء التي تعوق نجاح نابليون طوال فترة حكمه فيما خلال عامين اثنين· لقد كانت بريطانيا تستطيع أن تزوّد بالأموال جيوش حلفائها في أوروبا في محاولاتهم المتكررة للإطاحة بنابليون، فقد كانت إنجلترا قابعة وراء القنال الإنجليزي غير معرضة للدمار الذي تسببه الحرب، ثرية بفضل تجارتها البحرية التي لا ينافسها فيها أحد وعوائد مستعمراتها وسبقها في الثورة الصناعية·
لقد اتفق التجار والصناع مع الملك جورج الثالث والتوريين Tories ( حزب المحافظين البريطاني) والمهاجرين الفرنسيين الذين اضطروا لترك فرنسا إثر أحداث الثورة الفرنسية وإدموند بورك Burke - على أن عودة أسرة البوربون إلى عرش فرنسا هي الطريقة المثلى لإعادة الاستقرار إلى نظم الحكم القديمة (غير الثورية) ومع هذا فإن الجناح المعارض للتوريين (المحافظين) وكان يشكل في إنجلترا أقلية قوية بقيادة تشارلز جيمس فوكس Charles James Fox وكان يمثل الاتجاه الليبرالي الراديكالي ويضم رجالا يتسمون بالبلاغة وحُسن البيان - اعترض على أساس أن الحرب المستمرة ستنشر الفقر وتحرض على الثورة، وعلى أساس أن نابليون أصبح الآن أمراً واقعاً، وعلى أساس أن الوقت قد حان لإيجاد تسوية مؤقتة مع قائد المرتزقة الذي لا يقهر (المقصود نابليون) ·
وأكثر من هذا فقد راحوا يسوقون الأدلة على أن مسلك بريطانيا كسيدة للبحار قد خلق لها أعداء أصبحوا أصدقاء لفرنسا· وادعى الأدميرالات البريطانيون أن حصارهم لفرنسا يعطيهم - ومن معهم من بحارة - الحق في تفتيش السفن المحايدة ومصادرة البضائع المتجهة إلى فرنسا، وقد امتعضت كل من روسيا والسويد والدنمرك وبروسيا من هذا التصرف واعتبرته انتهاكا لسيادتها وكوَّنت في ديسمبر سنة 1800 عصبة الحياد العسكري الثانية واقترحت مقاومة أي تعرض بريطاني لسفنها من الآن فصاعداً·(ملحق/383)
أما وقد ازدادت حدة الخلاف، فقد استولى الدنمركيون على هامبورج (التي كانت قد أصبحت الباب الرئيسي لبريطانيا المفضي إلى وسط أوروبا)، واستولى البروسيّون على هانوفر التابعة لجورج الثالث· وأخيراً أصبح نصف أوروبا الذي كان معادياً لفرنسا، معادياً لانجلترا الآن· ولأن فرنسا كانت بالفعل تسيطر على مصبات الراين وشاطئه الشمالي، فقد أصبحت البضائع البريطانية لا تجد سبيلها - إلى حد كبير جدا - لأسواق فرنسا وبلجيكا وهولندا وألمانيا والدنمرك ودول البلطيق وروسيا· وأغلقت إيطاليا موانئها في وجه التجارة البريطانية· وكانت اسبانيا متذمرة بسبب جبل طارق، وكان نابليون يكوّن جيشاً ويبني أسطولاً لغزو إنجلترا·
وحاربت إنجلترا عن مؤخرتها، وربحت من تغيّر اتجاه الأحداث، لقد دمر أسطول بريطانيا أسطولاً دنمركياً في ميناء كوبنهاجن (في 2 أبريل سنة 1801) · وَخَلَف القيصر بول الأول، القيصر اسكندر الأول الذي غيَّر سياسة سلفه نحو فرنسا، وأدان غزو نابليون لمصر واعترف بالسيادة الإنجليزية على مالطة بعد أن كانت في يد الفرنسيين· ووقع مع إنجلترا معاهدة في 17 يونيو سنة 1801، وهكذا انهارت العصبة الثانية للحياد العسكري، ومع هذا فإن توقف الازدهار الاقتصادي في بريطانيا وتضخم الجيش الفرنسي في بولونيا وانهيار النمسا رغم المعونات المالية الباهظة التي قُدمت لها - كل ذلك جعل إنجلترا تجنح للسلم·
ففي أول أكتوبر سنة 1801 وقَّع مفاوضوها اتفاقاً مبدئياً تتعهد فيه فرنسا بتسليم مصر إلى تركيا (الدولة العثمانية)، وأن تُسلم بريطانيا جزيرة مالطة في ظرف ثلاثة أشهر لفرسان القديس يوحنا وكان لابد أن تستعيد كل من فرنسا وهولندا وأسبانيا معظم مستعمراتها التي سُلبت منها، وكان على فرنسا أن تسحب كل قواتها من وسط إيطاليا وجنوبها· وبعد سبعة أسابيع من المناقشات وقعت بريطانيا العظمى وفرنسا معاهدة السلام في أمين Amiens - تلك المعاهدة التي طال انتظارها - في 27 مارس سنة 1802· وعندما وصل ممثل نابليون إلى لندن بالوثائق مصدقة أخذت الجماهير السعيدة بألجمة خيوله وسحبت العربة إلى وزارة الخارجية وسط هتافات عاشت الجمهورية الفرنسية! عاش نابليون ·(ملحق/384)
وكانت الجماهير الفرنسية مفعمة حماساً شاكرة وممتنة للرجل الشاب (نابليون) الذي لم يتجاوز الثانية والثلاثين من عمره، والذي وضع - بألمعيّة - نهاية لحرب استمرت عشر سنين· لقد سبق أن اعترفت أوروبا كلها بمقدرته كجنرال، وهاهي ترى الآن أن هذا العقل الصافي نفسه، وهذه الإرادة الراسخة، تتألقان في مضمار الدبلوماسية أيضاً· ولم تكن أمين Amiens سوى البداية، ففي 23 مايو سنة 1802 وقَّع نابليون معاهدة مع بروسيا وفي اليوم التالي مع بافاريا وفي 9 أكتوبر مع تركيا (الدولة العثمانية) وفي 11 أكتوبر مع روسيا، وعندما اقترب التاسع من نوفمبر - الذكرى السنوية للثامن عشر من الشهر الجمهوري برومير - رتِّب الأمور للاحتفال به كمهرجان للسلام· وفي هذا اليوم أعلن بسعادة هدف جهوده: إن الحكومة إيماناً منها بطموحاتها وتنفيذاً لوعودها لن تستسلم للمشروعات المنطوية على المخاطرة· إن واجبها كان هو استعادة الهدوء، لتعمل على ترسيخ العلاقات القوية والأبدية بين الأسرة الأوروبية الكبيرة لتشكيل أقدار العالم وربما كانت هذه اللحظة هي أرقَّ لحظة في تاريخه·
3 - فرنسا المرموقة: من 1802 إلى 1803 م
قال نابليون في جزيرة سانت هيلينا St. Helena:
" لقد اعتقدتُ بكل الإخلاص أن قدري وقدر فرنسا قد استقرا في إميان لقد كنت بصدد تكريس نفسي تماماً لإدارة فرنسا، واعتقدتُ أنني سآتي بالأعاجيب "·
لقد كان هذا القول بمثابة محاولة لإزالة آثام اثنتي عشرة معركة، لكن في اليوم التالي لتوقيع سلام أمين كتب جيرولامو لوشيسيني Girolamo Lucchesini السفير البروسي في باريس لمليكه تقريراً مفاده أن نابليون قرر الالتفات للزراعة والصناعة والتجارة والفنون وكل ما يُدِرُّ عائداً مالياً والتي كانت الحرب قد استنزفتها واستمر جيرولامو قائلا إن نابليون سيتحدث بحرارة عن افتتاح الترع والقنوات وإكمالها وإصلاح الطرق وتطهير الموانئ والمرافئ وإنشاء المدن، وإقامة المؤسسات الدينية وأماكن العبادة،··· كما يتحدث عن مقررات دراسية والحقيقة إن قدراً كبيرا من التقدم في هذا المجال كان قد تحقق قبل أن تحتل الحرب - مرة أخرى - مكانة الاهتمام الأولى (16 مايو سنة 1803) ·(ملحق/385)
وكانت الضرائب معقولة وكان يتم جمعها بأقل قدر من الخداع والقوة، وقد غمرت عوائدها الحكومة فساعدت على بقاء الصناعة منتعشة وعلى تشغيل العمالة· وتوسعت التجارة بسرعة عقب رفع إنجلترا للحصار البحري، وانتعش الدين من جديد في ظل الكونكوردات Concordat ( المعاهدة الباباوية) الذي عقده نابليون مع البابا· وبدأ المعهد العلمي في وضع نظام للتعلم على مستوى الأمة الفرنسية· وجرى تقنين القوانين، وأصبح للقانون مكانته، وبلغت الإدارة درجة الامتياز وجنحت للأمانة·
وأصبحت باريس مرة أخرى - كما كانت في عهد لويس الرابع عشر - عاصمة السياحة في أوروبا· ونسي مئات من الإنجليز الرسوم الكاريكاتيرية الكثيرة التي كانت تهزأ بنابليون وتسخر منه في الصحف البريطانية فقطعوا الطرق الوعرة وعبروا القنال لإلقاء نظرة على التمثال ضئيل الحجم (المقصود نابليون) الذي تحدى القوى العظمى وفرض عليها السلام·
وأتى إليه عدد من أعضاء البرلمان الإنجليزي من مختلف الاتجاهات، ليس أقلهم رئيس الوزراء السابق والذي شغل المنصب بعد ذلك مرة أخرى: تشارلز جيمس فوكس الذي زاره في أغسطس سنة 1802، والذي سبق له أن بذل جهوداً مضنية لفترة طويلة لتحقيق السلام بين الإنجليز والفرنسيين· واعترت الدهشة الأجانب للرخاء الذي حطَّ على فرنسا بهذه السرعة بعد وصول نابليون للحكم· وقد وصف دوق بروجلي Broglie الأعوام من 1800 إلى 1803 بأنها أفضل صفحات الحوليات الفرنسية وأكثرها نبلاً ·
3/ 1 - المدوَّنة القانونية النابليونية: 1801 - 1804 م
The Code Napoleon
استغرق نابليون في ذكرياته فقال:
"إن عظمتي الحقيقية ليست في المعارك الأربعين التي خضتها وأحرزتُ فيها النصر، ذلك لأن هزيمتي في واترلو Waterloo ستمحق ذكرى هذه الانتصارات·· أما ما لا يمكن محقه، وما سيبقى أبد الدهر فهو مدوَّنتي القانونية "·(ملحق/386)
إن كلمة أبد الدهر ليست ذات طابع فلسفي، فهذه المدونة هي بالفعل أعظم إنجازاته· لقد أجبر الطيشُ والفسادُ اللذان لا ينضب معينهما المجتمعَ - بشكل دوري - على تحسين طرائقه لحماية نفسه من العنف والسرقة والغش والخداع، واقتضى هذا إعادة صياغة هذه الطرائق· وكان جستنيان Justinian قد حاول ذلك في سنة 528 للميلاد، لكن مجموعة قوانينه المدنية التي سجلها رجال القانون في عهده كانت موجودة بالفعل ولم يتعد عملهم تنسيقها ولم تكن في غالبها بناءً قانونياً جديداً يهدف إلى تغيير المجتمع واجتثاث سلبيات كانت فيه·
أما المشكلة بالنسبة لفرنسا فكانت مضاعفة لأن كل محافظة (دائرة) كان لها قوانينها الخاصة حتى أن القانون في منطقة (أو محافظة أو ولاية) لم يكن ليسود في المنطقة التي تليها· وكان مرلين الدُّوي Merlin of Douai وكامباسير Cambaceres قد قدَّما الخطوط العريضة لمدوّنة قانونية جديدة موَّحدة لحكومة المؤتمر الوطني في سنة 1795 لكن الثورة لم يكن لديها الوقت الكافي لإنجاز هذا العمل، ولأن الحكومة في ذلك الوقت كانت تواجه فوضى مربكة فقد أضافت آلافاً من القرارات والمراسيم المتسرّعة اقتضى الأمر فترةً من الوقت لتُصاغ بشكل متَّسق·
وأدى إقرار نابليون للسلام مع النمسا وبريطانيا إلى إتاحة الفرصة له لإنجاز مدوَّنته· ففي 12 أغسطس سنة 1800 فوَّض القناصل الثلاثة كلاً من فرانسوا ترونش Francois Tronchet وجان بورتالي وفيلي بيجو دي بريمينو Felix Bigot de Preameneu وجاك دي مالفيل Jacques de Maleville لوضع مخطط جديد لمدوّنة وطنية متسقة تضم القوانين المدنية وأرسل نابليون مشروع المدونة كما أعدوه وقدموه في أول يناير سنة 1801 إلى رؤساء المحاكم القانونية لإبداء تعليقاتهم وملاحظاتهم، فقدَّموه بدورهم بعد إبداء الملاحظات إلى نابليون بعد ثلاثة أشهر من إحالته لهم، فأحاله إلى اللجنة التشريعية في مجلس الدول لإعادة النظر فيه، وكان على رأس هذه اللجنة التشريعية كل من بورتالي Portalis وانطوان ثيبودو Antoine Thibaudeau وبعد أن مرَّت المدوّنة القانونية بكل هذه الفحوص تدارسها المجلس كله بنداً بنداً خلال سبعة وثمانين دورة قضائية·(ملحق/387)
وكان نابليون هو رئيس المجلس في خمس وثلاثين دورة منها· ولم يكن نابليون خبيراً بالقانون لكنه استفاد من فطنة زميله في القنصلية كامباسير وتعليمه القانوني· لقد اشترك نابليون في المناقشات بتواضع لدرجة حبَّبته إلى أعضاء المجلس وجعلته موضع إعجابهم· ولقد تأثر أعضاء المجلس بحرارته وحماسه وتصميمه فوافقوا برضا على مد فترة كل جلسة من الجلسات لتمتد من الساعة التاسعة صباحاً إلى الساعة الخامسة بعد الظهر، لكنهم لم يتحمسوا عندما دعاهم للاجتماع مرة أخرى مساء، فقد حدث أن اعترى النعاسُ بعض الأعضاء من جراء التعب في هذه الاجتماعات المسائية فنبههم نابليون - بكياسة ولطف - إلى ضرورة الانتباه· هيا أيها السادة فنحن لم نتقاض رواتبنا بعد وفي رأى فاندال Vandal أن هذه المدوّنة ما كانت لتتم أبداً لولا حثّ نابليون الدَّءوب وتشجيعه الوِدِّي ·
وغالبا ما كان القضاة وأعضاء المجلس يتوقفون عندما تتناول المدونة أمراً مرتبطاً بالتربيونية Tribunate ( محامي الشعب) · لقد أدان المجتمعون الذين كانوا لا يزالون متفاعلين مع الثورة المدونة لأن بنودها قمعت الاتجاهات التي تبنتها الثورة - باعتبارها أعادت تسلُّط الزوج على زوجته وتسلُّط الأب على أبنائه، وتوجت البورجوازية ليكونوا على رأس الاقتصاد الفرنسي· لقد تم إقرار هذه التوجهات إلى حد كبير· وقَبِلت بنود المدونة المبادئ الأساسية للثورة وطبقتها: حرية الحديث والعبادة والعمل التجاري ومساواة الجميع أمام القانون وحق الجميع في محاكمة علنية أمام القاضي، وإبطال الرسوم الإقطاعية وإلغاء العشور الكنسية وأقرت عمليات الشراء التي تمت بالنسبة لمن اشترى جانبا من الممتلكات المصادرة للكنائس أو الإقطاعيات أو الدولة،(ملحق/388)
ولكن المدوّنة حذت حذو القانون الروماني فقبلت الأسرة كوحدة أساسية للنظام الاجتماعي وكحصن للنسق الأخلاقي وأعطتها أساساً بإحياء السلطة الأبوية على النحو الذي كان سائداً في الحكم القديم (العهد البائد) فأصبح للأب الحق في التحكم في ممتلكات زوجته وأصبح له السلطة الكاملة على أبنائه حتى يبلغوا سن الرشد ويمكنه أن يطلب سجنهم فيتم ذلك بناء على طلبه هو وحده وأصبح يمكنه منع زواج الابن فيما دون السادسة والعشرين والابنة فيما دون الواحدة والعشرين· وانتهكت المدوَّنة مبدأ المساواة أمام القانون بنصها على أنه في حالة المنازعات حول الأجور فإن القول الفصل لصاحب العمل (وفيما عدا ذلك فالجميع أمام القانون سواء) ومن 12 أبريل سنة 1803 تجدد حظر الروابط العمالية (إلاّ ذات الأغراض الاجتماعية الخالصة) وبعد الأول من ديسمبر من العام نفسه (1803) أصبح على كل عامل أن يحمل معه بطاقة عمل مدوّن بها مهنته، وأعادت المدوَّنة - بموافقة نابليون - نظام الرِّق في المستعمرات الفرنسية ·
لقد كانت المدونة تمثل ردة فعل تاريخية فقد كان توجهها العام هو الانتقال من مجتمع يكثر فيه ما هو مباح إلى مجتمع منضبط على مستوى الأسرة والدولة· وكان واضعو التشريع هم رجال هذه الأعوام، إذ نبههم إفراط الثورة وإسفافها، ورفض التراث والتقاليد بطيش وبلا روية، وسهولة الطلاق وتفسخ الروابط الأسرية والسماح بالانحلال الأخلاقي بين النساء، والسماح بممارستهن للشغب السياسي، وتشجيع دكتاتورية البرولتياريا والتستر علي مذابح سبتمبر والإرهاب باسم الشعب· لقد قرر هؤلاء الرجال أن يُوقفوا ما بدا لهم مدمراً للمجتمع والحكومة· وقد أيد نابليون تأييداً مطلقاً اتجاه هؤلاء الرجال رغبة منه في استقرار فرنسا في ظل حكمه· لقد اتفق معه مجلس الدولة على ضرورة إغلاق باب المناقشة على المستوى العام في مواد المدوَّنة البالغة 2281 مادة، وفي 21 مارس 1804 أصبحت هذه المدونة - واسمها الرسمي المدونة القانونية المدنية لفرنسا - هي قانون فرنسا·
3/ 2 - الكونكوردات The Concordat ( الاتفاق مع البابا) عام 1801 م(ملحق/389)
ولم يقنع الشاب نابليون بهذا فقد كان يعرف بطبيعته القوية أن روح الإنسان لا تميل للقانون إلا قليلاً· لقد سبق له أن رأى في إيطاليا ومصر كيف أن الإنسان لا يزال في رغباته قريباً من ماضيه الأول قنّاصاً حيواناً متمرداً متحرراً· ومن عجائب التاريخ أن هذه الكائنات الحية المتفجرة (سريعة الانفعال) ظلت بمنأى عن التفسخ الاجتماعي أو بتعبير آخر لم تحطم الهيكل الاجتماعي الذي تعيش خلاله حتى الآن· أكان هذا بفضل رجال الشرطة؟ لا يمكن أن يكون الأمر كذلك لأن عدد رجال الشرطة قليل كما أنهم متباعدون (بمعنى أنهم لا يتجمعون في مكان واحد لضبطه) كما أن الميل للفوضى السياسية كامن في نصف أفراد المجتمع· فما الذي كبح انهيار البناء الاجتماعي؟
لقد انتهى نابليون نفسه - مع أنه من المتشككين في الدين skeptic - إلى أن النظام الاجتماعي قد استقر أخيراً على طبيعة هي مزاج من الحيوانية والإنسانية غُرس فيها بدقة خوف من القوى غير المنظورة supernatural powers ( القوى الغيبة أو الفوقطبيعية) ومن ثم فقد راح نابليون ينظر للكنيسة الكاثوليكية كأداة مفيدة الفائدة كلها لضبط سلوك الرجال والنساء· إنها - أي الكنيسة الكاثوليكية - تعد أداة لضبط السلوك الإنساني في مواجهة تأرجحه ما بين الموافقة والسخط إزاء التفاوت الاقتصادي والاجتماعي والجنسي· وهي - أي الكنيسة الكاثوليكية - أداة لضمان الالتزام بالوصايا الدينية التي تقاوم متطلبات الجسد·(ملحق/390)
فإذا كان يستحيل وضع رجل بوليس في كل مكان، فالآلهة موجودة في كل مكان، وكل ما هو أكثر مدعاة للرعب (من البوليس) موجود، وهو أكثر مدعاة للرعب لأنه غير مرئي ويمكن مضاعفة كم الرعب عند الرغبة أو الحاجة عن طريق الموجودات الغامضة وبالوعظ العنيف والتهديد الشديد بالثبور وعظائم الأمور التي ستصبها الآلهة أو قوى الرهبان القابعين في الصحراء أو الأماكن النائية والقادرين على توجيه طلباتهم إلى الآمر الناهي المبقي على النجوم والبشر والقادر على تدميرهم· يا له من تصور سامٍ! يا له من تنظيم لا يُضاهى بمدى انتشاره ومدى مفعوله! يا له من نظام يدعم - بلا مقابل - المعلمين والأزواج والآباء ورجال الدين والملوك! · لقد انتهى نابليون إلى أن الفوضى والعنف اللذين سببتهما الثورة قد آن وضع حد لهما وما عاد هناك مجال للحديث عن رفض الدولة للكنيسة· لقد قرر إعادة الارتباط بين الدولة والكنيسة بقدر ما يستطيع أن ينتزع ذلك من مخالب اليعاقبة المرعبين والفلاسفة المستميتين·
لقد كان الدين في فرنسا في سنة 1800 في حالة تسيب مضطربة ولم يكن هذا بعيداً عن التسيب الأخلاقي الذي خلفته الثورة· لقد أصبح هناك أقلية كبيرة في المحافظات - وربما أغلبية أهل باريس - غير مبالين بمواعظ القسس · وكان هناك آلاف من الفرنسيين - فلاحين ومليونيرات - قد اشتروا من الدولة ممتلكات الكنيسة المصادرة· وكان هؤلاء المشترون قد جرى حرمانهم من رحمة الكنيسة، وكان الناس الذين يرون فيهم مشترين لممتلكات مسروقة ينظرون إليهم بعيون غير راضية· وكان في فرنسا في ذلك الوقت ثمانية آلاف قس نشط، منهم ألفان دستوريون أي من الذين أقسموا بيمين الولاء لدستور سنة 1791 الذي أقر مصادرة ممتلكات الكنيسة، أما الستة آلاف فكانوا قسساً غير معتمدين أو بتعبير آخر غير دستوريين لرفضهم الثورة وعملهم على إبطال إجراءاتها، وكانوا قد أحرزوا تقدما في مسارهم هذا·(ملحق/391)
فقد عمل النبلاء الذين لم يغادروا فرنسا إثر أحداث الثورة وكذلك كثيرون من أفراد الطبقة البورجوازية على إعادة المكانة للدين كحصن لضمان المِلكية (بكسر الميم) والنظام الاجتماعي· وكثيرون من هؤلاء - رغم أن بعضهم كان سليل الثورة ومنتمياً إليها - أرسلوا أولادهم إلى مدارس يديرها - أو يُدرّس فيها - قسس وراهبات فهم (وفقاً لما يعتقدونه) يعلمون أكثر مما يعلم المدرسون الذين لا يرتدون الطيلسانات (عباءات رجال الدين) وهم الأقدر على تنشئة أبنائهم ليكونوا محترمين وبناتهم ليتصفن بالحياء · لقد أصبح الدين سائدا في المجتمع وفي الآداب، وسرعان ما أصبح كتاب شاتوبريان christianisme (1802) المرسوم باسم عبقرية المسيحية والذي يكيل فيه المديح للمسيحية - حديث الناس في هذا الوقت·
وقرر نابليون - في مسعاه لتدعيم حكمه الذي لا جذور له - الاستعانة بدعم الكنيسة الكاثوليكية الروحي والتنظيمي، وقد أدى هذا الاتجاه إلى تهدئة منطقة الفندي الثائرة وأسعد القاطنين في الدوائر (المحافظات) والستة آلاف قس آلآنف ذكرهم· إن نابليون بهذا يمكنه أن يضيف لرصيده تأييد البابا الأخلاقي (المعنوي) والروحي، وهو - بهذا - إنما يسحب البساط من تحت أقدام المطالبين بعودة أسرة البوربون، وهو أيضاً - بهذا - يحفظ العداء المستحكم بين فرنسا - وبينه شخصياً - وكل من بلجيكا وبافاريا والنمسا وإيطاليا وأسبانيا وهي كيانات كاثوليكية· لذا فإنني بكل ما لدي من سلطة·· أُعيد ترسيخ الدين· إنني أجعل منه الأرضية والأساس اللذين أبني فوقهما· لقد اعتبرته دعماً للمبادئ الصحيحة والأخلاق الصالحة ·(ملحق/392)
وقد قاوم اللاأدريون agnostics في باريس (القائلون بأن أمور الغيب لا سبيل للتيقن منها) وكاردينالات روما خطة نابليون هذه، فكثيرون من رجال الدين قاوموا التصديق على أي اتفاق، يتساهل بشأن الطلاق أو يُبطل دعاوى الكنيسة الفرنسية في أحقيتها في أملاكها المصادرة· واعترض كثيرون من اليعاقبة Jacobins على جعل الكاثوليكية ديناً رسمياً للأمة تحميه الحكومة وتنفق عليه، وكان من رأيهم أن مثل هذا القرار إنما هو تخلٍ عما اعتبروه أهم إنجاز من إنجازات الثورة الفرنسية، ألا وهو فصل الدولة عن الكنيسة·
أما بالنسبة للكاردينالات ورجال الدين الذين عارضوا مشروعه فقد أرهبهم مُهدداً أنهم إذا رفضوا مشروعه فإنه سيحذو حذو هنري الثامن في إنجلترا وسيفصل الكنيسة الفرنسية فصلاً كاملاً عن روما· أما بالنسبة للاأدريين (المتشككين) فحاول نابليون تهدئتهم بأن شرح لهم أنه إنما يريد أن يجعل الكنيسة أداة حكومية لاستمرار السلام الداخلي· لكنهم خشوا أن يكون اقتراحه خطوة أخرى في طريق التراجع من الثورة إلى المَلكية (بفتح الميم) · ولم يغفر نابليون أبداً للالاند Lalande ( الفلكي) رغبته في إدراج اسم نابليون في قاموس الملحدين في اللحظة ذاتها التي فتح فيها - أي نابليون - باب المفاوضات مع بلاط روما البابوي وذلك على حد ما ذكره بوريين سكرتير نابليون ·(ملحق/393)
وقد بدأت هذه المفاوضات في باريس في 6 نوفمبر سنة 1800 واستمرت عامرة بالمناورات طوال ثمانية أشهر، فقد كان الكاردينالات دبلوماسيين متمرسين لكن نابليون كان يعلم رغبة البابا الشديدة في الوصول إلى اتفاق ورغبته في تقديم كل ما هو في صالح سلطته على الكنيسة· لقد قدم البابا بيوس السابع Pius VII تنازلاً إثر تنازل لأن الخطة المقترحة عرضت إنهاء عقد من الكنبات التي ألمت بالكنيسة الفرنسية· ولأن هذه اللحظة تتيح له عزل كثيرين من الأساقفة الذين سبق وهزءوا بالسلطة الباباوية، وستمكنه - بمساعدة التدخل الفرنسي - من التخلص من الجيش النابولي الذي يحتل عاصمته، وستعيد للبابوية المفوَّضيات (فيرارا Ferrara وبولونيا Bologna ورافينا - التي عادة ما كان يحكمها سفراء باباويون papal Legates) التي انتقل حكمها إلى فرنسا في سنة 1797·
وأخيراً بعد جلسة استمرت حتى الساعة الثانية صباحاً وقع ممثلو كنيسة روما، وممثلو الدولة الفرنسية في 16 يوليو 1801 الاتفاق (الكونكوردات) الذي حكم العلاقات بين فرنسا والباباوية طوال قرن من الزمان· وصدَّق نابليون على الاتفاق في شهر سبتمبر، وصدَّق عليه البابا بيوس السابع في ديسمبر· وعلى أية حال فإن نابليون وقّع مع النص the proviso ما يفيد أنه قد يُقر فيما بعد بعض "الإجراءات لمنع ما قد ينشأ من تفسير حرفي متعنّت لهذا الاتفاق" (الكونكوردات Concordat) ·(ملحق/394)
وهذه الوثيقة التاريخية ألزمت الحكومة الفرنسية بالاعتراف بالكاثوليكية كدين للقناصل الحاكمين وكدين لأغلبية الشعب الفرنسي (وبالتالي ألزمتها بتمويلها أي الإنفاق على مؤسساتها) ولكنها - أي هذه الوثيقة التاريخية - لم تجعل الكاثوليكية دين الدولة وأكدت على حرية العبادة لكل الفرنسيين بمن فيهم البروتستنت واليهود· وسحبت الكنيسة دعاويها بأحقيتها في ممتلكات الكنيسة التي صادرتها الدولة، ووافقت الدولة - على سبيل التعويض - أن تدفع للأساقفة راتباً سنوياً، خمسة عشر ألف فرنك لكل أسقف وأن تدفع رواتب أقل لقسس الأبرشيات· وكان للحكومة - كما كان الحال زمن لويس الرابع عشر - أن تُعيِّن الأساقفة، الذين يقسمون يمين الولاء للدولة على ألا يصبح تعيينهم سارياً إلا بعد موافقة البابا· ويُعد قرار تعيين الأساقفة الدستوريين (أي الذين أقسموا يمين الولاء لدستور الثورة الأول) صحيحاً، ويُعاد كل الأساقفة التقليديون orthodox ( ولا علاقة لهذا المصطلح في هذا السياق بالمذهب الأرثوذكسي المعروف)، وتفتح الكنائس رسمياً للعبادة الصحيحة (وكانت قد فتحت عملياً بالفعل) · وبعد مناقشات طويلة سلَّم نابليون للكنيسة في مسألة مهمة وهي حقها في قبول الأوقاف (الأموال التي يوقفها المتبرعون للكنيسة بوصية bequests) ·
وليهدِّئ نابليون منتقديه من المتشككين في أمور الدين ممن هم أكثر كياسة من غيرهم من المتشككين الآخرين، فإنه أضاف من جانبه إلى الاتفاق / 121 مواد أساسية لضمان تفوق وضع الدولة على الكنيسة في فرنسا فمنع دخول أي مرسوم أو وثيقة بابوية أو موفد بابوي أو مرسوم للمجمع العام أو المؤتمر الكنسي إلى البلاد دون موافقة واضحة من الحكومة· وأصبحت الإجراءات المدنية للزواج شرطاً مسبقاً لإتمام الزواج من الناحية الدينية· وأصبح على كل الذين يدرسون ليصبحوا قسساً كاثوليك أن يدرسوا المواد الغاليَّة Gallican ( نسبة إلى بلاد غال) الصادرة سنة 1682 التي تؤكد الاستقلال الشرعي للكنيسة الكاثوليكية الفرنسية عن السيادة الباباوية المطلقة·(ملحق/395)
وفي 8 أبريل سنة 1802 تم تقديم هذا الاتفاق البابوي (الكونكوردات) المعدَّل إلى مجلس الدولة والتربيونيت Tribunate ( أو التربيون وهو مجلس الدفاع عن حقوق الشعب) والهيئة التشريعية، فهاجمه أعضاء هذه المؤسسات بضراوة باعتباره اتفاقا مناهضاً للتنوير والثورة (فقد كان من الضروري أن يكون متسقاً مع دستور سنة 1791) ولم يكن هذا ليثير الرعب لدى نابليون· وفي التريبيون دخل كونت فولني Volney المثقف في مناقشة جريئة مع القنصل الأول (نابليون) حول هذا الاتفاق البابوي (الكونكوردات) وانتخب الهيئة التشريعية تشارلز - فرنسوا دوبوي رئيساً لها، وهو مؤلف رسالة قوية مناهضة للإكليروس بعنوان "أصول كل العبادات L'Origine de tous les Cultes " (1794) · وسحب نابليون الاتفاق البابوي (الكونكوردات) من المناقشة وراح ينتظر الوقت المناسب·
وعند التسمية الجديدة لأعضاء التريبيون (مجلس الدفاع عن حقوق الشعب Tribunate) والهيئة التشريعية لم يعيّن مجلس الشيوخ كثيرين مم انتقدوا الاتفاق البابوي (الكونكوردات) · وفي هذه الأثناء كان نابليون قد نشر بين العامة قصة الاتفاق البابوي ومحتواه لأنه كان يتوقع أن الناس ستطالب بإقراره· وفي 25 مارس سنة 1802 حقق نابليون أمل الغالبية العظمى بتوقيعه اتفاق سلام مع إنجلترا، فزاده هذا قوة مما جعله يقدم الاتفاق البابوي (الكونكوردات) مرة ثانية للهيئات الآنف ذكرها، فأقره التربيون ولم يزد عدد المعارضين عن سبعة، وصوتت الهيئة التشريعية لصالحه بواقع 228 ضد 12· وفي 18 أبريل أصبح الاتفاق البابوي قانونا، وفي يوم أحد الفصح Easter Sunday تم إعلان سلام أمين والاتفاق البابوي في حفل وقور في نوتردام وسط أنين الثوريين، وضحك العسكريين وبهجة الشعب· وانتشر رسم كاريكاتيري يُظهر نابليون وقد غمر نفسه في مياه المعمودية (رمزاً يشير إلى أنه مسيحي كاثوليكي) مع عبارة ساخرة:
"عندما كان ملكاً لمصر آمن بالقرآن وعندما كان ملكاً لفرنسا آمن بالإنجيل"·(ملحق/396)
وقد عزّى نابليون نفسه بإقناعها أنه إنما كان يعبِّر عنه إرادة الغالبية العظمى من الفرنسيين وأن ما قام به يقوّي سلطانه على مستوى القاعدة رغم أنه أضعفها على مستوى القمة· لقد أعاد الأساقفة لكن منذ أن عيَّن الأساقفة ودفع لهم أجورهم، وأجور حوالي ثلاثة آلاف قس، وضع في اعتباره أنه يمكنه أن يسيطر عليهم بهذا المقود الاقتصادي· لقد ظن أن الكنيسة يمكن أن تكون إحدى أدواته تُغَنِّي لعظمته وتؤيد سياساته· فبعد ذلك بفترة وجيزة نظر إليها (أي إلى الكنيسة) باعتبارها وسيلة لتعليم الأطفال الفرنسيين أن:
"توقير الإمبراطور يعني توقير الرب ذاته وأنهم إن فشلوا في أداء واجبهم نحو الإمبراطور··· إنما هم بذلك يعصون الله، وأن هذا (عصيانهم للإمبراطور) يجعلهم يستحقون اللعنة الأبدية وعبَّر نابليون عن امتنانه لرجال الدين (الإكليروس) بحضور القداس مبدياً الطاعة"، لكنه أوصى أن "يكون القداس موجزاً بقدر الإمكان"·
لقد كان مقتنعاً في هذه اللحظات المفعمة بنشوة الانتصارات أنه قد كسب العالم الكاثوليكي كله إلى جانبه· ومن الناحية الفعلية فإن الإكليروس الفرنسيين لم يكونوا قد نسوا أبداً فقدانهم أراضيهم وكانوا ممتعضين لربطهم بالدولة بقيد الراتب (الأموال التي يتقاضونها من الدولة)، وكانوا ينظرون - أكثر فأكثر - للبابا لتأييدهم ضد حاكم كانوا يعتبرونه كافراً فيما بينهم وبين أنفسهم· إنهم وإن كانوا غاليِّين Gallican ( نسبة إلى بلاد غال) وفقاً للقانون إلا أن مشاعرهم كانت متجهة نحو البابا فعندما نزع الإمبراطور من البابا بيوس السابع الأراضي التي كانت في حوزة الباباوية لآلاف السنين (وأكثر من هذا عندما تم انتزاع البابا من روما وسجنه في سافونا Savona وفونتينبلو Fontainebleau) - هبَّ الإكليروس وجماهير فرنسا للدفاع عن حبرهم (البابا) وعقيدتهم، واكتشف نابليون متأخراً أن قوة الخرافة والكلمة أشد من قوة القانون والسيف·(ملحق/397)
4 - طريق المجد
وسط مشروعاته وانتصاراته، كان عليه دائما أن يكون حذراً لمواجهة التحديات لسلطانه وللحفاظ على حياته· وكان الملكيون في فرنسا هادئين نسبياً لأنهم كانوا يأملون في إقناعه أن أكثر الطرق التي عليه أن يسلكها أمناً هي إعادة البوربون وأن يقبل منصباً شرفياً مقابل هذا· وشجعوا كتابا مثل مدام دي جينلي de Genlis على الكتابة في هذا الموضوع، وقد صوّرت روايتها مدموازيل دي لا فاليير Mademoiselle de la Valliéve فرنسا في صورة مبهجة في ظل حكم لويس الرابع عشر· ولعبوا على الميول الملكية السرية لبورين، سكرتير بونابرت وعملوا من خلاله على كسب جوزيفين إلى صفهم· لقد كان لهذه المعشوقة تطلعات سياسية مفرطة، لقد كانت تخشى إذا أصبح نابليون ملكاً أن يطلقها ليتزوج أخرى تستطيع أن تلد له وريثاً، وحاول نابليون أن يهدئ مخاوفها ببعض لحظات العشق والدلال ولكنه منعها من التدخل في السياسات·
لقد كان نابليون يعتقد أن من يهددون سلطانه ليسوا هم الملكيين أو اليعاقبة وإنما الجنرالات الغيورين الذين يقودون الجيش الذي يعتمد عليه في المقام الأول لدعم سلطانه· لقد عبَّر هؤلاء الجنرالات علناً عن سخطهم: مورو وبيشجرو Pichegru، وبيرنادوت Bernadotte ومورا Murat وماسينا، ففي مأدبة غداء دعا إليها مورو أدان بعض الضباط نابليون واصفين إياه بأنه مغتصب ووصفه الجنرال دلما Delmas بأنه غول مجرم وكتب كل من مورو، وماسينا، وبيرنادوت طلبا لرفعه إلى نابليون مفاده أن يكتفي بحكم باريس وضواحيها، وأن يقسِّم بقية فرنسا بينهم مخولاً كل واحد منهم سلطة مطلقة على المنطقة (أو الإقليم) الذي يحكمه وعلى أية حال فإن أياً منهم لم يأخذ على عاتقه تسليم هذا الاقتراح للقنصل الأول· وكان بيرنادوت قائد جيش الغرب في رين Rennes على شفا التمرد أكثر من مرة وفقد أعصابه · وقد قال بونابرت:
"إذا حاقت بي هزيمة فسيكون الجنرالات هم أول من يتخلى عني "·
ويجب أن نفسر خطاب نابليون الذي لا يحمل طابعاً حربياً أمام مجلس الدولة في الرابع من مايو سنة 1802 دون أن نضع هذه الخلفية العسكرية التآمرية في اعتبارنا، بمعنى أنه في خطابه هذا لم يكن يشير بشكل أو بآخر إلى تآمر العسكريين عليه:(ملحق/398)
"في كل البلاد تنحني القوة أمام الحضارة: تنحني الحربة أمام القس··· وأمام من هو أكثر علماً··· فما كانت الحكومة العسكرية لتقبض على زمام الأمور في فرنسا لولا أن الأمة قد عانت من الجهل طوال خمسين عاما مما جعلها متوحشة قاسية الفؤاد··· وإذا كان لنا أن نستخلص من علاقات أخرى لأدركنا أن الرجل العسكري لا يعرف قانوناً غير القوة ولا شيء سواها··· أما الرجل المدني (المتمدن) فعلى العكس لا يرى سوى ما هو صالح· أن شخصية الرجل العسكري تجعله يُملي إرادته أو بتعبير آخر إذا أراد إذا أراد طغى بغية تحقيق إرادته، أما الرجل المتمدن فهو يطرح كل الأمور للمناقشة ويعرضها على العقل ويبسطها بين يدي الحقيقة، غالباً ما يغلِّف الخداع ذلك كله، ولكنه يُلقي مع ذلك ضوءاً··· إنني لا أتردد في أن أعزو السمو والفضل للرجل المتمدن بشكل لا يقبل الجدل·· إن الجنود هم أبناء المواطنين، والجيش الحقيقي إنما هو الأمة "·
اقترح نابليون على رفاقه الحميمين أن خططه لتأسيس فرنسا وتطويرها ستتطلب فترة حكم أطول من العِقْد الذي حصل عليه بالفعل، فقد كان نابليون مستاء من القلاقل ساعياً دوما لمزيد من السلطة· وفي الرابع من شهر أغسطس سنة 1802 أعلن مجلس الشيوخ دستوراً جديداً للسنة العاشرة من الثورة (1801) وزاد هذا الدستور عدد أعضاء مجلس الشيوخ من أربعين إلى ثمانين - وقد عيّن القنصل الأول كل الأعضاء الجدد، وصوَّت أعضاء المجلس على جعل نابليون قنصلاً أول مدى الحياة· وعندما اقترح المعجبون به تخويله حق تعيين خليفته اعترض مبدياً تواضعا غير معتاد تعيين من يخلفني أمر متناقض مع مبدأ سيادة الشعب وهو أمر غير ممكن في فرنسا لكن عندما وافق مجلس الشيوخ - بعد المناقشة - على الاقتراح بواقع 27 (موافقون) و7 (معارضون)، وجد هؤلاء المعارضون السبعة أن يسحبوا خطأهم فجعلوا القرار بالإجماع، وعندها قبل نابليون متفضلاً باعتبار هذا الأمر (تعيين من يليه في المنصب) قد حظي بموافقة عامة·(ملحق/399)
وفي 17 أغسطس كان على كل الذكور البالغين المسجلين كمواطنين فرنسيين أن يُدلوا بأصواتهم للإجابة عن سؤالين: أيجب أن يكون نابليون قنصلاً (أول) مدى الحياة؟ أيجب أن يُسمح له باختيار من يخلفه؟ وكانت نتيجة الاستفتاء 3,508,885 موافقون و8,374 معارضون · ومن المفترض - كما في استفتاءات أخرى - أنه كان للحكومة أساليبها للتشجيع على الموافقة· وتفاعلت البورصة مع نتيجة الاستفتاء مما أنعش الطبقات المالكة: لقد كان الرقم القياسي للأسهم لا يتعدى النقاط السبع قبل تولي نابليون للسلطة وقد ارتفع الآن بسرعة ليصل إلى اثنين وخمسين ·
أما وقد آوى نابليون إلى ركن متين فقد أحدث بعض التغييرات في حاشيته· لقد تخيّر مجموعة قليلة العدد من الرجال ليكوّن منهم مجلسه الخاص يستطيع من خلالهم - بعد أن أصبحت سلطته لا تحتمل الجدل - إصدار المراسيم بالإضافة إلى مهامهم الاستشارية، واختصر أعضاء التريبيون Tribunate ( مجلس الدفاع عن حقوق الشعب) من مائة إلى خمسين وجعل مناقشاته من الآن فصاعدا سرية· وأقصى وزير الشرطة (الداخلية) فوشيه النشيط إلا أنه متقلب· ودمج وزارة الداخلية مع وزارة العدل وجعل على رأسها كلود رجنييه Claude Regnier وطرد سكرتيره بوريين Bourrienne في 20 أكتوبر سنة 1802 بعد أن اكتشف أنّّه يستغل مكانته لتحقيق ثروة، وراح من الآن فصاعداً يعوّل على الخدمات المخلصة التي يقدمها له كلود مينيفال Claude Meneval· بعد ذلك أصبحت مذكرات بورين لا يعوِّل عليها لفرط عدائها لنابليون وأصبحت مذكرات مينيفال لا يعول عليها لفرط محاباتها لنابليون· وعلى أية حال - فبتناولهما بحيطة - لا يزالان يكونان أكثر الروايات تعاطفاً عن نابليون الذي شاء قدره أن يمتطي صهوة أوروبا في العشر سنوات القادمة·(ملحق/400)
وربما كان هذا الاستفتاء الذي جرى سنة 1802 - بالإضافة إلى ما حققه نابليون من انتصار في مارينجو وأمين - هو الذي دمَّر في نابليون النزعة إلى الاعتدال والقدرة على رؤية العلاقات الصحيحة بين الأشياء، وبدونهما تصبح العبقرية على شفا الجنون· لقد وجد براهين قوية وحافزة تبرِّر له اتخاذ كل الخطوات التي تُفضي به إلى السلطة التي تُصيبه بالدوار، فعندما طلب منه زعماء الجمهورية السيزالبية (جمهورية الألب الشمالية Cisalpine) المتمركزون في ميلان أن يساعدهم في وضع دستور قدم لهم واحداً ينص على اختيار ثلاثة منتَخبين (بفتح التاء) يختارون لجنة من صلاحياتها تعيين أعضاء الهيئة التشريعية ومجلس الشيوخ ومجلس الدولة الذين يختارون بدورهم الرئيس (ويتم اختيار المنتخبين الثلاثة من ملاك الأراضي ورجال الأعمال والفنيين على التوالي) ·
وبالفعل اجتمع المندوبون في ليون في يناير سنة 1802 وأقروا هذا الدستور ودعوا نابليون الذي كانوا ينظرون إليه كإيطالي في فرنسا - ليكون أول رئيس للدولة الجديدة· فقدم من باريس ليخطب فيهم بالإيطالية، وفي 26 يناير أصبح قنصل فرنسا الأول هو رئيس الجمهورية الإيطالية وسط مظاهر الفرحة والابتهاج· واعترى الذهول كل أوروبا فماذا بعد، وماذا سيفعل هذا الساحر المنوِّم في خطوته التالية ·
وزاد الحذر عندما ألحق بيدمونت Piedmont بفرنسا· لقد احتل الفرنسيون قدم الجبل في سنة 1798· لقد كانت تقع وراء الحدود الطبيعية لفرنسا والتي تعهد نابليون بحمايتها· وعلى أية حال فلو استعادها ملك سردنيا لأصبحت عازلاً معاديا بين فرنسا ومحمياتها الإيطالية في ليجوريا Liguria ولومباردي Lombardy، وفي الرابع من سبتمبر سنة 1802 أعلن نابليون أنَّ بيدمونت جزءٌ من فرنسا·(ملحق/401)
وفي سويسرا حيث سبق أن وجد طرقاً كثيرة تؤدي إلى إيطاليا لم يستطع أن يتقدم بمثل هذه الثقة، فقد كانت كانتوناتها cantons ( ولاياتها) القوية تغص برجال اعتبروا - عبر القرون - الحرية أثمن من الحياة نفسها، وكانوا على استعداد لتكبيد أي غازٍ خسائر فادحة· وعلى أية حال فقد رحَّب غالب السويسريين بالمُثُل العليا الفرنسية المعلنة في سنة 1789، وفي سنة 1798 كوَّنوا الجمهورية السويسرية (الهلفيتة Helvetic) تحت حماية فرنسا· وقاوم ملاَّك الأراضي الشاسعة هذا الإجراء وجنّدوا فلاحيهم وكوَّنوا حكومة مُنفصلة في بيرن Bern وتحدوا الجمهورية الخاضعة للحماية الفرنسية والتي اتخذت عاصمة لها لوزان Lausanne ·
وأرسل كل من الطرفين مندوبا مفوضاً إلى نابليون لطلب تأييده، فرفض نابليون مقابلة مندوب بيرن الذي اتخذ طريقه بعد ذلك لطلب العون من انجلترا، فأرسلت أموالاً وأسلحة لهؤلاء الأوليجاركيين Oligarchs وأرسل نابليون جنوداً للجمهوريين (في نوفمبر سنة 1802) فاستطاعوا بهم قمع تمرد بيرن (ملاّك الأراضي) وسوَّى نابليون النزاع بين الطرفين وفقاً لإعلان تسوية (في 19 فبراير سنة 1803) الذي نشأت بمقتضاه كونفدرالية Confederation سويسرية من تسعة عشر كانتون (ولاية) مستقل لكل واحد منها دستوره الخاص به، وكلها تحت الحماية الفرنسية ومُلزمة بإرسال عدد معين من الجنود للجيش الفرنسي· ورغم هذه المادة، فإن إعلان التسوية - بشهادة انجلترا - قد لاقى قبولا من كثير من الجهات وأصبح بلا شك حائزاً على القبول في الكونتونات (الولايات السويسرية) ·(ملحق/402)
ومع ذلك فإن الحكومة الإنجليزية نظرت إلى التحركات الفرنسية المتوالية - في لومبارديا وبيدمونت وسويسرا - كتوسع خطير للنفوذ الفرنسي يدمّر توازن القوى في أوروبا، ذلك التوازن الذي كان قد أصبح حجر الزاوية للسياسة البريطانية في القارة· ومما سبّب لبريطانيا مزيدا من القلق، ما نشرته جريدة المونيتور Moniteur في عددها الصادر في 30 يناير سنة 1803 عن تقرير رسمي قدمه للحكومة الفرنسية الكونت هوراس سيباستياني Horace Sebastiani الذي كان نابليون قد أرسله لدراسة دفاعات القاهرة والقدس ويافا وعكا، وذكر التقرير أن ستة آلاف جندي كافين·· لفتح مصر وأثارت هذه الوثيقة شكوك بريطانيا مخافة أن يكون نابليون يفكر في إعداد حملة أخرى لغزو مصر· وشعرت الحكومة البريطانية أنها لا يجب أن تفكر بعد الآن في إخلاء مالطة والإسكندرية فهما الآن ضروريان للدفاع عن السيادة البريطانية في البحر المتوسط·
ولازال هناك ازدياد آخر لنفوذ نابليون أثار بريطانيا· فمعاهدة لونيفيل Lunéville اشترطت ضرورة تعويض حكام المديريات الألمان غرب الرين الذين تخلّوا عن 4,375 ميل مربع من الأرضي ذوات العائد الضرائبي باعترافهم بالسيادة الفرنسية على المنطقة، اشترطت تعويضهم بمديريات أخرى شرق النهر· وأرسل عشرون نبيلاً ألمانياً ممثلين إلى باريس للحث على تنفيذ مطالبهم·
واشتركت بروسيا وروسيا في الصيد، وجمع تاليران مبالغ أخرى كبقشيش (حَلَوان Pourboires) وأخيراً تم التوزيع بإقامة مدن دول City-States وإضفاء الطابع العلماني عليها بعد أن كان يحكمها طوال قرون أساقفة كاثوليك· وكان هدف نابليون من هذا إقامة كونفدرالية الراين كدولة عازلة بين فرنسا من ناحية والنمسا وبروسيا من ناحية أخرى· واحتجت النمسا على أساس أن قلب هذه الدويلات قد يكون دليلاً على خطورة أخرى لتفكيك الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وكان الأمر كذلك بالفعل·(ملحق/403)
وتساءل العسكريون الإنجليز وقد أغضبهم اتساع الرقعة التي تسيطر عليها جيوش نابليون، ما إذا كانت الحرب أقل تكلفة من مثل هذا السلام· واعترض رجال الصناعة البريطانيون على سيطرة فرنسا على الراين مما يجعلها وسيطاً بين التجارة البريطانية ومعظم الأسواق الأوروبية المُربحة· واشتكى التجار من أنه بينما أنهى صلح أمين حصار بريطانيا للسواحل الفرنسية فإن الفرنسيين فرضوا حظراً على استيراد المنتجات البريطانية التي تنافس مثيلاتها الفرنسية·
وأدانت الارستقراطية البريطانية السلام باعتباره استسلاما مُخزياً للثورة الفرنسية· واتفقت كل الأحزاب البريطانية تقريباً على ضرورة التمسك بمالطة، وفي هذه الأثناء راحت الصحف البريطانية تَسُبّ نابليون قصصاً ومقالات ورسوماً، فاشتكى نابليون للحكومة البريطانية التي أجابته بأن الصحافة فيها حرة· فأمر (أي نابليون) الصحف الفرنسية أن تكيل لبريطانيا من السلعة نفسها ·
وأصبحت العلاقة بين الحكومتين تقترب شيئاً فشيئا من الحرب، فقد أخبر السفير البريطاني اللورد هوتيورث Whitworth نابليون - بجفاء أن بريطانيا لن تترك مالطة حتى تقدم الحكومة الفرنسية تفسيراً مُرضياً لحركاتها التوسعية منذ عقد صلح أمين وفي 13 مارس سنة 1803، واجه نابليون السفير البريطاني هوريتورث وسط جمع غفير من أصحاب المقام الرفيع من فرنسيين وأجانب كما لو كان في معركة مُتَّهماً بريطانيا بانتهاك معاهدة السلام والاستعداد للحرب، وأصيب هوريتورث بالرعب لهذا الانتهاك الصارخ للأصول الدبلوماسية ففضَّل التعامل مع تاليران الذي يعرف كيف يُلبس الحقائق لبوساً يجعلها تبدو ودية·
وفي 25 أبريل تلقى هويتورث تعليمات من حكومته بتوجيه إنذار مؤدّاه أنه لابد أن توافق فرنسا على احتفاظ انجلترا بجزيرة مالطة لمدة عشر سنوات على الأقل، ويجب أن تنسحب (أي فرنسا) من هولندا وسويسرا وإيطاليا ويجب أن تعوَّض ملك سردنيا عن ضياع بيدمونت منه في الحرب التي جرت مؤخراً· وسخر نابليون من هذه المقترحات فطلب هويتورث جواز سفره فحصل عليه، وراح الطرفان يستعدان للحرب·(ملحق/404)
ولأن نابليون قد تحقَّق من سيطرة إنجلترا على البحار وأنه يمكنها الاستيلاء على أية مستعمرة فرنسية فقد باع لويزيانا للولايات المتحدة بمبلغ ثمانين بليون فرنك في 3 مايو سنة 1803 وزوّدت انجلترا قواتها البحرية بتعليمات - مع أنها رسمياً لازالت في سلام مع فرنسا - للاستيلاء أي سفينة فرنسية تلقاها· وتم إعلان الحرب رسمياً في 16 مايو سنة 1803 واستمرت إثني عشر عاماً·
ومنذ هذه اللحظة المريرة انسحب نابليون كإداري من التاريخ، واسترد نابليون الجنرال ابن الرابعة والثلاثين روحه الحربي، فأمر بالقبض على كل البريتون Briton الذين لازالوا موجودين على الأرض الفرنسية· وأمر فجأة جنراله مورتييه بالاستيلاء على هانوفر قبل أن تتحوّل إلى قاعدة عسكرية على يد جورج الثالث الهانوفري · وما أحنقه انه خلال عِقْد من الصراع مع انجلترا موّلت فيها جيوش أوروبا ضد فرنسا وحاصرت الموانئ الفرنسية واستولت على السفن الفرنسية، وظلت - مع ذلك - هي نفسها بمنأىً عن الهجوم· وقد آن الآن أوان ما يرفضه في اللحظات التي كان فيها أكثر هدوءاً باعتباره حلماً غير عملي، لقد قرّر أن يحاول عبور هذه القناة اللعينة ليذيق هؤلاء التجار ورجال المال ويلات الحرب على أرضهم، ويكْوى بها جلودهم·
لقد أمر جنرالاته بجمع 150,000 رجل و10,000 حصان على طول الساحل عند بولوني ودنكرك Dunkirk وأوستند Ostend، وأمر أدميرالاته بإعداد أسطول قوي في بريست Brest وركفورت Rochefort وطولون Toulon، وأن يُبحر بعد تجهيزه ويحارب ليشق طريقه بين شبكة السفن البريطانية المتناثرة إلى الموانئ حيث سيكون ملايين العمال مستعدين في انتظارهم حولي بولوني Boulogne، وفي هذه الموانئ سيقوم الرجال ببناء مئات من سفن النقل مختلفة الأنواع· وراح نابليون نفسه يغادر باريس بشكل متكرر لتفقّد المعسكرات وأحواض السفن ليطمئن على تقدم مشروعه وليرفع من روح الجنود والبحارة والعمال·(ملحق/405)
وراحت السفن الحربية البريطانية تُحكم الرقابة في القناة وعلى طول الساحل الإنجليزي - في دوفر Dover وديل Deal وفي كل مكان - راح آلاف الوطنيين يُحكمون المراقبة ليل نهار مُصرِّين على المقاومة حتى الموت لمحق أية محاولة لغزو سواحلهم التي لا تُنتهك حرمتها·
5 - المؤامرة الكُبرى: من 1803 إلى 1804م
في ليلة 21 أغسطس سنة 1803 أحضرت فرقاطقة بريطانية يقودها القبطان ريت Wright عَبْر القنال الإنجليزي من إنجلترا ثمانية فرنسيين على رأسهم جورج كادودال George Cadoudal الثائر العنيد الذي يقود الثوار الملكيين الذين لم تُفلح الثورة الفرنسية في ترويضهم· لقد أنزلتهم الفرقاطة على منحدر صخري بالقرب من بيفيل Biville في نورمنديا Normandy حيث سحبتهم عُصبة من الرجال كانوا على اتفاق سابق معهم - بالحبال· وفي العاشر من ديسمبر أحضر القبطان ريت من إنجلترا إلى بيفيل مجموعة ثانية من المتآمرين بمن فيهم النبيل الذي هاجر من فرنسا عقب أحداث الثورة أرمان دي بوليناك Armand de Polignac،
وفي العبور الثالث في 16 يناير سنة 1804 أحضر القبطان جول دي بوليناك Jules والجنرالين الفرنسيين المهاجرين بيشجرو Pichegru ولاجولي Lagolais، وكان بيشجرو قد تآمر - بعد أن أحرز انتصارات مع جيوش الثورة - مع البوربون لإعادتهم للعرش فلما افتُضح أمره ولَّى مُدبراً إلى إنجلترا· وكان هذا في سنة 1801· واتخذت المجموعات الثلاث طريقها إلى باريس حيث اختبئوا في بيوت أنصار المَلكية (بفتح الميم) واعترف كادودال في وقت لاحق أنَّه كان يخطط لاختطاف نابليون فإن قاوم قتله · وربما جاز لنا تصديق أن الحكومة البريطانية قد زوّدت كادودال بمبلغ مليون فرنك لتمكينه من تنظيم عصيان مسلح في العاصمة باريس لكن ليس هناك دليل على أَنَّ الحكومة البريطانية قد وافقت على الاغتيال·(ملحق/406)
وأخَّر المتآمرون تنفيذ الخطة متوقِّعين أن ينضم إليهم في باريس الكونت درتوا d'Artois أخو لويس السادس عشر الأصغر لأنه كان مستعداً لتولي أمر فرنسا بعد نابليون، لكنه لم يأتِ· وفي هذه الأثناء (28 يناير سنة 1804) زار بيشجرو الجنرال مورو وطلب منه التعاون مع المتآمرين· لكن مورو رفض أن يشترك في أية محاولة لإعادة البوربون وإنما عرض نفسه كحاكم لفرنسا إذا تمت إزاحة نابليون · وفي حوالي هذا التاريخ قدَّم بيرنادوت لجوليت ريكامييه Juliette Recamier أسماء عشرين جنرالاً قال إنهم مخلصون له ومستعدون بتوق شديد لإعادة الجمهورية الحقيقية وقد استدعى نابليون إلى ذاكرته عندما كان في سانت هيلينا هذه الأيام فقال:
"لا أبالغ إن قلت إنني خلال الشهور من سبتمبر سنة 1803 إلى يناير سنة 1804 كنت جالساً فوق بركان "·
وفي 26 يناير أَدلى ثائر ملكي اسمه كوريل Querell - كان قد قُبض عليه منذ ثلاثة أشهر وحُكم عليه بالإعدام - بتفاصيل عن المؤامرة مقابل تخفيف الحكم عليه· واسترشاداً باعترافه تمكَّنت شرطة كلود ريجنييه Claude Regnier بطيئة الحركة من العثور على مورو وألقت القبض عليه في 15 فبراير كما قبضت على بيشجرو في السادس والعشرين من الشهر نفسه، وعلى الأخوين بوليناك في 27 فبراير، وعلى كادودال في 29 مارس· وقد اعترف كادودال بفخر أنَّه كان يُخطط لإزاحة نابليون من السلطة وأنه كان يتوقع أن يقابله أمير فرنسي في باريس، لكنه رفض أن يدلي باسم أيٍّ ممن شركائه في المؤامرة ·
وفي هذه الأثناء كان مفوَّض بريطاني يدير مجموعة أخرى من المتآمرين في ميونخ وبالقرب منها وقد وضع خطة لبث دعاية ضد نابليون في المناطق الفرنسية الجديدة على الشاطئ الغربي للراين· وإذا كان لنا أن نُصدِّق مينيفال Meneval فقد صدر أمر مجلس الملك البريطاني بأن يُفرض على المنفيِّين الفرنسيين التعامل مالياً مع بنوك الراين ومن لم يمتثل صودر معاشه (راتبه)، ووُضِعت الإجراءات لتحديد المبالغ المخصصة لكل ضابط وكل جندي وعندما علم نابليون عن طريق جواسيسه بهذه التطورات استنتج أن أمير أسرة البوربون الذي كان متآمري لندن ينتظرونه إنما كان من بين هؤلاء المهاجرين·(ملحق/407)
ولم يكن ممكناً أن يكون الكونت درتوا بينهم وإنما كان في مدينة إتنهيم Ettenheim الصغيرة التي تقع على بعد حوالي ستة أميال شرق الراين في مقاطعة بادن Baden، واكتشف رجال نابليون أنه كان يعيش حياة هادئة إلاّ أنه كان يزور في المناسبات - لكن بطريقة تدعو للشك - لويس أنطوان هنري دي بوربون - كونديه Louis - Antoine - Henri de Bourbon Conde ودوق دنجهين (وتكتب دنجيان) d'Enghein ابن دوق دي بوربون وحفيد الأمير دي كونديه وجميعهم في ستراسبورج ·
وعندما وصل هذا التقرير إلى نابليون خَلُص بأن هذا الدوق البالغ من العمر اثنين وثلاثين عاما هو قائد مؤامرة إقصائه عن الحكم· فاعترافات كوريل Querelle وعمليات القبض التي جرت مؤخراً في باريس أوقعت الجنرال المتسم دوماً بالجسارة في حالة من الذهول حتى أنَّه - ربما نتيجة الخوف والحنق - تعجّل في قراراته التي دافع عنها دوماً وربما كان يأسف لها بينه وبين نفسه· لقد أصدر تعليماته للجنرال أوردنية Ordener بأن يتجه على رأس قوة مسلحة إلى إتنهايم ويقبض على الدوق ويحضره إلى باريس، وبالفعل تم القبض على الدوق في ليلة 14/ 15 مارس سنة 1804 وفي 18 مارس أودع سجن حصن فيسين Vincennes إلى الشرق من باريس بخمسة أميال·
وفي 20 مارس أمر نابليون محكمة عسكرية من خمسة كولونيلات وماجور major بالتوجه إلى فينسين لمحاكمة الدوق بتهمة تقاضي أموال من إنجلترا للتآمر عسكرياً على وطنه· وفي الوقت نفسه تقريباً أرسل الجنرال سافاري Sarvary - رئيس شرطته الخاصة - لمراقبة السجن وإجراءات محاكمته· لقد اعترف إنجهين Enghien ( انجيان) بأن كان قد تلقى أموالاً من السلطات الإنجليزية وأنه كان يأمل في قيادة قوة عسكرية في الالزاس، وأعلنت المحكمة أنها وجدته مذنباً بتهمة الخيانة وحكمت عليه بالإعدام· فطلب الإذن برؤية نابليون فرفضت المحكمة طلبه لكنها اقترحت أن يرسل له رسالة يطلب فيها الرأفة، وتخطى سافاري هذا الاقتراح وأمر بتنفيذ حكم الإعدام ·(ملحق/408)
وفي هذه الأثناء كان نابليون والمقربون منه في المقر الذي تقيم فيه جوزيفين يناقشون مصير الدوق· لقد استنتجوا أنه سيكون مُدانا - لكن هل يمكن العَفْو عنه كإشارة سلام للملكيِّين؟ أما تاليران - الذي أيّد في سنة 1814 عودة البوربون - فقد كان رأيه التعجيل بإعدامه كوسيلة سريعة لإنهاء آمال الملكيِّين ومؤامراتهم، بعد أن تذكر أدواره (أي أدوار تاليران) في الثورة وخوفاً على ثروته وربما حياته إذا عاد البوربون للسلطة· لقد كتب بارّا Barras إن تاليران كان راغباً في حفر نهر من الدم بين نابليون والبوربون أما كامباسير - أهدأ القناصلة الثلاثة وأكثرهم ميلاً للشرعية - فكان يفضل التريّث· أما جوزيفين فقد خرَّت عند قدمي نابليون مدافعة عن حياة إنجهين (انجيان)، وتضرّع إلى نابليون أيضاً للعفو عنه ابنة جوزيفين (هورتنس) وأخت نابليون كارولين·
وأرسل نابليون ليلاً هوج مار Hugues Maret إلى باريس برسالة إلى بيير ريل Pierre Real عضو مجلس الدولة يأمره بالتوجه إلى فينسين ليستجوب الدوق شخصيا ويرسل النتيجة إليه، وتلقّى ريل الرسالة ولكنه خرَّ نائماً في غرفته بسبب الإنهاك في العمل طوال النهار ولم يصل إلى فينسين حتى الساعة الخامسة عصراً في 21 مارس، وكان حُكم الإعدام قد نُفِّذ في دنجهين (انجيان) رمياً بالرصاص في ساحة السجن في الساعة الثالثة عصراً· وظن سافاري أنه قد خدم سيدة (نابليون) خدمة جليلة فاتجه إلى مقر نابليون عند جوزيفين ليزف إليه الأخبار فتراجع نابليون إلى غرفته وأغلق على نفسه الباب ورفض توسلات زوجته لدخولها غرفته·(ملحق/409)
وانتقد المناصرون للملكية وأفراد الأسرة المالكة ما حدث انتقادا مريرا· لقد روَّعتهم فكرة أن يَقْتلَ واحد من العامة فرداً من أفراد أسرة البوربون· وأرسل مجلس الوزراء في كل من روسيا والسويد احتجاجاً إلى دايت Diet الإمبراطورية الرومانية المقدسة في راتيسبون Ratisbon مع اقتراح بأن يكون غزو القوات الفرنسية لبادن Baden موضوعا لتحقيق دولي· ولم يُجب الدايت ورفض ناخب Elector بادن إدانة فرنسا· وزوَّد القيصر اسكندر الأول Czar Alexander I سفيره بباريس بتعليمات لطلب تفسير لهذا الإعدام، فأجاب تاليران بحجة مفحمة: لو كانت إنجلترا تدبِّر لاغتيال بول الأول، وعُرِف أن مدبِّري المؤامرة على مرمى حجر من الحدود، ألم يكن العمل يجري على قدم وساق للقبض عليهم بأقصى سرعة؟ أما وليم بت Pitt، فقد كان أكثر ما يكون ارتياحا عندما وصلته أخبار الإعدام إذ قال لقد ألحق بونابرت من الأذى بنفسه أكثر مما ألحقناه به منذ إعلان الحرب الأخيرة ·
أما رد الفعل في فرنسا نفسها فكان أكثر اعتدالا مما توقع كثيرون، فقد استقال شاتوبريان Chateaubriand من منصب قليل الشأن في وزارة الخارجية، لكن أصبحت الكرة في ملعب تاليران وزير الخارجية رابط الجأش في 24 مارس (بعد إعدام إنجهين بثلاثة أيام) حضر إليه عشرون من نبلاء فرنسا القدامى وممثلون من كل بلاطات أوروبا · وبعد الحادث بثلاثة أشهر بدا أنه لم يعد محل اهتمام من الرأي العام الفرنسي، إلاّ أن فوشيه الذي كان يُراقب الأمور بذكاء علّق على الإعدام قائلا: "إنه ليس جريمة· إنه أكثر من جريمة· أنه خطأ فادح "·
وربما شعر نابليون ببعض الندم لكنه لم يعترف بذلك أبداً، لقد قال:
"هؤلاء الناس أرادوا أن يوقعوا الفوضى في فرنسا وأن يدمّروا الثورة بتدميري· لقد كان من واجبي أن أدافع عن الثورة وأن أثأر لها··· لقد كان انجهين متآمراً كأي متآمر آخر وكان لابد من معاملته على هذا الأساس·· لقد كان علينا أن نختار بين اضطهاده اضطهادا دائما وتوجيه ضربة قاضية· ولم يكن قراري موضع شك لقد أسكتُّ إلى الأبد أنصار الملكية واليعاقبة "·(ملحق/410)
لقد أظهر لهم ألاّ أحد بقادر على بث الرعب في قلبه وأن دمه ليس رخيصاً (ليس مجرّد ماء خندق) · لقد ظن - وله بعض الحق - أنه بث الرعب بعقوبة الإعدام في قلوب أنصار الملكية المتآمرين الذين رأوا الآن رأى العين انه حتى لو كانت دماء البوربون تسري في عروقهم فإن ذلك لن يعصمهم من الإعدام· ومن الناحية الفعلية فقد كفَّت المؤامرات الملكية الهادفة لقتل نابليون·
وفيما يتعلق بالمتآمرين الذين سبق أن قُبض عليهم في باريس فقد التزم مزيداً من الحذر· فقد جرت المحاكمات علناً وسمح للصحف بالكتابة عنها بتفصيل· ورغم أن بوريين كان معارضاً لإعدام إنجهين إلاّ أن نابليون طلب منه حضور المحاكمات ليقدم له تقريراً عن سيْر الأمور فيها· ولم ينتظر بيشجرو حتى يتم تقديمه للمحاكمة ففي الرابع من شهر أبريل عُثر عليه ميتاً في زنزانته خنقاً برباط عنقه (كرافتته) وفي حالات أخرى اعترف المذنب أو قدم البراهين الدالة على براءته أما بالنسبة لمورو فلم يكن هناك أدنى شك أنه معاد لنابليون بشكل واضح وأنه أخفى عن السلطات الفرنسية معلوماته التي مؤدّاها أن بيشجرو وآخرين كانوا يُدبِّرون للإطاحة به (بنابليون) بالقوّة·
وفي العاشر من يونيو سنة 1804 أعلنت المحكمة الأحكام: "تسعة عشر متآمراً حُكم عليهم بالموت، وحُكم على مورو بالسجن لمدة عامين"· ولم يندم كادودال على تآمره وأُعدم في 28 يونيو· ومن بين المتآمرين الباقين البالغ عددهم ثمانية عشر متآمراً عفا نابليون عن اثنى عشر منهم بمن فيهم الأخوين بوليناك · والتمس مورو نفيه بدلاً من سجنه ووافق نابليون على ذلك رغم أنه تنبأ بأن مورو سيواصل التآمر عليه · واستقل مورو سفينة إلى أميركا ومكث بها حتى سنة 1812 ثم عاد للخدمة في الجيش الروسي وحارب ضد نابليون في دريسدن Dresden (29 أغسطس 1813) ومات متأثراً بجروحه في الثاني من سبتمبر ودُفن في روسيا·
6 - الطريق إلى الإمبراطورية: عام 1804 م(ملحق/411)
وبينما نابليون يتأمل في أمر المؤامرة اعترته الدهشة لم يتحتم عليه أن يمارس عمله في ظل تهديد دائم باغتياله، بينماـ الحكام الذين تحالفوا ضده مراراً - جورج الثالث في إنجلترا وفرنسوا الثاني في النمسا والإمبراطورية الرمانية المقدسة وفريدريك وليم الثالث في بروسيا واسكندر الأول في روسيا - يمكن للواحد منهم أن يُواصل حكمه حتى يوافيه الموت بشكل طبيعي، كما يمكن للواحد منهم أن يُعَوِّل على نقل سلطته إلى وريثه الطبيعي أو المُعيَّن· ووجد أن هذا لا يمكن أن يكون بسبب أخذهم بأساليب الحكم الديمقراطي سياسة وتعييناً· لقد ظهر له أن السر الكامن في استقرار أوضاعهم يكمن في شرعيتهم - أي رسوخ مبدأ الوراثة في الحكم في الرأي العام بسبب اعتيادهم عليه طوال أجيال وقرون·
لقد كان نابليون يحلم بينه وبين نفسه بالحكم المطلق الخالص بل وأن يكون مؤسس أسرة حاكمة تكتسب شرعيتها بمرور الزمن وتكتسب عبير العراقة· لقد شعر أن الأعمال التي يتطلع لإنجازها تتطلب استقراراً واستمرارية كالتي يتسم بهما الحكم المطلق· لقد وضع في اعتباره كيف أن قيصر أدخل القوانين الرومانية والحضارة الرومانية إلى بلاد غال Gaul وأبعد الجرمان إلى ما وراء الراين واكتسب لقب إمبراطور والقائد العام - حسناً، ألم يفعل نابليون هذا؟ وفكر نابليون كيف أن أوغسطس أنجز الكثير خلال فترة حكمه الإمبراطوري الذي دام واحداً وأربعين عاماً بعد أن أنهى الفوضى التي سببها العامة مُتلقياً دعم أعضاء السينات (مجلس الشيوخ) الذين كانوا على درجة كافية من الحكمة تجعلهم يتخلون عن المناقشات الطويلة واللَّغْو مُخْلين الطريق أمام العبقرية· وان نابليون ابن إيطاليا والذي يُكنُّ إعجاباً بالرومان القدماء يتطلع إلى مثل هذا الاستمرار في الحكم الذي لا يُعكِّر صفوه شيء وإلى الحق في تعيين من يَخْلُفه على نحو ما كان يفعل أباطرة القرن الثاني·(ملحق/412)
وكان يفكر أيضاً في شارلمان وغالباً ما كان يتحدث عنه· شارلمان الذي استمر حكمه ستة وأربعين عاما (768 - 814) ففزض النظام على بلاد غال وجلب لها الرخاء ونشر قوانين الفرانكيين (الفرنج Franks) - كقوة متحضرة - في ألمانيا وإيطاليا، ونال مباركة البابا، ألم يفعل نابليون كل ذلك؟ ألم يُعِد لفرنسا دينها الذي قمع الشغب الوثني الذي أطلقته الثورة من عقاله؟ ألا يستحق - مثل شارلمان - التاج مدى الحياة؟
لم يكن أوغسطس ولا شارلمان يؤمنان بالديمقراطية ولم يكونا لِيُخْضِعا أحكامهما المصقولة الحكيمة وسياساتهما بعيدة النظر وخططهما المستقبلية لنقد ممثلي الجماهير الساذجة المتسم بالميل للأسفاف ومناقشاتهم غير المجدية لكونهم عُرضة لقبول الرشاوى· لقد عرف قيصر وأوغسطس الديمقراطية الرومانية في أيام شراء أصوات الناخبين مع أيام ميلو Milo وكلوديوس Clodius، وما كان لهما أن يحكما توصية من جماهير لا عقل لها· لقد شهد نابليون الديمقراطية الباريسية في سنة 1792 وشعر أنه لا يستطيع أن يقرر (ويعمل) باسم الجماهير الملتهبة عواطفها· لقد آن الأوان لطي صفحة الثورة وتعزيز مكاسبها الأساسية وإنهاء الفوضى والقلق والحرب بين الطبقات·
والآن بعد أن طارد أنصار الملكية بأحكام الإعدام، أصبح مُستعداً لقبول دعواهم الرئيسية التي مؤدّاها أنّ فرنسا ليست مستعدّة - عاطفياً أو عقلياً - لحكم نفسها بنفسها (المقصود ليست مستعدة للحكم الديمقراطي) وأن شكلاً من أشكال الحكم الفاشستي أمرٌ لا مفر منه· وفي سنة 1804 - وفقاً لما ذكرته مدام دي ريموزا Remusat بدأ أشخاص مُعيَّنون مُرْتبطون على نحو ما بالأمور السياسية يؤكدون أن فرنسا تشعر بضرورة حق السلطة في الحكم المطلق· ورأى السياسيون من الحاشية والمؤيدون للثورة أن استتباب الهدوء في البلاد يعتمد على حياة فرد واحد وراحوا يناقشون عدم استقرار نظام القنصلية· لقد مالت آراء الجميع شيئاً فشياً إلى الملكية · واتفق نابليون معهم، فقد ذكر لمدام ريموزا أن الفرنسيين يحبون الملكية وكل زخارفها ·(ملحق/413)
وعلى هذا، فإنه ليبدأ الطريق إليها، قدَّم للفرنسيين كل زخارف الملكية (بهارجها الخارجية) فأمر القناصل بارتداء زى رسمي وكذلك الوزراء وأفراد الحكومة الآخرون· وشاع استخدام المخمل في صنع هذه الملابس، وكان هذا في جانب منه لتشجيع صُنّاع المخمل في ليون· وجعل نابليون في خدمته الشخصية أربعة جنرالات وثمانية معاونين وأربعة مديرين للشرطة واثنين من السكرتيرين· وشهدت المحكمة القنصلية بروتوكولات معقدة، وفُرِض فيها نمطُ سلوك خاص (اتيكيت) يضارع ما كان في العهد الملكي· وعُيّن الكونت أوجست دي ريموزا قيِّما على المراسم، بينما أصبحت زوجته كلير Claire على رأس أربع سيّدات لمرافقة جوزيفين
وأضاف الخدم ذوو الملابس المزركشة والمركبات المزدانة مزيداً من التعقيد للحياة الرسمية· وقد راعى نابليون كل هذه المراسم أمام الجماهير أما عندما يكن بعيداً عن عيون العامة فإنَّه يجنح إلى بساطته التي اعتاد عليها· وعلى أية حال، فإنّه كان يبتسم ابتسامة الرضا والموافقة في مهرجانات البلاط وعندما يرى الملابس التنكرية في الكرنفالات وعند قيامه بزيارات رسمية للأوبرا حيث تعرض زوجته عباءاتها (الغالية) مذكِّرة بأميرة أخرى مُسْرفة ماتت مؤخراً ميتة تثير الشفقة· لقد دلَّلته باريس كما دلّل هو جوزيفين، ومع ذلك فلم يكن نابليون هذا الحاكم الشاب لينخرط في الأناقة المتكلَّفة والمظاهر الكاذبة فما كان لمن جمع بين إهابة روح أوغسطس الإدارية وانتصارات قيصر ليفعل ذلك· لقد بدا من الطبيعي أن يصبح نابليون إمبراطوراً·(ملحق/414)
ومن الغريب أن نقول أن كثيراً من الجماعات سمعت - بلا امتعاض - الإشاعات التي مؤدّاها أنه على وشك أن يتوَّج· لقد كان هناك حوالي 1,200,000 فرنسي قد اشتروا من الدولة ممتلكات صادرتها من الكنيسة أو من المهاجرين الذين تركوا فرنسا إثر أحداث الثورة· وهؤلاء كانوا يرون أنه لا ضمان لسندات ملكيتهم خير من منع عودة البوربون ورأوا في استمرار سلطة نابليون خير ضمان لمنع وقوع كارثة بسلبهم ما اشتروه· وكان الفلاحون يفكرون على النحو نفسه، أما البروليتاريا فكانت منقسمة إذ كانت لا تزال مغرمة بالثورة باعتبارها - إلى حد كبير - من عملها لكنها أيضاً كانت مرتاحة للتوظيف الثابت والأجور الطيبة الذين أتاحهما الحكم القنصلي·
بالإضافة إلى أن أفرادها لم يكونوا بعيدين عن الإحساس بالعظمة أو مستثنين من الإحساس بفتنة الإمبراطورية وسحرها، وربما كانوا في هذا يفوقون كل أولئك الذين ناضلوا من أجل فرنسا· أما البورجوازية فكانت متشككة في الأباطرة إلاّ أن هذا الإمبراطور المرتقب (نابليون) كان هو رجلهم المخلص والنشط· وكان المحامون الذين نشئوا في أحضان القانون الروماني في غالبهم ميّالين إلى تحويل فرنسا إمبراطورية لتواصل عمل أوغسطس والأباطرة الفلاسفة من نيرفا Nera إلى ماركوس أوريليوس Marcus Aurelius، بل أن الملكيّين كانوا يرون أنه حتى لو لم يستطيعوا إعادة سلالة البوربون فإنها خطوة للأمام إن عادت الملكية لفرنسا· أما الإكليروس clergy فإنهم رغم معرفتهم أن تقوى نابليون ما هي إلاّ غطاء سياسي فقد كانوا ممتنين لإعادة الكنيسة· وكادت كل الطبقات خارج باريس تؤمن بأن الحكومة الملكية المستقرة هي وحدها التي تستطيع ضبط النَّزَق الفردي والانقسام الطبقي الذي يُدَمْدم تحت قشرة الحضارة أو بتعبير آخر الكامن في الحضارة التي لا تشكل سوى قشرة خارجية·(ملحق/415)
ومع هذا فقد كانت هناك أصواتٌ معارضة فباريس التي سبق أن قامت بالثورة وعانت من أجلها ما كان لها أن تتخلى عنها بكل دساتيرها التي تُتيح قدراً من الديمقراطية كَثُر هذا القدر أم قل - دون أسف عليها جهراً أم سراً· والزعماء اليعاقبة الذين كانوا لا يزالون على قيد الحياة رأوا في التغيير المتوقَّع نهاية لدورهم في توجيه فرنسا، وربما نهاية لحياتهم· والذين كانوا قد صوَّتوا لإعدام لويس السادس عشر قد علموا الآن أن نابليون قد استثمر اشتراكهم في قتل الملك، وكان عليهم أن يعتمدوا على فوشيه ليحميهم لكن فوشيه كان يمكن أن يُطرد مرة أخرى· والجنرالات الذين كانوا يأملون في اقتسام فرنسا معه ومشاركته السلطة لعنوا الحركة التي كانت تُعد لإلباس الثياب الملكية الأورجوانية لهذا التافه القادم من كورسيكا · أما الفلاسفة والعلماء في المعهد الفرنسي فحزنوا لأن واحداً من أعضاء معهدهم (نابليون) كان يخطط لإسقاط الديمقراطية في استفتاء إمبراطوري·
حتى بين أفراد الأسرة المالكة كانت هناك مشاعر متضاربة· فقد كانت جوزيفين تُعارض بخوفٍ أيَّ اتجاه نحو الإمبراطورية فإذا أصبح نابليون إمبراطوراً صار أكثر توقاً لوريث، وبالتالي مال لتطليقها فهو لا يتوقع أن تنجب له ولياً للعهد، وإذا ما تم طلاقها فقدت في لحظات عالمها المتألق العامر بالملابس الغالية والمجوهرات· وكان أخوة نابليون وأخواته يحثونه منذ زمن طويل على طلاقها· لقد كانوا يكرهون هذه الكرول Creole العاهرة اللعوب كعقبة في سبيل أحلامهم لتحقيق السلطة· والآن فإنهم يؤيدون الاتجاه للإمبراطورية كخطوة لإزاحة جوزيفين، وقد صاغ جوزيف أخو نابليون القضية كالتالي: مؤامرة كادودال ومورو حتمت إعلان مبدأ الوراثة كأساس للحكم· فقد تؤدي حركة مفاجئة إلى الإطاحة بنابليون كقنصل (أول) ومن ثم فإن مبدأ الوراثة يُعد بمثابة ترس حماية فإن قَتْله في هذه الحال لا يُحقِّق الغرض المطلوب وهو الإطاحة بنظام الحكم كله· والحقيقة أنَّ طبيعة الأشياء تجعلنا نميل إلى تحقيق مبدأ الوراثة في الحكم· إنها مسألة ضرورة ·(ملحق/416)
وتحرك أعضاءُ مجلس الدولة Councilors ومجلس الشيوخ (السينات senators) والتريبيون tribunes ( مجلس الدفاع عن حقوق الشعب) وغيرهم في الحكومة بكياسة لتحقيق رغبات نابليون لأسباب بسيطة فموافقتهم لن تؤدي إلاّ إلى التقليل من حريتهم في المناقشة، تلك الحرية التي كانت قد قُيِّدت بالفعل بالإضافة إلى أن معارضتهم قد تُنهي أدوارهم السياسية، كما أن الموافقة في وقت باكر قد تُحقِّق لهم مكافآت سخية·
وفي الثاني من شهر مايو سنة 1804 أقرَّت الهيئات التشريعية ثلاثة اقتراحات.
1 - سيتم تعيين نابليون بونابرت إمبراطوراً للجمهورية الفرنسية،
2 - لقب إمبراطور والسلطات الإمبراطورية ستكون وراثية في أسرته··
3 - الحرص على حماية مبادئ المساواة والحرية وحقوق الشعب ككل
وفي 18 مايو أعلن مجلس الشيوخ (السينات) نابليون إمبراطوراً· وفي 22 مايو أقرت نتيجة الاستفتاء (من خلال الأصوات المسجلة والتي وقّع فيها كل منتخب على قراره) هذا الأمر الواقع بواقع 3,572,329 موافقون و2,569 معارضون، فقال جورج كادودال في سجنه بعد أن وصلته هذه الأخبار:
"لقد أتينا هنا - أي إلى السجن - لنجعل لفرنسا ملكاً، أمّا الآن فقد جعلنا لها إمبراطوراً "·(ملحق/417)
الفصل الثامن
الإمبراطورية الجديدة: من 1804 إلى 1807 م
1 - التتويج: في 2 ديسمبر سنة 1804م
THE CORONATION
وراح نابليون يسير على دَرْب الأباطرة برضا حتى قبل الاستفتاء، إذ كان قد بدأ منذ مايو سنة 1804 يوقَّع خطاباته ووثائقه باسمه الأول فقط، وسرعان ما أصبح يكتب الحرف الأول من اسمه ببساطة هكذا (ن N) فيما عدا الوثائق الرسمية ومنذ ظهر هذا الحرف الفخور (ن N) على النُّصب التذكارية والمباني والعربات، لم يعد نابليون يتحدث عن الفرنسيين كمواطنين Citizens وإنما راح يتحدث عنهم ولهم بقوله رعاياي · وراح يتوقع من أفراد حاشيته مزيداً من الإذعان والاحترام، ومن وزرائه مزيداً من التبعية وسلاسة القِياد، وعلى أية حال فقد حَذَا حَذْو أساليب تاليران Talleyrand الارستقراطية بصمت صارم وقَبِل بشيء من الاستمتاع سخرية فوشيه غير الوقورة· وتقديراً منه لما قدّمه فوشيه Fouche من مساعدة في تعقّب المتآمرين، أعاده لمنصبه كوزير للداخلية في 11 يوليو سنة 1804 وعندما فكَّر نابليون في قمع حرية فوشيه في التفكير المستقل والكلام بتذكيره أنه صوَّت بالموافقة على قتل لويس السادس عشر Louis XVI، أجاب فوشيه: "هذا صحيح تماما· لقد كانت هذه أول خدمة أؤديها لجلالتكم "·
بقي شيء واحد ينقص هذه الجلالة: إنها لم تحظ بالاعتراف ولا الإقرار الديني من أعلى ممثل لعقيدة الأمة الدينية، على النحو الذي حظيت به التيجان الأخرى· لقد كان هناك شيء لازال باقيا - على أية حال - من نظرية الحق الإلهي الوسيطة للملوك: فبالنسبة لشعب تسود فيه العقيدة الكاثوليكية، فإن قيام البابا بتكريس الحاكم ومسحه بالزيت يعني أن هذا الحاكم قد أصبح - بالفعل - مختاراً من الرَّب لأن البابا بدوره يزعم أنه لم يشغل منصبه (منصب الباباوية) إلاَّ من قِبَل الرَّب، ومعنى هذا أن الحاكم الذي يكرسه البابا بمسحه بالزيت إن تحدث فغالباً ما يكون حديثه باسم الرّب· أي فكرة تساعد على تسهيل مهمة الحاكم أكثر من هذه؟ ثم أليس هذا المسح بالزيت سيضع نابليون في مصاف الحكام الأوروبيين حتى ولو كان لهم جذور عميقة في السلطة تمتد من الماضي حِقَباً؟(ملحق/418)
لهذا فقد أوكل إلى دبلوماسييه مهمة حث البابا بيوس السابع Pius VII للقيام بخطوة غير مسبوقة لباريس بتتويج ابن الثورة والتنوير باعتبار هذا نصراً للكنيسة الكاثوليكية على الثورة والتنوير· ثم أَلَن يكون مفيداً لقداسته (قداسة البابا) أن يستحوذ على أفضل القادة الحربيين في أوروبا وأكثرهم ألمعية ليكون مدافعاً عن المؤمنين؟ وعارض بعض الكاردينالات هذا العرض باعتباره تدنيساً للمقدسات، لكن بعض الايطاليين الماكرين اعتقدوا أن هذا سيكون نصراً كاملاً ليس للدين فحسب وإنما لإيطاليا أيضاً "إننا بهذا سنضع أسرة حاكمة إيطالية على عرش فرنسا لتحكم البرابرة، إننا بهذا سننتقم لأنفسنا من غال Gauls " وربما كان البابا أكثر عملية: إنه سيوافق على أمل إعادة أمّة تائبة مرة أخرى إلى طاعة البابا واستعادة المناطق التي كانت تابعة للباباوية والتي استولت عليها جيوش فرنسا·
وراح نابليون يستعد لهذا النصر المشترك كما لو كان يستعد لحرب كبرى، فكلّف من يقومون بدراسة مراسم الحكم القديم (الملكي) وتعديلها وإضفاء مزيد من التفاصيل والمبالغات عليها· وتم التخطيط للمواكب والمسيرات كما لو أن المخطط لها مدير فرقة راقصة وتم تحديد وقت كل تحرّك· وتم تصميم أزياء جديدة لسيدات الحاشية وتجمع أفضلُ المصممين للقبعات النسائية حول جوزيفين Josephine وأمر نابليون بإحضار المجوهرات من الخزانة لها بالإضافة لما لديها من مجوهرات· ورغم اعتراض أمه وإخوته وأخواته قرَّر أن يتوّجها معه· وقام جاك - لويس ديفيد (داود) Jacque - Louis David - الذي كان عليه أن يخلِّد الحدث في أعظم لوحات ذلك الوقت - بتدريب جوزيفين وحاشيتها على كل حركة وكل وضع·(ملحق/419)
وتم الإغداق على الشعراء للاحتفاء بالحدث· وصدرت التعليمات لدار الأوبرا بإعداد رقصات الباليه التي تشرح صدر البابا· وجرت الترتيبات لحماية الشوارع الكبرى بالجنود، وأن يكون الحرس القنصلي مصطفاً في صَحْن نوتردام كما لو كان في حفل زواج حقيقي بين القيصر والكنيسة ودُعِيَ الأمراء وذوو المقام الرفيع من الدول الأخرى فلبوا الدعوة· ووصلت الجموع من المدينة والأحياء والمحافظات ومن الخارج وساوموا للحصول على أفضل الأماكن في الكاتدرائية أو في الطرقات، وراح أصحاب المحال يأملون في الحصول على ربح وفير، وقد كان· ورضي الناس عن الأعمال والمشاهد رضاءً مُفعماً بالسعادة ربما بطريقة لم تحدث منذ مهرجانات روما أيام الإمبراطورية·
واتخذ البابا بيوس السابع الدَّمث طريقه بتؤدة في الفترة من 2 نوفمبر إلى 25 من الشهر نفسه عَبْر مدن إيطاليا وفرنسا محاطاً بمراسم التشريفات وقابله نابليون في فونتينبلو Fontainebleau · ومنذ هذه اللحظة حتى التتويج قدَّم الإمبراطور (نابليون) للبابا كل مظاهر الود فيما عدا الإذعان، فلم يكن نابليون (الإمبراطور) ليتصرَّف على أساس أنه يخشى قوَّة أعلى متمثلة في البابا· ورحب أهل باريس - أكثر الناس تشككاً في الكاثوليكية على ظهر البسيطة في تلك الأيام - بالحَبْر (البابا) باعتباره يمثل مشهداً جديراً بالرؤية، وقادت ثُلَّة من الجنود والقسس هذا البابا في قصر التوليري Tuileries حيث تمَّ إيصاله إلى مقرِّ إقامته في جناح دي فلور Pavillon de Flore· ورحَّبت به جوزيفين وانتهزت هذه الفرصة لتُخبره أنها لم تكن مُرتبطة بنابليون من خلال زواج ديني، فَوَعَدها بيوس Pius بعلاج هذا الخطأ قبل التتويج، وفي ليلتي 29 و30 نوفمبر أعاد تزويجهما وأحست جوزيفين أن عقبة مُباركة وُضعت لتمنع نابليون من تطليقها ·(ملحق/420)
وفي بواكير يوم بارد (الثاني من ديسمبر) غادر اثنا عشر موكبا من نقاط مُختلفة لتتجمَّع في نوتردام: مفوَّضون من مدن فرنسا ومن الجيش والبحرية والجمعيات التشريعية والهيئات القضائية والإدارات، وجوقة الشرف، والمعهد العلمي وغُرف التجارة·· فوجدوا الكاتدرائية تكاد تكون مُمتلئة عن آخرها بالمدعوِّين من المدنيين إلاّ أن الجنود تمكنوا من إفساح الطريق لهم للوصول إلى أماكنهم المخصَّصة سلفاً· وفي التاسعة صباحاً تحرك موكب البابا من جناح دي فلور في قصر التوليري:
"البابا بيوس السابع وخَدَمُه والكاردينالات وكبار معاونيه، في عربات فخمة مُزدانة بزينات مُبهجه تجرّها خيول جرى اختيارها بعناية، جميلة ونشطة، وأمام الموكب أُسقف يمتطي بَغْلاً ويحمل الصليب الباباوي ويرفعُه عاليا"·
وعند الكاتدرائية ترجَّل الجَمْعُ الجميع وساروا في صف وصعدوا الدرجات إلى صحن الكاتدرائية وتوجَّهوا بين صفوف الجنود الشّداد إلى أماكنهم المحدّدة - البابا على عرشه إلى يسار مذبح الكاتدرائية·
وفي هذه الأثناء ومن مكان آخر من قصر التوليري انطلق موكب المركبات الإمبراطوري: في البداية، مارشال مورا Murat محافظ باريس، والعاملون معه، ثم بعض الأفواج العسكرية المميزة، ثم مركبات تجرُّ كلَّ واحدة منها ستة خيول، فيها: المسئولون القياديون في الحكومة، ثم مركبة أخوة نابليون وأخواته ثم المركبة الإمبراطورية مزركشة بشعار النبالة الحرف N تجرها ثمانية خيول وتحمل الإمبراطور (نابليون) في حلة مخملية أرجوانية مطرزة بالجواهر والذهب، والإمبراطورة (جوزيفين) في قمة تألّقها وجمالها (غير القائم على أساس متين) في فستان من حرير وهي تضوي بالجواهر، وقد أتقنت تجميل وجهها فبدت في الرابعة والعشرين بينما هي في الواحدة والأربعين، ثم عربات ثمان أخرى تحملن سيدات البلاط وموظفيه· واستغرق وصول هذه المركبات جميعاً للكاتدرائية ساعة· وهناك غَيَّر نابليون وجوزيفين ملابسهما ولبسا ملابس التتويج واتخذا مكانهما على يمين المذبح، وجلس هو على عرش، وهي على عرش أصغر من عرشه وأدنى مكانة منه بثمانية درجات ·(ملحق/421)
وصعد البابا إلى المذبح وركع نابليون وجوزيفين على رُكبهم أمامه، فقام البابا بدهنهما بالزيت وباركهما· ونزل الإمبراطور والإمبراطورة الدرجات حيث الجنرال كلرمان Kellermann واقفاً حاملاً صينيّة عليها تاج، فتناوله نابليون ووضعه فوق رأسه، ثم ركعت جوزيفين أمامه بتواضع وولاء فوضع تاجاً من ماس فوق شعرها المحلّى بالجواهر - برقّة واضحة · ولم يُثر كل هذا دهشة البابا لأنه كان مرتباً سلفاً، عندئذ قبَّل الحَبْرُ (البابا) نابليون فوق خدّه وأعلن الصيغة التقليدية التي تفيد أن الكنيسة قبلته إمبراطوراً Vivat Imperator in aeternum ورتّل البابا القدّاس، وأحضر مساعدوه الأناجيل إليه ووضع نابليون يده عليها وتلى القسم الذي لازال يؤكد أنه ابن الثورة:
"إنني أقسم أن أحافظ على حدود الجمهورية كاملة وأن أحترم بنود الكونوردات (الاتفاق الباباوي) وأدعمه وأن أقر حرية العبادة وأن أحترم - وأدعم - مبدأ المساواة أمام القانون، والحرية السياسية والمدنية وألاّ أُلغي ما تم من مبيعات ممتلكات الدولة وألاّ أفرض التزامات أو ضرائب إلاّ وفقاً للقانون وأن أحافظ على وسام الشرف، وألاّ أحكم إلاَّ وفقاً لما يحقق مصالح الشعب الفرنسي وسعادته وعظمته" ·
وانتهت المراسم في الساعة الثالثة، وعادت المواكب من حيث أتت وسط مظاهر الحفاوة والفرحة بينما الثلوج تتساقط وبقي البابا اللطيف في باريس أو بالقرب منها طوال أربعة شهور مفتوناً ببهاء باريس آملاً في مفاوضات مثمرة، وكان يظهر كثراً في شرفته ليُبارك الجموع التي تركع احتراماً له· ووجد أن نابليون جامد الشعور رغم ما يُبديه من أدب، وتحمل (أي البابا) بصبر تصرّف مضيفه (نابليون) العَلْماني وعدم التزامه بالمسلك ذي الطابع الديني في تعامله معه (البابا) ·
وفي 15 أبريل سنة 1805 غادر إلى روما· وواصل نابليون مشروعاته الإمبراطورية واثقاً من أنه الآن أصبح حاكماً مقدّساً holy كأي حاكم (أوروبي) آخر وأصبح يمكنه أن يُواجه - وهو مطمئن - القوى التي ستتحد حالاً لتدميره·
2 - الائتلاف الثالث ضد فرنسا: عام 1805 م(ملحق/422)
بحلول سنة 1804 كانت كل الحكومات الأوروبية - باستثناء إنجلترا والسويد وروسيا - قد اعترفت بنابليون كإمبراطور للفرنسيين وخاطبه بعض الملوك بكلمة أخي وفي الثاني من شهر يناير سنة 1805 عرض نابليون - مرة أخرى - السلام على جورج الثالث وخاطبه هذه المرة بعبارة (أخي):
سيدي وأخي:
أما وقد دعاني الله وأصوات مجلس الشيوخ والشعب والجيش لأتبوأ عرش فرنسا فقد تأكَّد لي شعوري بالرغبة في السلام·
إن فرنسا وإنجلترا تُهدران ثرواتهما· ربما ناضلا طوال قرون، لكن هل أدّت حكوماتهما - بشكل صحيح - واجباتهما الأكثر قداسة لكفِّ هذه الدماء الغزيرة التي أُريقت عبثاً بغير هدف محدد؟ إنني لا أجد حرجاً في أن آخذ بزمام المبادأة في هذا الأمر (طلب السلام) ولديَّ فيما أظن براهين كافية·· فأنا لا أخاف الحرب إذا حَلَّت·· لكن السَّلام هو رغبتي الكامنة في قلبي ولم تكن أبداً بعيدة عن شهرتي· إنني أُناشد جلالتكم ألاَّ تحرموا أنفسكم من السعادة بإقرار السلام في العالم·· ولن تكون هناك فرصة أفضل لكبح الغضب والاستماع لصوت الإنسانية والعقل، فإذا ضاعت هذه الفرصة فأي أجل يمكن أن يُحدَّد لحرب قد لا أستطيع وقفها بكل مساعِيَّ؟ ··
ماذا تأمل أن تكسب من الحرب؟ تكوين ائتلاف من بعض القوى في القارة (الأوروبية)؟ انتزاع مستعمرات من فرنسا؟ إن المستعمرات هدف لفرنسا، لكنه هدف ثانوي ثم ألا تحتفظ جلالتكم بالفعل بمستعمرات أكثر مما تستطيع الاحتفاظ به؟
إنَّ العالم رحب واسع بدرجة تكفي لتعيش أمَّتانا فيه· وقوة العقل كافية لتمكيننا من تجاوز كل الصّعاب إذا توفرت الإرادة من الجانبين· وعلى أية حال فقد قُمت بواجبي لما أعتقد فيه الصلاح وما هو قريب إلى قلبي· إنني واثق من أن جلالتكم ستُصَدِّقون إخلاص مشاعري التي عبّرتُ عنها وعن توقي الشديد لتقديم ما يُثبتها لكم·
نابليون(ملحق/423)
ولا ندري ما هي التأكيدات الخاصة لنوايا السلام والتي ربما تم إرفاقها بهذا الاقتراح· وعلى أية حال فإن ذلك لم يُثْنِ انجلترا عن إقامة أمنها على مبدأ توازن القوى في القارة، والحفاظ على هذا المبدأ بتشجيع الضعيف ضد القوى· بل إن جورج الثالث لم يقبل مخاطبة نابليون له بكلمة أخي فلم يُرسل له رداً، لكن في 14 يناير سنة 1805 أرسل وزير الخارجية اللورد ملجريف Mulgrave إلى تاليران خطابا ذكر له فيه بَشكْل ودي شروط إنجلترا للسلام:
"ليس لدي صاحب الجلالة رغبة أعز من انتهاز أول فرصة تُتيح لرعاياه مزايا السلام الذي سيُقام على أُسس غير مزعزعة لأمنٍ دائم ولتحقيق المصالح لطبقات الأمة، إنّ جلالته مُقتنع أنه لا يمكن الوصول لهذه النتيجة إلاَّ بترتيبات تؤدِّي أيضاً إلى مستقبل آمن وهدوء واستقرار في أوروبا لمنع تجدّد الأخطار والكوارث التي أَقْلقت القارة·
وعلى هذا فصاحب الجلالة يرى أنه من غير الممكن أن يجيب بشكل حاسم على الأسئلة التي طُرحت عليه إلاّ بعد أن يتصل بالقوى الأوروبية المُتحالفة معه خاصة إمبراطور روسيا الذي قدَّم أقوى الأدلة على حكمته ومشاعره الطيبة واهتمامه العميق بأمن أوروبا واستقلالها "·
وتولى وليم بت Pitt الأصغر رياسة وزراء إنجلترا في الفترة من (مايو 1804 إلى يناير 1806) وكان يُمثل - كَمَعْقل مالي جديد لبريطانيا - طبقة أصحاب المصالح التجارية التي كادت تكون هي الرابح الوحيد من الحرب· وقد عانت الطبقة ذات المصالح التجارية خسائر حقيقية من سيطرة الفرنسيين على مصبّات الراين ومجراه لكنها استفادت من السيطرة البريطانية على البحار· ولم يخنق هذا غالب الجهد الحربي الفرنسي فحسب بل مكَّن بريطانيا من الاستيلاء على المستعمرات الفرنسية والهولندية ساعة تشاء، وعلى السفن الفرنسية حيثما وُجدت· وفي الخامس من أكتوبر سنة 1804 استولت السفن الإنجليزية على عدّة سفن اسبانية (شراعية حربية من نوع الغليون galleons) متجهة إلى اسبانيا محملة بالفضة التي قد تمكنها من دفع كثير من ديونها لفرنسا·(ملحق/424)
وفي ديسمبر سنة 1804 أعلنت إنجلترا الحرب على اسبانيا ووضعت أسبانيا أسطولها تحت أمر فرنسا· وبصرف النظر عن هذا الاستثناء فإن البريطانيين استطاعوا بالتدريج عن طريق دبلوماسييهم البارعين وإعاناتهم المالية التي تقدم بحكمة - أن تكسب إلى جانبها القوى الأوروبية الأغنى بالرجال وإن كانت أقل حظاً في الذهب (المال) ·
ولم يستطع اسكندر الأول أن يحسم أمره: أيكونُ مصلحاً ليبرالياً وقائدا خيِّراً أم فاتحاً عسكرياً دعاه القدرُ للسيطرة على أوروبا؟ · وعلى أية حال فإنه كان واضحاً في عدة نقاط: لقد أراد أن يَمُدَّ حدوده الغربية بضم فاليشيا Wallachia ومولدافيا Moldavia التابعتين لتركيا· ورنا بالتالي - مثل كاترين المتوسّعة - إلى اجتياح تركيا (الدولة العثمانية) أن يستولى على البسفور والدردنيل جاعلاً قدماً في آسيا وأخرى في أوروبا، ليسيطر في الوقت المناسب على البحر المتوسط، وكان بالفعل قد استولى على الجزر الأيونية Ionian Isles·
لكن نابليون كان قد استولى فجأة على هذه الجزر وهي الآن تابعة له· ولا زال - أي نابليون - يتوق شوقاً للاستيلاء على مصر وهو ظمآن للسيطرة على البحر المتوسط، بل كان قد تحدث بشأن ابتلاع تركيا ونصف الشرق Orient· هنا كان يوجد منافس نَهِم، ولابد أن يستسلم واحدٌ منهما (اسكندر الأول أو نابليون) · لكل هذا ولأسباب أخرى لم يكن اسكندر الأول راغباً في أن يرى انجلترا تُقيم مع فرنسا سلاماً· ففي يناير سنة 1805 وقع معاهدة تحالف مع السويد التي كانت بَدَوْرها متحالفة مع إنجلترا· وفي 11 يوليو أكمل أمره بعقد تحالف مع إنجلترا التي تعهدت أن تدفع لروسيا إعانةً مالية سنوية مقدارها 125,000 جنيه إسترليني لقاء كل 100,000 مُقاتل يشتركون في المعارك ضد فرنسا ·(ملحق/425)
وتفاوض فريدريك وليم الثالث البروسي مع نابليون طوال عام على أمل أن يُضيف إلى مملكته مقاطعة هانوفر Hanover التي كان الفرنسيون قد استولوا عليها في سنة 1803· وعرضها نابليون بشرط عقد تحالف تتعهد فيه بروسيا بدعم فرنسا في إقرار الوضع الجديد· ولم يستسغ فريدريك الفكرة خوفاً من الأسطول الحربي البريطاني الغاضب على طوال سواحله، وفي 24 مايو سنة 1804 وقَّعت بروسيا تحالفاً مع روسيا للقيام بعمل مشترك ضدَّ أي تقدم فرنسي إلى الشرق من وِزَر Weser·
وترددت النمسا أيضاً· إنها إن انضمت للائتلاف الجديد فستكون أول من يُكوى بنيران الهجوم الفرنسي· لكن النمسا - وهي الأقرب إلى فرنسا من إنجلترا - كانت قد شعرت بالاندفاعات المتوالية للقوات الفرنسية المتوسّعة: توجيهها وإشرافها على الجمهورية الإيطالية في يناير سنة 1802، وإلحاقها لبيدمونت في سبتمبر سنة 1802، وإخضاع سويسرا كمحمية فرنسية في فبراير سنة 1803، وادعاؤها (أي فرنسا) لقباً إمبراطورياً في مايو سنة 1804، واستمرت الاندفاعات الفرنسية: في 26 مايو 1805 تلقَّى نابليون في ميلان التاج الحديدي من لومبارديا وفي 6 يونيو قبل طلب دوق جنوا بدمج الجمهورية الليجورية Ligurian Republic في فرنسا·
وتساءل النمساويون متى سيتوقَّف شارلمان الجديد هذا؟ أليس هو بقادر بسهولة - إذا لم تتحد معظم أوروبا لإيقافه - على ابتلاع الولايات الباباوية Papal States أولاً ثم مملكة نابلي؟ ما الذي يمنعه من الاستيلاء على فينيسيا (البندقية) وكل زمامها المغري الذي كان يُسهم بعوائد مالية في دخل النمسا؟ لقد كان هذا هو تفكير النمسا القلق عندما عرضت إنجلترا عليها مساعدات مالية ووعدتها روسيا بمائة ألف مقاتل شديد المراس في حالة هجوم فرنسا عليها· وفي 17 يونيو سنة 1805 انضمت النمسا إلى كل من إنجلترا وروسيا والسويد وبروسيا، وبذا اكتمل الائتلاف الثالث ضد فرنسا·
3 - أوسترليتز AUSTERLITZ: في 2 ديسمبر 1805 م(ملحق/426)
وفي مواجهة هذا التحالف الخماسي كانت فرنسا تتلقى دعما مترددا من هسي Hesse وفيرتمبرج Wurttemberg وتعاوناً من أسطولي هولندا وأسبانيا· وسحب نابليون من مختلف أنحاء مملكته الأموال والمجندَّين إلزامياً ونظَّم ثلاثة جيوش:
(1) جيش الراين بقيادة دافو Davout ومورا Murat وسول Soult وني Ney، ليُواجه به القوة النمساوية الرئيسية بقيادة الجنرال ماك.
(2) جيش إيطاليا بقيادة ماسينا لمواجهة الهجوم النمساوي الغربي الذي قوامه جيش على رأسه الأرشدوق كارل لودفيج Karl Ludwig.
(3) وجيش نابليون العظيم الذي تجمع حديثاً حول بولوني Boulogne ولكنه قادر على الانقضاض انقضاضاً مفاجئاً على النمسا·
وكان أملُ نابليون يكمن في الاستيلاء - سريعاً - على فيينا ليُجبر النمسا على توقيع اتفاق سلام منفصل ويجمد - بذلك - تحالفاتها في القارة ويجعل - بذلك - إنجلترا مُحاصرة دون عَوْن·
وكان الإمبراطور الشاب يُكنّ كراهية شديدة لإنجلترا باعتبار لعنة أصابت حياته والعقبة الرئيسية أمام تحقيق أحلامه· لقد كان يُسميها إنجلترا الغادرة وأعلن أن أموالها كانت هي السبب الأساسي لويلات فرنسا· لقد راح ليل نهار يُخطط - بالإضافة لمئات المشروعات الأخرى - لبناء أسطول يُنهي سيادة بريطانيا على البحار· لقد أغدق الأموال وجلب العمال إلى مراكز صناعة السفن مثل طولون Toulon وبريست Brest وأخضع للاختبار اثنى عشر قائداً ليختار منهم أدميرالا (أمير بحر) يمكن أن يقود إلى النصر البحرية الفرنسية النامية·
وظنَّ أنه عثر على بغيته في شخص لويس دي لا توش تريفيل Louis de la Touche-Treville وبذل كل جهده ليبثَّ في روعه أنه يمكن غزو انجلترا واجتياحها إذا استطعنا السيطرة على القنال (الفاصلة بين فرنسا وإنجلترا) لمدة ست ساعات، فساعتها سنكون سادة العالم لكن لاتوش تريفيل مات في سنة 1804 فارتكب نابليون غلطة بأن جعل على رأس البحرية الفرنسية بيير دي فيلينيف Pierre de Villeneuve·(ملحق/427)
لقد كان فيلينيف قد أسهم في إخفاق الحملة الفرنسية على مصر، وصفحته الماضية تُشير إلى جُبنه وميله للعصيان، ولم يكن مؤمناً بإمكانية السيطرة على القنال الإنجليزي لستِّ ساعات، وقد تلكأ في باريس حتى أمره نابليون بالتوجه لشغل منصبه في طولون· وكانت تعليمات (أي تعليمات نابليون) ماكرة ومعقدة:
"فليقُد أسطوله في عرض البحر وليترك نلسون Nelson يتتبعه بالأسطول البريطاني الرئيسي ويغريه بتتبعه في الأطلنطي إلى جزر الهند الغربية، ثم يتملص منه بين هذه الجزر ويعود بأقصى سرعة إلى القنال الإنجليزي حيث تنضم إليه الأساطيل الفرنسية والهولندية والاسبانية في الالتحام بالسفن البريطانية فترة تكفي لعبور الجيش الفرنسي بقواربه التي تُعد بالآلاف إلى الأرض الإنجليزية قبل أن يتمكن نلسون من العودة من البحر الكاريبي"·
ونفذ فيلينيف الجزء الأول من مهمته بطريقة حسنة· لقد أغوى نلسون بتتبعه إلى أمريكا، وراغ منه وكرّ عائداً إلى أوروبا· لكنه عند وصوله إلى أسبانيا لم يجعل سفنه ورجاله في حالة استعداد لاجتياح السفن الإنجليزية التي تحرس القنال، وبدلا من ذلك بحث عن الحماية في مرفأ آمن وصديق في كاديز (قادش) Cadiz· وفُجع نابليون في خطته فأصدر أوامره إلى فيلينيف ليخرج باحثاً عن أسطول نلسون وأن يخاطر بكل شيء في تحد متهوّر للقضاء على السيادة البريطانية على البحار·
وفي قرار عصبي مفاجئ ابتعد الإمبراطور عن القنال الإنجليزي ودار بآلاف الرجال ليسير جنوباً وشرقاً إلى الراين وما وراءه· وراحت قلوب الفرنسيين جميعاً تخفق أملاً وقلقاً مع هذا الجيش العظيم (وفقاً لتسمية نابليون) وراح الناس في كل مدينة يمر بها يدعون له بالنصر لتحقيق مشروعه· وفي كل كنيسة تقريباً راح رجال الدين يحثون شباب الأمة على الانضمام إليه ليخدموا تحت راياته وراحوا يتلون من فقرات الأناجيل ما يفسرونه على أساس أن نابليون قد أصبح الآن في رعاية الله وتحت توجيهه المباشر ·(ملحق/428)
ما أسرع ما أتى الكونكوردات Concordat ( الاتفاق البابوي) بالثمار! وتعاونوا مع نابليون لترتيب أمر تمويل هذه العشرين ألف مركبة على طول الطريق، وعمد نابليون إلى الإسراع وإراحة الجند أثناء مرورهم عبر فرنسا · وركب هو نفسه مع جوزيفين إلى ستراسبورج التي أصبحت الآن مفعمة عاطفة وتلهفا وحبا، فقد كانت ثروتها معلقة أيضاً بكل رمية نرد (زهر) · ووعد نابليون أنه خلال أسابيع قليلة سيكون سيِّد فيينا · وفي ستراسبورج ترك جوزيفين في رعاية ريموزا Remusat وأسرع إلى الجبهة·
وكانت إستراتيجيته - كالعادة - هي أن يُقَسّم جيش عدوه ويغزوه:
"أن يمنع الجيش النمساوي من التوحّد (من أن يشكل كُتلة مقاتلة واحدة)، وأن يُدمّر أو يُجمِّد القوات النمساوية قبل وصول القطيع الروسي (الجنود الروس) الذي يتوقع النمساويون وصوله لتقديم المساعدة، ثم يجتاح الجيش الروسي القادم مُحققاً النصر عليه مما سيُجبر أعداءه الأوروبيين على توقيع سلام مؤقّت على الأقل"·
ورغم الأيام الكئيب نهارها الحالك سواد ليلها الممعن مطرها الغزير طينها وجليدها - نفذ جيش الراين ما أوكل إليه في المعركة على نحو شامل وأرسل من التوضيحات ما يدل على أن نابليون مدين لمارشالاته دَيْنا كبيراً·
وبعد أسبوع من المناورة وجد الخمسون ألف مقاتل التابعون للجنرال مارك أنفسهم في أولم Ulm محاصرون من ثلاث جهات بالمدفعية والفرسان والمشاة بقيادة دافو وسول Soult ومورا وني Ney واستحال عليهم التراجع عبر الدانوب خلفهم، وكانوا جوعى ينقصهم الطعام كما كانوا يعانون عجزاً في الذخيرة، وهدد الجنود النمساويون بالتمرد إذا لم يُسمح لهم بالاستسلام، فاستسلم ماك Mack بالفعل أخيراً في 17 أكتوبر سنة 1805 فأسر الفرنسيون ثلاثين ألفاً من رجاله وأرسلوهم إلى فرنسا· لقد كان النصر الذي أحرزه الفرنسيون في هذه المعركة هو الأقل تكلفة والأكثر حسماً وأثراً في تاريخ الحرب· وانسل الإمبراطور فرانسيس الثاني وبعض النمساويين ممن بقوا على قيد الحياة بعد معركة أولم Ulm إلى الشمال لينضمّوا للروس الذي اقترب ميعاد وصولهم، بينما دخل نابليون فيينا في 12 نوفمبر دون مقاومة وأيضاً دون تباه·(ملحق/429)
وسرعان ما تعكر مزاج الفرنسيين وفسُدت عليهم نكهة النصر بوصول أخبار مفادها أن فيلينيف - تنفيذاً للتعليمات - انطلق لمقابلة نلسون ليُصارعه حتى الموت، فقد كانت نهاية هذه المواجهة موتاً لكليهما، وانتصر نلسون في الطرف الأعز (21 أكتوبر 1805) لكنه جُرح جرحاً مميتاً، أما فيلينيف فقد خسر وانتحر· ونحَّى نابليون جانباً - وهو حزين مكتئب - أمله في التصدي للسيادة البريطانية على البحار ولم يعد أمامه إلا كسب أكبر عدد من المعارك على البر الأوروبي حتى يجبر القوى الأوروبية على السير في ركاب فرنسا بإغلاق أسواقها في وجه البضائع البريطانية حتى يجبر تجار إنجلترا حكومتهم على عقد معاهدة سلام مع فرنسا·
وترك نابليون الجنرال مورتييه Mortier وخمسة عشر ألف مقاتل للسيطرة على فيينا وانطلق في 17 نوفمبر لينضم إلى جنوده لإعدادهم لمواجهة جيشين روسيين يتجهان نحو الجنوب؛ جيش بقيادة كوتوزوف Kutuzov الصارم وجيش آخر على رأسه القيصر اسكندر نفسه· وتقابل الدب الروسي مع النسر الفرنسي في أوسترليتز (قرية في مورافيا Moravia) في الثاني من شهر ديسمبر سنة 1805· وقبل المعركة أصدر نابليون لفيالق جيشه البيان التالي:
أيها الجنود:
الجيش الروسي أمامكم ليثأر لهزيمة الجيش النمساوي في أولم Ulm··· إن المواقع التي نشغلها هائلة بينما هم يسيرون ليكونوا عن يميني وبذا سيعرضون جناح جيشهم لي···
إنني شخصياً سأوجّه كتائبكم· إنني سأتجنب النيران إن أنتم - بشجاعتكم المعتادة - أحدثتم الفوضى والاضطراب في صفوف العدو· لكن إذا أصبح النصر في أي لحظة غير مؤكد فسترون إمبراطوركم أول من يعرّض نفسه للخطر لأن النصر لا يجب أن يكون موضع شك هذا اليوم بالذات فشرفُ الجيش الفرنسي الذي يعني - وبعمق - شرف الأمة الفرنسية كلها معلَّق على هذه المعركة·· إنه ينبغي علينا أن نهزم هؤلاء الذين استأجرتهم إنجلترا التي تُكِن مثل هذه الكراهية المريرة لأمتنا··
إن هذا النصر سيضعُ نهاية للمعركة وسنكون بعد النصر قادرين على العودة إلى مقرّنا الشتوي حيث سننضم إلى الجيوش الجديدة التي يجري إعدادها في فرنسا وعندئذ سيكون السلام الذي سأعقده جديراً بشعبي وبكم وبي ·(ملحق/430)
وكان أول تكتيك هو استيلاؤه على تل يسمح لمدفعيته بإطلاق نيرانها على الجيش الروسي (المشاة) المتحرك إلى يمين قواته لكن هذا التل استولى عليه عدد من رجال كوتوزوف الأكثر شجاعة· لقد تركوا طريقاً للقوات الفرنسية وأعادوا تشكيل قواتهم وحاربوا مرة ثانية لكن قوات نابليون الاحتياطية اجتاحتهم· وسرعان ما أصبحت المدفعية الفرنسية تحصُد الروس وهم يتقدمون في السهل الأدنى من التل، فانكسر قلب جيشهم رُعباً وأمعن في الفرار وانقسم جيشهم إلى قسمين عمَّت الفوضى فيهما؛ واجه القسم الأول مشاةُ دافو وسول Soult وواجهت القسم الثاني كتائبُ لان Lannes ومورا وبيرنادوت، أما بالنسبة للقلب المُبعثر فقد أرسل إليه نابليون عساكره الاحتياطيين ليجتثوه اجتثاثاً· ومن بين المقاتلين الروس والنمساويين البالغ عددهم 87,000 استسلم 20,000 واستولى الفرنسيون على كل مدفعية العدو تقريباً، وبينما انطرح على أرض المعركة من جيش أعداء فرنسا 15,000 قتيل· وهرب اسكندر وفرانسيس بمن تبقى إلى هنجاريا (المجر) بينما راح حليفهم الذي مُلِّئ رعباً فريدريك وليم الثاني يتوسّل السلام بذلَّة·
وفي هذه المذبحة فقدت القوات الفرنسية البالغ عددها 73,000 وحلفاؤها 8,000 ما بين قتيل وجريح· وهتف من بقي على الحياة من الجيش الفرنسي - وقد أنهكهم التعب، بعد أن تعبوا كثيراً من رؤية الموت - بحماسة وحشية بحياة نابليون· وفي بلاغ (نشرة توزع في الجيش) 3 ديسمبر وعدهم نابليون انه سيتوقف عن الحرب بعد أن يتم انجاز كل ما هو ضروري لتأمين سعادة ورخاء بلدنا، ساعتها سأعودُ بكم إلى فرنسا· وهناك ستكونون موضع عنايتي وحُبي· وسيرحّب بكم شعبي بفرح وما على الواحد منكم إلا أن يقول: لقد كنتُ في معركة أوسترليتز ليهتف الناس انظر إلى البطل ·
4 - صانع الخرائط: من 1806 إلى 1807 م
عندما تلقى وليم بت Pitt أخبار أوسترليتز كان يقترب من الموت، ولما رأى خريطة أوروبا معلَّقة على الحائط طلب إزاحتها من أمامه وقال أطووا هذه الخريطة، فلن نحتاج إليها في هذه السنوات العشر · ووافق نابليون وأعاد رسم الخريطة·(ملحق/431)
لقد بدأ نابليون في إعادة رسم بروسيا والنمسا· ونصحه تاليران Talleyrand الذي خلَّفه نابليون على فيينا لصياغة الإرادة الإمبراطورية بلغة دبلوماسية - أن يفرض على النمسا شروطاً مُعتدلة مقابل عقد تحالف بينها وبين فرنسا على أساس أن هذا قد يَفُك الارتباط بين المساعدات المالية الإنجليزية والسياسات النمساوية وقد تحصل فرنسا من جرّاء ذلك على بعض الدعم في صراعها مع بروسيا وروسيا (حتى لو كان هذا الدعم لا يعدو مزايا جغرافية) لكن نابليون الذي كان يعتقد أن تحالف أعدائه يتسم بالهشاشة كان من رأيه إضعاف النمسا بحيث لا يمكنها تحدِّي فرنسا مرة أخرى، وأن يكسب بروسيا ويُبعدها عن روسيا بأن يعرض عليها سلاماً سهلاً· وفي هذه الأثناء سمح لاسكندر بأن يقود الروس الذين لازالوا على قيد الحياة عائداً إلى روسيا دون أن يتعقبه·
وبناء على معاهدة وقِّعت في حجرة ماريا تريزا في القصر الملكي النمساوي في شونبرن Schonbrunn في الخامس من ديسمبر سنة 1805 طلب نابليون من بروسيا تسريح جيشها، والتنازل عن مرجريفية أنسباخ margravate of Ansbach ( المرجريفية هي محافظة حدودية في المناطق الناطقة بالألمانية) لبافاريا وأن تتنازل عن إمارة (مديرية أو محافظة) نيو شاتل Neuchatel لفرنسا وأن تقبل تحالفاً وثيقاً مع غازيها (نابليون) · وتوقَّع فريدريك وليم الثالث أن يحصل في مقابل ذلك على ولاية هانوفر وكان نابليون سعيداً بوعده بتحقيق ذلك ليكون في ضمّها لبروسيا حائلاً يمنع أية مشاعر مُتعاطفة مع الإنجليز في بروسيا·
لقد كانت معاهدة بريسبورج Pressburg مع النمسا (والتي اكتملت - في غياب نابليون - في 26 ديسمبر سنة 1805) معاهدة قاسية لم ترحم· لقد كانت النمسا قد بدأت فيما مضى الأعمال العدائية ضد بافاريا، وأصبح عليها الآن أن تتنازل لها (لبافاريا) ولبادن Baden ولفيرتمبرج Wurttemberg عن كل أراضيها (أراضي النمسا) في التيرول Tirol وفورارلبرج Vorarlberg وجنوب ألمانيا، وبهذا اتسعت كل من بافاريا Bavaria وفيرتمبرج Wurttemberg فصارتا مملكتين وأصبحت بادن دوقية كبيرة متحالفة مع فرنسا·(ملحق/432)
ولتعويض فرنسا عن إنفاقها الأموال في الحرب وعما فقدته من رجال ومعدات تعيَّن على النمسا أن تجعل كل ممتلكاتها في ايطاليا بما في ذلك البندقية وظهيرها تحت الحماية الفرنسية، ووافقت - أي النمسا - على أن تدفع لفرنسا تعويضا مقداره أربعون مليون فرنك، ويا لسعادة نابليون عندما علم أن جزءاً من هذا المبلغ كان قد وصل حديثاً للنمسا من إنجلترا · وبالإضافة لهذا أمر نابليون خبراءه الاختصاصيين في الفنون أن يُرسلوا إلى باريس بعض اللوحات المختارة والتماثيل من القصور والمتاحف النمساوية· واعتبر نابليون كل ذلك - استيلاءه على الأراضي والأموال والأعمال الفنية - أسلاباً مشروعة، وفقاً لطريقته الرومانية· وأخيراً أمر بإقامة نُصُب النصر في ميدان فيندوم Vendome في باريس وأمر بتغطيته بمعادن مأخوذة من مدافع العدو التي استولى عليها في أوسترليتز·
ووقَّع تاليران هذه الاتفاقات ولكنه لم يكن مرتاحاً بسبب رفض اقتراحاته، فبدأ يستخدم نفوذه - ولم يكن دائماً خائناً لنابليون - للحد من المزيد من امتداد سلطان نابليون، وقد برَّر ذلك في وقت لاحق بأنه كان يخدم مصالح فرنسا بإساءته لمن يعمل في خدمته (نابليون) ·
وفي 15 ديسمبر سنة 1805 غادر نابليون فيينا ليكون مع جوزيفين في ميونخ، وهناك ساعدا في زواج يوجين Eugene ( الذي كان قد تمَّ تعيينه نائباً ملكياً في إيطاليا) من الأميرة أوجستا Augusta الابنة الكبرى لملك بافاريا· وقبل الزفاف تبنى نابليون - رسمياً - يوجين ووعده بتاج إيطاليا كوريث له· لقد كان زواجاً سياسياً لتوثيق التحالف بين بافاريا وفرنسا، وقد أحبَّت أوجستا زوجها وساعدت في إنقاذه بعد سقوط أبيه الذي تبنّاه (نابليون) ·(ملحق/433)
وذهب الإمبراطور والإمبراطورة (نابليون وجوزيفين) إلى باريس، فتلقَّته بالمهرجانات الرسمية والاحتفاء الشعبي حتى أنَّ مدام دي ريموزا تساءلت مندهشة أيمكن لرأسٍ بشري ألاَّ تديرها هذه المبالغة في المديح لكن الحقائق أيقظته من سكرته· لقد وجد أن الخزانة الفرنسية قد أصبحت - أثناء غيابه خارج فرنسا - على وشك الإفلاس بسبب سوء الإدارة، وأتى التعويض الذي قدمته النمسا لإنقاذها· وكان عليه أن يُناضل محاولاً الحفاظ على حياته؛ ففي 20 فبراير سنة 1806 تلقى معلومات من تشارلز جيمس فوكس - رئيس وزراء إنجلترا في ذل الوقت - تُحذره من أن قاتلا مُدّعيا عرض قتله (أي قتل نابليون) مقابل مبلغ معقول ·
وكان فوكس قد اعتقل هذا الشخص لكن ربما كان هناك أشخاص آخرون وطنيون مستعدين لقتل نابليون لقاء مبالغ مالية· لقد كانت إنجلترا وقتئذ في حرب مع فرنسا، وكان تصرف رئيس الوزراء البريطاني الآنف ذكره ينطوي على معانٍ خُلقية مسيحية مُضافاً إليها روح الفروسية· ووسط أجواء القتل الفردي والجماعي عادت فرنسا في أول يناير سنة 1806 للتقويم المسيحي الجريجوري Gregorian calendar ( التقويم الميلادي المعروف) ·(ملحق/434)
وفي الثاني من شهر مايو - بعد أربعة أشهر قضاها نابليون في إعادة الأمور الإدارية إلى سيرتها الأولى، قرأ أمام الهيئات التشريعية تقريره عن أحوال الإمبراطورية في سنة 1806 لقد سرد - مرة أخرى - باختصار انتصارات الجيش واكتساب الحلفاء والأراضي، ووصف انتعاش أحوال فرنسا في المجالين الزراعي والصناعي، وأعلن عن المعرض الصناعي - وهو أمر جديد على نحو ما في تاريخ فرنسا - وأمر بافتتاحه في اللوفر في الخريف، وأشار التقرير إلى بناء - وإصلاح - الموانئ والترع والجسور و33,500 ميل من الطرق - كان عدد من هذه الطرق عَبْر الألب، وتحدّث التقرير أيضاً عن مشروعات عظيمة يجرى العمل فيها - مَعْبد النصر (الآن: لا ماديلين La Madeleine) والبورصة وقوس النصر·· وانتهى التقرير بالتأكيد على أنَّ فتوح مزيد من البلاد ليس هو ما يشغل بال الإمبراطور، فقد استنفذ أهدافه في المجد العسكري·· وإنما ما يشغله هو الوصول بالإدارة إلى درجة الكمال ليجعلها مصدراً لسعادة دائمة ورخاء مُتزايد لشعبه·· إنَّ ما يقصد إليه الآن هو تحقيق هذا المجد ·
وواصل نابليون مهمته في صنع الخرائط، ففي 12 يوليو سنة 1806 قَبِلَ الإمبراطوُر - الذي بلغ النُّهى - إمبراطورية أخرى - كهدية - تتكوّن من ممالك، بافاريا وسكسونيا Saxony وفيرتمبرج ووستفاليا والدوقيات الكبيرة التالية: بادن، وبرج Berg وفرنكفورت، وهسي - دارمشتات Hesse - Darmstadt وفيرتنسبورج وآرنبرج Arenberg ومكلنبورج - شفيرين Mecklenburg-Schwerin ونساو Nassau وأولدنبرج Oldenburg وساكس - كوبورج Saxe-Coburg وساكس - جوتا Saxe-Gotha وساكس فيمار Saxe-Weimar وست إمارات صغيرة·(ملحق/435)
لقد كانت المبادأة في هذا الاتحاد الوثيق بين الصديق والعدو على يد الأمير الأسقفي كارل تيودور فون دالبرج (وفقاً لما قال مينيفال) الذي كان فيما مضى رئيساً لأساقفة مينز Mainz· فبسبب توجيهاته طلبت هذه الكيانات (الدول) المختلفة من نابليون أن تكون تحت حمايته متعهِّدة بتقديم فرق عسكرية لجيوشه (يبلغ عدد أفرادها 63,000 مقاتل) مُعلنة انفصالها عن الإمبراطورية الرومانية المقدسة (التي كان شارلمان قد أسسها في سنة 800 للميلاد)، وكونت كونفدرالية الراين· وربما كان هذا التوجّه الجديد للمناطق التيتونية Teutonic راجعاً لانتشار اللغة والأدب الفرنسيين فيها· فقد كاد مجتمع المثقفين والمفكرين يكون ذا طابع عالمي·
ومن الطبيعي أن تعترض بروسيا على كل ما يجعل من فرنسا قوة هائلة، لكن النمسا التي أفقدتها الهزيمة كلَّ أمل قبلت هذا التغيير· ومنذ انسحاب ستة عشر أميرا بوحداتهم السياسية من الإمبراطورية الرومانية المقدسة حتى تقلَّصت هذه الإمبراطورية إلى مُزَق تافهة فتخلَّى فرانسيس الثاني (في 6 أغسطس سنة 1806) عن لقبه وامتيازاته كرأس لما كان ذات يوم كياناً كبيراً أي الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي وصفها فولتير ذات يوم بأنها ليست مقدسة، وليست رومانية وليست إمبراطورية وأقنع نفسه بلقب فرانسيس الأول إمبراطور النمسا·
والآن فإن الإمبراطورية الفرنسية وفي ركابها مدوَّنةُ نابليون القانونية قد امتدت من ساحل الأطلنطي إلى نهر إلْب Elbe، واشتملت هذه الإمبراطورية على فرنسا وبلجيكا وهولندا والدول الحدودية غرب الراين وجنيف، وكل إيطاليا تقريباً إلى الشمال من الولايات الباباوية، إن الرجل الذي حَسَد شارلمان قد كرر - بشكل واضح - إنجاز شارلمان بتقديم القوانين للغرب - المقصود غرب أوروبا· لكن من الأطلنطي إلى نهر إلب كان الناس يتساءلون: إلى متى تستمر هذه الأخُوّة بين التيوتون Teuton والغال Gaul؟
5 - جينا (يينا) وإيلاو وفريدلاند: من 1806إلى 1807 م
JENA, EYLAU, FRIEDLAND(ملحق/436)
في 15 أغسطس سنة 1806 احتفلت فرنسا بيوم القديس نابليون وبعيد ميلاده السابع والثلاثين· وكتبت مدام دي ريموزا (المنتقدة عادة) أصبحت الدولة في حالة هدوء عميق، وقلَّت المعارضة يوما فيوم، فقد نظَّمت الإدارة الحازمة الرصينة المستقيمة طريقة ممارسة السلطة وأساليب دعمها· فتم دعم نظام التجنيد الإجباري بشدّة لكن الآن أصبحت ثرثرة الفرنسيين وشائعاتهم واهنة ضعيفة، فالفرنسيون لم يكونوا قد استنفذوا بعد مشاعر العظمة والأهم من كل هذا أن فوكس رئيس وزراء إنجلترا والكونت بطرس أوبريل Peter Oubril قد فتحا باب المفاوضات من أجل السلام·
وعلى أية حال، فإن بروسيا كانت مترددة ترنو إلى الحرب، فاتحادها القسري مع فرنسا كان مكلِّفاً لها كما ثبت: فانجلترا والسويد كانتا قد أعلنتا الحرب عليها، والأسطول البريطاني حاصر سواحلها واستولى على سفنها في البحار، وكان اقتصادها يعاني، وكان شعبها في حالة دهشة لِمَ أقام ملكُهم هذا التحالف المدمّر؟ وأخبر رجل الدولة البروسي العجوز فريدريك وليم الثالث المتردد أن التحالف الدائم مع روسيا هو الطريق البديل الوحيد لمنع نابليون من ابتلاع بروسيا، ولم يقدم هذا السياسي العجوز اقتراحه إلا بعد أن لمس أن عظمة الجيش البروسي لا تزال قائمة بفعل الذكريات الداعية للفخر التي تتداعى للأذهان عن أيام فريدريك العظيم، كما أنه وضع في اعتباره القوى البشرية الهائلة التي يجندها القيصر اسكندر استعدادا لجولة أخرى مع فرنسا·
كما أن الأميرة لوسي (لويزا Louise) الجميلة المؤثرة التي كانت تحب زوجها الوسيم العطوف اسكندر، راحت تزدري خوف زوجها من حثالة الجحيم (تقصد نابليون)، وحثها الفوج العسكري الذي يحمل اسمها على ارتداء زى الكولونيل لأنها تبدو فيه جميلة، وركبت حصانها وسارت أمامهم في ساحة العرض العسكري· وراح الأمير لويس فرديناند ابن عم الملك يحث على الحرب باعتبارها طريقاً لمجد العرش البروسي·(ملحق/437)
وفي 30 يونيو سنة 1806 أرسل فريدرك وليم إلى اسكندر تأكيداً مفاده أن معاهدة بروسيا مع فرنسا لن تكون حائلاً في سبيل تنفيذ معاهدة بروسيا مع روسيا والتي سبق توقيعها في سنة 1800· وفي شهر يوليو صدمه أن يعلم أن نابليون قد قبل تحت حمايته كونفدرالية الراين Confederation of Rhine، تلك الكونفدرالية التي شملت عدة مناطق كانت فيما قبل تابعة لبروسيا Prussia، والمفترض أنها لازالت داخلة في مجال نفوذها· وأكثر من هذا فإن السفير البروسي في فرنسا كتب لسيِّدة أن بونابرت اقترح بشكل سرّي عودة هانوفر لإنجلترا كجزء من ثمن السلام· وكان نابليون سبق أن وعد بضم هانوفر إلى بروسيا فشعر مليكها (أي مليك بروسيا) بالإحباط وأنه قد غُرِّر به·
وفي 9 أغسطس أمر بتعبئة الجيش البروسي، وفي 26 أغسطس أثار نابليون بروسيا أكثر من ذي قبل بأن أصدر أوامره - أو سمح - بإعدام بالم Palm وهو بائع كتب في نورمبرج Nuremberg لإصدارة كُتيباً يُحرّض على الثورة ضد فرنسا· وفي 6 سبتمبر تعهد فريدريك وليم في خطاب أرسله إلى القيصر بالانضمام إلى أي هجوم على مُزعج العالم وفي 13 سبتمبر مات فوكس الشجاع وقد ذكر نابليون عنه في وقت لاحق أنه كان من بين فعاليات قَدَرِي فلو أنه عاش لأمكن إبرام السلام وبعد موته عادت الوزارة البريطانية إلى سياسة النضال ضد نابليون حتى الموت وتخلى اسكندر عن الاتفاقية المؤقتة التي سبق أن وقعها أوبريل Oubril مع فرنسا·
وفي 19 سبتمبر أرسلت بروسيا إلى فرنسا إنذاراً أنه إذا لم تتحرك القوات الفرنسية في غضون أسبوعين إلى غرب الراين فإن بروسيا ستعلن الحرب، وعرض جودوي Godoy الوزير الماكر الذي كان يحكم أسبانيا في ذلك الوقت، صداقته على بروسيا، ودعا الأسبان لحمل السلاح ولم ينس له نابليون ذلك، وقرر أنه إذا ما أُتيحت الفرصة فسيقيم في أسبانيا حكومة تكون أكثر صداقة لفرنسا· وغادر نابليون باريس على مضض واتجه مع جوزيفين وتاليران إلى مينز Mainz لمواجهة أخطار الحرب مرة أخرى·(ملحق/438)
ولابد أنه كان قد فقد شهيته لخوض معركة لأنه عندما كان يتعيّن عليه مفارقة جوزيفين في مينز اعتراه انهيار عصبي، وربما كان قد أتى للتحقق أنه ليس هناك من أمر يستحق أن يخاطر من أجله بعرشه وحياته بخوض حرب، فلم يكن أي نصر ليحقق له سلاماً مقبولاً· وقد وصفت مدام دي ريموزا المشهد كما رواه لها زوجها:
"أرسل الإمبراطور زوجي ليدعو الإمبراطورة للاجتماع به فعاد بها إليه في غضون لحظات· لقد كانت تبكي، وحركت دموعها مشاعر الإمبراطور فضمَّها لفترة طويلة بين ذراعيه وكاد يبدو غير قادر على وداعها· لقد كان متأثراً بشدة وتأثرت مدام دي تاليران بدورها كثيرا، وقرّب نابليون بيده الممدودة مدام دي تاليران - وهو لا يزال يضم إلى قلبه جوزيفين، ثم ضمَّ المرأتين معاً في الوقت نفسه وقال لمدام دي ريموزا: "يصعبُ على المرء كثيراً أن يفارق اثنين، يُكِنُّ لهما أعمق الحب"، وبينما كان ينطق بتلك الكلمات اعترته نوبةٌ من الهياج العصبي زادت حتى أنه بكى فاقداً السيطرة على نفسه وأعقب ذلك نوبة تشنّج ثم تقيَّأ· فتمَّ رفعُه وإجلاسه على الكرسي وشرب بعض ماء زهر البرتقال لكنه استمر يبكي بشكل متواصل زهاء ربع ساعة· وأخيراً سيطر على نفسه وقام فجأة فصافح مدام دي تاليران، واحتضن زوجته للمرة الأخيرة قبل الوداع، وقال للسيد دي ريموزا: هل المركبات جاهزة؟ استدعِ الحاشية، ولننطلق "·(ملحق/439)
لقد كان عليه أن يُسْرِع لأن إستراتيجيته كانت تقوم على مواجهة بروسيا بأفضل قواته قبل أن يتمكن الروس من الوصول إلى الجبهة· ولم يكن البروس قد وحدوا قواتهم بعد: ففي المقدمة كان هناك 50,000 مقاتل بقيادة الأمير فريدريك لودفيج الهوهنلوهي Friedrich Ludwig of Hohenlohe وفي الخلف - إلى الأبعد - كان هناك 60,000 مقاتل بقيادة فريدريك وليم ودوق برونسفيك Brunswick الذي كان قد أقسم منذ خمسة عشر عاماً أن يدمر باريس؛ بالإضافة إلى حوالي 3,0000 من جنود هانوفر الذين أقبلوا دون رغبة شديدة لمساعدة مليكهم الجديد· وكان مجموع المقاتلين على الجبهة البروسية 140,000 مقاتل بينما بلغ عدد جنود نابليون 130,000 تم تجميعهم بسرعة لكنهم كانوا ماهرين في المناورة، وكانت الهزيمة غريبة عليهم، وكانوا واثقين في قادتهم: لين Lannes دافو وأوجيرو وسول Soult ومورا وني · واستولت قوات لين وأوجيرو Augereau على فرقة عسكرية بروسية في سالفيلد Saalfeld وهو سهل بين سال Saale وإلم Ilm رافدي نهري إلب، وتعرض البروس لهزيمة أمام الفرنسيين لعدم دُربتهم على المناورات السريعة التي يجيدها الفرنسيون وفي هذه المعركة قُتل الأمير لويس فرديناند (10 أكتوبر 1806) ·
واندفع الفرنسيون بستة وخمسين ألف مقاتل وانقضوا على جيش هوهنلوهي بالقرب من يينا (جينا Jena) مقر الجامعة المشهورة التي كان شيلر Schiller قد درَّس فيها مؤخرا، وحيث كان على هيجل Hegel - بعد ذلك بعام - أن يُربك العالم بفلسفة جديدة· ونشر نابليون قواته في شبكة معقدة لتمكين فرق لين وسول من التعامل مع قلب جيش العدو وجناحه الأيسر، بينما هاجمت فرقة أوجيرو الميمنة واندفعت خيّالة مورا بعنف بين صفوف البروس الذين اجتاحتهم الفوضى وافتقدوا كل تنظيم فولوا مدبرين تاركين ساحة المعركة· وأثناء هروبهم مروّا بين كتائب دوق برونسفيك المنكسرة التي كانت قد لاقت الهزيمة في أورشتدت Auerstedt على يد الجيش الفرنسي الذي كان يقوده باقتدار دافو،(ملحق/440)
وفي هذه المعركة جُرح دوق برونسفيك Brunswick جرحاً مميتاً· وفي هذا اليوم (14 أكتوبر سنة 1806) فقد البروس 27,000 بين قتيل وجريح و18,000 أسير كما فقدوا كل مدفعيتهم تقريبا· وفي هذا المساء أرسل نابليون تقريرا سريعاً إلى جوزيفين: لقد التقينا بالجيش البروسي ولم يعد له وجود· إنني على مايرام وأضمّك إلى قلبي · وفي الأيام التاليات تعقب ني وسول ومورا الهاربين وأسروا منهم 20000 وتوجهت قوات وأوجيرو مباشرة إلى برلين فاستسلمت المدينة سريعاً وفي 27 أكتوبر دخل نابليون العاصمة البروسية·
وكان من بين مهامه الأولى أن يجبي من البروس وحلفائهم 160 مليون فرنك ليدفع للجيش الفرنسي وبالإضافة لهذا فقد كان على برلين أن تمد القوات الفرنسية المحتلة بالغذاء والملابس والدواء· وأصدر أمراً بإرسال الأعمال الفنية (أفضل الرسوم والتماثيل) من برلين وبوتسدام Potsdam إلى باريس، وحصل نابليون نفسه - بدوره - على سيف فريدريك العظيم·
وأصدر من برلين في 21 نوفمبر سنة 1806 قراره:
"من الآن فصاعداً لا يُسح لأي سفينة قادمة من بريطانيا العظمى، ومستعمراتها بدخول أي ميناء من موانئ الإمبراطورية الفرنسية التي تضم الآن المدن الهانزييتية Hanseatic towns، ولا يُسمح لأية بضائع من بريطانيا العظمى أو ممتلكاتها بدخول الأراضي التي تحكمها فرنسا أو المتحالفة مع فرنسا، ولا يُسمح لبريتوني Briton بدخول أراضي الإمبراطورية الفرنسية وأراضي المناطق المتحالفة معها"·(ملحق/441)
إن نابليون لمّا وجد كل انتصاراته الحربية غير مُجدية لحث إنجلترا على السلام، بالإضافة إلى علمه أنها (إنجلترا) ستفرض الحصار البحري على كل المناطق التي تحكمها فرنسا، كما سبق لها الحصار البحري على كل المناطق التي تحكمها فرنسا، كما سبق لها أن مدّت حصارها (في مايو سنة 1806) على كل الساحل من بريست إلى إلب - أراد أن يحوّل هذا السلاح نفسه (الحصار البحري) إلى صدر عدوه بمعنى أن يتم إبعاد بريطانيا عن القارة الأوروبية أو بتعبير آخر غلق القارة الأوروبية في وجه إنجلترا، تماماً كما أن الأسطول البريطاني كان منذ فترة يغلق أبواب التجارة البحرية في وجه فرنسا وحلفائها· وربما بهذه الطريقة - كما كان يأمل - يدفع تجار بريطانيا وصناعها للحركة مطالبين حكومتهم بالسلام·
وكانت هذه الخطة تنطوي على كثير من نقاط الضعف· فالصنّاع في القارة الأوروبية - بعد أن تخلَّصوا من منافسة الصنّاع الإنجليز - رفعوا أسعار منتجاتهم، وحزن المستهلكون لافتقادهم المنتجات البريطانية التي اعتادوا عليها· وكثرت الرشاوى وعمليات تهريب البضائع (وقد جمع بوريين بالفعل ثروة ببيع استثناءات من هذا الحصار، وكان نابليون قد عيَّنه وزيرا في هامبورج، فاضطر نابليون لطرده مرة أخرى) · وكانت روسيا لا تزال متحالفة مع إنجلترا، وكان يمكن للبضائع البريطانية أن تجد طريقها إلى بروسيا والنمسا عبر الحدود الروسية· وكانت البضائع البريطانية تَصُبُّ يوميا في ميناء دانزج Danzig الذي كان العساكر البروس لا يزالون يسيطرون عليه·(ملحق/442)
ورغم أن الجيش البروسي كان قد تحطّم وأصبح نابليون دكتاتوراً في برلين إلاَّ أن موقفه العسكري سرعان ما أصبح مُزعزعا بشكل أكثر من موقفه الاقتصادي· وكانت معظم أراضي بولندا واقعاً في أيدي الروسي والبروس، وكان الوطنيون البولنديون قد أرسلوا يناشدون نابليون القدومَ لتحرير بلادهم التي كانت في وقت من الأوقات ذات سيادة - تحريرها من العبودية المخزية· وعلى أية حال، فقد كان هناك جيش روسي جيد التسليح مكون من 80,000 مقاتل يتمركز غرب فيستولا Vistula بقيادة كونت ليفين بنيجسن Levin Bennigsen وكان يستعد لتحدي أي تدخل فرنسي في بولندا· وكان الجيش الفرنسي الذي لم يكن قد تخلّص تماما من آثار معركة يينا غير شغوف بخوض غمار معركة من أجل بولندا لأن رجاله لم يكونوا معتادين على البرودة الكئيبة في منطقة البلطيق فقد كانوا يرتجفون لاقتراب الشتاء ويتوقون العودة إلى بلادهم·
وفي هذه الأثناء قَدِم من باريس إلى برلين وفد مفوّض هدفه الظاهري هو تهنئة نابليون لانتصاراته الباهرة، لكن الحقيقة أنه أتى ليتوسّل إليه ليعقد سلاماً ويعود لفرنسا التي بدأت ترى في كل انتصار نابليوني ما يحتم مزيداً من الحروب الكثيرة التي قد يكون في أحدها مخاطرة بكل ما تمَّ تحقيقه من انتصارات، فأخبر الوفد أنه لا يستطيع أن يتوقف الآن، فلابد من مواجهة التحدي الروسي، وأن حصار إنجلترا (المقصود هنا حصار فرنسا لإنجلترا) سيفشل إذا لم تنضم روسيا للخطة الفرنسية مُجبرةً أو مُداهنة· وأمر نابليون جيشه بالتقدم في المناطق البولندية التي تسيطر عليها بروسيا ولم يلق في تقدمه مقاومة عاجلة، وفي 19 ديسمبر سنة 1906 دخل نابليون وارسو Warsaw ( فرسافا) دون عائق وسط مظاهر الترحيب·(ملحق/443)
كل الطبقات في بولندا من النبلاء الذين كانوا لا يزالون توَّاقين للتحرّر، إلى الفلاحين الذين كانوا لا يزالون يعانون من مآسي عبودية الأرض serfdom ( القِنانة) ·· كلهم اتفقوا في النظر إلى نابليون كأعجوبة سيُبطل تقسيم دولتهم إلى ثلاثة أقسام قسم لروسيا وآخر لبروسيا وثالث للنمسا، وسيجعل بولندا مرة أخرى دولة ذات سيادة، ورد نابليون استحسان البولنديين له بالثناء على الأمة البولندية وامتدحها وبالثناء على أبطالهم ونسائهم (اللائي كن يتحدث الفرنسية بلكنة جذَّابة فيها صفير)
وقد انتقى نابليون منهن واحدة هي الكونتيسة ماري لاكزينسكا فالفسكا Laczynska Walewska ودعاها لسريره وقلبه· وكانت مُناشدته إيّاها - قبل أن يذوق عَسِيلتها وبعد أن ذاقها - مُفعمة بالعاطفة ومتسمة بالتواضع تماماً كما كان واضحاً في خطاباته الأولى إلى جوزيفين لقد رفضته فالفسكا (كما قيل لنا) حتى طلبت منها مجموعة من النبلاء البولنديين في وثيقة وقَّعوها جميعاً بأسمائهم الأولى في بولندا أن تضحّى بنفسها على أمل أن يقوم نابليون من أجل خاطرها بتوحيد بولندا وإعادة سيادتها (تخليصها من التقسيم بين ثلاث دول) وذَّكرتها هذه الوثيقة بأن أستير قد أعطت نفسها لأحشويروش Ahasuerus لا حباً فيه وإنما لتنقذ شعبها وإن كان لنا أن نقول الأمر نفسه، فإنما أنت تفعلين ذلك لتحققي المجد لنفسك والسعادة لنا!. وعندما توسّلت جوزيفين أن يُسمح لها بالقدم إليه من مينز منعها نابليون بحجة أن الطرق سيئة (غير ممهدة) قائلاً لها: "عودي إلى باريس·· وكوني مُبتهجة وسعيدة، وربما سألحق بك حالاً هناك "·(ملحق/444)
وبينما كان كامنا مع فالفسكا طوال الشتاء راح يأمُل أن ينتظر الروس حتى حلول الربيع ولا يسببون له إزعاجاً قبل ذلك· لكنه عندما أرسل قوات بقيادة المارشال فرانسوا - جوزيف ليفيبفر Lefebvre للاستيلاء على دانزج Danzig، قاد بنيجسن كل قواته تقريباً، والبالغ عددها 80,000 مقاتل عبر الفيستولا في هجوم كاسح على قوات ليفيبفر عند اقترابهم من ثورن Thorn، وعاد المراسلون تواً لإحاطة نابليون علماً بما جرى فأسرع (نابليون) شمالاً على رأس 65000 مقاتل في 8 فبراير سنة 1807 وحارب عند إيلان Eylan ( جنوب كونيجسبرج Konigsberg) معركة من أكثر معاركه قسوةً إذ كلّفته أكثر بكثير مما كان يتكلفه في المعارك السابقة إذ كانت المدفعية الروسية متفوقة على المدفعية الفرنسية،
وكان أوجيرو Augereau قد كَبر في السن وأصبحَ يُصاب بالدوار فطلب من قائده (نابليون) إعفاءه بحجة أنه لم يعد قادراً على التفكير بصفاء ذهن، واجتاحت خَياَّلةُ موراً صفوف الأعداء، لكنهم استطاعوا الاحتفاظ بتشكيلاتهم وصمدوا حتى المساء· ثم أمر بنيجسن Bennigsen قوّاته بالتراجع تاركاً في ساحة المعركة 30,000 بين قتيل وجريح، إلاّ أنه - على أية حال - كتب إلى القيصر أنه حقق نصراً مجيداً، واحتفى به القيصر بإقامة قدّاس تسبيحة الشكر في سان بطرسبرج ·(ملحق/445)
لقد انتصر الفرنسيون في هذه المعركة لقاء 10,000 ما بين قتيل وجريح، وراح من بقي على قيد الحياة يُبدون عدم رضاهم فكيف سيستطيعون مقاومة هجوم آخر يقوم به هؤلاء السلاف Slaves الشّداد كثيرو العدد· وأيضاً أصبح نابليون الآن مكتئباً اكتئاباً غير عادي، فآلام المعدة اشتدت عليه، تلك الآلام التي قضت عليه فيما بعد· ولم ينس أبداً ما أولته ماري فالفسكا من رعاية مُخلصة أثناء هذا الشتاء القاسي في معسكر الجيش في فينكنشتين Finkenstein· ومع هذه الآلام فقد كان يواصل العمل يومياً آمراً بالطعام واللباس والدواء لجنوده، مُشرفاً على الأمور العسكرية، مُجتمعاً بالمجنَّدين إلزامياً من شعبه المرهق وحلفائه الكارهين، مُصدراً المراسيم والأوامر للحكومة الفرنسية· وفي الوقت نفسه اجتمع القيصر اسكندر الأول والملك فريدريك وليم الثالث في بارتنشتين Bartenstein في 26 أبريل سنة 1807 ووقعوا اتفاقية لتقسيم أوروبا غير الفرنسية (المناطق الأوروبية التي لم تستولِ عليها فرنسا) بينهما بعد المعركة القادمة مع نابليون والتي توقعا أن يحطما فيها الجيش الفرنسي·
وعندما تم تدعيم هذا الجيش الفرنسي المتعدد الجوانب وانتعش الجنود بحلول الربيع أرسل نابليون قوّة للاستيلاء على دانزج Danzig فتم الاستيلاء عليها فعلاً· وتلقى بنيجسن - الذي كان بدوره يعيد بناء كتائبه - أوامر من اسكندر بالتوجه إلى كونيسجبرج Konigsberg حيث سيتقوّى بأربعة وعشرين ألف مقاتل بروسي شديد البأس· وانطلق بنيجسن لكنه أثناء الطريق سمح لقواته البالغ عددها 46,000 بأخذ قسط من الراحة في فريد لاند ·(ملحق/446)
وهناك في الساعة الثلاثة من صباح 14 يونيو سنة 1807 (الذكرى السنوية لمارينجو) استيقظوا على وابل من النيران صبّه فوق رؤوسهم 12,000 فرنسي يقودهم لان Lannes القائد المتهور لكنه مستعصٍ على الهزيمة· ورد الروس على نيرانه فوراً، وكان من الممكن أن تنتهي مغامرته بكارثة لو لم يأته الدعم· اندفع نابليون بكل قواته وحاصر الروس من كل جانب خلا من ناحية نهر آل Alle لأن النهر سيعوق تراجعهم، وفي الخامسة عصراً ساد الفرنسيون وولّى الروس الأدبار فاستقل بعضهم قوارب لعبور النهر، وألقى بعضهم الآخر بأنفسهم في النهر يأسا وخلَّفوا في ميدان المعركة 25,000 قتيل وجريح·
وفقد الفرنسيون في هذه المعركة 8,000 لكنهم أحرزوا نصراً حاسماً على الجيش الروسي المتبقي لمواجهة غزو خارجي· وهرب الروس والبروس إلى تيلسيت وفقدوا المئات أثناء الهروب بسبب تقعب الفرنسيين لهم حتى أن جنرالاتهم سألوا اسكندر أن يطلب الهدنة ووافق نابليون وترك جنراله سافاري Savary ليحكم كونيجسبرج ويدبّر أمورها، وتوجه هو نفسه إلى تيلسيت ليعقد سلاما مع ملكٍ منكسر، وقيصرٍ مقصوص الجناح·
6 - تيلسيت TILSIT: من 25 يونيو إلى 9 يوليو 1807 م
وفي تيلسيت الواقعة على بعد حوالي ستين ميلاً إلى الجنوب الشرقي من كونيجسبرج تواجه الجيشان المتنافسان تواجهاً سليماً، جيش على شاطئ نهر نيمن Niemen والآخر على الشاطئ المقابل، وزاد بينهما التفاهم وروح الصداقة وعلى أية حال فإن الأباطرة المتنافسين - بناء على اقتراح اسكندر - التقوا باحتراس - في خيمة أُقيمت على طوّافة جرى تثبيتها في وسط مجرى النهر· وكان على كل حاكم منهم أن يستقل قارباً ليصل إلى الطوافة، فوصل نابليون إلى الطوافة أولاً (كما كان يتوقع كل جندي فرنسي) واستغرق وقتاً في تفقد الخيمة ورحَّب باسكندر على الجانب الآخر، وتعانقا وواجها جيشيهما الذي راح أفراده يهتفون بحيوية وابتهاج· لقد كان مشهداً جميلاً على حد تعبير مينيفال Meneval الذي كان شاهد عيان·(ملحق/447)
لقد كان لدى كل واحد من هؤلاء الحكام أسبابه ليكون ودوداً: فجيش نابليون لم يكن في حالة تسمح له بغزو أراضٍ مجهولة لا حد لشساعتها وكثرة رجالها (لم يكن جيش نابليون عُدّةً وعدداً مستعداً لمثل هذا الغزو ولم تكن مؤخرته محمية وكان الدعم المتوقع وصوله من فرنسا - التي تصرخ طالبة السلام - غير مضمون الوصول)، أما اسكندر فكان سعيداً لحصوله على فترة لالتقاط الأنفاس قبل أن يأخذ على عاتقه هزيمة رجل لم تعرف الهزيمة إليه سبيلاً (فيما عدا هزيمته في عكا Acre) ، وكان اسكندر مشمئزا من ضعف حلفائه وهشاشة جنودهم، وكان يخشى قيام عصيان مسلح في الدوائر التابعة له في بولندا أوليتوانيا، كما كان مشوّشاً بسبب علاقته السيئة بتركيا (الدولة العثمانية) وحالة جنوده·
وإلى جانب هذا فلم يكن نابليون هذا الرجل الفرنسي الذي كان يتعامل مع خريطة أوروبا وكأنها رقعة شطرنج، لم يكن غولاً وبربرياً كما وصفته القيصرة والكونيجن Konigen وإنما كان رفيقاً لطيفاً جذّابا، كَرَمُه كامل، وإن كان غير مفرط· وبعد هذا اللقاء الأول كان اسكندر قد وافق بالفعل على أن يكون مؤتمرهم القادم في مدينة تيلسيت في مقر ملائم يدبره نابليون بالقرب من مقرّه (مقر نابليون) · وكانوا غالباً ما يتناولون عداءهم على مائدته وأحياناً مع ملك بروسيا وفي وقت لاحق مع مليكتها· ولفترة جعل القيصر من نفسه تلميذاً فسأل الكورسيكي (نابليون) أن يعلمه شيئاً من فن الحكم واتفق معه على أن لويس الثامن عشر (الذي كان يعيش وقتئذ في كورلاند Courland) تنقصه كل المواصفات اللازمة للحاكم وأنه أكثر من أي شخص آخر في أوروبا تفاهة وشرعية ·(ملحق/448)
وعمد كل إمبراطور منهما إلى إبهاج الآخر ومداهنته· وبعد مفاوضات ودية بشكل واضح لم يوقِّعا معاهدة فحسب وإنما تحالفاً· وأصبح لروسيا أن تحتفظ بممتلكاتها كما هي لم يُنقص نابليون منها شيئاً لكن كان عليها أن تُنهي تعاونها مع إنجلترا وأن تنضم إلى فرنسا للحفاظ على السلام في أوروبا· وبناءً على اتفاق سرّي أصبحت روسيا حرّة في ضم فنلندا والاستيلاء عليها من السويد (التي كانت معادية لفرنسا منذ سنة 1792) كما أصبح من حق فرنسا أن تغزو البرتغال التي كانت قاعدة أمامية لإنجلترا في الحرب· وتعهد اسكندر بالتوسط لإقامة سلام مُرضٍ بين إنجلترا وفرنسا وإن فشل في تحقيق ذلك أن ينضم إلى فرنسا في مواجهة إنجلترا حصاراً وحرباً· وقد أبهج هذا التعهد نابليون لأنه قدَّر أن التعاون مع روسيا في حصار إنجلترا أهم بكثير من استحواذه على مزيد من الأراضي·
ولأن نابليون لم يكن مستعداً للتضحية بهذه الاتفاقات ولم يكن مستعداً لخوض حرب حتى النهاية ضد روسيا وبروسيا والنمسا - فقد نحَّى جانباً فكرة إعادة بولندا لوضعها السابق قبل تقسيمها بين هذه الدول الثلاثة، باعتبار أنها فكرة غير عملية، وإنما اقنع نفسه بتأسيس دوقية وارسو Warsaw ( فرسافا) تحت الحماية الفرنسية مقتطعاً إياها من المناطق البولندية التي تحتلها بروسيا·
ولهذه الدولة (الدوقية) الجديدة التي تضم مليوني نفس، وضع - في 22 يوليو سنة 1807 - دستوراً يمنع القِنانة (عبودية الأرض) ويجعل كل المواطنين أمام القانون سواء ويجعل المحاكم علنية أمام القضاء ويجعل مدوّنة نابليون القانونية أساساً للتشريع والعدالة· وألغى حق النبلاء في الاعتراض على القرارات والعوائد الإقطاعية وألغى الدايت الخامل، وخوّل السلطة التشريعية لمجلس شيوخ من الأعيان ومجلس من مئة نائب، أما السلطة التنفيذية فأوكلها لملك سكسونيا الذي كان سليلاً لحكام بولندا السابقين· لقد كان هذا الدستور دستوراً متنِّوراً مُتفقاً مع ظروف مكانه وزمانه·(ملحق/449)
ومع أن نابليون كان كريماً مع القيصر، فإنه كان قاسياً لا يرحم مع ملك بروسيا الذي سبق أن نقض تحالفه مع فرنسا لينضم إلى أعدائها· لقد طالب (نابليون) فريدريك وليم الثالث بتسليم كل المناطق البروسية غرب نهر إلب · وكان معظمها قد جرى إعادة تكوينها كدوقية بيرج Berg الكبيرة ومملكة وستفاليا · وكلُّ بولندا البروسية تقريباً أصبحت دوقية وارسو (فرسافا) الكبيرة ما عدا دانزج Danzig التي أصبحت مدينة حرّة في ظل حامية فرنسية·
وكان على نصف بروسيا الباقي أن يُغلق أبوابه في وجه التجارة البريطانية وأن يشترك في الحرب ضد إنجلترا إن دُعِي لذلك وأن تظل القوات الفرنسية تحتله حتى يتم دفع التعويض المالي الكبير كاملاً· وصُعق فريدريك وليم - الذي لم يكن يريد الحرب - لقسوة هذه الشروط·
واندفعت الملكة لوسي (لويزا) Louise - التي تكاد تكون هي السبب في دخول بلادها الحرب - من برلين (في 6 يوليو) وطلبت من نابليون متودّدة له بالحجج والعطور والابتسامات والدموع كي يُخفف من مطالبه· فبرَّد نابليون من فيض فصاحتها وأثر عطرها وسحر ابتسامتها بأن قدم لها كرسياً لتجلس فيصعُب عليها - وهي جالسة - بث سحرها، وشرح لها أنه لابد أن يدفع أحد الطرفين بسبب الحرب· ولماذا لا تكون الحكومة التي خرقت المعاهدة - بناءً على وصيتها - هي التي تدفع؟ وأبعدها بعد أن رفض طلباتها بأدب، وفي اليوم التالي أمر تاليران بإبرام الاتفاقات كما سبقت صياغتها قبل قدوم الملكة لوسي (لويزا) وعادت الملكة إلى برلين مكسورة القلب وماتت في غضون ثلاثة أعوام وهي في الرابعة والثلاثين من عمرها·(ملحق/450)
وفي 9 يوليو غادر الإمبراطوران وقد وقر في شعور كل منهما أنه حقَّق صفقة طيبة: الاسكندر أمَّن روسيا من الغرب وأصبح مطلق اليد في فنلندا وتركيا· ونابليون حصل على بيرج ووستفاليا وهدنة غير قائمة على أساس متين· وقد عرّف نابليون في سنوات لاحقة مؤتمر القوى هذا بأنه: "خدعة وافق عليها دبلوماسيون· لقد كان بمثابة قلم مكيافيللي وسيف محمد" وفي اليوم التالي غادر إلى باريس حيث استقبلته الجماهير الشاكرة الممتنّة بصيحات التهليل لإقراره السّلام أولاً ولتحقيقه الانتصارات ثانياً· وكان التقرير الذي قدَّمه للمجلس التشريعي عن حالة الأمة في سنة 1807 من بين أكثر تقاريره فخراً:
"فالنمسا قد عُوقبت، وبروسيا قد أُدّبت وروسيا أصبحت متحالفة مع فرنسا بعد أن كانت عدوّة لها· وثمة أراضٍ جديدة أُضيفت للإمبراطورية بالإضافة إلى 123,000 أسير - ودفع المعتدون المهزومون كل التكاليف ولم نضطر لأي زيادة في الضرائب في فرنسا "·
وأعلن نابليون ترقية تاليران ليجعله أميراً لبنيفنتو Benevento بالإضافة لترقيته آخرين· وقد أدت هذه الترقية لزيادة دخل هذا الأب (الراهب) الفرنسي النَّهِم بمقدار 120,000 فرنك، لكن هذه الترقية كانت تعني استقالته من منصبه كوزير للخارجية، مادام البروتوكول يقضي بأن الوزير أقل رتبة من الأمير·
وبهذه الطريقة أصبح الموقف الصعب سهلاً لأن نابليون كان قد بدأ يرتاب في أنه مختلس رغم عبقريته الدبلوماسية، لكنه (أي نابليون) تردّد في فلم يطرده، والحقيقة أيضاً أن نابليون استمر في استخدامه في عدة مفاوضات كبرى· وبعد أن درّب تاليران خليفته في وزارة الخارجية جان - بابتست دي شامباني Jean-Baptiste de Champagny على طريق وأساليب وألاعب منصبه الجديد، أصبح (أي تاليران) حرا في الاستمتاع بحياته في قصره الفخم الذي سبق أن اشتراه في فالينساي Valencay بمبلغ مالي كان جزء منه من الأموال التي أعطاه إياها نابليون·(ملحق/451)
وفي 15 أغسطس احتفل البلاط بانتصار نابليون بإقامة مهرجان يُعيد للأذهان بهاء الملك العظيم: عُزفت الكونشرتات concert، ورقصت الباليرينات ballet وعُرِضت الأوبرات، وحضر الملوك والوزراء بملابسهم الرسمية، وحضرت النسوة وقد تزيّن بثروة من الجواهر، وارتدين العباءات النسائية الجميلة·
وبعد ذلك بأربعة أيام أُلغي التريبيون Tribunate ( المجلس المدافع عن حقوق الشعب) ففي هذا المجلس كانت هناك أقلية جَسُرت لسنوات على معارضة قراراته ووجهات نظره، فأراد أن يستكمل أُبهته الملكية بإلغائه· وخّفف من وقع القرار بتعيين عدد من أعضائه الذين لا خطر منهم في مناصب إدارية، وبإلحاق معظم الأعضاء الآخرين في الهيئات التشريعية التي أصبح لها الآن الحق في أن تناقش أن تُناقش الإجراءات، والحق في التصويت·
أما الذين كانوا قد تركوا فرنسا بسبب أحداث الثورة الفرنسية ممن عادوا ولا زالوا على قيد الحياة، والذين كانوا في قصور ضاحية سان - جرمين Germain التي غدت - من جديد - مُفعمة بالحياة، فقد صَفَّقُوا لنابليون استحسانا وتقديراً كشخص يكاد يكون نبيل المولد· لقد راح كل واحد منهم يسأل الآخر: "لم لا يكون مُلكُه شرعياً؟ إذن لأصبحت فرنسا به كاملة"· لكن نادراً ما أصبح نابليون - بعد ذلك - يحظى بمثل هذه الشعبية والقوة والرِّضا·(ملحق/452)
الفصل التاسع
المملكة الميِّتة: من 1807 إلى 1811 م
The Mortal Realm
1 - آل بونابرت
لقد زاد نابليون من أعبائه بمضاعفة ممتلكاته، لأن المناطق العديدة التي أضافها لإمبراطوريته والتي كان أهلها مختلفين عِرقاً ولغةً وديناً وعادات وشخصية - لا يمكن أن يتوقع أحد أن تكون مُطيعة طاعةً مطلقةً لحِكُم أجنبي يُرسل الضرائب التي يتمُّ جمعها منهم إلى باريس ويُرسل أبناءهم إلى الحروب· ومن ذا الذي يستطيع نابليون اختياره ليحكم هذه البلاد بحكمةٍ وإخلاص، بينما هو (أي نابليون) منشغل بأمور فرنسا غير المنضبطة؟ لقد كان بإمكان نابليون أن يثق في عدد قليل من جنرالاته لإدارة بعض الأقاليم الصغيرة وعلى هذا فقد جعل من بيرثييه Berthier أميراً لنيوشاتل Neuchatel وجعل مورا Murat الدوق الكبير لبيرج Berg وكليف Cleves لكن معظم جنرالاته كانوا ذوي أرواح متمرسة على القيادة العسكرية ولم يكونوا مُلمِّين بفن الحكم وما يتطلبه من دهاء وكان عدد منهم - مثل بيرنادوت Bernadotte الطموح لا يرضون بغير الوصول للعرش·
لذا فقد لجأ نابليون إلى الاستعانة بإخوته فصلةُ الدم تضمن ولاءهم كما كانوا - وفقاً لبعض المقاييس من القوى الوطنية التي أدَّت دوراً في القنصلية والإمبراطورية· وربما يكون نابليون قد بالغ في قدراتهم وإمكاناتهم - بسبب مفهومه القوي لمعنى الأسرة - لأنه بذل قُصارى جهده - لمواجهة تطلّعاتهم لمشاركته الثروة والسلطة - لقد كافأهم جيداً لكنه أيضاً كان يتوقع مشاركتهم له في سياساته· خاصة في إحكام إغلاق القارة الأوروبية في وجه التجارة البريطانية، التي كان يأملُ أن تُجبر إنجلترا على السير في طريق السلام· وربما أيضاً كان يأملُ في أن يستطيع بمشاركتهم أن يخطو خطوة نحو توحيد أوروبا كلها في ظلِّ قانون واحد ورياسة واحدة (كلاهما من عنده) وأن يعمل على انتشار الرخاء العام وإنهاء الحروب الوطنية - والحروب بين الأسرات الحاكمة - في أوروبا·(ملحق/453)
وبدأ مع أخيه الأكبر جوزيف Joseph ( يوسف) الذي كان قد أدّى له خدمات معقولة في مفاوضاته مع النمسا وإنجلترا· وكان كورنويل Cornwallis - بعد أن تعامل معه في أمين Amiens- قد وصفه بأنه: "حسن النية، لكنه لا يتمتع بقدرات كبيرة·· إنه حساس ومتواضع ولطيف·· ومُتفتِّح··" وربما أدت قرابته بالقنصل الأول بجعله - إلى حد ما - بعيداً عن روح المكر والخداع، تلك الروح التي تمكنت من وزير الداخلية (تاليران Talleyrand) بشكل واضح · وكان جوزيف يحب المال بالقدر نفسه الذي كان فيه نابليون يحب السلطة، ففي بواكير سنة 1798 كان جوزيف قادراً على شراء عقار مُترف في مورفونتين Mortefontaine بالقرب من باريس، كان يدعو فيه أصدقاءه والمؤلِّفين والفنانين وذوي المقام الرفيع حيثُ يَحْتفي بهم احتفاء سخياً·
وكان جوزيف مُتلهفاً كي يُعيِّنه أخاه وريثاً للعرش الإمبراطوري، ولم يكن قانعاً قناعةً كاملة عندما عيَّنه نابليون (في 30 مارس سنة 1806) ملكاً على نابلي - أي جنوب إيطاليا· ووصل فرديناند الرابع Ferdinand IV البوربوني الذي أُبعدت أسرته عن العرش إلى صقلية بمساعدة الأسطول البريطاني، وقادت زوجته الملكة تمرداً عسكرياً لإعادته لعرش بلاده، فأرسل نابليون أربعين ألف مقاتل بقيادة ماسينا Massena وريجنييه Regnier لقمع التمرد مهما كانت التكاليف، وقد كان إذ تم القمع بضراوة شديدة تركت ذكريات مريرة عبر الأجيال·
وحاول جوزيف أن يكسب ولاء رعاياه بالاعتدال واللطف والكياسة ولكن نابليون حذَّره قائلا: على الحاكم - كي يدعّم مركزه - أن يعملَ على أن يكون مُهاباً أكثر من عمله ليكون محبوباً· وكان حُكم نابليون النهائي على جوزيف متعاطفا:
"إن جوزيف لم يقدّم لي مساعدة، لكنه كان رجلاً طيباً جداً·· إنه يُحبني بإخلاص شديد، وأنا لا أشك في أنه يريد أن يفعل كلَّ شيء من أجلي· لكنَّ صفاته الشخصية ومزاياه لا تصلح إلاّ للحياة الخاصة، إنه لطيف رقيق في تصرفه ولديه مواهب ومعلومات، وهو بشكل عام رجل لطيف· وقد بذل قُصارى جهده في تنفيذ المهام الكبيرة التي أوكلتها إليه· لقد كانت نواياه طيبة، لذا فإن الخطأ إنما هو خطئي أنا فقد وضعته في المكان غير المناسب له" ·(ملحق/454)
أما أخوه لوسين (لوسيان) Lucien المولود في سنة 1775 فكان متقلّبا تماما كأخيه نابليون، ذلك التقلب الذي لم يكن له ضابط سوى الطموح المهيمن· وبمعنى من المعاني فإن نابليون مدين له بالوصول إلى منصب القنصل الأول، فقد كان رفض لوسين - باعتباره رئيساً لمجلس الخمسمائة - ما اقترحه البعض من التصويت على خروج مغتصب العرش من تحت مظلة القانون (إهدار دمه)، بالإضافة إلى دعوته (أي دعوة لوسين) الجنود لتشتيت المجلس (مجلس الخمسمائة) فأنهى اليوم لصالح نابليون·
وفي وقت لاحق اقترح سلطات ملكية لأخيه قبل الأوان، فأبعده أخوه (نابليون) عن مسرح الأحداث بإرساله سفيراً له في أسبانيا· وهنالك استخدم كل الوسائل المتاحة لهُ لزيادة ثروته وبمرور الوقت صار أغنى من نابليون ولمّا عاد إلى باريس رفض الزواج السياسي الذي رتَّبه له أخوه وتزوج وفقاً لاختياره وذهب ليعيش في إيطاليا· وعاد إلى باريس ليقف إلى جوار أخيه خلال أخطار المائة يوم لقد خُلق لوسين للشعر وبالفعل فقد كتب ملحمة طويلة عن شارلمان·
أما أخوه لويس فقد كان أيضاً له عقل أخيه ومزاجه مع قدر من القناعة والمقدرة مما جعله قلقاً أو غير مستقر في ظل أوامر أخيه (نابليون) وسيطرته· وقد أنفق نابليون على تعليمه وأخذه معه إلى مصر وجعله معاوناً له، وهناك استغل منصبه العسكري في الانخراط في علاقات جنسية أدت لإصابته بمرض السيلان، ومن ثم لم يصبر حتى يُشفى من هذا المرض تماما· وفي سنة 1802 - وبناء على تشجيع جوزيفين - حثَّ نابليون أخاه اللامع لويس للزواج من هورتنس دي بوهارنيه Hortense de Beauharnais، وكانت شخصية نسائية لامعة ·(ملحق/455)
وكان لويس زوجاً جِلفاً boorish ( المقصود لا يجيد فنَّ الجِماع) وكانت هورتنس زوجة غير سعيدة وغير مخلصة، ومما ساهم في إفسادها تأثير مُتبنيها· وعندما أنجبت طفلاً (15 ديسمبر سنة 1802) هو نابليون - تشارلز، تم تسجيل نابليون كأب له في العِماد، وقد أدى هذا إلى إلقاء ظلال من الشك على علاقة نابليون بزوجة أخيه، وظل هذا الشك يطارهما إلى آخر حياتهما· ومما أعطى لهذه الشائعات بعض التسويغ أن نابليون اقترح تبنّي الطفل، وكان يُدلله بشغف ويُطلق عليه لفظ ولي عهدنا أو وريث العرش، لكن هذا الطفل مات وهو في الخامسة من عمره، فأصيبت هورتنس بجنون مؤقت· وفي سنة 1804 أنجبت مولوداً آخر هو نابليون - لويس Napoleon Louis وفي سنة 1808 أنجبت آخر هو تشارلز - لويس - نابليون بونابرت الذي أصبح فيما بعد نابليون الثالث ·
وفي 5 يونيو سنة 1806 جعل الإمبراطور (نابليون) من أخيه صعب المراس (لويس) ملكاً على هولندا، فكان مستعداً لعشق الشعب الهولندي أكثر من استعداده لعشق زوجته· لقد أدرك إلى أيِّ مدى يعتمد رخاء هولندا على تجارتها مع إنجلترا ومستعمراتها، وعندما وجد الهولنديون سبيلاً لاختراق المنع المفروض على التجارة البريطانية لم يترددوا في اختراقه ورفض لويس (أخو نابليون) أن يُدينهم، ولكن نابليون قاوم هذا التصرف فأصر لويس (أخو نابليون) عليه، ووجه القوات الفرنسية إلى هولندا فتنازل لويس (أخو نابليون) عن عرش هولندا في أول يوليو سنة 1810 فألحقها نابليون بفرنسا وجعلها تحت حكمه المباشر· وتراجع لويس (أخو نابليون) إلى جراز Graz وأصبح مؤلفاً يكتب الشعر والنثر ومات في ليفورنو Livorno في سنة 1846·
وانفصلت هورتنس Hortense عن لويس (أخي نابليون) في سنة 1810 وتلقَّت من نابليون منحة مقدارها مليوني فرنك سنويا للعناية بابنيها، وفي سنة 1811 أنجبت طفلاً آخر نتيجة علاقة مع الكونت تشارلز دي فلاهوت Charles de Flahaut إلاّ أن مدام دي ريموزا de Remusat تُخبرنا - على أية حال - أن: "هورتنس كانت امرأة ذات تصرفات ملائكية·· وأنها صادقة جداً وطيبة القلب جداً، ولا تعرف الشر أبدا "·(ملحق/456)
وبعد ترك نابليون العرش للمرة الأولى التحقت بأمها حيث اهتم بها القيصر اسكندر وأولاها رعايته· وقد اجتمعت مع لويس الثامن عشر مما أفزع البونابرتيين· وعندما عاد نابليون من إلبا عملت كمضيفة له، وعندما تنازل عن العرش للمرة الثانية أعطته - سراً - قلادتها الماسية التي كانت قد اشترتها بمبلغ 800,000 فرنك، وقد تم العثور عليها تحت وسادته عندما مات في سانت هيلانة وأعادها الجنرال دي مونثولو de Montholon إلى هورتنس، فأنقذها - بذلك - من الفقر· وماتت في سنة 1837 ودُفنت بجوار رفاة أمها في رويل Rueil· لقد عاشت حياة حافلة بالمفارقات في تلك الأيام العصيبة·
أما جيروم بونابرت Jerome Bonaparte أصغر إخوة نابليون فقد قسَّم حياته وزوجاته بين نصفي الكرة الأرضية· وُلد جيروم في سنة 1874 وتم استدعاؤه وهو في السادسة عشرة من عمره للخدمة في الحرس القنصلي، ودخل في مبارزة فجرح فتمَّ إبعاده إلى البحرية فارتكب كثيراً من حماقات الشباب الطائشة ودفع من جراء ذلك غرمات اقترض قيمتها من بوريين الذي قدم إيصالات لنابليون بقيمة هذه الديون غير المستردة، وعندما كان جيروم في بريست كتب لنابليون يطلب 17,000 فرنك فأجابه نابليون بالتالي:
"تلقيتُ خطابك يا سيدي الملازم، وإنني في انتظار أن أسمع أنك تدرس - على متن سفينتك الحربية - مهنة أرجو أن تضع في اعتبارك أنها هي طريقك للمجد إنك لو مِت شاباً لكان في موتك بعض العزاء لي، لكن إن عشت حتى الستين من عمرك دون أن تخدم وطنك ودون أن تُخلِّف ذكرى مشرّفة، فتلك حياة كان من الأفضل لك ألا تحياها "·(ملحق/457)
وترك جيروم البحرية في جزر الهند الغربية ورحل إلى بلتيمور Baltimore وتزوج هناك وهو في سن التاسعة عشرة (سنة 1803) من إليزابيث بترسون Elizabeth Patterson وهي ابنة تاجر محلّي، وعندما عاد بها إلي أوروبا رفض البلاط الفرنسي الاعتراف بهذا الزواج على أساس أن كليهما (الزوج والزوجة) لم يبلغا سن الرشد· ورفض نابليون دخول العروس إلى فرنسا، فاتَّجهت إلى إنجلترا وهناك أنجبت ابنا هو جيروم نابليون بونابرت وعادت إلى أمريكا فتلقَّت هناك موافقة نابليون على قدومها إلى فرنسا، وأصبحت بعد ذلك هي جدة تشارلز جوزيف بونابرت الذي شغل منصب وزير البحرية الأميركية في عهد تيودور روزفلت·
وعُيّن جيروم قائداً في الجيش الفرنسي، وأحرز مكانة حَفِيَّة في معارك 1806 - 1807 باستيلائه على عدة حصون بروسية، وكافأه نابليون بأن جعله ملكاً على وستفاليا، وهي منطقة مؤلفة من مناطق بروسية بالإضافة إلي هانوفر وهس - كاسل Hesse-Cassel، وكي يُهيئ له شذاً ملكياً عمل على تزويجه من الأميرة كاترين ابنة ملك فيرتمبرج Wurttemberg · وفي 15 نوفمبر سنة 1807 أرسل نابليون إلى أخيه جيروم خطاباً يتجلَّى فيه بشكل جلي أنَّه لازال حاكما ملتزماً بالدستور:
"إنني أرفق لك دستور مملكتك· إنه يضم الشروط التي أعلنتُ فيها كل حقوقي على المناطق التي فتحتُها، وكل ما لي من حقوق على دولتك· لابد أن تُراعيها بإخلاص··· لا تُنْصت لألئك الذين يقولون إن رعاياك قد اعتادوا العبودية وأنهم لن يشعروا بالامتنان لما تُقدمه لهم· ففي مملكة وستفاليا من الذكاء والوعي أكثر مما تظن، ولن يكون عرشك راسخ الأركان إلا بثقة الشعب وحبه· إن ما يُطالب به الرأي العام الألماني بإلحاح هو أنَّ الناس ليسوا برتبهم المتوارثة وإنما بقدراتهم - وهذا الرأي سيكون لصالحك، فعليك أن تُزيل كلَّ أثر للقنانة (عبودية الأرض) والمواريث الإقطاعية بين السلطة والطبقات الأدنى درجة من رعيتك·(ملحق/458)
إن مزايا مدوّنة نابليون القانونية، والمحاكمات العلنية، وأحكام القضاء ستكون ملامح بارزة في حكومتك··· لأن امتداد حكمك وترسيخه يعتمد في الأساس عليها أكثر من اعتماده على الانتصارات المدوية· أُريد أن يسعد رعاياك بدرجة من الحرية والمساواة والرخاء لم يعرفها الشعب الألماني حتى الآن·· إن هذه الطريقة في الحكم ستكون أقوى مانع حصين بينك وبين بروسيا· إنه مانع أقوى من الألب والحصون وحماية فرنسا "·
وكان جيروم لا يزال شاباً لم يتجاوز الثالثة والعشرين فلم يُقدِّر هذه النصيحة حق قدرها، فكان يُعوزه ضبط النفس والرزانة اللذان يتطلبهما الحكم، وانغمس في الرفاهية وحرص على الأبهة والمظاهر وعامل وزراءه كتابعين قليلي القيمة وجعل لنفسه سياسة خارجية خاصة به، مما ضايق أخاه الذي كان عليه أن يُفكر واضعاً في اعتباره القارة كلها· وعندما خسر أخوه (نابليون) معركة ليبتسج الحيوية (1813) لم يستطع جيروم أن يجعل رعاياه موالين لقضية الإمبراطورية، فانهارت مملكته وفرَّ هو (جيروم) إلى فرنسا· وساعد أخاه بشجاعة في معركة واترلو ثم فرَّ إلى حَمِية طالباً حمايته في فيرتمبرج، وعاش عمراً مديداً حتى أصبح رئيساً لمجلس الشيوخ (السينات) في عهد ابن أخيه نابليون الثالث وأسعده الحظ بموته في سنة 1860 في أوج مملكة ميتة أخرى·(ملحق/459)
أما يوجين دي بوهارنيه Eugene de Beauharnais فكان تلميذا أفضل· لقد كان فتى محبوبا في الخامسة عشر من عمره عندما تزوجت أمه من نابليون، وقد امتعض في بداية الأمر من هذا الجنرال الشاب الفظ كمتطفل دخل أسرتهم وتزوّج أمه، لكنه سرعان ما أَنِس إلى نابليون الذي أولاه عاطفة وعناية· وكان يوجين سعيداً يكاد يطير فرحاً لأن نابليون - ذلك الغازي الشبيه بالإعصار - قد اصطحبه معه إلى إيطاليا ومصر كمعاون له· وتمزّقت مشاعره بين نابليون وأمه عندما علم بخيانتها، لكن الدموع التي ذرفها أعادت ارتباط أمه بزوجها (نابليون)، وبعد ذلك لم تتحطم أبداً الرابطة بينه (يوجين) وبين زوج أمه· وفي السابع من شهر يونيه عيَّن نابليون ابن زوجته هذا (يوجين) في منصب نائب ملك في إيطاليا، لكن نابليون قدَّر مدى ثقل المسؤولية التي ألقاها على عاتق شاب لم يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره، فغمره بقدر كبير من النصائح:
"بعهدنا إليك حُكم مملكتنا الإيطالية، إنما نقدم لك برهاناً على احترامنا لمسلكك· لكنك لازلت في سن لا تسمح لك بالتحقق من سوء طويّة الناس أو ما يُضمرونه من سوء· وعلى هذا فإنني لا أستطيع أن أشدّد عليك كثيراً بضرورة الحرص والحذر، فرعايانا الإيطاليون أكثر لؤماً وخداعاً بطبيعتهم من مواطنينا الفرنسيين، والطريقة الوحيدة التي تستطيع بها أن تحتفظ باحترامهم وتحقق سعادتهم هي ألا تُولي أحداً منهم ثقتك الكاملة وألاً تُخبر أياً من الوزراء وذوي المراتب العليا في بلاطك بحقيقة ما تفكر فيه· إنني يجب أن أُركِّز لك على ضرورة الاحتياط لأمرك بإخفاء قَصْدك، وهو أمر يأتي للمرء - طبيعياً - في سن النضج··
قد يُحقُّ لك أن تفخر لكونك فرنسياً، إلاّ في حالة واحدة وهي عندما تكون في منصب نائب الملك في إيطاليا، ففي هذا المنصب يجب أن تنسى أنك فرنسي واعتبر نفسك قد فشلت إذا لم يصدق الإيطاليون أنك تُحبهم· إنهم يعرفون أنه لا حُب دون احترام، تعلَّم لغتهم، ولا تكن غريبا عن مجتمعهم وخُصّهم باهتمام خاص في الحفلات والمناسبات·(ملحق/460)
قلّل من كلامك، هذا أفضل لك فأنت لم تتلَّق قدراً كبيراً من التعليم وليس لديك معلومات كافية تتيح لك أن تشترك في مناقشات عامة· تعلّم كيف تستمع، وتذكر أن الصمت لا يقل تأثيراً عن استعراض المعلومات· لا تُقلِّدني في كل مجال، فأنت تحتاج أن تكون متحفِّظاً بشكل أكثر· لا تترأس - غالباً - مجلس الدولة، فخبرتك لا تؤهلك للنجاح في هذا الموقع··· وعلى أية حال لا تُلْق خطباً في مجلس الدولة··· فقد يكتشفون فجأة أنك غير كفؤ لمناقشة مجريات الأمور··· فطالما أن الأمير (الملك) يمسك لسانه، فإن سلطاته تكون كثيرة كَثْرة تفوق الحصر، إذ يجب على الأمير (الملك) ألاّ يتحدث إلاّ إذا علم أنه هو الأكثر قدرة من بين كلِّ مستمعيه·
كلمة واحدة أخيرة: اجعل لعدم الأمانة عقاباً غليظا·· "·
وقد أنجز يوجين ما كان يأمله منه الإمبراطور (نابليون) بمعاونة وزرائه أعاد تنظيم المالية وحسّن الخدمة المدنية وشيّد الطرق وطبق قوانين مدوّنة نابليون القانونية، وقاد الجيش الإيطالي بشجاعته المعهودة ومهارته المتزايدة، وزاره الإمبراطور المسرور من فِعَاله في سنة 1807، وانتهز الفرصة (بواسطة إعلان ميلان) بأن يَرُدَّ - بإجراءات صارمة - على الأمر البريطاني الذي يُطالب السفن المحايدة أن ترسو في ميناء بريطاني قبل التوجه للقارة الأوروبية· وبذل يوجين قُصارى جهده لتنفيذ الحصار القاري المثير· وظل موالياً لنابليون خلال الحروب وأثناء فترة تنازله عن العرش، وتوفي في سنة 1824 بعد موت نابليون (زوج أمه) بثلاث سنوات فقط· وقد كرر ستندهول Stendhal في أكثر من موضع ما يفيد حب الإيطاليين لذكرى حُكمه المتنوّر ·
ولأن نابليون كان يمتلك أراضي أكثر من إخوته، فقد أوقف على أخواته الكثير، فقد أعطى إليزا Elisa ( ماريا أَنّا Maria Anna) وزوجها اللطيف فليس باكيوكوش Felice Bacciocchi مقاطعات بيومبينو Piombino ولوشا Lucca، فحكمتهما بطريقة جيدة - موَّلت المشروعات العامة، ورعت الآداب والفنون وشجعت باجانيني Paganini - حتى أن نابليون جعلها في سنة 1809 دوقة تسكانيا Tuscany الكبيرة حيث واصلت أعمالها الخيّرة ·(ملحق/461)
أما بولين بونابرت Pauline التي اعتبرها نابليون أجمل نساء عصرها فقد وجدت أن إبداء مفاتنها على سرير واحد (المقصود لرجل واحد) أمر لا يُحتمل - ففي السابعة عشرة من عمرها (1797) تزوجت الجنرال تشارلز لكلير Leclerc، وبعد ذلك بأربع سنوات أمرها نابليون بمرافقة زوجها إلى سان دومنجو St.-Domingue لخوض معركة ضد توسّان لوفرتور Toussaint L'Ouverture، وربما كان نابليون يقصد بهذا إبعادها عن جو العبث الذي يعلم أنها ستنخرط فيه بمجرد غياب زوجها· على كل حال فقد مات لكلير هناك بالحمّى الصفراء، فعادت بولين إلى أوروبا مع جثمانه، وقد زوى جمالها بفعل المرض·
وفي سنة 1803 تزوجت الأمير كاميلو بورجيز Camillo Borghese لكنها سرعان ما راحت تمارس الزنا وراح كاميلو يبحث عن المتعة مع مشرفة البيت (القيِّمة على الخدمة) وطلب نابليون من خالها الكاردينال فيش Fesch أن يوبخها أخبرها على لساني أنها لطيفة كما كانت وأنه في غضون أعوام قليلة ستغدو مرتبتها أدنى عندي بينما هي تستطيع أن تكون صالحة ومحترمة في كل أوجه حياتها وانفصلت بولين غير الطاهرة عن الأمير وفتحت بيتها العامر لجماعة الأُنس· وجعلها نابليون دوقة لجوستالا Guastalla ( في مقاطعة رجيو إميليا Reggio Emilia في إيطاليا) لكنها فضَّلت أن يكون لها بلاط في باريس· وقد تجاوز نابليون عن آثامها لافتتانه بنظراتها وطريقتها، وطباعها الطيبة حتى رآها - في المرآة - تسخر من إمبراطورته الجديدة ماري لويز فنفاها إلى إيطاليا وسرعان ما أدارت صالونا في روما· وفي وقت لاحق (كما سنرى) هبَّت لمساعدته عندما أصابته الكوارث· وفي سنة 1825 عادت لزوجها مرة أخرى وماتت بين ذراعيه، فقال رغم كل هذا فقد كانت أرق مخلوق في العالم ·
أما كارولين Caroline فكانت جميلة أيضاً، وكانت في أيامها الأخيرة أكثر تأثيراً وقد قيل لنا إنها كانت ناعمة الجلد مُشربة بحمرة، وكأنَّ جلدها قطعة من الساتان الأحمر، وكانت ذراعاها ويداها وقدماها متناسقة الخلق سوية كما هو الحال في آل بونابرت· وفي سن السابعة عشرة (1799) تزوجت جوشيم مورا Joachim Mura الذي كان قد حقق بالفعل شهرة في الحروب في إيطاليا ومصر·(ملحق/462)
ولهذه الخدمات التي أداها ولإنجازه الحيوي في مارينجو Marengo تم تعيينه دوقاً لكل من بيرج وكليف · وبينما كان منشغلاً في عاصمته دوسلدورف Dusseldorf بقيت كارولين في باريس وسمحت لنفسها بإقامة علاقات جنسية غير شرعية مع الجنرال جونو Junot الذي أرسله نابليون إلى بوردو Bordeaux، وعاد مورا إلى باريس ليرد زوجته إلى طريق الصواب، لكنه كان يهوى المعارك والتعرض للأخطار· وفي أثناء غيابه المتتابع في ساحات الحرب أخذت كارولين على عاتقها إدارة دوقيتهما، وكانت إدارتها حسنة حتى أن الناس لم يفتقدوا مورا الذي لم يكن يلفت نظرهم إلاَّ بزيه الجميل·
وفوق كل هذه العصبة من الإخوة والأخوات تتربع الأم ليتيزيا Letizia صارمة لا يخدعها شيء مستقيمة لا يُفسدها شيء· لقد شاركت ابنها فخاره لانتصاراته وشاركته الحزن العميق لما حلّت به من كوارث· وفي سنة 1806 جعلها نابليون - وقد بلغت السادسة والخمسين من عمرها - الإمبراطورة الأم وسمح بصرف مبلغ 50,000 فرنك لها كل عام· وقدم لها بيتاً جميلاً في باريس وخدماً كثيرين لكنها عاشت العيشة المقتصدة التي اعتادتها قائلة إنها توفّر تحسباً لظروف صعبة تُلم به (بابنها نابليون) · وكانوا يخاطبونها بالأم لكن لم يكن لها نفوذ سياسي ولم تحاول ذلك· وصحبت ابنها (نابليون إلى إلبا Elba كما صحبته في عودته، وراحت تراقب أحواله بقلق أثناء دراما المائة يوم، وكانت تُصلِّي من أجله·
وفي سنة 1818 قدَّمت طلباً للقوى الأوروبية بإطلاق سراحه من سانت هيلينا، مستعطفة من أجله لما أَلَمَّ به من أمراض خطيرة فلم يَرُد أحد على طلبها، وتحمّلت باستسلام قدريٍ كعادتها موت نابليون وإليزا Elisa وبولين Pauline وعدد من أحفادها، وماتت في سنة 1836 عن عمر يناهز السادسة والثمانين· "آه يا لها من امرأة! - Voila une femme"(ملحق/463)
ولم تؤتِ خطة أسرة بونابرت مفعولها وهذا يرجع في جانب منه أنها لم تُلب حاجة الشعوب التي حكمتها ويرجع في جانب آخر إلى أن كلَّ واحد من أفراد هذه الأسرة (فيما عدا يوجين) كان ذا نزعة فردية وله أفكاره الخاصة ورغباته - وكان نابليون أيضاً كذلك فقد كان يفكر في سلطته أولاً، ووضع قوانين ممتازة إذا قورنت بالنظام الإقطاعي الذي كان قد أصبح عديم الجدوى، لكنه - أي نابليون - تجنَّب فحوى هذه القوانين وخفف من وطأتها بمزايا عسكرية ومالية فرغم أنه حطّم الإقطاع إلاّ أنه أقام إقطاعاً آخر خاصاً به - ظناً منه أن بمنحه إقطاعيات لإخوته وأخواته أصبحوا تابعين مُطيعين له يقدمون له المجندين إلزاماً وفقاً لحاجته في الحروب، ويقدمون له الضرائب في السلم· وقد دافع عن فكرته شارحاً أن كل المناطق - تقريباً - التي يحكمها بهذه الطريقة قد فُتحت عُنوة (تم إخضاعها بالقوة العسكرية) ومن ثم فأهلها رعايا لقانون الحرب وهم سعداء لخضوعهم لقوانين فرنسية حديثة وإمبراطور متنور هو بالنسبة لهم بمثابة أب· أما بالنسبة لأسرته فقد لخص الأمر بطريقة حزينة عندما كان في سانت هيلينا St. Helena:
" إنه لمن المؤكد أنني بائس فليس هناك من يخلفني في أسرتي، أو بتعبير آخر ليس لي ظهير منهم·· لقد قيل الكثير عن قوة شخصيتي، لكنني ضعيف وأستحق التوبيخ بسبب أسرتي، وكل أفرادها واعون بذلك· فبعد انتهاء العاصفة الأولى ضدي، كان إلحاحهم عليَّ لا ينتهي وفعلوا معي ما يشتهون (تصرفوا وفقاً لأمزجتهم) · لقد أخطأتُ خطأ كبيراً بسماحي لهم بذلك· لقد كنتُ أثق في أحكامهم، وكان يمكننا أن نسير سوياً حتى إلى القطبين فتهاوى كل شيء أمامنا· لقد كان علينا أن نُغيّر وجه البسيطة·(ملحق/464)
لم يكن لدي حظ جنكيز خان فقد كان لديه أربعة أبناء لا هَمَ لهم إلاّ خدمته بإخلاص· إنني إذا ما جعلتُ من واحد من إخوتي ملكاً فإنه سرعان ما يظن أن العناية الإلهية هي التي جعلته ملكاً، وتنتقل هذه العبارة على نحو مرضىِّ للآخرين· فلا يعود هذا الذي عينته ملكاً قائداً يمكنني أن أوليه ثقتي وإنما يصبح عدواً جديداً عليَّ أن آخذ حِذْري منه إذ تغدو أعماله وجهوده سائرة في طريق تأكيد استقلاله، لا لدعم أعمالي·· ثم إنهم بالفعل راحوا ينظرون لي بعد ذلك كعقبة في سبيلهم·· يا للبؤس! وعندما استسلمتُ كان عَزْلهم عن عروشهم مسألة تلقائية، لم يعمل لها الأعداء حساباً بل ولم يشغلوا بها فكرهم، ولم يستطع واحد منهم إثارة حركة شعبية، لقد كانوا محتمين بجهودي، لقد ذاقوا حلاوة الملك، أما الأعباء فقد تحملتُها وحدي" ·
ولأن نابليون فتح كثيرا ًمن المناطق والمقاطعات فلم يكن هناك العدد الذي يكفيها من الأمراء من أسرته فقد عيَّن بعض جنرالاته وأفراد حاشيته على بعض البلاد الصغيرة ذات الأهمية الإستراتيجية القليلة، وعلى هذا فقد تولى المارشال بيرثييه Berthier مقاطعة نيوشاتل وأصبح كامباسير Cambaceres أمير بارما Parma وأصبح ليبرون Lebrun دوق بياسنزا Piacenza· وتم اقتطاع اثنتي عشرة دوقية صغيرة من مناطق إيطالية أخرى: وأصبح فوشيه Fouche دوقاً على أوترانتو Otranto وسفاري دوقاً على روفيجو ·
وأخيراً كان أمل نابليون هو أن يجعل من إيطاليا دولة واحدة ويجعلها وحدة في اتحاد فيدرالي أوروبي بقيادة فرنسا وأسرته الحاكمة· وكان من الممكن حدوث هذا، فقط إذا كانت هذه الوحدات المتنافسة والمختلفة والمعتزة بخصوصيتها على استعداد لتكون جزءاً من كل، وعلى شيء من الاستعداد للتخلّي لسلطة بعيدة منها وأجنبية عنها عن حق كتابة قوانينها وتنظيم تجارتها! ·
2 - الحرب الأولى في شبه جزيرة أيبيريا
من 18 أكتوبر 1807 إلى 21 أغسطس 1808م(ملحق/465)
بحلول عام 1807 كان غالب البر الأوروبي ممتثلاً لبيان برلين، فالنمسا انضمت للحصار القاري المضاد في 18 أكتوبر سنة 1807، ومع أن الباباوية اعترضت إلاّ أنها وقّعت في 12 ديسمبر· أما تركيا (الدولة العثمانية) فكانت معارضة للانضمام إليه لكنها امتثلت بسبب التعاون المستمر بين روسيا وفرنسا· وكانت البرتغال مُتحالفة مع إنجلترا لكن كان يحدها من الشرق أسبانيا التي ربطتها أسرة البوربون تاريخيا بفرنسا، مما جعلها تتعهد بالالتزام بالحصار إذ بدت من الناحية العسكرية تحت رحمة نابليون وربما فكر الإمبراطور (نابليون) في أمر يمكنه تنفيذه ولو حتى بقيادة جيوشه عبر أسبانيا لإجبار البرتغال على الامتثال رغم السفن الحربية البريطانية التي تتحكَّم في موانئها ورغم الوكلاء التجاريين البريطانيين الذين يتحكّمون في تجارتها·
وفي 19 يوليو سنة 1807 أخبر نابليون الحكومة البرتغالية أن عليها إغلاق موانئها في وجه البضائع البريطانية فرفضت· وفي 18 أكتوبر عَبَرَ جيشٌ فرنسي من عشرين ألف مقاتل معظمهم من المجندين إلزاميا في غير موسم التجنيد الإلزامي - البيداسوا Bidassoe في أسبانيا، وكان على رأس هذا الجيش أندوش جونو Andoche Junot فرحبت به الدولة الاسبانية والشعب الاسباني الذي كان يأمل أن يحرِّر نابليون ملكَ أسبانيا من قبضة وزيره الخائن، كما كان هذا الوزير يأمل أن يكافئه نابليون لتعاونه معه بتركه يُشارك في تقطيع أوصال البرتغال·
لقد كان عهد التنوير الأسباني المتألق قد انتهى بموت تشارلز الثالث (1788) فرغم أن ابنه الذي بلغ الآن من العمر ستين عاماً كان ذا نوايا طيبة إلاَّ أنه كان مفتقداً الحيوية والذكاء، ففي اللوحة الشهيرة التي رسمها الفنان جويا Goya والتي جعل لها عنواناً (تشارلز الرابع وأسرته) يبدو الملكُ فيها مولعاً بالتهام الطعام أكثر من ولعه بالتفكير وبدت الملكةُ ماريا لويزا وكأنها هي الرجل، لكنها كانت امرأة أيضاً فلم تكتف بزوجها المطيع وإنما فتحت ذراعيها لمانويل دي جودوي Manuel de Godoy الذي رفعته من ضابط في الحرس الملكي إلى رئيس للوزراء ·(ملحق/466)
وكان الشعب الأسباني أكثر شعوب أوروبا التزاماً بالأخلاق في أمور الجنس، لذا فقد استاء كثيراً من هذه العلاقة الجنسية غير الشرعية لكن جودوي العاهر كان يحلم بفتح البرتغال ليحصل لنفسه على الأقل على دوقية، إن لم يكن مملكة· فهبَّ لمساعدة نابليون وحاول أن ينسى ما كان منه في سنة 1806 حين عرض صداقته المصحوبة بالعمل على بروسيا للتخطيط لشن حرب ضد فرنسا· وشجَّع نابليون آمال جودوي ووقّع في فونتينبلو (27 أكتوبر سنة 1807) اتفاقاً لفتح البرتغال واحتلالها على أن يكون شمالها الغربي مع أوبورتو Oporto من نصيب الملكة الاسبانية، ومقاطعات الجارف Algarve وألينتجيو Alentejo في الجنوب من نصيب جودوي، وما تبقّى في الوسط مع لشبونة يوضع تحت الحماية الفرنسية حتى صدور تعليمات أخرى· وأضافت المادة الثالثة من المعاهدة أنه من المفهوم أن الأطراف المتعاقدة سيُقسِّمون بالتساوي - بين أنفسهم - جزر البرتغال ومستعمراتها وسائر ممتلكاتها البحرية ونصت بنود سرّية على تعهد اسبانيا بإلحاق 8,000 مقاتل من المشاة و3,000 مقاتل من الخيالة بجيش جونو Junot أثناء مروره باسبانيا·
ووجدت الأسرة المالكة البرتغالية أَلاَّ طاقة لها بمقاومة هذه القوات المشتركة الفرنسية الاسبانية، فاستقلَّت سفينة إلى البرازيل· وفي 30 نوفمبر دخل جونو لشبونة، وبدا أن فتح البرتغال قد اكتمل· ولكي يدفع نابليون تكاليف عملياته فرضَ على رعاياه الجُدد دفع تعويض مقداره مائة مليون فرنك، جزء من منه لمساعدة جونو إذا ما أرسلت بريطانيا حملة عسكرية إلى البرتغال، وربما لتحقيق أغراض أكبر، وأرسل نابليون إلى أسبانيا ثلاثة جيوش إضافية جعل قادتها تحت قيادة مورا Murat الموحّدة وأمره باحتلال بعض المراكز الإستراتيجية قرب مدريد·(ملحق/467)
وكانت الخلافات في الحكومة الاسبانية بين يدي نابليون يُكيِّفها كيف شاء· لقد خشي فرديناند ذو الثلاثة والعشرين عاما وهو الوريث الظاهر لعرش اسبانيا أن يعوق جودوي طريقة إلى العرش فقاد بنفسه مؤامرة للإطاحة به، واكتشف جودوي المؤامرة فأمر بالقبض على فرديناند ومؤيدّيه في 27 أكتوبر واقترح محاكمتهم بتهمة الخيانة· وبعد ذلك بشهرين علم أن مورا الذي يتقدم بجيوشه قد يعمل على إطلاق سراحهم، فبادر هو بإطلاق سراح فرديناند ومعاونيه واستعد للهرب إلى أمريكا مع الملك والملكة، فهاجت جماهير المدينة في 17 مارس سنة 1808 وقبضت على جودوي وأودعته في زنزانة بأحد السجون، وتنازل الملك الذي اعتراه الذهول عن العرش لابنه، وبناء على أوامر نابليون قاد مورا جنوده إلى مدريد (23 مارس) وأطلق سراح جودوي ورفض الاعتراف بفرديناند ملكاً فتراجع تشارلز عن تنازله عن العرش وسادت الفوضى· وحثّ تاليران، الإمبراطور نابليون للاستيلاء على عرش اسبانيا أي أن يجعل من نفسه ملكاً على أسبانيا أيضاً ·
وانتهز نابليون الفرصة - وربما كان هو الذي دبّرها، فدعا كلا من تشارلز الرابع وفرديناند السابع للالتقاء به في بايون Bayonne ( على بعد حوالي عشرين ميلاً شمال الحدود الأسبانية الفرنسية) للنظر في إعادة الاستقرار والنظام للحكومة الأسبانية· ووصل الإمبراطور في 14 أبريل ووصل فرديناند في 20 من الشهر نفسه واستضاف نابليون الشاب ومستشاره كانون جوان إسكواكيز Canon Juan Escoiquiz على الغداء،(ملحق/468)
وخَلُص نابليون إلى أن هذا الشاب غير ناضج انفعالياً وعقلياً وأن مهمة قيادة اسبانيا وجعلها في تحالف مفيد مع فرنسا، مهمة لا يقدر عليها، وأفضى نابليون بهذه النتيجة إلى اسكواكيز الذي نقلها إلى فرديناند معترضا عليها، واعترض الشاب بدوره على أساس أن العرش انتقل إليه بتنازل أبيه عنه، وأرسل جواسيس إلى مدريد يُخبر مؤيِّديه بأنه أصبح ولا مُعين له لمواجهة قوات نابليون، لكن الفرنسيين عاقوا هؤلاء الجواسيس فتمَّت إعادتهم وما معهم من رسائل إلى الإمبراطور (نابليون) ومع هذا فقد وصلت أخبار موقف فرديناند إلى العاصمة فاعترى الجماهير شكٌ في أن نابليون يعتزم إنهاء حكم أسرة البوربون في أسبانيا ومما زاد من شكوكهم ما انتشر من أخبار مُفادها أن تشارلز الرابع والملكة وجودوي كانوا قد وصلوا إلى بايون في 30 أبريل، وأن مورا الذي يحكم مدريد الآن تلقى أوامر من نابليون بإرسال أخي الملك وابنه الأصغر وابنته إلى بايون·
وفي الثاني من شهر مايو سنة 1808 - وهو اليوم الذي ظل مشهوراً فترة طويلة في التاريخ الأسباني باسم Dos de mayo - تجمعت جماهير غاضبة أمام القصر الملكي الاسباني وحاولت منع الأمراء والأميرات من مغادرة القصر وقذفوا الجنود الفرنسيين بالحجارة، بل وقيل إنهم مزَّقوا بعض الجنود - ممن كانوا يحرسون العربة الملكية - إرباً، فأمر مورا جنوده بإطلاق النيران على الجماهير حتى تتفرّق·
وتم ذلك بالفعل وقد سجل الفنان جويا Goya هذا المشهد بتعبير فني قوي وخلّد بعمله هذا ذكرى الحدث، وتم إخمادُ التمرد في مدريد لكنه انتشر في سائر أنحاء أسبانيا الأخرى·(ملحق/469)
وعندما وصلت هذه الأنباء إلى نابليون في بايون (5 مايو) دعا كلاً من تشارلز فرديناند للمثول عنده وفي إحدى ثورات غضبه المحسوبة أدانهما لسماحهما للأسبان بالانخراط في أعمال الفوضى مما جعلها - بشكل خطير - لا يمكن الاعتماد عليها كحليف لفرنسا، وما هذا إلا بسبب عدم كفاءتهما· ولام الوالدان ابنهما وكالا له الانتقادات متهمانه بأنه كان قد اعتزم قتل والديه (المقصود غالباً أنه بفعله هذا سيورد والديه موارد التهلكة)، وأعطى نابليون الشاب المرتعد خفاً مهلة حتى الساعة الحادية عشرة مساء ليتنازل عن العرش، فإن رفض فسيعتبر مدبّر انقلاب ضد والديه ومن ثم يُسجن ويحال للمحاكمة بتهمة الخيانة،
واستسلم الشاب فرديناند وأعاد التاج لوالده ولما كان تشارلز يتطلع للأمن والسلام أكثر مما يتطلع إلى السلطة والقوة فقد قدم الصولجان (العرش) لنابليون الذي عرضه بدوره على أخيه لويس فرفضه ومن ثم عرضه على أخيه جيروم الذي شعر أنه ليس ملائماً لمثل هذا المنصب الخطير، وأخيراً عرضه على أخيه جوزيف (يوسف) الذي تلقى بالفعل أمراً بقبوله وتم إرسال تشارلز ولويزا وجودي ليعيشوا في منتجع في مرسيليا تحت الحراسة·
أما فرديناند وأخوه فقد هُدِّئا وجرى إرضاؤهما بتهيئة مَصْدر دخل يُدِرُّ عليهما عائداً مالياً كبيراً وعُهد إلى تاليران بإسكانهما في مكان مريح وآمن في قصره في فالنسي Valencay· وأحسَّ نابليون أنه عقد صفقة رابحة فركب عائداً مرتاح البال إلى باريس وتلقَّته الجموعُ بحفاوة في كل خطوة باعتباره سيِّد أوروبا الغلاَّب·
وذهب مورا - الذي كان يأمل أن يكون ملكاً على اسبانيا - ممتعضاً ليحل محل جوزيف (يوسف) كملك على نابلي· أما جوزيف - فبعد أن توقف في بايون - دخل مدريد في 10 يونيو سنة 1808· لقد كان قد اعتاد على نابلي التي كان ملكاً عليها وسرعان ما أوحشته حياة المرح والسرور في إيطاليا، تلك الروح المرحة التي يتسم بها أهل جنوب إيطاليا والتي تلطّف قسوة الحياة، فهو لم يأنس ذلك في الأسبان الصارمين المتدينين·(ملحق/470)
وقد جلب معه إلى أسبانيا دستوراً نصف ليبرالي كيّفه نابليون على عجل، يضم كثيراً من بنود مدوّنة نابليون القانونية لكنه قَبِلَ الكاثوليكية باعتبارها الدين المعتمد الوحيد في اسبانيا (نظراً لإصرار تشارلز الرابع على ذلك)، وحاول جوزيف ما وسعته المحاولة أن يكون حاكماً محبوباً من الشعب وأيده عدد كبير من الليبراليين الأسبان، ولكن النبلاء ظلوا بعيدين عنه متحفّظين إزاءه، وأدانه الإكليروس clergy ( رجال الدين الأسبان) على أساس أنه متحرر التفكير freethinker ( المقصود غير متمسك بأهداف الكاثوليكية) يتظاهر بما لا يُكنّه، وصُدِم العامةُ لأن نابليون قد أحل محل أسرتهم الحاكمة التي باركتها الكنيسة رجلاً لا يكاد يعرف كلمة من اللغة الاسبانية، ويفتقد تماماً الكارزما charisma أو مقومات الشخصية المحبوبة كما هي في ذلك العصر· وازداد الامتعاض ببطء ثم بسرعة، وتطور من مجرّد التجهم والعبوس إلى اللعن جهراً إلى التمرد·
وظهرت روابط الفلاحين في كثير من بلاد أسبانيا وسلّحوا أنفسهم بالأسلحة القديمة والسكاكين الحادة فصارت كل البيوت مصانع للسلاح وصارت كل عباءة شركاً يُخفي سلاحاً وراحوا يقتنصون كل فرنسي يشرد من معسكره أو يبتعد عن فرقته ورفع الإكليروس الأسبان (رجال الدين) الصلبان في مواجهة البنادق الفرنسية واتهموا جوزيف بأنه "لوثري وماسوني ومهرطق a Lutheran, a Freemason, a heretic" وحرّضوا جماهيرهم على العصيان المسلّح باسم الرب وأمِّه الطاهرة والقديس جوزيف وتفجّر الحماس ضد الفرنسيين مما أدى إلى عمليات بتر أعضاء وإخصاء وصلب وقطع رؤوس وشنق وإجلاس على الخوازيق (خوزقة impalings) كما صوّر لنا الفنان جويا ·(ملحق/471)
وأعاد الجيش الأسباني تشكيلاته وانضم للثوار واجتاحت كتائبهم الموحّدة الحاميات الفرنسية المتناثرة والتي ينقصها العتاد والرجال· وفي بعض الأحيان تمكنت القوات الاسبانية من التفوق على قوات الفرنسيين الذين لم يألفوا الأرض الأسبانية كما كانوا يعانون نقصاً في الرجال والعتاد، ففي بيلا Bailen ( شمال شرق قرطبة) توهمت فرقتان عسكريتان فرنسيتان أنهما محاصرتان بقوات كثيرة العدد والعُدَد فاستسلمتا في واحدة من أكثر الهزائم خزياً في التاريخ وأسر الأسبان 22,800 وتم اقتيادهم إلى جزيرة كابريرا Cabrera الصغيرة فمات مئات منهم جوعاً ومرضاً· وقد حدثت هذه الواقعة في 20 يوليو سنة 1808· ولما تم تجريد جوزيف (أخو نابليون) من قواته العسكرية الرئيسية انسحب مع ما تبقى من قواته من مدريد إلى خط دفاعي على طول الإبرو Ebro على بعد 170 ميلاً شمال شرق العاصمة·
وفي هذه الأثناء أرسلت الحكومة الإنجليزية - بعد أن صارت واثقة من تناقص قوات جونو في لشبونة وأن لم يعد ممكنا أن تتلقى دعماً إسبانياً - أرسلت السير آرثر ولسلى (يُكتب أيضاً ولزلي) Arthur Wellesley ( دوق ولنجتون فيما بعد) بأسطول وجيش إلى البرتغال· فأنزل رجاله عند مصب نهر مونديجو Mondego في أول يوليو سنة 1808 وسرعان ما انضمت إليه فرق مشاة برتغالية· وقاد جونو - الذي كان قد أَنِسَ إلى الراحة بدلاً من جعل قوّاته في حالة استعداد - قوّاته البالغ عددها 13,000 مقاتل من المجندين إلزامياً من لشبونة لمواجهة قوات وِلْسِلي (ولزلي) البالغ عددها 19,000 في فيميرو Vimeiro في 21 أغسطس سنة 1808 فمني بهزيمة نكراء، وعادت البرتغال للتحالف مع إنجلترا، وبدا الغزو الفرنسي لشبه جزيرة أيبيريا وقد تحول لكارثة بالنسبة للفرنسيين·(ملحق/472)
وعندما وصل نابليون إلى باريس في 14 أغسطس سنة 1808 بعد جولته الاحتفالية في محافظاته (دوائره) الغربية وجد أعداءه التقليديين سعيدين للنكسة التي ألمت بالجيوش الفرنسية في شبه جزيرة ايبيريا، وشرعوا بالفعل في تكوين تحالف ضد نابليون الذي أصبح الآن قابلاً للهزيمة· وكان ميترنيخ Metternich سفير النمسا لدى فرنسا يتحدث مع نابليون عن السلام بينما يُخطط للحرب· وكتب فريهر فوم أوند تسوم شتاين Freiherr vom und zum Stein رئيس الوزراء البروسي اللامع التوّاق للتحرر من الاحتلال الفرنسي - إلى صديق له في شهر أغسطس من العام الآنف ذكره قائلاً: "هنا تبدو الحرب بين النمسا وفرنسا مسألة لا مفر منها، وهذه الحرب ستقرر مصير أوروبا". ووافق نابليون الذي استولى وكلاؤه (جواسيسه) على هذا الخطاب، على ما ورد به، فالحرب كما كتب إلى أخيه لويس مؤجلة حتى الربيع ·
وتأمل نابليون في خياراته، أيجب عليه أن يقود جيشه الكبير الذي لم يعرف الهزيمة إلى أسبانيا ويقمع تمردها ويطارد ولسلي (ولزلي) ليعود إلى سفنه، ويسد الفجوة البرتغالية ليُحكم الحصار المضاد ضد بريطانيا ويخاطر بالجبهة الشرقية على أساس أن النمسا وبروسيا ستضربان بينما أفضل جنوده على بعد ألف ميل - هناك في البرتغال؟ إن اسكندر في تليست كان قد وعد بمنع مثل هذا الهجوم بينما كانت اسبانيا معه، لكن أيصمد القيصر ويحافظ على وعده أمام الضغوط الواقعة عليه؟ ناهيك عن إمكان رشوته· وبعد أن تفكّر نابليون في الأمر دعا القيصر إلى مؤتمر في إيرفورت Erfurt حيث يمكنه أن يحيطه بكوكبة لامعة من السياسيين لجعله يلتزم بما كان قد تعهّد به·
3 - كوكبة السياسيين في إيرفورت ERFURT:
من 27 سبتمبر إلى 14 أكتوبر 1808م(ملحق/473)
لقد أعد نابليون لهذا المؤتمر بعناية فائقة كما لو كان يُعد لخوض حرب، فقد دعا كل الملوك والدوقات التابعين له للحضور مع حاشياتهم بأبهة ملكية فخمة، فأتى عدد كبير منهم حتى أن مذكرات تاليران Talleyrand المطبوعة ضمت ثلاث صفحات تحوي قوائم بهؤلاء الذين لبوا الدعوة · واصطحب نابليون معه كل أفراد أسرته، وليس هذا فحسب وإنما معظم جنرالاته وطلب من تاليران أن يترك معتزله وأن يساعد شامباني Champagny في توجيه المفاوضات وصياغة النتائج، وأصدر تعليماته للكونت دي ريموزا أن ينقل إلى إيرفورت أفضل ممثلي المسرح الفرنسي بمن فيهم تالما Talma، وكل ما يلزم لإخراج التراجيديات الكلاسيكية في الدراما الفرنسية، وقال نابليون أريد أن أُبهر إمبراطور روسيا بمشاهد قوتي وسلطاني، فليس هناك مفاوضات أكثر عُرضة للفشل من تلك المفاوضات التي نحن مقبلون عليها ·
ووصل نابليون إلى إيرفورت في 27 سبتمبر، وفي اليوم التالي خرج لتحية اسكندر وحاشيته باستقبالهم على بعد خمسة أميال من المدينة، وجرى إعداد كل الترتيبات لبعث المسرّة في نفس القيصر باستثناء شيء واحد وهو أن نابليون تصرف على أنه المُضيف (صاحب الدار) في مدينة ألمانية كانت قد أصبحت جزءا من الإمبراطورية الفرنسية· ولم ينخدع إسكندر بالهدايا التي تلقاها والإطراء الذي كِيلَ له كَيْلا، فتظاهر هو أيضاً بكل ما يوحي بالصداقة أو بتعبير آخر كال لهم من الكيل نفسه، وقاوم محاولاً ألا يقع في شباك هذه المظاهر النابليونية ومما ساعده على ذلك أن تاليران نصحه سراً أن يدعم النمسا وأن يكون إليها أقرب منه إلى فرنسا، مقدماً له الدليل على أن النمسا - وليس فرنسا هي مرتكز الحضارة الأوروبية (فيما يرى تاليران) التي دمرها نابليون، وقال له تاليران أيضا إن فرنسا متحضرة ولكن السلطة فيها ليست كذلك وأكثر من هذا فكيف يكون من صالح روسيا دعم فرنسا والشد من أزرها؟(ملحق/474)
وعندما سعى نابليون لتوثيق التحالف بأن يتزوج من أخت إسكندر - الدوقة الكبيرة أنّا Anna، أشار تاليران على القيصر بعدم القبول وأجّل الروسي الماكر الإجابة عن هذا الاقتراح متحجّجاً بأن القيصرة هي صاحبة الرأي في هذه الأمور · وقد كافأ اسكندر، تاليران بترتيب زواج ابن أخيه (أو ابن أخته) من دوقة دينو Dino وارثة دوقية كورلاند Courland، ودافع تاليران - في وقت لاحق - عن خيانته ذاكراً أن شهية نابليون لابتلاع الأمم لن تتوقف باستنزاف أوروبا بالحروب فحسب وإنما ستؤدي إلى انهيار فرنسا وتقطيع أوصالها، وعلى هذا فخيانته لنابليون - فيما يقول - كانت وفاء لفرنسا وإخلاصاً لها · لكن من الآن فصاعداً ستترك تصرفاته الكيّسة انطباعا سيئاً (سُمعة رديئة) في كل مكان·
وخلال هذا المؤتمر دعا دوق ساكس - فيمار أشهر رعاياه للحضور إلى ايرفورت، ففي 29 سبتمبر، طلب نابليون من الدوق - بعد أن رأى اسم جوته في قائمة الذين سيصلون - ترتيب لقاء مع هذا الفيلسوف الشاعر، فجاء جوته سعيداً (في 2 أكتوبر) فقد كان من رأيه أن العالم لم يشهد عقلية أعظم من عقلية نابليون وكان موافقا تماماً (أي جوته) على توحيد أوروبا في ظل حكمه· والتقى جوته (جيته) بالإمبراطور نابليون على مائدة إفطار مع تاليران وبيرثييه وسافاري والجنرال دارو Daru، وقد كتب تاليران في مذكراته، ما زعم أنه تسجيل دقيق لهذه المحادثة الشهيرة (فيلكس ميلر Felix Muller قاضي فيمار الذي كان مصاحباً لجوته قدم تقريراً عن هذه المحادثة مختلفاً قليلاً عن رواية تاليران):
قال نابليون: السيد جوته Goethe إنني مبتهج لرؤيتك·· إنني أعلم أنك على رأس الشعراء المسرحيين في ألمانيا·
- سيدي أنت تظلم بلدنا·· فلابد أن عظمتكم تعرفون شيلر Schiller وليسنج Lessing وفيلاند·
- اعترف أنني لا أعرفهم إلاّ بالكاد· لقد رأيت عمل شيلر (حرب الثلاثين عاما) ·· أنت بشكل عام تعيش في فيمار ·· انه المكان الذي يلتقي فيه معظم مشاهير أدباء ومفكري ألمانيا·
- إنهم يتمتعون بحماية في فيمار أكثر من سواها، لكن بالنسبة للوقت الحالي فليس هناك إلا رجل واحد في فيمار حقق شهرة على مستوى أوروبا، إنه فيلاند Wieland ·(ملحق/475)
سأكون مبتهجاً لرؤية السيد فيلاند ·
- إن سمحتُم لي عظمتكم أن أطلب منه الحضور، فعلتُ، فأنا متأكد من أنه سيحضر فورا···
- هل أنت مُعجب بتاسيتوس Tacitus؟ ·
- نعم يا سيدي أنا معجب به جداً·
- حسنا إنني لستُ معجباً به، لكننا سنتحدث في هذا الموضوع في وقت آخر· اكتب إلى السيد فيلاند ليأتي هنا· وسأرد له الزيارة في فيمار لأن دوقها دعاني·
وبينما كان جوته يغادر الغرفة قيل أن نابليون أبدى ملاحظة لبيرثييه ودارو Daru بشأن جوته قائلاً:
"هذا هو الرجل حقا! - Voila un homme! "·
وبعد أيام قليلة استضاف نابليون جوته وفيلاند مع رهط من ذوي المكانة· وربما قد أنعشَ ذاكرته بالمعلومات في هذه الأيام لأنه راح يتحدث كناقد أدبي واثق من معلوماته:
- السيد فيلاند، إننا نحب كتاباتك جداً في فرنسا· فأنت مؤلف أجاثون وأوبيرون Agathon & Oberon إننا نسميك فولتير ألمانيا·
- سيدي إن الإطراء يسعد المرء إن كان يستحقه···
- أخبرني أيها السيد فيلاند، لماذا كتبت أعمالك ديوجنز Diogenes وآجاثون وبيريجرينوس Peregrinus بأسلوب رمزي يحتمل أكثر من معنى تخلط فيه السرد الروائي بالتاريخ والتاريخ بالسرد الروائي· إن رجلاً متفوقاً مثلك يجب أن يفصل بين هذين النوعين من الكتابة·· لكنني أخشى أن أتحدث كثيراً في هذا الموضوع لأنني أتحدث مع شخص أكثر خبرة في هذه الأمور مني ·
وفي 5 أكتوبر قطع نابليون حوالي خمسة عشر ميلاً إلى فيمار، وبعد أن مارس رياضة القنص في يينا ومشاهدة مسرحية "موت قيصر" - " la Mort de Cesar" في مسرح فيمار، حضر الداعون والمدعوون حفلاً راقصاً فأنستهم النسوة الجميلات المتألقات ذِكْر أشعار فولتير· وعلى أية حال فقد انسحب نابليون إلى أحد الأركان وطلب جوته وفيلاند، فحضرا ومعهما ثلّة من رجال الأدب، فتحدث نابليون موجها حديثه على نحو خاص إلى فيلاند، وكان موضوع حديثه يدور حول المجالين الأثيرين عنده: التاريخ وتاسيتوس:(ملحق/476)
"لابد من اعتبار المسرح التراجيدي الجيد مجالا لا يجدر إلا بالرجال المتفوقين· إنه فوق التاريخ إذا نظرنا إليه من وجهة نظر معينة· ففي أفضل وقائع التاريخ لا يمكن أن يُحدث إلا أثراً قليلا، فالإنسان إذا كان وحيداً لا يتأثر إلا قليلا، ويختلف الحال إن كان في جَمْع، فهنا يكون التأثير أقوى وأكثر ديمومة·
إنني أؤكد لك أن المؤرخ تاسيتوس الذي تستشهد دائما بفقرات من كتاباته لم يعلّمني أي شيء أيمكنك أن تجد كاتبا ينتقص من قدر الجنس البشري مثله؟ بالإضافة إلى أن أحكامه في بعض الأحيان غير عادلة فهو يجد في كل فعل - ولو كان بسيطاً - دافعاً إجرامياً· لقد أظهر الأباطرة كأجلاف أنذال، وعمّق هذه المعاني في نفس قارئه·· إن حولياته ليست تاريخاً للإمبراطورية وإنما ملخصاً لسجلات سجن روما، إن هذه الحوليات تتعامل دائماً مع تُهم وإدانات، ومع أناس يقطعون أوردتهم في الحمامات·· يا له من أسلوب ملتوِ! يا له من غموض! ·· ألستُ على حق أيها السيد فيلاند؟ لكن··· إننا لسنا هنا لنتحدث عن تاسيتوس· انظر، إلى أي حد يُتقن القيصر إسكندر فن الرقص·· "
ولم يقتنع فيلاند فقد دافع عن تاسيتوس بشجاعة وتعاطف، فقد أشار إلى أن سوتونيوس Suetonius وديوكاسيوس Dio Cassius قد رويا من الجرائم أكثر بكثير مما روى تاسيتوس لكن أسلوبهما تعوزه الحيوية، أما تاسيتوس فما أشد تأثير أسلوبه وفي غمزه جسورة قال لنابليون:
"إنه بلمسة عبقريته، يمكن للمرء أن يعتقد أنه لا مجال لأن يحب سوى الجمهورية·· لكنه عندما يتحدث عمن يحبهم من الأباطرة، والحرية والإمبراطورية، فإن المرء يشعر أن فن الحكم يبدو له أجمل اكتشاف على ظهر البسيطة··· يا سيدي إن كان حقا قولنا إن تاسيتوس يُعاقب الأباطرة بتصويرهم على هذا النحو فحقاً أيضاً قولنا أنه كافأ الأمراء (الملوك) الصالحين عندما تتبّع أعمالهم وصورهم وأهداهم لمن يصنعون المجد في الزمن الآتي"·
وكان المنصتون المتجمعون مبتهجين بهذا الجواب اللاذع والخاطرة السريعة، وحار نابليون جوابا وقال:(ملحق/477)
"إن لديّ حججا قوية جداً لمناقشتك والاختلاف معك أيها السيد فيلاند·· وأنت لم تُغفِل أي عنصر مما يدعّم رأيك·· لا أحب أن أقول أنني هُزِمت في هذه المناقشة·· فمن الصعب أن أتفق مع هذا الرأي· غداً أعود إلى إيرفورت، وسنواصل مناقشاتنا وليس لدينا كتابات عن هذه المناقشات التي تمت بعد ذلك"·
وفي 7 أكتوبر عاد معظم الزوّار إلى إيرفورت، وحث نابليون جوته على الإقامة في باريس قائلاً له هناك في باريس ستجد دائرة أوسع لتنشر فيها أفكار·· ومادة هائلة لإبداعاتك الشعرية · وفي 14 أكتوبر منح نابليون وسامَ صليب فيلق الشرفِ لكل من جوته وفيلاند·
وفي هذه الأثناء وقَّع وزراء خارجية فرنسا وروسيا اتفاقية تُجدد التحالف بينهما ويتعهد كل طرف بتقديم المساعدة للطرف الآخر في حال تعرضه لهجوم وأصبح اسكندر - بناء على الاتفاق - مُطلق اليد في الاستيلاء على فاليشيا Wallachia ومولدافيا، لكن ليس تركيا· وأصبح نابليون يستطيع التوجه إلى أسبانيا بمباركة قيصر روسيا وفي 12 أكتوبر تم توقيع وثيقة الاتفاق· وبعد ذلك بيومين غادر الإمبراطوران إيرفورت، وقبل أن يفترقا سارا للحظات جنبا إلي جنب وتعانقا وتعاهدا أن يلتقيا ثانية· (لكن هذا لم يحدث) وعاد نابليون إلى باريس أقل تعطشاً للدماء لكنه قرر أن يتوجه بجيش الأساسي (الجيش العظيم) إلى أسبانيا ليفرض أخاه جوزيف مرة أخرى على عرش اسبانيا رغم إرادة الأسبان·
4 - الحرب الثانية في شبه جزيرة أيبيريا:
من 29 أكتوبر 1808 إلى 16 يناير 1809 م
لقد كانت هذه الحرب معركة نابليونية تقليدية: انقضاض سريع، وانتصار، ثم لا جدوى· لقد أحس الإمبراطور بازدياد معارضة الشعب الفرنسي لسلسلة حروبه التي لا تنتهي· لقد كانوا قد وافقوه على أن حروبه في الجبهة الشرقية كانت حروبا سبّبتها حكومات تتآمر لمحق الثورة وإبطال نتائجها لكنهم شعروا أن دماءهم قد استنزفت، واستاءوا على نحو خاص من الأموال التي تم إنفاقها في حرب البرتغال وأسبانيا·(ملحق/478)
لقد فهم نابليون هذه المشاعر وخشي أن يكون بصدد فقدان سيطرته على الأمة الفرنسية لكنه كما برّر في وقت لاحق لم يكن من الممكن ترك شبه جزيرة أيبيريا فريسة لكيد الإنجليز ومطامع البوربون ومؤامراتهم وطموحاتهم فإذا لم ترتبط أسبانيا بفرنسا رباطاً وثيقاً يؤمّنها لأصبحت تحت رحمة الجيوش البريطانية القادمة عبر البرتغال أو كاديز (قادش Cadiz) Cadiz، وسرعان ما تجمع إنجلترا الذهب والفضة المجلوبة من المستعمرات البرتغالية والأسبانية في أمريكا لتقدم منها بسخاء معونات لتمويل تحالف جديد ضد فرنسا، مما يقتضي مزيداً من المعارك، مارينجو Marengos أخرى وأوسترليتز Austerlitzes أخرى وجينا (يينا Jenas) أخرى·· إن إحكام الحصار الأوروبي المضاد على البضائع البريطانية هو وحده الذي يجعل تجار لندن يطلبون السلام·
وترك نابليون حاميات على بعض الحصون تحسباً لأية مفاجآت نمساوية أو بروسية، وأمر 150,000 مقاتل من جيشه الأساسي (الجيش العظيم) بعبور جبال البرانس والانضمام إلى قوات أخيه جوزيف البالغ عددها 65,000 كانت تتجمع في هذه الأثناء في فيتوريا Vitoria· وغادر هو نفسه (نابليون) باريس في 29 أكتوبر ومعه خطة المعركة التي كان قد رسمها فعلاً· وكان الجيش الأسباني يحاول تطويق قوات جوزيف، فأرسل نابليون تعليمات إلى أخيه (جوزيف) أن يتجنب خوض معركة وأن يترك العدو يتقدم منتشراً في نصف دائرة حتى تكون قواته غير ذات عمق·
وعندما اقترب نابليون من فيتوريا نشر جانبا من قواته في جبهة مستعرضه لمهاجمة قلب الجيش الأسباني، فانكسر وولّى الأدبار واستولت فرقة فرنسية أخرى على بورجوز Burgos (10 نوفمبر) واجتاحت فرق فرنسية أخرى بقيادة ني Ney ولان Lannes عند توديلا Tudela جيشاً اسبانياً بقيادة جوزي دي بالافوكس إي ميلزي Jose de Palafox y Melzi ولما أردك قادة الجيش الأسباني انه لا قِبَلَ لهم بنابليون وجنوده تفرقوا ثانية في ولايات اسبانيا وفي 4 ديسمبر دخل الإمبراطور مدريد، وعندما بدأ بعض جنوده في نهبها أمر بإعدام اثنين من الناهبين علناً فتوقفت عمليات السلب والنهب ·(ملحق/479)
وترك المدينة (مدريد) تحت حماية عسكرية قوية وفرض فيها الأحكام العسكرية واتجه بقواته إلى شامارتين Chamartin على بعد ثلاثة أميال، وهناك وكأنه واحد من الأرباب خالقة الكون أصدر في 4 ديسمبر سلسلة من المراسيم ودستوراً جديداً لأسبانيا· وبعض بنود هذا الدستور تبين أنه لازال ابناً للثورة الفرنسية:
منذ نشر هذا المرسوم يتم إبطال الحقوق الإقطاعية في أسبانيا·
ويتم إبطال كل الامتيازات وكل الاحتكارات الإقطاعية وكل الالتزامات المفروضة على الأشخاص، وكل من سيلتزم بالقوانين سيكون حراً في تطوير عمله وصناعته وحرفته دون معوّق·
إبطال محاكم التفتيش لأنها لا تتمشّى مع السيادة المدينة، وتؤول ممتلكاتها إلى الدولة الاسبانية لتُسدّد منها الديون التي التزمت بسدادها···
نظراً لزيادة أعداد أعضاء الطوائف الديِّرية المختلفة زيادة مفرطة··· وكذلك بيوت العبادة، فسيتم تقليص أعدادها إلى الثلث··· بتوحيد أعضاء البيوت المختلفة (المقصود بيوت العبادة أو الطوائف الديرية) الخاصة بطائفة واحدة في تشكيل واحد···
ستزال الحواجز بين ولايات أسبانيا وهذا يعني من بين ما يعني إزالة الجمارك الداخلية لأنها أمر يقف حائلاً في سبيل رخاء أسبانيا ·
ولم يكن هناك ما يمكن أن يدعم هذا الدستور في مواجهة المعارضة الفعالة للنبلاء الذين ترسّخت أوضاعهم ورجال الدين والرهبان والسكان الذين أَلِفوا بمرور الوقت الزعامة الإقطاعية وعقيدة المواساة (الصبر على مكارة الدنيا لدخول الفردوس في الآخرة) - سوى السيطرة العسكرية· وكان ولسلي (ولزلي) لا يزال منتصراً في البرتغال واضعاً في اعتباره غزو أسبانيا حالما يعود الجيش الفرنسي الأساسي (العظيم) لمواجهة تحدّي النمسا· وأكثر من هذا فقد غادر جيش بريطاني مكوّن من 20,000 مقاتل بقيادة سير جون مور Moore، سالامنكا Salamanca في 13 ديسمبر وبدأ يزحف في اتجاه الشمال الشرقي آملاً في اجتياح فرق سول Soult بالقرب من برجوز ·(ملحق/480)
ورد نابليون بسرعة على هذا التحدي فقاد قوة فرنسية رئيسية شمالاَ عَبْر سيّراً دي جوداراما Sierra de Guadarrama آملاً في مهاجمة مؤخرة مور Moore والآن سيواجه - أخيراًً - بمواهبه العسكرية وجنوده هؤلاء الانجليز المحتمين وراء البحر· وكان المرور عبر ممر جواداراما في عز الشتاء محنة قاسية لرجاله أشد وطأة من عبور الألب سنة 1800· لقد عانوا وتذمروا وكادوا يقومون بتمرد عسكري لكن نابليون لم يوقف المطاردة· ولما علم مور بقدوم نابليون خاف أن تقع قواته بين جيشين فرنسيين، فتوجه بقواته غرباً بسرعة قاطعاً 250 ميلاً على أراضٍ وعرة غطتها الثلوج حتى وصل كورونا Corunna ليستطيع مع قواته أن يلوذوا بالأسطول البريطاني·
وفي 2 يناير 1809 أصبح نابليون قريباً من مؤخرة هذا الجيش الإنجليزي عند أستورجا Astorga لكنه - أي نابليون - اضطر للتوقف بسبب أنباء مزعجة أتته من مصدرين: ففي النمسا كان الأرشيدوق كارل لودفيج يستعد استعداداً حقيقياً لخوض حرب ضد فرنسا، وفي باريس كان تاليران وفوشيه Fouche يؤيدان خطة للإطاحة بنابلين وإحلال مورا Murat مكانه· فترك نابليون مهمة تعقّب قوات مور Moore لسول وأسرع عائدا إلى فرنسا· أما وقد غادر السيد (نابليون) فقد تباطأ سول ولم يصل إلى كورونا حتى كان معظم القوات البريطانية قد آوى إلى سفن الأسطول· وقد قاد مور مؤخرة قواته ببطولة لحماية آخر مراحل ركوب السفن فأصيب بجرح مميت لكنه لم يلفظ أنفاسه الأخيرة إلاّ بعد اكتمال ركوب قواته سفن الأسطول البريطاني· وتحسَّر نابليون آه لو كان لدي وقت لتعقب الإنجليز، لما أفلت مني واحد منهم · إنهم لم يهربوا فحسب، بل لقد عادوا ثانية·
5 - فوشيه وتاليران والنمسا: عام 1809 م(ملحق/481)
عندما وصل نابليون إلى باريس (23 يناير) وجد المؤامرات تختمر وسط استياء عام· فقد وصلت خطابات من الجنود من الجبهة إلى مئات من الأسر الفرنسية تُفيد أن المقاومة الاسبانية أعادت تشكيل قواها وأنها موطدة العزم علي طرد الفرنسيين، وأن ولسلي (أو ولزلي Wellesley) الذي تزداد قواته سيتحرك حالاً لطرد جوزيف (أخي نابليون) من مدريد مرة أخرى· ومن الواضح أن الحرب ستستمر وأن الصبية الفرنسيين سيجندون إلزامياً عاماً إثر عام ليفرضوا على الأسبان حكومة معادية لكنيستهم القوية وغريبة عنهم ومجرد وجودها يحطم كبرياءهم·
وواصل الملكيون في فرنسا مؤامراتهم للإطاحة بنابليون رغم تحركاته لاسترضائهم، وتم القبض على ستة متآمرين منهم فأعدموا رمياً بالرصاص في سنة 1808، وتم إعدام آخر هو أرمان دي شاتوبريان Armand de Chateaubriand في فبراير سنة 1809 رغم توسلات أخيه رينيه Rene الذي كان وقتها أحب كتّاب فرنسا للجماهير، وكان مصير عدد من اليعاقبة - لأسباب أخرى مختلفة - الموت أيضاً· وحتى في دوائر الحكومة الإمبراطورية بلغ السخط ذروته فقد راح فونتان Fontanes يردد لدى معارفه الكتومين أن الإمبراطور مجنون، مجنون تماماً، سيدمر نفسه ويدمرنا جميعاً وقال القول نفسه ديكري Decres لكن بشكل علني ·
أما فوشيه وزير الشرطة فكان قد اكتسب تعاطف نابليون ومديحه لاكتشافه مؤامرات اغتياله لكن فوشيه كان قد بدأ يتشكك على نحو متزايد في سياسات سيده (نابليون) وفي أن مستقبله الشخصي سينتهي إلى انهيار لا مفر منه، لقد شعر فوشيه أن حكومتي النمسا وبروسيا المهزومتين واللتين رغم هزيمتهما لازالتا تحسان بالكبرياء، وحكومة روسيا المؤيدة تأييداً سطحياً (ظاهرياً) لفرنسا - سوف تتحد من جديد، عاجلاً أم آجلاً، يمولها الذهب البريطاني للقيام بانتفاضة أخرى ضد السيطرة الفرنسية غير المريحة·(ملحق/482)
وأكثر من هذا فإن نابليون قد يفقد حياته في واحدة من المعارك القادمة· فليس من المستبعد أن تصيبه طلقة تقضي عليه كتلك الطلقة التي أنهت - منذ وقت غير بعيد - حياة جنرال كان يقف إلى جانبه· إنه لا يجب أن يُوقع موته المفاجئ - ولا وريث له - فرنسا في فوضى تجعلها غير مهيأة للدفاع ضد أعدائها· وربما كان ميتران يحث على الانضمام لمن يهيئون مورا Murat للعرش إذا ما خلا بموت نابليون· وفي 20 ديسمبر سنة 1808 اتفق تاليران وفوشيه على أن مورا هو رجلهم المنشود، وكان مورا مجنداً· ولما تشمَّم يوجين (ابن زوجة نابليون) أخبار المؤامرة وأخبر بها أم نابليون أرسلت سريعاً من ينقلها له في أسبانيا ·
وكان نابليون على استعداد لمسامحة فوشيه أكثر من استعداده لمسامحة تاليران، فنصيحة فوشيه كانت غالباً في الجانب الآمن لكن تاليران كان قد أوصى بإعدام دون دنجهين (دنجان) d'Enghien كما كان قد شجع الاستيلاء على أسبانيا، وربما كان شريكاً في مسؤولية عدم تجاوب اسكندر بالقدر الكافي· وفي 24 يناير سنة 1809 أعرب نابليون عن استيائه الشديد من تاليران بعد أن كان قد كظم غيظه فترة طويلة، وذلك عندما رآه في مجلس الدولة· لقد انفجر نابليون موبخاً إياه علناً:
"أتجرؤ أيها السيد أن تقول أنك لم تكن تدري شيئاً عن موت إنجهين!! أتجرؤ على مواصلة القول أنك لا تدري شيئاً عن الحرب الأسبانية··! أنسيت أنك نصحتني كتابة بإعدام انجهين؟ أنسيت أنك نصحتني في خطاباتك بإحياء سياسة لويس الرابع عشر (أي بترسيخ أفراد أسرته على عرش أسبانيا) ",
ومن ثم لوّح بقبضته في وجه تاليران وصاح فلتفهم هذا: "إذا كان لابد أن تنفجر الثورة، فستكون أول من يُسحق، مهما كان الدور الذي لعبته فيها·· إنك قذارة في جورب حريري"·
وما أن قال نابليون ذلك حتى سارع بمغادرة القاعة، وسار تاليران مترنحاً وراءه وقال لمستشاريه: "يا للأسف أيتصرف مثل هذا الرجل العظيم على هذا النحو السيئ! "(ملحق/483)
وفي صباح اليوم التالي أنهى نابليون كل المهام الموكلة إلى تاليران وأوقف راتبه الذي كان يتقاضاه كموظف كبير في البلاط· لكن نابليون سرعان ما اعتذر عن نوبة انفعاله - كما هي عادته - ولم يُبدِ اعتراضاً على استمرار تاليران في الحضور إلى البلاط· وفي سنة 1812 كان نابليون لا يزال يقول: "لقد كان تاليران أفضل وزير عندي على الإطلاق "·
ولم يترك تاليران أية فرصة للإسراع بسقوط نابليون· وكانت النمسا تقوم بدورها، فقد كان كل أهلها من فقراء إلى أغنياء تواقين للقيام بمحاولة للتحرر من هذا السلام الثقيل (المفروض) الذي فرضه نابليون على النمسا· وكان الإمبراطور فرانسيس الأول هو وحده المتردد بحجة أن مستلزمات إعداد الجيش ستؤدي بالدولة إلى الإفلاس· وأرسل إليه تاليران كلمات تشجيع: "إن الجيش الفرنسي العظيم متورّط في المستنقع الأسباني والرأي العام الفرنسي يعارض الحرب بشدة، ووضع نابليون قلق ومشكوك فيه" ·
وكان ميترنيخ Metternich حتى الآن مترددا، وحذَّر نابليون الحكومة النمساوية من أنها إذا استمرت في التسلّح فإنه سيبني في فرنسا جيشاً آخر مهما كانت التكاليف، ولن يكون أمامه سوى هذا الاختيار· لكن النمساويين واصلوا تسليح أنفسهم فطلب نابليون من اسكندر تحذيرهم، فأرسل القيصر لهم كلمة تحذير يمكن تفسيرها على أنها متأخرة تأخراً مقصودا·
واستدعى نابليون فرقتين من أسبانيا وجمع 100,000 مجند إلزامي وأتاه بناء على أوامره 100,000 جندي من كونفدرالية الراين Rhine Confederation، وكان أهل هذه الكونفدرالية خائفين على حياتهم إذا اجتاحت النمسا فرنسا، وبحلول أبريل سنة 1809 كان تحت إمرة نابليون 310,000 مقاتل، وتم تنظيم قوات منفصلة قوامها 72,000 مقاتل فرنسي و20,000 مقاتل إيطالي لحماية يوجين (ابن زوجة نابليون) والمُعَيَّن في منصب نائب الملك في إيطاليا من جيش نمساوي أُرسل إلى إيطاليا بقيادة الأرشيدوق جوهان (يوهان Johann) وفي 9 أبريل غزا الأرشيدوق كارل لودفيج Ludwig بافاريا على رأس قوة من 20,000 مقاتل، وفي 12 أبريل وقَّعت إنجلترا تحالفاً جديداً مع النمسا وتعهدت بتقديم معونات جديدة لها·(ملحق/484)
وفي 13 أبريل غادر نابليون باريس قاصداً ستراسبورج بعد أن أعلن لموظفي قصره المرتاعين في غضون شهرين سأجبر النمسا على نزع السلاح وفي 17 أبريل وصل إلى جيشه الرئيسي في دونّاوفوث Donauworth على الدانوب وأصدر أوامره النهائية بنشر قواته (تكوين جبهة مستعرضة) وانتصر الفرنسيون في بعض المواجهات الصغيرة في أبنسبرج Abensberg ولاندشت Landshut (19 و20 أبريل) وقاد المارشال دافو في إكموهل Eckmuhl (22 أبريل) هجوماً لا يُقاوم على الجناح الأيسر لقوات الأرشدوق كارل لودفيج Ludwig بينما هاجمت القوات التي على رأسها نابليون القلب ولم يتراجع كارل إلا بعد أن فقد 30,000 من رجاله، وكان تراجعه إلى بوهيميا·
وزحف نابليون بقواته إلى فيينا فدخلها في 12 مايو بعد أن عبرت قواته إلى الشاطئ الأيمن للدانوب، وكان عبوراً شاقاً استلزم جُهداً فائقاً اتسم بالشجاعة إذ كان عرض النهر عن نقاط العبور ثلاثة آلاف قدم· وفي الوقت نفسه أعاد كارل تنظيم قواته وقادها إلى الشاطئ الأيسر للنهر عند إسلنج Essling· وحاول نابليون أن يعبر النهر من جديد ليلتقي به أملاً في أن يهزمه في معركة حاسمة، لكن فيضان النهر كان مرتفعاً فأزاح ماؤه الجسور الرئيسية التي أقامها الفرنسيون وكان يتعين عليهم ترك جزء من الجيش الفرنسي وكثير من الذخيرة إذا كان لابد من العبور،
وفي 22 مايو وجدت قوات نابليون البالغ عددها 60,000 (التي تمكنت من العبور) نفسها تستعد لخوض معركة مع 115,000 نمساوي، وبعد أن فقد الفرنسيون 20,000 قتيل - كان لان Lannes المحبوب منهم - أمر نابليون من تبقى 40,000 بالعودة (الرجوع عبر النهر) بأية وسائل ممكنة· وفقد النمساويون 23,000 ومع هذا فإن هذه المواجهة اعتبرت في سائر أنحاء أوروبا هزيمة ماحقة ألمَّت بنابليون· وراحت بروسيا وروسيا ترقبان نتائج الموقف بشغف، وهما على استعداد - عند أي بارقة أمل - للانقضاض على هذا المدعي المزعج الذي أفلت مرات عديدة من قبضة سادة الإقطاع·(ملحق/485)
وفي إيطاليا أصبح مصير يوجين (الذي عينه نابليون في منصب نائب الملك) متأرجحاً مع الأحداث، فقد أصبحت Milan - قاعة حكمه - غير آمنة بسبب ازدياد سخط الناس من طريقة معاملة نابليون للبابا، رغم حكم يوجين المعتدل· لقد قاد يوجين جيشه وهو في حالة ذعر بيِّنة ليواجه الأرشيدوق جوهان، وهزم في تاجيليامنتو Tagliamento في 16 أبريل وكان من الممكن أن يتعرّض لما هو أسوأ لولا أن جوهان - عند سماعه انتصار نابليون في إكموهل استدار عائداً يحدوه أمل يائس أن يُنقذ فيينا، وترك يوجين إيطاليا مجازفاً بملكه كي يدعم بقواته جيش زوج أمه، فتحرك بقواته أيضاً إلى الشمال ووصل بقواته إليه وخاض معه معركة فاجرام Wagram·
وعمد نابليون - بعد الخيبة التي ألمت به في إسلنج إلى تدعيم قواته ومدفعيته وأمر بتشييد الجسور على الدانوب، وحصن جزيرة لوباي Lobay تحصيناً جيداً وجعل منها معسكراً حصيناً، ومركزاً لإصلاح السفن، وإعداد الذخيرة، ولا تبعد هذه الجزيرة سوى ثلاثمائة قدم عن الشاطئ الأيسر للنهر· وفي الرابع من يوليو أمر قواته بالعبور مرة زخرى، وأدرك نابليون أن قواته كثيرة العدد وأن كارل لودفيج Ludwig يتراجع للشمال، فتعقّبه والتقى الجمعان في فاجرام (واجرام Wagram) التي تعد واحدة من أعنف المعارك في التاريخ إذ أريقت فيها دماء غزيرة، وكان عدد القوات الفرنسية والحليفة لها 187,000 بينما كان عدد القوات النمساوية والمتحالفة معها 136,000·
لقد حارب النمساويون ببسالة وكانوا في وقت من أوقات المعركة قريبين من النصر، لكن نابليون كان متفوقاً في عدد جنده وفي براعة تكتيكاته، فغيّر اتجاه المعركة فبعد يومين (5 و6 يوليو 1809) استحر فيهما القتل من الطرفين أمر كارل قواته بالانسحاب بعد أن فقد 50,000 من رجال· وفقد نابليون في هذه المعركة 34,000 وبقي معه 153000، بينما كان المتبقي مع كارل 86,000· لقد أصبحت النسبة بينهما لصالح الفرنسيين تكاد تكون 2 إلى 1، وطلب الأرشيدوق الذي اعتراه الجزع الهدنة وأسعد هذا الطلب نابليون فوافق عليه·(ملحق/486)
وتمركز نابليون في شونبرون Schongrunn مع مدام فالفسكا Walewska وأسعده أن يعلم أنها حامل· إنه يستطيع الآن أن يقول إن عدم إنجاب جوزيفين إنما كان بسببها لا بسببه· وكان زوج ماري الهرم متسامحاً بما فيه الكفاية حتى أنه عفا عن خيانتها الزوجية ودعاها للعودة إلى مقره في بولندا، واستعد للاعتراف بالطفل الوليد باعتباره ابناً له ·
وتباطأت مفاوضات السلام طوال ثلاثة أشهر وكان هذا - في جانب منه - لأن كارل لودفيج لم يستطع أن يقنع أخاه فرانسيس الأول باستحالة تنظيم مزيد من المقاومة، بالإضافة إلى أن فرانسيس الأول كان يأمل أن تهب بروسيا وروسيا لمساعدته· وساعد نابليون القيصر اسكندر على مقاومة هذا العرض بأن قدّم له جزءاً من جاليسيا Galicia ووعده بعدم استرداد مملكة بولندا، وفي أول سبتمبر أخبر القيصر النمسا أنه ليس مستعداً لنقض تعهداته مع فرنسا· وظلت المفاوضات النمساوية متعثرة فأصدر نابليون إنذاراً،
وفي 14 أكتوبر وقع الطرفان معاهدة شونبرون أملتها فرنسا في القصر الملكي على أعدائها القدامى من الهابسبورج Hapsburg · وتنازلت النمسا - بمقتضى هذه المعاهدة - عن إنفيرتل Innvertel وسالزبورج (سالستبورج Salzburg) لبافاريا، وأصبح جزء من جاليسيا تابعاً لروسيا، وجزء آخر لدوقية وارسو (فرسافا) الكبيرة في مقابل ما بيد النمسا من بولندا المقسّمة· واستولت فرنسا علي فيوم Fiume وإستريا Istria وتريست والبندقية (فينيزيا Venezia) وجزء من كرواتيا ومعظم كارنثيا Carinthia وكارينولا Carniola، وبدا يكون قد انسلخ من النمسا 3,500,000 مواطن من دافعي الضرائب وكان عليها أن تدفع 85 مليون فرنك كتعويض حرب لفرنسا، لقد استولى نابليون على كل ذلك باعتباره حقاً له، وبعد ذلك بستة أشهر توّج أسلابه بتزوجه من أرشدوقة (أميرة) نمساوية·
6 - الزواج والسياسة: من 1809 إلى 1811 م(ملحق/487)
غادر نابليون فيينا في 15 أكتوبر سنة 1809 ووصل إلى فونتينبلو Fontainebleau في 62 من الشهر نفسه، وشرح لأقاربه الحميمين ومستشاريه قراره بطلب الطلاق، فأجمع جميعهم - تقريباً - على الموافقة، لكن نابليون لم تواته الشجاعة على الإفضاء بعزمه إلى جوزيفين إلاّ في 30 نوفمبر، فرغم إفراطه في المعاشرة الجنسية واللهو - وهو الأمر الذي كان يراه حقاً مشروعاً للمقاتل البعيد عن وطنه - إلاّ أنه كان لا يزال يحب جوزيفين وقد أدى انفصاله عنها إلى معاناة عاطفية استمرت عدة شهور·
لقد كان نابليون يعرف عيوبها - كسلها، وفتورها، ومبالغتها في التبرج، وإسرافها في استخدام الثياب والجواهر، وضعفها الشديد أمام بائعي القبعات النسائية ومصمميها الذين يأتون لعرض بضاعتهم عليها لقد اشترت كل ما أحضروه إليها دون أي اعتبار للسعر وأكثر من مرة زادت ديونها زيادة أدت إلى امتعاض زوجها امتعاضاً شديداً فطرد البائعات المتجمعات عند مقرّها وعنّفها ودفع ديونها· وقد اعتمد نابليون لها 600,000 فرنك سنوياً لنفقاتها الشخصية و120,000 فرنك سنوياً لتهب منها من تشاء لأنه كان يعلم أنها مُلزمة بتقديم الصدقات والهبات ·
وكان نابليون يتساهل مع عشقها للألماس ربما لأن التحلي به يجعلها فاتنة رغم بلوغها الثانية والأربعين، لقد كانت كلها مشاعر وأحاسيس ولا تملك من العقل شيئاً اللهم إلاّ الحكمة التي وهبتها الطبيعة للنساء والتي بها يقدرن على اللعب بالرجال· لقد قال لها نابليون: "يا جوزيفين إن لك قلبا ممتازاً وعقلاً فارغاً", وقلما كان يسمح لها بالحديث في السياسة وعندما كانت تقاومه وتتحدث في الأمور السياسية فإنه سرعان ما كان ينسى وجهات نظرها·(ملحق/488)
لكنه كان شاكراً ممتنا لأحضانها الدافئة الحارة وجسدها المؤثر، وحلاوتها التي لا تخف تدريجياً عند اللقاء، وبراعة تخلصها كما كان شاكراً ممتناً لاعتدالها وامتيازها في ممارسة كثير من مهامها كإمبراطورة· لقد أحبته حباً شديداً، وأحبها هو بعد السلطة، وعندما اتهمته مدام دي ستيل de Stael بأنه: "لا يحب النساء", أجاب ببساطة: "أنا أحب زوجتي". ويعجب أنطوان أرنول Antoine Arnault من: "إمبراطورية تديرها جميلات لطيفات واهنات يحكمن رجالاً مستبدين متشددين كأشد ما يكون الاستبداد والتشدد"· لقد كان كل الرجال يجبنون أمام تصميمه ومع ذلك لم يكن بمستطيع مقاومة دموع امرأة فكما قرر نابليون - بعد ذلك - في سانت هيلينا إنني بشكل عام كنت مستسلماً أمامها·
لقد كانت جوزيفين تعرف منذ وقت طويل أن نابليون في توق شديد لوريث من صُلبه ليرث الحكم بشكل شرعي ومقبول، وكانت تعلم خوفه من أن يؤدي موته أو أسره أو إصابته بمرض عضال إلى نزاع مجنون على السلطة بين الفرقاء المتنازعين والجنرالات، وأن تتحول فرنسا المنظمة والمزدهرة والقوية التي بناها إلى حُطام وأن تعود للإرهاب - الدموي أو الأبيض - كما كانت على الحالة التي أنقذها هو نفسه منها في سنة 1799، وكان من رأيه أن وريثاً شرعياً من صلبه تنتقل إليه السلطة بشكل تقليدي سيُعفي فرنسا من ذلك كله·
وعندما أخبر نابليون زوجته جوزيفين أخيراً بأن عليهما أن ينفصلا وهنت وغابت عن الوعي لعدة دقائق، فحملها نابليون إلى غرفتها واستدعى طبيبه جان - نيكولاس كورفيزار دي مارت Jean-Nicolas وطلب مساعدة هورتنس Hortense لتهدئة أمها، وظلت جوزيفين طوال أسبوع مصرّة على رفض الطلاق، وفي 7 ديسمبر وصل يوجين من إيطاليا وأقنع أمه بالموافقة· فطيب نابليون خاطرها بكل وسيلة وقال لها: "سأظل على حبّك دائماً لكن السياسة لا قلب لها"، ففي السياسة لا مجال إلا للعقل "وقال لها أنها ستظل دائما محتفظة بلقب سيدة القصر الملكي وملحقاته ولقب إمبراطورة وبراتب سنوي كبير، وأكد لأبنائها أنه سيظل دائما وحتى آخر حياته كأب محب"·(ملحق/489)
وفي 16 ديسمبر أصدر مجلس الشيوخ - بعد أن سمع رغبة كل من الإمبراطور والإمبراطورة في الطلاق - مرسوم الطلاق، وفي 12 يناير أُعلن رئيس أساقفة باريس فصل عُرى زواجهما، وتساءل عدد كبير من الكاثوليك عن مدى شرعية هذا الطلاق، ولم يُوافق معظم سكان فرنسا على هذا الانفصال، وتنبأ كثيرون أنه من الآن فصاعداً سيتخلى الحظ الحسن عن نابليون، ذلك الحظ الحسن الذي كان يتبعه دائما كظله ·
لقد طغت السياسة على الحب وراح نابليون يبحث عن شريكة لحياته ليس فقط على أمل أن تكون أماً (لولي عهده) وإنما أيضاً ليكوّن عن طريقها بعض الروابط والصلات التي تُعين على تحقيق السلامة لفرنسا، وتشد من أزر حكمه·
ففي 22 نوفمبر (قبل إفضائه لجوزيفين برغبته في الطلاق بثمانية أيام) أرسل نابليون بتعليمات إلى كولينكور Caulaincourt سفيره في سان بطرسبرج أن يقدم طلباً رسمياً لاسكندر طالباً يد أخته البالغة من العمر ستة عشر عاماً - أنَّا بافلوفا Anna Pavlova· وكان القيصر يعلم أن أمه التي كانت تطلق على نابلين اسم الملحد لن توافق أبداً على مثل هذا الارتباط فأرجأ الإجابة على الطلب أملاً في أن يحصل من نابليون على مقابل مُمثَّل في حصوله على بعض المناطق (الأخرى) في بولندا· لكن نابليون بعد أن نفد صبره لطول المفاوضات في هذا الأمر ولخوفه أيضاً من الرفض - أرسل يوعز إلى ميترنيخ أنَّ النمسا ستتلقّى اقتراحاً لطيفاً بشأن الأرشيدوقة (الأميرة) ماري لويز · وعارض كامباسير Cambaceres الخطة متنبئاً أن هذا الارتباط سيؤدي إلى إنهاء التحالف الروسي مع فرنسا وسيؤدي للحرب ·(ملحق/490)
ولم تكن ماري لويز البالغة من العمر ثمانية عشر عاما - جميلة، لكن كان يكفي نابليون أن عينيها زرقاوين، وخديها متوردان وشعرها كستنائي وطبعها هادئ وذوقها بسيط، وكانت كل الأدلة تؤكد عذريتها (لم يطمسها قبله إنس) وخصوبتها (إمكان إنجابها) · وقد تلقت قدراً طيباً من التعليم وتعرف عدة لغات وكانت بارعة في الموسيقي والرسم، وقد تعلمت منذ طفولتها أن تكره طالب يدها (نابليون) باعتباره شريراً بل أكثر أهل أوروبا امتلاء بالشر، لكنها تعلمت أيضاً أن الأميرة بضاعة سياسية يرتبط فهمها للرجال بصلاح الدولة· ومع هذا فلابد أن هذا الغول سيئ السمعة (المقصود نابليون) يمثل تغييرا مثيراً لفتاة محكومة تخضع لإشراف دقيق طال شوقها لعالم أكثر رحابة·
وعلى هذا ففي 11 مارس سنة 1810، وفي فيينا تم زواجها رسمياً من نابليون الذي لم يكن حاضراً وإنما مثله المارشال بيرثييه · وتحرك ركب الأميرة المكوّن من ثلاث وثمانين عربة ومركبة طوال خمسة عشر نهارا وليلة مصحوبة بالاحتفالات والترحيبات ليصل الركب إلى كومبيين Compiegne في 27 مارس· لقد كان موكبها كموكب زفاف ماري أنطوانيت في سنة 1770· وكان نابليون قد رتّب أموره للقائها في كومبيين هذه لكن - فضولاً منه أو لطفاً - انطلق ليقابلها مرحباً بالقرب من كورسيل Courcelles وعندما رآها·· لكن دعنا نتركه هو يروي لنا ما حدث:
"لقد خرجت من المركبة بسرعة وقبّلت ماري لويز · لقد كانت الطفلة الساذجة قد حفظت عن ظهر قلب حديثاً طويلاً كان عليها أن تردده على مسامعي وهي راكعة·· وكنت قد سألتُ ميترنيخ Metternich وأسقف نانت عمّا إذا كان يمكنني الليلة أن أكون تحت سقف واحد مع ماري لويز فأزاحوا كل شك علق بي وأكدا أنها الآن الإمبراطورة، وليس الأميرة (الأرشيدوقة) ··· وعكفتُ عليها في غرفة نومها لا أبرحها إلاّ إلى المكتبة، وسألتها عمّا قالوه لها عندما غادرت فيينا، فأجابتني بسذاجة شديدة أن أباها وفراو لاتسانسكي Frau Lazansky قد وجهاها بأن قالا لها: حالما تصبحين مع الإمبراطور ولا ثالث معكما عليك أن تفعلي كل ما يطلبه منك تماماً، عليك أن توافقي على كل شيء يطلبه منك لقد كانت مبهجة·(ملحق/491)
وقد أراد السيد سيجو Segur منّي ألاّ أظهره لها (!) مراعاة للتقاليد، لكنني بعد أن تزوجتها فعلاً أصبح كل شيء على ما يرام، وقلت له: اذهب إلى الشيطان "·
في أول أبريل أصبح الاثنان زوجين وفقاً للإجراءات المدنية وذلك في سان كلود St. Cloud وفي اليوم التالي أصبح زواجاً دينياً في الصالة الكبرى في اللوفر، ورفض كل الكاردينالات تقريبا حضور المراسم الدينية للزواج على أساس أن البابا لم يلغ زواج جوزيفين، فطردهم نابليون إلى الأقاليم (المحافظات أو الدوائر) لكن هذا لم يعكر صفوه فقد كان مغموراً بالسعادة من نواح أخرى· لقد وجد عروسه باعثة على المسرّة حسياً واجتماعياً - متواضعة ومطيعة وكريمة ورقيقة· إنها لم تعرف أبداً أن تحبه لكنها كانت رفيقة جذابة· وهي كإمبراطورة لم تحقق جماهيرية كالتي حققتها جوزيفين، لكن صارت مقبولة كرمز لانتصار فرنسا على ملكيات أوروبا العدوانية·
ولم ينس نابليون جوزيفين فكان يزورها تباعاً في مقرها حتى أن ماري بدأت في الاستياء، فاضطر للتوقف عن زيارتها لكنه راح يرسل لها خطابات دافئة، جميعها تقريبا تبدأ بعبارة يا حُبّي وقد أجابت جوزيفين على أحد هذه الخطابات من نافار Navarre في نورمانديا Normandy في 21 أبريل سنة 1810:
"ألف ألف شكر لك لأنك لم تنسني· لقد أحضر إليّ ابني خطابك تواً· لقد اعتراني الضعف عند قراءته· وأي ضعف! ·· فلم يكن به أي كلمة إلا وجعلتني أبكي، لكنها كانت دموعاً حلوة···
لقد كتبتُ إليك عند مغادرة مقر إقامتي في باريس Malmaison، وبعد مغادرتي رغبت كثيراً في الكتابة إليك أكثر من مرة، لكنني أحسست بأسباب سكوتك وخشيت أن أكون مزعجة···
كن سعيداً، كن سعيداً فأنت تستحق السعادة، إنني أحدّثك بكل قلبي· لقد أعطيتني أيضاً نصيبي من السعادة، وهو نصيب أُحس به إحساساً قوياً··· وداعاً يا صديقي، وأشكرك بكل الحب فسأحبك دائماً "·(ملحق/492)
وراحت جوزيفين تُسلي نفسها بإشباع هوايتها في ارتداء الملابس والحُلي واستقبال الضيوف· وكان نابليون قد اعتمد لها ثلاثة ملايين فرنك سنوياً لكنها كانت تنفق أربعة ملايين، وبعد وفاتها في سنة 1814 لاحقته بعض فواتير مُشترياتها التي لم تُدفع في إلبا لقد جمعت جوزيفين في مقر إقامتها Malmaison أعمالاً فنية كثيرة هيأت لها صالة عرض وكانت تُنفق على الولائم ببذخ· وكانت قيمة تكاليف دعواتها تلي مباشرة تكاليف زوجة نابليون (ماري لويز) وراحت تاليا Tallien الأميرة الأربعين لشيماي Chimay - تزور جوزيفين ويتذكران معاً أيام حكومة الإدارة ونفوذهما القوي الذي جعلهما كملكتين، وزارتها الكونتيسة فالفسكا Walewska فاستقبلتها جوزيفين بحفاوة وراحتا معاً يندبن حظهما لضياع حبيبهما (نابليون) ·
لقد قضى نابليون عامين كان فيهما سعيداً وفي سلام نسبي، فقد وسَّعت معاهدة شونبرون Schonbrunn مملكته وأثرت خزانته وفتحت شهيته، فقد ضمّ إلى ملكه الولايات الباباوية (17 مايو 1809) وأعاد أخاه جوزيف (يوسف) إلى عرشه في مدريد، وفي سنة 1810 وقّعت السويد - التي طال عداؤها له - معاهدة سلام مع فرنسا وانضمت للحصار القاري المضاد (المقصود منع التعامل مع البضائع البريطانية) وفي شهر يونيو قبلت - بناء على إلحاحه - أن يكون وريثاً للعرش السويدي· وفي ديسمبر ابتلع هامبورج وبريمن ولوبك Lubeck وبيرج وأولدنبورج Oldenburg وضمها للإمبراطورية الفرنسية· وأدت رغبته الشديدة في إغلاق كل موانئ القارة الأوروبية في وجه التجارة البريطانية إلى أن أصبح في نظر أعدائه غازياً نَهِماً لا يشبع يجمع الديون لأرباب الحقد والحسد·(ملحق/493)
وكانت الأمور الداخلية هادئة ومستتبة، فكانت أحوال فرنسا مزدهرة، وكان شعبها يحس بالفخار، ولم يكن هناك ما يعكر صفو انسياب الماء في النهر سوى ما أحدثه طرد فوشيه نهائيا لازدياد نفوذه زيادة كبيرة· وقد تم تعيين سافاري بدلاً منه كوزير للشرطة وعاد فوشيه إلى إكس- أن- بروفانس Aix-en. Provence ليدبِّر للانتقام لنفسه· أما الأمور الخارجية فلم تكن بمثل هذه السهولة؛ فهولندا كانت في الغاية من الاستياء لفرض الحظر على السفن البريطانية· وفقدت إيطاليا صبرها لسوء معاملة نابليون للباباوية، وكان الإيطاليون يفخرون بأنهم مقر الباباوية، وكان ولينجتون Wellington يبني جيشاً في البرتغال ليغزو به أسبانيا· وفيما وراء الراين كانت الدول الألمانية الخاضعة لحكم بونابرت متذمرة من الأعباء الضريبية في انتظار بعض الحماقات الإمبراطورية لتعود مرة أخرى لحكم سادتها السابقين الأكثر ملائمة لها·
ومع هذا فقد كانت ماري لويز حاملاً وكان الإمبراطور السعيد يَعُد الأيام لوضعها هذا المولود· وعندما اقترب الحدث أحاطه بكل الطقوس الاحتفالية ذوات المهابة التي كانت تصاحب - تقليدياً - ميلاد طفل من البوربون، فجرى الإعلان إنه إن كان المولود طفلة فستسمع واحداً وعشرين طلقة مدفع تحية للمولودة أما إن كان المولود ذكراً فستستمر الطلقات إلى مئة وواحد· وكانت عملية الوضع شاقة جدا، فقد (أراد) الجنين أن يأتي للعالم بقدميه أولا، وقال الدكتور كورفيزار Corvisart لنابليون إنه إما أن يضحي بحياة الأم أو بحياة الوليد، فقيل له أن ينقذ الأم مهما كان الأمر ·(ملحق/494)
واستخدم طبيب آخر أدوات ليعكس وضع الجني، وأصبحت ماري لعدة دقائق قريبة من الموت· وأخيراً (وافق) الجنين على الظهور برأسه أولاً، وعاش الطفل والأم (20 مارس 1811) ودوَّت مائة طلقة وطلقة معلنة لباريس ميلاد ذكر، وانتقل الخبر سريعاً في سائر أنحاء فرنسا، ولم يكن في أوروبا كثيرون يستكثرون على الإمبراطور هذه السعادة· فقد أرسل كل حكام أوروبا تهانيهم للأب الذي طال انتظاره لوليد ولمن تم إعلانه بالفعل ملك روما والآن ولأول مرة منذ بدأ مهامه أصبح يمكن لنابليون أن يحس بالطمأنينة بدرجة معقولة فقد أسس أسرة حاكمة يأمل أن تكون عظيمة مفيدة كالأسرات الحاكمة المعروفة بهذه الصفات في التاريخ، وربما أمكنها أن تجعل من أوروبا كياناً واحداً·(ملحق/495)
الفصل العاشر
عن نابليون
1 - الصفات البدنيّة
يجب ألا نتصور نابليون كما رسمه جروس Gros في سنة 1796 - يحملُ علماً في إحدى يديه وسيفاً مُشهراً في يده الأخرى بزيه المزخرف بالأحزمة الملونة والشارة الرسمية للسلطة، وشعره الكستنائي الهائج بفعل الرياح، وعينيه وحاجبيه وشفتيه المضمومتين بما توحيه هيئة كل هذه الأعضاء من عزم وتصميم· إن هذا التصور أبعد ما يكون عن الحقيقة· ويُقال إن جروس قد رآه - عندما كان أصغر بعامين من بطله (نابليون) البالغ من العمر سبعة وعشرين عاما - يغرس العلم على جسر أركول Arcole، لكن ربما كانت اللوحة التي رسمها تمثل حبا شديداً مفعماً بالحماسة· إنه الفنان عندما يتعبّد في محراب رجل الانجازات·
ومع هذا فإن جوري Guerin عندما رسم نابليون بعد ذلك بعامين مُبرزا في الأساس الملامح نفسها: شعرٌ متدلّ على الجبهة والكتفين، حاجبان مقوّسان على عينين داكنتين ثابتتين، وأنف مستقيم مدبّب حاد كإرادته، وشفتان مزمومتان عازمتان كعقله· هذا التصور - أيضاً - ليس إلاَّ جانباً واحداً من جوانب شخصية الرجل (نابليون) - شخصية الرجل العسكري، فهناك جوانب أخرى كثيرة يمكن أن تُخفف من حدة هذه القسمات - كصورته وهو يشد أُذُنَيْ سكرتيره مداعباً أو صورته وهو ينحني بشوق أبوي على الطفل ملك روما King of Rome·(ملحق/496)
وبحلول سنة 1802 قص خصلات الشعر الطويلة هذه كلها فيما عدا خصلة واحدة تركها تتدلى على جبهته غير البارزة، وبعد الأربعين بدا متثاقلاً واعتاد أحياناً أن يضع يده على كرشه، وعادة ما كان يعقد يديه خلف ظهره خاصة أثناء المشي، وقد ترسخت فيه هذه العادة حتى أنها كانت تكشف شخصيته في الحفلات التنكرية· وطوال حياته كانت يداه تجذبان الانتباه بجمال بشرتهما واكتمالهما وأصابعهما المستدقّة، والحق أنه كان فخوراً تماماً بأطرافه الأربعة، وعلى أية حال فإن لاكاس Las Cases الذي كان يظنه واحداً من الأرباب لم يستطع أن يمنعنا من الابتسام سخرية عند رؤية هاتين اليدين الوسيمتين ·
لقد كان بشكل عام قصيراً بشكل مفرط إذ لا يزيد طوله عن خمسة أقدام وست بوصات، أما روح القيادة فتتجلى في عينيه، فالكاردينال كابرارا Caprara الذي أتى للتفاوض بشأن الاتفاق البابوي (الكونكوردات Concordat) وضع على عينيه عدستين خضراوتين كبيرتين ليخفِّف بهما وهج عيني نابليون وحملقته· والجنرال فاندام Vandamme يعترف بخوفه من أثر عيني نابليون الشبيه بأثر التنويم المغناطيسي· يقول: "هذا الشيطان الآدمي يمارس معي سحراً يجعلني غير قادر على التعبير عمّا في نفس، ورغم أنني لا أخاف الله ولا الشيطان، فإنني أخشاه (نابليون) لدرجة أنني أرتعد كالطفل عندما أكون في حضرته وهو يستطيع أن يجعلني أمرق من سَمِّ الخياط (من ثقب الإبرة) لألقي نفسي في النار وكانت بشرة الإمبراطور شاحبة"،
إلاّ أنها - على أية حال - كانت تتألق بسبب حركات عضلات وجهه التي تعكس - إن أراد - أي خلجة من مشاعره أو فكرة من أفكاره· وكان رأس نابليون كبيراً بالنسبة لجسمه، لكنه كان ذا تكوين حسن، وكانت كتفاه عريضتين، وصدره بارزاً يَنُم عن بنية قوية· وكان لباسه بسيطا تاركاً أبهة الملبس لمارشالاته، ولم يكن في قبعته المعقدة التكوين والمنتشرة كالكعكة المطوية أية زينات خلا الشريط المثلث الألوان·(ملحق/497)
وعادة ما كان يلبس معطفاً رمادياً فوق الزى الرسمي لكولونيل من حراسه· وكان يحمل صندوق نشوق يضعه في حزامه (النطاق الذي يلفّه حول وسطه) ويستعمل ما به من نشوق snuffbox ( سعوط) بين الحين والآخر، وكان يفضّل ارتداء البنطلون القصير (الشورت) والجوارب الحريرية الطويلة على البنطلون الطويل· ولم يتحلّ أبداً بالجواهر، لكن حذاءه كان محفوفاً بالحرير وإبزيم من ذهب· لقد كان في ملبسه ينتمي إلى ما كان سائداً أثناء حكم ما قبل الثورة، تماماً كما جنحت فلسفته السياسية الأخيرة إلى المنحى نفسه (منحى ما كان سائداً قبل الثورة) ·
لقد كان نابليون منظماً دقيقاً إلى درجة الوسوسة · وكان يحب كثيراً الاستحمام بالماء الدافئ وأحياناً كانت تستغرق فترة استحمامه ساعتين، وربما كان يجدُ في هذا راحة له من التوتر العصبي وآلام العضلات، وراحة لجلده بعد إصابته بداء الحكَّة أو الهرش الذي انتقلت إليه عدواه في طولون وكان يضع الكولونيا (العطر الكحولي المعروف) على رقبته وجذعه كما كان يضعه على وجهه · وكان معتدلاً بدرجة كبيرة في طعامه وشرابه إذ كان يخلط النبيذ بالماء كالإغريق القدماء وكان غذاؤه يستغرق عشر دقائق أو خمس عشرة دقيقة لا غير· وفي المعارك كان يأكل إذا سنحت الظروف، وغالبا ما كان يلتهم طعامه في هذه الظروف بعجلة، وكان هذا يسبب له أحياناً عُسر هضم، وكان هذا غالباً ما يحدث في أكثر اللحظات حرجاً كما حدث له في معركتي بورودينو Borodino وليبزج Leipzig·
وكان يعاني من الإمساك وصحب ذلك في سنة 1797 داء البواسير الذي زعم أنه داواه بإجراء عملية نزف · لقد قال مينيفال Meneval:
" إنني لم أره مريضاً أبداً" ولكنه أضاف "إلاّ أنه فقط، كان عُرضة بين الحين والحين لنوبة قيء لا تترك أبداً آثاراً بعيدة المدى··· وكان يخشى - لفترة - أن يكون قد أُصيب بداء وهن المثانة dysuria لأن هواء الجبال الشديد سبّب له نوعاً من عُسر البول لكن اتضح أن هذا الخوف بلا أساس"·(ملحق/498)
وعلى أية حال، فهناك أدلّة قوية على أن نابليون أُصيب في أواخر حياته بالتهاب في جهازه البولي · وكانت أعصابه ذوات الحساسية المفرطة تنهار (كما حدث في مينز Mainz في سنة 1806) ليصير في حالة تشنج يشبه نوبات الصرع، لكن هناك اتفاقاً عاماً الآن أنه لم يكن مصاباً بداء الصرع ·
لكن ليس هناك اتفاق كهذا فيما يتعلق بمعدته، فقد أخبر لاكاس Las Cases في 16 سبتمبر سنة 1816 إنني لم أُصب أبداً بالصداع ولا بآلام في معدتي وقد أيّده مينيفال في قوله هذا لم أسمعه أبداً يشكو من آلام في معدته وعلى أية حال فقد قرّر بوريين أنه:
"رأى نابليون أكثر من مرة يشكو من آلام في المعدة حتى أنني كنت أصطحبه إذا ما اعترته نوبة آلام المعدة إلى غرفة نومه، وكنت غالباً ما أضطر لمعاونته وسنده مخافة وقوعه"·
وفي وارسو (فارسافا) في سنة 1806 بعد أن اجتاحته آلام عنيفة في المعدة، تنبّأ بأنه سيموت بالمرض نفسه الذي مات به أبوه - سرطان المعدة · ولقد اتفق الأطباء الذين شرحوا جثته في سنة 1821 أنه كان مصاباً بمرض في المعدة يبدو ذا طبيعة سرطانية· وأضاف بعض الدارسين إصابته بالسيلان gonorrhea والزهري syphilis ( السيفلس) ذاكرين أن آثار المرضين ظلت معه حتى آخر حياته ·
وقد رفض نابليون أن يعالج اعتلاله الجسدي بالدواء وكان يؤمن بالحاجة إلى الجراحة فهي السبيل التي عادة ما كانت تستخدم مع الجنود الجرحى، أما الأدوية (العقاقير) فكان لا يثق فيها لآثارها الجانبية (لما تُحدثه من ضرر يفوق ما تقدمه من شفاء) وكان يفضّل إذا ما مَرِض أن يُعالج نفسه بالصوم وشرب ماء الشعير وعصير الليمون والماء الذي نقعت به أوراق البرتقال وممارسة رياضة عنيفة تؤدي لإفراز العرق، ثم يترك بدنه يشفي نفسه بنفسه·
وقد ذكر لاكاس أن: "الإمبراطور لا يذكر أنه تداوى في أي وقت بالعقاقير لكن ذاكرة الإمبراطور كانت في هذا الوقت تجنح للنسيان (كان النسيان يريحه) "·(ملحق/499)
وقد تحدث نابليون للطبيب نورثمبرلاند S. S. Northumberland وهو في الطريق إلى سانت هيلينا قائلاً: "اسمع يا دكتور· إن الجسد البشري كآلة مهيّأة لتحقيق أغراض الحياة، لقد نُظّم لتحقيق هذه الغاية - تلك هي طبيعته· اترك الحياة على سجيتها واترك هذا الجسد يعتني بنفسه، فهذا أفضل من أن تَشُلَّه بتحميله أعباء الأدوية "·
ولم يتعب نابليون من إزعاج طبيبه الأثير كورفيزار Corvisart بحديثه عن عدم جدوى الأدوية حتى استطاع أخيراً أن يجعله يتَّفق معه على أن الأدوية تُحدث من الأضرار أكثر مما تحدث من الفائدة · ومازح نابليون طبيبه الأخير فرانسيسكو أنتومارشي Antommarchi بأنه:
"سأله عمّن سيحاسب يوم القيامة عن قتل أكبر عدد من البشر أهم الجنرالات أم الأطباء"·
ورغم اعتلاله الجسدي فقد كان لديه طاقة هائلة لم تتخل عنه أبداً· وكان العمل معه لا يعني أبداً البطالة المقنّعة، فلا مجال لبيروقراطية زائفة ومناصب بلا عمل، بل لقد كان العمل معه غالباً ما يؤدي إلى الموت البطيء (لكثرة الإرهاق) فكم من موظف (مسئول) فخور استنفذ كل طاقته وغدا مرهقاً تماما بعد خمس أو ست سنوات من ملازمة الإمبراطور الذي تتطلب ملازمته أن يكون المرء لاهثا دوما· وقد اعتبر أحد موظفيه نفسه أنه محظوظ لعدم وجود مقر عمله في باريس لو كنت في باريس لوافتني المنية قبل انصرام الشهر بسبب الارهاق·
لقد قتل نابليون بالفعل بورتالي Portalis وكريت Cretet ( المقصود قتلهم لكثرة ما أوْكل إليهم من أعمال ومهمات) ويكاد يكون قد قتل أيضاً تريلهار Terilhard - رغم قوّة بنيته - لقد كان تريلهار - كالآخرين - لا يستطيع التبوّل وقد قال نابليون إن الرجل المحظوظ هو الذي اختفي بعيداً عن عينَّي في عمق إحدى المحافظات وعندما سأل نابليون لويس - فيليب دي سيجور Louis-Philippe de Segur عما سيقوله الناس عنه بعد موته أجاب سيجور قائلاً:
"إن العالم كله سيعبّر عن أسفه"، لكن نابليون أجاب مصحّحاً: "عفواً، إنهم سيقولون: أفٍ، لقد ارتحنا سيقولونها بارتياح عميق وعلى مستوى العالم "·(ملحق/500)
لقد أرهق نفسه كما أرهق غيره فقد كانت طاقته أقوى من بدنه· لقد ملأ في عشرين سنة أحداثاً تكفي لقرن لأنه كان يكثّف عمل الأسبوع ليجعله في يوم واحد· لقد كان يأتي إلى مكتبه في حوالي الساعة السابعة صباحاً، ويتوقع أن يكون سكرتيره مستعداً للحضور في أي وقت· لقد كان يقول لبوريين: "تعالَ، دعنا نذهب للعمل". وقال لمينيفال: "كن هنا في الساعة الواحدة ليلاً أو الرابعة صباحاً، لنعمل معاً", وكان يحضر اجتماعات مجلس الدولة ثلاثة أيام أو أربعة كل الأسبوع، وقال للمستشار روديريه Roederer: " إنني - دائماً - أعمل· إنني أعمل وأنا أتناول غدائي، وأنا في المسرح، بل إنني أقوم في منتصف الليل لأعمل"·
وقد نتصوّر أنه لم يكن يجد وقتاً للنوم في ظل هذه الأيام الممتلئة عملاً وإثارة، لكن هذا غير صحيح فبوريين يؤكد لنا: "أن الإمبراطور كان ينام جيداً، ولمدة كافية - سبع ساعات أو ثمان ليلاً بالإضافة إلى إغفاءة بعد الظهر", وكان يفخر قائلاً للاكاس: "إنني أستطيع النوم في أي ساعة وفي أي مكان إذا دعت الحاجة", وقد وضَّح نابليون شارحاً أنه يحتفظ بأمور كثيرة مختلفة مرتبة في عقله أو ذاكرته كما لو كانت في أدراج خزانة
"فعندما أرغب في ترك موضوع أغلق الدُّرج الذي به هذا الموضوع لأفتح آخر به موضوع آخر··· وإذا أردت النوم أغلقت كل الأدراج عندها أنام حالاً" ·
2 - عقله
كان جوته Goethe يظن أن عقل نابليون هو أعظم عقل أنجبته البشرية · واتفق معه لورد أكتون Acton في ذلك الرأي· أما مينيقال Meneval الذي كان متأثراً بقربه من السلطان والشهرة فقد نسب إلى سيده (نابليون) أرقى فكر مُنِحَهُ بشر على الإطلاق · أمّا تين Taine المعارض الشديد للمبالغين في الإعجاب بنابليون، والذي لا يكل ولا يمل من شجب موقفهم، فإنه رغم هذا يُبدي دهشة شديدة من قدرة الإمبراطور على العمل الفعلي المكثف لفترة طويلة:
"ليس هناك أبداً عقل كعقله من حيث التنظيم والانضباط دعونا نوافق على أن عقل نابليون كان من بين عقول كل من تبوّأ منصباً تنفيذياً هو العقل الأكثر إدراكاً ووعياً وحدّة وقدرة على التذكر وبراعة في استخدام المنطق"·(ملحق/501)
لقد أحبّ أن يُشير لنفسه كعضو في المجمع العلمي الفرنسي وقد عبّر ذات مرّة للابلاس Laplace عن أسفه لأن الظروف قد أبعدته كثيراً عن مجال العلم فقد كان يوّد أن يشتغل به ليكون عالما ففي تلك اللحظة كان نابليون يقدّر الرجل الذي يضيف للفهم البشري تقديراً يفوق تقديره لمن يستحوذ على مزيد من السلطة وعلى أية حال، يمكننا أن نسامحه لاحتقاره أيديولوجية المعهد العلمي الفرنسي الذي أساء فهم الأفكار فظنّها هي نفسها الحقائق الموجودة على أرض الواقع، وراح (أعضاؤه) يشرحون أوضاع العالم (أو الكون) واقترحوا أن يعرضوا عليه كيفية حكم فرنسا·
لقد كان عقل نابليون يُعاني من عيوب الخيال الرومانسي، لكنه أيضاً كان يتعامل مع حقائق حية من لحم ودم من خلال احتكاكه اليومي بمثيرات واقعية· لقد كان نشاطه العقلي الدائم على أعلى مستوى يمكن أن يكون عليه رجل الدولة وقد وظّف هذا النشاط العقلي لتحقيق أهدافه بشكل دائم فأصبح جزءاً لأغنى عنه في أي عمل يقوم به·
لقد كان نابليون - في المقام الأول - حاد الحواس، بل لقد كان يعاني من هذه الحدة، فقد كانت أُذناه تلتقط كل شاردة وواردة أو بتعبير آخر كانتا تسمعان حتى الأصوات الخافتة، وكان أنفه حسّاساً يجيد الشّم (كان شمّاماً) وكانت عيناه تخترقان ما هو ظاهر لتتغلغل للأعماق، وتستبعد ما هو عارض لتستجلي المعنى واضحاً لا شِيَةً فيه· وكان محباً للاستطلاع وجّه آلاف الأسئلة، وقرأ مئات الكتب ودرس الخرائط والتواريخ وزار المصانع والمزارع، واندهش لاكاس Las Cases لاتساع دائرة اهتماماته واتساع مجالات معرفته عن البلدان والقرون·(ملحق/502)
لقد كان يمتلك ذاكرة قوية أخضعها لطبيعة أغراضه فتخيّر لها ما يفيده· لقد كان يعلم ما يجب عليه نسيانه وما يجب عليه إبقاءه حياً في ذاكرته· لقد كان منظَّما؛ إذا كان يرتب رغباته بشكل موحّد وطبقي (نظامي) بشكل واضح ومباشر ليجعل أفكاره وسياساته وطريقة حكمه تسير في كُلٍ متكامل لتحقيق هذه الأغراض· لقد كان يطلب من مساعديه تقارير وتوصيات تتضمّن أهدافاً محدّدة ومعلومات حقيقية وإجراءات تنفيذية ونتائج محسوبة لا مجرد كتابات بليغة وأفكار مثالية تدعو للإعجاب· وكان يدرس هذه المادة التي تقدمها التقارير والتوصيات في ضوء خبرته وأهدافه ومن ثم يُصدر تعليمات قاطعة ودقيقة· ولا نعلم لحكومته نظيراً في التاريخ من حيث الإعداد الدقيق المنظم لمثل هذه الإدارة الدقيقة المنظمة· فمع نابليون أسلمت الحرية قيادها لدكتاتورية النظام·
وكان بتحويله مذكراته إلى توقعات ماهراً في حساب نتائج الاستجابات المحتملة، وفي التنبؤ بخطط أعدائه وتحركاتهم، فمن أقواله:
"إنني أقضي وقتاً طويلاً في التأمل والتفكير، فإذا كُنت نداً لموقف مستعداً لمواجهته إذا حل وقت المواجهة، فما هذا إلا لأنني قد فكرت في الأمر كثيراً قبل حدوثه··· لقد كنتُ أُعد لكل احتمال عُدّته واضعاً في الاعتبار كل ما يمكن أن يحدث· لم يكن الجنّي [ djinn] هو الذي يُلهمني فجأة بما يجب عليّ فِعله أو قوله·· وإنما هو تفكيري"
ومن ثم فقد وجدناه يستعد - واضعاً في اعتباره التفاصيل - لمعركة مارينجو Marengo وأوسترليتز Austerlitz وتنبّأ لا بالنتائج فحسب وإنما بالوقت الذي ستستغرقه كل معركة منهما· وفي قمة ازدهاره (1807) كان قادراً على الاحتفاظ برؤيته واضحة لا تشوِّش عليها رغباته· لقد حاول أن يدرس الصعوبات المتوقعة والمفاجآت التي يمكن حدوثها، وما قد يقوم به أعداؤه من مجازفات، وذلك ليستعد لمواجهتها:
"عندما أُخطط لمعركة فلا يمكن أن يكون هناك من هو أكثر جُبناً مني· إنني أُضخّم أمام عيني كل خطر يمكن أن يحدث في ظل ظروف المعركة" ·(ملحق/503)
لقد كان مبدأه الأول في حالة حدوث أمور طارئة غير متوقّعة هو مواجهة العدو حالاً وبأقصى سرعة مهما كان الوقت؛ نهاراً أم ليلاً· وكانت تعليماته الدائمة لبوريين Bourrienne ( سكرتيره): "لا توقظني من نومي إن كان لديك أخبار طيبة تريد أن تُفضي بها إليّ، ففي هذه الحال لا مبرّر للعجلة، لكن إن كان لديك أخبار سيئة فأيقظني على الفور، ففي حال الأخبار السيئة يجب ألاّ نُضيّع لحظة واحدة".
وقد اعترف نابليون أنه رغم كل هذا الاحتياط وبُعد النظر إلاّ أنه فوجئ ببعض الأحداث غير المتوقعة لكنه كان يتباهى بقدرته على التفكير الواضح والعمل الحاسم والمؤثر عقب استيقاظه من نومه فجأة وقد حاول أن يُحصِّن نفسه ضد المفاجأة وأن ينتهز المناسبة بسرعة، وكان يكرر دوماً قوله: "ليس هناك إلاّ خطوة واحدة بين النصر والهزيمة" ·
وكان حُكمه على الرجال عادة عميقاً كحساباته للوقائع والأحداث، فلم يكن ينخدع بالظواهر أو الاحتجاجات، فشخصية المرء - فيما يرى - "لا تظهر على وجهه إلاّ إذا صار كبير السن، وغالباً ما يُخفى الحديث بالقدر الذي يُفصِحْ"· لقد أخضع نابليون نفسه للدراسة على نحو متواصل وخَلُص إلى أن: "كل الرجال وكل النساء تحرُّك مصالِحُهم الذاتية أفعَالهم الواعية"· ومع أنه - أي نابليون - قد حظي بإخلاص شديد مجرّد من المصالح الذاتية (من ديزيه ولان ومينيفال ولا كاس ··· from Desaix, Lannes, Meneval, l'Empereur!) ومن أولئك الجنود الذين كانوا يهتفون وهم يحتضرون: عاش الإمبراطور) إلاّ أنه لم يستطع أن يتخيّل وجود هذا النوع من الإخلاص الذي لا ينطوي على مصالح ذاتية أو بتعبير آخر لم يستطع أن يُقنع نفسه بوجود شيء اسمه إنكار الذات فوراء كل كلمة وخلف كل فعل مَدْروس مقصود لم يكن يرى سوى سيطرة الأنا سيطرة لا تهمد - طموح الرجال الأقوياء وخوف الرجال الضعفاء، وتفاهة النساء أو خِداعهن· لقد كان نابليون يبحث في كل شخص عن العاطفة المتحكمة فيه أو نقطة ضعفه، ليلعب على أوتارها ويطوّعها لأغراضه الإمبراطورية·(ملحق/504)
ورغم كل حيطته وحذره وتوقعاته إلا أنه وقع في أخطاء متباينة تبايناً شديداً (لم يدرك فحوى بعض الأحداث إلاّ بعد وقوعها) سواء فيما يتعلق بحُكمه على الرجال أم بتقويم النتائج وحسابها· وربما كان يعرف أن جوزيفين لا يمكن أن تتحمّل شهراً من العِفّة (لا يمكن أن تصون عفّتها لمدّة شهر) وإن ماري لويز لا يمكن أن تَشُد النمسا إلى السلام· وكان يظن أنه أسعد القيصر اسكندر في تليست وإيرفورت بينما كان القيصر يخدعه ببراعة بمساعدة تاليران·
لقد أخطأ بتوسيع نطاق العداوة لبريطانيا في سنة 1802 بمد سلطانه - بجسارة - على بيدمونت ولومبارديا وسويسرا· وقد أخطأ عندما نصَّب إخوته على عروش أكبر بكثير من عقولهم، وأخطأ عندما تصوّر أن الدول الألمانية في كونفدرالية الرَّاين ستخضع للسلطة الفرنسية ولن تفلت منها إذا واتتها الفرصة، وأخطأ بنشره وثيقة تُظهر نواياه في غزو تركيا، وأخطأ (كما اعترف في وقت لاحق) بتشتيت جيشه الأساسي (الجيش العظيم Grand Army) في أسبانيا· وأخطأ بغزوه روسيا الشاسعة أو ببقائه فيها حتى اقتراب الشتاء· ومع أنه كان متفوقاً على كثيرين إلاّ أنه كان كطبيعة الأشياء - كما قال - عرضة للمفاجآت ولأوهان المرض وتناقُص السلطة· لقد قال:
"لقد فكرت في كثير من الخطط لكنني لم أكن أبداً حراً مطلق اليد في تنفيذ واحدة منها· فكل ما في الأمر أنني كُنت أمسك المِقْوَد (الموِّجه) بيد ثابتة قوية، لكن الأمواج كانت أقوى، الحقيقة أنني لم أكن أبداً سيّد نفسي، لقد كانت الظروف دائما هي التي تحكمني "·(ملحق/505)
وعلى سبيل التخيّل أذكر الآتي· لقد كانت روح نابليون ساحة معركة بين ملاحظة حادة تضيء طريق العقل وتبث الحياة في خيال تتوجه الرومانسية أو حتى الخرافة · فعندما ذهب بحملته إلى مصر أخذ معه كثيراً من كتب العلوم وكثيراً من الكتب العاطفية أو الخيالية ومنها كتاب روسو " La Nouvelle Heloise" وكتاب جوته " Werther" وكتاب ماكفرسون Macpherson "Ossian" وقد اعترف نابليون - في وقت لاحق - أنه قرأ كتاب جوته ( Werther) سبع مرّات، وفي خاتمة المطاف خَلُص بأن الخيال يحكم العالم وعندما أوصلته الظروف إلى مصر استغرق في أحلام الاستيلاء على الهند وخوض الحروب في الشام، وتصوّر نفسه يغزو القسطنطينية بحفنة رجال ومن ثم يتجه إلى فيينا وكأنه سليمان الذي لا يُقهر (القانوني) بُعث من جديد ولأن القوة والسلطة قد طردتا الحذر من دمه، فقد تجاهل تحذير جوته (التحذير المعروف بالتوقف في الوقت المناسب Entsagen) · لقد كانت نجاحاته المتوالية تتحدّى الأرباب، وتتمرّد على أي حدود، وفي خاتمة المطاف وجد نفسه منبوذاً بلا عون مقيّداً إلى صخرة في المحيط·
3 - شخصيته
لقد بدأ كبرياؤه أو اعتداده بنفسه من اكتفائه بذاته أو بتعبير آخر باعتماده على نفسه، كان من الطبيعي أن يرتبط هذا بكل أعضائه، ففي شبابه تضخّم هذا الشعور متخذاً شكلاً دفاعياً أثناء الصدامات التي جرت بينه وبين أفرادٍ أو أسرات في كورسيكا، وبعد ذلك تجلّى ضد عجرفة طلبة برين Brienne الذين كانوا يتكبّرون عليه بحكم انتماءاتهم الطبقية أو العرقية· ولم يكن اعتداده بنفسه على أية حال خالياً من الأنانية، لكن هذا لم يمنع إخلاصه وتكريمه لأمه ولجوزيفين Josephine وأبنائها ولم يمنع حبه لابنه من ماري لويز ذلك الوليد الذي أطلق عليه اسم ملك روما وحبّه الشديد لإخوته وأخواته الذي كانوا أيضاً ذوي نفوس تواقة· لكن كلما اتَّسعت دائرة نجاحاته في السلطة والمسؤوليات، ازداد اعتزازه بنفسه واستغرقته ذاته، وبدأ يميل لنسبة كل انتصارات جيوشه لنفسه، لكنه مع هذا كان يمتدح ديزيه ولان Lannes، وقد أحبهما حقاً وحزن من أجلهما· وأخيراً فقد اعتبر نفسه هو فرنسا ذاتها وتضخّمت ذاته مع كل اتساع لحدودها·(ملحق/506)
وأحياناً كان كبرياؤه ووعيه بقدرته يتدنَّيان إلى مستوى من التفاهة أو الخواء، أو استعراض ما أنجزه· لقد قال يوماً لسكرتيره بورين: "حسناً يا بورين، أنت أيضاً ستكون خالداً", فلما سأله بوريين: "لماذا يا جنرال", قال نابليون: "ألست سكرتيري؟ , أخبرني عن اسم سكرتير الاسكندر أليس هو هم Hm، هذا ليس أمراً سيئاً يا بورين "· وكتب نابليون ليوجين (حامل لقب نائب الملك في إيطاليا) في 14 أبريل سنة 1806: "إن شعبي الإيطالي يجب أن يعرفني جيداً بشكل كاف ويجب ألا ينسى أن في إصبعي الصغير من الفهم أكثر مما في عقولهم جميعاً".
وكان الحرف الأول من اسمه ( N) يتألق في آلاف الأماكن وكان أحياناً يقترن بالحرف الأوّل من اسم زوجته جوزيفين ( J) · لقد شعر الإمبراطور أن الاستعراض مسألة ضرورية كدعامة من دعامات الحُكم·
لقد أعلن لروديريه Roederer في سنة 1804 عندما كان جوزيف (يوسف) يحتال ليكون وريثاً (ولياً لعهد نابليون): "إن السلطة هي خليلتي أو رفيقتي· لقد بذلت جهوداً فائقة في هذه الفتوحات، جهوداً تجعلني لا أسمح لأيٍّ مهما كان أن يأخذها مني أو يُبعدها عني أو حتى يرنو إليها أو يشتهيها·· منذ أسبوعين لم أكن مصمماً على معاملته بظلم· أما الآن فإنني غير متسامح· سوف ابتسم له بشفتي (ابتساماً ظاهرياً) - لكنه نام مع رفيقتي أو خليلتي (يقصد السلطة) ", (هنا أظهر نابليون نفسه غير عادل· لقد كان عاشقاً غيوراً لكنه كان رجلاً متسامحاً) ومن أقواله: "إنني أحب السلطة كما يحب الموسيقيُّ كمانه".(ملحق/507)
لذا فإن طموحهُ قد أدى به إلى وثبات متتالية من منطقة إلى أخرى· لقد كان يحلم بمنافسة شارلمان في توحيد أوروبا الغربية بما في ذلك الولايات البابوية - بالقوة، ومن ثم يتتبع خطى قسطنطين Constantine فيخرج من فرنسا إلى ميلان ومنها إلى القسطنطينية (اسطنبول) ليستولي عليها، ويشيد أقواس النصر التقليدية لإحياء ذكرى انتصاراته، ويستمر في أحلامه فيجد أوروبا صغيرة جداً، وأنها مجرّد تل من تراب، فيشرع في منافسة الإسكندر الأكبر فيغزو الهند، قد يكون هذا عملاً شاقاً له وللمليون جندي التابعين له، لكن العظمة ستكون عِوَضاً كافياً له ولهم عن هذا التعب، وإن أدركهم الموت فلا بأس فهذا ليس ثمناً باهظاً فالموت ليس مأساة، وإنما المأساة أن تعيش مهزوماً تافهاً، فتلك حياة تعني أنك تموت كل يوم إنني لا أعيش إلاّ للأجيال القادمة· لقد أصبح المجد هو حبّه المهيمن، لذا فقد قبلته فرنسا كلها - تقريباً - كمرشد (باعتباره نجماً هادياً) طوال عقد من الزمن، وكأنها مسوقة بقوى التنويم المغناطيسي·
لقد تابع تحقيق أهدافه بإرادة لا تلين إلاّ لتقفز من جديد - حتى استنفذ طاقاته في بلوغ الذروة وأصبح بعدها جديراً بالشفقة· لقد توحّد طموحه الذي لا يهمد مع إرادته وتوجهاته ليتفاعل مع جوهر أيامه، ففي برين قال: "حتى عندما لم يكن أمامي شيء محدد لأقوم به، فإنني كنت أشعر دائماً أنني لا يجب أن أضيع الوقت", وإلى جيروم Jerome في سنة 1805 وجه حديثه قائلا: "إنني لا أدين إلاّ لقوة الإرادة والشخصية والقدرة على التنفيذ والجسارة", فالجرأة كانت جزءاً من إستراتيجيته، وكان يستغل عامل الوقت فكان يواجه عدوه بسرعة إجراءاته، وأفعاله الحاسمة في وقت لا يتوقَّعونه وفي مكان لا يتصوَّرون حدوث المواجهة فيه· لقد كان يقول: "إن هدفي هو الوصول للهدف مباشرة دون أن أسمح لأي اعتبار أن يوقفني"،
لكنه استغرق عقداً من الزمن ليتعلم الحكمة القديمة التي مؤداها أنه في السياسة يعتبر الخط المستقيم هو أطول مسافة بين نقطتين·(ملحق/508)
وفي بعض الأحيان كان الهوى يُفسد أحكامه ومسلكه ويُشكل حاجزاً بينه وبين الرؤية الصحيحة· وكان نفاذ الصبر (قصير البال كما أنه قصير البدن)، وكلما اتّسع سلطانه زاد نفاذ صبره (قلّ طول باله) · لقد كانت ضراوة أهل كورسيكا وحرارتهم تسري فيه مسرى الدم، ورغم أنه عادة ما كان يتحكم في نفسه إذا ما اعتراه الغضب إلاّ أن أولئك المحيطين به بدءاً من جوزيفين إلى حارسه الشخصي القوي روستام Roustam كانوا يتحوّطون في كل كلمة وكل حركة مخافة إثارة سخطه·
وكان نافذ الصبر إذا ما ظهر له تناقض أو توان أو عدم كفاءة أو غباء· وعندما ينفذ صبره لأمكن أن يوبّخ علناً أحد السفراء، وأن يسبب أحد الأساقفة وأن يركل فيلسوفاً في بطنه، وإذا لم يتوفر له ما هو أفضل ركل الأخشاب في المدفأة · ومع هذا فقد كان غضبه يخمد بمجرد تفريغ شحنته، وغالباً ما كان هذا الغضب غطاء أو حركة من حركات السياسة، وفي معظم الحالات كان يقوم بعملية استرضاء لمن صبَّ عليهم غضبه بعد يوم أو حتى بعد دقيقة · وقلّما كان فظَّاً إلى حد مؤلم، فهو في غالب أحواله رقيق مداعب فكهٌ (حاضر النكتة) لكن روح الفكاهة عنده قد أضعفتها المعارك وما تعرّض له من مواقف صعبة، ولم يُتح له وقت كثير لمسرّات أوقات الفراغ أو الانهماك في القيل والقال، أو ظُرف الصالونات· لقد كان رجلاً في عجلة دوماً تحيط به ثُلَّة من الأعداء، ويمسك بزمام إمبراطورية، ومن الصعب علي رجل في عجلة من أمره أن يكون متمديناً·(ملحق/509)
لقد استنفذ كثيراً جداً من طاقته في فتح نصف أوروبا، وتبقى منها - أي من هذه الطاقة - شطر كثير للانهماك في الأمور الجنسية على نحو منافٍ للعقل، وكان من رأيه أن كثيراً من أشكال الرغبة الجنسية يتم تعلّمها من خلال المعايشة البيئية أكثر من كونها مسألة مورثة فنجده يقول: "كل شيء بين الناس اصطلاحي أو متفق عليه حتى فيما يتعلق بالمشاعر التي قد يظن المرء أن الطبيعة وحدها هي التي فرضتها" لقد أمكنه أن يكوِّن له باقة من المحظيات علي النسق البوربوني بمعنى الكلمة لكنه تعامل أيضاً مع ستة خليلات أخريات على فترات بين المعارك، وكانت كل امرأة تُسعده لليلة تعتبر نفسها قد دخلت التاريخ، وعادة ما كان يُفشي أسرار لقاءاته الجنسية بفظاظة ويتحدث عن آخر شريكاته في الفراش ليس بامتنان وإنما بقسوة · وقد تسبَّب عدم إخلاصه في إزعاج جوزيفين لساعات طوال قضتها في كآبة وحزن، لكنه شرح لها الأمر (إن جاز لنا أن نصدّق مدام دي ريموزا Remusat) قائلاً:
"إن هذه التسالي وهذا الترويح عن النفس أمر طبيعي وضروري ومعتاد ولابد أن تتفهمه الزوجة، وكانت تبكي، وكان يُطيّب خاطرها، وكانت تسامحه · وفيما عدا ذلك فقد كان زوجاً صالحاً بقدر ما تسمح به مهامه وما تحتمه من تنقلات كثيرة"·
وعندما أتته ماري لويز Marie Louise قبل بمبدأ الاكتفاء بزوجة واحدة (على حد علمنا) ولو حتى يكوْن الزنا قد يتسبب في فقدانه النمسا، وتضاعف إخلاصه لها (لماري لويز) عندما أدرك ما تعانيه من آلام مبرحة وهي تضع له طفلاً· لقد كان دائما يُظهر حبه الشديد للأطفال وسجلت المدوّنة القانونية النابليونية لهم ما ينم عن عناية خاصة · والآن فقد أصبح ابنه الذي سماه ملك روما معبوده ومحبوبه ومَعْقِدَ آماله، فراح يعتني به لتوريثه حُكم فرنسا واهبة القوانين لأوروبا الموحدة ليحكمها بِحِكمة· وبذا تضخمت ذاته المتضخمة أصلاً بالانغماس في حب الزوجة والحب الأبوي (حبه لابنه) ·(ملحق/510)
لقد كان نابليون منشغلاً بالأمور السياسية انغماساً هائلاً لا يجعل له وقتاً لأصدقاء· بالإضافة إلى أن الصداقة تعني أخذاً وعطاء على قدم المساواة وقد وجد نابليون أنه من الصعوبة أن يُذعن لمساواته وقد وجد نابليون أنه من الصعوبة أن يُذعن لمساواته مع آخرين في أي شكل من أشكال المساواة· لقد كان هناك مخلصون أوفياء له ضحّى بعضهم بحياته فداء لمجده ومجدهم ومع هذا لم يكن أحدهم يفكر في أن يدعوه صديقاً· لقد أحبّه يوجين لكن حبّه له كان كحب الابن لأبيه أكثر منه كحب الصديق لصديقه، ويحكي لنا بوريين (وهو لم يكن جديراً بالتصديق تماماً) أنه سمع مراراً من نابليون في سنة 1800 قوله:
"الصداقة ليست إلاّ اسماً بلا مضمون· أنا لا أحبُّ أحداً· إنني حتى لا أحب إخوتي، ربما أحب جوزيف (يوسف) قليلاً بحكم التعوّد ولأنه أخي الكبير· وأنا أيضاً أحب دوروك Duroc··· اعلم جيداً أنه لا أصدقاء حقيقيين لي· فطالما أنني مستمر على ما أنا عليه، فإنه يمكنني أن احتفظ بعدد كبير من الأصدقاء الظاهريين (غير الحقيقيين) كما أشتهي· دع رقة الشعور للنساء، فتلك مهمتهن· لكن الرجال يجب أن يكونوا رابطي الجأش ذوي أهداف محددة، وإلا تخلّوا عن مهامهم في الحرب والحكم "·
تلك هي الحلقة النابليونية الرواقية لكن ليس من السهل أن نوفِّق بين هذا وإخلاص رجال مثل ديزيه ودوروك ولان ولاكاس وآخرين كثيرين دام إخلاصهم له طوال حياتهم· بل أن بورين نفسه يصدّق على أن نابليون كان رفيقاً رقيق المشاعر خارج نطاق المعارك ويوافق مينيفال الذي كان قريباً من نابليون طوال ثلاثة عشر عاما على ذلك فيقول:
"لقد توقّعت أن أجده فظاً متقلب المزاج، لكنني - على العكس من ذلك - وجدته صبوراً متسامحاً من السهل بعث المسرّة في نفسه، وهو بلا شك منضبط كما أنه مرح وكثيراً ما يتخذ مرحه طابع الجلبة وروح السخرية، وأحياناً يتخذ طابع الوداعة الجذابة·· فلم أعد خائفاً منه، ومما جعلني أستمر في حالة الاطمئنان إليه كل ما رأيته من أساليب مؤثرة وداعية للمسرّة كان يتَّبعها في تعامله مع جوزيفين وحرصه على الاخلاص لضباطه ورقته مع ذوي قرابته ومع مستشاريه ووزرائه وألفته مع جنوده "·(ملحق/511)
ومن الواضح أنه كان يستطيع أن يكون شديد البأس إذا ما رأى أن السياسة تتطلب هذا، كما كان يغدو لطيفاً رقيقاً إن سمحت السياسة بذلك، فالسياسة عنده تأتي في المقام الأول· لقد أمر بسجن رجال كثيرين ومع هذا فقد سجل التاريخ له كثيراً من مظاهر التسامح أوردها فريديريك ماسون Frederic Masson في مجلّده· واتخذ إجراءات لتحسين أحوال سجون بروكسل لكن أحوال السجون الفرنسية في سنة 1814 كانت سيئة لا تتناسب مع الكفاءة العامة التي اتسم بها حكمه· لقد رأى آلاف القتلى في ساحة المعركة ومع هذا لم يتردد في خوض معارك أخرى، ومع هذا فقد سمعنا أنه غالباً ما كان يتوقف لإتاحة فترة راحة لجندي جريح ورآه فيري كونستان (قستنطين) Very Constant يبكي أثناء تناول إفطاره بعد عودته من عند سرير المارشال لان Lannes الذي أصيب بجروح مميتة في إسلنج Essling في سنة 1809·
ولا جدال في سخائه واستعداده للعفو· لقد عفا كثيراً عن بيرنادوت وبوريين وعندما طلب منه كارنو Carnot وشينييه Chennier - بعد أن ظلاّ يعارضانه سنوات - أن ينقذهما من الفقر أرسل لهما - على الفور - ما يُعينهما· وفي سانت هيلانة التمس الأعذار لمن تخلّوا عنه في سنة 1813 أو سنة 1815· ولم يكن هناك إلاّ البريطانيون الذين ظل ممتعضاً منهم حتى النهاية بسبب عداوتهم المتواصلة له، فلم يكن يرى في بت Pitt سوى أنه مرتزق قاس، وكان غير منصف على نحو أبعد في رأيه في سير هدسون لو Hudson Lowe وكان من المحال عليه أن يرى ميزة في ولينجتون Wellington وكان عادلاً بدرجة كبيرة في تقويمه لنفسه: "إنني اعتبر نفسي رجلاً طيب القلب لقد قيل لنا أن الرجل مهما كان شأنه لا يمكن أن يعتبر بطلاً في نظر خادمه الخصوصي". لكن فيري كونستان Very Constant الذي ظل طوال أربعة عشر عاماً يعمل مع نابليون بهذه الصفة يسجل لنا في مذكراته التي شغلت عدة مجلدات إعجاباً يفوق الحد.(ملحق/512)
ولم يكن الذين نشئوا في رحاب الحكم القديم (ملكية ما قبل الثورة) وتشربوا عاداته الأنيقة ليتحملوا طريقة نابليون المباشرة الفظة في الحركة واللباس· لقد أثار سخرية مثل هؤلاء بمركبته التي يريد أن يؤكد بها ذاته على نحو أخرق، وبطريقته الخشنة في الحديث في بعض المناسبات· ولم يكن يعرف كيف يُرضي هؤلاء الناس ويبدو أنه لم يكن مهتماً بذلك فقد كان أكثر حرصاً على الجوهر منه على الشكليات:
"إنني لا أحب الغموض والإبهام وهذه العبارة السطحية التي تشير إلى الإيتكيت أو آداب المجتمع·· إن هذا إلاّ وسيلة الأغبياء ليرفعوا أنفسهم لمستوى رجال الفكر·· وعبارة الكياسة أو الذوق الحسن هي الأخرى من التعبيرات التقليدية التي لا تعني لي شيئاً·· أما ما يُقال له زِى أو مُوضة سواء كان حسناً أم سيئاً فلا يؤثر فيّ· إنني لا أهتم إلاّ بقوة الفكر"
وعلى أية حال فإنه كان يبدي إعجابه - على نحو سرّي بهدوء الرجال المهذبين ودماثتهم، وكان يتطلع لقبول الارستقراطيين له، أولئك الارستقراطيون الذين كانوا يسخرون منه في صالونات فابورج سان جرمين Faubourg St.-Germain · ومن ناحية فإنه بطريقته الخاصة كان يستطيع أن يكون جذاباً فاتناً عندما يريد ·
وربما يرجع رأيه السخيف في النساء إلى تسرعه في عدم الاهتمام بمشاعرهن، لقد أبدى ملاحظة لمدام شاربنتييه Charpentier قائلاً: "يا لبشاعة منظرك في هذا الرداء الأحمر! ". وجعل من مدام دي ستيل عدوّه له عندما ذكر لها أنه: "يُقدر النساء وفقاً لدرجة خصوبتهن" (قدرتهن على الإنجاب). وقد وبّخته بعض النسوة لفظاظته بلطف أنثوي، فعندما قال لمدام دي شيفريز Chevreuse: " صدقيني ما أشد حُمرة شعرك! " أجابته قائلة: "ربما كان الأمر كذلك يا سيدي، لكن هذه هي المرة الأولى على الإطلاق يقول لي رجل هذا القول" وعندما قال لذات الجمال المشهور: "مدام إنني لا أحب أن تتدخل النساء في السياسة"· أجابته إجابة مفحمة قائلة: "أنت على حق أيها الجنرال، لكن في بلد تُقطع فيه رؤوسهن، من الطبيعي أن يُردن معرفة السبب". ومع هذا فإن مينيفال الذي - غالباً - ما كان يراه كل يوم لاحظ جاذبية نابليون التي لا تُقام ·(ملحق/513)
وكان نابليون يحب في بعض الأحيان أن يكون حديثه على سبيل المزاح، وغالباً ما يكون ذلك مفيداً وموجها· وكان يدعو العلماء والفنانين والممثلين والكتاب لمائدته ويدهشهم بدماثته وسعة معلوماته في مجالات تخصصهم وبراعة ملاحظاته، وقد ترك لنا إيزابي Isabey رسام المنمنمات ومونج Monge العالم الرياضي وفونتين المعماري وتالما Talma الممثل مذكرات عن هذه اللقاءات، وجميعهم يشهدون بأن مناقشات نابليون معهم كانت ممتازة وودودة ومرحة ·
وكان كثيراً ما يُفضّل الحديث على الكتابة، فقد كانت أفكارُه تسبقُ كلامه لذا فعندما كان يريد كتابة أفكاره فإنه كان يكتبها بسرعة شديدة حتى أن أحداً - بمن في ذلك هو نفسه - لا يستطيع فك مغاليقها · لذا فقد كان يُملي، وقد تم نشر 41000 خطاب من خطاباته ولا شك أن آلافاً أخرى لم تنشر، وهذا يجعلنا نفهم مدى المعاناة التي كان يعانيها سكرتيروه· لقد نجا بورين الذي عُيّن سكرتيراً له في سنة 1797 وكان حسن الحظ إذ تم فصله من عمله في سنة 1802 وبذلك تمكن من العيش حتى سنة 1834، لقد كان بورين يتوقع أن يستدعيه نابليون في السابعة صباحا ليظل يعمل معه طوال النهار كما كان يستدعيه ليلاً· وكان بورين يُتقن عدة لغات حديثاً وكتابةً كما كان يعرف القانون الدولي، وكان له طريقته في الاختزال مما مكّنه عادة من الكتابة أسرع مما يُملي نابليون·(ملحق/514)
أما مينيفال الذي خلف بورين في سنة 1802 فقد كان يعاني من العمل مع نابليون أكثر من معاناة بورين فهو يقول: "إنني لم أكن أعرف أي نوع من أنواع الاختزال" وكان نابليون يحبه وغالباً ما كان يمزح معه لكنه كان يرهقه كل يوم غالباً وبعدها يطلب منه أن ينصرف ليأخذ حماماً · وقد ذكر الإمبراطور وهو في سانت هيلينا: "إنني مسئول تقريباً عن موت مينيفال· لقد كنت ملزماً بإعفائه لفترة من واجبات وظيفته وجعله بالقرب من ماري لويز للاستشفاء". وكان منصبه الجديد هذا لا ينطوي على مهام عمل حقيقية وفي سنة 1806 خوّله نابليون في اختيار مساعد له أي مساعد لمينيفال، فرشح فرانسوا فان Fain الذي عمل مع نابليون للنهاية وفي كل المعارك· ومع هذا فقد كان مينيفال قد تعب تماما فهرب من إمبراطوره المحب له في سنة 1813· لقد كان حُب مينيفال له من نوع الحب الذي يزدهر في ظل الاعتراف بعدم المساواة بين المحبين، وهو حب غير مذموم·
4 - الجنرال
لقد صاغ تعليمه العسكري في برين Brienne - إلى حد ما - بدنه وعقله وشخصيته ومجال اهتمامه، فهناك تعلَّم كيف يكون لائقاً لكل طقس أو مكان، وأن يفكر بوضوح في أي ساعة من ساعات النهار أو الليل وأن يميز بين الواقع والرغبة وأن يُطيع الأوامر وينفذها دون تردد وأن ينظر لتضاريس المنطقة من حيث إمكانية حركة الجماعات فيها، هل الأصلح أن تكون حركتها مكشوفة أم من وراء سُتر وأن يتوقع ما يُزمع العدو القيام به من مناورات وأن يستعد لمواجهتها وأن يتوقع ما سيحدث فلا يُفاجأ وأن يلتقي بالعدو لقاءً محسوبا لإلقاء الفُجاءة وأن يرفع الروح المعنوية لرجاله بالخطابة فيهم وأن يعوّض آلامهم ببث روح العظمة والمجد فيهم وأن يحبب إليهم الموت في سبيل الوطن وكل هذا بدا لنابليون عِلْم العلوم، فما دامت حياة الأمة تقوم على إصرارها وقدرتها على الدفاع عن نفسها عن طريق الحرب كَحَكَم نهائي لا خيار سواه إن فشلت الوسائل الأخرى· لقد أعلن نابليون أن فن الحرب دراسة هائلة تضم بين جنبيها كل الدراسات الأخرى ·(ملحق/515)
وعلى هذا فقد تثقَّف بمعظم هذه العلوم التي تُسهم في تكوين علم الدفاع عن الوطن· لقد قرأ التاريخ ليتعلم طبيعة الإنسان وسلوك الدول· ولقد أدهش العلماء في وقت لاحق بمعلوماته عن الإغريق والرومان ومعلوماته عن أوروبا الوسيطة والحديثة· لقد درس وأعاد دراسة معارك الإسكندر، وهانيبال، وقيصر وجوستافوس أدولفوس Gustavus Adolphus وتورين Turenne ويوجين السافوي Eugene of Savoy وفريدريك الأكبر، وقال لضباطه سيروا على نهجهم وارفضوا الاقتداء بغير هؤلاء الرجال العظماء ·
وانتقل من الأكاديمية العسكرية إلى المعسكر، ومن المعسكر للحكم، وربما أخذ عن أمه الرواقية (غير العاطفية) موهبة القيادة وعرف أسرارها، وكان لديه الشجاعة لتحمل المسؤولية وللمخاطرة بأمور مجرى حياته مرة ومرة معتمداً على تقديره للأمور، وقام بالمغامرة إثر المغامرة مستهزئاً - غالباً - بالمحاذير· لقد خسر الرهان الأخير، لكن بعد أن فرض نفسه كأبرع جنرال في التاريخ·
وبدأت إستراتيجيته العسكرية باتخاذ إجراءات لكسب عقول رجاله وقلوبهم· لقد شغل نفسه بخلفية كل ضابط تحت قيادته المباشرة وشخصيته وآماله· وكان يختلط بين الحين والآخر بالجنود العاديين مذكّراً إياهم بانتصاراتهم سائلاً عن أحوال أسرهم مستمعاً لشكواهم· وقد كان يحشد حرسه الإمبراطوري ويسميهم المدمدمون لكثرة دمدمتهم، وقد حاربوا من أجله حتى الموت· وفي بعض الأحيان كان يتحدث إليهم ساخراً من سذاجة جندي المشاة، فعلى سبيل المثال عندما كان في سانت هيلانة أبدى ملاحظة مؤداها أن الجنود جُعلوا ليُلقوا بأنفسهم إلى التهلكة ولكنه تبنّى - وأعان - كل أطفال المقاتلين الفرنسيين الذين ماتوا في أوسترليتز Austerlitz· لقد كان جنوده يحبونه حباً يفوق حب أي طائفة أخرى من الشعب الفرنسي له، لذا فقد كان حضوره في ميدان المعركة - وفقاً لرأي ولينجتون يعادل حضور أربعين ألف مقاتل·(ملحق/516)
وكانت خطاباته لجيشه جزءاً مهما من إستراتيجيته، فمن أقوال أنه في الحرب تعتبر المعنويات والرأي تعادلان ما هو أكثر من نصف المعركة · فمنذ معركة قيصر على نهر الروبيكون Rubican لم يكن لقائد مثل هذا التأثير الذي كان نابليون يُحدثه في جنوده· ويخبرنا بورين الذي كتب بعض هذه البيانات الشهيرة من إملاء نابليون أن الجنود في حالات كثيرة لم يكونوا يستطيعون فهم ما يقوله نابليون لكن هذا لم يكن مهما فقد كانوا على استعداد لتنفيذ أوامره راغبين غير مكرهين حتى لو كانوا حُفاة وبلا مؤن وفي كثير من خطبه شرح لهم خطط عملياته وعادة ما كانوا يفهمون ما يعنيه، وكانوا يتحملون المسيرات الطويلة الشاقة بصبر مما كان يمكّنهم من مفاجأة العدو أو اجتياحه بالتفوق العددي عليه·
ومن أقوال نابليون أن: "أفضل الجنود هو الذي يسير بلا تعب، فهذا أفضل من مقاتل لا يجيد المسيرات الطويلة". وفي إعلان سنة 1799 قال للمستمعين إليه: "إن فضائل الجندي تتمثل في الجَلَد والتحمل والنظام، وتأتي الشجاعة في المقام الثاني". وغالباً ما كان يبدي رحمة ولكنه لم يكن يتردد في اتخاذ قرارات قاسية إذا كان الانضباط في خطر· وبعد انتصاراته الأولى في إيطاليا عندما سمح لجنوده - بعد تروّ - بشيء من السلب لتعويض تقصير حكومة الإدارة في إمداد الجنود بالطعام واللباس والرواتب، عاد فمنع مثل هذه المسلك (السلب) وفرض النظام بشدّة ومنع السلب وسُرعان ما وُضعت أوامره موضع التنفيذ· يقول مينيفال لقد شهدت فيينا وبرلين ومدريد وغيرها من المدن حالات إدانة جنود وإعدامهم بمن فيهم جنود تابعون للحرس الإمبراطوري لارتكابهم أعمال سلب ونهب ·(ملحق/517)
وقد عبّر نابليون عن جانب من إستراتيجية في صيغة رياضية كالتالي: "قوة الجيش كالقوة الدافعة في الآلة تُقَدَّر بمدى السرعة التي تم تحقيقها في إجمالي مدة زمنية محدّدة"· فالسرعة في المسير (الزحف أو الحركة) تزيد من الروح المعنوية للجيش، وتزيد من قوته لتحقيق النصر وليس هناك مصدر موثق لتأكيد قول من ينسب إليه قوله: "إن الجيوش تزحف على أمعائها" والمقصود إمداداتها من الطعام · بل إن رأيه أقرب ما يكون إلى القول بأنها تزحف على أقدامها فقد كان شعاره القوة، النشاط، السرعة وعلى هذا فهو لم يكن يعوّل على التحصينات كوسائل للدفاع فقد كان سيضحك ساخراً من خط ماجينو Maginot الذي أقيم سنة 1939، فقد قال في سنة 1793 (أي قبل إنشاء خط ماجينو الدفاعي بحوالي قرن ونصف): "إنه لمن البديهي أن الجانب الذي سيبقى خلف خط محصّن سيظل دائماً مهزوماً", وكرر قوله هذا في سنة 1816·
لقد كانت عناصر إستراتيجية نابليون تقوم على: ترقُّب قيام العدو بتقسيم قواته أو نشرها، واستخدام الجبال والأنهار كساتر لحماية تحركات قواته (أي قوات نابليون)، والاستيلاء على المرتفعات الإستراتيجية التي تستطيع منها المدافع أن تدك ساحة المعركة، واختيار ساحة معركة تُتيح المناورة للمشاة وقوات المدفعية والفرسان، والتركيز على جانب من القوات - عادة ما يكون ذلك بالحث على سرعة الحركة - لمواجهة الكتلة الأكثر عدداً من قوات العدو التي بعدت عن القلب بُعداً يجعل من الصعب قدوم قوات أخرى لدعمها في الوقت المناسب·(ملحق/518)
والمَحَك الأخير للجنرال (نابليون) هو تكتيكاته - تنظيم قواته والمناورة بها من أجل المعركة وأثناءها· وكان نابليون يتخذ لنفسه موقعاً يستطيع منه أن يُشرف منه على أكبر مساحة من ساحة العمليات بحيث يكون آمناً له بقدر المستطاع· وطالما كانت خطة العمليات قد بدأت في الدخول إلى حيز التنفيذ - بما يتطلبه ذلك من تغيير سريع في مسار وقائعها - فإن هذا يستلزم تركيزاً ومتابعة شديدين منه، وفي هذه الحال يكون لسلامته (أمنه الشخصي أو عدم إصابته أو وقوعه في يد العدو) الاعتبار الأول، وحتى هذا كان بناء على تقدير جنوده للموقف أكثر من كونه إجراء عملياً يتم تنفيذه فعلاً، ذلك أنه إن خطر في باله أنه من الضروري أن يعرّض نفسه للخطر فإنه لم يكن يتردد في ذلك كما حدث في أركول Arcole وأكثر من هذا فقد قرأنا عن مقاتلين قد قُتلوا وهم إلى جواره في موقعه الذي يشرف منه على المعركة·
لذا فقد كان يُرسل التعليمات لقيادات قواته في المشاة والمدفعية والفرسان عن طريق عسكر المراسلة الراكبين، ليعودوا إليه سِريعاً لإخباره بمجريات الأمور في كل جانب من جوانب مسرح العمليات، فقد كان نابليون يعتقد أن الجنود لا تكون لهم قيمة بشكل أساسي في المعركة إلاّ من خلال مواقعهم، والمناورة بهم· هنا - أيضاً - كان هدفه هو التركيز بزخم جنوده وكثافة نيرانه علي نقطة بعينها، وكان يفضل أن تكون هذه النقطة هي جناح جيش العدو على أمل بث الفوضى في صفوف قوات جيش العدو في هذا الجزء (الجناح) مما يؤدي لانتشاره (تشتته) · فمن أقواله:
"في المعارك تأتي لحظة يشعر فيها أشجع الجنود - بعد أن يكونوا قد بذلوا أقصى المجهود - بالرغبة في الجري (ترك ساحة القتال) ·· فالجيشان المتحاربان كيانان يلتقيان ويناور كل واحد منهما ليخيف الآخر، وتحدث لحظة الرعب، ولابد من استغلال هذه اللحظة والاستفادة منها"·(ملحق/519)
وعندما يكون الإنسان قد اعتاد حضور العمليات العسكرية، يمكنه أن يتعرّف على هذه اللحظة ويحدّدها دون مشقّة · وكان نابليون سريعاً - على نحو خاص - في انتهاز مزايا هذه الفرص في تطور المعارك أو أنه إذا اعترى رجاله التردد، يقوم بإرسال التعزيزات، أو يغير خط العمليات أثناء المعركة، وقد أدى هذا إلى توفير يوم لصالحه في معركة مارينجو Marenego· لم يكن التراجع لفظاَ معروفاً في قاموسه قبل سنة 1812·
وكان من الطبيعي أن رجلاً طوَّر مثل هذه المهارة القيادية العسكرية أصبح يجد إثارة مُرعبة في الحرب· لقد سمعنا أنه يجعل المدنيين (غير العسكريين) في المحل الأول قبل الجنود، فقد كان يُعطي الأسبقية في بلاطه لرجال الدولة (المدنيين) ليأتي المارشالات بعدهم (في المقام الثاني) وعندما كان ينشأ صراع بين السكان المدنيين والعسكريين، فإنه كان يأخذ تلقائياً جانب المدنيين · لكنه لم يستطع أن يُزيل من نفسه أو من الآخرين الإحساس بأنه كان يجد في ساحة المعركة سعادة أكثر من أي سعادة أخرى في مجال الإدارة· لقد قال، واعترف لجوميني Jomini أن هناك مرحاً أو متعة في الخطر وأنه يحب جو الإثارة في المعركة لقد كان أسعد ما يكون عندما يرى جموع المقاتلين يتحركون وفقاً لمشيئته في العمليات العسكرية التي غيّرت الخريطة وكتبت التاريخ· لقد كان ينظر لمعاركه على أنها استجابة لهجوم (رداً على هجوم) لكنه كان يؤمن بما ذكره لبورين - على حد رواية هذا الأخير: "إن سلطاني يقوم على مجدي، ومجدي يعتمد على انتصاراتي· وسيضيع سلطاني إذا لم أدعمه بمجد جديد وانتصارات جديدة· فالفتح (الغزو) هو الذي جعلني على ما أنا عليه الآن، والفتح وحده هو الذي سيبقينى". ولا نستطيع أن نثق تماما في نسبة هذا الاعتراف بالغ الأهمية لنابليون، فقد رواه بورين غير المحب لنابليون (في فترة كتابته عنه) لكن لا كاس الذي كان نابليون بالنسبة له يأتي في المحل الثاني مباشرة بعد الرب نسب إليه قوله (في 12 مارس سنة 1816): "لقد تطلعت أن أكون إمبراطوراً للعالم، وأن أؤمّن ذلك لنفسي، فالسلطة التي لا تحدها حدود مسألة ضرورية لي "·(ملحق/520)
أكان نابليون - كما قال أعداؤه عنه - جزاراً؟ لقد قيل إنه جند في جيوشه عدداً يبلغ إجمالية 2,613,000 فرنسي، مات منهم حوالي مليون في سبيل خدمته · أكان يُزعجه القتل؟ لقد ذَكَرَ القتل الجماعي (مُنَدِّداً) في مناشدته للقوى المعادية له طلباً للسلام، وقيل أنه بكى عندما رأى جثث القتلى في إيلاو Eylau، بل إنه قال للاكاس بعد أن انتهى كل شيء، وراح يسترجع ما كان:
"لقد كنت أقود المعارك التي أخوضها واضعاً في اعتباري مصير الجيش ككُل (برمته) دون أن أضع العواطف في اعتبار· لقد كنت أرقب تنفيذ المناورات التي يقتضي تنفيذها كثيراً من القتلى يسقطون بين صفوفنا، ومع هذا تظل عيناي جافتين (بلا دموع) "·
ومن المحتمل أنه كان علي الجنرال (نابليون) أن يعزّي نفسه بفكرة أن موت هؤلاء الشباب صغار السن لم يكن أمراً مهماً بالنسبة للمكان والزمان اللذين لاقوا حتفهم فيهما، فعلى أية حال، أليست هذه هي النهاية الطبيعية لهم، فمن لم يمت بالحرب مات بغيرها، وإن كان - أي نابليون - يؤمن بشكل غامض أن موتهم في غير الحرب أقل مجداً لهم كما أن موتهم في غير الحرب ربما سبب لهم آلاماً أكثر ففي الحرب يكون المرء مخدّراً مستعداً للموت، كما أن الموت في الحرب يُعطي المرء تعويضاً عن موته متمثلاً في بريق الشهرة!
ومع هذا فقد شعر كما شعر كثيرون من العلماء (رانكه Ranke وسورل Sorel وفاندال Vandal···) أنه إن كان مذنباً فإنما ارتكب آثامه ضد من هم أشد منه إثماً ذلك أنه حارب ومارس القتل دفاعاً عن النفس ذلك لأن المتحالفين ضده قد صمَّموا على عزله باعتباره ابناً للثورة ومغتصباً لعرش البوربون· لقد طالب مراراً بالسلام، فلم تلق طلباته بهذا الشأن إلاَّ إعراضاً· ومن أقواله: "إنني ما غزوت إلاَّ دفاعاً عن النفس· فأوروبا لم تكف عن شن الحرب ضد فرنسا ومبادئها وضدي شخصياً"·
وظل التحالف الأوروبي قائما ضد فرنسا إما سراً وإما جهراً وكان نابليون قد تعهد عند تتويجه بالحفاظ على الحدود الطبيعية لفرنسا، فماذا كانت ستقول فرنسا لو أنه تخلّى عن هذه الحدود؟ فمن أقواله إن:(ملحق/521)
"السُّوقة لم يتوقفوا عن لومي على أساس أن كل حروبي إنما كانت لتحقيق طموحي· لكن أكانت هذه الحروب من اختياري؟ ألم تكن دائماً مفروضة يتعذر اجتنابها؟ ألم تكن نضالاً بين الماضي والمستقبل "·
وكان نابليون دائماً مثقلاً - بعد الأعوام الأولى النشطة المفعمة أحداثاً - بمشاعر مؤدّاها أنّه مهما كان عدد انتصاراته فإن هزيمة واحدة حاسمة ستمحقه ليغدو تحت رحمة أعدائه· لقد كان مستعداً للتنازل عن نصف العالم مقابل السلام لكن وفقاً لشروطه·
ويمكننا أن نُنهي حديثنا بالحديث عن نابليون كجنرال، أنه كان حتى في تيلسيت Tilsit (1807) وفي غزوه لأسبانيا (1808)، في حالة دفاع، ومن ثمّ فإن محاولته لضم النمسا ثم بروسيا فأسبانيا فروسيا وإحكام الحصار القارِّي (المضاد) إنما فرض حروباً إضافية على فرنسا المنهكة وأوروبا الممتعضة· ورغم أنه كان قد برهن على أنه إداري متفوق من الطراز الأول إلاّ أنه تخلّى عن الاهتمام بأمور الدولة في سبيل تحقيق المجد في مضمار مباهج الحرب· لقد رَبِح فرنسا كجنرال، لكنه أيضاً ضيّعها كجنرال· لقد أصبح موطن قوته هو حَتْفه·
5 - نابليون الحاكم
لم يَنْس نابليون تماما وهو حاكم مدني أنه كان قد نشأ في رحاب الجنرالية· لم يغب ذلك عنه أبداً، فقد ظلت عادات القيادة باقية فيه لكنها مقموعة مُثبطة إلاَّ في مجلس الدولة وفي الاعتراض أو المناقشات· لنسمعه يقول: منذ دخولي الحياة العامة (المقصود غير العسكرية) للمرّة الأولى كُنتُ معتاداً على ممارسة القيادة (إصدار الأوامر) فتكوين شخصيتي وقوّتها كانتا من النوع الذي يجعلني إذا ما أصبحت السلطة في يدي لا اعترف بأيِّ سيِّد إلاَّ ما هو نتيجة فكري ولا أي قانون إلاّ إذا كان من وضعي أو بتعبير آخر إلا إذا كان منبثقا من قناعتي لقد رأيناه في سنة 1800 يؤكد على الصيغة المدنية (غير العسكرية) لحكمه - عندما كان الجنرالات يتآمرون عليه لعزله،(ملحق/522)
لكن في سنة 1816 دافع عن وجهة النظر التي مؤدّاها أنه في خاتمة المطاف، فإن التحليل الصحيح يعني أنه إن أردت أن تحكم فمن الضروري أن تكون رجلاً عسكرياً، فالمرء لا يمكن أن يحكم إلاّ ملوحاً بغنيمة ومستخدماً مهمازاً لذا فإنه بنظرته الثاقبة لُمِثُل الشعب الفرنسي ما ظهر منها وما بطن، ما هو سَوِي منها وما متناقض - أعلن أنه رجل السلام وعبقري الحرب· ومن هنا فإن الديمقراطية النسبية التي شهدها عهد القنصلية ذابت في ظل النظام الملكي في عهد الإمبراطورية، ثم ذابت أخيراً·· في عهد السلطة المطلقة· لقد كان مصير مدونات نابليون القانونية - فيما يتعلق بقانون العقوبات (1810) - أن أصبحت قاسية مثّلت في قسوتها أساليب العقاب البربرية في العصور الوسطى·
ومع هذا فقد ظل نابليون متألقاً ذكياً في أمور الحكم كما كان في أمور المعارك· ولقد تنبأ نابليون أن إنجازاته في أمور الإدارة ستبزّ انتصاراته العسكرية وستكون أكثر خلوداً في التاريخ، وأن مدوّنته القانونية ستكون أثراً أكثر خلوداً من إستراتيجية وتكتيكة (التي لم تصبح ذات صلة بالحروب الجارية) · لقد كان نابليون يرنو لأن يكون جستنيان Justinian عصره بالإضافة إلى كونه قيصره Caesar·(ملحق/523)
ولم يقض نابليون في باريس سوى 955 يوماً من إجمالي أيامه التي كان فيها إمبراطوراً، والبالغة 3680 يوماً (1804 - 1814)، ومع هذا فقد أعاد صياغة فرنسا في هذه الأيام البالغة 955 يوماً، ففي هذه الأيام كان قبل 1808 يرأس بانتظام مرتان في الأسبوع - مجلس الدولة، وقال لا كاس Las Cases في ذلك الوقت (وكان هو عضواً في المجلس): "ولم يكن أحد منا يغيب مهما كان السبب وكان يعمل بجد شديد فنظراً لرغبته الشديدة في إنجاز الأمور، كان يستيقظ أحياناً في الساعة الثالثة صباحاً ويظل يواصل العمل طوال النهار"· وغالباً ما كان يتوقّع أن يبذل مساعدوه الجهد نفسه· وكانوا دائماً جاهزين لتقديم معلومات حديثة جداً عن أي أمر واقع في دائرة اختصاصهم، وكان يحكم عليهم وفقاً لدرجة دقة تقاريرهم ونظامها ووفائها بالمراد، وسرعة تقديمها حاوية آخر التطورات حتى آخر ساعة· ولم يكن يعتبر يومه منتهياً حتى يقرأ المذكرات والوثائق التي غالباً ما كانت تأتيه يومياً من دوائر الحكومة المختلفة· وربما كان نابليون هو صاحب أفضل جهاز للتزويد بالمعلومات في التاريخ·
وقد اختار للوزارات الكبرى (المهمة) رجالاً ذوي قدرات عالية من الطراز الأول مثل تاليران Talleyrand وجودين Gaudin وفوشيه Fouche رغم اعتزازهم الشديد بأنفسهم مما كان يسبب له بعض المتاعب، وكان يفضل - بشكل عام - للمناصب الأخرى خاصة الإدارية رجالاً من الطبقة الثانية ممن لا يوجِّهون أسئلة له أو يقترحون عليه إجراءات من عند أنفسهم، فلم يكن لديه الوقت أو الصبر لمثل هذه المناقشات، فقد كان ينتهز الفرص وفقاً لتقديره هو، كما كان يتحمل المسؤولية والمخاطرة·(ملحق/524)
وكان يطلب من العاملين معه أن يُقسموا يمين الإخلاص ليس فقط لفرنسا وإنما الإخلاص له شخصيا· وفي معظم الحالات كانوا علي استعداد للموافقة على أداء هذا القسم مَسُوقين بتأثير شخصيته وكأنهم منوَّمون مغناطيسياً وبتأثير عظمة مخططاته· لقد كنت أثير المنافسة وأكافئ كل مستحق وأُزيح للخلف حدود المجد لأجعل مجالها أرحب· لكنه دفع ثمن منهجه في اختيار مساعديه ذلك المنهج الذي سار بالتدريج نحو إحاطة نفسه بتابعين قلّما كانوا يجسرون على مناقشة وجهات نظره حتى أن الأمر انتهى بإزاحة كل اعتراض في سبيل تسرعه أو كبريائه إلاَّ ما تمثله الدول الأجنبية المعادية له، إلا أن كولينكور Caulaincourt يُعد استثناء من هؤلاء المحيطين به في سنة 1812·
لقد كان نابليون قاسياً مع مرؤوسيه، صارماً إذا وبّخ، بطيئاً إذا امتدح، لكنه كان مستعداً للمكافأة على الخدمات الباهرة (غير العادية) ولم يكن يؤمن بوضع مرؤوسيه في وضع يكونون فيه مطمئنين مرتاحي البال، فشيء من الوعد غير المؤكدة بمنصب أو ولاية قد يدفع لمزيد من العمل الجاد، ولم يكن نابليون يعترض على اتصالاتهم وتكوين علاقات وثيقة بينهم، بل ولم يكن يعترض على وجود أمور غامضة مشبوهة في ماضي الواحد منهم فذلك يتيح له ممسكاً يضمن به حُسْن سلوكهم ·
وكان يستخدم مساعديه إلى أقصى درجة، ثم يترك الواحد منهم ليعود متراجعاً مستمتعاً بمعاشٍ سخي، وربما ببعض ألقاب النَّبالة كمفاجأة سارة· ولم يعش بعضهم حتى يتلقوا هذه المكافأة أو حتى يصلوا إلى هذه النتيجة المرجوّة، فقد فضل فيلينيف Villeneuve الذي هُزِم في الطرف الأغر - الانتحارَ علي مواجهة لومه، ولم تَهُز الاعتراضات مشاعره القاسية، فمن أقواله:
"يجب أن يكون قلب رجل الدولة في رأسه ولا يجب أن يُدخل مشاعره في الأمور السياسية، وفي عملية إدارة إمبراطورية، لا يساوي الفرد إلاّ قليلاً إلاّ إذا كان هذا الفرد هو نابليون"·(ملحق/525)
وربما بالغ نابليون في عدم إحساسه بأهمية الجاذبية الشخصية عندما قال: "أنا لا أحب إلاّ المفيدين لي، وطالما هم مفيدون" وقد استمر نابليون في حبّه لجوزيفين فترة طويلة بعد أن أصبحت مُعوَّقةً لخططه· وبالطبع فإنه كمعظم البشر كان في هذا راضخاً لرغبته فيها· وكان يعدّل في نشراته الحربية - كما تفعل معظم الحكومات - ليحتفظ بالروح المعنوية العامة مرتفعة· وقد درس مكيافيللي وقلمه الرصاص في يده (كناية عن الاهتمام ليخط به تحت السطور الحاوية على فكرة مهمة) وثمة نسخة من كتاب الأمير (لمكيافيللي) عليها بعض التعليقات تم العثور عليها في مركبته في واترلو Waterloo·
لقد كان نابليون يعتبر أن كل شيء يُعجِّل بتحقيق أهدافه شيء طيب أو بتعبير آخر كان يعتبر الغاية تبرر الوسيلة· إنه لم ينتظر نيتشه Nietzsche ليُرشده بقوله أن الرغبة في القوة كامنة وراء الخير والشر على سواء لذا فإن نيتشه اعتبره الناتج الطيب الوحيد للثورة الفرنسية وأطلق عليه Ens realissimum وقد قال نابليون القوة خير والضعف شر وقد حزن من أجل أخيه جوزيف (يوسف) قائلاً: "إنه أطيب من أن يكون رجلاً عظيماً". ومع هذا فقد كان نابليون يحبه·
وقريب من آرائه هذه - التي تعلمها في كورسيكا وفي ميادين القتال - ما كان يكرره كثيراً أن الناس لا يمكن دفعهم أو حكمهم إلاَّ بالتلويح بمصالحهم أو بإخافتهم أو بتعبير آخر لا يرضخون إلاّ خوفاً أو طمعاً· لذا فإنه عاماً بعد عام أصبحت مشاعره هذه هي أساس حكومته وعُمُدُها· ففي سنة 1800 نصح الجنرال هيدوفيل Hedouville أنه ليقمع الاضطرابات في إقليم فندي Vendee عليه أن يحرق مدينتين كبيرتين - أو ثلاث - ويسويها بالأرض، على أن تكون هذه المدن في المناطق الأكثر إثارة للاضطراب، وذلك لتكون عِبْرة لغيرها· لقد علّمته خبرته (كقنصل أول) أن القسوة المروّعة هي أكثر الوسائل إنسانية ورحمة في ظل هذه الظروف التي تواجهها، فالضعف هو وحده القاسي وغير الإنساني ·(ملحق/526)
وكان يوجه تعليمات لقضاته بإصدار أحكام قاسية· وقال لفوشيه إن فنّ الشرطة يعني أن نعاقب قليلاً لكن إن عاقبت فكن قاسيا ولم يكتف نابليون بالاعتماد على قوات كبيرة من الشرطة والمخبرين السريين تحت إدارة فوشيه أو ريجنييه Regnier، وإنما نظَّم هيئة إضافية للشرطة السرّية، مهمتها مساعدة فوشيه وريجنييه والتجسّس عليهما، وأن يكتب أفرادها تقارير له عن أية مشاعر معادية ضدّه (ضد نابليون) في الصحف أو المسارح أو الصالونات أو الكتب· ومن أقوال نابليون إن الحاكم عليه أن يشك في كل شيء · وبحلول عام 1804 كانت فرنسا دولة بوليسية·
وبحلول عام 1810 أصبح فيها نماذج مصغرة لسجن الباستيل - سجون الدولة التي كان يمكن فيها احتجاز المعارضين السياسيين بناء على أوامر إمبراطورية دون أن يتم ذلك من خلال إجراءات قضائية نظامية · وعلى أية حال فلابد أن الإمبراطور كانت تبدر منه مبادرات الرحمة والعفو في عدة مناسبات· فقد أصدر كثيراً من مراسيم العفو حتى بالنسبة للذين تآمروا ليقتلوه، وأحياناً كان يخفف الأحكام الشديدة التي تصدرها المحاكم · لقد قال - وهو مستغرق في التأمل - لكولينكور في ديسمبر سنة 1812:
"إنَّهم يظنوني صارماً أو حتى متصلّب الفؤاد· هذا أفضل كثيراً، فهذا يجعل من غير الضروري أن أُثبت لهم ذلك· إنهم يظنون ثباتي (تصميمي) قسوة قلب· إنني لن أشكو ما دامت هذه الفكرة عنِّي هي السبب في الانضباط وحُسن النظام الذين أصبحا سائدين·· انظر هنا يا كولكينكور، إنني بشر، فمهما كان ما يقوله بعض الناس فإن لدي مثلهم أحشاء [أحشاء الرحمة] وقلب - لكنه قلب حاكم· إن دموع أرشدوقة لا تحركني· وإنما تحركني معاناة الناس"·(ملحق/527)
ولا جدال أنه كان إمبراطوراً وأنه في غالب أحواله كان متنوراً، وفي غالب أحواله كان في عجلة مطلقة· لقد اعترف للاكاس: "الدولة أنا" · وربما كان علينا أن نغفر له شيئاً من استبداده باعتباره إجراء معتاداً تقوم به الحكومات لضبط الاقتصاد الوطني والمسارح والمنشورات زمن الحرب· وقد شرح نابليون إحكامه الهيمنة على أمور البلاد باعتبارها أمراً ضرورياً في مرحلة الانتقال الصعبة من الحرية المتسيِّبة بعد سنة 1791 نتيجة وقائع الثورة، والنظام البنّاء في عهدي حكومتي القنصلية والإمبراطورية·
وقد استدعى نابليون لذاكرة الناس أن روبيسبير Robespierre - وكذلك مارا Marat - كان قد أوصى بالدكتاتورية كضرورة لإعادة النظام والاستقرار لفرنسا التي أشرفت على الانحلال والتفسّخ على صعيد الأسرة وعلى صعيد الدولة· ولم يشعر نابليون أنه دمَّر الديمقراطية، فما أزاحه في سنة 1799 كان هو أوليجاركيّة oligarchy الفساد (جمهورية تسيطر عليها مجموعة فاسدة) والقسوة وعصبة من رجال لا ضمير لهم· لقد قضى على حرية الجماهير (الجموع) لكن هذه الحرية كانت تدمّر فرنسا بالاضطرابات التي كان يثيرها العامة، وبالتسيّب الأخلاقي، ولم يكن يمكن لفرنسا أن تستعيد قوتها كدولة متحضرة ومستقلة إلاّ بإعادة السلطة المركزية·(ملحق/528)
وحتى سنة 1810 لم يكن نابليون بمستطيع أن يتسامح مع نفسه لعدم صدقه في ادعائه الإيمان بالهدف الثاني للثورة الفرنسية وأعني به المساواة، لكنه آمن بمبدأ مساواة الجميع أمام القانون وعمل على نشر هذا المبدأ· فهو لم يفرض مساواة مستحيلة تجعل كل قدرات الناس واستحقاقاتهم على نحو سواء، وإنما أسس نسقاً من المساواة قوامه إتاحة الفرص - على نحو سواء - لكل الموهوبين وذوي القدرات بصرف النظر عن مكان مولدهم ليطوروا أنفسهم في مجتمع يُقدِّم للجميع دون مفاضلة فرص التعليم، والفرص الاقتصادية والحقوق السياسية، وربما كان فتحه المجال لكل ذي موهبة ومقدرة هو أكثر عطاياه لفرنسا بقاءً· وكان نابليون يقضي على الفساد في الحياة العامة · وهذا وحده يكفي لتخليد ذكراه· لقد أعطى المثل - بكل معنى الكلمة - لرجل يكرس نفسه للإدارة إذا لم تدعُه الحربُ لميادينها· لقد أعاد صياغة فرنسا·
لماذا فشل إذن؟ ذلك لأن ما كان في حوزته فاق إمكاناته (استطاعته)، وخياله سيطر على طموحه، وطموحه تحكم في بدنه ونفسه وعقله وشخصيته· لقد كان عليه أن يعرف أن القوى المناوئة له لم تكن لترضى أبداً بترك فرنسا تحكم نصف أوروبا· لقد نجح - بشكل يمكن تحديده· في تخليص بلاد الراين الألمانية من إقطاع القرن التاسع عشر لكنه لم يكن بمستطيع - لا هو ولا أي رجل في عصره - أن يُدمج في فيدرالية دائمة منطقة طال عليها العهد وهي مقسمة إلى دول، كل دولة منها لها تراثها الحريصة عليه، ولها لهجتها الخاصة وعاداتها وعقيدتها وحكوماتها· ويكفي أن نذكر هذه الممالك المختلفة من الراين إلى فيستولا Vistula ومن بروكسل لنابلي لنحس بحجم المشكلة:
ممالك أو إمارات مثل هولندا، وهانوفر، ووستفاليا Westphalia والمدن الهانسياتية Hanseatic، وبادن Baden وبافاريا، وفيرتمبرج Wurttemberg وإيليريا Illyria والبندقية (فينيسيا) ولومبارديا Lombardy والولايات الباباوية والصقليتين - من أين له برجال أقوياء بالقدر الذي يكفي لحكم هذه المناطق، وفرض الضرائب على أهلها، وأخيراً لتجنيد أبنائهم لشن حروب ضد أمم أقرب إليهم من فرنسا؟(ملحق/529)
كيف يستطيع أن يفرض الوحدة بين هذه الدوائر الإضافية البالغ عددها أربعة وأربعين ودوائر فرنسا البالغ عددها ستاً وثمانون؟ أو كيف يستطيع أن يوحّد قسراً ستة عشر مليوناً من الأقوياء المعتزين بأنفسهم مع ستة وعشرين مليونا من الفرنسيين المتقلبين والمعتزين بأنفسهم أيضاً؟ ربما كان أمراً رائعاً أن يحاول ذلك لكن كان لابد أن يحالفه الفشل في هذه المحاولة· وفي خاتمة المطاف أطاح الخيال بالعقل· لقد تفرّق شمل هذا الكيان غير المستقر، وهزمت القوة الراسخة للشخصية الوطنية إرادة الدكتاتور الكبير·
6 - نابليون الفيلسوف
وعندما طوي الخيال جناحيه، أصبح نابليون قادراً على استخدام عقله على نحو ما يفعل أفضل العلماء وأكثرهم مقدرة في المعهد العلمي الفرنسي، ومعهد دراسة مصر· ورغم أنه لم يستنبط نظاماً محدداً من الفكر يتحتم سجن الكون داخله بحيث لا تفلت منه شاردة ولا واردة، إلاّ أن عقله الواقعي قد أظهر القصورَ في أعمال المفكرين الذين يسيئون استخدام الأفكار ويبنون قلاعاً في الهواء لا أساس لها من البيولوجيا biology ( علوم الأحياء) أو التاريخ· فبعد أن جرَّب (أي نابليون) لابلاس وغيره من العلماء في المناصب الإدارية، خلص إلى "أنك لا تستطيع أن تنجر أي عمل مع فيلسوف" وعلى أية حال فإنه شجع العلوم وأوصى بدراسة التاريخ فمن أقواله لابد أن يدرس ابني كثيرا من علم التاريخ وأن يستغرق في تأمله،" فالتاريخ هو الفلسفة الوحيدة الحقيقية "·
وكان الدين واحداً من المجالات التي روّج لها المفكرون بدلاً من ترسيخ أنفسهم في مجال التاريخ· وقد شعر نابليون أن عالم المنطق وحده هو الذي يمكن أن يقلق طويلاً أمام هذا السؤال: هل الله موجود؟ أما الفيلسوف الحقيقي الذي تعلم في مدرسة التاريخ فيجب أن يسأل لماذا يظل الدين حياً دائماً ويلعب دوراً مهماً في كل حضارة، رغم أنه - أي الدين - كان في أغلب الحالات تنقصه الحجة ويدعو للسخرية؟ لماذا قال فولتير الفيلسوف المتشكك إن الله لو لم يكن موجوداً لكان من الضروري أن نخترعه أو بتعبير آخر نتخيل وجوده؟ ·(ملحق/530)
لم يكن نابليون نفسه يؤمن بعقيدته الدينية منذ كان في الثالثة عشرة من عمره· وفي بعض الأحيان كان يتمنّى لو كان قد احتفظ بها· إنني أتخيّل أنها (أي العقيدة) لابد أن تؤدي إلى سعادة كبيرة حقيقية وكلنا يعرف القصة التي حدثت في مصر عندما سمع بعض العلماء (الفرنسيين) يتحدثون عن (الخالق) بغير وقار، إذ تحداهم مشيراً إلى النجوم: "تحدثوا كما تشاءون، وأطيلوا الحديث كما يحلو لكم أيها السادة من خلق كل هذه النجوم؟ "
ومن الممكن أن نقتبس من أقواله ما يؤيد وما يعارض مقالته هذه وموضوعات أخرى كثيرة، لأنه غيّر وجهات نظره بمرور الوقت، كما تغيرت حالته النفسيّة أيضاً ونحن نميل لتجاهل تواريخ حدوث هذا التغير، فحتى بالنسبة للمفكّر الذي لم يبلغ الخمسين من عمره نجده يتخلّى عن عقائد أقسم في شبابه ألا يتخلى عنها، ومن في الثمانين من عمره لا يبتسم ساخراً من وجهات النظر الناضجة التي قال بها في أواسط عمره؟ وبشكل عام فإن نابليون ظل محتفظاً باعتقاده في "وجود عقل كامن وراء العالم المادي أو كامن فيه" لكنه ينكر معرفته بأية معلومات عن طبيعة هذا العقل وهدفه·
لقد استقر رأيه وهو في سانت هيلينا على أن كل شيء يشهد بوجود الله لكن أن تقول من أين جئت؟ ومن أكون، وإلى أي مصير أنا صائر، فتلك كلها مسائل فوق مستوى الفهم وفي بعض الأوقات نجده يتحدث كالتطوريين الماديين materialistic evolutionist المادة كل شيء··· فالإنسان ليس إلاّ موجوداً أكثر اكتمالاً من الحيوان، وأفضل منه تفكيراً ومن أقواله أن:
"الروح ليست خالدة، وإذا كان لابد أن نقول بشأنها قولا فقد وجدت قبل أن نولد", ومن أقواله أيضاً: "إن كان لابد أن أتخذ ديناً لعبدتُ الشمس لأنها السبب في خصوبة كل شيء إنها الرّب الحقيقي للأرض", ومن أقواله: "لقد كان يتحتم عليَّ أن أتخذ ديناً لو أنه وُجد مع بداية الكون· لكنني عندما أقرأ سقراط أو أفلاطون أو موسى أو محمد (المترجم؛ عليهما السلام) فإنني لا أزداد إيماناً، فكلها عقائد ابتدعها الناس"·(ملحق/531)
لكن لماذا ابتدع الناس الأديان؟ يجيب نابليون: "لقد ابتدعوها ليريحوا الفقراء وليمنعوهم من قتل الأغنياء"· ذلك لأن الناس قد ولدوا غير متساوين وزادت الفروق بينهم مع كل تقدم في مجال التكنولوجيا والتخصص، ولابد للحضارة أن تستنبط وسائل لمكافأة ذوي القدرات المتفوقة والاستفادة منهم وتطويرهم، ولابد أن تُقنع الأقل حظاً بأن يقبلوا بسلام هذا التفاوت في العوائد والممتلكات باعتباره أمراً طبيعياً وضرورياً· كيف يمكن أن يتم هذا؟ يجيب نابليون: "بالقول أن ما حدث إنّما هو إرادة الله ومشيئته، إنني لا أرى في الدين سر التجسّد بل سرّ النظام الاجتماعي"· إن المجتمع لا يمكن أن يقوم إلاّ في ظل التفاوت (عدم المساواة) في الرواتب أو المكافآت أو الدخل، ومن ثم في الممتلكات هذا التفاوت (عدم المساواة) لا يمكن الإبقاء عليه إلاّ بالدين··· لابد أن يكون في مقدورنا أن نقول للفقير:
"تلك إرادة الله· لابد أن يكون هناك غني وفقير في هذا العالم لكن في الآخرة حيث الخلود، سيكون هناك توزيع مختلف" ومن أقواله إن: "الدين ينسب إلى (فكر) الله فكرة المساواة التي تنقذ الأغنياء من مذبح يقيمها لهم الفقراء" ·
وإذا كان هذا صحيحاً فقد أخطأت حركة التنوير في مهاجمتها للمسيحية وأخطأت الثورة الفرنسية في وضع العراقيل في سبيل الدعوة للكاثوليكية· فانعدام الحكومة على المستوى الفعلي والخلقي الذي قاسينا منه نتيجة الفوضى العقلية الأخلاقية - انهيار الإيمان وإنكار العقيدة كانا استهلالاً له أو سبقاه فكان انعدام الحكومة نتيجة لهما:
"وربما لهذا السبب ولأغراض سياسية أعاد نابليون الكنيسة الكاثوليكية لتكون حارساً مقدّسا للأمة الفرنسية"
وهو - أي نابليون - لم يفسرّ هذا التحالف الجديد مع الكنيسة بمعنى ارتباطه بالوصايا العشر، وإنما كان يطوف حولها - أي هذه الوصايا - بين الحين والحين ومع هذا فقد دفع رواتب القسس ليبشروا بها لجيل مرتعب من الفوضى ومستعد للعودة إلى النظام·(ملحق/532)
وكان معظم الآباء والمعلمين سعداء بالحصول على عون العقيدة الدينية لتنشئة أبنائهم وتربيتهم - لمواجهة النزوع الطبيعي للشباب إلى الفوضى - بالقوانين الأخلاقية القائمة على أسس من التقوى الدينية وأسس من حب الآباء لأبنائهم وولاء الأبناء لآبائهم، باعتبارها - أي هذه الأسس - من عند الله المطّلع على كل شيء والذي يعاقب المخطئ عقاباً أبدياً، ويثيب المصيب ثواباً أبدياً، وكان معظم أفراد الطبقة الحاكمة ممتنيّن لعملية تعليمية تُفرز رأياً عاماً يقبل بمبدأي التفاوت (عدم المساواة) في القدرات والممتلكات باعتبار هذا من الأمور الطبيعية التي لا مفر منها· فأبناء الأرستقراطية القديمة قد جرى إيجاد المبرّرات لهم بالقول أنهم طهرَّوا ثرواتهم بما لهم من أفضال وبأسلوب حياتهم، أما أبناء الارستقراطية الجديدة فقد ترسَّخت ارستقراطيتهم كما أن الثورة - طوال جيل - قد كفّت صوتها وأخفت بنادقها·
في هذا المجتمع الذي تُبعث فيه الحياة من جديد لزم أن يُعاد للزواج أهميته وقداسته وشرعيته مرة أخرى، وكذلك لزم الأمر نفسه بالنسبة للأمومة، وكذلك الملكية - وليس الحب الرومانسي، لزم لهذا كله أن يُرسَّخ لتحقيق غاياته· فالحب الذي ينشأ نتيجة المفاتن البدنية بين الفتى والفتاة إنما هو بسبب الهرمونات وتقارب العمر والاقتراب المكاني· وأن توجد زواجاً دائماً اعتماداً على هذه الظروف القائمة على المصادفة والظروف العابرة إنما هو تفكير يدعو للسخرية· "إنه حماقة مزدوجة "·
إن كثيراً من هذا الحب تثيره - بشكل غير طبيعي - الكتابات الرومانسية· وربما اختفى لو أن الناس كانوا أميِّين· يقول نابليون إنني اعتقد جازماً أن الحب الرومانسي له من الأضرار أكثر مما له من الحسنات·· وربما كان من الخير إقصاؤه كسبب لتوحّد رجل وامرأة في مشروع دائم لتنشئة الأطفال وأساس لنقل الملكية (المقصود التوريث أو انتقال الثروة بالميراث) ويقول نابليون: "لابد من منع الزواج بين ذكر وأنثى يعرف كل منهما الآخر لفترة تقل عن ستة أشهر"·(ملحق/533)
وكان نابليون يؤمن بنظرة محمد (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المترجم) للزواج: إن هدفه هو إنجاب عدد كبير من الذرية في ظل ظروف يتمتع فيها الرجل بالحرية، وتتمتع فيها الزوجة المخلصة المطيعة بالحماية· وشعيرة الزواج - رغم إمكان عقد القران مدنياً - لابد أن تكون ذات طابع مقدّس وقور يتم التأكيد خلالها على التزامات الطرفين · ولابد أن ينام الزوج والزوجة معاً، "فهذا يُقصي الفردية من الحياة الزوجية ويضمن وضع المرأة وارتباط الزوج بها، ويجعل بينهما مودة ورحمة intimacy ويضمن الفضيلة" وقد اتبع نابليون هذه العادات القديمة حتى استقر رأيه على الطلاق·
وعلى أية حال فإن كانت الزوجة المخلصة الواحدة غير كافية للرجل:
"فإنني أجد أنه من السخرية ألاّ يكون قادراً على أن يكون له أكثر من زوجة شرعية، ذلك أن المرء إذا كان لديه زوجة واحدة حُبلى، أصبح وكأنه لا زوجة"
لذا فتعدد الزوجات Polygyny أفضل من الطلاق أو الزنا· ويجب ألا يُسمح بالطلاق بعد عشرة زوجية استمرت عشر سنوات· ويجب ألا يُسمح للزوجة بالطلاق إلاّ مرة واحدة وألاّ يُسمح لها بالزواج - إن طُلقت - إلا بعد خمس سنوات
"ولا يعتبر زنا الزوج مبرراً كافياً للطلاق إذا لم تكن هناك ظروف أخرى كاحتفاظ الزوج بخليلته في مكان إقامة الزوجة وإذا اقترف الزوج عملاً من أعمال الخيانة الزوجية وجب عليه أن يعترف لزوجته ويبدي ندمه فيمحو باعترافه وندمه كل أثر من آثار جُرمه· تغضب الزوجة وتعفو فتنصلح الأمور بينهما· لكن الأمر يختلف إن كانت الزوجة غير مخلصة لزوجها· شيء طيب أن تعترف وتعتذر لكن من الذي يضمن ما إذا كان قد بقي - نتيجة خيانتها - شيء من رَحِمها أو في عقلها؟ لذا فالزوجة بعد خيانتها لا يجب (ولا يمكن) أبداً أن تنتهي مع زوجها إلي تفاهم"
(المؤلف: ولكنه سامح جوزيفين على خيانتها له مرتين) ·
وقد حصّن نابليون نفسه ضد فتنة النساء بأخذه بالنظرة الإسلامية (النص: نظرة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) للمرأة:(ملحق/534)
"إننا نعامل النساء معاملة جيدة جداً، وبهذه الطريقة نفقد كل شيء· إننا نخطئ خطأً كبيراً في رفعهن إلى مستوانا· حقاً إن شعوب الشرق أكثر منا عقلاً وإحساساً بإعلانهم أن الزوجة ملكية حقيقية لزوجها· فالحقيقة أن الطبيعة قد جعلت المرأة جارية للرجل· فالمرأة تضع الأطفال للرجل·· وعلى هذا فهي من ممتلكاته تماماً كما أن فاكهة الشجر ملك لصاحب البستان "·
كل هذه الأفكار تتسم بالبدائية (السذاجة) وهي تناقض البيولوجيا (أي علم الأحياء) الذي عادة ما يُظهر الأنثى جنساً مسيطراً أو سائداً بينما الرجل مجرد تابع يقدّم الطعام، وأحياناً ما يؤكل هو نفسه أي تأكله الأنثى، لذا سنكون سعداء بقبول تأكيد لا كاس إن كثيراً من أكفار نابليون المتعلقة بالنساء إن هي إلاّ تظاهر بالشجاعة أو تبجّح ومزاح أو أحلام رجل عسكري توّاق لعدد لا نهاية له من المجنّدين إلزامياً الذين تنتجهم أرحام النساء، لكن نظرة نابليون هذه متسقة تماماً مع أفكار أي قائد من قوّاد المرتزقة في كورسيكا·
وقد أصرّت المدوّنة القانونية النابليونية على أن الرجال قوّامون على النساء قوامةً مطلقة، بل وقوَّامون على ممتلكاتهن، واعتبرت ذلك (أي مدوّنة نابليون) مسألة ضرورية لتحقيق الانضباط الاجتماعي· لقد كتب نابليون إلى جوزيفين في سنة 1807: "لقد كُنت دائماً أعتقد أن المرأة خُلِقت للرجل، والرجل للوطن والأسرة والمجد والشرف". وبعد معركة فريدلاند Friedland (14 يونيو 1807) التي شهدت مذبحة مروّة على الجانبين وضع نابليون برنامجاً دراسياً لمدرسة تُبنى في إكوين Ecouen " للبنات اللائي فقدن أمهاتهن واللائي ليس لهن أهل قادرون على إعالتهن"·(ملحق/535)
"ماذا يجب أن تتعلّم البنات في إكوين؟ يجب أن نبدأ بتعليمهن الدين بكل صرامته·· فما نطلبه من تعليم البنات هو أن يجعلهن مؤمنات لا مفكّرات، فضعف عقول النساء وكونهن غير مستقرات في أفكارهن (يحركهن الهوى) ··· يجعلهن في حاجة إلى الإذعان الدائم·· ولا يمكن الوصول لكل هذا إلا من خلال الدين·· إنني لا أريد لهذه المدرسة أن تُخَرّجَ نساء ذوات فتنة وإنما نساء ذوات فضيلة ولابد أن يكن جذّابات بحكم مبادئهن السامية وقلوبهن الدافئة لا بحكم ظُرفهن وكونهن مُسلِّيات·· وبالإضافة لهذا لابد أن نعلِّم البنات الكتابة والحساب ومبادئ اللغة الفرنسيّة··· ولا ضرورة لتدريس اللاتينية لهن·· ولابد من تعليمهن إجادة كل أعمال المرأة·· ولا مجال لأن يقوم الرجال بالتدريس للبنات، فلا يجب أن يكون في المدرسة رجل إلاّ الناظر·· حتى أمور حديقة المدرسة يجب أن يقوم عليها النساء "·
وكانت فلسفة نابليون السياسية غير متسقة بالقدر نفسه· فما دام كل الناس قد وُلدوا غير متساوين فلا مناص من أن الأقلية وهي التي تمتلك العقول الأقوى هي التي ستحكم الأغلبية بقوة السلاح والفكر (الكلمة)، ومن ثمَّ فإن يوتوبيا المساواة ما هي إلاّ خرافة مسلّية (أو بتعبير آخر إن هي إلاّ أساطير) يقول بها الضعفاء، فالصيحات الفوضوية المطالبة بالتحرر من القوانين والحكومات، إنما هي تضليل فج يدل على عدم النضوج كما يدل على عقول مستبدّة·
والديمقراطية لعبة يستخدمها الأقوياء ليُخفوا بها حُكمهم الأوليجاركي (الأوليجاركية تعني حكم الأقلية التي تعمل لصالحها في ظل نظام ظاهره جمهوري) ومن الناحية الفعلية فقد كان على فرنسا أن تختار بين حُكم النبلاء الوراثي وحكم طبقة رجال الأعمال ·
"وعلى هذا فالأرستقراطية دائماً موجودة بين الأمم وفي أثناء الثورات، وإذا حاولت التخلّص منها بتدمير نظام النبالة فإنها سرعان ما تعيد تكوين نفسها بين الأسر الغنية والقوية من الطبقة الثالثة Third Estate فإن دمّرتها في موقعها الجديد هذا، اتخذت لنفسها ملاذاً بين زعماء العمال وزعماء الشعب فالديمقراطية - إن كانت معقولة - يجب أن تقتصر على إتاحة فرص متساوية أمام الجميع ليتنافسوا ويتملكوا"(ملحق/536)
ويزعم نابليون أنه حقق هذا بكسر الحواجز أمام المتفوقين والموهوبين في كل المجالات، ولكنه سمح بكثير من الانحرافات التي أخرجت مسار حكمه عن هذه القاعدة·
لقد كان رأيه غير واضح فيما يتعلق بالثورات· فهي تُطلق العنان لمشاعر الجماهير المتقدة "مادامت الجرائم الجماعية" لا تُوقع المسؤولية الجنائية على أحد "ولا يمكن أن تكون هناك ثورة بدون إرهاب" و"الثورات هي السبب الحقيقي لبعث الأعراف العامة وبث الروح فيها من جديد" لكنه انتهى بشكل عام (في سنة 1816). إلى أن "الثورة واحدة من أكثر الشرور التي يمكن أن يُبتلى بها البشر· إنها كارثة حلّت بجيل ومهما كانت المزايا الناتجة عنها، فإنها لا يمكن أن تكون تعويضاً عن البؤس الذي نغَّصت به حياة الذين قاموا بدور فيها "·
لقد كان نابليون يفضل النظام الملكي على كل أشكال الحكم الأخرى ولو من قبيل الدفاع عن التوريث في الحكم (يعني توريث ذريته وقرابته هو) ضد الشكوك التي أثارها القيصر اسكندر "إن فرص تأمين الحكم الصالح في النظام الوراثي أكثر منها في النظام الانتخابي", فالناس يكونون أكثر سعادة في ظل مثل هذه الحكومة الراسخة الدائمة منهم في ظل ديمقراطية:
"تجعل كل الأمور متاحة للجميع بلا ضابط فيستولى الشيطان في خاتمة المطاف على مقدّراتها ففي الأزمنة التي يسودها الهدوء والنظام ينعم كل فرد بنصيبه من السعادة فيصبح عامل الإسطبل سعيدا في إسطبله سعادة لا تقل عن سعادة الملك على عرشه، ويسعد الجندي العادي سعادة لا تقل عن سعادة الجنرال "·(ملحق/537)
وكان حُلمه السياسي المثالي هو توحيد أوروبا في فيدرالية واحدة أو جعل باريس عاصمة العالم التي تحكم القارات والدول من خلال علاقاتها الخارجية· وفي هذا الكيان الأوروبي المشترك تُلغي الحواجز السياسية وتُكفل حرية السفر والنقل والتجارة، ويتم توحيد العملة والموازين والمكاييل والمقاييس · وعندما وصل نابليون إلى موسكو في سنة 1812 ظن أن تحقيق سلام عادل - فقط - مع اسكندر هو الأمر الوحيد الباقي لتحقيق حلمه في توحيد أوروبا· لقد أساء نابليون تقدير القوى الطاردة المركزية الممثلة في الفروق بين الوطنيات المختلفة (الاختلاف بين الأمم)، لكن ربما كان نابليون على حق في الاعتقاد في أن أوروبا إذا ما حقّقت الوحدة فلن يكون ذلك بالإقناع أو بالاحتكام إلى أحكام العقل وإنما رضوخا لقوة متفوقة تستمر طوال جيل· ومع هذا فقد تستمر الحرب، لكنها - على الأقل - ستصبح مدنية (أقرب ما تكون للمنافسة) ·
وكلما اقترب نابليون من نهايته راحت فكرة عجيبة تُلح عليه أكان حُر الإرادة مُبدعاً فيما أتاه أم أنه كان أداة لا حَوْل لها في يد قوى كونية معيّنة· ولم يكن نابليون قدرياً (جبرياً)، ينزع من الإنسان قدرته على العمل الحر، والجبري هو ذلك الشخص الذي يعتقد أن نجاحه وفشله، وصحته ومرضه، وطبيعة حياته ولحظة مماته قد حدّدتها - سلفاً - قوى غير منظورة بصرف النظر عمَّا يختاره هو بإرادته، ولم يكن نابليون يؤمن بالحتمية على نحوٍ واضح، والحتمي هو الشخص الذي يعتقد أن كل ما يجري - بما في ذلك خياراته وأفكاره وأفعاله - إنما هو محكوم سلفاً بتوليفة من كل القوى أو العوامل بالإضافة لما حدث في الماضي (أحداث التاريخ)،(ملحق/538)
لكنه كان يتحدث كثيراً عن القضاء والقدر أو القسمة والنصيب destiny - المجرى الرئيسي للأحداث الذي يمكن تطويعه جزئياً عن طريق الإرادة البشرية لكنه يسير في مساره لا يمكن مقاومته بشكل أساسي، وكأنه ينساب من طبيعة الأشياء ملازماً لها لا يبغي عنها حِولاً· وفي بعض الأوقات كان يحدثنا عن إرادته القوية قوّة تكفي لاعتراض المجرى أو تحويله - لقد كُنتُ دوما قادراً على فرض إرادتي على القدر وينسب إليه قول يتعذّر التعويل عليه لأنه غير مؤكد: "إنني اعتمد على مجريات الأحداث، فلا إرادة لي· إنني أترقب كل الأمور عند صدورها - أي من مصادرها"·
فالأعظم والأعلى سلطة هو الذي يمتلك قدراً أقل من حرية الإرادة فثمة قوى أكثر وأعظم إرادة تفرض نفسها عليه وترتطم بإرادته فالمرء يعتمد على الظروف والأحداث· "إنني العبد Slave الأعظم بين الرجال فسيّدي هو طبيعة الأشياء" · لقد مَزَج بين أمزجته المتقلبة وحالاته النفسية المتباينة والفكرة المنطوية على كبرياء والتي مؤدّاها أنه كان أداة في يد القدر، وهو يقصد بالقدر طبيعة الأشياء التي تفرض مجرى الأحداث ونهاياتها· إن القدر يدفعني لهدف أجهله، وحتى يتحقق هذا الهدف "فأنا منيع حصين لا يستطيع أحد مواجهتي فإذا ما تحقق هذا الهدف أصبحت ذبابة واحدة كافية لتدميري" · لقد شعر بنفسه مقيّداً بقدر محتوم، قدر رائع لكنه خَطير· لقد كان المجد والظروف يسوقانه سَوْقاً "فلابد من إنجاز ما يريده القدر" ·
وكان نابليون يفكر مراراً - مثلنا جميعاً - في الموت، وكان تكوينه النفسي يجعله ميالاً للدفاع عن الانتحار أو التأمل فيه· وفي شبابه شعر "أنّ الانتحار هو الحق النهائي لكل إنسان" لكنه عندما بلغ الواحدة والخمسين أضاف لذلك إذا لم يضر بموته أحداً وكان لا يؤمن بالخلود,
"ليس هناك خلود وإنما الذكرى التي يتركها المرء في عقول الناس ونفوسهم··· أن تعيش بلاد مجد، ودون أن تترك أثراً لوجودك، فكأنك لم تَعِش على الإطلاق "·(ملحق/539)
7 - من هو نابليون؟
أكان فرنسياً؟ لقد كان فرنسياً بالصدفة وبمرور الوقت، وإلاّ فهو ليس فيه من الفرنسيين شيء لا في تكوينه الجسماني ولا في عقله ولا في شخصيته· إنه قصير وأصبح في وقت لاحق بديناً، وكانت ملامحه أقرب ما تكون إلى الصرامة الرومانية منها إلى الملامح الغاليّة الوضاءة وكان ينقصه ما يتمتع به المثقفون الفرنسيون من مرح وتسامح وروح فكاهة وأناقة· لقد كان ميالاً للسيطرة على العالم أكثر من ميله للاستمتاع به· وكان يعاني من بعض الصعوبات في نطق اللغة الفرنسية فقد ظل حتى سنة 1807 يشوب نطقهُ لها لكنة أجنبية وكان يتحدث الإيطالية بطلاقة وكان يبدو في ميلان أكثر التصاقاً بها وألفة معها مما هو في باريس·
وقد عبَّر في مناسبات مختلفة عن عدم حبّه للشخصية الفرنسية· قال لا كاس Las Cases:
" إن الإمبراطور يتحدث بإسهاب عن تقلّبنا وتغير مواقفنا بسرعة فهو يقول إن كل الفرنسيين متمرّدون ميَّالون لتوجيه اللوم··· فرنسا تحب التغيير ولا تُطيق بقاء أي حكومة لفترة طويلة "·
وتحدث غالباِ - بإلحاح شديد لا يُلح مثله إلاّ من كان غير واثق - عن حبه لفرنسا، وكان يكره أن يُقال له يا كورسيكي Corsican فمن أقواله: "أريد أن أكون فرنسياً خالصاً وأنه لنُبل ما بعده نُبل أن يكون المرء قد وُلد فرنسياً". لكنه في سنة 1809 أفضى إلى روديريه Roederer بما يعنيه بهذا الحب:
"ليس له إلاّ عاطفة حب واحدة وخليلة واحدة· إنها فرنسا· إنني أنام معها، فلم تخذلني أبداً· لقد ضحّت بدمائها وأموالها من أجلي، فإن طلبت منها 500,000 مقاتل قدمتهم لي لقد أحبّها على نحو ما يحب عازف الكمان كمانه، كأداة سريعة الاستجابة لقوسه وإرادته"·
لقد شد على أوتارها حتى قطعها، قطعها جميعاً تقريباً وفجأة·(ملحق/540)
أكان نابليون هو ابن الثورة الفرنسية؟ هكذا كان يطلق عليه المتحالفون الأوروبيون ضدّه لكنهم كانوا يقصدون بذلك أنه ورث كل آثامها وجرائمها وأنه واصل مهمتها في إبعاد أسرة البوربون التي كانت حاكمة· أما هو نفسه فقال مراراً إنه قد كان سبباً في إنهاء الثورة الفرنسية أو بتعبير آخر أوصلها إلى النهاية - انه لم يُنه ما سبّبته من فوضى وعنف فحسب، وإنما أنهى أيضاً دعاويها الديمقراطية (غير الحقيقية) · لقد كان ابناً للثورة إلى الحد الذي احتفظ فيه بإنعتاق الفلاحين وتحررهم، وحرية التجارة والقيام بالمشروعات وإلى الحد الذي جعل فيه الناس سواسية أمام القانون وإلى الحد الذي فتح فيه أبواب المناصب على مصاريعها أمام الموهوبين والقادرين كما كان ابناً للثورة في إرادته المعقودة على الدفاع عن حدود فرنسا الطبيعية،
لكنه عندما جعل من نفسه قنصلاً مدى الحياة فإمبراطوراً وعندما قضى على حرية الحديث وحرية الصحافة وأنهى شراكة الكنيسة الكاثوليكية في الحكم وأقام سجوناً جديدة وشجع الأرستقراطية القديمة والجديدة - فإنه - بالتأكيد - يكون قد أصبح بعيداً عن كونه ابناً للثورة· وكان نابليون يمكث أيضاً في البلاد المفتوحة، وفيها أنهى الإقطاع ومحاكم التفتيش وسيطرة رجال الدين على مناحي الحياة، وأدخل لهذه البلاد مواد مدونته القانونية وشيئاً من التنوير، لكنه أيضاً ربط هذه الدول المفتوحة به فعين عليها ملوكا·
أكان حقاً - رغم إرادته - كورسيكا؟ هذا غير صحيح إلاّ فيما يتعلق بولائه لأسرته، وميله للقتال، وعاطفته الجياشة في الدفاع عن فرنسا ضد أعدائها، لكنه لم يكن كورسيكا إذا نظرنا لعدم ميله للإقطاع كما أن قراءاته للمفكرين الفرنسيين أبعدته عن كاثوليكية العصور الوسطى التي كان عليها أهل جزيرته (كورسيكا) · لقد كان كورسيكي الدم، فرنسي التعليم، إيطالياً في كل شيء خلال ذلك·(ملحق/541)
نعم فبعد كل محاولاتنا للإجابة عن هذه الأسئلة يجب أن نرجع إلى ما قاله ستندهال Stendhal وتين Taine من أن نابليون كان كأحد قادة الجنود المرتزقة في إيطاليا في عصر النهضة، وساعد على بقائه محتفظاَ بهذه الخاصية، انعزال كورسيكا وحروبها ونظامها الإقطاعي· لقد كان هو كسيزاري بورجيا Cesare Borgia لكنه ضِعْفه عقلاً، وكان كمكيافيللي لكن حذره بمقدار النصف، وإرادته تزيد على ما أوصى به مكيافيللي مئة مرة· لقد كان إيطالياً لكن فولتير جعله شكّاكاً، كما جعلته الثورة الفرنسية التي شهد وقائعها حاذق الذهن محتالاً، وأصبح لمّاحاً حاد الذهن بدخوله في مناقشات يومية مع المفكرين الفرنسيين اللامعين·
لقد ظهرت فيه كل صفات إيطاليا في عصر النهضة: الفنان والمقاتل والفيلسوف والقائد وحدتهم جميعا - في شخصه - مواهبه وأهدافه وفكره المتغلغل الثاقب اللمّاح، واتجاهه المباشر للانجاز والهيمنة، لكنه لم يكن قادراً علي التوقف· وباستثناء هذا الخطأ الحيوي، فقد كان هو أبرع من شهده التاريخ تحكماً في الأمور المعقدة وأبرع من شهده التاريخ تنسيقاً للطاقة البشرية· لقد أحسن توكويفيل Tocqueville عندما قال: لقد كان كأفضل ما يكون الرجال لكن دون فضيلة، وكأحكم ما يكون الرجال لكن دون تواضع· ومع هذا فقد كان نابليون في نطاق ما هو معقول محتمل عندما توقّع أن العالم قد لا يشهد نظيراً له لقرون كثيرة قادمة·(ملحق/542)
الفصل الحادي عشر
فَرنسا في عَهْد نابليون من 1800 إلى 1815م
1 - الاقتصاد
رغم أنَّ نابليون نشأ ليكون رجلاً عسكرياً إلاَّ أنه كان ذا حِس صائب إزاء الحقائق الاقتصادية باعتبارها أساس تحديد مصائر الأسر وباعتبارها ركيزة للحضارة، وبها يكون الحُكُم على قوّة الدولة أو ضعفها· وبشكل عام فإنه رغم ميله الشديد للتنظيم كان مناصراً للحرية الاقتصادية، وفتح أبواب المنافسة، وحقوق الملكية الخاصّة· فلم يهتم كثيراً بالخطط الاشتراكية التي قال بها تشارلز فورييه Charles Fourier وغيره والمتعلقة بالإنتاج الجماعي وتوزيع الناتج توزيعاً متساوياً· فقد كان يشعر شعوراً أكيداً أن الأقلية الأكثر مقدرة - في أي مجتمع - سرعان ما تحكم الأكثرية وتستوعب - أي هذه الأقلية النَّشِطة - القدر الأكبر من الثروة، وأكثر من هذا فإن المُثْل الشيوعية لا تستطيع على المدى الطويل بأساليبها المتباينة في تقديم الحوافز في حفز الناس على الكدح، ففي تحليل جانبي ورد أن الجوع هو الذي يجعل العالم يتحرك وأكثر من هذا فإن الملكية الجماعية تمثّل إغراء مستمراً باللامبالاة·
"فبينما الملكية الفردية بما فيها من مصالح شخصية للمالك في ثروته - تدفع لليقظة الدائمة والانتباه المستمر مما يجعل خططه مثمرة محققة لأهدافها، فإن الملكية الجماعية تؤدي للخمول وعدم الإنتاجية، لأن المشروع الفردي مسألة موهبة ومهارة بينما المشروع الجماعي مسألة روح عامة، وتوفر الروح العامة العالية لا يكون إلاّ نادراً" ·
ومن هنا فقد فتح نابليون كل الأبواب و"أتاح كل الفرص لكل الناس بصرف النظر عن ثرواتهم وأنسابهم"· وقد نعمت فرنسا حتى سنوات حكمه الأخيرة بالرخاء الذي حقَّق السلام الاجتماعي بين كل الطبقات ولم تعد هناك بطالة ولا اضطرابات سياسية· ولم يعد أحد مهتماً بالإطاحة بحكومة وظّفت أو أتاحت فُرصة عمل لكل محتاج ·(ملحق/543)
لقد كان نابليون يؤمن بمبدأ أساسي هو "أن دولة تقوم ماليتها على نظام زراعي جيد لا تسقط أبداً"· لقد أدرك أنه بإشرافه على كل شيء وعدم إغفاله أي شيء أن التعريفات الحامية Protective tariffs والتمويل المالي الموثوق به وصيانة الطرق والقنوات بشكل جيد، كل ذلك لابد أن يشجع الفلاحين على العمل الجاد المتواصل وعلى شراء الأراضي واستصلاح المزيد منها، وتزويد جيوشه بالشباب الأقوياء· لقد كان عدد كبير جداً من الفلاحين الفرنسيين يعملون بنظام المزارعة (أي العمل في مزارع الآخرين لقاء المشاركة في المحصول) أو في أراضٍ مستأجرة لكن نصف مليون منهم أصبحوا بحلول عام 1814 يمتلكون الفدادين (الأكرات acres) التي يزرعونها· وقد وصفت سيدةٌ إنجليزية قامت برحلة إلى فرنسا في هذا العام الفلاحين الفرنسيين بأنهم يتمتعون بدرجة من الرخاء لم يصل إليها الفلاحون في أي مكان في أوروبا · وقد نظر هؤلاء الزرَّاع إلى نابليون باعتباره الضمان الحي لحُجج ملكياتهم وظلوا موالين له حتى وهنت أراضيهم نتيجة غياب أبنائهم المجندين في جيوشه·
واهتم نابليون أيضاً بالصناعة اهتماماً أساسياً· فجعل من مهامه زيارة المصانع وإظهار اهتمامه بعمليات الإنتاج والمنتجات، وبالعمال والحرفيين والمديرين· وتطلّع إلى وضلع العِلْم في خدمة الصناعة· لقد أقام المعارض الصناعية - ففي سنة 1801 أقام معرضاً في اللوفر، وآخر في سنة 1806 في خيمة هائلة في ميدان الجنود المتقاعدين ومشوّهي الحرب ونظم مدرسة الفنون والحِرَف، وكافأ المخترعين والعلماء· وأجريت التجارب في سنة 1802 لاستخدام طاقة البخار وبالفعل فقد تم تجريب آلة غير مُتقنة تعمل بالبخار لتسيير بارجة نقل بضائع في ترعة قرب باريس، لكن أمر استخدام الطاقة البخارية كان في حاجة إلى مزيد من الجهود·(ملحق/544)
وفي سنة 1803 قدَّم روبير فلتون Robert Fulton خطة لاستخدام الطاقة البخارية في الملاحة، فأحالها نابليون إلى المعهد الوطني الفرنسي Institute National الذي رفضها بعد شهرين من التجارب لكونها غير عملية· لقد كانت الصناعة الفرنسية تتقدم على نحو أبطأ من الصناعة البريطانية، فقد كانت أسواق تصريف منتجاتها أقل ورؤوس أموالها أقل، واستخدام الآلات فيها أقل·
وعلى أية حال ففي سنة 1801 عرض جوزيف - ماري جكوار Joseph-Marie Jacquard آلة جديدة للنسج وفي سنة 1806 اشترت الحكومة الفرنسية اختراعه هذا ونشرته فأصبحت صناعة النسيج الفرنسية تنافس نظيرتها البريطانية· وزاد عدد الأنوال (جمع نول) المستخدمة في صناعة الحرير في ليون من 3,500 نُول سنة 1800 إلى 10,720 في سنة 1808 وفي سنة 1810 كان يعمل في مصانع مورّد نسيج واحد أحد عشر ألف عامل ·
وفي هذه الأثناء كان الكيميائيون الفرنسيون يواصلون جهودهم لمواجهة منع المنتجات البريطانية من السكر والقطن والأصباغ (النيلة أو الأصباغ الزرقاء) فصنعوا السكّر من البنجر والأصباغ الزرقاء من نباتات الوَسمة woad، وطوّروا الكتان فجعلوا منسوجاته أفضل من المنسوجات القطنية، وصنعوا البراندي (نوعاً من الخمور) من البطاطس·
وساعد نابليون الصناعة الفرنسية بالتعريفات الحامية Protective tariffs والحصار القاري المضاد وعاونها لتجاوز الصعاب المالية بالقروض بشروط مُيسَّرة وفتح أسواقاً جديدة للمنتجات الفرنسية في إمبراطوريته الواسعة، وكان يستوعب العمال في أشغال عامة على نطاق واسع إن شهدت البلاد ركوداً في عمليات التشغيل أو التوظيف·
وكان بعضها شاهداً على عظمة نابليون وجيوشه مثل عمود فيندوم Vendome Column والمادلين Madeleine ( الكلمة تعني حرفياً فواكه الصيف) وقوس النصر المرصّع بالنجوم وقوس نصر ميدان الفروسية، وشغَّل الشباب في بعض الأعمال الأخرى مثل إقامة تحصينات عسكرية أو أعمال تهدف لتسهيل التحركات العسكرية وغيرها كالأشغال التي جرت في ميناء شيربورج Cherbourg وحصنه وقناته،(ملحق/545)
وبعض هذه الإنشاءات ذات النفع كانت مصمّمة بحيث يكون لها أبعاد فنية جمالية، كمبنى البورصة وبنك فرنسا ومبنى مكتب البريد العام ومسرح الأوديون Odeon ( الكلمة تعني حرفياً مسرح إغريقي للموسيقي والغناء)، بل وحتى سوق القمح Bels أو سوق النبيذ Vins (1811) وبعض هذه الأشغال العامة كانت لتسهيل العمل الزراعي، كتجفيف المستنقعات بالإضافة لأعمال أخرى تُيسِّرالنقل والتجارة· وتم افتتاح شوارع جديدة في باريس مثل طرق ريفولي Rivoli وكاستينجليون Castiglione والبو Paix ( السلام) وميلين من الأرصفة على طول نهر السين ومقر وزارة الخارجية الفرنسية المطل على هذا النهر ذاته،
والأكثر أهمية إنشاء 33,500 ميل من الطرق الجديدة في فرنسا، وما لا حصر له من الجسور بما في ذلك جسر أوسترليتز Ponts d'Austerlitz في باريس وجسر لينا Lena في باريس أيضاً، أضف إلى هذا تطهير النهر ومد شبكة رائعة من الترع والقنوات· لقد تم حفر ترع كبرى لتربط باريس بليون Lyons وليون بستراسبورج Strasbourg وبوردو Bordeaux· وسقط نابليون قبل أن يستطيع إكمال مشروعين آخرين: قنوات تربط الراين بالدانوب والرون، وقنوات أخرى تربط البندقية (فينيسيا) بجنوى Genoa ·
ولم يكن مسموحاً للعمال الذين يعملون في حفر القنوات وإقامة أقواس النصر وتشغيل المصانع بالاشتراك في أي إضراب أو تكوين اتحادات للمطالبة بتحسين ظروف العمل أو رفع الأجور· وعلى أية حال فإن حكومة نابليون عملت على أن تكون الأجور متمشية مع الأسعار وأن يخضع الخبَّازون والجزارون (اللحّامون) والمنتجون لتنظيم الدولة وأن تتوفّر ضروريات الحياة خاصة في باريس·
وحتى الأعوام الأخيرة من حكم نابليون كانت الأجور تزداد بمعدّل أسرع من ازدياد الأسعار وشاركت البروليتاريا (الطبقة العاملة) على نحو معتدل في الرخاء العام وفي مجد انتصارات نابليون، فأصبحوا أكثر وطنية من البورجوازية· فأعطوا أذناً غير مصغية للبورجوازيين الليبراليين مثل مدام دي ستيل وبنيامين كونستات (قستنطين) Constant في تبشيرهم بالحرية·(ملحق/546)
ومع هذا كانت هناك أصوات مستاءة، وأسباب للاحتجاج· فلأن الاقتصاد الحر كلما تقدَّم أصبح النشيطون أثرياء، فقد أدرك بعض الناس أن المساواة تتدهور في ظل الحرية، وعلى هذا فقد كان رأيهم أن الحكومة تقوم بعمل مُنكر بسماحها بتركيز الثروة لتستثني بذلك نصف السكان من ثمار الاختراعات ومزايا الحضارة،
ففي سنة 1808 أصدر فرانسوا - ماري فورييه Fourier كتابه نظرية الحركات الأربع ومصير العامة الذي يمثل أول مثال تقليدي للاشتراكية المالية Utopian· لقد اقترح على غير الراضين بأوضاعهم في ظل النظام الصناعي القائم أن يتَّحدوا في كتائب تعاونية phalanges بمعنى أن تعيش حوالي أربعمائة أسرة معاً في مستعمرات تعاونية (تستخدم بعض الكتب والقواميس العربية مصطلح كتائب تعاونية أو كتائبية تعاونية) أو مبنى واحداً مُشاعاً بينهم بحيث يقضي كل الأعضاء جزءاً من العمل اليومي في مجال الزراعة (بحيث يكون هذا العمل منظماً تنظيماً جماعياً) وجزءاً آخر في الصناعة الجماعية أو المنزلية، ويقضون الجزء الثالث في الترفيه أو التثقيف،
وفي نظامه هذا يتحتم أن يقوم الفرد بمهام مختلفة وأن يُغير موقعه في العمل بين الحين والحين، بمعنى أن يساهم كل فرد على قدم المساواة في إنتاج أو أرباح هذه المستعمرة التعاونية (أو الكتيبة التعاونية Phalanx) ووفقا لهذا النظام يكون في كل مستعمرة تعاونية مركز اجتماعي ومدرسة ومكتبة وفندق وبنك· وسرعان ما كانت هذه الخطة مصدر إلهام في شطري الكرة الأرضية وكانت مزرعة بروك Brook Farm بالقرب من بوسطن Boston هي الوحيدة التي تكوّنت من عدّة مجتمعات مثالية (يوتوبية Utopian) سرعان ما تناقص عددها نتيجة النزعات الفردية الطبيعية للبشر·(ملحق/547)
ولم يكن نابليون نفسه مولعاً ولعاً شديداً بالرأسمالية· فقد كان يقول عن الأمريكيين أنهم مجرّد تجّار فهم يكرّسون كل همهم لجمع المال الذي هو مجدهم وقد شجّع نابليون التجارة الفرنسية بمضاعفة وسائل النقل وصيانة الطرق بشكل مستمر، وبالتمويل المالي وضخ الأموال بشكل ثابت لكنه عوّقها بألف مرسوم ومرسوم لإحكام الحصار القاري المضاد، وأخيراً اضطر للتسليم نتيجة شكاوى التجار (1810 - 1811) وسمح بتصدير بضائع معينة لبريطانيا وباستيراد السكر والبن ومنتجات أجنبية أخرى·
لقد أرهقته هذه التراخيص (بالاستيراد أو بالتصدير) فقد عملت المحسوبية عملها وظهر الفساد من خلالها · فكلما نمت الصناعة في فرنسا كانت استفادة التجارة والحرفيين الصغار أكبر من استفادة تجارة الجملة فكلما توسعت الزراعة والصناعة ووسائل النقل أصبحت بضائع المخازن غير متاحة لتجار الجملة الفرنسيين· حقاً إن عدداً كبيراً من الشوارع قد انتعش بالبوتيكات (المحلات) العامرة، لكن الموانئ الكبرى - مرسيليا وبوردو ونانت Nantes ولا هافر La Havre وأنتورب Antwerp وأمستردام - كلها كانت تعاني الكساد الذي أرجع التجار سببه لنابليون وحصاره القاري (المضاد) ·(ملحق/548)
وكان أعظم نجاحات نابليون كإداري في مجال المالية· ومن الغريب أن نقول إن حروبه حتى سنة 1812 عادة ما كانت تدر عائداً أكثر من تكاليفها· لقد حمّل أعداءه مسئولية بدء الحرب وعندما هزمهم فرض عليهم وعلى حُكامهم السابقين دفع مبالغ طائلة تأديباً لهم، وكان نابليون يحتفظ بجانب من هذه الغرامات تحت إشرافه الشخصي كملك استثنائي Domaine extraordinaire وقد تباهى في سنة 1811 أن لديه 300,000,000 فرنك ذهبي في أقبية (جمع قبو) قصر التوليري Tuileries وكان يستخدم هذه الميزانية في تذليل صعوبات الخزانة الفرنسية، وفي تصحيح التحوّلات الخطرة في سوق الأوراق المالية وتمويل الأشغال العامة أو التحسينات البلدية والقروية، وللمكافأة على الخدمات البارزة ولتمييز الفنانين والكتاب ولإنقاذ الصناعات المتعثرة ولرشوة صديق أو عدو، ولتنفيذ سياساته السرّية· ويتبقي جزء كافٍ للاستعداد للحرب التالية وليجعل الضرائب أقل بكثير مما كانت عليه في ظل لويس السادس عشر أو أثناء الثورة الفرنسية ·
يقول تين Taine قبل سنة 1789:
"كان الفلاح الفرنسي يدفع من كل مئة فرنك يكسبها 14 فرنكاً للسيد الإقطاعي و14 فرنكاً للإكليروس (رجال الدين) و53 فرنكاً للدولة ولا يبقى له سوى 18 أو 19 فرنكا"ً·
وبعد سنة 1800 لم يعد يدفع للسيد الإقطاعي أو للإكليروس وإنما أصبح يدفع قدراً قليلاً للدولة و25 فرنكاً لمجلس الدائرة أو المحافظة ويحتفظ لنفسه بسبعين فرنكاً من مئة لنفسه ·
وقبل سنة 1789 كان العامل اليدوي يدفع ما يعادل أجر أيام عمل تتراوح ما بين عشرين يوماً إلى تسعة وثلاثين يوماً ليسدّد ما عليه من ضرائب كل عام، وبعد سنة 1800 أصبحت هذه الفترة تتراوح ما بين ستة أيام إلى تسعة عشر يوماً· وكاد عبء الضرائب المباشرة يقع كله على كاهل من يملكون مقابل الإعفاء شبه الكامل (من الضرائب) لمن لا يملكون وعلى أية حال فقد كانت هناك ضرائب كثيرة معتدلة تماماً غير مباشرة أو ضرائب مبيعات كان يتحملها كل الناس على نحو سواء ومن ثم كان الفقراء يعانون منها أكثر من الأثرياء·(ملحق/549)
وقرب نهاية الحكم الإمبراطوري زادت تكاليف الحرب عن عوائدها فارتفعت الضرائب والأسعار وعمّ السخط· ودفعت الأزمة المالية في سنة 1805 نابليون إلى إعادة تنظيم بنك فرنسا الذي كان قد أنشئ في سنة 1800 في ظل إدارة خاصة· وبينما كان نابليون يحارب دفاعاً عن وجوده السياسي في مارينجو Marengo أحكمت مجموعة من المضاربين سيطرتها على إمدادات القوات المسلحة وكان على رأس هؤلاء المضاربين جابرييل جوليان أوفرار Gabriel - Julien Ouvrard وقد طلب هؤلاء المضاربون - أثناء مرورهم بمصاعب - من البنك قرضاً كبيراً، ولكي يقدم البنك هذه المبالغ أصدر - بعد استئمان وزارة الخزانة - عملته النقدية كعملة رسمية معترف بها، وفشل هذا الإجراء فلم تُقبل هذه الأوراق النقدية عند إجراء الصفقات وتدنَّت قيمتها الفعلية إلى نحو 90% من قيمتها المدونة عليها (الاسميّة) · وواجه البنك وجماعة المضاربين الإفلاس·
وعند عودة نابليون إلى باريس أنقذ البنك بجزء من التعويضات التي تسلَّمها من النمسا، لكنه أصر - أي نابليون - أن يصبح البنك من الآن فصاعداً تحت إشراف الدولة لكن على الدولة ألاَّ تتجاوز الحد في هذا الإشراف وفي 22 أبريل سنة 1806 وضعه تحت إشراف محافظ governors واثنين من المساعدين تُعينهم الحكومة، وخمسة عشر وصى يختارهم المساهمون، وافتتح هذا البنك الجديد (المقصود بنظامه الجديد) فروعاً له في ليون Lyons وروان Rouen وليل Lille وبدأ مهمته التي طال أمدها في خدمة الاقتصاد الفرنسي والدولة· وظلت الحكومة لا تمتلك إلاّ القليل من أسهم هذا البنك·
ولم يكن نابليون يحترم كثيراً أولئك الذين يبيعون المؤن لجيشه ووزاراته· فقد كان كل متعاقد من المتعاقدين يحشو فواتيره وكان بعضهم يُقدم مواد زائفة (مغشوشة) مقرونة بأسعار تشير إلى أنها (أي هذه المواد) ممتازة· وأصدر تعليماته لموظَّفيه ليراجعوا بحزم كل الفواتير المقدمة لهم بل لقد كان يراجعها بنفسه في بعض الأحيان· لقد قال لبوريين Bourrienne:
" إن كل المتعاقدين (المورّدين) وكل وكلاء التمويل محتالون·· إنهم يمتلكون الملايين ويتمرغون في النعمة، بينما جنودي ليس لديهم خبز ولا أحذية··"(ملحق/550)
وفي فيينا تلقي سنة 1809 شكاوي من رداءة الملابس والمعدّات التي بيعت لجيشه، فأمر بإجراء تحقيق تبيّن منه أن المتعاقدين حققوا أرباحاً طائلة من هذه المبيعات بغير وجه حق، فأمر بتشكيل محكمة عسكرية حكمت على المختلسين بالإعدام، وتم تنفيذ الحكم رغم كل الوساطات التي بُذلت لإنقاذهم والتي رفضها نابليون ·
وعلى العموم فحتى ناقدو نابليون المعادون يعترفون أنه في السنوات الثلاث عشرة الأولى من حكم نابليون شهدت فرنسا أقصى درجات الرخاء والازدهار لم تعرفه قبل ذلك أبداً· وعندما عاد لا كاس Las Cases إلى فرنسا سنة 1805 من جولة في ستين دائرة (محافظة) ذكر في تقرير له أن فرنسا لم تكن في أي فترة في تاريخها أكثر قوة وانتعاشا وسعادة، وأفضل حكما مما هي عليه الآن وكان لا كاس أحد الذين هاجروا من فرنسا عقب أحداث الثورة الفرنسية لكنه عاد إليها بعد العفو عنه· وفي سنة 1813 زعم وزير الداخلية الكونت دي مونتاليف Montalivet: " أن هذا الرخاء المستمر راجع إلى القضاء على النظام الإقطاعي، والنظام الطبقي والنظم الدّيرية··· والاتجاه بشكل أكثر نحو توزيع أكثر عدالة للثروة وتبسيط القوانين وجعلها أكثر وضوحاً"
وفي سنة 1800 كان تعداد سكان فرنسا حوالي 28 مليون، أصبحوا في سنة 1813 ثلاثين مليوناً· ولا تبدو هذه الزيارة مروّعة لكن لو كانت هذه النسبة في الزيادة قد استمرت حتى سنة 1870 (حتى بدون حساب الزيادة المركبة) لكان على ابن أخي نابليون أن يحكم خمسين مليوناً ليواجه بهم تحدي ألمانيا بزعامة بسمارك·
2 - المعلّمون
لقد لاحظنا أن نابليون خلال فترة القنصلية (الفترة التي كان يحكم فيها فرنسا كقنصل أول) يحاول أن يقدم لفرنسا في فترة ما بعد الثورة نظاماً جديداً ويُعيد إليها الاستقرار بمدوَّنة القانون المدني، وكونكوردات السلام Concordat ( الاتفاق مع البابا) والتعاون بين حكومته والدين التقليدي للشعب الفرنسي·(ملحق/551)
وبالإضافة إلى هذه القوى المكوّنة للوجدان الفرنسي، رأى نابليون أن يضيف قوّة أخرى ثالثة بإعادة تنظيمه التعليم في فرنسا· من بين كل الآليات الاجتماعية، ربما كانت المدرسة هي الأكثر فعالية وتأثيراً، لأنها تمارس على الأطفال والشباب ثلاثة أنواع من التأثيرات بشكل مباشر وغير مباشر: تأثير الناظر والمدرسين، وتأثير من خلال الدراسة المشتركة، وتأثير أخير من خلال القواعد المتبعة والإجراءات المرعية ·
لقد كان نابليون مقتنعاً أن سبباً واحداً كان كامناً وراء انهيار القانون والنظام أثناء الثورة الفرنسية هو عدم قدرتها على ترسيخ نظام تعليمي جديد يكفي ليحل محل النظام التعليمي الذي كانت تديره الكنيسة قبل الثورة· لقد نسيت الثورة هذا المشروع في خضم صراع الموت أو الحياة في هذه الفترة· لقد تم وضع خطط رائعة، لكنها لم توضع موضع التنفيذ بسبب نقص المال، كما أن الوقت الكافي لتنفيذها لم يكن متاحاً أثناء الثورة· وكان التعليم الابتدائي قد تُرِك للقسس والراهبات أو في أيدي معلمين ونظار تركهم الآباء والمجالس البلدية (الكومونات communes) يعيشون فوق خط الجوع بقليل·
وكانت المدارس الثانوية موجودة بالكاد في مؤسسات تعليمية lycees تقدم مقررات دراسية في العلوم والتاريخ دون أن تهتم - إلاّ قليلاً - بتكوين شخصية الطالب· لقد فكر نابليون في التعليم العام من منظور سياسي: إن وظيفته هي تخريج مواطنين أذكياء لكن مطيعين· لقد قال بصراحة غير معهودة في الحكومات:
"عند تكوين هيئات التدريس، فإن هدفي الأساسي هو تأمين وسائل توجيه الرأي السياسي والأخلاقي··· فطالما أن المرء ينشأ دون أن يعرف ما إذا كان جمهورياً أم ملكياً، كاثوليكياً أو لادينياً irreligious، فإن الدولة لن تستطيع أبداً تكوين أمّة، وإنما ستقوم على أسس غامضة وغير أكيدة، وستكون دائماً عرضة للفوضى والتغيير"·(ملحق/552)
وبعد أن أعاد الارتباط بين الكنيسة والدولة سمح لمنظمات نصف ديرية مثل جماعة إخوة المدارس المسيحية Freres des Ecoles Chretiennes بتقديم مناهج دراسية في المرحلة الابتدائية، كما سمح للراهبات بتعليم البنات الموسرات· لكنه رفض أن يدخل الجزويت Jesuits ( اليسوعيين) فرنسا من جديد· ومع هذا فقد كان معجباً بهم لتنظيمهم المنضبط كنقابة مكرَّسة للمدرسين· لقد كتب نابليون (16 فبراير سنة 1805):
"أن الأمر الأساسي هو تعليم الأطفال على نسق الجزويت الأوائل" وتذكر بوريين قائلا: "عندما كنت معه (نابليون) كان كثيراً ما يقول لي أنه من الضروري أن تكون كل المدارس والكليات وغيرهما من مؤسسات التعليم العام خاضعة للنظام العسكري"
وفي ملاحظة أبداها نابليون في سنة 1805 قال: "لا يمكن تكوين نظام للتدريس إلاّ إذا خضع كل مديري المدارس وموجهيها ومعلميها في الإمبراطورية لرئيس واحد أو عدة رؤساء على نسق رؤساء عموم الرهبنة ومسئوليها المحلِّيين···"
عند الجزويت (اليسوعيين) وإلاّ إذا كانت القاعدة هي ألا يشغل أي شخص منصباً أعلى في المؤسسة التعليمية إلا إذا كان قد سبق له وشغل المناصب والمراكز الأخرى الأدنى درجة· ومن المستحب أيضاً "ألا يتزوج المدرّس أو أن يؤجّل زواجه حتى يؤمّن لنفسه مركزا ودخلاً·· كافيا لإعالة أسرة" ·
وبعد عام (10 مايو سنة 1806) ضَمِنَ أنطوان فرنسوا دي فوركروي Antoine - Francois de Fourcroy - الموجّه العام للتعليم العام من المجلس التشريعي مرسوماً مؤقتاً مفاده "تأسيس الجامعة الإمبراطورية لتكون جهازاً مختصاً دون سواه بالتدريس على مستوى الإمبراطورية" (أسست جامعة باريس حوالي سنة 1150 وألغتها الثورة الفرنسية في سنة 1790) · وكان على هذه الجامعة الجديدة ألا تكون مجرّد مجموعة كليات - كلية للاهوت، وأخرى للقانون وثالثة للطب ورابعة للعلوم وخامسة للآداب، وإنما أن تكون المؤسسة الوحيدة لتخريج مدرّسي المرحلة الثانوية في فرنسا،(ملحق/553)
وأصبح يتعين تأسيس مدارس ثانوية في مدينة أو أكثر في كل محافظة لتقدم لطلبتها مناهج دراسية تزاوج بين اللغات الكلاسيكية والآداب والعلوم وأن تقوم المجالس البلدية بتمويلها، لكن كل مدرسيها لابد أن يكونوا من خريجي الجامعة، وألا يرقى أي منهم إلى منصب أعلى إلا إذا سبق له شغل المنصب الأدنى منه، وأن يُطيع رؤساءه على نحو ما يطيع الجندي الضابط· ولحث الشباب الفرنسي على الالتحاق بهذه الطاحونة الشاقة Treadmill قدّم نابليون 6400 منحة دراسية تعهّد الذين حصلوا عليها بالتفرغ لمهنة التدريس وأن يؤجلوا زواجهم حتى بلوغهم سن الخامسة والعشرين على الأقل· وسيكون أمامهم في النهاية فرص الترقي لأعلى المناصب في الدولة · وقال نابليون لفوركروي: "إن كل هذا مجرد بداية، شيئاً فشيئاً ستقوم بتحقيق ما هو أكثر وما هو أفضل" ·
وبالفعل فقد فعل ما هو أفضل - من وجهة نظره - بأن أعاد (في سنة 1810) دار المعلمين Ecole Normale لتكون فرعاً من فروع الجامعة، وفي هذه الدار يعيشون معاً في ظل نظام عسكري ويتلقون تعليماً خاصاً على يد هيئة تدريس ذات تقدير واحترام تضم أساتذة مثل لابلاس ولاجرانج Lagrange وبيرثول Berthollet ومونج Monge وبحلول عام 1813 كان من المتوقع أن يكون كل معلّمي الكليات من خريجي دار المعلمين، وبدأ العِلم يسود على حساب الدراسات الكلاسيكية في مناهج الكليات وأصبح هو الذي يَسِمُ الروح العامة لفرنسا المتعلمة·
وتحولت مدرسة البوليتقينة Ecole Polytechnique التي أسست خلال الثورة إلى الأكاديمية العسكرية حيث وُضعت العلوم الفيزيقية في خدمة الحرب، وبقيت عدة جامعات في المحافظات حتى بعد انتهاء انتصارات الإمبراطور العسكرية، وسُمح بإقامة كليات خاصة بعد الترخيص لها من الجامعة وعلى أساس خضوعها للتفتيش الدوري· وبعد استتباب الأمور سُمِح لأفراد من المحاضرين باستخدام قاعات الجامعة لتقديم برامج دراسية خاصة وسُمح للطلبة بحضور هذه البرامج وفقاً لرغباتهم·(ملحق/554)
وكان على رأس الهرم الفكري المعهدُ الوطني الفرنسي· وأعيدت الأكاديمية الفرنسية التي كانت قد ألغيت في سنة 1793 لتكون في سنة 1795 بمثابة القسم الثاني للمعهد الجديد· وكان نابليون فخوراً بعضويته في المعهد لكن عندما تجرأ قسم السياسة والأخلاق في المعهد في سنة 1801 على تقديم محاضرات عن كيفية إدارة دفّة الحكم، أمر نابليون الكونت لويس - فيليب دي سيجور de Segur أن يخبر القسم الثاني في المعهد أنني لا أسمح أن يناقش الأعضاء في اجتماعاتهم موضوعات سياسية وكان المعهد يضُم في ذلك الوقت كثيراً من الثوّار القدامى المؤمنين بالتنوير والثورة وقد عبَّروا عن سخطهم بالضحك أو البكاء لإعادة الكنيسة الكاثوليكية بشكل رسمي· واستخدم كاباني Cabanis وديستوت دي تراسي Destut de Tracy كلمة أيديولوجية للتعبير عن دراسة تكوين الأفكار·
وقد أطلق نابليون على هؤلاء السيكولوجيين والفلاسفة اسم الأيديولوجيين ideologues وقال عنهم: "إنهم أناس غارقون في الأفكار ويُعربدون بالمنطق والعقل لدرجة تجعلهم غير قادرين على فهم حقائق الحياة والتاريخ"· وكان نابليون يرى أن المفكرين الذين ينشرون أفكارهم عبر منشورات لا يُحصى عددها يشكلون عقبة في سبيل الحكومة الصالحة· ومن أقواله: "إن من يجيدون الكتابة ويتمتعون بالفصاحة ليس لديهم القدرة الحاسمة على الفصل في الأمور" وقد حذَّر نابليون أخاه جوزيف الذي كان يحكم وقتها نابلي (18 يوليو سنة 1807) قائلا:
"أنت تقضي وقتاً طويلاً مع رجال الأدب إنهم مثل المثقفين والمفكرين الذين يثرثرون وينشرون الإشاعات في الصالونات إنني أعتبر العلماء والمفكرين كالنِّسوة المغناجات الحنَّانات لابد أن يتابعهن المرء ويتحدث معهن لكنه أبداً لا يختار من بينهم زوجة له كما أنه لا يختار من بين هؤلاء الناس وزراءه "·(ملحق/555)
وفي 23 يناير سنة 1803 أعاد تنظيم المعهد وقسَّمهُ إلى أربعة أقسام، وألغى منه قسم السياسة والأخلاق· القسم الأول وهو القسم الذي كان يقدّره تقديراً شديداً مختص بدراسة العلوم· وكان من بين أعضائه الستين ادريان ليجندر Adrien Legendre ومونج وبيوت Biot وبيرثول وجاي - لوسّاك Gay-Lussac ولابلاس ولامارك وجيوفري سان - هيلير Geoffroy Saint-Hilaire وكوفييه Cuvier والقسم الثاني ويضم أربعين عضواً مختصاً بدراسة اللغة الفرنسية وأدبها وقد حلّ هذا القسم محل الأكاديمية الفرنسية القديمة، وواصل العمل في القاموس Dictionnaire وكان هذا القسم يضم الشاعر المخضرم ديليل Delille والدرامي الشهير ماري - جوزيف دي شينييه Marie Joseph de Chenier والمؤرخ الشاب جيزو Guizot والكاتب الرومانسي شاتوبريان Chateaubriand،
والفلاسفة: فولني Volney وديستوت دي تراسي Destutt de Tracy ومين دي بيرا Maine de Biran· أما القسم الثالث الذي يضم أيضاً أربعين عضواً فمختص بدراسة التاريخ القديم وتاريخ الشرق سواء التاريخ العام أم تاريخ الآداب والفنون، وفي هذا القسم تابع لويس لانجلي Langles تلك الدراسات عن فارس والهند التي أدّت بالفعل إلى ظهور مدرسة اللغات الشرقية Ecole des Langues Orientales (1795) واكتشف جان بابتست دَنس دي فيلوسو Jan - Baptiste d'Ansse de Villoison المعلّقين السكندريين على هوميروس وبذا مهّد الطريق أمام نظرية ف· أ· ولف F.A. Wolf التي مؤداها أن أعمال هوميروس اشترك في كتابتها عدد كبير· والقسم الرابع - أكاديمية الفنون الجميلة - يضم عشرة رسامين وستة نحاتين وستة معماريين وثلاثة حفارين (مشتغلين بفن الحفر) وثلاثة ملحنين، وفي هذا القسم تألق ديفيد وانجر Ingres وهودو Houdon·(ملحق/556)
ورغم نفور نابليون من الأيدلوجيين فقد دعَّم المعهد بإخلاص وكان تواقاً لجعله حلية يتحلّى بها حكمه· وكان كل عضو من أعضاء المعهد يتلقى من الحكومة 1,500 فرنك كراتب سنوي، وكان كل فرد من أفراد السكرتارية الدائمة يتلقى راتباً سنوياً مقداره ستة آلاف فرنك· ويقدم كل قسم في شهري فبراير ومارس، للإمبراطور تقريراً بانجازاته، وكان نابليون مسروراً من الصورة العامة، فقد زعم مينيفال أنه قال:
"إن هذه المتابعة العامة للآداب والعلوم والفنون··· تظهر أن الذكاء البشري أبعد ما يكون عن الارتداد والتراجع وأنه لم يتوقف أثناء مسيرته المتواصلة نحو التقدم",
وقد نتشكك في كلمة المسيرة المتواصلة لكن الذي لا شك فيه أن إعادة تنظيم المؤسسات العلمية، وتقديم المنح الدراسية في ظل حكم نابليون جعل المشتغلين في الحقول العلمية والأدبية والفنية في فرنسا على رأس قرنائهم الأوروبيين طوال نصف قرن·
3 - المحاربون
لقد أدى قيام الثورة الفرنسية إلى أن أصبحت الحرب هي الأكثر تتابعاً والأكثر مدعاة للقتل والأكثر تكلفة، وقد أدى التجنيد العفوي العام (تسليح الشعب بشكل عام لمواجهة عدو لم تجر الاستعدادات العسكرية المعتادة لمواجهته) في سنة 1793 إلى قناعة بأن "الحرب لم تعد (ولا يجب أن تكون) مباراة بين الملوك يستخدمون فيها المرتزقة وإنما نضال أمم تشترك فيه كل الطبقات" - رغم أن الحكومات الأخرى حذت حذو فرنسا قبل ذلك ببعض الوقت بسماحها للعوام أن يُصبحوا ضباطاً بل وحتى مارشالات·(ملحق/557)
وكان روسو قد وضع بالفعل القاعدة العامة التي مؤداها أن الخدمة العامة هي اللازمة المنطقية للاشتراك في التصويت (في الانتخابات)، فيجب على من سيصوّت أن يخدم (وطنه) ففرنسا بمواجهتها للملكيات الأوروبية دفاعاً عن نظامها الجمهوري، فرنسا تلك التي كانت قبل لويس الرابع عشر تضم خليطاً من مناطق لكل منطقة مقوّماتها الخاصة ولا تربطها معها روح وطنية عامة، وحدّها الآن (1793) الخوف العام· لقد كانت استجابتها للتهديد حاسمة وذات طابع وطني عام· لقد أصبح من الضروري تكوين جيش كبير يضم كل الرجال، وبدأ التجنيد الإلزامي وعندما بدأت جماهير الفرنسيين (من غير العسكريين) في هزيمة القوات العسكرية المحترفة للملكيات الإقطاعية - فإن هذه الدول الملكية المهزومة فرضت هي الأخرى التجنيد الإلزامي، وبذا أصبحت الحرب صراع جماهير تتنافس في مضمار القتال· لقد أصبحت الحرب في الأساس صراعاً على المجد بين القوميات (الوطنيات) بعد أن كانت صراعاً بين الأسرات الحاكمة التي تبغي كل منها تحقيق ذاتها على حساب الأخرى·
وفي سنة 1803 أصدر نابليون قانوناً جديداً للتجنيد الإلزامي لمواجهة انهيار سلام معاهدة أمين Amiens وتحسباً لحرب ضد تحالف أوروبي آخر ضدّه· ونص هذا القانون الجديد على تجنيد كل الذكور من الشريحة العمرية ما بين عشرين وخمسة وعشرين، مع استثناءات كثيرة كاستثناء المتزوجين حديثاً وطلبة المعاهدة اللاهوتية والذين فقدوا زوجاتهم أو طلقوهن ويقومون بإعالة أطفال، كما تم إعفاء من كان له أخ مجنَّد والأخ الأكبر من بين ثلاثة أيتام· وأكثر من هذا فقد كان يمكن للمجنَّد أن يقدِّم بديلاً يحل محلّه· وقد بدا هذا - في البداية - أمراً غير عادل في نظر نابليون لكنه عاد فسمح به، وكان هذا في الأساس لاقتناعه بأن الطلبة الذين قطعوا شوطا متقدماً في الدراسة لابد من تركهم لمواصلة دراساتهم لهيئوا أنفسهم لشغل المناصب الإدارية ·(ملحق/558)
لقد تحمّل الشعب الفرنسي بصبر هذا الاستنزاف السنوي الملح للقوي البشرية في نشوة الابتهاج بانتصارات نابليون، لكن عندما بدأت الهزائم (1808) مخلّفة آلاف الأسر الحزينة، نمت المقاومة وتضاعفت أعداد المتهرِّبين والفارِّين· وبحلول عام 1814 كان نابليون قد جند في جيوشه 2,613,000 فرنسي · مات منهم حوالي مليون بسبب جروح شديدة ألمّت بهم أو بسبب الأمراض · وبالإضافة لهؤلاء فقد ضمَّ لجيوشه نصف مليون من الدول الأجنبية المتحالفة مع فرنسا أو التابعة لها·
وفي سنة 1809 طلب نابليون من القيصر اسكندر أن يتوسط بين فرنسا وإنجلترا ذاكراً له أن تحقيق السلام العام سيُتيح الفرصة لوضع نهاية للتجنيد الإلزامي· لكن هذا الأمل لم يتحقق· وطالما كان أعداء فرنسا المهزومون يفيقون من أحزانهم ليكوِّنوا تحالفات جديدة وليخوضوا معارك جديدة فقد جنَّد نابليون كثيرين قبل حلول دورهم في التجنيد بخمس سنوات، وكان يستدعي للتجنيد كل عام دفعات قبل حلول دورها وفي سنة 1813 جندّ دفعة سنة 1815 · وأخيراً نفذ صبر الآباء الفرنسيين وتعالت صيحات يسقط التجنيد الإلزامي في كل مكان في فرنسا·
وبهذه الطريقة كان الجيش العظيم ينمو ويزداد عدده، ذلك الجيش الذي كان حُب نابليون ومصدر فخره· وقد عمل نابليون على رفع الروح المعنوية لهذا الجيش فجعل لكل كتيبة من كتائبه علماً خاصاً بها ذا لون محدّد كان يحمله أحد الشبان الشجعان أثناء المعركة ليقود أفراد الكتيبة ويبث العزم فيهم فإن سقط اندفع شاب آخر ليرفعه· وعادة ما كان هذا العلم يمثل روح الكتيبة وعلامتها الظاهرة·(ملحق/559)
وعادة ما كان يُحتفظ بهذا العلم ليتم عرض ما بقي منه في الاستعراضات العسكرية احتفاء بالنصر، وأخيراً يتم تعليقه كشارة مقدسة للنصر رغم تمزقه وإهترائه في كنيسة ضحايا الحرب· وكان لكل كتيبة تقريبا لباسها المحدّد الخاص بها واسمها، وكانت هذه الكتائب مشهورة في وقت من الأوقات من بريست Brest إلى نيس ومن أنتورب إلي بوردو: رُماة القنابل اليدوية (الرمّانات) Grenadiers الهوصّار Hussars ( سلاح الفرسان الخفيف)، القنّاصة Chasseurs حاملو الرماح Lancers الفرسان Dragoons·· إلخ والأهم من كل هؤلاء الحرس الإمبراطوري البالغ عدده 92,000 مقاتل كاحتياطي دفاعي حول الإمبراطور حين يظهر موقف متأزم يقتضي منهم التضحية بحياتهم· وكان من الممكن لأي مجنَّد أن يترقّى ليصبح عضواً في هذا الحرس الإمبراطوري أو حتى يحمل عصا المارشالية كواحد من الثمانية عشر مارشالاً في فرنسا النابليونية·
لقد كانت نتائج الحروب لا حد لها - بيولوجياً واقتصادياً وسياسياً وأخلاقياً· والرقم القديم الدال على عدد القتلى الفرنسيين في هذه الحروب هو 1,700,000 إلاّ أن الحسابات اللاحقة قد قلّصته ليصبح مليوناً · وحتى لو كان هذا الرقم الأخير صحيحاً فإنه كفيل بإضعاف فرنسا طوال جيل حتى تستطيع أرحام نسائها تعويض هذه الخسارة· ومن الناحية الاقتصادية فإن هذه الحروب والاحتياجات العسكرية وظروف الموانئ المحاصرة - قد عجّلت بتقدم الصناعة وازدهارها· ومن الناحية السياسية فإنها قوَّت الوحدة بين الحكومات الإقليمية (في فرنسا) وعمَّقَت الولاء للحكم المركزي·
ومن الناحية الأخلاقية فإن الصراع المستمر عوَّد أوروبا على توسيع نطاقات الحروب وعوّدها على تقنين المذابح البشرية على نحو لم يشهده العالم منذ غزوات البرابرة، فعلى جبهات القتال ومن ثم في العواصم تخلّى الحكّام عن الوصايا العشر· فقد كتب نابليون إلى الجنرال بيرثييه Berthier في سنة 1809:
"الحرب تبرّر كل شيء، فلم يحدث أن استقر شيء - مطلقاً - إلاّ بالسيف وأن التحليل الأخير يشير إلى أن الحكومة لابد أن تتحلّى بالصفات العسكرية فبدون الجيش لا تكون دولة"·(ملحق/560)
ولتعويد الشعب الفرنسي على هذه الأخلاقيات العسكرية عمد نابليون إلى استثارة حبهم للمجد· فالمجد la gloire أصبح حمّى وطنية يغمر الجميع بالوئام والحماس والطاعة· ومن هنا كان يحق لنابليون أن يقول إن حروب الثورة قد جعلت من كل الأمة الفرنسية نبلاء، وطوال عشر سنوات وبمساعدة حلفائه كان الشعب الفرنسي كأنه منوّم تنويماً مغناطيسيا وراح نابليون يوحي إليه بنشوة المجد· ولندع ألفرد دي موس Alfred de Musset الذي كان شاهداً للأحداث، يصف لنا الروح العامة في فرنسا في سنة 1810:
"لقد كان شباب هذا العصر يتنفّسون هواء في جو لا يعكر صفوه شيء، حيث يتألق المجد· كثير من المجد، وحيث تبرق السيوف· كثير من السيوف· لقد كانوا يعرفون جيداً أن قدرهم أن يكونوا ضحايا في مجزرة لكنهم كانوا ينظرون إلى مورا Murat كقائد لا يُغلب وللإمبراطور على أنه عبر الجِسْر والقذائف الكثيرة تنهمر من حوله مدوّية فراحوا يعجبون: أهو محصّن ضدّ الموت؟ وحتى الموت نفسه كان يبدو لهم جميلاً نبيلاً متألقاً في معركته المخضّبة بالدماء·
لقد استعار الموت لون الأمل· لقد حصد كثيراً من المحاصيل التي حان قطافها فأصبح شاباً· لقد ماتت الشيخوخة، فكل أَسِرَّة الأطفال في فرنسا وكل القبور كانت مسلّحة بالتروس، ولم يعد هناك شيوخ (عجائز) وإنما هناك جثث لأنصاف آلهة demi - gods وفي هذه الأثناء كان جنود نابليون على الجبهة يسرقون ويقامرون ويبتلعون مخاوفهم ليتمكنوا من النوم،
وكان ضباطه يسرقون بالقدر المتلائم مع مواقعهم: جمع ماسينا الملايين· ولم يكن ما جمعه سول Soult أقل كثيراً مما جمعه ماسينا Massena، وجوزيفين اللطيفة وجوزيف الرحيم ولوسيان Lucien الشجاع والعم الكاردينال فيش Fesch، كل هؤلاء تربّحوا بتوظيف أموالهم في الشركات التي كانت تبيع البضائع المغشوشة للجنود الفرنسيين· وقد زين نابليون نشرات الحرب التي كان يوزعها داخل جيشه بالمبالغات وإخفاء الحقائق، واستنزف ثروات الأمم المهزومة وسلب أعمالها الفنية بغير حق وراح يتفكّر مليا في بعض الأخلاق والقيم الفرنسية من جديد·(ملحق/561)
4 - الأخلاق والسلوك
إنَّ الثورة الفرنسية - بتحطيمها للسلطة السياسية والسلطة الأبوية (قوامة الآباء على الأبناء) وبتدميرها للمعتقد الديني (الكاثوليكي) قد أطلقت غرائز أفراد الشعب الفرنسي من عقالها وتركتها بلا ضابط، وكان هذا الانفلات فاجعاً مأسوياً في العاصمة وإن اتَّسم بالاعتدال في الدوائر (المحافظات)، فوجد القانون ورجاله أنفسهم يناضلون ضد الفوضى والجريمة· وصمّم نابليون - الذي كان هو نفسه مارقاً غير ملتزم بالقانون - أن يعيد ترسيخ القيم الأخلاقية والانضباط السلوكي كأمر حيوي لإعادة بعث فرنسا والرضا لشعبها والنجاح لحكمه·
لقد أوضح بجلاء أنه سيراقب بعين يقظة كل العلاقات والارتباطات التجارية في الحكومة ومعها، وسيعاقب بشدّة كل من يثبت عدم أمانته· والتفت نابليون معترضاً على الملابس غير المحتشمة في المجتمع وفي المسرح، ووَّبخ - رسميا - أخاه لوسيان وأخته إليزا Elisa لكشفهما جانباً كبيراً من جسميهما عند حضورهما العروض المسرحية الخاصة· وفي إحدى الحفلات المسائية عندما وجد نفسه في مواجهة مدام دي ستيل de Stael وقد ارتدت فستاناً واسع الصدر يكشف عن جانب كبير من صدرها وظهرها وكتفيها (فستان ديكولتيه decollete) انتقدها بحدِّة قائلا: "إنني أفترض أنك تربين أطفالك بنفسك"
وأصرَّ نابليون على أن يتزوّج تاليران Talleyrand من خليلته· ومدام تاليا Tallien التي كانت توجّه أخلاقيات حكومة الإدارة باستدارة وِرْكَيْها (مُثنّى ورك) اضطرت إلى التواري في الأقاليم (الدوائر أو المحافظات) وقالت جوزيفين للزنا وداعاً وابتعد بائعو القبعات النسائية عنها وشقّوا فواتيرهم· لقد كادت قوانين مدوّنة نابليون تعطي للزوج كل السلطات التي كان يتمتع بها الزوج الروماني على زوجته وأطفاله، فواصلت الأسرة وظيفتها لتحويل الحيوانات (المقصود الأطفال) إلى مواطنين، مهما كان هذا على حساب الحرية الشخصية·(ملحق/562)
لقد كانت الحالة النفسية للعصر تعتريها معاناة من بعض الكآبة كجزء من ثمن (كان لابد من دفعه) لقاء النظام الجديد· فالمسرّات الطائشة بين الجنسين وبين الطبقات في ظل الثورة قد استسلمت لآداب المجتمع البورجوازية· ومتاعب البروليتاريا· والحواجز الطبقية التي كانت تفصل السكان بشكل صارم إلى طبقات في عهد البوربون Bourbon قد انهارت لتفتح الطريق لحمّى المنافسة التي لا تهمد في ظل فتح أبواب المناصب ومجالات العمل للكفاءات مما أدّى إلى بناء جسور بين كل الطبقات، وجعلت شباباً لا أصول لهم يتسلقون الأهرام الزَّلقة إلى ذرى السلطة· لقد كان معنى هذا أن لنابليون الحق في أن يشعر أنه في ظل حكمه، عادت الأخلاق إلى فرنسا واستعادت السلوكيات شيئاً من الاحترام واللطف الذين كانا يميزان حياة المتعلمين في فرنسا قبل الثورة·
وقد شعر أنه رغم كل الجهود لإتاحة فرص متساوية للجميع فإن شيئاً من التمييز الطبقي لابد أن يظهر كأمر لا مناص منه نتيجة الاختلافات الطبيعية في القدرات وظروف النشأة· وليجعل نابليون هذه النتيجة غير مقتصرة على مجرد الأرستقراطية الناشئة عن استحواذ الثروة، فقد أنشأ في سنة 1802 جوقة الشرف Legion of Honor لتتكوّن من رجال تختارهم الحكومة من المميزيَّن تميزاً خاصاً في مجالاتهم: الحرب، القانون، الدين، العلوم، الدراسات الأكاديمية الفن··· إلخ على أن يكون هذا الجهاز نصف ديمقراطي كما هي الحياة إذ جعله قَصْراً على الرّجال دون النساء·(ملحق/563)
وكان الأعضاء يقسمون عند انضمامهم أن يؤيدوا مبدأي الحرية والمساواة لكن سرعان ما تم تصنيفهم في ثلاثة رُتب وفقاً للجدارة أو التقسيم أو الأقدمية· وكان كل واحد منهم يتقاضى من الحكومة الفرنسية راتباً سنوياً، فإن كان من رتبة مسئول مهيب Grand officer استحق 5,000 فرنك وإن كان من رتبة قائد Commander استحق 2,000 وإن كان من رتبة مسئول officer استحق 1,000 أما الفارس Chevalier فيستحق 250، وللتمييز بينهم كان على كل واحد منهم أن يضع شريطاً خاصاً (وشاحاً) أو صليباً يرمز لرتبته وعندما ابتسم بعض المستشارين لمثل هذه الامتيازات الشكلية البسيطة (النص: الدّمى baubles) قال لهم نابليون إن قيادة الرجال تكون أسهل بالأوسمة (التكريم) منها بالقوّة أو السلطة، أو على حد قوله إن: "المرء يحصل على كل شيء من الرجال باستنهاض معاني الشرف لديهم "·
واتخذ الإمبراطور خطوة أخرى نحو إيجاد ارستقراطية جديدة بإنشائه في سنة 1807 النبالة الإمبراطورية فأعطى الألقاب لأقربائه ومارشالاته وبعض العاملين في الإدارة والعلماء المبرّزين، ونتيجة لهذا وجدنا أنه في السنوات السبع التالية قد أوجد: 13 دوق و452 كونت و1,500 بارون 1474 فارسا (بالمعني التشريفي لا العسكري)، وأصبح تاليران يحمل لقب أمير بنيفنتو Benevento وفوشيه أمير دوترانت Otranto- d'Otrante وجوزيف بونابرت أصبح فجأة هو الناخب الأعظم، ولويس بونابرت الكونستابل الكبير (النبيل الكبير Grand Constable) ومورا قائد الفرسان اعترته الدهشة عندما وجد نفسه الأدميرال الكبير وتم الإنعام على المارشال دافو بلقب دوق دأورشتدت Duc d'Auerstedt ولان Lannes بلقب دوق دي مونتبلو Duc de Montebello وسافاري بلقب دوق دي روفيجو Duc de Rovigo وليفبفر Lefebvre بلقب دوق دي دانتسج Duc de Dontzig· وأصبح لابلاس كونتا وكذلك فولني Volney أما أخوات نابليون فأصبحن أميرات·(ملحق/564)
وخُصص لكل لقب زى رسمي خاص بألوان بهيجة وراتب سنوي وأحياناً كان يُخصص لحامل اللقب ممتلكات كعقار أو مزارع أو أراضٍ· وأكثر من هذا فإن معظم هذه الألقاب أضحى وراثياً، وهنا نجد نابليون يدير ظهره بشكل صريح للمبادئ الجمهورية· لقد كان نابليون يرى أنه لا يمكن لأرستقراطيته الجديدة أن تحتفظ بوضعها وقوتها إلاّ بانتقال الملكية (وراثياً) وبالتالي يمكن استخدامها كدعامة للحاكم· بل إن الإمبراطور نفسه رغبة منه في الاقتراب أكثر فأكثر نحو الارستقراطية الجديدة التي سرعان ما راحت تتباهى بألقابها وملابسها الرسمية المميزة ونفوذها - أحاط نفسه بالحجَّاب والياورات ومسئولي البلاط ومسئولي القصر ومئات من الخدم، وأُحيطت جوزيفين بالوصيفات اللائي يحملن ألقاباً تعود إلى زمن البوربون وما قبل البوربون·
والتفت نابليون إلى من ظل على قيد الحياة من النبلاء القدماء (نبلاء ما قبل الثورة) وعمل على إغرائهم بشتى الطرق لضمّهم لبلاطه، واستدعى كثيرين منهم من خارج فرنسا ليبارز بهم اليعاقبة الذين كانوا لا يزالون متشبَّعين بروح الثورة، وأملاً منه في مد جسور التواصل والاستمرار بين فرنسا ما قبل الثورة وفرنسا الجديدة· وبدا هذا مستحيلاً لأن هؤلاء المهاجرين (الذين تركوا فرنسا إثر أحداث الثورة الفرنسية) العائدين كانوا يحتقرون نابليون باعتباره مُحدث نعمة ومغتصب عرش فشجبوا سياساته وهجوا مسلكه ونظراته وأحاديثه وسخروا من ارستقراطيته الجديدة·(ملحق/565)
وعلى أية حال، فبالتدريج زادت مكانته بانتصاراته وكلما ارتفع شأن فرنسا حتى وصلت من حيث الثروة والقوة درجة لم تصلها حتى في أيام لويس الرابع عشر - تضاءل هذا الاتجاه المتعالي للأرستقراطية القديمة، فقبل أبناء المهاجرين emigres بسعادة تعيينهم في مناصب أو ألقاب شرفية (تلك المناصب التي كان آباؤهم يصفونها بأنها مناصب أو ألقاب مُحدثي النعمة) وأقبلت السيدات العظيمات ليلتحقن ببلاط جوزيفين، وأخيراً وجدنا بعض النبلاء القدامى ينضمون إلى البلاط الإمبراطوري ليُكسبوه عبير البلاط القديم، ومن هؤلاء النبلاء القدامى: مونتمورنسي Montmorencys ومونتسكيو وسيجور وجرامونت Gramonts ونُوال Noailles وتورين Turennes وقد كافأهم نابليون بأن أعاد لهم بعضاً من ممتلكاتهم المُصادرة·
وبعد أن تزوج نابليون من ماري لويز بدت المواءمة كاملة· لكن كثيراً من مظاهر هذه المواءمة كان سطحياً فأبناء الثورة وبناتها الأكثر حداثة لم يستسيغوا ملكيات ذوي الأصول (المنتمين إلى أسرات عريقة) ولا أوضاعهم المتعالية· والجيش الذي كان لا يزال يتغنّى بالمثل الثورية مُغرماً بها تذمّر لرؤيته مُثله الثورية تتبادل الانحناء مع الأعداء القدامى الذين كانوا يتعالون علي الجنرالات الطوال والعلماء العصبيين وآل بونابرت الطموحين الذين تجرءوا على شغل أماكنهم·
ولتجنّب حرب بالكلمات أو السيوف مع عرين الأسود هذا، أصرّ نابليون على إصدار مدوّنة لقواعد السلوك (كود للاتيكيت Code of etiquette) فعهد إلى بعض الاختصاصيين بكتابتها بتخيّر أفضل النماذج من تراث البوربون، على أن تكون دليلاً للسلوك يمكن إتباعه ويلبي حاجات المواقف المختلفة، بحيث يبدو مسلك المرء ودودا· وبالفعل فقد تم إنجاز هذا العمل في ثمانمائة صفحة ودراسة الفلاسفة ورماة القنابل اليدوية وأصبح البلاط الإمبراطوري نموذجاً يتجلَّي فيه اللباس المتأنق والخطب الجوفاء أو الكلام الفارغ·(ملحق/566)
وراح رجال الحاشية يلعبون الورق وفقدت اللعبة قيمتها لأن نابليون منع الميسر، وأخرجت المسرحيات وعُزفت الكونشرتات وأقيمت المراسم والتشريفات والحفلات التنكرية، وعندما تضاءل ما تسببه الأزياء والحوارات الفكرية من إثارة، وجد أفراد الحاشية الأساسيين متعتهم في الانتقال مع الإمبراطور والإمبراطورة إلى سان كلو St. Cloud أو رامبول Rambouillel أو تريانون Trianon أو - وهذا أكثر مدعاة للسعادة - إلى فونتينبلو حيث تتلاشى الرسميات وتؤدي ممارسة القنص إلى تدفئة الدماء·
ولم يكن أحد أكثر ضيقاً بهذه الطقوس الملكية كنابليون فقد تجنبها بقدر ما يستطيع· وقد قال: "إن الاتيكيت (قواعد السلوك) هي سجن الملوك" وقال للاكاس: "الضرورة تجبرني على مراعاة درجة من الأبهة (أو التكلّف State) وأن أتبع نظاماً معيناً يجعلني وقوراً - أو بعبارة أخرى أن ألتزم بالاتيكيت· وإلاّ كنت عُرضة للضرب على كتفي يومياً"
وكان للمراسم والتشريفات أيضاً أساسها المنطقي فالحكومة التي تم تأسيسها حديثاً لابد أن "تكون مُبهرة مثيرة للدهشة، فإذا فقدت تألّقها سقطت فالاستعراض للسلطة كالطقوس للدين أليس صحيحاً أن الدين الكاثوليكي يروق بشكل أفضل للخيال بأبهة طقوسه أكثر مما يروق بسمو عقائده؟! فإن أردت أن تثير الحماسة في الجماهير فلتبد في نواظرهم مقبولاً أو بتعبير آخر اعمل على أن تروق لعيونهم "·
وكما جرت العادة في التاريخ فقد تدهورت سلوكيات البلاط، وتدنت تدريجياً في محيط المتعلمين· قال بول لاكروا Paul Lacroix جامع الكتب المتعلّم "لتجعل غالب مجتمع حكومة الإدارة راقياً مهذباً حسن التربية فإن هذا يستغرق ما بين عشر سنوات واثنتي عشرة سنة", وهذا حقيقي على نحو خاص بالنسبة لليون وبوردو، لكننا لا نتحدث عن باريس التي قالت عنها مدام دي ستيل: "أنه يتلاقى فيها كثيرون من رجال الفكر·· واعتاد عدد كبير منهم أن يزاوجوا بين مسرّات النقاش والقضايا الفكرية الجادة"
وقد ذكر نابليون للاكاس: "نقول الحق إن أشرنا للحساسية والذوق الرفيع اللذين يميزان سكان العاصمة الفرنسية؛ فلن تجد في مكان آخر غير باريس مثل هذه الفطنة وتلك الألمعيّة ومثل هذا الذوق "·(ملحق/567)
مئات المقاهي يتجمع الناس فيها بروح اجتماعية فيجلسون ويرتشفون مشروباتهم ويتبادلون الأخبار والنكات والقفشات الذكية السريعة، بينما العالم يتحرك أمامهم في استعراض عنيد، وكل حيوان ميكروسكوبي يجعل من نفسه محور الكون· وكانت المطاعم الجميلة قد اختفت في فترة الإرهاب إلا أنها عادت لنشاطها في ظل حكومة الإدارة وأصبحت الآن خير شاهد على أذواق الفرنسيين ومدى امتلاء جيوبهم بالنقود· وحدث خلال فترة حكم القنصلية والإمبراطورية أن أنثيلم بريلا - سافارين Anthelme Brillat-Savarin جمع الحقائق والأساطير المتعلقة بعلم الأكل أو فن تذوق الطعام (الجاسترو نوميا gastronomy) والتي ضمّنها عمله الكلاسيكي فسيولوجيا تذوّق الطعام La physiologie du gout الذي لم يمثل للطبع إلاَّ سنة 1826 أي قبل وفاته بعام واحد·
وكان أسلوب الحديث ونمط اللباس في حالة تغيّر· فقد حلت كلمتا مواطن Citoyen ومواطنة Citoyenne محل كلمتي سيّدي (مسيو Monsieur) ومدام Madame اللتين كانتا سائدتين قبل الثورة· وتراجع الرجال الملتزمون بقواعد اللباس والسلوك عن ارتداء السراويل التي تصل للركبة (البناطيل القصار) والجوارب الحريرية الطويلة، فاستعادت البناطيل الطوال سيادتها كلما شحبت الإمبراطورية· أي راحت تزوي· وهجرت السيدات نمط اللباس الإغريقي الذي كان سائدا في عهد حكومة الإدارة وعُدن إلى التنورة skirt ( الجيبة) والقميص bodice ( البلوزة)، وظل الديكولتيه Decollete واسعاً سخياً في إظهار لحْم المرأة حيث تكون الأكتاف مكشوفة وكذلك الذراعين، وعارض نابليون هذا الطراز في اللباس (الديكولتيه) لكن جوزيفين وافقت عليه وأقرته، فانتصرت (على نابليون) بذراعيها الجميلتين وكتفيها وثدييها الناتئين ·(ملحق/568)
ووافق الإمبراطور على إقامة الحفلات التنكرية لسروره بازدهار الحياة الاجتماعية· ولم يهتم بالصالونات التي كانت تنتعش في باريس، فقد أصبحت موئلاً للسياسيين والمؤلفين والأيديولوجيين (المنظِّرين) ومنتقدي حكمه الذي يتجه أكثر فأكثر نحو الدكتاتورية· ونظم أخواه جوزيف ولوسين حفلات استقبال متتالية كان الكلام يجري فيهما - بالضرورة - لصالح الإمبراطور، لكن فحواه - بشكل عام - كان موجهاً ضد جوزيفين وأقام كل من تاليران وفوشيه بلاطاً خاصاً لنفسه حيث كانت الانتقادات مهذّبة· وشجب المهاجرون العائدون كل تصرفات آل بونابرت في حفلات مسائية كئيبة في فابورج سان جيرين Faubourg St. Germain وواصلت مدام دي ستيل الإبقاء على صالونها الشهير كجزء من حربها ضد نابليون طوال خمسة عشر عاماً، وكرَّست مدام جلني Gelnis - التي عادت إلى فرنسا بعد سبع سنوات قضتها كمهاجرة خارجها - صالونها وكتاباتها للدفاع عن نابليون ضد البوربون ومدام دي ستيل ومدام ريكامييه
5 - مدام ريكامييه MME. RECAMIER
يعود نجاح صالون ريكامييه إلى جمالها الأخّاذ وثروة زوجها المِطْواعة· وُلدت في ليون في سنة 1777 وسامها الحقيقي هو جين - فرانسوا - جولي أديلادي برنار Jeanne-Francoise-Julie- Adelaide Bernard وعُرفت بين أصدقائها باسم جولي أو جوليت، وكانت تتمتع بوجه محبوب وقوام جذّاب، وظلت تتحلّى بهاتين الميزتين حتى بعد أن بلغت السبعين وأصابها العمى، لقد كادت تجمع في شخصها كل ما تتحلّى به الأنثى من جاذبية - لطف وعطف وميل للخدمة أو المساعدة وذوق وكياسة وحساسية وبراعة··· وقد أضافت إلى هذه المرونة والحساسية أنها جذبت إليها مئة ذكر (رجل فحل) دون أن يتركوا أي أثر معروف علي عذريتها (أي أنها ظلت عذراء رغم هؤلاء الرجال المائة) ·(ملحق/569)
وفي سنة 1793 وكان عمرها ستة عشر عاماً تزوّجت من جاك روز ريكامييه Jacques-Rose-Recamier وكان في الثانية والأربعين من عمره لكنه كان صاحب بنك· وكان سعيداً جداً بتأمل جمالها وسماع غنائها وملاحظة يديها الدقيقتين الجميلتين وهي تعزف البيانو أو الهارب (القيثارة) فكان يُجلسها على وسائد ليريحها في جلستها تماماً وكان يُنفق على صالونها، وتحمّل بتسامح أبوي استعصاءها عليه فلم تسمح له بغزوها ولم تمكنه من الوصول إلى المُرام وإن كان هو - فيما يظهر - لم يكن مصراً على حقوقه الزوجية ·
وفي سنة 1798 اشترى منزل جاك نيكر Jacques Necker في شارع مونت بلانك Mont-Blanc في باريس· وأثناء إجراءات إتمام الصفقة تقابلت جوليت التي كانت قد بلغت واحداً وعشرين عاماً مع مدام دي ستيل البالغة اثنين وثلاثين عاماً· لقد كان لقاءً بالصدفة لكن هذا اللقاء كان بداية صداقة استمرت طوال العمر لم يستطع أن ينهيه حتى التنافس في مضمار الحب· وحذت جوليت حذو مدام دي سيتل (الأكبر منها سناً) والتي جمعت في صالونها الرجال المشاهير والبارزين في عصرها من رجال دولة ومؤلفين،
فافتتحت - أي جوليت - صالونها في منزلها الجديد (1799) لتعقد فيه اجتماعات دورية للرجال والنساء البارزين في المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية في باريس، وقضى لوسين Lucien بونابرت وزير الداخلية وقتاً قصيراً يبثها فيه حبّه الذي لا نهاية له، فأظهرت له خطابات زوجها الملتهبة التي ينصحها فيها بمعاملة لوسين بصبر خشية أن يتعرض بنك ريكامييه لعداء من الأسرة الحاكمة الصاعدة، وأطفأ نابليون النيران المتأججة حباً في صدر لوسين بأن أرسله كسفير في أسبانيا·
وربما كان نابليون نفسه قد صوّب عينيه على جوليت وليمة جديرة بملك لكن اتجاهاتها كانت مختلفة تماماً، فرغم تحذيرات زوجها ومنصب أبيها المتقلقل (غير المستقر) كمسئول للبريد في الحكومة القنصلية، فإنها رحبت في صالونها بالموالين للملكية مثل ماثيو دي مونتمورنسي Mathieu de Montmorency، والجنرالات المعادين لنابليون مثل برنادوت ومورو وغيرهما ممن امتعضوا من الاتجاهات الإمبراطورية المتزايدة للقنصل الأول (نابليون) ·(ملحق/570)
لقد كانت الآن في ذروة جمالها وكان الرسامون الرواد يسعدون بجلوسها أمامهم· وقد رسم لها دافيد لوحة في الوضع الأثير لربّات الجمال وهن متكئات على الحشائش - وقد ارتدت ثوباً على النّسق اليوناني فضفاضاً، وقد ظهر ذراعاها عاريان، وكذلك قدميها· وقد شعر السيد ريكامييه (زوجها) أن الرسام ديفيد لم يُثر زوجته أو بتعبير آخر لم يحرك مشاعر حبها الوقور، فتحدّى فرانسوا جيرار Gerard - تلميذ ديفيد - أن ينافس أستاذة فنجح جيرار في رسمها بشكل رائع ولم يغفر له ديفيد ذلك أبداً ·
وفي سنة 1802 زارت جوليت وأمها إنجلترا فاستقبلها ذوو المكانة كأمير ويلز والجميلات كدوقة ديفونشير Devonshire بكل مظاهر التكريم بسبب جمالها ومشاعرها المناهضة لنابليون· وسرعان ما قُبض على أبيها بعد عودتها من إنجلترا لتواطئه في مفاوضات سرية بين الباريسيين والموالين للملكية والمتمردين الملكيين في إقليم الفندي، وأصبح أبوها عُرضة للحكم عليه بالإعدام، إلا أن ابنته الذاهلة حثت بيرونادوت على التوسط لدى نابليون لإطلاق سراح والدها· ووافق نابليون لكنه طرده من منصبه، فقالت جوليت لقد كانت الحكومة على حق تماماً في إبعاده ·
وفي سنة 1806 لجأ زوجها لبنك فرنسا لإنقاذه من الإفلاس بإقراضه مليون فرنك· وأحال مديرو البنك طلبه إلى نابليون الذي كان قد وجد بنك فرنسا نفسه - بعد عودة نابليون من مارينجو Marengo - يعاني مصاعب مالية، فرفض تقديم هذا القرض· وباع ريكامييه البيت الكائن في شارع مونت بلانك، وباعت جوليت فضتها ومجوهراتها وقبلت - دون تذمّر - أن تعيش عيشة أكثر بساطة· لكنها كانت على حافة الانهيار عندما ماتت أمها في 20 يناير سنة 1807· فلما علمت مدام دي ستيل بما كان من أمرها دعتها للإقامة في قصر نيكر في كوبت Coppet في سويسرا· وكان السيد ريكامييه متسغرقاً حتى أذنيه في العمل على سداد ديونه فأذن لها بالذهاب إلى سويسرا· وفي 10 يوليو وصلت إلى كوبت وهناك بدأت أهم مرحلة من مراحل عمرها من حيث ممارسة العشق·(ملحق/571)
وتتابع الراغبون فيها في الوصول إلى هناك بمن فيهم عاشق مدام دي ستيل وهو بنيامين كونستانت Constant ( قسطنطين) · وقد سعدت جوليت (مدام ريكامييه) بهم وشجعتهم وقد قيل إنهم كانوا يحرسون قلعتها طوال الوقت، وقد اتهمها بعض ناقديها أنها كانت تتعامل بتهور مع قلوب الرجال (المقصود بعدم اهتمام) وقد كتبت كونستانت بمرارة: "لقد لعبت بسعادتي وحياتي، عليها اللعنة! " لكن كونستانت هو أيضاً لعب بقلوب وحيوات· وتتذكر دوقة أبرانتس Duchesse d'Abrantes جوليت (مدام ريكامييه) كإنسانة مبرأة من العيوب تماماً:
"إن المرء لا يتوقع أن يوجد لها نظير في المستقبل· إنها امرأة راودها عن صداقتها (خطب ودّها) ألمع رجال العصر· امرأة ذات جمال فائق طرح تحت قدميها كل الرجال الذين وقع نظرهم عليها· لقد كان الفوز بحبّها هدفاً عاماً، ومع هذا فإن فضائلها ظلت نقية (لا شائبة فيها) ·· وفي أيام مسرّاتها وبهائها كانت مستعدة دائماً للتضحية بمسرّاتها لتقدم مواساتها·· لأي صديق ألمت به بلوى أو مرض"·
إن مدام ريكامييه بالنسبة للعالم امرأة مشهورة، وهي بالنسبة لمن أسعدهم الحظ بمعرفتها ومعرفة قدرها مخلوق كريم مميّز جعلته الطبيعة نموذجاً كاملاً للطباع الخيّرة الرحيمة ·
وفي أكتوبر سنة 1807 دخلت جوليت في علاقة حميمة مع الأمير أوجست البروسي وهو ابن أخ فريدريك الكبير، حتى أنها كتبت لزوجها طالبة منه الطلاق، فذكرها ريكامييه بأنه شاركها في ثروته طوال أربعة عشر عاماً وأنه لبّى لها كل رغبة، ألا يبدو بعد هذا أنه من الخطأ أن تهجره وهو يبذل قصارى جهده لإقالة عثرته المالية؟ فعادت لباريس ولزوجها وراح الأمير أوجست يعزي نفسه بخطاباتها·(ملحق/572)
وبعد أن أصبح زوجها غنياً مرة أخرى وبعد أن ورثت من أمها ثروة، افتتحت صالونها من جديد وواصلت معارضتها لنابليون· وفي سنة 1811 - عندما كانت مدام دي ستيل تتبادل الكراهية والإزداء الشديدين مع نابليون· تجرأت جوليت وأصرت على قضاء يوم على الأقل مع مدام دي ستيل في كوبت رغم تحذيرات جيرمين فما كان من نابليون الذي أزعجته الأخبار السيئة التي أتته من أسبانيا وروسيا - إلاّ أن منعها من الاقتراب من باريس وأن تكون على بعد 120 ميلاً على الأقل من العاصمة (باريس) · وبعد تنازله الأول (11 أبريل سنة 1814) عادت لباريس وأعادت افتتاح صالونها ودعت إليه ولنجتون وغيره من قادة الحلفاء المنتصرين· وعندما عاد نابليون من إلبا واستعاد فرنسا بلا ضجة استعدت لمغادرة العاصمة لكن هورتنس وعدت بحمايتها فبقيت مقهورة لفترة، وبعد اعتزال نابليون للمرة الثانية (22 يونيو سنة 1815) واصلت استقبال ضيوفها· لقد عاد شاتوبريان Chateaubriand فدخل حياتها من جديد - وكان قد سبق لها الالتقاء به سنة 1801 - فأعاد لها شبابها في قصة رومانسية غريبة وتاريخية·
6 - اليهود في فرنسا
بدأ إنعتاق اليهود الأوروبيين أول ما بدأ في فرنسا لأنها كانت رائدة في تحرير العقول ولأن حركة التنوير قد عوّدت نسبة كبيرة من الراشدين على تفسير التاريخ تفسيراً غير ديني (تفسيراً علمانياً Secular) · والبحوث المتعلقة بالكتاب المقدس تظهر المسيح (عليه السلام) كداعية محبوب مؤمن باليهودية لكن الفريسيِّين Pharisees هم الذين عادوْه· والأناجيل نفسها تظهر آلاف اليهود يستمعون إليه بسرور وأن الآلاف منهم قد استقبلوه بترحاب عند دخول القدس· فكيف إذن يُعاقب شعب كامل عبر آلاف السنين لجريمة حَبْر كبير وحِفْنة مختلطة من الناس طالبوا بموته؟(ملحق/573)
لقد بقيت عداوات وخصومات اقتصادية غذّت قلقاً طبيعياً وخوفاً مرتقباً في وجود أحاديث غريبة وأزياء أو ملابس غير مألوفة، بل لقد انهار هذا الاتجاه المناهض لليهودية فلويس السادس عشر لم يواجه مقاومة شعبية في إزاحته الضرائب التي كانت تثقل كاهل اليهود على نحو خاص، وميرابو Mirabeau في مقاله الذي زاوج فيه بين المنطق والأسلوب اللاذع قد دعا إلى انعتاق اليهود انعتاقاً كاملا (1787) وفاز الراهب الفرنسي جريجوار Abbe Gregoire بجائزة من الجمعية الملكية للعلوم والآداب في ميتز Metz في سنة 1789 لمبحثه الذي حمل عنوان البعث اليهودي المادي والأخلاق والسياسي·
وبدا أن النتيجة المنطقية الوحيدة لإعلان حقوق الإنسان قد تحققت عندما مدّت الجمعية التأسيسية في 27 سبتمبر سنة 1791 مظلة الحقوق المدنية كاملة لتشمل كل يهود فرنسا· وأعطت جيوش الثورة الحرية السياسية ليهود هولندا في سنة 1796 ويهود البندقية (فينيسيا) سنة 1797 ويهود مينز Mainz في سنة 1798 وسرعان ما أقرت المدوّنة القانونية النابليونية ذلك بشكل تلقائي وجرى تطبيقها في كل المناطق التي فتحها نابليون·(ملحق/574)
وقد تعامل نابليون نفسه مع القضية بالروح المعتادة للجندي الذي يحتقر التجّار، فعندما توقف في ستراسبورج في يناير سنة 1806 أثناء عودته بعد خوضه معركة أوسترليتز Austerlitz تلقى طلبات لمساعدة فلاحي الإلزاس وإقالتهم من عثراتهم المالية، لأنهم بعد أن تحرروا فجأة من عبوديتهم للإقطاع وجدوا أنفسهم بلا وظائف أو أرض يحصلون منها على مصدر لرزقهم· وكانوا قد طلبوا من رجال البنوك المحليين - وكان معظمهم من اليهود الألمان - أن يُقرضوهم المبالغ المالية التي يحتاجونها لشراء أكرات (أفدنة) وأدوات وبذور ليرسّخوا أوضاعهم كفلاحين ملاّك، وقد قدّم اليهود من أصحاب البنوك هذه المبالغ لكن بفائدة تصل إلى 16% وقد اعتبر المُقرِضون (بضم الميم وكسر الراء) أن هذا عدلاً نظراً للمخاطرة التي تنطوي عليها عملية الإقراض (ملحوظة: المقترضون في أميركا الآن يدفعون النسبة نفسها) والآن فإن بعض الفلاحين لم يستطيعوا الوفاء بدفع هذه النسبة ولم يستطيعوا تخصيص جزء من عوائدهم ليستنزلوا تدريجياً ما عليهم من ديون· وعلم نابليون أنّه إذا لم يتدخّل في الأمر تعرّض فلاحون كثيرون لضياع أراضيهم، وحُذِّر نابليون من أن كل مسيحيي الألزاس ساخطون بشدّة بسبب هذا الوضع وأنهم على وشك القيام بهجوم على اليهود·
وعندما وصل نابليون إلى باريس تداول الأمر مع مستشاريه فنصحه بعضهم باتخاذ إجراءات عنيفة، وذكر بعضهم الآخر أن يهود مرسيليا وبوردو وميلان وأمستردام كانوا يعيشون في سلام واحترام في مجتمعاتهم ولا يجب معاقبتهم في ظل أي إلغاء للحقوق التي يتمتعون بها في المناطق التي تحكمها فرنسا·(ملحق/575)
ووقف نابليون موقفاً وسطا (موقفاً توفيقياً) فحكم ألاّ يجمع الدائنون اليهود أية مبالغ يطالبون دائينهم بها في ولايات (محافظات) بعينها قبل مرور عام · لكنه في الوقت نفسه (30 مايو 1806) دعا أولي الشأن من اليهود في مختلف أنحاء فرنسا للاجتماع في باريس للتباحث في أمور العلاقات بين المسيحيين واليهود وليقترح توزيع اليهود على فرنسا (بمعنى عدم تمركزهم في مكان واحد) وتوزيعهم أيضاً على المهن والوظائف المختلفة (بمعنى عدم استئثارهم بمهنة بعينها) · وكان على مديري الشرطة الفرنسية في الدوائر المختلفة (المحافظات) أن يختاروا هؤلاء اليهود المهمين الذين سيجتمعون في باريس، فكان اختيارهم بشكل عام موفقاً ·
فتجمع اليهود من الرابيين rabbis ( الحاخامات) وغيرهم في باريس في يوليو سنة 1806 وحظوا باحترام كبير وبلغ عدد المجتمعين منهم 111 وقدم لهم المجلس البلدي قاعة Hotel de Ville يتداولون فيها· وقدّم نابليون - أو مستشاروه - للمجتمعين بعض الأسئلة يود الإمبراطور معرفة إجابتها:
هل يُقر اليهود تعدّد الزوجات؟ أيسمحون بالتزاوج بين اليهود والمسيحيين؟ أيزعم الرابيون (الحاخامات) الحق في إبرام الطلاق بعيداً عن السلطان المدنية؟ أيعتبر اليهود الرّبا شرعيا Lawful؟ ·
وصاغ الرابيون إجابات عملوا على أن تكون مدعاة لسرور نابليون: تعدد الزوجات ممنوع في المجتمعات اليهودية· ولا يُسمح بالطلاق إلاّ إذا أقرّته المحاكم المدينة، والتزاوج بين اليهود والمسيحيين مسموح به، والربا معارض للشريعة الموسوية ·
فأرسل نابليون الكونت لويس مولي Louis Mole ليعبّر لهم عن رضاه· والكونت لويس مولي الذي كان معارضاً لليهود قبل ذلك أصبح الآن يخاطبهم ببلاغة تلقائية قائلا:
من الذي لا تعتريه الدهشة لرؤية هذا الجمع من الرجال المتنورين الذين تم اختيارهم من سلالة أقدم الأمم؟ أنه إذا بُعِث للحياة شخص ممن عاشوا في القرون الخوالي وشاهد هذا المنظر، ألا يظن أنه قد انتقل إلى داخل أسوار المدينة المقدسة؟(ملحق/576)
وعلى أية حالة، فقد أضاف قائلاً إن الإمبراطور يضفي على المبادئ الغالبة على هذا الاجتماع مزيداً من المصداقية واليقين ويقترح ضرورة دعوة هؤلاء اليهود من أولي الشأن للحضور إلى باريس فيما بعد لهذا الغرض ولأغراض أخرى وأن هذا الاجتماع الرابي (الحاخامي) الأعلى (السنهدريم العظيم) الذي لم ينعقد بعد تشتت اليهود عقب دمار الهيكل منذ سنة 66 قبل الميلاد· وكان الرابيون سعداء وأبدوا رغبتهم في التعاون· وفي السادس من أكتوبر أرسلوا إلى كل المعابد اليهودية الأساسية في أوروبا دعوة الإمبراطور لانتخاب مندوبين يهود لحضور السنهدريم (الاجتماع اليهودي والسنهدريم Sanhedrin مشتقة من الكلمة اليونانية سينيدريون Synedrion) لدراسة وسائل تخفيف الصعوبات الناشئة بين المسيحيين واليهود ولتسهيل تمتع اليهود الفرنسيين بكل الحقوق والمزايا في الحضارة الفرنسية· وأرفق هؤلاء اليهود ذوو الشأن دعوتهم بإعلان سعيد ينم عن الفخر:
إن حدثاً عظيماً على وشك أن يصبح أمراً واقعاً· حدث لم يتوقعه آباؤنا طوال قرون متوالية، بل لم نكن نتوقعه نحن في أيامنا هذه· إن العشرين من أكتوبر قد أصبح هو اليوم المقرر لافتتاح السنهدريم الكبير (الاجتماع اليهودي) في عاصمة أحدى أقوى الأمم المسيحية وبحماية مليكها الخالد· إن باريس ستُظهر للعالم مشهداً جديراً بالملاحظة، وإن هذا الحديث التاريخي (السنهدريم) سيفتح للبقايا المشتتة من سلالة إبراهيم عصراً من التحرر والرخاء ·
ولم يستطع السنهدريم الكبير (الاجتماع اليهودي) أن يستمر وفقاً لهذه التوقّعات الحماسيّة، فبعد إرسال هذه الدعوات بثمانية أيام حارب نابليون وجنوده البروس في يينا Jena، وظل طوال هذا الخريف في ألمانيا أو بولندا ويقطّع أوصال بروسيا وينشئ دوقية وارسو Warsaw ( فيرسافا) الكبيرة، ويعزف على أوتار السياسية أو الحرب، وظل طوال الشتاء في بولندا يعيد تنظيم جيشه ويحارب الروس ليتعادل معهم في إيلاو Eylau ويهزمهم في فريدلاند Friedland ويعقد سلاماً مع القيصر اسكندر في تيلسيت (1807) ولم يعد لديه وقت للسنهدريم الكبير إلاّ بشق النفس·(ملحق/577)
واجتمع السنهدريم الكبير في 9 فبراير سنة 1807· وتباحث فيه 45 من الرابين (الحاخامات) و26 من اليهود العاديين (غير ذوي المراتب الدينية) واستمعوا إلى الخطب وأقرّوا الإجابات التي قدّمها إخوانهم من ذوي الشأن (في اجتماعهم السابق) لنابليون· وخلصوا بإصدار توصيات لليهود:
أن ينهوا عداوتهم للمسيحيين، وأن يحبوا البلاد التي يقيمون فيها باعتبارها أصبحت الآن بلادهم وأن يقبلوا الخدمة العسكرية للدفاع عنها وأن يتجنبوا الربا وأن ينخرطوا أكثر فأكثر في أعمال الزراعة والحرف والفنون·
وفي مارس أرسل السهندريم تقريره إلى نابليون البعيد عن فرنسا، فتم إرجاؤه·
وفي 18 مارس سنة 1808 أي بعد حوالي عام أصدر نابليون قراراته النهائية التي قضت بإقرار الحرية الدينية لليهود وإقرار حقوقهم السياسية في كل أنحاء فرنسا ما عدا في منطقتي الإلزاس واللورين، ففيهما وُضِعت - طوال العشر أعوام التالية - فيود على رجال البنوك لتقليل عدد المفلسين ولتخفيف العداوة العرقية، وتم إلغاء ديون النساء والقُصَّر والجنود، وخوّلت المحاكم في إلغاء أو تخفيض الديون المتأخّرة التي قوامها الفوائد بالإضافة إلى فترة سماح (تأخير مواعيد السداد)، ولم يكن مسموحاً لأي يهودي بالعمل في التجارة قبل الحصول على إذن من مدير الشرطة ومُنع مزيد من هجرة اليهود إلى الإلزاس وفي سنة 1810 أضاف الإمبراطور طلباً آخر وهو ضرورة أن يُصبح لكل يهودي اسم أسرة لأنه كان يأمل في أن يساعد هذا على تسهيل الاندماج العرقي·(ملحق/578)
وكان هذا غير ملزم من الناحية القانونية ولكن لابد من التماس بعض العذر لحاكم أصرّ على السيطرة على كل شيء ومن ثم وجد نفسه مراراً غارقاً في المشاكل والتفاصيل· وشعر يهود الإلزاس بأنهم أُضيروا بهذه التنظيمات الإمبراطورية ولم يكونوا على حق في ذلك، لكن معظم الجماعات اليهودية في فرنسا وفي غيرها قبلت هذه التنظيمات كمحاولة معقولة لتلطيف الوضع المتفجرّ · وفي هذه الأثناء، أعلن نابليون من خلال الدستور الذي وضعه لوستفاليا أن كل يهود هذه المملكة الجديدة لابد أن ينعموا بكل حقوق المواطنة مثلهم في ذلك مثل أي مواطن من مواطنيها · ومرّة الأزمة في فرنسا بسلام وأصبح لليهود دور مثمر وخلاق في آداب فرنسا وعلومها وفلسفتها وموسيقاها وفنونها·(ملحق/579)
الفصل الثاني عشر
نابليون والفنون
1 - الموسيقى
كان على نابليون أن يُدير قارة، لذا لم يكن لديه كثير من الوقت للموسيقي· إنَّه لمن الصعبِ أن نتصوَّره جالساً صامتاً يستمع إلى كونشرتو في مسرح فيدو Theatre-feydeau، ومع هذا فقد سمعنا عن كونشرتات concerts تُعرف في قصر التوليري وهناك من أكَّد لنا أنّه كان يستمتع علي نحوٍ ما بحفلات موسيقية يُحْيها عازِف واحد، كانت جوزيفين تقيمها في جناحها بالقصر· وعلى أيَّة حال فقد كان سِيَباسْتيان إيرار Sebastien Erard وإجْناز بلييل Ignaz pleyel يصنعون بيانوات pianos جميلة ولم يكن يخلو بيت من بيوت الطبقة الراقية من بيانو· ورتَّب كثيرون من المُضيفين سهرات موسيقية خاصّة حيث كان الضيوف - كما يقول الجونكورث Goncourts - يتكلَّفون الاستماع بينما هم في الحقيقة يُفَضِّلون الحوار الهامس أو المناجاة· فالألمان مآدبهم الموسيقي بلا كلمات، والفرنسيون يعيشون على كلمات بلا موسيقي·(ملحق/580)
وكان نابليون يُفَضِّل الأوبرا على الكونشرتات فلم يكن يستسيغ الغناء إلاَّ قليلاً ولم يكن صوتُه ليساعده على الغناء، لكن كان من متطلبات المظاهر الملكية ضرورة حضور الحاكم للأوبرا في المناسبات، ليراه الناس، وليتأمَّل· وقد أَسِف نابليون لأنّ: "باريس ينقصها·· دار أوبرا جديرة بمكانتها العالية كعاصمة للحضارة"، لكن اقتضى الأمر الانتظار حتى استطاع ابن أخيه وتشارلز جارنييه Garnier أن يُقيما في الفترة من 1861 إلى 1875 الدَرّةَ المتلألئة التي كَلّلت شارع الأوبرا Avenue de l'Opera إلاَّ أنّ مئات الأعمال الأوبرالية جرى تأليفها وإخراجها أثناء فترة حكم نابليون، وأوبرا السّيدة الشقراء (لا دام بلانش La Dame blanche) التي وضعها فرنسوا أريان بويلديو Francois - adrien Boieldien سيّد الأوبرا الكوميدية (الهزْليّة) عُرِضت ألفَ مرة في أربعين عاماً·
وكانت طبيعة نابليون الإيطالية تميل أكثر للأوبرات الإيطالية بما تتميز به من ألحان شجية وحبكات دراميّة· ولحماس نابليون لمؤلفات جيوفاني بيزيللو Giovanni Paisiello دعاه لتولِّي إدارة أوبرا باريس والكونسرفتوار (المعهد الموسيقي) وأتى بيزيللو لباريس في سنة 1802 وقد بلغ من العمر خمسة وستين عاماً، ولم يؤلف فيها سوى أوبرا واحدة هي بروسربينا Proserpina في سنة 1803 وتضايق من الاستقبال الفاتر الذي قُوبل به، فعاد إلى إيطاليا سنة 1804 وقدَّمَ أعماله لجمهور أكثر تجانساً وملائمة في نابلي حيث كان جوزيف بونابرت وجوشيم مورا Joachim Murat·(ملحق/581)
وكان نابليون أكثر حظاً مع جاسبارو سبونتيني Gasparo Spontini الذي قَدِم إلى فرنسا في سنة 1803 إذ حظي بتأييد الإمبراطور ودعمه بمعالجته موضوعات تاريخية بطريقة تُضفي الجلال والعظمة على الإمبراطورية الجديدة، وأشهر أوبرا قام بوضعها هي أوبرا كاهنة الإلهة الرومانية فستا أو قيِّمة النار المقدّسة (لافيستيل La Vestale) إلاَّ أنه واجه صعوبات في إيجاد مسرح لعرضها، فتدخَّلت جوزيفين فتم إخراج هذه الأوبرا، وقد أدَّى ما بها من غرابة وضوضاء بالإضافة إلى قصة الحب التي تتحلَّق حولها إلى تحقيقها نجاحاً فائقاً سجَّله تاريخ الأوبرا· وعندما أُطيح بنابليون أَلَّف سبونتيني مقطوعة موسيقية احتفاءً بعودة البوربون إلى العرش·
واستمر شيروبيني Cherubini الذي كان مُهيمنا على الأوبرا الباريسية أثناء الثورة مُهيمناً عليها أيضاً في ظل حكم نابليون· وعلى أية حال فإن الإمبراطور كان يُفضِّل الموسيقى المرحة على أعمال شيروبيني الجادة لذا لم يُقدم له جوائز أو مكافآت، وكان هذا أمراً ملحوظاً· وقد قبل شيروبيني دعوة للحضور إلى فيينا (يوليو 1805) لكن نابليون استولى عليها في شهر نوفمبر من العام نفسه· ولم يكن شيروبيني سعيداً تماماً عندما دُعي لقيادة فرقة موسيقية تعزف في حفلات مسائية تكريماً لنابليون في قصر شونبرون Schonbrunn، وعاد لفرنسا ووجد تكريماً في قصر أمير دي شيمي de Chimay الذي أَضْفى الاحترام على مدام تالييه Tallien بتزوِّجه منها·
وعندما عاد نابليون من إلبا Elba ورغم مشاغله الكثيرة فإنه وجد من الوقت، ما يجعله يمنح شيروبيني رتبة فارس في جوقة الشرف، لكن لم يحدث إلاّ في عهد لويس الثامن عشر أن تلقَّى هذا الإيطالي الكئيب اعترافاً بفضله ودخلاً كافياً· وفي الفترة من 1821 إلى 1841 وهي الفترة التي كان فيها مديراً للكونسرفتوار في باريس (معهد باريس للموسيقى) أثَّر في جيل كامل من الموسيقيين الفرنسيين· ووافته منيّته في سنة 1842 عن عمر يناهز الثانية والثمانين، وكاد يطويه النسيان في مشكاة الزمن المتغيرة (اللامبالية) ·(ملحق/582)
2 - متنوعات
يشبه نابليون تماماً لويس الرابع عشر في رعايته للفنون فهو - مثله - كان راغباً في ترسيخ مجد فرنسا وعظمتها، وكان يأمل أن يجعله الفنانون حياً في ذاكرة البشر· ولم يكن ذَوْقه الخاص على أحسن ما يكون فقد كان ملتفتاً دائماً للأمور العسكرية لكنه قام بما يستطيع لِيُلْهم فنَّاني فرنسا بالأصول التاريخية والمثيرات الشخصية، لقد نهب الأعمال الفنية الكبيرة ليس فقط باعتبارها ثروة قابلة للنقل وقابلة للتفاوض بشأنها (على نحو ما تُشترى في أيامنا هذه) وكأوسمة وشواهد على انتصاراته، وإنما أيضاً كنماذج (موديلات) يحتذيها طلبة الفنون في متاحف فرنسا·
لقد نقل فينوس وهي من أعمال دي ميديتشي Medici من الفاتيكان، والقديسون المتسامحون وهي من عمل كوريجيو Correggio من بارما، وزواج كانا وهي من أعمار فيرير Vermeer من البندقية (فينيسيا) وسلالة الصليب وهي من أعمال روبنز Rubens من أنتورب وصعود العذراء وهي من أعمال موريللو Murillo من مدريد··· وحتى تماثيل خيول القديس مرقس St. Mark الصغيرة وجدت طريقها المحفوف بالمخاطر إلى باريس· وفي الفترة من 1796 إلى 1814 أرسل نابليون إلى باريس 506 من الأعمال الفنية الإيطالية عاد منها - بعد سقوطه - 249، وبقي 248 وضاع تسعة أعمال· وعن طريق النهب حلَّت باريس محل روما كعاصمة للفن في غرب أوروبا·
وكلَّما زادت فتوح نابليون زادت الأسلاب حتى فاضت على أقاليم (محافظات) فرنسا وأنشئت المتاحف لاستيعابها في نانسي Nancy وليل Lille وتولوز ونانت Nantes ورون Rouen وليون وستراسبورج وبوردو ومرسيليا وجنيف وبروكسل ومونبلييه Montpellier وجرينوبل Grenoble وأمين Amiens·· وَعيَّن نابليون دينون الدومينيكاني Dominique Denon كمسئول عن كل هذه المجموعات الفنية خاصة متحف اللوفر، وكان دينون قد خدمه في بلاد كثيرة ولم ينس دينون أنَّ الإمبراطور قد ذهب بنفسه ليمكِّنه من الانسحاب بأمان من هضبة كان العدو قد غمرها بنيرانه خلال معركة إيلاو Eylau ·(ملحق/583)
وقد رصد نابليون الجوائز المادية وأقام المسابقات في مجالات فنية مختلفة، فجدَّد جائزة روما وأعاد الأكاديمية الفرنسية في روما· ودعا الفنانين إلى مائدته وتحدث في النقد الفني حتى أثناء خوضه المعارك وقدَّر أعمال معظم الرسّامين الذين بذلوا كل طاقاتهم لتخليد أعماله وكذلك المعماريين الذين استطاعوا مساعدته في أن يجعل باريس أجمل المدن وحكمة ذِروة تاريخية وَعَهِدَ للمثّالين والنحاتين بتزيين خمس عشرة نافورة جديدة في ميادين باريس·
ولأن ذوقه في الرسم والعمارة كان ينحو نحواً كلاسيكيّا فإنه كان معجباً بالأسلوب التذكاري الذي ساد في روما القديمة، وكان هذا الأسلوب يهدف لإظهار القوّة والسمو أكثر من الحسن المريح وجاذبية التفاصيل· لذا فقد عَهِد إلى بارثيليمي فينون Barthélemy vignon لتصميم معبد المجد على شرف جيشه الأساسي (الجيش العظيم) وأمر بُناته ألا يستخدمون في تشييد هذا المعبد سوى الرخام والحديد والذهب· وقد أثبتت الأيام أن هذا المعبد (معبد المجد) كان مكلّفا جداً وكان العمل فيه صعباً حتى أنه رغم أنّ بداية العمل فيه كانت في سنة 1809 إلاَّ أنه ظلّ غير مكتمل حتى سقوط نابليون، فأكمله خلفاؤه في سنة 1842 لكنهم جعلوه كنيسة إحياء لذكرى القديسة ماري ماجدالين Magdalen- لاماديلين La Madeleine·
ولم تَنْعم به فرنسا أبداً سواء لتحقيق أغراض التقوى (المقصود العبادة) أو لجلب المسرّات نظراً لواجهته الكالحة ولأعمدته الأكثر تعبيراً عن جيش متقدّم منها عن آثم واهن نادم توَّاق لحبها (حب المكان الذي أصبح كنيسة) · ومن المباني التذكارية أيضاً مبنى البورصة الذي بدأ اسكندر تيودور برونجنيار Alexandre-Theodore Brongniart العمل به في سنة 1808 وواصل إتين دي لا بار Etienne de La Barre إكماله في سنة 1813، ولا يوجد في أي مكان آخر لشيطان الجشع وحب المال Mammon مثل هذا المبنى الفخم ذي الأُبَّهة·(ملحق/584)
وكان المعماريّان المُفضَّلان في فترة حكم نابليون هما بيرسييه Percier والمعماري المرتبط به عادة بيير فرانسوا ليونار فونتين Pierre-Francois-Leonard Fontaine وقد عملا معاً للربط بين اللوفر وقصر التوليري رغم تفاوت خطوطهما المعمارية ومن ثم فقد بنيا الجناح الشمالي (كور كاري Cour Carrée) للوفر (1806) وأصلحا وجدّدا السطح الخارجي وربطا الأرضيات بسلالم قوية (المقصود أن الأرضيات لم تكن في مستوى واحد فاضطرا لإقامة سلالم لمواصلة الطريق أو الممر) · وصمَّما قوس النصر في ميدان الفروسية Arc de Triomphe du Carrousel (1806 – 1808) على نمط (وبالنسب نفسها) قوس سيتيميوس سيفيروس Septimius Severus في روما·
وبدأ جان فرنسوا شالجرين Jean-Francois Chalgrin في سنة 1806 في إقامة قوس النصر المرصّعه بالنجوم - وهو القوس الأكثر فخامة - في الطرف الأقصى لرحْبة الإليزيه، لكنه ما كاد يرفع قواعده حتى سقط نابليون ولم ينته العمل به حتى سنة 1837 أي قبل ثلاث سنوات من مرور رفاته تحته في طريقه إلى مثواه الأخير في مقبرته بدار ضحايا الحرب Hotel des Invalids ولا ريبَ أن هذا القوس يُحاكي قوس قسطنطين Arch of Constantine في روما إلاّ أنه يتفوَّق عليه - وعلى أى قوس نصر روماني آخر - في جماله، ويرجع هذا· في جانب منه - إلى نقوشه الدقيقة على الرخام· فإلى اليسار حفر جان - بيير كورتو Jean-Pierre Cartot تتويج نابليون، وإلى اليمين فرانسوا رودي Rude وهو يعزف النشيد الوطني الفرنسي (1833 - 1836) معبراً عن النشوة العسكرية في ظلال الثورة، إن هذا العمل يُعد واحداً من روائع فن النحت في القرن التاسع عشر·(ملحق/585)
لقد قام هذا الفن الصعب في ظل نابليون على الأمجاد التي حقَّقها قبل وصوله للحكم· وقد عاش هودو Houdon حتى سنة 1828 ونحت له تمثالاً نصفياً (موجود الآن في متحف ديجو Dijon) وقد ضمن هذا التمثال للفنان مكاناً بين جوقة الشرف· ولأن نابليون كان لا يزال يتذكر الأباطرة الرومان خاصة من خلال الأعمال النحتية المتعلّقة بتراجان Trajan، فقد عُهِد إلى جان بابتست الأب Jean-Baptiste Le Pere وجاك جُونْدوِي Jacques Gondouin بتخليد ذكرى معركة أوسترليتز Austerlitz في أعمال من النحت البارز لتُلصق طبقة طبقة بشكل تصاعدي حول العمود الذي سيشغل مكاناً بارزاً في ميدان فيندوم Vendome وتم هذا بالفعل (1806 - 1810)، وفي سنة 1808 توَّج أنطوان شود Antoine Chaudet اسطوانة العمود بتمثال لنابليون نحته من مدفع كان - أي نابليون - قد استولى عليه من الأعداء· وقلّما وصل الفخر بالانتصارات إلى هذا المستوى العالمي·
وكادت الفنون الصغرى - كصناعة الأثاث الفاخر، والزخرفة الداخلية (الديكور) والتطريز وأشغال الإبرة والفخار والخزف والمجوهرات والزجاج والتماثيل الصغيرة - تموت أثناء الثورة لكنها بدأت تنتعش في ظل حكومة الإدارة (حكومة المديرين) وانتعشت في عهد نابليون، فقد أنتج سيفر Sevres مرة أخرى أعمال خزفٍ جميلة· واتخذ الأثاث النمط الإمبراطوري بصرامة· وتُعد المصغّرات التي صوّر فيها إيزابي Isabey الشخصيات القيادية في هذا العصر من بين أجمل المصغّرات الفنية في التاريخ·
وأبدعَ جوزيف شينار Chinard تماثيل نصفية جميلة من طين نضيج لجوزيفين ومدام ريكامييه، وكانت تماثيل مدام ريكامييه على نحو خاص تتَّسم بالجمال وقد عرَّى أحد نَهْيْها ليظهرها كنموذج للمرأة المثل التي قررَّت أنْ تبقى نصف عذراء حتى آخر حياتها·(ملحق/586)
3 - الرسَّامون
لقد انتعش فن الرسم الآن مع انتعاش البلاد ممّا مكّن رعاة الفنون من الدفع· وكان نابليون يدفع بسخاء لأنّه كان يرنو للخلود عَبْر القرون وكان يرنو للفت الأنظار لإنجازاته بالتقرب إلى أهل الأدب والفن· لقد جعله إعجابه بأوغسطس Augustus روما ولويس الرابع عشر الباريسي يميل للإعجاب بالمعايير الفنية الكلاسيكيّة - في الخط والانضباط والمنطق والنِّسب والتصميم والعقلانية والتحّفظ، لكن حدَّة أحاسيسه، ومدى خياله وقوة عاطفته، كل ذلك جعله يتفهَّم على نحو ما الحركة الرومانسية التي قامت لإطلاق الفرديّة والمشاعر والخيال والأصالة والإبداع والتأمل الباطني والألوان وتحريرها من أسر التقاليد والشكليات· لذا فإن نابليون جعل من ديفيد الرسّام الرسمي في بلاطه، لكنه أَوْلى أيضاً شيئاً من رعايته لوجدان جيرار Gerard ورعوّية برودون Prud'hon وألوان جروس Gros المتفجِّرة الصَّاخبة·
وقد كان جاك لويس ديفيد (داود) مولعاً ولعاً طبيعياً بهذا الرَّاعي النصير (المقصود نابليون) الذي اتخذ لنفسه لقب قنصل والذي كان لفترة حامي حمى المدافعين عن حقوق العامة والذي تخّفى وراء قراراته ومراسيمه الشبيهة بقرارات مجلس الشيوخ الروماني ومراسيمه وسرعان ما زار ديفيد هذا الكورسيكي المنتصر (المقصود نابليون) بعد الثامن عشر من شهر برومير Brumaire ( وفقاً للتقويم الجمهوري الذي وضعته الثورة الفرنسية)، وكسبه نابليون إلى جانبه بأن "حياة ذات مرة كفرنسي مُقَدَّم" لكنه وبّخه بكياسة لاستنزافه كثيراً من موهبته في التاريخ القديم، "أليست هناك أحداث تستحق الخلود في تاريخنا الحديث بل والمعاصر؟! "
وعلى أية حال فقد أضاف نابليون قائلاً: "افعل ما يسّرك، فقلمك الرصاص سيُحقِّق الشهرة لأيِّ موضوع تختاره، لأنَّ أي صورة تاريخية ترسمها ستتلقَّى مقابلها 100,000 فرنك"· وكان هذا مُقْنعا· وصدَّق ديفيد على الاتفاق بأن رسم لوحة لبونابرت وهو يعبر الألب (1801) تلك اللوحة التي تظهر المقاتل الوسيم بساق جذّابة فوق حصان رائع يعدو بسرعة فوق المنحدر الصخري للجبل - إنها إحدى أجمل الصور في هذا العصر·(ملحق/587)
وكان ديفيد قد صوّت إلى جانب قرار إعدام لويس السادس عشر ولابُد أنه جفل عندما جعل نابليون من نفسه إمبراطور وأعاد للملكية كل أبهتها وسلطانها، ومع هذا فقد ذهب (أي ديفيد) ليرى سيّده الجديد (المقصود نابليون) وهو يضع التاج فوق رأسه، وكان افتتانه بالمشهد يفوق توجّهاته السياسية، وبعد ثلاث سنوات من الإخلاص المتردّد لسيّده (الذي أصبح ملكاً)، خلّد هذا الحدث في لوحة زيتية تُعد من روائع هذه الفترة· ويكاد يكون قد صوّر مائة شخصية في لوحة تتويج نابليون (1807) بل إنه رسم فيها مدام ليتيزيا (الأم) Letizia التي لم تكن حاضرة أثناء التتويج· وكان معظمهم راضين عن اللوحة ما عدا الكاردينال كابرارا Caprara الذي اشتكى ديفيد لأنه رسمه أصلعَ بدون شعره المستعار الذي اعتاد وضعه فوق رأسه· وبعد أن تأمل نابليون اللوحة لمدة نصف ساعة رفع قبعَّته للفنان (ديفيد) وقال له: "هذا حسن، حسن جداً يا ديفيد، إنني أُحيّيك"·
ولم يكن ديفيد مجرد رسّام رسمي للبلاط، وإنما كان زعيم الفن الفرنسي في هذه الفترة بلا منازع· لقد سعى إليه كُلّ ذوي الحيثية يجلسون أمامه طمعاً في لوحة منه - نابليون، بيوس السابع، مورا Murat، وحتى الكاردينال كابرارا بعد أن وضع باروكته (شعره المستعار) فوق رأسه· وقد نشر تلاميذ ديفيد - خاصة جيرار Gerard وجروس Gros وإيزابي Isabey وإنجر Ingres - تأثيره حتى عندما انحرفوا عن أسلوبه· وفي وقت متأخر زمنا حتى سنة 1814 كان زوّار اللوفر الانجليز يندهشون لوجود فنانين شبان ينسخون لوحات ديفيد - لا لوْحات عصر النهضة· وبعد عام تم نفيه بعد عودة البوربون، فذهب إلى بروكسل حيث انتعشت أحواله نتيجة عمله في رسم اللوحات الشخصية خاصة· ومات ديفيد في سنة 1825 عن عمر يناهز السابعة والسبعين بعد أن عاش حياة حافلة·(ملحق/588)
ومن بين تلاميذه انجر (1770 - 1867) الذي عاش بعده سنوات طوال· وعرَّجنا أثناء حديثنا عن جيرار وجيرين Guerin على رسومهما الشخصية ذات الطابع التنويري، وتوقفنا أكثر إزاء انطوان - جان جروس Antoine-Jean Gros بسبب تنقله الشائق بين الأساليب المختلفة· لقد لاحظناه في ميلان يرسم أو يتخيَّل نابليون على جسر أركول Arcole ففي هذه اللوحة، سرعان ما ندرك ميراث ديفيد الفني يعانق الرومانسية· وقد كافأ نابليون الفنان جروس الذي كان معجباً به إعجاباً أعمى، بأن أرسله ليشهد إحدى المعارك حتى يتمكن الفنان الشاب من رؤية الحرب عن قرب، وبعد ذلك بسنوات قلائل أصبح مثل جويا Goya لا يرى أن الحرب تسبب معاناة شديدة، ففي لوحته طاعون يافا (1804) أظهر نابليون يلمس قروح الضحيّة، لكنه أظهر أيضاً الفزع واليأس بادِيَيْن على الرجال والنساء والأطفال وقد أصابهم قدرهم الأعمى القاسي·
ولم يصوّر في لوحته معركة إيلاو Eylau (1808) مجريات الحرب وإنما صوّر ميدانها وقد غصّ بالمُحْتَضرين والموتى· وقد أحس بدفء ألوان روبين Ruben وأغرق رسومه بحيوية الدم واللحم التي رفعت الروح الرومانسية لفرنسا بعد عصر نابليون· لكن شعوره بأنه يخون سيده المنفي (نابليون) جعله يحاول العودة في أعماله للأسلوب الكلاسيكي بما فيه من هدوء وسكون· وفشل واستسلم للاكتئاب (المانيخوليا) وجفت فيه منابع الحيوية وحب الحياة· لقد تاه وأصبح عرضة للنسيان في عصر يَمُور بهوجو Hugo وبيرليوز Berlioz وجيريكول Gericault وديلاكُرْوا Delacroix· وفي 25 يونيو سنة 1835 غادر بيته وهو في الرابعة والستين من عمره وانطلق إلى ميدون Meudon حيث أغْرق نفسه في رافد نهر السّين·(ملحق/589)
أما بيير- بول برودن Pierre-Paul Prud'hon (1758 - 1823) فطوّر الفَوَران الرومانسي بتفضيله الجمال المثالي على الحقيقة والنسوة الفاتنات على الأرباب وفضل كوريجيو Correggio على رافاييل Raphael· وأعاد مع ديفيد الأهمية الأولى للخط لكنه شعر أنَّ الخطَّ يموت بلا ألوان· وكان دقيقاً إلاّ في حبّه للنساء، (النص: لم يكن رجلاً إلاّ عندما يتعامل مع النساء) فولعه بالتأمل وحساسيته الشديدة للحب والعشق يمكن أن يغفرا كل أخطائه التي تأتي في سياق مهذّب، ولأنه كان الأخ الأصغر لثلاثة عشر طفلاً فقد عانى الفقر في كلوني Cluny لكنه تطور على نحوٍ متردد، وعلى أية حال فإن رجال الدين عندما رأوه وهو يخطِّط ويرسم حثّوا الأسقف على تمويل دراسته للفن في ديجون Dijon، فكان طالباً جيداً، لكنه في سن العشرين تزوّج من امرأة فاتنة إلاّ أنها سرعان ما تحوّلت إلى امرأة فظة سليطة اللسان· وحصل على منحة دراسية فذهب إلى روما دون أن يصحب زوجته معه، فَفُتن برافاييل ثم ليوناردو وأخيراً استسلم لتأثير كوريجيو Correggio·
وفي سنة 1789 عاد لزوجته وانتقل معها إلى باريس وسرعان ما وجد نفسه منساقاً في الفوضى الثورية ولم يعد لديه وقت أو تذوق لكيوبيدْ his Cupids ولسايكييه his Psyches، لكنه بعناد واصل رسمهما وبدا رقيقاً محباً في رسمه حتى لقد بدا كأن فرشاته تعانق الأجساد البشرية التي يصورها· وكان يتكسّب عيشه من تصميم أوراق الشركات والمؤسسات التي يكتب في رأسها اسم الشركة أو المؤسسة وعنوانها، ورسم المُصَغَّرات والإعلانات التجارية، وبعد عشر سنوات من العذاب فاز بتكليف من حكومة الإدارة برسم صورة الحكمة تهبط للأرض التي لفتت إليها نظر الجنرال بونابرت، وفي وقت لاحق كان نابليون يركّز على ديفيد David وكان أحياناً يعتمد بشكل عابر على برودون Prud'hon, وعلى أية حال فقد جلست جوزيفين أمامه ليرسمها فكانت لوحة عُلّقت في اللوفر، وفي هذه الأثناء كان يُعاني من زواجه بواحدة، فاتفق مع زوجته على الانفصال·(ملحق/590)
ولم يلفت النظر ويحظى بالتصفيق إلاّ وهو في الخمسين من عمره أي من حوالي سنة 1808 ففي هذا العام صَبَ أحلامه الشهوانية في لوحته اغتصاب بسوخي (سايكي Psyche) ثم وازنها بلوحته العدالة والانتقام يلاحقان الجريمة وتأثر نابليون بجمال لوحاته فعيَّنه في جوقة الشرف ومنحه مكاناً لإقامته في السوربون، وفي المكان المجاور لهذا الفنان الجائع للحب كانت تُقيم فنانة أخرى، إنها كونستانس مابيه Constance Mayer التي أصبحت خليلته ومديرة شؤون بيته وعزاءً له في شيخوخته· وفي سنة 1821 اعترى كونستانس ماييه وخز ضمير مفاجئ ومشاعر دينية عارمة وانتحرت· وتأثر برودون بهذا الحدث تأثراً كبيراً عصف به· وفي سنة 1823 وافته منيته ولم يُحدث موته - إلاّ بالكاد - تأثيراً كبيراً في الحركة الرومانسية التي سبق له أَنْ عزّزها بالرجوع إلى أعمال الفنانين من ديفيد إلى واتو Watteau، فأعاد للفرنسيين من جديد حُبَّهم للجمال والحُسْن·
4 - المسرح
كان نابليون مُلماً تماماً بالدراما الكلاسيكيّة في فرنسا، وكان إلمامه بأدب الدراما في بلاد الإغريق القديمة أقل· وكان نابليون يفضّل كورنيل Corneille لأنه وجد فيه ما شعر أنه فهم دقيق للبطولة والنبالة، وقد عبَّر كورنيل عنهما - فيما أحسن نابليون - بشكل أفضل كثيراً مما فعل راسين Racine قال نابليون في سانت هيلانة: "إن التراجيديا الجيّدة تقترب منا اقتراباً شديداً كل يوم" والتراجيديا من النوع الأرقى هي مدرسة العظماء: "إنه لمن واجب الحكَّام تشجيعها والعمل على تشجيع الناس على تذوّقها·· آه لو أنَّ كورنيل عاش في زماني لجعلته أميراً".(ملحق/591)
ولم يكن الإمبراطور يهتم بالكوميديا فلم يكن في حاجة للتسلية والترفيه، وكان تاليران يُشفق على السيِّد دي ريميوزا de Remusat لأنه كمسئول عن الحفلات والترفيه في البلاط الإمبراطوري· كان يتوقع أن يقوم بترتيب أمور الترفيه والتسلية لهؤلاء المسئولين المرهقين لكن هؤلاء المسئولين أنفقوا الأموال على الكوميدي فرانسيز Comedie-Francaise ( المصطلح يعني المسرح الفرنسي وليس مرتبطاً بالكوميديا بالضرورة - المترجم) ونجومه· وقد رحَّب نابليون بتالما على مائدته كما رحب بالآنسة (المدموازيل) جورج Mlle. George على فراشه·
وفي سنة 1807 قلَّص نابليون عدد مسارح باريس إلى تسعة مسارح وأعاد تأسيس المسرح الفرنسي Theatre Francais ( وهو غير الكوميدي فرانسيز الآنف ذكره) كما كان يهتم بين الحين والآخر بدار الكوميديا الفرنسية - وكان لها حقوق - مقصورة عليها - لإخراج الدراما الكلاسيكيّة· وفي 15 أكتوبر سنة 1812 - وبين خرائب موسكو المحترقة - وجد الوقت الكافي ليصوغ للمسرح الفرنسي مجموعة قواعد وإجراءات دقيقة ظلت تحكم هذا المسرح حتى اليوم وفي ظل هذا التشجيع قدّم الكوميدي فرانسيز خلال فترة الإمبراطورية أجمل مسرحيات شهدها التاريخ الفرنسي·
ولإضافة نشاطات أخرى لهذه النشاطات أعيد بناء مسرح أودون Theatre de l'Odeon - الذي كان شُيّد في سنة 1779 ودّمرْ حريق في سنة 1799 - في سنة 1808 وكانت خطوط معماره كلاسيكيّة كما أراد لها المعماري شالجرين Chalgrin· وأنشئ مسرح البلاط في قصر التوليري، كما أنشئت منصات خاصة للتمثيل المسرحي تميزت بقدر كبير من الامتياز في كثير من الدور التي يتمتع أهلها بالثراء·(ملحق/592)
وقد وصل تالما Talma بعد أن لعب أدواره في الثورة الفرنسية - إلى ذروة مجده في ظل حكم نابليون· وكان معتزاً بنفسه وكان انفعالياً مميَّزاً فلا بُد أنه كان يجد صعوبة في السيطرة على مكوّنات شخصيته الحقيقية عند أداء أدواره التمثيلية· لقد أصبح هو سيّد الفن البارع بتعلّمه كيف يضبط وينسق كل حركة من حركات أطرافه، وكل خَلْجة من خلجات وجهه، وكل نبرة من نبرات صوته، ليجعلها ملائمة لأية أحاسيس ومشاعر أو أفكار للشخصية التي يمثلها، وليجعلها ملائمة للتعبير عن أية دهشة أو معنى أو مغزى···· تريد هذه الشخصية أن توصلها للمشاهدين، وكان بعض المولعين بمشاهدة المسرحيات يذهبون عدّة مرّات لمشاهدة العرض الواحد ليروْه في الدّور نفسه ليستمتعوا ببراعة فنه وليدرسوه·
ولم يكن أسلوبه في الأداء خطابياً على نحو ما كان عليه أسلوب الأداء التمثيلي في ظل الحكم القديم (قبل الثورة) · لقد كان يلقي الأشعار سداسية التفاعيل كما لو كان يقرأ نثراً (غير منظوم) وكان يعارض المبالغة غير الطبيعية في إظهار المشاعر ومع هذا فقد كان بمقدوره أن يكون حالما كأي عاشق انفعالياً كأي مجرم· وكادت مدام دي ستيل de Stael تصل إلى حد الرّعب عندما شاهدت تالما يؤدي دور أوثيلو Othello فكتبت له في سنة 1807:
"انّك في مجال فنك فريد في العالم (ليس لك نظير) ولم يصل أحد قبلك إلى هذه الدرجة من الإتقان حيث وحَّد الفن في شخصك بين الإثارة والإلهام والتفكير من ناحية والتلقائية من ناحية أخرى، وبين العقل والسجيّة"·
وكان نابليون أيضاً مفتوناً بهذا التراجيدي (تالما) فقدّم له مبالغ عينية ودفع ديونه ودعاه مراراً على مائدة الإفطار وكان الإمبراطور يستطيع أن يظل مستغرقاً في الحديث عن الدراما والدبلوماسيون والجنرالات ينتظرون لقاءه بينما هو يشرح تفاصيل تاريخية يجب مراعاتها عند تقديم الشخصية· وذات صباح بعد أن شاهد مسرحية موت بُمبي La Mort de Pompee قال لتالما:
"إنني لستُ براضٍ تماماً· إنك تستخدم ذراعيك كثيراً· إن الملوك لا يُكثرون هكذا من الإشارات والإيماءات· إنهم يعرفون أنَّ الحركة أمر وأن النظرة موت، لذا فهم يقتصدون في الإشارات والحركات والنظرات"(ملحق/593)
وقد تأكدنا أنّ تالما قد استفاد من هذه النصيحة· وعلى أية حال فقد ظل تالما حتى آخر حياته سيّداً للمسرح الفرنسي·
وكان للمسرح الفرنسي أميراته (ممثلاته البارعات) أيضاً فقد كانت الآنسة (المدموازيل) دوشسنوا Duchesnois ذات وجه عادي لكنها متناسقة القوام· لذا فقد كانت - على حد ما ذكر دوماس الأب Dumas Pere - معجبة على نحو خاص بدور الزير Alzire حيث كانت تستطيع عرض دوْرها وهي شبه عارية وكان صوتها أيضاً ذا نغمات شجيّة عميقة ويُعبِّر عن الأسى الميلودي melodious ( يتسم بأنه صوت رخيم) حتى أنه في يوم عرض هذه المسرحية فضَّلها معظم من شاهدوها في دور ماريا ستورات Maria Stuart على الآنسة راشيل Mlle. Rachel لقد كانت أكثر ما تكون إبداعاً عندما تؤدي أدواراً تراجيدية إذ كانت تنافس تالما Talma في أداء هذه الأدوار، وعادة ما كان يتم اختيارها لتلعب أدوارها معه· أما الآنسة جورج فكانت ذات جمالٍ يُحَرِّضُ على الإثم ولا بد أن المسرح الفرنسي تردّد عند توزيعه الأدوار في أن يعهد إليها بدوْر كليتمسترا Clytemnestra في مسرحية راسين Iphigenie ·
لقد جذب صوتها وقوامها القنصل الأول (نابليون) وكأيّ سيد إقطاعي يتمتّع بحق السيّد droit de seigneur راح يزورها زيارات قصيرة بين الحين والحين وكان عليها أن تستجيب لطلبه· ورغم أن هذه العلاقة قد انتهت بعد عام إلاّ أنها - مثل تالما - ظلت مخلصة لنابليون طوال انتصاراته وهزائمه على سواء، ومن ثمّ فقد فقدت مكانها في المسرح الذي كانت تعمل به عندما سقط نابليون، لكنها عادت بعد ذلك لتُشارك في حركة المسرح الرومانسي بما في هذه الحركة من إثارة·
واعتقد نابليون - وله بعض الحق - أنَّ المسرح الفرنسي في عهده رفع من شأن المسرح عموماً إلى درجة من الامتياز لم يحقّقها من قبل· وأمر نابليون فرقة هذا المسرح عدة مرات بتقديم عروضها على نفقة الدولة إظهاراً لتفوقها ودليلاً علي عظمته - في مينز أو كوْمِبْنيْ Compiegne أو فونتينبلو في مسرح البلاط أو - كما حدث في إيرفورت ودريسْدن Dresden - لعرض مسرحية قبل لقاء الملوك·(ملحق/594)
الفصل الثالث عشر
الكتابات المناهضة لنابليون
1 - الرقيب
كان نابليون مهتماً بالمسرح أكثر من اهتمامه بالكتابات الأدبية· لقد راقب بعناية برامج المسرح الفرنسي وأبدى حكمه عليها، وكان إلى حد كبير - مسئولاً عن استبعاد (مسرحيات) فولتير وإحياء مسرحيات كورنيل وراسين· ولم يكن ذوقه في الأعمال الأدبية راقياً على هذا النحو· وكان يقرأ الرِّوايات بشغف بل كان يأخذ معه كثيراً من الروايات - معظمها ذوات طابع رومانسي - عند ذهابه للمعارك· وكانت مائدة حديثه في سانت هيلينا تضم بعض كُتب النقد الأدبي الجيّدة التي تحوي معلومات عن هومر وفرجيل وكورنيل وراسين ولا فونتين ومدام دي سيفنيه وفولتير وريتشاردسون ورسّو Homer, Virgil, Corneille, Racine, La Fontaine, Mme. de Sevigne, Voltaire, Richardson, Rousseau, لكنه كان لا يستسيغ شكسبير على الإطلاق· "انه لمن المحال أن يُنهي المرءُ أيّاً من مسرحيّاته· إنها هزيلة يُرثى لها، فليس فيها شيء يجعلها تقترب - في أي موضع فيها - من أعمال كورنيل أو راسين" (كانت الترجمات الفرنسية لأعمال شكسبير غير كافية وغير جيّدة) ·
وكمعظم رجال الأعمال لم يكن نابليون يُكن احتراماً للكتاب في مجال الاقتصاد أو الحكم، إذ كان يعتبرهم بائعي كلام ليس لديهم إلاّ القليل من الحِسِّ الصائب لفهم الحقيقة والطبيعة وحدود القدرة البشريّة· وكان متأكداً أنه يعرف أفضل منهم ما يُريده الشعب الفرنسي وما يجب أن يكون:
"كفاءة الحكومة وتكاملها، والاعتدال في الضرائب، وحرية السوق، وانضباط الإجراءات، وانتظام التمويل، وضمان توفّر فرص العمل بشكل يعادل العمالة المطروحة في مجال الصناعة، والأراضي الزراعية المُتاح ملكيتها للفلاحين، وتهيئة مكانه عزيزة لفرنسا بين الدول، فإن تحقق ذلك فلن يصر الشعب على تدابير (إجراءات) محدَّدة ولن يهتم الشعب بمسألة شغل المناصب بحفنة من المخبرين بعد نزاع كلامي"·(ملحق/595)
ولم يكن نابليون في سعيه الدءوب للوصول لهذه الغايات يُطبق كثيراً تدخل لوردات الكلام من رجال القلم والخطباء· وكان نابليون إذا وجد أن تهدئة هذه الطائفة (لوردات الكلام من كتاب وخطباء) يستلزم تقديم جوائز أو مكافآت أو معاشات فإنه لم يكن يتوانى في تقديمها، وإلاّ فإنه يعمل على الحيلولة بين مسببي الإزعاج لحكمه القنصلي أو الإمبراطوري والنشر، أو العمل على إبعادهم عن باريس أو فرنسا· وقد كتب نابليون في سنة 1802:
"إنَّ حرية الصحافة التي لا تحدّها حدود سُرعان ما تُسبب الفوضى وترسّخها في دولة كل شيء فيها مهّيأ لذلك بالفعل"·
وكما كان يحدث في عهد حكومة الإدارة، فإن نابليون رغبة منه في متابعة الرأي العام، عمد إلى إصدار الأوامر لمديري البريد بفضِّ بعض الخطابات الخاصَّة، وكتابة تقارير له فيما يتعلق بالفقرات المعادية له، وأن يُعيدوا إغلاق الأظرف، وأن يُرسلوا نسخاً من المقتطفات التي يجمعونها من هذه الخطابات إليه شخصياً أو إلى الغرفة السوداء في مكتب البريد العام في باريس·
وأصدر تعليمات لأمين مكتبته الخاصة أن يُعِد تقريراً ملخصاً يعرضه عليه كل يوم فيما بين الساعة الخامسة والسادسة يتضمن ما ورد في الدوريَّات الجارية متعلقاً بالأمور السياسية، وأن يُقدِّم هذا التقرير كل عشرة أيام، وأن يتضمن هذا التقرير أيضاً تحليلاً لما ورد في الكتب والنشرات والأبحاث التي نُشرت في غضون العشرة أيام السابقة على تقدير التقرير وأمر نابليون أمين مكتبته الخاصّة أن يقدم له في اليوم الأول والسادس من كل أسبوع (أسبوع الثورة الفرنسية عشرة أيام) فيما بين الساعة الخامسة والسادسة نشرة بالملْصقات والإعلانات التي قد تلفت الانتباه وأن يكتب في تقريره أيضاً ما يكون قد نما إلى علمه من أقوال أو أفعال في المدارس المختلفة والتجمّعات الأدبية والخطب والمواعظ·· مما قد يكون ذا أهمية من منظور سياسي أو خلقي·(ملحق/596)
وفي 17 يناير سنة 1800 أمر نابليون بوقف ستين صحيفة من بين ثلاث وسبعين صحيفة كانت تصدر في فرنسا في ذلك الوقت· وكان نابليون يُواصل بذلك السياسة التي سارت عليها حكومة الإدارة· وفي نهاية هذا العام المذكور آنفاً لم يَعُد باقياً من هذه الصحف إلاّ تسع، لم تكن واحدة منها ذات طابع نقدي راديكالي· قال نابليون: "إن هذه الصحف المعادية تسبب الرعب أكثر مما تسببه ألف حربة". ودأبت صحيفة لي مونتير يونيفرسال Le Moniteur universel على الدفاع عن سياسة نابليون، وكان في بعض الأحيان يكتب لها المقالات بل وحتى مستخلصات الكتب، لكنه لم يكن يوّقع هذه المقالات، لكن أسلوبها الدكتاتوري authoritative كان يُفشي بسرّ كاتبها· وقد سمِّي المفكرون الظرفاء هذه الصحيفة الحكومية باسم ساخر محرّف يعني الصحيفة الكذّابة مونتير يونيفرسال ·
"إنني أريد منك أن تكتب لمحرِّري (جورنال دي ديبات le Journal des debats) وبيليسيزت Le Publiciste وجازيت دي فرانس La Gazette France فهي الأكثر انتشاراً، كما أعتقد·· أمراً تُعلن لهم فيه·· أن عصر الثورة قد انتهى وأنه ليس في فرنسا الآن إلاّ حزب واحد، وأنني لن أتسامح مُطلقاً مع الصحف التي تكتب - أو تفعل - أيَّ شيء ضِدَّ مصالحي، فإن نشرت هذه الصحف مقالات قليلة تحوي قدراً من السم مهما كان قليلاً، فإنها ستجد ذات صباح جميل من يُغلق أفواه كتَّابها"·(ملحق/597)
وفي 5 أبريل سنة 1800 امتدت الرقابة لتشمل الدراما· وكانت حجة الحكومة في إجرائها هذا أنَّ الآراء التي يتم التعبير عنها على مستوى الأفراد وبشكل خاص قد لا تُحدث إلاّ أضراراً قليلة، لكن هذه الآراء نفسها إذا ما تم وضعها على لسان شخصية تاريخية شهيرة فإنها ستُحدث تأثيراً انفجارياً مُضاعفاً عند عَرْضها على المسرح بسبب بلاغةِ ممثلٍ محبوب جماهيرياً وقوة أدائه، إنها - أي هذه الأفكار - في هذه الحال ستُثير المشاعر بشكل مُضاعف بين جمهور المشاهدين· وقد استثنت الرقابةُ من ذلك نقد المَلَكِيَّة، وامتداح الديمقراطية· وقد تمَّ استبعاد مسرحية موت قيصر La Mort de Cesar من المسارح بسبب تَصْفيق جماهير النظَّارة لخطب بروتس Brutus ضد الدكتاتورّية· وأخيراً أحكمت الدولةُ السيطرةَ· على كلِّ المطبوعات·
"انه لمن المهم جداً ألاَّ يُسمح بالنشر إلاَّ لمن تثق بهم الحكومة· فمن يُخاطب الجماهير من خلال مطبوعات هو كمن يتحدث إليهم في اجتماع عام، في مقدوره أن يعرض موادَّ مثيرة ولا بد من مراقبته"
باعتباره محرِّضاً مُحتملاً أو مُسبباً مُحتملاً للحرائق· وعلى هذا فكلُّ طابع لابد أن يُقدِّم للرقيب كلَّ نصًّ قبل طبعه، سواء قَبْل أَنْ يطبعه أو أثناء طبعه ولابُدَّ من الحصولِ على موافقة الدولةِ على الطَّبْع، ولا بد أن يُوافق الطابعُ (الناشرُ) على حذفِ المادة التي تعترضِ عليها الرقابةُ أو إحلال البديل عنها كما تقترحه الحكومة· وحتى بعد أن يُوافقَ الرقيبُ وبعد طباعة الكتاب أو الصحيفة أو النشرة، فمن حقِّ وزير الشرطة (الداخلية) أن يُصادر المادةَ المنشورةَ أو حتى يُتْلفها تماماً، دون اعتبار لخسارة المؤلِف أو الناشر·
وكان على الأدب والفكر في ظل هذه القيود على الفكر أن يُناضلا ليظلاَّ على قَيْد الحياة في ظلِّ نابليون· وقد وقع هذا النضال بأشجع معانيه على كاهل امرأة·
2 - مدام دي ستيل: من 1799 إلى 1917 م
MME. DE STAEL
2/1 - خَصْمُ نابليون اللَّدود(ملحق/598)
سبق للجنة الأمن العام أن أبعدت مدام دي ستيل عن فرنسا وخفّضت حكومة الإدارة هذه العقوبة فاكتفت بإقصائها عن باريس، وبعد سقوط حكومة الإدارة أسرعت عائدة إلى العاصمة (12 نوفمبر 1799) وسكنت شقّة في شارع دي جرينل de Grenelle في حي فوبورج سان جيرمين Faubourg ST. Germain الرَّاقي· ولم تعترض الحكومةُ القنصليةُ - أعنى نابليون - على عَوْدتها - وسرعان ما افتتحت صالوناً جديداً لأسباب منها أن المناقشات في باريس·· كانت دائماً أكثر فتنةً وسحراً من كل المسرّات وأنها كانت قد صمَّمت على أن تلعب دوراً في توجيه الأحداث، ولم تضع في اعتبارها أن مثل هذا الدور لا يليق بامرأة·
لقد بَدَالها أنَّ هذا أمر لائق تماماً لامرأة مثلها ذات مال وذكاء، خاصة إن كانت وريثة جاك نيكر Jacques Necker ( والدها) الذي كانت تعتبره بطل الثورة الفرنسية الذي لم يُقَدَّر حق قدره· وبالإضافة لهذا فقد كانت الحكومة الفرنسية لا تزال مدينة له بمبلغ عشرين مليون فرنك كان قد أَقْرضها لها (للحكومة) في سنة 1789، وكان أحد أهداف مدام دي ستيل هو استعادة هذا المبلغ· وكان نموذج الحكومة الأمثل من وجهة نظرها هو الملكية الدستورية التي تسمح بحرية الصحافة والعبادة والخطابة، والتي تحمي مِلْكية الأثرياء ضد حسد الفقراء، تماماً كما كان رأي أبيها·
وبهذا المعنى كانت تَشْعر أنها كانت مُخلصة للثورة كما عرفتها الجمعية الوطنية 1789 - 1791· لقد كانت تحتقر المشتركين في قَتْل الملك ورحَّبت في صالونها بجيرانها من ذوي الرُّتب والألقاب في فوبورج الذين كانوا يدعون كل يوم طالبين من الرب عوْدة البوربون إلى الحكم· ومع هذا فقد حلَّقت المتجمعين في صالونها حول بنيامين كونستات Benjamin Constant ( قسطنطين) الذي نذر حياته للدفاع عن الجمهورية والذي كان - كعضو في التربيونيت Tribunate- يُعارض كل حركات نابليون من مرحلة القنصلية إلى مرحلة السلطة الإمبراطورية، ورحّبت في صالونها أيضاً بإخوة القنصل الأول (نابليون) لأنهم كانوا هم أيضاً غير مرتاحين في ظلِّ سلطته المتزايدة·(ملحق/599)
وحقيقة الأمر أن كل ذوي الشأن في المجاليْن السياسي والفكري في باريس - وجدوا طريقهم إلى اجتماعات المساء في صالونها، شغفاً منهم في معرفة آخر الأقاويل في المجال السياسي وليسمعوا مدام دي ستيل تَخُوض غمار الحوار والمناقشات على نحو لم تشهده باريس من امرأة منذ مدام دو ديفان Mme du Deffand· وقد أعلنت مدام دي تيسّي Tesse: " لو كنتُ ملكة لأمرتُ مدام دي ستيل بالحديث معي طوال الوقت"· وقد كتبت جيرمين Germaine نفسها أن: "كل طبقات فرنسا كانت تشعر بضرورة النقاش، فلم يكن الكلام (الحوار) هنا كما هو في أي مكان آخر - مجرد وسيلة للتعارف والاتصال بين الناس··· وإنما كان كآلة موسيقية شُغف الناس بالعزف عليها"·
ولم تكن دوماً معارضة لنابليون إن كان لنا - حقيقة - أن نُصدّق بوريين Bourrienne، فقد كتبت له خطابات إطراء وتملّق في بداية الفترة القنصلية لتعرض خدماتها عليه· ولكن قرارهُ بتجاهل عروضها، وتوسيع دائرة الرقابة واحتقاره للمكفرين السياسيين، وفكرته عن المرأة التي مؤداها أنها مجرد أداة للإنجاب، ووسيلة للذة، وأنه لا يُوثق في فكرها، كان بمثابة لدغة لها دفعتها للرد عليه· وعندما أطلق على ضيوفها اسم الأيديولوجيين ideologues أطلقت عليه بدورها عدو الفكر / أيدو فوب ideophobe، ولأن غضبها منه (من نابليون) كان يزداد، فقد وصفته بأنه: "روبيسبير Robespierre فوق صهوة جواد أو هذا البورجوازي الذي اعتلى العرش"·
وفي السابع من مايو سنة 1800 انتقلت بزوجها وبطانة صغيرة من المخلصين إلى كوبت Coppet في فترة الصيف· وكان نابليون قد غادر باريس في اليوم السابق ليعبر جبال الألب ويواجه النمساويين في مارينجو Marengo، واعترفت جيرمين (مدام دي ستيل) في وقت لاحق: "لم أستطع أن أمنع نفسي من تمنّي أن تحيق الهزيمة بنابليون إذ بدت هزيمته هي الطريق الوحيدة لوقف الطغيان"· وفي خريف هذا العام عادت إلى باريس بعد أن ضَجِرت من الإقامة في كوبت ومونت بلانك Mont Blanc، فقد كانت لا تستطيع العيش دون مناقشات "ولم تكن المناقشات مزدهرة في أيِّ مكان ازدهارها في باريس"·(ملحق/600)
وسرعان ما جمعت في صالونها جماعة من العباقرة والنوابغ راحوا يتحاورون في موضوعهم الأثير وهو دكتاتورية نابليون· واشتكى نابليون من هذا الوضع قائلاً: لقد حملت كنانتها المليئة بالسهام· إن الجماعة المتحلّقة حولها تتظاهر بأنها (مدام دي ستيل) لا تتحدث في السياسة ولا تتحدث عنِّي لكن كيف - إذن - أفسرّ أنَّ كلَّ من رآها، قلَّ حُبّ لي؟ وقال بعد ذلك في سانت هيلينا St. Helena:
" إن بيتها أصبح حقاً ترسانة توجِّهُ أسلحتها ضدي· لقد كان الناس يذهبون إلى هذا البيت ليكونوا فرساناً زائفين في حرب صليبية تشنها ضدي"· بل أنه ذهب إلى حد القول: "إن تلك المرأة علَّمت الناس أن يفكروا فيما لم يتعوَّدوا التفكير فيه قبل ذلك، وما كانوا قد نسوا كيفية التفكير فيه"·
لقد شعر نابليون أنه كقائد يعمل على إخراج فرنسا من حالة الفوضى بفرض نظام إداري يتَّسم بالكفاءة، وبتحقيق جيوشها انتصارات - في الوقت نفسه - ضد التحالفات المعادية، أنَّ من حقه أن يتوقع - أو يفرض عند الضرورة - معنويات عامة وأخلاقاً عامة على الجماهير، وأن يفرض تنسيقا بين الروح الوطنية والإرادة الوطنية للدفاع عن جمهورية فرنسا الجديد وحدودها الطبيعية - لكن هذه المرأة (مدام دي ستيل) جمعت حولها كلا من الموالين للملكية واليعاقبة Jacobins ووحَّدتهم ضده، ووالت أعداءه·
وكان والد جرمين متفقاً مع نابليون· لقد أنَّبها (أي أنّب ابنته) لهجومها المتواصل على الدكتاتور الشاب (نابليون) وقال لها إن شيئاً من الدكتاتورية ضروري أثناء الحرب· لكنها أجابته قائلة: "إن الحرية أهم من النصر"· وشجعت مدام دي ستيل، بيرنادوت في معارضته لنابليون، وكتبت بعض الخطب التي ألقاها كونستانت في التريبيونيت Trebunate ( مجلس الدفاع عن حقوق الشعب) ضد انتهاكات نابليون لاختصاصات وصلاحيات المجلس التشريعي (الهيئة التشريعية) · لقد كانت هي (مدام دي ستيل) وبونابرت سريعي الغضب متّسمين بالغرور، ولم تكن فرنسا لتتسع لكليهما، ليكون كل منهما حراً يتصرف كما يشاء·(ملحق/601)
وفي ربيع سنة 1801 كتب نابليون لأخيه جوزيف Joseph ( يوسف): "إن السيِّد دي ستيل في بؤس شديد، ومع هذا فإن زوجته تُقيم الولائم والحفلات الراقصة" ونقل جوزيف إليها هذا التوبيخ، فانتقلت إلى مقرِّ إقامة زوجها في ميدان الكونكورد (الكلمة تعني الوفاق) فوجدته وقد أخذ به الشَّلل كل مأخذ، فراحت تُمرِّضه وتعتني به، وفي شهر مايو سنة 1802 أخذته معها عندما غادرت باريس إلى سويسرا، ومات في الطريق وتمّ دفنه في مقبرة كوبت · وفي العام نفسه بدأت مدام دي ستيل في تعاطي الأفيون لأن نوبات الهياج كانت تعتريها·
2/ 2 - المؤلفة
كانت مد دي ستيل أعظم مؤلفة في أوروبا في زمانها وكانت أعظم كتاب فرنسا باستثناء شاتوبريان Chateaubriand لقد كتبت خمسة عشر كتاباً قبل سنة 1800 (أصبحت هذه الكتب منسيّة الآن)، وفي ذلك العام (1800) قدَّمت عملاً كبيراً عن الأدب De la Litterature ثم ألفت روايتين (دلفين Delphine في سنة 1803 وكورين Corrine في سنة 1807) وقد حقَّقت هاتان الروايتان لها الشهرة في أنحاء أوروبا·
وفي الفترة من 1810 إلى 1813 خاضت معركة حياتها لنشر عملها المهم (عن ألمانيا De L'Allemagne) ، وتركت بعد موتها كتاباً آخر مهماً وكبيراً (أفكار وتفسيرات حول··· الثورة الفرنسية Considerations Sur ... La Revolution Francaise) و (عشر سنوات في المنفى Les dix Annees d'exil) لقد اتّسمت كتاباتها التي أشرنا إليها هنا بالصدق، كما أنها كانت أعمالا أساسيَّة، وبعضها بلغ 800 صفحة· وكانت مدام دي ستيل تبذل جُهدا شاقاً في العمل· لقد كانت تعمل بجد وتمارس الحب بجد ومواظبة، وتكتب بعاطفة جيَّاشة وحماس· لقد حاربت حتى النهاية أقوى رجال العصر (نابليون) وكان سقوطُه نصراً لها، مع أنها كانت تعاني ظروفاً حزينة·
لقد تناول عملها الموسوم باسم: ( De la litterature consideree dans ses rapports avec les institutions sociales) موضوعاً كبيراً ومهماً:
"إنني أريد أن أفحص أثر الدين والأخلاق والقوانين على الأدب (والفكر) وأثر الأدب (والفكر) على الدين والأخلاق والقانون"·(ملحق/602)
لقد كانت لا تزال تتنفّس روح القرن الثامن عشر - حرية الفكر، الفرد في مواجهة الدولة، تطور المعرفة والأخلاق، هنا لا مجال للميثولوجيا (الأساطير) الفوقطبيعية supernatural myth ( التي لا تنسجم مع قوانين الطبيعة)، فقد كانت مدام دي ستيل تؤمن بنشر التعليم والعلم والمعرفة·
وكان المطلب المسبّق - في رأيها - لإحداث أي تطور هو تحرير العقل من سطوة السيطرة السياسية· فبالعقول المتحررة على هذا النحو، سينتعش الأدب (والفكر) ويتضمّن أفكاراً مفيدة، وسينتشر لينتقل لنا تراث الجنس البشري· لا يجب أن نتوقع أن يزدهر الفن والشعر على نحو ما يتقدم العلم والفلسفة لأنهما (الفن والشعر) يعتمدان بشكل أساسي على الخيال الذي اتَّسم بالخصوبة والتوقّد في الأزمنة المتأخرة كما كان في الأزمنة الباكرة في التاريخ· وفي التطور الحضاري يسبق الفن والشعر العلمَ والفلسفة، ومن هنا فإن عصر بركليز Pericles سبق عصر أرسطو، والعصور الوسطى سبقت جاليليو Galileo، والفن في عهد لويس الرابع عشر سبق عصر التنوير العقلي·
والتطور العقلي لا يتسم بالاستمرار، فهناك تقهقر أو تراجع أو نكوص بسبب اضطرابات في الطبيعة أو تقلّبات السياسة، لكن حتى في العصور الوسطى كان العلم والمنهج العلمي يتقدمان مما مهّد لظهور كوبرنيكس Copernicus وجاليليو وبيكون وديكارت· وفي كل العصور تمثل الفلسفة تجميعاً تراكمياً للتراث الفكري وجوهره· وتأملت مدام دي ستيل وتنبأت قائلة:
"أنه ربما أصبحت الفلسفة في بعض حقب المستقبل مفهومة وناضجة بشكل كاف بحيث تحل محل العقيدة المسيحية أو بتعبير آخر تغنينا عن العقيدة المسيحية التي كنا نعتقدها في الماضي"·
وقد عرَّفت التنوير الفلسفي les lumieres philosophiques بأنه "الحكم على الأشياء بمعيار العقل" ولم تفقد مدام دي ستيل إيمانها بحياة العقل إلاّ عند حديثها عن الموت· "إن انتصار التنوير الفلسفي (العقلي) كان دوماً ملائما لعظمة الجنس البشري وإصلاح حاله"·(ملحق/603)
لكنها استمرت تقول (وكانت قد قرأت روسّو كما قرأت فولتير) "إن تطور العقل (الفكر) ليس كافيا فالمعرفة ليست إلاّ عنصراً واحداً في عملية الفهم· أما العنصر الآخر فهو الشعور، فلابد أن تكون الروح حساسة مرهفة كما لابد أن تكون الحواس كذلك"· فبدونها (الحواس) تصبح الروح كلوح ميت غير قابل للتلقي أو تصبح كمتلق ميت للمثيرات المادية (الفيزيقية)، فبالحواس تدخل الروح في حياة الموجودات الحية الأخرى وتشاركها إعجابها ومعاناتها، فبشعور الروح من خلال الجسد يكون الشعور بوجود الله وراء العالم المادي· ومن خلال وجهة النظر هذه تصبح الآداب الرومانسية التي ظهرت في الشمال الضبابي (ألمانيا واسكندينافيا وبريطانيا العظمى) على الدرجة نفسها من الأهمية التي لآداب الجنوب المشمس (اليونان وإيطاليا) وتصبح قصائد أوسيان Ossian في أهمية ملاحم هوميروس Homer·
وكان من الممكن أن يوافق نابليون في فترة شبابه على هذا التقويم لكن كان لا بد أن ينزعج من وجه نظر المؤلفة عن العلاقة بين الأدب (والفكر) والحكومة· فالديمقراطيات (كما اعتقدت مدام دي ستيل) تجنح إلى جعل الكُتَّاب والفنانين يجنحون إلى إرضاء أذواق الجماهير بينما تعمد الارستقراطيات إلى جعل الكتاب والفنّانين يعملون على إرضاء أذواق النُّخبة (الخاصّة) وتشجيع الفكر المصقول المحكم ورصانة الصياغة والشكل·
فنظام الحكم الاستبدادي يعمل على ترقية الفنون والعلوم ليُظهر نفسه - أي هذا الحكم الاستبدادي - من خلال البهاء والقوة، ولكنه - أي النظام الاستبدادي - لا يشجع الفلسفة والدراسات التاريخية لأنها خطر على الدكتاتورية بسبب تناولها للأمور بعمق وسِعَة، والديمقراطية تحفز الآداب وتؤخّر الفن، والارستقراطيات تفرض الذوق لكنها تعمد إلى إطفاء الحماسة والجدة والإبداع، والحكومة المطلقة (الاستبدادية) تكبت الحريات والإبداع والفكر· فلو أمكن أن يكون لفرنسا حكومة دستورية تُزاوج ما بين النظام والحرية لأمكنها أن تزاوج بين تشجيع الديمقراطية والقيود المفروضة بحكمة في ظل حكم القانون·(ملحق/604)
نقول الحق تماماً إن هذا الكتاب كان كتاباً جديراً بالاهتمام بالنسبة لامرأة في الرابعة والثلاثين من عمرها، وتمتلك سبعة ملايين من الفرنكات· وبطبيعة الحال كانت هناك أخطاء في هذا الكتاب ذي الستمائة صفحة لأنَّ العقل عندما يفلت يكون عُرضة للزَّلل بشكل أكيد رغم أنه قد يُسْقِط بعض الثمار التي يتعذَّر الإمساك بها (المراوغة) · لقد كانت مدام دي ستيل شخصية غامضة في مجالي التاريخ والأدب، لقد كانت ترى أنَّ الايرلنديين ألمان وأن دانتي شاعر صغير (قليل القيمة) بل لقد دافعت بشجاعة عن الحكومة الليبرالية وعن المسيحية القائمة على أسس عقلية فأسقطت في طريقها مئات من المُسلَّمات·
وتنبّأت بأن تطوّر الإحصاءات قد يجعل الحكومة أكثر وعياً وأن التعليم السياسي قد يساعد في إعداد مرشحين للوظائف العامة· ولاحظت وكأنها تتنبّأ أن التقدم العلمي سيجعل التقدم الخلقي أمراً لا مناص منه لأنه إذا زادت قوة الإنسان زادت قوةً وسائل منعه من إساءة استخدامها وقلما كانت هناك فكرة من أفكار القرن الثامن عشر لم يتناولها هذا الكتاب، وقلما كانت هناك فكرة من أفكار القرن العشرين لم يبذر هذا الكتاب بذرتها·
لقد كتبت في هذا المجلد حياتها بطولها بما فيها من آلام وحسرات ذلك أن النظام الاجتماعي بكامله·· قد حشد حشوده ضد امرأة أرادت أن تُحقق شهرة لم يُحققها الرجال في عالم الأدب والفكر · والآن فقد كان عليها أن تكون استثناء لأنها كما كتبت بعد ذلك بواحد وعشرين عاما في ربيع سنة 1800 نشرتُ كتابي في الأدب وأدى نجاحه إلى استعادتي ثقتي كاملة بالمجتمع، وامتلأت - مرة أخرى - غرفة الاستقبال عندي بالزائرين· وكانت قلوب كثيرين قد انخلعت فابتعد عن صالونها من كان يتردد عليه بعد هجوم كونستانت (قسطنطين) العنيف على الدكتاتورية إلاّ أنهم بعد صدور كتابها هذا عادوا إليها نادمين وراحوا يتملَّقونها ووجد العريف الصغير Little Corporal ( المقصود نابليون) في قصر التوليري Tuileries أن عليه أن يعترف بوجود عدو له يُباريه في همته وطباعه·(ملحق/605)
وفي أغسطس سنة 1802 أرسل جاك نيكر للقنصل ليبرون Lebrun نظرات أخيرة في السياسة والمالية Les Dernieres Vues de politique et de Finance - الذي عرض فيه آخر أفكاره في السياسة والاقتصاد· وفي هذا الكتاب التمس الأعذار لدكتاتورية نابليون لكن باعتبارها شراً لا بُد منه، وافترض أن هذه الدكتاتورية مؤقتة وحذر من استمرار تركز السلطة في أيدي العسكريين وعبَّر عن أسفه لأن مالية الحكومة الجديدة تعتمد اعتمادا كبيرا على تعويضات الحرب، واقترح دستوراً أكثر ليبرالية يكون نابليون حارسا عليه·
وقد أطلع ليبرون نابليون على هذا الكتاب وكان نابليون وقتها قد أصبح بالفعل نصف إمبراطور (على وشك أن يكون إمبراطوراً) فامتعض - أي نابليون - من فكرة تقليص سلطاته· ولأن نابليون كان مُقتنعاً أن مدام دي ستيل هي التي وجهت أفكار أبيها، فقد أصدر أمراً بإبعادها عن باريس مما يعني إغلاق صالونها المزعج ونسي نابليون أنها كانت تستطيع الكتابة بالمهارة نفسها التي تتحدث بها· وقضت شتاء 1802/ 1803 في جنيف لكنها أصبحت في ديسمبر حديث باريس بنشرها روايتها "دلفين Delphine"· لا أحد يقرأ هذه الرواية الآن، لكن عند صدورها لفتت نظر كل المهتمين بالأدب والسياسية لأنها كانت جزءاً من نضال قوي بين امرأة وعصرها·
ودلفين (بطلة القصة) فتاة فاضلة قوية تتوق إلى الاستسلام (الإذعان) وتخشاه (ويُقصد بها مدام دي ستيل) وأحب ليونس Leonce (= ناربون Narbonne) الارستقراطي الوسيم الفتاة دلفين لكنه جفل منها (ابتعد عنها) بسبب إشاعة تتهمها بعلاقات جنسية غير شرعية affairs فلم يستطع أن يُقامر بوضعه الاجتماعي باتخاذها زوجة له، فتزوج من ماتيلدا دي فيرنون Matilde de Vernon التي كانت أمها تمارس السحر وتغطي أكاذيبها بالظُّرف والذكاء، ونظر أهل باريس لهذه السيدة (الواردة في الرواية) على أنها تاليران, رغم أنها امرأة بينما تاليران رجل، وقد انتقم تاليران لنفسه بأن ذكر أن هذه المؤلِّفة المسترجلة masculine ( المرأة الذَّكر) قد تنكرت وكذلك هو في زى النساء·(ملحق/606)
(يقصد أنه ليس فيها من الأنوثة شيء) · وتُواصل القصة ذاكرة أن دلفين - بعد رفضها - عادت للدير حيثُ قادتها رئيسة الدير لعالم العفة طوال الحياة· وعندما اكتشف ليونس Leonce طهارتها فكر في تطليق زوجته غير الحساسة وأن يتزوج دلفين لكنه خشي تدمير مصالحه بخرقه قانون الكنيسة القاضي بالزواج الأحادي (الزواج مرة واحدة في العمر)، وماتت ماتيلدا Matilde - ضحية، وكان موتها مناسبة درامية (في القصة) مناسبة ليحث ليونس Leonce دلفين على الفرار معه لتستسلم لعواطفه، وهجرها وانطلق ليلحق بالمهاجرين (الذين غادروا فرنسا إثر أحداث الثورة الفرنسية) إلاّ أن السلطات قبضت عليه وحكم عليه بالإعدام·
واندفعت دلفين - التي كانت تحب قسوته - لإنقاذه، إلا أنها لم تصل إلا لتراه صريعا بعد إطلاق النار عليه، وعندئذ خرت هي أيضاً وفارقتها روحها· واستخدمت المؤلفة هذه الأحداث الدرامية السخيفة أو المنافية للعقل، وهذه الحبكة الرومانسية النمطية لتجعل منها منصة خطابة تناقش من خلالها شرعية الطلاق، وتعصّب الكاثوليكية (وكانت قد ورثت عن أسرتها المذهب البروتستنتي)، والحقوق المعنوية للمرأة بدلاً من المعايير المزدوجة، ومشروعية الوعي الفردي (تصرف الفرد بما يميله عليه ضميره) بدلا من شرف الانتماء إلى طبقة· وقد تلقى المثقفون في باريس حججها بقبول حسن، لكن نابليون لم يكن سعيداً بها، فقد كان في ذلك الوقت قد ولى وجهه شطر الكاثوليكية كعلاج للتفسّخ الخُلقي، والاضطراب الفكري في فرنسا، وفي 13 أكتوبر سنة 1803 أصدر أمراً يمنع مدام دي ستيل من الاقتراب من باريس مسافة أربعين فرسخا·
وظننت مدام دي ستيل أن الوقت الملائم قد حان لزيارة ألمانيا· وكانت قد تعلَّمت قدراً كافياً من الألمانية يُتيح لها قراءة ما هو مكتوب بهذه اللغة، إلاّ أنها لم تكن تجيد الحديث بها، فلم لا تنعم الآن بموسيقي فيينا، ومفكري فيمار Weimar والمجتمع الملكي في برلين؟ وفي 8 نوفمبر عبرت الراين عند متز Metz إلى ألمانيا مع أوجست والابنة ألبرتين Albertine وخادمين وكونستانت (قسطنطين) الذي أصبح بالنسبة لها عشيقاً أفلاطونياً أو بتعبير آخر فارساً أقل رتبة في خدمة فارس كبير ·(ملحق/607)
2/ 3 - السَّائحة
وكان انطباعها الأول - في فرانكفورت - غير سار، فقد بدا الرجال في ناظريها ذوي بدانة، وكأنهم يعيشون ليأكلوا، ويأكلون ليدخنوا، وكانت تجد صعوبة في التنفس عندما يقتربون منها· وكان الألمان مندهشين من هذه المرأة المعتزة بنفسها التي لا تستطيع أن تُقدّر ما تُسببه غليوناتهم pipes من جوٍ مريح، وكتبت أمُّ جوته قائلة لابنها:
"إنها تكبس على نفسي كحجر الرحى· إنني أتحاشاها قدر استطاعتي وأرفض أي دعوة لحضور أي مكان هي فيه، إنني أتنفس بحرية أكثر عندما تكون غير موجودة"·
وأسرعت جيرمين مع حاشيتها إلى فيمار حيث وجدت الشِّعر قد نقّى الجو المحيط بها· لقد كانت المدينة (فيمار) يسودها الكتّابُ والفنانون والموسيقيون والفلاسفة، وكان البلاط يقوده بتسامح وحكمة الدوق تشارلز أوجستس Charles Augustus وزوجته الدوقة لويز Luise وأمه الدوقة دواجر أنّا أمالي Dowager Anna Amalie· وكان هؤلاء الناس على درجة عالية من التعليم، ويتسمون بحسن التمييز والحصافة، وكانوا جميعاً - تقريباً - يتحدثون الفرنسية· وأكثر من هذا فقد قرأ كثيرون منهم رواية دلفين وكان عدد أكثر بكثير قد سمع عن حربها ضد نابليون ولاحظ كثيرون أنها كانت ذات مال وأنها أنفقته·
وقد أكرموها بالدعوة على الغذاء والمسرح والحفلات الراقصة، ودعوا شيلر ليقرأ مشاهد من فيلهيلم تل Wilhelm Tell واستمعوا إليها وهي تقرأ فقرات طوال من كتابات راسين، وحاول جوته - الذي كان وقتئذ في يينا Jena - أن يتهرَّب من واجبه بادعاء إصابته بالبرد، لكن الدوق حثَّه على المجيء إلى فيمار رغم هذا، فأتى وتناقش مع مدام دي ستيل بغير ارتياح· ولكنه غدا حذراً بسبب تهديدها الصريح بأنها تنوي طبع تقرير عن ملاحظاته·
وكانت مستاءة خائبة الرجاء لأنها وجدت جوته على غير ما توقعت فلم يعد هو فرتر Werther وأنه تحوّل من عاشق إلي حَبْر (كبير كهنة) · وحاول جوته أن يُربكها بالمتناقضات وبالآراء المتضاربة "لقد أدى تناقضي ومشاكستي بشكل عنيد إلى إصابتها باليأس في غالب الأحوال"، لكنها كانت في ذلك الوقت ودودة جداً وأظهرت على نحو متألق ذكاءها وفصاحتها وقد ذكرت هي في وقت لاحق أنه:(ملحق/608)
"كان من حسن حظي أن جوته وفيلاند كانا يتحدثان الفرنسية بطلاقة، أما شيلر فكان يناضل من أجل ذلك وقد كتبت لشيلر بود، وكتبت لجوته باحترام، فهو - أي جوته - بالإضافة إلى نابليون هما الرجلان الوحيدان اللذان قابلتهما وأجبراها على التزام حدودها" (عرَّفاها حدودها أو أوقفاها عند حدودها أو جعلاها تتحقق من إمكاناتها المحدودة)
ولم يكن شيلر مرتاحاً لسرعتها في الحديث وتوالي أفكارها بشكل سريع، لكنه انتهى متأثراً، فقد كتب إلى أحد أصدقائه:
"لقد قادني الشيطان إلى امرأة فرنسية فيلسوفة هي من بين كل المخلوقات الحية، الأكثر حيوية والأكثر استعداداً للجدال والنضال دفاعاً عن رأيها، والأكثر امتلاكاً لنواصي الكلمات، وهي أيضاً الأكثر ثقافة والأكثر اتقاداً ذهنياً من بين نساء العالمين، وإذا لم تكن شائقة حقيقة وممتعة، لما سبَّبت لي إزعاجاً"·
وتنفّست فيمار الصعداء عندما غادرت مدام دي ستيل برلين بعد إقامة استمرت ثلاثة أشهر·
لقد وجدت ضباب برلين محبطاً مسببا للكآبة، بعد أن شهدت التألق في فيمار، وكان سادة الحركة الرومانسية غير موجودين بها أو وافتهم منيتهم، وكان الفلاسفة قد انشغلوا في جامعات بعيدة· هيجل في يينا، وشيلنج في فيرتسبورج Wurzburg، فكان على جيرمين أن تقنع بما عند الملك والملكة وأوجست فلهيلم فون شليجل من معارف لغوية وثقافية أبهجتها· وقد اتفقت معه أن يصطحبها إلى كوبت ليكون معلّما ومرشداً لابنها أوجست فوافق وأحبها في أسوأ فترة في حياتها·
وفي برلين تلقت أخباراً تُفيد أن أباها مريض بشكل خطير فأسرعت عائدة إلى كوبت لكنها تلقت خبر وفاته (9 أبريل 1804) قبل وصولها (إلى كوبت) · فكان هذا الحدثُ لطمةً لها سبَّبت لها حزناً أكثر من أي نزاع بينها وبين نابليون· لقد كان أبوها يمثل لها دعماً معنوياً ومالياً، وكانت تراه دوماً على حق وصلاح، وما كان أيٌّ من عشاقها ليحل محله·(ملحق/609)
ووجدت عزاءً بعد موته في كتابة نصر أدبي يَغُصُّ بتوقيره وحبه (السيد نيكر، شخصيته وحياته الخاصة Monsieur Necker's Character & Private Life) كما كتبت عنه في مقدمة عملها الكبير (عن ألمانيا De l'Allemagne) وقد ورثت معظم ثروة أبيها وأصبح دخلها الآن 120,000 فرنك في السنة·
وفي شهر ديسمبر ذهبت تلتمس الدفء في إيطاليا وأخذت معها ثلاثة أطفال - أوجست وألبرتين وألبرت - وشليجل Schlegel الذي أصبح معلّماً ومرشداً لها أيضاً (وليس لأطفالها فحسب) لأنه وجد معلوماتها قليلة جداً عن الفن الإيطالي· وفي ميلان انضم إليهم بيدكر دي سيسموندي Baedeker Jean-Charles-Leonard de Sismondi الذي كان قد شرع في كتابة كتابه التعليمي: تاريخ الجمهوريات الإيطالية·
وقد وقع هو أيضاً في حب جيرمين - أو بالأحرى وقع في حب عقلها ومالها - حتى اكتشف كما اكتشف شليجل من قبله أنها لم تأخذ الأمر علي محمل الجد· واتَّجهوا معاً عبر بارما Parma ومودينا Modena وبولونيا (مدينة إيطالية) وأنكونا Ancona إلى روما· وكان جوزيف بونابرت مولعاً بها أيضاً فزودها بخطابات تُقدّمها إلى أفضل المجتمعات الإيطالية، واحتفت بها الطبقات الارستقراطية لكنها وجدت الأمراء والأميرات أقل احتفاءً بها من الكاردينالات الودودين الذين عرفوا كتبها وثروتها وعداءها لنابليون ولم تزعجهم عقيدتها البروتستنتية، لقد تم استقبالها بشكل رسمي ولافت ترحاباً وأُلقيت أمامها القصائد وعُزفت الموسيقى في أكاديمية أركاديا Accademia dell Arcadia وقد سجلت هذه التجربة في روايتها "كورين Corinne"·
وفي يونيو سنة 1805 كانت في كوبت مرة أخرى وسرعان ما أحاط بها العشاق والأصدقاء والدارسون والدبلوماسيون (الأمير إسترهازي الفيني Esterhazy of Vienna وكلود هوشي Claude Hochet من مجلس الدولة شكله نابليون) بل وحتى الحاكم (منتخَب بفتح الخاء بافاريا) · لقد أصبح صالونها في كوبت الآن أكثر شهرة من أي صالون في باريس· لقد كتب تشارلز فيكتور دي بونستيتن Charles-Victor de Bonstetten:(ملحق/610)
" لقد عُدتُ لتوّي من كوبت· إنني أشعر بالذهول الكامل·· وأشعر بالإنهاك والارتباك الكاملين بسبب هذه المفاسد العقلية (الفكر الضّار) · فمزيد من المثقفين والمفكرين يُنفق الواحد منهم في كوبت في يوم واحد أكثر مما يُنفقه واحد منهم في أي بلد آخر طوال عام"·
إن الحشد المجتمع كثيرُ العدد متعدد المواهب بحيث يكفي لتمثيل العديد من المسرحيات· وجيرمين Germaine نفسها في دور البطلة في أندروماك Andromaque وفيدر Phedre واعتبر بعض الضيوف أداءها رائعاً لا يفضله سوى بطلات (نجمات) مسرح باريس· وفي مناسبات أخرى عُزفت الموسيقي، وتم إحياء الاجتماعات بقراءة أشعار واحد من الشعراء· وكانت مائدتها عامرة ثلاث مرات في اليوم يتحلَّق حولها الضيوف الذين يبلغ عددهم أحياناً ثلاثين شخصاً، وهناك دوماً خمسة عشر خادماً لا يكفّون عن العمل، وفي الحدائق ترى العشاق يتجوّلون وفي هذا الجو قد تُعقد صداقات جديدة·
وكان محبّي (عشاق) جيرمين الذين تتخذ منهم أداة للتسلية أو بتعبير آخر الذين تضيّع بهم الوقت (بمعنى أنها لم تكن تعتبر جبهم إلاَّ وسيلة للتسلية ولا تعتبره من نوع الحب الجاد) وهم موتنمورنسي Montmorency وكونستانت (قسطنطين) وشليجل وسيمسندي - سرعان ما يفتر حبهم لها لأنها كانت ترهقهم بمطالبتهم بطاعتها والإخلاص لها في الوقت الذي كانت تستحوذ على الدفء لنفسها مع بروسبر دي بارانت Prosper de Barante الذي كان في الثالثة والعشرين من عمره بينما هي في التاسعة والثلاثين ولكنه لم يستطع أن يُلاحقها فأرهقته (والمعنى مفهوم) فولّى مدبراً طالبا ملاذاً منها في البُعد عنها، وقد هجته في قصتها كورين Corinne، وقد أسمته في هذه القصة باسم أوزوالد Oswald·(ملحق/611)
هذه الرواية (التي كانت شهيرة في وقت من الأوقات) أصبحت الآن على وشك الاكتمال فراحت المؤلفة تبحث عن ناشر فرنسي، وكان الأمر يتطلب موافقة على الطبع من وزارة الداخلية، وأكد والد بروسبير Prosper - مدير شرطة ليمان Leman - لفوشي أن مدام دي ستيل قد أصبحت متحفظة وحذرة طوال العام الماضي، وبناء على هذا سُمِح لها بقضاء صيف سنة 1806 في أوكزير Auxerre ( على بعد 120 ميلاً من باريس) فاتخذت لها فيلا هناك، وفي الخريف سُمِح لها بالانتقال إلى روان Rouen لقضاء الشتاء، وزارها أصدقاء كثيرون في المدينتين وعبر بعضهم عن أمله في أن تحيق الهزيمة أخيراً بنابليون في معركة شرسة تجبره على قضاء الشتاء مع جيشه في الشمال المتجمدّ وفضَّ البوليس السرّي التابع لنابليون مراسلات جيرمين (مدام دي ستيل) وعلم نابليون بمشاعرها·
فكتب غاضباً إلى فوشيه في 13 ديسمبر: "لا تترك هذه البَّغي bitch مدام دي ستيل تقترب من باريس إنني أعلم أنها ليست بعيدة عنها" (وكانت قد انسلت بشكل سري إلى باريس وقضت فيها فترة وجيزة في ربيع سنة 1807) وأثناء الاستعداد لمعركة فريدلاند Friedland كتب نابليون إلى فوشيه Fouche في 19 أبريل:
من بين ألف أمر وأمر وصلني بشأن مدام دي ستيل يوجد خطاب يمكن أن يظهر لك كم هي لطيفة هذه المرأة الفرنسية الموجودة هناك·· حقيقة أنه من الصعب أن يكبح المرء سخطه ونقمته عند رؤية كل هذه المسوخ عند هذه البغي· لن أقول لك عن المشروعات التي أعدتها بالفعل هذه الزمرة السخيفة في حالة وقوع الحدث السعيد الممثل في مقتلي، مادام وزير الداخلية لابد أن يكون قد علم بذلك·
وفي 11 مايو كتب إلى فوشيه مرة أخرى:(ملحق/612)
لقد كتبت لي هذه المرأة المجنونة خطاباً من ست صفحات زادت فيه الخلاف إلى الضعف·· إنها تقول لي إنها اشترت عقاراً في وادي مونتمورنسي وخَلُصت إلى أن هذا يخوّلها حق الإقامة في باريس· إنني أكرر لك أن معنى أن تترك هذا الأمل يُداعب خيال هذه المرأة هو أنك تُعذّبها دون مبرر· إنني لو أظهرت لك الأدلة التفصيلية على كل ما فعلته في محل إقامتها خلال شهرين لأصابتك الدهشة· حقيقة رغم بُعدي عن فرنسا بخمس مائية فرسخ، فإنني أعلم ما يحدث هناك بشكل أفضل من وزير داخليتي·
وعلى هذا فقد عادت جيرمين (مدام دي ستيل) على غير رغبتها إلى كوبت في 25 أبريل سنة 1807· وقد صحبها كونستانت Constant ( الثابت رغم التقلبات) لكنه فارقها عند دول Dole ليقيم مع والده المريض· فلمّا وصلت إلى كوبت أرسلت شليجل إلى كونستانت (قسطنطين) ليقول له "أنه إذا لم يَعُد إليها فإنها ستقتُل نفسها"· وكان بنيامين يعلم أن هذا تهديد خيالي (تهديد سيرانه siren أو بتعبير آخر تهديد امرأة فاتنة لعوب، والسيرانة كائن أسطوري عند الإغريق له رأس امرأة وجسد طائر) وليس تهديد أوزّة عراقية swan ( أي ليس تهديداً حقيقيا) ومع هذا فقد عاد إليها وتحمل صامتاً توبيخها· كان قد كفّ عن حبها منذ وقت طويل لكن كيف يقول المرء الحقيقة لامرأة لا إجابة عندها سوى ابتلاع الأفيون وفي العاشر من يوليو أتت جوليت ريكامييه Juliette Recamier في زيارة طويلة فأحبتها جيرمين (مدام دي ستيل) وقررت أن تعيش·
وسمحت وزارة الداخلية بطبع روايتها كورين، وتم نشرها في ربيع سنة 1807 فأعطى المؤلفة انتصارا يُعزيها عن انتصار نابليون في فريدلاند في 14 يونيو· وكانت الكتابات التي موَّلتها الحكومة معادية للرواية لكن آلاف القراء عبروا عن رضاهم وسعادتهم بهذه الرواية· إننا اليوم غير مفتونين بشكل (بناء) هذه الرواية - إنها رواية عاطفية تخللتها مقالات كئيبة مؤرخة عن مشاهد وشخصيات وأحوال دينية وآداب وفنون في إيطاليا، ولم يؤثر بطل الرواية ذو الوجه الرجولي في أي من القراء (فقد تحوّل إلى شخصية ضعيفة) أو إيحاء سماوي تُوّج (بضم التاء) في عيني بطلة القصة·(ملحق/613)
لكن في سنة 1807 لم تكن إيطاليا قد أصبحت بعد بلدا انتشر فيه التأليف، كانت بلادا أكثر شهرة في نواظرنا في مجالي التاريخ والفنون، وكان فن الرواية فَرْخاً ينشر جناحيه وكان الحب الرومانسي يناضل للتحرر من سلطان الوالدين والروابط الاقتصادية والمحرمات، وبدأت حقوق المرأة تجد من يُعبر عنها· وكان في رواية كورين كل هذه الأمور الفاتنة تجرى على لسان شخصيات تُغني الأشعار بشكل تلقائي وتداعب أوتار القيثارات الفاتنة، وكورين في شبابها (كشخصية في الرواية) هي نفسها - كما هو واضح جيرمين، "بشال هندي حول خصلات شعرها الأسود الصقيل··· وذراعاها جميلان جمالاً فائقاً·· وقوامها الذي ينم عن قوة ونشاط"· وأكثر من هذا فإن حوارها وطريقة كلامها، "يجتمع فيهما كل ما هو طبيعي وخيالي ودقيق وسام وقوي وحلو" انه لأمر غريب أن نقول إن الإمبراطور (نابليون) الذي لم يكن يُطيق مدام دي ستيل، عندما وصلت السفينة التي تقله إلى سانت هيلينا، تناول الكتاب (كورين) ولم يستطع أن يضعه جانباً إلا بعد أن قرأه حتى آخر سطر فيه·
2/ 4 - عندما تصبح ألمانيا مفهومة
لقد أضافت الآن مدام دي ستيل إلى مهامها (الإطاحة بنابليون والانغماس في الملذات الحسية والمعنوية) مهمة أخرى وهو مشروع حساس يهدف إلى توضيح ألمانيا وشرحها للفرنسيين· وحتى عندما كانت روايتها الوليدة (كورين) تناضل دفاعاً عن نفسها ضد الصحافة الخاضعة لسلطة نابليون، كانت مدام دي ستيل تُخفي في نفسها معزوفة جَسُورة مفعمة في بلاد ما وراء الراين· ولإعداد نفسها لهذه المهمة (المعزوفة) ولتكون على وعي كامل بما هي مقدمة عليه شرعت في القيام بجولة سياحية أخرى في أوروبا الوسطى·(ملحق/614)
وفي 30 نوفمبر سنة 1807 غادرت كوبت مع ألبرت والبرتين وشليجل وخادمها الخاص (راعي ملابسها) يوجين Eugene ( جوزيف أجينت Uginet) · وفي فيينا استمعت إلى موسيقي هايدن Haydn وجلوك Gluck وموزارت Mozart لكنها لم تُعر بيتهوفن التفاتاً· وخلال ثلاثة أسابيع من بين الأسابيع الخمسة التي قضتها في النمسا راحت تمارس الحب مع الضابط النمساوي موريتس (موريس) أودونيل Moritz O'Donnell وعرضت عليه المال والزواج لكنها فقدته فكتبت إلى كونستانت خطابات مفعمة بالإخلاص الذي لا حدود له - "قلبي وحياتي وكل ما عندي ملكك كما تشاء وكيف تشاء", لكنه اكتفى باقتراض بعض من أموالها· وفي تبليتز Teplitz وبيرنا Pirna أجرت مباحثات مع فريدرتش فون جينتس Friedrich Von Gentz الناشر (النص وكيل الدعاية والإعلان Publicist) المعادي لنابليون عداء شديداً، وعندما علم نابليون بهذا اللقاء خَلُص بأنها تعمل على تدمير اتفاق السلام الذي عقده مؤخراً في تيلسيت Tilsit في شهر يوليو· وفي فيمار لم تجد شيلر (كان قد مات سنة 1805) ولا جوته، فواصلت طريقها إلى جوتا Gotha وفرانكفورت، وفجأة اعتراها المرض والإحباط فأسرعت عائدة إلى كوبت·
وربما ساهمت أخبار الموت التي تلقتها، في اتجاهها نحو التأمل الباطني (التصوّف)، وقد أسهم شليجل في ذلك أيضاً، لكن التأثير الأقوى كان من الزاهد جولي فون كرودنر Julie Von Krudener والدرامي الداعر زكاريا (زكريا) فيرنر Zacharias Werner وقد جال كلاهما في كوبت في سنة 1808· وبحلول شهر أكتوبر من هذا العام كان معظم ضيوفها بين الألمان وسادت اللغة الألمانية في صالونها واستسلم التنويريون Enlightenment لتأثير الدين الصوفي (ذي المنحى الباطني) · لقد كتبت جيرمين (مدام دي ستيل) إلى أدونل O'Donnell: " لا حقيقة على هذه الأرض إلاّ الدين وسلطان الحب، وكل شيء آخر فان، بل إنه أكثر فناء من الحياة نفسها"·(ملحق/615)
وفي هذا الجو كتبت كتابها عن ألمانيا De L'Allemagne· وفي سنة 1810 قَرُب كتابها من الاكتمال وتطلّعت إلى باريس لتطبعه فيها· وكتبت بتواضع إلى نابليون قائلة له إن ثمانية أعوام من النفي والبؤس قد غيّرت كل الشخصيات والقدر يعلِّم الاستسلام· واقترحت أن تذهب للولايات المتحدة وطلبت منه جواز سفر كما طلبت أن تقضي فترة انتقالية في باريس· فمنحها نابليون جواز السفر لكنه لم يوافق على دخولها باريس-· ومع هذا ففي أبريل سنة 1810 تحركت بأسرتها ومعها شليجل إلى شومونت Chaumont ( بالقرب من بلوا Blois) ومنها أشرفت على طبع كتابها المخطوط ذي المجلدات الثلاثة في تور Tours· وفي شهر أغسطس انتقلت إلى فوسي Fosse المجاورة·
وسلّم الطابع نيكول Nicolle بروفات (التجارب الطباعية) للمجلدين الأوّلين إلى الرقابة في باريس، فوافقت على الطباعة بعد حذف جمل قليلة غير مهمّة· وطبع نيكول خمسة آلاف نسخة وأرسل نسخاً للأشخاص ذوي الحيثية، وفي 3 يونيو أُزيح فوشيه وزير الداخلية المتعاطف، وحل محله الصارم رينيه سافاري (دوق دي روفيجو de Rovigo) · وفي 25 سبتمبر أحضرت جوليت ريكامييه J. Recamier للرقيب بروفات (التجارب الطبيعية) المجلد الثالث، وبروفات المجلدات كلها مع خطاب من المؤلفة للأميرة هورتنس Hortense لتسليمها لنابليون·
وقرر سافاري أن الكتاب ليس في صالح فرنسا ولا حاكمها وبالتالي فلا يمكن السماح بتوزيعه، ومن الواضح أن نابليون كان موافقاً على هذا المنع· وأمر وزير الداخلية الطابِعَ بوقف النشر، وفي 3 أكتوبر أرسل إلى مدام دي ستيل ملحوظة صارمة مؤداها أن تُنفِّذ ما كانت قد عقدت العزم عليه وأن تغادر إلى أمريكا فورا· وفي 11 أكتوبر هاجمت فرقة من الجنود دار الطباعة وحطمت ألواح الطباعة وحملت معها ما استطاعت الوصول إليه من مجلدات الكتاب، وفي وقت لاحق جرى فَرْمها، وطالبَ ضُباط آخرون بمخطوط الكتاب فأعطتهم جيرمين (مدا دي ستيل) الأصل، لكن ابنها أوجست Auguste أخفى نسخة احتياطية· وعوّضت المؤلفة الطابعَ عن خسارته وانسلّت عائدة إلى كوبت·(ملحق/616)
وهذا الكتاب (عن ألمانيا) كما نُشر في سنة 1813 هو محاولة جادة لتناول كل جوانب الحضارة الألمانية في عصر نابليون بإيجاز وتعاطف· إن امرأةً لها هذه الاهتمامات الكثيرة والعشّاق الكثيرون ثم بعد هذا تجد الوقت الكافي لإنجاز هذا العمل، والطاقة والكفاءة اللتين تُعينانها على إتمامه، لهي حقاً إحدى عجائب هذه الفترة المتسمة بالهيجان والاضطراب· فمن خلال خلفيتها السويسرية العالمية وزواجها من واحد من بارونات الهولشتين Holstein وتراثها البروتستنتي وكراهيتها لنابليون كانت مؤهلة لإعطاء ألمانيا كل مزية وأن تجعل - تقريبا - كل ارتباط لها فيها في صالحها، وكانت تستخدم الفضائل الألمانية كوسيلة توجه بها نقدا غير مباشر لنابليون وطغيانه، ولتقدم الثقافة الألمانية للفرنسيين كثقافة غنية بالمشاعر والعواطف والدين وبالتالي كثقافة مناسبة بشكل جيد لتصحيح ما ساد بين مثقفي فرنسا من صفة الشك والمصلحة (حب الذات) والميل للسخرية·
ومن الغريب أن نقول أنها لم تهتم بفيينا رغم أن فيينا كانت مثلها مرحة وحزينة في آن واحد - مَرِحةً بسبب النبيذ والكلام (المناقشات والأحاديث) وحزينة بسبب موت الحب، وبسبب توالي انتصارات نابليون· كانت فيينا كاثوليكية وجنوبية (لها مزاج أهل الجنوب) في موسيقاها وفنها وعقيدتها التي تكاد تكون عقيدة طفولية ساذجة، أما هي (مدام دي ستيل) فكانت بروتستنتية شمالية (لها مزاج أهل الشمال) مثقلة بالطعام والمشاعر تتقدم متعثرة في الفلسفة، لم يكن هنا ثمة كانط Kant وإنما موزارت، فلا خلافات حادة ولا مناقشات ملتهبة، ولا كتابات للمفكرين تشبه الألعاب النارية فليس هناك إلا المسرات البسيطة التي نعم بها الأصدقاء والعشاق، والآباء والأبناء، والنزهات في المنتزهات والتسكع على نهر الدانوب·(ملحق/617)
حتى الألمان أذهلها وضعهم: "مدفأة وبيرة (جعّة) وتدخين التبغ tobacco حول كل تجمع شعبي، فيصبح الجو ثقيلاً حاراً مع هذا فهم لا يميلون أبداً إلى التخلي عنه وكانت ترثي للبساطة الريفية التي يتصف بها اللباس الألماني، وميل الرجال الألمان للمسالمة (كونهم مروضين أو داجنين) واستعدادهم للتخلي عن السلطة· والانفصال بين الطبقات··· أكثر ما يكون وضوحاً في ألمانيا منه في أي مكان آخر··· فكل شخص محتفظ برتبته (المقصود وضعه الطبقي) ومكانه·· كما لو كان منصباً أو وظيفة مخصصة له منذ زمن طويل"
لقد افتقدت في ألمانيا هذا التلاحم الخصب بين الارستقراطية والمؤلفين والفنانين والجنرالات والسياسيين، ذلك التلاحم الذي وجدته في المجتمع الفرنسي، فهنا في هذا المكان "ليس لدى النبلاء سوى القليل من الأفكار، وليس لرجال الأدب خبرة عملية كثيرة بالأمور العامة"· والطبقة الحاكم ظلت إقطاعية والمفكرون أضاعوا أنفسهم في أحلام لا أساس لها على أرض الواقع (أحلام في الهواء) · وهنا اقتبست مدام دي ستيل القول المأثور الشهير الذي قال به جان بول ريختر (ريشتر) Jean Paul Richter:
" إمبراطورية البحار لإنجلترا، وإمبراطورية البر لفرنسا، أما ألمانيا فلها إمبراطورية الهواء" وأضافت قائلة "إن انتشار المعارف في العصر الحديث يؤدي إلى إضعاف الشخصية إذا لم يتم تدعيم هذا الانتشار بعادة العمل في المجالات المختلفة وتحقيق الإرادة"·
وأُعجبت مدام دي ستيل بالجامعات الألمانية كأفضل جامعات في العالم في ذلك الوقت، لكنها كانت تأسى للغة الألمانية بما فيها من حروف صامتة متوالية، كما بغضت تركيب الجملة الألمانية وطولها، تلك الجملة التي تجعل الفعل الحاسم في آخرها (أي الفعل الأساسي الذي يحدّد المعنى)، وبذا تكون المقاطعة أو المداخلة أثناء الحوار أمراً صعباً، وكانت تشعر أن المداخلة أو المقاطعة إنما هي حياة المناقشات· كما أنها وجدت في ألمانيا القليل جداً من المناقشات المُفعمة بالحيوية والمهذبة في الوقت نفسه· تلك المناقشات التي تعد خاصية من خواص الصالونات الباريسية·(ملحق/618)
وهذا فيما ترى كان يرجع إلى عدم وجود عاصمة وطنية (واحدة) لألمانيا يمكنها - أي العاصمة - أن تجمّع مفكري البلاد (ألمانيا)، بالإضافة إلى العادة الألمانية المتمثلة في إبعاد الألمان للنساء عن مائدة العشاء أو الغداء عندما يشرعون في التدخين أو الحديث·
"في برلين قلما يتحدث الرجال إلا مع بعضهم، فالجو العسكري (المقصود الروح العسكرية) يجعلهم يتسمون بشيء من الخشونة والغلظة ينأى بهم عن مشاكل مجتمع النساء"
وعلى أية حال ففي فيمار نجد السيدات مثقفات وميّالات للحب والعشق ونجد الجنود وقد هذبوا من عاداتهم وسلوكياتهم، ونجد الدوق وقد تحقق من أن شعراءه قد خلّدوا له مكانا لائقاً في التاريخ· "ورجال الأدب في ألمانيا·· كوّنوا - في نواحٍ كثيرة - أكثر التجمعات المتنورة تميزاً في العالم"·
لهذا السبب رحبت مدام دي ستيل بالفلسفة الألمانية رغم صعوبتها لأنها - مثلها في ذلك مثل مدام دي ستيل - تركز على الذات· إنها - أي الفلسفة الألمانية - ترى في الشعور (الوعي) معجزة أعظم من ثورات العلم· لقد رفضت سيكولوجيا لوك Locke وكوندياك Condillac التي قصرت كل المعارف على الحواس، وبالتالي جعلت الأفكار آثاراً لأشياء خارجية، وهذا - فيما شعرت - يؤدي ولا مناص إلى المادية materialism والإلحاد atheism ( إنكار وجود الله) ·
وفي واحد من أطول فصول كتابها حاولت - بتواضع - أن تحدثنا عن جوهر الديالكتيك الكانطي (فلسفة كانط فيما يتعلق بالديالكتيك): إنه - أي هذا الديالكتيك disclaimer - يُعيد العقل إلى مكانه كمشارك فعّال في البحث عن الحقيقة، والإرادة الحرة (حرية الاختيار) كعنصر فعلا في تقرير الأفعال، والالتزام الخلقي الذي يمليه المضير كمقوِّم (بتشديد الواو كرسها) أساسي للأخلاق· لقد شعرت أنه بهذه النظريات فصل "كانط بيد ثابتة إمبراطورية الروح عن إمبراطورية الحواس" وعلى هذا فقد أقام الأساس الفلسفي للمسيحية كبناء خُلقي فعّال·(ملحق/619)
ورغم أنها كانت قد جعلت من الوصية السادسة من الوصايا العشر ساحة مخضبّة بالدماء إلا أنها اقتنعت أنه لا حضارة تبقى بلا أخلاق، ولا أخلاق بلا عقيدة دينية· ودللت على أن تدخل العقل في الدين إجراء خائن فالعقل لا يعطي السعادة لمن فقدوها فالدين سلوى البؤساء وثروة الفقراء ومستقبل الأموات وفي هذا وافقها الإمبراطور والبارونات· وعلى هذا فقد كانت تُفضل بروتستنتية ألمانيا على الكاثوليكية التي تدعيها الطبقة العليا الفرنسية· واهتزت مشاعرها عند سماع الترانيم الدينية الرائعة منطلقة من حناجر الألمان في الأماكن المخصصة للتراتيل في الكنائس وفي المنازل والشوارع، واشمأزت لأن أثرياء الفرنسيين يفضلون حضور البورصة (سوق الأوراق المالية) تاركين الفقراء ليلتقوا بالرب (المقصود لينفردوا بالتعبّد) · وكان لديها كلمة طيبة تقولها للإخوة المورافيين Moravian Brethren، فالفصل الأخير في كتابها يمثل دعوة للحماسة الصوفية (الوجد الديني الباطني) - إنه المعنى الباطني للدعوة إلى الله كُلّي الوجود (سبحانه) ·
لقد كان كتاب (عن ألمانيا) واحداً من رز الكتب في عصره، لقد كان بالنسبة لها يُمثل قفزة هائلة من كورين (الرواية) إلى كانط (الفيلسوف) مع ما فيه من بعض القصور لظروف العصر، ونزوع كاتبته إلى التمرد· وكان نابليون حكيما عندما قلّص تأثيره بالإقلال من امتداحه· لقد كان كتاباً رائعا من سيّدة غير متعاطفة مع توجهات الحكومة· لقد انتقدت الرقابة على المطبوعات بشدّة، لكن كان عليها أن توضح قضيتها وتدعمها·
لقد امتدحت ألمانيا في كثير من الصفحات على حساب فرنسا، لكنها غالبا ما كانت تمتدح فرنسا على حساب ألمانيا، ويحوي الكتاب مئات الفقرات تبث فيها حبها لوطنها (فرنسا) المحرم عليها· وتناولت بخفة وحساسية الموضوعات الغامضة (غير الواضحة) لكنها كانت تهدف إلى جذب اهتمام قِطَاع عريض من القراء في فرنسا، وبتلك الوسيلة تحقق تفاهماً عالميا· لقد طالبت بتزاوج خصب بين الثقافتين الفرنسية والالمانية مما قد يُساعد نابليون في توحيد اتحاد الراين مع فرنسا·(ملحق/620)
لقد كتبت بذكاء - وأحياناً بألمعية - مزّينة صفحات كتابها بالأفكار والملاحظات التنويرية· وأخيراً لقد قدمت ألمانيا إلى فرنسا، كما سرعان ما قدمها (ألمانيا) كولردج Coleridge وكارليل Carlyle لإنجلترا· يقول جوته: إن هذا الكتاب لابد من اعتباره صدعا في سور الصين العظيم الذي فصل الأمتين الفرنسية والألمانية، نتيجة سوء الفهم والأحكام المسبقة، لقد أصبح الألمان الآن معروفين بشكل أفضل فيما وراء الراين وفيما وراء القنال (يقصد بحر المانش) - الأمر الذي لن نعدم بسببه تحقيق نفوذ كبير في كل غرب أوروبا· لقد كانت امرأة أوروبية جيّدة·
2/ 5 - نَصْرُ لم يكتمل
مؤلف آخر - ولا غيره - كان يمكن أن يفهم ماذا يعني لجيرمين دي ستيل أن يبقى إنتاجها المتراكم وفكرها غير منتشر، وقابع في مُعتزلات كوبت، كوليد وأدوه عند مولده· لقد اكتشف أن بيتها محاط بجواسيس الإمبراطور، وأن بعض خدمها تلقّوا الرشاوى لكتابة تقارير عنها، وأن أي صديق يجسر على زيارتها سيتعرض لانتقام الإمبراطور وأُحيط ذوو الحيثية - الذي أنقذتهم وثرواتهم أثناء الثورة الفرنسية - علماً بألا يقتربوا منها الآن·
ومع هذا فقد كان هناك موقفان مُرْضيان لها· في سنة 1811 قابلت ألبير جان روكا Albert-Jean Rocca وكان عند التقائه بها في الثالثة والعشرين من عمره، وكان ليفتنانت ثاني (ملازم) lieutenant، أصيب بجرح في إحدى المعارك وأصبح أعرج، ومصاباً بالسل، وقد أحبها وكانت وقتها في الخامسة والأربعين ولم يعد جسدها على ما يرام وما عاد مزاجها في التمام إلاّ أنها كانت متألقة فكرياً، ولم تكن بغير جاذبية مالية·
وحاصرها جون وأنجب منها طفلاً، ورحبت جيرمين بالحب الجديد متحدية الشيخوخة ملتمسة تأخيرها - وكان أملها الثاني هو أنها إن استطاعت أن تتخذ طريقها إلى السويد أو إنجلترا فربما تجد ناشراً لمخطوط كتابها الذي أخفته (عن ألمانيا)، لكنها لم تكن تستطيع أن تلتمس طريقاً إلى السويد خلال أي من المناطق الخاضعة لسلطة نابليون، فقررت أن تأخذ مخطوطها سراً عبر النمسا ومن ثم عبر روسيا إلى سان بطرسبرج ومنها إلى ستوكهولم حيث سيساعدها الأمير بيرنادوت·(ملحق/621)
ولم يكن يسيراً عليها أن تترك الوطن الذي حققت فيه شهرتها، وفيه قبر أمها التي لم تستطع - الآن - نسيانها وقبر أبيها الذي كان لا يزال يبدو لها حكيم السياسة وقديس المال - وفي 7 أبريل سنة 1812 أنجبت ابنها من روكا Rocca وأرسلته إلى مربية تعتني به، وفي 23 مايو سنة 1812 استطاعت أن تفلت من مراقبة كل جواسيس نابليون فصحبت ابنتها ألبرتين وابنيها وعشيقها العجوز شليجل وعشيقها الجديد روكا أو أنها سبقتهم ثم تبعوها هم، قاصدة فيينا على أمل أن تدبر هناك جواز سفر إلى روسيا ومن ثم تجد طريقها إلى سان بطرسبرج وقيصر الوسيم المتحرر المتحلي بروح الفروسية· وفي 22 يونيو عبر نابليون بخمسمائة ألف جندي النيمن Niemen في روسيا على أمل أن يجد هناك قيصر المهزوم النادم·
وقد روت جيرمين قصة رحلتها هذه في كتابها عشر سنوات في المنفى Ten Years of Exile· إن المرء وهو يتأمل الآن هذه الإرادات والأحداث المتشابكة، ليدهش للشجاعة التي دفعت هذه المرأة المنهكة عبر آلاف العوائق والمشاكل لتصل - عبر شعب كان التصور أنه بربري - إلى زيتومير (تسيتومير Zhitomir) في بولندا الروسية (المناطق البولندية التابعة لروسيا) قبل وصول جيوش نابليون بثمانية أيام فقط لقد أسرعت إلى كييف Kiev ومنها إلى موسكو حيث - ويا للقدر - تلبثت لزيارة الكرملين لتستمع إلى موسيقى الكنيسة وتزور المبرزين المحليين في العلم والأدب· وقبل وصول نابليون بشهر غادرت موسكو عن طريق نوفجورود Novgorod إلى سان بطرسبرج، وفي كل مكان في المدن التي مرت عليها تلَّقاها الناس كحليف مميز في الحرب ضد الغازي (نابليون) · وتملَّقت القيصر وامتدحته كأمل للحرية الأوروبية (الليبرالية الأوروبية) وخططت معه لتنصيب بيرنادوت ملكاً على فرنسا·(ملحق/622)
وفي سبتمبر وصلت إلى ستوكهولم وساعدت في إدخال بيرنادوت في تحالف ضد نابليون وبعد أن أقامت في السويد ثمانية أشهر عبرت إلى إنجلترا، فنادت بها لندن كسيدة أوروبا الأولى، وأتى بايرون Byron وغيره من ذوي الحيثيات لتقديم احترامهم لها، ولم تجد صعوبة في ترتيب نشر مجلدات كتابها (عن ألمانيا) مع ناشر كتب بايرون وهو جون مري Murray ( كان هذا في أكتوبر سنة 1813)، وبقيت في إنجلترا بينما الحلفاء يهزمون نابليون في ليبزج Leipzig، ويتجهون إلى باريس ويضعون لويس الثامن عشر على العرش·
وعندها (في 12 مايو سنة 1814) أسرعت بعبور القنال الإنجليزي (المانش) واستعادت صالونها في باريس بعد عشر سنوات في المنفى واستضافت ذوي الحيثية من اثني عشر بلداً - الإسكندر، وولينجتون Wellington وبيرنادوت، وكاننج Canning وتاليران، ولافاييت · ولحق بها كونستانت وتألقت مدام ريكامييه Recamier مرة أخرى· ودعت جيرمين (مدام دي سيتل) الإكسندر إلى تذكّر إعلاناته (بياناته) الليبرالية، وحث الاسكندر وتاليران الملك لويس الثامن عشر أن (يمنح) رعاياه الذين استعادهم دستورا ينص على وجود مجلسين تشريعيين على النسق البريطاني، وأخيراً أصبح لمونتسكيو Montesquieu طريقه· لكن مدام دي ستيل لم تكن تحب كلمة (يمنح to grant) هذه فقد أرادت أن يعترف الملك بسيادة الشعب وسلطته المطلقة· وفي يوليو سنة 1814 اتخذت طريقها عائدة إلى كوبت منتصرة فخورة، لكنها كانت تحس باقتراب أجلها·(ملحق/623)
إن مغامراتها ومعاركها وحتى انتصاراتها استنزفت حيويتها المذهلة· ومع هذا فقد اهتمت بروكا Rocca أثناء موته، ورتبت لزواج ابنتها من الدوق دي بروجلي Broglie وبدأت تكتب تحفتها ملاحظات على الأحداث الرئيسية للثورة الفرنسية Considerations sur les principaux evenements de la Revolution Francaisc في 600 صفحة· وكان الجزء الأول من هذا الكتاب مُخصصا للدفاع عن نيكر (أبيها) في كل سياساته، والثاني تشجب فيه بقوة حكم نابليون الاستبدادي· فهو - أي نابليون - بعد استيلائه على السلطة بدت كل حركة من حركاته في ناظريها خطوة نحو الدكتاتورية، وكانت حروبه - في ناظريها - دعامات ومبررات لممارسة الحكم المطلق، وقبل ستندهال Stendhal - قبل تين Taine بكثير - كانت تُشبِّه نابليون بالقادة العسكريين الإيطاليين في القرنين الرابع عشر والخامس عشر لقد قرأ مبادئ مكيافيللي في الحكم واقتنع بها دون أن يشعر بحبٍ لوطنه يمكن مقارنته بحبه لهذه المبادئ·
لم تكن فرنسا حقيقة بلاد آبائه وإنما كانت حجراً يعتليه ليعلو فوقه· ولم يكن الدين بالنسبة له قبولاً متواضعاً بوجود الموجود الأعظم وإنما أداة للفتح والغزو والسلطة، فالرجال والنساء لم يكونوا في ناظرية أرواحاً وإنما مجرد أدوات· لم يكن سفاحاً متعطشاً للدماء ولكنه كان دوما غير مبال بالقتلى مادام النصر قد تحقق· لقد كانت فيه غِلظة قائد العساكر المرتزقة وليس خلق الإنسان المهذب (الجنتلمان) وأدى هذا إلى تتويج سُوقي جعل من نفسه قاضياً ورقيباً على كل حديث وكل فكر، وعلى كل الصحافة التي كانت هي الملاذ الأخير للحرية، وعلى الصالونات التي كانت قلاعاً للعقول المتحررة في فرنسا· إنه لم يكن ابن الثورة، وإن كان ابناً لها فهو أيضاً قاتلها·
وعندما علمت مدام دي ستيل بخطة تُحبَك لقتل نابليون ذلك الإمبراطور المعزول عن العرش أسرعت بإخبار أخيه جوزيف بذلك وعرضت أن تذهب إلى إلبا Elba لتحمي عدوّها المخلوع، فأرسل نابليون يشكرها على موقفها، وعندما عاد من إلبا واستعاد حُكم فرنسا دون تفاخر، لم تستطع أن تكتم إعجابها بشجاعته:(ملحق/624)
"إنني لن أكف عن معارضة نابليون لقد فعل ما هو طبيعي لاستعادة عرشه، وكانت مسيرته من كان Cannes إلى باريس واحدة من أعظم مظاهر الجُرأة والجسارة في التاريخ"·
وبعد واترلو انسحبت أخيراً من ميدان الصراع السياسي· ولم تستسغ احتلال قوات أجنبية لفرنسا كما لم تستسغ اندفاع النبلاء القدامى لاستعادة الأرض والثروة والسلطان· وعلى أية حال فقد كانت سعيدة بأن يرسل لها لويس الثامن عشر العشرين مليون فرنك التي كانت الخزانة الفرنسية مدينة بها لأبيها نيكر أو لورثته· وفي العاشر من أكتوبر سنة 1816 تزوجت روكا بشكل شخصي (دون مراسم زواج) وفي 16 أكتوبر رغم أن كليهما كان مريضاً، اتجها إلى باريس وأعادت جيرمن (مدام دي ستيل) افتتاح صالونها· وكان هذا آخر نصر حققته· وحضر لصالونها أشهر قاطني باريس: وحضر ولنتجتون من انجلترا، بلوشر Blucher وفلهلم فون همبولدت Wilhelm von Humboldt من بروسيا، وكانوفا Canova من إيطاليا، وهنا بدأ شاتوبريان حكايته الرومانسية مع مدام ريكامييه·
لكن صحة جيرمين كانت قد تدهورت كثيراً وخاب أملها في الذين استعادوا العرش وراحت هذه الخيبة تزداد عندما بدأ الملكيّون يعملون على إزالة كل أثر للثورة الفرنسية من الحياة السياسية· ولم يكن هذا هو حلمها الذي حلمت به لقد عرَّفت في كتابها (ملاحظات عن الوقائع الرئيسية للثورة الفرنسية) الطغيان (الحكم المطلق) بأنه تجمّع السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية في شخص واحد، وأصرّت على وجود جمعية وطنية ينتخبها الشعب المخول، لا مجال للتعيين فيها·(ملحق/625)
ولم تعش مدام دي ستيل حتى ترى كتابها هذا منشورا لقد ضعف جسدها لفرط ما أفرطت في ممارسة العواطف والجنس، وتسمَّم لفرط ما تناولت من مخدرات، ولم تكن تستطيع النوم إلا إذا زادت من جرعات الأفيون، وفشل جسدها في محاولاته لدعم عقلها· وفي 21 فبراير سنة 1817 وبينما هي تصعد السُّلَّم لحضور استقبال دعاها إليه أحد وزراء لويس الثامن عشر، ترنحت وسقطت إذا أصابها شلل دماغي، وظلت طوال ثلاثة أشهر منطرحة على ظهرها لا تستطيع حراكاً لكنها كانت قادرة على الكلام وشاعرة بالألم· وحثت ابنتها على القيام بدورها كمضيفة في صالونها· قالت لشاتوبريان "لقد أحببتُ الله وأبي والحرية" وماتت في 14 يوليو سنة 1817 (الذكرى السنوية لسقوط الباستيل) ولم تكن قد بلغت عند موتها الواحدة والخمسين وبعد أربعة أعوام مات عدوها العظيم (نابليون) ولم يبلغ الثانية والخمسين·
وقد نتفق مع ماكولي Macaulay أنها كانت أعظم امرأة في زمانها وأعظم اسم في عالم الأدب والفكر بين روسو وشاتوبريان· وكانت أعمالها (كتاباتها) ذوات أهمية من حيث الهدف والمدى أكثر من أهميتها من حيث كونها أعمالا أدبية خالصة وكان فكرها أكثر انتشاراً (يشغل رقعة واسعة) أكثر من كونه عميقاً· وكانت تشترك مع عدوها الذي اختارته (نابليون) في كثير من الصفات: شخصية قوية: طاغية، شجاعة عند النزاع، روح مهيمنة وثابة، تعصّب للرأي، لكن كان ينقصها عقله الواقعي فكان خيالها - كما يبدو في رواياتها - طفولياً رومانسياً، إذ ما قورن بأحلامها السياسية· لنتركه (أي نابليون) يلخصها لنا من خلال منظوره في جزيرته المنعزلة:
"لقد أصبح بيت مدام دي ستيل ترسانة حقيقية تصوّب أسلحتها ضدي· لقد كان يأتيها كثيرون ليتسلَّحوا كما لو كانوا فرسانها في حرب يشنونها ضدي··· ومع هذا فمن الحق أن نقول إنها كانت امرأة ذات موهبة عظيمة وتمييز فائق وشخصية قوية· إنها ستتحمّل وتثبُت"·
3 - بنيامين كونستانت (قسطنطين): من 1767إلى 1816م
BENJAMIN CONSTANT(ملحق/626)
هناك اثنان، اسمُ كلٍّ منهما كونستانت (قسطنطين) - في حياة نابليون العاصفة: فيري كونستانت، خادمة المعنى بشؤون ملابسه الذي كتب عن الحياة الخاصة للدكتاتور الكبير (نابليون) مذكرات طويلة، وبنيامين كونستانت دي ريبك Benjamin Constant de Rebeque الذي ولد في سويسرا وتعلم في عدة مدن (اثنتي عشرة مدينة) وأخيراً أعد للمعركة في فرنسا وضيَّع حياته في ديون لم يسدّدها وخليلات منبوذات وتقلّبات سياسية حتى أصبح التعامل معه لا يكاد يكون مُربحاً هنا إلاّ إذا اقترب من التاريخ بالدخول في كثير من المنازعات فأحبَّته امرأة ذات حيثية لتلهو به، وكان قادراً على وصف أخطائه ببلاغة وحدَّة ذهن وموضوعية وتجرّد وربما يكون قد ساعدنا بعمله هذا على فهم أنفسنا·
لقد أرَّخ للعشرين سنة الأولى في حياته في كتاب سماه المذكرة الحمراء Cahier rouge وكتب عن العشرين سنة التالية من حياته في رواية قصيرة بعنوان أدولف Adolphe وكتب عن الأعوام من 1804 إلى 1816 مُؤلَّفاً بعنوان اليومّيات Journal intime تنقل فيه من باريس إلى كوبت إلى فيمار إلى لندن وذكر فيه نُتَفاً من التاريخ والأدب والسيكولوجيا والفلسفة وروايته أدولف هي المؤلف الوحيد الذي تم نشره أثناء حياته (لندن 1816)، أما اليوميات فظلّ مخطوطاً حتى سنة 1887، والمذكرة الحمراء حتى سنة 1907، وهذه المؤلفات المتناثرة بالإضافة لآلاف المراجع المعاصرة هي التي تكون فكرتنا عن كونستانت (قسطنطين) هذه الأيام·
أنه سليل أسرة سويسرية عريقة ترجع بها شجرة نسبها إلى ثمانمائة سنة، لكننا لن نحتاج إلاّ لتناول حياة والده في هذا الصَّدد، فقد كان أبوه أيضاً منشغلاً بآثامه لدرجة أنَّه لم يكن لديه وقت لرعاية ابنه· وكان البارون أرنولد جوست كونستانت دي ريبيك Baron Arnold-Juste Constant de Rebecque ضابطاً في فرقة عسكرية سويسرية في خدمة برلمان الأراضي المنخفضة (نذرلاند Netherlands / هولندا) وكان وسيماً قارئاً جيداً لفولتير وصديقاً له·(ملحق/627)
وفي بواكير سنة 1767 تزوّج من بروتستنتية (هوجونوت Huguenot) فرنسية هي هنريت دي شاندييه (كاندييه) Henriette de Chandieu، وكان هو في الأربعين من عمره بينما كانت هي في الخامسة والعشرين، وفي 25 أكتوبر أنجبت له بنيامين في لوزان Lausanne ثم ماتت بعد الإنجاب بأسبوع، فكانت هي الأولى من بين نساء كثيرات عانيْن من عدم انضباطه، وعهد الأب بابنه لمشرفين كثيرين لم يكن يدقق عند اختيارهم، حاول أحدهم بالضرب تارة والتدليل أخرى أن يجعل منه طفلاً أعجوبة في اليونانية وعندما أضرّ الضرب بصحة بنيامين تمَّ نقله إلى مشرف (معلّم) ثان فأخذه إلى ماخور في بروكسيل، أما مشرفه (معلّمه) الثالث فعلمه قدراً طيباً من المعلومات الموسيقية، أما المعلِّمون الآخرون فعوّلوا على أن يُعلّم نفسه بنفسه بتدريبه على القراءة، فكان بنيامين يقرأ من ثماني ساعات إلى عشر يومياً، فأضر ذلك - بشكل دائم - بعينيه وإيمانه وقضى عاماً في جامعة ارلانجن Erlangen ثم نُقل إلى ادنبره Edinburgh، حيث شعر بالهبّة الأخيرة للتنوير الاسكتلندي لكن هناك أيضاً بدأ في المقامرة، فأصبح القمار (الميسر) في المحل الثاني بعد ممارسة الجنس في حياته المضطربة· وبعد مغامرات في باريس وبروكسل استقر في سويسرا وبدأ يكتب تاريخ الدين من وجهة نظر تُظهر تفوق الوثنية على المسيحية·
وراح يتنقل من امرأة إلى امرأة ومن كازينو (نادي قمار) إلى كازينو حتى رتّب أبوه أخيراً (1785) أمر إقامته في باريس مع أسرة جان - بابتست سوار Jean-Baptiste Suard الناقد الأدبي الوَدُود:
"لقد تلقتني جماعته بقبول تام، وكان يَنْقُصني في ذلك الوقت السلامة والانضباط نقصاً معيباً، لكن حدث تغير مُحكم بشكل مضحك في حياتي· فقد بدا تعليمي - الذي كان متقطعاً غير منهجي، لكنه أرقى من تعليم معظم أدباء الجيل الصاعد - وأصالة شخصيتي أمراً جديداً وشائعاً··· وعندما أتذكر نوعية الموضوعات التي اعتدتُ تناولها في ذلك الوقت والأزدراء المُقْنِع الذي كنتُ أبديه لكل الناس، أحتار في معرفة كيفية تسامح الآخرين معي"·(ملحق/628)
وفي سنة 1787 قابل "أول امرأة ذات ذكاء فائق عرفتها حتى الآن زيليدا Zélide" أو إيزابيلا فان تويل Van Tuyll - إذ كانت فيما مضى صعبة المراس مُستعصية في بوزويل Boswell أثناء الفترة التي قضيتُها في هولندا· لقد سبق لها أن رفضت آخرين لتتزوّج من معلِّم أخيها وأصبحت تعيش الآن معه ساخطة مستاءة في مدينة كولومبييه Colombier بالقرب من بحيرة نيوشاتل Neuchatel وعندما التقى بها كونستانت كانت في باريس تتابع روايتها كالست Caliste في المطبعة وكانت في السابعة والأربعين لكنها بدت كعاشقة في التاسعة عشرة من عمرها، فاتنة لا يزال جسدها ينادي ولازال عقلها متألقاً، كما كانت نافرةً لدرجة أظهرتْه فتى مغروراً ذا ثقافة سطحية· لقد كُنت لا أزال أتذكر بعاطفة تلك الأيام والليالي التي قضيناها معاً نشرب الشاي ونتحدث بحرارة لا تنضب في كل موضوع ممكن· وعندما عادت إلى كولومبييه اتخذ له مسكناً بالقرب من لوزان واعتقد زوجها - وكان مخطئاً في اعتقاده - أنَّ فارق السن بين كونستانت (قسطنطين) وزوجته (زيليدا) سيحُدّ من العلاقة بينهما، لكنها راحت تعلّم بنيامين كونستانت بحماسه غواية النساء وأكاذيب الرجال· لقد أسْكرَ كلٌّ منا الآخر بسخريتنا من الجنس البشري واحتقاره·
وقطع أبوه عليه هذا اللَّهو شبه الفكري بإرساله إلى برونسفيك Brunswick ليعمل كمرافق للدوق الذي كان عليه - حالاً - أن يقود جيشاً ضد الثورة الفرنسية· وأثناء مراسم التشريفات وقع في فخ (شَرَك) سهل نصبته له البارونة فيلهيلمينا فون كرام Wilhelmina Von Cramm فتزوجها (في 8 مايو سنة 1789) ووجد أن الزواج أسوأ من العِشق وخَلُص إلى أن مينا Mina أحبت قططاً وكلاباً وطيوراً وأصدقاء وعشيقا أكثر من حبها لزوجها الشرعي، وتسعى للطلاق· وعندما شعر أن قلبه أصبح خالياً تودّد لشارلوت فون هاردنبرج Charlotte von Hardenberg زوجة البارون فون مارينهولتس Marenholz،(ملحق/629)
فرفضت إرضاءه بممارسة الزنا معه لكنها عرضت عليه أن يتزوجها حالماً تستطيع الحصول على الطلاق من البارون، خاف كونستانت من فكرة الزواج مرة ثانية فانْسل إلى لوزان (1793) وكولومبييه حيث واصلت زيليدا تعليمه· لقد أصبح الآن في السادسة والعشرين من عمره وشعرت هي أن عليه أن يضحّي بلذَّة التنويع (مضاجعة نساء مختلفات) ليستقر معها ويرتبط بها· لقد قالت له: لو أنني أعرف امرأة أخرى شابة ونشيطة تحبك كما أحبك وليست أكثر غباءً مني، لكان لديّ من الكرم ما يجعلني أقول لك: اذهب إليها ويا لدهشتها ونقمتها، إذ وجدت أنه سرعان ما عثر على امرأة غيرها شابة ونشيطة·
في 28 سبتمبر سنة 1794 وفي الطريق بين نيو Nyon وكوبت قابل بنيامين كونستانت جيرمين دي ستيل وكانت في الثامنة والعشرين من عمرها، فقفز داخل مركبتها وبدأ كوميديا (مهزلة) استمرت خمسة عشر عاماً من العهود والوعود والدموع والكلمات· لم يسبق له أن عرف أبداً امرأة ذات فكر بهذه الخصوبة وإرادة بهذه القوة وعواطف ومشاعر بهذه الحرارة وفي مقابل هذه القوى، كان هو يُمثّل الضَعف كلَّه فقد كان قد فقد شخصيته خلال فترة شبابه الإباحية الممزّقة وقلّص حيويته الطبيعية (الجنسيّة) بسبب معاركه البدنية (الفسيولوجية) (المفهوم مع أجساد النساء) دون وقار وقبل الزواج·
وهنا أيضاً كان انتصاره الفعلي هزيمة فرغم أنها (جيرمين دي ستيل) قبلته كعشيق وجعلته يعتقد أنه كان والداً لألبرتين Albertine ( أن ألبرتين من نُطفته) إلاّ أنها حثَّته على أن يوقِّع معها - في تاريخ لا نعلمه - قسم ولاء يجعله مرتبطاً بها ارتباطاً معنوياً (النص: سيكولوجيا) حتى بعد أن اصطحَبت جيرمين غيره إلى مخدعها، واصطحب هو غيرها إلى مخدعه، وقد استغلت جيرمين كوْنه مديناً لها لإجباره على التوقيع على هذا العهد (القَسَمْ) ·
إننا نقسم على أن يكرّس كلّ منا حياته للآخر· إننا نعلن أننا نعتبر شخصينا وقد ارتبطنا رباطاً لا يقبلُ الانفصال· قدرنا واحد للأبد وفي كل الظروف ولن يدخل أيّ منا إطلاقاً في أي رباط آخر، وأننا سنقوِّي الرباطَ الذي يوحِّد بيننا الآن بكل ما لدينا من طاقة·(ملحق/630)
إنني أُعلن أنني أقررت بهذا الاتفاق بقلب مخلص وأنني أعرف ألاَّ شيءَ في العالم يستحق مني كما يستحق حب مدام دي ستيل، وأنني كنت أسعد الرجال خلال الأشهر الأربعة التي قضيتُها معها، وأنني أعتبر أن أعظم سعادة في حياتي هي أن أجعلها سعيدة في فترة شبابها، وأن أكون إلى جانبها مسالماً مع تقدمنا في العمر وأن أقضي عمري (أجلى term) معها (مع الروح التي تفهمني) والتي بدون وجودها تصبح الحياة على الأرض (في هذه الدنيا) لا قيمة لها بالنسبة لي التوقيع بنيامين كونستانت·
وتبعها إلى باريس في سنة 1795 فكانت لهما سياسات مشتركة فأيّد حكومة الإدارة (حكومة المديرين) وقبل انقلاب نابليون كضرورة تُمليها ظروف فرنسا وكان متحدثاً رسمياً باسمها، كما كان يتحدث بالأصالة عن نفسه عندما أصبح عضواً في التريبيونيت Tribunate ( مجلس الدفاع عن حقوق الشعب) بعد تعيين نابليون له· ولكن حالما ظهرت علامات من القنصل الأول (نابليون) تشير لرغبته في الحكم المطلق عارضه العاشقان معاً: هي في صالونها وهو في خطبته غير المسبوقة (5 يناير سنة 1800) والتي طالب فيها بحق التريبيونيت (مجلس الدفاع عن حقوق الشعب) في إطلاق حرية النقاش والحوار دون قيد أو شرط، وقد حقّق شهرة كخطيب مُفَوَّه، لكنه وُضع في اعتبار الحكومة بحيث يتم عزله من هذا المجلس حالما يأتي ميعاد تغيير أعضائه (1802) وعلى أية حال فعندما استمر العاشقان في حربهما ضد نابليون، تم إبعادهما - عقاباً لهما - عن باريس·
وذهب كونستانت (قسطنطين) معها إلى كوبت، رغم أن أقاربهما كانوا - فيما ظهر - غير متحمسين لهذا الهدوء الأفلاطوني· لقد قال لنفسه: "إنني أريد امرأة، وجيرمين غير شهوانية" (والمعنى لا تُشْبِعُني) وعرض أن يتزوجها ولكنها رفضت قائلة إن هذا الزواج قد يجعلها تضحّي بمكانتها الاجتماعية ويُضيِّع فرص الزواج المشرّف أمام ابنتها، وفي سبتمبر سنة 1802 أحبّت كاميل جوردان Camille Jordan ودعته لصحبتها إلى إيطاليا وتم دفع كل النفقات ونذرت نفسها أمامه "أن أنسى كل شيء معك، فأنا أحبك بعمق" ورفض جوردان العرض·(ملحق/631)
وفي إبريل سنة 1803 غادر كونستانت (قسطنطين) كوبت إلى عقار كان قد اشتراه بالقرب من مافلير Mafliers على بعد حوالي ثلاثين ميلاً من باريس، وفي الخريف خاطرت بإثارة غضب نابليون بانتقالها مع أسرتها لمنزل ريفي في مافلير، وعندما علم نابليون أَمَرها بإطاعة أوامره بالابتعاد 120 ميلاً عن باريس، ففضلت أن تزور ألمانيا، وقرر كونستانت (قسطنطين) - لامتعاضه من قسوة نابليون وتأثره بحزن جرمين- أن يصطحبها· وساعدها وأطفالها على تحمل مشاق الرحلة وابتهج عند وصوله إلى فيمار فأقام فيها ليؤلف كتابه عن تاريخ الدين·
وفي 22 يناير سنة 1804 بدأ يدوّن كتابه (اليوميات Journal Intime) بادئاً إياه بمدخل مرح:
"لقد وصلت لتوي إلى فيمار إنني أنوي البقاء هنا بعض الوقت ففي هذا المكان سأجد المكتبات والمناقشات الجادة التي تتمشَّى مع ذَوْقي، والأهم من هذا الهدوء الذي يساعدني على العمل"
وبعض الفقرات الأخرى في يومياته هذه تشير إلى تطوره العقلي والنفسي: 23 يناير:
"إنني أعمل قليلاً وبشكل سيء، لكن عوّضني عن ذلك أنني رأيتُ جوته! صفاء وعزّة وحساسية مفرطة لدرجة المعاناة· روح فياض وملامح وسيمة وجسد اعتراه الوهن شيئاً ما·· وبعد العشاء تحدثت بغير كلفة مع فيلاند Wieland - روح فرنسية، بارد كفيلسوف رقيق كشاعر··· هيردر Herder كسرير دافئ ناعم حيث يمكن للمرء أن يرى أحلاماً طيبة···"
27 يناير: "شرح لي المؤرخ السويسري جوهان فون ميلر Johannes Von Muller خطته في كتابة تاريخ العالم··· ومعه ثار سؤال شائق: هل العالم مخلوق أم غير مخلوق· وفقاً لكيفية الإجابة عن هذا السؤال، فإن مسار التاريخ البشري سيظهر لنا نتيجة متناقضة (متعارضة) بمعنى الكلمة: فإن كان العالم مخلوقاً فلا محالة من فنائه وإن كان غير مخلوق فلا محالة من تحسّنه (تطوره) ···"
12 فبراير: "أعدت قراءة فاوست Faust لجوته (الجزء الأول· إنها تسخر من الجنس البشري وكل العلوم· لقد وجد الألمان فيها عمق تفكير غير مسبوق، لكنني أفضل كانديد " Candide·
26 فبراير: زيارة لجوته Goethe ··
27 فبراير: أمسية مع شيلر Schiller ···(ملحق/632)
28 فبراير: عشاء مع شيلر وجوتة· لا أعرف من العالم ما هو أكثر مرحاً وفكاهة ورقة وقوة وسعة صدر من جوتة···
29 فبراير:··· غدا سأغادر قاصداً ليبزج Leipzig وسأكون حزيناً لتركي فيمار· لقد قضيت هنا ثلاثة أشهر كنت فيها سعيداً جداً· لقد درست، وعشت في أمان ولم أعانِ إلاّ قليلاً·· لم أطلب أكثر من هذا···
3 مارس: زرت المتحف في ليبزج المكتبة تحوي 80,000 مجلد·· لم لا أبقى هنا وأعمل؟ ···
10 مارس: لقد اشتريت بستة لويسيّات (جنيهات ذهبية فرنسية/ حوالي 150 دولار) كتباً ألمانية·
لقد ترك مدام دي ستيل في ليبزج واتخذ طريقه إلى لوزان لزيارة أقاربه، وبمجرد وصوله علم بموت والد جيرمين (نيكر) - هذا السيّد الطيِّب نيكر كم هو نبيل وكم هو كُفء وكم هو نقي: لقد أحبني· مَنْ الآن سيُرشد ابنته؟ واندفع عائداً إلى ألمانيا على أمل أن يُخفف وطأة الخبر عليها فقد كان يعلم أن هذه الخسارة ستجتاحها· وعاد معها إلى كوبت ومكث معها حتى أفاقت من هَوْل الصدمة·
لقد كانت في مسيس الحاجة إليه في تلك الأيام التي كان يتطلع فيها لفراقها ليكون حراً في متابعة أموره السياسية وأعماله دون أن يربط نفسه بمصالحها· لقد شعر أنه كان قد دمّر مصالحه السياسية عندما أصبح ليفتنانت (ملازم) lieutenant في حربها ضد نابليون· وفي أبريل سنة 1806 دوّن في يومياته تحليلاً يبيِّن اختلال إرادته:
"إنني دائماً أميل إلى قطع علاقتي بمدام دي ستيل، لكن في كل مرة أحس فيها بضرورة السير في هذا الطريق أجد نفسي في صباح اليوم التالي على خلاف ما كُنتُ عقدت عليه العزم· وفي هذه الأثناء أجد أن اندفاعها وطيشها يجعلاني في عذاب وخطر دائم· يجب أن نفترق··· إنها فرصتي الوحيدة لحياة آمنة" وبعد ذلك بشهر نقرأ في يوميّاته: "في المساء كان المشهد مرعباً - ألفاظ شنيعة لا مبالية ومرعبة· إنها مجنونة أو أنني مخبول· فكيف تكون النهاية؟ "·(ملحق/633)
ومثل كثيرين من المؤلفين الذين لا يستطيعون أن يسوسوا حياتهم، عمد إلى كتابة حكايته من وجهة نظره في رواية أخفى فيها الشخوص الحقيقية والوقائع الحقيقية بعناية، لكنها كانت اعترافات صريحة· لقد كتب في خمسة عشر يوماً (يناير 1807) وهو ممتعض بحرارة من سيطرة جيرمين وتوبيخها له، غاضب من نفسه لتردده وضعف إرادته - مائة صفحة أصبحت هي أول رواية نفسية (سيكولوجية) في القرن التاسع عشر· لقد كانت أكثر سَبْراً لأغوار النفس البشرية وكانت طريقة تناوله أكثر ذكاء وألمعية من معظم الروايات· لقد حلَّل شخصية الرجل والمرأة بطريقة لا ترحم·
لقد تابعت هذه الرواية التي جعل عنوانها (أدولف) شبابه الضائع (الذي لا هدف له) وتعليمه المتقطع غير المنتظم وغير المنهجي، وعلاقاته العاطفية السطحية والمتسرِّعة، وشغفه بالقراءة الذي جعل إيمانه يُشاب بالسخرية (الكلبيّة Cynicism) مما أثر في حياته فجعلها بلا معنى· وقد حكي تطوافه في مجال العشق غير المسئول ووصل بأحداثه إلى ذروة المأساة في حكاية قصة إلينور Ellenore - وهي قصة امرأة من النبلاء ضحّت بأسرتها وشرفها ومستقبلها لتكون خليلة للكونت ب··· ولاحظ أدولف (بطل القصّة) أن المجتمع يعاقب المرأة التي تخرج عن القواعد المرعية بالقيل والقال والازدراء (أكثر بكثير مما يفعل مع الرجل)، ذلك لأن المجتمع يقيم نظامه واستقراره على القوانين والأعراف التي تكبح الرغبات التي لا تتمشى مع صالح المجتمع·
وكان سهلاً أن يتحوّل عطفه على إليّنور (إحدى شخصيات القصة) المنبوذة، وإعجابه بشجاعتها إلى حب، وربما لرغبة سرّية (مكبوته) في انتزاع حب امرأة ترضى غروره· وبمجرد أن بَرُدت حرارة حبه استسلمت له وتركت الكونت وأمواله واتخذت له مسكناً متواضعاً وحاولت أن تعيش على زيارات أدولف وأمواله، وكلما زاد إخلاصها قل اهتمامه بها· لقد حاول أن يبتعد عنها لكنها وبَّخته وأخيراً تشاجرا وانفصلا· لقد تركته وتاهت في غياهب الفقر وفقدان الإرادة فلم تستطع العيش، ولم يلحق بها إلاّ لتموت بين ذراعيه·(ملحق/634)
وعمد كونستات إلى التعمية على شخصياته في الرواية حتى لا يُدرك أحد أنه يقصد شخصيات مقيمة في كوبت، فجعل بطلة القصة بولندية، وجعلها خاضعة سَلِسلة غير متحكّمة وجعلها تموت يأسا، ومع هذا فإن كل من قرأ الكتاب وكان يعرف مؤلفه قَرَنَ بين المؤلف وشخصية أدولف وبين مدام دي ستيل وشخصية إلينور· وأحجم كونستانت (قسطنطين) تسع سنوات عن نشر كتابه، لكن الخُيلاء انتصر على الحذر فراح يقرأ مقاطع منه وأحياناً يقرأه كله لأصدقائه، وأخيراً لجيرمين نفسها التي فُجعت بنهاية القصة·
وبعودة شارلوت فون هاردنبرج انتعشت حياة كونستانت شيئاً ما· لقد كانت طلِّقت زوجها الأول وعانت مع زوجها الثاني الفيكونت دي ترتر Tertre، وهي الآن تواصل ما انقطع من علاقتها الغرامية بكونستانت، وتزوجا في 5 يونيو سنة 1808 لكن عندما عاد بنيامين كونستانت إلى عبوديته في كوبت، إرضاءً لمدام دي ستيل، عادت شارلوت إلى ألمانيا· ولم يشعر كونستانت أنه أصبح حراً إلا بعد أن اكتشفت جيرمين عشيقاً جديداً هو جون روكا Rocca (1811) ، عندها ذهب كونستانت مع شارلوت ليعيشا بالقرب من جوتنجن Gottingen وأعانته مكتبة جامعتها فواصل عمله في كتابه عن تاريخ الأديان· وربما كان العامان التاليان هما أسعد عامين مرَّا في حياته·
لكن السعادة لم تكن ملائمة له أو بتعبير آخر لم تكن متَّفقة مع طبعه، فعندما سمع (في يناير سنة 1813) من الكونت دي ناربوت de Narbonne لأول مرة عن قصة الكارثة التي حلّت بنابليون في روسيا، أحس بقرب سقوط نابليون، فعاد إليه قلقه القديم فسأل نفسه - كما كتب في يومياته، أيجب أن أكون دائما مجرد متفرج؟ وأثناء تراجع نابليون إلى الراين أمام قوات الحلفاء المنتصرة، اتجه كونستانت إلى هانوفر، وقابل بيرنادوت هناك، فحثه على كتابة نشرة روح الغزو Esprit de conquete يعزو فيها انهيار فرنسا إلى دكتاتورية نابليون واستبداده·(ملحق/635)
وتم نشر هذا الكتيب (النشرة) في هانوفر في يناير سنة 1814 في ذروة اندفاع قوات الحلفاء داخل فرنسا، وقد أدى هذا إلى اعتباره أي (كونستانت) شخصاً مهما كقادة القوات المتحالفة وتبع كونستانت جيوشهم إلى باريس (أبريل (1814) على أمل أن يتلقى تعويضا شخصيا (على أمل أن يستعيد مكانته) ·
وزار صالون مدام دي ستيل الذي تم افتتاحه من جديد فوجدها غير عابئة به بالمرّة· ولأن شارلوت كانت لا تزال في ألمانيا فقد صرّح في يومياته (31 أغسطس 1814) أنه قد وقع في حب مدام ريكامييه وكان كونستانت (قسطنطين) يسخر منذ زمن طويل من إستراتيجية مدام ريكامييه التي تجعلها تتيح عسيلتها مع الحفاظ على عذريتها (أو بتعبير آخر تتيح لمن تحبّه أن يظهرها لكنها لا تُمكنه من نقبها)، (وبالفعل فقد استطاع كثيرون أن يعلوها ولكنهم ما استطاعوا لها نقبا) وقد اعترف للدوق بروجلي Broglie أنه حاول أن يبيع روحه للشيطان مقابل الاستمتاع بجسد جوليت ريكامييه وكانت مدام ريكامييه من المؤيدين المتحمسين للبوربون وخافت على حياتها عندما علمت أن نابليون هرب من إلبا Elba ووصل إلى كان Cannes، فطلبت من كونستانت أن ينشر في جريدة باريس Journal de Paris (6 مارس 1815) نداء لشعب فرنسا ليهب ضد مغتصب العرش (تقصد نابليون)
"إن نابليون يَعِد بالسلام لكن مجرد ذكر اسمه يشير إلى الحرب· انه يَعِد بالنصر ومع هذا تخلّى عن جيوشه كجبان ثلاث مرات - في مصر، وفي اسبانيا وفي روسيا"·(ملحق/636)
لقد أجّجت ريكامييه نيران كونستانت - وكان لهوباً بطبعه - حتى بدا وكأنه يحرق كل الجسور وراءه أو بتعبير آخر يقطع على نفسه طريق التراجع· وفي 19 مارس أعلن في جريدة الحوار / جورنال دي ديبات Journal des debats أنه مستعد للموت في سبيل الملك الذي عزلوه (لويس 18) وفي هذه الليلة هرب لويس الثامن عشر إلى جنت Ghent وفي اليوم التالي دخل نابليون باريس فاختبأ كونستانت في سفارة الولايات المتحدة، وأصدر نابليون عفواً عاماً فظهر كونستانت من مخبئه، وفي 30 مارس أكد له جوزيف بونابرت أن أخاه الإمبراطور في مزاج معتدل يميل للعفو· وفي 14 أبريل استقبله نابليون وطلب منه أن يصيغ مشروع دستور ليبرالي، وراجع نابليون مشروع الدستور بعناية وأعلنه كعهد أو ميثاق للحكومة الفرنسية· فأدار الإحساس بالمجد رأس كونستانت·
وفي 20 يونيو - بينما كان يقرأ روايته أدولف للأميرة هورتنس، دخل الدوق دي روفيجو Rovigo ليخبرها أن نابليون قد لاقى الهزيمة في واترلو منذ يومين· وفي 8 يوليو عاد لويس إلى قصر التوليري، فأرسل له كونستانت اعتذارا متذللا فأصدر الملك عفوا عنه، أثار استغراب الجميع، لأن الملك اعتبره مراهقاً غير مسئول تمرّد، وأنه يكتب الفرنسية بامتياز· وتجنّبه كل أهل باريس وراحوا يحبكون التوريات (جمع تورية) والكنايات (جمع كناية) حول اسمه· وكتب كونستانت إلى مدام ريكامييه يُسامحها لأنها: "دمرت مجال عملي ومستقبلي وسمعتي وسعادتي".
وفي أكتوبر غادر قاصداً بروكسل حيث التحق بشارلوت الصبورة، وفي أوائل سنة 1816 عبرا معاً إلى انجلترا حيث كانت روايته أدولف قد نشرت· وفي سبتمبر عاد مع زوجته إلى باريس، واشتغل بالسياسة وبدأ مرحلة جديدة من عمره·
4 - شاتوبريان CHATEAUBRIAND: 1768 - 1815 م
4/ 1 - شبابه(ملحق/637)
كان فرانسوا رينيه دي شاتوبريان أعظم كتاب فرنسا المعاصرين له· قال سانت بيف Sainte-Beuve في سنة:1849 "أنه الأكثر شهرة بين كتابنا المعاصرين" وثمة لؤلؤة كبيرة (دانة) أخرى من لآلئ الأدب هو إميل فاج Emile Faguet، كتب في سنة 1887 (ناسيا فولتير): "شاتوبريان هو أعظم مَعْلم في تاريخ الأدب الفرنسي منذ بلياد" Peliade ( حوالي 1550)، ومن المؤكد أن سيادته للأدب الفرنسي لا تضارعها إلاّ سيادة فولتير· وترجع مكانة شاتوبريان أنه انتصر للدين على حساب الفلسفة تماما كما انتصر فولتير للفلسفة على حساب الدين، وقد عاش عمراً طويلاً يكفي لِيَرَ الكفر بالدين يُبعث من جديد· وعلى هذا فإن اتجاهاً ما رغم أنه يلقى ترحاباً في وقت من الأوقات تقل الحماسة له بمرور الوقت، ليولد من رَحِمِه اتجاه آخر مناهض له عبر الأجيال، خلال المعركة الدائرة في نفوس البشر بين الفكرة ونقيضها بحيث لا يكون للاعتدال (الموقف الوسط) وجود·
لقد كتب: "إن حياتي والدراما تنقسم إلى ثلاثة فصول (أو مشاهد) · من شبابي الباكر حتى سنة 1800 كنت جندياً ورحالة، ومن 1800 حتى 1814 في ظل الحكومة القنصلية والإمبراطورية، كرّست حياتي للأدب والفكر، ومنذ عودة الملكية حتى اليوم [1833] اشتغلت بالسياسة"·
وثمة فصل رابع غائر (1834 - 1848) كان على بطلنا الثلاثي هذا the triple hero أن يعيشه وقد وهنت ذاكرته ترعاه امرأة حنون· إنها فترة ضبابية ضاعت مع الزمن·
"كان أسمي في البداية يكتب هكذا: بريا Brien ··· ثم بريان Briand ··· ذلك أنه في بداية القرن الحادي عشر كان آل بريا Brien ( بريان Briand فيما بعد) قد أطلقوا اسمهم على قصر فرنسي في بريتاني Brittany في فرنسا، وأصبح هذا القصر مقراً لبارونية شاتوبريان"·(ملحق/638)
وعندما فقدت الأسرة العتيدة كل شيء تقريباً سوى قصرها وكبرياءها، ذهب الأب إلى أمريكا وكوّن ثروة متواضعة· وعندما عاد إلى فرنسا تزوّج أبولين دي بيديه Appoline de Bedee التي أنجبت له بنين وبنات عدداً حتى أنه انطوى على نفسه في كآبة استمرت حتى إنجاب ابنه الأخير وهو الوحيد - من بين أبنائه - الذي بقيت ذكراه· وعمدت الأم إلى العبادة واستغرقت فيها لتخفف عن نفسها متاعب العمل وما ألمَّ بها من مرض· ومات لهذا الأب أربعة من أبنائه قبل مولد رينيه Rene في 4 سبتمبر سنة 1768 في سانت مالو St. Malo على الشاطئ الفرنسي الشمالي· وقد ذكر فيما بعد· "ما أسوأ أن يُرزق المرء بمولود" وكانت أخته لوسي Lucie متوعكة دائماً فدمجت متاعبها مع متاعبه ودخلا معا في علاقة مُغرقة جعلت كليهما غير راغبين في الزواج· لقد أضاف ضباب الشمال، والرياح التي تضرب جزيرتهم وبيتهم إلى كآبة روحهما كآبات أخرى، لكنها أصبحت فيما بعد ذكريات عزيزة·
وعندما بلغ التاسعة من عمره انتقلت أسرته إلى عقار في كومبورج Combourg الأمر الذي جلب للأسرة لقب كونت Comte وأصبح رينتيه فيكونت Vicomte ( شريف فوق البارون ودون الكونت) لقد تم إرساله الآن إلى مدرسة بالقرب من دول Dol وتلقى تعليمه على يد قسس، حثّتهم أمه لإعداده ليكون قَسّاً، فتلقى على يديهم تعليماً طيباً في الآداب الكلاسيكيّة، وسرعان ما شرع في الترجمة عن هو ميروس وزينوفون Xenophon·
" في عامي الثالث في دول Dol ·· وضعت الصدفة في يديّ··· هوراس Horace غير المهذبة·· فألقيت نظرة على مباهج الجنس غير المعروفة، ذلك الجنس الذي لم أعرفه إلا من خلال أم وأخوات ··· إن رعبي من ظلال الشياطين ونار جهنم·· أثَّر فيَّ معنوياً وبدنياً، فظللتُ على براءتي متمسكاً بطهري أحارب ضد عواصف عواطف غير ناضجة"،
ورعب لا عقلاني من المجهول وأدت طاقته الجنسية - دون أية اتصالات جنسية نعرفها - إلى أن تطورت في خياله صورة امرأة نموذجية أخلص لها (أي لهذه الصورة المتخيّلة) إخلاصاً باطنياً (ينحو نحواً صوفياً) شديداً، مما انحرف به وعاقه عن التطور المعتاد·(ملحق/639)
وكلما اقترب موعد حضوره أول طقس للعشاء الرباني (جزء من القدّاس) يقام له، اعتراه خوف من أن يُدلي لقس الاعتراف بهواجسه الداخلية، وممارساته السرية، وعندما وجد الشجاعة واعترف لقس الاعتراف هدَّأه القس وأراحه وأحلّه من تبعاته (غفر له)، عندها شعر بفرح الملائكة· وفي اليوم التالي أقاموا لي طقوساً سامية محركة للمشاعر،
"حاولت عبثاً أن أصفها في كتابي عبقرية المسيحية Le Genie du christianisme· إن الحضور الحقيقي للفادي Victim ( يقصد المسيح) في القربان المقدّس على مذبح الكنيسة كان واضحاً لي كحضور أمي إلى جانبي· لقد شعرت كما لو أن نوراً قد انبثق في داخلي"·
فارتعد إجلالا وبعد ثلاثة أشهر غادر كلية (مدرسة) دول College de Dol· " إن ذكرى هؤلاء المعلمين الجادين ستبقى دائماً عزيزة إلى نفسي"·(ملحق/640)
هذا السمو (المقصود هذه المشاعر الدينية) راح يقل كلما أمعن في القراءة مما أدى إلى ظهور قضايا أو أسئلة في حاجة لإجابة في أمور العقيدة· واعترف لوالديه أنه لا يريد أن يكون قساً· فتم إرساله وهو في السابعة عشر من عمره إلى كلية رين College de Rennes لمدة عامين لتؤهله لوظيفة في الحراسة البحرية Naval Guard في بريست · وفي سنة 1788 (كان قد بلغ العشرين) تم تعيينه تحت الاختبار لكن حياته التي اعتاد عليها قبل ذلك بالإضافة إلى الانضباط في البحرية الفرنسية جعلاه خائفاً جداً من العمل في البحرية حتى أنه عاد إلى والديه في كومبورج Combourg ووافق على الالتحاق بكلية دي دينان de Dinan ليكون قساً، وربما قال هذا رغبة في أن يخفّف والده من حدّة توبيخهما له· يقول: "الحقيقة أنني لم أكن أريد إلا كسب الوقت لأنني لم أكن أعرف ما أريد"، وأخيراً التحق بالجيش برتبة ملازم، وتم تقديمه للملك لويس السادس عرش، وكان يمارس الصيد معه، وشهد الاستيلاء على الباستيل، وتعاطف مع الثورة إلى أن قامت في سنة 1790 بإلغاء الرّتب والألقاب والحقوق الإقطاعية· وعندما نذرت كتيبته نفسها للانضمام لجيش الثورة استقال من مهامه واكتفى بدخل متواضع من ميراث تركه له أبوه عند مماته - وفي 4 أبريل سنة 1791 غادر فرنسا قاصداً الولايات المتحدة، وأعلن أنه سيحاول اكتشاف طريق شمالي غربي عبر القطب الشمالي (شمال أمريكا) · "لقد كنتُ مفكراً حراً متحمساً في ذلك الوقت"·
ووصل إلى بلتيمور Baltimore في 11 يوليو سنة 1791 ومنها إلى فيلادلفيا، وتناول الغداء مع الرئيس واشنطن ورفّه عنه بخططه المتسمة بالمبالغة واتخذ طريقه إلى ألباني Albany واستأجر دليلاً واشترى حصانين وركب مزهوا إلى الغرب، وكان معجباً بجلال المشاهد التي شاهدها حيث الجبال والبحريات والمجاري المائية تتلألأ تحت شمس الصيف· لقد وجد متعة بالغة في هذه المساحات الواسعة المكشوفة وهذا الفن الذي خطته يد الطبيعة، ليكون ملجأ يلجأ إليه المرء هرباً من الحضارة وتكلّفها· وقد سجل تجربته في يوميات نقَّحها في وقت لاحق ونشرها بعنوان: رحلات في أمريكا Voyages en Amerique وظهر في هذه الرحلات بالفعل جمال أسلوبه:(ملحق/641)
"أيتها الحرية البدائية (حرية الفطرة الأولى) لقد استعدتك أخيراً! إنني انطلق مثلما ينطلق الطير، أتنقّل كالذبابة فهي تقود نفسها لا عوائق أمامها، ولا تعرف إرباكاً ولا حيرة إلاّ في اختيارها للمكان الظليل· هنا أنا بطبيعتي كما خلقني الله جل جلال؛ سيد الطبيعة، منتصر أنا إذ يحملني الماء، بينما قاطنو المجاري المائية يصطحبونني في طريقي وقاطنو الهواء يغنون أغنياتهم لي، وحيوانات الأرض البرية تحييني وأشجار الغابات تحني ذُراها لي كلما مررت، أليست أصولنا الأولى حُفِرت (سُجّلت) على جبين الإنسان في مجتمعه أو على جبيني؟ اجرِ إذن لتُخرس أنفاسك في مدنك! اذهب لتكون عبداً لقوانينك التافهة، احصل على خبزك بعرق جبينك أو التهم خبز الفقراء· ليقتل بعضنا بعضاً من أجل كلمة، من أجل السيدّ؛ فنتشكك في وجود الله أو نعبده بصيغ عبادة خرافية، أما أنا فسأذهب أتجوّل في قفرى المنعزل ففيه لن يقمع أحد فكري ولن يُدمي أحد قلبي، فسأكون حراً كالطبيعة، ولن أعترف بسلطان أحد سوى سلطانه (الله) الذي أبقى لنا الشمس، والذي بإشارة واحدة من يده قادر على إشعال الثورة في كل العوالم " ·
هنا كل ميراث الحركة الرومانسية: الحرية والطبيعة والصداقة، لكل الكائنات الحية، احتقار للمدن واحتقار لمحاربة الإنسان لأخيه الإنسان من أجل الخبز أو السلطان، هنا رفض للإلحاد والخرافة، هنا نعبد الله بتأمل الطبيعة، هنا يكون الهرب من كل قانون خلا قانون الله·(ملحق/642)
لا يهم - من وجهة نظر أدبية - أن يكون شاتوبريان قد فقد إيمانه الديني، أو أن كثيراً من أوصافه كان أقرب للخيال منه للحقيقة، أو أن النقاد الفرنسيين والأمريكيين سرعان ما اكتشفوا مئات المبالغات والمستحيلات والمواضع التي اتسم فيها بعدم الدقة، وإنما المهم أن أسلوبه النثري هنا قد أثَّر تأثيراً كبيراً في مشاعر كل النساء وكثير من الرجال· لم يشهد النثر الفرنسي منذ روسو أو بيرناردين دي سانت بيير Bernardin de Saint-Pierre مثل هذا البهاء والخصوبة، ولم تقدّم الطبيعة بهذا الإشراق، ولم يُظهر أحد الحضارة بهذا السخف· إن كل ما تنتظره الحركة الرومانسية هو أن تقدم بشكل مقنع الهنود الحمر (الهنود الأمريكيين) كسادة يتجولون في الفردوس يتربعون على عروش الحكمة، وأن تقدم بشكل مقنع الدين كأساس للأخلاق والفنون والخلاص Salvation· وسرعان ما قدَّم شاتوبريان مثلاً على هذا في قصته أتالا Atala ورينيه Rene، وقدّم مثالا ثالثا في كتابه عبقرية المسيحية The Genus of Christianity·
لقد تجوّل مكتشف الشاعر راكباً خلال ولاية نيويورك واستقبله بعض الأونونداجا Onondaga الهنود وأكرموه ونام بشكل بدائي على الثرى (الأرض الأم) بالقرب من نياجارا Niagara وسمع الأصوات المكبوتة لخرير مياه الشلالات· وفي اليوم التالي جلس بشكل تلقائي على شاطئ النهر الذي يُسرع في جريانه ليصل إلى مصبّه· "لكم تُقتُ لإلقاء نفسي فيه" ولأنه كان شغوفاً لرؤية الشلالات من أدنى فقد هبط المنحدر الصخري فزلَّت قدمه وكُسِر ذراعه، ورفعه الهنود (الحمر) إلى حيث الموضع الآمن· وتخلّى عن حلمه بالاتجاه نحو الشمال الغربي فاتجه جنوباً ووصل إلى الأوهايو Ohio·(ملحق/643)
وعند هذه النقطة تصبح روايته للوقائع والمشاهد مُلتبسةً مشكوكاً فيها· إنه يخبرنا أنه تابع الأوهايو إلى المسيسبِّي ومنه إلى خليج المكسيك ومن هناك عَبْر آلاف الأميال ومئات الجبال إلى فلوريدا· وقارنَ النقّادُ المسافات ووسيلة الانتقال بزمن الرحلة وانتهوا إلى أن روايته مشكوك فيها· كما أنه وظفَ حيوانات المنطقة وغطاءَها النباتي بما لا يتفق أبداً مع طبيعة هذه المنطقة وغطائها النباتي بعد رحلته بمائة سنة، وعلى أية حال فإن قرناً من الزمان يكفي لتغيير الحياة البرية في المنطقة تغييراً حاداً، ولو حتى من خلال انتشار الزراعية والتعدين وارتفاعات الأرض وانخفاضاتها·
وبعد أن مكث مع الهنود الحمر من جماعات السمينول Seminole اتخذ طريقه نحو الشمال الغربي إلى شيليكوث Chillicothe وهي الآن إلينوي Illinois· وهناك قرأ في صحيفة إنجليزية أخبار هروب لويس السادس عشر إلى فارين Varennes (22 يوليو 1791) فأصابه الرعب فمعنى القبض على الملك تعرض حياته - يومياً - للخطر· "قلت لنفسي: عُد لفرنسا وقطعت رحلاتي فجأة"
وفي 2 يناير سنة 1792 وصل فرنسا بعد غياب دام تسعة أشهر، وكان عمره عند عودته لا يتجاوز الثالثة والعشرين·
4/ 2 - تطوره
لقد كان قد أنفق تقريباً كل ما لديه من مال، وكان لا يزال غير متيقن ولا آمن في وطن يُعادي الفيكونتات (المقصود النبلاء عامة) ويسير نحو الحرب ومذابح سبتمبر· ونصحه أَخَواته أن يتزوّج بالمال ودبّرا له عروساً في السابعة عشرة من عمرها قبلت مهراً معتدلة وهي سيليست بوسو دي لا فني Celeste Buisson de La Vigne فتزوجها في 21 فبراير سنة 1792· وظلت سيليست المتواضعة مُخلصة له خلال كل التقلبات التي مرت به وتحملت خليلاته وتحملته خلال فترة صراعه مع نابليون مع أنها كانت معجبة به (بنابليون) وبعد سنوات طوال تعلّم شاتوبريان أن يحبها· وذهبا للعيش في باريس معاً بالقرب من أختيه لوسيل Lucile وجولي Julie · وضاع جزء من ثروة زوجته كان يتم استثماره في سندات تصدرها الكنيسة عقب مُصادرة حكومة الثورة للممتلكات الكنسية وخسر رينيه جزءاً آخر على موائد القمار·(ملحق/644)
وفي 20 أبريل أعلنت الجمعية التشريعية الحرب على النمسا، فكوّن المهاجرون الفرنسيون (الذين تركوا فرنسا إثر أحداث الثورة الفرنسية) كتيبةً لتنضم إلى النمسا للإطاحة بالثورة· وشعر شاتوبريان أن عليه أن ينضم لزملائه النبلاء رغم أنه لم يكن على يقين من رغبته في الإطاحة بالثورة· ترك شاتوبريان زوجته وأخواته في باريس وسرعان ما قرر ثوار باريس سجن (وإعدام) مئات من أفراد الطبقة الارستقراطية· واندفع إلى كوبلنز Coblenz وانضم لجيش المهاجرين واشترك في حصار ثيونفيل Thionville الفاشل (أول سبتمبر 1792) وجُرح في فخذه، وفي لفتة كريمة تم إطلاق سراحه· ولمّا لم يكن قادراً على العودة لزوجته عبر فرنسا المعبّأة، اتخذ طريقه إلى أوستند Ostend قاطعاً المسافة في غالبها على قدميه، وهناك وجد طريقا إلى جزيرة جيرسي Jersey فاعتنى به خاله، وفي مايو سنة 1793 عبر إلى إنجلترا·
وفي إنجلترا عرف حياة الفقر وتحمّلها "رغم صحتي المعتلة ورغم تلاشي الأحلام الرومانسية في الحرية"· ورفض شاتوبريان الإعانة المالية التي كانت الحكومة البريطانية تقدمها للنبلاء الفرنسيين المهاجرين emigre وراح يتكسّب بتعليم الفرنسية لمن يريد، كما راح يتكسب من التدريس في مدرسة داخلية· وأحب إحدى تلميذاته وهي شارلوت إيفز Charlotte Ives وبادلته الحب واقترح والدها أن يتزوجها فاعترف لهما أنه متزوّج بالفعل· وفي هذه الأثناء سُجنت زوجته وأخواته في فرنسا، وقطعت مقصلة الثوار رأس أخيه الأكبر وزوجته (أي زوجة أخيه) وجدِّها البطل ماليشيرب Malesherbes في 22 أبريل 1794· أما زوجة شاتوبريان وأخواته فلم يُطلق سراحهن حتى انتهاء فترة الإرهاب بسقوط روبيسبير Robespierre ·
وكانت أخته لوسيل قد لاحظت كثيراً سهولة تعامله مع الكلمات فحثته ليكون كاتباً ومؤلفاً· وخلال السنوات التي قضاها في إنجلترا بدأ في كتابة ملحمته النثرية الطويلة (ناتشز Natchez) راح يصب في صفحاتها البالغة 2,383 صفحة أحلامه الرومانسية معتبراً حياة الهنود الحمر (الهنود الأمريكيين) حياةً مثالية· ولرغبته الشديدة في تحقيق الشهرة كفيلسوف نشر في لندن في سنة 1797 كتابه:(ملحق/645)
"الثورات قديماً وحديثاً، دراسة تاريخية وسياسية وأخلاقية"
" Essia historique, politique, et moral sur les revolutions anciennes et moderns"·
وكان هذا عملاً جديراً بالالتفات من شاب لم يتجاوز التاسعة والعشرين من عمره ينقصه انضباط حياته وإن كان غنياً بالأفكار· لقد برهن شاتوبريان على أن:
"الثورات هيجان يحدث بشكل دوري، وما يتبعها يتخذ دوماً شكل منحنى يبدأ بالثورة ويمر بالاضطراب والفوضى وينتهي بالدكتاتورية· ومن هنا وجدنا الإغريق يخلعون ملوكهم ويُقيمون الجمهوريات ثم يرضخون للإسكندر، ووجدنا الرومان يخلعون ملوكهم ويُقيمون جمهورية ثم يرضخون للقياصرة"
وهنا نجد أن شاتوبريان يتنبأ بنابليون قبل الثامن عشر من برومير Brumaire بعامين·
"إن التاريخ دائرة أو أنه دوران متكرر على الدائرة نفسها، مع ظهور أهداب من هذه الدائرة تجعل القديم يبدو جديدا، ومع هذه الانقلابات العظيمة الواضحة يسقط البشر في الشرور نفسها، ويكررون أيضاً ما هو خير· وليس هناك في التاريخ تطور حقيقي، حقيقة إن المعلومات تزداد، وإنما - فقط - لتكون في خدمة الموهوبين الذين لا يتغيَّرون· والإيمان بالتنوير كوسيلة للوصول بالإنسان إلى كمال لا حد له، هذه الفكرة وهم طفولي· ومع هذا فقد نجح التنوير في تقويض دعائم المسيحية (وهذه النتيجة أذهلت معظم القراء) وليس هناك احتمال راجح أن يستعيد الدين مكانته في نفوس شبابنا في هذه القرن حيث السلام السياسي والحرب الفكرية· فأي دين سيحل - إذن محل المسيحية؟ أو بتعبير آخر ما هو الدين الآخر الذي سيُحلِّه المسيحي محل دينه؟ ربما لا دين آخر"
(هكذا انتهى الشاب المتشكك) · فالنزاعات الفكرية والسياسية ستقوّض الحضارة الأوروبية وستعود بأوروبا إلى بربريتها الأولى·(ملحق/646)
لقد حقق هذا الكتاب لشاتوبريان شهرة في أوساط المهاجرين الفرنسيين لكنه صدم أولئك الذين شعروا أن الارستقراطية والدين يجب أن يقفا معاً ويصمدا معاً، أو أن يموتا منفصلين· وقد ترك هذا النقد أثره في شاتوبريان، فقد كانت كتبه التي صدرت بعد ذلك - في جانب كبير منها - اعتذاراً عن هذه الفكرة، لكنه الآن قد غدا متأثراً تأثراً عميقا بخطاب أرسلته له من فرنسا أخته جولي Julie في أول يوليو سنة 1789:
"صديقي، لقد فقدنا لتوّنا أفضل الأمهات·· لو عرفتَ كثرة الدموع التي ذرفتها أُمُّنا العزيزة بسبب أخطائك، وكم هي هذه الأخطاء الباعثة على الأسى تبدو للجميع واضحة سواء من منظور التقوى والتدين أو العقل· أما وقد عرفت هذا فافتح عينيك وتخلّ عن الكتابة، وإذا استجاب الله لدعائنا واجتمعنا ثانية فستجد بيننا كل السعادة التي يمكن أن تكون على ظهر هذه الأرض"·
وعندما تلقى شاتوبريان هذا الخطاب، كان معه خطاب آخر يفيد أن أخته جولي هذه قد ماتت أيضاً· وفي مقدمة كتابه عبقرية المسيحية La Genie du Christianisme عزا إلى هذين الخطابين تحوله الكامل الذي ظهر في كتابه هذا الآنف ذكره·
"إن هذين الصوتين المنبعثين من القبر (صوت أمه وصوت أخته) كانا يطنّان في أذنيَّ، فأصبحت مسيحياً·· بكيتُ وآمنت، فقد فسّر لي موتهما ما يعنيه الموت"·(ملحق/647)
إن مثل هذا التغير المفاجئ والمبهر (الدرامي) يُغري بالتشكك، لكنه لم يكن تشككاً بمعناه الحرفي، وربما أرجع شاتوبريان - الذي لم ينفصل الفيلسوف في شخصه أبداً عن الشاعر - للحظة واحدة، عملية تحوّله من عدم الإيمان إلى الإيمان (بالمسيحية) التي رآها أولاً جميلة ثم رآها مفيدة خيِّرة، ثم - أخيراً - اعتقد أنها - أي المسيحية - رغم أخطائها - تستحق التعاطف معها على المستوى الشخصي كما تستحق دعمها على المستوى العام (بين الناس)، لقد تأثر في الأعوام الأخيرة من القرن الثامن عشر بخطابات وصلته من صديقه لويس دي فونتين de Fontanes يصف فيها التفسخ الأخلاقي والانحلال الخلقي الذي حاق بفرنسا، ورغبة الناس المتزايدة في العودة إلى كنائسهم وقُسسهم· وخَلُص فونتين إلى أن هذا التوق الشديد سيجبر الدولة في وقت قريب جداً على العودة للعبادة الكاثوليكية·
وقرر شاتوبريان أن يكون هو الصوت المعبّر عن هذه الحركة (حركة العودة للكاثوليكية) فكتب دفاعاً عن المسيحية ليس من خلال المفاهيم العلمية والفلسفية وإنما من خلال الأخلاق والأدب والفن· لا جُناح إن كانت هذه القصص الفاتنة التي قصّوها علينا في شبابنا خرافات أكثر من كونها تاريخاً حقيقياً· إنها أبهجتنا وأوحت لنا بالكثير، وجعلتنا إلى حد ما متآلفين مع الوصايا العشر التي قام عليها نظامنا الاجتماعي وبالتالي الحضارة المسيحية·
"أليست جريمة كبرى أن تنزع من الناس العقائد التي ساعدتهم في السيطرة على الفوضى الاجتماعية وتحمل الظلم والشر والمعاناة، والمصير المحتوم الذي لا مهرب منه - الموت؟ "
وعلى هذا فإن شاتوبريان قد عبّر في مذكراته الأخيرة عن إيمانه وشكه في الوقت نفسه· إن روحي لا تميل للاعتقاد في شيء حتى في نفسي، وتميل إلى ازدراء كل شيء - الفخامة والعظمة والبؤس والشعوب والملوك،
"ومع هذا فإن روحي يهيمن عليها العقل الذي يطالبها بالتسليم بكل ما هو جميل: الدين والعدالة والإنسانية والمساواة والحرية والمجد"·(ملحق/648)
وفي سنة 1800 دعا فونتين شاتوبريان للعودة إلى فرنسا، وكان فونتين شخصاً مقبولاً للقنصل الأول (نابليون) وفي مقدوره أن يضمن ألاَّ يتعرض هذا الشاب المهاجر (شاتوبريان) للأذى· وكان نابليون يفكر بالفعل في إعادة الكاثوليكية، وقد يساعده كتاب جيِّد عن فضائل المسيحية في مواجهة سخرية اليعاقبة Jacobins، تلك السخرية التي لا مناص من مواجهتها إن هو (نابليون) أعاد الكاثوليكية·
وفي 16 مايو سنة 1800 عاد شاتوبريان إلى زوجته وأخته لوسيل Lucile في باريس، وقدّمه فونتين للدوائر الأدبية التي تجمع أفرادها في بيت الكونتيسة بولين دي بومومنت Pauline de Beaumont التي كانت سهلة الانقياد نحو الإثم لكنها جميلة، وهي ابنة الكونت أرمان - مارك دي مونتموري Armand-Mare de Montmorin الذي كان في وقت من الأوقات وزيراً للخارجية في عهد الملك لويس السادس عشر، وقطع الثوار رأسه بالمقصلة بعد ذلك، ·
سرعان ما أصبحت بولين خليلة شاتوبريان· وفي بيتها الريفي وبتشجيعها أنهى كتابه عبقرية المسيحية· ولم يكن يعتقد أن الوقت المناسب قد حان لنشر كتاب يعارض بشدَّة الحركة المتشككة في المسيحية السائدة في دوائر الفكر والأدب، لكن في سنة 1801 قدم لباريس مئة صفحة مستخلصة منه على شكل نص نثري ذي طابع شعري يقدم الفضائل المسيحية والحب الرومانسي بشكل بسيط تغمره الطمأنينة دون لهجة خطابية أو وعظية· وجعله هذا الكتاب - فجأة - حديث المتعلمين في فرنسا ومحبوب النساء وابن الكنيسة الحبيب - تلك الكنيسة التي جرى إحياؤها من جديد·(ملحق/649)
لقد أطلق على كتابه (قصته) هذا اسم "اتالا " Atala أو حب اثنين من البدائيين في الصحراء· والمشهد الافتتاحي في لويزيانا Louisiana التي يقطنها الهنود الحمر (الأمريكيين) من جماعة ناتشز Natchez Indians والراوي هو شيخ الجماعة أو القبيلة وهو أعمى واسمه شاكتاس Chactas· إنه يقص علينا كيف أسَرَتهُ في شبابه قبيلة معادية وحكمت عليه بالموت حرقا لكن أنقذته أتالا وهي عذراء هندية (من الهنود الحمر) وهربت معه عبر المستنقعات والغابات والجبال والمجاري المائية وأحب كل منهما الآخر لاقترابهما واشتراكهما في مواجهة الأخطار، وطلب منها إكمال الحب بالتواصل الجنسي لكنها رفضت لأنها كانت قد تعهدت أمام أمها التي ماتت أن تظل عذراء طوال عمرها، والتقيا بمبشر مسيحي عجوز أيد تقواها لاعناً الحب كشكل من أشكال السُّكر والزواج كقدر أسوأ من الموت، وتمزقت اتالا بين الدين والجنس (كما في التاريخ) وخرجت من المأزق بتناول السم· وغدا شاكتاس وحيداً معزولاً لكن المبشّر شرح له الموت باعتباره خلاصاً مباركاً من هذه الحياة:
"رغم ازدحام رأسي بذكريات أيام كثيرة··· فلم يحدث أبداً أن التقيت برجل لم يخدع في حلمه بالسعادة، فليس هناك قلب إلاّ وانطوى على جرح داخلي·· فالروح في صفائها الظاهري تشبه الآبار الطبيعية بين الحشائش الطوال (السفانا) في فلوريدا: إن سطحها يبدو هادئاً رائعاً، ولكن عند النظر إلى قيعانها·· تُدرك وجود التماسيح الكبيرة··· "(ملحق/650)
لقد أصبح وصف شاتوبريان لجنازة أتالا حيث تعاون القس والوثني في مواراة جسدها الثرى، وصفاً مشهوراً في الأدب الرومانسي، كما ألهم الفنان جيرود - تريوزن Girodet-Trioson فرسم إحدى أعظم اللوحات في فترة حكم نابليون· إنها لوحة دفن أتالا التي بكى عند رؤيتها نصف سكان باريس في سنة 1808، لكن التراث الكلاسيكي كان قوياً في فرنسا في سنة 1801 لدرجة تمنع ترحيب النقاد جميعاً بالقصة وابتسم منهم كثيرون (ساخرين) عند قراءة الفقرات المنمّقة (المصاغة بعناية) وعند إدراكهم توظيف الحب والدين والموت (وهو توظيف قديم) لإنعاش القلوب وإيقاظها من غفوتها، وحشد مكوّنات الطبيعة بمختلف مظاهرها وأحوالها لتكون لحناً إلزامياً مصاحباً لأفراح الإنسان وأتراحه·
لكن كان هناك أيضاً نقاد آخرون وعدد كبير من القراء امتدحوا بساطة استخدامه للكلمات والموسيقى الهادئة في أسلوبه ووصفه للحياة الحيوانية والنباتية والجبال والغابات والمجاري المائية معبراً عن الأصوات والأشكال والألوان بأزهى عبارة، مما شكَّل خلفية مفعمة بالحياة لأحداث القصة· لقد كان المزاج العام في فرنسا على استعداد لسماع كلمات طيبة عن الدين والطهارة· وكان نابليون يخطط لتصالح مع الكنيسة· لقد حان الآن الوقت المناسبة لنشر كتاب (عبقرية المسيحية) ·
4/ 3 - كتاب عبقرية المسيحية
لقد ظهر هذا الكتاب في خمسة مجلدات في 14 أبريل سنة 1802 في الأسبوع نفسه الذي شهد إعلان الوفاق البابوي (الكونكوردات Concordat) وقد كتب جول ليميتر Jules Lemaitre في سنة 1865: "إن كتاب عبقرية المسيحية هو أعظم إنجاز في تاريخ الأدب والفكر الفرنسيَّين", وقد امتدح فونتين Fontanes الكتاب في مقال بصحيفة المونتير Moniteur مستخدماً صيغ التفضيل بشكل ينم عن احتفائه الشديد· وقد ظهرت الطبعة الثانية في سنة 1803 مصّدرة بإهداء إلى نابليون· ومنذ هذا الوقت شعر المؤلف أن نابليون هو الشخص الوحيد الذي يتفوَّق عليه (والمعنى أن المؤلف اعتز بنفسه اعتزازاً شديدا، فقد أصبح يحس أنه يلي نابليون مباشرة في الأهمية) ·(ملحق/651)
وكلمة genie الفرنسية التي تظهر في عنوان الكتاب لا تعني بالضبط كلمة genius الإنجليزيّة (عبقرية أو نبوغ) رغم أنها تنطوي على ذلك المعنى أيضاً· إنها تعني الشخصية المميزة والروح الخلاق الكامن في صلب الدين، تلك الشخصية وهذه الروح التي أنجبت وغذت الحضارة الأوروبية بعد الفترة الكلاسيكية· لقد اقترح شاتوبريان أبطال تنوير القرن الثامن عشر أي الحركة التنويرية Enlightenment المعروفة في ذلك القرن مُظهراً أن في المسيحية ما يُغني عنها ففي المسيحية - على حد قوله - فهم متعاطف أو تعاطف فاهم مع حاجات الإنسان وفيها بَلْسم لأحزانه، وفيها إلهام متعدد الجوانب للفن ودعم قوي للنظام الاجتماعي والأخلاق، وهذا يكفي أما مصداقية العقائد والمرويات الكنسية فهي مسألة قليلة الأهمية· فالسؤال الحقيقي هو: هل المسيحية تمثل دعما للحضارة الأوروبية؟ وهل هو دعم لا يُبارى ولا يُجارى ولا يعوّض ولا يمكن فصله عنها؟ - أي عن هذه الحضارة·
لقد كانت صورة التفسخ الأخلاقي والاجتماعي والسياسي في فرنسا الثورة التي طلَّقت نفسها من مسيحيتها الكاثوليكية تمثل برهاناً أقوى وأكثر منطقيّة من حُجج شاتوبريان· لكن شاتوبريان كان رجل مشاعر وأحاسيس وربما كان على حق في تأكيده أن معظم الفرنسيين هم أقرب إليه منهم إلى فولتير وغيره من المفكرين الذين عملوا بحماس على إبعاد عار هيمنة الدين المطلقة· لقد أطلق على نفسه اسم "المعادي للمفكرين anti-philosophe" · لقد اشتط كثيراً - أكثر من روسو بكثير في حملته ضد المنهج العقلي ووبّخ مدام دي ستيل de Stael لدفاعها عن التنوير· وعلى هذا فقد بدأ بالدعوة إلى الإحساس والشعور، وترك العقل في المحل الثاني·
لقد أعلن في البداية إيمانه بالسِّر الأساسي للعقيدة الكاثوليكية وهو التثليث Trinity: الرب God باعتباره الآب Father الخالق، والرب God باعتباره الابن المخلص أو الفادي Son redeeming، والرب Holy Spirit باعتباره الروح القدس Holy Spirit الذي يُنير الطريق ويبارك·(ملحق/652)
إن المسألة ليست مصداقية هذا الأمر، فالمهم أنه دون عقيدة في وجود إله مدبِّر تُصبح الحياة معركة لا رحمة فيها وصراعاً وحشياً، وتُصبح الخطايا لا غافر لها ويُصبح الزواج رباطاً ممزقاً هشاً غير قائم على أساس وطيد، وتُصبح الشيخوخة انفصاماً كئيباً ويُصبح الموت شيئاً قبيحاً، وإن كان كرباً لا يمكن اجتنابه·
أما الطقوس (الشعائر sacraments) الكنسية من تعميد Church- baptism ( أو عماد) واعتراف confession وعشاء مقدس Communion وتثبيت التعميد confirmation والزواج matrimony ومسح المحتضر بالزيت المقدس extreme unction والسيامة الكهنوتية sacerdotal ordi nation ( مراسم تعيين الكهنة) - فتحيل آلامنا وانهيارنا المخزي إلى تطور روحي متقدم يتم تعميقه بإرشاد القسس والكهنة وتوجيهاتهم وبالطقوس (الشعائر) المؤثرة، وتقوّي موقف الفرد الضعيف بمفرده ليكون كثيراً بإخوانه من المؤمنين بالمسيح المحبوب المخلص وأمه العذراء الشفيعة التي بلا خطيئة، والله الحكيم الكلّي القدرة المراقب المعاقب المسامح والمجازي· بهذا الإيمان يتم خلاص الإنسان من أعظم لعنة يمكن أن تحيق به - أن يكون بلا معنى في عالم بلا معنى·
وراح شاتوبريان يُعارض الفضائل التي أوصى بها الفلاسفة الوثنيون بتلك التي دعت إليها المسيحية: فمن ناحية نجد الجَلَد (الثبات) والاعتدال (ضبط النفس) والتدبر (التعقل) - كل هذه الفضائل تتجه نحو هدف تقدم الفرد، ومن ناحية أخرى نجد الإيمان والأمل وعمل الخير وهي - أي هذه الفضائل الأخيرة تجعل الحياة نبيلة وتقوي الروابط الاجتماعية وتحيل الموت إلى حياة (من خلال فكرة البعث) · وقارن وجهة نظر الفيلسوف فيما يتعلق بالتاريخ باعتباره نضالاً وهزائم تلحق بالأفراد والجماعات بالنظرة المسيحية للتاريخ باعتباره جهدا إنسانياً للسمو فوق الخطيّة المتأصلة في طبيعته ولتحقيق آفاق أوسع·(ملحق/653)
"إنه لمن الأفضل أن تعتقد أن السماوات تمجد عظمة الرب من أن تعتقد أنها ركام عارض من صخور وتراب، خالدة لكن بلا معني، جميلة لكنها كئيبة· وكيف نستطيع أن نتفكّر في جمال معظم الطيور وكثير من ذوات الأربع دون شعور بأن بعض القداسة كامن في نموّها المَرِن (التدريجي) وأشكالها الفاتنة؟ "
وبالنسبة للأخلاق فقد بدا الأمرُ لشاتوبريان واضحاً بشكل مؤلم: إن دستورنا الأخلاقي لابد أن يباركه الرب وإلا تردّى ليكون ضد طبيعة الإنسان (الطبيعة البشرية)، فليس هناك دستور أخلاقي من وضع البشر يمكن أن تكون له القوة الكافية للسيطرة على غرائز البشر المناقضة للحياة الاجتماعية· لكن الخوف من الله هو بداية الحضارة وحب الله هو هدف الأخلاق، وأكثر من هذا فإن هذا الخوف (من الله) والحب له لابد أن ينتقل من جيل إلى جيل على أيدي الآباء والمعلمين ورجال الدين· فآباء بلا إله ومعلمون دون دعم من عقيدة دينية ورداء كهنوتي سيجدون الأنانية مستشرية وسيجدون أن الهوى والانفعال والجشع أقوى من كلماتهم غير المؤثرة· وأخيراً لا يمكن أن تكون هناك أخلاق إن لم يكن هناك عالم آخر لابد أن تكون هناك حياة أخرى لتعوضنا عن محنة الفضائل في عالمنا الأرضي·
ودلّل شاتوبريان على أن الحضارة الأوروبية تكاد تكون مدينة كلية للكنيسة الكاثوليكية - بدعمها للأسرة والمدرسة، ودعوتها للفضائل المسيحية، ولمعارضتها للخرافات والخوف اللاعقلاني والممارسات الخاطئة والقضاء عليها، وإلهامها للآداب والفنون وتشجيعها· إن العصور الوسطى قد منعت بحكمة السعي غير الموجّه للوصول للحقيقة، وكان منعها هذا لصالح الجمال فقد تجلى فن العمارة في الكاتدرائيات القوطية بشكل يفوق تجليه في البارثينون Parthenon · والآداب الوثنية فيها الكثير مما هو متعة للعقل والكثير مما هو مفسد للأخلاق· والكتاب المقدس المسيحي أعظم من كتابات هوميروس، والأنبياء أكثر تأثيراً في الناس من الفلاسفة، فأي رواية يمكن مقارنتها في رقتها وتأثيرها بحياة المسيح وتعاليمه؟!(ملحق/654)
إنه لمن الواضح أن كتاباً مثل عبقرية المسيحية لا يمكن أن يكون مقبولاً إلاّ من أولئك الذين كانوا مستعدين عاطفيا للاعتقاد (للإيمان) بسبب تجاوزات الثورة الفرنسية أو بسبب مِحَن الحياة· ومن هنا قال الفيلسوف جوبير Joubert صديق شاتوبريان أنه بحث عن ملجأ في الكاثوليكية هرباً من عالم ثوري مُرعب بدرجة لا تُحتمل· وقد يبتسم بعض القراء لتفسيره الطفولي لغاية أو غرض بعض مظاهر الطبيعة عندما يقول:
"إن شَدُو الطيور قد صُمِّم ليتمشي مع آذاننا··· فرغم قسوتنا عليها (أي على هذه الطيور) فهي لا تستطيع أن تكُف عن إمتاعنا كما لو كانت مضطرة لتنفيذ أوامر إلهية"·
لكن هؤلاء القراء كانوا دوماً منبهرين برقة موسيقى اللفظ والأسلوب حتى أنهم لم يتوقفوا كثيراً لفهم ما ذكره عن النّعم الثلاث لشرح فكرة التثليث في العقيدة المسيحية أو الخوف المالتوسي Malthusian ( الذي أثاره مالتوس) من زيادة عدد السكان زيادة هائلة للدفاع عن فكرة التبتل celibacy أو البقاء بلا زواج، تلك الفكرة ذات الأبعاد الكنسية (الإكليريكية) · وإذا كانت الحجج التي ساقها ضعيفة في بعض الأحيان إلا أن جاذبية أسلوبه غطت على هذا الضعف· إن الطبيعة نفسها ليعتريها المرح إذا سمعت ابتهالات شاتوبريان وتدلّهه في حبها، بعد أن تكون ساخطة معبرة عن سخطها بالزلازل والبراكين والفيضانات والأعاصير المصحوبة بمطر ورعد وبرق·
والسؤال الآن: هل كان شاتوبريان حقاً مؤمناً؟ بدءاً من سنة 1801 إلى آخر حياته سمعنا أنه كفَّ عن صلاة عيد الفصح Easter فلم يعد يشترك في العشاء الرباني ولم يعد يتقدم للكاهن لأداء طقس الاعتراف - وهو الحد الأدنى الذي تطلبه الكنيسة من الأطفال· وقد ذكر سيسموندي Sismondi حوراً معه في سنة 1813:(ملحق/655)
"إن شاتوبريان قد لاحظ تدهور الدين في العالم على مستوى أوروبا وآسيا، وقارن علامات التدهور هذه بتعدد الآلهة على أيام جوليان Julian··· وانتهى إلى أن أمم أوروبا قد تختفي مع دياناتها· لقد صُعِقت لروحه المتحررة هذه··· لقد تحدث شاتوبريان عن الدين··· أنه يعتقد أن الدين ضروري لمساندة الدولة· إنه يعتقد أنه والآخرين ملزمون أو مقيدون بالإيمان بدين أو بتعبير آخر لا فكاك من ذلك"·
إننا مندهشون لكتمانه شكّه في الدين (الكاثوليكي) طوال ستين عاماً، يا له من عبء ثقيل حمله! إنه لم يتخلّص أبداً من التشاؤم الذي ألمَّ به في شبابه والذي وصفه في كتابه رينيه Rene· وفي أواخر حياته قال كان يجب ألا أُولد·
4/ 4 - رينيه Rene
كان كتاب شاتوبريان (عبقرية المسيحية) ملمحاً مهما للتعبير عن الحركة الرومانسية في مجال الدين· لقد شكل عودة للإيمان والأمل إن لم نقل أيضاً الخيرية أو النزوع لعمل الخير· لقد رفع من شأن شعر العصور الوسطى وفنونها وحث على إحياء فن العمارة القوطي في فرنسا· فخلال مجلداته الخمسة ضمَّ ليس فقط أتالا (القصة الآنف ذكرها) بل أيضاً رينيه حتى سنة 1805· هذه الصفحات الأربعون (التي تكوّن رينيه) المفعمة تشاؤماً تعكس قنوط المهاجرين واكتئابهم (المهاجرون الذين تركوا فرنسا إثر أحداث الثورة) ومعاشرته لأخواته أثناء فترة الشباب· لقد أصبحت هذه الصفحات الأربعون ينبوعاً لآلاف الفواجع (والعويل والنواح) من اليأس والأحزان التي تستدر الدموع·
لقد كان رينيه (شخصية القصة) من الأرستقراطية الفرنسية التي هرب أفرادها من فرنسا والتحق بقبيلة ناتشز Natchez وهي قبيلة من الهنود الحمر على أمل أن ينسى حبّه المحرَّم (ممارسته الجنس مع محارمه) · وكان أبوه الذي تبناه شاكتاس قد قص عليه قصة أتالا وحثّه على أن يحكي حكايته هو (أي حكاية رينيه) ·
"لقد كنت خائفاً مخلوع الفؤاد مقيَّداً أمام أبي· لكنني كنت أحس باليسر والسهولة والرضا - فقط - مع أختي أميلي " Amelie·(ملحق/656)
وعندما تحقق أن حبه لها قد اقترب من إمكانية غشيانه لها، بحث عن خلاصه بالضياع وسط زحام باريس أو بالجلوس ساعات في كنيسة مهجورة طالبا من الله أن يخلصه من جريمة حبّه أو من حياته التي تمثل كابوساً· وراح يبحث عن العزلة بين الجبال والحقول· لكنه في كل الأماكن التي هرب إليها لم يستطع أن يطرد أفكاره عن أميلي ووجده لها وعِشقه إياها· يا للعار، لقد كان معذّباً بسبب رغبته في الذهاب إليها والاعتراف لها بحبه، فقرر أن يقتل نفسه· وأحسّت أميلي بقراره (حدّثها قلبها بقراره هذا) فأسرعت إلى باريس ووجدته وعانقته بشدة وضمته إليها، و"غطت جبهتي بالقبلات"·
وأعقب ذلك ثلاثة أشهر من الرفقة والصداقة والسعادة المنضبطة (المقيّدة)، ثم غلبها الندم فهربت إلى أحد الأديرة وتركت له كلمة تريح بها مشاعره، كما تركت له كل ثروتها، وبحث عنها وتوسل للحديث معها ولم تُرِد أن تَرَه· وعندما كانت على وشك أن تُوفي نذرها ذهب إليها في مصلاها في الكنيسة وركع إلى جوارها وسمعها وهي ساجدة أمام مذبح الكنيسة، تتوسل إلى الله قائل: "يا رحيم لا تدعني أقوم من هذا السرير الكئيب واشمل برحمتك أخي الذي أخي الذي لم يشاركني أبداً في عواطفي الآثمة" ولم ير أي منهما الآخر مرة أخرى· وواصل تفكيره في الانتحار لكنه قرر أن يتحمل آلاماً أشد بأن يعيش·
"لقد وجدتُ في المعاناة نوعاً من التكفير· لقد اكتشفتُ أن الأسى (الندم) ليس شعوراً ينتهي انه في هذا ليس كالسرور·· إن نزوعي إلى الحزن والانقباض أصبح يملأ كل لحظات حياتي· لقد انغمس قلبي تماماً وبشكل طبيعي في السأم والضجر والملل والبؤس"(ملحق/657)
وقد أصبحت عباراته هذه شاهداً تقليدياً يتم الاستشهاد به عند الحديث عن الحزن الرومانسي· لقد قرر أن يضيع في أمريكا ويعيش حياة بسيطة كالتي تعيشها إحدى القبائل الهندية الأمريكية، هروباً من أمراض الحضارة· ووبخه أحد المبشرين لتقوقعه وانعزاله ودوام تفكيره في نفسه وأمره بالعودة إلى فرنسا ليطهر نفسه بخدمة الجنس البشري· وعلى أية حال فقد "مات بعد ذلك كل من رينيه وشاكتاس في مذابح جرت في كل من فرنسا (حيث قُتل رينيه) وفي لويزيانا بالولايات المتحدة" (حيث قُتل أفراد قبيلة ناتشز التي منها شاكتاس الهندي الأمريكي) ·
إنها قصة جيدة لولا أن أحداثها وطريقة التعبير عن المشاعر والعواطف فيها تتسم بالمبالغة· لكن المشاعر كانت قد ماتت منذ عقد من الزمان كما كان الحزن خطيراً وعميقاً فجفّت الدموع، أما الآن فقد انتهت الثورة وتم استعادة الأمن، فأصبحت المشاعر حرة وآن للدموع أن تنهمر· إن أحزان رينيه - كرجع لصدى ويرثر Werther عبر جيل - أصبحت من سمات رينيه دي شاتوبريان، وانعكس تأثيرها في أوبرمان Obermann التي وضعها سيناكور Senacour في سنة 1804، وظهر أثرها أيضاً في رحلة شيلد هارولد إلى الديار المقدسة Childe Harold's Pilgrimage (1813) ووبّخ شاتوبريان الكاتب بايرون لعدم اعترافه بما هو مدين به· لقد أصاب هذا الكُتيب جيلاً كاملاً بمرض العصر · لقد أصبح نموذجاً تحتذيه آلاف وربما مئات الآلاف من الحكايات الحزينة التي يطلق على بطلها (الشخصية الرئيسية فيها) اسم الراوي (رومانسير romancier) وربما كان اسم الحركة الرومانسية مشتقاً منها· وقد سادت هذه الحركة الفنون والآداب في فرنسا مدة نصف قرن·
4/ 5 - شاتوبريان ونابليون
قال نابليون: "إن كتاب عبقرية المسيحية عمل من رصاص وذهب، وإن كان الذهب فيه أكثر·· إن كل ما هو عظيم ووطني في شخصية الإنسان لابد أن يعترف بعبقرية شاتوبريان"(ملحق/658)
وقد رحب نابليون من جانبه بالكتاب باعتباره متفقاً بشكل يدعو للعجب مع الكونكوردات البابوي (الاتفاق مع البابا)، ورتب نابليون لقاء مع المؤلف واعترف به كشخص مهم ذي قيمة وعيَّنه في سنة 1803 كسكرتير أول في السفارة الفرنسية في روما· وقد كتب المؤلف عن هذا اللقاء بتواضع وفخر:
"لم يكن يهم نابليون كثيراً ألا يكون لدي خبرة في الشؤون العامة، فأنا لم أتمرّس إطلاقاً في الشؤون السياسية العملية، لكنه - أي نابليون - كان يعتقد أن بعض العقول قادرة على الفهم وليست في حاجة للتدريب".
وسرعان ما لحقته خليلته إلى روما إلاّ أنها - على أية حال - سرعان ما ماتت (5 نوفمبر) وشاتوبريان إلى جوارها، وكانت قد طلبت منه العودة إلى زوجته قبيل وفاتها· وسرعان ما أصبح شاتوبريان شخصاً مقبولاً لدى البابا، وشخصاً مزعجاً لدى السفير كاردينال فيش Fesch خال نابليون الذي اشتكى من أن المؤلف الألمعي يتعدى على صلاحيات السفير· ولم يكن الكاردينال بالرجل الذي يسمح بذلك وطلب إعفاءه، فاستدعى نابليون الفيكونت وعيّنه متابعاً للأمور في جمهوري فالي Valais السويسرية الصغيرة· وذهب شاتوبريان إلى باريس لكن عند سماع خبر إعدام دوق دينين Duc d'Enghien أرسل لنابليون استقالته من الخدمة في السلك الدبلوماسي:
"عندما جرؤت على التخلي عن نابليون (ترك العمل معه) وضعت نفسي في مكان المساوي له (جعلتُ نفسي كُفواً له) فتوجه نحوي بكل قوة غدره··· وكنت في بعض الأحيان منجذباً إليه للمناصب الإدارية التي كان يغريني بها وبفكرة أنني شاهد على تحوّل في المجتمع وليس مجرد تغيير في الأسرات الحاكمة، لكن طبيعة كل منا المختلفة عن طبيعة الآخر في جوانب كثيرة كان لها دوماً اليد العليا· وإذا كان هو (نابليون) سيكون سعيداً إن جعلني أُعدم بإطلاق النار عليّ، فإنني أيضاً لم أكن لأشعر بوخز شديد في ضميري إن رأيته مقتولا"·(ملحق/659)
ولم يلحق بشاتوبريان ضرر عاجل· لقد انشغل عن السياسة بمرض زوجته (التي أحبها فترات علاقاته الغرامية) وبموت أخته لوسيل (1804) · وفي هذه الأثناء اتخذ من دلفين دي كوستين Delphine de Custine خليلةً له· وفي سنة 1806 سعى ليُحل محلّها ناتالي دي نوال Natalie de Noailles التي اشترطت قيامه برحلة للأماكن المقدسة في فلسطين· فترك زوجته في البندقية (فينيسيا) وذهب إلى كورفو Corfu, فأثينا, فسميرنا Smyrna, فالقسطنطينية (استانبول) فالقدس، وعاد عن طريق الإسكندرية، فقرطاجة Carthage, فأسبانيا ووصل إلى باريس في يونيو 1807· ولقد أظهر شجاعة وقوة احتمال في جولته الشاقة، وكان أثناء الطريق يجمع بجد ومثابرة مواد لكتابين عزَّزا شهرته الأدبية: الكتاب الأول عن الشهداء " Les Marytrs de Diocletien" (1809) والكتاب الثاني عن رحلته للقدس " Itineraire de Paris a Jerusalem" (1811) ·
وبينما كان يُعد لهذين المجلّدين أظهر عداءه لنابليون (الذي كان يتفاوض في تيلسيت Tilsit للوصول إلى سلام) بكتابة مقال في جريدة Mercure de France ( ميركيور دي فرانس، والعبارة تعني المؤشر الزئبقي لفرنسا) وفي 4 يوليو سنة 1807· حقيقة أن هذا المقال كان عن نيرون Nero وتاسيتوس Tacitus لكنه كان ينطبق بالفعل على نابليون وشاتوبريان:(ملحق/660)
"في الصمت الذليل عندما لا تسمع تنهيدة فلتفكَّ أغلال العبد، ولتطلق حنجرة الراوي (المؤرّخ)، وعندما تكون الرجفة من الطاغية، ويصبح رضاه وسخطه خطراً على نحو سواء، هنا يظهر المؤرّخ ويُصبح مؤتمناً على مهمة الانتقام للأمة· لقد كان ازدهار نيرون ونجاحه عبثاً (بلا جدوى) لأن تاسيتوس Tacitus كان بالفعل موجوداً في أنحاء الإمبراطورية (المقصود موجوداً بفكره وكتاباته) · لقد نشأ مغموراً (غير معروف) إلى جانب بقايا جيرمانيكوس Germanicus وكان الله العادل قد سلّم بالفعل لطفل غامض (المقصود نيرون) مجد سيادة العالم· إذا كان دور المؤرخ دورا عادلا، فغالباً ما يتعرض للأخطار، لكن هناك مذابح altars ( أي أماكن للعبادة) كما أن هناك ميادين للمجد، ومع أن هذه المذابح (أماكن العبادة) مهجورة (لا يرتادها كثيرون) إلا أنها تحتاج لمزيد من التضحيات·· فحيثما توجد فرصة الثروة لا تجد مؤرخاً يحاول الاستحواذ عليها· فالأعمال التي تتسم برحابة الصدر وسعة التفكير هي الأعمال التي نتيجتها التي يمكن التنبؤ بها هي المحنة والموت· ومع ذلك ماذا لو سبب ذكر اسمنا - الذي تردده الأجيال - طعنة في قلب كريم واحد، بعد ألفي عام من موتنا؟ "·(ملحق/661)
وعند عودة نابليون من تيلسيت أمر تاسيتوس (المقصود بالطبع شاتوبريان) بمغادرة باريس وتم تحذير صحيفة الميركيور من نشر مقالات أخرى له، وأصبح شاتوبريان مدافعاً متحمساً عن حرية الصحافة· وعاد إلى عقار كان قد اشتراه في وادي لوب Vallee-aux Loups في شاتيني Chatenay وعكف على إعداد كتابه عن الشهداء للنشر، وشَطَبَ من مخطوطة الكتاب الفقرات التي قد تُفسَّر على أنها تحط من قدر نابليون· وفي سنة 1809 ثم القبض على أخيه أمان Armand لنقله رسائل من أمراء البوربون خارج فرنسا لأعوانهم في الداخل· وكتب شاتوبريان إلى نابليون طالباً الرحمة لأخيه، ووجد نابليون أن الخطاب ينم عند اعتداد شديد بالنفس فألقاه في النار، وحُوكم أمان وأُدين وأُعدم بإطلاق النار عليه في 31 مارس· ووصل شاتوبريان بعد لحظات قليلة من إعدامه، ولم ينس أبداً المشهد: أمان الميت وقد مزَّقت الرصاصات جمجمته ووجهه "وكلب الجزار يلعق دمه ومخه"· لقد كان هذا هو يوم الجمعة الحزينة Good Friday في سنة 1809·
ودفن شاتوبريان أحزانه بانعزاله والإعداد لكتابه "مذكرات من القبر Memoires d'outre-tombe"، وقد بدأ في كتابة مذكراته هذه في سنة 1811، وكان يكتب هذا العمل بشكل متقطع ليأنس إلى نفسه ويستريح من عناء الرحلة والسياسة، وكتب آخر صفحة منها سنة 1814 ومنع نشرها إلا بعد موته ليصبح عنوانها مذكرات القبر· لقد كانت مذكرات جسورة الفكر، طفولية المشاعر، رائعة الأسلوب· وهنا - على سبيل المثال - نجد إسراع حشود من عينهم نابليون إلى لويس الثامن عشر ليُقسموا يمين الولاء الأبدي له، بعد سقوط نابليون "دخلت الرذيلة مستندة إلى ذراع الجريمة - السيد تاليران يسير مستنداً إلى السيد فوشيه "، إننا نجد هنا في هذه الصفحات المكتوبة برويّة وصفاً للطبيعة البشرية يضارع ما هو مكتوب في قصَّته "أتالا Atala" وقصة "رينيه Rene"، نجد فيها أحداثاً زاخرة كأحداث حرق موسكو· إنها صفحات عامرة بوصف المشاعر:(ملحق/662)
"الأرض أمنا الحنون· لقد أتينا من رَحِمها· في طفولتنا ضمتَّنا إلى صدرها الذي يفيض لبناً وعسلا، وفي شبابنا ورجولتنا أفاضت علينا بالماء البارد والمحاصيل والفاكهة··· وعندما نموت تفتح صدرها لنا مرة أخرى وتُلقي علينا غطاء من حشائش وورود، بينما هي تحول أجسادنا بشكل سرّى إلى تراب لنكون من جوهرها، فتنمو من جديد بشكل آخر جميل"·
وبين الحين والحين تومض الفلسفة في كتاباته، لكنها عادة ما تكون متشائمة: "التاريخ يعيد نفسه فهو ليس إلاً تكراراً للحقائق نفسها وإن اختلف الناس والزمن" إن مذكرات من القبر هو أكثر أعمال شاتوبريان بقاء·
لقد ظل حتى سنة 1814 يعيش في الريف إلى أن أعادته القوات المتحالفة ضد نابليون - بعد انتصارها - إلى فرنسا· هل سيؤدي تقدمهم - كما حدث في سنة 1792 - إلى ثورة الشعب الفرنسي ومقاومته البطولية؟ في الذكرى السنوية الخامسة لإعدام أمان Armand أصدر شاتوبريان نشرة قويّة تحمل عنوان عن بونابرت والبوربون De Buonaparte et des Bourbons انتشرت في فرنسا أثناء تراجع نابليون· وقد أكد المؤلف للأمة: "أن الرب نفسه يسير على رأس قوات الجيوش المتحالفة ضد نابليون ويجلس في مجلس (اجتماع) الملوك Council of the Kings "· لقد عرض إساءات نابليون – "إعدام انجهين Enghein وكادودال Cadoudal وتعذيب بيشجرو Pichegru واغتياله وسجن البابا··· وهذه الأخلاق التي جلبها بونابرت (كتب بونابرت بالهجاء الإيطالي Buonaparte) غريبة على الطبيعة الفرنسية"·
إن حكاماً كثيرين قد قمعوا حرية الصحافة وحرية الكلام، لكن نابليون تمادى إلى أبعد من ذلك فأمر الصحافة بامتداحه مهما كان هذا على حساب الحقيقة· إن الضرائب التي جمعها لم يكن يستحقها فقد جعل من الاستبداد علماً ومن الضرائب مصادرة ومن التجنيد الإجباري مجزرة· لقد مات في معركة روسيا وحدها 243,610 مقاتل بعد معاناة شديدة بينما كان قائدهم (نابليون) في مأمن يأكل أحسن الطعام وتخلّى عن جيشه هارباً إلى باريس· كَمْ كان لويس السادس عشر نبيلاً وإنساناً بالمقارنة به!! وكما سأل نابليون أعضاء حكومة الإدارة في سنة 1799: "ماذا فعلتم بفرنسا التي كانت متألقة يوم تركتها؟ "(ملحق/663)
فكذلك الآن يوجه كل البشر السؤال نفسه لنابليون:
"إن البشر جميعاً يتهمونك (أي يتهمون نابليون)، طالبين الثأر منك باسم الدين والأخلاق والحرية· أي مكان لم تنشر فيه الخراب؟ في أي بقعة من بقاع العالم نجت أسرة من دمارك وسلبك ونهبك؟ إن اسبانيا وإيطاليا والنمسا وألمانيا وروسيا تطالبك بأبنائها الذين نحرتهم وبقصورها ومعابدها وخيامها التي أضرمت فيها النار، إن العالم كله يُعلن أنك أكبر مجرم على ظهر البسيطة··· إنك أنت الذي أردت في عصرك الحضارة والتنوير أن تحكم بسيف أتيلا Attila وحكمة نيرون· فلتسلِّم الآن صولجانك الحديدي ولتنزل الآن من فوق ركام الخراب الذي جعلته عرشاً لك! إننا نطردك كما طردت حكومة الإدارة· اذهب - إن استطعت - فعقابك الوحيد هو أن ترى الفرحة لسقوطك تعم فرنسا، وأن تتأمل وأنت تذرف دموع الغيظ - مدى سعادة الناس"·
"والآن من الذي سيحل محله؟ إنه ملك أتى من أسرة نبيلة، نبيل مقدّس بالمولد، نبيل في شخصيته - إنه لويس الثامن عشر، ملك معروف بتنوّره وتحرره من الأحكام المُسَبَّقة (الظلم) وعدم اعترافه بالانتقام أي أنه متسامح إنه ملك أتى يحمل في يده عهداً بالعفو عن كل أعدائه· يا له من أمر رائع أن نرتاح أخيراً بعد كثير من الفوضى والإزعاج وسوء الطالع في ظل السلطة الأبوية لملك شرعي·· أيها الفرنسيون·· أيها الأصدقاء·· أيها الشركاء في المعاناة، دعونا ننسى معاركنا وكراهيتنا وأخطاءنا لننقذ أرض الآباء· دعونا نتعانق فوق أطلال بلدنا العزيز·· وليساعدنا على ذلك وريث هنري الرابع Henry IV ولويس الرابع عشر·· عاش الملك".
وليس غريباً أن يقول لويس الثامن عشر بعد ذلك أن هذه الصفحات الخمسين كانت تساوي عنده 100,000 جندي·(ملحق/664)
دعونا الآن نترك شاتوبريان للحظة· لقد كان قد انتهى دوره مع أنه بقي له من العمر 34 سنة كان عليه أن يعيشها بعد ذلك· وان عليه أن يلعب دوراً فعالاً في سياسات ما بعد عودة الملكية، وكان أمامه وقت لجمع مزيد من الخليلات وانتهى أخيراً بين ذراعي مدام ريكامييه التي ودّعت الجمال واشتغلت بأعمال الخير وراح يقضي وقتاً يتزايد شيئاً فشيئاً في كتابة مذكراته· والآن فإن عدوّه نابليون سجين في جزيرة بعيدة وهي نفسها - أي الجزيرة - سجينة مياه المحيط، لذا فقد كتب عنه كتابات أكثر اعتدالاً ساعد على اعتدالها مرور الوقت وما حققه (أي شاتوبريان) من انتصار· لقد كتب عنه 456 صفحة· وعاش شاتوبريان حتى سنة 1848 وشهد ثلاث ثورات فرنسية·(ملحق/665)
الفصل الرّابع عشر
العلوم والفلسفة في ظل حكم نابليون
1 - الرياضيّات والفيزياء
شهدت العلوم عصراً من أزهى عصورها في عصر نابليون لقد كان هو نفسه أوّل حاكم في التاريخ الحديث تلقى تعليماً علمياً، وربما لم يتلق الإسكندر تلميذ أرسطو مثل هذه الخلفية العلمية العميقة التي تلقاها نابليون· لقد كان الفرانسيسكان Franciscan الذين علّموه في المدرس العسكرية في برين Brienne يعلمون أن العِلْم أكثر فائدة من اللاهوت لكسب المعارك، فدرَّسوا للكورسيكي Corsican الشاب كل ما كانوا يعلمونه في الرياضيات والفيزياء والكيمياء والجيولوجيا والجغرافيا· وعندما وصل للسلطة أعاد التقليد الذي كان على أيام لويس الرابع عشر، بتقديم جوائز مالية وعَيْنية لمن حققوا إنجازات ثقافية وقد قدّم معظم هذه الجوائز للعلماء مستوحياً بذلك خلفيته العلمية، ومرة أخرى حذا حذو من سبقه فوسّع مجال عطاياه ليشمل غير الفرنسيين،(ملحق/666)